القواعد الفقهيّة

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الأول

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 1

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

ص: 5

فهرس الإجمالي

مقدمة التحقيق ...9-23

1 - قاعدة من ملك ...3

2 - قاعدة الإمكان...16

٣ - قاعدة الإسلام يجب ما قبله ...43

٤ - قاعدة القرعة ...55

٥ - قاعدة لاتعاد ...74

٦ - قاعدة اليد ...127

7 - قاعدة نفي السبيل للكافرين على المسلمين ...185

8 - قاعدة لاضرر ولا ضرار ...208

9 - قاعدة نفى العسر والحرج ...246

10 - قاعدة الغرور ...265

-١١ - قاعدة أصالة الصحة ...279

12 - قاعدتى الفراغ والتجاوز ...306

13 - قاعدة الإعانة على الإثم والعدوان ...349

ص: 6

مقدمة التحقيق

اشارة

• مراحل تطوّر القواعد الفقهية

• الحياة العلمية للمؤلّف

• منهجنا في التحقيق

ص: 7

ص: 8

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مقدّمة التحقيق : مراحل تطوّر القواعد الفقهية في الفقه الإمامي

يعتبر علم الفقه من أوسع العلوم الإسلامية و أشهرها، و هذا العلم الوسيع كان قد نشأ وترعرع في أحضان الكتاب و السنة، وقد تمخض علم الفقه عن ولادة علوم أخر، مثل علم الرجال علم أصول الفقه و القواعد الفقهية.

و على الرغم من نشوء القواعد الفقهية فى أحضان علم الفقه، لكنّها كان لها الدور الكبير في نمو و ازدهاد هذا العلم، و لها سابقة طويلة في تطوّر الفقه الإسلامي الشيعي و العامي.

فقد كان كتاب القواعد الفقهية عند الحنفيين من أهل السنة أوّل كتاب جُمعت فيه بعض القواعد الفقهية، فقد جمع مؤلّفه أبوطاهر الدبّاس - من أئمة الحنفية في بلاد ما وراء النهر - سبعة عشر قاعدة فقهية على مذهب أبي حنيفة، فكان القرن الرابع بداية تدوين القواعد الفقهية لدى العامة.

و أمّا فى الوسط الشيعي فيعتبر كتاب الشهيد الأوّل (م (778) القواعد والفوائد أقدم كتاب دوّنَ فيه مصنّفه القواعد الفقهية وفقاً لمذهب أهل بيت عليهم السلام.

و يمكننا إرجاع سبب سبق سبب سبق العامة في تدوين القواعد إلى عاملين:

ص: 9

الأوّل: و يرجع إلى ماهية فقه العامة حيث قُطعت الرابطة مع نص المعصوم بعد ارتحال النبي الأعظم صلی اللّه عليه وآله، و طبيعي أن انفصال الفقه عن نص المعصوم يجعل الفقه يتبلور ضمن ضوابط معيّنة، كما شهدنا هذا لدى الفقه الإمامي في عصر الغيبة الكبرى.

و الثاني: استخدامهم لأدوات خاصة بهم في عملية الاستنباط الفقهي كالقياس و الاستحسان و غيرهما.

أمّا المنطلق فى تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة، فهو أنّ الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولاً كلية و أمروا الفقهاء بالتفريع عليها علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(1).

و يعتبر هذا الأمر واضحاً في الآثار الفقهية الإمامية. و قد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية و استخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري، عند ما صنّف الشهيد الأوّل قدّس سرّه كتاب القواعد و الفوائد.

و قد سبق الشهيد الأوّل في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلّي (٦٠١ - ٦٩٨) في تصنيف الأشباه والنظائر، و أسمى كتابه نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه و النظائر. هذا إذا قلنا بدخول الأشباه والنظائر في حقل القواعد الفقهية.

قال الشهيد الأوّل في إجازته لابن الخازن:

فما صنعته كتاب القواعد و الفوائد مختصر يشتمل على ضوابط كلية أصولية و فرعية، تستنبط منها الأحكام الشرعية، لم يعمل الأصحاب مثله. (2)

و نظراً لامتياز كتاب الشهيد هذا بالتبويب المنظم و البيان الجيد، فقد ص__ار محل اهتمام المحافل العلمية، فتناولوه بالشرح و البيان، حتى وصل عدد الشروح و الحواشى اثنى عشر كتاباً .

ص: 10


1- «مستطرفات السرائر» ج 3، ص 575: «وسائل الشيعة» ج 27 ، ص 62 .
2- «بحار الأنوار» ج 4، ص 187؛ «روضات الجنّات» ج 7، ص 8.

و قد قام عدّة من الفقهاء بتنقيح هذا الكتاب و تهذيبه منهم المقدمة .

1 - أبو عبد اللّه الفاضل المقداد السيوري (م (82٦) و يُعدُّ من أبرز تلامذة الشهيد، فقد عمل - للوهلة الأولى - على تهذيب القواعد و حذف الزيادات منه أسماه جامع الفوائد في تلخيص القواعد ثم رتبه على نسق الفروع الفقهية، و أسماه نضد القواعد الفقهية على مذهب أهل البيت.

2 _ تقى الدين إبراهيم بن علي الحارثي الكفعمي(1) (م 900) له كتاب مختصر قواعد الشهيد.

٣ - زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (م ٩٦٥) له كتاب تمهيد القواعد الأصولية و العربية لتفريع فوائد الأحكام الشرعية.

على أن تصنيف القواعد الفقهية وجمعها استمرّ بعد الشهيد من قِبَل جمع من الفقهاء، و من المصنّفات في هذا المجال :

1 - الأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية، تأليف محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف ب_ «ابن أبي جمهور» المتوفّى في حدود ٩٠١ ه_ . و قد طبع هذا الكتاب من قِبَل مكتبة آية اللّه المرعشي في قم.

2 - القواعد الستة عشر، تأليف الشيخ جعفر كاشف الغطاء (م 1227)، و قد طبع مع كتاب «الحق المبين» لنفس المؤلّف سنة ١٣٠٦ في قم.

3 - الأصول الأصلية و القواعد الشرعية، تأليف السيد عبداللّه شبّر، و الكتاب مطبوع.

4 - عوائد الأيام من مهمات أدلة الأحكام، تأليف المولى أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني (م١٢٤٥) و قد اشتمل هذا الكتاب على 88 عائدة، وكلّ عائدة تُعدُّ قاعدة فقهية تركّز عليها البحث و الاستدلال، و قد تم قريباً تحقيق هذا

ص: 11


1- «القواعد و الفوائد» ج 1، ص 12 - 13: «قواعد فقه» بخش مدني ج 2، ص 16 - 17 .

الكتاب و إصداره من قبل مركز الأبحاث و الدراسات الإسلامية التابع لمكتب الإعلام الإسلامي.

5 - المقاليد الجعفرية في القواعد الاثني عشرية، تأليف محمد جعفر الإسترآبادي المعروف ب_ «شریعتمدار» المتوفّى سنة ١٢٦٣. و توجد لهذا الكتب أربع نسخ خطية في مكتبة آية اللّه مرعشى و أرقامها (3857) (3858) (3882) (3883).

6 - عناوين الأصول، تأليف سيد عبدالفتاح بن علي الحسيني المراغي (م ١٢٧٤) كتبه مؤلّفه بعد سنة واحدة من كتابة «عوائد الأيام» و يشتمل على 93 قاعدة فقهية.

7 - خزائن الأحكام، تأليف آغا بن عابد الشيروانى الدربندي (م 1285).

8 - مناط الأحكام، تأليف ملا نظر على الطالقاني (م ١٣٠٦).

9 - بلغة الفقيه، تأليف السيد محمد بحر العلوم الطباطبائي (م ١٣٢٦) و قد طُبع على الحجر مرّتين، و في الثالثة بالطباعة الحديثة و نُشر في النجف الأشرف فى أربع مجلدات.

10 _ مستقصى قواعد المدارك و منتهى ضوابط الفوائد، تأليف ملاً حبيب الكاشاني (م ١٣٤٠) اشتمل على خمسمائة قاعدة فقهية مع شرح مختصر لكلّ منها .

11 - القواعد الفقهية، تأليف مهدي بن حسين بن عزيز الخالصي الكاظمي (م1343) طبع هذا الكتاب في مجلدين.

١٢ _ تحرير المجلة، تأليف الشيخ محمد حسين محمد حسين كاشف الغطاء (١٢٩٤ - 1373).

١٣ _ القواعد المحسنية، تأليف سيد حسن القمي الحائري، و هو تقريرات لدرس الميرزا الشيرازي في إطار بعض القواعد الفقهية.

14 - القواعد الفقهية، و هو هذا الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم، تأليف

ص: 12

السيد محمد حسن الموسوى البجنوردي (١٣١٦ - ١٣٩٦) و قد بلغ فيه تدوين القواعد الفقهية أوج كمالها بالنسبة إلى الفقه الإمامي، و على رغم كثرة ما كتب حول القواعد الفقهية بعد السيد البجنوردي، إلا أنه لم يصل إلى مستوى ما كتبه السيد، ذلك لشمولية مباحثه و استيعابه لمعظم القواعد سنداً و دلالة و مقارنةً.

و قد شرح المصنّف قدّس سرّه مفصَّلاً ٦٤ قاعدة فقهية، وناقش كل قاعدة من جوانب شتي:

١ - البحث عن الأساس التشريعي للقاعدة كتاباً وسنّة و إجماعاً و سيرةً، و عالجها بأسلوب فقهي استدلالي عميق.

2 - بیان مفاد كل قاعدة.

3 - الموارد التطبيقية لكلّ قاعدة.

و قد يستطرد و يتوسع في بحثه ليضيف إلى الأمور الثلاث المتقدّمة جوانب أخرى من قبيل: هل أنّ هذه القاعدة أصولية أم فقهية، كما تعرّض لذلك في قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» و أحياناً يبحث في دليليّة القاعدة من جهة هل هي أصل عملي أو أمارة؟ و تارة يذكر النسبة بينها و بين القواعد الأخرى، كما تعرّض لذلك في قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» و نسبتها إلى قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» أو «نافذ» إلى غير هذه المباحث.

و قد أشار المصنّف في مقدّمته الموجزة على هذا الكتاب لذلك وقال:

و بعد، فإنّي من سالف لما رأيت أن القواعد الفقهية المتفرقة في أبواب العبادات و المعاملات و الأحكام لم تُجمع في كتاب مشروحاً شرحاً يذلل صعابها، و يكشف الغطاء و اللثام عن معضلاتها، فأحببت أن أجمعها و أشرحها؛ لإيضاح تلك القواعد، دلالة وسنداً و مورداً، و أبين النسبة بينها، و أعيّن الحاكم والمحكوم و الوارد و المورود منها.....

ص: 13

و الحق يمكن القول إنّه إذا كان تدوين القواعد الفقهية قد مرّ بمرحلتين:

أوّليّة و تكميلية، وإنّ القرنين الثامن والتاسع قرنا التدوين الأولى، و القرنين الثالث عشر و الرابع عشر قرنا التدوين التكميلي، فإنّ كتاب «القواعد الففهية» قد تصدّر جميع المصنفات في هذا المجال و في مرحلة التدوين الثانية.

و تجدد الإشارة إلى أنّ هناك كتباً صدرت لبعض الأعلام بعد كتاب «القواعد الفقهية» و بحثت في تلك القواعد إلا لم تَرْقَ الى مستوى ما كتبه البجنوردي من حيث العمق و الشمولية، ونذكر منها:

1 - قواعد الفقه، تأليف محمود الشهابي الخراساني، و قد طبع من قبل مؤسسة النشر في جامعة طهران.

2 _ قواعد الفقه، تأليف علي بابا الفيروز كوهي، وقد طبع مراراً.

3 - مجموعه قواعد فقه، تأليف محسن شفائي.

4 - القواعد الفقهية، تأليف آية اللّه ناصر مكارم الشيرازي، مطبوع في أربع مجلّدات.

5 - القواعد الفقهية، تأليف آية اللّه محمد فاضل اللنكراني، ص_در م_ن_ه م_جلد واحد.

6 - القواعد الفقهية، تأليف محمد تقى الفقيه، طُبع مرتين في لبنان.

7 _ لمحات على القواعد الفقهية في الأحاديث الكاظمية، تأليف السيد محمد الخامنئي، كتبه بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثالث للإمام علي بن موسى الرضا، و يشتمل على 23 قاعدة فقهية مستلة من أحاديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.

8 - القواعد الفقهية، تأليف السيد محمد الموسوى البجنوردي، و الكتاب مطبوع باللغة الفارسية .

9 - القواعد، تأليف السيد محمد جواد المصطفوي و يشتمل على مائة قاعدة

ص: 14

فقهية باللغة العربية.

10 - قواعد الفقه، تأليف السيد مصطفى المحقق الداماد، صدر في مجلدين.

هذه نبذة مختصرة عن مراحل نشوء القواعد الفقهية وتطوّرها، ولكن تبقى هناك بعض الأمور التي يجدر الاهتمام بها و دراستها و لم يكن محل اهتمام و هي:

أوّلاً: قلّة الأبحاث والدراسات النظرية حول القواعد الفقهية، وبعبارة أخرى:

إن الموضوعات التي ينبغى أن تعطينا صورة واضحة عن القواعد الفقهية و موقعها في الاستنباط لم يُحدّد إطارها و لم تُرسم حدودها، و من تلك الموضوعات:

١ - هل للقواعد الفقهية دور فى عملية الاستنباط ؟ وهل تختص في حدود تجميع الموارد الفقهية المختلفة أو تتسع دائرتها فيمكن الاستفادة منها في كيفية الاستنباط ؟

2 - هل القواعد الفقهية من الأمور التوقيفية أو يمكن التوفّر على قواعد جديدة و مستحدثة ؟ و على الثاني ما هو السبيل للحصول على تلك القواعد و اكتشافها؟

٣ - ما هو التفاعل المتبادل في سياق تطور القواعد الفقهية بين فقه أهل البيت و فقه أهل السنّة ؟

٤ _ ما هو سبب تأخّر وضع قواعد فقهية مستحدثة في الفقه الإمامي؟

الى غير ذلك من الأبحاث التي تحتاج الى دراسة عميقة وشاملة.

ثانياً: تصنيف القواعد الفقهية، بمعنى أنّ تلك القواعد تُصنف على أساس موقعها في الفقه، و في أي مجال يُستفاد منها، و ما هي القواعد التي يستفاد منها في أبواب العبادات، و ما هي التي يستفاد منها في أبواب المعاملات و سائر أقسام الفقه المتنوعة ؟

و من المعلوم أنّ هناك جهوداً بُذلت في هذا المضمار، إلا أنها لازالت ناقصة.

ص: 15

ثالثاً: تدوين القواعد الفقهية الحيوية من قبيل قاعدة العدالة، قاعدة السهولة، قاعدة المهم و الأهم، قاعدة الحرية ، و... .

و على رغم كثرة ما كتب حول القواعد الفقهية و أشير لمعظمها، لكن يمكننا دعوى أنّ هناك كثيراً من القواعد الفقهية - التي لم تقرّر على أنها قاعدة مستقلة برأسها _ قد استفيد منها في ثنايا الاستدلالات و الفتاوى الفقهية، إلا أنها لم تدوّن كقاعدة مستقلة و لم تُبيّن حدودها ومعالمها .

و في هذا المجال يقول الأستاذ الفقيه الشهيد مرتضى المطهري:

إنّه قد غفل عن قاعدة العدالة الاجتماعية مع مالها من أهمية في الفقه، في الوقت الذي يُستفاد العمومات من بعض الآيات مثل (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)(1) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) و مع تأكيد القرآن الكريم على قضية العدالة الاجتماعية، إلا أنها لم يُستنبط لها أصل أو قاعدة في الفقه الإسلامي. و هذا الأمر صار سبباً لجمود الفكر الاجتماعي لدى فقهائنا (3) .

و من هنا يجدر بالأبحاث الجديدة أن تركّز على الأمور الثلاثة المتقدمة وتوليها اهتماماً متزايداً .

ص: 16


1- البقرة :(2): 83؛ النساء (4): 36 .
2- المائدة (5): 1 .
3- «مبانی اقتصاد اسلامی» ص 27، وقد نقلنا النص من اللغة الفارسية إلى العربية.

الحياة العلمية للمؤلّف

اشارة

ولد آية اللّه الميرزا السيد حسن الموسوى البجنوردي سنة ١٣١٦(1) في احدى قری بجنورد، و يتصل نسبه بالسيد ابراهيم المجاب - من أحفاد الامام موسى بن جعفر عليه السلام.

أنهى البجنوردى دراسته الابتدائية في ،بجنورد، ثمّ انتقل إلى مدينة مشهد، و درس آداب اللغة العربية على الميرزا عبد الجواد المعروف ب_ «الأديب النيشابوري»، ثم تتلمذ الفلسفة على الحاج فاضل الخراساني و آقا بزرگ الشهيدي، و في الاصول علی آقا محمد آقا زاده ابن الآخوند الخراساني، و في الفقه على الحاج آقا حسين القمّي و في التفسير على الحاج فاضل الخراساني، ثمّ صار بعد ذلك من أساتذة حوزة مشهد المعروفين بتدريس الفلسفة و الأصول.

و في سنة ١٣٤٠ _ و بناءاً على وصية أستاذه الحاج فاضل الخراساني - توجه صوب النجف الأشرف؛ لإكمال دراساته العليا، وقد استخار اللّه تعالى في أمر سفره عند أستاذه الفاضل الخراساني، فكان قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (2).

استفاد في النجف من دروس فقهاء و أصوليي هذه الحوزة من أمثال آقا ضياء العراقي و الميرزا محمد حسين النائيني و بعد لحوق آقا ضياء بالرفيق الأعلى ،

ص: 17


1- اختُلِف في تاريخ ولادته، فذهب بعض إلى أنها في 1310، و بعض 1315 و أشار ولده آية اللّه سید محمد البجنوردي إلى أن تاريخ ولادته 1310 .
2- مریم (19): 52 .

صار البجنوردي استاذاً للدراسات العليا - البحث الخارج _ في مادة علم أصول الفقه، ثم تصدّى لتدريس الأبحاث العالية في الفقه بعد رحيل السيد أبي الحسن الاصفهاني.

و كان يلقي دروسه باللغة العربية، وقد حضر لديه جمع من الطلاب الإيرانيين و الناطقين باللغة العربية.

لبي نداء ربّه فى 20 جمادي الثاني سنة ١٣٩٦ في جوار أمير المؤمنين عليه السلام النجف و دفن في مقبرة أستاذه السيد الاصفهاني.

كان البجنوردي رحمه اللّه - مضافاً إلى تضلّعه فى الفقه والأصول - معروفاً بسعة اطلاعه و طول باعه في العلوم الأخرى، مثل آداب اللغة و الفلسفة و العلوم التاريخية والجغرافية.

و كان يرتاد المحافل العلمية في العالم الإسلامى، فله روابط و علاقات مع جامعات بغداد و الأزهر و تونس و المغرب.

أما قوّة حافظته و ذكائه فهو أمر شائع و معروف، حيث كان يحفظ الكثير من الأحاديث، وكذا شعر كبار الشعراء و فطاحلهم. (1)

لم يرتض البجنوردي الأسلوب المتداول في تدريس الأبحاث العالية في الحوزة العلمية، حيث كان يعتمد فيه الأستاذ على كتاب الفتاوى مادّة لدرسه، فيأخذ مسألة مسألة و يطرحها للبحث، ويقيم الدليل على إثباتها أو نفيها، ثمّ يقرر رأيه في المسألة. إنّه كان يعتقد أنّ هذا الأسلوب لا يعلّم التلميذ القواعد الرئيسية للاجتهاد حتى يتمكن من تطبيق القاعدة في المورد المشابه؛ و لذا فإنّ التلميذ غالباً ما تطول مدة حضوره في دورس الأبحاث العالية لكي تحصل له ملكة الاستنباط .

ص: 18


1- قال ولد المصنّف آية اللّه السيد محمد: إن والدي كان يحفظ القرآن و نهج البلاغة و الصحيفة السجادية و المعلقات السبع و مقامات الحريري و مثنوي و شاهنامه فردوسی و گلستان سعدی و دیوان حافظ و جامى و شبستري. وكان يقول كل قصيدة إذا قرأتها مرتين حفظتها.

و لهذا كان يعتقد أنّ الأستاذ إذا اهتم بطرح القواعد الكلية للفقه، ثم طبقها على مصاديقها؛ فإنّ ذلك له أثر كبير فى اختزال المسافة و الإسراع في تنمية قابلية التلميذ في القدرة على استنباط الأحكام.

و على هذا الأساس صاغ المؤلف رحمه اللّه «القواعد الفقهية» و استعرض فيه ٦٤ قاعدة وناقشها دلالة وسنداً و ذكر الأمثلة التطبيقية لها.

مؤلّفاته:

١ - القواعد الفقهية مطبوع.

2 - منتهى الأصول، مطبوع.

٣ - حاشية على العروة الوثقى.

٤ - ذخيرة المعاد رسالة عملية».

ه - رسالة في الرضا عليه السلام.

٦ - رسالة في اجتماع الأمر والنهي.

7 - كتاب في الحكمة أو قولنا في الحكمة، و هو شرح على الأسفار الأربعة.

كان رحمه اللّه من أهل التهجد، يتلو أربعة أجزاء من القرآن الكريم في كلّ يوم، جزءان منه قبل صلاة الصبح و الاخران قبل الغروب، و كان يستيقظ قبل أذان الصبح بساعتين و نصف يتلو فيها جزءاً من القرآن، و يطالع ساعة ثم يشتغل بأداء صلاة الليل.

أما ذرّيته فكانوا ستة، أسماؤهم: مهدي، جواد (م ١٣٦٢ ه_ . ش) كاظم، محمد، فاطمة ، طاهرة.

و أمّا تلامذته باستثناء أولاده سيد مهدي و سيد محمد فهم:

ص: 19

آية اللّه يوسف الحكيم.

آية اللّه الشيخ جواد الرازي.

آية اللّه الشيخ محمد طاهر الرازي.

آية اللّه الشيخ محمد رضا المظفّر.

آية اللّه السيد محمد علي القاضي الطباطبائي.

آية اللّه السيد جلال الدين الاشتياني .(1)

ص: 20


1- اعتمدنا في ترجمة السيد البجنوردي و ذكر أحواله على المصادر التالية: ماضي النجف و حاضرها ص 302 - 303؛ معجم رجال الفكر و الأدب في النجف ص 52 - 53؛ طبقات أعلام الشيعة ج 1، ص 385 - 386؛ گنجینه دانشمندان ج 3، ص 184؛ مشاهیر جهان ص 248؛ دانشنامۀ جهان اسلام، حرف ب، جزوه سه، ص 919 - 920؛ مجله معارف اسلامی، شماره 6، ص 31 - 33: مصاحبه با آیة اللّه سید محمد موسوی بجنوردی .

منهجنا في التحقيق

اشارة

نظراً لعدم توفّرنا على النسخ الخطية لهذه المجموعة النفيسة، و لعدم طباعتها أكثر من مرة، فكان اعتمادنا في التحقيق على المطبوع من هذا الكتاب، الذي طبع بعض منه في النجف، و البعض الآخر في ايران.

أما ما قمنا به من عمل فهو:

1 - تقويم النصّ الذي اشتمل على تصحيح الأخطاء و وضع علائم الترقيم و ضبط النص.

٢ - تخريج الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة.

٣ - تخريج الأقوال الفقهية و الأصولية و غيرها و إرجاعها الى مصادرها الرئيسية.

٤ - التعرّف على مصادر القواعد الفقهية : في البداية تَمَّ تعريف مأخذ كلّ قاعدة من هذه القواعد المدوَّنة، و روعي التسلسل الزمني في تثبيت المآخذ و بالنسبة الى الكتب التي مؤلّفوها أحياء فقد رُتِّبت حسب الترتيب الألفبائي.

كما تم التعريف بالمقالات و الأطروحات - حسب الإمكان _ التي بحثت في القواعد الفقهية.

و جدير بالذكر أنّ بعض القواعد الفقهية كأصالة الطهارة و أصالة عدم التذكية لم يُشَرْ إليها في فهرس المآخذ ؛ نظراً الى أنها بحثت في الكتب الأصولية و حدّد

ص: 21

موقعها.

5 - إعداد الفهارس: فقد وضعنا فهارس إجمالية و تفصيلية لكل مجلد، و في نهاية المجلد السابع قمنا بصياغة الفهارس الفنية التي اشتملت على: فهرس الآيات القرآنية، فهرس أسماء المعصومين عليهم السلام ، فهرس الأعلام، فهرس الكتب الواردة في المتن و فهرس مصادر التحقيق.

كلمة شكر وتقدير

و في نهاية المطاف نتقدم بخالص شكرنا لكلّ الفضلاء الذين أسهموا معنا و شاركونا في إنجاز هذا المشروع، و هم:

1 - الإخوة سيّد أبو نوفل العميدي و السيد عبدالعزيز الكريمي، و عبدالحليم الحلّي، و عبدالحكيم الضياء، الذين ساعدونا في تخريج الآيات و الروايات و الأقوال و إعداد الفهارس.

2 - الأخ علي رضا شالباف الذي قام بتصحيح الأخطاء المطبعية.

3 _ الإخوة سيّد احمد العلوي، و سيّد على العلوي و عماد الكمالي في الإخراج الفنّى للكتاب.

٤ - الأخ يداللّه السعدي مدير مكتب نشر الهادي الذي أثمرت متابعته في تعجيل تحقيق الكتاب، كما أنه المتصدّي لطبع هذا الكتاب.

و نرى لزاماً علينا ان نقدم الشكر والثناء للسادة الأجلاء أولاد المصنّف، آية اللّه سید محمد الموسوى البجنوردي و السيد الكاظم الموسوي البجنوردي، و كذلك للأخ احمد مسجد جامعي معاون وزير الثقافة و الإرشاد الإسلامي، و للأخ على رفيعي علامرودشتي اللذين أسهموا في تحقيق الكتاب و طبعه.

ص: 22

نأمل من اللّه تعالى أن يتقبل بلطفه وكرمه هذا العمل القليل، و له الحمد أوّلاً و آخراً.

مهدي مهريزي - محمد حسين درايتي

جمادي الثانية سنة 1419

ص: 23

ص: 24

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وبعد ، فإنّي من سالف الزمان لمّا رأيت أن القواعد الفقهيّة المتفرّقة في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام لم تجمع في كتاب مشروحا شرحا يذلّل صعابها ، ويكشف الغطاء واللثام عن معضلاتها ، فأحببت أن أجمعها وأشرحها لإيضاح تلك القواعد دلالة وسندا وموردا ، وأبيّن النسبة بينها ، وأعيّن الحاكم والمحكوم ، والوارد والمورد منها.

وأسأل اللّه تعالى التوفيق لإتمام هذا العمل ، فإنّه وليّ التوفيق وخير معين ورفيق ، وأسأل اللّه تبارك وتعالى أن يهديني إلى ما هو الحقّ من الوجوه والاحتمالات فإنّه الهاديّ إلى الرشاد ، وأرجو منه تعالى أن يهيّئ الأسباب لطبع جميع مجلّداتها تباعا ، وعليه التكلان.

ص: 1

ص: 2

1 - قاعدة من ملك

اشارة

ص: 3

ص: 4

قاعدة من ملك (1)

ومن القواعد الفقهيّة القاعدة المشهورة المعروفة المتداولة في ألسنة الفقهاء ويتمسّكون بها في موارد عديدة من المسائل الفقهيّة وهي قاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في أنّها على فرض تماميّتها هل هي من المسائل الفقهيّة وقواعدها ، أو من المسائل الأصوليّة؟

وقد بيّنّا في موارد متعدّدة في كتابنا « منتهى الأصول » الفرق بين القاعدة الفقهيّة والمسألة الأصوليّة ، وأنّ المناط في كون المسألة أصوليّة وقوعها كبرى في قياس يستنتج منه حكم كلّي فرعي إلهي (2).

وحيث أنّ هذه القاعدة ليست كذلك ، ولا تقع كبرى في قياس الاستنباط ، بل هي بنفسها حكم كلّي فرعي تنطبق على مواردها الجزئيّة الكثيرة في أبواب مختلفة ، كنفوذ إقراره في بيعه وشرائه وهبته وصلحه وعاريته وإجارته وتزويجه وطلاقه

ص: 5


1- (*) « الحقّ المبين » ص1. 100 ؛ « خزائن الأحكام » ش 48 ؛ « الرسائل الفقهية » ( الشيخ الأنصاري ) ص 179 ؛ « مناط الأحكام » ص 20 ؛ « مجموعه رسائل » العدد 22 ؛ « القواعد » ص 293 ؛ « قواعد فقهية » ص 9 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 199 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 401.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 5 - 6.

وعتقه وسائر عقوده وإيقاعاته ومعاملاته ؛ فحال هذه القاعدة حال سائر القواعد الفقهيّة التي بعد أن أفتى الفقيه بمضمونها واستنبطها من أدلّتها يكون المجتهد والمقلّد في مقام تطبيقها على حدّ سواء ، فتكون كقاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة وغير تلك من القواعد الفقهيّة الكثيرة.

نعم في بعض الأحيان تشخيص الموضوع وتعيينه بيد الفقيه والمجتهد ، ولا يمكن للعامي والمقلّد تشخيصه وتعيينه ، ولا حظّ له في ذلك أصلا مثل أنّ الصبيّ المميّز مالك وقادر على الوقف وأن يتصدّق وأن يوصي ، فإذا أفتى المجتهد بصحّة صدور هذه الأمور عن الصبي المذكور ، وأقرّ الصبيّ المذكور بأحد هذه الأمور أو بجميعها ، فللمقلّد والعامي حينئذ تطبيق هذه القاعدة والحكم بصدور الأمور المذكورة صحيحة عن الصبي المذكور ، بأن يقول : الصبي مالك للأمر الفلاني حسب فتوى الفقيه ، وكلّ من ملك شيئا ملك الإقرار به ، وهذا أيضا حسب فتوى الفقيه ، فيكون إقراره بالوقف أو الصدقة أو الوصيّة مثلا نافذ وجائز.

وهذا هو الفرق بين المسألة الأصوليّة والقاعدة الفقهيّة.

وأمّا الفرق بين القاعدة الفقهيّة ومسألتها : هو أنّ القاعدة الفقهيّة موضوعها أوسع من موضوع المسألة ، بأن تكون المسائل المتعدّدة الفقهيّة مندرجة تحت تلك القاعدة الفقهيّة ، ويمكن تطبيق تلك القاعدة على جميع تلك المسائل ، مثلا هذه القاعدة - التي الآن محلّ الكلام - مندرجة تحتها مسائل كثيرة فقهيّة في أبواب مختلفة من مسائل أبواب المعاملات ، وتنطبق على جميع تلك المسائل كما تقدّم الإشارة إليها.

والقواعد الفقهية في هذا الأمر - أي في سعة دائرة انطباقها على المسائل المختلفة المتشتّته في أبواب الفقه وضيقها - مختلفة جدّا.

فأصالة الصحّة في فعل الغير أو في فعل نفسه بناء على كونها غير قاعدة الفراغ ، أو قاعدة الفراغ مثلا وسيعة جدا ، وتجري في أبواب العبادات من الطهارات الثلاث

ص: 6

والصلاة والصوم والحج ، وفي أبواب المعاملات ، أي في جميع العقود والإيقاعات.

فقد ظهر لك من جميع ما ذكرنا الفرق بين القاعدة الفقهيّة وبين المسألة الأصوليّة وبين القاعدة الفقهيّة ومسألتها.

الجهة الثانية : في الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ ، أو جائز »

وهو أنّ مفاد هذه القاعدة أوسع وأشمل من قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز ؛ لأنّ مورد الإقرار في تلك القاعدة - أي المقرّ به - لا بدّ وأن يكون على ضرر المقرّ ، أمّا إذا كان على نفعه فغير جائز قطعا من جهة إقراره.

نعم يمكن أن يكون لنفوذه وجوازه جهة أخرى غير جهة نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم وبعبارة أخرى : موضوع حكم الشارع بالجواز والنفوذ في تلك القاعدة هو الإقرار الخاصّ - أي الإقرار على ضرر نفسه - لا مطلق الإقرار ولو كان له نفع فيه ، وأمّا في هذه القاعدة فعامّ ، سواء أكان له أو عليه.

وأيضا تشمل هذه القاعدة إقرار الصبي فيما له أن يفعله ، كتصرّفه في ما ملكه بالوقف أو الصدقة أو الوصية به ، بخلاف قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ » فإنّها لا تشمله ؛ لانصراف العقلاء فيها إلى البالغين. ولذلك لو أقرّ الصبي بما هو ضرر عليه فيما ليس له أن يفعله ويتصرّف فيه ولا يملكه كالبيع وهبة ماله لغيره لا ينفذ في حقّه ، ويكون ذلك الإقرار في حكم العدم.

فلا وجه لاحتمال أن يكون مفاد كلتا القاعدتين واحدا ، حتّى يكون النصّ الوارد في قاعدة إقرار العقلاء دليلا على هذه القاعدة أيضا.

ص: 7

واعترض على هذا الفرق الأخير أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره بعدم انصراف العقلاء في تلك القاعدة إلى البالغين ؛ إذ لا فرق في نظر العرف بين من يكون عمره أقلّ من خمسة عشر سنة - بمقدار يسير كيوم بل كساعة ، وبين من يكون عمره هذا المقدار تماما بدون نقيصة. فالجملة بحسب المتفاهم العرفي تشمل كلتا الصورتين ، أي التامّ وغير التامّ إذا كان النقص قليلا ، وبعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

وأمّا ادّعاء الإجماع على عدم شموله لغير البالغين ، ففيه : أنّ القدر المتيقّن منه على تقدير ثبوته وكونه من الإجماع المصطلح - أي : ما هو كاشف عن رأي المعصومين علیهم السلام - هو فيما إذا كان تصرّفه ممنوعا ، وأمّا في الأشياء التي شرع له جواز التصرّف - كالمذكورات أي الوصيّة والوقف والصدقة - فلا إجماع في البين ، بمعنى أنّه ليس اتّفاق على عدم نفوذ إقراره على نفسه.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ عموم كونه مسلوب العبارة خصّص بجواز هذه التصرّفات الثلاث ، وأمّا إقراره بوقوع هذه التصرّفات فهو باق تحت عموم العامّ ، فليس بنافذ.

ففيه : أنّه لو صحّ هذا فحال قاعدة من ملك أيضا من هذه الجهة حال قاعدة الإقرار لا بدّ وأن يخصّص. انتهى ما ذكره أستاذنا المحقّق قدس سره في هذا المقام.

ولكن أنت خبير بأنّه لا شكّ في أنّ المتفاهم العرفي من هذه الجملة ، أي جملة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » هو خصوص البالغين ، لا الأعمّ منهم ومن غيرهم.

وأمّا ما ذكره قدس سره من عدم الفرق في نظر العرف بين البالغ وغيره ممّن كان عمره أقلّ منه بقليل كاليوم والساعة ، ففيه : أنّ العرف يفهم من هذه الجملة خصوص البالغين ، وأمّا تطبيق هذا المفهوم على المصداق فليس بنظر العرف ، فإذا حدّد الشارع هذا المفهوم فيكون تطبيق هذا المفهوم على مصاديقه بالدّقة ، والاّ فهذا الإشكال متّحد الورود على جميع المفاهيم المحدّدة من قبل الشارع ، كمفهوم الكرّ والمسافة وسائر الأوزان والمقادير. فالعرف لا يفرق بين ما هو من مصاديق المفهوم المحدّد من قبل

ص: 8

الشرع حقيقة وبالدّقة ، وبين ما هو أقلّ منه بقليل.

ولذلك لو انقطع الدم في الحيض قبل الثلاثة ولو بساعة ، أو نوى الإقامة عشرة أيّام إلاّ ساعة فليس ولا يتحقّق حيض ولا إقامة ، مع أنّ العرف لا يرى الفرق في إطلاق الثلاثة والعشرة أيّام في الثاني بين التامّ والناقص بقليل.

وفي كلامه قدس سره مواضع أخر للنظر تركناها خوفا من التطويل.

والحاصل أنّ القول بوحدة القاعدتين بعيد عن الصواب.

الجهة الثالثة : في الدليل على هذه القاعدة

الأول : ما أفاده أستاذنا المحقّق قدس سره من ثبوت الملازمة بين السلطنة على ثبوت الشي ء والسلطنة على إثباته ، بمعنى أنّ القدرة على وجود الشي ء واقعا ملازم مع القدرة على إيصاله إلى مرتبة الإظهار والإثبات ، مثلا لو كانت له السلطنة على بيع داره ، أو وقفه ، أو هبته ، أو غير ذلك من التصرفات فلا بدّ وأن تكون له السلطنة على إثبات هذا العمل والفعل.

وهذا الكلام بظاهره واضح الإشكال ، لأنّه لو كان المراد من السلطنة على إثباته بحيث أنّه يكون ثابتا في مرحلة الظاهر بمحض إظهاره وإقراره ، كي يترتّب عليه جميع آثار وجود ذلك الشي ء ، سواء أكان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير ، فهذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان ؛ إذ ربما يكون الإنسان قادرا على شي ء - أي فعل وعمل - ولكن ليس قادرا على إثبات ذلك الشي ء بمحض إخباره وإقراره ، والاّ كان إخبار كلّ مخبر عن صدور فعل يكون حجّة على وجود ذلك الفعل وذلك العمل وإن أنكره من يتعلّق به العمل ، مثل إنّه لو استأجر البناء على أن يبني له الحائط أو شيئا آخر في داره أو في مكان آخر ، أو استأجر الخيّاط على أن يخيط له كذا ، فأخبر بوقوع ذلك البناء

ص: 9

أو تلك الخياطة تكون أخبار البناء أو الخياط حجّة ، مع أنّه ليس كذلك قطعا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من الملازمة بين السلطنة على إيجاد الشي ء والسلطنة على إثباته هو أنّ الشارع إن جعل سلطانا على أمر ، كما أنّه جعل الحاكم الشرعي سلطانا على نصب القيّم مثلا على القصر ، أو على جعل المتولّي للوقف الذي لم يجعل الواقف له متولّ ، فجعله الحاكم سلطانا على هذه الأمور ملازم مع جعل إخباره عن هذه الأمور وإقراره بها حجة على إثباتها ، فكلّ عمل وفعل تحت سلطنته شرعا - لا تكوينا فقط - يكون إقراره بوقوعه حجّة ، سواء أكان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير.

وفيه : أنّ هذه دعوى بلا برهان أيضا ، من جهة عدم لزوم لغويّة الجعل الأوّل ، أي كونه سلطانا على تلك الأمور من دون كون إخباره عن وقوعها حجّة - كما ربما يتوهّم - لإمكان الإشهاد على صدورها منه حتّى في مثل الرجوع إلى زوجته المطلقة رجعة في العدّة ، فيشهد عدلين على أنّه رجع إليها في العدّة.

نعم لو كان قوله : رجعت إليها في حال عدم انقضاء العدّة إنشاء - لا إخبارا عن صدور الفعل عنه - فهو بنفسه رجوع قوليّ ، ويترتّب عليه الأثر.

ويمكن أيضا أن يكون من قبيل إثبات الرجوع بإقراره ومن مصاديق هذه القاعدة.

وليس الجعل الثاني - أي جعل إقراره حجّة على وقوع ذلك الأمر الذي له السلطنة على إيقاعه - من لوازم الجعل الأوّل ، حتّى يكون الدليل الذي يدلّ على سلطنته على إيقاع ذلك الأمر يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على سلطنته شرعا على إثباته ، فيكون إخباره عن وقوعه حجّة على وقوعه ؛ لأنّه لا ملازمة بينهما ، لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا.

أمّا عدم الملازمة عقلا وشرعا فواضح ، وأمّا عرفا فمن جهة أنّ العرف لا يفهم

ص: 10

من قوله علیه السلام « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (1) أنّ إخبار الزوج بطلاق زوجته حجّة على وقوعه.

الثاني : الإجماع ، وتقريبه أنّ هذه القضيّة الكلّيّة ، أي قولهم : « من ملك شيئا ملك الإقرار به » كأنّها من القضايا المسلّمة عندهم ، ويستدلّون بها على فتاويهم كما يستدلّون بالآية والرواية المعتبرة.

وقد صرّح العلاّمة قدس سره في التذكرة بسماع دعوى المسلم إن أمّن الحربي في زمان يملك أمانه وهو قبل الأسر ، وادّعى الإجماع على سماع هذه الدعوى. (2).

ولا شكّ في أنّ هذا الإجماع الذي ادّعاه العلاّمة قدس سره إجماع على مورد من موارد هذه القاعدة ، ولا يثبت به الكلّيّة المذكورة ، ولكنّه يدلّ على أنّ هذه القضيّة في الجملة إجماعي.

وأنت إذا تتبّعت كلمات القوم ترى أنّ جلّ الأكابر والمحقّقين تمسّكوا بهذه الكلّيّة في موارد جزئيّة ، كأنّها دليل معتبر عندهم ، وأرسلوها إرسال المسلّمات كأنّها آية أو رواية.

وقد ذكر جملة من تلك الموارد شيخنا الأنصاري قدس سره في ملحقات المكاسب (3) في مقام شرح هذه القاعدة ، فراجع. ولا يخفى أنّ مرادنا من تمسّكهم بهذه الكلّيّة في الموارد الجزئيّة ، أي في غير ما إذا كان على نفسه ، وإلاّ فيما إذا كان الإقرار على نفسه فذلك نافذ يقينا ؛ بدليل معتبر وهو قوله علیه السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (4) من دون احتياج إلى هذه القاعدة أصلا.

ص: 11


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 234 ، ح 137 ؛ « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 673 ، ح 2081 ، باب طلاق العبد.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 416.
3- « المكاسب » ص 368.
4- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 111 ، أبواب الإقرار ، باب 3 ، ح 2 ؛ « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، ج 2 ، ص 257 ، ح 5.

وعمدة الكلام في إثبات هذه القاعدة والكلّيّة هو فيما إذا كان إقراره وإخباره بوقوع ما يملك شرعا إيقاعه في غير موارد الإقرار على النفس ممّا كان له ، أو لغيره ، أو على غيره.

وما أحسن ما أفاد شيخنا الأعظم قدس سره في هذا المقام بقوله ولكن الإنصاف أنّ القضيّة المذكورة في الجملة إجماعيّة ، بمعنى أنّه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلينا كلامهم إلاّ وقد عمل بهذه القضيّة في بعض الموارد ، بحيث نعلم أنّه لا مستند سواها ، فإنّ من ذكرنا خلافهم إنّما خالفوا في بعض موارد القضيّة ، وعملوا بها في مورد آخر انتهى. (1)

ثمَّ يذكر بعض موارد خلاف بعضهم ، وموارد عمل ذلك البعض بهذه القاعدة. ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ خلاف بعضهم في بعض المصاديق لا يضرّ بتحقّق الإجماع على اعتبار هذه القاعدة ، لأنّ معنى الإجماع على اعتبار دليل وقاعدة هو أن يستند الجميع إلى ذلك الدليل وتلك القاعدة ولو في مورد واحد ، لا أنّهم لا يختلفون ولو كان في واحد من صغرياته وموارده ؛ ولذلك قالوا : لو تحقّق الإجماع على عنوان مطلق ، يتمسّك بإطلاق ذلك العنوان لمورد الشكّ ، ولو كان ذلك المورد محلّ الخلاف. وذلك من جهة أنّ اعتبار القضيّة الكلّيّة إذا ثبت بدليل - وإن كان ذلك الدليل هو الإجماع - يطبق على جميع الموارد وإن كان بعضها محلّ خلاف.

الجهة الرابعة : في بيان ما هو المراد من هذه القاعدة وهذه القضية الكلية؟

أي ما هو الظاهر منها حسب متفاهم العرف حتّى يستكشف المراد.

فنقول : لا شكّ في أنّ مفهوم « الشي ء » عامّ ، يشمل الأعيان والأفعال ، وهذه

ص: 12


1- « المكاسب » ص 370.

القضيّة الكلّيّة الشرطيّة مركّبة من جملتين : إحديهما شرط ، والأخرى جزاء ، والقضيّة الشرطيّة المتكفّلة لبيان الحكم الشرعي يكون الشرط موضوعا للجزاء. فمعنى « من استطاع يجب عليه الحج » أنّ المستطيع يجب عليه الحج ، فالجملة الأولى من هذه الكليّة - أي من ملك شيئا - موضوع للجملة الثانية ، فيرجع مفاد هذه الكلّيّة ، إلى أنّ المالك لشي ء سواء أكان ذلك الشي ء عينا من الأعيان الخارجية ، أو فعلا من الأفعال - مالك للإقرار به. ولكن حيث أنّ نفس العين الخارجي ليست قابلة لتعلّق الإقرار بها إلاّ باعتبار تعلّق فعل من أفعاله بها ، فيرجع معنى هذه الكلّيّة إلى أنّ المالك لفعل من الأفعال يملك الإقرار بذلك الفعل ، وظاهر كون الإنسان مالكا لفعل - حيث أنّه في مقام التشريع - هو أن يكون سلطانا على ذلك الفعل شرعا ، أي كان له شرعا إيجاده وإيقاعه ، لا صرف القدرة التكوينية.

مثلا لو كان شرعا مالكا لبيع مال - أو شرائه أو هبته أو وقفه أو عتقه أو غير ما ذكر من أنحاء التصرّفات أو تزويج امرأة أو طلاقها ، أو أيّ تصرّف كان مشروعا له أي كان مجعولا له من طرف الشارع - متعلّقا بأيّ عين من الأعيان ، أو لم يكن متعلّقا بعين أصلا ، ففي جميع ذلك يملك الإقرار به ، سواء أكان له هذه السلطنة أوّلا وبالذات ، أو كانت آتية من قبل موكله أو من جهة ولايته.

فلو سلّمنا وجود الدليل على اعتبار هذه الجملة وهذه الكلّيّة لكان يجب الأخذ بهذه الظاهر ، وتطبيقه على جميع موارده ، إلاّ أن يأتي في مورد من موارده دليل من إجماع أو غيره على التخصيص وعدم نفوذ إقراره.

وحيث أنّ العمدة في دليلها الإجماع فلا بدّ وأن يلاحظ معقد الإجماع هل هو مطلق الأفعال التي يملكها ، سواء أكان له أو عليه. وكذلك بالنسبة إلى الآثار التي لذلك الفعل لغيره ، سواء أكان له أو عليه ، أو مخصوص نفوذه بالنسبة إلى الآثار التي لنفسه لا لغيره؟

ص: 13

وبعد ، إن قيل باختصاصه بالنسبة إلى نفسه ، فهل مطلق بالنسبة إلى ماله أو عليه أو مخصوص نفوذ إقراره بما عليه ، لا بما له؟

والإنصاف أنّ كلمات الفقهاء وعباراتهم في هذا المقام مختلفة جدّا ، والذي يظهر من مجموع كلماتهم وعباراتهم في مختلف أبواب الفقه أنّه لا اختصاص له بخصوص الآثار التي له بالنسبة إلى نفسه ، وتكون عليه لا له حتّى يكون مفاد هذه القاعدة مفاد قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ ، أو جائز » فإنّهم متّفقون على سماع إقرار الولي الإجباري فيما يملكه ولو كان على ضرر المولى عليه.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا - من نفوذ إقراره حتّى وإن كان بالنسبة إلى ضرر الغير - هو فيما إذا كان ذلك الأثر الذي ضرر على الغير أثرا لنفس فعله ، من دون مدخليّة فعل شخص آخر في ترتيب ذلك الأثر ، وإلاّ فهو مالك لإقرار فعل نفسه الذي يملكه ، لا لفعل غيره. فاذا كان موضوع الأثر مركّبا من فعل نفسه وفعل غيره ، فبإقراره لفعل نفسه لا يثبت الأثر.

ومما ذكرنا ظهر الفرق بين العقود والإيقاعات ، فإذا كان مالكا لإيقاع كطلاق أو عتق أو غيرهما ، فبإقراره يثبت وقوع ذلك الإيقاع. وأمّا إن كان مالكا لعقد من بيع أو هبة أو إجارة أو غير ذلك من العقود ، فبإقراره لصدور ذلك العنوان لا يثبت ذلك العنوان بالنسبة إلى الجزء الآخر الذي يملكه غيره.

الجهة الخامسة

في أنّ نفوذ إقراره بالنسبة إلى فعل يملكه شرعا مشروط بأن يكون مالكا حال الإقرار وفي زمانه ، أو يكفي كونه مالكا في زمان وقوع الفعل ولو لم يكن مالكا لذلك الفعل في زمان الإقرار؟ مثلا بعد أن بلغ الصبي يقر من كان وليا عليه بأنّه باع ماله الفلاني بكذا ، أو اشترى له بكذا في الزمن الذي كان وليّا عليه ، أو بعد انقضاء العدّة

ص: 14

يقرّ بالرجوع في زمان العدّة وهكذا في سائر الموارد ممّا يشاكل هذين المثلين.

والفروع الفقهيّة المترتبة على هذا الأمر كثيرة ، ويترتّب عليها نتائج مهمّة ، مثلا يقرّ وكيل شخص بعد عزله بصدور أفعال فيها ضرر على موكّله ، حين وكالته عنه في تلك الأفعال ، وكذلك مثلا يقرّ وليّ البنت بعد كبرها وصيرورتها مالكة أمرها بتزويجها من شخص معيّن في حال صغرها وكونها مولى عليها.

ومرجع هذه الجهة الخامسة إلى أنّه هل المراد من معقد الإجماع في هذه المسألة هو مالكيّته للفعل على تقدير وجوده - بمعنى أنّه لو فرضنا كونه صادقا في إقراره هذا ، كان صدور الفعل عن سلطنة شرعيّة عليه - أو أنّ المراد من مالكيّته لهذا الفعل الذي أقرّ بصدوره عنه هو أنّه لو لم يكن صادرا إلى حين الإقرار تكون لها السلطنة في تلك الحال على إيجاده؟

فبناء على احتمال الأوّل يكفي كونه مالكا حين وقوع الفعل الذي يدّعي وقوعه في ذلك الحين ، وأمّا بناء على احتمال الثاني فلا بدّ من كونه مالكا وقادرا وسلطانا على إيجاد الفعل حال إقراره.

ولا شكّ في أنّ المتيقّن من مورد انعقاد الإجماع - على تقدير تحقّقه كما رجحنا ذلك - هو الاحتمال الثاني. وأمّا الأوّل فلا مجال لإثباته بالإجماع وليس دليل لفظي من آية ، أو رواية معتبرة حتّى يتمسّك بإطلاقها.

نعم ربما يتوهّم جريان استصحاب بقاء السلطنة - التي كانت له حال وقوع الفعل الذي يقرّ بوقوعه - في الزمان المتقدّم وفي ذلك الزمان.

ولكن أنت خبير بأنّ موضوع تلك السلطنة المتيقّنة هو القادر والمالك لإيجاد الفعل في زمان إقراره ، والموضوع بهذا المعنى تبدّل يقينا ؛ لأنّه في المقام ليس قادرا شرعا على إيجاد ذلك الفعل حال الإقرار ، كما هو المفروض.

ولا يتوهّم أنّ مالكيّة إيجاد الفعل شرعا في القضيّة المتيقّنة ، وعدمها في المشكوكة

ص: 15

ليست من مقوّمات الموضوع في نظر العرف ؛ فوحدة القضيّتين بحسب الموضوع - التي شرط في جريان الاستصحاب - محفوظة عرفا.

وقد حقّق في محلّه أنّ المناط في الاتّحاد بين القضيّتين هو النظر العرفي وذلك من جهة أنّ العرف بمناسبة الحكم والموضوع يرون القدرة على إيجاد الفعل شرعا حال إقراره وفي زمانه من مقوّمات موضوع السلطنة على الإقرار بوقوعه ، فلا يبقى مجال لجريان هذا الاستصحاب.

فالنتيجة : أنّ هذه القاعدة لا تجري ، ولا يكون إقراره نافذا إلاّ فيما إذا كان قادرا لإيجاد الفعل حال إقراره فبناء على هذا لا ينفذ إقراره على الموكل بعد عزله أو انعزاله ولو كان زمان وقوع الفعل الذي أقرّ به قبل عزله أو انعزاله ، وكذا في سائر الفروع وباقي المقامات ، كما لو أقرّ بالرجوع في العدّة بعد انقضائها ، أو أقرّ الولي بعقد الصغيرة في صغرها بعد بلوغها ، وصيرورتها مالكة أمرها.

ص: 16

2 - قاعدة الإمكان

اشارة

ص: 17

ص: 18

قاعدة الإمكان (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة هي القاعدة المعروفة عندهم بقاعدة الإمكان وهي قولهم : « إنّ كلّ ما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض ». والبحث فيه عن جهات ثلاث :

الأولى : في معنى هذه الجملة والكليّة ، وأنّه ما المراد منها.

الثانية : في الدليل على هذه الكلية وانه ما هو.

الثالثة : في مواردها والفروع التي تنطبق هذه القاعدة عليها : فنقول :

أمّا الجهة الأولى : أي المراد من هذه الجملة وما هو معناها

فالعمدة فيها من الألفاظ هو لفظ « الإمكان » وأنّه ما المراد منه ، وإلاّ فلفظ « الحيض » معلوم أنّه عبارة : عن الدم السائل الذي يقذفه الرحم المتّصف بصفة كذا ، وله شروط وقيود باعتبار سنّ المرأة التي منها سيلان ذلك الدم ، وتوالي الدم ، واتّصافه بأوصاف مخصوصة ، ولا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام متوالية ولا أكثر من عشرة ، ويكون بينه وبين الحيضة السابقة فصل أقلّ الطهر وهي عشرة أيّام متوالية وسائر القيود والشرائط المذكورة في الفقه في باب الحيض.

ص: 19


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 211 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 22 ؛ « مجموعه رسائل » العدد 10 ، ص 471 ، « القواعد » ص 27 ؛ « ما وراء الفقه » ج 1 ، ص 155.

فنقول : الإمكان وإن كان في حدّ نفسه له معان متعدّدة ، من الإمكان العامّ والخاصّ والأخصّ والاستقبالي والاستعدادي والوقوعي والاحتمالي وبالقياس إلى الغير ، ولكن الظاهر أنّ المراد منه هاهنا هو الإمكان الوقوعي ، أي ما لا يترتّب على وقوعه وثبوته محذور عقلي ولا شرعي. كما قلنا في أنّ المراد من إمكان حجيّة الظن - مقابل قول ابن قبة حيث قال بامتناعها (1) هو إمكان وقوعا ، أي لا يلزم من حجيته محذور ، لا عقلا ولا شرعا.

فيكون مفاد الجملة بناء على هذا المعنى كل دم لا يلزم من كونه حيضا محذور لا عقلا ولا شرعا في عالم الإثبات لا بحسب الواقع فهو عند الشارع محكوم بالحيضيّة.

وهذا المعنى من الإمكان هو الدائر في المحاورات العرفيّة ، فإذا يقولون بأنّ الشّي ء الفلاني ممكن أن يقع ، يريدون به أنّه لا يلزم من وجوده محذور ، ولا شكّ في أنّ الفقهاء في ذكر هذه الجملة يتكلّمون على طريقة أهل المحاورة ، لا أنّهم يتكلّمون باصطلاح أو بمعنى غير جار استعمال اللفظ بذلك المعنى في محاوراتهم. ولعمري هذا واضح جدّا.

وأمّا الإمكان بالقياس إلى الغير الذي ذكره صاحب الكفاية قدس سره في هذا المقام ، وقال بأنّ الإمكان في القاعدة بهذا المعنى فأجنبي عن المقام ؛ لأنّ الإمكان بالقياس إلى الغير معناه أنّه إذا قاسيناه بذلك الغير فهو - أي ذلك الغير - لا يوجب ضرورة وجوده ولا ضرورة عدمه ، وبعبارة أخرى : لا يستلزم وجوده ولا عدمه ، كما إذا فرضنا واجبين فكلّ واحد منهما لا علّة لوجود الآخر ولا لعدمه ، بل كلّ واحد منهما أجنبي عن الآخر.

فالقول بأنّ الحيض ممكن أي بالقياس إلى القيود والأدلّة الشرعيّة وهذا هو المراد منه فعجيب ؛ لأنّ الأدلّة الشرعيّة لا تخلو من أحد الأمرين : إمّا يقتضي الحكم

ص: 20


1- حكى عنه في « فرائد الأصول » ج 1 ، ص 40.

بحيضيّته ، وإمّا يقتضي الحكم بعدم حيضيّته لفقد قيد أو شرط من شروطه في الشبهة الحكمية.

وأمّا إذا شكّ في اعتبار أمر في حيضيّته ممّا هو مفقود في هذا الدم الخارجي ، كتوالي الدم في ثلاثة أيام فلا يمكن أن يقال إنّه بالقياس إلى الأدلّة الشرعيّة ممكن أن يكون حيضا بالمعنى الذي ذكرنا للإمكان بالقياس إلى الغير ؛ لأنّ الأدلّة الشرعيّة بالأخرة إمّا يقتضي بالحيضيّة أو يقتضي عدمه بحيث لو لم تكن هذه القاعدة موجودة لكان الفقيه حسب الأدلّة الشرعيّة يحكم إمّا بالحيضيّة وإمّا بعدمها.

نعم لا بأس بأنّ يقال بأنّ المراد من الإمكان في المقام هو الاحتمال بحسب الأدلّة الشرعيّة ، ففي مورد الشكّ في شرط أو قيد في الشبهة الحكميّة ، وكذلك في احتمال وجود مانع كالحمل مثلا ، يحتمل أن يكون الدم حيضا ، فيحكم بحيضيّته بقاعدة الإمكان.

ومرادنا من الإمكان الوقوعي هو هذا المعنى ، أي لا يلزم من جعله حيضا محذور شرعا أو عقلا في عالم الإثبات ، لا عدم محذور في عالم الثبوت ؛ لأنّه بذلك المعنى يكون وجوده واجبا ولو بالغير ؛ لأنّه أيّ محذور لوقوعه أعظم من عدم علّة وجوده يكون واجبا بالغير.

فالمراد بالإمكان الوقوعي هاهنا عدم وجود محذور من وقوعه في عالم الإثبات وبناء على هذا المعنى المختار تشمل القاعدة كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية جميعا ، فكلّما لم يكن دليل شرعي أو عقلي على عدم حيضيّته فهو حيض ، فتكون قاعدة ظاهريّة في مورد الشكّ والشبهة ، سواء كانت حكميّة أو موضوعيّة. وبعبارة أخرى : تكون كقاعدة الطهارة وقاعدة الحلّ أصلا غير تنزيلي. وقد عبّر بعضهم عن هذا المعنى بالإمكان الشرعي ، أي كلّما كان دم يمكن شرعا أن يكون حيضا - بمعنى عدم قيام دليل شرعا على أنّه ليس بحيض - فالشارع حكم بحيضيّته ظاهرا وترتيب آثار

ص: 21

الحيض عليه ما لم ينكشف الخلاف.

فإذا سال دم من خنثى المشكل وشكّ في أنّه حيض أم لا ، فتارة يكون الشكّ من جهة الشكّ في أنّه رجل أو امرأة ، وأخرى من جهة أنّه على تقدير كونها امرأة يشكّ في أنّه حيض لاحتمال شرطيّة شرط ، أو قيدية قيد مفقود ، أو مانع موجود.

فإذا كان الشكّ من الجهة الثانية - أي لاحتمال فقد قيد أو شرط مما اعتبره الشارع في حيضية الدم أو وجود مانع كالحمل مثلا - فتجري هذه القاعدة لأنّه لم يدلّ دليل من طرف الشرع أو العقل على عدم حيضيّته فاحتمال الحيضية موجود مع عدم دليل على نفيه في عالم الإثبات.

وأمّا الشكّ من الجهة الأولى ، أي من ناحية أنّه رجل أو امرأة - فإن قلنا إنّ مورد هذه القاعدة هو فيما إذا أحرز أنّ هذا الدم سال من رحم المرأة وشكّ في أنّه هل هو الدم الطبيعي الذي يقذفه رحم المرأة المسمى بالحيض ، أو من سائر الدماء التي تخرج من الرحم أو الفرج لأسباب خاصة - فلا تجري القاعدة ؛ لعدم إحراز كونها امرأة ، وإلاّ أي إن لم نقل بلزوم إحراز كونها امرأة ، بل المناط في جريان القاعدة هو الشكّ في الحيضيّة من أيّ سبب وجهة حصل ، ولو كان الشكّ من جهة قابلية المحلّ فتجري.

والتحقيق في المقام : أنّه لا بدّ وأن ينظر إلى دليل القاعدة وأنّ مفاده هل هو أنّ الدم الخارج عن المحل القابل إذا كان ممكن الحيضيّة ، أي لم يكن دليل على نفي حيضيّته فهو حيض؟ فبناء على هذا في الدم الذي قذفه رحم التي يشكّ في أنّها صغيرة أو يائسة لا تجري قاعدة الإمكان أيضا مثل الخنثى المشكل ، وأمّا إن كان مفاد الأدلّة صرف الاحتمال ، وعدم وجود دليل على الخلاف شرعا أو عقلا فتجري القاعدة في المذكورات. والظاهر هو الثاني ، كما سيأتي في بيان الأدلّة.

وخلاصة الكلام : أنّ المراد بهذا الإمكان على ما يستظهر من مقاعد إجماعاتهم

ص: 22

وكلماتهم وأقوالهم هو أنّه كلّ دم يمكن أن يكون حيضا أي يحتمل أن يكون بحسب الواقع حيضا - وهذا بناء على أنّ للحيض واقعا محفوظا ، لا أنّ الشارع اعتبر في الدم الذي يخرج من الرحم قيودا وجوديّة وعدميّة وسمّاه حيضا - فإذا لم يدلّ دليل على أنّه ليس بحيض لا عقلا ولا شرعا فهو في عالم الإثبات حيض ، ويجب ترتيب آثار الحيض على ذلك الدم ما لم ينكشف الخلاف.

فتكون هذه قاعدة ظاهريّة مجعولة للشاكّ ، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، فلا تجري في الدم المشكوك فيه في حال الصغر أو اليأس أو الحمل بناء على كونه مانعا ، وغير ذلك مما اعتبره الشارع وجاء الدليل على اعتباره وجودا أو عدما ؛ لأنّ الدليل الدالّ على اعتبار هذه القيود الوجوديّة أو العدميّة رافع للشكّ الذي أخذ موضوعا في القاعدة ، فيكون حاكما على القاعدة شأن كلّ أمارة بالنسبة إلى الأصل.

فمرادنا بالإمكان الوقوعي ليس أنّه لا يلزم محذور في حاقّ الواقع من وقوعه حتّى يكون الحكم به حكما واقعيّا ، بل المراد كما شرحناه عدم دليل على نفيه في مقام الإثبات ، فحكم الشارع بوقوعه إثباتا لا ثبوتا ، ولزوم ترتيب آثار الحيض على ذلك الدم في عالم الإثبات ما لم ينكشف الخلاف ؛ ولذلك قلنا أنّها قاعدة ظاهريّة في مورد الشكّ ، لا قاعدة متكفلة لبيان الحكم الواقعي ، بل حالها حال سائر الأصول العمليّة غير التنزيليّة.

ثمَّ إنّه يظهر من كلام الشيخ الأنصاري قدس سره (1) أنّ المراد من الإمكان في هذه القاعدة هو الإمكان بالقياس إلى جميع ما اعتبره الشارع من القيود الوجودية والعدمية ، أو يحتمل دخله فيه وجودا أو عدما فيه أي في الحيض عنده أي عند الشارع ما لم يكن دليل على نفيه. فبناء على هذا لو حصل الشكّ في مدخلية شي ء وجودا أو عدما في

ص: 23


1- « كتاب الطهارة » ص 184.

كون الدم حيضا كتوالي ثلاثة أيام مثلا فلا يمكن التمسّك لكونه حيضا بقاعدة الإمكان ؛ لما قلنا من أنّ المراد من الإمكان هو إمكان كونه حيضا حتّى بالقياس إلى ما يحتمل دخله وجودا أو عدما في كونه حيضا عند الشارع إن لم يكن دليل على عدم اعتباره ، وبناء على هذا لا تجري القاعدة في الشبهة الحكميّة وتكون مختصّة بالشبهة الموضوعيّة.

ثمَّ إنّه بناء على هذا المعنى الأخير الذي اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره من أنّ الإمكان بلحاظ كلّ ما اعتبره الشارع من القيود الوجودية أو العدمية ، أو ما احتمل اعتباره من طرفه فبعد إحراز الجميع يكون مجرى قاعدة الإمكان ، وإلاّ مع الشكّ في تحقّق أحد القيود الوجوديّة أو العدميّة التي متيقّن اعتبارها أو يكون محتمل الاعتبار فلا تجري ؛ ولذلك قلنا تختصّ بالشبهات الموضوعيّة ، ويكفي لإحراز تلك القيود الوجوديّة أو العدميّة - المتيقّنة أو المحتملة - الأصول الجارية لإثبات الشرط كاستصحاب بقائه ، أو لعدم المانع كما في الشكّ في طروّ اليأس ، فأصالة عدم حصول اليأس كافية في إحراز شرطيّة عدم اليأس إن قلنا بأنّه شرط ، كما أنّها كافية في إحراز عدم مانعيّة اليأس إن قلنا بأنّ اليأس مانع.

هذا كلّه كان في بيان ما هو المراد من الإمكان في القاعدة من المعنيين المذكورين ، وقد عرفت أنّه بأحد المعنيين تجري القاعدة في الشبهات الحكميّة ، وبالمعنى الثاني هو مختار الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره لا تجري إلاّ في الشبهات الموضوعية.

أما الجهة الثانية : أي الدليل على هذه القاعدة

وهو الذي يوجب تعيين معنى الإمكان من بين المعاني المحتملة ، وهل المعنى الأوّل الذي بيّنّاه للإمكان هو الذي تنطبق عليه الأدلّة ، أو المعنى الثاني الذي اختاره الشيخ

ص: 24

الأعظم الأنصاري قدس سره ؟

فنقول استدلوا عليها بأدلّة :

الأوّل : الأصل ، وتقريبه من وجوه : الأوّل أنّ الظاهر أنّ الدّم الذي يقذفه الرحم من غير علّة هو دم الحيض ، فيكون من قبيل ظهور الألفاظ بالنسبة إلى مرادات المتكلّمين بها.

وفيه : أنّ حجيّة الظهورات في باب الألفاظ من جهة بناء العقلاء في محاوراتهم على بيان مراداتهم بما هو ظاهر اللفظ وترتيب الأثر عليه ، ولم يردع الشارع عن هذه الطريقة ، بل سلك هو أيضا في محاوراته هذا المسلك ولم يخترع طريقا آخر بل حاله حال أهل المحاورة والعرف في مقام الإفادة والاستفادة. فباب ظواهر الألفاظ أجنبي عن المقام ؛ إذ أنّ الحيض أمر تكويني خاصّ كسائر ما يترشّح من الإنسان بل مطلق الحيوان ، فحمله على ترشّح خاصّ يحتاج إلى دليل وأمارة عليه ، ولا ظهور لذلك في حدّ نفسه أصلا وعلى فرض أن كان ، يحتاج إلى دليل على حجية هذا الظهور وليس شي ء في البين.

وأمّا إن كان المراد به الغلبة فصغرى وكبرى ممنوعة ؛ لأنّه قلّ من امرأة لا تبتلى بالاستحاضة ، مضافا إلى وجود دماء آخر في الرحم غير الحيض والاستحاضة ، وعلى فرض وجود الغلبة لا دليل على اعتبارها.

وأمّا إن كان المراد به أنّ مقتضى أصالة السلامة هو أنّ الدم الذي يقذفه الرحم السالم حيض.

ففيه أنّه لا دليل أوّلا على أنّ مقتضى السلامة أنّ الدم الخارج من الرحم السالم حيض ، إذ الدم الخارج منه يمكن أن يكون حيضا ويمكن أن لا يكون ، إذ كثيرا ما يخرج من الرحم السالم غير الحيض من سائر الدماء كما هو واضح بالعيان.

وثانيا على فرض كونها مقتضيا لذلك فليس من قبيل العلة التامّة بحيث يقطع

ص: 25

الإنسان أنّ كل دم يقذفه يكون حيضا ؛ إذ من الواضح أنّ الرحم السالم ربما يقذف الدم قبل البلوغ أو بعد اليأس بزمان يسير أو ربما يزيد على العشرة ، وكلّ هذه ليس بحيض بحكم الشارع.

نعم يمكن أن يقال إنّ الدم الخارج من الرحم السالم في غير ما دلّ الدليل على عدم كونه حيضا يظنّ أنه حيض ، ولكن لا دليل على اعتبار هذا الظنّ ، فمقتضى أصالة حرمة العمل بالظنّ عدم جواز العمل بهذا الظنّ.

وأمّا ما ربما يدّعي من أنّ ما عدا الحيض من الدماء التي يقذفها الرحم خلاف مقتضى الفطرة الأوليّة للنساء وخلقتها الأصليّة لهنّ ولا بدّ وأن يكون من جهة علّة وآفة في الرحم ، ومقتضى أصالة السلامة نفي هذه الاحتمالات ، فلا بدّ وأن يحمل على أنّه حيض.

فليست هذه الدعاوي إلاّ من موجبات الظنّ بأنّ الدم الخارج حيض ، وقلنا أنّه لا دليل على اعتبار مثل هذا الظنّ في المقام.

وأمّا إن كان المراد من الأصل استصحاب عدم كون هذا الدم الخارج من العرق العاذل حتى يكون حيضا ، لعدم احتمال دم ثالث في البين ، أو استصحاب عدم كون هذا الدم استحاضة بالعدم الأزلي وبطور السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع.

ففيه أولا : بأنّ هذا الاستصحاب استصحاب العدم النعتي وليس هذا العدم حالة سابقة ، وقد أبطلنا استصحاب العدم الأزلي لإثبات عدم النعت في الأصول ، فراجع.

وثانيا : أنّه معارض باستصحاب عدم كونه حيضا على فرض تسليم جريان استصحاب العدم الأزلي لإثبات عدم النعت.

وثالثا : أنّ استصحاب عدم كونه استحاضة أو عدم كونه من عرق العاذل لإثبات كون هذا الدم المشكوك حيضا من أردء أقسام المثبتات.

الثاني : بناء العرف على أنّ ما رأت المرأة التي هي في سنّ من تحيض من الدم

ص: 26

الخارج من الرحم أنّه حيض ، إلا إذا علم عدم كونه حيضا بواسطة الأدلّة والأمارات.

ومرجع هذا الدليل إلى مراجعة العرف في تشخيص مصاديق مفهوم الذي جعله الشارع موضوعا لحكمه ، مثلا جعل الشارع مفهوم « الغناء » موضوعا للحرمة ، فإذا شكّ في صوت أنّه من مصاديق الغناء فالمرجع في تشخيص المصداق لذلك المفهوم هو العرف ، فإذا كان بناء العرف مثلا على أنّ كل صوت شكّ في أنّه غناء فهو غناء ، فهذا البناء من أهل العرف حجّة على كونه غناء.

وفيما نحن فيه أيضا كذلك ، إذا كان بناء عرف النساء أنّ كلّ دم لم يعلم أنّه استحاضة أو دم آخر غير دم الحيض فهو من مصاديق مفهوم الحيض الذي هو مفهوم عرفي ، لا أنّه من مخترعات الشارع الأقدس.

وفيه أولا : أن أمر تطبيق المفهوم على المصاديق ليس بيد العرف ، وإنّما المرجع هو العرف في تعيين المفاهيم وفهم المراد منها ، وأمّا تطبيق المفهوم على المصداق فهو دقي وبيد العقل. نعم قد يكون الشكّ في الصدق من جهة عدم معرفة حدود المفهوم من حيث السعة والضيق ، ويسمّى بالشك في الصدق مقابل الشبهة المصداقيّة ، ففي مثل هذا المورد لا بأس بمراجعة العرف ؛ لأنّه في الحقيقة يرجع إلى تعيين حدود المفهوم ، ويكون المناط فيه فهم العرف.

وأمّا في مثل المقام - من أنّ منشأ الشكّ أمور خارجيّة أو احتمال فقدان شرط شرعي أو قيد أو وجود مانع كذلك بناء على جريان هذه القاعدة في الشبهة الحكميّة - فليس من تلك الجهة ، أي من جهة الشبهة المصداقية قطعا.

هذا ، مضافا إلى أنّ ظاهر هذه القاعدة - كما تقدّم بيان حكم الشكّ - في الحيض وأنّ الوظيفة العمليّة في ظرف الشكّ ما هو؟ وبناء العرف في هذا المقام لا أثر له ، ولو صحّ ما ذكرنا من مراجعة العرف في مقام تشخيص مصاديق المشتبهة للمفاهيم فيكون بناؤهم رافعا للشكّ وأمارة على الحيض إن كانت الشبهة موضوعية. وأمّا لو

ص: 27

كان المراد من بناء العرف بنائهم على ترتيب آثار الحيض على دم المشكوك الحيضيّة عملا ، فيحتاج حجيّة هذه البناء منهم على إمضاء الشارع على فرض تحقّق هذا البناء منهم ، مع أنّ تحقّق مثل هذا البناء في غير مورد الأمارات الشرعيّة كالعادة ووجود الصفات وغيرهما لا يخلو من تأمّل وإشكال.

وأمّا في موارد العادة ، أو فيما إذا كان الدم بصفات الحيض فإرجاع الشارع إليهما وإن كان مسلّما ، ولكن لا ربط له بقاعدة الإمكان ، بل إرجاعه إليهما يكون رادعا لقاعدة الإمكان. وأيضا لا أثر في أخبار الباب من الإرجاع إلى قاعدة الإمكان عند فقد العادة وعدم الصفات ، مع أنّه لو كانت القاعدة بمعنى بناء العرف المذكور ممضاة من قبل الشارع لكان يقتضي الإرجاع إليها أيضا ، خصوصا عند فقدهما.

والحاصل أنّ عدم إرجاع الشارع إليها - في مورد الشكّ في حيضيّة الدم الخارج من مدخل الرحم خصوصا بعد فقد العادة والصفات - دليل على عدم إمضائه لهذه البناء على تقدير تسليم وجودها.

الثالث : سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة لا بما هم عقلاء على ترتيب آثار الحيض على الدم المشكوك كونه حيضا ، ولا شكّ في أنّ السيرة العمليّة من المتشرّعة بما هم متشرّعة ، مثل الإجماع والاتّفاق القولي كاشف قطعي عن رأي الإمام علیه السلام لأنّها في الحقيقة إجماع عملي من المتشرّعة أعمّ من أن يكونوا فقهاء مجتهدين أم كانوا من العوام. وملاك الحجيّة وهو الاستناد وكونه مسببا عن رأي المعصوم في كليهما واحد.

وفيه : مضافا إلى عدم معلوميّة هذا الاتّفاق منهم بمجرّد كون الدم مشكوك الحيضيّة ، وعلى تقدير تحقّقه فلعلّه من جهة وجود أمارة من العادة أو الصفات أو غيرهما احتياطا فيما يمكن الاحتياط.

وثانيا : كاشفيّة السيرة عن رأي الإمام علیه السلام منوطة باتّصالها إلى زمان المعصوم ، ولا طريق إلى إثبات ذلك. نعم لو تحقّقت السيرة من المتشرّعة بما هم متشرّعة من

ص: 28

دون استناد إلى الأدلّة الشرعية من الصفات والعادة والروايات الواردة في هذا الباب ، ومن دون كون ترتيب آثار الحيضيّة من باب الاحتياط ، وكانت متّصلة بزمان المعصوم ولم يردع عنها فتكون دليلا على هذه القاعدة. ولكن في جميع مقدّمات هذا الدليل إشكال.

الرابع : ما أفاده كاشف اللثام من أنّه لو لم يعتبر قاعدة الإمكان عند الشكّ في كون الدم حيضا لما أمكن الحكم بحيضيّة دم ؛ لعدم اليقين بها غالبا ، وعدم دليل آخر من أصل أو أمارة يدلّ على كونه حيضا (1).

وفيه : أنّه جعل الشارع أمارات لإثبات كونه حيضا :

منها : كونه في العادة وقتا وعددا أو أحدهما وإن لم يكن بصفات الحيض.

ومنها : ما إذا كان الدم بصفات الحيض وإن لم يكن في العادة ، كما في قوله علیه السلام في مرسل يونس : « دم الحيض أسود يعرف » (2). وكقوله علیه السلام في خبر حفص قال : دخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام امرأة سألته عن المرأة يستمرّ بها الدم ، فلا تدري حيض هو أم غيره؟ قال علیه السلام لها : « إنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود ، له دفع وحرارة ، ودم الاستحاضة بارد رقيق ، فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة ». قال : فخرجت وهي تقول : لو كان امرأة ما زاد على هذا (3).

منها : عن العلاّمة في التذكرة (4) ، عن الصادق علیه السلام . « إنّ دم الحيض ليس به خفاء ، وهو دم حار محتدم ، له حرقة » إلى آخره (5). والأخبار في معرفة الحيض بالصفات

ص: 29


1- « كشف اللثام » ج 1 ، ص 88.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 86 ، باب جامع في الحائض والمستحاضة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 538 ، أبواب الحيض ، باب 3 ، ح 4.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 91 ، باب معرفة دم الحيض من دم الاستحاضة ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 151 ، ح 429 ، باب حكم الحيض والاستحاضة. ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2. ص 537 ، أبواب الحيض ، باب 3 ، ح 2.
4- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 294.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 92 ، باب معرفة دم الحيض من دم الاستحاضة ، ح 3 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 151 ح 431، باب حكم الحيض والاستحاضة. ، ح 3.

كثيرة فراجع محلّها ، أي باب علائم دم الحيض من كتاب جامع أحاديث الشيعة في أحكام الشريعة (1).

منها : الروايات التي تدلّ على الحكم بكونه حيضا مع التوالي ثلاثة أيّام والانقطاع على ما دون العشرة وان لم يكن بصفات الحيض وغير ذلك من الامارات ، فلا بأس في الرجوع إلى أصالة العدم فيما لم يكن يقين وإحدى هذه الأمارات ، ولا يلزم من عدم اعتبار قاعدة الإمكان محذور أصلا.

الخامس : الروايات الكثيرة التي يستظهر منها حكم الشارع بأنّ الدم الذي لم تدلّ الأدلّة الشرعيّة على عدم كونه حيضا فهو حيض ، بمعنى أنّ ما اعتبره الشارع في الحيضيّة من القيود الوجوديّة والعدميّة موجودة فيه ، فبالنسبة إلى الأدلّة الشرعيّة لا مانع من كونه حيضا.

فمفاد تلك الأخبار الكثيرة في الموارد المختلفة أنّ مثل هذا الدم حيض ؛ ولذلك عبّر جماعة عن الإمكان في هذه القاعدة بالإمكان القياسي ، أي بالقياس إلى الأدلّة الشرعيّة.

وقد عرفت أنّ هذا المعنى لا ينافي ما ذكرنا من أنّ المراد بالإمكان المذكور في القاعدة هو الإمكان الوقوعي شرعا ، أي لا يلزم من وقوعه شرعا محذور.

فإذا كان عمر المرأة أقلّ من تسع ، أو أكثر من خمسين في غير القرشية ، أو من ستين فيها فلا يمكن أن يكون حيضا بالإمكان الوقوعي عند الشارع ؛ لأنّه يلزم من كونه حيضا محذور شرعا بعد ما اعتبر كون عمر المرأة التي تحيض تسع فما زاد ، وأن لا يكون أكثر من خمسين أو ستّين.

منها : الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ ما تراه المرأة قبل العشرة - أي عشرة

ص: 30


1- « جامع أحاديث الشيعة » ج 2 ، ص 478 ، باب علائم دم الحيض والاستحاضة والعذرة والقرحة.

الطهر الفاصلة بين الحيضتين - فهو من الحيضة الأولى ، وما تراه بعدها فهو من الحيضة المستقبلة.

ومنها : رواية يونس عن الصادق علیه السلام قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام المرأة ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أيّام ، قال علیه السلام : « تدع الصلاة ». قلت : فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة ، قال : « تصلّي ». قلت : فإنّها ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أيّام ، قال علیه السلام : « تدع الصلاة ». قلت : فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيّام ، أو أربعة أيّام قال علیه السلام « تصلّي » قلت : فإنّها ترى الدم ثلاثة أيّام ، أو أربعة أيّام قال علیه السلام : « تدع الصلاة تصنع ما بينها وبين الشهر ، فإن انقطع عنها وإلاّ فهي بمنزلة المستحاضة » (1).

ومنها : رواية أخرى عن يونس بن يعقوب عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة ترى الدم خمسة أيّام والطهر خمسة أيام ، وترى الدم أربعة أيّام ، وترى الطهر ستّة أيّام ، فقال علیه السلام : « إن رأت الدم لم تصلّ ، وإن رأت الطهر صلّت ما بينها وبين ثلاثين يوما ، فإذا تمّت ثلاثون يوما فرأت الدم دما صبيبا اغتسلت واستثفرت واحتشّت بالكرسف في وقت كلّ صلاة ، فإذا رأت صفرة توضّأت » (2).

ومنها : رواية سماعة قال : سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها ، فقال علیه السلام : « إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة ، فإنّه ربما تعجل بها الوقت » الحديث. (3)

ومنها : رواية عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سأل عن الحلبي ترى

ص: 31


1- « الكافي » ج 3 ، ص 79 : باب أوّل ما تحيض المرأة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 544 ، أبواب الحيض ، باب 6 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 380 ، ح 1180 ، باب الحيض والاستحاضة. ح 3 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 132 ، ح 454 ، باب أقلّ الطهر ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 544 ، أبواب الحيض ، باب 6 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 77 ، باب المرأة ترى الدم قبل أيّامها أو بعد طهرها ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 158 ، ح 453 ، باب حكم الحيض والاستحاضة. ، ح 25 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2. ص 556 ، أبواب الحيض ، باب 13 ، ح 1.

الدم أتترك الصلاة؟ فقال : « نعم ، إنّ الحبلى ربما قذفت بالدم » (1).

ومنها : رواية صفوان قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الحبلى ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أتصلي؟ قال علیه السلام : « تمسك عن الصلاة » (2).

ومنها : رواية منصور بن حازم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام : « أيّ ساعة رأت المرأة الدم فهي تفطر » الحديث (3).

وأيضا هناك روايات أخر تمسكوا بها أيضا لإثبات هذه القاعدة تركناها لكي لا يطول المقام ، وما ذكرنا منها أظهر في المقصود ممّا لم نذكر.

ومع ذلك كلّه يمكن المناقشة في دلالة هذه الروايات على اعتبار هذه القاعدة بطور الكلية في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة بصرف احتمال كون الدم حيضا مع عدم محذور شرعا من الحكم بحيضيّته ، بمعنى عدم دليل شرعي على عدم كونه حيضا.

أمّا الطائفة الأولى : فالظاهر منها كون الدم حيضا على أيّ حال ، بلا اشتباه في كونه حيضا أم لا ، وأنّما الشكّ في كونه من الحيضة الأولى أم الثانية ، فيقول علیه السلام بأنّ الدم الذي قبل العشرة من الحيضة الأولى وما بعدها من الثانية. وذلك من جهة أنّ النقاء المتخلّل بين الدمين إذا لم يزد مع ما في طرفيه على العشرة فالمجموع حيضة واحدة ، وإلاّ - كما في المقام - فالدم الأوّل من حيضة والثاني من حيضة أخرى ، وإلاّ يلزم أن يكون أكثر الحيض أكثر من العشرة ، وهو معلوم العدم ؛ فليس في مقام الحكم بكونه حيضا فيما إذا تردّد بين كونه حيضا وبين عدمه.

ص: 32


1- « الكافي » ج 3 ، ص 97 ، باب الحبلى ترى الدم ، ح 5 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 386 ، ح 1187 ، باب الحيض والاستحاضة و. ح 10 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 138 ، ح 474 ، باب الحبلى ترى الدم ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 576 ، أبواب الحيض ، باب 30 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 387 ، باب الحيض والاستحاضة و... ح 16. « الاستبصار » ج 1 ، ص 139 ، ح 478 ، باب الحبلى ترى الدم ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 577 ، أبواب الحيض ، باب 30 ، ح 4.
3- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 394 ، ح 1218 ، باب الحيض والاستحاضة و. ح 41 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 146 ، ح 499 ، باب المرأة تحيض في يوم من أيّام شهر رمضان ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 601 ، أبواب الحيض ، باب 50 ، ح 3.

وأمّا روايتان يونس بن يعقوب الأولى والثانية فالظاهر أنّهما في المرأة التي استدام بها الدم واختلط عليها عادتها ، فتعمل عمل الحائض عند رؤية كلّ دم لاحتمال كونه هو الحيض ، وعمل الطهر عند كلّ طهر حتّى يتبيّن حالها فيما بعد وترجع إلى عادتها وإلاّ فالحكم بحيضيّة كلّ دم من تلك الدماء معلوم العدم ؛ لعدم الفصل بين الدمين بالنقاء العشرة التي هي أقلّ الطهر ، وكون مجموع الدمين مع النقاء المتخلّل بينهما أكثر من عشرة في بعض الصور منها ، فلا يمكن تطبيقها على قاعدة الإمكان ، كما هو واضح.

وأمّا رواية سماعة : فقوله علیه السلام : « فإنّه ربما تعجل بها الوقت » ظاهر في أنّ تقدّم الدم قليلا من الزمان - مثل يوم أو يومين على الوقت - لا يخرجها عن كونها ذات العادة الوقتيّة ، لأنّه ربما تعجل بها الوقت ، فيكون الحكم بحيضيّته من جهة كونه في الوقت وهي ذات العادة الوقتيّة ، وهي أمارة.

وبعبارة أخرى : يكون قوله علیه السلام : « ربما تعجل بها الوقت » نحو توسعة في الوقت ، فلا ربط لها بقاعدة الإمكان.

وبهذا المضمون - أي الحكم بكون الدم الذي قبل الحيض بيوم أو يومين فهو حيض وإن كان ذا صفرة - روايات كثيرة ، فهي صريحة في أنّ التقدّم بيوم أو يومين على وقت العادة لا يخرجها عن كونها ذات العادة الوقتية بالنسبة إلى هذا الدم المتقدم على الوقت ، وإلاّ فبمقتضى صفة كونه ذا صفرة يجب أن يحكم عليه بأنّه استحاضة ولكنّه حيث أنّ أماريّة الوقت والعادة مقدّمة على الصفات فيحكم بحيضيّته ؛ ولذا وردت في الروايات أنّ الصفرة في أيّام الحيض حيض وفي غيرها استحاضة (1).

وأمّا رواية عبد اللّه بن سنان وصفوان : ففي مقام أنّ الحيض يجتمع مع الحبل ، ولا فرق بين الحبل وغيره في إمكان تحقّق الحيض معه ، وهذا لا ينافي أنّ إثباته يحتاج إلى أمارات وعلائم التي جعلها الشارع طريقا إلى معرفة الحيض ؛ فلا ربط لهما بقاعدة

ص: 33


1- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 539 ، أبواب الحيض ، باب 4.

الإمكان.

وأما رواية منصور بن حازم : فالظاهر منها أنّ الحيض بمحض وجوده في نهار رمضان يوجب الإفطار ، سواء أكان في أوّل النهار أو في آخر النهار بعد الفراغ عن كونه حيضا ، لا أنّه في مورد الشكّ في حيضيّته يحكم بكونه حيضا ؛ فلا ربط لها بقاعدة الإمكان.

وأمّا الروايات الواردة في باب تميّز دم الحيض عن دم العذرة - بأنّها تستدخل قطنة ، فإن خرجت والدم فيها مطوّق فهو دم العذرة ، وإن خرجت والدم فيها منغمس فدم الحيض (1). فمن جهة جعل الشارع الانغماس في القطنة أمارة للحيض ، والتطوق أمارة للعذرة ، فإن عمل بها فتكون من باب قيام الأمارة على الحيض مقابل الاشتباه بالعذرة لا مطلقا ، وإن لم يعمل بها فلا يدلّ على شي ء وعلى كلّ حال - لا ربط لها بقاعدة الإمكان.

وكذلك الرواية الواردة في تميّز الحيض عن القرحة - بالخروج عن الجانب الأيسر فحيض ، وإن كان خروج الدم عن الجانب الأيمن فقرحة (2) - ظاهرها جعل الخروج من كلّ واحد من الطرفين أمارة لأحدهما مع انحصار الاحتمال فيهما ، ولا يكون احتمال كون الدم دما آخر كالاستحاضة مثلا ، فان عمل بها يكون إثبات الحيض بالأمارة لا بقاعدة الإمكان وإلاّ فلا يدل على شي ء.

هذا مع اختلاف النسخ ، ففي بعضها جعل الأيسر علامة الحيض ، وفي بعضها الأيمن.

وأمّا روايات الاستظهار بيوم أو يومين (3) ، فليس إلاّ من جهة الاحتياط حتّى يتبيّن الحال ، كما هو ظاهر لفظ الاستظهار.

ص: 34


1- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 535 ، أبواب الحيض ، باب 2.
2- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 560 ، أبواب الحيض ، باب 16.
3- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 556 ، أبواب الحيض ، باب 13.

وفي بعض الروايات أنّ المرأة إذا تجاوز الدم عن عادتها فهي تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة أيّام كصحيح البزنطي عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ، سألته عن الطامث كم تستظهر؟ قال علیه السلام : « تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة » (1).

وفي موثّق يونس بن يعقوب ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : امرأة رأت الدم في حيضها حتى تجاوز وقتها ، قال علیه السلام : « تنظر عادتها التي كانت تجلس ، ثمَّ تستظهر بعشرة أيّام » (2). والحاصل أن أخبار الاستظهار مختلفة جدّا من حيث تعيين مقدار الاستظهار بين يوم واحد ، ويومين ، وثلاثة أيّام ، وعشرة أيّام ، وثلثي أيّامها في النفساء ؛ ولذلك حملوها على الاستحباب.

وعلى كلّ حال المقصود من الاستظهار تبيّن حال الدم وأنّه بعد تجاوزه عن مقدار عادتها العدديّة هل ينقطع على العشرة أو ما دونها حتى يكون المجموع حيضا ، أو يتجاوز عن العشرة حتى تأخذ بعادتها؟ فلا ربط لها بقاعدة الإمكان.

السادس : الإجماع ، وقد ادّعاه جماعة من الأصحاب كالمحقّق في المعتبر (3) ، والعلامة في المنتهى (4).

وقال في القواعد : وكلّ دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض. (5) وأرسله إرسال المسلّمات.

ص: 35


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 171 ، ح 489 ، باب حكم الحيض والاستحاضة و. ح 61 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 149 ، ح 514 ، باب الاستظهار للمستحاضة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 557 ، أبواب الحيض ، باب 13 ، ح 9.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 402 ، ح 1259 ، باب الحيض والاستحاضة والنفاس ، ح 82 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 149 ، ح 516 ، باب الاستظهار للمستحاضة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 558 ، أبواب الحيض ، باب 13 ، ح 12.
3- « المعتبر » ج 1 ، ص 203.
4- « المنتهى » ج 1 ، ص 98.
5- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 213.

وفي جامع المقاصد : هذا الحكم ذكره الأصحاب. (1)

وعن نهاية الأحكام : كلّ دم يمكن أن يكون حيضا وينقطع على العشرة فإنّه حيض ، سواء اتّفق لونه أو اختلف ، ضعيف أو قوي إجماعا (2).

وعن الخلاف : إنّ الصفرة والكدرة في أيّام الحيض حيض ، وفي أيّام الطهر طهر ، سواء كان أيّام العادة أو الأيّام التي يمكن أن تكون حائضا فيها. ثمَّ قال : دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه إجماع الفرقة (3).

وقال في مفتاح الكرامة ، في شرح قول العلاّمة في القواعد : وكلّ دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض إجماعا ، كما في المعتبر ، والمنتهى ، ونهاية الأحكام ذكره في مبحث الاستحاضة ، ومجمع البرهان ، وفي جامع المقاصد نسبه إلى الأصحاب ، وفي شرح المفاتيح : أنّه المعروف من مذهب الأصحاب. وذكره الشهيد في اللمعة فيكون مشهورا بناء على ما ذكره في آخرها وقال في جامع المقاصد : لو لا الإجماع لكان الحكم به مشكلا من حيث ترك المعلوم ثبوته بمجرد الإمكان (4).

وقال أيضا في مفتاح الكرامة : وفي حاشية المدارك : إنّهم لم يعوّلوا على الإمكان ، وإنّما عوّلوا على الإجماع ، والمجمعون اطلعوا على المستند. انتهى ما في مفتاح الكرامة (5).

ولا شكّ في أنّ هذه الكلمات من هؤلاء الأكابر والأعاظم تكشف عن تسلّمهم على هذه القاعدة.

ولكن الكلام في أنّه هل من الإجماع المصطلح الأصولي الذي قلنا بحجيّته واستكشاف رأي المعصوم علیه السلام منه أم لا ، بل اتّفاقهم مستند إلى ما ذكرنا من الأدلّة

ص: 36


1- « جامع المقاصد » ج 1 ، ص 288.
2- « نهاية الأحكام » ج 1 ، ص 134.
3- « الخلاف » ج 1 ، ص 235 ، المسألة 201.
4- « مفتاح الكرامة » ج 1 ، ص 345.
5- « المصدر.

الخمسة المتقدّمة؟

والظاهر أنّ مستند المتّفقين مختلفة ، فبعضهم لا يستندون إلاّ إلى نفس الاتّفاق والإجماع ، من دون أن يكون لهم مستند آخر عقليّا أو نقليّا ، وبعضهم الآخر يستندون إلى الأدلّة المتقدّمة ، وهم أيضا مختلفون فبعضهم يستندون إلى أصالة السلامة ، وبعضهم يستندون إلى الأخبار ، وهكذا.

ومعلوم أنّ مثل هذا الإجماع لا يفيد لإثبات قاعدة كلّية ظاهريّة في مقام الشكّ ، خصوصا في الشبهات الحكمية.

وعلى كلّ حال الأقوال في هذه القاعدة مختلفة : فقول باعتبارها في الشبهة الحكميّة والموضوعية جميعا ، وآخر بعدم اعتبارها مطلقا ، وقول بالتفصيل بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، بعدم اعتبارها في الأولى واعتبارها في الثانية.

الجهة الثالثة : في بيان موارد جريان القاعدة على تقدير اعتبارها

اشارة

ولا بدّ في تعيين ذلك من النظر إلى دليل اعتبارها ، وأنّه هل يدلّ على اعتبارها في كلّ مورد لم يعلم بعدم كونه حيضا بحسب الأدلّة الشرعيّة وإن احتمل ذلك ، فتدلّ هذه القاعدة بناء على هذا كون كلّ دم مشكوك - ولم يرد دليل على عدم حيضيّته - أنّه حيض أم لا ، بل دائرة اعتبارها أضيق ممّا ذكر؟

وبعبارة أخرى : المناط في سعة دائرة موارد جريانها هو دلالة دليل اعتبارها سعة وضيقا ، فلو كان الدليل على اعتبارها هو الدليل الأوّل - أي الأصل - فبأيّ معنى من معانيه التي ذكرناها يكون موردها عامّا يشمل الشبهة الحكميّة والموضوعيّة جميعا.

ص: 37

ولكن عرفت عدم صحّة ذلك الدليل.

وأمّا بناء على أن يكون دليلها هو بناء العرف - الذي هو الدليل الثاني ممّا ذكرنا - فلا يدلّ على فرض تحقّقه وحجيّة ذلك البناء على أكثر من كون الدم المشكوك من جهة الشبهة الموضوعيّة والأمور الخارجيّة حيضا ، فلا يشمل الشكّ في كونه من جهة الشبهة الحكميّة ؛ لأنّه مع احتمال اعتبار الشارع قيد وجودي أو عدمي لا يبقى مجال لدلالة بناء العرف والعقلاء على حيضية الدم المشكوك.

وبعبارة أخرى : بناء العرف والعقلاء يحتاج حجيته إلى إمضاء الشارع ، ومع احتمال اعتبار الشارع وجود قيد مفقود في الدم المشكوك ، أو عدم قيد موجود فيه لا إمضاء في البين.

وقد عرفت الإشكالات الواردة على هذا الوجه.

وأمّا بناء على الوجه الثالث أي السيرة المتشرّعة فعلى فرض تحقّقها عندهم بما هم متشرّعة واتّصالها بزمان المعصوم ولم يكن استنادهم إلى الروايات ، وإلاّ فيكون المدرك هي الروايات. وسنتكلّم فيها ولم يكن حكمهم بالحيضيّة من باب الأدلّة الشرعيّة والصفات والعلامات والعادة ، ولم يكن ردع عن قبل الشارع ، فلا بدّ وأن يلاحظ معقد السيرة هل هو خصوص الشبهة الموضوعيّة أو الأعمّ منها ومن الحكمية؟

وأما بناء على الوجه الرابع مع وضوح بطلانه في نفسه لا يفيد إلاّ فيما لا يكون مثبتا للحيضيّة ، وإن كان ذلك الدليل أصلا غير تنزيلي.

وأما بناء على الوجه الخامس - أي الأخبار التي استدلّوا بها على هذه القاعدة ، فلو قلنا بدلالتها على اعتبار هذه القاعدة وأغمضنا النظر عن الإشكالات التي أوردناها على دلالة تلك الأخبار على اعتبارها - فالإنصاف أن في دلالتها على اعتبار هذه القاعدة حتّى في الشبهات الحكميّة نظر بل إشكال.

ص: 38

بيان ذلك : أنّ ظاهر هذه التعليلات - مثل قوله علیه السلام في رواية عبد اللّه بن سنان « إنّ الحبلى ربما قذفت » (1) أو قوله علیه السلام في رواية سماعة « فإنّه ربما تعجل بها الوقت » (2) - أنّ كونها حبلى ، أو وجود الدم قبل وقت العادة ليس ممّا يمنع عن كون هذا الدم الخارجي حيضا ، فتدلّ على أنّ هذا الدم الخارجي إذا شككت في أنّه حيض من جهة احتمال كون الحبلى أو وجوده قبل وقت العادة مانعا خارجيا عن كونه حيضا فهو حيض ؛ لأنّه لا منافاة بين الحبل والحيض ، لأنّ الحبلى أيضا مثل غيرها ربما تقذف الدم وأيضا لا منافاة خارجا وتكوينا بين تقدّم الدم على الوقت وبين كونه حيضا ؛ لأنّه قد يعجل بها الوقت ، لا أنّه علیه السلام بصدد بيان أنّه عند الشكّ في مانعيّة الحمل أو مانعيّة وجود الدم قبل الوقت يكون حيضا حتّى يكون حكمه بالحيضيّة في مورد الشبهة الحكميّة.

ودلالة الروايات على هذه القاعدة لو ثبتت تكون من ناحية هذه التعليلات ، وقد عرفت أنّ هذه التعليلات على دلالتها على القاعدة المذكورة لا تدلّ على أكثر من أنّ الدم المشكوك الحيضيّة - من ناحية الأمور الخارجيّة ، ككون المرأة حبلى ، أو تقدّم الدم على العادة وأمثال ذلك - حيض.

وأما بناء على الوجه السادس - أي الإجماع - فلا بدّ وأن يلاحظ معقد الإجماع ، وهل انعقد الإجماع على فرض تحققه على اعتبارها مطلقا؟ سواء أكانت الشبهة حكميّة - أي كان منشأ الشكّ احتمال اعتبار قيد وجودي من طرف الشارع ، وهو مفقود كالتوالي مثلا ، أو احتمال اعتبار قيد عدمي في دم الحيض ، وهو موجود كاحتمال اعتبار عدم كون عمرها أكثر من خمسين مثلا وهو أكثر ، أو اعتبار عدم كونها حاملا وهي حامل مثلا - أو كانت موضوعيّة فقط ، منشأ الشكّ هي الأمور الخارجيّة ، أو لا بل انعقد على اعتبارها في الشبهات الموضوعيّة فقط ، أو يكون معقد الإجماع في بعض

ص: 39


1- تقدم تخريجه في ص 32.
2- تقدم تخريجه في ص 31.

الشبهات الموضوعية لا جميعا وهو خصوص مورد الروايات فقط دون سائر الشبهات الموضوعيّة؟

والإنصاف أنّه لو أغمضنا عن الإشكال الذي أوردنا على الإجماع فالذي يستظهر من معاقد إجماعاتهم واتّفاقاتهم هو المعنى الوسط ، أي اعتبارها في جميع الشبهات الموضوعيّة دون الشبهات الحكمية. وتحقّق مثل هذا الإجماع ليس ببعيد ، وهو الوجه في حجيّة هذه القاعدة.

ثمَّ أنّه لمّا كانت هذه القاعدة مجعولة للشاكّ في حيضيّة الدم فيكون حكما ظاهريّا ، وأصلا عمليّا غير تنزيلي. فإذا كانت هناك أمارة على أنّ الدم الكذائي حيض أو ليس بحيض ، أو أصل تنزيلي كاستصحاب الحيضيّة أو عدمها فلا يبقى مجال لجريان هذه القاعدة.

نعم بناء على بعض الوجوه المتقدّمة - مثل ما لو كان المدرك لهذه القاعدة هي السيرة وهكذا أصالة السلامة - تكون من قبيل الأصول التنزيليّة ، فتتعارض مع سائر الأصول التنزيليّة كالاستصحاب مثلا ، إلاّ أن يكون مرجّح في البين يوجب تقديم أحدهما ، وإلاّ فمقتضى القاعدة التساقط.

فتلخّص ممّا ذكرنا عدم الاحتياج إلى هذه القاعدة في جميع الموارد التي دلّ الدليل على كونه حيضا أو ليس بحيض من نصّ أو إجماع ، بل لا مورد لها ؛ لأنّها أصل عملي ، فمع وجود الأمارة المعتبرة من نصّ أو إجماع ، على الحيضيّة يرتفع موضوعها تعبّدا وفي عالم التشريع ، أي لا يبقى شكّ وتحيّر حتّى تصل النوبة إلى جريانها ولا فرق في حكومة الأمارات عليها بين أن يكون مؤدّاها موافقا للقاعدة أو مخالفا لها.

وكذلك الأصول التنزيليّة على تقدير كونها أصلا غير تنزيلي ، ففي أيّام العادة التي حكم الشارع بحيضيّة الدم - سواء أكانت واجدة للصفات أم لا - لا مجال لجريان القاعدة ، كما أنّه لو كان في غير أيّام العادة ولكن كان بصفات الحيض أيضا كذلك ، لأنّ

ص: 40

الشارع جعل الصفات أمارة على الحيضيّة ولو لم يكن في أيّام العادة. وكذلك في غير أيّام العادة لو كان بصفات الاستحاضة من كونه أصفرا باردا رقيقا فلا تجري القاعدة ؛ لأنّ الشارع جعل هذه الصفات في غير أيّام العادة أمارة الاستحاضة ، وكذلك فيما زاد على العشرة حكم الشارع بعدم حيضيّة ما زاد على العشرة ؛ لأنّ أكثر الحيض عشرة ، وكذلك ما زاد على العادة بشرط تجاوز الدم عن العشرة لحكم الشارع بأنّ ما زاد على العادة إن لم ينقطع على العشرة ليس بحيض.

وكذا لو كان التطويق أمارة كون الدم دم العذرة عند اشتباه دم الحيض بدم العذرة فلا تجري القاعدة إذا كان الدم مطوقة في القطنة. وكذلك إذا كان الخروج من جانب الأيمن كان أمارة على كونه دم القرحة ، أو خروجه من جانب الأيسر كان أمارة الحيضيّة ، ففي كلا الموردين لا مجال لجريان القاعدة ، وكذا في كلّ مورد كان الشكّ من جهة احتمال اعتبار قيد وجودي مفقود في الدم ، أو احتمال اعتبار قيد عدمي موجود فيه.

وبعبارة أخرى : في الشبهات الحكميّة لا تجري القاعدة ، وكذلك في مستدامة الدم بناء على رجوعها إلى الروايات بأن تأخذ في شهر ثلاثة وفي شهر سبعة ، أو ترجع إلى عادة أهلها وأقاربها أو ترجع إلى التميّز بالصفات إن كانت ولم يكن الدم لونا واحدا ، ففي جميع ذلك لا مجال لجريان القاعدة : وبناء على كون القاعدة أصلا غير تنزيلي في كلّ مورد كان استصحاب الحيضية واستصحاب عدمها أيضا لا مجال لجريان القاعدة ؛ كلّ ذلك لأجل حكومة الأمارات والروايات على الأصول مطلقا ، والأصول التنزيلية على غير التنزيلية.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ موارد جريان القاعدة في خصوص الشبهات الموضوعيّة فيما إذا لم يكن أمارة أو أصل تنزيلي ، إذا قلنا بأنّها أصل غير تنزيلي ، سواء أكانت موافقة للقاعدة أو كانت مخالفة لها.

ص: 41

تذييل :

ربما يقال : بأنّه بعد القطع في دم يخرج من النساء بأنّه ليس بحيض - إمّا من جهة عدم فصل أقلّ الطهر بين هذا الدم والحيض السابق عليه ، أو من جهة تجاوزه عن العشرة ، أو من جهة كونه أقلّ من الثلاثة ، أو لأيّ جهة من الجهات المذكورة في محلّها ممّا لا يمكن أن يكون حيضا حسب القواعد المقرّرة في الشرع - إذا دار أمره بين أن يكون استحاضة أو دم آخر غير الحيض فيحكم بأنه استحاضة.

وكأنّهم بناءهم على أنّ الأصل في الدم الخارج عن فرج المرأة بعد القطع بعدم كونه حيضا أنّه استحاضة ، فهذا أصل ثانوي بعد عدم جريان قاعدة الإمكان وعدم أمارة كونه دم عذرة من تطويقه في القطنة التي تستدخلها في مخرج الدم.

وما قالوا في مقام الاستدلال على هذا الأصل الثانوي والقاعدة الطولية لتلك القاعدة أمور :

منها : أنّ الاستحاضة دم طبيعي بالنسبة إلى سائر الدماء بعد عدم كونه حيضا يقينا لخروجه عن العرق العاذل وتكوّنه في أغلب الأمزجة.

وفيه : أنّ كلّ حادث لا بدّ وأن يكون حدوثه من أجل وجود علّة ، وخروجه من العرق العاذل إن كان صحيحا لا بدّ وأن يكون لحدوث علّة قد توجد فتنعدم ، وإلاّ فلا بدّ وأن يدوم الخروج وتكون المرأة مستدام الدم ، فإذا شككنا في وجود تلك العلّة كيف يمكن الحكم بأنّ معلولها موجود؟

إلاّ أن يأتي دليل تعبّدي على أن المحتمل استحاضة ، وهذا أوّل الكلام.

وأمّا تكونه في أغلب الأمزجة لا يوجب إلاّ الظنّ بكونه استحاضة من باب الحمل على الأكثر ، ولا دليل على حجيّة مثل هذا الظنّ.

ص: 42

منها : أنّ دم الاستحاضة أغلب من سائر الدماء.

وفيه : أنّه على فرض تسليم الصغرى يأتي فيه ما ذكرنا في جواب الوجه الأوّل ، من عدم الدليل على حجيّة مثل هذا الظنّ.

ومنها : أصالة عدم حدوث علة أخرى غير علّة الاستحاضة من الدماء الآخر.

وفيه : أوّلا معارضتها بأصالة عدم حدوث علّة الاستحاضة. ولا يمكن أن يقال في مقام دفع المعارضة بأنّ علّة الاستحاضة دائما موجودة فلا مجرى لأصالة عدمها ، وذلك من جهة أنّه لو كان الأمر كذلك لكان دم الاستحاضة دائميّا ، لعدم إمكان تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

وإن قيل : بأنّ ما هو موجود دائما من قبيل المقتضى لا العلّة التامّة ، ولذلك قد يتخلّف ولا يجري دم الاستحاضة لعدم وجود سائر أجزاء العلّة التامّة من الشرائط وإعدام الموانع.

فنقول : تعود المعارضة وتجري أصالة العدم بالنسبة إلى تلك الشرائط وإعدام الموانع. هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات كون الدم بأنّه دم استحاضة باستصحاب عدم حدوث علّة سائر الدماء عجيب كما هو واضح ، إلاّ على القول بصحّة الأصول المثبتة.

ثمَّ إنّه لا يخفى على فرض صحّة هذه القاعدة وأن يكون لها أصل فعند الشكّ يرتّب آثار الاستحاضة ، إمّا الكثرة أو القليلة أو المتوسّطة في موارد كثيرة من موارد الاشتباه ، كلّ واحدة من هذه الأقسام الثلاثة بالعلامات المعيّنة لها.

ص: 43

ص: 44

3 - قاعدة الإسلام يجبّ ما قبله

ص: 45

ص: 46

قاعدة الإسلام يجبّ ما قبله (1)

والكلام فيها تارة : في سندها ، وأخرى : في دلالتها وموارد جريانها.

أما الأوّل : فالأصل فيه الخبر المشهور المعروف المروي عند العامّة والخاصّة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وهو قوله : « الإسلام يجبّ ما قبله » (2).

وفي مجمع البحرين بزيادة قوله صلی اللّه علیه و آله : « والتوبة تجبّ ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب » (3) وفي المحكى عن أبي الفرج الأصبهاني ، وأيضا في المحكي عن سيرة ابن هشام - في حكاية إسلام مغيرة بن شعبة - أنّه وفد مع جماعة من بني مالك على مقوقس ملك مصر ، فلمّا رجعوا قتلهم المغيرة في الطريق وفرّ إلى المدينة مسلما ، وعرض خمس أموالهم على النبي صلی اللّه علیه و آله فلم يقبله ، وقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لا خير في غدر ». فخاف المغيرة على نفسه ، وصار يحتمل ما قرب وما بعد فقال صلی اللّه علیه و آله : « الإسلام يجبّ ما قبله » (4).

وأيضا ذكر ابن سعد في كتابه « الطبقات الكبير » قصة إسلام مغيرة بن شعبة وغدره برفقائه من بني مالك ، وقتلهم وسلبهم أموالهم وفراره إلى المدينة وعرضه

ص: 47


1- (*) « الحق المبين » ص 93 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 67 ؛ « خزائن الاحكام » العدد 34 ؛ « مجموعه رسائل » ص 48 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 123 ؛ « القواعد » ص 37 ؛ « القواعد فقهي » ص 225 ؛ « القواعد الفقهية » ص 215 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1. ص 257 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 171 ؛ « قواعد الفقهية » العدد 40 ، ص 114.
2- 2 « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 54 ، ح 145 ؛ وص 224 ، ح 38 ؛ « مستند احمد بن حنبل » ج 4 ، ص 199 و 204 و 205 ؛ « جامع الصغير للسيوطي » ج 1 ، ص 123.
3- « مجمع البحرين » ج 1 ، ص 336 « جبّ ».
4- « الأغاني » ج 16 ، ص 82 ، « السيرة النبويّة » ، ج 3 ، ص 328.

أموالهم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وآبائه عن أخذه ، وقال : « لا خير في غدر » ولكن قبل إسلامه ، وقال : « الإسلام يجبّ ما قبله ». (1)

وروى في البحار في ذكر قضايا أمير المؤمنين علیه السلام أنّه جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : إنّي طلّقت امرأتي في الشرك تطليقة ، وفي الإسلام تطليقتين فما ترى؟ فسكت عمر ، فقال له الرجل : ما تقول؟ قال : كما أنت حتّى يجي ء علي بن أبي طالب ، فجاء عليّ علیه السلام فقال : قصّ عليه قصّتك ، فقصّ عليه القصة فقال علي علیه السلام : « هدم الإسلام ما كان قبله هي عندك على واحدة » (2).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي قدس سره في تفسير قوله تعالى ( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) إلى آخره (3) ، فإنّها نزلت في عبد اللّه بن أبي أميّة أخي أمّ سلمة - رحمة اللّه عليها - وذلك أنّه قال هذا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكّة قبل الهجرة ، فلمّا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى فتح مكّة استقبله عبد اللّه بن أبي أميّة ، فسلم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يرد علیه السلام ، فأعرض عنه ولم يجبه بشي ء ، وكانت أخته أمّ سلمة مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدخل إليها وقال : يا أختي إنّ رسول اللّه قبل إسلام الناس كلّهم وردّ عليّ إسلامي وليس يقبلني كما قبل غيري. فلمّا دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أمّ سلمة قالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه سعد بك جميع الناس إلاّ أخي من بين قريش والعرب رددت إسلامه وقبلت الناس كلّهم؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : يا أمّ سلمة ، إنّ أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذّبني أحد من الناس ، هو الذي قال لي ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ ) - إلى آخر الآيات - قالت أمّ سلمة : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألم تقل : إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « نعم » فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إسلامه (4).

ص: 48


1- « الطبقات الكبرى » ج 4 ، ص 285 - 286.
2- « بحار الأنوار » ج 40 ، ص 230 ، باب قضاياه صلوات اللّه عليه. ، ذيل ح 9.
3- الاسراء (17) : 90.
4- « تفسير القمّي » ج 2 ، ص 26.

وفي السيرة الحلبيّة في المجلّد الثالث صفحة مائة وخمسة : أنّ عثمان لمّا شفّع في أخيه ابن أبي سرح قال صلی اللّه علیه و آله : « أما بايعته وآمنته؟ » قال : بلى ولكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح ويستحي ، قال صلی اللّه علیه و آله : « الإسلام يجبّ ما قبله » (1).

وأيضا فيها في صفحة مائة وستّة ، في المجلّد المذكور ، في إسلام هبار : قال صلی اللّه علیه و آله « الإسلام يجبّ ما قبله » (2).

وعن الطبراني : « الإسلام يجبّ ما قبله والهجرة تجبّ ما قبلها » (3).

وممّا ذكرنا ، ومن شهرة هذا الحديث بين الفريقين ، يثق الإنسان بصدوره عن النّبي صلی اللّه علیه و آله الذي هو موضوع الحجيّة ، فلا إشكال فيه من ناحية السند.

وأمّا الكلام فيه من ناحية الدلالة ، فما هو الظاهر المتفاهم العرفي من هذه الجملة هو أنّ ما صدر عن الكافر في حال كفره من قول أو فعل بل ما كان له من اعتقاد يترتّب على ذلك الفعل أو القول أو الاعتقاد ضرر أو عقوبة عليه ، بحيث يكون ذلك الضرر من آثار ما ذكر في الإسلام لا في حال الكفر ، فالإسلام يقطع بقاء ذلك الفعل أو القول أو الاعتقاد ، ويجعله كالعدم وبلا أثر.

فباب الضمانات والديون في حال الكفر خارج عن مفاد الحديث : لأنّ تلك الأمور ثابتة في حال الكفر ، وليست من الآثار التي تثبت في حال الإسلام لتلك الأمور دون حال الكفر.

وبعبارة أخرى : هذا الكلام صدر عنه صلی اللّه علیه و آله في مقام الامتنان على من يسلم ، وأيضا لترغيبه في قبول الإسلام ، وأن لا يخاف من الأقوال أو الأفعال التي صدرت عنه في حال كفره ، كما يشهد بذلك وروده خوف هبار بن أسود ، ومغيرة بن شعبة ممّا

ص: 49


1- « السيرة الحلبيّة » ج 3 ، ص 105.
2- المصدر ، ص 106.
3- نقله عن الطبراني في « جامع الصغير » ص 36.

فعلاه في حال الكفر. وأيضا من قضية شفاعة عثمان لأخيه من الرضاعة ابن أبي السرح. وأيضا من استدلال أمّ سلمة - رضي اللّه عنها - لأخيها عبد اللّه بن أبي أميّة بقولها لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أمّا قلت إنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

وحاصل الكلام : أنّ الأفعال أو الأقوال التي تصدر من الكافر في حال كفره إن كانت يترتّب على ذلك الفعل أو القول الصادر عنه في حال كفره أثر في الإسلام يكون ضررا عليه ، بمعنى أنّه ذلك الفعل أو ذلك القول لو كان يصدر عنه في حال الإسلام لكان يعاقب ، كما أنه لو زنى أو شرب الخمر أو قتل مسلما وكذا في غير ما ذكر من الأفعال المحرمة شرعا التي على من يرتكبها عقاب من تعزير أو حدّ أو قصاص أو دية فالإسلام يقطع ما قبله ويجعله كالعدم ، بمعنى رفع آثاره.

فلو سرق في حال الكفر لا يقطع يده ، أو قتل مسلما لا يقاد ، أو زنى محصنا لا يرجم ، أو سبّ النبي صلی اللّه علیه و آله أو اللّه جلّ جلاله لا يقتل ؛ كلّ ذلك لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

وحيث أنّ الحديث في مقام الامتنان لا بدّ وأن يكون الرفع وجعل الفعل والقول كالعدم بالنسبة إلى الآثار التي في رفعها امتنان.

وما ذكرنا جار بالنسبة إلى التروك أيضا ، أي مفاد الحديث أنّ ترك الفعل الذي له أثر في الإسلام لا في حال الكفر ، بمعنى أنّه لو كان على تركه أمرا في حال الكفر يترتّب أثر عليه في الإسلام ، أي لو كان هذا الترك منه في حال الإسلام كان عليه كذا فالإسلام أيضا يرفع أثر ذلك الترك إذا كان في رفعه امتنان. مثلا بناء على أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع - كما هو الصحيح - فتركهم للعبادات كالصلاة والصوم والزكاة لو كان في حال الإسلام كان يجب عليه قضاء ما فات ، وبالنسبة إلى الصوم كان يجب عليه الكفّارات أيضا ؛ لأنّه تعمد الإفطار في نهار شهر رمضان من غير عذر ، ولكن حيث صدرت هذه التروك عنه في حال الكفر فهذه الآثار التي في رفعها امتنان

ص: 50

مرفوعة.

ومن أوضح الواضحات أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكلّف أحدا من أصحابه الذين تركوها بقضاء عبادات التي فاتت عنهم أيّام كفرهم ، وكذلك الزكاة مع أنّ العين الزكويّة كانت موجودة عندهم لم يطلب من أحد منهم من الذين آمنوا بعد تشريع الزكاة زكاة السنين التي كانوا على الكفر بعد تشريع الزكاة.

نعم لو كان حلول الحول بعد إسلامه فلا يسقط ويجب عليه ، لأنّ توجيه الخطاب بإيتاء الزكاة إليه في حال الإسلام ، فلا وجه لسقوطها. وأما لو كان زمان التعلّق قبل أن يسلم فالإسلام يجعل هذا التعلّق وثبوت هذا الحقّ للفقراء كالعدم.

وبعبارة أخرى : سقوط هذا الحقّ بأحد أمرين : إمّا بالأداء ، أو بالإسلام.

وأمّا الإشكال على ما ذكرنا في معنى الحديث بأنّه يلزم منه تخصيص الأكثر ، إذ لا ريب في بقاء عقوده وإيقاعاته.

ففيه : أنّ هذه الأمور خارجة عن مجرى الحديث ومصبّه بالتخصّص ، لا بالتخصيص حتّى يلزم تخصيص الأكثر ؛ وذلك من جهة ما ذكرنا أنّ هذا الحديث حيث أنّه في مقام الامتنان وترغيب الناس إلى الإسلام فالظاهر من مفاده هو أنّ كلّ فعل أو قول أو اعتقاد يكون من آثاره في الإسلام ضرر عليه فالإسلام يجعله كالعدم ، وكذلك لو ترك أمرا وكان من آثار تركه ذلك الأمر في الإسلام لزوم تداركه بقضائه أو أدائه فالإسلام يرفع لزوم تداركه قضاء أو أداء ، كقضاء العبادات الفائتة عنه ، وأيضا كأداء زكاة ماله مع بقاء عينه ولكن بشرط توجّه الخطاب إليه حال الكفر ، لا حال الإسلام. بمعنى كون زمان تعلّق الزكاة وحصول شرائطها بتمامها حال الكفر ، بحيث لو كان مكلّفا الآن في حال الإسلام يكون منشأ تكليفه ذلك الخطاب المتوجّه إليه حال كفره.

وأنت خبير بأنّ مثل هذا المعنى للحديث إمّا لم يرد عليه تخصيص أصلا - فضلا

ص: 51

عن أن يكون تخصيص الأكثر - وإمّا أن يكون في غاية القلّة.

وأمّا مسألة عقوده وإيقاعاته وديونه وجميع ضماناته في حال كفره لو كان فيها ضرر أو حرج أو ضيق أو مؤاخذة فليس من ناحية الإسلام ، بل تلك الآثار كانت ثابتة عليه مع قطع النظر عن الإسلام ، فهي خارجة عن مفاد الحديث بالتخصّص.

وعلى هذا يدلّ أيضا ما ذكره في البحار في قضايا أمير المؤمنين علیه السلام في رجل طلّق امرأته في الكفر مرّة واحدة ، وفي الإسلام تطليقتين ، فقال علیه السلام في جوابه : « إنّك على واحدة هدم الإسلام ما قبله » (1) وذلك من جهة أنّ حرمة المطلّقة ثلاثا حكم ثابت في الإسلام ، فإن أوجد السبب في الإسلام يترتّب هذا الحكم عليه ، وأمّا إن أوجد تمام السبب أو بعضه في حال الشرك فلا يترتّب عليه ، بل لا بدّ من إيجاد تمام السبب في حال الإسلام ، فإن أوجد بعض السبب في حال الشرك وبعضه في حال الإسلام فلا بدّ من إتمام ذلك البعض في حال الإسلام كي يترتّب عليه الأثر ؛ ولذا قال علیه السلام : « هي عندك على واحدة » لأنّ التطليقة الواقعة في حال الشرك لا أثر لها بالنسبة إلى هذا الحكم الثابت في الإسلام.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ مفاد الحديث بحسب المتفاهم العرفي مؤيّدا بحكم أمير المؤمنين علیه السلام في المورد المذكور - أي في تطليقة حال الشرك وتطليقتين في حال الإسلام - بعدم ترتّب الأثر على الطلاق الواقع في حال الكفر بالنسبة إلى هذا الأثر الذي له في الإسلام أنّ الإسلام يجبّ ما قبله ممّا لو كان مسلما لكان هذا الأثر يترتّب على فعله أو قوله أو عقيدته ، فينتج أنّ الكافر لو أسلم وكانت ذمّته مشغولة بشي ء - من طرف ما ارتكبه في حال الكفر ، وكان اشتغال ذمّته من ناحية الإسلام لا من ناحية كفره - فإسلامه موجب لسقوط ما في ذمّته.

وبناء على هذا جميع العبادات التي فاتت منه في حال كفره وشركه من الصلاة

ص: 52


1- « بحار الأنوار » ج 40 ، ص 230 ، باب قضاياه صلوات اللّه عليه. ، ذيل ح 9.

والزكاة والخمس والصيام حتّى الحجّ فيما إذا كان مستطيعا حال كفره واستقرّ عليه ولم يؤدّه فصار غير مستطيع وبعد ذلك أسلم فإذا أسلم يسقط جميع ذلك عنه بسبب جبّ الإسلام ما قبله.

فظهر أنّه بناء على ما ذكرنا في معنى الحديث أنّ ما هو من حقوق اللّه تعالى مطلقا - سواء أكان بدنيّا فقط ، أو ماليا فقط ، أو كان مركّبا منهما ، فالأوّل كالصلاة ، والثاني كالزكاة ، والثالث كالحجّ وليس للمخلوقين مدخل وحقّ فيه إذا لم يكن معتقدا به في حال الكفر بل اعتقاده به يكون من ناحية إسلامه وبعده - فكلّها تسقط بالإسلام ، ولا يكون عليه شي ء ، ولا قضاء فيما فيه القضاء لو كان الفوت في حال الإسلام لجبّ الإسلام ما قبله.

هذا فيما إذا لم يكن هذا الحكم من معتقداتهم في دينهم قبل أن يسلموا.

وأمّا لو كان كذلك ، أي كانوا معتقدين به حال كفرهم لكونه من دينهم أيضا ، فيكون ذلك الحكم مشتركا بين دينهم والإسلام ، وذلك قد يكون في العبادات ، وقد يكون في غيرها. أمّا في العبادات كما لو كان في حال كفره نذر أن يصوم يوما ، أو يتصدّق بكذا قربة إلى اللّه ، فخالف ولم يفعل ، وفرضنا أنّ الوفاء بالنذر واجب في دينه أيضا ، وكذا يجب القضاء في دينهم لو لم يأت بالنذر المعيّن الموقّت ، فهل الإسلام يجبّ وجوب القضاء أو الأداء عليه أم لا؟

فبناء على ما استظهرنا وذكرنا في معنى الحديث من أنّ المراد منه أنّ ما كانت ذمّته مشغولة حال كفره بحكم الإسلام لا بحكم دينه فالإسلام يجبّ ذلك الاشتغال ، وأمّا لو كان اشتغال ذمّته من ناحية دينه - وإن كان الإسلام أيضا في هذا الحكم موافقا مع دينه - فلا يشمله الحديث ، فلا يجبّ الإسلام مثل ذلك الحكم.

اللّهمّ إلاّ أن يقال :

إنّ لزوم إتيانه الآن بعد أن أسلم قضاء أو أداء مستند إلى ثبوت وجوب الأداء

ص: 53

أو القضاء عليه من ناحية الإسلام ، وإلاّ فهو بعد أن أسلم يرى ذلك الحكم باطلا لو لا أنّ الإسلام يقرّه ويمضيه ، فيكون الآن اشتغال ذمّته به حتّى في ذلك الوقت بحكم الإسلام في نظره واعتقاده ، لا من جهة دينه السابق ؛ لأنّه الآن يرى أنّ ذلك الدين كان باطلا من أصل أو كان منسوخا.

وأمّا في غير العبادات - كما لو كان دية قتل الخطأ ، أو الجرح والجناية على أعضاء الغير ولو كان عن عمد ، فيما إذا رضي المجني عليه بالدية ثابتا في دينه السابق قبل أن يسلم - فشمول الحديث لمثل هذا المورد مشكل جدّا.

أمّا أوّلا : لما ذكرنا في استظهار المراد من الحديث أنّه عبارة عن أنّ ما صدر عنه من قول أو فعل أو كان له عقيدة كلّ ذلك إن كان قبل أن يسلم وكان من أحكام الإسلام - ترتّب ضرر أو مشقة أو عقوبة على ذلك القول أو على ذلك الفعل أو على تلك العقيدة - فالإسلام يرفع ذلك الأثر والضرر.

والمفروض أنّ في المفروض والمورد ليس من هذا القبيل ، بل كان هذا الأثر والضرر يترتّب على قوله أو فعله حتّى في دينه ، وما احتملناه ووجّهنا به الجبّ في نظيره في العبادات لا يخلو من نظر وإشكال ، كما هو غير خفيّ على الناقد البصير.

وثانيا : قلنا إنّ هذا الحديث في مقام الامتنان ، والجبّ في المفروض وإن كان امتنانا على الفاعل لكنّه خلاف الامتنان في حقّ المجني عليه.

ولكن ورد أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ كلّ دم كان في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين » (1) مع أنّهم كانوا معتقدين بالقصاص والدية في الجاهليّة. غاية الأمر كان دية الأشخاص مختلفة عندهم ، حتّى أنّ دية بعض الطبقات كان ألف بعير ؛ فمع أنّهم كانوا معتقدين بها أسقطها صلی اللّه علیه و آله بعد الإسلام وقال صلی اللّه علیه و آله : « تحت قدمي هاتين ».

وأيضا يظهر من قوله صلی اللّه علیه و آله لمغيرة بن شعبة - بعد أن غدر بأصحابه وقتلهم وأخذ

ص: 54


1- « الكافي » ج 8 ، ص 246 ، ح 342 ؛ « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 1023 ، كتاب المناسك ، باب 84 ، ح 3074.

أموالهم : « إنّ الإسلام يجبّ ما قبله » فخاف فاطمأنّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الكلام - أنّ الإسلام يجبّ ما قبله من آثار فعله الذي صدر عنه حال الكفر ، ولو كانوا معتقدين بترتّب ذلك الأثر حال الكفر (1).

وهذا المعنى أيضا يناسب ما قيل في وجه صدور هذا الحديث عنه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن مع ذلك كلّه لا يمكن الالتزام بهذا المعنى في جميع التزاماتهم ، من عقودهم وإيقاعاتهم وسائر معاملاتهم ولو كان موافقا للامتنان.

فالأولى أن يقال في أمثال هذه الموارد التي ذكرناها أنّ عدم القصاص والدية لدليل خاصّ ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله « كلّ دم كان في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين ».

والحاصل : أنّ مقتضى ما ذكرنا واستظهرناه في معنى الحديث أنّه لو وطأ امرأة ذات بعل في حال الكفر ، أو وطأها في عدتها في تلك الحال أنّه ترفع حرمة نكاحها للواطئ بإسلامه. وكذا لو زنى بامرأة فحرمة بنتها وأمّها ترتفع بإسلامه لو كان وقوع الزنا في حال الكفر. وكذا لو أوقب غلاما في حال الكفر ترتفع حرمة نكاح أمّه وأخته وبنته بإسلامه ؛ كلّ ذلك لأنّ « الإسلام يجبّ ما قبله ». وكذلك كلّ ما هو موجب لحدّ أو تعزير إذا صدر عنه في حال الكفر فالإسلام يجبّ ذلك الفعل أو القول الذي كان موجبا للحدّ لو لم يسلم ، كما إذا زنى أو لاط أو سرق أو غير ذلك من الجرائم التي توجب الحدّ أو التعزير.

وأمّا مسألة الأحداث الموجبة للحدث الأكبر كالجماع ، أو الحيض ، أو النفاس فحيث أنّ الشارع جعل الطهارة شرطا لأشياء كالصلاة والطواف ومس المصحف مثلا ، فتلك الأحداث التي صارت سببا لصيرورته محدثا حيث أنّ آثارها لا ترتفع إلا بالغسل أو الوضوء أو التيمم كلّ في محلّه ومع شرائطه ، فبعد إسلامه - إذا أراد إيجاد ما هو مشروط بالطهارة - لا بدّ وأن يتطهّر من ذلك الحدث بأحد الطهارات الثلاث ، أي

ص: 55


1- « الطبقات الكبرى » ج 4 ، ص 285 - 286.

الغسل والوضوء والتيمم كلّ في محلّه ومع شرائطه ؛ وذلك لعدم إمكان امتثال ما هو مشروط بالطهارة بدونها ، ولا وجه لإجراء قاعدة « الإسلام يجبّ ما قبله » في هذا المقام أصلا ، ولا أثر لها لإثبات الشرط ووجوده ، كما أنّ الرضاع الحاصل في حال الكفر يوجب حصول أحد العناوين المحرّمة كالأمومة والبنتيّة والأختيّة وغير ذلك من العناوين المذكورة في الآية الشريفة ، وإذا حصل أحد هذه العناوين فأسلم فإسلامه لا يمكن أن يرفع الحرمة عن أخته الرضاعي أو أمّه كذلك ، وكذلك في سائر العناوين المحرّمة المذكورة في الآية.

كما أنّه لم يتوهّم أحد أنّ هذه العناوين إذا حصلت في حال الكفر عن النسب فأسلم لا يوجب رفع التحريم ، فكذلك الأمر فيما إذا حصل من الرضاع.

والسرّ في ذلك أنّ هذه العناوين إضافات تكوينيّة قد تحصل بواسطة الولادة ، وقد تحصل بواسطة الرضاع ، وقد جعلها الشارع موضوعا لحرمة نكاحهنّ على من اتّصف بأنّهنّ أمّا أمّه أو أخته أو بنته أو عمّته أو خالته إلى غير ذلك ، وإذا وجد الموضوع وأحرز وجوده وجدانا أو تعبّدا فيترتّب عليه الحكم قهرا.

نعم لو كان معنى الحديث أنّ الفعل الصادر في حال الكفر بمنزلة العدم حتّى بالنسبة إلى آثاره التكوينيّة ، فحينئذ كان من الممكن أن يقال إنّ الرضاع الواقع في حال الكفر أو الولادة أو أسبابها الواقعة في تلك الحال لا أثر لها ، كما أنّه قيل في الولادة من الزنا كذلك.

وخلاصة الكلام في المقام أنّه بعد ما ثبت صدور هذا الحديث بواسطة الوثوق الحاصل من نقل هؤلاء يجب الأخذ بما هو مفاده ، أي ما هو الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي ، إلاّ أن يأتي دليل من إجماع أو رواية معمول بها يكون مخصّصا له في مورد ، أو يكون حاكما عليه في ذلك المورد.

وقد عرفت ما هو الظاهر من الحديث بحسب المتفاهم العرفي وذكرناه ، فلا نعيد.

ص: 56

4 - قاعدة القرعة

اشارة

ص: 57

ص: 58

قاعدة القرعة (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة هي قاعدة « القرعة » ، فلا بدّ وأن نبحث فيها من جهات حتّى يتبيّن الحال.

الجهة الأولى : في بيان أدلة القرعة من الكتاب والإجماع والسنة

أمّا الكتاب :

فمنها : قوله تعالى في قضيّة النبي يونس علیه السلام ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (2).

ومنها : قوله تعالى في قصّة مخاصمتهم في تكفّل مريم واقتراعهم لذلك ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (3). والقصّتان وشرحهما مذكورتان في التفاسير فراجعها.

فالأوّل المراد من المساهمة هو الاقتراع ، أعني أنّ النبي يونس علیه السلام اقترع معهم فكان من المغلوبين.

ص: 59


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 22 و 184 ؛ « الحق المبين » ص 102 ؛ « عوائد الأيام » ص 224 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 11 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 5 ؛ « مجموعه رسائل » ش 20 ، ص 481 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 194 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 106 ؛ « القواعد » ص 195 ؛ « قواعد فقهي » ص 97 ؛ « قواعد فقهية » ص 187 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 421 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 324 ؛ « قواعد الفقيه » العدد 39 ، ص 110.
2- الصافات (37) : 141.
3- آل عمران (3) : 44.

والثاني في بيان كيفية اقتراعهم - في أنّه من هو أحقّ بأن يتكفّل مريم ، وذلك أنّ زكريّا علیه السلام قال لهم : أنا أحقّ بها ، عندي خالتها فقالوا : لا حتّى نقرع عليها ، فانطلقوا إلى نهر الأردن فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي على أنّ من ارتفع قلمه فوق الماء فهو أحقّ بها. وقيل : إنّ أقلامهم كانت من الحديد ، فألقوا أقلامهم ثلاث مرّات ، وفي كلّ مرة يرتفع قلم زكريّا علیه السلام وترسب أقلامهم.

وأمّا الأخبار الواردة في هذه القاعدة عن الأئمّة الأطهار علیهم السلام ، فادّعى تواترها ، ولا يبعد أن يكون التواتر المعنوي ثابتة فيها ؛ لكثرة ما ورد فيها من الأخبار العامّة التي لا اختصاص لها بمورد خاصّ ، بل مطلق تشمل جميع الموارد المجهولة أو المشتبهة أو المشكلة على اختلاف ألسنتها ، من الأخبار الخاصّة الواردة في موارد خاصّة.

ونذكر جملة من الطائفتين :

فمن الطائفة الأولى : رواية محمد بن حكيم المروي في الفقيه والتهذيب ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن القرعة في أي شي ء؟ فقال لي : « كلّ مجهول ففيه القرعة ». قلت له : إنّ القرعة تخطئ وتصيب ، قال : « كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ » (1).

ومنها : أيضا المرسل في الفقيه : « ما تقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج بهم المحقّق » ، وقال علیه السلام : « أيّ قضيّة أعدل من القرعة ، إذا فوّض الأمر إلى اللّه أليس اللّه تعالى يقول ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) » (2).

منها : ما في دعائم الإسلام ، عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه علیهم السلام أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل.

ص: 60


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 92 ، باب الحكم بالقرعة ، ح 3389 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 240 ، ح 593 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 24 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1. ص 189 ، أبواب كيفية الحكم الدعاوي ، باب 13 ، ح 11.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 92 ، باب الحكم بالقرعة ، ح 3391 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 190 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعاوي ، باب 13 ، ح 13.

وأيضا في دعائم الإسلام : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « وأيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة ، أليس هو التفويض إلى اللّه جلّ ذكره ». ثمَّ قال في دعائم الإسلام : ذكر أبو عبد اللّه قصّة يونس النبي علیه السلام في قوله جلّ ذكره ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) وقصّة زكريا علیه السلام وقوله جلّ وعلا ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ) وذكر قصّة عبد المطلب لمّا نذر أن يذبح من يولد له ، فولد له عبد اللّه أبو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فألقى اللّه عليه محبّته ، وألقى السهام على إبل ينحرها يتقرّب بها مكانه ، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتّى بلغت مائة ، فوقعت السهام على الإبل فأعاد السهام مرارا وهي تقع على الإبل ، فقال : الآن علمت أنّ ربّي قد رضي إلى آخره (1).

ومنها : ما في الوسائل ، في ذيل خبر محمّد بن الحسن الطوسي ، بإسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه بعد ما حكم بالقرعة في الفرع المذكور في تلك الرواية ، قال علیه السلام : « القرعة سنة » (2).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عنه ، أي محمّد بن الحسن الطوسي بإسناده عن أبي جعفر علیه السلام قال : « بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليا علیه السلام إلى اليمن فقال له حين قدم : حدّثني بأعجب ما ورد عليك ، فقال : يا رسول اللّه أتاني قوم قد تبايعوا جارية ، فوطئها جميعهم في طهر واحد فولدت غلاما واحتجّوا كلّهم يدّعيه ، فأسهمت بينهم فجعلته للذي خرج سهمه وضمنته نصيبهم. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ليس من قوم تنازعوا ، ثمَّ فوضّوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم الحقّ » (3).

ورواه الصدوق بإسناده عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر علیه السلام

ص: 61


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 522 ، ح 184.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 239 ، باب البيّنتين يتقابلان أو. ح 20 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 187 ، أبواب كيفيّة الحكم واحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 238 ، ح 585 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 16 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 188 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 5.

نحوه ، إلاّ أنّه قال : « تقارعوا » ، أي في مكان « تنازعوا » (1).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عن محاسن البرقي ، عن ابن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن منصور بن حازم قال : سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه علیه السلام عن مسألة ، فقال : « هذه تخرج في القرعة - ثمَّ قال : - فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّ وجلّ ، أليس اللّه يقول ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (2). وعلى هذا النمط ممّا يمكن أن يستخرج منها كبرى كليّة.

وأمّا الطائفة الثانية : أي حكمهم علیهم السلام بالقرعة في موارد خاصّة فكثيرة جدّا ، نذكر جملة منها :

فمنها ما في الوسائل عن محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نجران ، عن أبي المغراء ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد وادعوا الولد أقرع بينهم ، وكان الولد للذي يقرع » (3).

ومنها : أيضا في الوسائل عنه بإسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام : في رجل قال أوّل مملوك أملكه حرّ فورث ثلاثة قال : « يقرع بينهم ، فمن أصابه القرعة أعتق » (4).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عنه أيضا عن حمّاد ، عن المختار قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه علیه السلام فقال له أبو عبد اللّه : « ما تقول في بيت سقط على قوم ، فبقي منهم صبيّان ، أحدهما حرّ والآخر مملوك لصاحبه ، فلم يعرف الحرّ من العبد؟ » فقال أبو حنيفة : يعتق نصف هذا أو نصف هذا فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « ليس كذلك ، ولكنّه يقرع

ص: 62


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 94 ، باب الحكم بالقرعة ، ح 3399 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 188 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 6.
2- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 191 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 17 ؛ « المحاسن » ص 603 ، ح 30.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 240 ، ح 595 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 26 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 187 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 239 ، ح 589 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 20 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 187 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 2.

بينهما فمن أصابته القرعة فهو الحرّ ويعتق هذا ويجعل مولى لهذا » (1).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عنه أيضا ، عن حريز ، عمّن أخبره ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام باليمن في قوم انهدمت عليهم دارهم وبقي صبيّان : أحدهما حرّ ، والآخر مملوك ، فأسهم أمير المؤمنين علیه السلام بينهما ، فخرج السهم على أحدهما ، فجعل له المال وأعتق الآخر » (2). إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي جمعها في الوسائل في الباب الثالث عشر من أبواب كيفيّة الحكم بعنوان « باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة وجملة من مواقعها وكيفيّتها » وإذا أردت فراجع ذلك الباب.

وأيضا ذكر في الوسائل في باب تحريم لحم البهيمة التي ينكحها الآدمي ولبنها ، فإن اشتبهت استخرجت بالقرعة : محمّد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى ، عن الرجل علیه السلام أنّه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة قال : « إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبدا حتّى يقع السهم بها ، فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها » (3).

وقد حكى أيضا في الوسائل عن الشيخ بطريق آخر (4) ، وعن تحف العقول ما هو بهذا المضمون أو قريب منه (5).

وفي المستدرك : أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره ، عن عثمان بن عيسى ، عن

ص: 63


1- « الكافي » ج 7 ، ص 138 ، باب ميراث الغرقى وأصحاب الهدم ، ح 7 ؛ « الفقيه » ج 4 ، ص 308 ، باب ميراث الغرقى والذين. ، ح 5660 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 361 ، ح 1290 ، باب ميراث الغرقى ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 592 ، أبواب ميراث الغرقى و. ، باب 4. ح 1 ، مع تفاوت يسير في المتن.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 239 ، ح 587 ، باب البينتين يتقابلان أو. ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 189 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 8.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 43 ، ح 182 ، باب الصيد والذكاة ، ح 182 ؛ « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 358 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 30 ، ح 1.
4- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 359 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 30 ، ح 4.
5- « تحف العقول » ص 359.

بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى موسى علیه السلام أنّ بعض أصحابك ينمّ عليك فاحذره ، فقال : يا ربّ لا أعرفه أخبرني حتّى أعرفه ، فقال : يا موسى عبت عليه النميمة وتكلّفني أن أكون نمّاما ، فقال : يا ربّ وكيف أصنع؟ قال اللّه تعالى : فرّق أصحابك عشرة عشرة ، ثمَّ تقرع بينهم ، فإنّ السهم يقع على العشرة التي هو فيهم ، ثمَّ تفرّقهم وتقرع بينهم ، فإنّ السهم يقع عليه. قال : فلما رأى الرجل أنّ السهام تقرع قام فقال : يا رسول اللّه أنا صاحبك لا واللّه لا أعود » (1).

وقد ذكر في البحار روايتين عن أبي جعفر علیه السلام ، حاصل مضمونهما أنّ عليا علیه السلام إذا لم يجد من الكتاب والسنّة رجم ، أي ساهم ، فقال أبو جعفر علیه السلام : « تلك في المعضلات » (2).

والحاصل : أنّ الروايات في اعتبار القرعة في الموارد الخاصّة كثيرة متفرّقة في أبواب الفقه ، وينبغي أن يعدّ دلالة الآيات والأخبار على اعتبارها من القطعيات.

وأمّا الإجماع : فالظاهر أنّه أحد من الإماميّة الاثنى عشريّة ما ادّعى عدم اعتباره بنحو السلب الكلّي ، فهذا الشهيد قدس سره في كتابه « القواعد » في باب التعادل والتراجيح من مقدّمته في اشتباه القبلة يقول : ذهب السيد رضي الدين بن طاوس هنا إلى الرجوع إلى القرعة ، استضعافا لمستند وجوب الصلاة إلى الأربع ؛ وهو حسن. إلى أن يقول : فيرجع إلى القرعة الواردة لكل أمر مشتبه (3).

وقال ابن إدريس في كتاب القضاء من السرائر : وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء أقرع عليه ، فإن خرج سهم الرجال ألحق بهم وورث ميراثهم ، وإن خرج سهم النساء ألحق بهنّ وورث ميراثهنّ ، وكلّ أمر مشكل مجهول يشتبه

ص: 64


1- « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 375 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 11 ، ح 5.
2- « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 177 ، باب أنّهم علیهم السلام عندهم موادّ العلم و. ح 20 و 21.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 173.

الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة ؛ لما روى عن الأئمّة علیهم السلام ، وتواترت به الآثار ، وأجمعت عليه الشيعة الإماميّة ، انتهى (1).

وحكي عن الشيخ أيضا ما ظاهره الإجماع على اعتبارها ولا أظنّ أنّ أحدا من الإماميّة ينكر اعتبارها في الجملة لكن هذا الاتّفاق ليس هو الإجماع المصطلح الأصولي الذي هو حجّة على الحكم الشرعي ؛ لأنّه من المحتمل القريب بل من المقطوع أنّ مستند المتّفقين هو هذه الأخبار والآيات ، وعلى كل حال لا ينبغي الارتياب في اعتبار القرعة وتشريعه.

الجهة الثانية : في بيان مقدار دلالة هذه الأخبار والآيات

وهل تدلّ على جريانها في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة جميعا سواء كانتا بدويّة أو مقرونة بالعلم الإجمالي ، أو لا تدلّ إلاّ على جريانها في الشبهات الموضوعيّة؟

لا شبهة في عدم جريانها في الشبهات الحكميّة ، وأنّما الكلام في أنّ خروجها من باب التخصيص أو التخصّص ، وإلاّ فالقول بشمولها للشبهات البدويّة الحكميّة ينبغي أن يعد من المضحكات.

أقول : العناوين العامّة الواردة في أدلّة القرعة أربعة : عنوان المجهول ، وعنوان المشتبه ، وعنوان المشكل ، وعنوان الملتبس ، وفي بعض الروايات عنوان المعضلات.

والأوّلان أي عنوان « المجهول » و « المشتبه » ولو كان لهما عموم بحسب المفهوم بحيث أنّ مفهوميهما يشمل الشبهة بصورها الأربع : الحكميّة والموضوعية ، سواء كانتا

ص: 65


1- « تمهيد القواعد » الشهيد الثاني ، ص 238 ، المقصد السادس في التعادل والتراجيح.

بدويّة أو مقرونة بالعلم الإجمالي ، ولكن التتبّع في موارد تلك الروايات والتأمّل في العلّة التي ذكرها الامام علیه السلام - وهو قوله علیه السلام : « فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوضّوا أمرهم إلى اللّه » - يوجب الاطمئنان بأنّ المراد من هذه العناوين الأربعة أو الخمسة هو المجهول والمشتبه الذي في الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي إذا كان من المشكلات والمعضلات التي لا طريق إلى إثباتها ، وكان الاحتياط إما ليس بممكن ، أو يوجب العسر والحرج ، أو نعلم بأنّ الشارع ما أوجب الاحتياط فيها ، ففي مثل هذا المورد شرّع القرعة ، ولا فرق بين أن يكون المشتبه من حقوق اللّه أو من حقوق الناس ، ولا بين أن يكون له واقع معيّن في عالم الثبوت وتكون القرعة واسطة ودليلا في عالم الإثبات ، أو لم يكن له واقع معيّن في عالم الثبوت والقرعة واسطة في الثبوت ، كما في قوله : إحدى زوجاتي طالق ، أو أحد عبيدي حرّ بناء على صحّة مثل هذا الطلاق ومثل هذا العتق.

ففي مثل الغنم الموطوء المشتبه في قطيع الغنم وإن كان مقتضى القاعدة الأوّلية هو الاجتناب عن جميع أفراده إن لم تكن الشبهة غير محصورة ، ولكن حيث نعلم بأنّ الشارع لم يوجب الاحتياط لأنّه تضييع المال الكثير الذي لا يتحمّل عادة ، والمفروض أنّه لا يمكن تعيين الموطوء وما هو موضوع الحكم بحرمة لحمه وسائر ما يتفرّع عليه ووجوب إحراقه ، فصار من المشكلات والمعضلات في الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي التي هي مورد تشريع القرعة ؛ لأنّ تضمين الواطئ ليس إلاّ في خصوص الموطوء ، لا في سائر أفراد القطيع ، فالاحتياط يكون ضررا عظيما على صاحب القطيع ؛ ولذلك لا مورد للاحتياط ، ولذلك صار مشكلا ومعضلا حلّه بالقرعة.

ثمَّ إنّ غالب موارد القرعة أي الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي التي لا يجب ولا يجوز فيها الاحتياط - وإن كان ممّا يمكن وقوع النزاع والمخاصمة فيه ، ولذلك ترى أنّ الفقهاء تعرّضوا لذكر القرعة في كتاب القضاء في مسألة تعارض البيّنات مع

ص: 66

عدم مرجّح لإحديهما ، وحكموا بالقرعة بعد التساوي وفقد المرجّح ، بل ادّعى جماعة منهم الإجماع على الرجوع إلى القرعة حينئذ ، ولكن هذا لا يدلّ على اختصاص القرعة بمورد وقوع المخاصمة والنزاع ، بل لو لم يكن هناك نزاع وخصومة في البين كما إذا قال : إحدى عبيدي حرّ ، أو إحدى زوجاتي طالق ، أو هو صاحب القطيع من الغنم وطأ إحدى شياته فيريد تعيين وظيفة نفسه بالاقتراع - فالأدلّة تشمله مع عدم خصومة في البين.

والحاصل : أنّ الذي يستفاد من مجموع الأدلّة أنّ مورد القرعة هي الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي الذي لا يمكن فيه الاحتياط ، أو لا يجوز وإن كان ممكنا ، أو لا يجب وليس هناك أصل أو أمارة موافق للمعلوم بالإجمال كي يكون موجبا لانحلاله ، وبعبارة أخرى : يكون من المعضلات ، ففي مثل هذا المورد شرّعت القرعة لحلّ المعضلة والمشكلة.

وقد أشار إلى ذلك أبو جعفر الباقر علیه السلام فيما روى المحدّث المجلسي قدس سره عن عبد الرحيم القصير ، عن أبي جعفر علیه السلام في المجلّد الأوّل في كتابه « بحار الأنوار » في باب أنّهم علیهم السلام عندهم مواد العلم ، قال علیه السلام : « كان عليّ علیه السلام إذا ورد أمر ما نزل به كتاب ولا سنة قال : رجم فأصاب ، قال أبو جعفر : وهي المعضلات » (1). وفي رواية أخرى ، أو طريق لنفس تلك الرواية قال علیه السلام : « وتلك المعضلات » (2).

ومعلوم أنّ المراد هو الموضوع المشتبه الذي ما نزل بالخصوص حكم لا في الكتاب ولا في السنّة ، وإلاّ فالموضوعات الكلّية حكمها في الكتاب والسنّة موجودة ، كما أنّه لا يمكن أن يكون المراد الشبهة البدويّة ؛ لأنّها أيضا حكمها في الكتاب والسنّة موجودة وليست بمعضلة ، لأنّ القواعد المجعولة للشكّ مستوعب لجميع الشكوك البدويّة ، فلا بدّ وأن يكون المراد ما ذكرناه من الضابط لمورد القرعة حتّى تكون من

ص: 67


1- « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 176 ، باب إنّهم علیهم السلام عندهم موادّ العلم و. ، ح 19.
2- المصدر ، ح 20.

المعضلات.

وأمّا ما ذكره استاذنا المحقق قدس سره (1) من الوجه لعدم شمول كلّ أمر مجهول للشبهة الحكميّة من أنّ ظاهر كلمة « أمر مجهول » هو أن يكون نفس الشي ء وذاته مجهول لا حكمه ، فيختصّ بالشبهات الموضوعيّة - فعجيب لأنّ لفظ « الأمر » مثل لفظ « الشي ء » مفهوم عامّ يشمل الأحكام والموضوعات ، فالحكم المجهول مثل الموضوع المجهول كلاهما يصدق عليهما أنّه أمر مجهول.

وقد ذكر المحدّث القمّي قدس سره في سفينة البحار موارد استعمال القرعة في الأخبار المذكورة في كتاب البحار كلّها ، من مصاديق الضابط الذي ذكرنا لمورد استعمال القرعة. (2) فلا نطول المقام وأنت راجع إذا أحببت.

الجهة الثالثة : في أنّها أصل أو امارة؟

اشارة

والفرق بين الأمارة والأصل قد تقدّم في هذا الكتاب مرارا ، وقد بيّنا أنّ الأمارة ما تكون فيها جهة كشف ، والشارع يجعلها حجّة لجهة كشفها ، بمعنى أنّه يعتبرها كشفا تامّا في عالم اعتباره التشريعي.

فالاماريّة لشي ء متقوّم بأمرين : الأوّل : أن يكون فيه جهة كشف. والثاني : أن يعتبره كشفا تامّا في عالم اعتباره التشريعي.

وجهة الكاشفيّة في شي ء إمّا تامّ لا نقص فيه - فذلك يسمّى « القطع » ، حيث أنّ كاشفيّته تامّ لا يحتمل الخلاف. وهذا لا يحتاج إلى جعل الحجيّة له ، بل يكون جعل الحجيّة له محال ؛ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، بل أسوء منه ؛ لأنّه من قبيل تحصيل

ص: 68


1- « نهاية الأفكار » ج 4 ، ص 105.
2- « سفينة البحار » ج 7 ، ص 288.

ما هو الحاصل بالوجدان بالتعبّد - وإمّا ناقص ويحتمل الخلاف ، فحينئذ إن جعله الشارع حجّة بتتميم كشفه في عالم الاعتبار بأنّ يعتبر هذا الكشف الناقص تامّا فهذا يصير امارة فإذا كان في شي ء هاتان الجهتان نسمّيه بالأمارة.

وجهة الكشف قد يكون من جهة الملازمة بين الكاشف والمنكشف - بأن يكون أحدهما علّة والآخر معلول ، أو يكونان معلولي علّة ثالثة. وهذا القسم من الكشف يكون كشفا تامّا لا يحتمل الخلاف ، وإلاّ يلزم تخلّف العلّة عن المعلول أو المعلول عن العلّة - وقد يكون من جهة أخرى ليست موجبة لدوام المطابقة ولكنّها موجبة لكون ذلك الشي ء غالب المطابقة. وهذا القسم يكون كشفا ناقصا يحتمل الخلاف ويسمّى بالظنّ ، كما أنّ القسم الأوّل يسمّى بالقطع.

ولا شكّ في أنّه بعد ملاحظة قوله صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : « ليس من قوم تنازعوا ثمَّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم الحق » (1) وبعد ملاحظة قول أبي الحسن الكاظم علیه السلام في ذيل رواية محمّد بن حكيم : « كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ » (2) بعد قول الراوي أي محمّد بن حكيم - : « إنّ القرعة تخطي وتصيب » يطمئن الإنسان بأنّها غالب المطابقة ، إن لم نقل بأنّ هذا الكلام وأمثاله ممّا يوجب القطع بدوام المطابقة.

وذلك كما في الاستخارة أقوالهم علیهم السلام « ما خاب من استخار » يوجب الاطمئنان بإصابتها للواقع ، ولذلك نقل لي عن بعض الأعاظم ( قده ) أنّ الاستخارة من أقوى الأمارات وأقوى الحج على إثبات الصانع ؛ لأنّه لو لم يكن صانع كان أيّ ارتباط بين عدد الزوج أو الفرد ، وبين ما فيه المصلحة والمفسدة؟ ولكن اللّه تعالى شأنه هو الذي يجعل ما فيه المصلحة أو المفسدة زوجا أو فردا بعد تفويض الأمر إليه تعالى ، وكذلك الأمر في القرعة.

ص: 69


1- تقدّم تخريجه في ص 61 ، رقم (3).
2- تقدّم تخريجه في ص 60 ، رقم (1).

فالإنصاف أنّه بعد ملاحظة هذه الروايات إنكار أنّ القرعة لا يوجب الظنّ بإصابة الواقع ليس في محلّه ، كما أنّ الأمر في الاستخارة أيضا كذلك ، بل هي أيضا في الحقيقة نوع من الاقتراع ، خصوصا في استخارة ذات الرقاع التي هي من أعظم الاستخارات.

وأمّا كون حجيّتها من باب تتميم الكشف فيكفي فيه قول أبي الحسن موسى علیه السلام : « كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ » في مقام ردع الراوي حينما يقول « إنّ القرعة تخطي وتصيب ».

وهم ودفع

أمّا الأوّل : فهو أنّه ربما يتوهّم منافاة قوله تعالى ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) (1) مع مشروعيّة الاستخارة ؛ وذلك من جهة نصوصيّة الآية في أنّ الاستقسام بالأزلام فسق ، مع أنّه عبارة عن الاستخارة التي كانت متعارفة عندهم في الجاهليّة. فقد حكى الطبري في تفسيره (2) ، والزمخشري في الكشاف (3) ، وجمع آخر في تفسير هذه الآية أنّ العرب في الجاهلية كانوا يستقسمون بالأزلام ، أي يطلبون الخير وقسمة الأرزاق بالقداح ، أي السهام ؛ لأنّ أزلام جمع الزلم وهو السهم لا ريش عليه ، فكانوا يتفأّلون بها في أمورهم ، ويطلبون ما هو الخير من فعل أو ترك بتلك السهام والأزلام في جميع أمورهم التي يريدون أن يبتدءوا بها من أسفارهم ، ومساكنهم ومراكبهم ، ومتاجرهم ، ومناكحهم إلى غير ذلك من مهمّاتهم ؛ وذلك بمراجعتهم إلى تلك السهام المعيّنة التي كانت عند شخص كان بمنزلة السادن لتلك السهام المحترمة عندهم ، وكانت تلك السهام مكتوبة على بعضها : « أمرني ربّي » وعلى بعضها الآخر : « نهاني ربّي » وبعضها

ص: 70


1- المائدة (5) : 3.
2- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 6 ، ص 49.
3- « الكشّاف » ج 1 ، ص 604.

غفل ، لم يكتب عليه شي ء.

فإذا أرادوا سفرا أو أمرا آخر يهتمّون به ، ضربوا على تلك السهام فإن خرج السهم الذي مكتوب عليه « أمرني ربي » يمضي في حاجته ويقدم على ذلك الأمر ، وإن خرج السهم الذي كتب عليه « نهاني ربّي » لم يقدم على ذلك الأمر ، وإن خرج السهم لم يكتب عليه شي ء وهو غفل أعادوا العمل حتى يخرج أحد السهمين الّذين كتب على أحدهما الأمر ، وعلى الآخر النهي ، فيعمل على طبقه.

فالمتوهّم يقول : إنّ هذا العمل عين الاستخارة التي عند الإماميّة الاثنى عشريّة - زاد اللّه في عزّهم وشرفهم - فتكون المشي على طبق الاستخارة ، ونفس هذا العمل - أي الاستخارة - حراما وفسقا ؛ لقوله تعالى بعد هذه الجملة ، أي جملة ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ( ذلِكُمْ فِسْقٌ ) لأنّه إمّا مخصوص بهذه الجملة أو يشملها في ضمن الجميع.

وأمّا الثاني : أي الدفع ، فجوابه أنّ هذا الاحتمال في تفسير الآية باطل قطعا ؛ لأنّه من الواضح الجلي أنّ الآية الشريفة في مقام بيان كيفيّة أكل اللحوم في الجاهليّة ، وتميّز ما هو حلال منها وما هو حرام أي المذكى وغير المذكّى ؛ لأنّه تبارك وتعالى يقول : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ) (1).

وكانوا في الجاهلية إذا أجدبت سنة وصارت سنة قحط فالأغنياء من العشيرة يشترون جزورا ويجزونه أجزاء ، وكانت عندهم سهام وهي الأزلام ، أي القداح لا ريش لها وكانت تلك القداح بيد أمين لهم ، وهي عشرة سهام أسماؤها : الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل ، والمعلى ، والوغد ، والسفيح ، والمنيح.

ص: 71


1- المائدة (5) : 3.

فالفذّ له سهم واحد ، والتوأم له سهمان ، والرقيب له ثلاثة أسهم ، والحلس له أربعة أسهم ، والنافس له خمسة أسهم ، والمسبل له ستّة أسهم ، والمعلى له سبعة أسهم ، أي النصيب الأوفر ، ومجموع السهام ثمانية وعشرون سهما ، والوغد والسفيح والمنيح لم تكن لها سهم ، فهذه الثلاثة كانت مهملة ، أي لا نصيب لها.

فذلك الأمين يجعل السهام في خريطة ويخرج كلّ واحدة من تلك السهام باسم واحد من العشرة المقامرين ، فمن خرج باسمه « الفذّ » يأخذ سهما من الجزور ، و « التوأم » سهمان ، وهكذا إلى « المعلى » الذي له نصيب الأوفر. ومن خرج باسمه أحد الثلاثة المهملة - أي الوغد والسفيح والمنيح - فعليه ثمن الجزور ولا سهم له من الجزور. ونقلوا أنّ السبعة الذين كانت تخرج لهم السهام كانوا يقسمون سهامهم على الفقراء من عشيرتهم.

فاللّه تبارك وتعالى نهى عن أكل مثل هذا اللحم ؛ لأنّه مأخوذ بالقمار فيكون أكله حراما.

والشاهد على أنّه قمار أنّهم يسمّون تلك السهام « قداح الميسر » وقد نظّمه بعضهم فقال :

هي فذّ وتوأم ورقيب *** ثمَّ حلس ونافس ثمَّ مسبل

والمعلى والوغد ثمَّ سفيح *** ومنيح وذي الثلاثة تهمل

ولكلّ ممّا عداها نصيب *** مثله أن تعدّ أول أول

ويظهر من هذا النظم أنّ « الرقيب » له ثلاثة أسهم و « مسبل » له ستّة أسهم ، ولكن من تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي (1) قدس سره وبعض التفاسير عكس هذا ، أي للرقيب ستّة أسهم وللمسبل ثلاثة أسهم.

ص: 72


1- « تفسير القمّي » ج 1 ، ص 161.

وعلى كلّ حال ظاهر الجملة المذكورة في الآية الشريفة هو هذا المعنى ، فلا ربط لها بالاستخارة والنهي عنها.

ثمَّ إنّه على تقدير كون معنى الجملة ما ذكروه فالمراد بها ما حكاه الطبري في تفسيره في الجزء السادس عن ابن إسحاق قال : كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكّة وكانت على بئر في جوف الكعبة ، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة ، وكانت عند هبل سبعة أقداح ، كلّ قدح فيه كتاب ، قدح فيه « الغفل » إذا اختلفوا في الغفل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة :

قدح فيه « نعم » للأمر إذا أرادوه يضرب به ، فإن خرج قدح « نعم » عملوا به. وقدح فيه « لا » فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح ، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه « منكم » ، وقدح فيه « ملصق » وقدح فيه « من غيركم » ، وقدح فيه « المياه » إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح ، فحيثما خرج عملوا به.

وكانوا إذا أرادوا أن يجتنبوا غلاما ، أو أن ينكحوا منكحا ، أو أن يدفنوا ميّتا ، أو يشكّوا في نسب واحد منهم ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وبجزور ، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثمَّ قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثمَّ قالوا : يا إلهنا هذا فلان بن فلان أردنا به كذا وكذا فاخرج الحقّ فيه. ثمَّ يقولون لصاحب القداح : اضرب ، فيضرب فإن خرج عليه « من غيركم » كان حليفا ، وإن خرج « ملصق » كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حلف ، وإن خرج شي ء سوى هذا ممّا يعملون به « نعم » عملوا به ، وإن خرج « لا » أخّروه عامهم ذلك حتّى يأتوا به مرّة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك ممّا خرجت به القداح (1).

فلو فرضنا أنّ هذا هو المراد بالاستقسام بالأزلام في الآية الشريفة - وليس

ص: 73


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 6 ، ص 50.

كذلك قطعا - فاللّه تبارك وتعالى نهى عن إيكال الأمر إلى هبل وطلب الخير منه ، لأنّ هذا شرك صريح.

وأين هذا من الاستخارة التي هي إيكال الأمر إلى اللّه وتفويضه إليه. وكيف يمكن أن يقاس المقام - أي الاستخارة التي هي اطاعة وعبادة وإيكال إلى اللّه تعالى وتفويض الأمر إليه تعالى - مع عبادة الأوثان وطلب الخير والرزق من هبل الذي هو صخرة لا يضرّ ولا ينفع؟

وهل هذا إلاّ مقايسة الشرك بالتوحيد وعبادة اللّه والخضوع له وتفويض الأمور إليه بعبادة الأوثان وتفويض الأمر إليها؟

وكيف يمكن إنكار طلب الخير وإخراج الحقّ من اللّه وهو تبارك وتعالى ينقل في قصّة كفالة مريم ابنة عمران أنّ زكريا علیه السلام مع سائر القوم من عبّاد بني إسرائيل طلبوا إخراج الحقّ من اللّه تبارك وتعالى بإلقاء أقلامهم في نهر الأردن أيّهم يكفل مريم ، حين يقول عزّ من قائل ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (1).

وإنّما طولنا المقام وأطنبنا الكلام لما حكي لنا من وقوع شبهة في أذهان جماعة من الشبان الذين تطرّقت في نفوسهم وساوس الشيطان ، فاللّه هو الهادي إلى سواء السبيل.

وممّا ذكرنا يظهر لك عدم صحّة ما ذكره المقدس الأردبيلي قدس سره في آيات أحكامه في تفسير قوله تعالى ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) : وعلى هذا يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها بل باستحبابها ، ويدلّ عليه الروايات ، إلى آخر ما قال (2).

ص: 74


1- آل عمران (3) : 44.
2- « زبدة البيان في أحكام القرآن » ص 625.

أقول : وهذا الكلام من مثله عجيب فسبحان من لا يخطئ ، وكيف يمكن أن يكون طلب الخير من اللّه جلّ جلاله الذي هو حقيقة الاستخارة من مصاديق الاستقسام بالأزلام؟ فالأوّل عبادة وإيكال أمره وتفويضه إلى اللّه ، والثاني شرك وطلب الخير من هبل أو من الأزلام.

الجهة الرابعة : في بيان أنّ الاستصحاب مقدّم عليها ، أو هي مقدّم عليه عند تعارضهما

فنقول : البحث عن هذا فرع وقوع التعارض بينهما. والظاهر عدم وقوع ذلك ؛ لأنّه بناء على ما بيّنّاه من اختصاص القرعة بالشبهات الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي فلا تجري في ثلاثة أقسام من صور الشبهة الحكميّة بكلا قسميها البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي ، والموضوعية البدويّة. وأمّا الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي - التي هي مورد القرعة على الشرط المتقدّم وهو أن لا يجب أو لا يجوز فيها الاحتياط - وإن كانت في حدّ نفسها ممّا يمكن جريان الاستصحاب فيها ، لكنّها غالبا يسقط فيها الاستصحاب بالمعارضة ولو كان بين شخصين أو أشخاص ، مثلا في باب تعارض البيّنات الذي هي العمدة في كون الحقّ بين شخصين أو أشخاص الاستصحابات متعارضة.

ثمَّ إنّه لو فرضنا وجود مورد يكون مجرى لكليهما بدون سقوط أحدهما فيكون الاستصحاب حاكما على القرعة ، وذلك من جهة أنّ القرعة إنّما شرّعت في مورد لا حيلة ولا علاج لحلّ المشكل والملتبس ؛ ولذلك قال علیه السلام - كما تقدّم - : « وتلك المعضلات » (1). ولذلك قيّدنا موضوعها بأنّها لا يكون مجرى للاحتياط الواجب ، وإلاّ

ص: 75


1- سبق ذكره في ص 67 ، رقم (2).

فيقدّم عليها مع أنّه من أضعف الأصول ، فضلا من الاستصحاب الذي هو من أقوى الأصول.

فلا تتعجّب أنّه كيف يقدّم الأصل - أي الاستصحاب - على الأمارة ، أي القرعة؟ مع أنّه تقدّم مرارا حكومة الامارات جميعا على الأصول ؛ وذلك من جهة أنّ ما ذكر إنّما كان فيما إذا تحقّق موضوع الأمارة وكانت المعارضة في مؤدّاها ، وأمّا لو كان الأصل رافعا لموضوع الأمارة تعبّدا كما في المقام فلا ؛ حيث أنّ الاستصحاب على تقدير عدم سقوطه بالمعارضة رافع لموضوع القرعة ، أي كونه مشكلا ومعضلا.

ص: 76

5 - قاعدة لا تعاد

اشارة

ص: 77

ص: 78

قاعدة لا تعاد (1)

ومن القواعد الفقهيّة قاعدة « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس » التي تنطبق على فروع كثيرة مذكورة في الفقه ، في أبواب الخلل من كتاب الصلاة.

ومدرك هذه القاعدة هي الرواية المرويّة الصحيحة عن أبي جعفر الباقر علیه السلام ، رواها الفقيه بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال علیه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس : الظهور ، والوقت ، والقبلة والركوع ، والسجود - ثمَّ قال : - القراءة سنّة ، والتشهد سنة ، ولا تنقض السنّة الفريضة » (2).

ولا يمكن الخدشة فيها من حيث السند والصدور ؛ لصحّة سندها وعمل الأصحاب بها ، فالعمدة بيان مقدار دلالتها.

وتوضيحها في ضمن مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : في أنّه هل تشمل إخلال العامد العالم بالحكم ، بمعنى أنّه لو أخلّ بشرط أو بجزء بسبب عدم إتيانه بهما عمدا عالما ، أو أتى بمانع عمدا مع علمه بأنّه مانع ، فعقد المستثنى منه - أي قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة » - يدلّ على عدم لزوم الإعادة وكفاية ما أتى به أم لا؟

ص: 79


1- « القواعد » ص 232 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي » ج 3 ، ص 509 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 244.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 991 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 770 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 29 ، ح 5.

أقول : لا ينبغي صدور هذا الاحتمال من أحد في هذا الحديث الشريف ؛ لأنّه مخالف لأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع ؛ إذ معنى جعل شي ء جزءا أو شرطا للصلاة أنّ الصلاة لا تتحقّق بدونه ، كما أنّ معنى جعل شي ء مانعا هو عدم تحقّقها وعدم امتثال الأمر الصلاتي مع وجوده فلو كانت الصلاة صحيحة مع الإخلال بأجزائها وشرائطها عمدا مع العلم بالحكم فيلزم الخلف ؛ إذ معناه أنّ ما هو جزء أو شرط أو مانع بأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع ليس بجزء ولا بشرط ولا بمانع ، وهذا عين الخلف والمناقضة.

فنفس أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع مناقضة مع هذا الاحتمال مطابقة أو التزاما ؛ إذ ما كان منها يثبت الجزئيّة أو الشرطيّة بلسان « يعيد فيما إذا أخلّ بها » يكون مناقضا مع هذا الحديث بناء على هذا الاحتمال بالمطابقة. وما كان منها بلسان نفي الصلاة بعدمها كقوله علیه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة » (1) يكون مناقضا معه بالالتزام ، فمن المقطوع المسلّم عدم شمول الحديث للعامد العالم بالحكم.

وقد تكلّف البعض وهو العالم المدقّق المتّقي الميرزا محمّد تقي الشيرازي قدس سره لإمكان ذلك بالالتزام بأمرين : أحدهما متعلّق بالخمسة المستثناة وغيرها ممّا ثبت ركنيّته والآخر بإتيان باقي الأجزاء والشرائط معها ، فلو أتى بالخمسة وغيرها ممّا ثبت ركنيّته وترك الباقي عمدا مع العلم بوجوب إتيانها فالأمر المتعلّق بنفس الخمسة وغيرها ممّا ثبت ركنيّته يسقط بالامتثال ، والأمر المتعلّق بإتيان باقي الأجزاء والشرائط أيضا يسقط بواسطة عدم بقاء المحلّ والموضوع له ؛ إذ محلّه وموضوعه كان إتيان باقي الأجزاء والشرائط مع الخمسة ، والمفروض أنّه أتى بالخمسة وسقط أمرها.

وهذا كما قلنا في الإتيان بالجهر في موضع الإخفات أو بالعكس مع الجهل تقصيرا أنّه تعلّق أمر بذات الصلاة الجامع بين الجهر والإخفات ، وأمر آخر بإتيانها

ص: 80


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 196 ، ح 2 ؛ وج 2 ، ص 218 ، ح 13 ؛ وج 3 ، ص 82 ، ح 65.

جهرا في الجهريّة وإخفاتا في الإخفاتيّة ، فإذا أتى بالجهر في موضع الإخفات أو بالعكس ، أو أتى بالإتمام في موضع القصر فقد أتى بما هو المأمور به بأحد الأمرين ، فيسقط ذلك الأمر بالامتثال ، والأمر الآخر أيضا بعدم الموضوع والمحلّ ؛ لأنّ محلّ الجهر أو الإخفات أو القصر في صلاة المسافر هو المأمور به بالأمر الذي سقط بالامتثال.

وكذلك فيما نذر أن يأتي بصلاته الواجبة مقرونة بخصوصيّة مستحبّة ؛ وذلك كما لو نذر بصلاة الظهر مثلا جماعة ، أو في المسجد فأتي بها منفردا أو في الدار ، فالأمر الأوّل العبادي يسقط بإتيان الفريضة بدون تلك الخصوصيّة لإتيانه بما هو متعلّقة وإلاّ يلزم طلب الحاصل. والأمر النذري أيضا يسقط ، لعدم بقاء المحلّ والموضوع له ، لأنّ متعلّقه كان خصوصيّة في متعلّق الأمر الأوّل ، ومع الإتيان به لا يبقى محلّ لتلك الخصوصيّة حتّى يأتي بها.

نعم الالتزام بالأمرين بالبيان المتقدّم لازمه استحقاق العقاب فيما إذا كان عالما بالحكم أو جاهلا مقصرا ، لتفويته للواجب بإتيانه المأمور به بذلك الأمر بدون الخصوصيّة في مورد النذر ، وبدون أن يقصر في مورد المسافر ، وبدون الجهر في مورد الجهر ، وبدون الإخفات في مورد الإخفات.

ولا بأس بالالتزام بذلك بأن يقال بصحّة صلاته وعدم وجوب الإعادة إذا أتى بالمستثنى - أي الخمسة - وغيرها ممّا ثبت ركنيّته وكان مع ذلك مستحقّا للعقاب من ناحية تفويته الواجب الآخر ، أي سائر الأجزاء والشرائط.

هذا حاصل ما أفاد في إمكان شمول « لا تعاد » مورد العلم بالحكم.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف فرض ، وإلاّ فهو أمر مخالف للواقع ، والمسلّم المقطوع أنّه ليس للصلاة إلاّ أمر واحد متعلّق بمجموع هذه الأجزاء والشرائط وإعدام تلك الموانع ، بأنّ ما هو داخل تحت ذلك الأمر قيدا وتقييدا نسمّيه الجزء ، وما هو

ص: 81

داخل تحت ذلك الأمر تقييدا لا قيدا فإن كان التقييد الداخل تحت الأمر هو التقييد بوجود شي ء فنسمي ذلك الشي ء بالشرط ، وإن كان هو التقييد بعدم شي ء نسمّي ذلك الشي ء بالمانع.

فمرادنا من عدم إمكان شمول صحيحة « لا تعاد » لمورد العلم بأجزاء الصلاة وشرائطه وموانعه ولزومه للخلف والمناقضة ، هو بعد الفراغ عن أنّه ليس للصلاة إلاّ أمر واحد متعلق بالمجموع. ولا ينافي وحدته في مقام الثبوت بيانه بصورة القطعات في مقام الإثبات والتبليغ إلى المكلّفين ، فتارة يبيّن جزئيّة شي ء للصلاة بصورة عدمها بعدمه ، كقوله « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) و « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) و « لا صلاة لمن يقم صلبه » (3) وأمثال ذلك. وتارة بالأمر به فيها ، كقوله : فكبّر واقرأ سورة من سور القرآن ، واغسل ثوبك ، واستقبل ، وأمثال ذلك. وتارة بصورة أخرى كالنهي عن الصلاة في غير المأكول وأمثاله.

وعلى كلّ حال الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط ليست إلاّ أوامر غيريّة مولويّة ، أو إرشادية إلى أنّ المركّب المأمور به حصوله و- وجوده موقوف على وجود هذا الشي ء في الأجزاء والشرائط ، وعلى عدمه في الموانع.

وأمّا نقضه ببعض أفعال الحجّ بأنّ الحجّ صحيح لا يجب إعادته مع ترك ذلك الفعل عمدا مع العلم بحكم ذلك الفعل أي بوجوبه في الحجّ.

فجوابه أنّه لو دلّ دليل على مثل ذلك من إجماع أو رواية معتبرة فلا بدّ من حمله على كونه من قبيل الواجب في الواجب ، أو من قبيل تعدّد المطلوب ، وإلاّ يكون من

ص: 82


1- سبق ذكره في ص 80.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 33 ، باب وقت وجوب الطهور ، ح 67 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 49 ، ح 144 ، باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ، ج 83 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 222 ، أبواب أحكام الخلوة ، باب 9 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 320 ، باب الركوع وما يقال فيه من التسبيح و. ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 78 ، ح 290 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ، ح 58 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 939 ، أبواب الركوع ، باب 16 ، ح 2.

قبيل الخلف والمناقضة ، وعلى كلّ حال لا ينبغي الارتياب في عدم شمول الصحيحة لحال العمد مع العلم بالحكم.

[ المبحث ] الثاني : في أنّها هل تشمل الإخلال العمدي مع الجهل بالحكم ، سواء كان الجهل عن تقصير ، أو عن قصور مطلقا ، أو يفرق بينهما بشمولها لمورد الجهل عن قصور دون ما إذا كان عن تقصير ، أو لا تشمل مطلقا؟ وجوه بل أقوال.

ذهب المشهور إلى عدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقا ، قصورا كان أو تقصيرا. وفرّق الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بين الجهل عن قصور فقال بالشمول ، وبين الجهل عن تقصير فقال بعدم الشمول. (1)

ثمَّ إنّ ما ذهب إليه المشهور من القول بعدم الشمول مطلقا لم يفرّقوا بين أن يكون الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا من أوّل الأمر ولم يكن مسبوقا بالعلم ، أو كان مسبوقا به. وبعبارة أخرى : لم يفرّقوا بين نسيان الحكم والجهل به من أوّل الأمر.

فالمشهور يقولون بعدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقا ، سواء كان منشأ جهله نسيان الحكم أو كان من أوّل الأمر جاهلا ، وأيضا سواء كان جهله عن قصور أو عن تقصير.

وربما يستدلّ للقول المشهور بعدم شمول الصحيحة للإخلال العمدي مطلقا - سواء كان عن قصور أو تقصير ، وسواء كان الجهل بالحكم مسبوقا بالعلم به أو لم يكن كذلك - بأنّ الظاهر والمستفاد من الحديث هو نفي الإعادة في مورد لو لا هذا الحديث لكان مأمورا بالإعادة ، ونفيه للإعادة في مثل المورد المذكور يكون في غير الخمسة المذكورة كما هو صريح المستثنى فيكون العقد المستثنى منه من الحديث الشريف مفاده الذي هو عبارة عن عدم الإعادة مختصّا بمورد السهو ونسيان الموضوع ، لا نسيان الحكم الذي هو عبارة عن الجهل المسبوق بالعلم وما هو من قبيل

ص: 83


1- انظر : « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 495.

السهو والنسيان ، مثل الاضطرار وغيره ممّا يوجب سقوط الأمر بالمركّب التامّ الأجزاء والشرائط ، بحيث لو كانت الإعادة واجبة ويكون الإتيان بالتامّ الكامل لازما لا بدّ وأن يكون بصورة الأمر بالإعادة بقوله « أعد ».

وأمّا لو كان الأمر الأوّل المتعلّق بالمركّب التامّ الأجزاء والشرائط باقيا ولم يسقط ، فلا معنى لمجي ء أمر جديد من قبل المولى يأمر بالإعادة. وقد عرفت أنّ مجرى حديث « لا تعاد » هو فيما إذا كان الأمر الأوّل ساقطا بواسطة السهو والنسيان والاضطرار وأمثال ذلك.

فالعامد إلى الإخلال - ولو كان من جهة الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا أو من جهة نسيان الحكم - حيث أنّ الأمر الأوّل لم يسقط عنه لأنّ الجهل بالحكم لا يوجب سقوط الأمر مطلقا ، قصورا كان أو تقصيرا أو نسيانا ، وذلك للإجماع على اشتراك التكاليف بين العالم والجاهل بها ، وبعضهم ادّعى تواتر الأخبار على ذلك ، ولا فرق في ذلك بين الجهل قصورا أو تقصيرا وإنّما الفرق بينهما في أنّ الجاهل المقصّر يستحقّ العقاب دون القاصر - فلا يكون له خطاب جديد بعنوان « أعد » بل المحرّك له نحو الإتيان بالمأمور به الكامل التّام الأجزاء والشرائط هو الأمر الباقي إلى زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه ، وأيضا إلى زمان ارتفاع نسيان الحكم وحصول العلم به.

فإذا كان معنى الحديث كما استظهرنا نفي الإعادة عن مورد لو لا هذا الحديث كان مخاطبا بالإعادة فلا يشمل مورد العمد مطلقا ، سواء كان عالما بالحكم ، أو جاهلا قصورا أو تقصيرا ، أو ناسيا للحكم ؛ لعدم الأمر بالإعادة في هذه الموارد ولو لم يكن هذا الحديث ، بل كان وجوب الإتيان بالتامّ بعد رفع الجهل بنفس الأمر الأوّل لبقائه وعدم سقوطه بواسطة الجهل ولو كان عن قصور أو كان بواسطة نسيان الحكم.

وبهذا البيان قال شيخنا الأستاذ قدس سره بعدم شمول الحديث للعامد الجاهل مطلقا (1).

ص: 84


1- « كتاب الصلاة » ج 2 ، ص 406 ، رسالة في صحيحة لا تعاد.

ولكن أنت خبير بأنّ مفهوم الإعادة عبارة عن إيجاد الشي ء بعد إيجاده ثانيا أو ثالثا ، وهكذا مقابل الإيجاد ابتداء من غير سبق إيجاده ، غاية الأمر أنّ الإعادة بالمعنى المذكور قد تكون إعادة بالدّقة بحيث يكون الوجود الثاني مثل الوجود الأوّل بالدّقة - وأمّا كون الوجود الثاني نفس الوجود الأوّل بالدقّة فمحال بالضرورة - وقد تكون إعادة عرفا ولو كان المعاد لا يكون على طبق الوجود الأوّل تماما وطابق النعل بالنعل.

وفي الإعادة عرفا قد يكون الوجود الأوّل مشتملا على زيادات ، وقد يكون بالعكس ، وقد يكون إعادة ادّعاء من حيث ترتيب الآثار.

وبناء على هذا ففي موارد الإخلال العمدي - من جهة الجهل بالحكم بكلا قسميه ، أو نسيانه - ولو كان لزوم الإتيان بالصلاة التامّ الأجزاء والشرائط بعد الالتفات إلى أنّه أخلّ بإتيانها كما هي من جهة ترك جزء أو شرط أو ارتكاب مانع يكون بالأمر الأوّل ، ولكن هذا الوجود التامّ حيث أنّه يكون بعد ذلك الوجود الناقص الذي أتى به يصدق عليه أنّه إعادة ، فلو لم يكن هذا الحديث كان مقتضى الأمر الأوّل الباقي أن يأتي به ويعيده تامّ الأجزاء ، ولكن هذا الحديث ينفي إعادته ثانيا تامّا ويقول بكفاية ذلك الناقص الذي أتى به.

فالإنصاف أنّه لا قصور في شمول الحديث لموارد الجهل والنسيان للحكم ، من جهة صدق الإعادة على الإتيان بها ثانيا تامّ الأجزاء والشرائط.

والشاهد على ما ذكرنا ورود لفظ « يعيد » في جملة من الأخبار مع عدم سقوط الأمر الأوّل.

منها : ما ورد فيمن أجهر في موضع الإخفات متعمّدا أو بالعكس كذلك « أنّه نقض صلاته وعليه الإعادة » (1).

ص: 85


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 344 ، باب احكام السهو في الصلاة ، ح 1003 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 162 ، ح 635 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ح 93 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 313 ، ح 1163 ، باب وجوب الجهر بالقراءة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 766 ، أبواب القراءة ، باب 26 ، ح 1.

ومنها : قوله علیه السلام فيمن صلّى أربعا في السفر « أنّه إن قرأ عليه آية التقصير وفسرت له فصلّى أربعا أعاد » (1).

والحاصل أنّ إنكار شمول حديث « لا تعاد » لموارد الإخلال العمدي الصادر عن الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا ، أو الناشئ عن نسيان الحكم استنادا إلى عدم صدق الإعادة على الإتيان بالصلاة التامّ لأنّه بالأمر الأوّل ، لا بخطاب « أعد » ممّا لا أساس له ولا يمكن الركون إليه.

نعم يمكن أن يستدلّ للمشهور بأنّ شمول الحديث للإخلال العمدي في مورد الجهل بالحكم - مطلقا ، قصورا أو تقصيرا ، وكذلك في مورد نسيان الحكم الذي هو أيضا عبارة عن الجهل بالحكم غاية الأمر جهل مسبوق بالعلم وإلاّ في حال النسيان لا شكّ في أنّه جهل - يرجع إلى إبطال الأدلّة الدالّة على أنّ ما عدا الخمسة من الأجزاء والشرائط والموانع أيضا لها دخل في الصلاة ، إمّا بوجودها كالأوّلين أي الجزء والشرط ، أو بعدمها كالموانع.

وذلك من جهة ما ذكرنا مرارا أنّ الأحكام الشرعيّة - وإن لم تكن لها إطلاق - يشمل حال الجهل بها ؛ وذلك لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، لا تقابل السلب والإيجاب.

وقد شرحنا المسألة في باب المطلق والمقيّد في كتابنا « منتهى الأصول » (2) فالدليل على عدم إمكان التقييد بقيد هو بنفسه دليل على عدم إمكان الإطلاق اللحاظي بالنسبة إلى ذلك القيد ، ولا شكّ في عدم إمكان تقييد الحكم بحال الجهل أو العلم به ؛ لأنّ هاتين الصفتين متأخّران عن الحكم المتعلّق بهما ، ومعنى التقييد بهما جعلهما جزءا

ص: 86


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 435 ، باب الصلاة في السفر ، ح 1265 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 226 ، ح 571 ، باب الصلاة في السفر ، ح 80 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 531 ، أبواب صلاة المسافر ، باب 17 ، ح 4.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 468.

لموضوع فيكون مقدّما على الحكم باعتبار كون كلّ واحد منهما جزء لموضوعه ، ومتأخّرا عنه باعتبار كون الحكم متعلّقا لكل واحد منهما ، فيلزم تقدّم الشي ء على نفسه. فإذا كان التقييد بهما - أي العلم والجهل - غير ممكن فيكون الإطلاق أيضا كذلك ؛ لما ذكرنا من أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

ولكن هذا في الإطلاق اللحاظي ، والإطلاق بنتيجة الإطلاق لا مانع منه كما أنّ التقييد بنتيجة التقييد أيضا لا مانع منه. ونتيجة الإطلاق في المقام يثبت بادعاء الاتّفاق على اشتراك الجاهل والعالم في التكاليف ، فلو شمل هذا الحديث مورد الإخلال العمدي جهلا بكلا قسميه - أي قصورا أو تقصيرا - فيكون معارضا مع تلك الأدلّة الكثيرة الدالّة على جزئيّة ما عدا الخمسة من أجزاء الصلاة ، وكذلك بالنسبة إلى ما تدلّ على شرائطها وموانعها : لأنّ مفاد « لا تعاد » بناء على شموله لحال الجهل ونسيان الحكم نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة عن جميع أجزاء الصلاة وشرائطها وموانعها ما عدا هذه الخمسة المذكورة في الحديث.

وذلك من جهة أنّ لازم جزئيّة شي ء أو شرطيّته أو مانعيّته للصلاة في حال الجهل بكلا قسميه لزوم إعادته بعد الالتفات إلى الإخلال به ، خصوصا إذا كان الالتفات مع بقاء الوقت. ونفي لازم هذه الأمور بالحديث - كما هو المدّعى بناء على شموله لحال الجهل - مستلزم لنفي هذه الأمور ، أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال الجهل.

فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظاهر تلك الأدلّة الدالّة على الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال الجهل ، وبين حملها على حال العلم فتكون جزئيّة تلك الأجزاء وكذلك شرطيّتها ومانعيّتها مخصوصة بحال العلم - وهذا خلاف الإجماع ، بل خلاف ما ادّعى من تواتر الأخبار ، بل الضرورة على اشتراك الجاهل والعالم - وبين حمل « لا تعاد » على مورد السهو والنسيان ، أي لا تجب الإعادة فيما إذا كان الإخلال صدر عن سهو أو عن نسيان الموضوع ، حتّى لا يشمل مورد الجهل مطلقا.

ص: 87

ولا محذور في هذا الحمل ، بل هو المتعيّن ، فيكون من قبيل دليل نفي الضرر والحرج حاكما على الأدلّة الأوليّة ، أي يدلّ على تضييق دائرة الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، ورفعها ونفيها في حال السهو والنسيان.

وذلك مع أنّ سياق الحديث من أول الأمر ليس إلاّ في مقام التعرّض لحال السهو والخطأ ونسيان الموضوع.

والانصاف أنّ القول بشمول الحديث لحال الجهل ، خصوصا إذا كان عن تقصير لا ينبغي أن يصدر عن فقيه ، بل لا يتصوّر تقصير بناء على نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من غير هذه الخمسة في حال الجهل ؛ إذ ليس في تلك الحال جزء أو شرط أو مانع حتّى يجب عليه التعلّم ، حتّى يكون تركه تقصيرا.

نعم لو قلنا بأنّ توجيه التكليف إلى الجاهل القاصر قبيح لعجزه عن الامتثال - كما ربما يخطر بالبال - فيكون مثل السهو والخطأ ونسيان الموضوع مشمولا للحديث ، كما أنّه ليس ببعيد إن لم يكن إجماع على الخلاف.

وأمّا شموله للجاهل المقصّر مع الالتفات في الوقت وبقاء الوقت لأداء الصلاة لا يخلو من غرابة.

وأمّا ما نقل عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره من التفصيل بين الجهل قصورا وقال بشموله له ، وبين الجهل عن تقصير وقال بعدم الشمول. (1) فإن كان وجهه ما احتملناه من عدم صحّة توجيه الأمر إلى الجاهل القاصر لعجزه عن الامتثال فله وجه ، وإن كان أيضا لا يخلو من إشكال. وأمّا إن كان وجهه - كما حكى عنه - أنّ هذه الصحيحة في مقام بيان حكم من كان له تكليف واقعا ، فتكليفه في زمان الجهل بالناقص ، وعدم وجوب الصلاة التامّ الأجزاء والشرائط عليه ، فلا يشمل الجاهل المقصر ؛ لأنّه بسبب تقصيره استحقّ العقاب فسقط أمره بالتامّ بواسطة العصيان ،

ص: 88


1- انظر : « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 495.

فليس أمر بالتامّ متوجّه إليه حتّى يشمله الحديث ، ويكون مفاده أيّها الجاهل الذي أنت مأمور بإتيان المركّب التامّ إتيانك بالناقص يكفي ويجزي ، ولا يجب عليك الإعادة ، لأنّه ليس مأمورا به بعد العصيان واستحقاق العقاب.

فهذا كلام عجيب لا ينبغي أن يسند إلى مثل شيخنا الأعظم الأنصاري ، وحيث أنّ مواقع الخلل فيه واضح ولذلك لا نتعرّض لما فيه.

[ المبحث ] الثالث : في بيان ما هو المستفاد من ظاهر الصحيحة ، أي فيما تدلّ عليه بالدلالة التصديقيّة :

فتارة : نتكلّم في عقد المستثنى منه ، أي قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة ».

وأخرى : في عقد المستثنى ، أي قوله علیه السلام « إلاّ من خمس ». أمّا الأوّل :

فالكلام فيه من جهات

[ الجهة ] الأولى : ظاهر هذه الجملة أنّ كلّ إخلال وقع في الصلاة إذا لم يكن ذلك الإخلال من قبل الخمسة ، ولم يكن عن عمد مع العلم بالحكم أو مع الجهل به مطلقا سواء كان عن قصور أو عن تقصير فلا يوجب الإعادة ؛ فينتج رفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة عن جزء أو شرط تركهما خطأ أو نسيانا ، أو أتى بمانع كذلك.

وبعبارة أخرى : في كلّ مورد سقط الأمر بالصلاة الكاملة التامّة بواسطة العذر العقلي أو الشرعي ، وكان بمقتضى إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط يجب عليه الإعادة في الوقت ، بل القضاء في خارج الوقت بعد رفع العذر ؛ فحديث « لا تعاد » يرفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وينفيها بنفي الإعادة ، فيكون الحديث حاكما على إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع ، بحيث لو لم يكن حديث « لا تعاد » لكان مقتضى تلك الإطلاقات ثبوت الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة حتّى في حال السهو والنسيان ؛ ولازمه وجوب الإعادة في الوقت بعد رفع العذر.

ص: 89

فالحديث يضيق دائرة الإطلاقات ، ويخصّص هذه الأمور - أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة - بغير حال السهو والنسيان ، بل بغير الاضطرار. وأمّا في هذه الموارد فينفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة بل ينفي هذه الأمور في كلّ مورد سقط الأمر ، ولو بواسطة التزاحم والإكراه.

والسرّ في ذلك أنّه لو كان أمر بالصلاة التامّ الأجزاء والشرائط فيعارض الحديث ؛ لأنّ مقتضى ذلك الأمر يكون الإعادة بعد الالتفات ، خصوصا إذا كان رفع العذر في الوقت مع بقائه لأدائه ، ولا حكومة لدليل « لا تعاد » على دليل ذلك الأمر ، بخلاف ما إذا سقط الأمر ولو كان سقوطه بواسطة التزاحم أو الإكراه أو الاضطرار ، فليس شي ء في البين يعارض هذه الصحيحة إلاّ دليل الأجزاء والشرائط ، وقد تقدّم أنّها محكومة بلا تعاد ، ويكون حال لا تعاد بالنسبة إليها حال أدلّة نفي الضرر والحرج بالنسبة إلى العمومات وإطلاقات الأدلّة الأوّليّة ، فلا تبقى معارضة في البين.

[ الجهة ] الثانية : في أنّ هذا الحكم ، أي عدم وجوب الإعادة في الموارد المذكورة من السهو والنسيان والخطأ والاضطرار وغيرها عند الإخلال بها هل يختصّ بالنقيصة ، أو يشمل الزيادة أيضا فيما إذا كانت الزيادة موجبة للإعادة؟

الأقوى هو الشمول ؛ وذلك من جهة أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من هذه الجملة أنّ الخلل الواقع من غير ناحية هذه الخمسة لا يكون موجبا للإعادة ، سواء كان سبب وقوع الخلل نقيصة شي ء من الأشياء التي لها دخل في الصلاة وجودا أو عدما ، أو زيادته.

فلا يرد عليه أنّ التقدير في طرف المستثنى منه إمّا أن يكون وجود الشي ء ، فيلزم أن يكون مفاد الحديث عدم وجوب الإعادة من وجود كلّ ما اعتبر في الصلاة إلاّ من وجود هذه الخمسة. وهذا المعنى واضح البطلان. وإمّا أن يكون عدم الشي ء ، فيكون مفاد الحديث لا تجب الإعادة من عدم كلّ ما اعتبر في الصلاة إلاّ من عدم هذه

ص: 90

الخمسة. وهذا المعنى وإن كان في حدّ نفسه صحيحا ولكن خلاف ظاهر الحديث ؛ إذ ظاهره عدم وجوب إعادة الصلاة مطلقا ، ومن أيّ جهة كانت إلاّ من ناحية هذه الخمسة.

إذ الظاهر من كلمة « لا تعاد الصلاة » نفي طبيعة إعادة الصلاة ، لا خصوص نفي إعادتها من قبل شي ء. دون شي ء ولو كان معنى الحديث عدم إعادتها من ناحية خصوص عدم كلّ شي ء معتبر وجوده في الصلاة لم تشمل الإعادة من قبل وجود بعض القواطع ، كالتكلّم فيها سهوا مثلا ، وقد عرفت أنّ ظاهره العموم ، خصوصا بقرينة الاستثناء. والمستثنى ممّا يكون زيادتها ونقيصتها موجبة للإعادة ، فبحكم وحدة السياق لا بدّ وأن يكون المستثنى منه أيضا زيادتها ونقيصتها لا توجب الإعادة.

فالإنصاف أنّه لا ينبغي أن يشكّ في أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي في معنى الحديث نفي الإعادة مطلقا ، من أيّ سبب وناحية كانت موجبة للإعادة لو لا هذا الحديث ، سواء كان الإخلال من ناحية زيادة شي ء فيما إذا كانت الزيادة لو لا هذا الحديث موجبة للإعادة ، أو كان من ناحية نقيصة شي ء وجوده أو عدمه معتبر في الصلاة.

[ الجهة ] الثالثة : في أنّه بعد ما عرفت ما ذكرنا من معنى الحديث يظهر لك أنّه لا فرق في عدم وجوب الإعادة بين أن يكون الخلل من ناحية فقد جزء - كما لو ترك فاتحة الكتاب مثلا في الركعتين الأوليين ، أو في إحديهما ما لم يكن ذلك الجزء من الخمسة المستثناة - أو كان من ناحية ترك شرط سهوا ونسيانا ما لم يكن من الخمسة المستثناة ، كالطمأنينة والاستقرار مثلا ، أو كان من ناحية وجود مانع أو قاطع ما لم يكن من الخمسة ، كالتكلّم سهوا أو نسيانا ، أو صلّى في غير المأكول سهوا أو نسيانا.

وأمّا ما ربما يقال من أنّ للشي ء - المقدّر في قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة » أي من شي ء - عموم أفرادي وإطلاق أحوالي ، فباعتبار العموم الأفرادي حيث أنّه نكرة

ص: 91

واقعة في سياق النفي يشمل كلّ فرد من أفراد الشي ء بنحو العامّ الاستغراقي ، وباعتبار إطلاقه يشمل حالة كون ذلك الشي ء جزء أو شرطا أو مانعا ، فلو شمل الجميع بالإطلاق فبالعموم الأفرادي يشمل كلّ فرد من أفراد الجزء ، وكذلك بالنسبة إلى الشرط والمانع. فشموله للموانع والشروط مضافا إلى الأجزاء يحتاج إلى ثبوت إطلاق للشي ء مضافا إلى عمومه الأفرادي ، والدليل على عموم الشي ء بنحو الاستغراقي موجود ولكن لا دليل في الحديث على ثبوت الإطلاق له بحيث يشمل الثلاثة - أي الأجزاء والشرائط والموانع - ولكن حيث أن الخمسة المستثناة مشتملة على الأجزاء والشرائط دون الموانع ، فبحكم وحدة السياق لا بدّ وأن يكون المراد في طرف المستثنى منه أيضا أعمّ من الأجزاء والشرائط ، ولا دليل على شموله للموانع.

ففيه أوّلا : أنّ المقدّر هو الإخلال لا الشي ء ، بمعنى أنّ العرف يفهم من قوله علیه السلام في عقد المستثنى منه « لا تعاد الصلاة » أي لا تعاد الصلاة من الإخلال بها ، فيكون الإخلال له عموم حسب التفاهم العرفي باعتبار سببه أيّ إخلال ، من أيّ ناحية وأيّ سبب إلاّ من ناحية هذه الخمسة ، فيشمل الموانع بنفس العموم من دون احتياج إلى العموم.

وثانيا : أنّ مصبّ العموم لكلمة « الشي ء » - على تقدير أن يكون هو المقدّر - هو الأجزاء والشرائط والموانع ، وذلك من جهة أنّ المراد من عدم وجوب إعادة الصلاة ومن الخلل الوارد عليها من ناحية كلّ شي ء أي كلّ شي ء من الأشياء التي لها دخل في تحقّق حقيقة الصلاة ، إمّا وجودا أو عدما ، فما هو دخيل وجودا قيدا وتقييدا فهو الجزء ، وتقيدا لا قيدا فهو الشرط ، وما هو دخيل عدمه أي الصلاة مقيّدة بعدمه بنحو يكون التقييد داخلا دون القيد فهو المانع ؛ فالحديث يشمل بعمومه الأجزاء والشرائط والموانع.

ولكن هذا العموم ليس عموما عقليّا لا يكون قابلا للتخصيص ، بل يمكن أن يرد الدليل بالنسبة إلى بعض الموانع ، أو بعض الشرائط ، بل بعض الأجزاء غير

ص: 92

الأجزاء المذكورة في عداد الخمسة المستثناة ، أعني الركوع والسجود بأنّ الخلل من ناحيتها سهوا أيضا توجب الإعادة ، كما أنّه ورد بالنسبة إلى القيام المتّصل بالركوع ، وتكبيرة الإحرام من الأجزاء.

ولذلك قالوا إنّ الأركان ليست منحصرة بالخمسة المذكورة ، إن كان معنى الركن هو الذي يكون تركه عمدا أو سهوا موجبا للإعادة.

فلو سلّمنا أنّ وقوع الصلاة في غير المأكول يكون موجبا للإعادة ولو سهوا ، فهذا لا يدلّ على عدم شمول الحديث للموانع بناء على عدم كون المأكوليّة شرطا إذا كان لباس المصلي من الحيوان ، بل كان مالا يؤكل مانعا كما هو ظاهر موثّقة ابن بكير ، إذ من الممكن أن يكون فتواهم بالإعادة من جهة وجود دليل خاصّ عندهم.

[ الجهة ] الرابعة : في شمول الحديث للإعادة والقضاء جميعا ، بمعنى أنّه يدلّ على نفي الإعادة في الوقت ونفي القضاء في خارج الوقت.

بيان ذلك : أنّ المراد من نفي الإعادة في عقد المستثنى منه إن كان هو المعنى اللغوي للإعادة ، فيكون معناه نفي لزوم إيجادها ثانيا بعد ذلك الإيجاد الأوّل الذي سها عن إيجاد جزء أو شرط ، أو سها عن ترك مانع ، سواء كان الإيجاد الثاني في الوقت الذي نسمّيه بالإعادة اصطلاحا ، أو كان في خارج الوقت الذي نسمّيه بالقضاء ؛ لأجل شمول الإعادة بهذا المعنى اللغوي لكليهما بدون فرق أصلا.

وأما إن كان المراد منه نفي الإعادة بالمعنى الاصطلاحي للإعادة - أي إيجادها ثانيا في الوقت - فأيضا يدلّ على نفي القضاء بالدلالة الالتزاميّة ، بل يدلّ على نفيها بطريق أولى ؛ لأنّ لازم عدم لزوم الإعادة في الوقت سقوط الأمر عن الكامل التامّ وكفاية ما أتى به من الفاقد للجزء أو الشرط أو الواجد للمانع ، وإيفائه للغرض ؛ فلم يفت شي ء منه ، لا الواجب لسقوط الأمر بالامتثال بما أتى به من الناقص ، ولا الملاك لإيفاء ما أتى به للغرض ، فلا يبقى موضوع لوجوب القضاء.

ص: 93

و أما المقام الثاني : أي التكلّم في عقد المستثنى من هذا الحديث

اشارة

أي قوله علیه السلام « إلاّ من خمس : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود » أيضا من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في شرح الخمسة المذكورة فيه ، وأنّه ما المراد منها؟

فنقول :

الأوّل منها « الطهور ». وهذه اللفظة وإن كانت لها احتمالات :

منها : أن تكون بضم الطاء اسم مصدر مأخوذ من تطهّر ، كالوضوء من توضّأ.

ومنها : أن تكون صفة مشبّه بمعنى الطاهر ، كالعجوز بمعنى العاجز.

ومنها : أن تكون صيغة مبالغة ، وهذا الوزن في صيغ المبالغة معروفة مشهورة بخلاف الاحتمالين الأوّلين فإنّ فيهما كلام.

ومنها : أن تكون اسم لما يتطهّر به ، كالوضوء والسحور ، والفطور ، لما يتوضأ وما يتسحّر وما يفطر به.

ومنها : أن تكون مصدرا من طهر.

وكلّ هذه الاحتمالات ما عدا الاحتمال الأوّل فيما إذا قرأت بفتح الطاء.

وعلى كل الظاهر منها في هذا الحديث أن يكون إمّا مصدرا من طهر بضم الهاء ، ويكون بمعنى الطهارة ، فيكون معنى الحديث أنه لا تعاد الصلاة إلاّ من أشياء أحدها الطهارة. وإمّا اسم لما يتطهّر به ، ويكون معنى الحديث أنّه لا تعاد الصلاة الاّ من أشياء أحدها ما يتطهّر به - أي الماء أو التراب - فيكون كناية عن الطهارة الحاصلة عن أحدهما حسب المتفاهم العرفي. وهذا المعنى يناسب قوله علیه السلام « فاقد الطهورين لا

ص: 94

صلاة له » (1).

وعلى كلّ لا شكّ في أنّ الظاهر من هذه الكلمة هي الطهارة في الحديث الشريف ؛ لأنّها إن كانت مصدر الطهر بضم الهاء فهو مرادف للطهارة ، لأنّ كليهما مصدران لطهر بتنصيص أهل اللغة ، وإن كانت بمعنى ما يتطهّر به كالوضوء بفتح الواو فأيضا لا بدّ وأن يكون المراد منها هي الطهارة ؛ إذ لا معنى لإعادة الصلاة بواسطة السهو عن الماء والتراب إلاّ أن يكون المراد الطهارة الحاصلة منها ، فكأنّه قال علیه السلام : لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة أشياء أحدها الطهارة.

ثمَّ إنّ الطهارة وإن كانت أعمّ من الطهارة الحدثيّة والخبثيّة جميعا لكن الظاهر أنّ المراد منها في الحديث خصوص الطهارة الحدثيّة لأنّه لا شكّ في أنّ الحديث في مقام أهميّة هذه الخمسة التي ثلاثة منها من الشرائط واثنان منها من الأجزاء من بين سائر الأجزاء والشرائط ، فبتركها وإن كان سهوا لا تتحقّق الصلاة ولا توجد ، ومن هذه الجهة اصطلح الفقهاء على تسمية هذه الأمور ركنا ، وعرّفوا الركن بأنّه ما كان زيادته ونقيصته أو خصوص نقيصته سهوا وعمدا موجبا للبطلان. وحيث أنّه من مجموع الأخبار في الموارد المختلفة يفهم أهميّة الطهارة الحدثية حتّى اشتهر عنهم علیهم السلام أنّ فاقد الطهورين لا صلاة له ، وأيضا قوله علیه السلام « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) فمن باب مناسبة الحكم والموضوع وأهميّة الطهارة الحدثيّة في الصلاة يقطع الفقيه بأنّ المراد منها هي الطهارة الحدثية ، فالطهارة الخبثيّة للثوب والبدن داخلة في عقد المستثنى منه لا المستثنى ، فلو أخلّ بها سهوا ونسيانا لا يوجب الإعادة.

الثاني : « الوقت » ولا شكّ في أنّ المراد به هو الزمان الذي عيّن الشارع لكلّ واحدة من الفرائض الخمس ، وذلك الزمان لكلّ واحدة منها مذكور في الفقه في باب أوقات الفرائض الخمس ، وهي مشهورة معروفة عند أغلب المسلمين فلا حاجة إلى

ص: 95


1- لم نجد هذه الرواية في الكتب الأربعة ووسائل الشيعة ومستدرك الوسائل وبحار الأنوار.
2- تقدم تخريجه في ص 82 ، رقم (2).

ذكر تلك الأوقات وبيانها.

ومقتضى هذه الصحيحة أنّه لو أتى بها خارج الوقت مقدما عليه ، أو مؤخّرا عنه عمدا أو سهوا تكون صلواته باطلة.

ولكن وجوب القضاء في خارج الوقت الذي هو من المسلمات - بل الضروريّات - يدلّ على صحتها إذا أتى بعنوان القضاء لا الأداء ، ولكنّه لا شكّ في أنّه لو أتى بها بتمامها قبل الوقت تكون صلاته باطلة ، سواء أكان الإتيان بها قبل الوقت عمدا علما ، أو جهلا قصورا أو تقصيرا ، أو كان سهوا ونسيانا.

نعم لو دخل فيها قبل الوقت مع قيام الحجّة عنده على دخول الوقت ، ودخل الوقت قبل أن يفرغ عنها فالمشهور حكموا بالصحّة ، اعتمادا على رواية وردت بهذا المضمون ، وإلاّ فمقتضى هذه الصحيحة هو بطلانها ، لأنّ ظاهرها لزوم وقوع الصلاة بتمامها في الوقت ، فلو خرج شي ء منها عن الوقت - سواء كان المقدار الخارج قبل الوقت أو بعد الوقت - يكون داخلا في المستثنى لا في المستثنى منه.

ولكن إذا كان المقدار الخارج قبل الوقت مع قيام الحجّة عنده على دخول الوقت « فيدلّ » على صحّتها وعدم بطلانها رواية ابن أبي عمير ، عن إسماعيل بن رياح : « إذا صلّيت وأنت ترى أنّك في وقت ولم يدخل الوقت ، فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت عنك » (1).

والإشكال في الرواية بضعف إسماعيل بن رياح مع أنّ الراوي عنه محمّد بن أبي عمير لا وجه له ، والمشهور عملوا بها. وعلى كلّ تقدير الحكم بالصحّة بواسطة الدليل الخاصّ أعني هذه الرواية ، وإلا مقتضى الصحيحة بطلانها كما ذكرنا. وأمّا إذا كان

ص: 96


1- « الكافي » ج 3 ، ص 286 ، باب وقت الصلاة في يوم الغيم والريح. ، ح 11 ؛ « الفقيه » ج 1. ص 222 ، باب مواقيت الصلاة ، ح 667 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 35 ، ح 110 ، باب أوقات الصلاة وعلامة كلّ وقت منها ، ح 61 ؛ وص 141 ، ح 550 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة. ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3. ص 150 ، أبواب المواقيت ، باب 25 ، ح 1.

مقدار الخارج بعد الوقت فإن أدرك من الوقت مقدار ركعة كان كمن أدرك الوقت جميعا ، وهذا أيضا بالأدلّة الخاصّة الواردة في هذا المقام ، وإلاّ فمقتضى عقد المستثنى لزوم إعادتها وإن كان إتيانها في خارج الوقت سهوا إن كان بعنوان الأداء. وتفصيل المسألة في الفقه في باب أوقات الفرائض.

الثالث : « القبلة » وهي معلومة معروفة عند جميع المسلمين ، حتّى صار أهل القبلة عنوانا لهم ، وهي عبارة عمّا أمر اللّه تعالى بتولية الوجه إليها في الصلاة بقوله تعالى ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) أي المسجد الحرام.

نعم وقع الخلاف في أنّها للبعيد عن الكعبة أو سمتها وجانبها؟ وعلى أيّ التقادير وأيّ قول اخترناه يكون مفاد عقد المستثنى بطلان الصلاة لو وقعت إلى غير القبلة وإن كان سهوا ونسيانا.

نعم - كما قلنا في الوقت - هناك أدلّة خاصّة تدلّ في بعض الصور والفروض على صحّة الصلاة وإن وقعت إلى غير القبلة من باب تخصيص الحديث أو الحكومة بالتوسعة فيها تعبّدا ، كقوله علیه السلام : « ما بين المشرق والمغرب كلّه قبلة » (2) ومعلوم أنّ مقتضى عقد المستثنى كان لزوم الإعادة إذا صلّى سهوا أو نسيانا إلى غير القبلة ، لكن هذه الرواية حاكمة على عقد المستثنى ؛ لأنّ مفادها توسعة القبلة إلى ما بين المشرق والمغرب ، كما أنّه في الثاني من الخمسة التي مذكورة في عقد المستثنى - أو الوقت - أيضا قوله علیه السلام : « من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت فقد أدرك الوقت » (3) يكون حاكما على عقد المستثنى بسبب توسعة في الوقت تعبّدا.

ولا يخفى أنّ التوجّه إلى القبلة حيث أنّه شرط في جميع حالات الصلاة

ص: 97


1- البقرة (2) : 150.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 278 ، باب القبلة ، ح 855 ، « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 217 ، أبواب القبلة ، باب 12 ، ح 9.
3- « الاستبصار » ج 1 ، ص 275 ، ح 999 ، باب وقت صلاة الفجر ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 158 ، أبواب المواقيت ، باب 30 ، ح 4.

والاشتغال بها من أوّل الدخول فيها إلى آخرها ، فإذا خرج جزء صغير منها عن القبلة ولم يأت به إليها تكون الصلاة فاقدة لهذا الشرط ، وتكون داخلة في عقد المستثنى لا المستثنى منه. فلا فرق بين خروجها بتمامها عن القبلة وبين خروج مقدار منها عنه وان كان ذلك المقدار يسيرا.

الرابع : « الركوع » والخامس « السجود » وهما من مقولة الوضع ، وكلّ واحد منهما عبارة عن هيئة خاصّة حاصلة لجسم الإنسان من نسبة أجزاء جسمه بعضها إلى بعض ومجموعها إلى الخارج ، فيكونان كالقيام والقعود والانبطاح والاستلقاء ، فهذه كلّها أوضاع للجسم الإنساني.

وهذه المفاهيم كلّها مفاهيم عرفيّة ، يحمل ما يفهم العرف منها ، إلاّ إذا أتى دليل على أنّ الشارع تصرّف فيها في عالم موضوعيّتها لأحكامه بالزيادة أو النقيصة ممّا يفهمه العرف ، وأمّا إذا أطلق فيحمل على ذلك المعنى العرفي. فالركوع عند العرف له مصاديق بل مراتب ، فمن أوّل خفض الرأس من أوّل مرتبة من انحناء البدن إلى الانحناء والنفوس التامّ يسمّى عند العرف بالركوع ، فإن أطلق الشارع في حكمه عليه وقال مثلا : « اركع في كل ركعة من صلاتك » فإذا أتى بأيّ مصداق من مصاديقه العرفيّة وأيّة مرتبة من مراتبه فقد امتثل ، ما لم يكن انصراف أو قرينة على إرادة أحد المصاديق أو المراتب بالخصوص.

نعم إذا جاء تحديد من قبل الشارع في عالم موضوعيّته لحكمه ، فلا بدّ من أن ينظر إلى مقدار دلالة ذلك الدليل.

وقد وقع الخلاف في ما يستفاد من أدلّة تحديد الركوع.

فقال بعضهم : إنّه عبارة عن الانحناء إلى حدّ تصل يداه إلى ركبتيه وصولا لو أراد وضع شي ء منهما عليهما لوضعه.

وفي المنتهى : ويجب فيه الانحناء بلا خلاف ، وقدره أن تكون بحيث تبلغ يداه إلى

ص: 98

ركبتيه ، وهو قول أهل العلم كافّة إلاّ أبا حنيفة (1).

وقال في التذكرة : ويجب فيه الانحناء إلى أن تبلغ راحتاه إلى ركبتيه إجماعا ، إلاّ من أبي حنيفة ، انتهى (2).

والظاهر من العبارة التي في المنتهى - كما هو الصريح فيما حكينا عن التذكرة - ادّعاء الإجماع على هذا التحديد من العامّة والخاصّة ما عدا أبي حنيفة ، والظاهر أنّ أبي حنيفة في قوله : « بأنّ الركوع عبارة عن مطلق الانحناء » ناظر إلى مفهومه العرفي.

وبعضهم اعتبر الوضع الفعلي للكفّين على الركبتين.

وبعضهم اكتفى بإمكان وصول أطراف الأصابع إلى الركبتين. ومنشأ اختلاف تفاسيرهم اختلاف تعابير الأخبار.

وعلى كلّ حال لسنا في مقام تحقيق هذه المسألة الفقهيّة - وإن كان الأقرب بنظري ممّا يستفاد من الأخبار بلوغ الانحناء إلى حدّ وصول أطراف الأصابع إلى الركبتين ؛ لصحيحة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام : « فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحبّ إليّ أن تمكّن كفّيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة وتفرّج بينها » (3) وأخبار أخر بهذا المضمون - بل المقصود ما هو المراد من الركوع في عقد المستثنى؟

فنقول : إنّ الظاهر المراد أنّه إذا وقع خلل في الصلاة من ناحية الركوع فتجب الإعادة سواء أكان بالنقيصة أو بالزيادة ، فلو فات منه الركوع وصلّى بلا ركوع في جميع الركعات ، أو في بعضها يجب عليه الإعادة ، لا كلام في ذلك.

ص: 99


1- « منتهى المطلب » ج 1 ، ص 281.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 118.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 335 ، باب القيام والقعود في الصلاة ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 83 ، ح 308 ، باب كيفية الصلاة وصفتها ، ح 76 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 675 ، أبواب أفعال الصلاة ، باب 1 ، ح 3.
وإنما الكلام في جهات أخر :

منها : أنّه هل وجوب الإعادة فيما إذا ترك الركوع بجميع مراتبها بحيث لم يأت به أصلا ، أو فيما إذا لم يأت بالمرتبة الكاملة وإن أتى بسائر المراتب؟

والصحيح هو أنّه وجوب الإعادة يكون فيما إذا لم يأت بما حدّده الشارع وإن أتى بما دون ذلك من المراتب ؛ لأنّ الحكم الشرعي إذا كان موضوعه الركوع فيكون ثبوت ذلك الحكم في ظرف وجود ما يراه الشارع ركوعا ، لا ما يراه العرف ركوعا.

نعم لو لم يكن تصرّف من قبل الشارع ، بمعنى أنّه لم يكن تحديد من قبل الشارع لكان حينئذ المرجع في تعيين الموضوع هو العرف ، لكن الأمر ليس كذلك ، فإنّ الشارع حدّد الركوع المعتبر في الصلاة ، فإذا ركع في صلاته ولم يصل إلى حدّ الذي حدّده الشارع به فيصدق أنّه فات منه الركوع وإن أتى به ببعض مراتب المعني العرفي ، ولكن ذلك لا يفيد ؛ لأنّه ليس موضوعا للحكم الشرعي ، فيدخل في المستثنى مع صدق الركوع العرفي على ما أتى به ، فتجب عليه الإعادة.

ثمَّ إنّه مقتضى هذا الحديث لزوم إعادة الصلاة عند عدم الإتيان وفوته وعدم إمكان تداركه في نفس الصلاة ، ومقتضى القاعدة الأوليّة صدق الفوت بعدم الإتيان به في محلّه الذي عيّن الشارع له ، فلو تجاوز عن ذلك المحلّ ولم يأت به يصدق أنّه فات منه ، إلاّ أنّ الشارع تصرّف في المستفاد عرفا عن مفهوم تجاوز المحلّ ، وفرّق في إمكان التدارك بين احتمال عدم الإتيان والقطع به في أجزاء الصلاة ، فجعل محلّ تدارك احتمال العدم عدم المضي عن الشي ء والتجاوز عنه أو عدم الدخول في غيره ، ومحلّ تدارك القطع بالعدم عدم الدخول في الركن الذي بعده.

وبعبارة أخرى : محلّ التجاوز في الجزء المنسي وعدم إمكان التدارك - بعد ما التفت إلى نسيانه وعدم الإتيان به قطعا سواء أكان ذلك الجزء المنسي ركنا أو لم يكن بركن - هو الدخول في الركن الذي بعده ؛ لأنّه ان لم يدخل فيه فيرجع ويعيد ولا يلزم

ص: 100

محذور.

أمّا إن كان غير ركن ، كما لو نسي فاتحة الكتاب وتذكر قبل أن يدخل في الركوع بعد قراءة السورة أو بعد القنوت في الركعة الثانية مثلا فيرجع ويتدارك ، ثمَّ يأتي بما بعدها ؛ كلّ ذلك امتثالا لأوامرها المتعلّقة بالأجزاء والشرائط.

ولا يتوهّم أنّه يلزم زيادة بعض الأجزاء غير الركني إذا أتى بما بعد المنسي ممّا أتى بها قبلا في حال نسيان فاتحة الكتاب في المفروض ، ويلزم النقيصة إن لم يأت بها ثانيا ؛ لوقوع ما أتى بها قبلا في غير محلّها.

لأنّه يجب عليه أن يأتي بها ثانيا ولا يلزم محذور أصلا ؛ لأنّ الإتيان بها ثانيا بواسطة بقاء أمرها وعدم سقوطه بالإتيان السابق لعدم إتيانها في محالّها ، فلم يحصل الامتثال ، ولم يسقط الأمر ، فيجب أن يأتي بها ثانيا. وأمّا ما أتى بها أوّلا فلا يضرّ زيادتها ؛ لأنّها زيادة سهويّة ومشمول للعقد المستثنى منه ، فالتدارك لا يوجب الإعادة فلم يفت منه شي ء.

وأما بعد الدخول في الركن فيلزم أحد المحذورين : أمّا نقيصة الركن إن لم يأت به بعد تدارك المنسي ، ومعلوم أنّه يوجب البطلان ، أو زيادته إن أتى به ثانيا. ولا يمكن أن يقال في هذا الفرض ما قلنا في الفرض الأوّل أنّ ما أتى به زيادة سهويّة فيشمله الحديث ولا يجب الإعادة ؛ لأنّ المفروض أنّ ما أتى به أوّلا ركن فداخل في عقد المستثنى لا المستثنى منه ، فعلى كلا التقديرين تبطل الصلاة.

وهكذا الكلام فيما إذا كان الجزء المنسي ركنا ، فلو تذكر قبل الدخول في الركن الذي بعده يأتي بالركن المنسي ، فلو نسي السجدتين من الركعة الثانية وتذكر قبل أن يدخل في ركوع الركعة الثالثة يأتي بهما وبما بعدهما ، ولا يلزم محذور كما عرفت في الجزء غير الركني حرفا بحرف.

وأمّا إن تذكر بعد الدخول في الركن الذي بعده ، كما أنّه في المثال المذكور لو تذكر

ص: 101

نسيان السجدتين من الركعة الثانية بعد الدخول في ركوع الركعة الثالثة ، فتدارك السجدتين موجب للبطلان على كلّ حال ؛ لأنّه إن لم يأت بركوع الركعة الثالثة بعد إتيانه بالسجدتين فيكون من نقيصة الركن ؛ لأنّ ما أتى به كان في غير محله فهو في حكم العدم. وإن أتى به يكون من زيادة الركن ، وزيادة الركن ولو كان سهوا موجب للبطلان كما عرفت.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ نسيان الجزء ، ركنا كان أو غيره يكون مشمولا لحديث « لا تعاد » بالدخول في ركن آخر ، غاية الأمر إن كان الجزء المنسي ركنا يكون داخلا في المستثنى ، وإن كان غير ركن يكون داخلا في المستثنى منه.

وأمّا نسيان الجزء مطلقا - ركنا أو غير ركن مع عدم الدخول في الركن الذي بعده - فليس مشمولا لحديث « لا تعاد » بل يجب تداركه ، وليس بداخل في المستثنى منه إن كان غير ركن حتّى لا يوجب الإعادة ولا يجب تداركه ، ولا في عقد المستثنى إن كان ركنا حتّى توجب الإعادة. نعم بعد تجاوز المحلّ أي الدخول في الركن الذي بعده لا يمكن التدارك ، فإن كان ركنا يكون داخلا في المستثنى وتجب الإعادة ، وإن كان غير ركن لا تجب الإعادة بل لا يجب شي ء أصلا ، ووجوب القضاء أو سجدة السهو لنسيان بعض الأجزاء شي ء آخر بدليل آخر.

والحاصل : أنّ الركوع والسجود وإن كانا من الخمسة المستثناة ولكن لا يشملها عقد المستثنى إذا نسي المصلّي عنهما ، إلاّ إذا كان تذكره لنسيانهما بعد الصلاة أو بعد الدخول في الركن المتأخر عنهما.

ثمَّ لا يخفى أنّه لو كان المنسي هو الركوع فالدخول في الركن المتأخّر عنه الذي هو عبارة عن السجدتين ليس بالدخول في السجدة الأولى ؛ لأنّ المحذور الذي ذكرناه لا يلزم في هذا الفرض ، والمحذور كان عبارة عن أحد أمرين : إمّا نقيصة الركن عمدا ، أو زيادته سهوا. وكلاهما موجب للبطلان ؛ لأنّ السجدة الواحدة لا زيادتها زيادة

ص: 102

الركن ، ولا نقيصتها نقيصة الركن ، فلا يحصل الدخول في الركن إلاّ بالدخول في السجدة الثانية ، فحينئذ يكون التدارك مستلزما لأحد المحذورين.

ومنها : أنّ كون الركوع والسجود من الخمسة المستثناة باعتبار نفس الركوع والسجود وحقيقتهما وماهيّتهما ، وأمّا شرائطهما - والواجبات التي فيهما الخارجة عن حقيقتهما وماهيّتها - فهي داخلة في المستثنى منه كسائر الأجزاء والشرائط للصلاة ؛ وذلك من جهة أنّ الحكم في جانب عقد المستثنى على نفس هذه العناوين الخمسة ، فلا يشمل ما هو خارج عن حقيقتهما إلاّ بدليل خاصّ آخر.

وأمّا عقد المستثنى منه فهو عامّ يشمل كلّ ما هو من أجزاء الصلاة أو شرائطها إذا لم يكن من هذه الخمسة ، فواجبات الركوع أو السجود والشرائط التي لهما ما لم يكن لها دخل في تحقّق حقيقتهما تكون خارجة عن عقد المستثنى وداخلة في عقد المستثنى منه.

مثلا لو قلنا بأنّ وضع الكفّين على الركبتين واجب في الركوع وليس من محقّقاته ومتمّماته ، فإذا نسي المصلي ولم يضع كفه على ركبتيه فلا تجب عليه الإعادة بحكم « لا تعاد » وكذلك الأمر في سائر الواجبات ، كالذكر الواجب ، والطمأنينة ، بل ورفع الرأس ، والانتصاب بعده.

وكذلك الأمر في السجود ، فما هو محقّق لحقيقة السجدة كوضع الجبهة مثلا حاله في الركنيّة حال أصل السجود ؛ لأنّ السجود كما بيّنّا عبارة عن الهيئة الحاصلة لجسم الإنسان بواسطة نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ونسبة المجموع إلى الخارج ، فإذا لم يكن بذلك الوضع الخاصّ لا يتحقّق السجود.

وأمّا سائر واجباته التي ليست داخلة في حقيقة السجدة كوضع اليدين والركبتين وأنامل إبهامي الرجلين فهي أمور واجبة في حال السجود ، وهي خارجة عن حقيقته وليست بركن.

ص: 103

وصرّح بذلك السيد الطباطبائي بحر العلوم قدس سره في منظومته :

وواجب السجود وضع الجبهة *** وأنّه الركن بغير شبهة

ووضعه للستّة الأطراف *** فإنّه فرض بلا خلاف (1)

ولا يخفى أنّ في قوله : « وواجب السجود وضع الجبهة » نحو تسامح ، حيث يظهر منه عدم وجوب باقي السبعة. وعلى كلّ حال فمثل الذكر الواجب فيه والطمأنينة والجلوس بعده مطمئنا كلّها لو نسيها المصلّي تكون داخلة في عقد المستثنى منه لا المستثنى ، فلا تجب الإعادة بتركها سهوا ونسيانا ، وقد عرفت وجهه.

[ الجهة ] الثانية : في أنّ الظاهر من عقد المستثنى انحصار الأركان في هذه الخمسة ، وأنّها فقط هي التي توجب تركها أو زيادتها - وإن كان سهوا - الإعادة.

ولكن هناك أركان أخر وهي من المسلّمات عند الفقهاء ، وهي النيّة ، وتكبيرة الإحرام ، والقيام حالها ، والقيام المتّصل بالركوع ؛ فهذه الأربعة أيضا عندهم أركان يوجب الإخلال بها الإعادة ولو كان سهوا ، فيكون الدليل الدالّ على ركنيّة هذه الأربعة مخصّصا آخر - مثل استثناء الخمسة - لعموم عقد المستثنى منه ؛ لأنّ مفاد العموم - كما - تقدّم - عدم وجوب الإعادة بوقوع الإخلال سهوا من ناحية جميع أجزاء الصلاة وشرائطها ، وكما خصّص هذا العموم بواسطة استثناء الخمسة بما عداها ، كذلك خصّص بواسطة تلك الأدلّة الدالّة على ركنيّة هذه الأربعة بما عداها ، فالخارج عن تحت عموم المستثنى منه تسعة لا خمسة : الخمسة المستثناة وهذه الأربعة ، فخروج هذه الأربعة بدليل خاصّ ومخصّص آخر ، كما هو الشأن في أغلب العمومات حيث ترد عليها مخصّصات متعدّدة.

مع أنّه يمكن أن يقال بالنسبة إلى القيام المتّصل بالركوع لا يحتاج إثبات وجوب الإعادة بتركه مطلقا - ولو كان سهوا - إلى دليل منفصل ؛ لأنّ تركه ولو كان سهوا

ص: 104


1- « الدرّة النجفيّة » ص 126.

موجب لترك الركوع ؛ لما قيل من أنّ حقيقة الركوع عبارة عن الانحناء عن القيام ، وبعبارة أخرى : الهوى من القيام إلى حدّ الركوع داخل في حقيقة الركوع ، فعدم القيام ملازم مع عدم الركوع.

ولكن قد عرفت أنّ الركوع والسجود هما هيئتان حاصلتان للجسم بواسطة الوضع الخاصّ ، كالقيام والقعود ، فالهوى من القيام واجب آخر ويكون من مقدّمات الركوع وليس داخلا في حقيقته ، فلو دلّ دليل على أنّ القيام المتّصل بالركوع ركن فهو ، وإلاّ فالاستثناء في الحديث لا يشمله.

فالحقّ في المقام أن يقال : بأنّ أركان الصلاة - أي الأجزاء والشرائط التي تكون تركها سهوا أيضا توجب بطلان الصلاة - تسعه ، خمسة منها هي الخمسة المستثناة في هذا الحديث ، وأربعة منها وهي النية وتكبيرة الإحرام والقيام حال التكبيرة والقيام المتصل بالركوع ، تستفاد ركنيّتها من أدلّة أخرى.

[ الجهة ] الثالثة : فيما إذا كان المنسي هو الركوع ، فدخل في السجدة الثانية فلا شكّ في أنّه إذا تذكر بعد الدخول في السجدة الثانية فتجاوز عن محلّ التدارك ولا يمكن تداركه ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين : إمّا زيادة الركن إن أتى بالسجدتين بعد تدارك الركوع ، وإمّا نقيصته إن لم يأت بهما ؛ لأنّ إتيانهما قبل تدارك الركوع حيث كان في غير محلّه كان لغوا وبلا فائدة.

وأمّا لو تذكر قبل أن يدخل في السجدة الثانية فمحلّ التدارك باق وإن تمّت السجدة الأولى ؛ وذلك لعدم محذور في أن يتدارك الركوع ثمَّ يأتي بالسجدتين ، ولا يلزم منه إلاّ زيادة سجدة واحدة ولا يضرّ ذلك ؛ لعدم كون السجدة الواحدة ركنا ، وإن كان ظاهر الاستثناء ركنيّتها ؛ وذلك من جهة حكومة لا تعاد الصغير ، أعني قوله علیه السلام في خبر منصور بن حازم ، عن الصادق علیه السلام في رجل استيقن أنّه زاد سجدة ،

ص: 105

قال علیه السلام : « لا يعيد الصلاة من سجدة ، ويعيدها من ركعة » (1) فيقيّد لا يعيد عن السجدة الواحدة - الذي في هذا الخبر وجوب الإعادة عن السجود الذي هو مستفاد من الاستثناء في الحديث - بغير السجدة الواحدة ، أي يكون المراد ممّا في الاستثناء وجوب الإعادة عن السجدتين لا السجدة الواحدة.

وسمّي هذا الخبر ب- « لا تعاد الصغير » لأنّ الحكم بعدم وجوب الإعادة فيه مخصوص بالخلل في السجدة الواحدة ولا يشمل غيرها ، بخلاف « لا تعاد الكبير » فإنّ الحكم بعدم وجوب الإعادة عامّ يشمل جميع أجزاء الصلاة وشرائطها بل وموانعها ، ما عدا الخمسة المستثناة.

وربّما يقال : بأنّ مورد هذا الخبر ومفاده عدم وجوب الإعادة عن نسيان سجدة واحدة فيما إذا كان نفس السجدة الواحدة متعلّقة للسهو والنسيان ابتداء ، لا أنّ السهو تعلّق بشي ء آخر ابتداء وأوّلا بالذات كما في المقام ، فإنّ المفروض أنّ المصلّي سها عن الركوع ابتداء ، وأتى بالسجدة الواحدة عمدا واختيارا ، فإذا قلنا أتى بها سهوا ونسيانا في غير محلّه يكون معناه أنّ إتيانه بها في غير محلّها الذي هو عبارة عن لزوم كونها بعد الركوع بواسطة نسيان الركوع ، فإسناد السهو والنسيان إلى السجدة في المفروض من قبيل الوصف بحال متعلّق الموصوف ويكون إسنادا مجازيّا فلا يشمله الخبر الذي نسمّيه ب- « لا تعاد الصغير » حتّى يكون حاكما أو مخصّصا للعموم الذي يستفاد من المستثنى في « لا تعاد الكبير » فبناء على هذا تجب الإعادة في المفروض كما ذهب إليها المشهور.

وفيه : أنّ سهو الركوع في المفروض من قبيل الواسطة في الثبوت لا الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ سهو الركوع صار سببا لنسيان محلّ السجدة ؛ لأنّ محلّها بعد الركوع ، وحيث أنّه غافل عن إتيان الركوع ، أو تخيّل إتيانه فيتخيّل أنّه محلّ إتيان

ص: 106


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 346 ، باب أحكام السهو والشكّ ، ح 1009 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 156 ، ح 610 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 68 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 983 ، أبواب الركوع ، باب 14 ، ح 2.

السجدة ، وهذا هو السهو والنسيان عن محلّ السجدة حقيقة وواقعا. نعم ذات السجدة في هذا الفرض ليست منسيّة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ رواية منصور بن حازم ظاهرها أن تكون ذات السجدة منسيّة لا محلّها ، فيكون فتوى المشهور بلزوم الإعادة في محلّها فتأمّل.

[ الجهة ] الرابعة : وقع الخلاف في أنّه لو سجد على أرض نجسة نسيانا وسهوا ، هل تجب عليه إعادة الصلاة لعدم إتيانه بالسجدة الصحيحة لأنّها مشروطة بطهارة محلّها ، أو لا تجب لأنّ طهارة المحلّ من شرائط صحة السجدة وليست من مقوّماتها ، فليست داخلة في المستثنى ، فيشملها عموم المستثنى منه؟

والأظهر عدم وجوب الإعادة بناء على كون المراد من الطهور في عقد المستثنى هي الطهارة الحدثيّة ، لا الأعمّ منها ومن الطهارة الخبثيّة ؛ إذ حينئذ تكون طهارة محلّ السجدة من شرائط الركن الذي هو عبارة في المقام عن السجدتين ، وحال شرائط الركن حال شرائط نفس الصلاة التي تقدّم أنّها داخلة في عموم المستثنى منه في الحديث ما لم تكن من الخمسة ، فلا تجب إعادة الصلاة.

وإن شئت قلت : إنّ شرائط الأركان على قسمين : ركنيّ ، بمعنى أنّ بتركها ينعدم الركن ، إذ هي من مقوّمات الركن ، أو جاء الدليل على بطلان ذلك الركن بترك ذلك الشرط. وقسم آخر : غير ركنيّ ، فلا ينعدم الركن بانعدامه.

والقسم الأوّل حيث أنّ الخلل فيه موجب لوقوع الخلل في نفس الركن ، فلا يكون مشمولا لعموم المستثنى منه في الحديث.

وأمّا القسم الثاني فلا مانع من شمول العقد المستثنى منه له ؛ إذا ليس داخلا في المستثنى ولا من مقوّمات ما هو داخل في المستثنى ، فلا مانع من شمول المستثنى منه له.

وما نحن فيه - أي طهارة محلّ السجدة - من القسم الثاني ، وهذا أمر واضح.

[ الجهة ] الخامسة : في ذكر بعض الفروعات ، والموارد التي ينطبق الحديث عليها

ص: 107

بحسب عقد المستثنى منه أو المستثنى ، واستخراج حكمها منه.

فنقول : بعد ما عرفت أنّ مفاد الحديث هو عدم وجوب الإعادة بوقوع خلل فيها من ناحية جميع الأجزاء والشرائط والموانع سهوا ، ما لم يكن من الخمسة المذكورة في المستثنى ، ووجوب الإعادة بوقوع الخلل من ناحية تلك الخمسة وإن كان الخلل بالزيادة أو النقيصة سهوا ، أنّ :

ها هنا فروع كثيرة نذكر جملة منها

اشارة

الأوّل : أنّ الخلل العمدي وان كان بسبب عدم إخراج حرف من مخرجها ، بحيث يكون الخارج حرفا آخر في نظر عرف العرب ، مثل أن ينطق بالضاد زاء أو ذالا أو ظاء ، أو كان بتبديل حركة من الأعاريب إلى غيرها ولم يكن على طبقها قراءة من القراءات السبعة.

كلّ ذلك في قراءة فاتحة الكتاب ، بل وفي قراءة السورة الواجبة ، بل في الأذكار الواجبة يكون مبطلا.

وذلك من جهة أنّ امتثال المركّب بإتيانه بجميع أجزائه وشرائطه تامّة كاملة كما أخذت فيه ، فإن وقع إخلال عمدي في بعض تلك الأجزاء أو الشرائط - سواء كانت شرائط نفس الصلاة ، أو شرائط أجزائها ، أو شرائط شرائطها - فلا يقع الامتثال ، وتجب الإعادة بمقتضى أدلّة اعتبار تلك الأجزاء والشرائط.

وحديث « لا تعاد » تقدّم أنّه لا يشمل الإخلال العمدي ، بل قلنا أنّه لا يعقل أن يشمل بعد الفراغ عن كونها أجزاء وشرائط. ولا فرق في البطلان بين أن يكون إخلال العمدي بالنسبة إلى الأركان ، أو كان بالنسبة إلى غيرها.

الثاني : إذا ترك جزء من الصلاة ، أو أتى به بوجه غير صحيح لوجود خلل فيه ، وإن كان الخلل بسبب عدم خروج حروف ذلك الجزء من مخارجها إذا كان ذلك

ص: 108

الجزء قراءة أو ذكرا واجبا ، أو كان الخلل بسبب لحن في الأعاريب - أي الحركات والسكنات - فيما إذا كانت خارجة عن موازين اللغة العربيّة ، أو ترك شرطا من شرائط الصلاة ، أو شرائط أجزائها ، أو شرائط شروطها على أنواعها وأقسامها ، سواء كانت الأجزاء والشرائط ركنا كالأركان التسعة - أي الخمسة المستثناة في الحديث مع النية ، وتكبيرة الإحرام ، والقيام حالهما ، والقيام المتّصل بالركوع - أو أتى بمانع من الموانع ، كأن صلّى في الذهب أو الحرير أو غير المأكول جهلا بالحكم قصورا أو تقصيرا ، على كلام تقدّم في الجاهل القاصر ، ففي جميع ذلك تبطل الصلاة وتجب الإعادة.

وأيضا لا فرق في البطلان بالإخلال جهلا بالحكم قصورا أو تقصيرا بين أن يكون الإخلال بالزيادة أو كان بالنقيصة ؛ ووجه ذلك أنّ حديث « لا تعاد » لا تشمل موارد الجهل بالحكم بكلا قسميه ، على كلام في الجهل قصورا وقد تقدّم جميع ذلك.

ومقتضى أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع وجوب الإعادة بفقد أيّ جزء أو شرط ، وبوجود أيّ مانع. وحيث أنّ الجهل ليس مانعا عن توجّه الخطاب ، بل هو مانع عن تنجّزه إذا كان بعد الفحص أو كان عن قصور ، وإلاّ فليس بمانع حتّى عن التنجز واستحقاق العقاب على مخالفة الواقع وإن كان جاهلا ، فتجب الإعادة.

نعم إذا جاء دليل خاصّ أو عامّ على الأجزاء ، وعدم وجوب الإعادة فيما إذا وقع الإخلال جهلا بالحكم قصورا أو تقصيرا بنحو يكون حاكما أو مخصصا يؤخذ به ، والمفروض أنّ حديث « لا تعاد » لا يشمل صورة الجهل لما ذكرنا مفصلا وليس هناك دليل آخر إلاّ في بعض الموارد ، كباب الجهر والإخفات والإتمام في موضع القصر ، وكذلك في بعض الأجزاء والشرائط في الحجّ ممّا هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

الثالث : لو أخلّ بالصلاة سهوا ونسيانا فالإخلال إمّا بالزيادة أو بالنقيصة ، وكلّ واحدة منهما إمّا في الأجزاء والشرائط الركنيّة وإمّا في غيرها مما ليس بركن.

ص: 109

فإن كان بالنقيصة وكان من الأجزاء أو الشرائط الركنيّة فإمّا أن يلتفت إلى سهوه بعد الفراغ من الصلاة وإتيان المنافي فتجب عليه الإعادة قطعا بمقتضى الأدلّة الأوّليّة التي يبيّن الأجزاء والشرائط ، وبالنسبة إلى الخمسة المذكورة في المستثنى نفس عقد المستثنى يدلّ على وجوب الإعادة ، مضافا إلى أدلّة الأجزاء والشرائط.

هذا إذا كان التفاته إلى جزئيّة المسهو أو شرطيّته بعد الفراغ عن الصلاة.

وأمّا إن كان التفاته في أثناء الصلاة فإن لم يتجاوز محلّ المنسي يأتي به بعد الالتفات وبالإجزاء التي بعده وكان قد أتى بها نسيانا ، فلا شي ء عليه ، لما ذكرنا مفصّلا. وأمّا إن كان تجاوز المحلّ بدخوله في الركن الذي بعد المنسي ، فيكون حاله حال الالتفات إليه بعد الصلاة فتجب عليه الإعادة لأنّه لا يمكن التدارك ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين : إمّا نقص الركن ، وإمّا زيادته ، وكلاهما مبطلان.

فبناء على هذا لو نسي النيّة بناء على إمكان نسيانها حتّى كبّر تكبيرة الإحرام. فالتفت إلى نسيانها بعد تكبيرة الإحرام يجب عليه الإعادة ؛ لأنّ التدارك لا يمكن للزوم أحد المحذورين.

وكذلك لو نسي التكبيرة حتّى دخل في الركوع يجب عليه الإعادة أيضا لعين ما ذكرنا.

وكذلك يجب عليه الإعادة لو نسي القيام حال التكبيرة بناء على كونه ركنا ؛ لعين ما ذكرنا لأنّ تداركه مستلزم لزيادة التكبيرة.

ولا يخفي أنّ نسيان تكبيرة الإحرام والنيّة يرجع إلى عدم دخوله في الصلاة ، فعلى فرض إمكان نسيان النيّة - بناء على أنّها عبارة عن الخطور بالبال - لو نسي النية فلم تنعقد الصلاة ؛ لأنّه لا فرق بين الصلاة وبين سائر الحركات اللغويّة والألعاب إلاّ بها.

وأمّا بالنسبة إلى التكبيرة فلقول الصادق علیه السلام في رجل سها خلف الإمام ، فلم

ص: 110

يفتتح الصلاة قال علیه السلام : « يعيد الصلاة ولا صلاة بغير افتتاح » (1).

وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ النيّة ركن من أركان الصلاة ، فإن أمكن وقوع السهو فيها فتجب الإعادة ، ولا تشملها عقد المستثنى منه من حديث « لا تعاد » لأنّها وإن لم تكن مذكورة في عقد المستثنى إلاّ أنّها داخلة حكما ؛ للأدلّة الدالّة على ركنيّتها ، فتخصّص تلك الأدلّة عقد المستثنى منه كالاستثناء.

وكذلك تكبيرة الافتتاح وإن لم تكن مذكورة في الحديث في عقد المستثنى إلاّ أنّ أدلّة ركنيّتها تجعلها بحكم المستثنى في تخصيصها لعقد المستثنى منه.

والحاصل أنّه لو نسي النيّة والتكبيرة يجب عليه استئناف الصلاة متى تذكر ، سواء دخل في الركن الذي بعدهما أي الركوع أم لا ، والقيام حال التكبيرة بحكم التكبيرة ، وأمّا القيام حال النيّة فتابع للقول بركنيّته وعدمه.

وأمّا لو نسي الركوع قبل تجاوز المحلّ - أي قبل الدخول في السجدة الثانية - فيرجع ويأتي به وبما بعده ؛ لما ذكرنا من عدم لزوم محذور في البين. وإن نسيه بعد تجاوز محلّه - وبيّنّا أنّ تجاوز محلّه بدخول السجدة الثانية لما ذكرنا من أنّ زيادة سجدة واحدة سهوا لا توجب الإعادة ، كما تدلّ عليه رواية منصور بن حازم ، فإنّ فيها قول الصادق علیه السلام : « لا يعيد الصلاة من سجدة ويعيدها من ركعة » (2) فلا يلزم محذور من تدارك الركوع ما لم يدخل في السجدة الثانية وإن أتمّ السجدة الأولى ورفع رأسه عنها واستقرّ.

وعلى كلّ حال فلو تذكر نسيان الركوع بعد تجاوز محلّه الذي لا يمكن تداركه فيجب عليه الإعادة ، كما أنّه لو تذكر بعد الصلاة. والمناط فيهما واحد وهو عدم إمكان التدارك في الصورتين.

ص: 111


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 353 ، ح 1466 ، باب أحكام السهو ، ح 54 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 716 ، أبواب تكبيرة الإحرام ، باب 2 ، ح 7.
2- تقدّم تخريجه في ص 106.
نعم ها هنا روايات :

منها : صحيح ابن مسلم يدلّ على عدم بطلان الصلاة بترك الركوع نسيانا ولو تذكر بعد تجاوز المحلّ أي بعد الفراغ عن السجدتين ، والصحيح هو المروي عن أحدهما علیهماالسلام في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع قال علیه السلام : « فإن استيقن فليلق السجدتين اللتين لا ركعة لهما فيبني على صلاته على التمام ، وإن كان لم يستيقن إلاّ بعد ما فرغ وانصرف فليقم وليصلّ ركعة وسجدتين ولا شي ء عليه » (1).

ومن جهة اختلاف الأخبار نشأت في المسألة أقوال وتفاصيل مذكورة في الكتب الفقهيّة لا حاجة إلى ذكرها بعد ما عرفت أنّ حديث « لا تعاد » وأخبار أخر تدلّ على وجوب الإعادة ، وقد عمل بها الأصحاب ، وعليه فتوى المشهور ؛ فالصحيح هو ما ذكرنا من التدارك بإتيان الركوع وما بعده ممّا أتى به لو لم يدخل في السجدة الثانية وإن كان أتمّ السجدة الأولى. وأمّا إن كان تذكره بعد الفراغ من الصلاة ، أو بعد تجاوز المحلّ بأن يكون دخل في السجدة الثانية فيجب عليه الإعادة.

وأمّا لو كان المنسي قيام المتّصل بالركوع - وقد عرفت أنّه ركن - وحيث أنّه لا يمكن تداركه إلاّ بإتيان الركوع ثانيا ، وإلاّ لا يكون قيام المتّصل بالركوع فيكون مبطلا مطلقا ، سواء تذكر قبل تجاوز محلّ تدارك الركوع - أي قبل الدخول في السجدة الثانية - أو بعده ، أو بعد الفراغ عن الصلاة ؛ لأنّه في جميع الأحوال تداركه مستلزم لزيادة الركن أي الركوع.

ولا يخفي أنّ في جميع موارد إمكان تدارك ما فات سهوا إذا كان مستلزما للزيادة السهويّة يجب سجدة السهو لكل زيادة.

هذا كلّه في نسيان الركوع ، أو القيام المتّصل بالركوع.

ص: 112


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 149 ، ح 585 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 43 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 356 ، ح 1348 ، باب من نسي الركوع ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 934 ، أبواب الركوع ، باب 11 ، ح 2.

وأمّا لو نسي السجدتين فإمّا أن يكون تذكره بعد تجاوز محلّهما أي بعد الدخول في ركوع الركعة التالية ، وإمّا أن يتذكّر قبله ، أي يكون تذكره قبل الدخول في ركوع الركعة التالية.

فإن كان الأوّل فتكون صلاته باطلة وتجب عليه الإعادة ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين في التدارك ، ومع عدم التدارك بطلانها وفسادها واضحة لفوات الركن.

وإن كان الثاني - أي كان تذكره قبل الدخول في ركوع الركعة - فيرجع ويأتي بهما وبما بعدهما مما أتى بها في غير محلّها ؛ لأنّ إتيانها قبلا حيث كان في غير محلّها كان في حكم العدم ، والزيادة التي تحصل في الصلاة من إتيان تلك الأجزاء مرّتين لا تضرّ بصحّة الصلاة ؛ لأنّها زيادة سهوية في غير الأركان.

نعم يجب عليه لكلّ زيادة من تلك الزيادات السهويّة سجدتان للسهو عنها ، بناء على وجوب سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة. ولا يكون وجوبهما مخصوصا بالستّة المعروفة ، أي : الكلام سهوا بكلام الآدميين ، والسّلام في غير محلّه ، ونسيان سجدة واحدة ، ونسيان التشهّد ، والشك بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، والقيام في موضع القعود وبالعكس.

وأمّا إن كان نسيان السجدتين من الركعة الأخيرة حيث لا ركن بعدهما حتّى يأتي هذا التقسيم ، أي التذكّر والالتفات إلى سهوه قبل الدخول في الركن الذي بعدهما أو بعد دخوله فيه.

فنقول : تارة يكون الالتفات إلى سهوه وتذكره بعد السّلام وإتيان ما هو المنافي عمدا وسهوا ، فصلاته باطلة يجب عليه الإعادة ؛ ويدلّ عليه عقد المستثنى من هذا الحديث ، لأنّه ؛ ترك الركن ولا يمكن تداركه ؛ لأنّ تذكره بعد السّلام وبعد إتيان ما هو المنافي عمدا وسهوا.

وأمّا لو كان تركه قبل السّلام فلا إشكال في إمكان تداركه ؛ لأنّه ما دخل في

ص: 113

ركن إذ ليس ركن بعدهما حتّى يستلزم أحد المحذورين الذين تقدّم ذكرهما ، من زيادة الركن أو نقيصته وكلاهما موجب للبطلان ، فيأتي بهما ويعيد ما أتى ممّا بعدهما حسب الجعل الشرعي من الترتيب بين الأجزاء ، ويسجد سجدتي السهو لكلّ جزء من الأجزاء التي أتى بها سهوا في غير محلّها ، بناء على وجوب الإتيان بهما لكل زيادة ونقيصة كما تقدم.

وأمّا لو كان تذكره لنسيانهما بعد السّلام وقبل إتيان المنافي والمبطل ، فالأمر يدور مدار أنّ السّلام مخرج تعبّدا ولو لم يقع في محلّه - لأنّ محلّه بعد إتيان الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها ، وفي المفروض لم يأت بالركعة الأخيرة بتمامها ؛ إذ المفروض أنّه سهل عن إتيان السجدتين - أولا ، بل إنّه مخرج لأنّه الجزء الأخير ، فليس تعبّد من حيث مخرجيّته في البين ، بل كلّ مركّب كان بين أجزائه ترتيب في عالم الإيجاد فإذا أتى بجميع أجزائه على الترتيب المقرّر ، فبإتيان جزئه الأخير قهرا يخرج عن ذلك المركّب.

فإن قلنا بالأوّل فإذا تذكر بعد السّلام تكون صلاته باطلة ، وتجب الإعادة لترك الركن وعدم إمكان التدارك ؛ لأنّ كلّ ما يأتي به بعد السّلام لا يحسب منها ولو كان السّلام في غير محلّه ؛ لأنّه مخرج تعبّدي.

وأمّا إن قلنا بالثاني - أي أنّه مخرج لأنّه الجزء الأخير - فيمكن التدارك ؛ لأنّه لم يخرج عن الصلاة بعد لعدم وقوع السّلام في محلّه الذي هو مناط الخروج ، فلا تكون الصلاة باطلة ، بل يأتي بالسجدتين وبما بعدهما ممّا أتى بها ويسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة سهويّة صدرت منه قبل أن يتذكّر ، أو لخصوص التشهّد والتسليم ، على التفصيل المتقدّم.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فظاهر قوله علیه السلام في صحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام : « وإن قلت السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فقد

ص: 114

انصرفت ». (1) وقوله علیه السلام أيضا في خبر أبي كهمس هو هيثم بن عبد اللّه أو عبيد : « إذا قلت السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فهو الانصراف » وإن كان أنّه خرجت بهذه التسليمة عن الصلاة ولكن هذا الظهور متوقّف على إطلاق هذه الجملة ، أي قوله علیه السلام « انصرفت » أو قوله علیه السلام « فهو الانصراف » أي سواء وقعت هذه التسليمة في محلّه أو لم تقع ، ومن أين يثبت هذا الإطلاق.

فالإنصاف أنّ الفتوى في هذا المفروض - أي فيما إذا كان تذكره لنسيان السجدتين بعد السّلام الواجب وقبل صدور المبطل ببطلان الصلاة ولزوم الإعادة - مشكل جدا ، بل لا بأس بأن يقال بلزوم التدارك بإتيان السجدتين ثمَّ يأتي بجميع ما أتى بها حتّى التسليمة ؛ لوقوع ما أتى بها أوّلا في غير محلّها فهو في حكم العدم. نعم يجب عليه سجدتا السهو لكلّ زيادة سهويّة من تلك الزيادات على التفصيل المتقدّم ، ولا أقلّ من الاحتياط بالجمع بين التدارك على التفصيل المذكور والإعادة ، لا الحكم بالبطلان والإعادة فقط.

هذا كلّه فيما إذا نسي السجدتين من الركعة الأخيرة.

وأمّا لو نسي تمام الركعة الأخيرة من القيام وذكرها وركوعها وسجدتيها فأيضا له صور ثلاث :

الأولى : أن يتذكّر ويلتفت إلى نسيانه قبل التسليم وبعد التشهّد.

الثانية : أن يكون تذكّره بعد التسليم ولكن قبل إتيان المنافي المبطل.

الثالثة : أن يكون تذكّره بعد إتيان المنافي المبطل.

أمّا الصورة الأولى : فالأمر فيها واضح ، فإنّه يقوم ويأتي بها ويسجد سجدتي السهو للتشهّد الذي صدر عنه سهوا في غير محلّه الذي يكون ذلك الإتيان بحكم

ص: 115


1- « الكافي » ج 3 ، ص 337 ، باب التشهّد في الركعتين الأولتين و. ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 316 ، ح 1293 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ، ح 149 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1012 ، أبواب التسليم ، باب 4 ، ح 1.

العدم ، ويجب عليه أن يعيد التشهّد.

وأمّا الصورة الثانية : أي لو تذكر بعد التسليم الواجب وقبل فعل المنافي المبطل ، فيأتي فيها جميع ما ذكرنا في الفرع السابق ، أي فيما إذا نسي السجدتين من الركعة الأخيرة من القولين من لزوم التدارك ومن لزوم الإعادة وبطلان ما أتى به ، وبيّنّا احتمال وجوب الاحتياط بالجمع.

هذا بحسب القواعد الأوّليّة ، ولكن وردت روايات تدلّ على عدم بطلان الصلاة بل يقوم ويأتي بالركعة :

كصحيح العيص : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل نسي ركعة من صلاته حتّى فرغ منها ، ثمَّ ذكر أنّه لم يركع ، قال علیه السلام : « يقوم فيركع ويسجد سجدتين » (1).

والمراد من قول السائل « ثمَّ ذكر أنّه لم يركع » أي لم يأت بالركعة ، والتعبير عن عدمها بعدم الركوع من جهة أنّ الركوع هو الجزء المقوّم للركعة في نظر العرف ، ولأجل ذلك سمّيت بالركعة ؛ وأيضا لو كان المراد به عدم الركوع فقط وإتيان البقيّة فيكون قوله علیه السلام « ويسجد سجدتين » تكرار للسجدتين ، ولا شكّ في أنّ زيادتهما ولو سهوا مبطل ، فهذه أيضا قرينة أخرى على أنّ المراد بقول السائل « لم يركع » عدم الإتيان بالركعة لا الركوع فقط.

وكخبر محمّد بن مسلم في نقصان الركعتين ، عن الباقر علیه السلام في رجل صلّى ركعتين من المكتوبة ، فسلّم وهو يرى أنّه قد أتمّ الصلاة وتكلّم ، ثمَّ ذكر أنّه لم يصلّ غير ركعتين ، فقال علیه السلام : « يتمّ ما بقي من صلاته ولا شي ء عليه » (2). وهذه الرواية بإطلاقها

ص: 116


1- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 350 ، ح 1451 ، باب أحكام السهو ، ح 39 ؛ وص 149 ، ح 586 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ح 44 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1. ص 309 ، أبواب الخلل في الصلاة باب 3 ، ح 8.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 757 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 58 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 379 ، ح 1436 ، باب من تكلّم في الصلاة ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 309 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ح 9.

تشمل نقصان ركعة أو ركعتين.

وكصحيح زرارة عن الباقر علیه السلام أيضا في الرجل يسهو في الركعتين ويتكلّم ، فقال علیه السلام : « يتمّ ما بقي من صلاته ، تكلّم أو لم يتكلّم » (1). بناء على أنّ السّلام في غير محلّه كلام لا يضرّ بالصلاة لو وقع سهوا ، لا أنّه مخرج حتّى لا يمكن التدارك ويكون ما بقي من صلاة من ركعة أو ركعتين خارجا عن الصلاة لو أتى به.

وحاصل الكلام في نقصان الركعة فما زاد أنّه إن قلنا بأنّ السّلام الواقع سهوا في غير محلّه ليس بمخرج - كما أنّه هو الصحيح - فإن كان تذكر النقصان بعد السّلام ولكن قبل إتيان المبطل - أي ما هو المنافي عمدا وسهوا - فمقتضى القاعدة هو تدارك ما فات من الركعة أو الركعتين ، ولا شي ء عليه إلاّ سجدات السهو لما زاد سهوا من التشهّد والتسليم. وأمّا إن قلنا بأنّه - أي السّلام - مخرج ، فأيضا يجب تدارك الركعة فما زاد ، لكن للروايات لا للقواعد الأوّليّة.

وأمّا الصورة الثالثة : أي إن كان تذكر النقصان بعد فعل المبطل وما هو المنافي عمدا وسهوا ، كما أنّه لو أحدث وتذكر النقصان ، فلا شكّ في وجوب الإعادة.

والكلام إلى هنا كان في نقيصة الأركان سهوا ، أو نقصان الركعة فما زاد المشتمل على الأركان.

وبعبارة أخرى : كان الكلام في نسيان النيّة بناء على إمكان نسيانها ، أو نسيان تكبيرة الإحرام ، أو القيام حالهما ، أو نسيان الركوع ، أو القيام المتّصل به ، أو نسيان السجدتين ، أو نسيان الركعة أو ما زاد.

وأمّا لو كان المنسي غير الأركان - من أجزاء الصلاة وشرائطها - فلا تبطل

ص: 117


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 756 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 57 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 378 ، ح 1434 ، باب من تكلّم في الصلاة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 308 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ح 5.

الصلاة على كلّ حال من هذه الجهة ، أي من جهة سهو غير الأركان ، وذلك مفاد صحيحة « لا تعاد » وإن كان هناك أخبار خاصّة أيضا تدلّ على عدم وجوب الإعادة في بعضها ، لكن هذه الصحيحة بمنزلة كبرى كلّيّة في كلا عقديها ، أي عقد المستثنى منه وعقد المستثنى ، لحكم نسيان الأركان الخمسة ، ولحكم ما عدا الأركان الخمسة إذا وقع السهو فيها زيادة ونقيصة.

فنقول : لو نسي جزءا أو شرطا ما عدا الأركان فإمّا أن يكون محلّ تداركه باقيا ، فيجب أن يتدارك ويأتي به وبجميع ما أتى بها سهوا في غير محلّها ممّا هي متأخّرة عن ذلك المنسي ، وقد بيّنّا أنّ بقاء محلّ التدارك في الأجزاء بعدم دخوله في الركن الذي بعد ذلك الجزء المنسي ؛ بعد دخوله فيه يلزم من التدارك أحد المحذورين : إمّا ترك الركن لو لم يأت به بعد تدارك ذلك الجزء المنسي ؛ لأنّ الإتيان به قبلا يكون في حكم العدم لعدم كونه في محلّه ، وإمّا زيادة الركن إن أتى به بعد تدارك المنسي ، وهي مضرّة ولو كانت سهوا.

وإمّا لو لم يكن محلّ تداركه باقيا فالصلاة صحيحة من ناحية سهو ما عدا الأركان على أيّ حال.

نعم المنسي إذا كان ممّا عدا الأركان وفات محلّ تداركه يكون على ثلاثة أقسام :

قسم يجري فيه « لا تعاد » وبعض الروايات الخاصّة - إن كانت - وليس عليه شي ء مطلقا ، لا سجدة السهو ولا القضاء.

وقسم منها عليه سجدة السهو فقط.

وقسم عليه القضاء أيضا مضافا إلى سجدة السهو.

والقسم الأوّل الذي قلنا أنّه ليس عليه شي ء مطلقا لا السجدة ولا القضاء مبني على عدم وجوب سجدة السهو إلاّ للخمسة أو الستّة التي تقدّم ذكرها ، وإلاّ لو قلنا بوجوبهما لكلّ زيادة ونقيصة سهويّتان فليس إلاّ قسمين فقط : أحدهما : ما فيه سجدة

ص: 118

السهو فقط ، والثاني : قضاؤه أيضا مضافا إلى وجوب سجدة السهو. فنتعرّض لأجزاء غير الركنيّة على الترتيب.

الأوّل : نسيان القراءة : فإذا تذكر بعد فوات محلّ التدارك ، إمّا لفراغه عن الصلاة ، وإمّا لدخوله في الركن المتأخّر عنها - أي الركوع - فصلاته صحيحة على كلّ حال من طرف هذا النسيان ، ولا تكون باطلة إلاّ أن يكون فيها خلل آخر ، ولا شي ء عليه بناء على اختصاص وجوب سجدتي السهو بسهو الستّة المذكورة ، لا أنّهما تكونان واجبتين لكلّ زيادة ونقيصة.

هذا ، ووردت أخبار خاصّة مضافا إلى صحيحة « لا تعاد » :

كصحيح زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام : « من ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ، ومن نسي فلا شي ء عليه ». (1) وخبر محمّد بن مسلم ، عن الباقر علیه السلام : « من نسي القراءة فقد تمّت صلاته ولا شي ء عليه » (2) وغيرهما مما هو بهذا المضمون.

ولا يخفى أنّ قولهما علیهماالسلام في هاتين الروايتين وأمثالهما « فلا شي ء عليه » أو « ولا شي ء عليه » ظاهر بإطلاقه في نفي وجوب سجدتي السهو أيضا ، مضافا إلى نفي وجوب الإعادة للصلاة ونفي وجوب قضاء القراءة بعد الصلاة ، فتكون هذه الروايات معارضة مع الرواية التي مفادها وجوب سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة بناء على عدم حملها على الاستحباب ، والنسبة بينهما عموم من وجه فيتساقطان ، والمرجع هي البراءة ، أو يجمع بينهما بحمل تلك الطائفة على استحباب سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة. ولعلّ هذا هو الجمع العرفي في أمثال المقام.

وأمّا ما تكلّفوا لإثبات أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق - وهذه

ص: 119


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 345 ، باب أحكام السهو والشك ، ح 1005 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 146 ، ح 569 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره ، ح 27 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 766 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 27 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 347 ، باب السهو في القراءة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 767 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 27 ، ح 2.

الروايات أخصّ من تلك الطائفة فتخصّصها بغير القراءة - فممّا يأباه الذوق السليم ، ولذلك تركنا ذكره.

وحاصل ما ذكرنا : أنّه إن تذكر لنسيان القراءة قبل أن يركع يأتي بها ، وإن كان تذكره بعد الدخول والوصول إلى حدّ الركوع فيتمّ صلاته ولا شي ء عليه ، لا إعادة الصلاة ولا قضاء القراءة بعدها ولا سجدتي السهو. أمّا نفي القضاء وسجدتي السهو فبهذه الروايات ، وأمّا نفي إعادة الصلاة فأيضا بها وبحديث « لا تعاد ».

هذا كلّه فيما إذا كان المنسي نفس القراءة.

وأمّا لو كان المنسي هو الجهر فيها في صلوات الجهريّة ، أو الإخفات فيها في الصلوات الإخفاتيّة ، فبناء على كون كلّ واحد منهما في موضعه شرطا لنفس القراءة لا للصلاة حال القراءة - كما هو الظاهر بل الصحيح - فحالهما في صدق تجاوز المحلّ وعدم إمكان تداركه ، أو عدم تجاوز المحلّ وإمكان تداركه حال نفس القراءة ؛ وذلك من جهة انعدام المشروط بانعدام شرطه فنسيان كلّ واحد منهما في محلّه يرجع إلى نسيان نفس القراءة وقد عرفت الحال فيه.

وأمّا بناء على كونهما شرطا للصلاة في حال القراءة فالتجاوز عن محلّهما بالتجاوز عن نفس القراءة وان لم يدخل في الركوع المتأخّر عنها ؛ وذلك من جهة أنّه بعد إتيانه القراءة وإن كانت إخفاتا في الجهريّة ، أو كانت جهرا في الإخفاتيّة فقد أتى بها صحيحة ؛ لأنّ الجهر والإخفات لم يكن كلّ واحد منهما في موضعه شرطا لها حتّى تنتفي بانتفائهما ، وبعد الإتيان بها صحيحة لا يبقى محل لتدارك الجهر والإخفات ؛ لأنّه مستلزم للزيادة العمديّة في القراءة لو أعاد القراءة ، وبدون إعادتها لا يمكن تداركهما ؛ هذا بحسب القواعد.

وربما يدلّ على هذا صحيح زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفي فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال علیه السلام : « أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد

ص: 120

نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي ء عليه وقد تمّت صلاته » (1).

والضابط الكلّي في نسيان الواجبات في حال الإتيان بأجزاء الصلاة أنّها إن كانت شرطا لتحقّق ذلك الجزء ، فحيث أنّ بنسيانها ينعدم ذلك الجزء - لأنّه بانعدام الشرط ينعدم المشروط - فيكون حال نسيان ذلك الواجب في حال إتيان ذلك الجزء حال نسيان نفس ذلك الجزء ، فإن كان قبل تجاوز محلّ ذلك الجزء يتدارك بالإعادة ، وإلاّ فتكون صلاته باطلة لو كان المنسي ركنا ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين. وأمّا لو لم يكن المنسي ركنا فلا تبطل الصلاة ، بل تجب سجدة السهو لكلّ نقيصة على التفصيل المتقدّم ، وفي خصوص نسيان التشهّد والسجدة الواحدة مضافا إلى سجدتي السهو يجب قضائهما أيضا.

أمّا في التشهّد فلصحيح محمّد عن أحدهما علیهماالسلام في الرجل يفرغ من صلاته وقد نسي التشهّد حتّى ينصرف ، فقال علیه السلام : « إن كان قريبا رجع إلى مكانه فتشهّد ، وإلاّ طلب مكانا نظيفا فتشهد فيه » (2).

وخبر عليّ بن أبي حمزة ، قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إذا قمت في الركعتين الأوّلتين ولم تتشهّد فذكرت قبل أن تركع فاقعد وتشهّد ، وإن لم تذكر حتّى تركع فامض في صلاتك كما أنت ، فإذا انصرفت سجدت سجدتين لا ركوع فيهما ، ثمَّ تشهّد التشهّد الذي فاتك » (3).

ص: 121


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 344 ، باب أحكام السهو والشكّ ، ح 1003 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 162 ، ح 635 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 93 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 313 ، ح 1163 ، باب وجوب الجهر بالقراءة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 766 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 26 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 157 ، ح 617 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 75 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 995 ، أبواب التشهّد ، باب 7 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 357 ، باب من تكلّم في صلاته أو انصرف. ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 344 ، ح 1430 ، باب أحكام السهو ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 341 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 26 ، ح 2.

وأما قضاء السجدة الواحدة فيدلّ عليها صحيح ابن جابر ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل نسي أن يسجد السجدة الثانية حتّى قام فذكر - وهو قائم - أنّه لم يسجد ، قال علیه السلام : « فليسجد ما لم يركع ، فإذا ركع فذكر بعد ركوعه أنّه لم يسجد فليمض على صلاته حتّى يسلم ثمَّ يسجدها ، فإنّها قضاء » (1).

هناك تفاصيل في المسألة ومعارضات لهذا الخبر وما يشابهه من الحكم بقضاء السجدة إن تجاوز عن محلّ تداركها إمّا بالدخول في الركن الذي واقع بعدها ، وإمّا أن يكون تذكره بعد إتيان السّلام الواجب. ولكن محلّ هذه التفاصيل والنقض والإبرام فيها هو باب الخلل في كتاب الصلاة.

وأمّا إن كانت تلك الواجبات في حال الاشتغال بالأجزاء شرطا لأصل الصلاة لا لتلك الأجزاء ، فالتجاوز عن محلّها وعدم إمكان تداركها بالتجاوز عن نفس ذلك الجزء ، لأنّ ذلك الجزء يقع صحيحا بعد ما لم يكن مشروطا بوجود ذلك الواجب ، فلا يبقى محلّ لتدارك ذلك الواجب ؛ لأنّه مع إعادة ذلك الجزء تلزم الزيادة العمديّة ، ومع عدم إعادته يبقى المظروف بلا ظرف.

فإن كان ذلك الواجب من الأركان كالقيام حال تكبيرة الإحرام تبطل الصلاة لو نسيه ، ولا يشمله حديث « لا تعاد » من جهة تخصيص عقد المستثنى منه فيه بأدلّة ركنيّة القيام في حال تكبيرة الإحرام.

وأمّا إن لم يكن من الأركان كذكر الواجب في الركوع مثلا ، وكنسيان القيام حال القراءة ، أو الطمأنينة حال الأجزاء والأذكار كالطمأنينة حال التشهّد والسجود وغير ذلك ، فإذا نسيها وفات محلّ تداركها على الفرض ، أي بناء على كون هذه الأشياء شرطا للصلاة لا لنفس الجزء فحيث أنّه أتى بالجزء صحيحا فات محلّ تدارك ذلك

ص: 122


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 602 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح 60 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 359 ، ح 1361 ، باب من ترك سجدة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 968 ، أبواب السجود ، باب 14 ، ح 1.

الواجب.

فعدم بطلان الصلاة بنسيان الواجبات حال الأجزاء متوقّف على أمرين :

أحدهما أن لا يكون ذلك الواجب ركنا ، كالقيام المتّصل بالركوع ، وكالقيام حال تكبيرة الإحرام.

وثانيهما : أن يكون شرطا للصلاة ويكون ظرف إتيانه حال الاشتغال بذلك الجزء لا شرطا لنفس الجزء ، فحينئذ لا يجوز اعادة ذلك الجزء وتكون صلاته صحيحة ، وإلاّ لو كان ذلك الواجب ركنا ولم يكن شرطا لتحقّق ذلك الجزء كالقيام حال التكبيرة فالصلاة باطلة على كلّ حال. وكذلك لو كان شرطا لنفس الجزء ولم يعد ذلك الجزء تكون صلاته باطلة.

نعم لو لم يفت محلّ تدارك ذلك الجزء : بأن لم يدخل بعد في الركن المتأخّر عنه ، أو لم يسلم سلام الواجب يجب عليه إتيان ذلك الجزء مع ذلك الواجب ، وتكون صلاته صحيحة.

وأنت تقدر بعد التأمّل فيما ذكرنا استخراج جميع فروع الخلل ، فلا حاجة إلى تطويل المقام.

وأمّا لو كان المنسي هو السّلام الواجب فإن تذكر قبل الإتيان بما هو مناف مطلقا ، سواء صدر عمدا أو سهوا فيأتي به ويتمّ صلاته.

وأمّا إن تذكر بعد إتيان ذلك المنافي المذكور فالتدارك لا يمكن ؛ لأنّ المفروض بطلان الصلاة بوجود المنافي المذكور ، لأنّه لا يخلو الحال من أحد أمرين : إمّا أن وقع هذا المنافي في الصلاة فيبطل الصلاة ، فإتيان السّلام المنسي وتداركه بعد بطلان الصلاة لا معنى له. وإمّا أن وقع في خارج الصلاة ، مع أنّه خلاف المفروض أيضا لا معنى لتدارك السّلام ؛ لأنّه في خارج الصلاة. ولكن مع عدم إمكان تداركه وعدم دخوله في عقد المستثنى لا تشمله صحيحة « لا تعاد » وذلك لما قلنا مرارا إنّ مفاد الصحيحة عدم

ص: 123

وجوب إعادة الصلاة بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط التي سها المصلّي عنها إذا لم يكن من الخمسة المستثناة ، وكانت بحيث لو لم تكن هذه الصحيحة كان يجب الإعادة وكان بطلان الصلاة مستندا إليها.

وأمّا فيما نحن فيه فليس الأمر كذلك ؛ لأنّ البطلان ليس مستندا إلى ترك التسليم بل إلى وجود ذلك المنافي ، وإلاّ كان التدارك ممكنا وكان يجب عليه التسليم ، وهو خلاف المفروض أي وجود المنافي المطلق أي سواء كان عمدا أو سهوا.

وبعبارة أخرى : نسيان التسليم بمحض وقوعه لا يوجب سقوطه عن الجزئيّة بحديث « لا تعاد » قطعا ، ولذا لو تذكر قبل وجود المنافي المطلق أي سواء كان عمدا أو سهوا يجب عليه أدائه ، فلا يكون موردا لشمول حديث « لا تعاد » إلاّ بعد وجود ذلك المنافي.

وقد عرفت أنّ بعد وجود المنافي أيضا لا يشمله ؛ لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث هو أنّ الجزء أو الشرط الذي نسي عنه الذي كان كلّ واحد منهما كان موجبا للإعادة لنسيانه بحيث تكون الإعادة معلولة لنسيانه فلا تجب الإعادة ، فتكون جزئيّة ذلك الجزء وشرطيّة ذلك الشرط ساقطة لكن موضوع الحكم بسقوطهما نسيان المتّصف بكذا ، أي النسيان الذي لو لا « لا تعاد » كان موجبا للإعادة وبطلان الصلاة ، فبلا تعاد يرتفع البطلان ووجوب الإعادة.

وفيما نحن فيه من الواضح الجليّ أنّه لو لم يكن « لا تعاد » أصلا في البين لم يكن البطلان مستندا إلى التسليم ، بل كان مستندا إلى الحدث ؛ لوقوعه في أثناء الصلاة قطعا ، فاستناد البطلان إلى نسيان التسليم لو لا « لا تعاد » متوقف على شمول « لا تعاد » لهذا المورد حتّى لا يكون التسليم جزءا ، فلا يكون البطلان ووجوب الإعادة مستندا إلى الحدث لعدم وقوعه في الأثناء لنفي الجزئيّة ، وإلاّ فبدون جريان « لا تعاد » وعدم شموله للمورد يكون السّلام جزءا ويكون الحدث واقعا في الأثناء ، فيكون البطلان

ص: 124

مستندا إليه.

فظهر من مجموع ما ذكرنا : أنّ شمول « لا تعاد » لنسيان التسليم ، والحكم بعدم وجوب الإعادة في مورده متوقف على أن يكون بطلان الصلاة ووجوب الإعادة مستندا إليه ، لا إلى الحدث لو لا « لا تعاد » ، واستناد البطلان ووجوب الإعادة إليه لا إلى الحدث متوقف على شمول « لا تعاد » للمورد ، وهذا دور واضح.

وإن شئت عبّر بأنّ شمول « لا تعاد » للمورد موقوف على شموله للمورد.

وحاصل الكلام في المقام : أنّ صرف نسيان الجزء أو الشرط بمحض وجوده وتحقّقه لا يوجب سقوط الجزئيّة والشرطيّة عن المنسي بواسطة حديث « لا تعاد » ، وإلاّ لو صار متذكّرا قبل التجاوز عن محلّه لم يكن التدارك واجبا ، مع أنّه ليس كذلك قطعا ولا يمكن الالتزام به ، فشمول الحديث في المفروض متوقف على مجي ء المبطل حتّى لا يمكن التدارك ، وإلاّ يجب أن يسلم ويتدارك ، ومع مجي ء المبطل - أي الحدث - وإن كان التدارك لا يمكن وقد تجاوز عن محلّ التدارك ولكن لا يبقى محلّ لمجي ء قاعدة « لا تعاد » ؛ لأنّ مفاد قاعدة « لا تعاد » تصحيح العمل وسقوط الإعادة وعدم وجوبها.

وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك ؛ لأنّ شمول قاعدة « لا تعاد » موقوف على بطلان العمل ، فيرجع إلى أنّ صحّة العمل متوقف على بطلان العمل ، وهذا ممّا ينبغي أن يضحك عليه لا أن يصغى إليه.

نعم وردت هاهنا أخبار تدلّ على صحّة الصلاة إذا نسي السّلام وأحدث فلعلّ من يفتي بصحّة الصلاة نظره إلى هذه الأخبار ، لا إلى قاعدة « لا تعاد » لما ذكرنا من عدم صحّة التمسّك بها في هذه الصورة ، أي في نسيان السّلام.

وهذه الأخبار هي :

منها : ما في صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام ، سأله عن الرجل يصلّي ثمَّ

ص: 125

يجلس فيحدث قبل أن يسلم ، قال علیه السلام : « تمّت صلاته » (1).

ومنها : خبر حسن بن جهم قال : سألته - يعني أبا الحسن علیه السلام - عن رجل صلّى بالظهر أو العصر فأحدث حين جلس في الرابعة ، قال علیه السلام : « إن كان قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فلا يعد ، وإن كان لم يتشهّد قبل أن يحدث فليعد » (2).

ومنها : صحيح الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا ، وإن كنت قد تشهّدت فلا تعد » (3).

ومنها : موثّق غالب بن عثمان عنه علیه السلام عن الرجل يصلّي المكتوبة فيقضي صلاته ويتشهّد ثمَّ ينام قبل أن يسلم ، قال علیه السلام : « تمّت صلاته وإن كان رعافا فأغسله ثمَّ ارجع فسلّم » (4) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون.

ولكن أنت خبير بأنّ ظاهر هذا الأخبار عدم جزئيّة السّلام إمّا مطلقا وإمّا في حال عدم الاختيار والاضطرار إلى وجود المنافي والمبطل ، فلا ربط لها بمسألة نسيان السّلام بعد الفراغ عن جزئيّته ، فيكون معرضا عنها عند المشهور فتسقط عن الحجيّة. وأمّا عدم مبطليّة الحدث لو صدر اضطرارا كما ذهب إليه بعض وهذا القول شاذ لا ينبغي الالتفات إليه.

ص: 126


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 320 ، ح 1306 ، باب كيفية الصلاة وصفتها ، ح 162 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 345 ، ح 1301 ، باب أنّ التسليم ليس بفرض ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1011 ، أبواب التسليم ، باب 3 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 205 ، ح 596 ، باب التيمّم وأحكامه ، ح 70 ؛ وج 2 ، ص 354 ، ح 1467 ، باب أحكام السهو ، ح 55 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 401 ، ح 1531 ، باب أنّ البول والغائط والريح يقطع الصلاة ... ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 1241 ، أبواب قواطع الصلاة ، باب 1 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 323 ، ح 1322 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ، ح 179 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 405 ، ح 1547 ، باب الالتفات في الصلاة ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1011 ، أبواب التسليم ، باب 3 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 319 ، ح 1304 ، باب كيفيّة الصلاة ، ح 160 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1021 ، أبواب التسليم ، باب 13 ، ح 6.

واحتمل بعض صدور هذه الروايات - وأمثالها ممّا تدلّ على عدم بطلان الصلاة بوقوع الحدث قبل التسليم في صورة نسيان التسليم - وخروجها مخرج التقيّة.

قال صاحب الجواهر قدس سره ذكرنا هناك - أي في أوّل مبحث القواطع في أوّل الخاتمة - ما يقتضي القطع ببطلان الصلاة بذلك ، وأنّ هذه النصوص وما شابهها مع تعارضها في نفسها واحتمالها احتمالات متعدّدة قد خرجت مخرج التقيّة (1).

هذا كلّه كان في نقصان الصلاة من حيث ترك جزء ، أو شرط ، أو إتيان مانع ممّا عدا الأركان سهوا.

وأمّا الزيادة فيها فان كان من الخمسة المستثناة فتجب الإعادة ؛ لما ذكرنا من شمول حديث « لا تعاد » الخلل الواقع من ناحية الزيادة مثل النقيصة ، وأمّا إن كان من غير الأركان فعقد المستثنى منه من هذا الحديث يدلّ على عدم البطلان ويكون مخصّصا للعمومات التي تدلّ على بطلان الصلاة بالزيادة مطلقا ، عمدا كان أو سهوا ، وتخرج الزيادة السهويّة في غير الأركان عن تحتها ، فيقيّد به إطلاق قول الباقر علیه السلام « إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتد بها » (2). وقول الصادق علیه السلام « من زاد في صلاته فعليه الإعادة ». (3)

والحمد لله أولا وآخرا ، والصلاة والسّلام على

سيّدنا محمّد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ص: 127


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 272.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 194 ، ح 763 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 64 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 376 ، ح 1428 ، باب من تيقّن أنّه زاد في الصلاة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 332 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 19 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ولم يدر. ، ح 5 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 194 ، ح 764 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 65 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 376 ، ح 1429 ، باب من تيقّن أنّه زاد في الصلاة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 332 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 19 ، ح 2.

ص: 128

6 - قاعدة اليد

اشارة

ص: 129

ص: 130

قاعدة اليد (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة « قاعدة اليد ». وفيها جهات من الكلام :

الأولى : في أنّها ليست من المسائل الأصوليّة ، بل هي قاعدة فقهيّة.

الثانية : في أنّه ما المراد من كلمة « اليد »؟

الثالثة : في بيان دليل اعتبارها.

الرابعة : في أنّها من الأمارات أو من الأصول التنزيلية؟ وأمّا احتمال كونها من الأصول غير التنزيليّة فساقط جدّا.

الخامسة : في مقدار سعة دلالتها وهل أنّها مخصوصة بإثبات الملكيّة لذي اليد بالنسبة إلى فيما تحت يده ، أو عامّ تشمل أشياء أخر كالتولية فيما هو وقف وتحت يده ، والزوجيّة للمرأة التي تحت يده ، والولديّة للطفل الذي تحت يده ، وهكذا إلى غير ذلك من التوسعة في اعتبارها؟

ص: 131


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 190 ؛ « الأقطاب الفقهية » قطب 44 ؛ « الحق المبين » ص 86 ؛ « عوائد الأيام » ص 254 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 57 ؛ « خزائن الاحكام » ش 2 ؛ « مناط الاحكام » ص 18 ؛ « بلغة الفقهية » ج 3 ، ص 291 - 369 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 52 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 206 ؛ « الفوائد العلمية » ص 225 ؛ « القواعد » ص 429 ؛ « قواعد فقه » ص 29 ؛ « قواعد فقهي » ص 193 ؛ « قواعد فقهية » ص 23 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 357 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 279 ؛ « يد امارة مالكيت » شيدا شكوايى ، ماجستير ، جامعة طهران ، 1369 ؛ « يد مالكي ويد ضماني » مجلة « حق » فصليّة ، العدد 9 ، العام 1366 ؛ « دو قاعدة فقهي ( قاعدة يد ولا ضرر ) ؛ مجلّة « حق » فصليّة ، العدد 9 ، العام 1366.

السادسة : في تعارضها مع سائر الأدلّة من الأصول والأمارات.

أمّا الجهة الأولى

فقد تكرّر منّا في موارد كثيرة أنّ المناط في كون المسألة أصوليّة هو وقوع نتيجة البحث عنها كبرى في قياس الاستنباط ، ولا شكّ أنّ نتيجة البحث عن هذه القاعدة - وهي حجيّتها وإثبات الملكيّة مثلا لذي اليد - لا تقع كبرى في قياس الاستنتاج الحكم الشرعي الكلي الفرعي ، بل لا يستنتج منها إلاّ الملكيّات الشخصيّة أو ما شابهها من سائر الأمور الجزئيّة التي تثبت بها لذوي الأيدي ؛ فهذه قاعدة فقهيّة يستنبطها الفقيه عن أدلّتها التفصيليّة ويفتي بحجيّة اليد ، مثلا بالنسبة إلى ملكيّة ذي اليد لما في يده. ويكون أمر تطبيقها بيد المقلّدين أنفسهم ، بمعنى أنّه في مقام تطبيق هذه الكبرى على مصاديقها المقلّد والمجتهد سواء ، فإذا طبق المقلّد في مورد وأثبت الملكيّة بها لذي اليد عند الشكّ في ملكيّته ، فيجوز له أن يشتري منه ، ويشهد له بالملكيّة ، وهكذا بالنسبة إلى سائر آثار ثبوت الملكيّة له ، أي لذي اليد.

فهذه القاعدة كسائر القواعد الفقهيّة - المستعملة في الموضوعات الخارجيّة ، أو الأحكام الجزئيّة كالبيّنة ، وأصالة الصحّة ، وقاعدة الفراغ ، وقاعدة التجاوز - يستنبطها الفقيه ويفتي بمضمونها ، فيعمل المقلّد على طبقها.

وظهر مما ذكرنا : أنّه لا فرق في عدم كون هذه القاعدة من المسائل الأصوليّة ، أو كونها من القواعد الفقهيّة بين كون المناط في تميّز المسألة الأصوليّة عن الفقهيّة ما ذكرنا ، وبين ما ذكروه من أنّ المسألة الأصوليّة هي التي لا حظّ للمقلّد في مقام تطبيقها بل يكون أمر تطبيقها بيد المجتهد ، أو ما ذكروه ميزانا للفرق بينهما من أنّ المسألة الأصوليّة ما لم تكن متعلّقا بكيفيّة العمل بلا واسطة بل تكون تعلّقها بكيفيّة العمل مع الواسطة ، بخلاف المسألة الفقهيّة فإنّها متعلّقة بكيفيّة العمل بلا واسطة ؛ لما ذكرنا من

ص: 132

أنّ أمر تطبيق هذه القاعدة كما أنّه بيد المجتهد كذلك يكون بيد المقلّد أيضا ، وهما بعد إفتاء المجتهد بمضمونها في مقام التطبيق سواء. وأيضا من الواضح الجليّ أنّه بعد إفتاء المجتهد بمضمونها يكون ذلك المضمون متعلّقا بكيفيّة العمل بلا واسطة.

وأمّا الجهة الثانية

فقد ذكر اللغويّون لها معاني متعدّدة ، ولا يهمّنا أنّها حقيقة في الجميع ، أو مجاز في الجميع ، أو حقيقة في البعض ومجاز في البعض الآخر ، وإنّما المهمّ أنّه ما المراد والمتفاهم العرفي منها في محل البحث؟

فنقول : الظاهر أنّ المراد منها في محلّ البحث هو الاستيلاء والسيطرة الخارجيّة ، بحيث يكون زمام ما تحت يده بيده يتصرّف فيه كيف ما يشاء من التصرّفات العقلائيّة المتعارفة ، ولا يخفى أنّه بصرف التمكّن من تحصيل مثل هذه السيطرة والاستيلاء الخارجي لا يقال أنّه ذو اليد ، بل كونه كذلك يحتاج إلى فعليّة الاستيلاء والسيطرة الخارجيّة.

وأمّا ما توهّم : من أنّ اليد بهذا المعنى قد تكون مسبّبا عن الملكية كما في موارد النواقل الشرعية ، اختيارية كانت كما في أبواب المعاوضات ، أو قهريّة كما في باب الإرث ؛ وقد تكون سببا لحصول الملكيّة ، كما في باب حيازة المباحات إذا كان الاستيلاء بقصد التملّك.

ففيه : أنّ ما يفهم عرفا من اليد في المقام هي السيطرة الخارجيّة ، وهي أمر خارجي لا تحصل إلاّ بأسبابها الخارجيّة ، من وجود المقتضى لها كإرادة الاستيلاء والسيطرة ، ومن وجود شرائطها ، ومن فقد موانعها. والملكيّة الاعتباريّة لا أثر لها في هذا الأمر الخارجي.

نعم الملكيّة له أو كونه مأذونا من قبل المالك تؤثّر في عدم كونها يدا عادية ، ثمَّ

ص: 133

إنّ المرجع في حصول هذا الاستيلاء أيضا هو العرف ؛ لأنّ الاستيلاء والسيطرة أمر عرفي فلا بدّ في تعيين مفادهما من الرجوع إلى العرف ، وهو يختلف في نظرهم بحسب ما استولى عليه ، مثلا الاستيلاء على الدار والدكان والخان وأمثالها فهو بأن يكون ساكنا في الدار ومشغولا بكسبه في الدكان والخان ، وإمّا بأن تكون أبوابها مغلقة والمفتاح في يده ، وفي الأراضي بالزرع والغرس وأمثال ذلك ، وفي الدوّابّ بربطها في اصطبله أو ركوبها أو كون زمامها بيده.

نعم ربما يتزاحم هذه الجهات بعضها مع بعض ، مثلا لو كان أحد الشخصين راكبا على الدابة وبيد الآخر زمامها ، وكلّ واحد منهما ادّعى ملكيّة تمامها ، ففي مثل هذا الفرض إذا حكم العرف بتقديم احدى الجهتين وأنّها المناط في تحقّق الاستيلاء فهو ، وإلاّ فإن حكم بوجود الاستيلاء وتحققه بالنسبة إلى كلّ واحد منهما فيدخل في مسألة تحقّق يدين على مال واحد كشريكين في دار أو دكان أو غيرهما ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى. وإلاّ فإن لم يحكم بشي ء منهما فتسقط كلتا الجهتين عن الاعتبار ، ولا يحكم بتحقّق اليد لكلّ واحد منهما.

ولا يخفى أنّه من الممكن أن يكون الاستيلاء على شي ء لشخصين أو أكثر كما في الشريكين أو الشركاء ، فبناء على اعتبار اليد وحجيّته يثبت الملكيّة لجميعهم. وإلى هذا يرجع ما اشتهر بين الفقهاء من أنّ تحقّق اليدين على مال واحد يرجع إلى ثبوت يد واحدة تامّة مستقلّة على نصف ذلك المال ، والثلاث إلى الثلث ، والأربع إلى الربع وهكذا.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ يد الودعي والمستأجر والمستعير والوكيل يد المودع والموجر والمعير والموكل مع اعترافهم بهذه العناوين. وبعبارة أخرى : كلّ أمين من طرف المالك إذا اعترف بأنّه أمين من قبله فيكون يده يد ذلك الشخص.

ص: 134

الجهة الثالثة : في الدليل على اعتبارها ، وهو من وجوه

الأوّل : الروايات.

فمنها : رواية حفص بن غياث المرويّة في الكتب الثلاثة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، وفيها : أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال علیه السلام : « نعم ». فقال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أفيحلّ الشراء منه؟ » قال : نعم ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « فلعلّه لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ، ثمَّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك » ، ثمَّ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (1).

ومنها : المروي عن الصادق علیه السلام في حديث فدك : « إن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه تعالى في المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إيّاك كنت أسأل البينة على ما تدّعيه على المسلمين. قال علیه السلام : فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعده ولم تسأل البيّنة على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟! إلى أن قال : وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر » (2).

ومنها : رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : « كلّ

ص: 135


1- « الكافي » ج 7 ، ص 387 ، باب ( من كتاب الشهادات ) ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 51 ، باب من يجب ردّ شهادته ومن يجب قبول شهادته ، ح 3307 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 261 ، ح 695 ، باب البيّنات ، ح 100 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 25 ، ح 2.
2- « علل الشرائع » ص 190 ، ح 1 ؛ « تفسير القمّي » ج 2 ، ص 156 ؛ « الاحتجاج » ، ص 92 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفيّة الحكم. باب 25. ح 3.

شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة » (1).

ومنها : رواية حمزة بن حمران : أدخل السوق فأريد أن أشتري جارية تقول إنّي حرّة ، فقال علیه السلام : « اشترها ، إلاّ أن تكون لها بيّنة » (2).

ومنها : صحيحة العيص ، عن مملوك ادّعى أنّه حرّ ولم يأت بيّنة على ذلك ، أشتريه؟ قال : « نعم » (3).

ومنها : موثّقة يونس بن يعقوب ، في المرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة ، قال علیه السلام : « ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شي ء منه فهو له » (4).

ومنها : ما في الوسائل عن العباس بن هلال ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ذكر أنّه لو أقضي إليه الحكم لأقرّ الناس على ما في أيديهم ، ولم ينظر في شي ء إلاّ بما حدث في سلطانه ، وذكر أن النبي صلی اللّه علیه و آله لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون ، وأنّ من أسلم أقر على ما في يده (5).

ص: 136


1- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ، ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 211 ، باب شراء الرقيق ، ح 13 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 222 ، باب البيوع ، ح 3824 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 74 ، ح 318 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 32 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 31 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 5 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 222 ، باب البيوع ، ح 3825 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 74 ، ح 317 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 31 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 30 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 5 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 302 ، ح 1079 ، باب ميراث الأزواج ، ح 39 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 525 ، أبواب ميراث الأزواج ، باب 8 ، ح 3.
5- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 295 ، ح 824 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 31 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 214 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 25 ، ح 1.

ولا شكّ في دلالة هذه الروايات على اعتبار اليد دلالة واضحة.

وأمّا الإشكال في الرواية الأولى - بأنّ محطّ نظر السائل في سؤاله إلى جواز الشهادة بالملكيّة لذي اليد بصرف كون شي ء تحت يده أم لا ، وهذا غير إثبات الملكيّة لما تحت اليد باليد حتّى تكون اليد حجّة - واضح الفساد ؛ لأنّ حكمه علیه السلام بجواز الشهادة مستندا إلى اليد يدلّ بالالتزام على إثبات الملكيّة بها أيضا ، خصوصا بعد ما استدلّ علیه السلام على صحّة هذا الحكم وجواز الشهادة بجواز الشراء ممّا في يده.

مضافا إلى أنّ احتمال أن يكون جواز الشهادة بملكيّة ما في يده له حكما تعبّديّا من دون ثبوتها عند الشاهد في غاية البعد ، وينكره الطبع السليم.

وأمّا الإشكال عليها بأنّ ظاهر هذه الرواية جواز الشهادة مستندا إلى اليد من دون حصول العلم للشاهد ، وهذا أمر مستنكر ؛ لأنّ العلم مأخوذ في موضوع جواز أو وجوب أداء الشهادة ، فلا يجوز مستندا إلى الأصول أو الأمارات ، فظاهر هذه الرواية ممّا لم يعمل به فساقط عن الاعتبار.

فلا يرد أصلا ؛ لما ذكرنا أوّلا في محلّه من قيام الأمارات والأصول التنزيليّة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقيّة - خلافا لصاحب الكفاية قدس سره (1) - دون ما أخذ فيه على نحو الصفتيّة.

ومن المعلوم أنّ القطع المأخوذ في موضوع أداء الشهادة جوازا أو وجوبا هو من حيث كونه طريقا وكاشفا عن متعلّقه ، لا بما أنّه صفة كذائية ، بل ذكرنا في مبحث القطع أنّه لم يوجد في الشرعيّات موردا يكون القطع فيه مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتيّة. نعم في بعض الموارد أخذ الاطمئنان موضوعا أو جزئه ، ولكن ذلك غير أخذ القطع في الموضوع على نحو الصفتيّة.

وثانيا : لو لم نقل بجواز الشهادة مستندا إلى اليد ، وترتيب آثار الملكيّة على ما

ص: 137


1- « كفاية الأصول » ص 263.

تحت اليد ، يختلّ النظام ولا يستقرّ حجر على حجر ، فكيف يمكن أن يقال إنّ الأصحاب لم يعملوا بمضمون هذه الرواية؟ فهذا الإشكال ساقط على كلّ تقدير.

وأما الإشكال على الرواية الثانية بأنّها لا تدلّ على أكثر من أنّ البينة ليست على ذي اليد - أي المنكر - بل يكون على المدّعي ، وهذا لا ربط له بكون اليد حجّة على الملكيّة ، وقضيّة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » شبه المتواتر بين المسلمين ؛ لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1). وقد قضى صلی اللّه علیه و آله على هذا النحو في موارد عديدة وهذا من المسلّمات ، ولا شكّ أنّ المتفاهم العرفي من « المنكر » ذو اليد ومن « المدعي » من هو مقابل ذي اليد ، وهو من يطرح الدعوى إلى المنكر ويوجّهها إليه. ففي هذه الرواية يحتجّ بهذا الأمر المسلّم بين المسلمين ؛ فلا ربط لها بإثبات الملكية باليد الذي هو محلّ الكلام.

فالجواب عنه : أوّلاّ : أنّ قوله علیه السلام « فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه » (2) يدلّ على أنّ اليد أمارة الملكيّة ، وإنّ الملكيّة في هذا الكلام ملكيّة إثباتيّة ، وإلاّ لو كان المفروض أمرين - أحدهما كونه تحت يدهم ، والثاني كونهم يملكونه - فلا يبقى بعد هذا الفرض مجال للدعوى ومطالبة البيّنة.

وثانيا : لا يفهم العرف من كون طرف ذي اليد مدّعيا وأنّه يطالب منه البيّنة إلاّ كون ذي اليد مالكا ، فيحتاج طرفه إلى الدليل على إثبات ما يدّعيه.

وأمّا الرواية الثالثة - أعني رواية مسعدة - فلا دلالة لها على هذا المطلب أصلا ، بل مضمونه حليّة مشتبه الحرمة ، حتّى يثبت خلاف ذلك بالبيّنة أو العلم.

وأمّا رواية حمزة بن حمران ، وصحيحة العيص فدلالتهما على هذا المطلب أوضح

ص: 138


1- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب أنّ القضاء بالبينات والأيمان ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 3 ؛ « معاني الأخبار » ص 279 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 2 ، ح 1.
2- تقدّم تخريجه ، ص 135 ، رقم (2).

من أن يخفى.

وأمّا قوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » فلا إشكال في دلالته على اعتبار اليد إلاّ تخيّل أنّ ضمير « منه » راجع إلى متاع البيت ، فلا يدلّ إلاّ على أماريّتها في هذا المورد الخاصّ أعني الزوج والزوجة ، لا مطلقا.

ولكن أنت خبير بأنّه لا خصوصيّة لهذا المورد ، مضافا إلى أنّ كلامنا الآن في اعتبارها في الجملة ، وسنتكلم في التفاصيل فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا رواية عباس بن هلال ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام فمن المحتمل جدّا أن يكون مراده علیه السلام إمضاء جميع ما تقع من المعاملات في زمان انعزالهم عن الحكم ، فإذا وصل إليهم الحكم يقرون الناس على ما في أيديهم ، كما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع المشركين بالنسبة إلى ما كان في أيديهم في زمان الجاهليّة.

وعلى كلّ حال لا ينبغي الارتياب في دلالة جملة من هذه الروايات على اعتبار اليد ، بل على كونها أمارة الملك. وهاهنا روايات أخر ذكروها ، لبعضها دلالة على اعتبار اليد ، تركناها للاستغناء عنها وكفاية ما ذكرنا منها لإثبات هذا المطلب.

الثاني من وجوه اعتبار اليد : الإجماع والاتّفاق على أنّ من كان في يده شي ء من الأموال يكون له.

ولا شكّ في تحقّق هذا المعنى بالنسبة إلى الأعيان المتموّلة ولا خلاف فيه أصلا ، وإن كان خلاف ففي التفاصيل الآتية ، ولكن هذا المقدار لا يكفي في صدق الإجماع المصطلح الذي هو أحد الأدلّة الشرعيّة ؛ لأنّ الإجماع المصطلح الاتّفاق الذي يكون مسبّبا عن رأي المعصوم علیه السلام ، أو دليل معتبر عند الكلّ في مقام الثبوت وإن كان سببا وكاشفا عن أحدهما في مقام الإثبات. ولا شكّ أنّ مثل هذا المعنى لا يجتمع مع وجود مدرك بل مدارك في المسألة كما في مسئلتنا ؛ لأنّه حينئذ من الممكن بل من المحتمل جدّا اتّكاء المجمعين واعتماد المتّفقين على ذلك المدرك أو تلك المدارك ، فلا يبقى مجال

ص: 139

لاستكشاف رأيهم علیهم السلام من مثل هذا الاتّفاق ، ولا ريب في وجود مدارك عديدة من الأخبار الكثيرة وبناء العقلاء.

الثالث من وجوه اعتبارها : بناء العقلاء من جميع الملل والأمم ، سواء أكانوا من أهل الأديان أم لا ، حتّى الملحدين والمنكرين للصانع - خذلهم اللّه - على اعتبارها وكونها أمارة لملكيّة المال لمن في يده ، فإنّهم لا يتوقّفون في ترتيب آثار الملكيّة على ما في أيدي الناس ، ولا يفتشون عن أنّ هذا الذي بيده هل له أو لغيره أو مسروق أو مغصوب مثلا ، والشارع المقدّس لم يردع عن هذه السيرة والبناء بل أمضاها ، كما هو مفاد جملة من الروايات المتقدّمة ، مثل قوله علیه السلام في ما رواه حفص بن غياث « ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (1) ، وقوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب « ومن استولى على شي ء منه فهو له » (2).

فالإنصاف أنّ اعتبار اليد في الجملة من المسلّمات ، ولا يحتاج إلى البحث والتكلّم أكثر من هذا.

الجهة الرابعة : في أنّها أصل أو أمارة؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّه لو كان المدرك لها هو الإجماع أو هذه الأخبار فلا يمكن إثبات أماريّتها.

أمّا الإجماع فليس إلاّ على ترتيب آثار الملكيّة لما تحت يد شخص ، من دون تعرّضه إلى أنّ اليد طريق إلى الملكيّة أم لا.

وأمّا الأخبار فمفادها إمّا جواز الشراء والشهادة مستندا إلى اليد ، كما في رواية

ص: 140


1- تقدّم تخريجه في ص 135 ، رقم (1).
2- تقدّم تخريجه في ص 136 ، رقم (4).

حفص بن غياث ، وهذا المعنى أعمّ من الأماريّة والأصليّة ، ويجتمع مع كلّ واحد منهما ، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها ، حتّى أنّ جواز الحلف والشهادة الذي أخذ العلم في موضوعهما على نحو الطريقيّة مستندا إليها لا ينافي أصليّتها ؛ لأنّه قد حقّقنا في محلّه أنّ الأصول التنزيليّة أيضا مثل الأمارات تقوم مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ، فمن هذه الجهة أيضا لا فرق بينهما.

نعم هذه الجهة تنافي كونها من الأصول غير التنزيليّة ، ونحن قلنا إنّ احتمال كونها من الأصول غير التنزيليّة ساقط جدّا.

وأمّا رواية حمزة ابن حمران وصحيحة العيص ، فليس مفادهما إلاّ جواز الشراء من ذي اليد وعدم الاعتناء بقول الجارية والعبد ما لم يأتيا ببيّنة ، وقد عرفت أنّ جواز الشراء أعمّ من الأماريّة والأصليّة ، ويجتمع مع كل واحد منهما.

وأمّا رواية مسعدة ، فقد عرفت أنّها لا تدلّ على أصل اعتبارها ، فضلا عن أماريّتها أو أصليّتها.

وأمّا قوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب « ومن استولى على شي ء منه فهو له » لا يدلّ إلاّ على ترتيب آثار الملكيّة على ما استولى عليه ، وقد بيّنّا أنّ مثل هذا المعنى أعمّ من خصوص أحد هذين الأمرين.

فقد ظهر ممّا ذكرنا قصور هذه الأخبار عن الدلالة على إثبات أحد هذين الأمرين ، ومعلوم أنّه عند الشكّ في الأماريّة والأصليّة نتيجة العمليّة توافق الأصليّة ، لأنّ إثبات اللوازم شي ء زائد على إثبات أصل المؤدّى الذي هو المسلّم من هذه الأخبار ، كما أنّ الشكّ في أنّ الأصل تنزيلي أو غير تنزيلي نتيجته غير التنزيليّة بعين البيان المتقدّم.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء - كما هو كذلك ، حيث قلنا إنّ الأخبار إمضاء للبناء والسيرة العقلائيّة - فالحقّ أماريّتها ؛ لأنّه لا شكّ أن بناء العقلاء ليس من جهة

ص: 141

التعبّد بترتيب آثار الملكيّة عند الشكّ فيها ، بل من جهة كشفها عن الملكيّة الحاصل من غلبة كون ما تحت اليد ملكا لذي اليد عند عدم اعترافه بأنّه لغيره ، فيرون اليد طريقا وكاشفا عن ملكيّة ذي اليد ما لم يعترف بأنّه ليس له كسائر الظنون النوعيّة والطرق والأمارات العقلائية.

وبعبارة أخرى : الشي ء تارة معلوم وجوده أو عدمه سواء أكان ذلك الشي ء أمرا تكوينيّا أو اعتباريّا ، فالعقل يحكم بوجوب ترتيب آثاره عليه.

وهذا معنى حجّية العلم ؛ فليست حجّية العلم من المجعولات الاعتباريّة ، بل هي عبارة إمّا عن نفس هذا الحكم العقلي ، فيكون من لوازم العلم ، ويكون من قبيل الذاتي في كتاب البرهان. أو هي عبارة عن ملزوم هذا الحكم العقلي ، أي نفس الانكشاف والظهور ، فيكون من قبيل الذاتي الايساغوجي ؛ لأنّ العلم عبارة عن نفس الانكشاف والظهور ، وعلى كلا التقديرين ليست من المجعولات الاعتبارية ، بل هي غنيّة عن الجعل المستقل.

وأخرى مظنون أحدهما - أي وجود الشي ء أو عدمه - وحينئذ لا شكّ في أنّ العقل لا يحكم بصرف الظنّ بوجود الشي ء أو عدمه بوجوب ترتيب آثار وجوده في الأوّل ، وآثار عدمه في الثاني إلاّ أن يجعل طريقا في عالم الاعتبار بأن يعتبره العقلاء أو الشارع المقدّس طريقا وكاشفا ، سواء أكان اعتبار الشارع إحداثيّا أو إمضائيّا لما يكون طريقا عند العقلاء ، كما هو الحال في أغلب الطرق والأمارات الشرعيّة بل جميعها ؛ لأنّه لم نجد في الأمارات الشرعيّة ما لم تكن هي عند العقلاء أمارة.

نعم ربما يتصرّف الشارع في موضوع ما يراه العقلاء أمارة ، بازدياد قيد ، مثل عدالة الشاهدين في ثبوت ما أخبرا به مثلا ، أو حذف قيد ممّا هو موضوع الحجيّة عند العقلاء. ولا شكّ في أنّ الحجيّة في هذا القسم من المجعولات الاعتباريّة من طرف العقلاء ، أو الشارع ، أو من طرف كليهما بأن يكون مثلا من طرف العقلاء إحداثا ومن طرف الشارع إمضاء.

ص: 142

فلا بأس بأن تقول أنّ الظنّ ممكن الحجّية ، كما أنّ لك أن تقول إنّ العلم واجب الحجيّة ، كما أنّ الشكّ في شي ء لا يمكن أن يجعل طريقا وكاشفا ولو كان في عالم الاعتبار العقلائي أو عالم الاعتبار الشرعي ؛ لأنّ الحجيّة المجعولة في عالم الاعتبار لا بدّ وأن تكون في محل قابل ، والشكّ والتحيّر ليسا قابلين لأن يجعلا طريقا وكاشفا ، فإذا حكم الشارع في مورده بشي ء يكون صرف وظيفة عملية من دون أن يكون طريقا إلى وجود المشكوك أو طريقا إلى عدمه ، فلا بأس بأن نقول الشكّ ممتنع الحجيّة.

ثمَّ لا يخفى أنّه في مورد الظن بشي ء يمكن أن يجعل وظيفة عمليّة ، ولا يلاحظ جهة كشفه الناقص وتتميمه في عالم الاعتبار كي تكون أمارة ، بل المجعول صرف الوظيفة العمليّة بإلقاء جهة الكشف الناقص الموجود فيه وعدم رعايته أصلا ، فيكون أصلا عمليّا.

ثمَّ إنّ تلك الوظيفة العمليّة المجعولة في هذه الصورة إن كانت بلسان أنّه هو الواقع فيكون أصلا تنزيليا - وإن شئت سمه : أصلا محرزا - وان لم يكن بهذا اللسان فهو أصل غير تنزيلي وإن شئت سمه : الأصل غير المحرز.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في حصول الظنّ النوعي من اليد غير المعترفة ، بأنّ ما استولت عليه ليس لها بملكيّة ما تحتها لها ، وبناء العقلاء على طريقيّة هذا الظنّ وحجيّته لا على صرف العمل على طبق المظنون مع إلقاء جهة كشفه حتّى يكون أصلا عمليا ، والشارع أمضى بناء العقلاء كما هو مفاد هذه الأخبار ، فتكون اليد أمارة وحاكمة على الاستصحاب كما تقدّم وجهها.

الجهة الخامسة : في سعة دلالتها ومقدار حجيتها وموارد جريانها

اشارة

قد وقع الخلاف في كثير من الموارد بعد الاتّفاق على حجيّتها في الجملة.

ص: 143

فنقول : أمّا حجيّتها بالنسبة إلى ملكيّة الأعيان المتمولة هو فيما إذا كانت تلك العين في حدّ نفسها قابلة للنقل والانتقال من غير احتياج إلى طروّ أمر يكون موجبا لجواز النقل والانتقال - أي لا تكون من قبيل الأعيان الموقوفة ، بل ولا تكون من الأراضي المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح ، فإنّها أيضا لا يجوز نقلها إلاّ فيما إذا رأى المصلحة في نقلها وليّ المسلمين ، وفيما إذا كانت اليد من أوّل حدوثها مجهولة العنوان ، بمعنى أنّها من أوّل حدوثها لا يعلم أنّها يد مالكه ، أو يد عادية ، أو يد أمانة شرعيّة كاللقطة ، أو أمانة مالكيّة كالإجارة والعارية والوديعة وأمثال ذلك من أمانات المالكية - ولم يكن معترفا ذو اليد بأنّه ليس له ، ففي مثل هذه الصورة حجيّة من المسلّمات ، ولا خلاف بينهم في ذلك بالنسبة إلى الغير.

وأمّا بالنسبة إلى نفسه إذا شكّ أنّ ما في يده هل ملك له أو لغيره ، فحجيّة اليد في هذه الصورة أيضا وإثباتها ملكيّة ما في يده لنفسه لا يخلو من كلام ، وإن كان الصحيح عندنا أنّها تثبت لاتّحاد ما هو المناط في الإثبات بين نفسه وغيره.

فموارد البحث والخلاف أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إذا كان حال حدوثها معلوم العنوان ، بأن كانت يد عادية ، أو أمانة مالكيّة أو شرعيّة ، فقد أفاد شيخنا الأستاد قدس سره حكومة استصحاب حال اليد - من كونها عادية أو أمانة - على نفس اليد (1).

لا يقال : إنّ اليد أثبتنا أماريّته ، والأمارات طرّا لها حكومة على الاستصحاب ، فكيف تقول إنّ الاستصحاب حاكم على قاعدة اليد؟

لأنّه يقال في جوابه : إنّ ما قلت صحيح لو كان التعارض بين المؤدّيين ، فلا شكّ في أنّ اليد حيث أنّها أمارة - وبناء على ما هو المختار من تتميم الكشف في جعل حجية الأمارات - ترفع الشكّ عن مؤدّاه ، فيذهب بموضوع الاستصحاب حيث أنّه أخذ فيه

ص: 144


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 604.

الشكّ ، ولكن كلّ ذلك ، فيما إذا جرت اليد ، وكان موضوعها ، أي كونها مجهولة العنوان ومشكوك الحال ، أي لا يعلم أنّها يد مالكة أو يد عادية أو يد أمانة.

وفيما نحن فيه أيضا حال ادّعائه الملكيّة وإن كان لا يعلم حال اليد ويحتمل أن يكون يده يد مالكة بواسطة انتقاله بناقل شرعي إليه ، ولكن الاستصحاب يرفع هذا الجهل تعبّدا ، فلا يبقى موضوع لقاعدة اليد حتّى تجري وتكون حاكمة على الاستصحاب.

وأورد عليه أستادنا المحقق (1) قدس سره بأنّ هذا الكلام له وجه لو قلنا بأنّ الجهل بالحالة السابقة مأخوذ في موضوع دليل اعتبار اليد وحجيته ، لا أن يكون الجهل بالحالة السابقة موردا للقاعدة - كما هو كذلك - وإلاّ لو كان الجهل موضوعا للقاعدة يلزم أن تكون القاعدة أصلا عمليّا ؛ وذلك لما تقدّم في أوّل البحث عن الأصول العمليّة أنّ الفرق بين الأصل والأمارة هو أنّ الشكّ والجهل مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة. نعم حجيّة الأمارة واعتبارها في مورد الجهل واستتار الواقع ، وإلاّ فمع العلم على وفاقه أو خلافه لا يبقى مورد لجعل الأمارة.

ثمَّ إنّه يقول بعدم حجيّة اليد في مثل هذه الصور - أي فيما إذا كانت في أوّل حدوثها معلوم العنوان بأن كانت يد عادية أو أمانة - ولكن لا من جهة استصحاب حال اليد ، بل لأجل عدم شمول بناء العقلاء لمثل هذه الصورة ، ولا أقل من الشكّ. وأيضا النتيجة عدم اعتباره في هذه الصورة.

ولكن يمكن أن يقال :

إنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد لا يثبت الملكيّة شرعا إلاّ بإمضاء الشارع لذلك البناء ، فإذا قال الشارع : لا تنقض اليقين بكونها يد عادية أو يد أمانة مالكية أو شرعية بالشكّ في بقاء تلك الحالة السابقة وابن على بقاء تلك الحالة السابقة من

ص: 145


1- الحاشية على « فوائد الأصول » للعراقي ج 4 ، ص 605.

كونها عادية أو أمانة ، فهذا ردع لتلك السيرة وذلك البناء.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو كانت الحالة السابقة لما في يده عدم جواز نقله وانتقاله في حدّ نفسه إلاّ بطروّ أحد الأمور التي يجوز معها النقل والانتقال كالوقف وفعلا انتقاله إليه بسبب يحتمل طروّ أحد تلك الأمور ، فأيضا لا تكون اليد في هذه الصورة أمارة على كون ما في يده ملكا له.

وذلك أيضا لما ذكرنا من استصحاب حال اليد ، وإن شئت قلت : استصحاب عدم طروّ ما يجوز معه النقل والانتقال ، ففي هذه الصورة أيضا مثل الصورة السابقة لأماريّة اليد وكشفها عن ملكيّة ما تحت اليد لا يبقى موضوع : لأنّ موضوع الأمارة اليد على مال قابل للنقل والانتقال ، فباستصحاب عدم طروّ ما معه قابل للنقل والانتقال يرتفع موضوع ما هي الأمارة.

نعم لو احتملنا أنّ ما تحت اليد كان قبل حدوث اليد قابلا للنقل والانتقال - بواسطة احتمال طروّ أحد المجوّزات للبيع مثلا بحيث - لا يبقى مجال لاستصحاب حال اليد ؛ لأنّها من أوّل حدوثها من هذه الجهة مجهول الحال.

وأمّا لو كان ما تحت اليد عن أراضي المفتوحة عنوة وحصل الشكّ في ملكيّتها لذي اليد بواسطة احتمال انتقالها إلى ذي اليد بناقل شرعي ، فالظاهر كون اليد أمارة الملك ، ولا يقاس بالوقف ؛ لأنّ الأراضي المفتوحة عنوة قابلة للنقل والانتقال ، وليست مثل الوقف محبوسة لا يجوز نقلها إلاّ بعد طروّ أحد مجوّزات نقلها ، غاية الأمر أنّ أمر نقلها بيد وليّ المسلمين حسبما يرى مصلحة المسلمين من النقل أو الإبقاء على ملك المسلمين وأخذ الخراج ممّن بيده.

هذا ، ولكن ظاهر بعض الأخبار أنّ الأراضي المفتوحة عنوة موقوفة محبوسة في أيديهم لا يجوز بيعها وشرائها ، ويأخذ الخراج وليّ المسلمين ممّن بيده تلك الأراضي ، وبناء على هذا تكون حالها حال الوقف ليست قابلة للنقل والانتقال إلاّ ضرورة

ص: 146

وحاجة مهمّة في أمور المسلمين.

الأمر الثاني : إذا كان في مقابل ذي اليد من يدّعي الملكيّة لما في يده ، فتارة : له بيّنة طبق ما يدّعي ، فيؤخذ المال من ذي اليد ويعطي للمدّعي. وأخرى : ليس له بيّنة ولكن ذو اليد يعترف بأنّه له ، فكذلك أيضا. وتارة : يعترف بأنّه كان له ولكن انتقل إليه بناقل شرعي ، وعلى هذا تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدّعيا بعد ما كان منكرا ، والمدعي صار منكرا أيضا بواسطة هذا الاعتراف ؛ لأنّ قول ذلك المدّعي بعد هذا الاعتراف يصير مطابقا لأصالة عدم الانتقال ، فتنقلب منكرا ولا كلام في هذا.

وإنّما الكلام في أنّ المال يؤخذ منه ويعطي لمن كان مدّعيا ، فصار منكرا بواسطة إقرار ذي اليد ، أو يبقى عنده بواسطة أماريّة اليد؟

لا يقال : أماريّة اليد للملكيّة سقطت بواسطة اعترافه بأنّ المال كان له ، وذلك لأنّ اعترافه بأنّ المال كان له لا ينافي كون اليد أمارة على الملك الفعلي ، من جهة أنّه في أغلب الموارد معلوم أنّ ما في اليد كان لشخص آخر ، فحال اعترافه حال العلم بأنّه كان لغيره. فكما أنّ في مورد العلم بأنّه كان لغير ذي اليد لا يسقط عن الاعتبار والأماريّة ، فكذلك فليكن في مورد الاعتراف.

وبعبارة أخرى : لا فرق بين أن يثبت أنّ ما في يده كان ملكا لمن يدّعى الآن بحكم الحاكم ، أو بالبينة أو بالعلم الوجداني ، أو بإقرار ذي اليد ؛ لأنّ ثبوت الملكيّة السابقة بأحد هذه الأمور لا ينافي مع الملكيّة حال الدعوى لذي اليد. وحيث أنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد لملكيّة ما في اليد لذي اليد وقد أمضاها الشارع ، فيحكم بالملكيّة الفعليّة لذي اليد ، إلاّ أن يأتي ببيّنة طبق دعواه.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عمّا ذكر بأنّ انقلاب الدعوى من آثار نفس الإقرار ، وليس من آثار الواقع كي لا يكون فرق بين العلم والبيّنة والإقرار ، فإذا أقرّ فهو

ص: 147

مأخوذ بإقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع (1).

ولكن هذا كلام عجيب.

أما أوّلا : لعدم حجيّة الإقرار مع العلم التفصيلي بمخالفته للواقع.

وأمّا ثانيا : معنى أخذه بإقراره ترتيب آثار الملكيّة السابقة لا عدم أماريّة اليد للملكيّة الفعليّة ، نعم لو انضمّ إلى اعترافه بالملكيّة السابقة للمدّعي دعوى الانتقال منه إليه بناقل شرعي ، فمن حيث هذه الدعوى يكون ذو اليد مدّعيا للانتقال ، وقول ذلك المدّعي المقابل لذي اليد يصير مطابقا لأصالة عدم الانتقال ، فتنقلب الدعوى ويصير منكرا.

فكأنّه هناك دعويان : أحدهما : أن يدّعي الملكيّة طرف ذي اليد ، فبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد منكرا ، وطرفه يكون مدّعيا.

الثاني : دعوى ذي اليد الانتقال إليه من طرفه ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد مدّعيا وطرفه يكون منكرا ؛ لمطابقة قوله مع أصالة عدم الانتقال.

وأعجب ممّا ذكره شيخنا الأستاد قدس سره ما ذكره أستاذنا المحقّق (2) قدس سره في وجه انقلاب الدعوى هو حجيّة استصحاب عدم الانتقال مع وجود اليد الفعلي على المال ، فمقتضى اليد هو كون هذا المال ملكا لذي اليد وانتقاله من الطرف إليه ، ومقتضى استصحاب عدم الانتقال عدم كونه ملكا لذي اليد وبقاؤه على ملك الطرف ، فأماريّة اليد هاهنا مع حجيّة استصحاب عدم الانتقال من المدّعي الذي هو الطرف لذي اليد ممّا لا يجتمعان ، فبناء على حجيّة هذا الاستصحاب لا يبقى مجال لأماريّة هذه اليد ؛ لما ذكرنا من أنّ مؤدّى الاستصحاب - أي التعبّد بعدم الانتقال - عدم ملكيّة ذي اليد ، فمع حجيّة هذا الاستصحاب لا يمكن أن تكون اليد في هذا المقام أمارة.

ص: 148


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 613.
2- الحاشية على « فوائد الأصول » للعراقي ج 4 ، ص 614.

وفيه : أنّ غاية ما يستفاد من هذا البيان تعارض هذا الاستصحاب مع هذه اليد ، فبناء على أن اليد أمارة - كما هو نفسه جزم بذلك - تكون اليد حاكما على الاستصحاب ؛ لما تقدّم من حكومة الأمارات على الأصول.

وأورد شيخنا الأستاذ قدس سره على نفسه بعد ما قال بالانقلاب في الصورة المذكورة - وهي الصورة التي يعترف ذو اليد بأنّ ما في يده كان سابقا للمدّعي وادّعى الانتقال إليه بناقل شرعي - بمخالفة هذا القول ، أي انقلاب الدعوى لما احتجّ به أمير المؤمنين علیه السلام على أبي بكر بأنّ الصديقة الطاهرة علیهاالسلام ذات يد على فدك ، فلم تسأل البيّنة عنها؟ والحال أنّها صلوات اللّه عليها اعترفت بأنّ فدك كان لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نحلها إيّاها فادّعت الانتقال إليها منه صلی اللّه علیه و آله بعد اعترافها أنّها له صلی اللّه علیه و آله ، فبمقتضى تلك القاعدة انقلبت الصدّيقة الطاهرة مدّعية فتكون البيّنة عليها ، مع أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ينفى في هذا الخبر - أي خبر الاحتجاج - كون البيّنة عليها علیهاالسلام ، فتدلّ هذه الرواية دلالة صريحة على عدم انقلاب الدعوى (1).

ثمَّ أجاب قدس سره عن هذا الاعتراض بما لا يخلو عن قصور وإشكال ؛ لأنّ جوابه مبتن على مبان في الملكيّة وأنواع انتقالاته غير مقبولة.

فالأحسن أن يقال على تقدير تسليم دعوى الانقلاب مع ما فيها من النظر والتأمّل : إنّ هاهنا كما قلنا آنفا دعويان :

إحديهما : دعوى الانتقال ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى هي سلام اللّه عليها مدّعية وعليها البيّنة.

والأخرى : دعوى الملكية وبالنسبة إلى هذه الدعوى حيث أنّها سلام اللّه عليها كانت ذات يد كانت البيّنة على طرفها - أي أبي بكر - لأنّه بزعمه كان وليّ المسلمين ، فكان أمير المؤمنين علیه السلام احتجّ على أبي بكر بالنسبة إلى هذه الدعوى الأخيرة إن كانت

ص: 149


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 614.

الدعوى الأولى مسكوتا عنها.

ثمَّ إنّ في هذه المسألة صور كثيرة ما استوفينا حقّها ؛ لأنّ محلّها كتاب القضاء من الفقه.

الأمر الثالث : من تلك الأمور التي صار محلاّ للكلام والبحث : أنّه هل حجيّتها مخصوصة بالأعيان المتموّلة أم تجري في المنافع أيضا؟

فنقول : التحقيق في هذا المقام هو التفصيل بين ما كان المدّعي هو المالك باعتراف ذي اليد - بأن يقول مثلا : يا زيد المدّعي ، هذه الدار التي الآن في يدي ملكك ولكن في إجارتي إلى سنة مثلا - وبين أن يكون المدعي أجنبيّا أي ليس بمالك ، وذلك مثل أن يدّعي شخص آخر ويقول : في إجارتي لا في إجارتك ، بأن تكون اليد حجّة في الثاني - أي مقابل الأجنبي - لا الأوّل ، أي مقابل المالك.

والسرّ في ذلك : أنّ المنفعة أمر معدوم بالنسبة إلى ما سيأتي في زمان النزاع ، بل غالبا يكون أمرا غير قار لا يوجد جزء منه إلاّ بعد انعدام الجزء الآخر ، فلا يمكن وقوعها استقلالا تحت اليد التي عرفت أنّها سيطرة واستيلاء خارجي ، سواء أكان هناك معتبر في العالم أو لا يكون ؛ إذ اليد بالمعنى المذكور من الأمور التكوينيّة الخارجيّة ، وليست من الأمور الاعتباريّة ؛ ولذلك يتحقّق اليد من الغاصب مع أنّه لا اعتبار لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء.

وأمّا القول بأنّه باعتبار نفسه شطط من الكلام ؛ لأنّه لو اعتبر نفسه مالكا أو مستوليا ومسيطرا ألف مرّة بدون أن يكون له سيطرة وتسلّط في الخارج لا يقال أنّه ذو اليد ، فمعنى كون المنفعة تحت اليد ليس أنّها استقلالا وبنفسها تحت اليد بل معناه أنّها تحت اليد بتبع العين ؛ لأنّ المنفعة من شئون العين ، ونسبتها إلى العين كنسبة العرض إلى موضوعه ، فالاستيلاء والسيطرة على العين استيلاء على منافعها.

وبعبارة أخرى : اليد على العين يد على منافعها ، لا بمعنى أنّه هناك استيلاء ان

ص: 150

وسيطرتان في الخارج : أحدهما على العين ، والأخرى على المنفعة ، بل ليس في الخارج إلاّ الاستيلاء على العين ، وهذا الاستيلاء الواحد كما يصحّ أن ينسب إلى العين يصح أن ينسب إلى المنفعة. وبعبارة أخرى : المنفعة غالبا أمر غير قارّ لا توجد إلاّ تدريجا.

نعم هناك عند العرف قد تطلق المنفعة على بعض الأعيان الخارجيّة ، كاللبن في الضرع ، والثمرة على الشجرة. فهذه وأمثالها خارجة عن محلّ الكلام ، ولا شكّ في إمكان وقوعها مستقلا تحت اليد ، فكلامنا في ما هو من قبيل الأوّل - أي المنافع التي لا وجود لها استقلالا - بل هي حال النزاع كما قلنا معدومة ولا توجد إلاّ تدريجا ، فليس حال النزاع شي ء موجود حتّى نقول بأنّه تحت اليد مستقلا ، نعم إنّها تحت اليد بتبع العين ، بمعنى أنّ اليد على العين يد أيضا عليها ؛ وبهذا صحّحنا الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة من باب ضمان اليد.

والحاصل : أن اليد على العين يد على المنافع غير القارّة حقيقة وواقعا ، وليس من قبيل الوصف بحال متعلّق الموصوف ، أي ليس العين واسطة في العروض بل واسطة في الثبوت ، فإذا استولى على العين لا يصحّ سلب السلطنة واستيلائه على المنفعة.

وبعد ما ظهر ما قلنا فنقول : فلو كان المدّعي هو المالك فحيث أنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أماني ومن قبل المالك ، ففي الحقيقة يده يد المالك ، كما بيّنّا سابقا أنّ يد كلّ أمين مالكي يد المالك ، فلا يبقى مجال للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد ؛ لأنّه أسقطها عن الاعتبار بالنسبة إلى المالك باعترافه أنّ يده أمانيّة.

وأمّا بالنسبة إلى الأجنبي فلا ، من جهة أنّ اليد موجودة على الفرض ، ولم يصدر عن ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريّتها بالنسبة إلى الأجنبي.

نعم يبقى مطالبة الدليل على اعتبار مثل هذه اليد التبعي ، فنقول : لو كان المدرك لهذه القاعدة هو الأخبار فالإنصاف أنّ إثبات حجيّتها حتّى فيما إذا كان المدّعي غير المالك مشكل ؛ لأنّ أغلب الأخبار موردها الأعيان ، والخروج عنها إلى المنفعة يحتاج

ص: 151

إلى دليل.

وأمّا قوله علیه السلام في موثقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » (1). وإن كان فيه عموم بالنسبة إلى المنفعة والعين باعتبار لفظ « شي ء » ولكن ضمير « منه » الراجع إلى متاع البيت يقيّد هذا الإطلاق ، فتأمّل.

وأمّا رواية عباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا علیه السلام وإن كان فيه عموم باعتبار جملة « لأقرّ الناس على ما في أيديهم » (2) لكنّك عرفت عدم دلالتها على أصل المطلب ، بل هي بصدد بيان مطلب آخر لا ربط له بما نحن فيه أصلا.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع ، فمعلوم أنّه لا حجيّة له في محلّ الخلاف.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء كما هو الصحيح عندنا وقلنا إن هذه الأخبار إمضاء لما عندهم ، فالأظهر بل الأقوى والمتعيّن هو التفصيل المتقدّم ؛ لأنّه من الواضح أنّ العقلاء يفرقون بين أن يكون المدعي هو المالك أو الأجنبي.

الأمر الرابع : أنّها تجري في الحقوق أم لا؟

فنقول : الحقوق المتعلّقة بالأعيان على اختلاف أنحائها ، سواء أكانت الأعيان متموّلة كحقّ الرهانة وحقّ التولية وغيرهما ، أو غير متموّلة كحقّ الاختصاص المتعلّقة بالعذرة والخمر والميتة ، لا يمكن وقوعها تحت اليد ابتداء ، بل تقع تحتها بتبع العين ، وحالها من هذه الجهة حال المنافع بل انزل ؛ لأنّ الحقّ أمر اعتباري ، إذ ليس هو إلاّ سلطنة اعتباريّة مجعولة في عالم الاعتبار من طرف العقلاء أو الشارع على شي ء أو شخص.

ومن آثاره أنّه يسقط بإسقاطه بخلاف المنفعة ، فإنّها من الأمور الواقعيّة المحمولة بالضميمة. فالتفصيل الذي بيّنّاه في باب المنافع آت هنا بطريق أولى ، فاليد هاهنا على

ص: 152


1- تقدّم تخريجه في ص 136 ، رقم (4).
2- تقدّم تخريجه في ص 136 ، رقم (4).

تقدير حجيّتها مخصوصة بالنسبة إلى الأجنبي ، لا بالنسبة إلى المالك.

وأمّا الدليل على اعتبارها بالنسبة إلى الأجنبي فكما بيّنّا في باب المنافع حرفا بحرف : لو كان مدرك هذه القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فلا دليل في المقام أصلا ، أما لو كان المدرك بناء العقلاء فالظاهر استقرار بنائهم بثبوت هذه الحقوق إذا كان المدعي غير مالك العين.

الأمر الخامس : في أنّه هل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض أم لا؟ كما لو تنازع شخص مع آخر في زوجة تحت يد أحدهما ، أي تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوج مع زوجته ، أو في صبي تحت يد أحدهما.

والأقوال في المسألة مضطربة ، ولكن الأقوى - بناء على ما ذكرنا من أنّ مدرك هذه القاعدة هو بناء العقلاء - استقرار بنائهم على أماريّة اليد في هذه المواضع ؛ لأنّ الظنّ الحاصل من الغلبة هاهنا أقوى بمراتب من الظنّ الحاصل في باب الأملاك ؛ لأنّ الغصب في باب الأملاك كثير ، بخلافه هاهنا فإنّ غصب أحدهم زوجة الآخر أو ولده في غاية القلّة بل الندرة.

نعم لو كان مدرك القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فشمولهما لمثل المقام في غاية الإشكال ؛ لعدم شمول الإجماع لمورد الخلاف واختصاص الأخبار حسب ظهورها العرفي بأعيان الأملاك.

الأمر السادس : في أنّه هل هذه القاعدة تجري في حقّ نفس ذي اليد إذا شك في أنّ ما بيده ملك له أو لغيره فيما إذا لم يكن مدّع في قباله ، أم لا؟

ربما يقال بجريانها في حقه وان لم يكن في قباله مدّع يزاحمه ؛ مستندا إلى رواية مسعدة بن صدقة ، فإنّه علیه السلام قال فيها بحلّيّة ما تحت يده ، ولو احتمل ذو اليد كونه سرقة أو غير ذلك من الاحتمالات المنافية لملكيّة ذي اليد ، سواء أكان هناك مدّع أو لم يكن.

ص: 153

ولكنّك عرفت أنّ مساق تلك الرواية في بيان قاعدة الحلّ ولا ربط لها بباب اليد أصلا.

وربما يستند لإثبات هذا المطلب بعموم قوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » حيث أنّه علیه السلام لم يقيد هذا الحكم بأنّه فيما إذا كان في قباله مدع ، فالحكم بكونه له مطلق من هذه الجهة.

وفيه : أنّ الظاهر من هذه الرواية أنّه علیه السلام في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة حكم بأنّ كلّ واحد منهما إذا كان مستوليا على شي ء من متاع البيت فهو له ، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم التنازع وعدم وجود مدّع في البين.

واستدلّ أيضا لهذا المطلب - أي حجيّة اليد لملكيّة ما في يده لنفسه عند الشكّ ، ولو لم يكن مدّع في البين - بصحيحة جميل بن صالح ، عن الصادق علیه السلام ، رجل وجد في بيته دينارا ، قال علیه السلام : « يدخل منزله غيره؟ » قلت : نعم كثير ، قال علیه السلام : « هذه لقطة » قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا قال علیه السلام : « فيدخل أحد يده في صندوقه غيره ، أو يضع فيه شيئا؟ » قلت : لا ، قال : « فهو له » (1). حيث حكم علیه السلام بكون الدينار الذي وجده في صندوقه له مع كونه شاكّا أنّه له ، ولم يفرق علیه السلام بين أن يكون هناك مدّع يدّعيه أم لا ، فالرواية بإطلاقها يشمل المقام.

ولكنّه من المحتمل جدّا أن يكون حكمه علیه السلام بكونه له - بعد السؤال عنه بأنّه هل يدخل أحد فيه غيره أو يضع فيه شي ء وجوابه بالعدم - من جهة حصول القطع العادي ، أي ركون النفس والاطمئنان بأنّه له في مثل هذه الصورة ، فكأنّه علیه السلام نبّهه على أنّ احتمال كونه لغيره في الفرض وهم محض ، فلا ربط له بباب اليد ، بل نفس هذا الاطمئنان معتبر سواء أكان هناك يد أم لا.

ص: 154


1- « الكافي » ج 5 ، ص 137 ، باب اللقطة والضالة ، ح 3 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 293 ، باب اللقطة والضالّة ، ح 4050 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 390 ، ح 1168 ، باب اللقطة والضالة ، ح 8 « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 353 ، أبواب اللقطة ، باب 3 ، ح 1.

والشاهد على ذلك أنّه علیه السلام حكم في صدر هذه الرواية بأنّ الدرهم الذي وجده في الدار لقطة ، وليس له بعد السؤال عنه أيضا بمثل هذا السؤال وأنّه هل يدخل ذلك المنزل غيره وجوابه ب- « نعم ، كثير » مع وجود اليد في كلا الموردين ، ولا فارق بينهما إلاّ ما ذكرنا. ولو كان يجيب في ما وجده في صندوقه أيضا ب- « نعم ، كثير » مثل ما أجاب في منزله لكان حكمه علیه السلام أيضا بأنّه لقطة.

واحتمال أن يكون الفرق من جهة أنّه في الصورة الأولى كثرة الداخلين في ذلك المنزل كما هو المفروض ، واحتمال أن يكون الدينار الذي وجده من أحدهم مانعة من حجية اليد فيها ، بخلاف الصورة الثانية فإنّ الفرض فيها عدم وضع غيره شيئا فيه ، فليس شي ء مانعا عن حجيّتها.

وبعبارة أوضح : اليد في الصورة الأولى سقطت عن الحجيّة بواسطة الأمارة على الخلاف ، وهي كثرة الداخلين في ذلك المنزل غيره ، فيكون احتمال أن يكون لهم أقوى من احتمال أن يكون له ؛ لأنّه أحدهم وفي عرض أحدهم ، فهذا احتمال مرجوح بل خلاف المتفاهم العرفي. وعلى فرض تساوي هذين الاحتمالين أيضا تسقط عن الدلالة على اعتبارها في المقام.

وأمّا القول بمعارضة هذه الصحيحة بموثّقة إسحاق بن عمّار ، عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة ، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة ، فلم يزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال علیه السلام : « يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها ». قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال علیه السلام « يتصدق بها » (1). حيث حكم الإمام علیه السلام بالتصدّق بها في صورة عدم معرفتهم إيّاها ، الشاملة بإطلاقها ، ما إذا كانوا شاكّين أنّها لهم أم لا ، فليس بشي ء ؛ من جهة أنّه :

ص: 155


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 391 ، ح 1171 ، باب اللقطة والضالة ، ح 11 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 355 ، أبواب اللقطة ، باب 5 ، ح 3.

أولا : عدم معرفة أهل المنزل لها ملازم عادة مع العلم بالعدم ، لا صرف عدم العلم. واحتمال أن يكون لأبيهم أو جدّهم - مع عدم اطّلاعهم - في غاية البعد.

وثانيا : صدق اليد على الدراهم المدفونة خصوصا في تلك المنازل المعدّة للايجار كما في الفرض لا يخلو عن إشكال ، فيكون من قبيل مجهول المالك الذي تعريفه بالنسبة إلى صاحب الدار ممكن ، وبالنسبة إلى غيرهم غير ممكن. فحكم علیه السلام أوّلا بتعريفهم إيّاها فإذا لم يعرفوها يتصدّق بها.

وأمّا القول باعتبار اليد في حق صاحب اليد لو لم يكن مدّع يدّعيه ويزاحمه - حتّى مع علمه بعدم كونه له لأنّه رزق ساقه اللّه إليه - فدعوى بلا برهان وبعيد عن مذاق الفقه والفقاهة. كما أنّ انضمام كونه مدّعيا أنّه له في هذه الصورة - أيّ : فيما إذا كان شاكّا مع عدم وجود مزاحم يزاحمه ومدّع في البين إلى اليد في الحكم بأنّه له ، وإلاّ لو كان ذو اليد شاكّا وساكتا فما بيده ليس له - عجيب لا ينبغي التكلّم فيه.

هذا كلّه لو كان المدرك لهذه القاعدة هي الأخبار ، أمّا لو كان بناء العقلاء - كما ذكرنا - فالإنصاف أنّه لا فرق عندهم في اعتبارها بين أن يكون مدّع في البين أم لا.

الأمر السابع : في أنّه هل يد المسلم أمارة على التذكية والحلّية أم لا؟

فنقول : لا كلام في أماريّة سوق المسلم ويده على التذكية والحلّية إجماعا ونصّا ، وإنّما الكلام وقع في محلّ آخر ، وهو أنّه هل كما أنّ يد المسلم أمارة التذكية ، يد الكافر تكون أمارة الميتية أم لا؟

فذهب جمع إلى أنّها أمارة ، وبعض آخر إلى عدمها.

نعم ما كان في يد الكافر حيث أنّه ليس عليه أمارة التذكية فاستصحاب عدمها يجري ، ويجعله في حكم الميتة أو يدخله في موضوعها ، على القولين في معنى الميتة ، وهذا غير كونها أمارة الميتيّة.

واستدل للقول الأوّل برواية إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح علیه السلام : « لا بأس في

ص: 156

الصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام » ، قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال علیه السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية : أنّها تدلّ بمفهوم الشرط على ثبوت البأس إذا لم تكن الغلبة للمسلمين في تلك الأرض أو ذلك البلد ، ولو كان ذو اليد مشكوك الكفر فضلا عن أن يكون معلوم الكفر.

ولكنّك خبير بأنّ الرواية في مقام بيان المراد من سوق الإسلام وأرضهم ، وأنّ المدار في كون السوق سوق الإسلام هو أن يكون إمّا جميعهم مسلمين أو غالبهم ، فإذا لم يكن كذلك فليس أمارة على التذكية والحلية ، فقهرا يكون فيه البأس بحكم أصالة الحرمة في اللحوم ما لم تكن امارة على التذكية. وذلك لجريان استصحاب عدم التذكية بدون أن يكون حاكم عليه في البين ، فلا ربط لها بأماريّة يد الكافر على الميتيّة أصلا ، ولا بأماريّة سوقهم وأرضهم ، كما أنّ الظاهر من صاحب الجواهر قدس سره استفادة ذلك (2). من جهة أنّه علیه السلام حكم بالبأس عند عدم غلبة المسلمين ، وعند عدم تحقّق سوقهم.

وذلك من جهة أنّ حكمه علیه السلام بالبأس في الصورة المذكورة أعمّ من كون سوقهم أمارة على العدم ومن عدم كونه أمارة ، فكيف يستكشف منه الملزوم الخاص؟

مضافا إلى أنّ إطلاق عدم الغلبة يشمل صورة تساويهما من حيث العدد ، فيكون في هذه الصورة أيضا بأس بحكم المفهوم. ولا وجه حينئذ لعدّها من سوق الكفّار وأرضهم مع تساوي الطائفتين من حيث العدد.

واستدلّ أيضا لذلك القول برواية إسماعيل بن موسى ، عن أبيه : سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال علیه السلام : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا

ص: 157


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 368 ، ح 1532 ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ، ح 64 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 5 ؛ وج 3 ، ص 332 ، أبواب لباس المصلّى ، باب 55 ، ح 3.
2- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 347 ، وج 8 ، ص 54.

رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أنّه علیه السلام أمر بالسؤال إذا كان البائع مسلما غير عارف بأنّ ما باعه ميتة أم لا ، وكان هناك في البلد والسوق مشركون يبيعون ذلك ، ومن المحتمل أن يكون هذا المسلم اشترى منهم. ونتيجة السؤال هو أنّه لو تبيّن أنّ البائع الأوّل مشرك ، وهذا البائع الثاني المسلم اشترى من ذلك المشرك يجب الاجتناب عنه ، وإلاّ يلزم أن يكون الأمر بالسؤال لغوا ومعلوم أنّ معنى هذا أنّ يد الكافر أمارة عدم التذكية ؛ وتعارض يد المسلم التي هي أمارة التذكية وتكون مقدّمة عليها ، فيدلّ على اختصاص أماريّة يد المسلم على التذكية بما لا يعلم تقدّم يد الكافر عليها.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان الأمر كذلك فحينئذ ( يمكن أن يقال ) أن حكمة السؤال هو أنّه هل أمارة التذكية هاهنا موجودة أم لا؟ لأنّه على فرض سبق يد الكافر لا أماريّة لهذه اليد التي اشترى منها ، لا أنّ الحكمة وجدان الامارة على الميتيّة كما توهّم.

إن قلت : أيّ داع كان على الفحص مع أنّ اليد يد مسلم ، ولم يعلم الانتقال إليها من يد الكافر.

قلنا : علّق السؤال على رؤيته بيع المشركين لذلك ، وبعبارة أخرى : الظاهر أنّ المراد من هذه الرواية أنّ يد المسلم وسوقهم أمارة إذا لم يكن هناك جماعة من الكفّار يتناولون بيعها وشرائها ، وإلاّ يجب السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف ، أمّا إذا رأيته يصلي فيه فلا يجب السؤال. فما عن الجواهر في هذا المقام - حيث يقول : بل لعلّ

ص: 158


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 258 ، باب فيما يصلّي فيه وما لا يصلّي ، ح 792 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 371 ، ح 1544 ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ، ح 76 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 7. وفي السند : « عن سعد بن إسماعيل ، عن أبيه إسماعيل بن عيسى » بدل : إسماعيل بن موسى عن أبيه.

من خبر إسحاق بن عمّار مع خبر إسماعيل يستفاد كون يد الكافر وأرضه أمارة على عدم التذكية (1) - غريب.

هذا أحد الاحتمالات في معنى الرواية ، لكنّه انصافا بعيد.

والصحيح في معناها : أنّ الراوي سأل عن لزوم السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف ، وغير العارف يحتمل له معنيان : أحدهما أنّه غير عارف بالولاية ، ثانيهما أنّه غير عارف بالأحكام ، والإمام علیه السلام يجيبه بأنّه يجب السؤال إذا كان البائع مشركا ، فكأنّه علیه السلام جعل حجيّة يد المسلم مفروغا عنه ، سواء أكان عارفا أو غير عارف ، وأنّه هناك لا يحتاج إلى السؤال عن البائع ، وأثبت السؤال في مورد آخر وهو كون البائع مشركا وكافرا.

ووجه الاستدلال - بناء على هذا المعنى للرواية - هو أنّ السوق مع أنّه سوق المسلم كما أنّه المفروض في صدر الرواية ، حيث يقول الراوي « يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل » وأنّه أمارة على التذكية وحاكم على استصحاب عدم التذكية ، فلا يجب السؤال ومع ذلك أمر علیه السلام بلزوم السؤال إذا كان البائع مشركا ، وليس هذا إلاّ من جهة أماريّة يد الكافر على عدم التذكية ، وتقديمها على سوق المسلم عند التعارض.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان الأمر كذلك فلا معنى لوجوب السؤال بعد قيام الحجّة على العدم ، فنفس الأمر بالسؤال يبطل هذا الاحتمال ، مضافا إلى أنّه لا وجه لتوهّم أماريّة سوق المسلم مع أنّ اليد يد كافر ، بل أماريّتها في مورد كون اليد مشكوكا.

نعم الذي يمكن أن يستدلّ بهذه الرواية عليه بناء على هذا الاحتمال أمران :

أحدهما : حجية اليد ولو كان من غير العارف بالولاية.

ص: 159


1- « جواهر الكلام » ج 8 ، ص 54.

والثاني : حجيّة إخبار ذي اليد في ثبوت التذكية وآثارها ولو كان ذو اليد كافرا ؛ وذلك لأنّه لو لا حجيّته يلزم أن يكون السؤال لغوا ، بل يمكن أن يدّعي الملازمة العرفيّة بين وجوب السؤال وحجيّة قوله خصوصا وأنّ الوجوب وجوب طريقي.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّه لو كان هناك يدان : أحدهما للمسلم ، والأخرى للكافر على مشكوك التذكية ، فبناء على أنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية تتعارض اليدان ، وبعد التساقط يرجع إلى استصحاب عدم التذكية. وأمّا بناء على المختار فيحكم على طبق يد المسلم ولا تعارض أصلا ، فتكون يد المسلم حاكمة على الاستصحاب.

الأمر الثامن : هل يقبل قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة أم لا؟ المشهور هو القبول خصوصا بين المتأخّرين ، بل عن الحدائق : ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه ، ولذلك استدل عليه بعضهم بالإجماع (1).

وقد عرفت حال الإجماع في أمثال هذه المقامات ممّا يكون مستند المجمعين معلوما ، وهو تارة سيرة المتشرّعة كما في لسان بعض ، وأخرى أخبار ذكروها في هذا الباب.

ولكن عمدة المستند في هذا الباب هي الأخبار ، كصحيح معاوية بن عمّار ، عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج ، ويقول : قد طبخ على الثلث وأنا أعرفه أنّه يشربه على النصف ، فاشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال علیه السلام : « لا تشربه ». قلت : رجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه أنّه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يخبر أنّ عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال علیه السلام : « نعم » (2). ولا شكّ في أنّ ظاهر هذه الرواية هو حجيّة إخبار ذي اليد

ص: 160


1- « الحدائق الناضرة » ج 5 ، ص 252.
2- « الكافي » ج 6 ، ص 421 ، باب الطلاء ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 122 ، ح 526 ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح 261. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 234 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 7 ، ح 4.

ولو كان من غير أهل المعرفة إذا لم يكن في البين ما يوهن صحّة إخباره ، ولا يعارضها ما في صدر الرواية من قوله علیه السلام « لا تشربه » لأنّ شربه على النصف كما - هو مفروض السؤال - أسقط إخباره عن الحجيّة والاعتبار ، ولا يدلّ على أنّ إخباره من حيث أنّه إخبار ذي اليد ليس بحجّة حتّى يكون منافيا للذيل.

نعم صحيح معاوية بن وهب - عن البختج « إذا كان هو يخضب الإناء وقال صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فاشربه » (1) - ظاهره أنّه يحتاج إلى ضمّ أمارة أخرى إلى الأخبار حتّى تكون حجّة وهي كونه بحيث يخضب الإناء.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا التقييد أيضا يرجع إلى ما ذكرنا في صحيح معاوية بن عمّار من عدم كون موهن لإخباره ، ولا شكّ في أنّ عدم خضبه للإناء موهن لإخباره بذهاب الثلاثين ؛ لوجود ملازمة عاديّة بين ذهاب الثلاثين وبين خضبه للإناء.

نعم يدلّ موثّق عمّار فيمن يأتي بالشراب ويقول هو مطبوخ على الثلث ، فقال علیه السلام : « إن كان مسلما ورعا مؤمنا فلا بأس أن يشرب » (2). وهكذا صحيح ابن جعفر : « لا يصدّق إلاّ أن يكون مسلما عارفا » (3). على اختصاص الاعتبار بما إذا كان ذو اليد من أهل الإيمان ، بل الأوّل منهما زائدا على ذلك بما إذا كان ورعا.

ولكن الإنصاف أن الصحيحة صريحة ونص في اعتبار قول من ليس من أهل المعرفة فلا مناص إلاّ من حمل هاتين الروايتين على كراهة تصديقه والعمل على طبق إخباره فيما إذا لم يكن ذو اليد مؤمنا ورعا.

ولا يخفى أنّ دلالة هذه الأخبار على حجيّة إخبار ذي اليد في الطهارة والنجاسة

ص: 161


1- « الكافي » ج 6 ، ص 420 ، باب الطلاء ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 121 ، ح 523 ، باب الذبائح والأطعمة ومار كلّ من ذلك. ، ح 358 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17. ص 234 ، أبواب الأشربة المحرمة ، باب 7 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 116 ، ح 502 ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح 237 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17. ص 235 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 7 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 122 ، ح 528 ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح 263 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17. ص 235 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 7 ، ح 7.

مبني على نجاسة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلاثين ، وإلاّ فلا يدلّ إلاّ على حجيّة إخباره بالنسبة إلى الحليّة ، لا بالنسبة إلى الطهارة التي هي محلّ الكلام.

هذا الذي ذكرنا من الأخبار في حجيّة قول ذي اليد بالنسبة إلى طهارة ما في يده ، مضافا إلى ما ذكرناه في خبر إسماعيل بن موسى عن أبيه ، سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ فقال : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك » (1). من أنّه ربما يدلّ حجيّة إخبار ذي اليد ولو كان كافرا ، فضلا عن أن يكون مسلما.

وأمّا الاستدلال على اعتبار إخبار ذي اليد بالسيرة العمليّة من المسلمين المتديّنين الملتزمين بالشريعة - لا من العوام الذين لا يبالون بمخالفة الشريعة والدين ويتّبعون كلّ ناعق - فإنّه في محلّه.

ولا شكّ في أنّ المتديّنين إذا أخبر ذو اليد بطهارة طعام يأكلونه ولو كان مستصحب النجاسة ، وكذلك يجتنبون عن أكله بعد إخباره بالنجاسة ولو كان مستصحب الطهارة ، أو مجرى قاعدة الطهارة.

ومعلوم أنّ مثل هذه السيرة والبناء العملي من المتديّنين بما هم متديّنون كاشفة عن الحكم الشرعي ورضاء صاحب الشريعة إذا علم استمرارها إلى زمان المعصوم علیه السلام ، ومن المستبعد جدّا استقرار سيرتهم بدون أخذ ذلك منهم علیهم السلام ، وعلى فرض وقوع ذلك يجب عليه الردع إظهارا للحقّ وإزاحة للباطل ، وحيث لا ردع في المقام فتدلّ على اعتباره.

الأمر التاسع : في قبول ذي اليد وإقراره لأحد المتنازعين بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد ويجعل الطرف الآخر مدّعيا.

ص: 162


1- تقدّم تخريجه في ص 158.

وهذا الحكم مسلّم بين الفقهاء ، وإنّما الكلام في وجهه.

فقال بعض : من جهة القاعدة المعروفة ، وهي « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فإذا أقرّ الغاصب أو غيره ممّن يكون المال بيده لشخص آخر فحيث أنّ هذا الإقرار عليه ، أنفذه الشارع عليه.

ولكن أنت خبير بأنّ مفاد هذه القاعدة ليس إلاّ نفوذ الإقرار على نفس المقرّ لا على غيره ، فإذا أقرّ ذو اليد لشخص بما في يده فهذا الإقرار له جهتان : جهة نفي كون المال لنفسه - وهي عليه ونافذ ، ويؤخذ المال منه - وجهة إثبات للمقرّ له ، وهذه ليست عليه ، بل على ذلك الطرف الآخر فلا يمكن إنفاذها بهذه القاعدة.

وأمّا ما يقال : من أنّ الظرف لو كان متعلّقا بالإقرار يكون معنى القاعدة أنّ الإقرار الذي صدر من المقرّ وكان عليه فهو جائز ونافذ مطلقا ، سواء أكان بالنسبة إلى الغير له أو عليه. فلو أقرّ ذو اليد بأنّ ما في يده ملك لفلان الذي هو أحد المتنازعين ، فهذا الإقرار نافذ على ذلك الطرف الآخر ولو كان عليه ، لا له ؛ لأنّه إقرار على المقرّ فيكون نافذا وجائزا.

فجوابه أوّلا : أنّ الظاهر من هذا الكلام أنّ الظرف متعلّق بجائز لا بالإقرار ، ووجه تقديمه عليه إفادة الحصر ، لأنّ تقديم ما هو حقّه التأخير يفيد الحصر ، بمعنى أنّ نفوذ إقرار العقلاء وجوازه يكون على أنفسهم لا على غيرهم ، فتأمّل.

وثانيا : على فرض أن يكون متعلّقا بالإقرار لا شكّ في أنّه يضيق الموضوع ويخصّصه ، فيكون حكم الشارع بالنفوذ في إحدى الحصّتين من الإقرار لا على الطبيعة المطلقة ، فتكون النتيجة أنّ الإقرار الذي على المقرّ بما أنّه عليه نافذ وجائز ، فحينئذ إذا كان في الإقرار جهتان : جهة على المقرّ وجهة أخرى ليس عليه ، فالذي يكون نافذا هي الجهة الأولى.

وبعبارة أخرى : حيث أنّ العاقل لا يقرّ على ضرر نفسه بلا جهة وكذبا ، فإذا أقرّ

ص: 163

كذلك لا بدّ وأن يكون بداعي بيان الواقع وإظهار الحقّ هذا بالنسبة إلى الجهة التي عليه واضح ، وأمّا بالنسبة إلى الجهة التي ليست عليه ربما يكون الإقرار لدواعي عقلائيّة غير بيان الواقع والإخبار عنه ، فليس في الإقرار أماريّة من هذه الجهة.

وثالثا : قيل إنّ الإقرار لا يطلق عرفا إلاّ على ما يكون على المقرّ ، وأمّا الإخبار الذي ليس على المقرّ سواء أكان له أو لم يكن له ولا عليه لا يسمّى إقرارا ، فبناء على هذا لا يبقى مجال لإرجاع الظرف إلى الإقرار ؛ لأنّه مأخوذ في ماهيّته فيكون التقييد به من قبيل تقييد الشي ء بما هو ذاتي له ، كتقييد الإنسان مثلا بكونه ناطقا فلا مناص إلاّ عن تعلّقه بجائز لا بالإقرار.

وقال بعض آخر : من جهة قاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

بيان ذلك أنّ ذا اليد مالك لأن يملك هذا المال الذي في يده للمقرّ له ، ببيع أو صلح أو هبة أو نحو ذلك ، فيملك الإقرار بأنّه له بهذه القاعدة.

قلت : هذه مغالطة واضحة لأنّه فرق واضح بين أن يقرّ بتمليكه إيّاه ، وبين أن يعترف أنّه له ، والذي هو - أي ذو اليد - مالك هو تمليكه إيّاه ويكون مستوليا عليه ، لا على أنّ هذا المال له.

وهنا وجه ثالث : وهو أنّ اليد أمارة على أنّ هذا الذي في يده له بالدلالة المطابقيّة ، وأيضا أمارة على نفي كونه لغيره بالدلالة الالتزاميّة ، وأماريّتها تسقط بالنسبة إلى المدلول المطابقي إذا أقرّ لشخص آخر ، وكذا تسقط أماريّتها على نفي الملكية للمقرّ له بسبب إقراره له. وأمّا بالنسبة إلى ما عدا هذين فأماريّتها باقية على حالها ، فإذا أقرّ ذو اليد لأحد المتنازعين المدّعيين لما في يده يسقط اعتبار اليد بالنسبة إلى نفسه والمقرّ له بواسطة إقراره ؛ لأنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد فيما إذا لم يكن إقرار من ذي اليد على خلاف أماريّة يده. وأمّا بالنسبة إلى غيرهما تبقى أماريّته على النفي ، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي الملكيّة عن ذي اليد وعن غيره ما عدا المقرّ له ، ومعلوم أنّ المال لا يبقى

ص: 164

بلا مالك.

وبعبارة أخرى : إنّ هذا المال إمّا للمقرّ له أو لغيره يقينا ، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنّه ليس لغير المقرّ له فلا بدّ وأن يكون له ، فيكون هو المنكر وطرفه المدّعي وهو المدّعى في المقام ، وكون المقرّ له هو المنكر وطرفه المدعي يكون هكذا بناء على ما هو التحقيق من أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقا للحجّة الفعلية.

هذا ما أفاده أستاذنا المحقق العراقي قدس سره وهو وإن كان في غاية اللطافة والدقة والمتانة ، لكن يرد عليه : أنّ دلالة اليد على نفي الملكيّة عمّن عدا ذي اليد كان من باب دلالة الالتزام ؛ لأنّ مدلولها ابتداء وبالمطابقة ملكيّة ما في اليد لذيها ، ولازم كونه ملكا لذي اليد نفيه عن غيره أيّ شخص كان ، فإذا بطل أماريّتها بالنسبة إلى الملزوم والمعنى المطابقي لا يبقى مجال لدلالتها على المعنى الالتزامي.

وقياسه بالخبرين المتعارضين في غير محلّه لأنّه هناك في الحقيقة أخبار متعدّدة ، فكما أخبر بالمعنى المطابقي كذلك أخبر بالمعنى الالتزامي. فدليل « صدّق العادل » يشملها جميعا في عرض واحد. ولو كان طوليّة في البين فبين الموضوعات لدليل حجيّة الأخبار ، فبعد تحقق الموضوع - ولو كان في طول إخبار الملزوم وبعد تحقّقه - يكون مشمولا لدليل الحجيّة في عرض مشموليّة الإخبار بالملزوم.

وأمّا في ما نحن فيه فلا يجري هذا الكلام أصلا ؛ لأنّه ليس هنا أمارات متعدّدة طوليّة حتّى تكون مشمولة لدليل الحجيّة في عرض واحد ، ويكون سقوط حجيّة بعضها غير مضرّ بحجيّة البعض الآخر ، بل ليس هاهنا إلاّ أمارة واحدة ، وهي اليد التي تكون أمارة على ملكية ما فيها لذيها. غاية الأمر حيث أنّ مثبتات الأمارات حجّية فكما أنّ اليد تدلّ على ملكيّة ما فيها لذيها ، كذلك تدلّ بالالتزام على نفيها عن غير ذي اليد ، فإذا بطلت هذه الدلالة المطابقيّة بإقراره لغيره لا يبقى مجال للدلالة التابعة

ص: 165

لها. وأين هذا من باب تعارض الخبرين ، وحجيّتهما في نفي الثالث بعد سقوط كليهما عن الحجيّة في مدلولهما المطابقي بواسطة المعارضة؟

وحاصل الفرق بين المقامين أنّ العامّ المشمول لحكم من الأحكام الانحلاليّة لو كان بعض أفراده علّة لوجود فرد آخر من ذلك العامّ ؛ فشمول الحكم لذلك الفرد المعلول في عرض شموله لعلّته ، ولذلك لو خصّص العامّ بالنسبة إلى العلّة لا ينتفي الحكم عن المعلول. نعم لو انتفى ذات العلّة ينتفي ذات المعلول ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وفرضنا أنّ وجود زيد العالم علّة لوجود عمرو العالم ، وأخرج زيد العالم عن تحت عموم « أكرم العلماء » بالتخصيص ، فخروجه غير مضرّ بشمول عموم الحكم لعمرو العالم الذي هو المعلول. وباب الخبرين المتعارضين من هذا القبيل ؛ لأنّ الخبرين علّة لوجود خبر آخر الذي هو لازم لهما ، وهو الاخبار بنفي الثالث ؛ فسقوطهما عن الحجيّة بواسطة المعارضة لا يوجب سقوط الخبر المعلول لهما عن الحجيّة.

لكن كلّ ذلك تبعيد للمسافة ، مضافا إلى أنّها دعا وبلا بيّنة ولا برهان ؛ لأنّ أماريّة اليد من باب بناء العقلاء ، فإن كان بناء العقلاء في مورد إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين على إثبات الملكيّة له ، فلا يحتاج إلى هذه الدعاوي من سقوط اليد عن الحجيّة في مدلولها المطابقي بواسطة ذلك الإقرار ، وبقاء حجيّتها بالنسبة إلى مدلولها الالتزامي ، أي نفي الملكيّة عن غير المقر له. وإن لم يكن مثل هذا البناء من طرفهم فلا يفيد هذه الدعاوي ، بل تكون دعاوي بلا دليل على إثباتها.

فالأحسن أن يقال : إنّ الدليل على هذا الفتوى المسلّمة بين الأصحاب هو بناء العقلاء على أنّه لو أقرّ ذو اليد على أنّ هذا المال لزيد مثلا يكون له ، سواء أكان منازع ومن يدّعيه في مقابله أم لم يكن.

الأمر العاشر : فيما إذا اعترف ذو اليد لشخص بتمام ما في يده ، ثمَّ اعترف لشخص آخر أيضا كذلك ، والمفروض أنّ ما في يده عين شخصي وقع الإقرار عليها من ذي

ص: 166

اليد مرّتين لشخصين ، فنقول :

تارة : يكون الإقرار الثاني بعد الإقرار الأوّل وفي كلام منفصل عن الإقرار الأوّل بمعنى أنّ الإقرار الأوّل تمَّ وخلص ، ثمَّ بعد زمان وفي كلام آخر بل وفي مجلس آخر أقر لشخص آخر بعين ذلك المال.

وأخرى : يعقب الإقرار الأوّل بالإقرار الثاني في كلام واحد وبصورة الإضراب ، كما أنّه لو قال : هذه العين الشخصي لزيد بل لعمرو.

أمّا في الصورة الأولى فالظاهر عدم نفوذ الإقرار الثاني ؛ لأنه وقع على مال الغير ، ولا تجري فيه قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » لأنّها - أي تلك العين - بواسطة الإقرار الأوّل صار ملكا للغير - أي المقرّ له فالإقرار الثاني إقرار من الأجنبي بالنسبة إلى مال ، فلا أثر لهذا الإقرار.

ولكن يمكن أن يقال : فرق بين المقامين ؛ لأنّ الأجنبي إذا أقرّ بما هو تحت يد شخص لشخص آخر لا يشمله قاعدة الإقرار ؛ لأنّه ليس عليه بل على غيره الذي هو ذو اليد ، بخلاف ما نحن فيه ؛ لأنّ إقراره الثاني أيضا يكون على ضرره ، من جهة دلالته بالالتزام على أنّه أتلف على المقرّ له الثاني هذا المال بإقراره الأوّل ، فتشمله قاعدة الإقرار. غاية الأمر لا يمكن أخذه بإقراره بالنسبة إلى نفس العين ، لأنّه من هذه الجهة ليس عليه بل على المقرّ له الأوّل ، فليس بنافذ. وأمّا من جهة ماليّته - أي مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميا - فيكون إقراره عليه ويؤخذ به. ومعنى هذا أنّه يغرم للثاني بمثله أو بقيمته لأجل وقوع يده على مال الغير ثمَّ إتلافه عليه بإقراره الأوّل.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه في الصورة الثانية أيضا يعطي العين للمقرّ له الأوّل ، ويغرم للثاني بالمثل القيمة بطريق أولى كما هو المشهور ، بل ادّعى جماعة أنّه لا خلاف فيه.

وذلك لأنّه بالإضراب عدل عن إقراره الأوّل ولا يسمع منه ؛ لأنّه إنكار بعد

ص: 167

الإقرار ، فلا بدّ من ترتيب آثار الإقرار الأوّل بحكم قاعدة الإقرار ، ويعطي العين للمقرّ له الأوّل ، والغرامة بالمثل أو القيمة للثاني ؛ لما ذكرنا في الصورة الأولى عينا.

ووجه الأولويّة ها هنا : أنّه هناك كان يمكن أن يقال : إنّه بعد إخراج المال عن تحت يده بإقراره للمقرّ له الأوّل في كلام منفصل عن هذا الإقرار الثاني ، يكون الإقرار الثاني من قبيل إقرار الأجنبي ولغوا ، أمّا ها هنا فلا يمكن أن يقال مثل هذه المقالة ؛ لأنّ المفروض أنّ المال بعد في يده ، والكلام متّصل وله أن يلحق بكلامه ما شاء من إضراب أو غير ذلك.

وأمّا ما في الدروس (1) من العلم بانحصار الحقّ فيهما - أي المقرّ له الأوّل والثاني ، وحيث أنّ ذا اليد أقرّ لكلّ واحد منهما فأسقط يده عن الاعتبار - فيدخل في مسألة التداعي والتحالف.

فقد أورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بأنّ احتمال السهو وغيره لا ينافي التعبّد بظاهر قوله ؛ لقوله علیه السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (2) فيكون كلا الإقرارين نافذين ، غاية الأمر يعطي العين لأحدهما أي الأوّل لما ذكرنا ، والمثل أو القيمة للثاني (3).

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّه لو لم يكن إجماع في البين يمكن أن يقال : إن حال هذين الإقرارين حال سائر الأمارتين المتعارضتين ، فيتساقطان للعلم بكذب أحدهما ، اللّهمّ إلاّ أن يقال في خصوص الإقرار بالسببيّة والموضوعية ، وهو بعيد غاية البعد. فالنتيجة كما قال في الدروس هو العلم بانحصار الحقّ فيهما بعد تساقط الإقرارين ، للعلم بكذب أحدهما وسقوط اليد عن الاعتبار ، فيكون من باب التداعي والنتيجة التحالف والتنصيف ، إلاّ أن نقول بالموضوعيّة في باب الإقرار ما لم يكن العلم التفصيلي

ص: 168


1- « الدروس » ج 3 ، ص 132 ، كتاب الإقرار ، درس (223).
2- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 111 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 2 ؛ « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ؛ وج 2 ، ص 257 ، ح 5 ؛ وج 3 ، ص 442 ، ح 5.
3- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 131.

على خلاف شخص الإقرار. وأمّا العلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين لا ينافي مع الأخذ بكلّ واحد منهما. وهذا القول لا يخلو من الغرابة.

ثمَّ إنّه من فروع هذه المسألة أنّه لو قال : إنّ هذا المال لزيد بل لعمرو بل لخالد ، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لعمرو واخرى كذلك لخالد.

ولو قال : لزيد بل لعمرو وخالد ، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لهما أي لعمرو وخالد بحيث يشتركان في تلك القيمة أو المثل.

ولو قال : لزيد وعمرو بل لخالد ، يعطي العين لزيد وعمرو ويشتركان فيها ، والقيمة أو المثل لخالد وحده.

ولو قال : لزيد وعمرو وبل لخالد ، قال صاحب الجواهر قدس سره يعطي لخالد الثلث ويحتمل النصف ؛ لأنّ « بل » للإضراب ، والعطف يقتضي التشريك مع أحدهما ، والأوّل ، أظهر (1).

وفي ما أفاده كلام يطول ذكره.

ثمَّ إنّه لو أقرّ أوّلا بأنّي غصبته من زيد ، ثمَّ عقّبه بقوله : بل من عمرو في كلام متّصل ، كان بصورة الإضراب أم لا ، فالمشهور لم يفرّقوا بين هذه الصورة وبين الصورة السابقة ، أي فيما لم تكن بصورة الغصبيّة ، بل كان الإقرار أنّه له ، وحكموا في كلّ واحدة من الصورتين بإعطاء العين للمقرّ له الأوّل وقيمتها أو مثلها للثاني.

نعم استشكل العلاّمة قدس سره في القواعد على هذا الحكم بأنّه فرق بينهما بأنّ الغصب لازم أعمّ بالنسبة إلى الملكيّة ؛ لأنّه يمكن أن يكون من المالك ويمكن أن يكون ممّن عنده أمانة من قبل المالك ، كالمستأجر والمستعير والودعي وأمثالهم. والإقرار باللازم الأعمّ لا يثبت الملزوم الخاصّ ، فليس إقرارا بالملكيّة حتّى يترتّب عليه آثارها ، من إعطاء العين للأوّل والغرامة للثاني ، نعم في الإقرار الأوّل حيث أنّه لا معارض ولا

ص: 169


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 132.

منافي له فيلزم بإقراره ويعطي العين للمقرّ له وأمّا الإقرار الثاني حيث أنّه بعد إتلاف العين بالإقرار الأوّل لو كان إقرارا بالملكيّة فحينئذ حيث أنّ مرجعه إلى الإقرار بإتلاف مال الغير فيضمن ، أمّا لو لم يكن إقرارا بالملكيّة فلما ذا يضمن؟ (1).

واستشكل عليه صاحب الجواهر قدس سره بأنّ مثل هذا الإقرار لو يثبت الملكيّة فلا بدّ من إعطاء الغرامة للثاني ، وإلاّ لا وجه لإعطاء العين للأوّل (2).

ولكن أنت خبير بأنّ الفرق بينهما في غاية الوضوح ؛ لأنّه في الإقرار الأوّل كما بيّنّا لا يخلو الأمر إمّا يكون من المالك أو من المأذون من قبل المالك ، وعلى كلّ واحد من التقديرين يجب ردّ العين - ما دامت باقية - إلى المقرّ له. وأمّا في الإقرار الثاني فلا أثر له إلى إعطاء الغرامة والضمان - أي البدل الواقعي في التلف الواقعي - والحيلولة والغرامة والضمان لا معنى لهما لغير المالك ، والمفروض أنّه في الإقرار الثاني ما أقرّ بمالكيّة المقرّ له ، بل اللازم الأعمّ الذي هو الغصب ، فلا يثبت به الملزوم الخاصّ الذي هي الملكيّة ، فما ذكره العلاّمة قدس سره في القواعد في غاية الجودة والمتانة.

الأمر الحادي عشر : هل يجوز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد أم لا؟

فنقول : تارة نتكلّم في هذا الأمر باعتبار القواعد الأوّليّة ، وأخرى باعتبار الأخبار الواردة في هذا الباب.

أمّا الأوّل فحيث تقدّم منا في مبحث حجيّة القطع قيام الأمارات والأصول التنزيليّة مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ، وفي موضوع جواز الحلف ووجوب أداء الشهادة القطع مأخوذ على نحو الطريقيّة ، والكاشفيّة لا الصفتيّة ، بل قلنا إنّنا لم نجد في الشرعيّات موردا يكون القطع مأخوذا في موضوعه على نحو الصفتية ، وقد بيّنا أنّ اليد أمارة فيجوز الحلف والشهادة بالملكيّة مستندا إلى اليد التي هي من الأمارات ، هذا بحسب القواعد الأوّليّة.

ص: 170


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 286.
2- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 133.

وأمّا بحسب الأخبار الواردة في هذا المقام ، فمن جملة ما يدلّ على الجواز رواية حفص بن غياث ، وفيها : أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن اشهد له؟ قال : « نعم ». فقال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره. فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أفيحلّ الشراء منه؟ » قال : نعم ، فقال علیه السلام : « لعله لغيره ، فمن أين جائز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثمَّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه؟ ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك - ثمَّ قال علیه السلام : - ولو لم يجز هذا لما قام للمسلمين سوق » (1). حيث أنّ هذه الرواية صريحة في جواز الشهادة مستندا إلى اليد ، بل وتدلّ على جواز الحلف أيضا مستندا إليها ، بل يستنكر عدم جواز الشهادة مستندا الى اليد ، وأنّه يلزم منه عدم قيام سوق للمسلمين واختلال النظام.

وأمّا الإشكال على الرواية من ناحية ضعف السند.

ففيه أوّلا : أنّ بعض المشايخ ذكر أنّ كتاب حفص بن غياث القاضي الكوفي معتمد ولو هو عامي.

وثانيا : ضعفها منجبر بالشهرة العظيمة ، حتّى ادّعى بعضهم الإجماع في المسألة ، وإن كان الاستدلال في مثل هذه المسألة التي لها مدارك من الروايات وغيرها بالإجماع لا وجه.

وقد ذكرنا هذا الإشكال على الإجماعات المنقولة في موارد متعدّدة ، وسائر في أغلب الإجماعات.

ثمَّ إنّه ذكر بعض السادة قدس سره وجه آخر لجواز الشهادة مستندا إلى اليد ، حاصله : أنّ الملكيّة أمر ينتزعها العقلاء من الاستيلاء الخارجي لشخص على مال والشارع امضى هذه الطريقة ، ولا شكّ في أنّ الأمر الانتزاعي معلوميّة بمعلوميّة منشأ انتزاعه ،

ص: 171


1- « الكافي » ج 7 ، ص 387 ، باب ( من كتاب الشهادات ) ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 51 ، باب فيمن يجب ردّ شهادته. ، ح 3307 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 261 ، ح 695 ، باب البيّنات ، ح 100 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 25 ، ح 2.

فإذا كان منشأ انتزاعه من الأمور المحسوسة كما فيما نحن فيه ، فإنّ الاستيلاء الخارجي الذي هو سبب لانتزاع الملكيّة التي هي إضافة خاصّة بين المالك والمملوك أمر محسوس ، فإذا أدرك السبب حسّا يجوز أن يشهد بالمسبّب.

كما أنّه في سائر الموارد إذا أدرك بالحسّ آثار العدالة أو الاجتهاد - وهما من الحالات والملكات النفسانيّة - يجوز أن يشهد بهما بواسطة العلم بهذا الأثر المحسوس ، فليكن الأمر في الملكيّة ومنشأ انتزاعها - أي الاستيلاء الخارجي - أيضا كذلك.

وبعبارة أخرى : الملكيّة تنتزع عن إحاطة ذي اليد بالشي ء خارجا ، لأنّها عبارة عن إضافة اعتباريّة بين المالك والمملوك ، حاصلة عن استيلاء الشخص وإحاطته خارجا على شي ء قابل لأن يتملّك ، فإذا كان منشأ انتزاعه محسوسا ومشاهدا فقهرا يترتّب المنتزع على منشأ انتزاعه ، فيجوز الشهادة بمقتضى إحساسه ومشاهدته سبب ذلك الأمر الانتزاعي ، أي تلك الإضافة الاعتباريّة ، ضرورة معلوميّة الأمر الانتزاعي بمعلوميّة منشأ انتزاعه.

ولذلك يجوز الشهادة بالملك المطلق ، بمشاهدة أسبابه الشرعيّة كالبيع ونحوه ، مع أنّه من الممكن أن لا يكون ملكا للبائع ، فلا يكون ملكا للمشتري.

والسرّ في ذلك كلّه : هو أنّ السبب في الجميع محسوس ومعلوم بالمشاهدة ، وترتّب المسبّب على السبب علمي.

إن قلت : إحاطة ذي اليد موجب لاختصاص المحاط به فيما إذا لم تكن تلك الإحاطة واقعة على مال الغير ، وإلاّ إذا وقعت على مال الغير فلا يكون سببا لانتزاع الملكيّة ، وذلك الاختصاص الخاصّ ، بل تكون الإحاطة لأحد أمرين : إمّا كونه غاصبا أو كونه أمينا من قبل اللّه أو من قبل المالك.

قلنا : هذا الاحتمال مدفوع بالأصل. هذا حاصل ما أفاده قدس سره .

ولكن أنت خبير بأنّ اليد ليست سببا للملكية ، لا عند العرف ، ولا عند الشرع.

ص: 172

نعم هو سبب إثباتي إذا قلنا بحجيّتها وأماريّتها ، وهذا المعنى موجود في كلّ أمارة عند العقلاء أو الشرع ، ولا اختصاص له باليد أصلا.

والحاصل : أنّ الملكيّة مجعولة في عالم الاعتبار بجعل إمضائي أو إحداثي من قبل الشارع حسب اختلاف الموارد ، فالسبب الموجد لها هو الشارع ، أو العرف والعقلاء وهذا المعنى سار في كلّ أمر اعتباري.

نعم قد يطلق السبب والشرط عند الفقهاء مسامحة على بعض قيود الموضوع ، أو على تمام ما هو الموضوع ، كقولهم : إنّ الاستطاعة سبب أو شرط لوجوب الحجّ ، والعقد الكذائي سبب للملكيّة أو الزوجية ، والإفطار أو الظهار سبب لوجوب الكفّارة ، وهكذا.

ولكن هذا مع أنّه أيضا ليس صحيحا في حدّ نفسه - لأنّ هذه الأمور إمّا من قيود موضوع ذلك الحكم الذي يسمّى بالمسبّب ، أو تمام موضوعه ، وليست من باب الأسباب والمسبّبات - لا ربط له أيضا بمقامنا ؛ لأنّ اليد ليست من قيود موضوع الملكيّة ولا تمام موضوعها ، بل هي سبب إثباتي لها بواسطة الغلبة عند العرف والعقلاء ، والشارع أمضى طريقيّته ، وأين هذا المعنى من كونها موجبة لانتزاع الملكيّة في موردها؟!

فقد ظهر ممّا ذكرنا جواز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد ، لقيامها مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ولا فرق بين اليد وسائر الأمارات من هذه الجهة ، لا لما ذكره من أنّ اليد منشأ انتزاع الملكيّة فاحساسها كأنّه إحساس الملكيّة.

الجهة السادسة : في تعارضها مع الأمارات والأصول

وحيث تقدّم أنّها أمارة ، وأيضا تقدّم أنّ كلّ أمارة مقدّم على كلّ أصل من

ص: 173

الأصول بالحكومة ، وإن كانت الأمارة من أضعف الأمارات ، والأصل من أقوى الأصول وكان تنزيليّا كالاستصحاب.

وذكرنا ما هو السرّ في ذلك وأنّه حيث أخذ الشكّ في موضوع كلّ أصل ولو كان محرزا وتنزيليّا مثل الاستصحاب ، وحجيّة الأمارات - بناء على ما هو التحقيق - من باب تتميم الكشف ، فلا محالة يرفع موضوع الأصل تعبّدا ، وهذا معنى الحكومة كما شرحناها في محلّها مفصلا ، (1) فتقديم اليد على الأصول من جهة كونها أمارة ، وهذا واضح.

وأمّا بالنسبة إلى سائر الأمارات غير البيّنة والإقرار فلا بدّ وأن يلاحظ أوّلا أنّ أماريّتها عند العقلاء هل هي في ظرف عدم كون تلك الأمارات على خلافها أم لا؟

فان كانت مقيّدة بعدمها على خلافها فتسقط عن الأماريّة عند وجود تلك الأمارة الأخرى ، مثلا لو كان الشياع على وقفيّة دار أو دكّان أو محلّ آخر ، ولكن ذو اليد يدّعي الملكيّة ، فبناء على أماريّة الشياع فإن كانت أماريّة اليد على الملكيّة عند العقلاء مقيّدة بعدم الشياع على خلافه ، فقهرا تسقط عن الحجيّة.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فقهرا يتعارضان ويؤخذ بأقواهما كشفا ، وإلاّ فيتساقطان.

وأمّا بالنسبة إلى إقراره على خلاف مقتضى يده ، كما إذا أقرّ بأنّ هذا المال في يدي ليس لي ، أو أقرّ بأنّه لفلان ، فلا شكّ في أنّ إقراره على نفسه نافذ وتسقط يده عن الاعتبار بالنسبة إلى ملكيّة نفسه ، وقد تقدّم شطر من الكلام في هذا الباب.

وأمّا بالنسبة إلى البيّنة فمن المقطوع تقدّم البيّنة على اليد ، بل حجيّة البيّنة في قبال ذي اليد خصوصا في باب الدعاوي من المسلّمات عند جميع المسلمين ؛ لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (2) ، وعمله صلی اللّه علیه و آله ، وعمل أصحابه ، وعمل

ص: 174


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.
2- تقدّم تخريجه في ص 138 ، رقم (1).

جميع المسلمين على هذا من أقدم العصور.

الجهة السابعة

في أنّه إذا تعدّدت الأيدي على مال واحد فهل أنّها أيضا أمارة على الملكيّة أم لا ، بل أماريّتها مخصوصة بما إذا كانت واحدة ، وإلاّ إذا تعدّدت فكلّ واحدة منها تنفي اعتبار الآخر ؛ لأنّ كلّ واحدة منها تكشف عن ملكيّة تمام ما فيها لذيها ، فيتعارضان ويتساقطان؟

والمشهور بين الفقهاء أنّه إذا تعددت الأيدي على مال واحد فتكون أمارة على ملكيّة كسر من ذلك المال الذي تحت أيديهم بنسبة تلك الأيدي على ذلك المال ، مثلا لو كان ذو اليد اثنين فكلّ يد أمارة على النصف ، ولو كانوا ثلاثة تكون كلّ واحدة من تلك الأيدي أمارة على الثلث ، وهكذا.

وقد استشكل على هذا بأنّ مقتضى حجيّة اليد وأماريّتها إثبات ملكيّة تمام ما في يده ، فالنتيجة كما ذكرنا هي التعارض والتساقط والرجوع إلى الأصول العمليّة إن لم تكن أمارة أخرى في البين ، فلا وجه لإثباتها كسرا ممّا في يده على الترتيب المذكور.

وإن لم تكن حجّة في الفرض المذكور ، أي في صورة تعدّد الأيدي فأيضا لا معنى لإثباتها الكسر المذكور ، فعلى كلّ حال الذي تقتضيه القواعد الأوّليّة خلاف فتوى المشهور.

وقد تخلص بعض عن هذا الإشكال بأنّه : إذا تعدّدت الأيدي على مال واحد فلا يمكن أن يكون كلّ واحدة منها يدا تامّة مستقلّة على جميع ذلك المال ؛ لأنّ اليد كما ذكرنا عبارة عن الاستيلاء الخارجي ، والاستيلاء الخارجي التامّ لا يمكن مع التعدّد ؛ لأنّ الاستيلاء التامّ المستقلّ هي السلطنة على جميع التصرّفات ومنع الغير أيضا عن جميع التصرّفات ، ومعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يمكن تحقّقه بالنسبة إلى المتعدّد ، لأنّه

ص: 175

لازم ثبوته لكلّ واحد منهما رفعه عن الآخر.

ففي صورة تعدّد الأيدي لا بدّ وأن نقول بأحد أمرين :

أحدهما : أنّ كلّ يد من تلك الأيدي يد تامّة مستقلّة ولكن على الكسر المشاع بنسبة تعدّد الأيدي ، فإن كانا اثنين فالكسر المشاع لكلّ واحد منهما النصف ، وإن كانوا ثلاثة فالثلث ، وهكذا.

ثانيهما : أنّ اليد لكلّ واحد من الأيدي وإن كانت على المجموع ولكن ليست يدا تامة مستقلّة ، بل يد ناقصة على المجموع ، ولكن عند العقلاء يحسب كاليد التامّة المستقلّة على الكسر المشاع ، ولكن الذي يظهر من بناء العقلاء في مثل هذه الموارد أنّهم يرونهم شركاء شركة قهريّة أو اختياريّة ، ويحكمون لكلّ واحد منهم بالكسر المشاع ، فكأنّه يرون أنّ كل واحد من تلك الأيدي يد تامّة مستقلّة على الكسر المشاع.

وأمّا حديث أنّ اليد عبارة عن الاستيلاء الخارجي - وهو إمّا يكون على مجموع هذا المال الخارجي ، أو على جزء معيّن من أجزائه ، وأمّا الجزء المشاع الذي عبّرنا عنه بالكسر المشاع فلا معنى لوقوعه تحتها إلاّ في ضمن وقوع الكل - فلا أساس له ؛ لما ذكرنا من أنّ العقلاء يرون أنّ الشركاء ذوي الأيدي على مال معين كدار ، أو دكّان ، أو خان ، أو حمام ، أو غير ذلك كلّ واحد منهم زائد وسلطان على الكسر المشاع على ذلك المال ، فتكون يده أمارة على ملكيّة ذاك الكسر المشاع ، ولذلك إذا كانا اثنين وتصرّف أحدهما في النصف المشاع بالبيع أو الهبة أو غير ذلك لا يرونه متعدّيا ، ويقولون بأنّه تصرّف في ماله.

وأمّا لو باع أو وهب أكثر من النصف يرونه متعدّيا ، إلاّ أن يثبت أنّ ملكه أكثر بإقرار من الشريك أو ببيّنة أو بنحو ذلك من الأدلّة ، وكذلك يرونه متعدّيا لو باع أو وهب نصفه المعيّن ، وكلّ ذلك آية أنّ اليد والاستيلاء على الكسر المشاع ، لا على

ص: 176

الجزء المعيّن ، ولا على المجموع ؛ فإذن كانت الأيدي متعدّدة.

وأمّا الفرق بين الكسر المشاع والكلّي في المعيّن ، والآثار المترتّبة على كلّ واحد منهما ، وأنّه هل يتوقّف على إنكار الجزء الذي لا يتجزى أم لا؟ فليس هاهنا ، محلّ بحثه ، وله مقام آخر.

الجهة الثامنة : في أنّ اليد أحد موجبات الضمان إذا كانت على مال الغير بدون أن يكون مأذونا من قبله ، أو من قبل اللّه ، أو يكون وليّا على صاحب المال

والأصل في ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدي » (1). وشهرته بين الفريقين نقلا وعملا يغني عن التكلّم في سنده.

وأمّا دلالتها على الضمان : فمن جهة أنّ الظاهر من هذا الكلام الشريف أنّ الظرف ظرف مستقرّ أعني عامله من أفعال العموم ، لا أنّه ظرف لغو حتّى يكون متعلّقا بأفعال الخصوص ، مثل « يجب » و « يلزم » في المقام ؛ وذلك لجهات :

أمّا أوّلا : فمن جهة أنّه لو كان متعلّقا بأحد هذين الفعلين فلا بدّ من التقدير بمثل الرد والأداء ؛ لأنّه لا معنى لوجوب نفس ما أخذت ولزومها ، لأنّ الحكم التكليفي لا بدّ وأن يتعلّق بأحد أفعال المكلّفين ولا معنى لتعلّقه بالذوات ، ومعلوم أنّ التقدير خلاف الأصل.

وثانيا : لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلّقا ب- « يجب » كان يلزم أن يكون

ص: 177


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 224 ، ح 106 وص 389 ، ح 22 ؛ وج 2 ، ص 345 ، ح 10 ؛ وج 3 ، ص 246 ، ح 2 وص 251 ، ح 3 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 88 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 4 ؛ « تفسير أبو الفتوح الرازي » ج 1 ، ص 784 ؛ « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 95 ، باب ردّ المغضوب إذا كان باقيا ؛ « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، كتاب الصدقات ، باب العارية ، ح 2400.

الحكم مغيى في لسان دليله بإتيان متعلّقه وأمثاله ، وهذا ركيك إلى الغاية.

أنظر هل ترضى من نفسك بأن تقول : يجب عليك إكرامي حتّى تكرمني؟ فكيف ترضى أن تقول : بأنّ معنى الحديث الشريف أنّه يجب على اليد ردّ ما أخذته وأدائه حتّى تؤدّى؟!

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ ظاهر الحديث أنّ نفس ما أخذت على عهدة اليد ، أي المال المأخوذ الذي صار تحت اليد والاستيلاء على عهدة اليد والذي أخذه ، وهذا هو عين الضمان.

وفي معنى الضمان أقوال ، ولكن التحقيق هو أن يقال : إنّ الضمان عبارة : عن كون ما له الماليّة في عهدة الضامن وذمّته ، وحيث أنّ وجود الشي ء في العهدة يكون وجودا اعتباريا ؛ لأنّ معنى كونه في العهدة اعتبار العقلاء ذلك فيها ، فكما أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن ينتقل إلى الذهن وإلاّ يلزم الانقلاب المحال ، كذلك لا يمكن أن ينتقل إلى عالم الاعتبار لعين ذلك المحذور ، بل بطريق أولى.

فالظاهر من معنى الحديث أنّ المال الذي وقع تحت اليد العادية على احتمال ، أو يد غير المأذونة على احتمال آخر ، مع أنّه موجود خارجي يعتبر في عهدة الآخذ ومستقرّ وثابت في ذمّته بوجوده الاعتباري ، إلى أن يؤدّي. وغاية الأمر أنّ أداءه ما دام العين موجودة يكون بأداء نفسها ، وبعد التلف إن كان لها مثل فأداؤها بأداء مثلها ، وإن لم يكن لها مثل أو كان ولكنّه متعذّر الأداء ، أو كان لقلّته وغلاء قيمته عند العرف والعقلاء بمنزلة المعدوم ، فأداءه بأداء قيمته.

وممّا ذكرنا يظهر المناط والضابط في المثليّة والقيميّة.

وبعد ما عرفت أنّ ما يقع تحت اليد من الأموال بوجوده الخارجي يعتبر على العهدة بوجوده الاعتباري ؛ لأنّ هذا المعنى هو الظاهر من الحديث الشريف ، فنقول : إنّ ما هو تحت اليد يعتبر فوق اليد بما له من الشؤون والأوصاف والعوارض والألوان ،

ص: 178

كانت تلك الشؤون والأوصاف من الأمور التكوينيّة الخارجيّة أو من الأمور الاعتباريّة ، فكلّ صفة أو لو كان فيما تحت اليد يثبت ويستقرّ على العهدة وما فوق اليد. ولا فرق في ذلك بين أن تكون خصوصيّات العين المغصوبة مثلا من الأمور التكوينيّة الواقعيّة المحمولة بالضميمة. أو من الأمور الاعتباريّة التي لا وجود لها في غير عالم الاعتبار.

وبعبارة أخرى : كما أنّ الأوصاف الخارجيّة للعين تقع تحت اليد يتبع اليد على العين ، ويضمن الغاصب تلك الأوصاف كضمانه لنفس العين ، كذلك الأوصاف الاعتباريّة التي للعين أيضا تقع تحت اليد ، ويضمن ذو اليد تلك الأوصاف كضمانه لنفس العين.

إذا عرفت ذلك فنقول : في باب تعاقب الأيدي الذي يقع تحت اليد الأولى ليس إلاّ نفس العين بصفاتها الخارجية التكوينيّة ، ولذلك لا يضمن الآخذ الغاصب مثلا إلاّ نفس العين بتلك الصفات الخارجيّة للمالك ، ولا يضمن لشخص آخر ، ولذلك لا يرجع إليه إلاّ المالك.

وأمّا اليد الثانية فالذي يقع تحت يده ليس هو العين بصفاتها التكوينيّة الخارجيّة فقط ، بل بزيادة صفة اعتبارية ، وهي أنّها مضمونة على اليد الأولى ؛ ولذلك يضمن ذو اليد الثانية لشخصين : أحدهما المالك ، والثاني ذو اليد الأولى ، بمعنى أنّ المالك لو رجع إلى ذي اليد الأولى فله أن يرجع إلى اليد الثانية ، وهكذا يكون الأمر في اليد الثالثة والرابعة ولو إلى الألف.

إن قلت : كيف يمكن أن يكون الشخص بالنسبة إلى مال واحد ضامنا لشخصين؟ وأن يكون لذلك الواحد بدلان؟

ولعله لذلك التجأ بعض المحقّقين إلى إنكار تعدّد الضمان في مورد تعاقب الأيدي ، وقال : إنّ الضمان يكون على من بيده التلف ، وأمّا في سائر الأيدي فليس إلاّ حكم

ص: 179

تكليفي فقط ، ولا ضمان في البين.

وبعض آخر التزم بأنّ للأيدي المتعدّدة لجميعها ضمان واحد ، وأنّ البدل الواحد له إضافة إلى الكلّ كما يقولون : بأنّ الكلّي الطبيعي وجوده بالنسبة إلى وجود الأفراد ، نسبة أب واحد إلى أبناء متعدّدة ، وإن كان هذا القول مردود هناك وهاهنا.

قلت : إنّ ضمانه لشخصين أو أكثر ليس ضمانا عرضيّا حتّى ترد هذه الإشكالات ، بل هو طولي في كلّ واحد منها.

بيان ذلك : بعد ما عرفت أنّ العين تقع تحت اليد بجميع خصوصيّاتها وأوصافها الواقعيّة التكوينيّة والاعتباريّة ، فاليد الأولى - كما ذكرنا - لا يقع تحتها إلاّ العين بصفاتها وخصوصيّاتها التكوينيّة ، وأمّا اليد الثانية فالواقع تحتها هي العين بتلك الصفات الخارجيّة والخصوصيّات التكوينيّة ، بإضافة أنّها مضمونة على اليد الأولى ، فهي ضامنة للمالك بالنسبة إلى العين وصفاتها الخارجيّة ، ولليد الأولى بالنسبة إلى ضمانها وخسارتها للمالك ، بمعنى أنّ المالك لو رجع إلى اليد الأولى وأخذ منها البدل ، فاليد الثانية عليها تلك الخسارة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الضمان ليس في عرض ذلك الضمان الأوّل ؛ لأنّ ضمان ضمان الشي ء ليس في عرض ضمان الشي ء ، بل هو متأخّر عنه فلا يبقى مجال لذلك الإشكال ، أي إشكال الضمان لشخصين بالنسبة إلى مال واحد ؛ لأنّه ليس ضمانان لمال واحد مرّتين : مرّة لهذا الشخص ، ومرّة أخرى لشخص آخر ، بل أحدهما ضمان نفس المال ، والآخر ضمان ذلك الضمان الأوّل ؛ فاليد الأولى ضامنة لنفس العين المأخوذة فقط ، واليد الثانية ضامنة للعين المأخوذة.

ومن هذه الجهة للمالك أن يرجع إليه وضامنة لضمان اليد الأولى ، ومن هذه الجهة لليد الأولى أن يرجع إليه إذا رجع المالك إليها وخسرت للمالك.

فليس لنفس العين إلا ضمان واحد على البدل ، بمعنى أنّ المالك له أن يرجع إلى

ص: 180

أيّ واحد من الآخذين لما له على البدل ، وإلاّ فليس له أن يرجع إلى الاثنين معا ويأخذ بدلين ، كي يكون الإشكال المذكور واردا.

وأمّا ضمانه لغير المالك من الأيدي المتقدّمة عليه فليس ضمان نفس المال حتّى يلزم ضمانه للمال الواحد مرّة أو مرّات ، أي مرة للمالك ، وأخرى لكل يد متقدّمة عليه ، بل كلّ من عدا المالك من تلك الأيدي المتقدّمة فالضمان له يكون ضمان الضمان ، أي الخسارة اليد السابقة عليه للمالك. فليس من قبيل ضمان الشخصين لمال واحد مرّتين ؛ لأنّه بالنسبة إلى المالك ونفس العين وان كان بحسب تعدّد الأيدي متعدّدا ، ولكن ليس في عرض واحد بل على البدل. وأمّا بالنسبة إلى الأيدي السابقة فليس الضمان ضمان العين ، وهذا الحكم جار ولو إلى ألف يد ، ولا يلزم محذور ؛ لطوليّة الضمانات.

ثمَّ إنّ ها هنا فروع كثيرة ، ومطالب جليلة - ذكرها الفقهاء والمحقّقون في كتاب الغصب وفي مسألة المقبوض بالعقد الفاسد - يطول ذكرها والنقض والإبرام فيها.

الجهة التاسعة : في كون اليد سببا لحصول الملكيّة في عالم الثبوت لا أنّها سبب إثباتي فقط

وذلك كما في حيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش وأمثال ذلك ، ولا شكّ في أنّ اليد على المباحات الأصليّة والاستيلاء عليها بقصد التملّك تكون سببا لحصول الملكيّة ، وإنّما الكلام في كفاية صرف الاستيلاء ولو لم يكن بقصد التملّك ، بل كان لغرض آخر.

ربما يقال بكفاية هذا الاستيلاء الخارجي ولو لم يكن قاصدا للتملّك ، مستندا إلى

ص: 181

قوله صلی اللّه علیه و آله : « من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به » (1) المنجبر ضعف سنده بالاشتهار عند الكلّ واستناد الجميع إليه.

ولكن الاستيلاء على الشي ء بدون قصد التملّك وإن كان يصدق عليه السبق إلى الشي ء ، ولكن السبق إلى المباحات الأصليّة لا يوجب حسب مضمون الحديث إلاّ الأحقيّة من الآخرين ، والأحقّية غير الملكيّة ؛ لأنّها تجري فيما لا يقبل التملّك ، كالأوقاف العامّة مثل المساجد والمشاهد المشرفة والرّبط وخانات الوقف ، فالذي سبق إلى مكان من هذه الأماكن ، وأخذ لنفسه وعياله محلاّ منها فليس لأحد مزاحمته ، بل يكون هو أحقّ من جميع الناس بذلك المكان ، مع أنّ تلك الأماكن غير قابلة لأنّ تصير ملكا لأحد.

فهذا الحديث الشريف لا يدلّ إلاّ على حصول حقّ السبق بالنسبة إلى الأمكنة التي هي وقف عامّ كالموارد التي ذكرناها ، أو بالنسبة إلى المباحات الأصليّة إذا استولى عليها لا يقصد التملّك. وأمّا إذا استولى عليها بقصد تملّكها فيصير ملكا قطعا ، لبناء العقلاء والسيرة القطعيّة عند المتديّنين على حصول الملكيّة في المباحات الأصليّة إذا كان الاستيلاء بقصد التملّك ، وذلك كالاحتطاب والاعتشاب.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مطلق الأحقّية وإن كان غير ملازم للملكيّة ؛ لما ذكرنا من أنّها قد توجد فيما ليس بقابل لأن يصير ملكا لأحد كالأوقاف العامّة ، ولكن الأحقّية المطلقة مساوقة مع الملكيّة ولا تنفكّ عنها ؛ لأنّ الأحقيّة المطلقة عبارة كون صاحبها أحقّ من جميع من عداه بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، ومنع غيره عن جميع التقلّبات. ومثل هذا المعنى في نظر العرف والشرع عين الملكيّة ؛ وذلك من جهة أنّ الملكيّة اعتبار عقلائي بلحاظ هذه الآثار ، فإذا حكم الشرع أو العقلاء بترتّب هذه الآثار على شي ء ، وفي مورد معناه أنّه أو أنّهم اعتبروا ملكيّة ذلك الشي ء ، فإذا دلّ الحديث الشريف على

ص: 182


1- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 48 ، ح 4 ؛ « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 142 ، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد.

أنّ من سبق إلى شي ء من المباحات الأصليّة - فيما إذا لم يسبق إليه أحد من المسلمين - فهو أحقّ به بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، حتّى التصرّفات المتوقّفة على الملك - فيدلّ على حصول الملكيّة بالسبق والاستيلاء ، ولو كان خاليا عن قصد التملّك ، ولكن الشأن في استفادة هذا المعنى من الحديث.

ويمكن أن يقال : إنّ إطلاق الأحقيّة يقتضي أحقّية المطلقة ؛ لأنّ ما عداها من مراتب الأحقّية ، وبالنسبة إلى بعض التصرّفات دون بعض يحتاج إلى البيان ، ففيما ليس بقابل لأن يكون ملكا - كالأوقاف العامّة - نعلم بالأدلّة الخارجيّة عدم جواز بعض التصرّفات ، مثل بيعها وهبتها وسائر الانتقالات المتعلّقة بأعيانها ، بأيّ عنوان وأيّ عقد كانت.

وأمّا فيما يقبل التملّك فنأخذ بإطلاق الأحقّية ونقول : بأنّ الاستيلاء على المباحات الأصليّة - ولو لم يكن بقصد التملّك بل كان لغرض عقلائي آخر - يوجب الأحقّية المطلقة المساوقة للملكية.

ثمَّ إنّه ربما يستدلّ على حصول الملكيّة بصرف الاستيلاء واليد من غير قصد التملّك بقوله علیه السلام ، في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » (1). بأن يقال : لا شكّ في أنّ قوله علیه السلام « فهو له » ظاهر في أنّه ملك له ، وقد رتّب هذا الحكم على عنوان « من استولى » من دون مدخليّة أيّ شي ء.

وقد بيّنّا أنّ هذا العنوان - أي عنوان الاستيلاء - عين عنوان اليد ، ولكن الاستدلال بهذه الفقرة متوقّف على أن تكون هذه الجملة كبرى كليّة ، لا أن يكون المراد منها أنّ استيلاء أيّ واحد من الرجل والمرأة على أيّ متاع من أمتعة البيت موجب لكونه له ، وإلاّ إن كان كذلك فهذا حكم خاصّ ، لخصوص الرجل والمرأة في

ص: 183


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 302 ، ح 1079 ، باب ميراث الأزواج ، ح 39 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 525 ، أبواب ميراث الأزواج ، باب 8 ، ح 3.

خصوص متاع البيت ولا يشمل سائر الموارد.

ولكن الإنصاف أنّ كون خصوصيّة متاع البيت ، وكذلك خصوصيّة الزوج والزوجة دخيلا في هذا الحكم بعيد وإن كان الظاهر من تقييد الشي ء بقوله علیه السلام « منه » هو ذلك. هذا أوّلا.

وثانيا : ظاهر هذه الجملة على فرض إلقاء الخصوصيّة وكونها كبرى كلّيّة ، هو أنّ الاستيلاء على شي ء أمارة الملكيّة في عالم الإثبات للمستولي بعد الفراغ أنّ له مالك في مقام الثبوت ، وكلامنا في أنّ صرف الاستيلاء بدون قصد التملّك هل يكون سببا لحصول الملكيّة في عالم الثبوت أم لا؟ فالمقامان كلّ واحد منهما أجنبي عن الآخر.

وأمّا الاستدلال على هذا المطلب بأدلّة إحياء الموات ، وأنّ الأرض الميتة تصير ملكا بالإحياء ، سواء قصد التملّك أم لا ، والإحياء عبارة عن وضع اليد عليها.

ففيه : أنّ الإحياء وإن كان سببا لحصول الملكيّة لقوله علیه السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (1) ولكنّه ليس عبارة عن الاستيلاء فقط ، وصرف وضع اليد على أرض ميتة ، بل يحتاج إلى عمل من طرف المحيي من اجراء نهر ، أو كريه حتّى يجري عليها الماء ، أو غرس أشجار ، أو زرع ، أو بناء بأن يجعله خانا أو دارا أو حمّاما أو مقهى أو غير ذلك ممّا ذكره الفقهاء في كتاب إحياء الأراضي الميتة. وعلى كلّ حال الإحياء غير صرف اليد.

ص: 184


1- « الكافي » ج 5 ، ص 279 ، باب في إحياء أرض الموات ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 152 ، ح 673 ، باب أحكام الأرضين ، ح 22 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 108 ، ح 382 ، باب من أحيا أرضا ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 327 ، أبواب إحياء الموات ، باب 1 ، ح 5.

7 - قاعدة نفي السبيل للكافرين على المسلمين

اشارة

ص: 185

ص: 186

7 - قاعدة نفي السبيل للكافرين على المسلمين (1)

ومن القواعد الفقهيّة ، التي عمل بها الأصحاب ، وطبقوها على موارد كثيرة في مختلف أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام ، القاعدة المعروفة المشهورة ، أي « نفي السبيل للكافرين على المسلمين ».

وبهذه القاعدة تمسّك شيخنا الأعظم قدس سره في عدم صحّة بيع العبد المسلم على الكافر (2).

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها

وهو أمور

الأوّل : قوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (3).

والظاهر من معنى الآية الشريفة أن اللّه تبارك وتعالى لم يجعل ولن يجعل في عالم

ص: 187


1- (*) « الحقّ المبين » ص 92 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 49 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 22 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 127 ؛ « القواعد » ص 1. « قواعد فقهية » ص 224 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 244 ؛ « قاعدة نفي سبيل در حقوق إسلامي » مهدي شاملو احمدى ، ماجستير مدرسة الشهيد مطهّرى العالية.
2- « المكاسب » ص 158.
3- النساء (4) : 141.

التشريع حكما يكون موجبا لكونه سبيلا وسلطانا للكافرين على المؤمنين. وتشريع جواز بيع عبد المسلم من الكافر ونفوذه وصحّته ، موجب لسلطنة الكافر على المسلم ، منفيّ بهذه الآية ، وكذلك إجازته وإعارته له. ونذكر إن شاء اللّه تعالى تطبيق هذه القاعدة على مواردها مفصلا.

ولا شكّ في أنّ ظاهر الآية الشريفة لو كان في مقام التشريع هو الذي ذكرنا ، ويكون المراد من الجعل المنفي فيها هو الجعل التشريعي لا التكويني ، فتكون قاعدة حاكمة على الأدلّة المتكلّفة لبيان الأحكام الواقعيّة.

مثلا الأدلّة الأوّليّة مفادها ولاية كلّ أب أو جدّ من طرف الأب على أولاده الصغار ، أبناء كانوا أو بناتا ، ومفاد هذه الآية - بناء على المعنى المذكور - نفي الولاية إذا كان الأب أو الجدّ من طرف الأب كافرا ، والابن أو البنت كانا مسلمين ، وهكذا في سائر موارد تطبيق الآية ، فتكون هذه قاعدة حاكمة بالحكومة الواقعيّة على الأدلّة الأوّليّة ، مساقها في ذلك مساق حديث « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (1) وقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2).

هذا ، ولكن ربما يقال - بقرينة قوله تعالى قبله ( فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) - إنّ المراد من السبيل هي الحجّة في يوم القيامة ، أي لا حجّة للكافرين على المؤمنين يوم القيامة ، بل تكون الحجّة للمؤمنين عليهم في ذلك اليوم.

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه الطبري في تفسيره ، عن ابن ركيع ، بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، قال رجل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت قول اللّه ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ علیه السلام : « ادنه ادنه » ثمَّ قال علیه السلام : فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ( وَلَنْ يَجْعَلَ

ص: 188


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5718 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 376 ، أبواب موانع الإرث ، باب 1 ، ح 10.
2- الحجّ (22) : 78.

اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) يوم القيامة ».

وروي أيضا عن آخرين عن عليّ أمير المؤمنين مثله.

وروي أيضا بإسناده عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) قال : ذاك يوم القيامة ، وأمّا السبيل في هذا الموضع فالحجّة ، وروي أيضا عن السدي إنّه الحجّة (1).

ولكن أنت خبير أنّ تفسير الإمام علیه السلام ببعض مصاديق ما هو المتفاهم العرفي من اللفظ لا ينافي عموم المراد ، ولا يقتضي الخروج عمّا هو ظاهر اللفظ ، بل يكون الظهور باقيا على حجيّته فيؤخذ بظاهر اللفظ الذي هو عبارة عن نفي غلبة الكافر على المؤمن ، سواء أكان بالحجّة يوم القيامة ، أو في الدنيا بالنسبة إلى عالم التشريع.

نعم تفسيره علیه السلام بالحجّة في يوم القيامة حيث أنّه في مقام أنّه ليس المراد من نفي السبيل نفي القهر والغلبة الخارجية التكوينيّة ، فتكون تلك الغلبة خارجة عن عموم نفي السبيل ، وخروج مثل هذه الغلبة عن العموم أمر واضح محسوس في الخارج ، فقد قال اللّه تبارك وتعالى في قضيّة انكسار المسلمين في غزوة أحد ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ ) (2).

والحاصل : أنّ الإمام علیه السلام بصدد بيان أنّ هذا العموم ليس عقليّا كي لا يكون قابلا للتخصيص ، وأنّ الغلبة الخارجيّة خارجة عن تحت العموم.

ثمَّ إنّه علیه السلام بيّن بعض مصاديق المراد الذي هو قريب إلى فهمهم ، وهو الغلبة بالبرهان والحجّة في يوم القيامة.

هذا كلّه فيما إذا كان المراد من السبيل المنفي هي الغلبة ، وأمّا بناء على ما استظهرنا من أنّ المراد منه الحكم الشرعي والغلبة في عالم التشريع فلا إشكال حتّى يحتاج إلى

ص: 189


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 5 ، ص 214.
2- آل عمران (3) : 140.

جواب.

ولا ينافي تفسيره علیه السلام بالحجّة في يوم القيامة ما استظهرناه ؛ لأنّه تفسير لا ظاهر الكلام ، وللقرآن سبعة أبطن.

مضافا إلى أنّ كلّ هذه الأمور - أي الغلبة في عالم تشريع الأحكام ، والغلبة بالحجّة والبرهان في يوم القيامة ، والغلبة التكوينيّة الخارجيّة كلّها - من مصاديق مفهوم الغلبة والسبيل حقيقة وبالحمل الشائع ، وإن كان الظاهر كما استظهرناه أنّ المراد بالجعل المنفي هو الجعل التشريعي لا التكويني.

الثاني : قوله علیه السلام : « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يورثون ».

والخبر مشهور معروف ، ذكره في الفقيه عن النبي صلی اللّه علیه و آله في المجلّد الرابع في باب ميراث أهل الملل (1) ، فعمدة الكلام دلالته ، وإلاّ فمن حيث السند موثوق الصدور عن النبي صلی اللّه علیه و آله لاشتهاره بين الفقهاء وعملهم به.

والظاهر من هذا الحديث الشريف بقرينة ظاهر الحال أنّه في مقام التشريع ، وأنّ الإسلام يكون موجبا لعلوّ المسلم على غيره في مقام تشريع أحكامه وبالنسبة إلى تلك الأحكام.

وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يكون الحكم الإسلامي وتشريعه سببا وموجبا لعلوّ الكافر على المسلم ، ففي هذا الحديث الشريف جملتان : إحداهما موجبة ، والأخرى سالبة ، ومفاد الجملة الأولى الموجبة هو أنّ الأحكام المجعولة في الإسلام فيما يرجع إلى الأمور التي بين المسلمين والكفّار روعي فيها علوّ جانب المسلمين على الكفّار ، ومفاد الجملة السالبة عدم علوّ الكافر على المسلمين من ناحية تلك الأحكام المجعولة.

وممّا ذكرنا ظهر جواب أنّ علوّ الإسلام لا دخل له بعلوّ المسلمين ؛ إذ معنى علوّ

ص: 190


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5719.

الإسلام ازدياد شوكته وانتشاره في أنحاء الأرض ، إذ بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف - من أنّ معنى الجملة الأولى الموجبة أي : الإسلام يعلو هو أنّ أحكام الإسلام توجب علوّ المسلم على الكافر في الأمور الواقعة بينهما من المعاملات ، وغيرها كالولايات والمعاهدات والأنكحة ، ولا توجب علوّ الكافر على المسلم ، فليس في الإسلام حكم يكون موجبا لعلوّ الكافر على المسلم - لا يبقى مجال ووقع لهذا الكلام ، ويكون علوّ الإسلام عبارة أخرى عن علوّ المسلمين.

وحاصل الكلام : أنّه بعد الفراغ عن أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام التشريع لا الإخبار عن أمر خارجي - وهو أنّ الإسلام له علوّ وشرف لأنّه موجب للنجاة وسعادة الدنيا والآخرة - لا شكّ في أنّ الظاهر من هذا الكلام في هذا المقام أنّ الإسلام وهذا الدين والشرع يعلو بالمتديّنين بهذا الدين على غيرهم ، ولا يكون موجبا لعلوّ الكفّار على المتديّنين بهذا الدين.

الثالث : هو الإجماع المحصّل القطعي على أنّه ليس هناك حكم مجعول في الإسلام يكون موجبا لتسلّط الكافر على المسلم ، بل جميع الأحكام المجعولة فيه روعي فيها علوّ المسلمين على غيرهم ، كمسألة عدم جواز تزويج المؤمنة للكافر ، وعدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر ، وعدم صحّة جعل الكافر واليا ووليّا على المسلم ، وأمثال ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّ الاتّفاق على هذا الأمر - أي عدم كون الأحكام الشرعية موجبة لعلوّ الكافر على المسلم - وإن كان في الجملة مسلّما ، ولكن كونه من الإجماع المصطلح - عند الأصولي الذي أثبتنا حجيّته - في غاية الإشكال بل معلوم العدم ؛ لأنّ الظاهر أنّ المتّفقين يعتمدون على هذه الأدلّة المذكورة.

وقد حقّقنا في الأصول أنّ مثل هذا الإجماع لا يوجب الحدس القطعي برأي الإمام علیه السلام ، وليس مثل هذا الاتّفاق مسبّبا عن رأيه ورضاه علیه السلام حتّى يستكشف من

ص: 191

وجوده وجود سببه ، بل هو مسبّب من الاستظهار من هذه الأدلّة ، فلا بدّ وأن يراجع الفقيه إلى نفس هذه الأدلّة وأنّها هل تدلّ على هذه القاعدة أم لا؟

الرابع : مناسبة الحكم والموضوع ، بمعنى أنّ شرف الإسلام وعزّته مقتض بل علّة تامّة لأنّ لا يجعل في أحكامه وشرائعه ما يوجب ذلّ المسلم وهوانه ، وقد قال اللّه تبارك وتعالى في كتابه العزيز ( وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) فكيف يمكن أن يجعل اللّه حكما ويشرعه يكون سببا لعلوّ الكفّار على المسلمين ، ويلزم المسلم على الامتثال بذلك الحكم؟ فيكون الكفّار هم الأعزّة ، ويكون المسلمون هم الأذلّة الصاغرون ، مع أنّه تبارك وتعالى حصر العزّة لنفسه ، ولرسوله ، وللمؤمنين في الآية الشريفة التي تقدّم ذكرها.

والإنصاف أنّ الفقيه يقطع بعد التأمّل فيما ذكرناه بعدم إمكان جعل مثل ذلك الحكم الذي يكون سببا لهوان المسلم وذلّة بالنسبة إلى الكافر الذي لا احترام له ، وهو كالأنعام بل أضل سبيلا. وليس هذا الكلام من باب استخراج الحكم الشرعي بالظنّ والتخمين كي يكون مشمولا للأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ والقول بغير علم والافتراء على اللّه ، بل هو من قبيل تنقيح المناط القطعي بل يكون استظهارا من الأدلّة اللفظيّة القطعيّة كما تقدّم شرحه.

وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه للاستدلال على هذه القاعدة ؛ لأنّه ممّا يركن النفس إليه ويطمئنّ الفقيه به. نعم ربما يكون هناك مصلحة أهمّ للإسلام أو المسلمين يكون سببا لجعل حكم يكون موجبا لعلوّ الكافر على المسلم في بعض الأحيان ، كما أنّه ربما يجعل حكما يكون موجبا لا فناء جماعة من المسلمين ، كما في مورد تترس الكفّار بالمسلمين ، والمسألة مذكورة في كتاب الجهاد مشروحا مفصّلا ، وسنذكر إن شاء اللّه تعالى بعض موارد الاستثناء عن هذه القاعدة لمصلحة وملاك أهمّ.

ص: 192


1- المنافقون (63) : 8.

الجهة الثانية : في بيان مضمون هذه القاعدة ومفادها ، وما هو المراد منها

أقول : المراد من هذه القاعدة - كما تقدّم شرحه في الجهة الأولى في مقام الاستدلال عليها - هو أنّه لم يجعل اللّه تبارك وتعالى في التشريع الإسلامي حكما يكون من ناحية ذلك الحكم سبيلا وعلوّا للكافر على المسلم ، ففيما حكينا ونقلنا عن الفقيه من قوله صلی اللّه علیه و آله « والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يورثون » دلالة صريحة على عدم الاعتناء بشأنهم ، وتنزيلهم منزلة الأموات في عدم استحقاقهم الإرث من المورث المسلم ، فعلى فرض ثبوت هذه القاعدة بتلك الأدلّة المذكورة تكون حاكمة على العمومات الأوّليّة وإطلاقاتها.

فقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1) أو سائر آيات الإرث مثلا عام يشمل الوارث الكافر والمسلم ، وهذه القاعدة حاكمة على تلك العمومات ؛ لما ذكرنا من قوله صلی اللّه علیه و آله وجعلهم بمنزلة الموتى ، فتكون نتيجة هذه الحكومة تخصيص الإرث بالوارث المسلم وحرمان الكافر ، وعلى هذا فقس في موارد سائر العمومات والإطلاقات.

الجهة الثالثة : في ذكر جملة من موارد تطبيق هذه القاعدة

فمنها : عدم جواز تملّكه - أي الكافر - للمسلم بأيّ نحو من أنحاء التملّك الاختياري ، سواء أكان بالشراء ، أو كان بالصلح ، أو بالهبة ، أو بأيّ ناقل شرعي ؛

ص: 193


1- النساء (4) : 11.

وذلك من جهة أنّه على تقدير ثبوت هذه القاعدة فما ذكر أى عدم جواز انتقال العبد المسلم إلى الكافر ، يكون من أوضح مصاديق هذه القاعدة ؛ لأنّه أيّ سبيل وعلوّ يكون أعظم من كون المسلم عبدا مملوكا للكافر ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ) ؟

ولذلك لو تملّكه بالملك القهري - كالإرث فيما إذا كان المورث أيضا كافرا ، أو أسلم في ملك الكافر - يجبر على البيع ولا يقرّ يده عليه ، بل يباع عليه ، ولا يعتنى بمولاة ، كما هو صريح ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام في عبد كافر أسلم وهو في ملك مولاه الكافر :

في المرسل عن حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إنّ أمير المؤمنين علیه السلام أتي بعبد ذمّي قد أسلم ، فقال علیه السلام : اذهبوا فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولا تقرّوه عنده » (1).

وأمّا ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في هذا المقام - من معارضة هذه القاعدة بعموم أدلّة صحّة البيع ، ووجوب الوفاء بالعقود ، وحلّ أكل المال بالتجارة عن تراض ، وعموم « الناس مسلطون على أموالهم ». (2) فيدفع بما ذكرنا في الجهة الثانية من حكومة هذه القاعدة على العمومات الأوّليّة وإطلاقاتها ؛ لأنّه صلی اللّه علیه و آله جعلهم بمنزلة الموتى في قوله صلی اللّه علیه و آله : « والكفّار بمنزلة الموتى » ، فالكفّار خارجون عن تحت تلك العمومات والإطلاقات خروجا تعبّديّا ، وهذا معنى حكومة القاعدة عليها.

وسائر المناقشات التي أوردها في هذا المقام واضح الدفع ، ولذلك تركنا ذكرها والإيراد عليها.

ص: 194


1- « الكافي » ج 7 ، ص 432 ، باب النوادر ( من كتاب القضاء والأحكام ) ، ح 19 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 287 ، ح 795 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 282 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 28 ، ح 1. وفي الكافي والتهذيب : « أتي بعبد لذمّي قد أسلم ».
2- « المكاسب » ص 159.

فما قربه من تفسير السبيل بما لا يشمل الملكيّة - بأن يراد منه السلطنة ، فيحكم بتحقّق الملك وعدم تحقّق السلطنة ، بل يكون محجورا عليه مجبورا على بيعه - لا يخلو من خلل ؛ لما تقدّم منّا من أنّ نفس المملوكيّة للكافر سبيل له عليه ، وإن كان محجورا عن التصرف فيه ومجبورا على بيعه.

نعم ظاهر قوله علیه السلام « اذهبوا فبيعوه من المسلمين ولا تقروه عنده » أنّ ما هو المنفي استقرار الملك لا أصل الملك ، وإلاّ لا معنى لدفع الثمن إليه ، أي إلى مولاه الكافر بعد بيعه ، بل لا معنى لبيعه ، لأنّه لا بيع إلاّ في ملك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكافر مالك لماليّته لا لنفس العبد ، نظير ما قيل في إرث الزوجة بالنسبة إلى الأبنية الموجودة في دار زوجها الميّت.

وبناء على هذا المعنى لا يبقى إشكال في شراء الكافر العبد المسلم الذي ينعتق عليه ، أو الأمة المسلمة التي تنعتق عليه ؛ لأنّ الملكيّة المتعقّبة بالانعتاق فورا ليست ملكيّة مستقرّة حتّى تكون منفيّة ، ولا يحتاج إلى التكلّف والقول بأنّ المراد من السبيل المنفي هي السلطنة لا الملكيّة.

لأنّ مرادهم إن كان أنّ الملكيّة التي حجر على المالك من التصرّف في المملوك ليست سبيلا للكافر على العبد المسلم ، وتكون خارجة عن تحت هذا المفهوم ، وليست مصداقا له.

فهذا هو الذي بيّنّا فساده وقلنا إنّ نفس الملكيّة أعظم سبيل مضافا إلى أنّه على فرض تسليم أنّها ليست من مصاديق السبيل - لأنّ المراد من السبيل هي السلطنة - فلا يمكن إنكار كونها علوّا منفيّا بقوله صلی اللّه علیه و آله .

وإن كان مرادهم أنّ مثل هذه الملكيّة خارجة عن تحت السبيل المنفي في الآية حكما ، لا موضوعا كي يكون تخصيصا لا أن يكون تخصّصا ، كما أنّه كذلك في الفرض الأوّل.

ص: 195

ففيه : أنّ هذا التخصيص المنافي لأصالة العموم يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

والإنصاف أنّ القدر المتيقّن من الخروج عن عموم الآية تخصيصا أو تخصّصا وكذلك عن عموم الحديث الشريف ، هو خصوص الملكيّة غير المستقرّة ، لا مطلق الملكيّة التي حجر على مالكها.

ثمَّ إنّه لا يتوهّم أنّ أمره علیه السلام ببيع العبد الذمّي الذي أسلم عند مولاه الكافر من المسلمين يدلّ على عدم سقوط الملكيّة المستقرّة ، وإلاّ كان ينعتق على مولاه الكافر ، فلم يكن مجال لبيعه وإعطاء ثمنه له ، لأنّك قد عرفت أنّ هذا المقدار من الملكيّة الموقّتة - أي بقاء إلى زمان تحقّق البيع - قد خرج عن تحت العموم تخصيصا ، والمخصّص هو هذه الرواية ، أي رواية حمّاد بن عيسى ، فلا يبقى إشكال في البين.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت ما ذكرنا يظهر لك أنّه لا فرق في شمول الآية والحديث الشريف بين أنواع الانتقالات بالأسباب الاختياريّة إلى الكافر ، فكما لا يجوز بيعه منه كذلك لا يجوز سائر الانتقالات الاختياريّة بأيّ سبب كان ، من النواقل الشرعيّة الاختياريّة من صلح أو هبة أو وصيّة أو غيرها.

وأيضا ظهر لك ممّا ذكرنا أنّه لا مجال لاستصحاب الصحّة فيما إذا كان كفر المشترى مسبوقا بالإسلام ، أو إسلام العبد كان مسبوقا بالكفر ؛ لأنّه مضافا إلى أنّ هذا الاستصحاب تعليقي - وقد بيّنّا عدم صحة استصحاب التعليقي في كتابنا « منتهى الأصول » (1) - لا مورد للاستصحاب ولو لم يكن من الاستصحاب التعليقي ؛ لعدم مجال لجريان الاستصحاب الذي هو أصل عملي وإن كان تنزيليا ، لوجود الأمارة على خلافه ، وهي الآية والرواية.

وأمّا على تقدير عدم دلالة الآية والرواية على فساد البيع ، أو الشكّ فيها ، فأيضا لا مجال لاستصحاب الصحّة ؛ لحكومة أدلّة عمومات صحّة العقود وإطلاقاتها على هذا

ص: 196


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 463.

الاستصحاب.

بقي الكلام في أنّه هل يجوز إجارة العبد المسلم ، أو أمة المسلمة على الكافر ، أو لا تصحّ؟

فيه أقوال :

قول بعدم الجواز مطلقا.

وقول بالجواز مطلقا.

وقول بالتفصيل بين أن يكون وقوع الإجارة على الذمّة فلا تصح - وإلى هذا ذهب جامع المقاصد (1) والمسالك (2) - وبين أن يكون وقوعها على العمل الخارجي فلا تصح.

وهناك تفصيل بين الحرّ والعبد ، فتصح في الأوّل دون الثاني.

وحكي هذا التفصيل عن الدروس (3).

ومنشأ هذه التفاصيل والأقوال هو صدق العلوّ والسبيل في بعض الصور دون بعض.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الوجوه والأقوال في هذه المسألة كلّها ليس كما ينبغي.

أمّا القول الأوّل : فلأنّه ربما تكون إجارة العبد المسلم للخدمة عند الكافر موجبا لسلطنة الكافر عليه ، ولا شكّ في أنّ سلطنة الكافر عليه سبيل وعلوّ عليه بالمعنى الذي ذكرنا للسبيل والعلو ، فلا يمكن القول بصحّتها مطلقا.

كما أنّ القول الثاني - أي : بطلانها مطلقا - أيضا لا وجه له ، كما أنّ الكافر لو

ص: 197


1- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 63.
2- « مسالك الأفهام » ج 3 ، ص 167.
3- « الدروس » ج 3 ، ص 199 ، كتاب البيع ، في شرائط المتعاقدين ، درس (239).

استأجره للتعلّم عنده فليس هناك علوّ أو سبيل للمستأجر الكافر على المسلم قطعا. وصرف استحقاقه التعليم عليه بواسطة عقد الإجارة ليس علوّا عليه قطعا ، وإلاّ ينسدّ باب جملة من المعاملات بين الكافر وبين المسلم إن لم نقل بانسداد أبواب جميعها ، بل ربما يكون بعض الإجارات الواقعة بينهما عزّا وعلوّا للمسلم عليه كما هو واضح.

كما أنّ القول الثالث ، أي التفصيل بين الوقوع على الذمّة فتصحّ ، والوقوع على العمل الخارجي فلا تصحّ ؛ من جهة أنّ اشتغال ذمّة المسلم للكافر علوّ وسبيل له على المسلم.

ففيه : أنّه ليس كلّ اشتغال ذمّة علو وسبيل من الذي اشتغلت الذمّة له على من اشتغلت ذمّته ، بل ربما يكون بالعكس ، كما ذكرنا في مسألة الإجارة على التعليم. هذا ، مضافا إلى القطع بوقوع معاملات بين المسلمين وبين الكفّار مع اشتغال ذمّة المسلمين لهم من زمان صاحب الشريعة صلی اللّه علیه و آله إلى زماننا هذا ، بل ربما كان يقع مثل هذه المعاملة بين نفسه صلی اللّه علیه و آله وبينهم.

وأمّا القول الرابع : أي التفصيل بين الحرّ والعبد وإن كان له وجه ، من جهة أنّ العبد مملوك ويقع تحت اليد ، فبعد أن استأجره الكافر من مولاه وتسلمه للعمل عنده خصوصا إذا كان للخدمة بل يكون خادما عنده - فلا شكّ في صدق السبيل والعلوّ لأنّ معنى اليد هي السيطرة والسلطنة الخارجيّة على الشي ء ولو كان غاصبا ، فضلا عمّا إذا كانت يده عليه بحقّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا المعنى لا يختصّ بإجارة العبد ، بل ربما تحصل السيطرة والسلطنة العرفيّة وإن لم يكن عبدا ، كما لو آجر الولي الطفل غير البائع على الكافر ، خصوصا إذا كان للخدمة عنده. بل ربما يحصل هذا المعنى - أي السيطرة الخارجية - ولو كان حرّا بالغا ، كما لو كانت الحرّة امرأة استأجرها الكافر لأن تكون خادمة في

ص: 198

بيته.

هذا ، مضافا إلى أنّه ليس المناط في عدم الجواز سيطرة الكافر على المسلم ، بل المناط كلّ المناط في عدم صحّة الإجارة هو حصول العلوّ والسبيل للكافر على المسلم.

ولا شكّ في أنّ في بعض الموارد يحصل العلوّ والسبيل للكافر على المسلم ، سواء أكان الأجير حرّا أو عبدا ، كما لو كان المسلم خادما أو خادمة عنده.

وكذلك أيضا لا شكّ في عدم حصول هذين الأمرين مطلقا ، أي سواء أكان الأجير حرّا أو عبدا ، كما أنّه لو استأجر الكافر مسلما لتعليم نفسه أو أولاده ، أو طبيبا مسلما لمعالجة نفسه أو مرضاة ، بل ربما يكون في بعض الموارد عزّا وعلوّا للمسلم الأجير عليه.

فلا بدّ وأن ينظر إلى موارد الإجارات وأنّه هل يحصل من كون المسلم أجيرا للكافر ذلاّ وهوانا له بحيث يكون الكافر علوّا عليه من ناحية هذه الإجارة أم لا؟

ففي الأوّل لا تصحّ الإجارة دون الثاني. ولا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد ، ولا بين أن يكون وقوع الإجارة على ما في الذمّة أو على العمل الخارجي.

وأمّا الإعارة ، فحيث أنّه لا بدّ وأن يكون المعار مملوكا ، فالتفصيل الذي كان في الإجارة - بين الحرّ والعبد - لا مجال هاهنا. وكذلك التفصيل الذي كان في الإجارة بين أن يكون واقعا على الذمّة أو واقعا على العمل الخارجي ، لعدم اشتغال ذمّة المعير بشي ء.

وعلى كلّ فالحقّ في إعارة العبد المسلم للكافر - أيضا مثل الإجارة - هو أنّه لو كانت مستلزمة لذلّ المسلم وهوانا بالنسبة إلى الكافر ، أو كانت موجبة لعلوّ الكافر فلا تصحّ ، كما أنّه لو أعاره عبده المسلم أو أمته المسلمة ليكون خادما أو خادمة في بيته ، أو شغل آخر من الأشغال الذي يكون موجبا لعلوّ الكافر عليه.

ص: 199

وأمّا لو لم يكن كذلك ، بل ربما كانت موجبة لعزّ المسلم وعلوّه على الكافر ، كما أنّه لو أعار عبده المسلم لتعليمه ، أو معالجته ، أو معالجة مرضاة فلا إشكال فيه ، وتكون من هذه الجهة حال الإعارة حال الإجارة.

نعم الإشكال الذي ذكرناه في الإجارة - من أنّ الأجير إذا كان عبدا فيقع تحت يد الكافر وسيطرته فيكون علوّا للكافر على المسلم - يأتي هاهنا أيضا ، ولكن الجواب هو الذي ذكرنا في الإجارة.

نعم ذكروا أنّ العارية تسليط المستعير على العين المملوكة للانتفاع بها ، فتكون نتيجتها علوّ المستعير على تلك العين ، وسبيل للكافر عليها إذا كانت عين المستعارة عبدا مسلما أو أمة مسلمة.

وأمّا الارتهان عنده ، فقد منع عنه في القواعد (1) والإيضاح (2) مطلقا ، وجوّز بعض مطلقا ، وفصّل الشيخ الأعظم قدس سره بين أن يكون العبد المسلم المرهون عند مسلم حسب رضاء الطرفين ، وبين أن يكون تحت يد الكافر فجوّز في الأوّل ، ومنع في الثاني (3).

ولكن الظاهر هو الجواز مطلقا ؛ لما ذكرنا في إجارة وإعارته بأنّ صرف كونه تحت يد الكافر ليس علوّا وسبيلا للكافر عليه ، بل صرف وثيقة لاستيفاء دينه منه عند عدم أداء الراهن ، والمباشر للبيع ليس هو الكافر كي يكون هذا سبيلا عليه ، بل هو المالك أو الحاكم عند امتناعه.

وأمّا الاستيداع عنده ، فالظاهر عدم الإشكال فيه ؛ لأنّ صرف تسليطه على حفظه ليس علوّا وسبيلا عليه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تسلّطه عليه بكونه في مكان خاصّ وعدم خروجه عنه

ص: 200


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 158.
2- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 11.
3- « المكاسب » ص 159.

مثلا - وان كان هذا التسلّط بجعل المالك المسلم - يكون علوّا وسبيلا عليه.

وأمّا وقف العبد المسلم على الكافر ، فقد يقال بأنّ حال الوقف حال الإجارة فيما ذكرنا من الأقوال ، من المنع مطلقا ، والجواز كذلك ، والتفصيل الذي ذكرنا. واخترنا من المنع فيما يوجب الذلّ والهوان وعلوّ الكافر وسبيله على المسلم ، والجواز فيما عدا ذلك.

ولكنّ الظاهر أنّه بناء على القول يكون العين الموقوفة ملكا للموقوف عليهم فلا تصحّ مطلقا ؛ لأنّ نفس كون المسلم ملكا للكافر علوّ للكافر عليه ، وأي علوّ أعظم من كونه مالكا والمسلم مملوكا له ، وقد تقدّم هذا الكلام.

نعم لو قلنا بعدم كون عين الموقوفة ملكا للموقوف عليهم فلا بأس بما اخترناه من التفصيل ، كما أنّه لو وقف عبده المسلم على تعليم أقاربه الكفّار أو معالجة مرضاهم فلا منع وأمّا لو وقف على خدمتهم بأن يكون خادما أو خادمة في بيتهم مثلا فلا يجوز.

ثمَّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا من موارد الجواز والمنع بين فرق المسلمين ممّن يقرّون ويعترفون بنبوّة نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله وأنّ كلّما جاء به من الأحكام الشرعيّة حق.

وبعبارة أخرى : الإسلام والإيمان هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمدا رسول اللّه ، والاعتراف بوجوب الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، وبهذا تحقن الدماء ، وعليها جرت المواريث وجاز النكاح.

ويدلّ على هذا ما رواه حمران بن أعين - كما في الكافي - عن أبي جعفر علیه السلام قال : سمعته يقول : « الإيمان ما استقرّ في القلب ، وأفضى به إلى اللّه عزّ وجلّ ، وصدّقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره. والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الإيمان ، إلى أن قال : فهل للمؤمن فضل على المسلم في شي ء من الفضائل

ص: 201

والأحكام وغير ذلك؟ فقال : لا ، هما يجريان في ذلك مجرى واحد » الحديث (1).

ولا يخفى أنّ ما ذكره في هذا الحديث من الفرق بين المؤمن والمسلم لا يدلّ على عدم اتّحادهما ، بل المراد من الإيمان الذي وصفه علیه السلام بما ذكره من الاستقرار في القلب ، والعمل بالطاعة لله عزّ وجلّ ، والتسليم لأمره هو أعلى مراتب الإيمان والإسلام ، ولا شكّ في أنّه كان للإسلام والإيمان في زمان نزول هذه الآية معنى واحد ، وفي كثير من الموارد من القرآن العظيم استعملا بمعنى واحد ؛ فالمؤمن في قوله تعالى : ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (2) يشمل جميع فرق المسلمين.

وأمّا عموم هذا الحكم لأطفال الكفّار والمسلمين ، بمعنى أنّ بيع عبد المسلم من أطفال الكفّار أو بيع طفل المسلم الذي هو عبد من الكفّار هل يجوز أم لا؟

الظاهر هو الشمول من الطرفين ، أي لا يجوز بيع أطفال المسلمين الذين هم عبيد من الكفّار ، ولو كان المشتري الكافر طفلا ؛ لوحدة الملاك والمناط ولو قلنا بعدم شمول لفظة « الكافرين » و « المؤمنين » لأطفال الطرفين ، مع أنّه لا وجه للقول بعدم الشمول ؛ لأنّه أيّ فرق في نظر العرف بين من كان عمره أقلّ بساعة عن حدّ البلوغ وبين من لا يكون.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعي أنّ الشارع استعمل لفظ « المسلم » فيمن كان بالغا وأظهر الاعتقاد بما ذكرنا ، ولفظ « الكافر » في البالغ غير المعتقد.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الادّعاء لا يخلو من غرابة.

ثمَّ إنّهم استثنوا من عدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر موارد :

منها : فيما إذا كان الشراء سببا للانعتاق ، أي كان العبد أو الأمة ممّن ينعتق على المشتري الكافر ، لكونه من أقاربه الذين شرع هذا الحكم في حقّهم.

ص: 202


1- « الكافي » ج 2 ، ص 26 ، باب أنّ الإيمان يشترك الإسلام و. ، ح 5.
2- النساء (4) : 141.

ولكن أنت خبير أنّ خروج هذا المورد عن تحت عموم الآية والحديث الشريف بالتخصّص لا بالتخصيص ، ويكون خروجا موضوعيّا ؛ لما ذكرنا من أنّ المراد من السبيل نفي الملكيّة المستقرّة ، فالملكيّة غير المستقرّة التي هي موضوع للانعتاق لقوله علیه السلام « إذا ملكوا أعتقوا » ، أو قوله علیه السلام « إذا ملكن أعتقن » (1).

ولا شكّ في أنّ نسبة الحكم والموضوع كنسبة العلّة والمعلول التقدّم والتأخر بينهما رتبي ، وإلاّ فحسب الزمان لا بدّ وأن يكونا متّحدين ، فمثل هذه الملكيّة لا يعدّ سبيلا وتكون خارجة عن مفهوم السبيل بل العلوّ قطعا.

ولا يتوهّم أنّ الشي ء لا يمكن أن يكون علّة انعدام نفسه ، فكيف صارت الملكيّة سببا للانعتاق؟

وذلك من جهة ما قلنا إنّ الملكيّة موضوع للانعتاق ، بمعنى أنّ الشارع حكم على ما صار ملكا له بالانعتاق ، ولعلّه هذا هو المراد من قولهم بالملكيّة آنا مّا ، وإن كان لا يخلو عن مسامحة ما.

فبناء على ما ذكرنا لا يبقى مجال لعدّ هذا المورد من موارد الاستثناء.

ومنها : من أقرّ بحرية مسلم ثمَّ اشتراه ، وأنّه يؤخذ بإقراره ويصير حرّا ظاهرا ، وإن كان بحسب الواقع عبدا.

نعم يردها هنا إشكال ، وهو العلم بفساد البيع إمّا لكونه حرّا ، وإمّا لكفر المشتري.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّه على تقدير كونه واقعا عبدا فالبيع صحيح وليس كفر المشتري مانعا عن صحّة مثل هذا البيع ، لعدم صدق السبيل مع الأخذ بإقراره وصيرورته حرّا ولو ظاهرا.

ص: 203


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 877 ، باب العتق وأحكامه ، ح 110 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 1.

منها : فيما إذا قال الكافر لمالك العبد المسلم : أعتق عبدك عنّي ؛ لأنّه لا يمكن العتق عن الكافر إلاّ بالدخول في ملكه ، إذ لا عتق إلاّ في ملك. فالبناء على صحّة عتق عبده المسلم عن قبل الكافر - كما هو المشهور - وتوقّف العتق عن قبل شخص على كون ذلك الشخص مالكا ، لا بدّ وأن يقال باستثناء هذا المورد أيضا عن عموم عدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا أيضا يرجع إلى ملكيّة غير المستقرّة ؛ لأنّه بإنشاء العتق يجعله ملكا للكافر ويعتق عن قبله ، فالعتق عن قبل الكافر بالدلالة المطابقة ، وجعله مالكا بالالتزام. وقد عرفت أنّ خروج الملكيّة غير المستقرّة عن تحت هذه القاعدة يكون بالتخصيص لا بالتخصّص ، فلا مورد للاستثناء.

ومنها : فيما إذا اشترط البائع العبد المسلم على الكافر عتقه. فقال في الدروس (1) والروضة (2) بالاستثناء عن عموم الآية والرواية.

ولكن أنت خبير بأنّ صرف الشرط لا يوجب الخروج عن تحت عموم السبيل ، وإلاّ فبدون الشرط أيضا يجب أن يبيعه من مسلم بل يباع عليه. والحقّ في المقام أنّه إن كان الشرط بنحو شرط النتيجة فخارج عن العموم ؛ لأنّه بمحض البيع على الكافر تقع النتيجة ويصير حرّا ، فليس إلاّ من الملكيّة غير المستقرّة ، وقد عرفت خروجه عن تحت العموم بالتخصّص.

ومنها : أي من الأمور المترتّبة على هذه القاعدة ومن موارد تطبيقها عدم ثبوت الولاية للكافر على المسلم وأن يكون له تحكّم عليه ، فلا يجوز جعله قيّما على صغار المسلمين وسفهائهم ، بل ومجانينهم ، وكما لو كان الميّت المسلم له أولاد كفّار ، فليس لهم الولاية في تجهيزه ودفنه وكفنه ، فلا تتوقّف هذه الأمور على إذنهم ، بل يكون الأمر

ص: 204


1- « الدروس » ج 3 ، ص 199 ، كتاب البيع ، في شرائط المتعاقدين ، درس (239).
2- « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 244.

راجعا إلى سائر المسلمين. كلّ ذلك لأجل نفي السبيل للكافرين على المؤمنين في الآية الشريفة ، ولا شكّ في أنّ الولاية والتأمّر والتحكّم على المسلمين سبيل وعلوّ من الكفّار عليهم فمنفيّ بالآية والرواية.

ومنها : عدم توقّف صحّة نذر الولد المسلم على إذن أبيه الكافر ، بناء على توقف صحّة نذر الولد على اذن الوالد المسلم ، وعدم تمكّن الوالد الكافر من حلّ نذر ولده المسلم ، وإن قلنا بأنّ للوالد المسلم حلّ نذر ولده ؛ وذلك من جهة أنّ تمكّنه من حلّ نذره أو توقّف صحّة نذره على إذن والده الكافر سبيل للكافر على المسلم.

ومنها : عدم جواز جعله متولّيا على الوقف الذي راجع الى المسلمين ، كالمدارس الدينيّة التي وقف على طلاّب العلوم الدينيّة ، فكون الكافر متوليّا عليها يرجع إلى أنّ دخول الطلاّب فيها وبقائهم فيها يكون بإذن ذلك الكافر المتولّي ، وفي أيّ وقت له حقّ أن يخرج الطالب عن المدرسة.

وكذلك كون الكافر متوليّا على المستشفى الذي يكون وقفا على مرضى المسلمين ، ومعلوم أنّ جعل الكافر متولّيا على ذلك المستشفى أو تلك المدارس يرجع إلى أن يكون له السبيل على المسلمين ، فلا يجوز بحيث يكون الخروج والدخول فيها بإذن ذلك المتولّي سبيل للكافر على المسلم وعلوّ له عليه ، المنفيّان بالآية والرواية.

وهكذا الحال والكلام في المدارس التي توقّف على أولاد المسلمين لتربيتهم وتعليمهم ، بل الكلّيات كذلك ، فلا يجوز جعل الكافر عميدا لها.

فالمراد من عدم الجواز في هذه الموارد عدم الصحّة ، لا الحرمة التكليفية فقط ؛ لأنّ جعل الصحّة من طرف الشارع في هذه الموارد يلزم منه السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، وقد بيّنّا في معنى الآية أنّ ظاهرها عدم تشريع الشارع حكما يلزم من ذلك التشريع والجعل سبيل للكافر على المسلم.

ومنها : عدم ثبوت حق الشفعة والأخذ بها للكافر فيما إذا كان المشتري مسلما

ص: 205

ولو كان البائع كافرا ؛ وذلك من جهة أنّ جعل هذا الحقّ له يلزم منه أن يكون للكافر حق انتزاع ملكه ، أي المشتري المسلم من يده قهرا عليه ورغما على أنفه ، فهذا الجعل يلزم منه السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، فمنفي بالآية والرواية.

ولا فرق في لزوم هذا الأمر بين أن يكون البائع مسلما أو كافرا ؛ لأنّ الشفيع يتلقّى الملك من المشتري ، ولا علاقة له بالبائع أصلا.

ومنها : أنّ نكاح الكافر تبطل بإسلامها إن لم يسلم الزوج الكافر في العدّة ، إذ بقاء الزوجيّة مع كفر الزوج يرجع إلى علوّ الكافر على الزوجة المسلمة وأن يكون له سبيل عليها ؛ لأنّ ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (1). وقد قال بعض المفسّرين في شأن نزول هذه الآية : أنّها نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو ، وكان من النقباء وفي امرأته حيبة بنت زيد بن أبي وقّاص ، وهما من الأنصار ، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لتقتص من زوجها وانصرفت » فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « ارجعوا ، هذا جبرئيل أتاني وأنزل. هذه الآية » فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا ، والذي أراد اللّه خير » ورفع القصاص.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا النقل لا يخلو عن إشكال ، فإنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لا يفتي بغير ما أراد اللّه ، وعلى كلّ حال تدلّ الآية على علوّ الرّجال على النساء ، وعليهن أن ينهين بنهيهنّ ، ولا يخالفن أزواجهنّ فيما إذا أرادوا منهنّ البضع.

وقد روى الطبري في تفسيره روايات عن أشخاص متعدّدة في تفسير هذه الآية الشريفة ، كلّها يظهر منها أنّ الرجل له حقّ تأديب زوجته ، حتّى أنّه حكي عن الزهري أنّه كان يقول : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس ، فمثل هذه السلطنة التي موضوعها الزوجيّة لا يمكن أن يكون مجعولا للكافر ، فيدور الأمر بين أن

ص: 206


1- النساء (4) : 34.

يخصّص إحدى هاتين الآيتين ، ولا مخصّص في البين وكلتيهما آبيتان عن التخصيص ، فلا بدّ وأن يقال بارتفاع منشأ هذه السلطة حدوثا وبقاء ، أي حدوث الزوجيّة بينهما ابتداء واستدامة.

ومنها : عدم اعتبار التقاطة الطفل المحكوم بإسلامه ، لعدم مجي ء ذلك الطفل تحت يده ، فتكون يده عليه شبه اليد العادية ؛ لأنّ الإسلام لا يعلى عليه ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1).

ومنها : عدم جعل حقّ القصاص للكافر على المسلم ، مثلا لو قتل مسلم مسلما عمدا وكان للمسلم المقتول ولدا كافرا ، سواء أكان وحده أو معه أولاد مسلمين ، فإذا كان غيره وارث مسلم فيختصّ ذلك الوارث المسلم بحقّ القصاص ، وإن لم يكن وارث آخر وكان وحده يسقط حقّ القصاص بالمرة ، أو يرجع أمره إلى الحاكم.

هذه جملة من الموارد التي تنطبق هذه القاعدة عليها ، والفقيه المتتبع يجد موارد كثيرة تركنا ذكرها ، والعمدة تنقيح هذه الكبرى من حيث مفادها وتحصيل الدليل لإثباتها ، وإلاّ فبعد تمامية هذين الأمرين لا يستصعب على الفقيه المتتبّع تعيين مواردها وتطبيقها عليها.

والحمد لله أوّلا وآخراً.

ص: 207


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 5 ، ص 37.

ص: 208

8 - قاعدة لا ضرر ولا ضرار

اشارة

ص: 209

ص: 210

قاعدة لا ضرر ولا ضرار (1)

في شرح القاعدة الفقهيّة المشهورة المعروفة ؛ ب- « قاعدة لا ضرر ». والكلام فيها في مقامات :

المقام الأول : في مدركها

وهو عبارة من روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي بمنزلة كبرى كلّيّة يطبقها صلی اللّه علیه و آله في موارد عديدة :

منها : ما رواه في الكافي في قضيّة سمرة بن جندب المشهورة عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام ، بعد نقل القضيّة أنّه صلی اللّه علیه و آله قال للأنصاري : « اذهب فاقلعها

ص: 211


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 141 ؛ « الأقطاب الفقهيّة » ص 47 ؛ « الحقّ المبين » ص 152 ؛ « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص 311 ؛ « عوائد الأيّام » ص 15 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 10 ؛ « الرسائل الفقهيّة » ص 109 ؛ « مجموعه رسائل » ص 454 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 40 ؛ « مجموعة قواعد فقه » ص 190 ؛ « قواعد فقه » ص 97 ؛ « بدائع الدرر في قاعدة نفى الضرر » الامام الخميني ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 195 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 95 ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » السيستاني ؛ « قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع » السبحاني ؛ « القواعد » ص 245 ؛ « قواعد فقه » ص 144 ؛ « قواعد الفقه » ص 8 ؛ « قواعد فقهي » ص 169 ؛ « قواعد فقهية » ص 51 ؛ « قواعد الفقهية » ص 44 - 45 و 134 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 270 ؛ « ترجمه وتحقيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » زهرا شرف الدين ، ماجستير ، جامعه طهران ، 1371 ؛ « تصحيح وتحقيق قاعدة لا ضرر از عوائد الأيّام » محمد على اليثربى ، ماجستير ، جامعة طهران ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » أحمد مولا ، ماجستير ، جامعة طهران ، 1339 ؛ « حديث لا ضرر از ديدگاه امام راحل » محمد هادي معرفت ، مجله حضور ، العدد 4 ؛ « دو قاعدة فقهي قاعدة يد ولا ضرر » مجلة « حقّ » - فصليّة ، العدد 9 ، العام 1366.

وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار » (1) وفي بعض طرق هذا الحديث كطريق عبد اللّه بن مسكان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر حكاية قوله صلی اللّه علیه و آله هكذا قال صلی اللّه علیه و آله : « إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن » (2) ففي هذا الطريق زيد على تلك الجملة المعروفة كلمة « على مؤمن ».

ومنها : ما رواه الفقيه مرسلا في باب ميراث أهل الملل : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » بزيادة كلمة « في الإسلام » (3).

ومنها : ما رواه الكليني عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في أنّه قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي ء ، وقضى صلی اللّه علیه و آله بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال : « لا ضرر ولا ضرار » (4).

ومنها : تطبيق هذه الكبرى في باب الشفعة ، كما رواه الكليني بإسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين وقال : لا ضرر ولا ضرار ». (5).

ومنها : ما عن دعائم الإسلام في مسألة جدار الجار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنه لو هدم جدار داره ولم يقسط هو ، أو أراد أن يهدمه ، قال علیه السلام : « لا يترك وذلك أن رسول اللّه علیه السلام قال : لا ضرر ولا ضرار » (6).

والإنصاف أنّ الفقيه بعد ملاحظة هذه الروايات الكثيرة من طرقنا ، بضميمة ما رواه مخالفونا في كتبهم عنه صلی اللّه علیه و آله ، ربما يقطع بصدور هذه الجملة - أي جملة « لا ضرر

ص: 212


1- « الكافي » ج 5 ، ص 292 ، باب الضرار ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 294 ، باب الضرار ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 341 ، أبواب إحياء الموات ، باب 12 ، ح 4.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5718.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 293 ، باب الضرار ، ح 6.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 4.
6- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 504 ، ح 1805 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 118 ، أبواب إحياء الموات ، باب 9 ، ح 1.

ولا ضرار » - عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولذلك ادّعى بعضهم (1) التواتر في هذا الحديث ، فلا حاجة إلى التكلّم في سنده مع عمل الأصحاب به وإرساله إرسال المسلمات ، مضافا إلى صحّة سند بعض هذه الروايات. نعم في ثبوت الكلمتين ، أي كلمة « في الإسلام » وكلمة « على مؤمن » إشكال ؛ لأنّ في قضيّة سمرة بن جندب التي قضيّة واحدة ، روي في بعض الطرق الصحيحة بدون كلمة « على مؤمن » وفي بعض آخر معها. ولكن يمكن أن يقال بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لبناء العقلاء على ذلك ، وعدم ذكر الراوي في ذلك الطريق لعدم احتياجه إلى نقله ، أو لجهة أخرى.

وأمّا كلمة « في الإسلام » فيمكن أن يقال فيها بعدم الإشكال أيضا ، لاحتمال صدورها وعدم معارض لها. وأمّا إرسالها من الفقيه فلا يضرّ مع تلقّي الأصحاب لها بالقبول.

المقام الثاني : في فقه الحديث

اشارة

أي ما هو مفاد الحديث ومضمونه ، وهو العمدة في المقام ؛ لأنّ المقصود من ذكر هذه القاعدة الفقهيّة وشرحها وإيضاحها هو أن يكون الفقيه ذا بصيرة في مقام تطبيق هذه القاعدة على الفروع المتفرّعة عليه ، ولا يتوقّف ولا يشتبه في شي ء منها.

فأقول : أمّا ألفاظ هذه الجملة ، أعني كلمة « الضرر » و « الضرار » وإلاّ ما عداهما ، أعني كلمتي « على مؤمن » و « في الإسلام » على فرض ثبوتهما في الحديث لا يحتاج إلى البحث والتكلّم فيهما لوضوح المراد منهما.

ص: 213


1- « إيضاح الفوائد » ج 2 : ص 48.

أمّا كلمة « الضرر » : فقال بعض : إنّه أمر وجودي ضد النفع. وقال آخرون : إنّ التقابل بينه وبين النفع تقابل العدم والملكة ، فيكون معناه عدم النفع في موضوع قابل له. والظاهر أنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ لا العدم والملكة ؛ لأنّه في الموضوع القابل يرجع إلى النقيضين لا يمكن ارتفاعهما ، وفيهما يمكن الارتفاع حتّى في الموضوع القابل ، فالمبيع الذي بيع برأس المال مثلا مع أنّ تلك المعاملة قابلة للنفع والضرر يصدق أنّ هذه المعاملة لا نفع فيها ولا ضرر.

وعلى كلّ حال الظاهر من لفظ الضرر عرفا هو النقص في ماله ، أو عرضه ، أو نفسه ، أو في شي ء من شؤونه بعد وجوده أو بعد وجود المقتضى القريب له بحيث يراه العرف موجودا.

وأمّا كلمة « الضرار » : فقيل بأنّه مصدر باب المفاعلة ، وحينئذ بناء على أن تكون المفاعلة من الطرفين ، يكون معناه الضرر على الغير في مقابل ضرره عليه. وبناء على أن يكون بمعنى تكرار صدور المبدأ من الفاعل سواء أكان الفاعل شخصا واحدا أو شخصين وإن كان يستعمل غالبا فيما كان الفاعل شخصين ، ولعلّ لأجل هذه الغلبة يتبادر بدوا إلى الذهن المشاركة من الطرفين ، وإن كان محطّ النظر فاعليّة أحدهما ومفعوليّة الآخر ، كما يقال : ضارب زيد عمرا.

وهذا هو الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل بعد اشتراكهما في المشاركة ، حيث أنّ النظر في باب التفاعل إلى فاعليّة الاثنين ، ولذا يقال : تضارب زيد وعمرو برفع الاثنين ، بخلاف باب المفاعلة حيث أنّه برفع أحدهما ونصب الآخر كما ذكرنا يكون معناه تكرار صدور الضرر.

وهذا المعنى مناسب في المقام ؛ لأنّ قوله صلی اللّه علیه و آله لسمرة « أنت رجل مضارّ » ليس بمعنى صدور الضرر من الطرفين ، لأنّ الأنصاري ما أضرّ بسمرة ، وكون إطلاق لفظة « مضارّ » عليه بلحاظ موارد الآخر بعيد عن مساق الحديث ، بل الظاهر أنّه صلی اللّه علیه و آله في

ص: 214

مقام بيان أنّ سمرة كثير الضرر ومصرّ عليه.

وأمّا احتمال أن يكون اسما بمعنى الضرر ، لا مصدر باب المفاعلة ففي غاية البعد ؛ لأنّه تكرار أوّلا بدون أيّ نكتة وفائدة فيه. وثانيا هو خلاف ظاهر هذه الكلمة ؛ لأنّه ظاهر في كونه مصدر باب المفاعلة.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه واخترناه في معنى الضرار ورود باب المفاعلة في كثير من الموارد بهذا المعنى ، أي كثرة صدور المبدء من شخص وتكراره ، كقوله تعالى :

( يُخادِعُونَ اللّهَ ) (1) وقوله تعالى ( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) (2) وأمثال ذلك ممّا في القرآن الشريف أو في غيره.

والحاصل : أنّ لفظ « الضرر » له مفهوم واضح عند العرف ، بحيث كلّ تفسير وشرح له ليس أوضح من نفسه ، ومثل هذه المفاهيم ليست قابلة للتعريف الحقيقي ، فكلّ ما يذكر في شرحه يكون تعريفا لفظيّا هو أخفى منه.

وأمّا لفظة « الضرار » فهو أيضا كذلك ، وهو مصدر باب المفاعلة من نفس المادة ، فلا حاجة إلى إيراد ما ذكره اللغويّون في المقام والنقض والإبرام فيها.

وأمّا كلمة « لا » فلا شكّ في أنّها لنفي الجنس إذا كان ما بعدها نكرة ، نحو : لا رجل في الدار. فتكون ظاهرة في نفي الحقيقة حقيقة ، إلاّ أن يثبت أنّ النفي ادّعائي.

هذه شرح كلمات المفردة التي في الحديث.

وأمّا شرح هذه الجملة ومفادها ، أعني : « لا ضرر ولا ضرار » فالأقوال المعروفة المشهورة التي ذكرها الفقهاء أربعة :

الأوّل : أن يكون مفادها النهي عن إيجاد ضرر الغير ، أو مطلقا حتّى على النفس ،

ص: 215


1- البقرة (2) : 9 ؛ النساء (4) : 142.
2- البقرة (2) : 233.

فيكون مساقها مساق قوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (1) حيث أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الأمور في الحجّ. ونظائرها كثيرة في الأخبار ، حيث يكون ظاهر الكلام نفي ولكن أريد منه النهي ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل » (2) وغير ذلك من الموارد العديدة.

ولقد أصرّ شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره على هذا القول ، وتعيّن هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربع (3).

الثاني : أن يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ونظائرها كثيرة في الأخبار ، كقولهم : - المتصيّدة من الروايات - لا شكّ لكثير الشكّ (4) ، وقوله علیه السلام : « لا سهو في السهو » (5) وقوله علیه السلام : « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » (6) وغيرها من الموارد الكثيرة ، فيكون المراد من هذه الجملة بناء على هذا القول أنّ الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأوّليّة إذا صارت ضرريّة وتعنونت بعنوان الضرر يرتفع ذلك الحكم عن ذلك الموضوع ، فتكون هذه القاعدة بناء على هذا حاكما على الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب الموضوع.

وإلى هذا القول ذهب صاحب الكفاية قدس سره واختاره (7).

الثالث : أن تكون مفادها نفي الحكم الضرري ، بمعنى أنّ كلّ حكم صدر من الشارع فان استلزم ضرر أو حصل من قبل جعله ضرر على العباد - سواء أكان

ص: 216


1- البقرة (2) : 197.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 50 ، باب فضل ارتباط الخيل ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 348 ، أبواب كتاب السبق والرماية ، باب 3 ، ح 1.
3- « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » 24 - 27.
4- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 340 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 25 ، ح 2.
6- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24.
7- « كفاية الأصول » ص 381.

الضرر على نفس المكلّف أو على غيره ، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر مالي أو بدني على المكلّف ، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة حيث نشأ من قبله ضرر على المغبون - مرفوع.

ولا يخفى أنّه بناء على هذا القول استعمل كلمة « لا » في معناها الحقيقي ، لأنّ معناها الحقيقي - كما ذكرنا - نفي جنس مدخولة حقيقة لا ادّعاء ، ولا شكّ في أنّ رفع الحكم الضرري من الشارع رفع حقيقي ؛ لأنّه لا وجود للحكم الضرري - لو كان - إلاّ في عالم التشريع ، والمفروض أنّه رفعه بهذه الجملة بناء على هذا القول.

والفرق بين هذا القول والقول الثاني ، أي ما ذهب اليه صاحب الكفاية قدس سره لا يكاد يخفى ، لأنّ المرفوع ابتداء في القول السابق هو متعلق الحكم ، وفي هذا القول نفس الحكم.

ويترتّب على هذا الفرق آثار ، وقد ذكرنا في دليل الانسداد أنّ لزوم الاحتياط بالجمع بين المحتملات - في حال الانسداد في أطراف المعلوم بالإجمال - بحكم العقل.

فإذا كان الاحتياط بالمعنى المذكور حرجيّا أو ضرريّا فإن قلنا بالقول الثاني - أي ما ذهب إليه صاحب الكفاية في قاعدتي الضرر والحرج - فلا يمكن رفع وجوب الاحتياط بكلّ واحدة من القاعدتين ؛ لأنّ متعلّق الأحكام الواقعيّة ليس فيها حرج ولا ضرر حتّى يرتفع برفعها الأحكام ، والاحتياط ، أي الجمع بين المحتملات.

وإن كان حرجيّا أو ضرريّا ولكن وجوبه عقلي ، ليس من المجعولات الشرعيّة حتّى يرتفع برفع موضوعه في عالم التشريع ، وهو قدس سره اعترف في الكفاية بذلك.

وأمّا لو قلنا بالقول الثالث ، أي كون المرفوع نفس الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيمكن أن يقال : إنّ الضرر نشأ من قبل الأحكام المجعولة فترتفع ، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب الاحتياط ، فيكون الاحتياط لو كان واجبا شرعيّا لا عقليّا بالمقدار الذي يرفع الخروج من الدين.

ص: 217

وخلاصة الكلام : أنّه تظهر الثمرة بين القولين - أي الثاني والثالث - في كلّ مورد لا يكون موضوع الحكم ضرريّا ، ولكن نفس الحكم يكون ضرريا. وبعبارة أخرى : يكون الضرر مسبّبا عن نفس الحكم كما ربما تكون المعاملة الغبنيّة كذلك ، فإنّ الضرر يأتي من قبل لزوم المعاملة ، لا من نفس المعاملة ، وللزوم حكم شرعي ؛ ففي جميع هذه الموارد بناء على القول الثاني لا حكومة لقاعدة لا ضرر على الأدلّة الأوليّة ، بخلاف القول الثالث فإنّها بناء عليه تكون حاكمة عليها ، فظهر الفرق بين القولين بحسب الماهيّة والآثار.

الرابع : أنّ مفادها نفي الضرر غير المتدارك ، بمعنى أنّ الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك.

وتقريبه بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم ولا يراه الشارع ضرر ، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء ، فنفي الضرر المطلق بناء على هذا الفرض يرجع إلى نفي الضرر غير المتدارك ، والظاهر حينئذ من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع لزوم التدارك ؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم ، فإذا كان النفي بمعنى النهي فيكون الضرر غير المتدارك منهيّا إيجاده ، وهكذا كناية عن وجوب تداركه. كما أنّه إذا قال : لا تقبل هدية بلا عوض ، فيكون كناية عن أنّه إذا أهدى إليك شخص هدية فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك ، بل يجب عليك تداركها بإهداء شي ء إلى المهدي في مقابلها. إذا عرفت هذه الوجوه والأقوال فنقول :

الصحيح من هذه الاحتمالات والأقوال هو الذي ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري (1) وشيخنا الأستاذ (2) 0 وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام

ص: 218


1- « المكاسب » ص 372.
2- « منية الطالب » ج 2 ، ص 201.

التشريع ، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتناني على الأمّة ؛ فالحديث ظاهر سياقا في أمرين :

أحدهما : أنّ الرفع رفع تشريعي ؛ إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع التكويني ، لأنّه أولا المناسب لمقام الشارعيّة هو أن يكون رفعه وضعه رفعا ووضعا تشريعيّا لا تكوينيّا ، لخروج ذلك عن وظيفته وليس من شئونه. وثانيا : أنّ الرفع التكويني لا يمكن أن يحصل بإنشاء الرفع ، بل لا بدّ له من أسبابه التكوينيّة.

وأمّا احتمال أن يكون إخبارا عن الرفع التكويني ، ففي غاية السقوط ؛ لأنّه كذب أوّلا ؛ وثانيا لا ربط له بمقام الشارعيّة.

وأمّا كونه في مقام الامتنان يدلّ عليه مضافا إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاويهم ، سوق الكلام لذلك ، حيث يخاطب سمرة بقوله صلی اللّه علیه و آله : « أنت رجل مضارّ » أي مصرّ على الضرر ، كما استظهرنا من هذه اللفظة ، ثمَّ يقول صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار ».

فإذا ظهر ظهور الحديث الشريف في هذين الأمرين ، من دون الاحتياج إلى كلمة « على مؤمن » أو كلمة « في الإسلام » فنقول : لا شكّ في أنّ الرفع التشريعي ظاهره أنّ المرفوع من الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ رفعها يكون رفعا حقيقيا لا ادّعائيا ، لأنّه لا وجود للأحكام الشرعيّة إلاّ في عالم التشريع ، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقة وبقول مطلق ، وقد بيّنّا في شرح مفردات وألفاظ الحديث أنّ كلمة « لا » ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقة إذا كان المدخول نكرة.

وأمّا إذا كان المرفوع أمرا تكوينيا فلا بدّ أن يكون الرفع ادّعائيّا لا حقيقيّا ، فتكون النتيجة رفع الحكم حقيقة برفع الموضوع ادّعاء ، كقوله المتصيّدة من الروايات : « لا شكّ لكثير الشكّ ».

ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر هذه الجملة ، لا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان رفع المدخول لكلمة « لا » حقيقة. وفيما نحن فيه يمكن ذلك ، أي الرفع الحقيقي لمدخول « لا ».

ص: 219

بيان ذلك : أنّ الضرر الناشئ من قبل الأحكام الشرعيّة ويكون مسبّبا عنها يمكن رفعه حقيقة من عالم الوجود برفع أسبابه التشريعيّة ، أي رفع ذلك الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، فالمرفوع حقيقة هذا القسم من الضرر لا بتقييد في لفظ الضرر ، أو بتجوّز ، أو إضمار ، أو تقدير أو غير ذلك ؛ بل الرفع التشريعي في مقام الامتنان على الأمّة يقتضي ذلك وقاصر عن شموله لأزيد من هذا ، إذ رفع سائر الإضرار - أي الإضرار الخارجية - لا ربط لها بالشارع في هذا المقام.

نعم لا ننكر أنّ الشارع قد يدعي رفع موضوع خارجي بلحاظ رفع حكمه ، ولكن هذا فيما لا يمكن رفعه حقيقة في عالم التشريع ، فمقتضى ظاهر هذه الجملة هو رفع الضرر الذي منشأه الحكم الشرعي برفع نفس الحكم ، فيكون الحديث حاكما على إطلاقات وعمومات الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول.

وهذا من هذه الجهة أيضا يفارق قول صاحب الكفاية قدس سره من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ؛ لأنّ ما قاله تكون نتيجة الحكومة في جانب الموضوع ، وهذا القول تكون نتيجة الحكومة في جانب المحمول.

ثمَّ أنّه ظهر ممّا ذكرنا فساد سائر الأقوال :

أمّا القول الأوّل : وهو أن يكون النفي بمعنى النهي ، فلأجل أنّه خلاف الظاهر ؛ لما ذكرنا من ظهور الجملة في الرفع التشريعي ، فلا ربط له بالضرر الخارجي التكويني كي يتوهم أنّ النفي بمعنى النهي ، وإلاّ يلزم الكذب ، أو يقال إنّ نفيه ادّعائي من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فهذان القولان متوقّفان على أن يكون الرفع رفع الضرر التكويني ، حتّى يؤول بأحد الوجهين كي لا يلزم الكذب ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : ذكرنا ظهور الحديث وسوقه في مقام الامتنان ، وأيّ امتنان في إلزام المكلّف بلزوم ترك الإضرار ، بل هذا تحميل وتكليف ، فتأمل.

وثالثا : حمل الجملة الخبريّة على الإنشاء خلاف ظاهر اللفظ ، فيحتاج إلى قرينة

ص: 220

صارفة مفقودة في المقام. والعجب ممّن يصرّ على ذلك المعنى وظاهر الحديث أجنبي عنه.

وأمّا القول الثاني : - أي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، الذي ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره فقد ظهر - فساده أيضا ممّا ذكرنا من توقفه على أن يكون المراد من الضرر هو الضرر الخارجي التكويني ، حتّى تخرج عن ظاهر الجملة ، « من جهة لزوم الكذب بأنّه ليس رفعا حقيقيا ، وإنّما هو رفع ادّعائي باعتبار رفع حكم الموضوع الضرري.

وقد عرفت أنّ الضرر الخارجي يرجع إلى ادّعاء الرفع باعتبار رفع حكمه ، وهذا خلاف ظاهر كلمة « لا » ولا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان الرفع الحقيقي ، وفي المقام ممكن كما عرفت ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : مرجع رفع الحكم برفع الموضوع في المقام إلى رفع حكم المجعول على نفس عنوان الضرر حتّى يصير من مصاديق رفع الحكم برفع الموضوع ، وحكم المجعول للضرر بمعناه المصدري - أي الإضرار - ليس إلاّ الحرمة التكليفيّة ؛ إذ بمعناه الاسم المصدري - أي الضرر الحاصل من الإضرار - لا حكم له ، لا تكليفا ولا وضعا. أمّا تكليفا فمعلوم ؛ لأنّه بهذا المعنى ليس من فعل المكلّف حتّى يكون مركزا ومحلّ تعلّق التكليف.

وأمّا وضعا فمن جهة أنّ نفس الضرر بالمعنى الاسم المصدري ليس من أسباب الضمان ، فلا بدّ وأن يكون حكمه المرفوع بناء على هذا القول حرمة الإضرار ، وهذا ينتج عكس ما أراده صلی اللّه علیه و آله من هذه الجملة تماما.

إن قلت : إنّ هذا يلزم لو كان المرفوع نفس عنوان الضرر ، وأمّا لو كان الفعل المعنون بهذا العنوان - وبعبارة أخرى : يكون المراد من الضرر ما هو المضرّ - فلا يرد هذا الإشكال ، بل يكون حاكما على العمومات والإطلاقات التي تثبت الأحكام للافعال بعناوينها الأوّليّة بتقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بصورة

ص: 221

عدم تعنون تلك الأفعال بعنوان الضرر. غاية الأمر ذلك التقييد والتخصيص اللبي بلسان الحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول ، وهذا عين الغرض والمقصود من هذه الجملة ، فما أنتج هذا القول خلاف المقصود.

قلت : إنّ إرادة الفعل الذي صار سببا للضرر من الضرر مجاز لا يصار إليه إلاّ بالقرينة ؛ لأنّه من استعمال المسبّب وإرادة السبب. نعم هذا صحيح فيما إذا لا يمكن ارادة نفس المسبب ، فلا بدّ من أن يحمل على إرادة السبب ، أو محملا آخر صونا للكلام عن الكذبيّة أو محذور آخر.

وقد عرفت أنّه في المقام يمكن إرادة نفي نفس الضرر حقيقة بالبيان المتقدّم ، فلا يقاس ما نحن فيه بحديث الرفع بالنسبة إلى رفع الخطأ والنسيان ، حيث حملوها على رفع الفعل الذي صدر عن خطأ ونسيان ؛ لأنّ الرفع هناك لا يمكن أن يستند إلى نفس الخطأ والنسيان وإرادة نفيهما ، لا تكوينا لأنّه كذب ، ولا تشريعا لأنّه يلزم منه أن يكون الفعل الذي صدر خطأ بحكم العمد ؛ لأنّ حكم الخطأ مرفوع على الفرض ، وهذا عكس ما هو المقصود من حديث الرفع ، من كونه في مقام الامتنان على الأمّة ويكون ضد الامتنان ، ومن إيقاعهم في غاية الكلفة والمشقّة ، فلا بدّ من حملهما على الفعل الذي صدر نسيانا أو خطأ.

إن قلت : بناء على ما اخترت من كون مفاد الحديث نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، أيضا كذلك يلزم أن يكون استعمال الضرر مجازا ؛ لأنّه أريد منه أيضا سببه ، أي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، فيكون أيضا من استعمال المسبّب وإرادة السبب.

قلت : بين المقامين فرق واضح ، فإنّه في الأوّل - أي فيما إذا كان المراد من الضرر الضرر الخارجي - لا يمكن أن يكون المراد نفي الضرر ؛ لأنّه كذب ، فلا بدّ أن يراد منه سببه ، وهذا هو المجاز.

ص: 222

وأمّا في المقام فحيث إنّ المراد من الضرر الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم ، يمكن رفعه حقيقة بالرفع التشريعي ، وبرفع منشأه ، أي الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيصح أن يكون المراد نفي الضرر الكذائي من دون تجوّز ولا تقدير ولا غير ذلك ، فبالدلالة الالتزاميّة يدلّ على نفي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، لا أنّه أريد من لفظ الضرر وهذا المعنى كي يكون مجازا.

وأمّا القول الرابع : ففيه أولا : أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم - على فرض صحّته وتماميّة - يكون ذلك فيما إذا تحقّق التدارك في الخارج ، لا بصرف حكم الشارع بوجوب التدارك ، خصوصا إذا كان حكمه تكليفا لا وضعا ، فإذا كان المراد من نفي الضرر نفي غير المتدارك منه ، بمعنى أنّه كلّ ضرر يجب تداركه ، فالضرر الذي لا يجب تداركه منفي في الإسلام.

فهذه الدعوى مركبة من أمرين :

أحدهما : أن الضرر الذي يجب تداركه نازل منزلة العدم.

وهذا هو الذي أشكلنا عليه بأنّه بصرف الحكم الشرعي بوجوب تداركه لا يراه العرف والعقلاء منزلة العدم ، خصوصا إذا كان حكمه هذا حكما تكليفيا.

والثاني : أن يكون نفي الضرر غير المتدارك كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر بجعل الجملة الخبرية بمعنى الإنشائية ، أي النهي عن الضرر غير المتدارك ، كي يكون هذا النهي كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر تكليفا بل وضعا.

وفي هذه الدعوى الثانية أنّه إذا كان المراد من وجوب تداركه الحكم الوضعي بضمانه ، فهذا غير ثابت في الشريعة ، وليس الضرر من أسباب الضمان ، وقد عدها الفقهاء من الإتلاف واليد والعقود المعاوضية الفاسدة والتغرير وغير ذلك ، ولم يذكروا في جملتها الضرر ، وإذا كان المراد صرف الوجوب التكليفي ، فهذا أيضا غير معلوم في جملة من الموارد ، مضافا إلى أنّه لا يوجب كونه نازل منزلة العدم ، كما ذكرنا ؛ هذا أوّلا.

ص: 223

وأمّا ثانيا ، فيرد عليه كلّ ما أوردنا عليه في القول الأوّل من كون النفي بمعنى النهي ، بناء على أن يكون مبنى هذا القول أيضا كون النفي بمعنى النهي ، كما شرحناه مفصلا.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يجوز الخروج عمّا هو ظاهر الجملة إلاّ من جهة ملزمة لذلك ، وقد عرفت ما هو الظاهر منها وعدم جهة ملزمة للخروج عن ذلك الظاهر ، فلا مناص إلاّ عن اختيار ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره من أنّ ظاهر الحديث هو الاحتمال الثالث الذي ذكرناه من نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر. (1)

والحاصل : أنّ هذه الاحتمالات الأربع كلّها ممكنة في عالم الثبوت ، ولكن في مقام الإثبات بينها طوليّة وترتيب.

فالمراتب كعدد الاحتمالات أربع مراتب ، لا تصل النوبة إلى الثاني إلاّ بعد تعذّر الأوّل ، وهكذا على حسب الترتيب.

الأوّل : هو رفع الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم الشرعي حقيقة وواقعا برفع سببه أي الحكم ، وهذا هو المعنى الظاهر من هذه الجملة ، والظاهر من معنى كلمة « لا » الموضوعة لنفي الجنس بالنفي البسيط مقابل الجعل البسيط ، والمراد من البسيط - في كليهما - أن يكون المنفي والمجعول نفس وجود الشي ء. ويشهد لما ذكرنا - من ظهور كلمة « لا » لذلك - أنّهم اتّفقوا على أنّ خبر « لا » النافية للجنس هو مفهوم « موجود ». ودائما محذوف لمعلوميّته.

فإذا تعذّر هذا المعنى - أي النفي الحقيقي لا ادّعاء - فتصل النوبة إلى الثاني ، أي نفى الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا النفي نفي تركيبي ، مقابل الجعل التركيبي ، أي نفي الحكم عن هذا الموضوع. فقول الفقهاء « لا شكّ لكثير الشكّ » في الحقيقة عبارة عن نفي حكم الشكّ - وهو البناء على الأكثر - عن شكّ كثير الشكّ. وإن شئت قلت :

ص: 224


1- « المكاسب » ص 372.

إنّه نفي بسيط أمّا ادّعاء.

وإذا تعذّر هذا المعنى تصل النوبة إلى احتمال الثالث الذي هو عبارة عن كون النفي بمعنى النهي الذي هو خروج عن الظاهر ، أى المعنيين الحقيقيّين التحقيقي والادّعائي وان كان بينهما أيضا طوليّة ، كما ذكرنا.

ولكن مع أنّه خروج عن ظاهر مقدّم على احتمال الرابع ، وهو أن يكون كناية عن لزوم تدارك الضرر باشتغال ذمّة الذي أوقع الضرر ، لا بصرف وجوبه تكليفا كما شرحنا ؛ لأنّه خلاف الظاهر من جهتين :

الأولى : كون النفي بمعنى النهي ، وقلنا إنّه خروج عن الظاهر ، وإن أصرّ عليه النراقي (1). وشيخ الشريعة الأصفهاني 0 (2).

الثانية : تنزيل الضرر المتدارك منزلة المعدوم ، وإرادة خصوص الضرر غير المتدارك منه.

وينبغي التنبيه على أمور

الأوّل : في الإشكالات على تطبيق هذه الجملة على مواردها التي طبق صلی اللّه علیه و آله عليها.

فمنها : في قضية سمرة بن جندب التي تقدّم ذكرها مفصّلا ، وأشكل عليه أوّلا : بأنّها لا تنطبق على أمره صلی اللّه علیه و آله بقلع العذق والرمي بها وجهه ؛ لأنّ

ص: 225


1- ليس هذا مختار النراقي ، فراجع : « عوائد الأيام » ص 18 - 19.
2- « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » ص 24 - 27.

حقّ سمرة في ذلك البستان من حيث بقاء عذقه فيه ليس ضرريّا ، بل الضرر في جواز دخوله فيه بلا استيذان ، فيلزم تخصيص المورد وهو مستهجن ، فيلزم إجمال العام.

وأجيب على هذا الإشكال بأنّه صلی اللّه علیه و آله لم يطبق الجملة على هذه القضيّة من هذه الجهة ، وإنّما كان حكمه بقلع عذقه من جهة ولايته صلی اللّه علیه و آله على النفوس والأموال تأديبا وحسما لمادّة الفساد بعد أن تمرّد من قبول الحكم الشرعي ، أي وجوب الاستيذان ، أو عدم إباحة دخوله بغير الإذن الذي هو مفاد « لا ضرر ولا ضرار » ، فتطبيقه كبرى لا ضرر بلحاظ هذا المعنى لا بلحاظ أمره بقلع العذق ، فليس من باب تخصيص المورد - كي يكون مستهجنا ويكون موجبا لسقوط حجيّة العام وإجماله.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عن هذا الإشكال بأنّ ضرر الأنصاري ولو كان مستندا إلى جواز الدخول بغير إذنه وهو الجزء الأخير لعلّة الضرر ، ولكن جواز الدخول من غير استيذان بالأخرة ينتهي إلى حقّه لإبقاء عذقه في ذلك البستان ، فذلك الحقّ الذي هو حكم شرعي وضعي نشأ من قبله الضرر ، فيكون الضرر عنوانا ثانويّا لذلك الحقّ ، فيرتفع بارتفاع الضرر بالمطابقة أو بالالتزام ، فلا يرد إشكال حتّى بناء على تطبيقه على مسألة العذق (1).

وفيه أوّلا : أنّ صرف كون منشأ الضرر - أي جواز الدخول بغير الاستيذان من آثار الحقّ - لا يوجب تعنون الحقّ بعنوان الضرر وأن يكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فإذا كان الضرر عنوانا ثانويّا للدخول بغير الإذن يرتفع نفس جواز الدخول بغير الإذن من دون تأثير في ارتفاع الحق.

هذا مضافا إلى ما بيّنّا سابقا أنّ سوق لا ضرر في مقام الامتنان فلا يجري فيما إذا كان موجبا لضرر الغير ؛ لأنّه كما أنّ بقاء حقّ السمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاري لو سلّمنا أنّه منشأ للضرر كذلك منعه عن حقّه وقلع عذقه ضرر عليه ،

ص: 226


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 209 - 210.

فيدخل في باب تعارض الضررين بل تزاحم الحقّين.

فالصواب في الجواب أن يقال ؛ إنّ تقديم حقّ الأنصاري لحفظ عرضه من جهة أهميّته في نظر الشارع ، كما هو الشأن في باب التزاحم من تقديم الأهمّ على المهمّ ، وهو أحد المرجّحات الخمسة في باب التزاحم بل أهمّها.

ومنها : تطبيقه صلی اللّه علیه و آله هذه الجملة على عدم جواز منع فضل الماء لمنع الكلاء لأهل البادية.

وأشكل على ذلك أيضا بأنّ هذا التطبيق خلاف الامتنان بالنسبة إلى مالك الماء ، بل يكون ضررا عليه لسلب سلطنته ومنعه عن حقّه ، وهكذا الأمر في تطبيقه صلی اللّه علیه و آله على الشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين ، فيشكل على هذا التطبيق بعين الإشكال المتقدّم.

وكذلك في مسألة جدار حائط الجار إذا سقط من عند نفسه فلا يجب عليه أن يبنيه ، وأمّا إذا هدمه هو أي الجار صاحب الجدار فلا يترك ويجب عليه أن يبنيه ، فذلك الإشكال - أي منع المالك عن التصرّف في ماله - موجود.

والجواب عن الجميع أمّا في مسألة عدم جواز منع الماء فلعلّه من جهة أنّ عدم جواز منعهم ليس من جهة حرمة المنع ، بل نهي تنزيهي ومثل هذا النهي ليس منافيا لحقّ المالك أو الحقّ الأولويّة التي للمانع.

ولكن هذا التوجيه بعيد ؛ لعدم ملائمته مع كونه من قضائه صلی اللّه علیه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي ء ، وبين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل الماء ليمنع فضل الكلاء.

فالأولى أن يقال : قدم رفع ضرر أهل البادية ومشارب النخل لأهل المدينة لأهميّته ، فإنّ عدم تلف حيوانات أهل البادية وعدم تلف نخيل أهل المدينة كان أهمّ من حفظ حقّ الأولويّة الذي كان لصاحب الماء ومالكه أو من كان أولى به ، وهذا

ص: 227

واضح جدا.

وأمّا مسألة الشفعة فليس جعل حقّ الشفعة ضررا لا على البائع ولا على المشتري ، أمّا على البائع فمعلوم ؛ لعدم الفرق له بين أن يكون المبيع بعد انتقاله عنه ملكا للشفيع بواسطة أخذه بحقّ الشفعة ، أو يكون ملكا للمشتري.

وأمّا المشتري فلأنّه من أوّل الأمر أقدم على اشتراء مال يصير متعلّقا لحقّ الغير بمحض اشترائه.

وأمّا مسألة الجدار فعدم جواز هدمه ووجوب بنائه عليه لو هدمه وأنّه لا يترك ، فمن جهة أهميّة حقّ المهدوم عليه من حقّ الهادم ، خصوصا إذا كان مستلزما لهتك عرضه وتلف أمواله.

التنبيه الثاني : أشكل شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره على تماميّة هذه القاعدة المستفادة من قوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » بلزوم تخصيص الأكثر (1).

بيان ذلك : أنّه بعد ما كان المراد من قوله صلی اللّه علیه و آله - كما استفدناه - نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر وأنّه لم يجعل في الدين مثل هذا الحكم نرى أنّه في كثير من أبواب الفقه مثل هذا الحكم مجعول ، كأبواب الحج ، والزكاة ، والخمس ، وأبواب الجهاد ، والضمانات بواسطة اليد أو الإتلاف ، إلى غير ذلك.

ثمَّ أجاب عنه : بأنّه من الممكن أن يكون بين الأفراد الخارجة عن تحت هذا العموم جامع ، والتخصيص يكون بعنوان إخراج ذلك الجامع الواحد ، وقال : إذا كان كذلك فإخراج عنوان واحد عن تحت عموم العام من العناوين التي يتعنون العام بها ليس بمستهجن ، وإن كان أفراد العنوان الخارج أكثر من الأفراد الباقي تحت العام.

واعترض عليه صاحب الكفاية قدس سره بأنّ خروج عنوان واحد عن العام ليس بمستهجن ، ولو كان أفراده أكثر من الأفراد الباقي تحت العام إذا كان عموم العام

ص: 228


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 537.

أنواعيا وكان محطّ العموم الأصناف التي للعام. وأمّا لو كان محطّ العموم والنظر إلى الأشخاص ومصاديقه ، فلا فرق في استهجان تخصيص أكثر الأفراد بين أن يكون بعنوان واحد وتحت جامع واحد. (1)

فلو كان عنوانا واحدا ولكن محطّ العموم هو المصاديق والأفراد مثل « أكرم كلّ عالم » فلو كان المخصّص عنوانا واحدا مثل « إلاّ أن يكون فاسقا » وكان أفراد الخاصّ أكثر من الباقي بعد الإخراج ، يكون هذا التخصيص مستهجنا وإن كان بعنوان واحد.

وأمّا إن كان محطّ العموم أنواع العالم ، من الصرفي والنحوي والأصولي والمنطقي والفقهاء إلى غير ذلك من الأنواع ، وكان المخصّص عنوان النحويين مثلا ، وفرضنا أفراده كان أكثر من مجموع الأنواع الآخر ، فهذا التخصيص ليس بمستهجن.

والسرّ في ذلك هو أنّ إلقاء ما ليس بعام عند العرف بحسب مراده بصورة العموم خروج عن طريقة الإفادة والاستفادة عندهم ، فيكون ركيكا مستهجنا عندهم ، فلا بدّ وأن يلاحظ مصبّ العموم ، فإن كان الأنواع فخروج المتكلّم عن طريقة العرف وأهل المحاورة بإخراج أكثر الأنواع ، وإن كان مصبّه الأفراد فخروجه عن طريقتهم هو إخراج أكثر الأفراد ، سواء أكان بعنوان واحد جامع لتلك الأفراد المختلفة ، أم كان بعناوين متعدّدة.

والشاهد على ذلك الوجدان ، ومراجعة أرباب المحاورة. ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون العام من قبيل القضيّة الخارجيّة أو القضية الحقيقية.

نعم تصوير العموم الأنواعي في القضية الخارجيّة لا يخلو عن إشكال ، بخلاف القضيّة الحقيقيّة فإنّه قد يكون الحكم فيها على العام بلحاظ جميع وجوداته ومصاديقه وأفراده - كما هو الحال في أغلب المسائل التي لجميع العلوم والفنون ، والقضايا التي تجعل كبرى في الشكل الأوّل - وقد يكون الحكم فيها بلحاظ جميع أنواعه وأصنافه ،

ص: 229


1- « درر الفوائد في حاشية على الفرائد » ص 284.

ولا نظر للحاكم إلى قلّة الأفراد وكثرتها.

ففي القسم الأوّل من القضيّة الحقيقيّة تخصيص أكثر الأفراد مستهجن ولو كان بعنوان واحد ، وفي القسم الثاني تخصيص أكثر الأنواع مستهجن ولو كان أفراد أكثر الأنواع الخارج بالتخصيص أقلّ بكثير من أفراد ذلك النوع الواحد الباقي تحت العام.

فالمناط كلّ المناط في الاستهجان هو تخصيص الأكثر ممّا هو مصبّ العموم ، سواء أكان هو الأنواع أو كان هو الأفراد ، وسواء أكان الخارج هو بعنوان واحد أو بعناوين.

فإشكال صاحب الكفاية ( قده ) وارد على ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره .

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من الفرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة ، وجعله تحقيقا في المقام (1) لا يخلو عن الخلل كما عرفت وجهه.

هذا كلّه بحسب الكبرى ، وأمّا بحسب الصغرى فلا شكّ أنّ مصبّ العموم في القاعدة هي الأفراد ، إذا مفادها كما استظهرنا من أدلّتها هو نفي كلّ حكم ضرري ، أي ينشأ من قبله الضرر. وليس مفادها نفي كلّ نوع من أنواع الأحكام الضرريّة حتّى لا يكون خروج نوع واحد موجبا للاستهجان ، ولو كان أفراده أكثر ممّا بقي تحت العام.

هذا ، مضافا إلى أنّ الخارج من هذا العموم - على فرض تسليم التخصيص - ليس عنوان واحد ، وإنّما هو صرف فرض شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره ، لأنّ الأحكام الضرريّة مجعولة بعناوين موضوعاتها ، كعنوان الحجّ والجهاد والخمس والزكاة ، وعنوان من أتلف واليد والمقبوض بالعقد الفاسد ، إلى غير ذلك من العناوين التي يجدها الفقيه المتتبع ، بل موضوع الأحكام الضرريّة موضوعات مسائل هذه الأبواب.

فالصواب في الجواب عن أصل إشكال تخصيص الأكثر : أنّ خروج هذه المذكورات عن تحت القاعدة بالتخصّص ، وليس تخصيص في البين أصلا.

ص: 230


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 210 - 211.

بيان ذلك : أنّ قاعدة نفي الضرر ، وكذلك قاعدة نفى الحرج بناء - على ما استظهرناه من أنّ مفادهما نفي الأحكام الضرريّة والحرجيّة - يكون حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّليّة ، بمعنى أنّ الأدلّة الأوّليّة لها إطلاق أو عموم يشمل كلتا حالتي الحكم ، من كونه ضرريّا وغير ضرري ، فالقاعدة تخرج حالة كونه ضرريّا عن مفاد الإطلاق أو العموم ، فنتيجة هذه الحكومة لبّا تقييد ذلك الإطلاق ، أو تخصيص ذلك العموم بغير حالة كون ذلك الحكم ضرريا.

وأمّا إذا كان الحكم المجعول على موضوع ضرري دائما كوجوب الجهاد وإعطاء الخمس والزكاة مثلا ، أو كان نفس الحكم دائما ضرريّا كحكمه بضمان اليد في مورد التلف ، فخارج عن مصبّ هذه القاعدة. وليس من باب التخصيص حتّى يكون مستهجنا لكونه تخصيص الأكثر ، نعم لو اتّفق لهذه الأحكام الضرريّة ومن قبلها ترتّب ضرر آخر غير ما يقتضي طبع نفس هذه الأحكام أو موضوعاتها ، فحينئذ يكون مشمولا لهذه القاعدة ، ولا محذور فيه أصلا. وذلك من جهة شمول الحكومة لمثل هذا المورد ؛ لأنّه بالنسبة إلى مثل هذا الضرر الذي اتّفاقي وليس من مقتضيات طبع نفس الحكم أو موضوعه ، يكون من مداليل الإطلاق أو العموم للأدلّة الأوّلية ، فالقاعدة تقيد ذلك الإطلاق ، أو يخصّص ذلك العموم بغير مورد ترتّب هذا الضرر على ذلك الحكم ، فيكون تقييدا أو تخصيصا لدليل ذلك الحكم لبّا بلسان الحكومة.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة ناظرة إلى تضييق المجعول الأوّلي وتخصيصه بإحدى حالتيه ، أي حالة عدم كونه ضرريّا فلا بدّ وأن يكون لذلك المجعول الأوّلي حالتان ، حتّى يكون داخلا في موضوع القاعدة ، وإلاّ لو لم يكن له إلاّ حالة واحدة يكون خارجا عن موضوع القاعدة ، وليس من باب التخصيص. وحيث أنّ في الموارد المذكورة للتخصيص إمّا يكون الموضوع موضوعا ضرريّا دائما ، أو نفس الحكم كذلك ، فيكون خروجها بالتخصّص لا بالتخصيص.

التنبيه الثالث : في بيان وجه تقديم هذه القاعدة على الأدلّة الأوليّة القائمة على

ص: 231

ثبوت الأحكام الواقعيّة لموضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

أقول : لا شكّ في أنّ النسبة بين دليل هذه القاعدة وبين تلك الأدلّة عموم من وجه ، مثلا دليل وجوب الغسل عام من حيث كونه ضرريّا أو غير ضرري ، ولا ضرر أعمّ منه ؛ لشموله لغير وجوب الغسل من الأحكام الضرريّة ، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين ، فبأيّ وجه أخذوا بدليل لا ضرر وقدّموه على تلك الأدلّة ، مع أنّ مقتضى القاعدة تساقط الدليلين المتعارضين في مورد الاجتماع إذا كان بينهما عموم من وجه.

وقد ذكروا لذلك وجوها نذكر منها ما هو المختار في وجه الجمع ونترك الباقي ؛ إذ لا فائدة في ذكرها والإشكال عليها مع وضوح بطلانها.

فنقول : وجه تقديم دليل لا ضرر على تلك الأدلّة حكومته عليها بالحكومة الواقعيّة بالتضييق في جانب المحمول ، فدليل لا ضرر يضيق المحمول في تلك الأدلّة برفعه رفعا تشريعيّا في إحدى الحالتين ، أي حالة كونه ضرريّا سواء أكان المحمول حكما تكليفيّا أو وضعيّا ، بلا تصرّف وتضييق في النسبة التي بين الموضوع والمحمول حتّى يكون تخصيصا.

نعم ينتج نتيجة التخصيص ، فإذا قسنا دليل لا ضرر مع دليل وجوب الغسل أو الوضوء على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، يكون مفاد لا ضرر أنّ هذا الوجوب المحمول على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، ويقال بأنّ المحدث بحدث كذا يجب عليه ليس مجعولا إذا كان ضرريّا ، فلا يمكن التعارض بين مثل هذين الدليلين ؛ لأنّ التعارض بين الدليلين عبارة عن التناقض بينهما ، وفي التناقض لا بدّ وأن تكون القضيتين الموجبة والسالبة متّحدتين من حيث الموضوع والمحمول ، وإنّما الاختلاف من حيث السلب والإيجاب ، فلو كانت إحدى القضيتين المختلفتين بالسلب والإيجاب مفادها التصرّف في موضوع القضيّة الأخرى ، كقولهم « لا شكّ لكثير الشك » أو

ص: 232

التصرّف في محمولها كقوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » بناء على ما استظهرنا منه من أنّ مفاده رفع الحكم الضرري عن عالم الجعل والتشريع ، فلا يتحقّق تناقض وتعارض.

وهذا هو السرّ في عدم ملاحظة النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل يقدّم الحاكم على كلّ حال ، لأنّ ملاحظة النسبة فرع التعارض ، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم ؛ إذ المعارضة فرع وحدة القضيّتين بحسب الموضوع والمحمول.

وأمّا إذا كان لسان إحدى القضيتين التصرّف في موضوع القضية الأخرى أو محمولها فلا تعارض حتّى تلاحظ النسبة أو قوّة الظهور.

وأمّا الجمع العرفي الذي ذكره صاحب الكفاية قدس سره (1) وإن كان صحيحا ومطابقا للواقع ، إلاّ أنّه ليس بلا سبب وجزافا. ووجه الجمع العرفي هو ما ذكرناه من الحكومة في هذا المورد ، وربما يكون وجهه في الموارد الآخر غير الحكومة ، من قوّة الظهور في أحدهما لكونه أظهر ، أو كون أحدهما خاصّا ، أو غير ذلك.

وأمّا بيان أقسام الحكومة الثمانية ، من كونها ظاهريّة أو واقعيّة ، أو كونها في جانب الموضوع أو في جانب المحمول ، كلّ واحد منهما بالتوسعة أو بالتضييق فقد ذكرنا وشرحناها في باب حكومة الأمارات على الأصول في كتابنا « منتهى الأصول ». (2)

التنبيه الرابع : في أنّ مفاد لا ضرر نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر واقعا ، سواء علم المكلّف بذلك أم لا ؛ وذلك من جهة أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة لا بقيد أنّها معلومة ، فالمراد من الحديث الشريف نفي الضرر الواقعي سواء فيه العلم والجهل.

ص: 233


1- « كفاية الأصول » ص 382.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.

فمن هذا يتولّد الإشكال في موارد :

منها : قولهم بصحّة الوضوء أو الغسل مع الجهل بكون استعمال الماء ضرريّا.

ومنها : تقييدهم لخيار الغبن ، وكذلك خيار العيب بجهل المغبون بالغبن وجهل المشتري بعيب المبيع.

ولكن الجواب عن هذه الإشكالات : أمّا في مسألة الطهارة المائيّة فلأنّ حكم الشارع ببطلان الطهارة المائيّة في ظرف الجهل بضرر استعمال الماء خلاف الامتنان ؛ لأنّه يوجب إعادة الوضوء والغسل ، بل الأعمال المتوقّفة عليهما وقد سبق أنّ سوق الحديث في مقام الامتنان ، فلا يجرى فيما هو خلاف الامتنان.

لا يقال : حكمه بالبطلان في صورة العلم أيضا خلاف الامتنان ؛ لأنّ العاقل لا يقدم على ضرر نفسه ، خصوصا إذا علم أنّ هذا العمل لغو لا أثر له ، وهذا المعنى لا يتطرّق في حقّ الجاهل بالضرر ، هذا أوّلا ، وثانيا ما تقدّم من أنّ مفاد لا ضرر نفى الحكم الذي يكون الضرر عنوانا ثانويا له.

وبعبارة أخرى يكون علّة تامّة للضرر أو يكون هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر ، حتّى يصحّ أن يقال إنّ هذا الحكم ضرري ، بحيث لو لم يكن هذا الحكم لما كان المكلّف واقعا في الضرر.

وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ؛ لأنّه كان يقع في الضرر من جهة جهله ، ولو لم يكن هذا الحكم مجعولا في ذلك الحال أي في حال جهله بالضرر ، فليس الضرر ناشئا من الحكم المجعول في حال الجهل ، وإلاّ لما كان واقعا في الضرر في فرض عدم ذلك الحكم في حال الجهل ، مع أنّه يقع قطعا لاعتقاده عدم الضرر ، فهو يرى نفسه موضوعا وداخلا في الذي يجب عليه الوضوء أو الغسل وإن لم يكن الوجوب مجعولا في ذلك الحال ، فتضرّره مستند إلى فعله الناشئ عن اعتقاد عدم الضرر ، ولعمري هذا واضح جدّا.

ص: 234

وأمّا بطلان الوضوء والغسل بالماء الذي استعماله مضرّ لحرمة الإضرار بالنفس - وأنّ الإضرار بالنفس إلى أيّ حدّ جائز وإلي أيّ حدّ لا يجوز وما الدليل عليه - فهذا شي ء خارج عن محلّ كلامنا ، وهي مسألة فقهيّة يبحث عنها في محلّها.

وأمّا مسألة خيار الغبن فليس مستند إلى هذه القاعدة ، بل ثبوتها بواسطة تخلّف الشرط الضمني ، وهو تساوي المالين في خيار الغبن وسلامة العوضين في خيار العيب ، مضافا إلى وجود أدلّة خاصّة في خيار العيب دالّة على ثبوت الخيار حال الجهل بالعيب دون حال العلم به ، وتفصيل المسألة في محلّه.

التنبيه الخامس : قد عرفت أنّ مفاد لا ضرر - بناء على ما استظهرناه - رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر ، سواء كان ذلك الحكم حكما تكليفيّا أو كان وضعيّا ، بل الحكم الوضعي أولى بشمول لا ضرر له ؛ لأنّ الحكم التكليفي بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجبا لوقوع الضرر في الخارج ، بل الضرر يقع في مرحلة الامتثال ، فيتوسّط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلّف واختياره.

وأمّا الحكم الوضعي كاللزوم في المعاملة الضرريّة ، فهو بنفسه موجب لوقوع الضرر من دون توسّط إرادة المكلّف واختياره في البين ، فيكون دليل هذه القاعدة - كما تقدّم - حاكما على إطلاقات الأدلّة الأوّلية في جانب المحمول ، بمعنى تضييق القاعدة لمحمول تلك الأدلّة وتقييدها بحال عدم كونها ضرريّا.

وهذا معنى كون مفادها رفع الحكم الضرري ، فلا بدّ وأن يكون حسب مفاد تلك الإطلاقات حكم ثابت مجعول لو لا هذه القاعدة ، فشأن هذه القاعدة رفع الحكم الضرري الذي لو لا هذه القاعدة كان ثابتا وموجودا.

وأمّا وضع الحكم الذي يكون في عدمه ضرر على شخص ، فهذا خارج عن المفاد ومدلول هذه القاعدة.

فبناء على هذا لا يمكن إثبات الضمان بهذه القاعدة فيما إذا كان عدم الضمان ضررا

ص: 235

على شخص ، بل لا بدّ في إثباته من التمسّك بأخذ أسباب الضمان ، كاليد والإتلاف وسائر أسباب الضمان.

والحاصل أنّه لا يجوز أن يقاس عدم الحكم إذا كان ضرريّا فيقال برفعه حتّى يكون نفي النفي إثباتا بوجود الحكم الضرري ؛ لما ذكرنا من أنّ مفادها الرفع لا الوضع ، لا من جهة أنّ العدم ليس قابلا للرفع حتّى يقال إنّ العدم في مرحلة البقاء قابل للوضع والرفع ، بل من جهة كونه ناظرا إلى الأحكام المجعولة حسب إطلاق أدلّتها أو عمومها لكلتا حالتي كونها ضرريّة أو غير ضرريّة ، وتقييدها بصورة عدم كونها ضررية ، فإذا لم يكن حكم مجعول من قبل الشارع فلا موضوع لهذا القاعدة.

وأمّا كون عدم جعل الحكم في موضوع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم - كما توهّم - فعجيب.

فما توهّم في موارد كثيرة من التمسّك بهذه القاعدة لإثبات الحكم بواسطة كون عدمه ضرريّا ليس كما ينبغي.

كما أنّ بعضهم توهّم جواز طلاق المرأة للحاكم إذا كان الزوج لا يقدر على نفقته ، أو لا يعطي عصيانا أو لعذر ، وكان غائبا زمنا طويلا ولا يعرف مكانه وليس له مال ينفق عليها منه ، ففي هذه الموارد وأمثالها مما تتضرّر المرأة من عدم جواز الطلاق توهّموا رفع عدم جواز الطلاق إلاّ لمن أخذ بالساق ، مستندا إلى هذه القاعدة.

وأنت عرفت عدم صحّة هذا التوهّم.

وأمّا البحث عن هذه المسألة وأنّه هل يجوز طلاق مثل هذه المرأة ولو كان لأدلة أخر غير هذه القاعدة؟ فهو أجنبي عن مقامنا وإن ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره استطرادا. (1)

وهنا فروع كثيرة قالوا بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة ، كفكّ الباب على دابّة فشردت وتلفت ، أو على طير فطار ، وكحبس الحرّ فشردت دابّته ، أو طار طيره ،

ص: 236


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 221.

أو أبق عبده وأمثال ذلك ممّا يكون الحكم بعدم الضمان موجبا لضرر المالك ، فكلّ هذه المذكورات وأمثالها إن كان للضمان وجه آخر غير هذه القاعدة فهو ، وإلاّ فالقول بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة لا وجه له كما عرفت.

التنبيه السادس : في أنّ المراد من الضرر المنفي في هذه القاعدة هل هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

والمراد من الضرر الشخصي هو أنّ المناط في رفع الحكم ترتّب الضرر الشخصي الخارجي عليه ، ففي كلّ مورد نشأ من قبل الحكم الشرعي ضررا خارجيّا على شخص فذلك الحكم مرتفع في حقّه دون من لا يتضرّر من قبله. ومن الممكن أن يكون الحكم ضرريّا في حقّ شخص دون شخص آخر ، بل لشخص واحد في مورد دون مورد آخر.

وأمّا الضرر النوعي فالمراد منه كون الحكم ضرريّا نوعا ، وإن لم ينشأ منه ضرر في بعض الأحيان أو لبعض الأشخاص.

والظاهر من الحديث الشريف - بناء على ما استظهرنا منه - هو الضرر الشخصي لا النوعي ؛ لأنّ معنى الحكومة على ما بيّنّاه رفع الحكم في كلّ مورد نشأ منه الضرر ، وأمّا في المورد الذي لم ينشأ من قبله ضرر فلا معنى لرفعه بل الإطلاق يشمله.

وبعبارة أخرى : كون الحديث في مقام الامتنان يقتضي أن يكون الرفع بلحاظ حال كلّ شخص بحسب نفسه ، وإلاّ رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخص آخر أي امتنان فيه؟

وكذلك الأمر في قاعدة لا حرج فالحكم مرفوع فيها بلحاظ الحرج الشخصي دون النوعي ، ومساق هاتين القاعدتين من هذه الجهة واحد.

وأمّا كون الضرر أو الحرج النوعيين حكمة لجعل حكم في بعض الأحيان - كما ربما يكون كذلك في باب جعل الطهارة الترابيّة بدلا عن المائيّة عند عدم التمكّن منها ،

ص: 237

أو التقصير والإفطار في السفر - فلا ربط له بما نحن فيه ، وهو وإن كان ممكنا بل واقعا كما ذكرنا ، ولكن يحتاج إلى ورود دليل خاصّ على ذلك.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجب تدارك الضرر الوارد على الغير ، بأن يتحمل خسارة ما وقع التلف عليه إلاّ بأحد أسباب الضمان ، من اليد ، أو الإتلاف ، أو غيرهما كما هو مذكور في أبواب الضمانات ، ولا بأن يتحمّل الضرر ليدفعه عن الغير ؛ كلّ ذلك من جهة أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان ، نعم ليس له أن يدفع الضرر عن نفسه بتوجيهه إلى الغير.

التنبيه السابع : في تعارض الضررين بمعنى أنّه دار الأمر بين حكمين ضرريين ، بحيث يلزم من نفي أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر ، وذلك كما إذا أدخل الدابّة رأسها في قدر يملكه شخص آخر غير صاحب الدابّة ، فالقدر لشخص والدابة ملك لشخص آخر ، فهاهنا يقع التعارض بين جواز كسر القدر لخلاص الدابّة وجواز ذبح الدابّة لبقاء سلامة القدر ، فكلا الحكمين ضرريّان ويلزم من نفي جواز كلّ واحد منهما بواسطة « لا ضرر » ثبوت الضرر للمالك الآخر ، فمنع مالك القدر عن كسره ضرر على صاحب الدابّة ، كما أنّ منع صاحب الدابّة عن ذبحه ضرر على صاحب القدر ، فلا يجري « لا ضرر » في الطرفين لمعارضتهما لو كان أحد الأمرين واجبا.

وهذا فيما إذا لم يكن بتفريط من أحدهما ، وإلاّ يجب على المفرط تخليص مال الغير ولو بتلف ماله ولا ضمان على الآخر. نعم لو قلنا بأنّه يجب مراعاة أكثر الضررين وأعظمهما وينفي الحكم الذي ينشأ ذلك الضرر الكثير منه ، فحينئذ يجب ارتكاب ما هو أقلّ ضررا منهما - أي من الكسر ومن الذبح - في المفروض.

ولكن لا دليل على هذا إلاّ ما يتوهّم من أنّ مقتضى الامتنان على الأمة هو ذلك. ولكن عرفت أنّ مقتضى الامتنان رفع الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر فيما إذا لم يكن الرفع موجبا لوقوع الضرر على شخص آخر ، ففي هذا المورد وأمثاله لا مجال لجريان

ص: 238

لا ضرر ، لا من جهة المعارضة فقط لو كان هناك معارضة ، بل من جهة أنّ جريانها خلاف الامتنان فلا يجرى لا ضرر في الطرفين. ونتيجة ذلك بقاء سلطنة كلّ واحد منهما على ماله ، ومنع الآخر عن التصرّف فيه بكسر أو ذبح أو غير ذلك من التصرّفات التي للمالك حقّ المنع عنها.

ويمكن أن يقال : إنّه ليس لكلّ واحد من المالكين منع الآخر عن تخليص ماله ولو كان التخليص مستلزما لتلف ماله ، غاية الأمر يجبر التلف أو النقص كما إذا حفر الأرض لتلخيص غرسه فيما إذا كان بحقّ ، فيجبر نقص الحاصل من الحفر بلزوم طم الحفر من طرف الحافر القالع لغرسه ؛ وذلك من جهة عدم سلطنته على ماله ومنعه الغير عن مثل هذا التصرّف الذي مقدّمة لتخليص ماله.

والحاصل أنّ المثال المذكور ، أي إدخال الدابّة رأسها في قدر الغير بغير تفريط من أحد المالكين ، ليس من تعارض لا ضرر في الطرفين ؛ إذ الضابط فيه كما بيّنّا أن يكون نفي أحد الحكمين الضرريين مستلزما لثبوت الحكم الضرري الآخر ، لا أن يكون مستلزما لثبوت الضرر على الآخر ، وما نحن فيه من الأمثلة من قبيل الثاني لا الأوّل.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ تعارض مفاد لا ضررين - أي تعارض نفي الحكمين الضرريين - هو عبارة عن عدم إمكان رفعهما في عالم التشريع ، إمّا بأن يكون رفع أحدهما مستلزما لثبوت الآخر ، فمعنى رفعهما إثباتهما أيضا لما ذكرنا من الملازمة ، وهذا اجتماع النقيضين في كلّ واحد من الحكمين. وإمّا بالعلم بوجود أحد الحكمين وعدم رفعه لجهة من الجهات ، كما لو أنّ جواز حفر البئر في داره إذا كان ضررا على جاره لو رفع بلا ضرر بواسطة كون هذا الحكم ضرريّا على جاره ، وحرمة حفر البئر أيضا لو رفع بواسطة كونه ضرريّا على نفسه ، فيقع التعارض بين لا ضررين باعتبار مؤدّاهما ، أعني نفي جواز حفر البئر ونفي حرمة حفره.

ص: 239

وذلك من جهة أنّ نفي أحد الحكمين مستلزم لثبوت الآخر ، فنفي جواز حفر البئر مستلزم لحرمة الحفر ، كما أنّ نفي حرمته مستلزم لجوازه. وكما أنّ في مثال القدر والدابة التي أدخلت رأسها فيها لو علمنا بوجوب أحد الأمرين ، أي كسر القدر أو ذبح الدابّة ، فيقع التعارض بين نفي جواز الكسر بلا ضرر ونفي جواز الذبح به ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما في عالم التشريع مع العلم بوجود أحدهما.

ولا ينافي ثبوت التعارض بينهما مع كونهما - أي النفيين - مدلول دليل واحد ، كما أنّه لا تنافي بين تعارض الاستصحابين مع أنّهما مفاد دليل واحد ، أي قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

والسرّ في ذلك : هو انحلال قضيّة « لا ضرر » وقضية « لا تنقض » وأمثالها ممّا كانت القضيّة بنحو الطبيعة السارية ، أو العامّ الاستغراقي إلى قضايا متعدّدة بعدد مصاديق ذلك العامّ الذي جعل موضوعا للحكم.

وعلى كلّ حال إذا تحقّق التعارض بالمعنى المذكور فيتساقطان ؛ لعدم وجود مرجّح من مرجّحات باب التعارض لوحدة الدليل وعدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا مرجّحات باب التزاحم فأجنبي عن هذا المقام.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ كثيرا من المباحث التي ذكروه في المقام خارج عن محلّ البحث ، مثلا قالوا : إذا دار الأمر بين ضررين لا بدّ من وقوع أحدهما ، فإمّا أن يكون الضرران على شخص واحد أو على شخصين ، وإذا كانا على شخص واحد فإمّا يكونان مباحين أو محرّمين أو مختلفين. فإذا كانا مباحين فله الخيار في ارتكاب أيّهما أراد ، وإن كانا مختلفين يتعيّن عليه ارتكاب ما ليس بحرام ، وإن كانا محرّمين ، عليه أن يختار للارتكاب ما هو أضعف ملاكا ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك ، عملا بقواعد باب التزاحم ومرجّحاته.

وأنت تدري أنّ كلّ ذلك خارج عن محلّ البحث ، أعني وقوع التعارض بين

ص: 240

مفادي لا ضرر ، أي نفي الحكمين الضرريين الذين يلزم من نفي كلّ واحد منهما ثبوت الآخر ، أو نعلم بثبوت أحدهما.

والحاصل : أنّه إذا تعارض نفي حكم ضرري مع نفي حكم ضرري آخر ، فلا محالة يسقط لا ضرر في الاثنين بالمعارضة. ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفي بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم ؛ لأنّ هذا ليس من مرجّحات باب التعارض ، فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأخر إن كانت ، وإلاّ فإلى الأصول العمليّة.

نعم قد يكون البحث صغرويّا بمعنى أنّه هل هاهنا تعارض بين نفي هذين الحكمين الضرريين أم لا؟ وقد يكون البحث من جهة أنّ المورد من موارد التزاحم أو من موارد التعارض؟ فهذه أمور يسهل على الفقيه تشخيصها بعد معرفة ضوابطها الكليّة.

هذا كلّه في تعارض لا ضرر مع نفسه بالنسبة إلى نفي الحكمين الضرريين فيما إذا لا يمكن ولا يصحّ نفيهما جميعا لما تقدّم من الوجهين.

وأمّا فيما إذا تعارض لا ضرر مع لا حرج كما إذا كان تصرّف المالك في ملكه ضرريّا على الجار ، وكان ترك تصرّفه فيه حرجا على المالك وإن لم يكن ضررا عليه ، فيقع التعارض بين نفي جواز التصرّف بلا ضرر مع نفي حرمة التصرّف بلا حرج ، فالأمر كما ذكرنا في تعارض لا ضرر في مورد نفي أحد الحكمين مع نفسه في مورد نفي الحكم الآخر لوحدة المناط ، وهو عدم إمكان جمع النفيين في عالم الجعل والتشريع ، ووحدة لسان لا ضرر ولا حرج في الحكومة بالتضييق في جانب المحمولات التي هي الأحكام الواقعيّة للأشياء بعناوينها الأوّليّة التي هي مفاد إطلاقات الأدلّة أو عموماتها ، ونتيجتها تقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بغير ما كانت ضرريّة أو حرجيّة.

ص: 241

ويظهر ممّا ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري حكومة قاعدة الحرج على قاعدة الضرر ، (1) ولم نعرف لها وجها يمكن الاعتماد والاتّكاء عليه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ حال تعارض قاعدة الحرج مع نفسه في موردين ، حال تعارض قاعدة الضرر مع نفسه في موردين من موارده فيتساقطان ، والمرجع حينئذ هي القواعد الأخر لو كانت ، كقاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » وإلاّ فالرجوع إلى الأصول العمليّة.

التنبيه الثامن : في بيان مجرى قاعدة « الناس مسلطون على أموالهم » ومورد تعارض قاعدة لا ضرر معها.

فنقول : لا شكّ في أنّ مفاد لا ضرر - بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف - رفع الحكم الضرري ونفيه مطلقا ، سواء كان حكما تكليفيّا أم وضعيّا ، وبعبارة أخرى : مفاد قاعدة لا ضرر أنّه ليس في المجعولات الشرعيّة وفيما هو من الدين مجعول ينشأ من قبله الضرر ويكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فالسلطنة الاعتبارية المجعولة من قبل الشارع للملاك على أموالهم إذا كان ضرريّا منفي بلا ضرر ، ويكون حال السلطنة حال سائر الأحكام الشرعيّة المجعولة على موضوعاتها ، فكما تكون القاعدة حاكمة على أدلّة سائر الأحكام فكذلك الحال في نسبتها مع قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » لاتّحاد المناط في الجميع.

ولكن الشأن في إثبات الصغرى ، وأنّه في أيّ مورد يتحقّق هذه المعارضة.

ولتوضيح المقام نقول : إنّ تصرّف المالك في ماله مع الإضرار بالغير على أنحاء :

فقد لا يكون إلاّ بقصد الإضرار بالغير من دون أن يكون له نفع في هذا التصرف ، أو يكون في تركه ضرر عليه.

الثاني : أن لا يكون بقصد الإضرار ، ولكن ليس في ذلك التصرّف نفع له ولا في

ص: 242


1- « المكاسب » ص 375.

تركه ضرر عليه ، بل يكون عابثا بفعله.

الثالث : أن يكون له نفع فيه ، ولكن ليس في تركه ضرر عليه.

الرابع : أن يكون في تركه ضرر عليه.

ولا شكّ في حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » في الصورة الأولى والثانية ، بناء على شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير ، سواء كان من قصده الإضرار أم لم يكن. وأمّا لو قلنا بأنّ التصرّفات التي موجبة للإضرار بالغير إذا لم يكن للمالك نفع فيه ولا في تركه ضرر عليه خارجة عن عموم قاعدة السلطنة ، فلا يبقى مجال للحكومة ، بل خروج الصورتين عن تحت عموم قاعدة السلطنة يكون بالتخصّص لا بالحكومة.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين ؛ لأنّ ظاهر الحديث أنّ لكلّ مالك السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله ولو كان بقصد الإضرار ، وسواء كان مستلزما للضرر على الغير أم لا ، غاية الأمر يكون ضامنا للضرر الوارد على الغير لأنّه بفعله وبإتلافه.

ولا يخفى أن مرادنا التصرّفات التي لا يكون مستلزما للتصرّف في مال الغير أو في نفسه ، مثل (1) أن يتصرّف في معوله (2) بهدم دار الغير أو في مديته (3) بشقّ بطن الغير ، فلا ضرر يكون حاكما على قاعدة السلطنة في تينك الصورتين.

وأمّا في الصورة الثالثة : فأيضا مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المتقدّمتين حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة ؛ لأنّ سلطنة الملاّك على أموالهم حكم شرعي وضعي على الأموال بعناوينها الأوّلية ، وقد تقدّم حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلّة

ص: 243


1- مثل للمنفي لا للنفي.
2- المعول ج معادل : أداة لحفر الأرض.
3- المدية ج مُدىً ومِدىً ومديات ومديات : الشفرة الكبيرة.

الأوّلية المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاري أفاد في المقام أنّ عدم جواز تصرّف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرّف ضرريّا بالنسبة إلى الغير ، ولم يكن تركه ضرريّا على نفسه ولكن كان فيه نفع للمالك ، فترك مثل هذا التصرّف وحرمته حرجي للمالك ؛ لأنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المالك على التصرّفات النافعة حرج عليه ، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج ، والثانية حاكمة على الأولى. وعلى فرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط لا ضرر ولا حرج بالمعارضة (1).

وفيه : ما تقدّم من أنّه لم نعرف وجها يمكن الاعتماد عليه ، لحكومة قاعدة الحرج على قاعدة لا ضرر ، فالصحيح أنّ المرجع قاعدة السلطنة بعد تساقط لا حرج ولا ضرر بالمعارضة.

وما أفاده شيخنا الأستاذ من عدم اجتماع مورد هاتين القاعدتين لأنّ مفاد قاعدة لا ضرر نفي السلطنة إذا كانت ضرريّة ، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجيّا أمر عدمي ولا يرتفع بلا حرج حتّى تقول أنّ نفي النفي إثبات ، فيرجع إلى بقاء السلطنة فيقع التعارض ، وذلك من جهة أنّ مفاد لا حرج نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيّا ، لا إثبات حكم لرفع الحرج (2).

يمكن أن يجاب عنه : بأنّ مورد الحرج في المقام حرمة ذلك التصرّف النافع للمالك الموجب للإضرار بالغير ، والحرمة حكم وجودي ، فارتفاعها بلا حرج مع ارتفاع جواز التصرّف بلا ضرر ممّا لا يجتمعان ، فيقع التعارض بين لا حرج ولا ضرر ، وبعد تساقطهما بالمعارضة يكون المرجع قاعدة السلطنة.

وعلى تقدير القول بعدم إطلاق دليل السلطنة بالنسبة إلى التصرّف الذي يكون

ص: 244


1- « المكاسب » ص 375.
2- « منية الطالب » ج 2 ، ص 226.

موجبا للإضرار فالمرجع هي الأصول العمليّة ، وفي المقام هي البراءة. وممّا ذكرنا ظهر حال الصورة الآتية.

الصورة الرابعة : وهي فيما إذا كان ترك التصرّف وعدم السلطنة عليه يكون موجبا لتضرّر المالك ، فقاعدة الضرر بالنسبة إلى ضرر الغير مع نفسه بالنسبة إلى ضرر المالك يتعارضان ، وبعد تساقطهما المرجع هي قاعدة السلطنة. ولا يخفى أنّ جواز تصرّف المالك في هاتين الصورتين - أي في صورة الثالثة والرابعة - من حيث الحكم التكليفي لا ينافي مع ثبوت الضمان وضعا لقاعدة الإتلاف.

والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 245

ص: 246

9 - قاعدة نفى العسر والحرج

اشارة

ص: 247

ص: 248

قاعدة نفى العسر والحرج (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة القاعدة المشهورة المعروفة بقاعدة « نفي العسر والحرج ». والتكلّم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في الدليل عليها

اشارة

فنقول : الأوّل : الآيات :

منها : قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2).

ص: 249


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 122 و 287 ؛ « الأقطاب الفقهية على مذهب الإماميّة » ص 46 ؛ « الحق المبين » ص 154 ؛ « الأصول الأصلية والقواعد الشرعيّة » ص 306 ؛ « عوائد الأيّام » ص 57 ؛ « قاعدة لا حرج » ؛ « عناوين الأصول » عنوان 9 ؛ « مناط الأحكام » ص 26 ؛ « قاعدة نفى العسر والحرج » الآشتيانى ؛ « مجموعه قواعد فقه » ص 125 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 203 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 102 و 186 ؛ « القواعد » ص 304 ؛ « قواعد فقه » ص 60 ؛ « قواعد فقهي » ص 211 ؛ « قواعد فقهية » ص 135 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 160 ؛ « قاعدة نفى عسر وحرج وكاربرد آن در قوانين إيران » محمد على خرسنديان ، ماجستير ، مدرسة الشهيد مطهري العالية ، 1371 ؛ « عسر وحرج ونقش آن در روابط موجر ومستأجر » عزيز اللّه اليميني ، ماجستير ، جامعة الشهيد بهشتى ، 1369 ؛ « قاعدة عسر وحرج وآثار آن در حقوق مدني إيران » ماجستير ، جامعة طهران ، 1374 ؛ « بازتاب قاعدة لا حرج در اجاره » عيسى كشورى ، مجلة « قضائي وحقوقي دادگسترى » العدد 10 ؛ « بحثي در عسر وحرج » للسيّد على محمّد المدرّس الأصفهاني ، « مجلّة كانون وكلاء » لسنتها 13 ، العدد 75 ؛ « قاعدة لا حرج » نشرة « مقالات وبررسيها » ، العدد 43 - 44 ؛ « سه قاعدة فقهي » مجلة « حق » ، الفصليّة ، العدد 11 و 12 ، العام 1366.
2- الحجّ (22) : 78.

وأيضا قوله تعالى ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) (1).

وأيضا قوله تعالى ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2).

وأيضا قوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (3).

هذه الآيات تدلّ دلالة واضحة على أنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعل في دين الإسلام أحكاما حرجيّة ، بحيث يكون امتثال أحكامه وإطاعة أوامره ونواهيه شاقّا وحرجا على المسلمين والمؤمنين بهذا الدين ، سيّما بملاحظة استدلال الإمام علیه السلام ببعض هذه الآيات على رفع الأحكام الحرجيّة ، حيث قال علیه السلام : « هذا وأمثاله يعرف من كتاب اللّه امسح على المرارة ما جعل اللّه ( عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .

وأمّا الروايات :

فمنها : ما عن الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار : أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن الحسن بن رباط ، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال علیه السلام « يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه. (4)

وقد روى الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : « ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ) الإسلام من ضيق ، هو واسع » (5). وقد نسب في مجمع البيان هذا المعنى إلى جميع

ص: 250


1- المائدة (5) : 6.
2- البقرة (2) : 185.
3- البقرة (2) : 286.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 33 ، باب الجبائر والقروح والجراحات ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 363 ، ح 1097 ، باب صفة الوضوء والغرض منه ، ح 27 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 77 ، ح 240 ، باب المسح على الجبائر ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 327 ؛ أبواب الوضوء باب 39 ، ح 5.
5- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 17 ، ص 142.

المفسّرين. (1)

وعن التهذيب عن ابن سنان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة (2) أو التور (3) فيدخل إصبعه فيه؟ قال علیه السلام : « إن كانت يده قذرة فأهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا مما قال اللّه تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (4).

وعن التهذيب ، والكافي ، والاستبصار : عن ابن مسكان قال : حدّثني محمّد بن ميسر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : « يضع يده ويتوضّأ ثمَّ يغتسل ، هذا ممّا قال اللّه تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (5).

وأيضا عن التهذيب ، والاستبصار عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام إنّا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية ، فتكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدواب وتروث؟ فقال علیه السلام : « إن عرض في قلبك منه شي ء فقل هكذا : يعني افرج الماء بيدك ثمَّ توضّأ فإنّ الدين ليس بمضيق ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (6).

وعن التهذيب ، والكافي عن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء ، فقال علیه السلام : « لا بأس ، ما جَعَلَ اللّه

ص: 251


1- « مجمع البيان » ج 2 ، ص 167.
2- الركوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء ، والجمع : ركاء. « النهاية » ج 2. ص 261 ( ركود ).
3- التور : إناء من صفر أو حجارة كالإجانة ، وقد يتوضّأ منه. « لسان العرب » ج 3. ص 96 ( تور ).
4- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 229 ، ح 661 ، باب المياه وأحكامها. ، ح 44.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 4 ، باب الماء الذي تكون فيه قلّة و. ، ح 2 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 149 ، ح 425 ، باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح 116 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 128 ، أبواب الماء المطلق ، باب 8 ، ح 5.
6- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 417 ، ح 1316 ، باب المياه وأحكامها ، ح 35 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 22 ، ح 55 ، باب الماء القليل يحصل فيه النجاسة ، ح 10.

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (1).

وفي رواية حمزة بن طيار : « وكل شي ء أمر الناس به فهم يسعون ، وكلّ شي ء لا يسعون فهو موضوع عنهم » (2).

وفي صحيحة البزنطي : أنّ أبا جعفر علیه السلام كان يقول : « إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالة ، وإن الدين أوسع من ذلك » (3).

وقوله علیه السلام : « بعثت على الشريعة السمحة السهلة » (4).

وهناك روايات كثيرة تدلّ على عدم جعل الحكم الحرجي وما يوجب العسر والضيق على الأمّة ، تركنا ذكرها لكفاية ما ذكرنا لإثبات هذه القاعدة.

وأمّا الإجماع على اعتبار هذه القاعدة فممّا لا اعتبار به ، لأنّ الإجماع الذي بنينا على اعتباره هو أن لا يكون في المسألة مدرك آخر يمكن ويحتمل أن يكون اتّكاء المجمعين عليه ، ففي هذه المسألة التي لها هذه المدارك من الكتاب العزيز لا وجه للتمسّك بالإجماع.

وأمّا الدليل العقلي : فغاية ما يمكن أن يقال هو أنّ التكليف بما يوجب العسر والضيق على الأمة ويكون ذلك التكليف فوق طاقتهم قبيح ، والقبيح محال صدوره من اللّه جلّ جلاله.

ولكن أنت خبير بأنّ تكليف ما لا يطاق بمعنى عدم القدرة على امتثاله وإن كان

ص: 252


1- « الكافي » ج 3 ، ص 13 ، باب اختلاط ماء المطر بالبول و. ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 86 ، ح 224 ، باب صفة الوضوء والفرض منه ، ح 73.
2- « الكافي » ج 1 ، ص 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 4.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 257 ، باب ما يصلّي فيه وما لا يصلّي فيه. ، ح 791 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 368 ، ح 1529 ، باب ما يجوز الصلاة فيه ، ح 61 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1071 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 494 ، باب كراهيّة الرهبانيّة وترك الباه ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 246 ، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، باب 14 ، ح 1 ، مع تفاوت في اللفظ.

قبيحا عقلا بل يكون ممتنعا عقلا - بناء على ما حقّقنا في محلّه من أنّ حقيقة الأمر والنهي هو البعث إلى أحد طرفي المقدور أو الزجر عنه كذلك - فالتكليف بما لا يطاق بهذا المعنى لا يمكن ، لا أنّه ممكن وقبيح.

ومثل هذا المعنى ليس مفاد قاعدة لا حرج ؛ لأن ظاهر أدلّة نفي الحرج - آية ورواية - أنّه تبارك وتعالى في مقام الامتنان على هذه الأمّة ، ولا امتنان في رفع ما لا يمكن جعله ووضعه ، أو يكون وضعه قبيحا ، مع أنّه حكيم لا يمكن أن يصدر منه فعل السفهاء.

فمعنى عدم الحرج في الدين هو عدم جعل حكم يوجب الضيق على المكلّفين ، وبهذا المعنى فسر الحرج في جميع التفاسير من العامّة والخاصّة.

ومثل هذا المعنى ليس دليل على امتناعه أو قبحه ولكنّ اللّه تبارك وتعالى لطفا وكرما لم يجعل الأحكام الحرجيّة بالنسبة إلى جميع العباد ، أو بالنسبة إلى خصوص هذه الأمّة المرحومة كرامة لنبينا صلی اللّه علیه و آله .

ويشهد بالمعنى الثاني - أي اختصاص رفع الأحكام الحرجيّة بهذه الأمّة - قوله صلی اللّه علیه و آله « بعثت بالحنيفيّة السمحة السهلة » (1). وقوله تعالى ( لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) (2) والإصر : الجمل الثقيل الذي يحبس صاحبه مكانه لثقله ، والمراد التكاليف الشاقّة التي كلّف اللّه تعالى بها الأمم السابقة من التشديدات ، وقد عصم اللّه هذه الأمّة من أمثال ذلك ، وأنزل في شأنهم ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (3).

فهذه الآية الكريمة مع الحديث الشريف تدلّ دلالة واضحة على أنّ رفع الأحكام

ص: 253


1- « الكافي » ج 5 ، ص 494 ، باب كراهية الرهبانيّة وترك الباه ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 246 ، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، باب 14 ، ح 1 ؛ « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 381 ، ح 3.
2- البقرة (2) : 286.
3- الأعراف (7) : 157.

الحرجيّة مخصوص بهذه الأمّة كرامة لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، فلا يمكن أن يكون المراد من الحرج عدم القدرة والطاقة والعجز عن الامتثال بمثابة يكون تكليفه في تلك الحالة قبيحا أو غير ممكن ، فلا شكّ في أنّ المراد من التكاليف والأحكام الحرجيّة - ولو كانت وضعيّة - هو أن يكون الحكم المجعول من طرف الشارع موجبا للضيق والعسر على النوع أو على الشخص ؛ لأنّه قد يكون العسر النوعي موجبا لرفع الحكم ولو كان بالنسبة إلى بعض الأشخاص غير حرجي ، فيكون الحرج من قبيل الحكمة لا العلّة. ولعلّه يكون من هذا القبيل رفع وجوب الغسل ووجوب التيمّم في قوله تعالى في آية التيمّم ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1) فاللّه تبارك وتعالى رفع وجوب الغسل وشرع التيمم ولو كان تحصيل الماء مع المشقّة ممكنا.

والحاصل : أنّه لا شكّ في دلالة هذه الآيات وهذه الروايات المستفيضة على عدم جعل الأحكام الحرجيّة في الدين الحنيف الإسلامي ، وقد ذكرنا قوله صلی اللّه علیه و آله : « بعث بالحنيفيّة السمحة السهلة ».

نعم هاهنا إشكال معروف ، وهو أنّه لا شكّ في وجود أحكام شاقّة في هذا الدين الحنيف ، كالجهاد وعدم جواز الفرار عن الزحف ، والصوم في شهر رمضان خصوصا في أيّام الصيف ، وأمثال ذلك من الأحكام التي هي شاقّة على نوع المكلّفين.

ولكن أنت خبير بأنّه ربما تكون مصلحة فعل ، أو ترك ، أو مصلحة إثبات حكم وضعي ، أو رفعه بمثابة من الأهميّة بحيث يكون عدم جعل ذلك الحكم التكليفي أو الوضعي خلاف اللطف والامتنان ، سواء أكانت تلك المصلحة شخصيّة أو نوعيّة ؛ لأنّ الشارع قد يلاحظ مصلحة النوع ولو لم تكن للشخص مصلحة أصلا أو لم تكن ملزمة ، ومع ذلك يكلّف الشخص بذلك الفعل مراعاتا وحفظا لمصلحتهم.

وبعبارة أخرى : رفع الأحكام الحرجيّة أو عدم جعلها ، يكون من باب الامتنان

ص: 254


1- البقرة (2) : 185.

واللطف ، فإذا كان الرفع وعدم الجعل خلاف الامتنان وخلاف المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة ، فلا بدّ وأن يجعل ذلك الحكم ولو كان فيه ضيق وعسر ، وإلاّ تفوت تلك المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة ، وهذا خلاف اللطف ؛ هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ وأن ينظر إلى ذلك الحكم الحرجي ، فإن كان حرجيّا لجميع المكلّفين ودائما وفي جميع الأوقات ، أو نوعيا وإن لم يكن حرجيّا في حقّ شرذمة قليلة من الناس ، فمن ذلك يستكشف أهميّة الملاك بحيث لم يرض الشارع بفعله أو بتركه وطلب الفعل ، كما في الجهاد والحج ، أو الترك كما في الصوم وإن كانا حرجيّين.

وأمّا إذا لم يكن حرجيّا إلاّ لبعض الأشخاص ، أو في بعض الأوقات ، أو في بعض الحالات ففي مثل هذه الموارد يتمسّك لرفعها بقاعدة نفي الحرج.

وبعبارة أخرى : الحكم المجعول بعنوان عامّ إذا كان بعض مصاديقها حرجيّا يرتفع عن تلك المصاديق بأدلّة نفي العسر والحرج ، مثلا الوضوء واجب للصلاة ، فإذا كان البرد شديدا قارصا وكان الوضوء في ذلك البرد حرجيّا يرتفع الوجوب بأدلّة نفي العسر والحرج. والمسح على للبشرة واجب ، فإذا كان حرجيّا بواسطة وضع المرارة عليها فيرتفع الوجوب. وعلى هذه المذكورات فقس ما سواها.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومضمونها

فنقول : مفادها مضمونها رفع الحكم الذي هو حرجي ، سواء أكان تكليفا أو وضعا ، فيكون مساقها مساق لا ضرر - بناء على ما حقّقنا في معناها - تبعا للشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) أنّ المرفوع والمنفي هو نفس الحكم الضرري ، لا أنّ النّفي بمعنى

ص: 255


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 534.

النهي ، كما أصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره (1) ولا أنّه من قبيل رفع الحكم برفع الموضوع ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره (2) ولا أنّ المنفي هو الضرر غير المتدارك ، كما ذهب إليه بعض.

والأمر هاهنا أوضح من تلك القاعدة ؛ لأنّه في هذه القاعدة صريح القرآن العظيم عدم جعل الأحكام الحرجيّة في قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3) بخلاف قاعدة لا ضرر ، فإنّ ظاهر الحديث الشريف هو نفي الضرر لا الحكم الضرري ، إلاّ بقرائن ذكرنا هناك.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدلّة نفي الحرج والضرر حكومة واقعيّة في جانب المحمول - أي الأحكام الأوّلية المحمولة على موضوعاتها - بالتضييق ، ولذلك تقدّم أدلّة نفي العسر والحرج كأدلّة الضرر على الأدلّة الأوّلية ولا تلاحظ النسبة بينهما ، كما هو شأن الحاكم والمحكوم.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ المراد من نفي العسر والضيق والحرج في هذا الدين الحنيف مقابل السعة والسهلة والسمحة أنّ اللّه تبارك وتعالى في هذا الدين - الذي هو عبارة عن مجموع الأحكام المتعلقة بأفعال المكلّفين أو الموضوعات الخارجيّة ، كبعض الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة والولاية والحرّية والرقيّة والزوجيّة وأمثال ذلك - لم يجعل حكما ينشأ من قبله الحرج والضيق والعسر ، بل هذا الدين والشريعة سمحة سهلة ، والناس أي المتدينين بهذا الدين في سعة من قبل أحكامه ؛ ولذلك قال علیه السلام : « إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالة ، وإنّ الدين أوسع من ذلك » (4).

وبهذا المعنى وردت روايات كثيرة فوق حدّ الاستفاضة.

ص: 256


1- « رسالة لا ضرر ولا ضرار » ص 24 - 27.
2- « كفاية الأصول » ص 381.
3- الحجّ (22) : 78.
4- تقدّم تخريجه في ص 252 ، رقم (3).

وليس المراد من نفي الحرج نفى الحكم بلسان نفى الموضوع ، كما قيل ذلك في لا ضرر ، وإن كان التحقيق خلافه حتّى هناك ، ولو كان لهذا التوهّم وجه هناك - أي في قاعدة لا ضرر - ولكن لا وجه له هاهنا أصلا ؛ لأنّ ذلك مفاد الآية الشريفة ابتداء وأوّلا وبالذات نفى جعل الحرج في الدين ، ولا شكّ في أنّ المراد بالجعل الذي نفاه اللّه تبارك وتعالى هو الجعل التشريعي لا الجعل التكويني ، والمراد من الدين هي الأحكام المجعولة من قبل الشارع المسمّاة بالأحكام الفقهيّة من الطهارات إلى الديات ، فلا يبقى شكّ في أنّ المنفي هو نفس الحكم الذي ينشأ من قبله الضيق والحرج ، لا أنّه تعالى ينفى الحكم الحرجي بلسان نفى موضوع ، ذلك الحكم ، أي الموضوع الذي هو حرجي أي الوضوء في البرد الشديد مثلا ، أو المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة إذا كان نزعها صعبا.

والثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

ومواردها كثيرة لا يمكن إحصاؤها ؛ لأنّ أغلب الأحكام الإلزاميّة سواء أكانت من الواجبات أو من المحرّمات قد يصير في بعض الأحيان حرجيّا ، فتكون تلك الأحكام الحرجيّة مشمولة لقاعدة لا حرج. وقد أشرنا إلى موردين منها أحدهما : الوضوء في البرد الشديد. والثاني : المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة لوقوعه وانقطاع ظفره.

ونذكر جملة أخرى :

منها : فيما إذا اغتسل من الجنابة من إناء ، وينضح من ماء غسله بواسطة وقوعه على الحجر الصلب أو صلب آخر في الإناء ، فقال علیه السلام : « لا بأس ما جعل عليكم في

ص: 257

الدين من حرج » (1). وجريان القاعدة في هذا المقام مبتن على عدم جواز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر حتّى بالنسبة إلى تلك القطرات التي تنضح في الإناء من ماء غسله.

ومنها : فيما إذا كان الاحتياط بالجمع بين المحتملات فعلا أو تركا حرجيا ، فيرتفع وجوبه بهذه القاعدة. وعلى هذا بنى صاحب الكفاية قدس سره في جواز ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة التحريميّة وفي جواز ترك بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة الوجوبيّة. (2)

وبعبارة أخرى : جواز المخالفة الاحتماليّة أو القطعيّة في الشبهة غير المحصورة ، وعدم وجوب الاحتياط فيها مستندا إلى هذه القاعدة. وقال بأنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن يكون الاحتياط في أطرافها موجبا للعسر والحرج ، فيما إذا كان عسر الاحتياط ناشئا من كثرة الأطراف.

وإلى هذا يرجع ما ذكره في مقدّمات دليل الانسداد وإنكار وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات بإتيان مظنون الوجوب - مشكوكه وموهومة - وترك مظنون الحرمة ومشكوكها وموهومها بأنّ هذا الاحتياط يوجب العسر والحرج بل اختلال النظام فبواسطة هذه القاعدة أنكروا وجوب الاحتياط.

وقد أورد هاهنا على الاستدلال بهذه القاعدة لرفع وجوب الاحتياط والجمع بين المحتملات بحكم العقل ، من باب لزوم القطع بالامتثال إمّا وجدانا وأمّا تعبدا ، واليقين بفراغ الذمّة ومفاد قاعدة الحرج كما بيّنا هو رفع الحكم الشرعي إذا كان حرجيّا لا الأحكام العقليّة.

ولكن أجبنا عن هذا الإشكال في محلّه أنّه بناء على ما اخترنا في مفاد القاعدة

ص: 258


1- تقدّم تخريجه في ص 252 ، رقم (1).
2- « كفاية الأصول » ص 359.

من أنّه عبارة عن رفع كلّ حكم شرعي يكون منشأ للحرج والعسر والضيق ، ولا شكّ في أنّ العسر والحرج الذي في الاحتياط آتية من قبل تلك الأحكام الواقعيّة المجهولة وإن كان الاحتياط بحكم العقل.

نعم لو قلنا بأنّ مفاد هذه القاعدة رفع الحكم الحرجي برفع موضوعه ، فلا مدفع لهذا الإشكال ؛ لأنّه ليس للاحتياط حكم شرعي حتّى يرتفع برفع موضوعه.

وهذه هي الثمرة بين القولين ، أي القول بأنّ مفاد لا ضرر ولا حرج رفع الحكم بلسان رفع موضوعه ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره أو رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر والحرج ، كما اخترناه فبناء على الوجه الأوّل لا حكومة لأدلّة نفى العسر والحرج على الاحتياط العقلي في أطراف العلم الإجمالي إذا كان موجبا للعسر والحرج ، وأمّا بناء على الوجه الثاني فحيث أنّ الحرج والعسر بالآخرة ينتهيان إلى الحكم الشرعي وإن كان من جهة الجمع بين محتملاته بحكم العقل ، فيكون مشمولا للقاعدة.

وهذا هو الذي قلنا إنّ الثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة.

ثمَّ إنّ هاهنا أمران يجب التنبيه عليهما

[ الأمر ] الأوّل : إنّه لو تحمّل المكلّف باختيار نفسه الحرج والمشقة ، وأتى بالعبادة التي فيها المشقّة ، سواء كان تمام العبادة أو جزؤها أو شرطها أو مانعها ، مثلا في البرد الشديد توضّأ أو في الحرّ الشديد في الصيف مع أنّ النهار طويل صام مع أنّه مجبور بالعمل في الشمس ، أو في البرد الشديد نزع اللباس من غير المأكول وأمثال ذلك هل تكون عبادته صحيحة ، أم لا ، بل تكون باطلة ؛ لأنّ في الأوّل كانت وظيفته التيمّم ، وفي الثاني كانت وظيفته الإفطار ، وفي الثالث كانت وظيفته الصلاة مع غير المأكول أو الحرير أو الذهب مثلا أو غيرها من الموانع؟

ص: 259

ذهب شيخنا الأستاذ قدس سره إلى بطلان العبادة وقال : كما أنّ الوضوء والغسل والصوم والصلاة مع نزع غير المأكول أو نزع الحرير إذا كانت ضرريّة تبطل ، فكذلك فيما إذا كانت هذه المذكورات حرجيّة. وذلك من جهة أنّ مساق القاعدتين - أي قاعدة الضرر وقاعدة الحرج - واحد ، إذ في موارد كلتيهما يكون الحكم الواقعي مرفوعا بالمرّة ؛ لأنّ نتيجة حكومتهما على الأدلة الأحكام الواقعيّة هو تخصيصها بغير موارد الضرر والحرج ، كما هو الحال في جميع موارد الحكومة الواقعيّة ، فكأنّ الحكم الواقعي يصير نوعين ، النوع الضرري والحرجي يرتفعان عن عالم التشريع بالمرّة ، والنوع الآخر الذي ليس بضرري ولا هو حرجي يبقى على حاله.

وبعبارة أخرى : العمومات والإطلاقات الأوّلية لو لا هاتان القاعدتان كانت تشمل هذه الموارد أيضا - أي موارد كونها ضرريّا أو حرجيّا - كسائر الموارد التي ليست كذلك ، ولكن أدلّة هاتين القاعدتين تخصّص العمومات الأوّلية تخصيصا واقعيّا ، وكذلك تقيّد الإطلاقات الأوّلية تقييدا واقعيّا ، فتكون موارد هاتين القاعدتين خارجة عن تحت حكم تلك العمومات والإطلاقات حقيقة وواقعا ، لا عن تحت موضوعها حتّى تكونان واردتين على الأدلّة الأوّلية ، فتكون العبادة أو جزؤها أو شرطها كأن لم يكن تعلّق بها أمر ولم تكن عبادة إذا كانت حرجيّة ، كما هي كذلك لو كانت ضرريّة ، فالإتيان بها عبادة تشريع محرم.

وفيه : أنّ قياس باب الحرج بباب الضرر في غير محلّه ؛ لأنّ الضرر موجب لحرمة الفعل الضرري ، فارتكاب الفعل الذي فيه الضرر لا يجوز ، فلا يجتمع مع العبادة التي يجب الإتيان بها مقرّبا.

وبعبارة أخرى : الفعل الذي ضرري مبعد ، ولا يمكن أن يكون المبعد مقرّبا ، ولا يطاع اللّه من حيث يعصى وإن كان هذا الكلام - أي كون الفعل الضرري مبعدا وحراما بجميع مراتبه حتى الضرر الخفيف - لا يخلو من نظر. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ تلك المرتبة التي ليست محرّمة ومبعدة لا يرفع الحكم الشرعي الإلزامي ، فلا يرتفع بها

ص: 260

وجوب الغسل أو التيمّم ، وليس ببعيد فهو خارج عن محلّ الكلام لأنّ كلامنا الآن في الضرر الذي يرتفع به الحكم الشرعي الإلزامي ؛ هذا في باب الضرر.

وأمّا باب الحرج فليس كذلك ، أي ارتكاب الفعل الحرجي لا حرمة فيه فليس بمبعد ، فقياس أحدهما بالآخر لا وجه له ؛ لأنّ مناط البطلان في العبادة الضرريّة كالوضوء أو الغسل الضرريين ليس في العبادة الحرجيّة ، بل العبادة الحرجيّة التي يأتي بها مع المشقّة تكون آكد في العبوديّة ، ولعلّه يشير إلى هذا الحديث المشهور أنّ « أفضل العبادات أحمزها » (1) أي أشدّها ، ولا شكّ في أنّ تحمّل المشاقّ في سبيل امتثال أوامر المولى ونواهيه ممدوح عند العقل والعقلاء ، إلاّ أن يكون المولى نهى عن تحمّله وإيقاع نفسه في المشقّة ، فحينئذ يكون عاصيا ويكون حاله حال الفعل الضرري ويكون خارجا عن مفروض الكلام ؛ لأنّ كلامنا في ما إذا كان الحرج موجبا لرفع الحكم الإلزامي إذا كان حرجيّا ، لا فيما إذا كان الفعل الحرجي منهيا كما أنّ الفعل الضرري يكون منهيّا.

والحاصل : أنّ قاعدة الحرج وكذلك قاعدة الضرر حكم امتناني ، غاية الأمر أنّ الفعل الضرر حرام بدليل آخر لا ربط له بالقاعدة ، بخلاف قاعدة الحرج فإنّه ليس هناك دليل آخر يدلّ على حرمة ارتكاب الفعل الحرجي.

وهذا هو السرّ في فتوى المشهور ببطلان الوضوء والغسل الضرري دون الحرجي منهما.

وأمّا الإشكال على صحّة العبادات الحرجيّة بأنّ الحرج يرتفع به الأمر كما هو مفاد هذه القاعدة ، فيكون إتيانها بقصد الأمر تشريعا محرّما.

ففيه : أنّ قصد الملاك كاف في عدم كونه تشريعا محرّما ، كما أنّه في باب الواجبين

ص: 261


1- راجع : « بحار الأنوار » ج 67 ، ص 191 ، باب النيّة وشرائطها ومراتبها ، ذيل ح 2 ، وص 237 ، باب الإخلاص معنى قربه تعالى ، ذيل ح 6.

الضدّين الذي أحدهما أهمّ يسقط أمر المهمّ ، ومع ذلك أو عصى امتثال أمر الأهمّ وأتى بالمهمّ ، فالتحقيق صحّة عبادته ؛ لكفاية الملاك في التقرّب بها ولا يحتاج إلى الأمر ؛ ففيما نحن أيضا كذلك.

إن قلت : إنّ هناك - أي في باب الواجبين المتزاحمين الضدّين الذي أحدهما أهمّ ملاكا - نعلم بوجود الملاك مع سقوط الأمر ؛ لأنّ سقوط الأمر هناك من باب عدم القدرة ، والقدرة العقليّة نعلم بعدم دخلها في الملاك ، فدليل وجوب ذلك الواجب المهمّ كما أنّه دالّ على وجوبه كذلك دالّ على وجود الملاك فيه ، والوجوب والأمر سقط بواسطة عدم القدرة ، وأمّا الدليل على وجود الملاك فباق بحاله.

قلنا : فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فإنّ المرفوع هو الإلزام من باب الامتنان لا الملاك ؛ لأنّه لا امتنان في رفع الملاك ، بل رفعه يكون خلاف الامتنان ، بل لا يمكن رفعه في عالم التشريع ؛ لأنّه أمر تكويني ورفعه لا بدّ وأن يكون بأسبابه التكوينيّة ، لا بمثل لا حرج ولا ضرر ، بناء على ما هو التحقيق من أنّ مفادهما رفع الحكم الشرعي ، بل ولو على القول بكون مفادهما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وأمّا ما يقال : من عدم الدليل على وجود الملاك بعد عدم الأمر وارتفاعه بواسطة الحرج ؛ لأنّ الملاك كان يستكشف من الأمر ، فإذا سقط الأمر فليس هناك دليل كاشف عن وجوده.

ففيه : أنّ الإطلاقات وعمومات الأدلّة الأوّلية كانت دليلا على أمرين : أحدهما الوجوب ، والآخر هو الملاك. ودلالتها على الوجوب سقط عن الاعتبار بواسطة حكومة هذه القاعدة عليها ، وأمّا دلالتها على وجود الملاك فباق على حاله.

لا يقال : بأنّ ظهور الإطلاقات والعمومات الأوّليّة في وجود الملاك حتّى في حال كون تلك الأحكام حرجيّة ملازم مع ظهورها في الوجوب ، فإذا سقط ظهورها في الوجوب عن الاعتبار بواسطة هذه فيسقط ظهورها في وجود الملاك أيضا عن

ص: 262

الاعتبار.

ففيه : أنّ التفكيك بين المتلازمين في الحجيّة لا مانع منه كما ، أنّه في الخبرين المتعارضين كلّ واحد منهما يسقط دلالته المطابقيّة عن الاعتبار بواسطة المعارضة ، فكلّ واحد منهما ليس حجّة في مدلوله المطابقي - أي مؤدّاه - ولكن كلاهما معتبران في مدلولهما الإلزامي ، أي نفي الحكم الثالث الذي هو خلاف مؤدّى كلّ واحد منهما.

وأمّا ما يقال : من أنّ لازم عدم بطلان الوضوء أو الغسل مع كونهما حرجيّين أن يكون مخيّرا بين الوضوء أو الغسل وبين التيمم في حال كونهما حرجيّين ، وهذا معلوم العدم ؛ لأنّ التفصيل قاطع للشركة ، فإنّ قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) (1) علّق التيمّم على عدم وجود الماء ، وعند الوجدان بمعنى التمكّن من استعماله لا محلّ للتيمّم ، بل إمّا الوضوء أو الغسل ، كلّ في محلّه ، كما أنّه عند عدم الوجدان يتعيّن عليه التيمّم ولا محلّ للوضوء ولا للغسل ، وحيث أنّهما نقيضان فلا ثالث غيرهما ، وإلاّ يلزم إمّا اجتماع النقيضين وإمّا ارتفاع النقيضين ، بمعنى أنّه لو كان محلّ الاثنين - أي الوضوء مثلا والتيمم - جمعا أو تخييرا يلزم اجتماع النقيضين ، وإن لم يكن الاثنين فيلزم ارتفاع النقيضين ، فلا بدّ وأن يكون الواجب عند القيام إلى الصلاة أحدهما المعيّن لا التخيير بينهما.

وفيه : أنّه من الممكن أن يكون في مقام الثبوت عدم وجدان الماء عند القيام للصلاة بمعنى عدم التمكّن من استعماله عقلا أو شرعا علّة منحصرة لوجوب التيمّم ، وأمّا مع التمكّن وعدم مانع شرعي أو عقلي فإن لم يكن استعماله شاقّا وحرجيّا فيجب الوضوء أو الغسل كلّ في محلّه ومورده. وأمّا إن كان شاقّا وحرجيّا فيكون مخيرا بين التيمم وبين الطهارة المائيّة أي الوضوء أو الغسل كلّ في محلّه ومورده.

وأمّا في مقام الإثبات فلو لم تكن هذه القاعدة في البين ، كان مقتضى ظاهر الآية

ص: 263


1- النساء (4) : 43.

أنّه عند عدم الوجدان وظيفته التيمّم ، وعند الوجدان الوضوء أو الغسل ، ولكن بعد ورود الدليل على عدم جعل الحكم الحرجي وعلمنا أنّه تعالى في مقام الامتنان ، فلا بدّ وأن يكون المرفوع هو الوجوب والإلزام لا الصحّة ؛ لأنّ رفع الصحّة خلاف الامتنان ، فبمقتضى رفعه لا بدّ وأن يكون التيمّم صحيحا.

ومن طرف آخر حيث أنّ الطهارة المائيّة أيضا صحيحة ؛ لأنّ المرفوع هو الإلزام لا الصحّة ، فيكون مخيّرا بين الطهارة المائيّة وبين الطهارة الترابيّة.

وبعد التأمّل فيما ذكرنا نعرف أنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في حاشيته على العروة في هذا المقام من ادّعاء القطع بعدم التخيير بين الطهارتين لا يخلو من غرابة.

والحقّ في المقام هو صحّة الوضوء والغسل الحرجيّين ما لم يصل إلى حد الضرر المحرّم ، وإن كان الاحتياط بالجمع بينهما حسن ، بمعنى أنّه لو توضّأ أو اغتسل وتحمّل الحرج والمشقّة لا يترك التيمّم وأمّا لو تيمّم فلا يحتاج إلى الطهارة المائيّة قطعا.

الأمر الثاني : في أنّ هذه القاعدة هل هي حاكمة على جميع العمومات وإطلاقات أدلّة الأحكام الإلزاميّة ، سواء كانت تلك الأحكام من الواجبات أو كانت من المحرّمات؟ وعلى تقدير كونها شاملة للمحرّمات أيضا كالواجبات ، فهل تختصّ حكومتها على أدلّة محرّمات الصغائر أو يشمل الكبائر أيضا؟

فنقول : ظاهر الآية الشريفة - التي هي أساس قاعدة نفي العسر والحرج ، واستشهد الإمام علیه السلام في موارد عديدة بها ، وجعلها كبرى كلّية طبّقها على صغرياتها المتعدّدة في أبواب مختلفة ، أعني قوله تبارك وتعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) - هو العموم لكلّ حكم شرعي حرجي ، سواء كان من الواجبات أو من المحرّمات ، وسواء كانت المحرّمات صغيرة أو كبيرة ، ولكن الظاهر أنّ بناء الفقهاء والأصحاب - رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين - ليس على العمل بذلك العموم والأخذ به ، خصوصا إذا كان المراد من الحرج والضيق العرفي الذي أخذ

ص: 264

موضوعا للرفع في الآية الشريفة هو الحرج الشخصي لا النوعي ، كما هو كذلك ؛ لأنّه ليس في أغلب المحرّمات الكبيرة كالزناء بذات البعل وأمثاله إلاّ ويكون تركها لبعض الأشخاص حرجيّا ، ولا شكّ في أنّ الفقيه لا يرضى من نفسه أن يفتي بجواز ارتكاب ذلك المحرّم.

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ هذا الحكم - أي رفع الحكم الحرجي - من اللطف والامتنان على العباد ، وإيقاع المكلّف في المفسدة العظيمة المترتّبة على ذلك المحرّم والذنب الكبير برفع الإلزام عنه خلاف اللطف والامتنان.

مثلا الشخص الذي له عطف ورأفة على ولده الوحيد العزيز عنده ، يأمره بما فيها المصالح له ، وينهاه عن الأفعال التي فيها مفاسد على اختلاف تلك المصالح والمفاسد خفّة وشدّة ، وقلّة وكثرة ، وصغرا وكبرا ، كلّ تلك الأوامر والنواهي من باب اللطف والشفقة عليه ، حتّى أنّ إعمال المولويّة والوعد على الامتثال ، والوعيد على العصيان كلّ ذلك من باب اللطف والإحسان إليه ، لأنّ لا يفوت منه المصالح ، ولا يقع في المفاسد خصوصا إذا كانت المفاسد عظيمة.

فاذا قال لذلك الولد : التكاليف التي وجّهتها إليك إذا كان العمل على طبقها وامتثالها شاقّا عليك وتقع في الضيق من ناحية العمل بها والجري على وفقها ، فهي مرفوعة عنك ولا تضيق على نفسك وأنت في سعة. وعلمنا أنّ صدور هذا الكلام من ذلك الولد الرؤوف من باب اللطف والامتنان على ذلك الولد ، فهل نفهم منه أنّه رخصة في كلّ ما فيه مفسدة عظيمة ، أو ترك كلّ ما فيه مصلحة ملزمة عظيمة؟! كلاّ ، ثمَّ كلاّ.

فاللازم على الفقيه في مقام إجراء هذه القاعدة أن يعمل النظر ، ويهتمّ غاية الاهتمام بأن يكون المورد ممّا لا يرضى الشارع بتركه ولو كان الفعل حرجيّا شاقّا على المكلّف ، كالواجبات التي بني الإسلام عليها ، كالصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ،

ص: 265

والحج وأمثالها ممّا لا يرضى الشارع بتركها على كلّ حال. وكذلك لا يكون ممّا لا يرضى بفعله لاشتماله على المفسدة العظيمة ، كقتل النفس المحرّمة ، والزنا بذات البعل ، واللواط ، والفرار عين الزحف وارتكاب المعاملة الربويّة ، والقمار ، وشرب الخمر ، وسائر المحرّمات الكبيرة التي مذكورة في الفقه في أبواب ذكر العدالة فيها ، عصمنا اللّه من الزلل والخطأ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهرا وباطنا.

ص: 266

10 - قاعدة الغرور

اشارة

ص: 267

ص: 268

قاعدة الغرور (1)

ومن القواعد المعروفة المشهورة في أبواب الضمانات « قاعدة الغرور ».

وهي عبارة عند الفقهاء عن صدور فعل عنه أوجب الضرر عليه بواسطة انخداعه عن آخر ولو يكن ذلك الآخر قاصدا لانخداعه ، بل هو أيضا كان مخدوعا أو كان جاهلا ومشتبها.

وعلى كلّ حال يشترط في كونه مغرورا أن يكون جاهلا بترتّب الضرر على فعله بحيث لا يتدارك ؛ لأنّه من الممكن أن يكون مغرورا مع علمه يترتّب الضرر على فعله للقطع بتداركه هذا ، ولكن خدع في أن هذا الضرر يتدارك ويتعقّب بنفع كثير ، فحكموا برجوع المغرور بالمعنى المذكور إلى من غرّه وخدعه ولو كان الغارّ جاهلا بأنّ فعله صار سببا لانخداع المغرور ؛ وذلك لأنّه لا يشترط في صدق عناوين الأفعال أن يكون الفاعل قاصدا لتلك العناوين ، فالذي قام أو قعد مثلا ولو غفلة من دون قصد إلى عنوان القيام والقعود يصدق عليه أنّه قام أو قعد ؛ فالذي أوقع شخصا في ارتكاب فعل يترتّب عليه الضرر مع جهله بحقيقة الحال بل أو همه أنّه ينتفع بهذا الفعل ،

ص: 269


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 61 و 137 ؛ « الحق المبين » ص 87 و 92 ؛ « عوائد الأيّام » ص 28 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 47 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 17 : « قواعد فقه » ص 93 ؛ « القواعد » ص 183 ؛ « قواعد فقه » ص 71 ؛ « قواعد فقهية » ص 67 و 81 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 284 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 261 ؛ « قاعدة غرور وتتبع كاربرد آن در فقه وقانون مدني » نوشين چترچى ، ماجستير مدرسة الشهيد مطهّرى العالية ؛ « قاعدة غرور وموارد استناد به آن در مذاهب خمسه إسلامي » حسين طالبي ، ماجستير ، جامعة طهران ، 1358 ؛ « قاعدة غرور وكاربرد آن در فقه وقانون مدني » نوشين چترچى ، مجلة « رهنمون » العدد 7 ؛ « دو قاعدة فقهي ( الغرور وأصالة الصحة ) » مجلّة « حق » فصليّة ، العدد 10 ، العام 1366 ؛ « در غرور ودليل آن » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلة « كانون وكلاء » ، العام 2 ، العدد 11.

فيصدق عليه أنّه غرّه وخدعه وإن لم يكن قاصدا لخدعه ، بل ولو لم يدر أنّه خدعة.

فالفاعل المباشر الذي صدر منه الفعل الذي يترتّب عليه الضرر مع جهله - أي أو همه غيره - بأنّه لا يترتّب عليه الضرر بل ينتفع به يسمّى بالمغرور. والذي أوهمه أنّه ليس في هذا الفعل ضرر بل فيه نفع ، هو يسمّى بالغار.

ومعنى رجوع المغرور إلى الغارّ هو أنّ المغرور له أن يغرم الغارّ ويأخذ منه مقدار ما تضرر.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : إنّ في هذه القاعدة جهات من الكلام :

الجهة الأولى : في مستندها

وهو أمور :

الأوّل : النبوي المشهور بين الفريقين ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « المغرور يرجع إلى من غرّه » كما حكي عن المحقّق الثاني قدس سره في حاشية الإرشاد وعن نهاية ابن الأثير. (1)

ودلالة هذه الجملة على المقصود في المقام - أي رجوع المغرور إلى الغارّ فيما تضرّر من ناحية تغريره إيّاه - واضح لا يحتاج إلى شرح وإيضاح ؛ إذ لا معنى لرجوع المغرور إلى الغارّ في المتفاهم العرفي إلاّ هذا المعنى ، أي يكون له أخذ ما تضرّر من الغارّ.

والعمدة إثبات سندها ، وقد ادّعى بعضهم عدم وجودها في كتب الحديث ، وإن كان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، لكن صرف احتمال الوجود لا أثر له.

ص: 270


1- « النهاية » ج 3 ، ص 356.

نعم لو كانت هذه الجملة في كتب الحديث ولو بعنوان الإرسال ، أو كان ذكرها أحد الفقهاء في كتابه مرسلة - كما أنّ صاحب الجواهر قال في كتاب الغصب : « بل لعلّ قوله علیه السلام : المغرور يرجع إلى من غرّه ظاهر في ذلك » (1). والظاهر أنّه اشتباه منه ، واعتمد قدس سره على ما هو المعروف ، لا أنّه ينقل الحديث عن كتاب أو عن إسناد - لما كان شكّ في حجّيته ؛ لما ذكرنا في كتابنا « منتهي الأصول » (2) من أنّ مدار الحجّية في الخبر هو كونه موثوق الصدور ، والوثوق بالصدور كما يحصل من عدالة الراوي أو وثاقته وإن لم يكن عادلا بل كان منحرفا عن الحقّ ، كذلك يحصل من عمل الأصحاب به ، بل من فتوى مشهور القدماء على طبقه وإن لم يستندوا إليه.

ولكن مع ذلك يحتاج إلى نقله بعنوان الحديث والرواية ، كي بواسطة عمل الأصحاب على طبق مضمونه يحصل الوثوق بصدوره ، فيكون موضوعا للحجيّة.

وأمّا ادّعاء كون هذه الجملة معقد الإجماع لما ذكروها وأرسلوها إرسال المسلمات ، فهذا إن صحّ يرجع إلى الاستدلال بالإجماع ، وسنتكلّم فيه إن شاء اللّه.

الثاني : بناء العقلاء ، بمعنى أنّ العقلاء في معاملاتهم وسائر أعمالهم إذا تضرّروا بواسطة تغرير الغير إيّاهم ، يرجعون فيما تضرّروا إلى الغارّ ، ويأخذون منه مقدار الضرر الذي صار سببا لوقوع المغرور فيه ، وسائر العقلاء لا يستنكرون هذا المعنى بل يغرمون الغارّ ، وهذا أمر دائر شائع بينهم من دون نكير لأحد منهم.

وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه الذي ذكروها في هذا الباب.

إن قلت : إنّ بناء العقلاء يحتاج في حجّيته إلى الإمضاء.

قلنا : أوّلا عدم الردع يكفي في الإمضاء ، ولم يثبت ردع من طرف الشارع ، وثانيا : اتّفاقهم على الاستدلال بهذه القاعدة في موارد متعدّدة من دون اعتراض من أحدهم

ص: 271


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 145.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 111.

على هذا الاستدلال ، يكشف كشفا قطعيّا عن إمضاء الشارع لهذه الطريقة والبناء.

الثالث : الإجماع على رجوع المغرور إلى الغارّ بمقدار الضرر الذي أوقعه الغارّ فيه. ولا خلاف بينهم في ذلك ، وإن كان خلاف ففي بعض موارد تطبيق القاعدة على صغرياتها من دون تشكيك في أصل الكبرى. مثلا ربما يقع الخلاف في أنّه إذا كان الغارّ جاهلا ومشتبها ، مثلا مدح بنتا بأنّها جميلة ولها ثروة كثيرة ولكن باعتقاد أنّها كذلك لسماعة من الناس في حقّها وتصديقه إياهم مع أنّها ليست كذلك ، فاغترّ المغرور بمدحه وبذل لها مهرا كثيرا للطمع في مالها وجمالها ، فظهر أنّها ليست كذلك ، فهل في مثل هذا المورد يصدق الغارّ على الذي أوقعه في هذه الخسارة أم لا؟

وأنت خبير بأنّ هذا الخلاف لا دخل له في إنكار الكبرى فالإنصاف أنّ الفقيه المتتبّع في موارد تطبيق هذه القاعدة لا يجد بدّا إلاّ من تصديق تحقّق هذا الإجماع ووجوده ، ولكن حيث أنّه من المحتمل القريب أن يكون المتّفقون معتمدين على تلك الرواية المشهورة وإن كان مدركهم غير صحيح عند جماعة أخرى الذين ينكرون وجود تلك الرواية ، أو كانوا معتمدين على مدرك آخر وعلى هذه الاحتمالات ، فلا يكون من الإجماع المصطلح في الأصول الذي بنينا على حجّيته.

الرابع : هو أنّ الغارّ أتلف ذلك المقدار الذي خسر المغرور وتضرّر ، من جهة أنّه كان سببا لوقوع المغرور في هذه الخسارة. والسبب ها هنا أقوى من المباشر ؛ لأنّ المباشر جاهل مغرور ومخدوع ، فيكون المباشر بمنزلة آلة لتلف ذلك المقدار من المال ، فبناء على هذا ليست قاعدة الغرور قاعدة مستقلّة ، بل تكون من صغريات قاعدة التلف ، فيكون الدليل على قاعدة التلف دليلا على هذه القاعدة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الوجه لا صغرى له ولا كبرى.

أمّا عدم الصغرى ، فمن جهة أنّ المراد من كون الغارّ سببا لو كان أن تغريره علّة تامّة لوقوع المغرور في هذا الضرر ، أو هو يكون جزء الأخير من العلّة التامّة ، فقطعا

ص: 272

ليس كذلك ؛ لأنّ الجزء الأخير والعلّة لوقوعه في هذا الضرر هو إرادة نفسه لا تغرير الغارّ. وإن كان المراد من كونه - أي الغارّ - سببا أي تغريره معدّ من معدّات وجود هذا الضرر ، فهذا وإن كان حقّا ولكن مثل هذا المعنى لا ينبغي أن يتخيل أو يتفوّه به أحد ، لأنّه معدّات كثيرة تكون لوقوع هذا الضرر ؛ فلا وجه للرجوع إلى الغارّ وحدة وتغريمه ، مع اشتراك غيره معه في المعدّية ، بل يكون نسبة التلف إلى بعض المعدّات من المضحكات.

وأمّا عدم الكبرى ، فمن جهة أن هذا الكلام أي كون السبب ها هنا أقوى من المباشر ممنوع ، وإن سلّمنا كونه سببا ؛ لأنّ المناط في أقوائيّة السبب من المباشر هو أن لا يتوسّط بين الفعل والسبب إرادة واختيار ، وإلاّ يكون الفعل مستندا إلى الفاعل المختار ، وهو يثاب أو يعاقب على الفعل لا الذي غرره وأغواه.

ولعلّه إلى هذا يشير قوله تعالى حكاية عن قول الشيطان ( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (1) اللّهمّ إلاّ أن يقال : هذا فيما إذا لم يكن الفاعل المختار جاهلا بالضرر المترتّب على فعله ، أمّا لو كان جاهلا بالمفسدة والضرر المترتّب على ذلك الفعل ، كما أنّه لو وصف شخص دواء سامّة بأنّه نافع وله آثار كذا وكذا ، وغرّره على شرب تلك الدواء ، فالسبب ها هنا أقوى من المباشر وإن كان الفعل صادرا عن الفاعل المختار.

ولعلّه من هذه الجهة يقال بأنّ الطبيب ضامن وإن كان حاذقا ، بل يمكن أن يقال بأنّه يقاد لو كان عالما بأنّها سامّة ومع ذلك غرّر المريض لشربها. وفي قضيّة الشيطان عدوّ اللّه وعدوّ الناس أيضا يثاب أو يعاقب الناس بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب وهدايتهم إلى سواء السبيل لكي لا تكون لهم الحجة على اللّه بل له الحجة البالغة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة.

ص: 273


1- إبراهيم (14) : 22.

ولعلّه لهذه الجهة اختار شيخنا الأعظم قدس سره هذا الوجه مدركا لرجوع المغرور إلى الغارّ فيما إذا كان المشتري عن الفضولي جاهلا بأنّ البائع فضولي وليس بمالك فتضرّر (1).

الخامس : الأدلّة الواردة في الموارد الخاصّة الدالّة على رجوع المغرور إلى الغارّ في مقدار الضرر الذي أوقعه فيه بواسطة تغريره له ، مثل الروايات الواردة في تدليس الزوجة الدالّة على رجوع الزوج بالمهر على المدلّس ، معلّلة بقوله علیه السلام « لأنّه دلّسها » في خبر رفاعة : « وإن المهر على الذي زوّجها وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها » (2) فجعل علیه السلام مناط الرجوع وعلّته تدليسه لها ، أي خدع الزوج بتدليسه إيّاها وإرائتها على خلاف الواقع ، فمقتضى عموم التعليل رجوع كلّ من خدع وتضرّر إلى الذي خدعه.

وصحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام في الرجل الذي يتزوّج إلى قوم ، فإذن امرأته عوراء ولم يبينوا له ، قال : « لا ترد ، إنّما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل ». قلت : أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال علیه السلام : « لها المهر بما استحلّ من فرجها ، ويغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها ». (3)

ففي هذه الصحيحة وإن لم يذكر سبب ضمان الولي لما ساقه إلى زوجته العوراء ، ولكن يفهم منها من لفظة « يغرم » وأنّه يدلّ حسب المتفاهم العرفي منه تدارك الضرر الذي أوقع الزوج فيه.

وأيضا صحيح الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل ولّته امرأته أمرها ، وذات

ص: 274


1- « المكاسب » ص 146.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 407 ، باب المدالسة في النكاح وما ترد منه المرأة ، ح 9 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 424 ، ح 1697 ، باب التدليس في النكاح ، ح 8 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 245 ، ح 878 ، باب حكم المحدودة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 596 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 2 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 406 ، باب المدالسة في النكاح وما ترد منه المرأة ، ح 6 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 433 ، باب ما يرد منه النكاح ، ح 4498 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 426 ، ح 1701 ، باب التدليس في النكاح ، ح 12 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 247 ، ح 886 ، باب العيوب الموجبة للردّ ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 593 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 1 ، ح 6.

قرابة أو جارة له لا يعرف دخيلة أمرها ، فوجدها قد داست عيبا هو بها ، قال : « يؤخذ المهر منها ، ولا يكون على الذي زوّجها شي ء » (1).

فجعل علیه السلام رجوع الزوج إلى نفس الزوجة التي دلّست وغررت الزوج بستر عيبها.

وخبر محمّد ابن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال في كتاب عليّ علیه السلام : « من زوّج امرأة فيها عيب دلّسته ولم يبيّن ذلك لزوجها ، فإنّه يكون لها الصداق بما استحلّ من فرجها ، ويكون الذي ساق الرجل إليها على الذي زوّجها ولم يبيّن » (2).

فبمحض السكوت وعدم بيان العيب حكم بالرجوع إلى الذي زوجها ، فضلا عمّا إذا أظهر عدم العيب وأخبر بسلامتها وصحتها وعدم كلّ شين.

وهذه الأخبار وإن كانت ظاهرة في رجوع الزوج المغرور الجاهل بعيب زوجته إلى الذي غرّه وستر العيب ولم يبيّن ، سواء أكانت هي المدلّسة الساترة للعيب ، أو كان هو الولي على التزويج شرعا أو عرفا ولو كانت الولاية على التزويج بتوليتها إيّاه.

والمراد بولي التزويج ليس هو المباشر لإجراء الصيغة وكالة عنها في خصوص إجراء هذا الأمر أي الصيغة فقط ، بل المراد من يكون أمر التزويج بيده شرعا أو عرفا ، بحيث ينسب التزويج إليه ولو عرفا ، فيكون هو الغارّ. ولكن لا عموم لها بحيث تكون دليلا على جواز رجوع كلّ مغرور إلى من غرّه في أيّ موضوع وأيّة معاملة ؛ لأنّها وردت في رجوع الزوج المغرور إلى زوجته المدلّسة ، أو الذي زوّجها وسكت عن بيان عيبها.

وإلقاء الخصوصيّة واستنباط الحكم الكلّي شبه قياس. نعم في رواية رفاعة كان

ص: 275


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 87 ، باب الوكالة ، ح 3386 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 597 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 2 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 432 ، ح 1723 ، باب التدليس في النكاح ، ح 34 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 597 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 2 ، ح 7.

الحكم معلّلا بقوله علیه السلام « لأنّه دلّسها » فحكم برجوع الزوج على الذي زوّجها بعلّة تدليسه إيّاها ، أي ستر عيوبها عن زوجها ، فيمكن أن يقال بكون الحكم دائرا مدار هذه العلّة ، أي الرجوع دائر مدار التدليس والتغرير.

ولكن مع ذلك استظهار العموم منها لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ صرف سكوت المتولّي للتزويج من ذكر العيب الذي فيها يكون تغريرا موجبا للضمان بعيد جدا ، خصوصا إذا كان المتولّي للتزويج جاهلا بذلك العيب.

وسنذكر في الجهة الآتية أنّه لا فرق في مفاد القاعدة بين أن يكون الغارّ جاهلا يترتّب الضرر على الفعل الذي يفعله المغرور ، أو لا.

ومثل الروايات الواردة في رجوع المحكوم عليه إلى شاهد الزور لو رجع عن شهادته وكذّب نفسه.

منها : مرسل جميل ، عن أحدهما علیه السلام : « إذا شهدوا على رجل ثمَّ رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على الرجل ، ضمنوا ما شهدوا به وغرموه ، وإن لم يكن قضى طرحت شهادتهم ولم يغرم الشهود شيئا » (1).

فهذه الرواية تدلّ على أنّ الخسارة التي وقعت على المحكوم عليه بواسطة تغرير الشهود يرجع فيها إليهم.

ومنها : حسن محمّد بن قيس ، عن الباقر علیه السلام قال علیه السلام قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل شهد عليه رجلان أنّه سرق فقطع يده حتّى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر ، فقالا : هذا السارق وليس الذي قطعت يده ، إنّما اشتبهنا ذلك بهذا ، فقضى عليهما أن غرمهما نصف الدية ولم يجز شهادتهما على الآخر ». (2)

ص: 276


1- « الكافي » ج 7 ، ص 383 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 61 ، باب شهادة الزور وما جاء فيها ، ح 3339 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 259 ، ح 685 ، باب البينات ، ح 90 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 238 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 10 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 384 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 261 ، ح 692. باب البيّنات ، ح 97 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 242 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 14 ، ح 1.

ومنها : مرسل ابن محبوب عن الصادق علیه السلام في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ، ثمَّ رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل ، فقال علیه السلام : « إن قال الراجع : أو همت ، ضرب الحدّ وأغرم الدية. وإن قال : تعمّدت ، قتل » (1).

ومنها : أيضا ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن جميل بن دراج ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في شاهد الزور قال علیه السلام : « إن كان الشي ء قائما بعينه ردّ على صاحبه وإن لم يكن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل » (2).

ولكن هذه الروايات ونظائرها ممّا لم نذكرها واردة في موارد خاصّة ، واستظهار هذه القاعدة الكليّة أعني قاعدة « المغرور يرجع إلى من غرّه » في غاية الإشكال.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومدلولها

لا شكّ في أنّ القدر المتيقّن من هذه القاعدة على تقدير اعتبارها هو فيما إذا كان الغارّ عالما بالضرر الذي يترتّب على الفعل الذي يرتكبه المغرور ، وأمّا فيما إذا كان جاهلا ومشتبها هل يصدق عليه الغارّ حتّى يكون من صغريات هذه القاعدة أم لا؟

ولتوضيح المقام نقول : الغارّ والمغرور قد يكونان عالمين بالضرر ، ففي هذه الصورة ليس غارّ ولا مغرور في البين ؛ لأنّ جهل المغرور مأخوذ في حقيقة كونه مغرورا ، وإلاّ يكون هو بنفسه مقدّما على الضرر ، ولا خدعة ولا غرور في البين وقد

ص: 277


1- « الكافي » ج 7 ، ص 384 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 260 ، ح 691 ، باب البيّنات ، ح 96 ؛ وح 10 ، ص 311 ، ح 1162 ، باب من الزيادات ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 240 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 12 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 384 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 3 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 59 ، باب شهادة الزور وما جاء فيها ، ح 3331 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 259 ، ح 686 ، باب البيّنات ، ح 91 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 239 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 11 ، ح 2.

يكونان جاهلين أو مختلفين.

فالصور أربعة :

أحدها : ما تقدّم من كونهما عالمين. وقد عرفت عدم دخول تلك الصورة تحت عموم قاعدة الغرور.

وكذلك الصورة الثانية ، أي فيما إذا كان الفاعل المتضرّر عالما والغارّ جاهلا ، فخارجة عن تحت القاعدة أيضا قطعا ؛ لعدم صدق الغرور مع علمه.

أمّا الصورة الثالثة ، أي فيما إذا كان المغرور جاهلا بالضرر والغار عالما ، فهذه هي القدر المتيقّن من القاعدة على تقدير صحتها واعتبارها.

وأمّا الصورة الرابعة ، أي فيما إذا كانا جاهلين ففيه كلام من حيث أنّ الجاهل بضرر فعل إذا أوقع شخصا في ارتكاب ذلك الفعل هل يصدق عليه أنّه غرّه وخدعه أم لا؟

ربما يقال بعدم صدق عنوان « الغارّ » عليه خصوصا إذا كان مشتبها وتخيّل النفع في ذلك الفعل ودعاه إليه باعتقاد أنّه نافع له ، ثمَّ ظهر أنّه يضرّه ، كالطبيب الذي يصف الدواء الفلاني له باعتقاد أنّه نافع له ، ثمَّ بعد استعماله تبيّن أنّه ضرّه ، فمثل هذا لا يعدّ عند العرف تغريرا أو خدعا لذلك الآخر المتضرّر.

ولكن أنت عرفت فيما ذكرنا من قبل أنّ قصد عناوين الأفعال ليس معتبرا في صدق عنوان ذلك الفعل ، فاذا ضرب أحدا يصدق عليه عنوان الضرب وان لم يقصده ، فالتغرير عبارة عن ترغيب شخص إلى فعل يترتب عليه الضرر وإن كان المرغب جاهلا بترتّب الضرر على ذلك الفعل وإيقاعه في ذلك الفعل.

نعم العناوين القصديّة لا تحصل بدون قصد ذلك العنوان ، فالتعظيم الذي هو من العناوين القصديّة لا يحصل من صرف ذلك القيام والركوع بدون قصد ذلك العنوان.

ص: 278

ولكن أنت خبير بأنّ التغرير ليس من تلك العناوين.

وخلاصة الكلام : أنّه إذا أوقع شخص شخصا آخر في ضرر فعل بترغيبه إلى ذلك الفعل أو بشكل آخر يكون مشمولا لهذه القاعدة ، وإن كان جاهلا بذلك الضرر بل ولو كان باعتقاد النفع.

نعم دخول هذه الصورة في هذه القاعدة موضوعي.

وأمّا حكم القاعدة - أي جواز رجوعه إلى الغارّ - يشمله أو لا يشمله فيحتاج إلى النظر في دليل القاعدة ، فباعتبار الأدلّة ربما يختلف الشمول وعدمه.

فلو كان المدرك هو النبوي المشهور ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله « المغرور يرجع إلى من غرّه » (1) فلا فرق بين أن يكون الغارّ جاهلا بترتّب الضرر والخسارة على فعل المغرور ؛ لما ذكرنا من عدم خروجه عن كونه غارّا بواسطة جهل.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع ، فالظاهر عدم شموله لما إذا كان الغارّ جاهلا ؛ لوقوع الخلاف فيه.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء على رجوع المغرر في خسارته إلى الغارّ ، ففي بنائهم خصوصا فيما إذا كان الغارّ مشتبها معتقدا عدم عيب وخسارة في الفعل الذي يرغب المغرور على ارتكابه ، مثلا لو اعتقد أنّ المرأة الفلانيّة ليس فيها عيب ولها من الجمال والمال والكمال كذا وكذا ، فرغب شخصا في تزويجها ، فظهر خلاف ما قال يكون بناء العقلاء في مثل هذه الصورة على تغريمه مشكل.

وأمّا لو كان مدركه قاعدة الإتلاف وأنّه السبب لوقوع هذه الخسارة على المغرور ، وأنّ السبب هنا أقوى من المباشر فعلى فرض تماميّة هذا الكلام لا فرق بين أن يكون السبب عالما أو جاهلا.

ص: 279


1- سبق ذكره في ص 270 ، رقم (1).

وأمّا لو كان المدرك لها هو الأخبار الخاصّة الواردة في أبواب مختلفة ، كما ذكرنا ما ورد في باب تدليس المرأة وإخفائها عيبها ، وما ورد في باب رجوع المحكوم عليه أو وليّه بخسارته إلى شاهد الزور ، فالإنصاف أنّ تلك الأخبار ظاهرة فيما إذا كان الغارّ عالما بالضرر على فرض صدق القاعدة في تلك الموارد وأن لا يكون من موارد كون سبب الإتلاف أقوى من المباشر ، والفقهاء ذكروها في ذلك الباب وإن استدلّ بعضهم في تلك الموارد بقاعدة الغرور أيضا.

ثمَّ إنّه بناء على ما اخترنا من المدرك لهذه القاعدة هو بناء العقلاء وأنّ الروايات الواردة في هذا الباب تكون إمضاء لذلك البناء ، فيقتضي أن نقول بعدم الضمان في صورة جهل الغارّ.

ولكن الروايات الواردة في باب ضمان الطبيب تدلّ على ضمان الغارّ وإن كان جاهلا ؛ وذلك من جهة القطع بأنّ الطبيب جاهل بضرر الدواء الذي يصفه للمريض أو يكتب لعلاجه.

وعلى كل حال الذي يحصل لنا من جميع أدلّة المقام من الأخبار ومن الأقوال والوجوه الأخر هو الاطمئنان بعدم الفرق بين أن يكون الغارّ جاهلا أو يكون عالما.

وأمّا احتمال أنّ هذه المفاهيم الثلاثة - أعني الغرور ، والخدع ، والتدليس - وإن كانت الأفعال منها مثل غرّه أو خدعه أو دلّس عليه لا تدلّ بهيئتها على كون الفاعل عالما ، ولكن موادّها أخذ فيها العلم والالتفات ، دعوى يكذّبها الوجدان وملاحظة موارد الاستعمالات.

الجهة الثالثة : في ذكر جملة من موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : لا شكّ في جريان هذه القاعدة في أغلب أبواب الفقه ، خصوصا في أبواب

ص: 280

المعاملات والمعاوضات حتّى في مثل عوض طلاق الخلع ، ولكن نحن نذكر طائفة ممّا ذكروها في كتبهم تبعا لما ذكره الأساطين قدس سره .

فمنها : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في باب بيع الفضولي أنّ المشتري إذا لم يخبره الفضول أنّ هذا مال الغير موهما أنّه ماله ، ثمَّ بعد ذلك تبيّن للمشتري أنّه مال الغير ، والمالك الأصيل أخذ العين من يده وغرمه أيضا بأن أخذ أجرة سكنى الدار سنين مثلا وقد يتّفق في بعض الصور ذهاب العين مع الثمن الذي بذله للبائع الفضولي لهذه الدار مثلا ، وهذه الخسارة حصلت له من ناحية البائع الفضولي وتغريره إيّاه بعدم ذكره أنّ المبيع ليس له. (1)

فبناء على صحّة هذه القاعدة واعتبارها للمشتري ، الرجوع إلى البائع الفضولي الذي غرّه بمقدار خسارته في هذه المعاملة ، خصوصا إذا لم يكن للمشتري مقابل هذه الخسارة نفع أصلا ، كالنفقة التي صرفها للحيوان أو الإنسان الذي اشتراهما من الفضولي بدون أن ينتفع منهما مقابل تلك النفقة لعدم حاجته إلى ركوب ، أو حمل تلك الدابّة ، أو الانتفاع بذلك العبد أو بتلك الجارية ، وكالذي صرفه في العمارة ، وكالذي خسره في الفرس ، وكالذي أعطاه قيمة للولد المنعقد حرا ، أو كالذي يعطي لنقص صفة من صفات المبيع الذي اشتراه من الفضولي.

وقد قال شيخنا الأعظم رجوع المشتري عن الفضولي إليه في خساراته التي حصلت له في هذه الصورة - أي فيما إذا لم يحصل له نفع مقابل هذه الخسارات - إجماعي للغرور ، فإنّ البائع مغرّر للمشتري ، وموقع إيّاه في خطرات الضمان ، ومتلف عليه ما يغرمه فهو كشاهد الزور ، أي يضمن كما يضمن شاهد الزور (2).

نعم استدل شيخنا الأعظم في هذه الصورة مضافا إلى الاستدلال بقاعدة الغرور

ص: 281


1- « المكاسب ، ص 146.
2- « المكاسب » ص 146.

بمرسلة جميل ، عن الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثمَّ يجي ء مستحقّ الجارية ، قال علیه السلام : « يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه » (1).

وقد ذكر شيخنا الأعظم في هذه المسألة شقوقا وصورا ، وطول الكلام فيها تركناها لأنّ استيفاء شقوق هذه المسألة وبيان صورها والتحقيق والتدقيق فيها وان كان لطيفا ودقيقا لكنّه موكول إلى محلّها ، والغرض هنا لم يكن إلاّ في أنّ هذا المورد أحد موارد تطبيق هذه القاعدة ، فافهم.

ومنها : فيما إذا زوّج وليّ المرأة شرعا ، أو من هو وليّ عرفاً كالأخ والعم وإن لم يكن بوليّ شرعا ، وكان في المرأة عيب سترته ولم تخبر به الوليّ ، سواء أخبر بعدم العيب أو كان صرف السكوت وعدم الإظهار ، وسواء كان الوليّ عالما بذلك العيب أو كان جاهلا به ، وإن كان في الأخير خلاف.

وتدلّ أيضا عليه - أي على جواز رجوع الزوج إلى زوجته المدلّسة أو وليّها التزويج - أخبار كثيرة. مضافا إلى قاعدة الغرور ، وذكرنا جملة منها في الجهة الأولى.

ومنها : رجوع المحكوم عليه إلى شاهد الزور بالخسارة التي وردت عليه من جهة تغريره للحاكم على الحكم ، فلو رجع عن شهادته وكذب نفسه يرجع إليه المحكوم عليه بما خسر إن لم يكن المال المأخوذ منه قائما بعينه. وأمّا إن كان المال قائما بعينه يرد إليه ، فلا خسارة في البين كي يرجع إلى شاهد الزور. وأمّا لو تبيّن خطأ الشاهدين بعلم أو علمي من دون رجوعهما ، فكذلك يرد المال إليه إن كان قائما بعنيه ، وأمّا إن لم يكن كذلك وكان تالفا فاستقرار الضمان وإن كان على من أتلف أو وقع التلف في يده ، ولكن للمحكوم عليه الرجوع الى شاهد الزور لتغريره الحاكم.

ص: 282


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 82 ، ح 353 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 67 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 84 ، ح 285 ، باب من اشترى جارية فأولدها. ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14. ص 592 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 88 ، ح 5.

وقد ورد في جميع ذلك أيضا مضافا إلى قاعدة الغرور أخبار خاصّة ، والمسألة بجميع شقوقها وصورها مذكورة مفصّلة في كتاب القضاء والشهادات ، والغرض في هذا المقام ليس تحقيقها واستيفاء شقوقها وصورها بل الغرض الإشارة إلى أنّ هذا أيضا أحد موارد جريان قاعدة الغرور ، فافهم.

ومنها : أنّه لو قدم الغاصب طعاما إلى شخص بعنوان ضيافته له ، فتبيّن أنّه ملك الغير وهذا الذي قدمه إليه غاصب وإن كان مشتبها لا متعديّا أى كان جاهلا بأنّه ليس له ، فمع جهل الآكل الضيف بأنّه ليس للمضيف إمّا لأنّه غاصب وإمّا لأنّه مشتبه فالمالك الأصيل إذا رجع إلى الآكل لأنّه مباشر للإتلاف وان كان له الرجوع إلى الغاصب أو المشتبه المفروض المذكور ، فللآكل الضيف الرجوع إلى المضيف لقاعدة الغرور.

وقد ذكروا أنّه لو قدم الغاصب مال المالك الأصلي إليه لكن بعنوان أنّه مال الغاصب لا بعنوان أنّه مال المالك الأصلي. وبعبارة أخرى : خدع الغاصب المالك الأصلي وأطعمه مال نفسه ولكن بعنوان أنّه ضيف ، وكان المالك الأصلي جاهلا بأنّ هذا الذي يأكله مال نفسه ، فللمالك الأصلي الرجوع إلى الغاصب مع أنّه أكل مال نفسه ؛ لقاعدة الغرور.

ومنها : لو قال للخيّاط مثلا : إن كان يكفي هذا قباء فاقطعه ، فقال : يكفي ، وقطعه فلم يكف ، فسقط عن القيمة أو قلّت قيمته ، فيرجع صاحب الثوب إلى الخيّاط بما نقص ؛ لأنّه غرّه وقال : يكفي ؛ هذا في باب الإجارة.

وكذلك لو أعاره مال الغير بعنوان أنّه مال نفسه ثمَّ تبيّن أنّه مال الغير ، ورجع ذلك الغير إلى المستعير ببذل ما انتفع من ماله ، فللمستعير الرجوع إلى المعير ؛ لأنّه غرّه.

ونتيجة كلّ ما ذكرنا من أوّل القاعدة إلى هاهنا أنّ كلّ ما يغرمه الشخص

ص: 283

الجاهل بالواقع ويخسره - بواسطة فعل شخص آخر ، أو قوله ، أو إخفاء عيب فيما بيده الأمر ، وبعبارة أخرى : من جهة تدليسه على الجاهل بالواقع الذي خسر - له أن يرجع إلى الذي غرّه ، وإن كان الغارّ أيضا جاهلا مشتبها.

وخلاصة الكلام : أنّ فروع قاعدة الغرور كثيرة في أبواب الفقه ، والفقيه لا يشتبه في تطبيقها على مواردها. نعم في كثير من موارد هذه القاعدة توجد أدلّة خاصّة على رجوع المغرور إلى من غرّه بالنسبة إلى الخسارة التي وردت عليه من طرف الغار وبسبب تغريره.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، ونسأله التوفيق لما يحبّ ويرضى.

ص: 284

11 - قاعدة أصالة الصحّة

اشارة

ص: 285

ص: 286

قاعدة أصالة الصحّة (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة القاعدة المعروفة « بأصالة الصحّة ». وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : في الدليل على اعتبارها

والظاهر أنّ عمدة الدليل عليه هي سيرة العقلاء كافّة ، من جميع الملل ، في جميع العصور ، من أرباب جميع الأديان من المسلمين وغيرهم ، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة بل أمضاها ، كما هو مفاد الأخبار في أبواب متعدّدة. بل يمكن أن يقال : لو لم يكن هذا الأصل معتبرا لا يمكن أن يقوم للمسلمين سوق ، بل يوجب عدم اعتباره اختلال النظام كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره (2).

ص: 287


1- (*) « الحق المبين » ص 68 ؛ « عوائد الأيّام » ص 72 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 27 و 28 و 94 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 4 ؛ « مناط الأحكام » ص 5 و 19 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 28 ؛ « مجموعه قواعد فقه » ص 178 ؛ « القواعد » ص 153 ؛ « قواعد فقه » ص 207 ؛ « قواعد فقهي » ص 245 ؛ « قواعد فقهية » ص 91 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1. ص 115 و 43 ؛ « أصل صحت وأصل لزوم عقد » احمد شهيدى ؛ « أصالة الصحة » جمال الدين جمالي ، « مجلة كانون سر دفتران » ؛ « أصل صحت » حسين فريار ، « نشرة مؤسسة حقوق تطبيقى » ، العدد 6 ، العام 1358 ؛ « أصل صحت در عمل غير » أبو القاسم الگرجي ، مجلّة كليّة الحقوق والعلوم السياسي ، العدد 28 ؛ « دو قاعدة فقهي ( الغرور وأصالة الصحة ) » مجلة « حق » فصليّة ، العدد 10 ، العام 1366 ؛ « صحت معاملات » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلّة « كانون وكلاء » ، العدد 4 لسنتها الأولى ، والعدد 9 لسنتها الثانية.
2- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 720.

والإنصاف أنّ الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار هذه القاعدة أشدّ وأعظم من الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة اليد ، فإنّ هذه القاعدة جارية في أغلب أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ؛ ولذلك لا يبقى محلّ للاستدلال على اعتبارها بالإجماع ؛ لأنّه من المظنون أن يكون مدرك المجمعين هو الذي ذكرنا ، فليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي يكون اعتباره من جهة كشفه عن رأي المعصوم علیه السلام .

وأمّا الاستدلال عليه بالآيات والروايات فلا يخلو عن مناقشة بل منع في أكثرها.

والإنصاف أنّ اعتبار هذه القاعدة وحكومتها على الاستصحاب وأصالة الفساد من المسلّمات التي لا خلاف فيها أصلا ، فلا ينبغي تطويل المقام بذكر الآيات والأخبار التي أوردوها ، والمناقشة فيها.

[ المبحث ] الثاني

أنّ المراد من الصحّة في هذه القاعدة هل الصحّة الواقعيّة ، أو الصحّة باعتقاد الفاعل؟ وهناك احتمال آخر وهو أن يكون المراد منها الصحّة باعتقاد الحامل.

ولكن في تعيين أحد هذه الاحتمالات لا بدّ من ملاحظة دليل القاعدة ، وأنّ أيّ واحد من هذه الاحتمالات مفاد ذلك الدليل.

فنقول : سواء أكان الدليل هي سيرة العقلاء من كافّة الناس ، أو الإجماع ، أو اختلال النظام من عدم الاعتبار ولا شكّ في أنّ المراد هو الصحّة الواقعيّة ؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء من المعاملات التي تقع بين الناس وحملها على الصحّة هي الصحّة الواقعيّة ، وإلاّ لو كانت الصحّة باعتقاد الفاعل لما كان للحمل على الصحّة أثر ؛ لأنّ اعتقاد الصحّة عند الفاعل مع عدم إثبات الصحّة الواقعيّة لا يوجب لسائر الناس ترتيب آثار الصحّة ، مع أنّ الناس قاطبة يرتّبون آثار الصحّة ، مثلا لو علموا أنّ رجلا

ص: 288

طلق زوجته ؛ أو باع داره ، أو اشترى دارا ، أو أي فعل صدر عن شخص يحملونه على الصحّة الواقعيّة ، ويرتّبون على ذلك الفعل آثار الصحّة ، سواء أكان ذلك الفعل من العبادات أو المعاملات ، ومن العقود أو الإيقاعات.

والحاصل : أنّه كما أنّ في قاعدة الفراغ إذا شكّ في صحّة العمل الذي أتى به مفاد تلك القاعدة حمل الفعل الصادر عن نفسه على الصحّة الواقعيّة ؛ لبناء العقلاء على ذلك. كذلك الأمر في الفعل الصادر عن الغير ، بل يمكن أن يقال : أن الصحّة عند الجميع هي الصحّة الواقعيّة ، غاية الأمر أنّ الفاعل أو الحامل قد يخطئان فيعتقدون ما ليس بصحيح واقعا صحيحا واقعيا ، فبناء العقلاء على ما هو الصحيح واقعا. وكذلك الإجماع انعقد على ذلك ، بل اختلال النظام لا يرتفع إلاّ بالحمل على الصحيح الواقعي.

وما يقال : من أنّ مدرك هذه القاعدة لو كان ظهور حال المسلم في أنّه لا يأتي بالعمل إلاّ صحيحا ، فلا بدّ وأن يكون المراد هي الصحّة عند الفاعل ؛ لأنّه لا يأتي إلاّ بما يراه صحيحا ، لا ما هو صحيح عند سائر الناس.

ففيه أولا : هذا فيما إذا كان الفاعل عالما بالصحيح والفاسد ، والقاعدة أعمّ.

وثانيا : عرفت أنّ المدرك هي سيرة العقلاء ولا اختصاص لها بالمسلم ، وأنّ عدم اعتبارها يوجب اختلال النظام وتعطيل الأسواق ، فالعمدة في مدرك هذه القاعدة هذان الأمران ، أي السيرة ، ولزوم اختلال النظام من عدم اعتبارها. فلا شكّ في أنّ مفاد هذين الدليلين هي الصحّة الواقعيّة ، وعليها مدار جريان المعاملات في الأسواق وفي باب العقود والإيقاعات.

نعم فيما إذا علم الحامل أنّ الصحيح عند الفاعل مخالف مع ما هو الصحيح واقعا ، بمعنى أنّ الفاعل مخطئ في تطبيق الصحّة الواقعيّة على ما يأتي به ، ففي هذه الصورة حمل فعله على الصحّة الواقعيّة مشكل ؛ لأنّ كون ما أتى به صحيحا واقعيّا متوقّف على أحد أمرين : إمّا كونه متعمّدا بأن يأتي بما هو خلاف معتقده أنّه صحيح ، أو كونه

ص: 289

غافلا عن معتقده حال العمل وأتى بالصحيح الواقعي من باب الصدقة والاتّفاق ، وكلاهما مخالف للأصل العقلائي.

[ المبحث ] الثالث

أنّ هذا الأصل لا يجري إلاّ بعد إحراز عنوان العمل ، مثلا لو علم بأنّه صدر منه عملا ولم يعلم العنوان وأنّه بيع ، أو إجارة ، أو هبة أو غير ذلك فلا مورد لجريان أصالة الصحّة ؛ وذلك من جهة أنّ بناء العقلاء على أنّ العمل الصادر عن الغير بعد صدوره بعنوان الغسل مثلا واحتمل فقد جزء ، أو شرط ، أو وجود مانع لا يعتنون بذلك الاحتمال ، ويبنون على الصحّة. وأمّا إذا كان الشكّ والاحتمال في أنّه هل قصد الغسل أو السباحة فليس بنائهم على صحّة هذا الغسل ؛ لأنّه في العناوين القصديّة قصد العنوان بمنزلة الموضع لهذا الأصل ، فلا معنى لإجرائه مع الشكّ في موضوعه.

ولذلك لو شكّ في صلاة الظهر أو العصر مثلا وأنّه هل قصد عنوان الظهريّة أو العصريّة - وكذلك في سائر الصلوات ، بل وفي كلّ فعل معنون بعنوان قصدي الذي لا يتحقّق إلاّ بذلك العنوان - لا يجري هذا الأصل إلاّ بعد إحراز ذلك العنوان.

نعم لو كان الفعل الذي يصدر منه من غير العناوين القصديّة كالتطهير عن الخبث - حيث أنّه ليس متقوّما بالقصد - فحمله على الصحّة عند الشكّ في إتيان بعض شرائطه يمكن ، ولو مع عدم إحراز أنّه قصد بهذا الفعل تطهير ثوبه مثلا أم لا. فلو رأى إنسانا يغتسل ثوبه ولكن لم يحرز أنّه بصدد تطهير ذلك الثوب ، ويحتمل أن يكون غسله بقصد إزالة الوسخ لا بقصد التطهير ، فلو شكّ في أنّه هل عصر ذلك الثوب الذي غسله بالماء - بناء على اشتراط التطهير بالعصر فيما يقبل العصر - فيمكن إجراء أصالة الصحّة والحكم بطهارة ذلك الثوب.

ص: 290

[ المبحث ] الرابع

في أنّه لا يجري هذا الأصل إلاّ بعد وجود الشي ء فحينئذ إذا شكّ في أنّ ما أتي به هل صحيح ، أي تامّ من حيث الأجزاء والشرائط وعدم الموانع ويترتّب عليه الأثر المقصود منه ، أم لا؟ فبمقتضى هذا الأصل يحكم عليه بالصحّة ، ويترتّب عليه الأثر المقصود منه. وأمّا قبل وجوده فلا معنى لأن يقال : إنّ ما يريد أن يأتي به صحيح وتامّ ويترتّب عليه الأثر.

فلو شكّ في أثناء عمل شخص أنّ ما يأتي به هل هو صحيح أم لا ، لا مورد لجريان أصالة الصحّة ، وليس بناء العقلاء على الحكم بالصحّة وترتيب آثارها عليه قبل وجود الشي ء في وعاء وجوده.

فلو أراد رجل أن يصلّي على الميّت ، أو يغسله ، أو أراد أن يحجّ فإجراء أصالة الصحّة قبل وجود هذه المذكورات فيها لا يخلو من غرابة ، وكذلك في أثناء العمل مثلا لو دخل شخص في إحرام عمرة حج التمتع ، فالحكم بصحّة عمرته وحجّه بمحض دخوله في الإحرام من باب أصالة الصحّة لا صحّة فيه.

نعم بالنسبة إلى تلك القطعة التي أتى بها يمكن أن يقال إنّها صحيحة من باب بناء العقلاء أو التعبّد ، وأمّا بالنسبة إلى مجموع العمل الذي لم يأت به بعد ، كيف يمكن أن يقال إنّ المأتي به موافق للمأمور به؟ فالحقّ أنّ موطن جريان أصالة الصحّة هو بعد وجود العمل والفراغ عنه.

فالفرق بينها وبين قاعدة الفراغ في عمل النفس هو أنّ الدخول في الغير لا يحتاج إليه هاهنا ، ولو قلنا بالاحتياج إليه في قاعدة الفراغ.

وذلك كلّه من جهة أنّ معنى أصالة الصحّة عند العقلاء هو أنّ العمل الذي صدر عن الغير ويشكّ فيه أنّه أوجده صحيحا وتامّا لا خلل فيه أو ناقص غير تامّ وفيه الخلل ، يبنون على صحّته وتماميّته ؛ فموضوع أصالة الصحّة هو العمل الصادر عن الغير

ص: 291

لا الذي سيصدر ، ولا الذي صدر بعضه دون بعض.

وأمّا مسألة أحكام الميّت التي هي واجبات كفائيّة ، كغسله ، وكفنه ، ودفنه والصلاة عليه ، وعدم اعتناء من رأى أنّ شخصا يشتغل بهذه الأعمال باحتمال وقوع خلل فيها أو عدم إتمامها ، فليس من جهة جريان أصالة الصحّة في الأثناء كما توهّم ، بل إمّا من جهة الاطمئنان بأنّه يتمها ولا يتركها - كما هو الغالب - أو من جهة استصحاب البقاء على الاشتغال بذلك العمل إلى إتمامه ، وبعد الفراغ عن العمل إذا شكّ في صحّته وفساده يجرى فيه أصالة الصحّة.

[ المبحث ] الخامس

اشارة

في أنّه من المعلوم أنّها تجري في المعاملات في أبواب العقود والإيقاعات ، وتكون مقدّمة على أصالة الفساد فيها التي هي عبارة عن أصالة عدم النقل والانتقال فيها ، سواء قلنا بأنّ مدركها سيرة العقلاء وبناؤهم على ذلك ، أو قلنا أنّ مدركها الإجماع. وعلى الثاني سواء قلنا بوجود إجماع آخر في خصوص أبواب المعاملات والعقود والإيقاعات - غير الإجماع على اعتبارها مطلقا - أم لا ، بل قلنا بتحقق إجماع واحد يدلّ على اعتبارها في جميع الموارد.

وإنّما الكلام في أنّ جريانها في مورد الشكّ في صحّتها مطلقا سواء أكان الشكّ من جهة احتمال وقوع خلل في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين ، أو لا يجري إلاّ في مورد الشكّ في شرائط نفس العقد دون شرائط المتعاقدين أو العوضين أو يجري فيما سوى الشروط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين.

فبناء على الاحتمال الأوّل تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي فساد العقد ، سواء أكان ذلك الأصل المقتضي للفساد جاريا في شرائط العقد ، أو في شرائط المتعاقدين ، أو في شرائط العوضين.

ص: 292

وبناء على الاحتمال الثاني تكون حاكمة على الأصل الذي يقتضي الفساد الجاري في شرائط نفس العقد ، دون ما يقتضي الفساد الجاري في شرائط المتعاقدين أو العوضين.

وبناء على الاحتمال الثالث تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي الفساد ، إلاّ إذا كان ذلك الأصل الذي يقتضي الفساد جاريا في الشرائط العرفيّة للعوضين أو المتعاقدين. مثلا بناء على هذا الاحتمال لو شكّ في ماليّة العوضين ، أو في رشد المتعاقدين ، أو أحدهما فلا تجري أصالة الصحّة كي تكون حاكمة على أصالة عدم ماليّة العوضين ، أو أصالة عدم رشد المتعاقدين ، أو أحدهما.

إذا عرفت هذه الاحتمالات والوجوه ، فنقول :

تارة يقال بأنّ مدرك اعتبار أصالة الصحّة هو الإجماع وإنّ هناك إجماعان :

أحدهما قام على اعتبار أصالة الصحّة مطلقا ، سواء أكان مورد جريانها العبادات أو المعاملات. والثاني انعقاده على حجيّة أصالة الصحّة في خصوص أبواب المعاملات ، وأنّه دليل لبّى لا إطلاق لمعقده في كلا الإجماعين ، فلا بدّ من الأخذ به في المورد المتيقّن دون المورد الذي وقع فيه الخلاف.

وبناء على هذه المقالة - أي كون مدركها الإجماع وعدم إطلاق لمعقده - لا يبعد صحّة ما أفاد شيخنا الأستاذ قدس سره من اختصاصها بمورد احتمال الإخلال في نفس العقد ، دون شرائط المتعاقدين أو العوضين (1).

وأمّا لو قلنا بأنّ مدرك اعتبارها هي سيرة العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ، مضافا إلى الإجماع المحقّق - كما اخترنا هذا الوجه في وجه حجّيتها بل قلنا أنّه لا محلّ للإجماع الاصطلاحي الكاشف عن رأي المعصوم علیه السلام لإمكان اتّكاء المجمعين على تلك الأمور التي ذكرناها من السيرة ، واختلال النظام والآيات ، والروايات التي تقدّم

ص: 293


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 654.

ذكرها - فلا بدّ وأن ينظر إلى مقدار قيام السيرة ، وأنّها هل قامت على اعتبارها مقابل أصالة الفساد في خصوص شرائط العقد إذا شكّ في وجودها - كالماضويّة وتقدّم الإيجاب على القبول والموالاة وأمثال ذلك ممّا هو مذكور في محلّه - أم لا ، بل قامت على اعتبارها مقابل أصالة الفساد في جميع ما شكّ في وجوده ممّا اعتبر في العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين إذا لم يكن من الشرائط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين ، بمعنى أن يكون عند العرف من مقوّمات المعاملة ، بحيث لا يمكن تحقّق عنوان المعاملة عرفا إلاّ مع وجود تلك الشرائط؟

ولا شكّ في قيام السيرة على الحمل على الصحّة بالمعنى الثاني ، أي في كلّ مورد شكّ في صحّة معاملة من المعاملات ، بيعا كان ، أو إجارة ، أو هبة ، أو نكاحا ، أو غير ذلك من العناوين المذكورة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات بعد تحقّق ذلك العنوان بنظر العرف وعندهم ، لاحتمال فقد شرط اعتبره الشارع أو العقلاء زائدا على ما هو المقوّم لذلك العنوان عندهم ، أو احتمال وجود مانع كذلك ، فيبنون على الصحّة ولا يعتنون إلى ذلك الاحتمال.

ولا فرق عندهم - أي العقلاء - بين أن يكون ذلك الشرط المحتمل الفقدان من شرائط العقد ، أو المتعاقدين ، أو العوضين ، وكذلك المانع المحتمل الوجود.

ففي كلّ مورد في المعاملات تحقّق موضوع أصالة الصحّة الذي هو عبارة عن وجود ذلك العنوان الذي شكّ في صحّته وفساده لاحتمال فقد شرط ، أو وجود مانع - في غير ما هو دخيل في تحقّق ذلك العنوان عند العرف وفي نظرهم - نجري أصالة الصحّة. وأمّا مع الشكّ في تحقّق موضوعها فلا تجري البتّة ، شأن كلّ حكم مع موضوعه.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة لها عقد وضع وعقد حمل ، كما هو الحال في جميع القواعد. وشأن كلّ قاعدة إثبات محمولها لموضوعها بعد الفراغ عن ثبوت موضوعها.

ص: 294

وأمّا ثبوت موضوعها أو عدم ثبوته فليس من شؤون تلك القاعدة ، فكلّ قاعدة متكفّلة لعقد حملها لا لعقد وضعها ، وحيث أنّ موضوع هذه القاعدة في أبواب المعاملات تلك العناوين المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات ، فلا بدّ من إحرازها لإجراء هذه القاعدة مع احتمال عدم صحّتها لاحتمال وقوع خلل فيها من فقد شرط أو وجود مانع. وأمّا مع عدم إحراز ذلك العنوان - بما هو مشكوك الصحّة والفساد - فلا محلّ لجريان هذه القاعدة ؛ لامتناع تحقّق الحكم بدون تحقّق الموضوع.

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا : أنّ ما شكّ في صحّته وفساده تارة هو السبب ، أي العقد. وأخرى : هو المسبب ، أي المعاملة الكذائيّة كالبيع مثلا.

فإن كان هو العقد واحتمل عدم صحّته ، أي عدم تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط وإعدام الموانع ، بحيث يشكّ في ترتّب الأثر المقصود منه عليه ولو انضمّ إليه سائر الشرائط المعتبرة في المتعاقدين ، فلا شكّ في جريان أصالة الصحّة في نفس العقد إذا لم يكن الشرط المحتمل الفقدان ، أو المانع المحتمل الوجود ممّا له دخل في تحقّق عنوان العقد عرفا ؛ لما ذكرنا من لزوم تحقّق ما هو موضوع أصالة الصحّة.

فبعد إحراز ما هو موضوع أصالة الصحّة يثبت به الشرط المحتمل الفقدان ، وأيضا يثبت به عدم المانع المحتمل الوجود ، فيترتّب على ذلك العقد الأثر المقصود ، أي المعاملة الفلانيّة إذا انضمّ إليه سائر ما اعتبر في المعاملة ، من شرائط المتعاقدين كبلوغهما ورضائهما بمعنى عدم كونهما مكرهين أو أحدهما مكرها وأمثال ذلك ، ومن شرائط العوضين ككونهما قابلين للنقل والانتقال ، كأن لا يكون أحدهما حرّا مثلا ، وأن يكونا مملوكين بأن لا يكونا من قبيل الخمر والخنزير ، وذلك من جهة أنّ صحّة العقد ليس معناها ترتّب أثر المعاملة الصحيحة عليه بمجرده ، بل معنى صحّته أن يترتّب الأثر المطلوب من المعاملة عليه لو انضم إليه سائر ما اعتبر في المعاملة من شرائط المتعاقدين والعوضين.

ص: 295

وذلك من جهة أنّ الصحّة التعبّدية الثابتة بأصالة الصحّة ليست بأعظم من الصحّة المحرزة بالوجدان ، ومعلوم أنّ صحّة العقد واقعا وقطعا لا تترتّب عليها آثار صحّة المعاملة ما لم ينضمّ إليه جميع الشرائط التي للمتعاقدين ، وأيضا للعوضين.

وأمّا إن كان ما شكّ في صحّته وفساده هو المسبّب ، أي المعاملة الكذائيّة لأجل احتمال خلل ، من فقد شرط أو وجود مانع للعقد ، أو للمتعاقدين ، أو العوضين فيجري هذا الأصل فيها ويحكم بصحّتها ، سواء أكان الشرط المحتمل الفقدان ، أو المانع المحتمل الوجود من شرائط العقد أو موانعه ، أو من شرائط المتعاقدين وموانعهما ، أو العوضين ، أو نفس المسبب كذلك ما لم يكن من مقوّمات تحقّق المعاملة عرفا ؛ لما بيّنّا مفصّلا فلا نعيد.

فما هو التحقيق في المقام أن يقال بجريان هذا الأصل في جميع ما شكّ في صحّته وفساده بعد إحراز عقد وضع هذه القضيّة ، سواء أكان الشكّ في ناحية السبب أي العقد ، أو المسبب أي عناوين المعاملات المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات. ومعلوم أنّ جميع الشكوك - التي محلّها إمّا العقد أو المتعاقدين أو العوضين - ترجع إمّا إلى السبب ، أو إلى المسبّب ، أو إلى كليهما.

ثمَّ إنّه هاهنا فروع ربما يستشكل في جريان قاعدة أصالة الصحّة فيها

منها : بيع الوقف ، من جهة عدم صحّة بيع الوقف لو خلي وطبعه ، ولا يجوز إلاّ بطروّ أحد مجوّزات بيعه ، وليس هناك ما يدلّ على طروّ المجوّز إلاّ ظهور حال المسلم في أنّه لا يرتكب ما لا يجوز.

وهذا المعنى أوّلا غير أصالة الصحّة التي بناء العقلاء على اعتبارها. وثانيا : لا دليل على اعتبار مثل هذا الظهور ؛ لأنّ كثيرا من المسلمين يفعلون ما لا يجوز وما ليس بنافذ شرعا.

ص: 296

ولكن الإنصاف أن بيع الوقف ان كان من قبل الناظر أو الحاكم الشرعي ، فحيث أنّه يمكن أن يكون صحيحا لوقوعه مع وجود أحد المسوّغات وليس وجود المسوّغ من مقوّمات تحقّق بيع الوقف عرفا ، بل ممّا اعتبره الشارع في صحّته ، فبناء على الضابط الذي ذكرنا لجريان قاعدة أصالة الصحّة تجري وتكون حاكمة على أصالة عدم وجود المسوغ ، كما هو شأن قاعدة أصالة الصحّة في جميع المقامات ، حيث أنّها تقدّم على استصحابات العدميّة.

نعم بناء على ما اختاره شيخنا الأستاذ قدس سره من اختصاص جريانها بصورة الشكّ في صحّة العقد لاحتمال وجود خلل فيه ، من فقد شرط من شرائط العقد ، أو وجود مانع من موانعه. وأمّا إذا كان الشكّ من جهة عدم قابليّة المتعاقدين أو أحدها شرعا لإيقاع المعاملة ، ككونهما أو أحدهما غير بالغ ، أو كان الشكّ من جهة عدم قابليّة المال للنقل والانتقال كالوقف إلاّ مع طروّ أحد المسوغات وكان طروّه مشكوكا ، فلا يجري هذا الأصل. (1)

ولكن أنت عرفت ما في كلامه قدس سره وعمدة ما ذكره في وجه ما اختاره ، أنّ مدرك هذه القاعدة هو الإجماع ، والإجماع قاصر عن شموله لغير شرائط العقد. وقد عرفت أنّ المدرك هو بناء العقلاء والسيرة لا الإجماع.

ومنها : بيع الصرف لو شك في القبض في المجلس ، فالبناء على صحّة العقد لا يثبت وقوع القبض في المجلس الذي هو شرط صحّة المعاملة ووقوع النقل والانتقال شرعا.

ولكن أنت خبير أنّ بعد إحراز عنوان المعاملة وتحقّقه في نظر العرف ، فأصالة الصحّة تجري فيه ولو كان الشكّ في وقوعه شرعا من جهة احتمال عدم شرط اعتبره الشارع في صحّة المعاملة ، وترتيب الأثر عليها كالقبض في المجلس في مسألة بيع الصرف.

ص: 297


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 654.

ولا شكّ أنّ القبض في المجلس في بيع الصرف ليس من مقوّمات المعاملة عرفا كي يكون الشكّ فيه مساوقا للشكّ في تحقّق عنوان المعاملة ، فعنوان المعاملة يتحقّق عرفا حتّى مع هذا الشكّ ، فبجريان أصالة الصحّة يثبت هذا الشرط تعبّدا.

وبعبارة أخرى : نتيجة أصالة الصحّة في الشبهات الموضوعيّة نتيجة أصالة الإطلاق في الشبهات الحكميّة ، فكما أنّ بإطلاق أدلّة عناوين المعاملات لو كان إطلاق في البين مثل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) أو مثل ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) وأمثالهما يتمسّك لرفع شرطيّة ما هو مشكوك الشرطيّة ، وعدم مانعيّة ما هو مشكوك المانعيّة بعد تحقّق هذه العناوين عرفا حتّى على القول الصحيحي ، كذلك في الشبهة الموضوعيّة التي هي مجرى أصالة الصحّة أو حصل الشكّ واحتمل عدم شرط من شرائط صحّة ذلك العنوان ، أو احتمل وجود مانع عن صحّته مع إحراز ذلك العنوان في نظر العرف ، فبأصالة الصحّة يثبت الصحّة ويترتّب على ذلك الفعل آثار وجود ذلك الشرط وعدم ذلك المانع.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ مورد جريان أصالة الصحّة - كما تقدّم - هو احتمال وقوع خلل فيما وقع وصدر بعد إحراز عنوان ذلك الشي ء. وأمّا لو كان موضوع الأثر مركبا من أمرين أحدهما وجد ولا خلل فيه من فقد شرطه أو وجود مانعه ، وإنّما لا يترتّب الأثر ويتوقف فيه للشكّ في وجود جزء الآخر ، فهذا غير مربوط بأصالة الصحّة ؛ لأنّ ما وقع صحيح بالوجدان ولا خلل فيه ، فإجراء أصالة الصحّة فيه من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد. والمفروض ، أي وقوع المعاملة وإنشائها في بيع الصرف مع الشكّ في تحقّق القبض في المجلس من هذا القبيل ، فإنّ إنشاء المعاملة وقع صحيحا وبلا خلل ، ولكن موضوع الأثر شرعا هو وشي ء آخر ، أي القبض في المجلس المشكوك وجوده وإحرازه غير مربوط بجريان أصالة الصحّة فيما وقع.

ص: 298


1- البقرة (2) : 275.
2- النساء (4) : 128.

ومن هذا يظهر حال الشكّ في صدور الإجازة من المالك في عقد الفضولي ؛ لأنّ عقد الفضولي الصادر من الفضول لا خلل فيه ، وإنّما يكون الأثر مترتّبا شرعا عليه وعلى أمر آخر وهو إجازة المالك المشكوك وجودها. وأمّا مسألة بيع الوقف ليس من هذا القبيل إذا صدر من المتولّي أو الحاكم ، لأنّ ما وقع إن كان مع وجود المسوّغ فهو صحيح وإلاّ فلا ، فمع الشكّ في وجود المسوّغ يحكم إليه بالصحّة بأصالة الصحّة ، ويثبت بها وجود المسوّغ أو لزوم ترتيب آثار وجوده.

ثمَّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ بيع الراهن ماله المرهون مع الشكّ في إذن المرتهن أيضا من هذا القبيل ، أي من قبيل بيع الفضولي مال الغير مع الشكّ في إجازة المالك ، فموضوع الأثر فيه أيضا مركّب من العقد الصادر من المالك الراهن مع سبق إذن المرتهن أو لحقوق إجازته ، وأصالة الصحّة فيه لا يثبت سبق الإذن أو لحوق الإجازة من المرتهن ، بل لا معنى لجريان أصالة الصحّة فيما صدر عن الراهن ؛ لأنّ صحّته - كما قلنا فيما تقدّم - وجداني ، بمعنى أنّه لو تعقّب بالإجازة ، أو اقترن بالإذن يترتّب عليه الأثر يقينا.

فإن شئت قلت : إنّ مجرى أصالة الصحّة هو فيما إذا دار الأمر بين صحّته الفعليّة أو بطلانه رأسا ، كما أنّه في مسألة الوقف الصادر من المتولي مع الشكّ في وجود المسوّغ بكون الأمر هكذا ، أي يدور ذلك البيع أمره بين أن يكون صحيحا فعليّا يترتّب عليه الأثر - أي النقل والانتقال ، وهذا فيما إذا كان المسوّغ موجودا - وبين أن يكون باطلا من رأس. وهذا فيما إذا لم يكن المسوّغ موجودا الذي هو الاحتمال الآخر.

وأمّا في المذكورات من بيع الراهن مع الشكّ في إذن المرتهن ، وبيع الفضول مع الشكّ في تعقّبه بالإجازة ، وبيع الصرف مع الشكّ في القبض في المجلس ، فالصحّة التأهلية - بمعنى أنّه لو تعقّب بالإجازة في بيع الراهن والفضولي ، وبالقبض في المجلس في بيع الصرف - يقينا موجودة ، وإنّما الشكّ في وجود أمر آخر تكون الصحّة الفعليّة منوطة به.

ص: 299

وهاهنا فرع ذكره الشيخ الأعظم (1) وأستاذنا المحقّق (2) قدس سره وهو أنّه لو علم بصدور البيع عن المالك الراهن ، وأيضا برجوع المرتهن عن إذنه ولكن شكّ في المتقدّم منهما ، فلو كان الرجوع متأخّرا عن البيع فالبيع صحيح ، ولو كان متقدّما عليه فالبيع باطل ، فهل تجري هاهنا أصالة الصحّة في البيع أم لا؟

مقتضى ما ذكرنا - من أنّ مجرى أصالة الصحّة فيما إذا كان الفعل الصادر دائرا أمره بين الصحّة الفعليّة والفساد - عدم الجريان ؛ لأنّ الفعل الصادر من الراهن قطعا صحيح إذا تعقّب بإجازة المرتهن ولم يرجع قبل البيع ، وعدم ترتيب الأثر لأمر آخر وهو الشكّ في بقاء إذنه إلى حال البيع ، وليس مستندا إلى احتمال فساد ما صدر عن الراهن ؛ فهذا خارج عن مجرى أصالة الصحّة.

نعم يبقى شي ء وهو أنّ أصالة عدم تحقّق الرجوع إلى زمان تحقّق البيع هل تكون لها معارض أم لا؟ ولا شكّ في أنّ ما هو موضوع الأثر شرعا - ويكون سببا للنقل والانتقال - هو صدور البيع عن المالك الراهن مع إذن المرتهن ، والبيع وجد وجدانا. وعدم الرجوع معناه بقاء الإذن ؛ ولذلك لا فرق بين استصحاب بقاء الإذن أو استصحاب عدم الرجوع فيتحقّق كلا جزئي الموضوع ، أحدهما بالوجدان وهو بيع المالك الراهن ، والثاني بالأصل وهو بقاء الإذن وعدم الرجوع.

لا يقال : هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم وقوع البيع إلى زمان الرجوع.

وذلك من جهة أنّه مثبت ، إذ لازمه عقلا حينئذ وقوع البيع مع عدم إذن المرتهن. ولا أدري لما ذكر قدس سره هذا الفرع مع أنّه لا خصوصيّة فيه يكون موجبا لذكره ، وهو من الوضوح بمكان مع أنّه قدس سره خرّيت هذه الصناعة.

ص: 300


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 726.
2- حاشية « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 663.

[ المبحث ] السادس

قد عرفت فيما تقدّم أنّ الأفعال والعناوين القصديّة لا تجري فيها أصالة الصحّة إلاّ بعد إحراز أنّ الغير الفاعل لذلك الفعل قصد عنوان ذلك العنوان القصدي ، وقد ذكرنا من باب المثال أنّ الذي يصلّي صلاة الظهر مثلا لا تجري أصالة الصحّة في فعله بعد صدوره عنه إلاّ بعد إحراز أنّه قصد عنوان الظهريّة في المثال المذكور. ولا شكّ في أنّ النيابة من العناوين القصديّة ، بمعنى أنّه لو حجّ ، أو زار أحد المعصومين علیهم السلام بدون قصد النيابة عن قبل زيد مثلا ، لا تقع النيابة عن قبل زيد. وأمّا إذا أحرز المستنيب أنّ النائب قصد بفعله النيابة عن قبله بمحرز وجداني أو تعبّدي ، وشكّ في أنّ النائب هل أتى بالحجّ مثلا بجميع ما اعتبر فيه وجودا كالأجزاء والشرائط ، أو عدما كالموانع أم لا ، فتجري أصالة الصحّة في فعل النائب ، ويثبت بها أنّه بجميع ما اعتبر فيه ؛ فيسقط عن المنوب عنه ويستحقّ النائب الأجرة إن كان بأجرة هذا.

ولكن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره أفاد أنّ لفعل النائب عنوانين :

أحدهما من حيث أنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشرائط ، وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ، مثل استحقاق الأجرة ، وجواز استيجاره ثانيا بناء على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحّة استيجاره ثانيا.

الثاني من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث أنّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب والآلة ، وكان الفعل بعد قصد النيابة والبدليّة قائما بالمنوب عنه ، وبهذا الاعتبار يراعي فيه القصر والإتمام في صلاة ، والتمتّع والقران في الحجّ ، والترتيب في الفوائت. والصحّة من الحيثيّة الأولى لا يثبت الصحّة من هذه الحيثيّة الثانية ، بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب.

ص: 301

وبعبارة أخرى : إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه من حيث أنّه فعل الغير كفت أصالة الصحّة في السقوط ، كما في الصلاة على الميّت ، وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له ولو على وجه التسبيب. إلى أن قال : لم تنفع أصالة الصحّة في سقوطه ، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين انتهى. (1)

ولكن أنت خبير بأنّ ما هو موضوع سقوط التكليف عن المنوب عنه - وعدم وجوب الاستيجار عليه ثانيا مع موضوع استحقاق النائب للأجرة إذا كان أجيرا - واحد ، وهو صدور الفعل التامّ الأجزاء والشرائط وفاقد الموانع - أي الفعل الصحيح - مع إحراز أنّه قصد بهذا الفعل النيابة عن ذلك المنوب عنه ، والمفروض أنّ المنوب عنه أحرز أنّه قصد النيابة عنه. وأمّا صحّة فعله - وأنّه واجد لجميع الأجزاء والشرائط ، وفاقد للموانع - فبأصالة الصحّة ؛ فلا وجه لعدم سقوط التكليف عن المنوب عنه. ولا يحتاج إلى إثبات أن هذا فعل المنوب عنه بالتسبيب ، بل ولو كان محتاجا إلى ذلك فليس ذلك مربوطا بأصالة الصحّة ، بل يتحقّق الانتساب إليه إمّا من ناحية استنابته له ، وإمّا من ناحية قصد النائب النيابة عنه ، وكلا الأمرين لا ربط له بأصالة الصحّة.

إن قلت : نعم هذا الفعل الصادر من النائب منتسب إلى المنوب عنه بالاستنابة أو بقصد النائب ، ولكن الفعل المنتسب إليه فعل مشكوك الصحّة والفساد ، وما هو موضوع سقوط التكليف عنه هو انتساب الفعل الصحيح إليه ، فيحتاج إلى إحراز صحّته ، ولا يمكن إحرازها بأصالة الصحّة لما ذكرنا من أنّها لا تثبت الصحّة من حيث أنّه فعل المنوب عنه ، بل تثبت الصحّة من حيث أنّه فعل النائب.

قلت : بعد ما كان هذا الفعل الصادر عن النائب منتسبا إلى المنوب عنه ولو ادّعاء ومجازا ، وحكم الشارع بأنّه تامّ وصحيح ، فهذا الفعل الذي صحيح تعبّدا منتسب إلى المنوب عنه فهو في الأثر مثل انتساب الفعل الصحيح الوجداني. هذا ، مضافا إلى ما

ص: 302


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 727.

ذكرنا من أنّ موضوع سقوط التكليف عن المنوب عنه هو صدور الفعل الصحيح وجدانا أو تعبدا عن النائب بقصد النيابة عنه ، ولا يحتاج إلى انتساب الفعل إليه.

نعم لا بدّ للمنوب عنه أو من يستنيب عنه إحراز أنّ النائب قصد النيابة عنه ، فهل يثبت وجود هذا القصد ويتحقّق في عالم الإثبات بأخبار النائب مطلقا ، أو فيما إذا كان عادلا ، أو لا يثبت به وإن كان عادلا ما لم يحصل وثوق واطمينان من قوله وإخباره؟

والحق هو هذا الأخير ؛ لأنّه لا دليل على حجّية قول العادل الواحد في الموضوعات ، بل ظاهر رواية مسعدة خلافه وأنّه على ذلك حتّى تقوم عليه البينة (1) وإذا كان العادل الواحد لا يقبل فغير العادل بطريق أولى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بقبول إقراره وسماعه بقاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به » ولا شكّ في أنّ النائب مالك لأنّ يفعل ما أنيب فيه.

وأمّا الأخير أي قبول قوله عند الوثوق والاطمئنان فلأنّ ذلك طريقة العقلاء في باب الأولياء والوكلاء والنواب في الأمور التي بيدهم وأودعت تحت تصرّفهم ، فالناس يصدّقونهم في تلك الأمور ، ولا يطلبون منهم البيّنة إذا كانوا موثوقين ومورد الاطمئنان. والظاهر أنّ الشارع أمضى هذه الطريقة ولو بعدم الردع.

المبحث السابع : في أنّها أصل أو أمارة

فإنّها إن كانت أمارة فبناء على ما تقدّم بأنّ جعل حجّية الأمارات من باب تتميم الكشف ، فتكون مثبتة لجميع الآثار التي لذلك الفعل الذي تجري فيه أصالة

ص: 303


1- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح 40 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

الصحّة إذا كان صحيحا واقعا ، سواء أكانت تلك الآثار آثارا شرعيّة ، أو كانت من اللوازم العقليّة التي لها آثار شرعيّة.

وأمّا إن كانت أصلا عمليّا سواء قلنا بأنّه من الأصول المحرزة أم لا ، بل كانت من الأصول غير المحرزة ، فلا يثبت بها إلاّ الآثار الشرعيّة التي تكون لذلك الفعل ، بلا واسطة أثر عقلي في البين.

وهذا الأمر ليس من مختصّات أصالة الصحّة ، بل يجري في كلّ أصل وأمارة. وهذا هو المراد من قولهم : إنّ مثبتات الأمارات حجّة دون الأصول.

وأمّا تعيين أنّها أمارة ، أو أصل محرز ، أو أصل غير محرز فهذا راجع إلى النظر في مدرك اعتباره.

فإن كان هو الإجماع ، فالقدر المتيقن من معقده هو ترتيب الآثار الشرعيّة التي للفعل الصحيح بلا واسطة لازمه العقلي ، سواء لم يكن لها واسطة أصلا ، أو كانت بواسطة الآثار الشرعيّة التي لذلك الفعل.

وأمّا إن كان هو بناء العقلاء كما اخترناه ، فإن كان بناؤهم على اعتبارها من جهة ظهور حال كلّ فاعل عاقل سواء كان مسلما أو غير مسلم في أنّه يفعل فعله وعمله صحيحا تاما ، لا ناقصا وفاسدا ، فإن قلنا إنّ بنائهم من جهة تتميمهم الكشف الناقص الموجود في ظهور حالهم ، فتكون أمارة وتكون مثبتاتها أيضا حجّة شأن كلّ أمارة.

وأمّا إن قلنا بأنّ بنائهم ليس من جهة تتميم الكشف ، بل يعملون طبق ذلك الظهور من دون أن يرونه طريقا وكاشفا تامّا في عالم اعتبارهم ، ولكن يعملون طبق ذلك الظهور عمل المتيقّن ، فيكون أصلا محرزا. وان كان عملهم طبق ذلك الظهور من دون بنائهم أنّه عمل المتيقّن ، فيكون أصلا غير محرز.

ولكن الظاهر من بنائهم هو الاحتمال الثاني ، فتكون من الأصول المحرزة ، وعلى كلّ حال ليس بناؤهم على ترتيب آثار الصحّة على فعل الغير من جهة كونه طريقا

ص: 304

وكاشفا. ولا فرق في عدم حجّية مثبتاتها بين أن تكون أصلا محرزا أو غير محرز.

فبناء على هذا لا يثبت بأصالة الصحّة ما يلازم الفعل الصحيح عقلا ، بل يترتّب على ذلك الفعل الآثار الشرعيّة فقط. وفرّع الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره على هذا - أي على عدم إثبات أصالة الصحّة اللوازم العقليّة - وقال : إنّه لو شكّ في أنّ الشراء الصادر عن الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير ، أو بعين من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع ؛ لأصالة عدمه. انتهى ما قال بعين عبارته. (1)

والظاهر من هذا الكلام أنّ هذه المعاملة صحيحة بحكم أصالة الصحّة ، ولكن لازم الصحّة عقلا أن يكون الثمن عينا من أعيان ماله ، لا الشي ء الذي لا يملك كالخمر والخنزير ؛ لأنّ ما لا يملك ليس قابلا للنقل والانتقال شرعا.

وبعبارة أخرى : ترديد الثمن بين ما لا يملك كالخمر والخنزير وبين عين من أعيان ماله ، إذا انضم إلى صحّة المعاملة يكون لازم الصحّة عقلا هو أن يكون الثمن المردّد منطبقا على ما هو المملوك ، إذ كون غير المملوك ثمنا ينافي صحّة المعاملة. ولكن حيث أنّ هذا من اللوازم العقليّة للصحّة لا من الآثار الشرعيّة ، وقد عرفت أنّ هذا الأصل لا يثبت اللوازم العقليّة ، فلا يثبت أنّ الثمن هو ذلك الفرد المملوك ، أي عين من أعيان تركته ، فيحكم بصحّة الشراء بأصالة الصحّة ويعطي المبيع لورثة المشتري ، ولكن لا ينتقل شي ء من تركته إلى البائع ؛ لأصالة عدم الانتقال ، ولا علم إجمالي بانتقال شي ء من تركته إلى البائع لاحتمال أن يكون الثمن هو ما لا يملك ، وتكون المعاملة باطلة. ولا ينافي احتمال بطلانها واقعا مع إجراء أصالة الصحّة ، بل مورد جريان أصالة الصحّة دائما هو مع احتمال البطلان.

نعم لا يجوز للوارث أو الورثة التصرّف في المبيع ومجموع التركة ، أو خصوص

ص: 305


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 728.

تلك العين من أعيان ماله إذا كان طرف الترديد في الثمن المسمّى عينا معيّنا ؛ وذلك من جهة العلم الإجمالي إمّا بعدم دخول المبيع في ملك مورّثهم لو كان الثمن المسمّى ما لا يملك ، وإمّا بخروج تلك العين الشخصيّة أو مقدار ما يساوي المبيع من التركة عن ملك مورّثهم ، فيجب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي.

وقد أشار إلى لزوم هذا الاحتياط الفقيه الهمداني قدس سره في حاشيته على رسائل شيخنا الأعظم الأنصاري في هذا المقام.

وقد اعترض شيخنا الأستاذ (1) قدس سره على ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري ، من الجمع بين صحّة الشراء وانتقال المبيع إلى المشتري المفروض ، وبين عدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع ، بأنّه إن كان الثمن المردّة بين ما لا يملك كالخمر والخنزير وبين عين من أعيان ماله ، كان في حاقّ الواقع هو ما لا يملك ، فلا يدخل المبيع في ملك المشتري ؛ لأنّه يلزم أن يكون انتقال المبيع بلا ثمن ، وهذا ينافي مع حقيقة البيع ؛ لأنّ حقيقة البيع هي المبادلة بين المالين فلا يكون صحيحا. وإن كان هو ذلك المال الذي عيّنه وسمّاه ، فهذا مناف مع عدم انتقال شي ء من تركته.

وبعبارة أخرى : حاصل ما أفاد أنّ صحّة الشراء مع عدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع متنافيان ، فيعلم إجمالا بكذب أحد الأصلين ، إمّا أصالة الصحّة ، وإمّا أصالة عدم الانتقال ، فيتساقطان بالتعارض.

ثمَّ أنّه قدس سره حكم ببطلان هذا الشراء وهذه المعاملة للشكّ في قابليّة الثمن للنقل والانتقال ؛ وذلك بناء على مبناه من أنّ أصالة الصحّة لا ترفع الشكّ الذي في جانب العوضين أو المتعاقدين. وقد تقدّم تفصيل ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّه وإن كان كذلك بالنسبة إلى الصحّة الواقعيّة وانتقال المبيع واقعا إلى المشتري وعدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع واقعا فإنّهما متنافيان ، ولكن

ص: 306


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 666.

ليس كذلك بالنسبة إلى الصحّة الظاهريّة وعدم الانتقال ظاهرا ؛ لأنّه من الممكن عدم الصحّة واقعا ولكن الشارع حكم بالصحّة ظاهرا في ظرف الشكّ ، فحينئذ مع هذا الحكم الظاهري بالصحّة في المفروض لم ينتقل شي ء من تركته إلى البائع قطعا وكذلك في صورة العكس - أي في صورة حكم الشارع ظاهرا بعدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع - لا مانع من صحّة المعاملة واقعا ؛ لأنّ عدم الانتقال الظاهري في ظرف الشكّ في الانتقال بحكم الاستصحاب لا ينافي الانتقال الواقعي ، فلا تنافي بين الظاهريين منهما كما في المقام بطريق أولى. وقد وقع نظيره كثيرا في مفاد الأصول والأحكام الظاهرية.

نعم نفس المشتري إذا كان حيّا أو ورثته ، إذا كان ميتا ليس لهم التصرّف في المبيع ، وذلك الذي كان طرف ترديد الثمن من أمواله للعلم الإجمالي المذكور لما ذكرنا. ولكن هذا شي ء آخر لا ربط له بما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري وأفاده ، ولعلّ عدم ذكره من جهة وضوحه.

المبحث الثامن : في تقديم أصالة الصحّة على الاستصحابات الموضوعيّة أو تقديمها على أصالة الصحّة

فنقول : بناء على ما اخترنا من جريان أصالة الصحّة في شرائط العقد ، والعوضين ، والمتعاقدين عند الشكّ في وجودها فتكون حاكمة على الأصول الموضوعيّة العدميّة ولو كان من شروط العوضين أو المتعاقدين بناء على كونها أمارة ؛ وذلك من جهة كشفها عن وجود تلك الشرائط تعبّدا. فلا يبقى موضوع للاستصحابات أصلا في عالم الاعتبار التشريعي ، وهذا معنى الحكومة. فبناء على أماريّتها الأمر في غاية الوضوح.

ص: 307

ولكن نحن أنكرنا أماريّتها وبنينا على أنّها من الأصول المحرزة ، فلا يمكننا القول بتقديمها على الاستصحابات العدميّة من جهة حكومة الأمارات على الأصول ، ولا بدّ من القول بوقوع التعارض ؛ لأنّ كليهما من الأصول المحرزة.

ولكن مع ذلك كلّه يمكن أن يقال أنّ مدرك حجيّة أصالة الصحّة إمّا الإجماع كما يقول به شيخنا الأستاذ قدس سره (1) وإمّا بناء العقلاء وسيرتهم من كافّة الأمم ، سواء كانوا مسلمين أو لم يكونوا كذلك.

فعلى الأوّل فلا بدّ وأن ينظر في الإجماع ، وأنّه هل لمعقده إطلاق - بحيث يشمل موارد الاستصحابات الموضوعيّة العدميّة في غير الشرائط التي دخيلة في تحقّق عنوان المعاملة عرفا ، إذ في الشكّ فيها لا مجال لجريان أصالة الصحّة كما تقدّم بيان ذلك تفصيلا - أم لا؟ فإن كان لمعقده إطلاق يشمل تلك الموارد ، فأيضا لا يبقى للاستصحابات الموضوعيّة مجال ؛ إذ إطلاق معقد الإجماع مثل الإطلاق الدليل اللفظي حاكم على الاستصحاب.

وأمّا إن كان المدرك لحجيّة أصالة الصحّة هو بناء العقلاء وسيرتهم - كما اخترناه - فالظاهر أيضا تقدّمها على تلك الاستصحابات.

بيان ذلك : أنّ سيرة العقلاء إذا قامت على شي ء فعدم ردع الشارع كاف في الإمضاء فحينئذ لا بدّ من أن ننظر إلى دليل الاستصحاب وأنّه هل صالح لأن يردع هذه السيرة أم لا؟

فنقول : لا شكّ في أنّ الاستصحاب وظيفة علميّة مجعولة للشاكّ المتحيّر ، فإذا قامت سيرة العقلاء في مورد الشكّ في صحّة معاملة إذا كان منشأ الشكّ فقد شرط أو وجود مانع لا دخل لها في تحقّق عنوان المعاملة عرفا ، سواء كانت من شرائط العقد ، أو من شرائط العوضين ، أو من شرائط المتعاقدين فلا يرى نفسه متحيّرا شاكّا ، بمعنى

ص: 308


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 654.

أنّه لا يلتفت إلى كونه شاكّا ، وإن كان لو التفت إلى حاله يكون شاكّا ، ولكن لا يتحيّر فلا يرى نفسه موضوعا لخطاب « لا تنقض » حتّى يكون رادعا.

ولا تتوهّم من هذا أماريّة أصالة الصحّة ، وهو خلاف المفروض ، لأنّ فرضنا الآن على تقدير الأصليّة وأنّها أصل محرز ، وإلاّ فعلى تقدير الأماريّة بيّنّا حكومتها على الاستصحابات الموضوعيّة ، شأن حكومة كلّ أمارة على كلّ أصل. وذلك من جهة أنّ معنى الأمارة الشرعيّة أن يجعلها الشارع في عالم اعتباره التشريعي كاشفا تامّا ، ونحن ما ادّعينا مثل ذلك لها ، وإنّما قلنا أنّ بناء العقلاء على العلم على طبق المعاملة الصحيحة التامّة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، وهذا المعنى لا يلازم جعلها كاشفا شرعا.

هذا ، مضافا إلى أنّه ما من مورد يشكّ في صحّة معاملة من أقسام المعاملات من العقود والإيقاعات ، إلاّ وأن يكون بالنسبة إلى بعض شرائط المتعاقدين أو العوضين مجرى استصحابات العدميّة ، فلو كانت تلك الاستصحابات مقدّمة على هذا الأصل لا يبقى مورد له أصلا ، أو كان مورده في غاية القلّة بحيث يكون مثل هذا التشريع لغوا ، بل يوجب سقوط هذا الأصل في تلك الموارد - سواء كان من باب تقديم تلك الاستصحابات ، أو من باب سقوطه بالمعارضة - اختلال النظام أيضا ، فلا بدّ من تقديمه على تلك الاستصحابات ، سواء قلنا بأنّه أصل أو أمارة.

وبعبارة أخرى : يكون هذا الأصل أخصّ بحسب المورد عن الاستصحاب ، فيكون مخصّصا لدليل الاستصحاب ، كما هو الشأن في مورد الخاصّ والعامّ المختلفين في الحكم. هذا تمام الكلام في مباحث أصالة الصحّة.

ثمَّ أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ذكر أصالة الصحّة في الأقوال والاعتقادات ، وذكر للأوّل صورا وقال في بعضها بجريان أصالة الصحّة فيها ، وفي بعضها الآخر أنكر

ص: 309

جريانها. (1)

ولكن جملة من الصور التي ذكرها لا ربط لها بأصالة الصحّة ، بل يكون مرجعها إلى أصالة الظهور الكاشف عن مراد المتكلّم ، أو الأصول التي تستعمل لتشخيص الظاهر عن غيره ، كأصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق.

نعم الأقوال من حيث أنّها فعل من أفعال المكلّفين ، فإذا كان لصحيحها أثر شرعي فتجري فيها أصالة الصحّة بلا كلام. ولا إشكال مثل القراءة في الصلاة ، فإذا شكّ في أنّه أتى بها صحيحة أو فاسدة من جهة النقص في مادّتها من حيث مخارج الحروف ، أو نقيصة بعض حروف الكلمة ، أو من جهة النقص في إعرابه فتجري فيها أصالة الصحّة ويترتب عليه الأثر.

وأمّا أنّه أراد معناه الحقيقي ، أو المجازي ، أو ما أراد معنى أصلا ، أو ما أخبر به مطابق مع الواقع وصدق فيما أخبر أو كذب وأمثال ذلك ، فكلّ ذلك لا ربط له بأصالة الصحّة ، بل يرجع إمّا إلى أصالة الظهور ، أو إلى الأصول التي تستعمل لتشخيص الظاهر من غيره. وأمّا إنّه صادق أو كاذب فيرجع إلى أدّلة حجّية الخبر الواحد.

وأمّا الثاني - أي أصالة الصحّة في الاعتقادات - إن كان المراد من الاعتقادات العقائد في أصول الدين التي يجب العلم بها ومعرفتها ، فالشكّ في اعتقادها وأنّه هل اعتقاده صحيح أو فاسد ، مثلا إذا شكّ في اعتقاده باللّه وأنّه واحد أحد لا شريك له ولا تركيب فيه ، لا ، من الأجزاء الخارجيّة ولا من الأجزاء العقلية ، وأنّ صفاته عين ذاته ، وأنّه واجب الوجود بالذات ، وأنّه تعالى مجمع الكمالات وينبوع الفضائل ، وأنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله أشرف الخلائق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين ، وأنّ الناس يحشرون بأجسامهم وأبدانهم الموجودة في دار الدنيا ، وأنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام أمير المؤمنين ، وأولاده المعصومين أئمّة هداة مهديّون وحجج اللّه تعالى على الخلق أجمعين ، أو لا ، بل

ص: 310


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 731.

لا يعترف بشي ء من المذكورات أو ببعضها ، وفرضنا لاعتقاده الصحيح أثر شرعي يجب ترتيبه عليه ، فإن أظهر ذلك الاعتقاد باللسان أو بدالّ آخر يكون ذلك الظاهر حجّة له ، أو عليه ، ولا ربط له بأصالة الصحّة.

وأمّا إن لم يظهر أو كان غائبا أو ميّتا ولكن لاعتقاده الصحيح أثر شرعا ولو بعد مماته ، وحصل هذا الشكّ فهل يحمل على الصحّة أم لا؟

والظاهر أنّه يحمل على الصحّة إذا علم أو ثبت بحجّة شرعيّة أنّه منتحل للإسلام وسيرة المسلمين قائمة على صحّة اعتقاد من يدّعي ويظهر الإسلام حتّى يعلم خلافه.

وأمّا إن كان المراد من الاعتقاد ، الاعتقاد في الفروع وأحكام الفقهيّة ، بمعنى رأي الفقيه واعتقاده مثلا بوجوب شي ء أو حرمته حيث أنّ لاعتقاده ورأيه إذا كان عن منشأ صحيح أثر بالنسبة إلى مقلّديه ، فإذا شكّ في أنّ هذا الرأي هل هو عن استنباط صحيح أم لا ، بل لم يؤدّ وظيفة الاستنباط كاملا بل تساهل وتسامح ، فالظاهر هو الحمل على الصحّة ، وعليه بناء عامّة المقلّدين في الأعصار والأمصار. ولكن هذا في الحقيقة إجراء أصالة الصحّة في الاستنباط ، لا في الاعتقاد.

نعم لا يمكن إثبات أنّ هذا الرأي والاعتقاد مطابق للواقع بأصالة الصحّة بالمعنى المذكور ؛ لأنّ الاستنباط ولو كان عن مدرك صحيح موافق للقواعد المقرّرة الفقهيّة والأصولية وكان في كمال الدقّة ، ومع ذلك كلّه قد يخطئ وقد يصيب ، فكون الاستنباط عن مدرك صحيح لا يلزم دوام الإصابة ، فلا يمكن الحكم بالإصابة ومطابقة هذا الرأي للواقع بإجراء أصالة الصحّة في الاستنباط. هذا تمام الكلام في أصالة الصحّة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.

ص: 311

ص: 312

12 - قاعدتي الفراغ والتجاوز

اشارة

ص: 313

ص: 314

فراغ والتجاوز (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدتي الفراغ والتجاوز. وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : في أنّهما هل من الأصول التنزيليّة أو من الأمارات؟

وأمّا احتمال أن يكونا من الأصول غير التنزيليّة فبعيد لا ينبغي المصير إليه والبحث عنه.

فنقول : قد ذكرنا مرارا أنّ المناط في الأماريّة بناء على ما هو التحقيق في وجه حجيّتها هو تتميم كشفها في عالم الاعتبار التشريعي بعد ما كان فيها كشف ناقص ، فالشارع في عالم الاعتبار التشريعي يعتني بذلك الكشف الناقص التكويني ، ويحسبه ويعتبره كشفا تامّا.

فأماريّة الأمارة متوقّفة على أمرين : أحدهما : أن تكون فيه جهة كشف ناقص. والثاني : عدم إلغاء الشارع تلك الجهة ، بل اعتنائه بها واعتبارها كشفا تامّا وإن لم يكن تامّا بحسب التكوين ، بل احتمال الخلاف فيه موجود.

ص: 315


1- (*) « عناوين الأصول » عنوان 5 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 191 ؛ « قاعدة الفراغ والتجاوز » الهاشمي ؛ « القواعد » ص 191 ؛ « قواعد فقهي » ص 270 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 2. ص 212 ؛ « ما وراء الفقه » ج 1 ، ص 270 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 246.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في أنّ في مورد هاتين القاعدتين يكون لهما نحو كشف وطريقيّة ، لوجود العمل التام الصحيح بعد الفراغ في مورد قاعدة الفراغ ، ووجود الجزء المشكوك بعد تجاوز محلّه في قاعدة التجاوز ؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا أراد إيجاد عمل مركّب في الخارج فإرادته تتعلّق بإيجاد تمام أجزائه وشرائطه ، كلّ في محلّه إن كان له محلّ ، وترك جميع موانعه ، وإلاّ ليس في مقام الامتثال ، وهو خلاف الفرض.

فالظاهر أنّ العمل يصدر منه طبق تلك الإرادة ، وكما أنّه بعيد غاية البعد أن يريد إيجاد شي ء ويوجد شيئا مباينا لما أراد ، كذلك لا يخلو من البعد أن يريد إيجاد مجموع الأجزاء والشرائط وترك جميع الموانع ، ثمَّ يأتي ببعضها بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط ، ويترك بعضها بالنسبة إلى الموانع ولو غفلة ونسيانا ؛ لأنّ الغفلة والنسيان حالتان قد تعرض على الإنسان في بعض الأحيان بالنسبة إلى بعض الأعمال ، فهاتان الحالتان ليستا دائميّتين ولا غالبيّتين ، ولذلك بناء العقلاء على أصالة عدم الغفلة والنسيان عند الشكّ فيهما ، وذلك من جهة أنّ الغفلة والنسيان خروج عن مقتضى الطبع الأوّلي وإن قيل بأنّ السهو والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان.

وحاصل الكلام : أنّ مقتضى طبع الإرادة المتعلّقة بالمركّب إيجاده على طبقها ، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الإرادة الكليّة المتعلّقة بالمركّب هي المحرّكة للعضلات نحو إيجاد الأجزاء - كما هو الحقّ - وبين القول بتولّد إرادات جزئيّة من تلك الإرادة الكليّة وتعلّق كلّ واحدة منها بجزء من الأجزاء ، أو شرط من الشروط ، أو ترك مانع من الموانع.

والسرّ في عدم الفرق أنّ وجود الأجزاء والشرائط وعدم الموانع بالآخرة مسبّب عن تلك الإرادة الكلّية ، غاية الأمر إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة.

إذا تبيّن ذلك وعرفت أنّ الجهة الأولى من الجهتين اللتين تتوقّف الأمارة عليهما موجود في مورد القاعدتين إلاّ وهو الكشف الناقص ، فلننظر في الجهة الثانية وهو أن

ص: 316

يكون الجعل الشرعي بلحاظ تلك الجهة وتتميم الكشف الناقص الموجود فيهما واعتباره كشفا تامّا.

ولا بدّ في تعيين هذه الجهة وتشخيصهما من ملاحظة أدلّة حجيّتهما وأنّ أيّ شي ء يستفاد منها.

فنقول : إنّ السنّة أدلّتهما مختلفة ، ففي بعضها حكم بأنّه يمضي ، وفي بعضها حكم بأنّ « شكّك ليس بشي ء » ، وفي جملة منها « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه ».

والإنصاف أنّ هذه العبارات على اختلافها لا تدلّ على أكثر من الجري العملي ، ولا يمكن إثبات الأماريّة بها. نعم في بعض أخبار الشكّ في أجزاء الوضوء بعد الفراغ عنه : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ » وظاهر هذا التعليل لعدم الإعادة هي الأماريّة ، وأنّ حجيّتها بلحاظ الكشف عن وجود المشكوك.

هذا كلّه بحسب الأخبار ، وأمّا بناء على كون حجيّتهما من باب بناء العقلاء على صحّة المركّب الذي صدر منهم إذا شكّوا في إتيانه كاملا بعد الفراغ عنه ، أو إذا شكّوا في إتيان جزء بعد التجاوز عن محلّه إذا كان للجزء محلّ ، فتكون القاعدتان من الأمارات يقينا ، وعلى كلّ حال تكونان مقدّما على الاستصحاب إمّا من باب الحكومة لو كانا من الأمارات - وقد أوضحنا وجه حكومة الأمارات على الأصول وإن كانت الأصول تنزيليّة - وأمّا بناء على كونهما من الأصول التنزيليّة ، فتقديمها على الاستصحاب من جهة كون جعلهما في مورد الاستصحاب غالبا ، فلو لم يقدّما عليه يلزم لغويّة جعلهما.

وربما يقال في وجه تقديمهما عليه وإن كانا من الأصول التنزيليّة أيضا بحكومتهما عليه ، كما لو كانا أمارتين من جهة أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث ، ومفاد القاعدتين هو البناء على عدم الاعتناء بالشكّ في بقاء العدم ، بل البناء العملي على انقلاب العدم بالوجود ، فيرتفع موضوع الاستصحاب تعبّدا ،

ص: 317

وهذا معنى الحكومة ، فتأمّل.

ثمَّ إنّه لو شككنا ولم نحرز أنّهما من الأمارات أو من الأصول ، فمقتضى القاعدة عدم ترتيب آثار الأمارة عليهما من ترتيب آثار الشرعيّة التي للوازمهما العقليّة عليها ؛ لأنّ مرجع هذا الشكّ هو الشكّ في إثبات اللوازم بهما ، وإلاّ بالنسبة إلى أصل المؤدّى فلا فرق بينهما ، أي سواء كانا من الأصول أو من الأمارات يثبت المؤدّى بهما ، ومعلوم أنّ نتيجة الشكّ في حجيّتهما في إثبات اللوازم عدم حجيّتهما كما هو الشأن في كلّ مشكوك الحجيّة.

[ المبحث ] الثاني : في أنّهما من القواعد الفقهيّة أو من المسائل الأصولية؟

وقد ذكرنا مرارا أنّ الضابط في كون المسألة أصوليّة أن تكون واسطة في إثبات المحمولات الفقهيّة لموضوعاتها.

والسرّ في ذلك أنّه لا شكّ في أنّ كلّ قضيّة ومسألة ليس ثبوت محمولها لموضوعها بديهيّا ومبيّنا في نفسه ، فالتصديق بثبوت ذلك المحمول لذلك الموضوع يحتاج إلى دليل ومثبت ، وذلك الدليل والمثبت هو الذي تسمّيه بالواسطة في الإثبات. ولا شكّ في أنّ أغلب المسائل الفقهيّة نظريّة يحتاج إلى النظر والاجتهاد والاستنباط في عصر الغيبة ، بل وفي عصر حضور الإمام علیه السلام ، كما يظهر ذلك من أمرهم صلوات اللّه عليهم بعض أصحابهم في زمان حضورهم بالجلوس والإفتاء بين الناس.

فالمجتهد هو الذي يفتّش ويفحّص عن وجود الدليل على ثبوت محمول المسألة الفقهيّة لموضوعها ، والعلم المتكفّل لتعيين تلك الأدلّة هو علم الأصول ، فكل قاعدة ومسألة تقع نتيجة البحث عنها واسطة لإثبات محمول مسألة فقهيّة لموضوعها يكون من المسائل الأصولية ؛ لأنّه لا همّ ولا غرض للأصولي إلاّ معرفة المبادي التصديقيّة

ص: 318

للمسائل الفقهيّة والأدلّة لها ، ولأجل هذا الغرض وهذه النتيجة ألّفوا على الأصول ، ولذا عرّفوه : بأنّه العلم بالقواعد التي تقع كبرى في قياس يستنتج منه الحكم الشرعي الفرعي الكلّي.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فنقول : إنّ مفاد قاعدة الفراغ والتجاوز ليس إلاّ الحكم بصحّة العمل الذي فرغ منه ، وشكّ في أنّه هل أخلّ بذلك العمل المأمور به بترك جزء ، أو شرط ، أو إتيان مانع في قاعدة الفراغ ؛ وأيضا ليس إلاّ الحكم بإتيان جزء أو شرط إذا شكّ في إتيانه بعد تجاوز محلّه إذا عيّن له محلّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا المعنى الذي هو مفاد القاعدتين بنفسه حكم شرعي فرعي كلّي ينطبق على مواردها انطباق جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة على مواردها ، وليس واسطة لإثبات حكم شرعي فرعي كلّي آخر ؛ فليست من المسائل الأصوليّة بل هما قاعدتان فقهيّتان.

بقي شي ء : وهو أنّه ما الفرق بين المسألة الفقهيّة وقاعدتها؟ ولما ذا سمّيتهما بالقاعدة الفقهيّة دون مسألتها.

والجواب أنّه صرف اصطلاح ، وإلاّ فليس ها هنا فرقا جوهريّا نعم جرى اصطلاحهم على تسمية المسائل العامّة التي تحتها مسائل ، وتنطبق على أبواب متعدّدة كمسألتينا ، هاتين حيث أنّهما تنطبقان على كلّ عمل شكّ في وقوع الخلل فيه وصحّته بعد الفراغ في قاعدة الفراغ ، وفي وجود أيّ جزء أو شرط شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه في قاعدة التجاوز في أيّ باب من أبواب الفقه ، بناء على عدم اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، وإلاّ تكون منحصرة فيها بأبواب الصلاة من أجزائها وشرائطها.

فقاعدة الفراغ تجري في جميع أبواب العبادات والمعاملات ، وقاعدة التجاوز أيضا كذلك ، بناء على عدم اختصاصها بالصلاة. وأمّا بناء على الاختصاص سمّيت بالقاعدة

ص: 319

لشمولها لجميع أبواب الصلاة من جميع أجزائها وشرائطها ، مثلا لو قال الفقيه : « لو شكّ المصلّي في القراءة بعد أن ركع فليمض في صلاته ولا يعتني بشكّه » فهذه مسألة فقهيّة. ولو قال : « لو شكّ في وجود أيّ جزء أو شرط للصلاة بعد التجاوز عن محلّه فليمض في صلاته ولا يعتني بشكّه » فهذه قاعدة فقهيّة ، وهذه هي قاعدة التجاوز. وهكذا الحال في سائر المسائل الفقهيّة وقواعدها.

[ المبحث ] الثالث : في أنّهما قاعدتين أو قاعدة واحدة؟

اشارة

بمعنى أنّ الكبرى المجعول واحدة في كليهما ، أو الكبرى المجعول في إحديهما غير المجعول في الأخرى؟

أقول : لا شكّ في أنّ مفاد كلّ واحدة منهما ومفهومه غير مفهوم الآخر ؛ لأنّ قاعدة الفراغ عبارة عن الحكم بصحّة الشي ء المشكوك صحّته وتماميّته بعد الفراغ عنه ومضيّه ، وقاعدة التجاوز عبارة عن حكم الشارع بوجود الشي ء الذي شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه. وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى في أنّه ما المراد من المحلّ في بعض الأمور الآتية.

وبعد ما عرفت أنّ مفهوميهما ومفاديهما مختلفان ، فيرجع البحث إلى أنّ المجعول من قبل الشارع هل هو كبرى واحد ، بحيث ينطبق على كلا المفهومين ويكون كلا المفادين المذكورين من مصاديق تلك الكبرى المجعول الجامع بين مضمون القاعدتين أم لا؟

وهاهنا مقامان

الأوّل : في مقام الثبوت ، وأنّه هل يمكن في مقام التشريع جعل كبرى واحد تكون شاملة لكلتا القاعدتين وتنطبق على كلا المفادين ، أم لا يمكن؟ لعدم جامع بين

ص: 320

المفادين فلا يمكن جمعهما في استعمال واحد في مقام الجعل والتشريع.

الثاني : في مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة ، وأنّه بعد الفراغ عن إمكان جعل كبرى واحدة تشملهما ، هل هناك في أدلّة الباب دليل يدلّ على مثل هذا الجعل أم لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالذي يقول بعدم إمكان الجمع بينهما في جعل واحد ، يقول بأنّ الشكّ في قاعدة التجاوز متعلّق بأصل وجود الشي ء ، وفي قاعدة الفراغ بصحّة الموجود ، وأن الأوّل مفاد كان التامّة ، والثاني مفاد كان الناقصة. والتعبّد بوجود الشي ء غير التعبّد بصحّة الموجود ؛ فلا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد ، إلاّ بناء على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، وهو محال.

أقول : لا يفيد في المقام القول بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ؛ لأنّه على فرض الجواز أيضا يكون المجعول أمرين مختلفين ، وهو خلاف المفروض في المقام ؛ لأنّ المفروض والمدّعى في المقام أن يكون المجعول معنى واحد جامعا بين مفادي قاعدة التجاوز - الذي هو التعبّد بوجود المشكوك - وقاعدة الفراغ الذي هو التعبّد بصحّة الموجود ، أعني تماميّة ما أوجده من دون وقوع خلل فيه.

فالمدّعى هو أنّ المجعول معنى واحد يكون مفاد كلتا القاعدتين ومضمونهما من ذلك المعنى الواحد ، فلو أمكن ذلك يكون من باب استعمال اللفظ في معنى واحد لا من باب استعماله في المتعدّد ، وإن لم يكن جعل ذلك المعنى الواحد الجامع بين المفادين فجواز استعمال اللفظ في المعاني المتعددة لا أثر له.

نعم أجاب شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره عن هذا الإشكال (1) بإمكان إرجاع قاعدة الفراغ أيضا إلى مفاد كان التامّة ، بأن يقال : إنّ التعبّد فيها أيضا يرجع إلى التعبّد بوجود الصحيح ، لا التعبّد بصحّة الموجود ، حتّى يكون مفاد كان الناقصة.

ص: 321


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 715.

وبعبارة أخرى : جعل الصحّة قيدا للموضوع لا للمحمول كي يكون المحمول هو الوجود المطلق ، فيكون مفاد كان التامة ، بأن يقال عند الشكّ في صحّة العمل الذي فرغ عنه - صلاة كان ذلك العمل أو حجّا أو غيره - : العمل الصحيح وجد.

والمناط في مفاد كون القضيّة مفاد كان التامّة أن يكون المحمول هو الوجود المطلق ، ولو لوحظ ألف قيد في جانب الموضوع. ومناط كونها مفاد كان الناقصة هو أن يكون المحمول هو الوجود المقيّد ، سواء أكان الموضوع مطلقا أو مقيّدا ، فالإطلاق والتقييد في جانب المحمول هو المناط في كون القضيّة مفاد كان التامّة أو الناقصة. وأمّا الإطلاق والتقييد في جانب الموضوع فلا أثر لهما أصلا ، فبناء على ما ذكره قدس سره تكون الكبرى المجعولة معنى واحدا ، وهو التعبّد بوجود الشي ء.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ قدس سره أوّلا : بأنّ التعبد بوجود الصحيح لا يثبت صحّة الموجود ، إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، والأثر مترتّب على صحّة الموجود لا على وجود الصحيح.

إن قلت : يكفي في سقوط الأمر والامتثال التعبّد بوجود الصحيح.

قلت : على فرض كفايته في العبادات لا يكفي في المعاملات ؛ لأنّ الأثر فيها مترتّب على كون هذه المعاملة الموجودة في الخارج - بعد الفراغ عن كونها موجودة - صحيحة ، لا على وجود المعاملة الصحيحة. نعم لو قلنا بأنّ هاتين القاعدتين من الأمارات لا يبقى وجه لهذا الإشكال ؛ لأنّه حينئذ مثبتاتهما حجّة.

وثانيا : بأنّ متعلّق التجاوز الواردة في الأخبار في قاعدة الفراغ ذات الشي ء ونفسه ، وفي قاعدة التجاوز محلّه ، ولا جامع بينهما. (1)

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأنّ التجاوز عن الشي ء كما أنّه يصدق بالتجاوز عن نفسه وإتمامه والمضي عنه ، كذلك يصدق بالتجاوز عن محلّه الذي عيّن له

ص: 322


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 620.

الشارع.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عن هذا الإشكال بأنّ متعلّق التجاوز في قاعدة الفراغ أيضا محلّ الجزء المشكوك وجوده ، لأنّ الشكّ في صحّة العمل المركّب الذي صدر عنه بعد الفراغ عنه أيضا مسبّب عن وجود ذلك الجزء المشكوك الوجود في محلّه ، ومعلوم أنّ حصول هذا الشكّ المسبّبي إنّما يكون بعد التجاوز عن محلّ ذلك الجزء المشكوك الوجود (1).

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام معناه إرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز ، بل إنكار قاعدة الفراغ بالمرّة ، مضافا إلى أنّه يلزم الاستخدام في ضمير قوله علیه السلام « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » (2) إذ المراد بناء على هذا الجواب من « الشي ء » نفس المركّب ، ومن الضمير في « لم تجزه » الراجع إلى « الشي ء » الجزء المشكوك الوجود ، وهذا هو الاستخدام وهو خلاف الأصل والظاهر.

إن قلت : إن المراد من « الشي ء » أيضا هو الجزء المشكوك.

قلت : فلا ينتج صحّة المركّب إلاّ على القول بالأصل المثبت.

وثالثا : بأنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز هو الجزء ، وفي قاعدة الفراغ هو الكلّ ، ولا جامع بين الجزء والكلّ في عالم اللحاظ ؛ لأنّ لحاظ الجزء شيئا بحيال ذاته لا يكون إلاّ في الرتبة السابقة على المركّب والكلّ ، لأنّ النسبة بين الأجزاء والكلّ نسبة العلّية والمعلوليّة ، وللأجزاء تقدّم على الكلّ.

وبعبارة أخرى : شيئيّة الأجزاء مندكّة في شيئيّة الكلّ ، ففي مرتبة لحاظ الكلّ شيئا لا يمكن لحاظ الجزء شيئا ؛ لأنّه لا شيئيّة له في تلك المرتبة.

ص: 323


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 623.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 262 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة ، ح 111 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 330 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 2.

والحاصل : أنّه ليس لحاظ شيئيّة الجزء وشيئيّة الكلّ في مرتبة واحدة ، ففي مرتبة لحاظ شيئيّة الجزء ليس كلّ في البين حتّى يلاحظ شيئيّته ، وفي مرتبة لحاظ شيئيّة الكلّ لا شيئيّة للجزء ؛ لأنّ شيئيّة الجزء في هذا اللحاظ مندكّة في شيئيّة الكلّ ، فالجمع بينهما في لحاظ واحد ممّا لا يمكن أن يكون.

ولكن أنت خبير بأنّ ما لا يمكن الجمع بينهما في لحاظ واحد هو شيئيّة الجزء بعنوان أنّه جزء مع شيئيّة الكلّ بعنوان أنّه كلّ ، لا شيئيّة الجزء والكلّ بعنوان أنّهما موجودان وشيئان كسائر الأشياء ، فلا مانع من شمول عنوان « الشي ء » لهما كما أنّه يشمل سائر الأشياء ، ولا يحتاج إلى شيئيّة الجزء والكلّ بعنوان أنّه جزء وكلّ ، حتّى يقال بأنّه لا يمكن اجتماعهما في لحاظ واحد.

وبعبارة أخرى : لا شكّ في أنّ كلّ موجود - سواء أكان موجودا في الخارج ، أو كان موجودا في الذهن ، أو كان موجودا في عالم الاعتبار - شي ء ؛ لأنّ الشيئيّة مساوق للوجود يدور معه حيثما دار ، فالجزء والكلّ شي ء بعناية واحدة وهي أنّهما موجودان. نعم الذي لا يمكن هو لحاظ الاثنين - أي : الكل والجزء - بعنوانهما الخاصّ في لحاظ واحد ، واستعمال واحد ، من لفظ واحد.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا يبقى وجه لما تكلّفه شيخنا الأستاذ قدس سره في مقام الجواب عن هذا الإشكال : بأنّ مصداقيّة الجزء للشي ء بعناية التعبّد وتنزيل الشكّ في الجزء في خصوص باب الصلاة منزلة الشكّ في الكلّ ، ولذا لا تجري قاعدة التجاوز في غير باب الصلاة مطلقا ، ولا خصوصيّة للطهارات الثلاث حتّى يقال إنّ خروجها وتخصيصها بالإجماع والأخبار ؛ لأنّه بناء على هذا لا عموم للقاعدة ، فيكون خروج الطهارات الثلاث كغيرها من سائر المركّبات ما عدا الصلاة من باب التخصّص لا التخصيص.

وحاصل ما أفاده قدس سره في دفع هذا الإشكال هو أنّ الكبرى المجعولة هي عبارة عن

ص: 324

عدم الاعتناء بالشكّ في وجود الشي ء بعد التجاوز عنه. (1)

ولكن انطباق هذه الكبرى على الكلّ لا يحتاج إلى عناية أخرى لأن شيئيّة الكلّ وجدانيّة قطعيّة ، وأمّا انطباقها على الجزء لا يمكن إلاّ بعد عناية أخرى وهو تنزيل الجزء منزلة الكلّ في هذا الأثر ، كي يصير الجزء بواسطة هذا التنزيل فردا ومصداقا تعبديا لمفهوم الشي ء في تلك الكبرى المجعولة.

وحيث أنّ هذا التعبّد والتنزيل وقع في الصلاة دون سائر المركّبات ، كما يدلّ عليه رواية زرارة قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ، قال علیه السلام : « يمضي ». قلت : رجل شكّ في الإقامة وقد كبّر ، قال علیه السلام : « يمضي ». قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ، قال علیه السلام : « يمضي ». قلت : شكّ في القراءة وقد ركع ، قال علیه السلام : « يمضى ». قلت : شكّ في الركوع وقد سجد ، قال علیه السلام : « يمضي في صلاته » ثمَّ قال علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ». (2)

فلذلك لا تجري هذه القاعدة إلاّ في الصلاة ، وسائر المركّبات خارجة عن عمومها تخصّصا لا تخصيصا ، ولا فرق في ذلك بين الطهارات الثلاث وغيرها.

ولكن أنت خبير أنّ معنى هذا الكلام هو إنكار قاعدة التجاوز والالتزام بجريان قاعدة الفراغ في خصوص أجزاء الصلاة لمكان ذلك التنزيل دون سائر المركبات ، فكأنّه جعلت أجزاء الصلاة بواسطة التنزيل المذكور كأنّه مركّب مستقلّ من المركّبات العباديّة ، ففي الحقيقة هو التزم بأنّه هناك قاعدة واحدة وهي قاعدة الفراغ ، ولكنّها لا تجري في الأجزاء إلاّ في أجزاء الصلاة بواسطة التنزيل.

وقد عرفت عدم تماميّة ما أفاد ويأباه الذوق السليم ، والسليقة المستقيمة تحكم بأنّ قوله علیه السلام « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » مفهوم عام يشمل أجزاء الصلاة وغيرها

ص: 325


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 623.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 352 ، ح 1459 ، باب أحكام السهو ، ح 47 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 336 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 23 ، ح 1.

من المركّبات التي لأجزائها محلّ شرعي ، ويصدق بعد التجاوز عن ذلك المحلّ الشرعي إذا شكّ في إتيان ذلك الجزء أنّه شكّ بعد التجاوز عنه ؛ فتخصيصها بخصوص أجزاء الصلاة لا وجه له.

فحينئذ لا بدّ وأن يكون عدم جريانها في أجزاء الطهارات الثلاث لجهة ، من إجماع أو غيره ، كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره . (1)

هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات بعد الفراغ عن إمكان جعل كبرى واحدة تشمل كلتا القاعدتين في عالم الثبوت.

فنقول أوّلا : لا بدّ من ذكر الأخبار الواردة في هذا الباب حتّى نرى ما ذا يستفاد :

منها : رواية حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أشكّ وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال علیه السلام : « قد ركعت ». (2)

ومنها : ما ذكرنا وتقدّم من رواية زرارة ونقلناها ، ومحلّ الشاهد ما في آخرها من قوله علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ».

ومنها : رواية إسماعيل بن جابر قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شي ء شكّ فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمضى عليه ». (3)

ومنها : موثقّة ابن بكير عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال علیه السلام : « كلّ ما

ص: 326


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 712.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 151 ، ح 594 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح 52 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 358 ، ح 1356 ، باب من شكّ وهو قائم فلا يدرى أركع أم لا ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 936 ، أبواب الركوع ، باب 13 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 602 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح 60 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 358 ، ح 1359 ، باب من شكّ وهو قائم فلا يدري أركع أم لا ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 937 ، أبواب الركوع ، باب 13 ، ح 4.

شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو ». (1)

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا شككت في شي ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشي ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه » (2).

ومنها : موثّقة بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ قال علیه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (3).

وهناك روايات أخر نقلوها ليست بصراحة ما ذكرناها من حيث اشتمالها على الكبرى الكليّة ، وفيما ذكرناها غنى وكفاية.

فنقول : أمّا قوله علیه السلام في الرواية الأولى ، أي رواية زرارة « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء » فهي كبرى كلّية ينطبق على الخروج عن الجزء ودخوله في جزء آخر ، أو مطلق ما كان غيره كي يشمل الجزء الأخير ، وعلى الخروج عن المركّب المأمور به والدخول في غيره ، مثل الصلاة والحجّ وغيرهما.

وأمّا مسألة لزوم الدخول في الغير - أو يكفي صدق التجاوز عن الشي ء والمضي عنه ، وإنّما ذكره الدخول في الغير لأجل تحقّق التجاوز عن الشي ء - فهذا شي ء سنتكلّم عنه إن شاء اللّه تعالى في المباحث الآتية.

والحاصل : أنّه بناء على ما ذكرنا وعرفت « الشي ء » له معنى عامّ ينطبق على الجزء وعلى المركّب الذي نسمّيه بالكلّ ، والخروج عنه له مصداقان كما تقدّم :

ص: 327


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1426 ، باب أحكام السهو ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 336 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 23 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 262 ، باب صفة الوضوء والغرض منه والسنّة ، ح 111 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 330 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 265 ، باب صفة الوضوء والغرض منه والسنة ، ح 114 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 331 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 7.

أحدهما : التجاوز عن محلّه الذي عيّن الشارع له ، وبهذا الاعتبار يشمل قاعدة التجاوز.

والثاني : التجاوز عن نفسه والفراغ عنه ، وبهذا الاعتبار يشمل قاعدة الفراغ.

والجامع بينهما هو عنوان الخروج عن الشي ء ، ولا يلزم محذور أصلا.

وأمّا قوله علیه السلام في رواية إسماعيل بن جابر : « كلّ شي ء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » لا شكّ في أنّه أيضا كبرى كليّة أمر علیه السلام بالمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في كلّ ما شكّ فيه ، سواء أكان ذلك المشكوك فيه نفس المركّب أو جزء من أجزائه بعد ما مضى عنه ، غاية الأمر المضي عن المركّب بإتمامه والفراغ عنه وعن الجزء بالمضي عن محلّه ، كما بيّنّا لك في رواية زرارة فلا نعيد.

وعلى هذا القياس قوله علیه السلام في موثقّة ابن بكير « كل ما شككت ممّا قد مضى فامضه كما هو ».

وأمّا قوله علیه السلام في موثّقة ابن أبي يعفور : « إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه » فبمفهوم الحصر يدلّ على أنّه إذا جزت عن شي ء فليس شكّ هناك ، بمعنى أنّ الشارع ألقى الشكّ في كلّ شي ء جزت عنه ، وجعل وجوده بمنزلة العدم ، فيكون حال هذه الرواية أيضا حال سائر الروايات من كونه علیه السلام بصدد بيان كبرى كليّة ، أي عدم الاعتناء بالشكّ في كلّ شي ء جزت عنه ، سواء أكان ذلك الشي ء نفس المركب أو أحد أجزائه.

ولا فرق في حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ بعد أن خرج عن المشكوك ودخل في غيره بأن يكون الخروج عن جزء والدخول في جزء آخر ، وبين أن يكون الخروج عن مجموع المركّب والدخول في شي ء آخر غيره.

نعم الخروج عن الجزء باعتبار الخروج عن محلّه ؛ لأنّ المفروض أن أصل وجود الجزء مشكوك ، فلا معنى للخروج عن نفس الجزء. وأمّا عدم الفرق في حكمه بعدم

ص: 328

الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز عن المشكوك أو بعد المضي عنه بين الكلّ والجزء ، فالأمر أوضح كما هو واضح.

[ المبحث ] الرابع : في أنّه ما المراد من المضي والتجاوز في القاعدتين؟

حيث جعل الشارع موضوع حكمه بعدم الاعتناء بالشكّ أحد هذين العنوانين ، أو عنوان الخروج عن المشكوك والدخول في غيره؟

أقول : قد تقدّم أنّ لمفهوم التجاوز والمضي مصداقين :

أحدهما : التجاوز عن نفس الشي ء بمعنى إتمام وجوده والمضي عنه ، وهذا مورد قاعدة الفراغ.

والثاني : التجاوز عن محلّه ، وهذا مورد قاعدة التجاوز.

وهذان كلاهما مصداقان حقيقيان لمفهوم التجاوز عن الشي ء ، وليس في الثاني منهما تجوّز أو إضمار ، بل التجاوز عن المحلّ الذي عيّن الشارع لشي ء يكون تجاوزا عن ذلك الشي ء حقيقة ، فالذي يقرأ السورة مثلا تجاوز حقيقة عن فاتحة الكتاب ، وهكذا الأمر في جميع أجزاء المركّبات التدريجيّة الوجود التي جعل الشارع لإيجاد أجزائها ترتيب ، فكلّ جزء له محلّ شرعي لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه ؛ لا كلام في هذا.

وإنّما الكلام في أنّه هل المحلّ العادي للجزء أيضا هكذا ، بمعنى أنّ التجاوز عن المحلّ العادي للشي ء هل تجاوز عن الشي ء أم لا؟ فإن صدق عليه التجاوز عن الشي ء حقيقة ، كما أنّه يصدق على التجاوز عن محلّه الشرعي التجاوز عن ذلك الشي ء حقيقة ، كما أنّه علیه السلام طبق الكبرى على التجاوز عن محلّه الشرعي في ما نقلناه من رواية

ص: 329

زرارة وغيرها ، فتشمل القاعدة التجاوز عن المحلّ العادي أيضا ، وتترتّب على التعميم ثمرات فقهيّة مهمّة ، مثلا الذي من عادته الوضوء عقيب الحدث الأصغر ، أو الغسل عقيب الحدث الأكبر فلو شكّ في وقت من الأوقات أنّه توضّأ عقيب الحدث الأصغر ، أو اغتسل عقيب الحدث الأكبر ، فعلى التعميم لا بدّ وأن نقول في الأوّل بطهارته من الحدث الأصغر ، وفي الثاني بطهارته من الحدث الأكبر.

ولكن أنت خبير بأنّه لا وجه لإلحاق المحلّ العادي بالمحلّ الشرعي ؛ لأنّه ليس في الأخبار عنوان « التجاوز عن المحلّ » حتى نتكلّم في أنّ لفظ « المحلّ » هل يشمل المحلّ العادي أم لا؟ بل الموجود فيها عنوان « المضي عن الشي ء والتجاوز عنه » وأمثال ذلك من العناوين ، فالمدار على صدق أحد هذه العناوين.

وقد عرفت أنّ في التجاوز عن المحلّ الشرعي يقال بأنّه تجاوز عن عن الشي ء حقيقة بلا تجوّز ولا إضمار على ما هو التحقيق ، أو بتقدير لفظ « المحلّ » كما أنّه ربما قال به المشهور من باب دلالة الاقتضاء ، صونا للكلام عن اللغويّة ، كما أنّهم قالوا بتقدير « الأهل » في قوله تعالى ( - ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) - ) (1) لأجل هذه الجهة.

إن قلت : فبناء على هذا يكون لفظ « المحلّ » المقدّر أعمّ من المحلّ الشرعي والعادي.

قلت : إنّ هذا التقدير من ناحية دلالة الاقتضاء ، وتطبيقه علیه السلام التجاوز عن الشي ء على التجاوز عن المحلّ الشرعي حيث أنّه علیه السلام طبّق هذه الكبرى - أي قوله « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » وأمثالها - على الشكّ في وجود الأجزاء بعد التجاوز عن محلّها الشرعي ، كما تقدّم في بعض الروايات المتقدّمة ، حيث قال علیه السلام بعد قول السائل : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ، قال علیه السلام : « يمضى ». قلت : رجل شكّ في الإقامة وقد كبّر ، قال علیه السلام : « يمضى ». وهكذا سأل السائل عن الشكّ في

ص: 330


1- يوسف (12) : 82.

الأجزاء بعد تجاوز المحلّ الشرعي ، فأجابه بأنّه « يمضي » إلى أن قال علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ».

فلا بدّ من أن نقول بأنّ المراد من الخروج عن الشي ء في هذه الرواية والمضي والتجاوز في سائر الروايات ، هو الخروج عن محلّها الشرعي والمضي والتجاوز عنه ؛ لأنّ هذا المقدار هو الذي طبّق الإمام علیه السلام ، وأمّا أكثر من هذا المقدار - أي المحلّ الشرعي كي يشمل المحلّ العادي - فلا تقتضيه دلالة الاقتضاء ، وليس لفظ « المحلّ » في البين حتّى نأخذ بعمومه.

وهنا وجه آخر لشمول التجاوز عن الشي ء التجاوز عن المحلّ الشرعي ، وهو تنزيل التجاوز عن محلّه الشرعي الذي عيّن له الشارع ، كما في المركّبات المترتّبة الأجزاء منزلة التجاوز عن نفس الشي ء ، وادّعاء أنّه هو ، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (1) قدس سره ومعلوم أنّ مثل هذا التنزيل والادّعاء من طرف الشارع لا يكون إلاّ بالنسبة إلى المحلّ الشرعي الذي عيّن له هو ، وأمّا المحلّ العادي فأجنبي عن تنزيله.

ولكن التحقيق : في وجه عدم التعميم هو الوجه الأوّل الذي ذكرنا الشمول التجاوز عن الشي ء التجاوز عن المحلّ الشرعي ، وهو أنّه لمفهوم التجاوز عن الشي ء مصداقان : أحدهما التجاوز عن نفسه ، والثاني التجاوز عن محلّه الشرعي.

وبعبارة أخرى : التجاوز عن الشي ء كما أنّه يتحقّق بإيجاد الشي ء والفراغ عنه ، كذلك يتحقّق حقيقة لا ادّعاء بالتجاوز عن المحلّ الذي عيّن الشارع له في المركّبات المترتّبة الأجزاء.

والسرّ في ذلك : أنّ المهيّات المخترعة المترتّبة الأجزاء التدريجيّة الوجود في عالم التشريع ، مثل المهيّات التدريجيّة الوجود في عالم التكوين ، فكما أنّه لو ترك آية من سورة من سور القرآن ، أو شعر من أشعار قصيدة معيّنة معلومة وشرع في الآية التي

ص: 331


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 627.

بعد تلك الآية المتروكة ، وهكذا شرع في البيت الذي بعد ذلك البيت المتروك ، يقال : تجاوز من تلك الآية المتروكة ومن ذلك البيت المتروك ، كذلك لو ترك جزء من هذا المركّب المترتّب الأجزاء شرعا ودخل في الجزء الذي بعده ، يقال : إنّه تجاوز عن ذلك الجزء المتروك وتعدّى عنه.

وبناء على هذا الوجه أيضا لا ربط له بالمحلّ العادي ؛ لأنّ جريان العادة بإيجاد شي ء في محلّ من دون أن يكون ترتّب تكويني أو تشريعي في البين ، لا يوجب صدق التجاوز بالنسبة إلى الجزء أو الكلّ المشكوك الوجود في ذلك المحلّ العادي.

هذا ، مضافا إلى أنّ تعميم القاعدة والقول بصدق التجاوز بالنسبة إلى المحلّ العادي مستلزم لتأسيس فقه جديد ، وهذا بنفسه محذور ، ولو لم يكن محذور آخر في البين. كيف وقد عرفت ما فيه ، وأنّ الشكّ في وجود جزء من أجزاء المركّب أو تمامه بعد التجاوز عن المحلّ الذي جرت العادة بإتيان ذلك الجزء ، أو ذلك الكلّ في ذلك المحلّ ، ليس مشمولا لقاعدة التجاوز في الجزء ، ولا لقاعدة الفراغ في الشكّ في الكلّ.

ثمَّ أنّه لو شكّ في الجزء الأخير من المركّب المترتّب الأجزاء كالتسليم في باب الصلاة ، فهل تجري قاعدة التجاوز أو الفراغ ، أو إحديهما ، أو لا يجري شي ء منهما؟ احتمالات.

وتحقيق المقام : هو أنّ الجزء الأخير لا بدّ وأن يكون في المركّب المترتّب الأجزاء ، وإلاّ تكون الأجزاء عرضيّة ولا يبقي معنى للجزء الأخير حينئذ. وذلك المركّب المترتّب الأجزاء على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يعتبر الموالاة بين أجزائه أم لا.

فنقول : أمّا ما لم يعتبر الموالاة بين أجزائه كالغسل ، إذا شكّ في جزئه الأخير أي غسل الجانب الأيسر ، فجريان قاعدة التجاوز فيه لا وجه له أصلا ؛ لأنّه لم يتحقّق بالنسبة إليه تجاوز ، لا عن نفس وجوده لأنّ المفروض أنّه مشكوك الوجود ، ولا عن محلّه الشرعي لأنّ المفروض عدم اعتبار الموالاة فيه ؛ ففي أيّ وقت أتى به يكون في

ص: 332

محلّه. وأمّا إلحاق المحلّ العادي بالمحلّ الشرعي فقد عرفت الحال فيه.

وأمّا بالنسبة إلى قاعدة الفراغ فجريانها أيضا لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ المفروض أنّ الجزء الأخير مشكوك الوجود ، فكيف يصدق الفراغ عن ذلك العمل والمضي عنه؟ نعم ربما يصدق الفراغ عرفا إذا شكّ في جزء يسير من الجزء الأخير في المثال المذكور ، كما أنّه لو شكّ في غسل إصبع من الجانب الأيسر مع القطع بغسل ذلك الجانب إلاّ هذا المقدار اليسير منه.

والحاصل : أنّ المناط في جريانها هو صدق عنوان الفراغ عن العمل ومضي المركّب عرفا.

وأمّا ما اعتبر فيه الموالاة كالصلاة والوضوء ، فلا يبعد جريانهما بناء على عدم اختصاص قاعدة التجاوز بخصوص الصلاة حتّى في الجزء الأخير من الوضوء إذا كان الشكّ بعد فوات الموالاة ، لأنّه يصدق عليه التجاوز والمضي عن العمل ، وعن الجزء الأخير أيضا.

وأمّا بناء على اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، ففيها حتّى بالنسبة إلى الجزء الأخير تجري كلتا القاعدتين. وأمّا في غيرها فلا تجري إلاّ قاعدة الفراغ ، فإذا شكّ في التسليم فتجري القاعدتان إذا كان مشغولا بالتعقيب ؛ لصدق التجاوز عن محلّه الشرعي ، وأيضا الفراغ بدخوله في التعقيب ، لأنّ محلّ التعقيب شرعا بعد التسليم.

وأمّا إذا شكّ في التسليم ولم يكن دخل في التعقيب بعد ، فإمّا أن يكون بعد صدور المنافي عنه - ولا فرق في ما نذكره بين المنافي العمدي والسهو كالحدث ، وبين ما هو المنافي عمدا لا سهوا كالتكلّم ، ولا بين أن يكون المنافي أمرا وجوديا كالحدث والتكلّم ، أو عدميّا كالسكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ، أو لا بل يكون قبل صدور المنافي عنه - فإذا كان بعد صدور المنافي عنه بجميع أقسامه فالظاهر أيضا جريان كلتا القاعدتين ، أمّا قاعدة التجاوز لأنّ محلّ التسليم شرعا قبل فعل المنافي ،

ص: 333

فيكون الشكّ بعد التجاوز عن محلّه. وأمّا قاعدة الفراغ لصدق عنوان الفراغ بعد الاشتغال بالمنافي ولو كان أمرا عدميا كالسكوت الطويل.

وأمّا إذا كان قبل صدور المنافي وقبل أن يدخل في التعقيب ، فالظاهر عدم جريان كلتا القاعدتين ؛ لعدم التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك ، وعدم صدق الفراغ عن العمل والمضي عنه ؛ لأنّه لو علم بالترك وأتى به لكان في محله.

هذا تمام الكلام في معنى التجاوز على الجزء والفراغ عن المركّب وحكم الشكّ في الجزء الأخير.

المبحث الخامس : في أنّ الدخول في الغير معتبر في جريان القاعدتين أم لا؟

فنقول : اعتبار الدخول في الغير في كلتا القاعدتين أو إحديهما تارة يكون من جهة توقّف تحقّق هذه العناوين ، أي عنوان « التجاوز » و « المضي » و « الفراغ » عليه ، وأخرى يقال باعتباره تعبّدا ، من جهة دلالة الدليل عليه من دون توقّف أحد هذه العناوين عليه.

وتفصيل الحال : هو أنّه أمّا في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى غير الجزء الأخير فواضح أنّه لا يتحقّق التجاوز وما شابهه من العناوين إلاّ بعد الدخول في الجزء المترتّب عليه ، أي على المشكوك ؛ لأنّ التجاوز فيها لا يتحقّق إلاّ بالتجاوز عن محلّ الجزء ، ومعلوم أنّ التجاوز عن محلّ المشكوك لا يصدق إلاّ بعد الدخول في الجزء التالي ، وإلاّ فالمحلّ باق بعد. وأمّا السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة عقيب الجزء المشكوك الوجود وإن كان يوجب التجاوز عن المحلّ ، ولكن من جهة أنّه قاطع يكون موجبا لبطلان الصلاة ، فلا يبقى مجال لجريان قاعدة التجاوز وتصحيح الصلاة بها.

فبالنسبة إلى غير الجزء الأخير لا يتحقّق التجاوز عن المحلّ الذي هو معتبر في

ص: 334

جريان قاعدة التجاوز إلاّ بالدخول في الغير.

وأمّا بالنسبة إلى الجزء الأخير ، كالتسليم في باب الصلاة يمكن أن يقال : إنّ التجاوز لا يصدق إلاّ بعد الدخول في شي ء غير الصلاة من تعقيب ، أو فعل ما هو مناف للصلاة.

ولكن التحقيق : أنّ السكوت الطويل ها هنا يوجب تحقّق عنوان التجاوز وتجري قاعدة التجاوز ، من دون أن يكون الدخول في الغير في البين ، فما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره من اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز مطلقا (1) ليس كما ينبغي.

وأمّا في قاعدة الفراغ ، فإذا كان منشأ الشكّ في صحّة العمل ما عدا الجزء الأخير فبإتيان الجزء الأخير يصدق الفراغ والتجاوز إذا كان إتيان معظم الأجزاء معلوما ، من دون الاحتياج إلى الدخول في الغير. وأمّا إذا كان المنشأ هو الشكّ في إتيان الجزء الأخير فربما يقال بأنّه لا يصدق الفراغ إلاّ بالدخول في الغير ، بل ربما يقال بعدم صدق الفراغ ما لم يحرز إيجاد الجزء الأخير بالوجدان أو بالتعبّد.

ولكن التحقيق : أنّه إذا كان إتيان معظم الأجزاء محرزا وكان في حالة منافية للصلاة مثلا ، يصدق الفراغ والتجاوز ولو كان العمل ممّا له صورة وهيئة اتّصالية ، فالسكوت الطويل القاطع للهيئة الاتّصالية أيضا يوجب صدق عنوان الفراغ ، إذا كان قد أتى بمعظم الأجزاء مع عدم دخوله في الغير.

والحاصل : أنّ الدخول في الغير ليس ممّا يعتبر في تحقّق عنوان الفراغ ، فإن كان فلا بدّ وأن يكون بتعبّد شرعي ، وطريق إثباته ملاحظة الأدلّة الواردة في هذا الباب.

فنقول : في رواية زرارة قال علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء » ، وفي رواية إسماعيل بن جابر « كلّ شي ء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». وظاهر هاتين الروايتين اعتبار الدخول في

ص: 335


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 631.

الغير ، كما أنّ ظاهر موثقّة ابن بكير قال علیه السلام : « كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو » عدم الاعتبار من جهة الإطلاق.

وموثقّة ابن أبي يعفور « إذا شككت في شي ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه » مختلف صدرا وذيلا ، فباعتبار الصدر يدلّ على الاعتبار ، وباعتبار الذيل مطلق. ومقتضى القواعد الأوّلية حمل المطلق على المقيّد والقول باحتياج جريانهما إلى الدخول في الغير بعد إحرازه وحدة المطلوب.

ولكن يمكن أن يقال بورود القيد مورد الغالب ، كما في قوله تعالى شأنه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) - ) (1) فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد ، بل لا بدّ وأن يؤخذ بالإطلاق. ولكن يعارض هذا الوجه أنّه يمكن أن يقال مقابل هذا القول بأنّ المطلق محمول على الغالب لأنّه غالبا الفراغ عن الشي ء والتجاوز عنه ملازم مع الدخول في الغير ، لا سيما إذا عممنا الغير ، وقلنا بشموله لكلّ حالة مغايرة للحالة التي كان هو فيها من الاشتغال بالمركب ، فلا إطلاق في البين.

ولكن في كلا الأمرين تأمّل ، أمّا احتمال ورود القيد مورد الغالب فمنفي بأنّ الأصل في باب القيود أن يكون القيد احترازيّا ، إلاّ أن يدلّ دليل معتبر على أنّه وارد مورد الغالب وليس احترازيّا ، وإلاّ فبصرف احتمال ذلك لا يرفع اليد عن ظهوره في كونه احترازيّا.

وأمّا احتمال حمل المطلق على الغالب وانصرافه إليه فقد حقّقنا في محلّه أنّ غلبة الوجود لا يوجب الانصراف ، ولا ينسدّ باب التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ أغلب الطبائع بعض أفرادها أو بحسب بعض حالاتها أكثر وجودا من الأبعاض الأخر ، بل الانصراف لا يكون إلاّ بظهور المطلق في البعض المنصرف بواسطة كثرة الاستعمال ،

ص: 336


1- النساء (4) : 23.

وإثبات هذا المعنى في المقام لا يخلو عن إشكال ، فلا مناص إلاّ عن الأخذ بالقواعد الأوّلية وحمل المطلق على المقيّد.

المبحث السادس

في أنّ الغير المعتبر دخوله فيه في خصوص قاعدة التجاوز يشمل مقدمات الأجزاء ، مثل الهوى للركوع ، والنهوض للقيام ، وهكذا أبعاض الأجزاء كأبعاض السورة مثلا أم لا؟

فنقول : الاحتمالات ثلاثة :

أحدها : اختصاص الغير بالأجزاء المذكورة في الروايات ، كرواية زرارة ، ورواية إسماعيل بن جابر.

وهذا الاحتمال مبني على اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، وبناء على هذا الاحتمال لا تشمل السورة إذا شكّ في الحمد بعد دخوله فيها ، وأيضا لا تشمل التشهّد إذا شكّ في السجود بعد دخوله فيه ؛ إذ لا ذكر من هذين ، أي السورة والتشهد في تلك الأخبار.

الثاني : شموله لكلّ جزء من أجزاء الصلاة المستقلّة بالتبويب في الكتب الفقهيّة.

وهذا الاحتمال أوسع من الاحتمال الأوّل لشموله للسورة والتشهّد ، ولكن لا يشمل مقدّمات الأجزاء ، ولا أجزاء الأجزاء.

والثالث : التعميم لكلّ ما يصدق عليه مفهوم الغير ، ولكن بشرط أن لا يكون خارجا عن الصلاة ، بناء على اختصاص القاعدة بالصلاة ومطلقا ، سواء أكان منها أو من غيرها بناء على عدم اختصاصها بها.

وشيخنا الأستاذ قدس سره رجّح الاحتمال الثاني ، وذلك من جهة ما أفاد وبيّنّاه فيما تقدّم

ص: 337

من أنّ إطلاق الشي ء على الأجزاء يكون بالعناية والادّعاء ، وإلاّ لا يكون الجزء شيئا في عرض شيئيّة الكلّ. وحيث أنّ هذا الادّعاء والتنزيل لم يتحقّق من قبل الشارع إلاّ في الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، فلا يطلق الشي ء والغير على ما عداها من أجزاء الأجزاء ومقدّماتها.

إن قلت : إنّ التنزيل قد وقع في الأجزاء المذكورة في الروايات فقط ، أعني الروايتين المتقدّمتين من زرارة وإسماعيل بن جابر ، وليس فيهما عين ولا أثر من السورة والتشهّد.

قلنا : إنّ ذكر تلك الأجزاء من باب المثال ، وإلاّ فالمقصود بالتنزيل هو مطلق الإجزاء المستقلّة بالتبويب. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره (1).

ولكن قد عرفت عدم تماميّة هذا الكلام وأنّ الشي ء يطلق على الأجزاء والكلّ في عرض واحد حقيقة بدون عناية وادّعاء وتنزيل ، بل يستعمل في الجامع بينهما ، ولا تلاحظ في حال الاستعمال خصوصيّة كلّ واحد منهما حتّى تقول بعدم إمكان الجمع بين اللحاظين في استعمال واحد وأمثال ذلك ممّا تقدّم ذكره من المحاذير.

هذا ، مضافا إلى أنّ الكلام في عموم الغير لا الشي ء ، ولا شكّ في أنّه بعد ما شمل الشي ء المتجاوز عنه الأجزاء المستقلّة بعناية كما أفاد ، أو بدون الاحتياج إلى عناية وتنزيل كما ادّعينا يشمل لفظ الغير من غير ذلك الشي ء الحقيقي كما نقول ، أو الادّعائي كما يقول هو قدس سره .

وفي شمول لفظ « الغير » للأجزاء المستقلّة كما يقول هو قدس سره ، أو لجميع ما هو غير ذلك الجزء المتجاوز عنه كما نقول ، لا يحتاج إلى إعمال عناية وادّعاء وتنزيل أصلا.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المراد من « الغير » المعتبر في جريان قاعدة التجاوز الدخول فيه ، سواء أكان اعتباره من باب تحقّق التجاوز والمضي به ، أو كان من جهة

ص: 338


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 635.

دلالة الأخبار تعبّدا ، هو مطلق ما كان مصداقا لمفهوم غير الجزء المشكوك الوجود ، فتشمل الأجزاء وأجزاء الأجزاء ومقدّمات الأجزاء.

وحيث قلنا بعدم اختصاصها بالصلاة فلا فرق فيما ذكرنا من شمول لفظ « الغير » للأجزاء ، وأجزاء الأجزاء ومقدّمات الأجزاء بين الصلاة وسائر المركّبات التي أمر الشارع بإيجادها كالحجّ مثلا ، فإذا شكّ في أثناء السعي مثلا في الطواف أو في جزء منه ، يكون مشمولا لقاعدة التجاوز.

نعم يبقى الكلام في وجه عدم جريانها في الطهارات الثلاث - الوضوء والغسل والتيمم - وسنتكلّم عنه إن شاء اللّه تعالى.

ومن الواضح الجلي أنّه بناء على ما ذكرنا لا يبقى فرق في صدق الغير أن يكون من الأجزاء المستحبّة أو الواجبة ، بل وإن لم يكن جزء وكان خارجا عن حقيقة المركّب كالتعقيب.

المبحث السابع : في جريان قاعدة التجاوز في الشروط

وتحقيق المقام هو أنّ الشرائط على أقسام :

الأوّل : أن يكون شرطا عقليّا لتحقّق عنوان المأمور به ، كقصد الظهريّة والعصريّة في صلاة الظهر والعصر مثلا ، فإنّ عنوان الظهريّة والعصريّة لا يمكن أن يتحقّق في صلاتيهما إلاّ بهذا القصد ؛ لأنّها أمور قصديّة.

الثاني : ما يكون شرطا شرعيّا لصحّة المأمور به وتحقّقه ، كالاستقبال والستر والطهارة وأمثال ذلك.

الثالث : ما يكون شرطا شرعيّا للجزء ، كالجهر والإخفات بناء على كونهما

ص: 339

شرطين للقراءة لا للصلاة في حال القراءة.

ثمَّ إنّ الشرط الشرعي للصلاة إمّا يكون شرطا لها في حال الاشتغال بها ، وأمّا يكون شرطا لها مطلقا ولو في حال السكونات المتخلّلة ، كالستر والاستقبال والطهارة الحدثيّة.

وعلى كلّ واحد من التقديرين إمّا أن يكون له محلّ شرعي ، وإمّا أن لا يكون. فالأوّل كالطهارة الحدثيّة حيث أنّها شرط شرعي للصلاة ، ولها محلّ شرعي وهو أن يكون قبل الصلاة ، كما يدلّ عليه قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية (1). والثاني كالستر والاستقبال.

إذا عرفت هذه الأقسام ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل : - أي ما يكون شرطا عقليّا لتحقّق عنوان المأمور به ، كقصد الظهريّة والعصريّة والمغربيّة والعشائيّة والصبحيّة لتحقّق هذه العناوين ، أعني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح - فلا تجري فيها قاعدة التجاوز ؛ لأنّ تعنون الصلاة بهذه العناوين من الآثار العقليّة التكوينيّة لواقع قصدها ، فالتعبّد بوجود نيّة الظهر مثلا لا يترتّب عليه هذه الثمرة وهذا الأثر ، فيكون مثل هذا التعبّد لغوا. بل ولا تجري قاعدة الفراغ أيضا لو شكّ في قصد الظهريّة والعصريّة مثلا بعد الفراغ عن العمل ؛ لأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو أن يشكّ في صحّة العمل وفساده بعد إحراز عنوانه.

وأمّا فيما لم يحرز عنوانه ، كما إذا شكّ في أنّ هذا الذي صدر منه هل كان صلاة أو كان لعبا؟ فقاعدة الفراغ لا تثبت أنّه كان صلاة.

هذا كلّه في الشكّ في النيّة بمعنى قصد العنوان المقوّم لعناوين الظهريّة والعصريّة وأمثالها.

ص: 340


1- المائدة (5) : 6.

وأمّا إذا شكّ في النيّة بمعنى قصد القربة ، فتارة نقول بأنّ قصد القربة شرط شرعي مأخوذ في متعلّق الأمر ولو كان بمتمّم الجعل ، وأخرى نقول بأنّه ليس شرطا شرعيّا ، بل تكون ممّا يعتبره العقل في مقام الامتثال.

فهناك فرق بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ ؛ إذ الأولى لا تجري على كلا القولين ؛ لأنّه ليس لها - أي النيّة بمعنى قصد القربة - محلّ شرعي.

نعم لا بدّ وأن يكون تمام العمل مقرونا بهذه النيّة ، أي قصد القربة وإتيان العمل بداعي محبوبيّته ومطلوبيّته لله تعالى شأنه ، فالعقل يحكم بلزوم هذا القصد من أوّل الشروع في العمل إلى إتمامه ، لا أنّ الشارع عيّن محلا لهذا النيّة.

وقد تقدّم أنّ المراد من التجاوز عن المحلّ هو التجاوز عن المحلّ الشرعي لا المحلّ العادي أو العقلي.

وأمّا قاعدة الفراغ فلا تجري لو قلنا بأنّه شرط عقلي ، فمع الشكّ فيه يكون شكّا في الامتثال ، والمفروض أنّه أمر عقلي فلا ينافي له التعبّد الشرعي. وأمّا لو قلنا بأنّه شرط شرعي لصحّة العمل فقاعدة الفراغ تجري فيها بلا كلام ؛ لأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو الشكّ في صحّة العمل بعد الفراغ عنه ، من جهة احتمال وقوع الخلل فيما اعتبر الشارع فيه ، من ترك جزء أو شرط ، أو وجود مانع.

وأمّا القسم الثاني : أي ما كان شرطا شرعيّا للمركّب المأمور به ، كالستر والاستقبال والطهارة للصّلاة مثلا.

ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون شرطا للمركّب في حال الاشتغال بالأجزاء ونفس العمل ، أو كان شرطا مطلقا ، أي حتّى في حال السكونات المتخلّلة بين الاجزاء. ففي كلا القسمين إما له محلّ شرعي أو لا؟

فإن لم يكن له محلّ شرعي فلا تجري فيه قاعدة التجاوز ؛ لما ذكرنا من أنّ موضوع هذه القاعدة هو التجاوز عن المحلّ المقرّر شرعا للشي ء المشكوك الوجود ،

ص: 341

فإذا لم يكن للشرط محلّ مقرّر شرعا فلا موضوع لهذه القاعدة.

وأمّا قاعدة الفراغ فإذا كان الشكّ بعد الفراغ عن المشروط - أي المركّب المأمور به - فتجري ؛ لأنّه شكّ في صحّة العمل المركّب الذي أوجده ، من جهة احتمال وقوع الخلل فيه من ناحية فقدان شرطه.

وأمّا إذا كان الشكّ في أثناء العمل المشروط كالصلاة مثلا ، فإن كان الجزء أو الأجزاء الماضية عملا مستقلا عند العرف - كما أنّه في أفعال الحجّ ربما يكون كذلك ، فالإحرام ، والطواف والسعي وصلاة الطواف والوقوفان كلّ واحد منها يعدّ عملا مستقلاّ عندهم ولو قلنا بأنّ الحجّ شرعا عمل واحد وعبادة واحدة ارتباطيّة كالصلاة - فتجري قاعدة الفراغ في الأثناء بالنسبة إلى ذلك الجزء المستقلّ عند العرف أيضا ؛ لتحقّق موضوعها ، وهو الفراغ عن ذلك الجزء مع الشكّ في صحّته.

وأمّا إن لم تكن الأجزاء الماضية عملا مستقلاّ عندهم ، فلا وجه لجريان قاعدة الفراغ أيضا ؛ لعدم تحقّق موضوعه.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن للشرط محلّ شرعي.

وأمّا إذا كان له محلّ شرعي كالطهارة الحدثيّة ، وكصلاة الظهر لصلاة العصر ، والمغرب لصلاة العشاء - حيث أنّ محلّ الطهارة الحدثيّة قبل الصلاة بقوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية ، ومحلّ صلاة الظهر والمغرب قبل العصر وقبل العشاء ؛ لقوله علیه السلام « إلاّ أنّ هذه قبل هذه » (1) - ففي جريان قاعدة التجاوز في الشرط المشكوك الوجود وعدمه وجهان.

وعلى تقدير الجريان ، فهل يثبت بها وجود الشرط مطلقا حتّى بالنسبة إلى مشروط آخر ، فلا تجب الطهارة حتّى بالنسبة إلى صلاة أخرى غير هذه التي بيده ما

ص: 342


1- « الكافي ج 3 ، ص 281 ، باب وقت المغرب والعشاء الآخرة ، ح 16 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 260 ، ح 1037 ، باب المواقيت ، ح 74 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 95 ، أبواب المواقيت ، باب 4 ، ح 20.

لم يوجد حدث جديد. وفي مثال الظهر والمغرب إذا شكّ فيهما في أثناء العصر والعشاء فيثبت بقاعدة التجاوز وجودهما مطلقا ، فلا يجب الإتيان بهما حتّى بعد الفراغ عن العصر والعشاء ، أو لا تثبت بها تلك الشروط إلاّ من حيث شرطيّتها لتلك المذكورات ، فلا بدّ من تحصيل الطهارة للصلوات الأخر ، وإتيان الظهر والمغرب بعد الإتيان بالعصر والعشاء وإتمامهما.

وهناك احتمال آخر وهو إثبات الشرط بالنسبة إلى الأجزاء الماضية فقط ، وأمّا بالنسبة إلى الأجزاء الباقية من المركّب التي لم يأت بها بعد فيجب تحصيل الشرط إن كان ممكنا ، وإلاّ فيبطل العمل إذا كان المركّب الواجب ارتباطيّا.

فنقول : أمّا بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في هذا المفروض فلا وجه للإشكال فيه ؛ لأنّه لا فرق بين الجزء المشكوك والشرط المشكوك الوجود ، فكما أنّها تجري في الجزء فكذلك تجري في الشرط ؛ لأنّ مناط الجريان فيهما واحد ، وهو أنّ صحّة العمل متوقّف على وجود الجزء أو الشرط المشكوك وجودهما بعد التجاوز عن محلّهما المقرّر لهما شرعا ، فلا تفاوت بينهما.

وأمّا بالنسبة إلى الوجهين أو الوجوه التي ذكرناها على تقدير الجريان ، ففرق بين أن نقول بأنّها أمارة أو أصل ، إذ على تقدير كونها أمارة يثبت وجود الشرط ، بناء على أنّ جعل الأمارة حجّة عبارة عن تتميم كشفها في عالم الاعتبار ، فيكون كما إذا قامت البيّنة على وجود الشرط فيترتّب عليه جميع آثار وجود الشرط واقعا ، فلا يجب عليه تحصيل الطهارة ولو للصلوات الأخر ، ولا إتيان صلاة الظهر والمغرب بعد إتمام العصر والعشاء ، كلّ ذلك من جهة إثبات الأمارة - أعني قاعدة التجاوز - وجود الشرط واقعا ، أي الطهارة لو شكّ في أثناء الصّلاة في وجودها ، وصلاة الظهر لو شكّ في وجودها في أثناء العصر ، وصلاة المغرب لو شكّ في وجودها في أثناء العشاء.

وأمّا إذا قلنا بأنّها من الأصول التنزيليّة ، إذ احتمال كونها من الأصول غير

ص: 343

التنزيليّة بعيد وسخيف جدّا ، فيكون مفادها ترتيب آثار وجود الشرط من حيث كونه شرطا لهذا العمل الذي بيده وشكّ في وجود الشرط في أثنائه ، فيجب معاملة وجود صلاة الظهر مثلا من حيث شرطيّته لصحّة صلاة العصر لا مطلقا.

وأمّا الإشكال على جريان قاعدة التجاوز بأنّ التجاوز الذي هو موضوع القاعدة لم يتحقّق بالنسبة إلى الأجزاء الباقية التي لم يأت بها بعد ، فلا أثر لجريان القاعدة في الأثناء بحيث يثبت بها صحّة العمل من ناحية احتمال فقد الشرط.

ففيه : أن ما هو الشرط لمجموع العمل وجود الظهر مثلا قبل العصر ، فبمحض دخوله في صلاة العصر تجاوز عن محلّ الشرط.

نعم ربما يؤيّد هذا الإشكال - كما نبّه عليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) - بصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه علیه السلام قال : سألته عن الرجل يكون على وضوء ثمَّ يشكّ على وضوئه هو أم لا؟ قال علیه السلام : « إذا ذكرها وهو في صلاته انصرف وأعادها ، وإن ذكرها وقد فرغ من صلاته أجزاء ذلك » (2) فتأمّل.

وأمّا [ القسم ] الثالث (3) أي إذا كان شرطا عقليّا للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة ، فتجري قاعدة التجاوز بلا إشكال ؛ لأنّ مرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في وجود الجزء الذي هو الكلمة بعد التجاوز عن محلّه كما هو المفروض في المقام ؛ لأنّ المفروض أنّ الشرط شرط عقلي للجزء ، فالشكّ فيه مستلزم للشكّ في المشروط أعني الجزء.

وأمّا إذا كان شرطا شرعيّا للجزء - وهو القسم الرابع (4) من الأقسام التي ذكرناها للشروط ، وذلك كالجهر والإخفات بناء على كونهما شرطين للقراءة لا للصلاة في حال القراءة - فجريان قاعدة التجاوز فيه لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ الشرط حيث أنّه

ص: 344


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 715.
2- « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 333 ، أبواب الوضوء ، باب 44 ، ح 2.
3- لم يذكر هذا القسم ، في الصفحة 339.
4- هذا هو القسم الثالث من الأقسام في الصفحة 339.

ليس له وجود مستقلّ فلا يقال إنّه قد تجاوز عنه. وأمّا نفس المشروط فلا شكّ في وجوده حتّى تجري فيه قاعدة التجاوز ؛ لأنّه موجود قطعا.

ولكن الأظهر جريان قاعدة التجاوز في الشرط والمشروط ، أمّا في الشرط المشكوك الوجود فلأنّ الجهر وكذلك الإخفات شي ء شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه ، وعدم كونه جوهرا ومستقلّ الوجود لا ينافي مع كونه شيئا كما هو واضح وأمّا في المشروط فلأنّ المشروط بوصف كونه صحيحا مشكوك الوجود ، فلا فرق بين الشرط العقلي وبين الشرط الشرعي لما هو جزء.

المبحث الثامن

في أنّه يعتبر في جريان قاعدتي التجاوز والفراغ أن يكون المكلّف محرزا - بإحراز وجداني أو تعبّدي - جميع أجزاء المركّب المأمور به ، وشرائطه وموانعه ، وأنّ متعلّق التكليف عبارة عن المركّب من هذه الأمور ، وإنّما الشكّ يكون بعد العمل وفي مقام انطباق المأتي به ، على ما هو المأمور به ، فلا يتحقّق مثل هذا الشكّ إلاّ بعد العمل ؛ لأنّه لا بدّ وأن يكون عمل في البين كي تشكّ في أنّه مطابق مع المأمور به أم لا؟ فمركز الشكّ في هاتين القاعدتين هو انطباق العمل المأتي به على المأمور به.

وأمّا إذا كان شكّه في صحّة العمل من جهة احتمال اعتبار شي ء في العمل - شرطا أو جزء ، أو احتمال اعتبار عدمه كي يكون مانعا - فهذا غير مربوط بالقاعدتين ، بل لا بدّ من المراجعة إلى الأمارات ، وعند فقدها إلى الأصول العمليّة لعلاج هذا الشكّ ، ولا ربط له بمفاد القاعدتين.

وبعبارة أخرى : هاتان القاعدتان من الأصول المستعملة في مقام الامتثال وإسقاط التكليف ، لا في مقام إثبات التكليف ، فلا بدّ في جريان القاعدتين من صدور عمل عن المكلّف والشكّ في مطابقته لما هو المأمور به. فإن كان حصول هذا الشكّ في

ص: 345

أثناء العمل فهذا يكون مورد قاعدة التجاوز ، وإن كان بعد الفراغ عن العمل فيكون مورد قاعدة الفراغ.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنذكر صورا من فروع هذه المسألة لكي ترى هل أنّها من موارد الشكّ في الانطباق حتّى يكون من موارد القاعدتين ، أم لا فلا؟

الصورة الأولى : أن يشكّ مع التفاته حين العمل إلى الأجزاء والشرائط والموانع في صحّة العمل وفساده بواسطة احتمال طروّ غفلة أو سهو أو نسيان ، فإن كان هذا الشكّ حصل له في أثناء العمل بعد التجاوز عن المحلّ المقرّر شرعا عن جزء المشكوك الوجود ، أو عن الشرط المشكوك الوجود فيكون مجرى قاعدة التجاوز. وإن كان حصول هذا الشكّ بعد الفراغ عن العمل يكون مجرى قاعدة الفراغ.

ويمكن أيضا جريان قاعدة التجاوز في بعض الصور ، بناء على ما هو الصحيح من عدم اشتراط اتّصال زمان حصول الشكّ بزمان ذلك الجزء المشكوك الوجود ، أو ذلك الشرط المشكوك.

وهذه الصورة هو القدر المتيقّن من صور جريان قاعدة التجاوز والفراغ ؛ لاجتماع شرائط جريانهما فيها.

الصورة الثانية : هي عين هذه الصورة ولكن فيما إذا كان احتمال تركه للجزء أو الشرط عن عمد واختيار لا عن غفلة ونسيان ، والظاهر عدم جريان القاعدتين في هذه الصورة ؛ لأنّه لو كان المدرك لهما بناء العقلاء فليس لهم في مثل هذا المورد بناء على وجود الجزء أو الشرط المشكوك الوجود ، إذ منشأ بنائهم على ذلك أصالة عدم الغفلة والسهو والنسيان ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم. ففي مورد احتمال الترك عن عمد لا مورد لهذه الأصول العدميّة العقلائيّة.

وكذلك الأمر لو كان المدرك لهما الأخبار ؛ لأنّه ليس مفاد الأخبار حكما تعبديا صرفا في ظرف الشكّ في وجود جزء أو شرط ، بل باعتبار أنّ المكلّف إذا أراد إتيان

ص: 346

عبادة مركّبة من أجزاء وشرائط ، يكون ما يأتي به على طبق ما أراد ، وألقى الشارع احتمال الغفلة والسهو والنسيان لا احتمال الترك عمدا.

ويدلّ على ما ذكرنا تعليقه علیه السلام للمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في بعض الأخبار بقوله علیه السلام : « هو حين ما يتوضّأ أذكر » (1) وظهور هذا التعليل في كون منشأ الترك هي الغفلة أو السهو والنسيان لا العمد ممّا لا ينكر ؛ لأنّ الترك العمدي لا ينافي مع كونه حين الوضوء أذكر.

نعم الترك عن غفلة أو عن سهو ونسيان بعيد ؛ مع كونه ذلك الوقت أذكر ؛ ولذلك قالوا : من شرائط جريان القاعدتين أن لا يكون احتمال الترك عن عمد ، فليس لروايات الباب إطلاق تشمل صورة كون احتمال الترك عن عمد.

الصورة الثالثة : أن لا يكون ملتفتا إلى الأجزاء والشرائط حال الاشتغال بالمركّب المأمور به ، بمعنى أنّه لا معرفة له بتمام أجزاء المركّب وجميع شرائطه وموانعه ، مثلا حال الاشتغال بالعمل لم يعلم أنّ هذا المشكوك الوجود - جزء كان أو شرطا - جزء أو شرط ، سواء أكان جهله من ناحية الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة.

فالأوّل مثل أنّه لم يعلم أنّ السورة جزء للصلاة. والثاني مثل أنّه يعلم أنّ الاستقبال شرط للصلاة ، ولكن لم يعلم أنّ هذه الجهة التي صلّى إليها قبلة أم لا؟ وبعد حصول الشكّ يعلم بصورة العمل الذي صدر منه ، ويحتمل أن تكون الجهة التي صلّى إليها قبلة من باب الاتّفاق.

والظاهر عدم جريان القاعدة في هذه الصورة أيضا ؛ لأنّ مطابقته للواقع لو كانت فهي من باب الاتّفاق ، فلا تشملها الأخبار ولا بناء العقلاء ؛ لما ذكرنا في الصورة السابقة من بناء العقلاء باعتبار أنّ المكلّف إذا أراد أن يأتي بالمأمور به يكون المأتي به

ص: 347


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 265 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنّة ، ح 114 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 331 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 7.

طبق المأمور به ، واحتمال السهو والغفلة ملقى عند العقلاء ، وأخبار الباب أيضا ناظرة إلى هذا المعنى.

وهذا فيما إذا كان عالما بالأجزاء والشرائط حال العمل ، حتّى يكون عدم مطابقة المأتي به مع المأمور به مستندا إلى الغفلة أو السهو والنسيان ، ولم تكن له شبهة حكميّة ولا موضوعيّة. وأمّا فيما لم يكن كذلك ، وكانت له شبهة حكميّة أو موضوعيّة - واحتمال مطابقة المأتي به مع المأمور به كان بصرف الاتّفاق - فغير مربوط بمفاد كلتا القاعدتين.

الصورة الرابعة : أنّ يشكّ في الصحّة بعد العمل ، أو في أثنائه ولكن بعد التجاوز عن محلّ المشكوك شرعا ، وكان هذا الشكّ له قبل أن يدخل في العمل أيضا ولكن كان له الدخول في العمل شرعا مع وجود هذا الشكّ. وذلك كما إذا كان شاكّا في بقاء طهارته من الحدث ، فلا محالة يكون شاكّا في صحّة الصلاة التي يريد أن يدخل فيها بتلك الحالة ؛ لأنّ الطهارة الواقعيّة شرط للصلاة لا إحراز الطهارة ، فالشكّ فيها ملازم مع الشكّ في صحّة الصلاة ، ولكن مع ذلك يجوز له الدخول فيها بواسطة استصحاب الطهارة ، وبعد الصلاة في الفرض إذا زال الاستصحاب وانقلب إلى الشكّ الساري لزوال اليقين السابق في الظرف الذي كان موجودا ، فالآن ليس استصحاب في البين حتّى نقول بأنّ الشرط موجود تعبدا.

فهل يمكن في هذه الصورة تصحيح العمل بقاعدة الفراغ أم لا؟

والظاهر عدم جريان قاعدة الفراغ في هذه الصورة أيضا ؛ لأنّ الشكّ ليس متمحّضا في انطباق المأتي به على المأمور به ؛ لأنّ الاستصحاب الذي كان محرز للشرط لم يبق وزال ، بل تبيّن بعد العمل أنّ وجود الاستصحاب كان وجودا خياليّا لا واقعيّة له ، فكأنّه صلّى بدون إحراز شرطه.

ولا شكّ في أنّ الصلاة بدون إحراز شرطها ومع الشكّ فيه باطلة ، فلا يبقى مجال

ص: 348

لجريان قاعدة الفراغ ، لما قلنا أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز موردهما هو الشكّ في صحّة العمل من جهة وجود خلل في المأتي به غفلة أو سهوا أو نسيانا ، وما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، لأنّ المصلّي في المفروض لم يغفل ولم يسه عن جزء أو شرط ، بل دخل في الصلاة باستصحاب زائل لا ثبات له ، بل ربما يكون دخوله بشهادة رجلين يتخيّل عدالتهما ثمَّ يتبيّن فسقهما حال الشهادة ، فيكون الدخول مستندا إلى تخيّل البيّنة ، لا البيّنة الواقعيّة.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في الصورة الخامسة ، وهي عيّن الصورة السابقة باستثناء جواز الدخول فيه - أي في المركّب المأمور به - فالمفروض في هذه الصورة عدم جواز الدخول ، بخلاف الصورة السابقة. مثلا لو شكّ قبل الصلاة في أنّه محدث ولم يكن استصحاب الطهارة في البين ، فلا يجوز له أن يدخل في الصلاة ؛ للزوم إحراز الشرط ، أي الطهارة ، فلو غفل وصلّى فلا شكّ في أنّه بعد الصلاة يشكّ في صحّة عمله ، فتارة يحتمل أنّه بعد ما شكّ في الحدث توضّأ مثلا ، وأخرى لا يحتمل.

أما في الصورة الأولى فلا شكّ في شمول القاعدتين ؛ لأنّ حال الشكّ في الحدث ليس بأعظم من القطع بالحدث ، ومع القطع بالحدث لو غفل ودخل في الصلاة ولكن بعد الصلاة يحتمل أنّه توضّأ بعد ذلك القطع فتشمل القاعدتان مثل هذا المورد ، ففي مورد الشكّ يكون شمولهما له بطريق أولي.

وأمّا إذا لا يحتمل الوضوء بعد ذلك القطع ، فالظاهر عدم شمول القاعدة له ؛ لما ذكرنا من أنّ قاعدة التجاوز والفراغ مفادهما إلقاء احتمال ترك جزء أو شرط ، غفلة أو سهوا أو نسيانا.

وفيما نحن فيه المفروض أنّه دخل في الصلاة غفلة عن كونه شاكّا في كونه محدثا ، وإلاّ لو لم يكن غافلا لما كان يجوز له أن يدخل في الصلاة ، فمع فرض دخوله فيها غفلة عن كونه شاكّا في وجود الشرط كيف يمكن أن يقال بأنّ مقتضى قاعدة الفراغ أو

ص: 349

التجاوز عدم غفلته عن إيجاد الشرط وأنّه لم يترك.

والحاصل : أنّ صور هذه المسألة كثيرة.

والضابط في جريان القاعدتين وعدم جريانهما هو أنّه لو كان حدوث الشكّ بعد العمل ، أو في الأثناء بعد التجاوز عن المحلّ المقرّر للمشكوك ، وكان الشكّ متمحّضا في انطباق المأتي به مع المأمور به ، ولم يكن هذا الشكّ مسبوقا بالشكّ في صحّة المركّب المأمور به قبل أن يشرع في العمل لاحتمال فقد شرط أو وجود مانع ، فحينئذ يكون مورد جريان القاعدة.

مثلا لو احتمل أن يكون جنبا ، ثمَّ غفل ودخل في الصلاة ، أو دخل باستصحاب عدم الحدث ثمَّ زال الاستصحاب ، فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ بعد العمل ، أو التجاوز في أثنائه بعد التجاوز عن المحلّ المقرّر شرعا للمشكوك ؛ لأنّ الشكّ في صحّة العمل بعده مسبوق بالشكّ فيها قبله ، فيجب على الفقيه مراعاة هذا الضابط في مقام إجراء هاتين القاعدتين.

المبحث التاسع : في وجه عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء بل في الغسل والتيمم أيضا

فنقول : أمّا بناء على مسلك شيخنا الأستاذ قدس سره علیه السلام من اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة فقط ، (1) فلا إشكال في البين حتّى يحتاج إلى بيان الوجه.

وأمّا بناء على ما ذكرنا من وحدة الكبرى المجعولة في القاعدتين ، وأنّ عموم

ص: 350


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 626.

« الشي ء » في قوله علیه السلام « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » في موثّقة ابن أبي يعفور (1) وأمثاله في سائر الروايات يشمل الشكّ في الجزء والكلّ بلا عناية أمر آخر ، فلا بدّ حينئذ من التماس وجه ودليل لتخصيص قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء ، حيث أنّ بناءهم على عدم إجراء قاعدة التجاوز ، بل ربما يلحقون به التيمّم بل الغسل أيضا.

فنقول : أمّا بالنسبة إلى الوضوء فمضافا إلى الإجماع على عدم جريان القاعدة صحيحة زرارة « إذا كنت قاعدا في وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله ممّا سمّى اللّه تعالى ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وصرت في حالة أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى اللّه تعالى ممّا أوجب اللّه عليك لا شي ء عليك » (2). فإنّها صريحة في عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء وجريان قاعدة الفراغ فيه. وقد ألحقوا به الغسل والتيمم.

وإلحاق التيمّم بالوضوء يمكن أن يوجّه بأنّ البدل بحسب المتفاهم العرفي في حكم المبدل عنه ، وإن كان لا يخلو عن إشكال.

وأمّا إلحاق الغسل فلا وجه له أصلا. اللّهمّ إلاّ أن يدّعي الإجماع على الإلحاق ، أو على عدم جريان قاعدة التجاوز ابتداء فيه من دون كونه بعنوان الإلحاق ، وعلى كلّ حال ثبوت هذا الحكم - أي عدم جريان قاعدة التجاوز فيه - في غاية الإشكال ، بل وفي التيمم أيضا مشكل.

وأمّا ما أورده شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في هذا المقام وجها لعدم جريان القاعدة في الوضوء بأنّه عمل واحد أثره ، وبهذا الاعتبار ليس له أجزاء بحيث يكون

ص: 351


1- تقدّم ذكره في ص 327 ، رقم (2).
2- « الكافي » ج 3 ، ص 33 ، باب الجبائر والقروح والجراحات ، ح 2 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 100 ، ح 261 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنّة ، ح 110 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 330 ، أبواب الوضوء ، باب 2 ، ح 1.

كلّ واحد من تلك الأجزاء مصداقا لمفهوم « الشي ء » حتّى يشمله عموم « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » (1) ، قد تقدّم جوابه ، من إمكان أن يكون الجامع بين الكلّ والجزء هو المراد من لفظ « الشي ء » في أخبار الباب ، ووحدة الأثر وبساطته لا يوجب بساطة السبب المؤثر.

كيف وكثير من العبادات المركّبة ذات الأجزاء ، آثارها لها وحدة وبساطة ومع ذلك لها أجزاء ، وكلّ جزء من أجزائها يطلق عليه « الشي ء » ، والوضوء أيضا كذلك له أجزاء متميّزة بعضها عن بعض ، فغسل الوجه غير غسل اليدين ، وهما غير مسح الرأس والرجلين وإن كان أثر جميع تلك الأجزاء المسمّاة بالوضوء أمر واحد بسيط ، وهي النورانيّة النفسانيّة ، وقد أشار إلى ذلك بقوله علیه السلام « الوضوء نور ، والوضوء على الوضوء نور على نور » (2).

هذا ، مضافا إلى ما في رواية ابن أبي يعفور قوله علیه السلام : « إذا شككت في شي ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء » (3).

ولا شكّ في أنّ المراد من قوله علیه السلام : « في شي ء من الوضوء » أي في جزء من أجزاء الوضوء ، ففرض علیه السلام أجزاء للوضوء. وإذ كان المرجع في ضمير « غيره » في كلمة « وقد دخلت في غيره » هو « الشي ء » في كلمة « شي ء من الوضوء » فهذا يدلّ على أنّ الشارع فرض الوضوء ذا أجزاء وجعل الشكّ في كلّ جزء من تلك الأجزاء - بعد الدخول في غير ذلك الجزء - ملغى لا يعتنى به ، فيكون مفادها اعتبار قاعدة التجاوز في الوضوء أيضا ، فيكون معارضا لصحيحة زرارة المتقدّمة النافية لاعتبار قاعدة التجاوز في الوضوء بخلاف قاعدة الفراغ ، حيث أنّها تدلّ على الوضوء

ص: 352


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 713.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 41 ، باب صفة وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ح 82 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 265 ، أبواب الوضوء ، باب 8 ، ح 8.
3- تقدّم تخريجه في ص 327 ، رقم (2).

حجّيتها فيه ، أي في الوضوء.

وأمّا إن قلنا بأنّ مرجع الضمير هو كلمة « الوضوء » لا كلمة « شي ء » فحينئذ وإن كانت لا تدلّ على حجيّة قاعدة التجاوز ويرتفع التعارض ، لكن تدلّ على كلّ حال على أنّ الوضوء ليس أمرا بسيطا ، بل الشكّ في كلّ جزء من أجزائه لا يعتنى به ، إمّا بعد الدخول في غير ذلك الجزء ، أو في غير الوضوء.

فكلام شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره من أنّ الوضوء باعتبار وحدة أثره وبساطة ذلك الأثر أمر واحد بسيط لا جزء له (1) لا يخلو عن غرابة.

المبحث العاشر

في أنّ المضي وعدم الاعتناء بالشكّ في القاعدتين هل على نحو العزيمة - بمعنى أنّه لا يجوز الاعتناء بالشكّ وإتيان المشكوك ثانيا - أو لا ، بل على نحو الرخصة؟ بمعنى أنّه يجوز أن تمضي ولا تعتني بالشك ، ويجوز أيضا أن تأتي بالمشكوك بعنوان الاحتياط ورجاء ادراك الواقع.

قال أستاذنا المحقّق قدس سره في هذا المقام : الظاهر أنّ حكم الشارع في مورد قاعدة التجاوز بالمضي على نحو العزيمة ؛ لأنّه بعد حكم الشارع بوجوب المضي وعدم الاعتناء بالشكّ وإلغائه لا يجوز إتيان الجزء أو الشرط المشكوك فيه ولو رجاء ، لأنّه لا موضوع له مع هذا الحكم بوجوده ، فيكون الإتيان به حينئذ من الزيادة العمديّة.

أقول : قد عرفت فيما تقدّم أنّ الاحتياط وإتيان المحتمل الآخر غير ما قام عليه الحجّة لا ينافي مع الحجّة حتّى الأمارات فضلا عن الأصول ؛ لأنّ معنى حجيّة الأمارة أو الأصل لزوم الإتيان بمؤدّاهما ، لا عدم الإتيان بالمحتمل الأخر.

ص: 353


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 713.

وأمّا قوله « مع الحكم بوجوب المشكوك والأمر بالبناء عليه لا موضوع للاحتياط » ففيه : أنّ موضوع وجوب الاحتياط أو جوازه هو احتمال التكليف وفيما نحن فيه احتمال عدم وجود المشكوك ، وهذا أمر وجداني لا يرتفع باعتبار قاعدة التجاوز وحكمه بالمضي وعدم الاعتناء بالشك.

وأمّا قوله « يلزم من الاحتياط الزيادة العمديّة » ففيه أولا : إن كان المراد من الزيادة العمديّة احتمال الزيادة ، فهذا الاحتمال موجود في الشكّ في المحل ؛ لأنّ التجاوز عن المحلّ قلنا إنّه لا يرفع الاحتمال.

ان قلت : إنّ الشكّ في المحلّ والشكّ بعد التجاوز عن المحلّ فرق بينهما ، بأنّ الأوّل محكوم شرعا بالاعتناء وبإتيان المشكوك ، والثاني بإلغاء احتمال عدم الإتيان بالمشكوك ؛ فقياس أحدهما بالآخر لا وجه له.

قلنا : لا فرق بينهما في ما هو محلّ الكلام وهو أنّه في كليهما احتمال الزيادة موجود ، فلو كان احتمال الزيادة مضرّا لا بدّ وأن يكون مضرّا في كلا الموردين. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أدلّة لزوم الإتيان بالمشكوك في الشكّ في المحلّ ، لها حكومة على أدلّة مبطليّة الزيادة العمديّة في الصلاة ، بمعنى أنّ الشارع حكم بأنّ الزيادة الاحتمالية في مورد الشكّ في المحلّ ليست بزيادة ، كما أنّه قال : إنّ شكّ كثير الشكّ ليس بشكّ. وأنّى لهم بإثبات ذلك.

وثانيا : بناء على المختار ليست قاعدة التجاوز مخصوصة بالصلاة ، والزيادة العمديّة مبطلة في خصوص الصلاة ، فهذا الدليل أخص من المدعى.

وثالثا : يمكن الاحتياط بإعادة الصلاة ، لا بإعادة الجزء فقط كي يلزم الزيادة العمديّة.

فالحقّ في المقام أنّ حال قاعدة التجاوز حال سائر الحجج الشرعيّة من الأمارات والأصول ، وليس في موردها في الاحتياط برجاء إدراك الواقع محذور. هذا

ص: 354

تمام الكلام في قاعدتي الفراغ والتجاوز.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.

ص: 355

ص: 356

13 - قاعدة الإعانة على الإثم والعدوان

اشارة

ص: 357

ص: 358

قاعدة الإعانة على الإثم والعدوان (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة التي يتمسّك بها الفقهاء في مقام الإقتاء في جملة من الفروع الفقهيّة ، ويطبقونها على المسائل الفرعيّة « قاعدة الإعانة على الإثم ». وتوضيح الحال يقتضي التكلّم فيها عن جهات ثلاث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان مدركها ومستندها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى في سورة المائدة في ضمن الآية الثالثة ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (2) ودلالة الجملة الثانية المشتملة على النهي عن التعاون على الإثم والعدوان على حرمة الإعانة على الإثم واضحة ، كما أنّ الجملة الأولى أيضا ظاهرة في وجوب التعاون على البرّ والتقوى.

ولكن حيث نعلم من الخارج عدم وجوب مطلق التعاون على البرّ والتقوى ، فلا بدّ من رفع اليد عن ذلك الظهور والحمل على الاستحباب كما هو الظاهر ، أو الحمل على بعض الموارد التي يكون التعاون واجبا ، كإنقاذ غريق ، أو حريق وأمثال ذلك ممّا

ص: 359


1- (*) « عوائد الأيّام » ص 26 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 133 ؛ « القواعد الفقهيّة » ( فاضل اللنكراني ) ج 1. ص 423.
2- المائدة (5) : 2.

يكون التعاون لأجل حفظ نفس محترمة مثلا. لكن لا مانع من الأخذ بظهور المجلة الثانية ، بل هو المشهور المعروف ، فلا بدّ من الأخذ به والعمل على طبقه بمقتضى أصالة الظهور.

وأمّا حديث وحدة السياق ولزوم حمل النهي على الكراهة لا الحرمة من تلك الجهة.

ففيه أوّلا : أن وحدة السياق فيما إذا كانت كلّ واحدة من الجملتين مشتملة على الأمر أو النهي ، مثل أن يقول : « اغتسل للجمعة والجنابة » أو يقول مثلا : « لا تشرب الماء قائما ولا تبل في الماء ». وأمّا في مثل المقام ممّا يكون إحدى الجملتين مشتملة على الأمر والأخرى على النهي - أي تكون إحديهما مفادها البعث على إيجاد شي ء ، والأخرى الزجر عن إيجاد شي ء آخر - فلا يكون موردا للأخذ بوحدة السياق.

وثانيا : أنّ الجملتين ها هنا كلّ واحدة منها مستقلّة وفي مقام بيان أمر غير ما هو مفاد الأخرى ، وبعبارة أخرى : في كلّ واحدة منهما بصدد بيان مطلب لا ربط له بالمطلب الآخر الذي هو مفاد الجملة الأخرى ، وصرف تتابع الجملتين في الذكر لا يدلّ على أنّ سياقهما واحد.

نعم في مثل حديث الرفع (1) حيث أنّه صلی اللّه علیه و آله بصدد بيان رفع الأشياء التي في رفعها امتنان عن هذه الأمّة كرامة له صلی اللّه علیه و آله ، فالمرفوع وإن كان متعدّدا ولكن المسند في جميعها هو الرفع الامتناني ، وهو معنى واحد. ولذلك قالوا بلزوم أن يكون المرفوع في الجميع إمّا هو الحكم وإمّا يكون هو الموضوع ، لا أن يكون في بعضها الحكم وفي بعض الآخر هو الموضوع ؛ لوحدة السياق.

وربما يستشكل في دلالة الآية على حرمة الإعانة على الإثم بأنّ النهي في الآية

ص: 360


1- « التوحيد » ص 353 ، ح 24 ؛ « الخصال » ص 417 ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 295 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب 56 ، ح 1.

تعلّق بعنوان التعاون لا المعاونة والإعانة ، والتعاون لا بدّ وأن تكون المعاونة من الطرفين ، ففيما إذا كان صدور فعل بإعانة كلّ واحد منهما للآخر - أي كانا شريكين في إيجاد ذلك الفعل - يصدق التعاون ، وإلاّ لو كانت الإعانة من طرف واحد بحيث يكون أحدهما عونا للفاعل المباشر بواسطة إيجاد بعض مقدمات فعله ، فهذه إعانة لا تعاون ؛ لأنّ هيئة باب التفاعل موضوعة لاشتراك الشخصين في جهة صدور الفعل عنهما.

فالتعاون عبارة عن كون كلّ واحد منهما عونا للآخر ، والإعانة عبارة عن كون شخص عونا لشخص آخر في فعله. وما هو مفاد القاعدة ومضمونها هو الثاني ، ومفاد الآية هو الأوّل.

ولكن أنت خبير بأنّ أمره تبارك وتعالى بالتعاون على البرّ والتقوى ، وكذلك نهيه عن التعاون على الإثم والعدوان ليس باعتبار فعل واحد وقضية واحدة وفي واقعة واحدة ، بل الخطاب إلى عموم المؤمنين والمسلمين بأن يكون كلّ واحد منهم عونا للآخر في البرّ والتقوى ، ولا يكون عونا لأحد في الإثم والعدوان.

وبعبارة أخرى : إطلاق لفظ « التعاون » باعتبار مجموع القضايا ، لا باعتبار قضية واحدة وفعل واحد ، فلو كان مثلا زيد عونا لعمرو في الفعل الفلاني وكان عمرو عونا لزيد في فعل آخر يصدق أنّهما تعاونا ، أي أعان كلّ واحد منهما الآخر. ولو كان إعانة كلّ واحد منهما لصاحبه في فعل يصدر من نفس ذلك الصاحب ، فيكون المأمور به في الآية الشريفة إعانة كلّ مسلم لكلّ مسلم في ما يصدر منه من فعل الخير والبرّ والتقوى ، بمعنى مساعدته في ذلك الفعل ولو كان بإيجاد بعض مقدّماته القريبة أو البعيدة. والمنهي عنه إعانة كلّ شخص في فعله الذي هو إثم ، أي معصية للخالق أو عدوان وظلم على الغير ، وهذا عين مفاد القاعدة.

فالإنصاف أنّه لا قصور في دلالة الآية المباركة على هذه القاعدة.

ص: 361

وأمّا المراد بالبرّ والتقوى هي الأفعال الحسنة التي تصدر من المسلمين ، سواء أكانت واجبة عليهم كالحجّ مثلا ، أو مستحبّة كبناء المساجد ، وطبع الكتب الدينيّة ونشرها ، إلى غير ذلك ممّا ندب الشرع إليها. كما أنّ المراد بالإثم هي المنهيّات والمعاصي ، صغيرة كانت أو كبيرة. وقد روى الطبري عن ابن عبّاس هذا المعنى في تفسير الآية المباركة (1).

وأمّا عطف « العدوان » على « الإثم » فمن قبيل عطف الخاص على العام ؛ لأنّ العدوان - أي التعدّي والظلم - أيضا من مصاديق الإثم.

ثمَّ إنّ المفسّرين ذكروا في شأن نزول الآية الشريفة قصّة وحكاية ، ولكن أنت خبير بأنّ خصوصيّة المورد لا يضرّ بحجيّة عموم مفاد الآية ؛ وذلك من جهة أنّ العمومات الواردة في الكتاب الكريم في مورد خاصّ يكون من قبيل الكبرى الكلية التي تنطبق على المورد ، ويكون المورد إحدى صغرياتها.

الثاني : الأخبار الواردة في الموارد الخاصّة التي تدلّ على حرمة الإعانة على الإثم.

منها : قوله صلی اللّه علیه و آله « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة اللّه » (2).

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث على حرمة الإعانة على الإثم أنّه لا شكّ في أنّ قتل المسلم إثم ، وقد أوعد في الحديث العقاب واليأس من رحمة اللّه بالنسبة إلى الذي أعان على هذا الإثم العظيم والجريمة الكبيرة ، ويستكشف من هذا الإيعاد حرمته.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الإعانة على قتل المسلم هي بنفسها إثم وحرام لا من جهة كونها إعانة على الإثم ، وإن كان الظاهر من الحديث هو المنع عن الإعانة على

ص: 362


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 6 ، ص 44.
2- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 333 ، ح 48.

قتل المسلم لكونها إعانة على ذلك الإثم العظيم ، لا لكونه إثم مستقلّ في قبال قتل النفس المحترمة.

منها : ما في الكافي عن أبي عبد اللّه علیه السلام حكاية قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه » (1).

والمستفاد من ظاهر هذا الحديث مفروغية حرمة الإعانة على النفس وأنّها موجبة لاستحقاق العقاب ، وأخبر أنّ أكل الطين من مصاديقها كي يرتدع منه خوفا من العقاب.

وإن كان من المحتمل أن يكون صلی اللّه علیه و آله بصدد إرشاد من يأكل الطين ، وأنّ العاقل لا يرتكب أمرا يكون موجبا لهلاك نفسه. لكن هذا الاحتمال ضعيف ، والظاهر هو الأوّل.

منها : الأخبار الواردة في حرمة معونة الظالمين في ظلمهم ، وهي كثيرة ولها باب مخصوص في كتاب الوسائل (2) والمستدرك (3) ، وإن شئت راجع إليهما.

منها : ما ورد في حرمة إجارة داره لأن يباع فيها الخمر ، كخبر جابر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يواجر بيته فيبتاع فيه الخمر ، قال علیه السلام : « حرام أجرته » (4).

منها : ما رواه الكليني بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الخمر عشرة غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ،

ص: 363


1- « الكافي » ج 6 ، ص 266 ، باب أكل الطين ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 89 ، ح 376 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 111 ؛ « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 393 ، أبواب الأطعمة والأشربة ، باب 58 ، ح 7.
2- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 127 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 42.
3- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 122 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 35.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 227 ، باب جامع فيما يحلّ الشراء والبيع منه وما لا يحلّ ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 134 ، ح 593 ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح 64 ؛ وج 6 ، ص 371 ، ح 1077 ، باب المكاسب ، ح 198 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 55 ، ح 179 ، باب كراهيّة إجارة البيت لمن يبيع فيه الخمر ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 125 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 39 ، ح 1.

وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها » (1).

فما عدا الشارب من هذه العشرة حرمتها من جهة كونها إعانة على الإثم. نعم أكل ثمنها من جهة بطلان بيعها لإلغاء الشارع ماليّتها.

والأخبار الخاصّة بمعنى النهي عن مصاديق الإعانة على الإثم كثيرة ، وفي بعضها يكون متعلّق النهي مفهوم الإعانة لكن في مورد خاصّ.

والإنصاف أنّ الفقيه يستظهر من مجموع هذه الأخبار المتفرّقة في الأبواب المختلفة حرمة الإعانة على الإثم ، خصوصا في المعاصي الكبيرة.

الثالث : حكم العقل بقبح المساعدة على إتيان ما هو مبغوض المولى وما هو فيه المفسدة ، فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم ، فضلا من أن يكون هيّأ له المقدّمات أو بعضها.

نعم المقدّمات البعيدة - كبعض معدّات وجود الشي ء الذي يحتاج إلى وجود مقدّمات كثيرة بعده ، حتّى تصل النوبة إلى صدور الفعل بإرادته واختياره - مع عدم قصد ترتّب صدور الحرام عليه لا يحكم العقل بقبحه ، فلا بدّ وأن يحمل لعنه صلی اللّه علیه و آله غارسها مع أنّه من المقدّمات البعيدة على أن يكون الغرس بهذا القصد والنيّة ، إذ من الواضح المعلوم أنّ إيجاد مقدّمة من مقدّمات فعل الحرام الصادر من الغير إن كان بقصد ترتّب ذلك الحرام عليها يكون إعانة على ذلك الإثم وإن كان من المقدّمات البعيدة.

وأمّا إن لم يكن بذلك القصد ، أو قصد العدم ولكن ترتّب عليه فلا يعدّ عند العرف إعانة ، فلا يكون زواج الأب من أمّ الولد العاصي إعانة على الإثم ، مع أنّه قطعا من معدّات صدور المعصية عن ذلك الولد ، غاية الأمر من المعدّات البعيدة. وفي نفس

ص: 364


1- « الكافي » ج 6 ، ص 429 ، باب النوادر ( من كتاب الأشربة ) ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 165 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 55 ، ح 4.

المثال لو تزوّج بقصد أنّه يولد له ولد يبيع الخمر ، أو يكون عشارا مثلا ، يكون تزويجه إعانة على الإثم وإن كان من المقدّمات البعيدة.

وأمّا المقدّمات القريبة فيمكن أن يعدّ إعانة عرفا ولو لم يكن بقصد ترتّب ذلك ، وسيأتي تحقيقه في بيان الجهة الثانية إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل : أنّه لا شكّ في أنّه كما أنّ العقل مستقلّ بقبح مخالفة المولى وإتيان ما هو المبغوض عنده ، كذلك مستقلّ في الحكم بقبح المساعدة على إتيان الغير ذلك المبغوض للمولى وما فيه المفسدة.

الرابع : الإجماع واتّفاق الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين على حرمة الإعانة على الإثم ، فإنّهم يعلّلون حرمة بعض الأفعال بأنّه إعانة على الإثم ويرسلونه إرسال المسلّمات ، وكأنّها أمر مفروغ عنه عندهم.

ولكن ذكرنا مرارا أنّ مثل هذا الاتّفاق الذي له مدارك عقليّة وكذلك النقليّة من الآيات والروايات ليس من الإجماع الذي بنينا في الأصول على حجيّته.

الجهة الثانية : في أنّه ما المراد من هذه القاعدة أي حرمة الإعانة على الإثم

فنقول : أمّا الإثم فمعناه معلوم ، إذ المراد به مخالفة التكليف الإلزامي ، أي ترك ما هو الواجب ، أو فعل ما هو الحرام. وبعبارة أخرى : الإثم هو العصيان.

وأمّا الإعانة فهي لغة بمعنى المساعدة ، وأعانه على ذلك ، أي ساعده عليه ، والمعين والمعاون للإنسان هو المساعد له في فعله وإشغاله. وقوله علیه السلام : « عون الضعيف من أفضل الصدقة » (1) أي مساعدته في أفعاله وفي أمور معيشته أو إشغاله.

ص: 365


1- « الكافي » ج 5 ، ص 55 ، باب ( من كتاب الجهاد ) ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 108 ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، باب 59 ، ح 2.

فالمراد من الإعانة على الإثم مساعدة الآثم في الإثم الذي يصدر منه ، وذلك بإيجاد جميع مقدّمات الحرام الذي يرتكبه أو بعضها لا كلام في ذلك.

إنّما الكلام في أنّه هل يحتاج في صدق الإعانة قصد ترتّب الحرام الذي يرتكبه الآثم على هذه المقدّمة أم لا؟ ومضافا قصد ترتّب الحرام هل يحتاج إلى وقوع الحرام بمعنى أنّه لو قصد بإيجاد هذه المقدّمة من مقدّمات الحرام الصادر عن الغير ترتّب ذلك الحرام عليهما ، فهل يحتاج في صدق الإعانة على هذا الإيجاد وقوع ذلك الحرام أيضا في الخارج أم لا ، بل صرف إيجاده تلك المقدّمة بقصد ترتّب ذلك الحرام يكفي في صدق الإعانة ، سواء وقع الإثم أم لم يقع؟ وجوه بل أقوال :

فقد يقال : بلزوم كلا الأمرين في صدق الإعانة على إيجاد تلك المقدّمة.

وقد يقال بعدم لزوم كلا الأمرين بل بمحض إيجاد تلك المقدّمة يصدق عليه الإعانة ، قصد ترتّب ذلك الحرام أو لم يقصد ، وأيضا وقع ذلك الحرام في الخارج أو لم يقع.

وقد يفصّل باحتياج صدقها إلى القصد دون وقوع ذلك المحرّم.

وقد يقال بالعكس ، أي باحتياج صدقها إلى وقوع ذلك المحرّم دون القصد.

والتحقيق في هذا المقام : أنّ من هذه الصور الأربع ؛ أي فيما إذا قصد المعين الإعانة على ذلك الإثم مع وقوع الإثم ؛ وفيما إذا لم يقصد المعين ، وأيضا لم يقع الإثم ، وفيما إذا قصد ولم يقع ، أو وقع ولم يقصد ؛ الصورة الأولى ، أي فيما إذا قصد ووقع ، فلا شكّ في أنّها القدر المتيقّن من صدق الإعانة.

وأمّا الصورة الثانية ، فهو القدر المتيقّن من عدم صدق الإعانة وإن قيل بالصدق فيها أيضا.

ص: 366

وأمّا الصورة الثالثة ، أي فيما إذا قصد الإعانة ولم يقع الإثم ، فالظاهر أيضا عدم صدق الإعانة على الإثم ؛ لعدم إثم في البين. فلو أعطي العصا بقصد أن يضرب ولكنّه لم يضرب ، أو أعطاه الخشب ليصنع صليبا أو صنما ، باعه العنب ليصنع خمرا ولكنّه صنعه خلاّ ولم يصنع خمرا وأمثال ذلك ، فليس هناك معصية ولم يصدر منه إثم حتّى تكون الأفعال المذكورة من إعطاء العصا ، وإعطاء الخشب ، وبيع العنب إعانة على الإثم.

نعم بناء على حرمة الإعانة على الإثم - كما استظهرنا من الآية والروايات وحكم العقل بقبحها - يصدق عليه المتجري ؛ لأنّه أتى بهذه الأفعال بقصد الإعانة قاطعا بأنّها إعانة على الإثم ، لقطعه بصدور الحرام منه أو وثوقه واطمئنانه بصدوره منه ، أو قيام حجّة أخرى عليه. أو يقال بأنّه حرام من جهة أنّ تهيئة أسباب الحرام حرام في نفسه مع قصد ترتّب ذلك الحرام عليها ، لا من جهة الإعانة على الإثم.

والحاصل : أنّ الإعانة على فعل - سواء أكان ذلك الفعل من قبيل البرّ والتقوى ، أو كان من قبيل الإثم والعدوان - عبارة عن إيجاد مقدّمة من مقدّمات وجود ذلك الفعل الذي صدر عن الغير ، فإذا لم يصدر سواء أكان برجوعه عن قصده أو بواسطة وجود مانع عن إيجاد ذلك الفعل ، فلا معنى لكونه مساعدا له في ذلك الفعل المعدوم.

فالإنصاف أنّ صدور ذلك الفعل الذي هو إثم ، وقوعه في الخارج شرط في صدق الإعانة بالنسبة إلى ذلك الفعل.

وأمّا قولهم في بعض الموارد بأنّه إعانة ، كما أنّه لو أراد التزويج أو أراد شراء دار ، فساعده شخص آخر بإعطاء المال له ليبذل في المهر ، أو لجعله ثمنا لشراء الدار ، فمنعه مانع عن التزويج أو شراء الدار ، أو هو رجع عن إرادته ، فهذا الإطلاق مسامحي. ومرجعه إلى أنّه إعانة وساعده على القدرة على التزويج أو على شراء الدار ، والقدرة الماليّة حصلت. وإلاّ فالقول بأنّه أعانه على فعل لم يفعل لا يخلو عن ركاكة.

ص: 367

وأمّا الصورة الرابعة ، أي فيما إذا وقع الإثم في الخارج من شخص ، وأوجد شخص آخر بعض مقدّمات ذلك الإثم الذي يتوقّف وجود ذلك الإثم عليه ولكن بدون قصد ترتّب ذلك الإثم عليه ، فصار محلّ الخلاف بين الأعلام والفقهاء المحقّقين.

فبعضهم قال بعدم صدق الإعانة مع عدم القصد ، ومنهم الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) والبعض الآخر قالوا بصدقها ولو لم يقصد ، وفصّل جماعة - وهو الحقّ - بين ما إذا كانت تلك المقدّمة بعد إرادة الآثم لذلك الإثم وعزمه على ذلك الفعل ولكن يتوقّف إيجاده على تلك المقدمة ، كما إذا عزم على ضرب شخص وأراده ولكن يتوقّف وقوع الضرب في الخارج على وصول عصاء بيده ، فأعطاه العصا بيده في هذه الحالة مع علم المعطي بإرادته ، يكون إعانة على ذلك الإثم ولو لم يقصد ترتّب الضرب على ذلك الإعطاء ، بل يتمنّى ويرجى أن يندم ولا يضرب ، وإنّما كان إعطاءه العصا الفرض عقلائي أو سفهي آخر.

وبعبارة أخرى : فرق بين أن تكون تلك المقدّمة التي يوجدها المعين قبل إرادة الآثم لذلك الفعل المحرم - تكون من مبادي الإرادة عليها - وبين أن تكون بعد تحقّق إرادة الآثم وعزمه على الفعل المحرّم وتكون بمنزلة الجزء الأخير من العلّة التامّة لذلك الفعل المحرم.

ففي الصورة الأولى لا تكون إعانة على الإثم لا مع قصد ترتّب ذلك الحرام والإثم.

وذكرنا أنّ لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غارسها لا بدّ وأن يحمل على صورة قصد الغارس ترتّب صنع الخمر على غرسه هذا.

وأمّا في الصورة الثانية فهي إعانة ، قصد أو لم يقصد ؛ لأنّه يعلم أنّ بفعله يصدر الحرام عن ذلك الغير ، إذ هو بمنزلة الجزء الأخير من العلّة التامّة ، لأنّه ليس لوقوع

ص: 368


1- « المكاسب » ص 17.

الفعل المحرّم حالة منتظرة إلاّ وجود هذه المقدّمة ، فكيف يمكن أن يقال بأنّها ليست إعانة على الإثم؟

وظهر ممّا ذكرنا أنّ تجارة التاجر وإن كان من مقدّمات أخذ العشّار العشر مثلا وهو حرام وإثم ، ولكن حيث أنّ التجارة من مبادي إرادة أخذ العشر وتكون بمنزلة الموضوع له وفي الرتبة المتقدّمة عليه ، فلو لم يكن بفعله - أي تجارته - قاصدا ترتّب أخذ العشر ، كما أنّه كذلك إذ قصد التاجر الانتفاع بهذا العمل ، لا أن يؤخذ منه العشر بل يسعى في عدمه أو لا أقلّ في تقليله ، فلا يكون إعانة وليس بحرام ، بل يكون على حكمه الأوّلى أي الاستحباب مثلا.

نعم لو قصد بفعله هذا ترتّب الحرام عليه يكون إعانة وإن كان من أبعد المقدّمات والمعدّات.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فمنها : مسألة بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنعه خمرا. وقد تعرّض لهذه المسألة شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره (1).

وبناء على ما ذكرنا من الضابط في باب الإعانة على الإثم إن كان البائع للعنب قصد ببيعه هذا ترتّب صنع الخمر على هذا البيع ، فيكون من الإعانة على الإثم قطعا.

وأمّا إن لم يقصد ذلك ، بل يريد بيع عنبه وتحصيل ثمنه ، وربما يتأذّى من صنعه خمرا ويسأل اللّه أن يردعه عن هذا الفعل ، فإن كان ذلك الغير عازما ومريدا لصنع الخمر إذا وجد العنب - بحيث يكون بيعه للعنب عليه بمنزلة الجزء الأخير من العلّة

ص: 369


1- « المكاسب » ص 16.

التامّة ، ويكون من قبيل إعطاء العصا بيد من يريد ضرب شخص - فيكون بيعه إعانة على الإثم ، قصد أو لم يقصد.

وأمّا إن لم يكن كذلك ، ولا يريد فعلا أن يصنع خمرا ، ولكن يعلم البائع أنّ هذا العنب لو انتقل إليه يحدث فيه بعد ذلك إرادة صنع الخمر لما يعلم أنّه سيحدث له دواعي هذا الفعل ، ففي هذه الصورة لا يصدق على ذلك البيع عنوان الإعانة على الإثم ، إلاّ مع قصده ترتّب صنع الخمر على بيعه.

ومنها : بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب معهم ، أو مطلقا على بعض الوجوه ، أي فيما إذا قصد البائع تقويتهم وازدياد شوكتهم ، أو استعماله في الحرب مع المسلمين إن قام بينهم وبين المسلمين حرب ؛ هكذا قال بعضهم.

ولكن التحقيق أنّ هذا بنفسه إثم بل من المعاصي الكبيرة ، لا أنّ حرمته من باب الإعانة على الإثم. وهذا الذي قلنا من حرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا من باب الإعانة على الإثم في بعض الصور الذي تقدّم تفصيلا ليس مختصّا بالبيع ، بل يشمل مطلق التمليك الاختياري ، سواء أكان بالبيع ، أو الصلح ، أو الدين ، أو الهبة ، أو المهر ، أو عوض الخلع إلى غير ذلك ؛ لوحدة مناط الحكم في الجميع.

ومنها : إجارة الدار أو الدكّان لصنع الخمر ، أو لبيعه ، أو ليكون محلّ الشرب.

ويجري فيه التفصيل الذي تقدّم في بيع العنب من كونها إعانة على الإثم مطلقا إذا كانت بقصد ترتّب ذلك الحرام على هذه الإجارة ، وإلاّ إذا لم يقصد فإن كانت هذه الإجارة بمنزلة الجزء الأخير للعلّة التامّة لوقوع ذلك الحرام والإثم ، أي كانت بعد تحقّق إرادة المباشر للإثم وعزمه عليه بحيث لا تكون له حالة منتظرة إلاّ وجود مكان للاشتغال بهذا المحرّم ، من دكّان ، أو دار ، أو ما يشبههما فتكون إعانة على الإثم ، وإلاّ فلا.

ومنها : بيع الخشب أو مادّة أخرى لمن يعلم أنّه يصنع الصليب أو الصنم على

ص: 370

التفصيل الذي تقدّم في بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنعه خمرا لأنهما من واد واحد ، ومناط الحكم فيهما واحد.

ثمَّ أنّه لا فرق في صدق الإعانة على الإثم فيما ذكرنا من إجارة الدار أو الدكّان أو محلاّ آخر ممّا يشبههما بين أن يكون تسليم الدار أو الدكّان إلى المباشر الآثم بعنوان الوفاء بعقد الإجارة ، أو كان بعنوان الإعارة ، أو بعنوان آخر ممّا يوجب نقل المنفعة أو حلّية الانتفاع لذلك الذي يصدر منه الحرام.

وكذلك في مسألة بيع الخشب أو مادّة أخرى ممّا يصنع منه الصليب أو الصنم لمن يعلم أنّه يصنعهما ، لا فرق بين البيع والهبة والصلح وسائر النواقل الشرعيّة الاختيارية للأعيان التي لها ماليّة.

وكذلك الحكم في بيع الخشب أو أيّ مادة أخرى تصلح لصنع البرابط والمزامير والعود وسائر أدوات اللّهو وآلاته ، على التفصيل المتقدّم في بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنع منها آلات اللّهو وأدواته.

وأيضا لا فرق بين أن يكون نقل هذه المواد إلى الذي يعلم أنّه يصنعها آلات اللّهو بالبيع ، أو كان بناقل شرعي اختياري آخر ، كما ذكرنا في الفروع السابقة ؛ لوحدة مناط الحكم في الجميع.

ومنها : إجارة السفينة أو الدابّة أو ما يشبههما كالسيارة والطيارة والقطار لحمل الخمر ونقله من مكان إلى مكان آخر لغرض عقلائي. ولا يأتي فيه التفصيل المتقدّم كما هو واضح بأدنى تأمل.

ثمَّ إنّهم عدّوا من شرائط صحّة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة ؛ لأنّ حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم ، والفرق بين البيع والإجارة أنّ البيع يتعلّق بالأعيان ويكون عبارة عن تمليك الأعيان المتموّلة بعوض مالي ، والإجارة تتعلّق بالمنافع وتكون عبارة عن تمليك المنافع المتموّلة في نظر الشارع ، فإذا كانت المنفعة

ص: 371

محرّمة فليس لها ماليّة كي تقابل بالعوض المالي.

قال في الشرائع : الشرط الخامس أن تكون المنفعة مباحة ، فلو آجره مسكنا ليحرز فيه خمرا ، أو دكّانا ليبيع فيه آلة محرّمة ، أو أجيرا ليحمل إليه مسكرا لم تنعقد الإجارة ، وربما قيل بالتحريم وانعقاد الإجارة (1).

انتهى وزاد في الجواهر : « أو جارية للغناء ، أو كاتبا ليكتب له كفرا ونحوه » (2) لأنّ الملاك في الجميع واحد ، والمراد بالكاتب الذي يكتب الكفر هو كتابة كتب الضلال التي توجب ضلال الناظرين فيه وفساد عقائدهم ، كالكتب التي تكتب ردّا على الإسلام من أصحاب سائر الأديان ، أو من الطبيعيين المنكرين للاله خذلهم اللّه.

والأمثلة والموارد التي تكون المنفعة محرّمة ليست منحصرة بما ذكره صاحب الشرائع وصاحب الجواهر 0 بل هي كثيرة ، ولا يتوقّف الفقيه في مقام التطبيق بعد معرفة ضابط الذي ذكرناها.

ولكن الظاهر أنّ المفروض في كلام الشرائع غير ما نحن فيه ؛ لأنّ ما فرضه قدس سره فيما إذا كانت لأجل هذه الغاية المحرّمة ، وبعبارة أخرى : حصر المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر في المحرّمة. وهذا لا كلام في بطلان عقد الإجارة وحرمته ، وإن نسب المحقق قدس سره الصحّة وعدم البطلان إلى القيل ، ولكن لا وجه له.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 372


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 147.
2- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 307.

فهرس الموضوعات

ص: 373

ص: 374

1 - قاعدة من ملك

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : هل أنها من القواعد الفقهية أو من المسائل الأصولية؟ ... 5

الجهة الثانية : الفرق بينها وبين قاعدة إقرار العقلاء ... 7

الجهة الثالثة : في الدليل على هذه القاعدة ... 9

الأول : ثبوت الملازمة بين السلطنة على ثبوت الشئ والسلطنة على إثباته... 9

الثاني : الإجماع ... 11

الجهة الرابعة : بيان مفاد هذه القاعدة وما هو الظاهر فيها ... 12

الجهة الخامسة : نفوذ إقراره مشروط بأن يكون مالكا حال الإقرار ... 14

2 - قاعدة الإمكان

والبحث فيه عن جهات ثلاث :

الجهة الأولى : المراد من الإمكان وما هو معناه .............................. 19

خلاصة الكلام في المراد من الإمكان في المقام ... 22

فيما اختاره الشيخ الأنصاري قدس سره في معنى الإمكان... 9

الجهة الثانية : في الأدلة على هذه القاعدة ... 24

الأوّل : الأصل ... 25

الثاني : بناء العرف ... 26

الثالث : سيرة المتشرعة ... 28

الرابع : ما أفاده كاشف اللثام ... 29

الخامس : الروايات الكثيرة ... 30

ص: 375

عدم دلالة الروايات على هذه القاعدة : ... 32

السادس : الإجماع ... 35

الجهة الثالثة : في موارد جريان القاعدة ... 37

هذه القاعدة أصل عملي ومفادها حكم ظاهري ... 40

اختصاص جريانها بالشبهات الموضوعية دون الحكمة ... 41

الأصل في الدم بعد ما لمك يكن حيضا أنه استحاضة أم لا أصل لهذا الأصل؟... 41

الأدلة على الأصل الإشكال عليها ... 42

3 - قاعدة الإسلام يجبّ ما قبله

سند القاعدة ... 47

في المراد من القاعدة وما هو مفادها ..................................... 49

في موارد جريانها ... 50

خلاصة الكلام في مفادها ... 52

4 - قاعدة القرعة

الجهة الأولى : الأدلة على مشروعية القرعة ... 59

الأول : الكتب ... 59

الثاني : الأخبار ... 60

الثالث : الإجماع ... 64

الجهة الثانية : موارد جريانها للشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي ......... 65

ذكر موارد جريان القرعة في سفينة البحار ... 67

الجهة الثالثة : هل هي أصل أو أمارة؟ ... 68

وهم ودفع : الإشكال على الاستخارة وجوابه ... 70

ص: 376

الجهة الرابعة : عند تعارض القاعدة مع الاستصحاب ، أيهما مقدم؟ ... 75

5 - قاعدة : لا تعاد الصلاة إلّا من خمس

في بيان مدركها

مباحث توضيح القاعدة : ... 79

المبحث الأوّل : عدم شمولها للعامد العالم ... 79

تكلف البعض لشمولها له وجوابه ... 80

المبحث الثاني : عدم شمولها للعامد الجاهل مطلقا ... 83

الدليل على عدم شمولها للجاهل وجوابه ... 83

المبحث الثالث : في بيان ما هو المستفاد منم ظاهر الصحيحة بكلا عقديها ... 89

المقام الأول:في عقد المستثنى منه (لا تعاد الصلاة) والكلام فيه من جهات... 89

الجهة الأولى : حديث ( لا تعاد ) يرفع الجزئية والشرطية والمانعية ، ينفيها بنفي الإعادة 89

الجهة الثانية : هل يختص الحكم بالنقيصة أو يشتمل الزيادة؟ ... 90

الجهة الثالثة:في عدم الفرق في شمولها بين الجزء والشرط بل المانع أيضا... 91

الجهة الرابعة : شمولها للإعادة والقضاء جميعا ... 93

المقام الثاني : في عقد المستثنى ( إلا من خمس ) وفيه جهات ................... 94

الجهة الأولى : في شرح الخمسة المذكورة فيه : ... 94

الأوّل : في لفظ الطهور ... 94

الثاني : الوقت ... 95

الثالث : القبلة ... 97

الرابع : الركوع ... 98

الخامس : السجود ... 97

في تحديد الركوع والسجود ... 98

ص: 377

محل التجاوز في الجزء المنسي ، هو الدخول في الركن الذي بعده ... 100

الجهة الثانية : عدم انحصار الأركان في هذه الخمسة ... 104

الجهة الثالثة : وجوب الإعادة عن السجدتين لا السجدة الواحدة ... 105

الجهة الرابعة : عدم وجوب الإعادة في السجود على أرض نجسة نسيانا وسهوا 107

الجهة الخامسة : القروع والموارد التي ينطبق الحديث عليها بحسب عقد المستثنى منه أو المستثنى واستخراج حكمها منه : 107

الأوّل : الخلل العمدي مبطل ... 108

الثاني : إذا ترك جزء كم الصلاة أو أتى به بوجه غير صحيح لوجود خلل فيه ، تبطل الصلاة وتجب الإعادة 108

الثالث : الإخلال بالصلاة سهوا ونسيانا ... 109

النقيصة في الأجزاء أو الشرائط الركنية مبطل وموجب للإعادة إذا كان الالتفات بعد الفراغ من الصلاة أو تجاوز المحل 110

القول فيمن نسى السجدتين وتذكر قبل تجاوز المحل وبعده ... 111

القول فيمن نسى السجدتين وتذكر بعد تجاوز محلها أو قبله ... 113

القول في التذكر بعد السلام وإتيان المنافي عمدا وسهوا ... 114

القول في التذكر بعد السلام وقبل إتيان المنافي والمبطل ... 114

القول فيمن نسى تمام الركعة الأخيرة من القيام ... 115

إذا كان المنسى غير الأركان فلا تبطل الصلاة على كل حال ... 117

الأجزاء غير الركنية على الترتيب : ... 119

نسيان القراءة ... 119

نسيان التشهد ... 121

نسيان السجدة الواحدة ... 122

نسيان السلام ... 123

ورود أخبار تدل على صحة الصلاة إذا نسي السلام وإن أتى بالمنافي

ص: 378

العمدي والسهوي ... 125

الزيادة في الصلاة في الأركان وغيرها ... 127

6 - قاعدة : اليد

وفيها جهات من الكلام

الجهة الأولى : في أنها قاعدة فقهية وليست من المسائل الأصولية ... 132

الجهة الثانية : في المراد من كلمة « اليد » ... 133

الجهة الثالثة : الدليل على اعتبارها ، وهو من وجوه ... 135

الأوّل : الروايات ... 135

الثاني : الإجماع ... 139

الثالث : بناء العقلاء ... 140

الجهة الرابعة : في أنّها أصل أو أمارة؟ ... 140

الجهة الخامسة : في سعة دلالتها ومقدار حجيتها وموارد جريانها ... 143

موارد البحث والخلاف في اعتبار اليد : ... 144

الأمر الأوّل : إذا كان حال حدوثها معلوم العنوان ... 144

لا يقال : إذا كان في مقابل ذي اليد من يدعى الملكية لما في يده ... 147

الأمر الثالث : هل حجيتها مخصوصة بالأعيان المتمولة ، أم تجري في المنافع أيضا؟ 150

الأمر الرابع : هل تجري في الحقوق أم لا؟ ... 152

الأمر الخامس : هل تجري في النسب والأعراض أم لا؟ ... 153

الأمر السادس : هل تجري في حق نفس ذي اليد إذا شك في أن ما بيده ملك له أو لغيره فيما إذا لم يكن مدع في قباله ، أم لا؟ ... 153

الأمر السابع : هل يد المسلم إمارة على التذكية والحلية أم لا؟ ... 156

الأمر الثامن : قبول ذي اليد في الطهارة والنجاسة ... 160

الأمر التاسع : قبول قول ذي اليد وإقرار لأحد المتنازعين ... 162

ص: 379

الأمر العاشر : اعتراف ذي اليد لكل واحد من الشخصين ... 166

الأمر الحادي عشر : جواز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد ... 170

الجهة السادسة : في تعارضها مع الأمارات والأصول ... 173

تعارض اليد مع سائر الأمارات ... 174

الجهة السابعة : هل أن تعدد الأيدي على مال واحد أمارة على الملكية أم لا؟ . 175

الجهة الثامنة : اليد أحد موجبات الضمان ... 177

الجهة التاسعة : في كون اليد سببا لحصول الملكيّة في عالم الثبوت ... 181

7 - قاعدة : نفي السبيل للكافرين على المسلمين

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى في مستندها ، وهو أُمور : ... 187

الأوّل : قوله تعالى ( لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ... 187

الثاني : قوله ( ص ) ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ) ... 190

الثالث : الإجماع ... 191

الرابع : مناسب الحكم والموضوع ... 192

الجهة الثانية : في بيان مضمون هذه القاعدة ومفادها ... 193

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق القاعدة ... 193

عدم جواز تملك الكافر للمسلم بأي نحو من أنحاء التملك الاختياري... 193

هل يجوز إجارة العبد المسلم للكافر أم لا؟ ... 197

هل يجوز إعادة العبد المسلم للكافر أم لا؟ ... 199

في ارتهان العبد المسلم عند الكافر ... 200

عدم جواز وقف العبد المسلم على الكافر ... 201

عدم ثبوت الولاية للكافر على المسلم ... 204

عدم توقف صحة نذر الولد المسلم على إذن أبيه الكافر ... 205

عدم جواز جعل الكافر متوليا على أوقاف المسلمين ... 205

ص: 380

عدم ثبوت حق الشفعة للكافر ... 205

بطلان نكاح الكافر بإسلام زوجته ... 206

عدم اعتبار التقاط الكافر للطفل المحكوم بإسلامه ... 207

8 - قاعدة لا ضرر ولا ضرار

والكلام فيها في مقامات :

المقام الأول : في مدركها ، وهو الروايات ... 211

المقام الثاني : في فقه الحديث : « لا ضرر ولا ضرار » ... 213

شرح ألفاظ حديث « لا ضرر » ... 213

مفاد هذه القاعدة ... 215

الأول : النهي عن ايجاد ضرر الغير ... 215

الثاني : نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ... 216

الثالث : نفي الحكم الضرري ... 216

الفرق بين القولين الثاني والثالث ... 217

الرابع : ان مفادها نفي الضرر غير المتدارك ... 218

الدليل على المختار من الأقوال الأربعة ... 218

التنبيه على أمور : ... 225

التنبيه الأول : في الإشكالات على تطبيق هذه القاعدة على مواردها التي طبق ( ص ) عليها 225

التنبيه الثاني : إشكال الشيخ الأنصاري على تمامية القاعدة بلزوم تخصيص الأكثر 228

التنبيه الثالث : وجه تقديم هذه القاعدة على الأدلة الأولية القائمة على ثبوت الأحكام الواقعية لموضوعاتها بعناوينها الأولية 231

التنبيه الرابع : المراد من القاعدة نفي الضرر الواقعي في حالتي العلم والجهل... 233

ص: 381

التنبيه الخامس : شأن هذه القاعدة هذه القاعدة رفع الحكم الضروري الذي لولاها لكان ثابتا وموجودا 235

التنبيه السادس : ما المراد من الضرر المنفي في هذه القاعدة ، الشخصي أو النوعي؟ 237

التنبيه السابع : في تعارض الضررين ... 238

التنبيه الثامن : تعارض هذه القاعدة مع مجرى قاعدة « الناس مسلطون على أموالهم » 242

9 - قاعدة نفى العسر والحرج

والتكلّم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : الدليل عليها من الآيات والروايات ... 249

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومضمونها ... 255

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 257

أمران يجب التنبيه عليها : ... 259

الأمر الأوّل : هل تصح العبادة مع تحمل المكلف الحرج باختياره؟ ... 259

الأمر الثاني : حاكمية القاعدة على كل حكم شرعي حرجي ، من الواجبات والمحرمات 264

10 - قاعدة المغرور يرجع إلى من غره

والكلام فيها في مقامات :

في هذه القاعدة جهات من الكلام : ... 270

الجهة الأولى : في مستندها ، وهو أمور ... 270

الأوّل النبوي المشهور « المغرور يرجع إلى من غره » ... 270

الثاني : بناء العقلاء ... 271

الثالث : الإجماع ... 272

ص: 382

الرابع : إتلاف الغار على المغرور ... 272

الخامس : الأدلة الواردة في الموارد الخاصة ... 274

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومدلولها ... 277

الجهة الثالثة في ذكر جملة من موارد تطبيق هذه القاعدة ... 280

11 - قاعدة : أصالة الصحّة

وفيها مباحث :

المبحث الأوّل : الدليل على اعتبارها بناء العقلاء ... 287

المبحث الثاني : المراد من الصحة في هذه القاعدة « الصحة الواقعية » ... 288

المبحث الثالث : لا يجري هذا الأصل إلا بعد إحراز عنوان العمل ... 290

المبحث الرابع : لا يجري هذا الأصل إلا بعد وجود الشئ ... 290

المبحث الخامس : تجري في المعاملات في أبواب العقود والإيقاعات ... 292

فروع يستشكل في جريان القاعدة فيها : ... 296

منها : بيع الوقف ... 296

ومنها : بيع الصرف لو شك في القبض في المجلس ... 297

المبحث السادس : القاعدة لا تجري في الأفعال القصدية إلا بعد إحراز قصد الفاعل 301

المبحث السابع : في إنها أصل أو إمارة ... 303

المبحث الثامن : تعارضها مع الاستصحابات الموضوعية ... 307

أصالة الصحة في الاعتقادات ... 309

12 - قاعدتي الفراغ والتجاوز

وفيها مباحث

المبحث الأوّل : في أنّهما من الأصول التنزيليّة ... 315

المبحث الثاني : في أنّهما من القواعد الفقهيّة ... 318

ص: 383

المبحث الثالث : في أنّهما قاعدتين أو قاعدة واحدة ... 320

المبحث الرابع : في المراد من المضي والتجاوز في القاعدتين ... 329

المبحث الخامس : في أنّ الدخول في الغير معتبر في جريان القاعدتين أم لا؟... 334

المبحث السادس : في أن الغير في قاعدة التجاوز يشمل مقدمات الأجزاء أم لا؟... 337

المبحث السابع : جريان قاعدة التجاوز في الشروط ........................ 339

المبحث الثامن : يعتبر في جريان القاعدتين أن يكون المكلف محرزا لجميع أجزاء المركب المأمور به 345

المبحث التاسع : في وجه عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء والغسل والتيمم 350

المبحث العاشر : في انّ عدم الاعتنا بالشك في القاعدتين عل نحو العزيمة ، ام على نحو الرخصة 353

13 - قاعدة : الإعانة على الإثم والعدوان

والتكلّم فيها عن جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في بيان مدركها ومستندها وهو أمور : ... 359

الأوّل : الآية ( تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )... 359

الثاني : الأخبار الواردة التي تدل على حرمة الإعانة على الإثم ... 362

الثالث : حكم العقل بقبح المساعدة على إتيان ما هو مبغوض المولى وما هو فيه المفسدة 364

الرابع : الإجماع واتفاق الفقهاء على حرمة الإعانة على الإثم ... 365

الجهة الثانية في المراد من هذه القاعدة ... 365

الجهة الثالثة : موارد تطبيق هذه القاعدة ... 369

ص: 384

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الثاني

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

اشارة

ص: 1

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 2

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

ص: 5

فهرس الإجمالي

14 - قاعدة عدم ضمان الأمين ... 6

15 - قاعدة الإتلاف ... 27

16 - قاعدة الاشتراك ... 51

17 - قاعدة تلف المبيع قبل القبض ... 77

18 - قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفساده ... 101

19 - قاعدة التلف في زمن الخيار ... 129

20 - قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات ... 155

21 - قاعدة : البناء على الاكثر ... 181

22 - قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة ... 263

23 - قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر ... 277

24 - قاعدة لا شك في النافلة ... 315

25 - قاعدة لا شكّ لكثير الشكّ ... 343

ص: 6

ص: 7

14 - قاعدة عدم ضمان الأمين

اشارة

ص: 8

ص: 9

قاعدة عدم ضمان الأمين (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « عدم ضمان الأمين إلاّ مع التعدّي والتفريط ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها

وهي أمور :

الأوّل : عدم وجود السبب لضمانه ، وذلك من جهة أنّ سبب الضمان الواقعي - أي المثل أو القيمة في غير الضمان المعاوضي والعقدي - أمور كلّها ليس فيما إذا تلف مال الغير في يد الأمين بدون تعدّ ولا تفريط ، لأنّ أحد أسباب الضمان الواقعي هو الإتلاف لقاعدة « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » والمفروض في المقام هو التلف لا الإتلاف.

الثاني : هو اليد ، وقد بيّنّا في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في شرح قاعدة اليد (2) أن

ص: 10


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 342 ، « الحق المبين » ص 89 ، « مجموعه رسائل » ش 18 ، ص 48 ، « عناوين الأصول » عنوان 65 ، « خزائن الأحكام » ش 31 ، « دلائل السداد در قواعد فقه واجتهاد » ص 68 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 168 ، « قواعد فقه » ص 95 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 107 ، « القواعد » ص 17 ، « قواعد فقهي » ص 61 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 28 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 251 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 284.
2- « القواعد الفقهية ». ج 2. ص 177.

اليد التي تكون موجبة للضمان إمّا هي اليد المعنونة بعنوان العادية كما قيل ، ومعلوم أنّ يد الأمين - سواء كانت الأمانة مالكيّة كعين المستأجرة ، أو المرهونة عند الملتقط المرتهن ، أو العارية عند المستعير وأمثال ذلك ، أو كانت أمانة شرعيّة كاللقطة عند أيام التعريف ، أو المال المجهول المالك ، أو أموال الغيّب والقصر عند الحاكم الشرعي ، أو المأذون ، أو المنصوب من قبله لأجل ذلك وغير ذلك ممّا هو مثلها - ليست يدا عادية.

وإما هي يد غير المأذونة من قبل المالك أو من قبل اللّه تعالى كما هو الصحيح.

وأيضا معلوم أن يد الأمين إمّا مأذونة من قبل المالك - سواء كان الاستئمان لنفع المالك كما في أنحاء الإجارات ، أو لنفع الأمين كما في باب العارية - وإمّا مأذونة من قبل اللّه تعالى.

الثالث : التغرير ، كما ذكرنا وجهه في قاعدة الغرور في الجزء الأول من هذا الكتاب (1).

ولا شك في أنّه لا تغرير من طرف الأمين للمالك بالنسبة إلى المال الذي في يده ، ولو كان فهو ضامن ولا يضرّ بعموم هذه القاعدة ، لأنّ المراد بها أنّ صرف تلف مال الغير عنده وفي يده لا يكون موجبا للضمان بدون التعدي والتفريط ، أما لو وجد سبب آخر فأجنبي عن المقام.

الثاني : من وجوه عدم الضمان هو الأخبار.

منها : ما في المستدرك عن أمير المؤمنين علیه السلام « ليس على المؤتمن ضمان » (2).

ومنها : ما في الوسائل عن أبان بن عثمان ، عمن حدّثه ، عن أبي جعفر علیه السلام في حديث قال : وسألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال علیه السلام :

ص: 11


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 270.
2- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 16 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 15978.

« ليس عليه غرم بعد ان يكون الرجل أمينا » (1).

وأيضا في الوسائل عن المقنع قال : سئل الصادق علیه السلام عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : « نعم ولا يمين عليه » (2).

ومنها : أيضا في الوسائل عن قرب الإسناد : عبد اللّه بن جعفر ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن ابي عبد اللّه علیه السلام قال : « ليس لك ان تأتمن من خانك ، ولا تتهم من ائتمنت ) (3).

وأيضا عنه ، عن مسعدة بن زياد ، عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبيه علیه السلام ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ليس لك ان تتهم من قد ائتمنته » (4).

ومنها : الخبر المعروف بينهم : « ليس على الأمين إلا اليمين ».

وفي عدم ضمان الأمين أخبار أخر في كتب الحديث ، في كتاب الوديعة العموم من هذا التعليق لكل أمين ، سواء كان أمينا من طرف المالك ، أو من قبل الشرع.

واما رواية مقنع فتدل على نفي الضمان بطريق أولى ، لأنها تنفي حتى اليمين ، ويحكم علیه السلام بقبول قوله.

وكذلك روايتا قرب الاسناد كلتاهما مفادهما النهي عن اتهام الأمين.

واما الخبر المعروف ، الجاري على الألسنة - إذا ثبت وجوده - فدلالته واضحة ، لأن المراد من نفي غير اليمين هو الضمان.

الثالث : الإجماع ، فإن الفقهاء - رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين - يستندون لعدم الضمان في موارد عديدة بأنه أمين ، ويرسلونه إرسال المسلمات ، من غير إنكار لأحد.

ص: 12


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 228 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 5 ، وج 13 ، ص 237 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 1 ، ح 8.
2- المصدر ، ص 228 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 7.
3- المصدر ، ص 229 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 9.
4- المصدر ، ح 10.

فكأن هذه كبرى مسلمة عند الكل ، وهي ان الأمين لا يضمن.

ونحن استشكلنا على أمثال هذه الإجماعات في هذا الكتاب ، فلا نعيد.

الرابع : ان الأمين المأذون من قبل المالك أو من قبل الشارع لنفع المالك محسن إليه ، وقال تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (1) وحيث ان كلمة « سبيل » في الآية الشريفة نكرة واقعة في سياق النفي يفيد العموم ، فكل سبيل منفي بالنسبة إلى المحسنين. ولا شك ان كون الضمان على عهدة الأمين سبيل ، فبعد الفراغ عن كونه محسنا يكون الضمان منفيا عنه.

ويمكن تقريب هذا الوجه بشكل يكون من الأحكام العقلية ، بأن يقال :

بعد ما ثبت ان الأمين - بالبيان المتقدم - محسن إلى المالك ، ولم يكن من طرفه تعد ولا تفريط ، والمال هلك بسبب سماوي ، مع كمال التوجه في حفظه من طرف الأمين ، فالعقل في هذه الصورة يستقبح تغريم الأمين. فعدم غرم الأمين وكذلك عدم ضمانه حكم عقلي.

وقوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) تقرير وتثبيت لذلك الحكم العقلي.

ولكن هذا الوجه لا يجري في جميع الأمناء والمأذونين ، ففي مثل العارية وإن كان المستعير مأذونا من قبل المالك ولكن لا يعد محسنا إلى المالك ، بل تصرفه في مال المالك لأجل مصلحة نفسه لا المالك.

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة

اشارة

فنقول : اما المراد من « الضمان » هو الضمان الواقعي أي المثل في المثليات ، والقيمة في

ص: 13


1- التوبة (9) : 91.

القيميات.

وإن شئت قلت : إن في موارد اليد غير المأذونة - لا من قبل المالك ولا من قبل الشارع - كل مال وقع تحت اليد اعتبره الشارع في ذمة ذي اليد وفي عهدته. وهذا الأمر الاعتباري ثابت في ذمته وعهدته ، لا يرتفع إلا بأداء نفس المال الذي أخذه ما دام نفس المال موجودا ، وبعد تلفه أيضا ذلك الأمر الاعتباري ثابت وباق في عالم الاعتبار التشريعي ، ولا يرتفع إلا بأداء مثله في المثليات ، وقيمته في القيميات.

واما وجه هذه الأمور : فذكرنا جملة منها في بعض مباحث قاعدة اليد ، (1) وتفصيله مذكور في الفقه في كتاب الغصب ، وفي مسألة المقبوض بالعقد الفاسد في كتاب البيع.

واما المراد من « الأمين » هو ان يكون مال الغير في يده بإذن من المالك أو من اللّه ، من غير خيانة له بالنسبة إلى ذلك المال من فعل أو ترك يوجب تلفه أو نقصا فيه.

فبهذا المعنى إن صدر منه تعد أو تفريط بالنسبة إلى ذلك المال يخرج عن كونه أمينا ، فعدم التعدي والتفريط مأخوذان في حقيقة الأمين ، والاستثناء في القاعدة مستدرك ، لأنه إذا صدر عنه التعدي أو التفريط فهو خائن وليس بأمين ، فإنهما ضدان.

فالائتمان عبارة عن تسليم ماله أو شي ء آخر إليه ، واثقا منه بعدم خيانته في حفظه ، اي يثق به انه لا يفعل فعلا يضر بذلك المال أو ذلك الشي ء ، ومثل هذا الفعل هو التعدي. وأيضا يثق به انه لا يترك امرا وفعلا يكون ترك ذلك الفعل أو ذلك الأمر موجبا لضياعه وتلفه ، أو لورود نقص عليه ، وهذا هو التفريط.

وبناء على هذا يكون الائتمان مقابل الاتهام ، اي الظن بأنه يخون أو خان فعلا.

ويشير إلى هذا المعنى روايتا قرب الإسناد المقدم ذكرهما : « ليس لك ان تتهم من قد ائتمنته ».

ص: 14


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 177.

و « ليس لك ان تأتمن من خانك ، ولا تتهم من ائتمنت ».

فالأمين هو الموثوق به عرفا في إعطاء ماله له ، بحيث يكون عنده محفوظا إلى ان يرده الى صاحبه.

وهذا الإعطاء قد يكون لمصلحة المالك ، وقد يكون لمصلحة الآخذ. فالأول كالوديعة وما يشبهها.

فالوديعة عبارة عن إيداع ماله أو شي ء آخر عند شخص لوثوقه به ، لكي يسترده فيما بعد.

فالأمين هو الذي يثق المودع به في إيداع ماله عنده ، ولذلك كانوا في الجاهلية يخاطبون نبينا صلی اللّه علیه و آله ب- « الأمين » قبل بعثته صلی اللّه علیه و آله ويودعون عنده الودائع لوثوق جميع الناس به.

واما تصرفات الأمين في المال الذي عنده الغير المأذون في تلك التصرفات فتكون موجبة للضمان ، ولو لم تكن موجبة لتلف المال ، بل كانت موجبة لازدياد قيمته بل وعينه ، من جهة خروج اليد عن كونها مأذونة ، فتكون من قبيل الغصب ، وتدخل تحت قاعدة المعروفة « وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه » ، وذلك لأن الخارج عنها هي اليد المأذونة.

واما المراد من « التعدي » و « التفريط » اللذان يوجبان الضمان ، ثمَّ استثنائهما عن قاعدة عدم ضمان الأمين : فلم يرد دليل شرعي لهذين العنوانين كي نتكلم في مفهوم التعدي والتفريط من حيث موضوعيتهما للحكم الشرعي.

بل الذي يستفاد من الأدلة ، والموارد التي حكم الشارع فيها بالضمان كمورد صحيحة أبي ولاد (1) وغيرها ، هو إما خروج ذي اليد عن كونه مأذونا في ذلك الفعل

ص: 15


1- « الكافي » ج 5 ، ص 290 ، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز الحد ... ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 215. ح 943 ، باب الإجارات ، ح 25 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 134 ، ح 483 ، باب من اكترى دابة إلى موضع فجاز ذلك الموضع ... ، ح 1. « وسائل الشيعة » ، ج 13 ، ص 255 ، أبواب الأحكام الإجارة ، باب 17 ، ح 1 ، وج 17 ، ص 313 ، أبواب الغصب ، باب 7 ، ح 1.

أو الترك الذي يصدر عنه بالنسبة إلى ذلك المال ، فإذا كان كذلك فمقتضى قاعدة على اليد هو الضمان ، لأن الخارج عنها هي اليد المأذونة ، والمفروض انها غير مأذونة. وإما صدور فعل أو ترك من ذي اليد على مال الغير بحيث يوجب إتلاف ذلك المال ، فإن الإتلاف سبب مستقل للضمان ، ولا ربط له بقاعدة على اليد.

فإذا كان التعدي والتفريط سببا لخروج اليد عن كونها مأذونه ، أو كانا سببين لإتلاف المال ، فيكونان موجبين للضمان لما ذكرنا.

وما ذكرنا مناسب للمعنى العرفي لهذين اللفظين وذلك لأن المتفاهم العرفي من التعدي هو التجاوز ، ولا شك ان المؤتمن إذا تجاوز عما اذن له في فعل بالنسبة إلى ذلك المال أو ترك فيخرج عن كونه مأذونا ، فلو تلف ذلك المال يكون ضامنا.

وهذا الأمر صريح صحيحة أبي ولاد ، لأنه اكترى البغل إلى مكان معين ، فتجاوز عما اذن له إلى مكان آخر ، ولذا حكم - علیه السلام - بضمانه لو تلف البغل.

والمتفاهم العرفي من التفريط هو التضييع ، ولا شك في ان تضييع مال الغير عبارة أخرى عن إتلافه ، أو إيجاد نقص أو عيب فيه ، وكل ذلك من أسباب الضمان. فالإفراط مثل التعدي عبارة عن التجاوز ، والتفريط عبارة عن التضييع.

ولعل هذا المعنى هو المراد من قوله علیه السلام : « الجاهل إما مفرط أو مفرط » (1). أي إما متجاوز عن الحد أو مضيع.

ثمَّ إن الأمانة بالمعنى الذي تقدم ، وهو ان يكون المال عنده بإذن صاحبه ، أو من يكون إذنه معتبرا كإذن صاحبه ، من كونه وكيلا عنه ، أو وليا عليه.

فهذا الإذن قد يكون من قبل المالك فيسمى ب- « الأمانة المالكية ». والإذن من قبل

ص: 16


1- « نهج البلاغة » ص 479 ، الحكمة 70 : « لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا ».

المالك قد يكون من قبل نفسه ، وقد يكون من قبل وكيله.

فمورد الأمانة المالكية جميع المعاملات التي تصدر من المالك أو وكيله الواقعة على ماله ، بدون نقل عين ماله إلى من يعطي ماله بيده ، سواء كان من جهة تمليك منفعته له ويعطى العين له لاستيفاء تلك المنفعة كباب الإجارات ، أو تمليك الانتفاع مجانا كباب العارية ، أو يعطيه للحفظ بدون تمليك منفعته أو الانتفاع به كباب الوديعة ، أو يعطيه لأن يعامل معه بحصة من الربح كباب المضاربة ، أو لأن يزرع فيه بحصة من الحاصل كباب المزارعة ، أو لأن يسقيه بحصة من الثمرة كباب المساقاة ، أو يعطي ماله لأن يحمل من مكان إلى مكان بأجرة كالحمالين والمكارين.

ففي جميع هذه الموارد سواء صدرت المعاملة من نفسه أو من وكيله يكون المال عند ذي اليد أمانة مالكية ، ولا يوجب تلفه الضمان إلا مع التعدي والتفريط.

وقد يكون الإذن من قبل الشارع ، وإن كان بدون التفات من قبل المالك إلى ان ماله بيد فلان ، وهذه « أمانة شرعية » كالمعاملات التي تقع على أموال للغيب والقصر ، بدون ان يكون فيها نقل العين.

وذلك كجميع ما ذكرنا في الأمانة المالكية من الموارد ، غاية الأمر ان الفرق هو ان في الأمانة المالكية كان الإذن من المالك أو من وكيله ، وفي الأمانة الشرعية من قبل اللّه جل شأنه.

فلو آجر الحاكم الشرعي ، أو من يكون وكيلا أو مأذونا من قبله أموال الغيب والقصر ، أو أودع عند أمين ، أو أعار فيما إذا كان فيها مصلحة الغيب أو القصر أو اعطى أموالهم للحمالين أو المكارين ، أو سائر التصرفات التي يطول المقام بذكرها ، فتلف ذلك المال في يد المأذون من قبلهم ، فلا يكون من وقع في يده التلف ضامنا ، لأنه أمين ومأذون ، غاية الأمر ان الأمانة شرعية لا مالكية.

وكذلك الأمر في اللقطة ، فإن الواجد والملتقط ليس ضامنا لو تلف ما وجده في يده

ص: 17

ما دام مشغولا بالتعريف ، لأنّه مأذون في أن يكون هذا المال الذي وجده عنده إلى أن يتمّ التعريف سنة كاملة ، أو يحصل له اليأس من معرفة صاحبه ، فيتصدّق به عن قبل صاحبه.

والحاصل : أنّ الأمين أي المأذون من قبل المالك أو الشارع في كون مال تحت يده لا يكون ضامنا لذلك المال لو تلف في يده إلاّ مع التعدّي والتفريط بالمعنى المتقدّم ، لما تقدّم.

واستشكل في عموم هذه القاعدة بموارد

منها : حكمهم بالضمان في المقبوض بالسوم ، مع أنّ قبضه ووقوعه تحت يده بإذن المالك.

وفيه : أولا : أنّ هذه المسألة خلافيّة ، وقد ذهب جميع إلى عدم الضمان ، معللا بأنه أمانة مالكية.

وثانيا : على تقدير القول بالضمان يمكن أن يقال بأنه ليس القبض هناك بعنوان الأمانة ، بل بعنوان أن يكون عند اختيار القابض للاشتراء ، مضمونا عليه بالعوض المسمى.

وبعبارة أخرى : أخذه وقبضه يكون بعنوان المقدمية للشراء والضمان بالعوض المسمى ، فهو خارج عن باب الأمانات بكلا قسميه مالكية وشرعية بالتخصص لا بالتخصيص ، فلا تنخرم القاعدة به ، لأنه خارج عن موضوع الأمانة ، لأن موضوعها أما الأمانة المالكية أو الأمانة الشرعية بالمعنى الذي تقدم ، وكلاهما ليسا في المقام.

ومنها : حكمهم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ، فإنهم أجروه مجرى الغصب إلا في الإثم إن كان جاهلا بالفساد ، مع أن القابض مأذون من قبل المالك ، سواء كان المقبوض الثمن بالنسبة إلى البائع ، أو المثمن بالنسبة إلى المشتري.

ص: 18

وفيه : أن الإذن في القبض في المقبوض بالعقد الفاسد ليس باعتبار الإذن في قبض مال المقبوض منه ، بل باعتبار قبض نفس مال القابض وأنه ملك بالعقد ، فهو خارج عن موضوع الأمانات ، لأن الأمانة المالكية هو أن يأذن المالك للقابض في قبض مال المالك الآذن ، لا ما هو مال نفس القابض.

إن قلت : إن ما نحن فيه أي باب المقبوض بالعقد الفاسد أيضا كذلك ، فإن المال واقعا ليس للقابض ، بل صرف تخيل منه أو منهما إذا كان القابض أو كانا جاهلين بالفساد. ولذا لو كان المالك عالما بالفساد فأذن في القبض فقد أذن في قبض ماله ، فيكون ماله عند القابض أمانة مالكية.

قلنا : نعم الأمر كما قلت ، فاذن المالك تعلق واقعا بمال نفس المالك لا القابض ، ولكن حيث أنه جاهل بالفساد يأذن بعنوان أخذ مال نفسه أي نفس القابض ، ومثل هذا الإذن لا تتحقق به الأمانة قطعا ، ولا تدخل يد القابض بمثل هذا الإذن تحت عنوان يد المأذونة.

ولذلك لو قدم ماله إليه باعتقاد أنه ماله أي مال القابض فأتلفه القابض يكون ضامنا ، لإتلافه مال الغير ، أي المعطي. ولا يكون مثل هذا الإذن مانعا عن تحقق الضمان.

وكذلك لو قال لزيد : يا صديقي خذ هذا المال فهو لك حلال ، أو قال : يا صديقي ادخل داري ، كل ذلك باعتقاد أنه صديقه وفي الواقع هو عدوه ، فليس له أن يأخذ ذلك المال ، أو يدخل داره باعتبار ذلك الإذن الذي منشأه الاشتباه وتخيل أنه صديقه.

وإن قيل في هذا المقام : لو خاطب الشخص مثلا وقال : يا زيد ادخل داري ، باعتقاد أنه صديقه ، يجوز له أن يدخل داره وإن لم يكن صديقه ، وكان صاحب الدار مشتبها في أنه صديقه ، لأن الإذن صدر منه وإن كان مشتبها في جهة الصدور.

وأما إن قال : يا صديقي أدخل ، ففيما لم يكن صديقا له في الواقع ليس له أن يدخل ،

ص: 19

لأن الإذن تعلق بعنوان « الصديق » وهو ليس مصداقا لهذا العنوان على الفرض.

وعلى كل حال ، في المقبوض بالعقد الفاسد ليست يد القابض يد أمانة مع جهل المعطي بالفساد ، فتدخل تحت قاعدة « وعلى اليد ما أخذت ».

وليس حكمهم بالضمان هناك تخصيص لهذه القاعدة ، أي قاعدة « عدم ضمان الأمين إلا مع التعدي أو التفريط ».

هذا كله ، مضافا إلى أن إذن المعطي في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد ليس بأن يكون في يده بلا عوض ، بل الإذن مقيد بكونه في يده مع العوض ، غاية الأمر العوض المسمى ، لا الضمان الواقعي.

وحيث إن الشارع لم يمض العوض المسمى فيكون عليه العوض الواقعي ، لأنه لم يقدم على الإعطاء مجانا ، ولم يهتك احترام ماله. وقلنا : إن إذنه بكونه في يده مقيد بكونه في يده مضمونا عليه لا مجانا ، فهو أجنبي عن مسألة عدم الضمان على الأمين بكلا قسميه ، أي الأمانة المالكية ، والأمانة الشرعية.

ومنها : حكمهم بضمان المبيع إن تلف في يد البائع قبل أن يقبض المشتري بعد تحقق المعاملة ووقوعها بجميع شرائطها وأركانها ، وإن كان بقاؤه في يد البائع بإذن المالك ، أي المشتري.

وفيه : أن هذا ليس من باب ضمان الأمين ، بل من جهة حكم الشارع بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف ، لكي يقع التلف في ملك البائع ، فليس من باب الضمانات وتلف ملك الغير في يده ، وإلا لو كان كذلك فكان مقتضاه الضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة كل واحد منهما في محله.

والدليل على انفساخ العقد ورجوع كل واحد من العوضين إلى ملك مالكه الأول هي الأخبار الواردة في هذا الباب ، وقد ذكرناها مع سائر ما قيل أو يمكن أن يقال في كونها دليلا على هذا الحكم في شرح قاعدة « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من

ص: 20

مال بائعه » (1).

ومنها : أن المالك إذا رضي أن يكون مال المغصوب باقيا في يد الغاصب ، وأذن له في ذلك أي في كونه أمانة فمع ذلك يكون الغاصب ضامنا لو تلف في يده.

وفيه : أنه لو كان الأمر كذلك ، وكان بهذه الصورة أي قال إنه أمانة عندك والغاصب أراد الرد وهو لم يقبل وجعله أمانة عنده.

فالحق أنه لا ضمان في هذه الصورة ، وإلا فبصرف الرضا بالبقاء لا تخرج يده عن كونها يد الغاصب.

ومنها : أنهم قالوا في باب اللقطة ومجهول المالك : إن له أن يتصدق به عن طرف مالكه ، ويده أمانة شرعية ، فمأذون من قبل الشارع ، ومع ذلك قالوا بالضمان إن وجد صاحبه.

وفيه : أنه فرق بين أن يكون في يده أمانة ويحفظه ، وأن يكون له أن يتصدق عن قبل مالكه.

ففي الصورة الاولى لو تلف لا ضمان عليه ، لأجل هذه القاعدة ، وبل لقاعدة الإحسان ، لقوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2).

وأما في الصورة الثانية فالإذن في التصدق عن قبل صاحبه مشروط بأن يكون ضامنا له إن وجد.

وبعبارة أخرى : جعل الشارع له هذا الحكم مقيد بأن يكون عليه الضمان على تقدير ظهور صاحبه. هذا إن قلنا بالضمان ، وإلا فلا إشكال كي يجاب.

ومنها : الأكل في المخمصة ، فإنهم قالوا بأنها مأذون في هذا التصرف ، ومع ذلك

ص: 21


1- سيأتي في هذه المجلدة ، ص 79 - 100.
2- التوبة (9) : 91.

قالوا بالضمان.

وفيه : أنه لا دخل لهذه المسألة بباب الأمانة ، وأما الإذن من قبل الشارع بالنسبة إلى مثل هذا التصرف وإن كان مسلما ، لكنه من أول الأمر مقيد بالإتلاف بعوض ، لا مجانا.

فهذه المسألة أجنبية عن مسألتنا.

وأما الصانع والحمال والمكاري والأجير وأمثالهم من الذين مأذونون من طرف المالك ، أو من كان بمنزلته كوكيله أو وليه أو الذين هم مأذونون من طرف الشارع بأن يكون المال في يده فليس تلفه موجبا لضمانهم ، لأجل هذه القاعدة التي أثبتناها بالأدلة المتقدمة. وأما إتلافهم لذلك المال فموضوع آخر غير التلف ، والضمان يكون لإتلافه لو قلنا به في بعض المقامات.

فتلخص من مجموع ما ذكرنا من أول القاعدة إلى هاهنا أن قاعدة عدم ضمان الأمين لو تلف ما في يده بدون تعد وتفريط قاعدة فقهية ، ثابتة بالأدلة. والنقوض التي أوردوها لا يرد شي ء منها عليها ، وأن باب ضمان الإتلاف خارج عن مورد هذه القاعدة ، فإن موردها التلف وضمان اليد كما عرفت.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

وموارد تطبيقها وإن ظهرت مما ذكرناه وهو أن كل مورد يكون مال الغير بيد شخص هو مأذون من قبل مالكه ، أو من قبل الشرع في أن يكون ذلك المال بيده ، بغير تضمينه من قبل المالك ، أو بغير اشتراط الإذن من قبل الشارع بكونه ضامنا عند التلف.

ص: 22

وبعبارة أخرى : يكون أمينا من قبل مالكه ، أو من قبل الشارع : ففي مثل هذا المورد ، لو تلف ذلك المال في يده بدون تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده.

فالموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن المالك في كونه بيده : ككونه وكيله في أنواع المعاملات من بيع ، أو صلح ، أو إجارة ، أو الأخذ بالشفعة ، أو رهن أو أداء دين ، أو إعطاء قرض ، أو مضاربة ، أو مزارعة ، أو مساقاة ، أو في شراء حاجة من أمور معاشه ، أو في شراء ملك أو دار أو بستان ، أو يعطي ماله للحمالين أو المكارين لحمله ونقله ، وكثير من الموارد الآخر التي تركناها ، لوضوحها بعد معرفة الضابط فيها ، ولان لا تطول المقام.

والموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن الشارع : كاللقطة مدة التعريف ، ومجهول المالك إلى أن يحصل اليأس من معرفة صاحبه ، وأن يتصدق به عن طرف صاحبه بعد حصول شرائط التصدق من وجود الفقير ومعرفته وتحصيل الإذن من الحاكم الشرعي إن لم يكن هو بنفسه متصفا بهذه الصفة.

وكيد الحاكم الشرعي ، أو وكيله ، أو المأذون من قبله على أموال القصر والغيب.

وكيد الأب أو الجد على أموال صغارهما ، أو كيد الوصي أو القيم من قبلهما عليهم.

وكيد صاحب المال الذي تعلق به الخمس أو الزكاة إلى حصول المستحق ووجدان الفقير وإمكان الإيصال بهم عرفا ، أو المال الذي أنقذه من الغرق أو الحرق ، أو أخذه من يد السارق بدون اطلاع المالك في الموارد الثلاثة.

ففي هذه الموارد ، وكثير من الموارد الآخر من أمثالها لو تلف المال في يد الأمين بلا تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده.

نعم لو تحقق أحد أسباب الضمان الآخر غير اليد فهو يكون على مقتضاه.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 23

15 - قاعدة الإتلاف

اشارة

ص: 24

قاعدة الإتلاف (1)

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة التي تمسك بها الفقهاء في موارد الضمان هي قاعدة « من أتلف مال الغير بلا إذن منه فهو له ضامن ». والبحث فيها من جهات ثلاث :

[ الجهة ] الأولى

في مداركها

أقول : إن هذه القاعدة مما اتفقت عليه الكل ولا خلاف فيها ، بل يمكن أن يقال إنها مسلمة بين جميع فرق المسلمين ، وربما يقال إنها من ضروريات الدين.

واستدل عليها الشيخ وابن إدريس في المبسوط (2) والسرائر (3) بقوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (4).

ولا شك في أن إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه اعتداء عليه ، وتعبيره سبحانه

ص: 25


1- (*) « الحق المبين » ص 87. « عناوين الأصول » عنوان 58 ، « خزائن الأحكام » ش 25 ، « مجموعه رسائل » ش 12 ص 474 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 94 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 143 ، « قواعد فقه » ص 91 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 110 ، « القواعد » ص 19 ، « قواعد فقه » ص 109 ، « قواعد الفقه » ص 137 ، « قواعد فقهي » ص 21 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 45 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 193 ، « قواعد الفقيه » ش 41 ، ص 119 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 378 ، « مجله حقوقي دادگسترى » العام 1 ، ش 4 « ضمان تلف » مصطفى امامى.
2- « المبسوط » ج 13 ، ص 60.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 480.
4- البقرة (2) : 194.

وتعالى عن أخذ المثل في المثليات والقيمة في القيميات الذي هو عبارة عن كونه ضامنا بالاعتداء للمشاكلة ، كقوله تعالى ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ، (1) وكقول الشاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جهة وقميصا

فالآية تدل دلالة واضحة على أن من أتلف مال الغير بدون إذنه ورضاه فهو له ضامن.

وقال الشيخ في المبسوط : روى الأعمش عن أبي وائل ، عن عبد اللّه بن مسعود ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (2). ولا شك في أن احترام المال وأنه بمنزلة دمه يدل على أنه لو أتلفه متلف لا يذهب هدرا ، بل يكون ضمانه عليه.

وروي الشيخ أيضا في المبسوط عن عبد اللّه بن السائب ، عن أبيه ، عن جده عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا ، من أخذ عصا أخيه فليردها » (3).

وأيضا روي في المبسوط عن الحسين أو حسن ، عن سمرة أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (4).

والرواية الأخيرة ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله « وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي » وفي بعض النسخ « حتى تؤديه » رويت عن طريق الخاصة أيضا (5).

كما أنّ ما رواه ابن مسعود ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » أيضا رواه الخاصة ، (6) وأيضا يدل عليه وقوله علیه السلام : « المغصوب مردود » (7).

ص: 26


1- الشورى (42) : 40.
2- « المبسوط » ج 3 ، ص 59.
3- المصدر.
4- المصدر.
5- « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 7 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 1 ، ح 15944 ، « عوالي اللئالى » ج 1 ، ص 224 ، ح 106 ، وج 2 ، ص 389 ، ح 10 ، وج 3 ، ص 246 و 251 ، ح 2 و 3.
6- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 473 ، ح 4.
7- « الكافي » ج 1 ، ص 539 ، باب ألفي والأنفال و ... ، ح 4 ، « تهذيب الاحكام » ج 4 ، ص 128 ، ح 366 ، باب قسمة الغنائم ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 365 ، أبواب الأنفال وما يختص للإمام علیه السلام ، باب 1 ، ح 4. وفي الكافي والوسائل : « لأنّ الغصب كلّه مردود ». وفي التهذيب : « لأنّ المغصوب كلّه مردود ».

وحكى في المستدرك عن دعائم الإسلام : روينا عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطب يوم النحر بمنى في حجّة الوداع وهو على ناقة العضباء ، فقال : أيّها الناس إنّي خشيت أن لا ألقاكم بعد موقفي هذا ، بعد عامي هذا ، فاسمعوا ما أقول لكم فانتفعوا به ، ثمَّ قال أيّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا : هذا اليوم يا رسول اللّه. قال : فأي الشهور أعظم حرمة؟ قالوا : هذا الشهر يا رسول اللّه. قال : فأيّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا : هذا البلد يا رسول اللّه. قال : فإنّ حرمة أموالكم عليكم ، وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقوا ربكم فيسئلكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم. قال : « اللّهم أشهد » الحديث. (1)

وأيضا عنه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال في حديث : « فمن نال من رجل شيئا من عرض أو مال وجب عليه الاستحلال من ذلك ، والانفصال من كل ما كان منه إليه ، وإن كان قد مات فليتنصّل من المال إلى ورثته ، وليتب إلى اللّه مما أتى إليه حتى يطلع عليه عزّ وجلّ بالندم والتوبة والانفصال. ثمَّ قال : - ولست آخذ بتأويل الوعيد في أموال الناس ، ولكنّي أرى أن أؤدي إليهم إن كانت قائمة في يدي من اغتصابها وينتصّل إليهم منها ، وإن فوّتها المغتصب أعطى العوض منها ، فإن لم يعرف أهلها تصدّق بها عنهم على الفقراء والمساكين ، وتاب إلى اللّه عزّ وجلّ ممّا فعل » (2).

وأيضا في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين علیه السلام : أنّه قضى فيمن قتل دابة عبثا ، أو قطع شجرا ، أو أفسد زرعا ، أو هدم بيتا ، أو عوّر بئرا ، أو نهرا أن يغرم قيمة ما استهلك وأفسد ، وضرب جلدات نكالا. وإن أخطأ ولم يتعمّد ذلك فعليه الغرم

ص: 27


1- « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 87 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 20816.
2- « مستدرك الوسائل » ج 12 ، ص 105 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب 78 ، ح 13641 ، وج 17 ، ص 87 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 20817.

ولا حبس ولا أدب. وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها (1).

وأيضا يمكن استفادة هذا الحكم من صحيحة أبي ولاّد التي ذكرها الشيخ الأنصاري قدس سرّه في المكاسب (2).

ودلالة هذه الأخبار على ضمان المتلف لمال الغير بدون إذنه ورضاه في كمال الوضوح ، مضافا إلى ما عرفت من الآية الشريفة.

وأما ما اشتهر في الألسن من قولهم « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » فلم نجده في كتب الحديث ، ولعلّ المتتبّع الخبير يجده أو وجده.

وعلى كلّ حال ثبوت هذا الحكم عند عامّة الفقهاء بدرجة تكون غنيّة عن الفحص والبحث في مداركه.

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

أقول : الظاهر أنّ التلف بمعنى الهلاك والفناء ، فإتلاف المال عبارة عن إهلاكه وإفنائه ، والإفناء قد يتعلّق بذات المال وقد يتعلق بماليته مع بقاء ذاته ، مثلا لا شكّ في أنّ الثلج له ماليّة في الصيف ، وأمّا في الشتاء فلا ماليّة له ، أي العقلاء لا يبذلون بإزائه المال ، فإذا أفنى ذات ثلج الغير فهذا إتلاف مال الغير.

وأمّا إذا حبسه على صاحبه حتّى دخل الشتاء ، كما لو غصب المثلج أي المكان الذي يذخرون فيه الثلج لبيعه في الصيف فرده على صاحبه مع الثلج الذي فيه في الشتاء ، فهذا إتلاف ماليّة الثلج ، لا نفسه.

ص: 28


1- « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 95 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 9 ، ح 20842 ، وج 18 ، ص 199 ، أبواب الدفاع ، باب 6 ، ح 22495 ، وج 18 ، ص 333 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 34 ، ح 22882.
2- « المكاسب » ص 69.

والأمثلة لهذا القسم من الإتلاف أي إتلاف الماليّة دون نفس المال كثيرة.

والظاهر من إتلاف المال - سواء كان بعبارة « من أتلف مال الغير » كما هو معقد الاتفاق والإجماع ، أو كان هو بعبارة « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » - هو المعنى الأوّل ، أي إفناء نفس المال لا إفناء ماليّته ، وبناء على هذا المعنى فالضمان في موارد إفناء المالية دون نفس المال يحتاج إلى التماس دليل آخر.

ويكفي في الحكم بالضمان في موارد إفناء الماليّة دون نفس المال قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) بالتقريب الذي تقدّم.

وأمّا المراد من « المال » فالظاهر هو أنّ كلّ شي ء يكون مطلوبا ومرغوبا عند الناس لأجل قضاء حوائجهم به ، ويكون دخيلا في معاشهم من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب والأشياء التي يتزيّنون بها ، أو شي ء يحصل مطلوبهم به كالنقود ، سواء كانت من ذهب أو فضّة أو يكون من جنس آخر ، فهو المال.

والحاصل : أنّ « المال » عبارة عن كل شي ء يكون للناس احتياج إليه في تدبير أمورهم في حياتهم وعيشتهم ، في حال صحّتهم ومرضهم بل في حال موتهم ، فالأدوية التي يعالج بها المريض مال عند العرف والعقلاء ، والمعول (1) الذي يحتاجون إليه في دفن موتاهم مال ، وأقسام النقود التي يحصلون بها ما يحتاجون إليه مال.

والمال بهذا المعنى قد يكون من قبيل الجواهر الموجودة مستقلا ولا في الموضوع ، وذلك مثل كلية الأجسام التي تستعمل في رفع الحاجات كما أشرنا إلى بعضها ، وقد يكون من قبيل العوارض كركوب الدابّة ، وسكنى الدار ، والتزيّن بالذهب والفضة والأحجار الكريمة ، أو غيرها.

ويسمّى هذا القسم في اصطلاح الفقهاء تبعا للإطلاقات العرفيّة ب- « المنافع » ، فالمنافع أيضا مال.

ص: 29


1- المعول ج معاول : اداة لحفر الأرض.

فهذه الأمور كلّها ، وأيضا كلّ ما يمكن به تحصيل بعض هذه الأمور مال ، غاية الأمر أنّ نفس هذه الأمور أموال تكوينيّة ليست ماليّتها بجعل في عالم الاعتبار.

وما يحصل به أحد هذه الأمور قد يكون مالا تكوينا وذلك كالمبادلات الجنسيّة ، وقد يكون من الأموال الاعتبارية كالأوراق الماليّة الموجودة في هذه الأعصار ، فإنّها في حدّ نفسها ليست ممّا يستعمل في رفع حوائج الإنسان أو الحيوان ولكن بعد اعتبارها من ناحية من بيده الاعتبار يمكن تحصيل ما يرفع الحوائج بها ، وعليها الآن مدار المعاملات والمعاوضات في الأسواق.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ مدار مالية المال على أحد أمرين :

أحدهما : كون الشي ء بحيث يرفع به إحدى حاجات الإنسان ولو كان علفا لدابّته ، أو بنزينا لسيّارته ، فضلا عن أن يكون مأكولا أو مشروبا أو ملبوسا لنفسه.

والثاني : أن يكون ممّا يحصل به أحد هذه الأمور كالأوراق الماليّة ، والنقود الذهبيّة ، والفضّية ، أو أحد هذه الأمور فيما إذا وقع عوضا في المعاملة لجنس آخر من هذه الأمور.

ومنه تعريف بعضهم البيع بمبادلة مال بمال ، وبهذا المعنى الثاني قد تكون ماليّة المال من الأمور الاعتباريّة وذلك كالأوراق الماليّة ، فهي بالاعتبار تصير مالا ، وكذلك تسقط ماليتها باعتبار آخر ممّن بيده الاعتبار.

فقوله تعالى ( الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (1) المراد بالمال المذكور في الآية الشريفة هو هذه الأمور التي تقضي بها الحوائج وأمور المعاش كلّها - كما ذكرنا - أو ما يمكن أن يحصّل تلك الأمور به. والمال بهذا المعنى مدار الغناء والفقر وجودا وعدما.

وأمّا تعريفه كما صدر عن بعضهم بأنّه ما يبذل بإزائه المال ، فهو تعريف لفظي ، وإلاّ ففيه دور واضح.

ص: 30


1- الكهف (18) : 46.

وأمّا الضمان في هذه القاعدة : فالمتفاهم العرفي منه هو كون التالف بوجوده الاعتباري في عهدة من أتلفه ، وهذا هو الضمان الواقعي.

وأما الضمان المسمّى فهو الذي سمّاه الطرفان في العقود المعاوضيّة عوضا عن ما يقابله من الطرف الآخر.

فحاصل معنى القاعدة المتسالم عليها هو أنّه إن أفنى مال الغير بدون إذنه في ذلك الافناء ، يكون ذلك المال على عهدته بوجوده الاعتباري ، وإن لم يكن تحت يده فيجب عليه الخروج عند عهدته بإعطاء ، المثل في المثليّات والقيمة في القيميات.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

وقبل ذلك لا بدّ من بيان مقدّمة :

وهي أنّ الإتلاف قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالتسبيب.

فالأوّل مثل أن يأكل ماله الذي من المأكولات ، أو يشرب ماله الذي من المشروبات ، أو يحرق أثوابه وأمثال ذلك ممّا يصدر (1) فناء مال الغير ، عن نفسه بدون توسيط فاعل إرادي أو غير إرادي آخر.

والثاني عبارة عن كلّ فعل صار سببا لوقوع التلف ولم يكن علّة تامّة للتلف أو جزء الأخير من العلّة التامّة ، بل يكون بحيث لو لم يصدر عنه هذا الفعل لم يقع التلف.

ولهذا عرّفوا السبب بأنّه ما لا يلزم من وجوده الوجود ، وإلاّ فهو العلّة التّامة أو الجزء الأخير منها ، ولكن يلزم من عدمه العدم فعلى هذا المعنى للتسبيب فلو حفر بئرا مكشوفة في الطريق فوقع فيها شي ء وتلف

ص: 31


1- الظاهر انه غلط والصحيح : « يوجب » أو « يسبب » وأمثال ذلك.

فهو السبب.

فالقسم الأوّل يقينا إتلاف حقيقة ، فيكون موجبا للضمان قطعا ، لما ذكرنا من الأدلّة وعليه الاتفاق من المسلمين قاطبة ، بل عليه اتّفاق جميع عقلاء العالم من المسلمين وغير المسلمين من ذوي الأديان ، بل ومن غير ذوي الأديان.

وأما القسم الثاني ، أي ما يلزم من عدمه عدم التلف فأيضا يمكن تحصيل الإجماع على كونه موجبا للضمان ، وقد ادّعى في الجواهر (1) نفي الخلاف فيه.

هذا مضافا إلى دلالة الأخبار على هذا المعنى.

فمنها : صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، سألته عن الشي ء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال علیه السلام : « كلّ شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه » (2).

ومنها : صحيح زرارة عنه علیه السلام أيضا ، قلت له : رجل حفر بئرا في غير ملكه فمرّ عليها رجل فوقع فيها؟ فقال علیه السلام : « عليه الضمان لأنّ كلّ من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان » (3).

ومنها : موثّق سماعة : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحفر البئر في داره أو ملكه؟ فقال علیه السلام : ما كان حفر في داره أو ملكه فليس عليه ضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها » (4).

ص: 32


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 46.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 349 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 155 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ... ، ح 5347. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 223 ، ح 878 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 181 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 9 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 907 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 179 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 8 ، ح 1.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 153 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ، ح 5341. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 229 ، ح 903 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 180 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 8 ، ح 3.

ومنها : خبر السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حفر بئرا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن » (1).

وأيضا هناك روايات معتبرة في باب تغريم شاهد الزور حتى قتله في بعض الصور (2) ، مثلا لو شهد شاهدان عدلان مرضيّان بحسب الظاهر على أنّ فلانا قتل فلانا ، فقتل المشهود عليه بواسطة هذه الشهادة ، ثمَّ رجعا عن شهادتهما. فان قالوا : أخطأنا ، فعليهما دية المقتول. وإن قالوا : تعمّدنا الكذب ، فيقادان.

وخلاصة الكلام أنّ الروايات في باب ضمان المسبب - بالكسر مثل المباشر - للإتلاف كثيرة ، وقد ذكرنا جملة منها في شرح قاعدة « المغرور يرجع إلى من غر » (3).

ثمَّ إنّ ظاهر الروايات التي ذكرناها بعضها فيه الإطلاق بالنسبة إلى قصد موجد السبب الوقوع المسبب وعدم قصده ، بل ظاهرها هو الضمان. ولو كان حفره للبئر في غير ملكه بقصد عدم وقوع أحد فيه وبرجاء ذلك ، فان كان مدرك الضمان في هذه الصورة هو الإجماع يمكن أن يقال بأنّ المتيقّن منه هو فيما إذا قصد بإيجاد السبب وقوع التلف.

ولكن إذا كان المدرك هي الروايات كما هو كذلك ، لما ذكرنا مرارا من أنّ مع وجود دليل معتبر في المقام لا يبقى مجال للإجماع ، لأنّ أحد مقدّمات تحقّق الإجماع المصطلح

ص: 33


1- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المارّ ، ح 8 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 154 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ... ، ح 2. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 908 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 182 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 11 ، ح 1.
2- راجع : « الكافي » ج 7 ، ص 383 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 2 - 5 ، و « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 238 ، أبواب الشهادات ، باب 11 ، ح 1 و 2 ، وج 19 ، ص 69 ، أبواب القصاص في النفس ، باب 62 ، وج 19 ، ص 194 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 24.
3- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 270.

في الأصول - الذي هو من الأدلّة وقلنا بحجيته - هو عدم وجود دليل معتبر يمكن أن يكون هو منشأ ذلك الإطلاق ، فلا شكّ في إطلاقها في كون إيجاد سبب الفناء والهلاك بالمعنى الذي ذكرنا للسبب موجب الضمان ، قصد الموجد للسبب ترتّب المسبّب على فعله أو لم يقصد.

نعم يلزم أن يصدق عليه ما أخذ موضوعا للضمان ، وهو عنوان « من حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها شي ء فهو ضامن » وإن قصد العدم أي حفر برجاء عدم وقوع أحد فيها.

ولو اجتمع السبب والمباشر ، فهل الضمان على المباشر أو السبب أو على كليهما بالاشتراك؟ احتمالات :

قال المحقّق في الشرائع : إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب ، كمن حفر بئرا في ملك غيره عدوانا فدفع غيره فيها إنسانا ، فضمان ما يجنيه الدفع على الدافع (1).

وادّعى جمع - على هذا القول - عدم الخلاف والإجماع ، وكان تقديم المباشر على السبب عندهم من المسلّمات.

والأمر في هذه الفرع الذي ذكره المحقّق وإن كان كما ذكره ، لأنّ الجناية مستند عرفا بل عقلا إلى الدافع ، وحفر البئر بالنسبة إلى هذه الجناية من المعدّات التي لا توجب الضمان مع صدور الإتلاف عن الفاعل المختار ، وإلاّ كان صانع السيف ضامنا إذا قتل به المباشر شخصا ، وهذا ممّا لم يقل به أحد ، ولا يصحّ القول به قطعا.

إلاّ أنّ جميع موارد اجتماع السبب والمباشر ليس من هذا القبيل ، مثلا لو وصف الطبيب دواء وكان سمّا قاتلا ، والممرض أعطاه للمريض فأتلفه ذلك السمّ ، ففي هذا المورد استناد الجناية إلى السبب أي الطبيب أقوى من المباشر ، خصوصا إذا كان

ص: 34


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

المرض جاهلا والطبيب عالما بأنه سمّ قتّال.

نعم إذا كان الممرض عالما بأنه سمّ قتّال فيكون هو الجاني.

وكذلك في باب شهادة الزور التي تصير سببا لإتلاف نفس المشهود عليه أو ماله الضمان على السبب أي الشاهد الزور ، لا على المباشر أي الحاكم أو من يأتمر بأمره وينفذ حكمه.

وخلاصه الكلام في هذا المقام - أي فيما إذا اجتمع السبب والمباشر - أنّ المباشر إذا كان فاعلا مختارا عاقلا ، وكان ملتفتا إلى أنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فلا شكّ في اختصاصه بكونه ضامنا في هذه الصورة ، وليس على ذي السبب ضمان أصلا.

وأمّا لو يكن المباشر ذا إرادة وشعور فالضمان على ذي السبب ، وذلك كمن أجّج نارا في غير ملكه والريح نشر النار فأصابت النار مال غيره فاحترق ، أو حفر بئرا في الطريق فدفعه حيوان أو مجنون إلى البئر ووقع فيها فتلف هو نفسه أو ماله ، ففي مثل هذه الصورة الضمان على ذي السبب ، لأنّه المتلف حقيقة ، والتلف حاصل بسبب فعله بالمعنى الذي ذكرنا للسبب.

وأمّا إن كان عاقلا مختارا في فعله ولكن لم يكن يعلم بأنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فإن لم يكن مغرورا ولا مكرها فأيضا الضمان عليه ، أي على المباشر ، لأنّ هذه القاعدة مفادها أنّ من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، سواء كان عالما بأنّ فعله هذا يترتّب عليه الإتلاف أو لم يعلم ، لأنّ عدم العلم لا يؤثّر في عدم الضمان ، إذ موضوع كون الضمان عليه هو الإتلاف مطلقا ، لا الإتلاف مع العلم بأنّه إتلاف. وأمّا لو كان مغرورا كالممرض الجاهل فيرجع - بما خسره من باب ضمان الإتلاف - إلى الغارّ. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغارّ عالما أو جاهلا بتغريره لهذا التلف.

وأمّا إن كان مكرها فليس عليه ضمان إذا كان الإكراه في غير الدماء ، فإذا أكره على الدفع في البئر فمات فيضمن الدية أو يقاد ، إذا كان الدفع في البئر من الأسباب

ص: 35

العادية للموت ، لأنّه لا تقية في الدماء. وأما إذا أكره على إتلاف مال الغير فالضمان على المكره - بالكسر - لا على المتلف الذي هو مكره - بالفتح - لأنّ السبب هنا أقوى من المباشر ، لأنّ المباشر وإن كان فاعلا ولكن ليس بمختار.

ولذلك نقول ببطلان معاملات المكره من عقوده وإيقاعاته ، والعرف والعقلاء ينسبون الفعل إلى المكره - بالكسر - ويسندون إليه ، كما أنّه لو أمر المكره بهدم دار شخص خدّامه وغلمانه الذين يخافون من مخالفته لا ينسب هدم الدار عند العرف إلاّ إلى ذلك المكره ، والناس يقولون إنّ فلانا - الذي هو المكره - هدم دار فلان ، لأنّه أمر غلمانه بذلك.

وبناء على هذا لو أكره إنسانا على حفر البئر في الطريق ، فوقع فيها مال شخص وتلف ماله بذلك الوقوع ليس على الحافر ضمان ، بل الضمان على الآمر المكره.

إذا ظهرت لك هذه المقدّمة ، فنقول : ذكروا هاهنا فروعا كثيرة في كتبهم الفقهيّة ، واختلفوا في الحكم بالضمان وعدمه في بعض الموارد وأنّه على السبب في بعضها وعلى المباشر في موارد آخر ، ونحن نذكر جملة منها إن شاء اللّه تعالى وبتوفيقه :

منها : أنّه قال في الشرائع : لو ألقي صبيا في مسبعة ، أو حيوانا يضعف عن الفرار ضمن لو قتله السبع (1).

وهذا كلام حقّ لما ذكرنا من الضابط في كون الضمان على السبب دون المباشر ، وهو أن لا يكون المباشر فاعلا عاقلا ، بل يصدر عنه الفعل بدون تروّ وتفكّر في عواقبه لعدم قدرته على التروّي والتفكّر. وإن شئت عبّر عن هذا بأنّ السبب أقوى من المباشر ، كما عبّر به في الشرائع.

وبناءً على هذا يكون لهذا الفرع نظائر كثيرة تشبهها في هذه العلة ، مثلا لو أعطى سكينا بيد مجنون فجرح أو قتل ، أو فتح باب الحبس على سبع ففرس إنسانا أو

ص: 36


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

حيوانا ، أو ألقى حية على نائم أو من ليس بنائم ولكن لا يقدر على التحرّز عنها بقتلها أو فراره عنها فلدغته ، وأمثال ذلك من النظائر الكثيرة.

ففي جميع هذه الموارد يكون الضمان على السبب ، لما ذكرنا ، ولعدم إمكان كون الضمان على المباشر لعدم العهدة في الحيوان أي السبع أو الحية المباشران للإتلاف حتى يكون الضمان عليهما.

وأما ما ذكر في عنوان المسألة في الشرائع بأنّه لو ألقى صبيّا ، فلعلّه باعتبار ضمان اليد وأنّ الصبي يقع تحت اليد بخلاف الكبير ، أو لعلّ هذا التخصيص بلحاظ عدم قدرة الصبي على الفرار أو الدفاع ، بخلاف الكبير.

فإن كان بلحاظ الوجه الأوّل فهو واضح البطلان ، لأنّ الحرّ لا يقع تحت اليد ، صغيرا كان أو كبيرا ، ولذلك لو أخذ ولدا صغيرا بالقهر عن وليّه ، فمات حتف أنفه بدون أيّ تعدّ أو تفريط في حقّه لم يكن ضامنا ، بخلاف ما لو كان الولد عبدا ومات ولو حتف أنفه وبآفة سماويّة يكون ضامنا.

وان كان بلحاظ الوجه الثاني فليس بمطّرد ولا بمنعكس ، كما هو واضح ولا يحتاج إلى البيان ، فالحقّ أنّه لا فرق في هذه المسألة بين الصغير والكبير ، والحر والعبد ، والإنسان والحيوان ، لأنّ الكلام في ضمان الإتلاف لا ضمان اليد. فالمناط في الضمان إمكان التحرّز بالدفاع أو الفرار وعدمه إمكانه.

ومنها : أيضا ما ذكر في الشرائع من أنّه : لو غصب شاة فمات ولدها جوعا ففي الضمان تردّد ، وكذا لو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتّفق تلفها ، وكذا التردّد لو غصب دابّة فتبعها الولد (1).

ومنشأ التردّد هو الترديد في صدق التسبيب في هذه الموارد الثلاث ، وفتاوى الفقهاء والأساطين مختلفة في هذه الموارد الثلاث ونظائرها جدّا.

ص: 37


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

فبعضهم يفتي بالضمان ، وبعضهم ينفي ، وبعضهم كصاحب الشرائع يقف عن الفتوى ويظهر التردّد.

وعلى كلّ حال أنت عرفت أنّ كون التسبيب موجبا للضمان مستفاد من تلك الروايات التي ذكرنا ، فلا بدّ من الحكم بالضمان في صدق ما أخذ موضوعا للضمان في تلك الروايات ، من دون أن ينجرّ إلى القياس. والعناوين المأخوذة في تلك الروايات موضوعا للضمان :

أحدها : عنوان « كلّ شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه ».

وهذا العنوان أجنبي عن الموارد الثلاث إلاّ أن يقال إنّ المناط في الضمان هو الإضرار بالمسلمين ، ولا خصوصية لكونه من طريق الطريق ، وهو لا يخلو من تأمّل.

الثاني : عنوان « من حفر بئرا في ملك غيره أو في الطريق فهو ضامن لما يسقط فيها ».

ولا شكّ في أنّ هذه الموارد الثلاث ونظائرها ليست من مصاديق من حفر بئرا في ملك غيره ، أو من مصاديق من حفر بئرا في الطريق. اللّهمّ إلاّ أن يقال : لا خصوصيّة لحفر البئر ، بل المراد إيجاد ما هو سبب تلف مال الغير في العادة مع وقوع التلف فعلا وترتّبه على السبب ، وليس ببعيد.

الثالث : ما جعل موضوعا للضمان في خبر السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أخرج ميزابا أو كنيفا » (1) إلى آخر ما ذكره من الأمور الخمسة.

والإنصاف أنّه يستظهر من هذه الرواية قاعدة كليّة ، وهي أنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار. وكان سببا في العادة لوقوع تلف في مال المسلمين أو في نفسه ، ولم يتوسّط بين ذلك الفعل والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بحيث يكون التلف

ص: 38


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.

مستندا إليه عند العرف والعقلاء ، فهو - أي فاعل السبب - ضامن. وهذا استظهار لا قياس.

وبناء على هذا يكون تحقق الضمان وثبوته في الموارد الثلاثة هو الحقّ ، ولا وجه للتردّد.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ الرواية ضعيفة من حيث السند ، لاشتراك هذا اللقب - أي السكوني - بين من هو موثوق إن كان المراد به إسماعيل بن مهران - وغير موثوق إن كان المراد منه هو إسماعيل بن أبي زياد فإنّه عامّي.

نعم ظهر لك ممّا ذكرنا - من أنّ الضمان يثبت فيما إذا كان الفعل المذكور سببا في العادة للتلف لا بصرف الاتّفاق - أنّ حبس مالك الماشية لو كان سببا في العادة يكون موجبا للضمان ، وإلاّ لو اتّفق ذلك كما هو مفروض الشرائع في هذا الموارد فإيجابه للضمان مشكل ، بل لا ينبغي القول به لعدم إطلاق في الرواية لكي يشمل مثل هذا الفرض.

ومنها : ما قال في الشرائع أيضا من أنّه : لو فكّ القيد عن الدابّة فشرّدت ، أو عن العبد المجنون فأبق ضمن ، لأنّه فعل يقصد به الإتلاف. وكذا لو فتح قفصا عن طائر فطار مبادرا أو بعد مكث (1).

أمّا كون هذه الأمور سببا للضمان واضح ، بناء على استفادة تلك القاعدة الكلّية من الروايات ، وهي أنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار - أي غير مكره على ذلك الفعل - وكان سببا لوقوع التلف في العادة والأغلب ، ولم يتوسّط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فهو أي موجد السبب ضامن لذلك التالف. ولا شكّ أنّ فكّ القيد عن الدابّة الشرود ، خصوصا إذا كان حيوانا وحشيا مقيّدا كالغزال من هذا القبيل.

ص: 39


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.

ففكّ القيد عن الظبي المقيّد عادة سبب لأن يشرد ويتلف ولو بلحوقه إلى البرية فيصير حاله حال سائر الظباء الموجودة في البرّ فاعتبار الملكيّة فيها لغو. وهكذا فتح القفص عن الطائر الوحشي ، وهكذا فكّ القيد عن العبد المجنون يوجب شروده ، وهو يوجب تلفه عادة ولم يتوسّط بين فعله والتلف في الموارد الثلاثة فعل فاعل عاقل متعمّد عن اختيار ، لأنّ الدابّة والطائر حال عدم عقلهما معلوم ، والثالث - أي المجنون - كون فعله عن عقل خلاف الفرض.

نعم لو كان العبد المقيّد الذي فكّ القيد عنه عاقلا فلا ضمان ، لأنه توسط بين فعله - أي فكّ القيد عنه وتلفه - فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فيكون هو بنفسه مباشرا لإتلاف نفسه ، وذلك مثل أن فكّ القيد عنه فألقى نفسه عن عمد واختيار عن السطح فمات.

ومنها : أيضا في الشرائع لو فتح بابا على مال فسرق ، أو أزال القيد عن عبد عاقل فأبق ، وكذا لو دلّ السارق على مال فسرق فلا ضمان في الجميع ، (1) لأنّ في جميع هذه الصور توسّط بين فعله والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فهو المباشر في الإتلاف ، ومعه لا يسند التلف إلى السبب البعيد.

نعم هو بفتح الباب إن كان ملتفتا إلى أنّه يمكن أن يوجب السرقة ، وبدون إذن صاحب الباب ، وكذلك بالنسبة إلى إزالة القيد يكون آثما ، وكذلك في دلالته للسارق آثم قطعا ، للإعانة على الإثم إن دلّه بقصد أن يسرق.

وحكى في الجواهر عن العلاّمة في الإرشاد القول بالضمان فيما لو دل السارق. (2) والظاهر أنّه متفرّد في هذا القول ، ولم يوافقه أحد فيه.

ثمَّ إنّ صاحب الجواهر ذكر هاهنا فرعا (3) وهو أنّه لو وجدت في البئر المذكورة -

ص: 40


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.
2- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 68.
3- المصدر.

أي البئر التي حفرها في الطريق أو في ملك غيره عدوانا وبدون إذن صاحبه - جثة حيوان ميّت ، لا يعلم أنّ سبب موته هل هو وقوعه فيها كي يكون حافر البئر ضامنا له ، أو ألقيت ميتة فيها حتّى لا يكون ضمان في البين؟ وحيث أنّ الضمان موضوعه موته وتلفه بسبب وقوعه فيها ، فإذا شكّ فيه يكون مجرى أصالة البراءة عن الضمان ، واستصحاب حياته إلى زمان وقوعه مثبت.

وأمّا لو علم بأنّ سبب الموت وقوعه فيها ، ولكن يحتمل أن يكون بدفع شخص عن عمد واختيار بحيث يكون موجبا لسقوط الضمان عن ذي السبب ، وذلك لتوسط فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بين ذلك السبب والتلف ، فالضمان يكون على المباشر المختار لا على ذي السبب.

فربما يتوهّم كون الضمان على ذي السبب بتوهّم أصالة عدم دفع أحد له.

ولكن أنت خبير بأنّه مثبت ، لأنّ لازم عدم دفع أحد عقلا هو وقوع التلف والتردي بفعل ذي السبب خاصّة. إلاّ أن يقال : إنّ موضوع الضمان مركّب من كون موته بوقوعه فيها مع عدم دفع أحد ، فأحد جزئيّ الموضوع وهو الوقوع في البئر بالوجدان على الفرض ، والجزء الآخر أي عدم دفع أحد بالأصل ، فتأمّل.

ومنها : ما قال في الشرائع أيضا : ولو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه ضمن إذا لم يكن يحبسه إلاّ الوكاء ، وكذا لو سأل منه ما ألان الأرض تحته فاندفع ما فيه ضمن بلا خلاف ، لأنّ فعله سبب مستقلّ للإتلاف. أمّا لو فتح رأس الظرف فقلّبته الريح أو طائر ، أو ذاب بالشمس ففي الضمان تردّد ، والأشبه أنّه لا يضمن ، لأنّ الريح والشمس كالمباشر فيبطل حكم السبب (1).

أقول : أمّا الأوّل أي إزالة الوكاء الذي هو عبارة عن الرباط الذي يشد به رأس القربة أو غيرها ، فالظاهر أنّه من الإتلاف مباشرة فخارج عن محلّ الكلام ، لأنّ فكّ

ص: 41


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.

الرباط عن القربة بحيث يكون موجبا لأسأله ما فيها من دهن ، أو لبن ، أو دبس ، أو غيره من المائعات يكون من قبيل المسبّب التوليدي ، كالإلقاء في النار والإحراق.

ففكّ الرباط بعنوانه الأوّلي فكّ رباط ، وبعنوانه الثانوي هو إسالة المائع الذي في تلك القربة. وإن أنكرت ذلك فلا أقل من أنّه من باب العلّة التامّة والمعلول.

هذا فيما إذا كان سيلان ما في الظرف مترتّبا على إزالة الوكاء كما هو المفروض.

وإلاّ لو لم يكن كذلك ، بل كان سيلان ما فيه متوقّفا على أمر آخر زائدا على إزالة الوكاء ، كأن يقلّبه الريح أو طائر أو على إذابة الشمس له ، فهو الشقّ الآخر الذي ذكره ، وقال فيه بعدم الضمان ، معلّلا بأنّ الريح والشمس كالمباشر فيبطل السبب. وإن كان هذا الكلام أيضا محلّ تأمّل بل إشكال ، لما ذكرنا وتقدّم بأنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار ، وكان عادة سببا لوقوع التلف ، ولم يتوسّط بين ذلك السبب والتلف فعل فاعل عاقل مختار ، وإن توسّط أمر آخر وعلّة أخرى كالريح والطائر والشمس ، فيكون الضمان على ذي السبب. ولا يبطل حكم السبب إلاّ بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الضمان في مسألة إزالة الوكاء يكون من باب الإتلاف بالمباشرة ، وليس من قبيل الضمان بالتسبيب.

وأمّا في مسألة فتح رأس الظرف وإسالة ما فيه من المائع بواسطة إذابة الشمس لما فيه يكون من باب التسبيب.

نعم لو لم يكن فتح رأس الظرف سببا لوقوع التلف عادة ، وإنّما وقع التلف من باب الاتفاق ، كما أنّه فتح رأس الظرف في الغرفة ، ومن باب الاتّفاق دخل فيها طائر وقلّبتها فلا ضمان في هذه الصورة. كما أنّ في صورة تقليب الريح أيضا كذلك لو لم يكن الظرف في مهب الريح ، وعلى خلاف المتعارف والعادة هبت ريح وقلّبته فأيضا لا ضمان ، لما ذكرنا من أنّ في الضمان بالتسبيب لا بدّ وأن يكون فعل ذي السبب سببا لوقوع التلف بحسب العادة لا بصرف الاتّفاق.

ص: 42

وأمّا مسألة إلانة الأرض تحته لأسأله الماء منه بواسطة إزالة الوكاء فهذا من قبيل معلول المعلول ، فإن كان إزالة الوكاء علّة لأسأله الماء منه ، وإسالة الماء منه علّة لإلانة الأرض تحته ، وإلانة الأرض تحته علّة لانقلابه وتلف ما فيه ، فبإيجاد السبب الأوّل تترتّب عليه الأسباب الطوليّة ويكون حالها حال السبب الأوّل ، فيمكن أن يقال إنّ هذا أيضا من الإتلاف مباشرة.

ومنها : أيضا ما هو في الشرائع قال قدس سرّه ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره ، أو أجّج نارا فأحرقته لم يضمن ، ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا مع علمه أو غلبة ظنّه ، إنّ ذلك موجب للتعدّي إلى الإضرار (1).

وفي هذه المسألة صور :

إحديها : هذه التي ذكرها في الشرائع.

الثانية : عين هذه الصورة إلاّ أنّها مع التجاوز عن قدر الحاجة.

الثالثة : أن لا يكون له علم ولا غلبة الظنّ بالتعدّي إلى الإضرار ، مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة.

الرابعة : فيما إذا تجاوز عن قدر الحاجة ولكن لا علم له ولا ظنّ بالتعدّي.

الخامسة : عين هذه الصورة الرابعة ولكن مع العلم بعدم التعدّي.

السادسة : عين هذه الصورة الخامسة ولكن مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة.

وفي جميع هذه الصور الستّ المفروض وقوع التلف ، وإلاّ لم يكن محلّ للبحث في أنّه يضمن أو لا يضمن.

أقول : أقوال الفقهاء المحققين والأساطين في هذه المسألة مختلفة جدا ، فليس في المسألة إجماع على الضمان ولا على عدمه ، فنتكلّم فيما هو مقتضى القواعد

ص: 43


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

الأوّليّة ، فنقول :

أمّا الصورة الأولى التي ذكرها في الشرائع ، فمع علمه بالإضرار وأنّ فعله هذا يكون سببا لتلف مال الغير فلا وجه لتخيّل عدم الضمان بصرف إذن الشارع في هذه الفعل ، لأنّ الإذن الشرعي لا يرفع الآثار الوضعيّة ، فلو أذن الشارع في أكل الميتة من باب الاضطرار فلا يرفع هذه الإذن نجاستها.

بل يمكن أن يقال : إن هذه الصورة من مصاديق الإتلاف مباشرة ، وليس من التسبيب ، لأنّه إذا علم أنّه يترتب على فعله هذا غرق مال الغير ، أو احتراقه ، أو جفاف شجر الجار القريب من النار التي أجّجها ولو كانت النار في ملكه ، فهو من مصاديق الإتلاف بالمباشرة حقيقة.

هذا مع أنّ كونه مأذونا في إرسال الماء في ملكه ، أو تأجيج النار فيه في هذه الصورة كلام بيّنّاه في قاعدة لا ضرر.

وأمّا القول بأنّ قاعدة الإتلاف لم ترد بهذه الألفاظ في رواية من طرقنا وإن اشتهرت في الألسنة والأفواه ، فليست دليلا لفظيا كي نتمسّك بإطلاقها ، كما ذكره صاحب الجواهر (1).

ففيه أنّه بيّنّا في صدر البحث عن هذه القاعدة وقلنا إنّنا وإن لم نجد رواية بهذه الألفاظ ، لا من طرقنا ولا من طرق الجمهور ، ولكن مضمون هذه القاعدة مروية بالسنة مختلفة ، فتكون من القواعد المصطادة من الموارد المختلفة من الروايات. مضافا إلى كونها بهذه الألفاظ من المسلّمات بين الخاصّة والعامّة ، ولا يزال يستدل الفقهاء عموما بهذه القاعدة على الضمان في الموارد الجزئيّة المشكوكة.

فلو سلّمنا أنّ مدركها الإجماع فقط يكون معقده مطلق ، فيكون حالها حال الدليل اللفظي فيتمسّك بإطلاقها.

ص: 44


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 60.

والإنصاف أنّ هذه الفتوى من مثل المحقق قدس سرّه شيخ الفقهاء لا يخلو من غرابة ، وإن أسند هذا القول في المسالك إلى العلاّمة في القواعد والإرشاد أيضا (1).

وأمّا الصورة الثانية فتكون سببا للضمان بطريق أولى ، ولا يحتاج إلى التوضيح والبيان.

وأمّا الصورة الثالثة أي فيما لا يعلم بالتعدّي ولا يظنّ ولم يتجاوز قدر الحاجة ، فهذه الصورة على قسمين :

فتارة ترتّب التلف على هذا الفعل ليس غالبيّا وبحسب العادة ، وإنّما قد يقع اتّفاقا لعارض ، كما أنّه من باب الاتّفاق هبت ريح بخلاف العادة والمتعارف فأثرت النار في مال الجار.

فالظاهر عدم الضمان في هذه الصورة ، لا لأنّه مأذون في هذا الفعل ، لما ذكرنا من أنّ الإذن لا يرفع الضمان ، بل لما اشترطنا من أنّ الضمان لا يكون إلاّ فيما إذا كان الفعل الصادر عن ذي السبب سببا في الأغلب وبحسب العادة.

وأخرى يكون غالبيّا وبحسب العادة.

فالظاهر أنّه يضمن ، لأنّ فعله سبب غالبيّ لوقوع التلف ، كما أنّه في يوم هبوب الريح لو أجّج نارا ولكن لم يحصل له علم ولا ظن بالتعدّي إلى الإضرار بالجار لغفلته أو بلاهته ، مع أنّ التعدّي في مثل ذلك اليوم لم يكن اتفاقيّا ، بل كان أمرا عاديا متعارفا ، ففعله هذا سبب عادي للتلف ، ولم يتوسّط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار ، الذي هو الضابط في استناد التلف إلى السبب.

وأمّا الصورة الرابعة فيضمن بطريق أولى ، لأنّ المفروض أنّه تجاوز عن قدر الحاجة.

ص: 45


1- « مسالك الافهام » ص 257.

وأمّا الصورة الخامسة فعمدة الوجه في القول بعدم الضمان فيها هو العلم بعدم التعدّي. ولكن هذا العلم ليس له أثر ، لأنّه على الفرض أوجد سبب التلف الذي هو سبب الضمان ولكن باعتقاد انّه لا يتلف ، وقد تبيّن خطأ اعتقاده وأنّه جهل مركّب ، فما ذكرنا من الضابط في استناد التلف إلى فعله تحقق فيكون ضامنا.

وأمّا الصورة السادسة وهي أن لا يتجاوز قدر الحاجة مع علمه بعدم التعدّي ، فإذا كان وقوع التلف اتّفاقيّا وليس فعله سببا غالبيا لوقوع التلف فلا يضمن ، لما بيّنّا من اشتراط الضمان يكون فعل ذي السبب سببا غالبيا ، وإذ ليس فليس. وأمّا لو كان سببا غالبيا وهو علم بعدم التعدّي لغفلته أو بلاهته فيضمن ، لما ذكرنا في القسم الثاني من الصورة الثالثة.

ومنها : ما في التذكرة من انّه : لو فتح القفص ، أو حلّ قيد الفرس ، أو العبد المجنون فبقيا واقفين ، فجاء إنسان ونفرهما فذهبا فالضمان على منفرهما ، لأنّ سببه أخصّ فاختصّ الضمان به ، كالدافع والحافر (1).

ولعلّ مراده بقوله : « لأنّ سببه أخصّ » أنّ فعل المنفرد لا ينفكّ عن فرارهما ، بخلاف فتح القفص بالنسبة إلى الطائر ، وحل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون فإنّه يمكن أن لا يتعقّب بفرار الطائر في فتح القفص ، وأن لا يتعقّب بفرار الفرس والعبد المجنون بالنسبة إلى حلّ قيدهما ، فكأنّه أراد بذلك أنّ النفر جزء الأخير من العلّة التامّة لفرارهما.

وأمّا فتح القفص بالنسبة إلى الطائر الواقف بعد الفتح ، وكذلك حل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون الواقفين بعد حلّ القيد من قبيل المعدّ.

ولا شكّ في أنّ استناد المسبّب إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها أولى من استناده إلى المعدّ ، كما أنّ في مسألة الحافر والدافع يكون الأمر كذلك أيضا ، فالاستناد

ص: 46


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 375.

إلى الدافع الذي هو الجزء الأخير من علّة التلف أولى من استناده إلى المعدّ الذي هو حفر الحافر.

هذا ما قاله في التذكرة مع ما فسرنا به كلامه قدس سره .

ولكن أنت عرفت ممّا ذكرنا في مقدّمة هذه الفروع أنّ من شرائط كون الضمان على السبب هو أن لا يتوسّط بين فعل ذي السبب وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار ، وإلاّ ينسب إلى ذلك الفاعل لا إلى السبب ، وذلك واضح جدّا.

وفيما نحن فيه وقع ذلك التوسّط بين السبب الذي هو عبارة عن فتح القفص وعن حلّ القيد ، وبين الفرار فعل الفاعل والعاقل المختار ، وهو تنفير ذلك الإنسان ، فينسب الفرار إليه لا إلى فتح القفص أو حلّ القيد.

ومنها : أيضا ما في التذكرة من أنّه : لو حلّ رباط سفينة فذهبت أو غرقت بالحل ضمن ، لأنّه سبب في الإتلاف ، سواء كان يعقّب فعله أو تراخي (1).

ونظير هذا الفرع تقدّم من أنّه لو فكّ القيد عن الدابّة فشردت ، أو عن العبد المجنون فأبق ، وقلنا : يستفاد من الروايات قاعدة كلية ، وهي أنّ كلّ فعل صدر عن الفاعل العاقل المختار ، وكان سببا لتلف شي ء ، ولم يتوسّط بينه وبين المسبّب - أي التلف - فعل فاعل عاقل مختار ، فيكون التلف مستندا إلى ذي السبب والضمان عليه.

فبناء على هذا حيث أنّ حلّ رباط السفينة يكون سببا لذهابها إلى عرض البحر ، فيوجب غرقها أو ضياعها.

فبمقتضى تلك القاعدة يكون الضمان على الذي حلّ الرباط ، ولا فرق بين حدوث حادث آخر كهبوب الرياح الشديدة والعواصف الموجبة لغرقها ، وبين عدم حدوث حادث آخر يوجب ذلك ، وذلك لما بيّنّا من الضابط في الاستناد إلى السبب ، فإنّه حاصل ولا يفرق في كلا المقامين. نعم ، لو لم يكن هذا الفعل - أي حلّ رباط السفينة -

ص: 47


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 375.

سببا للغرق أو الضياع في العادة ، بل حدث عاصفة شديدة من باب الاتّفاق ، فيمكن أن يقال بعدم الضمان في مثل هذه الصورة ، وقد تقدّم جميع ذلك.

ومنها : ما ذكر في التذكرة أيضا من أنّه : لو وثبت هرة حال فتح القفص ودخلته وقتلت الطائر لزمه الضمان ، لأنّ الفتح يشتمل على إغراء الهرّة ، كما في تنفير الطائر (1).

والتشبيه بالتنفير لا يخلو من تأمّل ، لأنّ التنفير في حال انفتاح القفص من قبل العلّة التامّة بالنسبة إلى طيرانه وفراره. بخلاف فتح القفص فيما إذا لم تكن هرّة هناك ، ولكن من باب الاتّفاق وجدت هرّة حال الفتح.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ فرض المسألة في صورة وجود الهرّة هناك قبل الفتح ، وهي بحيث لا مانع من وثوبها على الطائر إلاّ انسداد باب القفص ، فيكون التشبيه في محله.

وأمّا الضمان : ففي المفروض على فاتح القفص على كلّ حال ، لما ذكرنا من الضابط.

إلاّ أن يقال : إنّ فتح باب القفص ليس سببا غالبيّا لوثوب الهرة.

وجوابه : أنّ المفروض حضور الهرة حال فتح القفص ، وفي مثل هذه الصورة سببية الفتح لوثوبها وإتلاف الطائر غالبي.

ومنها : أيضا ما في التذكرة من انّه لو كان شعير في جراب وبجنبه حمار ، ففتح فاتح رأسه ، فأكله الحمار في الحال لزمه الضمان (2). وهذا الفرع من جميع الجهات التي ذكرناها مثل الفرع السابق ، فلا نعيد. ولا أرى وجها لذكره بعد ذكر الفرع السابق ، كما لا أرى وجها لتقييد قوله : « فأكله الحمار » بكلمة « في الحال » إلاّ تخيّل أنّه لو لم يكن أكله في الحال فليس الأكل مستندا إلى فتح رأسه ، وإنما هو مستند إلى التفات الحمار بعد غفلته عنه ، أو إلى حدوث اشتهائه ، وهو غريب.

ص: 48


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 375.
2- المصدر.

ومنها : ما ذكره في التذكرة أيضا وهو أنه : لو نقل صبيّا حرّا إلى مضيعة فاتّفق أن افترسه سبع فلا ضمان عليه (1). وذلك أنّ النقل إلى المضيعة ليس مثل النقل إلى المسبعة ، لأنّ النقل إلى المسبعة - أي محلّ السباع - سبب غالبي لافتراسه.

وأمّا النقل إلى المضيعة فليس سببا غالبيا ، ولو افتراسه السبع كان من باب الاتّفاق وقد اشترطنا في السبب الموجب للضمان أن يكون سببا غالبيّا للتلف ، لأنّ المضيعة عبارة عن محلّ الضياع ، وعدم الاعتناء بشأن من يسكنه ، وأن تهمل شؤونه.

ومنها : ما ذكره في جامع المقاصد من أنّه لو منع المالك من إمساك دابّته المرسلة حيث يتوقّع تلفها مع بقائها مرسلة. كما أنّه لو أرسلت في الليل في بريّة ، ولا تكون تلك الدابّة من الحيوانات القويّة التي تقدر على حفظ نفسها من السباع ، أو لم تكن الأرض مأمونة من الأخطار ، فحينئذ يكون إمساك المالك سببا لبقائها مرسلة ، وبقاؤها مرسلة ربما ينتهي إلى افتراسها أو تلفها من جهة أخرى (2).

هذه جملة ممّا ذكره أساطين الفنّ من فروع الضمان بالتسبيب ، سواء لم يكن إتلاف بالمباشرة في البين أصلا ، أو كان ولكن كان ضعيفا.

ولكن كل هذه الفروع كانت فيما إذا كان السبب واحدا. أمّا إذا تعدّد السبب سواء كانا اثنين أو أكثر ، فإمّا يكونا وجدا في عرض واحد ، وإمّا مترتّبان في الوجود.

أمّا الأوّل : فهما أو كلّهم إن كانوا أكثر من اثنين يشتركون في الضمان ، وذلك كما أنّه لو حفر جماعة بئرا في الطريق ، فوقع فيها دابّة أو مال آخر ، لأنّ اختصاص بعضهم بالضمان دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

وأمّا الثاني : أي فيما إذا كان مترتّبين في الوجود ، فحوالة الضمان على أوّلهما وجودا ، وذلك لأنّ مع وجود أوّلهما تحقّق ما هو سبب الضمان ، ولا يرفع حكمه - أي كونه سببا

ص: 49


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 376.
2- « جامع المقاصد » ج 6 ، ص 219.

للضمان - إلاّ بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار بينه وبين التلف ، والمفروض أنّه ليس في المقام.

فلو حفر أحدهما بئرا في الطريق ، أو في ملك غيره بدون إذنه ورضاه ، فوضع بعد ذلك شخص آخر حجرا في حافة تلك البئر ، فعثرت دابّة بواسطة ذلك الحجر ووقعت في تلك البئر فالضمان على الحافر ، لما ذكرنا من الضابط.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 50

16 - قاعدة الاشتراك

اشارة

ص: 51

ص: 52

قاعدة الاشتراك (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « اشتراك المكلّفين في الحكم رجالا ونساء إلى قيام يوم القيامة » أي ما دام بقاء هذه الشريعة المقدّسة.

وبعبارة أخرى : إذا ثبت حكم لأحد المكلّفين أو لطائفة منهم - سواء كان ثبوته بخطاب لفظي أو دليل لبّي ، من إجماع أو غيره - فيكون شاملا لجميع المكلّفين في جميع الأزمنة إلى قيام يوم القيامة ، إلاّ أن تكون مأخوذا في الموضوع خصوصية وقيد لا ينطبق إلاّ على شخص خاص ، أو طائفة خاصّة ، أو في زمان خاصّ كزمان حضور الإمام علیه السلام مثلا. وفي هذه القاعدة جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها

وهي أمور :

الأوّل : الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل بين الحاضرين في زمان التكليف بمعنى أنّ الشارع إذا أمر شخصا أو طائفة بفعل من الأفعال ، أو نهى عن ارتكاب أمر

ص: 53


1- (*) « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعية » ص 310. « عناوين الأصول » عنوان 1 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 115 ، « القواعد » ص 41 ، « قواعد فقهي » ص 227 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ص 295 ، « قواعد الفقهية » ش 32 ، ص 61.

كذلك ، فجميع الموجودين في ذلك الزمان محكومون بذلك الحكم.

فإذا قال الراوي السائل عن الإمام علیه السلام : نسيت أنّ في ثوبي أو بدني نجاسة ، وبعد الفراغ ذكرت ذلك؟ فقال علیه السلام : اغسل ثوبك أو بدنك وأعد الصلاة ، نعلم بأنّ جميع الموجودين في زمان جواب الإمام علیه السلام محكومون بهذا الحكم ، وليس مختصّا بنفس السائل.

فإذا تبيّن اتّحاد الموجودين في زمان صدور ذلك الحكم بالقطع واليقين الوجداني ، فإن حصل شكّ في بقاء ذلك الحكم في الأزمنة المتأخّرة وبالنسبة إلى الموجودين بعد ذلك الزمان يستصحب ، فيثبت بقاؤه تعبّدا وبحكم الشارع.

وفيه : أوّلا : أنّ الخطاب إذا كان متوجّها إلى شخص خاصّ ، أو طائفة مخصوصة ، فمن أين نعلم باتّحاد الموجودين في هذا الحكم وهو أوّل الكلام ومصادرة على المطلوب.

وثانيا : إذا علمنا اتّحاد الموجودين في ذلك الحكم مع من توجّه إليه الخطاب ، فنعلم باتّحاد الجميع أي سواء كانوا موجودين أو معدومين ، لأنّه لا خصوصيّة لوجودهم في ذلك الزمان ، فلا يبقى مجال ومورد للاستصحاب ، لأنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ في البقاء ، وأمّا مع القطع بالبقاء فلا موضوع له حتى يجري.

وثالثا : أدلّة اللفظيّة على بقاء أحكام هذه الشريعة إلى قيام يوم القيامة حاكمة على هذا الاستصحاب.

الثاني : الاتّفاق القطعي من الأصحاب على اشتراك الجميع في جميع الأعصار والأمصار في الحكم المتوجّه إلى بعض آحاد المكلّفين ، فإنّهم - رضوان اللّه تعالى عليهم - يستدلّون من الصدر الأوّل وأوّل زمان تأليف الفقه في كتبهم ، ككتب ابن الجنيد وابن أبي عقيل القديمين ، إلى زماننا هذا على الحكم الشرعي لكلّ واحد من آحاد المكلفين وفي أيّ زمان كانوا ، بالخطابات الخاصّة المتوجّهة إلى شخص خاصّ

ص: 54

كقوله علیه السلام لزرارة أو محمد بن مسلم أو غيرهما في مورد خاصّ : « اغسل » أو « أعد الصلاة » وأمثال ذلك.

والإنصاف أنّه يستكشف من هذا كشفا قطعيّا بأنّه كان من المسلّم المقطوع عندهم اتّحاد جميع المكلّفين في جميع الأحكام ، إلاّ أن يكون موضوع ذلك الحكم مقيّدا بقيد حاصل في البعض دون البعض ، كقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) فإنّ موضوع وجوب الحج قيّد بقيد ، وهو أن يكون الشخص مستطيعا ، فمن لم يكن كذلك لا يجب عليه الحج. ولكن بعد وجود موضوعه أي الإنسان العاقل البالغ الحرّ المستطيع ، يشترك في هذا الحكم جميع أفراد هذا الموضوع ومصاديقه في أي عصر ، ومن أيّ مصر كانوا.

فليس المراد من الاشتراك إلاّ أنّ كلّ من ينطبق عليه عنوان « موضوع الحكم » فهو محكوم بذلك الحكم ، وإلاّ فكيف يمكن أن يقال : إنّ من لا يكون من مصاديق موضوع الحكم يثبت له هذا الحكم؟ وهل هذا إلاّ خلف ومناقضة؟!

ومثل هذا الاتّفاق القطعي كاشف قطعي عن اتّحاد حكم الجميع عندهم علیهم السلام .

ولذلك ترى لم يناقش أحد في استدلالهم بالقضايا والخطابات الشخصيّة لحكم الجميع ، بل تلقّوه بالقبول. نعم ربما يناقشون في أدلّتهم من جهات أخر ، كما هو المتعارف في الأبحاث الفقهيّة.

الثالث : ارتكاز عامّة المسلمين حتّى العوام بأنّ حكم اللّه في هذه الواقعة واحد للجميع.

ولذلك ترى أنّ أحدهم لو سئل عن الإمام علیه السلام ، أو عن مقلّده حكما شرعيّا لموضوع أو لفعل من الأفعال ، وسمع ذلك الحكم غيره ممن هو مثله ، لا يتأمّل ولا يتردّد في ثبوته في حقّه ، ولا يحتمل أن يكون حكم اللّه في حقّ ذلك السائل غير حكم اللّه

ص: 55


1- آل عمران (3) : 97.

في حقّه فهذا المعنى أي وحدة التكليف واشتراكه بين جميع المكلفين شي ء مرتكز في أذهان جميعهم ، ولا يمكن ذلك إلاّ بوصوله إليهم من مبدإ الوحي والرسالة ، ثمَّ من هؤلاء إلى من بعدهم ، وهكذا إلى زماننا.

ولعلّ إلى هذا ينظر كلام بعض المحققين حيث يقول : والقول بأنّ الكون في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله دخيل في اتّحاد الصنف الذي هو شرط شمول الخطابات ، هدم لأساس الشريعة ، وذلك من جهة أنّ الأحكام إن كانت مخصوصة بالحاضرين في مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله المخاطبين ، أو مطلق الموجودين في ذلك الزمان فقط ، فانتهى أمر الدين - العياذ باللّه - وتكون الناس بعد ذلك كالبهائم والمجانين. وهذا أمر باطل بالضرورة ، لأنّه يوجب هدم أساس الدين.

فادّعاء الضرورة على اشتراك الجميع في التكاليف لا بد فيه ، بل هو كذلك.

وهذا لا ينافي اختصاص بعض التكاليف ببعض الطوائف دون بعض ، بل ببعض الأشخاص دون سائرين ، لأنّ المراد من الاشتراك عدم اختصاص التكليف بمن توجّه الخطاب اليه ، كما أشرنا إلى ذلك وقلنا : إنّ قوله علیه السلام لزرارة أو محمّد بن مسلم مثلا « أعد » أو « اغسل » أو « لا يعيد » مثلا ، ليس من جهة اختصاص ذلك الحكم بهما وأمثالهما من الرواة ونقله الأحاديث ، بل توجيه الخطاب إليهما أو إلى غيرهما من باب أنّهم من مصاديق طبيعة المكلّفين ويبيّنون حكم المسألة بهذه الصورة.

وهذا لا ينافي كون موضوع الحكم - أي المكلف - مقيدا ببعض القيود ، أو متّصفا ببعض الصفات ، أو كونه من طائفة خاصّة من الطوائف ، أو كونه من النساء أو من الرجال ، وأمثال هذه الاختلافات ، بل لا بدّ منها لعدم كونه الأحكام جزافيّة ، بل تابعة للمصالح والمفاسد التي في متعلّقاتها وموضوعاتها.

والموضوعات والمتعلّقات تختلف من حيث المصلحة والمفسدة باعتبار اختلاف قيودها وأوصافها وحالاتها ، كالحريّة والرقيّة والاستطاعة وعدمها ، والسفر والحضر ،

ص: 56

وغير ذلك من العوارض والحالات الطارئة على المكلّفين.

فباعتبار وجود صفة الاستطاعة مثلا يكون صدور الحجّ من المكلّف له مصلحة ملزومة ، فهذه الصفة توجب وجوب الحجّ على المكلّف ، فلا بدّ من تقييد الموضوع بهذا القيد ، ولذلك قيّد وجوب الحجّ في الآية الشريفة بهذا القيد ، وقال اللّه تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1).

وخلاصة الكلام في المقام أنّ اختلاف الأحكام بالنسبة إلى المكلّفين باختلاف القيود ، والصفات ، والحالات الطارئة على الموضوعات من أوضح الواضحات.

فليس المراد من قاعدة الاشتراك أنّ جميع المكلّفين سواء كانوا واجدين لقيود موضوع الحكم أم لم يكونوا واجدين ، حكمهم سواء ، لأنّ بطلان هذا الكلام ضروري.

بل المراد أنّ الحكم الذي رتّب على موضوع يشمل جميع من هو ينطبق عليه الموضوع؟ أم مختصّ بمن توجّه إليه الخطاب؟ أو بمن يكون موجودا في زمان الخطاب؟ وكذلك القضايا الشخصية التي يسأل الراوي الفلاني عن حكمها هل يكون جواب الإمام علیه السلام مختصّا بنفس السائل؟ أو يكون عاما لكلّ من ينطبق عليه موضوع الحكم الذي صدر عنه علیه السلام في مقام الجواب؟

وبعبارة أخرى : يكون الخطاب إلى السائل بعنوان أنّه أحد مصاديق موضوع الحكم ، لا بعنوانه الشخصي.

الرابع : الأخبار الواردة في هذا الباب ، الدالة على أنّ حكم اللّه تعالى مشترك بين الكلّ ، وخصوصية الأشخاص - أي العوارض المشخصة لهم - لا دخل لها في كونهم موضوعا للأحكام ، ككونه ابن فلان ، أو لونه كذا ، أو من الطائفة الفلانيّة وأمثال ذلك.

وبعبارة أخرى : الدين الإسلامي عبارة عن مجموع الأحكام المكتوبة في الكتب الفقهية ، من الطهارات إلى الديات التي أساسها في القرآن الكريم ، مع شرح وإيضاح

ص: 57


1- آل عمران (3) : 97.

وبيان من الأحاديث النبويّة أو التفاسير التي صدرت عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وهذه الأحكام لم يجعل لشخص خاصّ أو لطائفة خاصّة ، بل مجعولة لكافّة المسلمين ، بل لجميع ولد آدم من زمان بعثته صلی اللّه علیه و آله إلى يوم القيامة ، وليس مخصوصا بزمان دون زمان. وهذا لا ينافي اختصاص النبي صلی اللّه علیه و آله ببعض الأحكام : لأنّ الأحكام - كما قلنا - تابعة للمصالح والمفاسد ، وذلك الموجود المقدّس لامتيازه عن سائر البشر ، وبلوغه إلى أعلى مراتب الكمال صار موضوعا للأحكام الخاصّة به صلی اللّه علیه و آله .

بل يمكن أن يقال : إنّ تلك الأحكام الخاصّة أيضا ليس موضوعها شخص النبي صلی اللّه علیه و آله ، بل لعنوان كلي ، وهو من بلغ إلى هذه المرتبة من الكمال ، غاية الأمر أنّ الكلي منحصر في الفرد ، إذ غيره صلی اللّه علیه و آله لم يصل إلى هذه المرتبة ولن يصل إلى آخر الدهر.

وها هنا تحقيق دقيق في معنى الخاتمية وأنّها ليست قابلة للتعدّد ، ليس المقام مقام ذكره.

وعلى كلّ حال كان كلامنا في ذكر الأخبار التي تدلّ على اشتراك الأحكام بين جميع المكلّفين ، وعدم اختصاصها بالمخاطبين أو الموجودين في زمان الخطاب :

فمنها : ما رواه في الوسائل عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القسم بن يزيد الزبيدي ، عن أبي عمرو الزهري ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث طويل في كتاب الجهاد ، في باب من يجوز له جمع العساكر والخروج بها إلى الجهاد ، قال علیه السلام فيه بعد كلام طويل في شرائط من يتصدّى لجمع العساكر للجهاد : « لأنّ حكم اللّه عزّ وجلّ في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء ، إلاّ من علّة أو حادث يكون ، والأوّلون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء ، والفرائض عليهم واحدة ، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه

ص: 58

الأوّلون ، ويحاسبون عمّا به يحاسبون » (1).

وظهور هذه الجملات والكلمات في اشتراك جميع المكلّفين من الأوّلين والآخرين في أحكام اللّه وفرائضه واضح ، لأنّ كلمة « الأوّلين والآخرين » جميع معرف بالألف واللام يفيد العموم ، فمعنى الحديث عبارة عن أنّ كلّ واحد من الأوّلين سواء في حكم اللّه عزّ وجلّ مع كلّ واحد من الآخرين ، وجميع الفرائض عليهم - أي على جميع الأوّلين والآخرين - واحدة. وهذا أفصح وأوضح عبارة لاتّحاد حكم جميع الأمّة من الأوّلين والآخرين.

نعم المراد من الاتّحاد أو الاشتراك ، اشتراك من كان من مصاديق موضوع الحكم ، كما تقدّم شرحه.

والظاهر أنّ هذا مراد من اعتبر في الاشتراك اتّحاد الصنف.

ومنها : النبوي المشهور ، قال صلی اللّه علیه و آله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (2).

فإنّ ظاهر هذه الجملة أنّ حكمي الذي هو حكم اللّه على أحدكم حكمي على الجميع ، بمعنى أنّه ما أخصّ أحدا بالحكم ، بل كلّكم في حكمي سواء.

هذا هو المتفاهم العرفي والظاهر من هذا الحديث الشريف ، ولا شكّ في حجّية ظواهر الألفاظ والجمل ، فيدلّ هذا الحديث المبارك على المطلوب ، وهو المطلوب.

ومنها : قوله علیه السلام في الخبر المشهور : « حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة » (3).

تقريب الاستدلال بهذه الرواية أنّ بقاء الحلال والحرام إلى آخر الأزمنة من حياة

ص: 59


1- « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 23 ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، باب 9 ، ح 1.
2- « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 272 ، باب ما يمكن ان يستنبط من الآيات والأخبار ... ، ح 4. وج 80 ، ص 199 ، باب آداب الاستنجاء والاستبراء ، ح 4.
3- « الكافي » ج 1 ، ص 58 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 19 ، وج 2 ، ص 17 ، باب الشرائع ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 124 ، أبواب صفات القاضي ، باب 12 ، ح 47.

البشر معناه أنّ الناس في جميع الأزمنة سواء في أنّ حلاله على أهل الزمان المتقدم حلال على أهل الزمان المتأخر ، وكذلك حرامه صلی اللّه علیه و آله .

فإذا كان مفاد الرواية وظاهرا اتّحاد أهالي أزمنة المتأخّرة مع أهالي أزمنة المتقدمة في الحكم ، فتدلّ على اتّحاد أهالي الزمان الواحد في الحكم بطريق أولى ، إذ مرجع مفاد الرواية إلى أنّ خصوصيات الشخصيّة لأفراد المكلّفين ليست دخيلة فيما هو الموضوع بعد اتّحادهم في الصنف بالمعنى الذي تقدّم.

وأمّا احتمال أن يكون مفاد الرواية هو الاتّحاد في خصوص الحلّية والحرمة ، لا في جميع الأحكام فعجيب ، إذ الحلال والحرام كناية عن مطلق الأحكام ، مضافا إلى أنّ مئال جميع الأحكام ومرجعها إلى الحلال والحرام ، لأنّ الواجب تركه حرام وفعله حلال بالمعنى الأعم ، كما أنّ المستحبّ والمكروه فعلهما وتركهما حلال بالمعنى الأعم ، كما أنّ الحلال بالمعنى الأخصّ أيضا كذلك مثل المستحبّ والمكروه. فالحلال والحرام يستوعبان جميع الأحكام التكليفيّة كما أنّ الأحكام الوضعيّة أيضا تنتهي من حيث العمل إلى الحلال والحرام بالمعنى الذي ذكرنا لهما ، فافهم.

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله : « فليبلغ الشاهد الغائب » (1).

ولا شكّ في دلالة هذا الحديث الشريف على اشتراك الغائبين مع الحاضرين ، وإلاّ لو كان الحكم خاصّا بالحاضرين لما كان وجه لتبليغهم ، لأنّه كان من تبليغ حكم غيرهم إليهم ، فلا بدّ وأن يكون الحكم مشتركا بينهم حتّى يأمر صلی اللّه علیه و آله الحاضرين بتبليغه إلى الغائبين.

وأمّا احتمال أن يكون مخصوصا بجماعة خاصّة من الغائبين مع الحاضرين ، لا عموم الغائبين.

ص: 60


1- « الكافي » ج 1 ، ص 187 ، باب فرض طاعة الأئمّة ، ح 10 ، وج 1 ، ص 291 ، باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ على الأئمّة علیهم السلام واحدا فواحدا ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 143 ، ح 399 ، باب الزيادات ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 435 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 36 ، ح 9.

يدفعه : أنّ ظاهر هذا الكلام هو الأمر بتبليغ الحكم إلى عموم الغائبين ، بل وحتّى المعدومين في ذلك الزمان الذين يوجدون فيما بعد ، فضلا عن الغائبين الموجودين في أماكن مختلفة ، ومن بلاد متعدّدة بعيدة أو قريبة.

والحاصل : أنّ المتفاهم العرفي من أمثال هذه العبارة أن الحاضر والغائب ، بل الموجود فعلا ومن يوجد فيما بعد سواء ، وهو المطلوب.

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله : « أوصي الشاهد من أمّتي ، والغائب منهم ، ومن في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء إلى يوم القيامة أو يصلوا الرحم » (1).

وهذا الحديث نصّ في العموم ، ولكن ربما يستشكل بأنّه لا يدلّ إلاّ على اشتراك الأمّة جميعا في هذا الحكم فقط ، أي وجوب أو استحباب صلة الرحم. وأمّا الاشتراك في سائر الأحكام فساكت عنه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : لا خصوصيّة لصلة الرحم من بين سائر الفرائض ، أو يقال : هذا اللسان - أي لسان الوصيّة إلى الأمّة في حكم من الأحكام - هو لسان اشتراك الأمّة في الأحكام الشرعيّة ، وكلهم في ذلك سواء. ويمكن أن يستدلّ للمطلب ببعض الآيات ، مثل قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (2) ومثل قوله تعالى ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (3) ، وكذلك بكثير من الروايات الواردة من أخذ معالم الدين من يونس بن عبد الرحمن (4) ، وزكريا بن آدم (5) وأمثالهما من الثقات ، وإرجاعهم الناس إلى هؤلاء من الرواة ونقلة الحديث ، ولا شكّ في أنّ هؤلاء لم يتعلّموا من الإمام علیه السلام في كلّ موضوع إلاّ حكما واحدا متعلّقا بالجميع ، وكانوا يذكرون ذلك

ص: 61


1- « الكافي » ج 2 ، ص 151 ، باب صلة الرحم ، ح 5.
2- « النساء (4) : 11.
3- « التوبة (9) : 122.
4- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 107 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 33 ، 34 و 35.
5- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 106 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 27.

الحكم الواحد لكلّ من يسأل عن ذلك الموضوع أو عن تلك الواقعة ، ومع ذلك أرجع الإمام علیه السلام جمع الشيعة إليهم في أخذ أحكامهم الشرعيّة.

وهذه الروايات يمكن ادعاء القطع بصدور بعضها منهم علیهم السلام ، فما نسب إلى بعض المحقّقين من ادّعاء تواتر الأخبار على الاشتراك ، بالمعنى الذي هو الآن محلّ الكلام ليس بكل البعيد ، بل المتتبّع يجد ذلك من ملاحظة جميع الأخبار الواردة في هذا الباب.

الخامس : وهو الوجه الوجيه ، وما هو التحقيق عندنا : أنّ جعل الأحكام من الأزل على الموضوعات المقدّرة الوجود على نحو القضايا الحقيقيّة ، وليس من قبيل القضايا الخارجيّة حتّى يكون تسريته إلى غير الحاضرين في مجلس الخطاب أو غير الموجودين في ذلك الزمان بدليل الاشتراك ، بل شموله للحاضرين والغائبين والموجودين والمعدومين على نسق واحد.

وهذا هو شأن القضيّة الحقيقيّة الكلّية ، سواء كان إخبارا أو إنشاء ، فإذا قلت : « كلّ إنسان ضاحك بالقوّة » لا فرق في شمول هذا الحكم لأفراد الإنسان بين من كان قبلا موجودا من زمان آدم علیه السلام ، أو فعلا يكون موجودا ، أو من يوجد بعد إلى انقضاء زمان حياة البشر ونفخ الصور ويوم البعث والنشور.

فكذلك في القضيّة الحقيقيّة الإنشائيّة ، فقول اللّه تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) الذي في قوّة أن يقال بصورة الجملة الخبريّة : « كلّ إنسان مستطيع يجب عليه الحجّ » يشتمل الموجودين والمعدومين في عرض واحد لأنّ الحكم أي وجوب الحج ثابت على كل إنسان مستطيع بمعنى أنّ كلّ شخص إذا وجد في الخارج وكان مصداقا للإنسان المستطيع يكون الحج واجبا عليه فالحكم على الطبيعة السارية إلى جميع الأفراد.

وبعبارة أخرى : حيث أنّ اللّه تعالى عالم في الأزل بوجود المصلحة الملزمة في الفعل

ص: 62


1- آل عمران (3) : 97.

الفلاني الصادر من شخص متّصف بكذا وكذا - وهذا العلم علّة لجعل الوجوب المتعلّق بذلك الفعل على ذلك الشخص المتّصف بكذا وكذا - فلا محالة يحصل الجعل ، فيكون الفعل الكذائي واجبا على كلّ شخص كان مصداقا لذلك العنوان مع القيود المأخوذة فيه ، ونسبة الحكم إلى جميع المصاديق في عرض واحد ، ولو كان بين أفراد ذلك الموضوع تقدّم وتأخّر بحسب الوجود.

فأفراد الإنسان المستطيع وإن لم تكن بحسب الوجود في عرض واحد بل كان بينها تقدّم وتأخّر ، بل وإن كان بينها عليّة ومعلوليّة ، ولكن مع ذلك كلّه شمول الحكم للجميع في عرض واحد ، لأنّ الحكم على نفس الطبيعة المقدّرة الوجود ، ولا نظر له بالنسبة إلى الأفراد الموجودة فعلا في الخارج.

ومعلوم أنّ نسبة الطبيعة إلى أفراد الموجودة فعلا ، والتي كانت موجودة في الماضي ، والأفراد التي يوجد فيما بعد على حدّ سواء ، فإذا كان موضوع الحكم تلك الطبيعة السارية المقدّرة الوجود فقهرا يشمل الحكم جميع الأفراد الذي يكون من مصاديق ذلك العنوان الذي أخذ موضوعا في القضية الحقيقيّة في عرض واحد. فلا يبقى محلّ ومجال لدليل الاشتراك.

وفي الحقيقة هذا الوجه الخامس يوجب هدم هذه القاعدة ، ولا يبقى معه احتياج إلى تلك القاعدة.

الجهة الثانية : في المراد من هذه القاعدة

فنقول : قد تبيّن من تضاعيف ما ذكرناه في الجهة الأولى أنّه ما المراد منها ، ولكن مع ذلك نقول : إنّ المراد منها : أنّ الحكم المتوجّه إلى شخص أو طائفة خاصّة بحيث أنّ دليل ذلك الحكم لا يشمل غير ذلك الشخص أو غير تلك الطائفة ، فدليل الاشتراك

ص: 63

يوجب إثباته لكلّ من كان مصداقا لما أخذ موضوعا لذلك الحكم ، أي كان متّحد الصنف مع ذلك الشخص أو تلك الطائفة فيما إذا توجّه الخطاب إليهما.

مثلا : يسأل الراوي عن الإمام علیه السلام أنّ فلانا صلّى وبعد الفراغ علم أنّه صلّى في النجس نسيانا لا جهلا؟ فيقول علیه السلام : « يعيد صلاته » (1) فهذا الحكم حسب الدليل لذلك الشخص الذي سأل الراوي عن فعله ، ولكن بدليل الاشتراك يثبت لكلّ من كان مصداقا لذلك العنوان ، أي علم بعد الفراغ أنّه صلّى في النجس نسيانا ، وهكذا الأمر في سائر الأحكام.

وكذلك يسأل الراوي مثلا أنّ رجلا شرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي؟ قال علیه السلام : « لا بأس ». وأمثال ذلك كثيرة في جميع أبواب الفقه من أنّ مورد الحكم شخص خاص أو طائفة خاصة ، فلشمول الحكم للسائرين لا بدّ من التمسّك بدليل الاشتراك.

وهذا فيما إذا لم نقل بأنّ جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة ، وإلاّ فلا حاجة في تلك الموارد إلى التمسّك بدليل الاشتراك ، بل شمول الحكم لجميع من ينطبق عليه عنوان الموضوع في عرض واحد وبمناط واحد ، وهو ورود الحكم على الطبيعة المرسلة السارية إلى جميع وجوداتها.

ففي جميع تلك الموارد التي توجّه الخطاب إلى شخص خاصّ ، أو طائفة خاصّة يكون من باب أنّه أحد مصاديق العامّ الذي هو موضوع الحكم في الحقيقة ، لا أنّه بخصوصه موضوع كي يحتاج ثبوته لغيره ممّن هو مثله إلى دليل الاشتراك.

ولذلك قلنا إنّ الوجه الخامس الذي هو المعتمد عندنا يوجب هدم أساس دليل الاشتراك ، إذ دليل الاشتراك في مورد اختصاص الحكم من حيث دلالة دليله بنفس المورد ، وجعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة معناه أنّ الحكم عامّ يشمل المورد وما هو مثله في عرض واحد ، فلا يبقى محلّ ومجال لإعمال دليل الاشتراك ، بل لا

ص: 64


1- راجع : « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1062 ، أبواب النجاسات ، باب 42.

موضوع له.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

فنقول : موارد تطبيقها كثيرة جدّا من أوّل أبواب الفقه - أي من كتاب الطهارات - إلى كتاب الديات ، فما من مسألة إلاّ ويكون مورد الدليل مختصّا بشخص أو بطائفة فيحتاج إثبات ذلك الحكم للآخرين إلى دليل الاشتراك.

مثلا : في أوّل كتاب الطهارة في فصل المياه وأقسامها ، وأوّل مسألة من هذا الفصل وهو أنّ الماء الراكد القليل غير البالغ كرّا ينفعل بملاقاة النجس أو المتنجّس ، وإن بلغ كرّا فلا. فأدلّة هذه المسألة عبارة عن أجوبة الإمام علیه السلام عن أسئلة عن أشخاص في موارد خاصّة ، فإثبات ذلك لأشخاص آخرين يحتاج إلى دليل الاشتراك.

وأيضا في مسألة تغيّر الماء بالنجاسة ونجاسته ، وعدم جواز التوضّي به - وأمّا لو لم يتغير وغلب على النجس يجوز التوضي به - الدليل عليه رواية حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء وتغير الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (1).

فترى أنّه علیه السلام جوّز الوضوء والشرب لذلك الشخص الخاصّ كما أنّ في مورد التغيّر نهى ذلك الشخص عن الوضوء والشرب ، فلا بدّ من إثبات الحكم للآخرين من التمسّك بدليل الاشتراك.

ص: 65


1- « الكافي » ج 3 ، ص 4 ، باب الماء الذي تكون فيه قلّة والماء ... » ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 216 ، ح 625 ، باب المياه وأحكامها وما يجوز التظهر به وما لا يجوز ، ح 8 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 12 ، ح 19 ، باب حكم الماء الكثير إذا تغيّر أحد أوصافه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 102 ، أبواب الماء المطلق ، باب 3 ، ح 1.

وأمّا إذا قلنا إنّ هذا الحكم - أي جواز التوضّي والشرب من الماء غير المتغيّر وعدم جوازهما من الماء المتغيّر - مجعول على نهج القضايا الحقيقيّة ، فشموله لذلك الشخص المخاطب وآخرين في عرض واحد ، فلا يبقى موضوع لدليل الاشتراك.

وفي مسألة عدم تنجّس ماء المطر بملاقاة البول واختلاطه به حين ينزل المطر روى عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في ميزابين سالا ، أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا ، فأصاب ثوب رجل « لم يضرّه ذلك » (1). فإسراء هذا الحكم إلى غير ذلك الرجل يحتاج إلى قاعدة الاشتراك ، لو لم نقل بجعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة. وما ذكرنا كان من باب النموذج ، وإلاّ فالاستقصاء في موارد تطبيق هذه القاعدة معناه أن نذكر أغلب دورة الفقه مع مداركها من الروايات ، إذ كما ذكرنا في جميع أبواب الفقه من الطهارات إلى الديات أغلب مسائلها من هذا القبيل.

وهم ودفع

امّا الأوّل : هو أنّ هذه القاعدة ليس لها اطّراد وانخرمت في مواضع عديدة :

منها : مسألة الجهر والإخفات ، فالمرأة والرجل مختلفان في هذه الحكم في الصلوات الجهريّة ولا اشتراك بينهما ، لأنّ فيها يتعيّن على الرجل الجهر ، وعلى المرأة الإخفات.

وفي مسألة الوضوء يتعيّن على الرجل صبّ الماء ابتداء على ظهر اليد استحبابا ، وعلى المرأة بالعكس ، لما رواه محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبى الحسن الرضا علیه السلام قال : « فرض اللّه على النساء في الوضوء للصلاة أن يبدأن بباطن أذرعهنّ ، وفي

ص: 66


1- « الكافي » ج 3 ، ص 12 ، باب اختلاط ماء المطر بالبول. ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 411 ، ح 1295 ، باب المياه وأحكامها ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 109 ، أبواب الماء المطلق ، باب 6 ، ح 4.

الرجال بظاهر الذراع » (1).

وفي الستر في الصلاة يجب على الرجل ستر العورتين فقط أي القبل والدبر ، وعلى المرأة ستر تمام البدن ، ما عدا الوجه والكفين وظاهر القدمين.

وأيضا هما مختلفا فيجوز ليس الذهب والحرير في الصلاة وفي غيرها للمرأة ، ولا يجوز ان مطلقا لا في الصلاة ولا في غيرها للرجل.

وأيضا هما مختلفان في كيفية العقود في الصلاة ، كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

وأيضا هما مختلفان في حال الإحرام ، فيجوز لبس المخيط للمرأة دون الرجل.

وأيضا هما مختلفان في الجهاد وصلاة الجمعة ، فيجبان على الرجل مع وجود شرائطهما ، ولا يجبان على المرأة مطلقا.

وأيضا هما مختلفان بالنسبة إلى قبول التوبة إذا ارتدّ كلّ واحد منهما عن فطرة ، فتوبة الرجل لا تقبل من الجهات الثلاث - أي من جهة لزوم قتله ، وتقسيم أمواله على الورثة ، وإبانة زوجته - وأمّا توبة المرأة فتقبل.

وكذلك مختلفان في حكم الزنا ، فعلى الرجل الجزّ والتغريب مدّة عامّ ، وليس على المرأة شي ء من هذين.

وأيضا هما مختلفان في أنّ الرجل يجوز إمامته للنساء ، والمرأة لا يجوز إمامتها للرجال.

وأيضا يحرم التظليل حال الإحرام على الرجل دون المرأة.

وخلاصة الكلام أنّ الفرق بين الرجل والمرأة في الأحكام الشرعية وعدم اشتراكهما كثير ، واستقصاء الجميع ممّا يطول المقام ولا أثر له. والمقصود من ذكر ما

ص: 67


1- « الكافي » ج 3 ، ص 28 ، باب حدّ الوجه الذي يغسل والذراعين وكيف يغسل ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 76 ، ح 193 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة والفضيلة فيه ، ح 42 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 328 ، أبواب الوضوء ، باب 40 ، ح 1.

ذكرنا من الموارد هو النقض على اطّراد هذه القاعدة وانخرامها بهذه الموارد ، ويكفي لإثبات ذلك ما ذكرنا.

وامّا الثاني أي دفع هذا الوهم : أنّ خروج هذه الموارد عن تحت هذه القاعدة ليس من باب التخصيص وانخرامها ، بل من قبيل التخصّص ، فلا يضرّ باطّراد القاعدة ولا يوجب انخرامها.

بيان ذلك : أنّ المراد من قاعدة الاشتراك ليس أنّ حكم كلّ واحد من أفراد البشر متّحد مع السائرين متّصفا بأيّ صفة كانت وفي أي حال من الأحوال كان ، لأنّ هذا باطل بالضرورة ، إذ لا شكّ في أنّ حكم المسافر الإفطار والتقصير بخلاف غير المسافر ، وهكذا حكم المضطر إلى أكل الميتة مثلا أو المكره إليه الجواز واقعا - كما هو نصّ القرآن في المضطر - ولكن لا يجوز لغيرهما وحرام ، وهكذا حكم المستطيع وغير المستطيع فالأوّل يجب عليه الحجّ دون الثاني ، وهكذا حكم الفقير والغني في وجوب زكاة الفطرة مثلا.

وخلاصة الكلام : أنّ اختلاف الأحكام باختلاف حالات المكلّفين - من العسر واليسر ، والسفر والحضر ، والضرر وعدمه ، والحرج وعدمه ، والاضطرار وعدمه ، والإكراه وعدمه ، والحيض والاستحاضة وعدمهما ، والجنابة وعدمها ، إلى غير ذلك من الاختلافات الكثيرة - ممّا لا يمكن أن ينكر ومن القطعيّات ، بل من الضروريات.

بل المراد أنّه في مورد اتّحاد الصنف بالمعنى الذي ذكرنا له أي فيما إذا كان موضوع الحكم المذكور في القضيّة ينطبق على من هو مورد الحكم ، رجلا كان أو امرأة ، واحدا كان أو متعدّدا أو كان طائفة ، وعلى غير المورد من الآخرين ، ففي مثل هذا الحكم ، المورد وغير المورد يشتركان.

كما أنّه في أغلب الأحكام يسأل الراوي عن حكم موضوع ، فيقول مثلا : رجل أو امرأة شكّ في عدد ركعات صلاته فيقول علیه السلام مثلا : يبني على الأكثر. فليس موضوع

ص: 68

وجوب البناء على الأكثر هو ذلك الرجل أو تلك المرأة ، بل الموضوع هو الشاكّ في عدد الركعات ، وذكر الرجل أو المرأة واحدا كان أو متعددا لبيان مصداق القضية الواقعة ، فحينئذ احتمال اختصاص هذا الحكم بذلك المورد - أي بذلك الرجل أو بتلك المرأة - مدفوع بقاعدة الاشتراك.

وأين هذا ممّا جعل الشارع موضوع حكمه خصوص الرجل أو خصوص المرأة ، وكيف يمكن أن يدّعي عاقل أنّ الحكم مع أنّ موضوعه خصوص الرجل مثلا ومع ذلك هو مشترك بين الرجل والمرأة. وهل هذا إلاّ تخلف الحكم عن موضوعه ، وهو محال. وما الفرق بين أن يكون اختلاف موضوع الحكم بالذكورة والأنوثة ، وبين أن يكون اختلافهما بالاستطاعة وعدمها ، أو بالسفر والحضر ، أو بغير ذلك من العناوين الكثيرة التي توجب اختلاف الأحكام.

وحاصل الكلام : أنّ القيود المأخوذة في جانب موضوع الحكم يوجب عدم اتّحاد الصنف ، ويكون خارجا عن موضوع قاعدة الاشتراك بالتخصّص لا بالتخصيص ، فلا يكون موجبا لعدم اطّراد القاعدة. فظهر أنّ موارد النقوض المذكورة في اختلاف الرجل والمرأة كلّها خارجة عن موضوع القاعدة ، ولا يكون نقضا عليها.

ثمَّ إنّ هاهنا كلام في الخنثى المشكل هل له حكم النساء ، أو ما هو المخصوص بالرجال ، أو ليس له شي ء منهما؟

فنقول : إنّ الخنثى على قسمين : مشكل وغير المشكل. والثاني عبارة عمن يحكم عليه بأنّه من الرجال بواسطة الأمارات التي جعلها الشارع أمارة التشخيص ، أو يحكم عليها بأنّها من النساء أيضا بواسطة الأمارات التي جعلها الشارع أمارة كونها مرأة ، فهذا ليس بمشكل ، لأنّه بالتشخيص بواسطة الأمارات يرتفع الإشكال.

فهذا القسم لا إشكال فيه ، لأنّه ملحق بذلك القسم الذي حكم عليه أنّه منهم فيكون من ذلك القسم ، فإن كان ملحقا بالرجال بواسطة الأمارات فعليه أن يجهر في

ص: 69

الصلوات الجهريّة وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام المختصّة بالرجال ، وإن كانت ملحقة بواسطة تلك الأمارات بالنساء فعليها أن تخفت في صلاتها ، وهكذا في سائر الأحكام المختصّة بالنساء.

وأمّا الأوّل : أي المشكل الذي لا يحكم بأنّه رجل ، وكذلك لا يحكم عليه بأنّه امرأة لفقد أمارات الطرفين أو لتعارضها ، ففيه كلام وهو أنّه إمّا أن نقول بأنّ الإشكال إنّما هو في مقام الإثبات وإلاّ ففي مقام الثبوت فلا إشكال ، إذ هو إمّا في الواقع رجل أو امرأة ، وإنّما اشتبه الأمر لفقد الأمارة على تشخيصها ، أو لتعارضها وتساقطها. وذلك من جهة أنّ أفراد الإنسان وطبيعة البشر لا تخلو من أحد هذين : إمّا رجل أو امرأة ، وليس طبيعة أخرى وصنف ثالث في البين.

والدليل على ذلك قوله تعالى ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) (1) وقوله تعالى ( خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (2) والظاهر من الآيتين حصر الموهوب والمخلوق فيهما.

ومن جملة ما يؤيّد أنّه ليس طبيعة ثالثة بل إمّا ذكر أو أنثى قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (3) ولو كان هناك طبيعة ثالثة فيرجع إلى أنّ اللّه تبارك وتعالى أهمل قسما وصنفا من الأولاد ولم يبين حكمه ، مع أنّ صدر الآية أي قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) يدلّ على أنّ الوصية من قبل اللّه على عموم الأولاد ، فإنّ جمع المضاف يفيد العموم ، فإهمال قسم من الأولاد في كمال الاستبعاد.

ثمَّ إنّ وجود خنثى المشكل مبني على فقد الأمارات أو تعارضها كما ذكرنا ، ولكن ورد في الأخبار المرويّة عنهم علیهم السلام أمارتان : إحديهما خروج البول من أيّ واحد من

ص: 70


1- الشورى (42) : 49.
2- النجم (53) : 45.
3- النساء (4) : 11.

الفرجين. ثمَّ على تقدير خروجه من كليهما ينظر إلى أنّ الأوّل خروجا منه أيّ واحد منهما ، فيحكم بالذكوريّة على تقدير خروجه من فرج الرجال ، وبالأنوثة على تقدير خروجه من فرج النساء. وعلى تقدير خروجه من كليهما ينظر إلى الأوّل خروجا منه أيّ واحد منهما ، فان كان فرج الرجال فرجل ، وإن كان فرج النساء فامرأة. وعلى تقدير مقارنتها في الخروج والانقطاع فيعدّ أضلاعه في الأيمن والأيسر. فإن نقص الأيسر فرجل ، وإن لم ينقص فامرأة.

وبناء على هذه الروايات لا يبقى خنثى مشكل ، لأنّ هذه الأمارات مترتّبة ودائرة بين النفي والإثبات ، فلا يتصوّر فقد جميع هذه الأمارات بحيث لا يكون أحدها ولا معارضها ، لأنّ هذه الأمارات مترتّبة ليست في عرض واحد كي يقع بينهما التعارض.

اللّهم إلاّ أن يقال : لو كان البول يخرج من فرج النساء ولكن أضلاع طرف الأيسر أنقص بواحد من الطرف الأيمن ، فيقع التعارض بين الأمارتين. فمقتضى الأولى أنّها امراة ، ومقتضى الثانية أنه رجل. ولكن هذا مبني على عدم ترتّب الأمارات ، وهو خلاف ظاهر الروايات.

أمّا إن قلنا بأنه يمكن أن لا يكون رجلا ولا امرأة ، فحينئذ ليس علم إجمالي في البين بأنّه إمّا رجل وإمّا امرأة ، فليس مكلّفا بما يختصّ بكلّ واحد منهما ، فتجري البراءة عن الاثنين إلاّ فيما لا يمكن ارتفاعهما كالجهر والإخفات ، فقهرا في هذا القسم يكون مخيّرا بينهما.

وأمّا بناء على الأوّل أي بناء على العلم الإجمالي فيجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما أي العمل على وفق تكليف النساء تارة ، وعلى طبق تكليف الرجال مرّة أخرى.

وقد عرفت أنّه في مقام الثبوت إمّا رجل أو امرأة ، وليس هناك قسم آخر أي طبيعة ثالثة في البين ، فالعلم الإجمالي محقّق ويجب الاحتياط.

هذا فيما إذا لم نقل بالرجوع إلى الأمارات ، وإلاّ لا يبقى شكّ وإعضال كي تصل

ص: 71

النوبة إلى العلم الإجمالي والعمل بالاحتياط ، بل الأمارات تعيّن أنّه رجل أو امرأة ، فيلحقه حكم ما عيّنته من كونه رجلا أو امرأة.

ولكن التحقيق أنّ الأخبار الواردة في مسألة الخنثى طائفتان :

الأولى : أنّه يورث على الفرج الذي يبول منه ، فإن بال منهما فمن حيث سبق البول ، وإن جاء منهما دفعة فيورث على ما انقطع أخيرا ، وإن تساويا في الشروع والانقطاع يعطي نصف ميراث الرجل ونصف ميراث المرأة.

وذلك مثل رواية هشام بن سالم عن أبى عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : المولود يولد ، له ما للرجال ، وله ما للنساء؟ قال : « يورث من حيث يبول من حيث سبق بوله ، فان خرج منهما سواء فمن حيث ينبعث ، فإن كانا سواء ورث ميراث الرجال وميراث النساء » (1).

ورواية إسحاق بن عمّار عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام عن أبيه علیه السلام أن عليا علیه السلام كان يقول : « الخنثى يورث من حيث يبول ، فإن بال منهما جميعا فمن أيّهما سبق البول ورث منه ، فإن مات ولم يبل فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل » (2).

ومعلوم أنّ المراد من قوله علیه السلام « ورث ميراث الرجال وميراث النساء » في رواية هشام ليس تمام ميراث الرجال وتمام ميراث النساء ، بحيث يكون إرثه كإرث اثنين : أحدهما رجل والأخرى امرأة من حيث اشتماله لأمرين أي الذكورة والأنوثة ( وذلك ) من جهة أنّ الإرث للأشخاص باعتبار كون كلّ واحد منهم مذكّرا أو مؤنّثا ، والخنثى شخص واحد لا شخصين ، فالمراد أنّه يرث نصف مجموع الإرثين ، وهو فتوى المشهور

ص: 72


1- « الكافي » ج 7 ، ص 157 ، باب ميراث الخنثى ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1269 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 574 ، أبواب ميراث الخنثى ، باب 2 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 326 ، باب ميراث الخنثى ، ح 5701 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1270 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 575 ، أبواب ميراث الخنثى ، باب 2 ، ح 2.

في إرث الخنثى بعد تساوي المبالين خروجا وانقطاعا.

وأيضا هذا المعنى صريح رواية إسحاق بن عمّار حيث يقول علیه السلام : « فإن مات ولم يبل - أي عند فقد الأمارة على التعيين - فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل » والمراد بالعقل هو الميراث وإن كان في الأصل الدية. وأيضا هذا المعنى موافق لقاعدة العدل والإنصاف بعد فقد أمارات التمييز والتعيين ، كما في سائر الموارد من العلم الإجمالي في الماليّات.

الثانية : بعد تساوي المبال من جميع الجهات - أي شروعا وانقطاعا - يعد أضلاعه ، فإن كان الطرف الأيسر أنقص من الطرف الأيمن فهو رجل ، وإلاّ فامرأة.

ولكن المشهور أعرضوا عن هذه الرواية ولم يعملوا بها ، فالمتعيّن هو الأخذ بقول المشهور من توريثه بالمبال ، وعند تساوي المبالين من جميع تلك الجهات المذكورة في الرواية يعطى نصف مجموع حقّ الرجل وحقّ المرأة.

وقال بعضهم بالقرعة بعد الاعتبار بالمبال وتساويهما من تلك الجهات المذكورة في الروايات.

ولكن أنت خبير بأنّ القرعة أمارة في مورد العلم الإجمالي في الشبهة الموضوعية إذا كانت الشبهة من المعضلات ، لما حقّقنا في شرح قاعدة القرعة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب من أنّ القرعة أمارة حيث لا دليل لحلّ المشكلة وكان من المعضلات (1).

فما ذكره الشيخ قدس سرّه في الخلاف من العمل بالقرعة مدّعيا عليه الإجماع والأخبار (2) ، لا وجه له. أمّا عدم الإجماع فلذهاب المشهور إلى خلافه لما قلنا أنّهم يقولون عند تساوي المبالين أخذا وانقطاعا أنّ له نصف حقّ الرجل ونصف حقّ المرأة.

وأما الأخبار فلا تدلّ إلاّ على أماريّة القرعة في المعضلات من الشبهات

ص: 73


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 65.
2- « الخلاف » ج 4 ، ص 106 ، كتاب الفرائض ، مسألة 116.

الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي ، ومع وجود الروايات المعتبرة المعمول بها عند المشهور كرواية هشام بن سالم ، ورواية إسحاق بن عمّار اللتين تقدّمتا على أنّه يرث عند تساوي المبالين نصف حقّ الرجل ونصف حقّ المرأة ، فلا يبقى إعضال وإشكال حتّى تصل النوبة إلى القرعة ، ففي مثل هذا المورد لا مجال للعمل بالقرعة.

نعم هاهنا قول آخر للمفيد والمرتضى - 0 - والحلّي في السرائر وهو عدّ أضلاعه فإن كان الطرف الأيسر أقلّ من الطرف الآخر فرجل وإلاّ فامرأة (1).

وبه رواية حاكية قضاء أمير المؤمنين علیه السلام بذلك (2) ولكن الرواية ضعيفة ، والمشهور أعرضوا عن العمل بها. فالمعتمد هو القول المشهور وإن احتجّوا هؤلاء بالإجماع ولكن ادّعاء الإجماع مع مخالفة المشهور لا يخلو من غرابة.

وما استشكل على هذا القول بعدم إمكان تميّز الأضلاع غالبا بحيث تطمئنّ النفس به خصوصا في السمين كما في الجواهر (3) ، أغرب.

فخلاصة الكلام : أنّ الأخبار الواردة في باب ميراث الخنثى مفاد بعضها : أنّ الخنثى يرث على المبال ، وساكت عمّا إذا تساوى المبالان من حيث الشروع والانقطاع ، بل ساكت عمّا إذا خرج البول من كليهما.

وذلك كرواية داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه علیه السلام التي ينقلها عنه في الكافي قال : سئل عن مولود ولد ، له قبل وذكر كيف يورث؟ قال علیه السلام : « إن كان يبول من ذكره فله ميراث الذكر ، وإن كان يبول من القبل فله ميراث الأنثى » (4).

ورواها الشيخ بإسناده عن الفضل بن شاذان مثله (5).

ص: 74


1- « السرائر » ج 3 ، ص 279 - 280.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1271 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 575 ، أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ، باب 2 ، ح 3.
3- « جواهر الكلام » ج 39 ، ص 284.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 156 ، باب ميراث الخنثى ، ح 1.
5- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 353 ، ح 1267 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 1.

وأيضا روى الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « كان أمير المؤمنين علیه السلام يورّث الخنثى من حيث يبول » (1).

وعن الكافي أيضا عن طلحة بن زيد مثله (2).

ولا يخفى أنّ هذا القسم من الروايات التي ساكتة عن صورة الجريان عن الاثنين مع تساوي المبالين من حيث الأخذ والانقطاع أو اختلافهما ، لا تعارض الروايات التي تبيّن حكم صورة تساويهما أو اختلافهما من حيث الأخذ والانقطاع مع الجريان عن الاثنين ، ومفاد بعضها بيان حكم صورة الاختلاف في الشروع والانقطاع وأنّه يورث بأسبقهما ، فإن كانا متساويين في الشروع فبأبعدهما انقطاعا.

مثل ما رواه الكليني في رواية أخرى عن أبي عبد اللّه في المولود ، له ما للرجال وله ما للنساء ، يبول منهما جميعا؟ قال علیه السلام : « من أيّهما سبق » قيل : فان خرج منهما جميعا قال علیه السلام : « فمن أيّهما استدرّ » قيل فإن استدرّا جميعا؟ قال علیه السلام : « فمن أبعدهما » (3).

ومفاد بعضها في صورة التساوي في المبال من جميع الجهات المذكورة هو عدّ الأضلاع ، فإن نقص طرف الأيسر عن الأيمن بواحدة فيعطى نصيب الرجل ، وإلاّ فنصيب المرأة.

وذلك مثل رواية رواها في التهذيب (4) والفقيه (5) في قضية مجي ء خنثى إلى شريح القاضي وبيان حاله له ، والرواية طويلة مذكورة في الوافي نقلا عن التهذيب والفقيه ، وموضع الحاجة منها أنّه بعد مراجعة شريح إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال علیه السلام : « على بدينار الخصى - وكان معدلا - وبامرأتين » فأوتى بهم ، فقال علیه السلام لهم : « خذوا هذه المرأة

ص: 75


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 353 ، ح 1268 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 2.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 156 ، باب ميراث الخنثى ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 157 ، باب ميراث الخنثى ، ح 5.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1271 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 5.
5- « الفقيه » ج 4 ، ص 327 ، باب ميراث الخنثى ، ح 5704.

إن كانت امرأة فأدخلوها بيتا ، وألبسوها نقابا ، وجرّدوها من ثيابها ، وعدّوا أضلاعها » ففعلوا ، ثمَّ خروجها إليه فقالوا له : عدد الجنب الأيمن إثنا عشر ضلعا ، والجنب الأيسر أحد عشر ضلعا. فقال علي علیه السلام : « اللّه أكبر ، ايتوني بحجام » فأخذ من شعرها فأعطاها رداء وحذاء وألحقها بالرجال (1).

ومفاد بعضها انّه بعد تساوي المبالين يعطى نصف نصيب الرجل ونصف نصيب المرأة.

وذلك مثل رواية هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : المولود يولد ، له ما للرجال وله ما للنساء؟ قال : « يورث من حيث يبول من حيث سبق بوله ، فإن خرج منهما سواء فمن حيث ينبعث ، فإن كانا سواء ورث ميراث الرجال وميراث النساء » (2).

ورواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر بن محمّد علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام : « إنّ عليّا علیه السلام كان يقول : الخنثى يورث من حيث يبول ، فإن باب منهما جميعا فمن أيّهما سبق البول ورث منه ، فإن مات ولم يبل فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل » (3).

وهذان القسمان الأخيران بينهما تعارض ، وقد ذكرنا أنّه يجب الأخذ بهذه الطائفة الأخيرة أي روايات التي مفادها أنّ له نصف نصيب الرجل ونصف نصيب المرأة ، لعمل المشهور بها وإعراضهم عن الطائفة الأولى أي التي يأمر فيها بعدّ الأضلاع ، وجعل نقصانها في الطرف الأيسر أمارة الذكوريّة والرجوليّة ، وإن كانت تلك الروايات مروية بطرق متعدّدة حاكية لقضاء أمير المؤمنين علیه السلام في تلك الواقعة العجيبة.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا

ص: 76


1- « الوافي » ج 2 ، ص 141 ، أبواب المواريث ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره
2- سبق تخريجه في ص 72 ، رقم (1).
3- سبق تخريجه في ص 72 ، رقم (2).

17 - قاعدة تلف المبيع قبل القبض

اشارة

ص: 77

ص: 78

قاعدة تلف المبيع قبل القبض (1)

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ». والكلام فيها من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها ،

وهو أمور

الأوّل : الروايات

منها : الحديث النبوي الشريف المشهور ، الذي حكاه في المستدرك عن عوالي اللئالي : « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه (2).

منها : رواية عقبة بن خالد التي رواها في الوسائل عنه عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل اشترى متاعا من آخر وأوجبه ، غير أنّه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك غدا إن شاء اللّه ، فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال علیه السلام : « من مال صاحب

ص: 79


1- (*) « خزائن الأحكام » ش 26. « بلغة الفقيه » ج 1 ، ص 149 و 209 ، « القواعد » ص 105 ، « قواعد فقه » ص 189 ، « قواعد فقهية » ص 287 ، « القواعد الفقهية ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 351 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 266 « مجله كانون وكلاء » العام 2 ، ش 16 ، ص 9 - 14 ، محمد اعتضاد البروجردي.
2- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 303 ، أبواب الخيار ، باب 9 ، ح 15430.

المتاع الذي هو في بيته حتّى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يرد ماله إليه » (1).

ودلالة الحديث الشريف على هذه القاعدة واضحة ، من جهة أنّها مدلوله المطابقي.

وبعبارة أخرى : الحديث نصّ في هذه القاعدة ، إذ مضمونه ومفاده عين هذه القاعدة وليس هناك - حسب قانون المحاورة وبناء العقلاء في مقام الإفادة والاستفادة ، من استكشاف المراد بظواهر الألفاظ والهيئة التركيبية للجملة - احتمال آخر غير هذه القاعدة كي يكون هو المراد.

وأمّا حجيّة هذا الحديث : فهو وإن كان مرسلا ليس له سند معتبر لكن تلقّى الأصحاب له بالقبول ، واتّفاقهم على الفتوى بمضمونه ، وكون مفاده من المسلّمات عندهم يوجب الوثوق بصدوره الذي هو موضوع الحجية ، لا كونه خبر عدل أو ثقة.

وقد تكلّمنا فيه وأثبتناه في كتابنا « منتهى الأصول » في مبحث حجيّة الخبر (2) ، فراجع.

فإذن كان الحديث الشريف من الجهتين - أي جهة الدلالة والحجية - لا قصور فيه ، فيثبت به المطلوب وهو اعتبار هذه القاعدة وصحّتها.

وأمّا الرواية : فهي أيضا من حيث السند لا احتياج لها إلى البحث عنها لما ذكرنا في الحديث المبارك. وأمّا من حيث الدلالة فأيضا حالها حال الحديث الشريف ، لأنّ الحكم في كليهما على المبيع التالف عند البائع قبل أن يقبض المشتري بأنّه من مال البائع. نعم في الرواية هذا الحكم معنى بالقبض والإخراج من بيته ، وهذا أمر مسلّم لا يوجب فرقا في المقام ، بل التلف عند البائع قبل قبض المشتري يرجع إلى هذا المعنى بل هو عينه.

وعلى كلّ حال الحكم في كليهما بأنّ التلف من مال البائع فيه احتمالات ثلاث :

ص: 80


1- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 358 ، أبواب الخيار ، باب 10 ، ح 1.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 112.

أحدها : أن يكون المراد منه أنّ القبض دخيل في حصول ملكيّة المبيع للمشتري ، وإلاّ فهو باق على ملك البائع ، كما أنّه كذلك في بيع الصرف ، فإنّ القبض في المجلس دخيل وشرط لحصول ملكيّة العوضين وصحّة العقد.

ولكن هذا الاحتمال معلوم البطلان إجماعا.

الثاني : أن تكون يد البائع يد ضامن ، فيكون الضمان بالمثل أو القيمة كسائر أبواب الغرامات وأيدي العادية.

ولكن هذا الاحتمال أيضا باطل ، لأنّ المفروض أنّ اليد ليست يد ضمان بل أمانة مالكيّة ، وإلاّ لو كانت اليد يد ضمان ، أو أتلف البائع أو نفس المشتري مع عدم قبضه - إن لم تكن الإتلاف قبضا - فليس مربوطا بهذه القاعدة ، بل في الأوّل يكون ضمان البائع ضمانا واقعيّا بالمثل أو للقيمة وبقاعدة « على اليد » ، وفي الثاني أيضا ضمانا واقعيا وبقاعدة « الإتلاف » ، وفي الثالث هو أتلف ماله فلا ضمان على البائع بهذه القاعدة ، لعدم تحقق موضوعها وهو التلف قبل القبض ، لأنّه إتلاف من قبل نفس المالك ، لا التلف عند البائع قبل أن يقبض المشتري.

الثالث : انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف ليكون التلف في ملك البائع ، فيكون معنى الضمان رجوع الثمن إلى ملك المشتري ، لا الضمان الواقعي.

وهذا الاحتمال - أي انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف - لا محذور فيه بعد وجود الدليل عليه أي الملكيّة آنا ما للبائع من طرف الشارع ، فإنّ الأمر بيده ، وله نظائر في الشرع.

منها : لو باع داره مثلا ببيع الخياري ففسخه وكان فسخه بأن باعها من غير المشتري الأوّل أو وقفها فبناء على صحّة البيع أو الوقف لا بدّ وأن نلتزم بدخوله آنا ما في ملك الفاسخ ثمَّ يتحقّق البيع أو الوقف ، لأنّه لا بيع إلاّ في ملك.

ومنها : قوله أعتق عبدك عنّي بناء على صحّة العتق ووقوعه عنه بصرف هذا

ص: 81

الكلام وذلك من جهة أنّه لا يمكن وقوعه عنه إلاّ بأن يصير ملكا له آنا ما قبل وقوع العتق عنه.

ومنها : فيما إذا اشترى من ينعتق عليه ، فلا بدّ من الالتزام بملكيّة المشتري آنا ما كي يصحّ البيع فينعتق عليه ، وهذا مقتضى الجمع بين دليلي صحّة البيع وانعتاقه عليه.

ومنها : ما قيل في باب المعاطاة بناء على القول بالإباحة وجواز عتق من اشتراه بالمعاطاة أو وقفه أو تعلّق الزكاة والخمس به فإنّ مقتضى الجمع بين أدلّة هذه الأقوال هو الالتزام بملكيّة آنا ما. والحاصل أنه بعد ورود الدليل على رجوع الثمن إلى المشتري إذا تلف المبيع قبل القبض فلا بدّ من الالتزام بانفساخ العقد ورجوع المبيع إلى ملك البائع آنا ما ، فوقوع التلف كان في ملكه.

الثاني : الإجماع على هذا الحكم ، وقد ادّعاه صريحا في التذكرة ، وحكى أيضا عن جماعة (1). والظاهر عدم الخلاف واتّفاق الأصحاب على هذا الحكم.

ولكن قد ذكرنا مرارا من أنّ مثل هذا الاتّفاق والإجماع - الذي من المحتمل بل المظنون بالظنّ القوي أن يكون مدركه الروايات الواردة في هذا الباب ، أو الاعتماد على ما سنذكره من بناء العقلاء - ليس من الإجماع المصطلح في الأصول الذي بنينا على حجيّته.

الثالث : بناء العقلاء على انفساخ العقد لو وقع التلف قبل القبض ورجوع الثمن إلى المشتري ، وذلك من جهة أنّ العقلاء في باب العقود المعاوضيّة وإن كانوا ينشأون المبادلة بين المالين - بمعنى أنّهم في عالم الاعتبار يملكون أحد العوضين لصاحب العوض الآخر - ولكن بعنوان المعاوضية وكون العوض الآخر عوضا وبدلا ، وليس من قبيل الهبة تمليكا مجّانيا وبلا عوض وبلا بدل ، فما دام كلّ واحد من العوضين باق ويكون قابلا لأن يعطي للآخر بدل ماله الذي أخذ منه هذا العقد باق.

ص: 82


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 473.

وأمّا إن سقط عن قابليّة الإعطاء ، أو عن كونه بدلا فقهرا ينفسخ العقد ويرجع ما هو باق إلى صاحبه. والذي وقع عليه التلف وذهب من البين ، أو سقط ماليّته في عالم الاعتبار - فيما كان ماليّته بصرف الاعتبار كالأوراق الماليّة التي تسقط عن الاعتبار - يذهب من كيس صاحبه ، أي صاحبه قبل المعاوضة ، وهذا من لوازم انفساخ العقد.

ولكن يرد على هذا الدليل أنّه بناء عليه يكون الانفساخ في الرتبة المتأخّرة من التلف ، إذ التلف صار سببا للانفساخ ، ولازم ذلك أنّ التلف وقع في ملك من هو صاحبه بعد العقد ، لا من كان صاحبه قبل العقد ، وهو خلاف مفاد القاعدة ومضمونها ، كما سيأتي في بيان مفاد القاعدة ، أي في الجهة الثانية. وأيضا خلاف ما هو ظاهر الروايات وما هو المسلم بين الأصحاب ، لأنّ ما هو المسلّم بينهم في المفروض أنّ تلف المبيع يكون من مال صاحبه قبل العقد الذي هو البائع في المقام.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ أصل انفساخ العقد ورجوع ما هو من العوضين باق ولم يتلف إلى ملك من كان صاحبه قبل العقد يكون على القاعدة ، ومقتضى طبع المعاوضة وبناء العقلاء في أبواب المعاملات المعاوضيّة والمبادلات الماليّة ، ولكن كونه آنا ما قبل التلف ليكون التلف في ملك المالك قبل العقد حكم تعبّدي ، ودليله الإجماع أو الروايات.

فبناء على هذا هذه القاعدة لا تعبّدي محض ولا أنّها تكون مقتضى قواعد المعاوضات فقط ، بل تكون مركّبة من أمرين ، أي أصل الانفساخ فيما إذا وقع التلف على أحد العوضين ليس تعبّديّا بل هو مقتضى طبع المعاوضات والمبادلات المالية كما بيّنّا مفصّلا ، وأمّا كونه آنا ما قبل التلف فتعبّدي صرف.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ، وما هو المراد منها ، وشرح ألفاظها

فنقول : أمّا « المبيع » و « التلف » فمعناهما معلومان ، ولا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

ص: 83

وأمّا ما يقال من أنّ المبيع في القاعدة هل يشمل الثمن أم لا فليس من جهة الترديد في معنى لفظ المبيع ، لأنّه من الواضح ظهوره عرفا في المثمن ، بل وكذلك لغة وإنّما احتمال شموله له من ناحية وحدة المناط والملاك ، خصوصا بناء على ما قلنا في الدليل الثالث على هذه القاعدة من بناء العقلاء في باب المعاوضات على أن يكون الأخذ والإعطاء الخارجين بعنوان العوضية حالهما فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قابلا للإعطاء إلى زمان حصول التقابض من الطرفين ، فلو تلف أحدهما سواء كان هو المثمن أو الثمن قبل أن يقبض فلا يمكن التقابض ، فقهرا يتفسخ المعاملة. ولا فرق في حصول الانفساخ من هذه الجهة بين أن يقع التلف قبل القبض على الثمن أو المثمن.

نعم لو كان هذا الحكم صرف تعبد من حيث دلالة النبوي عليه فلا مجال للترديد ، لأنّ لفظ المبيع لا يشمل الثمن قطعا.

وأمّا ما يقال من أنّ التلف هل يشمل ما يجب إتلافه شرعا ، كمورد القصاص في العبد الجاني ، أو مورد ارتداده الفطري حيث انّه محكوم شرعا بالإتلاف والقتل ، ولا تقبل توبته من هذه الجهة وإن كان الأصحّ قبول توبته من غير الجهات الثلاث أي القتل وتقسيم أمواله بين ورثته وإبانة زوجته عنه ، أو مورد صيرورته مقعدا. والحاصل أنّ كلّ مورد يكون شرعا محكوما بالتلف أو بوجوب الإتلاف مع بقاء العين تكوينا ووجدانا فليس هذا أيضا ترديدا في معنى التلف ، لأنّ التلف عبارة عن انعدام الشي ء تكوينا إن كان من التكوينيّات بل مرادهم أنّ هذه الأمور مشمولة للتلف حكما لا موضوعا أم لا؟

وبعبارة أخرى : مناط التلف وهو عدم إمكان التقابض الذي قلنا إنّه من مقتضيات ذوات عقود المعاوضيّة فيها موجود وإلاّ فإنّ الشي ء الموجود بعينه كيف يمكن أن يطلق التلف عليه حقيقة.

نعم لا مانع من إطلاق التلف عليه مجازا وبالعناية باعتبار سلب الآثار ونفيها عنه

ص: 84

أو نفي الأثر المطلوب.

وأمّا لفظ « القبض » الوارد في هذه القاعدة فهو بالمعنى الذي يذكره الفقهاء في باب البيع ، أي استيلاء البائع على الثمن مثلا ووقوعه تحت يده بحيث لو أتى من يدّعيه يكون هو المدّعي ويكون القابض هو المنكر ، لأنّه يكون هو ذا اليد.

وأمّا كلمة « من مال بائعه » المذكورة في هذه القاعدة ففيها احتمالان :

الأوّل : أن يكون المراد منه أنّ التلف وقع في مال البائع ، وذلك بأن يكون مرجع ضمير « هو » هو التلف المعلوم من كلمة تلف المذكورة في هذه القاعدة بصورة الفعل الماضي. ولا شكّ في أنّ ظاهر هذا الكلام بناء على هذا أنّ التلف من مال البائع لا من المشتري ، فلا بدّ من القول بانفساخ المعاملة قبل التلف آنا ما حتى يمكن أن يكون التلف من مال البائع ، وإلاّ فكيف يمكن أن يكون التلف الواقع في ملك المشتري من مال البائع.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ المراد من كون التلف من مال البائع مع وقوعه في ملك المشتري هو أنّ خسارته وضمانه الواقعي عليه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا خلاف ما هو ظاهر الكلام جدّا ، نعم لو كان بدل كلمة « من مال » لفظة « على بائعه » كان لهذا الاحتمال وجه.

وقد ظهر ممّا ذكرنا بطلان الاحتمال الثاني ، وهو أن يكون المراد من هذه الكلمة أي كلمة « من مال بائعه » أنّ خسارة التالف وغرامته على البائع ، لا أنّ أصل وقوعه في ملك البائع حتّى يكون ملازما مع انفساخ العقد آنا ما قبل التلف وقوع التلف في ملك البائع ، إلاّ أن يقال بعدم حصول الملكيّة لكلّ واحد من المتبايعين قبل وقوع القبض من الطرفين ، كما أنّه نسب ذلك إلى شيخ الطائفة قدس سره .

ولكن أنت خبير بعدم صحّة هذا الكلام ، لما هو المذكور في محلّه ، واتّفاق الكلّ على خلافه.

ص: 85

فإذا ظهر لك ما ذكرنا من المراد من ألفاظ هذه القاعدة فتقول : إنّ معنى هذه الجملة ومفاد هذه القاعدة في كمال الوضوح ، وهو عبارة عن أنّ كلّ مبيع من أيّ سنخ من الأموال ، إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا أو جمادا لو وقع عليه التلف قبل أن يقبضه المشتري يوجب انفساخ البيع آنا ما قبل التلف ، فيكون من مال بائعه ، فيرجع الثمن إلى المشتري.

وأمّا بناء على ذلك الاحتمال الآخر الذي قلنا إنّه خلاف الظاهر وخلاف فتوى المشهور بل خلاف الإجماع فيكون مفاد القاعدة أنّ كلّ مبيع تلف قبل قبضه أي قبل استيلاء المشتري عليه يكون خسارته وضمانه على البائع ، فيكون البائع يعطي مثله للمشتري إن كان مثليّا ومثله موجودا ، ويعطي قيمته له إن كان قيميّا أو كان مثليّا ولكن مثله ليس بموجود أو تحصيله متعذّر أو متعسّر وإن كان موجودا.

ثمَّ إنّه تختلف النتيجة في سعة انطباق القاعدة وفي ضيقه بحسب اختلاف المدرك.

فلو كان المدرك هو الروايات فالظاهر المستفاد منها هو الذي تقدّم من انفساخ البيع لو تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري ، ورجوع الثمن إلى ملك المشتري.

وأمّا شموله للثمن - أي لو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع فيكون موجبا لانفساخ العقد - في غاية الإشكال ، لأنّ لفظ المبيع لا يشمل الثمن لا بحسب الوضع اللغوي ولا بحسب المتفاهم العرفي ، ولا لفظ البائع يشمل المشتري.

وأمّا شموله لما لو كان التالف بعض المبيع فسنتكلّم فيه في الجهة الثالثة إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع فأيضا يكون الحكم مثل ما إذا كان المدرك الروايات ، إذا كان معقد الإجماع هو مفاد هذه القاعدة كما هو كذلك. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّه أوسع بناء على انعقاده في الثمن أيضا مثل المبيع.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء في باب المعاوضات على أنّ إنشاء المبادلة

ص: 86

والمعاوضة بين العوضين مبني على الأخذ والإعطاء خارجا ، بحيث يكون هذا المعنى أي التعاطي والتقابض من الطرفين من مقوّمات المعاملة والعقود المعاوضية وداخلا في حقيقتها. ومن هذه الجهة لو تلف أحد العوضين قبل أن يقبضه الذي صار صاحبه بعدم وقوع المعاوضة فينفسخ المعاوضة قهرا لعدم إمكان تحقّق مثل هذا المعنى بعد تلف أحدهما.

وبناء على هذا لا اختصاص لهذه القاعدة بالبيع ، بل تجري في جميع العقود المعاوضيّة وفي تلف كلّ واحد من العوضين إذا كانت المعاوضة والمعاملة واقعة على الشخصيين ، لأنّه لا معنى لتلف الكلّيين. نعم لو كان أحد العوضين كليا والآخر شخصيا فالقاعدة تجري في تلك المعاملة لإمكان وقوع التلف على ذلك العوض الشخصي.

الجهة الثالثة : في موارد انطباق هذه القاعدة

اشارة

وعرفت في الجهة الثانية أنّها تختلف سعة وضيقا باعتبار اختلاف مدركها ، فنقول : أمّا جريانها فيما إذا وقع التلف على تمام المبيع الشخصي قبل أن يقبضه المشتري ، أو قبل ما كان في حكم القبض وهو كما إذا أتلفه المشتري مثلا فهو القدر المسلم على جميع الاحتمالات ، أي سواء كان مدركها الروايات أو الإجماع أو مقتضى القواعد الأولية.

وأمّا إذا وقع التلف على بعض المبيع ، فهل تشمله هذه القاعدة وينفسخ البيع ويرجع تمام الثمن إلى المشتري ، أو لا ينفسخ أصلا ، أو يفصّل بين ما إذا كان المبيع يقسّط عليه الثمن باعتبار الأجزاء وليس لهيئة الاجتماع أثر في مقدار السعر ، كما إذا باع شاتين بعقد واحد ، أو منين من طعام متّحد الجنس من حيث نوع الطعام ومن حيث الجودة والرداءة ، فإذا تلف أحد الغنمين أو أحد المنّين من الحنطة أو الأرز مثلا

ص: 87

فينفسخ العقد بالنسبة إلى ذلك المقدار ويرجع ثمن ذلك المقدار إلى البائع ، وبين ما إذا كان لهيئة الاجتماع أثر في ازدياد السعر أو في أصل السعر ، كزوج حذاء تلف أحد فرديه احتمالات.

والأقوى هو الأخير ، سواء كان المدرك هو الروايات أو الاجتماع أو ما ذكرنا من بناء العقلاء ، وذلك من جهة أنّه كما يصدق المبيع على الكلّ كذلك يصدق على جميع الأجزاء ، ولذلك يقولون بصحّة البيع بالنسبة إلى الجزء الذي مملوك إذا كان المبيع مركّبا ممّا يملكه وممّا لا يملك ، أو كان مركبا ممّا يملك وممّا لا يملك ، لأنّه لا معنى لكون الشي ء مبيعا إلاّ تمليكه للغير بعوض مال ، ولا شكّ في أنّ البائع ملك كلّ جزء من أجزاء المثمن في الصورتين المتقدّمتين بمقدار من ذلك الثمن والعوض المذكور المسمى في العقد ، فيصدق عليه أنّه مبيع ، نعم لا يصدق عليه أنّه مبيع مستقلّ ، بل هو مبيع في ضمن كون الكلّ مبيعا ولكن نفي المقيد لا يستلزم منه نفي المطلق.

هذا بناء على أن يكون مدرك هذه القاعدة هو النبوي المشهور أو الرواية فواضح ، لما ذكرنا من صدق المبيع على ذلك الجزء التالف ، نعم ينفسخ العقد بالنسبة إلى ذلك الجزء التالف فقط لا بالنسبة إلى الجميع.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع ، فإن كان معقد الإجماع ما هو الموضوع في القاعدة أي « كلّ مبيع تلف » فالأمر أيضا كما ذكرنا. وأمّا لو كان معقده مهملا لا إطلاق فيه فلا بدّ وأن يؤخذ بالقدر المتيقّن ، وهو تلف تمام المبيع قبل القبض لا بعضه ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى الإجماع على الجزء أيضا.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء فشموله للجزء أوضح ، لأنّ بناء العقلاء في المعاملات المعاوضيّة كما بيّنّا هو إنشاء المبادلة بين المالين لأجل الأخذ والإعطاء والتقابض الخارجي ، فإذا خرج أحد العوضين أو كلاهما عن قابليّة القبض والإقباض ، والأخذ والإعطاء ولو كان بواسطة تلف بعض أحدهما فقهرا ينفسخ

ص: 88

المعاملة. ويمكن أن يقال باختصاص الانفساخ بالنسبة إلى ذلك المقدار التالف من العوضين أو أحدهما.

هذا فيما إذا كان وقوع التلف على المبيع كلا أو بعضا.

وأمّا لو وقع التلف على الثمن ، فان كان مدركها النبوي المشهور فلا تشمل الثمن ، لظهور المبيع فيما هو مقابل الثمن ، وما هو حجّة في باب الألفاظ والجمل الصادرة عن الشارع في مقام بيان الأحكام ليس إلاّ ظهورات تلك الألفاظ والجمل التي هي كاشفات عن مرادات المتكلم ، إذ طريقته في مقام بيان الأحكام ليس إلاّ طريقة أهل المحاورة ، ولا بدّ لشمول هذا الحكم للثمن من التماس دليل آخر من نقل أو إجماع أو بناء العقلاء ، وسنتكلّم فيها.

وأمّا إن كان مدركها رواية عقبة بن خالد ، فصدر الرواية وإن كان ظاهرا في خصوص المبيع ولا يشمل الثمن - لأنه علیه السلام في مقام سرقة المتاع الذي هو المبيع يحكم بأنّ التلف من مال صاحبه الذي هو في بينه أي البائع ، فلا ربط له بتلف الثمن قبل أن يقبضه البائع - ولكن ذيلها ، أي قوله علیه السلام : « فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يردّ إليه ».

ولا شكّ في أنّ ظاهر هذا الكلام أنّ البائع بعد ما أخرج المبيع من بيته ، أي أقبضه وسلّمه إلى المبتاع أي المشتري فيكون المبتاع أي المشتري ضامن لحقّه أي البائع ، لأنّ المفروض أنّه أي المبتاع قبض المبيع فيكون ضامنا بالضمان المعاوضي لا الواقعي ، لأنّه قبض المبيع بضمان المعاوضي ، المسمّى بضمان المسمّى أي الثمن ، فلا يمكن له أداء حق البائع أي عوض المبيع الذي هو عبارة عن الثمن ، فلا يمكن له إتمام المعاوضة والعمل بها فقهرا يرجع المبيع إلى البائع إن كان موجودا. وهذا معنى انفساخ العقد.

هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سرّه في هذا المقام ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ ما أفاده بأنّ معنى جملة « فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يردّ ماله إليه » وإن كان كما ذكره وبيّنّاه ، أي مفاد

ص: 89

هذه الجملة والمتفاهم العرفي منها هو أنّ المشتري بعد قبض المبيع ضامن للبائع بما هو المسمى في عقد المعاوضة ، أي الثمن المعين في ذلك العقد ، ولكن بعد ما وقع التلف على ذلك الثمن لا ملزم لرجوع المبيع إلى البائع وانفساخ العقد ، بل من الممكن أن يقال : ذهب الثمن من كيس البائع بلا عوض ، لأنّ يد المشتري يد أمانة بعد قبض المبيع ، ولا إتلاف في البين حتّى يكون موجبا للضمان أو ينتقل ضمان المسمّى إلى الضمان الواقعي ، أي المثل إن كان مثليا ، أو القيمة إن كان قيميا إن كانت يده يد ضمان. اللّهمّ إلاّ أن يدلّ دليل آخر على انفساخ العقد وسنذكره إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا إن كان مدركها الإجماع فلا بدّ وأن ينظر إلى معقد الإجماع وأنّه هل في خصوص تلف المبيع قبل قبضه قالوا بالانفساخ ، أو لا فرق في قولهم بالانفساخ بين تلف المبيع قبل قبضه أو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع؟

والظاهر عدم الفرق في هذا الحكم بين المبيع والثمن ، والشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه استظهر نفي الخلاف من عبارات الأصحاب في هذا المقام بالنسبة إلى الثمن أيضا (1).

وأمّا لو كان مدركها بناء العقلاء بالبيان المتقدّم فلا فرق بين المبيع والثمن أصلا لوجود ما هو مناط الانفساخ في تلف الثمن أيضا إذا كان الثمن شخصيا لأنّ المبيع والثمن الكليين لا معنى لوقوع التلف عليهما ، نعم في المبيع الكلّي أو الثمن الكلّى يمكن أن يكون فردا منحصرا به الكلّي بحيث لا يكون مصداقا آخر للكلّي غيره وتلف ذلك المصداق. ولكن هذا أيضا ليس من تلف المبيع أو الثمن ، بل يكون من قبيل عدم وجود المصداق لذلك الكلّي الذي هو الثمن أو المثمن.

وعلى كلّ حال عرفت أنّ مناط الانفساخ بناء على هذا الوجه عدم إمكان التقابض والتعاطي الذي هو من مقتضيات ذات العقد ، بل لا يتحقّق حقيقة المعاملات المعاوضيّة إلاّ به كما بيّنّا مفصّلا. وفي تحقّق هذا المعنى أي إمكان التقابض والأخذ

ص: 90


1- « المكاسب » ص 314.

والإعطاء لا فرق بين تلف المبيع ، وبين تلف الثمن ، بل وبين تلف بعضه.

ثمَّ إنّه هل تختصّ هذه القاعدة بالبيع ، أو تشمل سائر العقود المعاوضية؟ فيه تفصيل : وهو أنّه لو كان مدركها الحديث الشريف أي النبوي المشهور ، أو رواية عقبة بن خالد فالظاهر اختصاصها بالبيع ، وعدم شمولها لسائر المعاملات المعاوضيّة ، لأنّ موضوع الحكم فيها عنوان المبيع ، وهو عنوان مختصّ بالمثمن في خصوص البيع ، ولا يشمل العوض ولا المعوّض في سائر العقود والمعاملات ، وحينئذ التعدّي إلى سائر المعاملات المعاوضيّة يحتاج إلى دليل أو تنقيح مناط ، وإذ ليس في البين شي ء منها فالقول بشمولها لها في غاية الإشكال.

وأمّا لو كان مدركها الإجماع ، فقد حكى الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه عن التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجه يظهر كونه من المسلمات (1) ، ولكن إثبات عموم الحكم لجميع المعاوضات بالإجماع المصطلح الأصولي في غاية الإشكال ، لعدم تحقّقه أوّلا بادّعاء البعض ، خصوصا إذا كان بالاستظهار من كلام ذلك البعض من دون تصريحه بذلك ، وعدم حجيّة مثل هذا الإجماع ثانيا على فرض تحققه ، لما ذكرنا مرارا من أنّ حجّية الإجماع من باب الحدس القطعي برأيه علیه السلام من اتّفاق الكلّ وكشفه عنه ، وكون الاتّفاق مسبّبا عن تلقّيهم منه علیه السلام وذلك لا يكون إلاّ فيما إذا لا يكون معتمد ومدرك آخر في البين يمكن أن يكون اتّفاقهم مستندا إليه من بناء العقلاء على التفصيل الذي ذكرنا ، والنبوي المشهور (2) ، ورواية عقبة بن خالد (3).

والإنصاف أنّ الإجماع على شمول الحكم لجميع المعاملات المعاوضيّة كالإجارة ، والصلح بعوض ، والدين بل الهبة المعوّضة ممنوع صغرى وكبرى ، كما بيّنّا.

وأمّا لو كان مدركها ما ذكرنا من بناء العقلاء والعرف والعادة على أنّ إنشاء العقود

ص: 91


1- « المكاسب » ص 314.
2- سبق تخريجه في ص 79 ، رقم (1).
3- سبق تخريجه في ص 80 ، رقم (1).

المعاوضية والمبادلة في عالم الاعتبار والتشريع مبني على الأخذ والإعطاء الخارجي ، بحيث لو لم يكن قابلا للأخذ والإعطاء الخارجي يكون المبادلة في عالم الاعتبار والتشريع لغوا وعملا غير عقلائي ، فقابليّة الأخذ والإعطاء الخارجي للعوضين مأخوذة في حقيقة العقد حدوثا وبقاء ، أي حدوثها في حدوث العقد وبقاؤها في بقائه ، فإذا سقط عن هذه القابليّة بعد العقد وقبل القبض فقهرا ينفسخ العقد.

وأنت خبير بأنّ مثل هذا المعنى ليس مختصا بالبيع ، بل يجري في جميع المعاوضات. ولعلّ من هذه الجهة جعل التلف قبل القبض في التذكرة في باب الإجارة موجبا لانفساخ العقد وقال إنّه من المسلّمات (1).

هذا كلّه فيما إذا وقع التلف على أحد العوضين كلاّ أو بعضا.

وأمّا لو وقع التلف على صفة أحدهما قبل قبضه ، سواء كانت - تلك الصفة - فقدانها موجبا لحدوث عيب في ذلك العوض أو لا ، بل كانت القاعدة صفة كمال بحيث لا يقال لفاقد تلك الصفة أنه معيب. وعلى كلّ حال هل تجري القاعدة في هذه الصورة أم لا؟

أقول : أمّا جريان القاعدة بناء على أن يكون مدركها الروايات أو الإجماع فلا وجه له أصلا ، لأنّه لا يصدق على فوات الوصف - بكلا قسميه ، أي سواء كانت الصفة صفة كمال فقط وإن لم يكن فقدانها موجبا لحدوث عيب في المبيع ، أو كان كذلك - أنّه تلف المبيع الذي جعل موضوع الحكم في الروايات أو انعقد عليه الإجماع.

وأمّا بناء على أن يكون مدركها بناء العقلاء بالبيان المتقدّم فأيضا لا وجه لجريانها ، إذ المناط في جريانها بناء على ذلك المدرك عدم إمكان التقابض الخارجي بالنسبة إلى العوضين بما هما عوضان ، لأنّ فوات الوصف لا يخرج الموصوف عن كونه عوضا. ولا يقاس بتلف الجزء ، أي بعض أحد العوضين ، لأنّ الجزء التالف

ص: 92


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ص 322.

عوض وبدل عن مقدار من العوض الآخر ، فلا يمكن التقابض والأخذ والإعطاء بالنسبة إلى ذلك الجزء التالف ومقابله من العوض الآخر ، بخلاف الوصف فإنّه لا يقابل بحصّة من العوض الآخر وإن كان ربما يوجب زيادة قيمة الموصوف به.

نعم يبقى فرع آخر وهو أنّ العيب الحادث قبل القبض هل هو مثل الحادث بعد القبض حتّى لا يكون فيه الخيار ولا الأرش ، أو مثل الحادث قبل العقد حتّى يأتيان أي الخيار أو الأرش؟

والحقّ فيه هو ثبوت الخيار دون الأرش ، وذلك لأنّ الأرش حكم تعبّدي على خلاف مقتضى القواعد ، إذ مقتضى القواعد - حتى فيما إذا كان العيب قبل العقد - هو كون من انتقل إليه المعيب مخيّرا بين إبرام المعاملة أو حلّها ، لأجل أنّ التزامه بهذه المبادلة والمعاوضة كان فيما إذا لم يكن ما انتقل إليه فاقدا لوصف الصحّة فلا التزام له بهذا الموجود ، فهو مخيّر بين أن يقبل ما انتقل إليه بنفس العوض المسمّى في العقد وتمامه ، أو يفسخ.

وأمّا أخذ الأرش فهذا شي ء دلّت عليه الروايات ، وربما يقال في مورد عدم إمكان الردّ للتصرّف المانع منه كوطي الجارية المعيبة التي صارت حبلى وأمّ ولد.

والحاصل أنّ أخذ الأرش حكم تعبّدي في خصوص العيب الحادث قبل العقد وفي ملك صاحبه الأولي ، فيجب الوقوف في مورده ولا يجوز أسراؤه إلى العيب الحادث بعد العقد وإن كان قبل القبض ، إلاّ أن يدلّ دليل على الإسراء واشتراك العيب الحادث قبل العقد مع الحادث بعده إذا كان قبل القبض ، وإذا ليس فليس له أخذ الأرش ، بل له الخيار فقط.

هذا كلّه بناء على أن يكون هذا الحكم - أي تلف المبيع قبل القبض من مال البائع - من باب بناء العقلاء ، وإلاّ لو كان من باب الروايات أو الإجماع فقد عرفت عدم جريانه في تخلّف الوصف بكلام قسميه ، أي سواء كان الوصف الفاقد وصف كمال ، أو

ص: 93

كان وصف الصحّة ، فلا يوجب إلاّ الخيار.

ينبغي التنبيه على أمور

الأوّل : في أنّ النماء الحاصل للمبيع التالف ما بين العقد والتلف هل يرجع مثل المبيع التالف إلى ملك من انتقل عنه ، أو يبقى على ملك من انتقل إليه قبل التلف وبعد العقد؟

وكذلك يرجع العوض الذي للتالف نفسه إلى ملك من انتقل عنه لا نمائه بمعنى أن يتلف أحد العوضين يرجع نفس العوض الآخر إلى مالكه قبل العقد آنا ما لا نماؤه؟

والحقّ في هذا المقام بعد أن قلنا بحصول الملكيّة بنفس العقد وليس حصولها متوقّفا على القبض كما نسب إلى الشيخ قدس سرّه وقلنا إنّ التلف يوجب انحلال العقد آنا ما قبل التلف لا من أوّل الأمر كما هو الصحيح والمختار ، فلا يبقى وجه لرجوع النماء والمنفصل إلى المالك قبل العقد ، لأنّ النماء حصلت في ملك من انتقل إليه ، وليس سبب ناقل في البين حتّى نقول برجوعه ثانيا إليه.

الثاني : إنّ ضمان البائع بالنسبة إلى الثمن لو تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري هل يسقط بإسقاط المشتري؟ وكذلك ضمان المشتري للمبيع لو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع هل يسقط بإسقاط البائع أم لا؟ في كلتا الصورتين ، أي في صورة إسقاط المشتري ضمان البائع للمبيع ، وفي صورة إسقاط البائع ضمان المشتري للثمن.

الظاهر عدم الإسقاط في كلتا الصورتين ، وذلك من جهة أنّ انحلال العقد ورجوع العوض الموجود بعد تلف عوض الآخر إلى مالكه قبل العقد أمر قهري ، بناء على أن يكون مدرك القاعدة هو بناء العقلاء الذي تقدّم الكلام فيه ، وليس من فعل أحد المتعاقدين حتّى يكون من قبيل الخيار الذي هو حقّ حلّ العقد وإبرامه كي يكون قابلا للإسقاط كسائر الحقوق القابلة للإسقاط.

وبعبارة أخرى ليس انفساخ العقد آنا ما قبل التلف من آثار حقّ المشتري على

ص: 94

حلّ العقد في تلف المبيع قبل القبض ، ولا من آثار حقّ البائع في تلف الثمن قبله ، حيث أنّ بقاء العقد منوط عند العقلاء ببقاء قابليّة كلّ واحد من العوضين على الأخذ والإعطاء - كما ذكرنا مفصّلا - وفي أيّ وقت خرج عن هذه القابليّة ينحلّ العقد قهرا ، فلا معنى لأن يكون قابلا للإسقاط.

الثالث : أن لا يكون التلف المذكور في هذه القاعدة مسبّبا عن إتلاف شخص ، سواء كان هو مالك أحد العوضين أو أجنبيّ عن هذه المعاملة ، لأنه إن كان المتلف هو الذي انتقل إليه هذا التالف في هذه المعاملة فليس هذا من قبيل التلف قبل القبض ، لأنّ هذا الإتلاف من مالكه وهو بنفسه يكون قبضا ، نعم لو كان جاهلا بأنّه ماله وأوهمه آخر بأنّه هبة لك أو مباح عليك فأكله مثلا فيدخل في قاعدة الغرور ويرجع إلى من غرّه بضمانه الواقعي من المثل أو القيمة ، كلّ في محلّه. ولا ينافي ذلك تماميّة المعاملة وكون هذا الإتلاف قبضا.

وأمّا لو كان الإتلاف من قبل غير المالك بعد العقد ، سواء كان هو المالك قبل العقد أي الطرف الآخر للمعاملة أو كان من قبل ثالث أجنبي ، فبناء على المختار من كون مدرك القاعدة هو بناء العقلاء ينحلّ العقد لا محالة ، ويرجع عوضه إلى مالكه قبل العقد ، لعدم إمكان التقابض.

وأمّا بالنسبة إلى ضمان التالف فإن كان المتلف هو مالكه قبل العقد فلا ضمان في البين أصلا لأنّ الإنسان لا يضمن لإتلاف مال نفسه ، لأنّه بعد فرض انحلال العقد آنا ما قبل التلف يرجع التالف إلى ملكه ، فيكون إتلافه واقعا على ملكه ، فلا ضمان. وأمّا إن كان المتلف هو الأجنبي ، فيرجع المالك بعد الانحلال إلى ذلك المتلف الأجنبي بضمانه الواقعي ، من المثل أو القيمة كلّ في محلّه.

الرابع : لو كان شخص وكيلا عن البائع والمشتري ، أو وليا عليهما والثمن والمثمن كلاهما تحت يده ، أو كان هو البائع مثلا ولكن كان وليّا على المشتري ففي جميع هذه

ص: 95

الصور لو تلف أحد العوضين بمحض وقوع العقد يكون من التلف بعد القبض لا قبله ، لأنّ المفروض أنّ العوضين كلاهما في يده وأيضا المفروض أنّ يده يد الطرفين إذا كان وكيلا عنهما أو وليّا عليهما ، ويده يد الطرف الآخر إذا كان هو البائع وكان وليّا على المشتري أو بالعكس أي كان هو المشتري وكان وليّا على البائع فلا يحتاج إلى قبض جديد ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل.

نعم الشي ء الذي يمكن أن يقال هو أنّه هل يحتاج في حصول القبض إلى قصد جديد ونيّة جديدة بمعنى أنّ الثمن مثلا كان عنده وفي يده باعتبار أنّه ملك لهذا المولى عليه ، وبعد وقوع العقد ينوي أن يكون عنده وتحت يده باعتبار صيرورته ملكا لذلك المولى عليه الآخر ، وكذلك الأمر في باقي الصور؟ أم لا يحتاج إلى تجديد القصد والنيّة؟

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ في ما يده بالنسبة إلى نفسه قبض بلا إشكال ، بمعنى أنّه نفسه لو كان أحد طرفي المعاملة ، سواء كان الطرف الآخر موكّله أو المولى عليه له ، والمفروض أنّ المال المتعلّق بأيّ واحد منهما في يده ، فالقبض حاصل ولا يحتاج إلى قصد ونيّة جديدة ، وذلك لعدم اعتبار القصد والنية في صدق الأفعال ، ولم يؤخذ لا في مادّتها ولا في هيأتها ، فالذي خطى خطوات يصدق أنّه مشى سواء قصد المشي أو لم يقصد.

نعم لو كان وكيلا عن شخص في كونه طرفا في معاملة أو وليّا عليه فصدق القبض عن قبله بدون القصد مشكل ، من جهة أنّ استناد فعل صادر من شخص إلى شخص آخر إن لم يكن بتسبيبه وتحريكه فلا بدّ وأن يكون بقصد النيابة عنه ، وإلاّ فكيف يستند إلى شخص أجنبي آخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ صدور القبض عن الوكيل أو عن الولي فيما إذا كان البيع أو الشراء لهما يكفي ، من دون الاحتياج إلى استناد القبض إليهما.

وربما يشهد لذلك ما روى في الصحيح عن الصادق علیه السلام في رجل تصدّق على ولد

ص: 96

له قد أدركوا فقال علیه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » (1).

فمفاد هذه الرواية هو عدم الاحتياج إلى القبض إن كان الواهب وليّا على الموهب له ، وإطلاقه يشمل صورتي القصد وعدم القصد ، فيدلّ على أنّ قبضه يكفي مطلقا سواء قصد كونه عن طرف المولى عليه أم لا.

وعموم التعليل يوجب عدم الفرق بين الهبة وسائر أقسام التمليك فإنّ قوله علیه السلام : « لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » لا اختصاص بمورد التمليك بالهبة ، ويستفاد منه أنّ التصرّف في جميع أموره راجع إلى الولي أبا كان أو جدا.

الخامس : لو فرّط وكيل البائع في الإقباض بدون أيّ عذر فتلف المبيع فلا شكّ في انفساخ العقد ورجوع المبيع إلى البائع آنا ما قبل التلف ، بناء على ما هو المختار في مدرك هذه القاعدة ، لعدم إمكان التقابض بين العوضين بعد التلف بأيّ سبب كان التلف ، بل ولو كان بالإتلاف إذا لم يكن من قبل من انتقل إليه بالعقد ، لما ذكرنا من أنّ الإتلاف من قبله قبض ، فليس من التلف قبل القبض بل يكون من التلف بنفس القبض.

نعم يبقى الكلام في رجوع البائع إلى الوكيل المفرّط بناء على انحلال العقد ورجوع المبيع آنا ما قبل التلف إلى ملك البائع فوقع التلف في ملك البائع بتفريط من الوكيل فيكون ضامنا للبائع من جهة الإتلاف أو اليد؟ والصحيح هو الثاني ، لأنّه لم يتلف ولكن بسبب تأخيره وتفريطه في الإقباض صارت يده يد ضامن وخرج عن كونه يدا أمانيّة ، فالضمان - أي ضمان الوكيل للبائع - يكون ضمانا واقعيا أي بالمثل أو القيمة ، كل في مورده لا ضمان المسمّى. ولا وجه لاحتماله أصلا.

ص: 97


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 247 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 5585 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 577 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 390 ، باب من تصدّق على ولده الصغار ... ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 299 ، أبواب الوقف والصدقات ، باب 4 ، ح 5.

نعم فيما إذا كان قيمة المسمّى أزيد من الضمان الواقعي للتالف يمكن أن يقال بتضمين الوكيل المفرّط بالنسبة إلى تلك الزيادة ، وهذا الأمر ليس مختصّا بالموكّل المفرط بل يأتي في كلّ متلف أجنبي عن المعاملة فينحل العقد ، لأجل عدم إمكان التقابض الذي هو شرط بقاء العقد ، ويقع التلف في ملك من انتقل عنه التالف آنا ما قبل التالف ، ويرجع عوضه إلى الطرف الآخر. والمالك آنا ما قبل التلف يرجع إلى المتلف الأجنبي بالضمان الواقعي من المثل والقيمة.

ولو كان المسمّى له زيادة على الضمان الواقعي يمكن أن يقال بالرجوع إليه في تلك الزيادة لأجل تفويته تلك الزيادة على المالك.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو كان مال تحت يده ، سواء كانت يده يد أمانة أو يد عادية فاشتراه من مالكه لا يحتاج إلى قبض جديد ، ولا يكون تلفه بعد وقوع العقد وبمحض وجوده إلاّ التلف بعد القبض ، لما ذكرنا من أنّ القبض عبارة عن اليد والسيطرة الخارجيّة على شي ء ، وهذا المعنى حاصل قبل وقوع العقد على الفرض.

السادس : فيما إذا تعارض هذه القاعدة مع قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » كما إذا وقع التلف قبل قبض المشتري للمبيع ولكن كان في زمان خيار البائع دون المشتري ، فبمقتضى هذه القاعدة ينحلّ العقد ويكون تلف المبيع من مال البائع بأن يدخل في ملكه آنا ما قبل التلف ، فيقع التلف في ملكه ، وقهرا يرجع ثمن المسمّى إلى المشتري.

ومقتضى قاعدة « التلف في زمان الخيار من مال من لا خيار له » هو أن يكون التلف في ملك المشتري ولا يرجع الثمن إليه. ولا يمكن الجمع بين مفادهما في عالم الجعل والتشريع ، وهذا معنى التعارض بين الدليلين ، وحيث أنّ بينهما عموم من وجه فمقتضى القاعدة تساقطهما في مورد الاجتماع والرجوع إلى الأصول العملية إن لم تكن أمارة أخرى في البين.

ص: 98

وقد يقال بعدم كون النسبة بينهما عموم من وجه ، لأنّ قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » مورد تشريعه بعد القبض ، فالتلف إذا كان قبل القبض يكون من مال البائع وان كان في زمان خيار البائع ولم يكن للمشتري خيار.

ويستشهد لذلك بقوله علیه السلام في مورد خيار الشرط للمشتري دون البائع في صحيحة ابن سنان : « وإن كان بينهما شرط أيّاما معدودة فهلك في يد المشتري فهو مال البائع » (1). ففرّع علیه السلام ضمان البائع على الهلاك في يد المشتري الذي هو عبارة أخرى عن كون التلف بعد القبض.

وكذلك قول الراوي في رواية عبد الرحمن « فماتت عنده » أي بعد أن قبضها المشتري ، فجواب الإمام علیه السلام بأنّه « ليس على الذي اشترى ضمان حتّى يمضي بشرطه » (2) ظاهر في أنّه في نفس المورد أي بعد القبض ، وإذا كان هناك بين الأخبار الدالّة على هذه القاعدة مطلق فيقيّد بهذين الخبرين ، والنتيجة أنّ التلف إذا كان بعد القبض يكون من مال من لا خيار له فلا يقع تصادم ولا تعارض بين القاعدتين.

وذكروا وجوها أخر لتقديم قاعدة « التلف قبل القبض » على قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » تركنا ذكرها لئلاّ يطول المقام.

والأحسن بل التحقيق في هذا المقام أن يقال : بناء على ما هو التحقيق في مدرك هذه القاعدة ، أي قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » من أنّ انحلال العقد بتلف أحد العوضين أو كلاهما قهري لبناء المعاوضة على القبض والإقباض الخارجي ، فإذا خرج أحدهما أو كلاهما عن هذه القابلية تكون المعاوضة لغوا وغير عقلاني.

فمتى لم يكن العوضان قبل أن يحصل القبض والإقباض قابلين للأخذ والإعطاء ،

ص: 99


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 103 ، باب عقود البيع ، ح 20.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 171 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 104 ، باب عقود البيع ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 351 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 1.

العقلاء يرون مثل هذه المعاملة منحلّة وباطلة ، فالتلف قبل القبض - سواء أكان لكلا العوضين أو لأحدهما - موجب وعلّة لانحلال العقد قهرا ، ويترتّب الانحلال على التلف قبل القبض ترتّب المعلول على علّته.

ويكون في زمان التلف ، وإلاّ يلزم الانفكاك الباطل بالضرورة ، فلا يبقى موضوع لتلك القاعدة ، لأنّ موضوع تلك القاعدة ، أي قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » هو زمن الخيار المتوقّف على وجود العقد ، وإلاّ فلا معنى للخيار مع انحلال العقد وانعدامه ، والمفروض أنّ موضوع هذه القاعدة أي قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » الذي هو التلف قبل القبض معدم لموضوع تلك القاعدة ، فلا يبقى مجال للتعارض ، لأنّ التعارض فرع وجود الموضوع ثمَّ وجود حكمه كي يتعارضان ، ولذلك اتّفقوا على أنّه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم.

بل في المقام يمكن أن يقال بورود هذه القاعدة على تلك القاعدة ، لانحلال العقد بالتلف قبل القبض واقعا لا تعبّدا فقط. بل يمكن القول بالتخصّص ، لأنّ الانحلال ليس بتصرّف من قبل الشارع بالتعبّد به ، بل هو أمر تكويني.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

ص: 100

18 - قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفساده

اشارة

ص: 101

ص: 102

قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده (1)

ومن القواعد الفقهية المعروفة المشهورة قاعدة « كلّ ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها ومستندها

فنقول : وهو أمور ذكرها الفقهاء :

الأوّل : قاعدة الإقدام.

الثاني : قاعدة الاحترام.

الثالث : قاعدة اليد.

والرابع : الإجماع.

امّا الأوّل أي قاعدة الإقدام ، فالمراد بها أنّ كلا المتعاقدين أقدما على أن يكون مال

ص: 103


1- (*) « الحق المبين » ص 88 و 138. « عناوين الأصول » عنوان 63 ، « بلغة الفقيه » ج 1 ، ص 67 و 116 ، « مجموع قواعد فقه » ص 71 ، « قواعد فقه » ص 90 ، « القواعد » ص 209 ، « قواعد فقه » ص 191 ، « قواعد الفقهية » ص 98 ، « قواعد فقهية » ص 105 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 213 ، « قواعد الفقهية » ص 74 ، « مجله حقوقي » العام 2 ، ش 17 ، قاعدة كل عقد يضمن بصحيحه ، « فصل نامه حق » دفتر 11 و 12 ، العام 1366 ، قاعدة ما يضمن ، « بررسى فقهي حقوقي قاعدة ما يضمن » ماجستير ، مجيد فرخي مقدم ، مدرسة الشهيد مطهري العالية.

الآخر له بضمان لا مجّانا وبلا عوض ، ولذلك لو كانت المعاملة صحيحة كان كلّ واحد منهما ضامنا للمسمّى حسب إقدامه والتزامه ، فالبائع مثلا يكون ضامنا للمبيع المسمّى بمعنى أنه في عهدته ويجب عليه تفريغ ما في ذمّته بإعطاء المبيع المسمى في العقد للمشتري ، وكذلك الأمر في طرف المشتري.

واستشكل على هذا الوجه أوّلا بأنّ إقدام المتعاملين على أن يكون أخذ مال صاحبه وإن كان مبنيّا على أن يكون بعوض أي ما هو المسمّى في العقد من الطرفين ، ولكن كان هذا الإقدام والالتزام بالمسمّى - والمفروض عدم إمضاء الشارع ما التزما به وأقدما عليه - وهو أن يكون أخذ كلّ واحد منهما مال صاحبه بالعوض المسمّى ، فضمان كلّ واحد منهما لمال الآخر إذا تلف ولم يكن إتلاف في البين يحتاج إلى دليل آخر غير الإقدام ، لعدم إقدامهما على ضمان المثل والقيمة.

ثانيا : أنّه ما الدليل على أنّ إقدامه هذا ملزم له على ضمانه بالمثل أو القيمة ، فإنّ ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ليس في البين ، لأنّ المفروض فساد العقد وعدم إلزام من طرف الشارع على الوفاء بهذه المعاملة والعقد ، فلو فرضنا أنّه أقدم على أصل الضمان وعينه في المسمّى والشارع لم يمض لزوم إعطاء المسمّى مع التزامه هو بذلك وقلنا إنّ التزامه بأصل الضمان باق ، غاية الأمر لم يلزمه الشارع بإعطاء تلك الخصوصيّة وجوّز له عدم إعطائه لها لكن عليه العمل على طبق إقدامه فيما عدا تلك الخصوصية ، فيبقى السؤال - بعد التسليم على أنّ إقدامه على أصل الضمان غير الإقدام على الخصوصيّة ، وهناك إقدامان - عن أنّه ما هو الملزم لوجوب العمل على طبق هذا الإقدام.

وبعبارة أخرى : إنّ هذا التزام ابتدائي لا يجب العمل به تكليفا ، ولا يوجب اشتغال الذمّة والعهدة وضعا الذي يسمّى بالضمان.

وإن شئت قلت : إنّ الالتزامات التي تقع بين الناس بصورة المعاوضة والمبادلة إن

ص: 104


1- المائدة (5) : 1.

أمضاها الشارع وحكم بلزوم الوفاء بها فيجب الوفاء ، وإلاّ فهو مخيّر بين الوفاء بها وبين عدم الوفاء إن لم تكن المعاملة والوفاء بها محرّما ، وإلاّ فإن كان محرّما شرعا كبيع الخمر أو البيع الربوي فلا يجوز الوفاء به ، والمفروض في المقام فساد العقد والمعاملة وعدم إمضاء الشارع لها ، فلا قيمة لهذا الالتزام والإقدام.

ولكن يمكن أن يقال : إن العقلاء بناؤهم في أبواب معاملاتهم على أنّه إذا أخذ شيئا من الطرف بعنوان أن يعطي بدله وعوضه فإن تراضيا على عوض معين وسمياه - وهو الذي نسمّيه بالمسمّى - فإن تعذّر ذلك المسمّى فيرون المأخوذ مضمونا على الأخذ بالضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة. فلو تلف المأخوذ في يده يرونه ضامنا ، فإذا حكم الشارع بفساد معاملة وعدم لزوم أداء المسمّى لذلك الآخر فيرونه ضامنا بالضمان الواقعي ، ولم يصدر ردع عن هذا البناء ، فيكون ضمان المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف عند القابض على القاعدة ، ودليله بناء العقلاء مع عدم ردع الشارع الذي هو كاشف عن الإمضاء. فهذا يكون دليلا خامسا لهذه القاعدة.

وحاصل الكلام أنّ بناء العقلاء في معاملاتهم على أنّ الذي يأخذ ويقبض مال الغير بعنوان المعاوضة والمبادلة بإعطائه له ما يساويه - وإن كان الأخذ بهذا القصد في المعاملة غير الصحيحة عندهم لفقد ما هو مانع عندهم - لا يذهب ما أخذه هدرا ولا يكون مجّانا ، بل يرونه ضامنا لما أخذ ومشغولا ذمّته بما قبض. نعم حيث أنّ المعاملة الكذائية باطلة عندهم فلا يرون ذمّته مشغولة بالمسمّى.

وأما أصل اشتغال ذمّته وكون ضمان ما قبض على عهدته فشي ء مفروغ عنه ، ولعلّ نظر شيخ الطائفة (1) أبو جعفر الطوسي قدس سرّه في استدلاله للضمان في المقبوض بالعقد الفاسد وأمثاله من المتقدمين بأنّه أقدم على الأخذ والقبض بالضمان إلى ما قلناه ، وإلاّ فهذا الكلام بظاهره ظاهر الخلل.

ص: 105


1- انظر : « المبسوط » ج 3 ، ص 64.

وأمّا الثاني : أي قاعدة الاحترام ، وهي عبارة عن احترام مال المؤمن وأنّ حرمته كحرمة دمه.

فتقريب دلالتها في المقام هو أنّه بعد ما حكم الشارع بفساد هذه المعاملة وعدم دخول كلّ واحد من العوضين في ملك الآخر لخلل في نفس العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين فقبض كلّ واحد من المتعاملين لمال الآخر بدون اشتغال ذمّته بشي ء في قباله ، معناه أنه لا احترام لهذا المال ويذهب هدرا لو تلف بدون إتلاف من طرف القابض ، وهذا مناف مع جعل الشارع حرمته كحرمة دم مالكه ، فكونه محترما معناه أنّ القابض إذا لم يكن مالكا له لفساد المعاملة يكون ضامنا لدركه ، بمعنى أنّه لو تلف فعليه غرامته بالمثل أو القيمة ، لا أنّه يجب عليه الردّ فقط فصرف تكليف ولا ضمان في البين. هذا ما ذكروه.

ولكنّ الإنصاف أنّ صرف كون المال محترما لا يدلّ على أنّه بمحض القبض يكون ضامنا ويكون المال في عهدته ، بل قضيّة احترامه عدم جواز التصرّف فيه بدون إذنه ، وأنّه لو تصرّف فيه وأتلف أو نقص شي ء منه بسبب تصرّفه بدون إذن صاحبه فيكون ضامنا لذلك التلف أو ذلك النقص وعليه غرامته إلاّ أن تكون يده يد ضمان. وسنتكلّم عنها ونقول إنّها دليل مستقلّ ، بل هي العمدة في هذا الباب.

والحاصل : أنّ مفاد قاعدة الاحترام هو أنّ مال المؤمن محترم مثل دمه ، فكما أنّه لو جاء ضيف إليه فمات حتف أنفه عنده ليس على المضيف شي ء ، فكذلك لو قبض ماله لا بالقهر والغلبة - حتّى تكون يده عادية - لا شي ء عليه لو تلف بالتلف السماوي من دون ارتباط إلى القابض ، لا مباشرة ولا تسبيبا.

ولا منافاة بين عدم الضمان والاحترام ولذلك قال الشيخ الأعظم (1) وشيخنا

ص: 106


1- « المكاسب » ص 103.

الأستاذ (1) - 0 - أنّ الضمان في المقام مستند إلى اليد ، والمقصود من ذكر قاعدة الإقدام وكذلك الاحترام عدم ما يوجب تخصيص قاعدة اليد ، بمعنى أنّ اليد على مال الغير موجبة للضمان إلاّ في المال الذي لا احترام له كمال الكافر غير الذمّي ، وأيضا إلاّ فيما إذا أقدم على إعطائه مجّانا وبلا عوض. فقاعدة الاحترام لأجل عدم وجود المخصص وهو عدم احترام المال ، والإقدام كذلك أيضا لأنّ إقدامه على الإعطاء مجّانا وبلا عوض يوجب تخصيص قاعدة اليد بل تخصّصه.

وامّا الثالث : أي قاعدة اليد ، والمراد به النبوي المشهور ، أعني قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » (2).

وهذا الحديث الشريف من ناحية السند من جهة شهرته بين الفريقين غنيّ عن البحث والتكلّم فيه ، من جهة أنّ هذه الشهرة توجب الوثوق بصدوره منه صلی اللّه علیه و آله ، وقد تقرّر في الأصول أنّ موضوع الحجّية الخبر الموثوق الصدور.

وأمّا من ناحية الدلالة فنقول : الظاهر أنّ الظرف ظرف مستقر ، أي يكون عامله من أفعال العموم ك « مستقر » أو « ثابت » وأمثال ذلك ، لا أنّه ظرف لغو كي يكون عامله من أفعال الخصوص مثل « يجب » و « يلزم » وأمثالهما.

وذلك لجهات :

الأولى : من جهة أنّه لو كان متعلّقا بأحد أفعال الخصوص فلا بدّ من تقدير كلمة « الردّ » أو « الأداء » وأمثال ذلك ، لأنّ الموصول كناية عن المال المأخوذ. ويجب أن يلزم ويحتم على اليد المال المأخوذ لا معنى له ، لأنّ الوجوب واللزوم لا بدّ وأن يتعلّق بالأفعال لا بالذوات ، فلا بدّ وأن يقدّر كلمة « الردّ » وما يشبهه حتّى يكون معنى الحديث يجب أو يلزم على اليد - أي على المسيطر - ردّ المال الذي أخذه ، أو أداؤه ، أو

ص: 107


1- « منية الطالب » ج 1 ، ص 118.
2- « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 7 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 1 ، ح 15944.

إعطاءه وأمثال ذلك حتّى يستقيم المعنى ، ولا شكّ في أنّ التقدير خلاف الأصل.

الثانية : أنّه لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلّقا ب- « يجب » أو « يلزم » فيكون الحكم معنى في لسان دليله بإتيان متعلّقه وامتثاله ، وهذا ركيك إلى الغاية ، لأنّ المعنى بناء على هذا يصير هكذا : يجب ردّ ما أخذه المسيطر وأداؤه حتى يردّ ويؤدّي. ومثل هذا الكلام لا ينبغي أن ينسب إلى سوقيّ وهو من عامّة النّاس ، فضلا عمّن هو ربّ الفصاحة والبلاغة وأفصح من نطق بالعناد.

الثالثة : أنّ ظاهر الكلام أنّ نفس ما أخذته اليد عليها لا ردّها وأدائها ، ولا يمكن أخذ هذا الظاهر إلاّ بأن يكون العامل من أفعال العموم ، لأنّه حينئذ يصير المعنى أنّ ما أخذته اليد أي المال الذي وقع تحت سيطرة القابض يستقر ويثبت عليه ، وهذا عبارة أخرى عن أنّ القابض ضامن لما قبضه ، لأنّ الضمان في المقام عبارة عن كون المال المقبوض على عهدة القابض بوجوده الاعتباري ، لأنّ وجوده التكويني تحت اليد ويكون القابض مسيطرا عليه.

فالشارع اعتبر هذا المال الذي وقع تحت يد القابض وسيطرته على عهدته ، فالوجود التكويني لذلك المال تحت اليد ، والوجود الاعتباري فوق اليد عهدته مشغولة به ، ولا يرتفع عن العهدة إلاّ بأداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري ويحمل عليه بالحمل الشائع.

وهذا الذي ذكرناه من كون ذلك الوجود الاعتباري فوق اليد ومستقرّ وثابت في العهدة يستفاد من ظهور كلمة « على » في الاستعلاء.

ومن الواضح البيّن أنّ ما أخذته أي المال المقبوض حيث أنّه لا يمكن أن يكون بوجوده الخارجي في العهدة - لأنّ العهدة وعاء الموجودات في عالم الاعتبار ، بل هو نفس تلك الموجودات الاعتبارية ، كما أنّ الذهن عبارة عن نفس تلك الموجودات الذهنيّة ، لا أنّه هناك ظرف ومظروف متغايران - فلا بدّ وأن يكون في العهدة بذلك

ص: 108

الوجود الاعتباري.

وهذا الاعتبار سواء أكان من طرف الشارع أو من طرف العقلاء لا يزول ولا ينعدم إلاّ بأداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري بالحمل الشائع ، وهذا هو عين الضمان إذا العرف لا يفهم من الضمان إلاّ هذا المعنى.

ولا شكّ في أنّه ما دامت العين - أي نفس المال المقبوض الذي هو تحت اليد - موجودة فيكون المصداق الحقيقي لذلك الوجود الاعتباري هو نفس المال الخارجي ، إذ هو واجد للجهات الثلاث أي المقوّمات النوعيّة ، والصفات الصنفيّة ، والمشخصات الخارجيّة ، وذلك كما أنّ صورة الذهنيّة لذلك المال الشخصي مصداقها الحقيقي أوّلا وبالذات بدون عناية هو نفس ذلك المال الخارجي. وأمّا إذا تلف المال فمصداقه المثل مع وجوده وعدم تعذّره بل وعدم تعسّره ، لأنّ المثل واجد لجهات نوعيّته وصنفيّته ، وإن كان فاقدا لجهات شخصيّة المال.

نعم مع فقد المثل لا يمكن أداء التالف إلاّ من جهة ماليّته وهذه الجهات الثلاث مترتّبة وطولية في مقام تفريغ الذمة عما ثبتت واستقرّت على عهدته بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى المثل إلاّ بعد تعذّر الشخص ، ولا إلى القيمة والمالية إلاّ بعد تعذّر المثل. وهذا المعنى الذي ذكرنا للضمان هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء في باب الضمان.

وخلاصة الكلام أنّ الحديث الشريف يدلّ على أنّ مال الغير إذا وقع تحت يد شخص وسيطرته يكون مستقرّا وثابتا في عهدته حتّى يؤدّيه على بعض النسخ ، أو حتّى يؤدّي بدون الهاء في بعض النسخ الأخر.

وهذا الاختلاف في النسخ لا يؤثر في معنى الحديث وإن احتمل بعض أنّ كلمة « يؤديه » مع الهاء يؤيّد أنّ الظرف ظرف مستقرّ ، لا أنّه ظرف لغو حتّى يكون عامله من أفعال الخصوص مثل « يجب » و « يلزم » لأنّ هذه الكلمة مع الهاء معناه أنّه يؤدّي ذلك الذي أخذه ونفس ما وقع تحت اليد ، ووجوب ردّ نفس ما وقع تحت اليد بعد

ص: 109

التلف غير معقول ، بل المعنى المعقول منه هو أنّ ذلك المأخوذ على عهدته ولا يفرغ ذمّته إلاّ بأداء ذلك الأمر الاعتباري الذي على عهدته بالترتيب الذي ذكرنا.

ولكن أنت خبير بأنّه لا فرق من هذه الجهة بين أن يكون الظرف لغوا أو مستقرّا ، ومتعلّقه من أفعال العموم أو الخصوص ، إذ بناء على الأخير أيضا لا مانع من أن يكون المراد أنّه يجب ردّ نفس ذلك الشي ء الذي أخذ بأحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة.

كما أنّ ما احتمله بعض آخر - من أنّ مفاد الحديث بقرينة وجود هذا الضمير عبارة عن وجوب الردّ تكليفا ما دامت العين موجودة وقبل التلف ، إذ بعد التلف لا يمكن ردّه فلا ربط له بباب الضمان أصلا - لا وجه له لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث وظاهره المتفاهم عرفا هو كون المأخوذ وما هو تحت اليد والسيطرة على عهدته مستقرّا وثابتا إلى أن يفرغ ذمّته ويؤدّي ذلك الشي ء بأحد الوجوه الثلاثة المترتّبة الطوليّة المتقدّمة.

وامّا الرابع أي الإجماع ، فقد ادّعاه جمع من أساتذة الفقه وأساطين هذا الفنّ وأرسلوه إرسال المسلّمات ، ولكن مع ذلك كلّه ليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي بنينا على حجيته ، إذ الذي سلّمنا حجّيته كان عبارة عن اتّفاق الكلّ أو الجلّ مع عدم مستند في البين ، فحينئذ يكون مثل ذلك الاتّفاق كاشفا عن تلقّيهم الحكم عن الإمام المعصوم. وفيما نحن فيه على فرض تسليم الاتّفاق حيث أنّ بعضهم تمسّكوا بقاعدة الإقدام ، وبعض آخر بقاعدة الاحترام ، وجمع آخر بحديث على اليد فيسقط اتفاقهم عن الاعتبار ولا بدّ من المراجعة إلى نفس المدارك.

وقد حكى الشيخ الأعظم عن شيخ الطائفة وفقيه عصره في شرح القواعد وابن إدريس في السرائر - قدس أسرارهم - الإجماع على هذا الحكم (1). ولكن عرفت ما في التمسّك بالإجماع في هذا المقام.

ص: 110


1- « المكاسب » ص 101.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومعناها

فنقول : تارة يعبّر عن هذه القاعدة بما جعلناه عنوان هذه الكلية في أوّل هذه المسألة ، وهو « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » وأخرى يعبّر عنها ب- « كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ». ولا شكّ في أنّ الأوّل أشمل من الثاني لشموله الإيقاعات أيضا ، بخلاف الثاني فإنّه مخصوص بالعقود ، وذلك من جهة ظهور لفظة « ما » الموصولة في الأعمّ من العقد والإيقاع ، بخلاف لفظ « العقد » المذكور في الجملة الأخيرة فإنّه لا يمكن أن يكون أعمّ من نفسه ومن غيره.

فبناء على كون القاعدة الكليّة هو الأوّل فيشمل الجعالة والخلع أيضا ، وبناء على الثاني تكون مختصّة بالعقود ، أعمّ من أن يكون لازما أو جائزا.

وأمّا الضمان فقد ذكرنا أنّ المتفاهم العرفي منه أنّ الشي ء بماليّته يكون على العهدة ، وبيّنّا معنى كون الشي ء في العهدة وأنّه بوجوده الاعتباري هناك لا بوجوده الخارجي فإنّه غير معقول ، وهذا المعنى هو الجامع بين ضمان المسمّى والضمان الواقعي ، غاية الأمر في ضمان المسمّى يعيّنون ماليّة ذلك في مقدار معيّن من النقود أو في عين من الأعيان المتمولة وأمّا مع عدم تعيين ماليّة الشي ء في نقد أو جنس من الطرفين - أي الضامن والمضمون - فقهرا يكون الضمان عبارة عن اشتغال ذمّته بذلك الشي ء بواقع ماليّته ، على الترتيب الذي تقدّم من الجهات الثلاث. فليس الضمان في الضمان الواقعي مغايرا بحسب المفهوم والمعنى مع ضمان المسمّى ، بل كلاهما بمعنى واحد ، غاية الأمر في الضمان المسمّى برضائه الطرفين بل بالتزامهما تعيّن في شي ء ، فمع إمضاء العقلاء والشارع يجب عليهما العمل بما التزما.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه بناء على تماميّة هذه القاعدة واعتبارها فالضمان في الصحيح

ص: 111

والفاسد بمعنى واحد ، غاية الأمر في الصحيح حيث أنّ المتعاملين عيّنا ضمان كلّ واحد من العوضين في الآخر والتزما بذلك ، وأمضى الشارع هذه المعاوضة والالتزام من الطرفين فيجب على كلّ واحد منهما الوفاء بالتزامه.

وأمّا في الفاسد حيث أنّ الشارع لم يمض تلك المبادلة وذلك الالتزام الذي التزم به الطرفان فلا يجب الوفاء ، فلا يبقى محلّ ومجال لضمان المسمّى. فإن دلّت هذه القاعدة - كما هو مفادها - أنّ في الفاسد أيضا ضمان فلا بدّ وأن يكون هو الضمان الواقعي أي المثل أو القيمة بعد تعذّر المثل أو تعسّره ، فالضمان في الفاسد على تقدير ثبوته بعد تلف المقبوض بالعقد الفاسد بالمثل أو القيمة يكون على طبق القاعدة.

وخلاصة الكلام أنّ مفاد هذه القاعدة هو أنّ المقبوض بالعقد الفاسد أو بالإيقاع الفاسد بناء على التعميم لا يذهب هدرا ، بل مضمون على القابض بمعنى أنّ نفس المقبوض والمأخوذ بوجوده الاعتباري في عهدة القابض وفي ذمّته ولا يفرغ إلاّ بأدائه إلى صاحبه ، وأداؤه ما دام كان المال المأخوذ موجودا يكون بأداء نفس العين المأخوذة ، ومع تلفه فبالمثل إن كان مثليّا وبالقيمة إن كان قيميّا.

فما ذكره ابن إدريس من أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصّلين إلاّ في الإثم (1) لا يخلوا من وجه.

ومدرك هذا الحكم الكلّي هي قاعدة على اليد ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » وفي بعض النسخ « حتى تؤدّيه » وقد تقدّم في الجهة الأولى كيفيّة دلالة الحديث الشريف على الضمان ، نعم فيما إذا كان صاحب المال المقبوض أعطاه مجّانا بحيث لو كان هذا العقد الفاسد فعلا صحيحا لما كان على القابض شي ء ولم يكن ضامنا لا بالمسمّى ، لأنّه ليس مسمّى في البين على الفرض ، ولا بالضمان الواقعي ، لأنّه لا سبب للضمان إلاّ ما ربما يتخيّل من كونه هي اليد التي جعلها صلی اللّه علیه و آله في الحديث سببا

ص: 112


1- « السرائر » ج 2 ، ص 326 وص 488.

للضمان ، ولكن المورد - أي فيما إذا لم يكن الإعطاء بعنوان العوض والمبادلة ، بل كان تمليكا أو إباحة بلا عوض - خارج عن موضوع الحديث ، أي عن تحت قاعدة « وعلى اليد » تخصيصا أو تخصّصا ، بمعنى أنّه لو أخذنا بظاهر عموم على اليد ، وقلنا بأنّ لهذه الجملة إطلاق شمولي يشمل كلّ يد ، سواء كانت مأذونة من قبل المالك أو من قبل اللّه أو كانت غير مأذونة فالمورد خارج تخصيصا ، لأنّه لا شكّ في خروج اليد المأذونة عن هذا العموم ، وعدم شمول هذا الحكم أي الضمان لها.

وأمّا لو قلنا بأنّ المراد من « اليد » التي جعلت في الحديث الشريف موضوعا للضمان خصوص اليد العادية أو غير المأذونة فخارج بالتخصّص وهو واضح.

ومن هنا يستخرج كليّة أخرى عكس الكلّية الأولى ، وهي « كلّ ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده » ، وذلك من جهة أنّ العقد الذي لا يضمن بصحيحه - كالهبة غير المعوّضة ، والعارية غير المضمونة في غير الدرهم والدينار وأمثال المذكورات ممّا لا ضمان في صحيحها - لا بدّ وأن يكون بناء المتعاقدين على الأخذ والإعطاء مجّانا وبلا عوض ، فأمّا قاعدة على اليد فلا تشملها ، لما ذكرنا من خروج المذكورات عن عمومها تخصيصا أو تخصّصا. ولا إتلاف في البين ، لأنّ المفروض هو تلف المقبوض لا إتلافه ، فليس موجب ضمان في البين ، أمّا الضمان الواقعي فقد عرفت أنّه لا إتلاف على الفرض ولا تشمله عموم على اليد ، وأمّا ضمان المسمّى فعدمه من جهة عدم المسمّى إذ المفروض أنّه لو كان صحيحا فلا ضمان فكيف يعقل أن يكون في فاسده ضمان المسمّى ، مع أنّه بلا مسمّى.

فتلخّص أنّ مدرك الضمان هي قاعدة على اليد وهي جارية في الكلّية الأولى ، أي ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، لذلك نقول بالضمان. وأمّا في الكلّية الثانية فلا تجري ، ولذلك نقول بعدم الضمان فيما لا يضمن بصحيحه ، فظهر صحّة كلتا الكلّيتين أصلا وعكسا.

ص: 113

وأمّا البحث في أنّ الباء في هذه الكلّية هل للسببيّة أو الظرفيّة لا أثر له بعد وضوح المراد ، وقد بيّنّا المراد ومفاد الكلّيتين. ولا شكّ في استعمال الباء في كلا المعنيين في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الذين يستشهد بكلامهم على صحّة الاستعمال ، ولا ظهور في خصوص أحد المعنيين إلاّ بالقرينة ، وفي المقام يصحّ بكلا المعنيين.

أمّا الظرفية فواضح ، لأنّه بناء عليها يكون المعنى كلّ عقد أو إيقاع يكون في صحيحه ضمان ففي فاسده أيضا كذلك. وفي الكلّية السلبيّة أيضا كذلك ، أي يكون مفادها : كلّ ما ليس في صحيحة ضمان ففي فاسده أيضا ليس ضمان.

وأمّا السببيّة فليس المراد السبب التامّ ، أي العلّة التامّة بحيث يكون المؤثّر في الضمان هو العقد فقط ، ولا يكون لشي ء آخر دخل فيه أصلا ، لأنّ مثل هذا المعنى لا يمكن الالتزام به حتّى في الصحيح فضلا عن الفاسد ، إذ لا شكّ في مدخليّة القبض فيه أيضا في الضمان لما تقرّر في محلّه من أنّ تلف المبيع بل الثمن أيضا قبل القبض من مال صاحبه الذي كان له قبل وقوع المعاملة ، فالعقد في الصحيح أيضا ليس تمام الموضوع لضمان كلّ واحد من المتعاملين لمال صاحبه ، بل الموضوع هو العقد مع القبض ، وفي الفاسد أيضا العقد باعتبار كونه مصداقا للإقدام مع القبض باعتبار كونه مصداقا لليد.

وأمّا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سرّه في هذا المقام من أنّ شرطيّة القبض لكون العقد سببا للضمان (1) لا ينافي استناد الضمان إلى العقد ، إن كان مراده أنّ شرطيّة القبض لا ينافي كون العقد تمام الموضوع وسببا تامّا للضمان فلا يخلو من غرابة. وإن كان مراده أنّها لا ينافي اقتضاء العقد للضمان ومدخليّته فيه فهذا شي ء واضح ، ليس قابلا للإنكار.

ولكن الطرف يدّعى أنّ العقد الفاسد أيضا له تأثير ومدخلية في الضمان باعتبار كونه مصداقا للإقدام كما بيّنّا وتقدّم.

ثمَّ إنّ العموم في هذه الكليّة أصلا وعكسا - سواء كان الأصل كلّ عقد يضمن أو

ص: 114


1- « منية الطالب » ج 1 ، ص 120.

كلّ ما يضمن - هل هو باعتبار الأنواع ، أو الأصناف ، أو الأشخاص؟

الظاهر هو الأخير.

والإشكال عليه - بأنّ الشخص لا يمكن أن يكون مقسما للصحيح والفاسد ، بل إذا كان صحيحا فهو صحيح دائما وإلى الأبد ، ولا يتغيّر عمّا هو عليه وإلاّ يصير شخصا آخر ، وكذلك في العكس أي إذا كان فاسد فهو لا يتغيّر عمّا هو عليه - لا يرد ، لأنّه ليس المراد أنّ هذا الشخص الخارجي الذي صحيح وفاسد ، صحيحه كذا وفاسده كذا ، بل المراد أنّ كلّ عقد أو إيقاع كان بحيث أنّه على تقدير أن يكون صحيحا فيكون فيه الضمان فهو على تقدير فساده أيضا يكون فيه الضمان أي بعد القبض ، وكلّ عقد أو إيقاع على تقدير صحّته لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على أن يكون مجّانا وبلا عوض فهو على تقدير فساده أيضا لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على أن يكون بلا عوض ومجّانا فيكون بواسطة هذا الإقدام خارجا عن تحت عموم على اليد تخصيصا أو تخصصا. وهذا الحكم عامّ يشمل جميع أشخاص طبيعة العقد أو الإيقاع.

إن قلت : إنّ ظاهر الكلّيّة هو أنّ كلّ شخص من أشخاص العقد بناء على أن يكون العموم بلحاظ الأشخاص والأفراد لا الأنواع والأصناف فعلا يكون مقسما للقسمين ، أي كلّ واحد منهما فعلا واجد للصحّة والفساد. وهذا محال لاجتماع الضدّين أو النقيضين ، وكيف يكون عقد شخصي واحد متّصفا بالصحّة والفساد معا.

قلنا : ليست هذه الجملة بهذه الصورة وهذه الألفاظ واردة في آية أو رواية معتبرة حتّى تقول يجب الأخذ بظاهرها وظاهرها كذا وكذا بل لا بدّ من الأخذ بها بمقدار ما يدلّ عليه مدركها. ولا شكّ في أنّ مدركها بناء على ما تقدّم أنّه قاعدة على اليد بضميمة عدم الإقدام مجّانا كي يكون من باب تخصيص القاعدة أو تخصصها به ، بل دخل في المعاملة وأقدم على الإعطاء بعنوان المبادلة والمعاوضة لا مجّانا ، فكلّ مورد انطبق عليه أحد هذين الضابطين يحكم بحكمه ، بمعنى أنّ كل عقد لا يكون بعنوان

ص: 115

المبادلة والمعاوضة بحيث لو كان صحيحا واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة فيه شرعا وعرفا ولا يكون فيه مانع من الموانع ، فمع ذلك لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على إعطاء ماله مجّانا وبلا عوض فلا تؤثّر اليد في الضمان ، فيكون فاسده أيضا كذلك. وكلّ مورد يكون صحيحه موجبا للضمان لعدم إقدامه مجانا ففاسده أيضا كذلك.

وذلك من جهة أنّ الصحّة والفساد لا دخل لها في الضمان وعدمه ، بل المناط كلّ المناط هو وقوع اليد على مال الغير مع إقدام ذلك الغير على الإعطاء بعنوان المعاوضة والمبادلة فيكون فيه الضمان ، أو بلا تعويض فليس فيه ضمان.

وأنت خبير بأنّ هذا حكم تقديري يشمل جميع أشخاص العقود ، كسائر القضايا الحقيقيّة المقدّرة الوجود. ولا خصوصية لهذه القضية من بين سائر القضايا الحقيقيّة حتّى يقع مورد البحث والاحتمالات والنقض والإبرام.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة وقد عرفت جريانها في جميع العقود المعاوضيّة.

فمنها : البيع ففي صحيحة ضمان ، لأنّه عبارة عن تمليك عين متمول بعوض مالي. وكذلك في فاسده لما ذكرنا مفصلا فلا نعيد.

نعم لو قال : بعتك بلا ثمن ، وقبض الطرف فهذه القاعدة تقتضي عدم الضمان ، لأنّ مثل هذا البيع على تقدير صحّته لا ضمان فيه لأنّه أقدم مجّانا وبلا عوض.

ومنها : الإجارة ، ومعلوم أنّ صحيح الإجارة موجب للضمان بالنسبة إلى منافع العين المستأجرة ، سواء استوفى المنافع أو لم يستوفها ولكن بعد قبض العين المستأجرة ، فكذلك في فاسدها يكون ضامنا للمنافع بعد قبض العين التي استأجرها ، سواء

ص: 116

استوفى تلك المنافع أم لم يستوفها.

لا يقال : تلك المنافع غير المستوفاة لم تقع تحت اليد كي يكون ضامنها ضمان اليد ، ولا استوفاها كي يكون ضمان الاستيفاء لقاعدة احترام مال المؤمن ، ولا العقد صحيح كي يكون ضمان المسمّى بواسطة لزوم الوفاء بالعقد ، فبأي وجه يكون ضامنا للمنافع غير المستوفاة.

لأنّا نقول : الضمان ضمان اليد ، لأنّ اليد على العين يد على المنافع لأنه لا شكّ في أنّ المراد من اليد ليس هي الجارحة المخصوصة حتّى يقال إنّ المنافع غير المستوفاة معدومة فكيف تقع تلك الأشياء المعدومة تحت الجارحة المخصوصة ، بل المراد من اليد هو الاستيلاء ، ولا شكّ في أنّ المستولي على العين المستأجرة مستول على منافعه الموجودة وغير الموجودة التي يمكن استيفاؤها.

هذا كلّه بالنسبة إلى المنافع ، وأمّا بالنسبة إلى نفس العين فالأقوال فيها مختلفة ، وبعضهم قالوا بالضمان مع عدم الضمان في الصحيح منها لو تلفت العين المستأجرة بدون تعدّ وتفريط ، لأنّها أمانة مالكيّة سلّمها إلى المستأجر لاستيفاء حقّه من تلك العين ، ويجب على الموجر التسليم للزوم الوفاء بالعقد ، فيد المستأجر في الإجارة الصحيحة يد مأذونة من قبل المالك ، ويد استحقاق لا يوجب الضمان. وأمّا في الفاسدة فليست يد مأذونة واستحقاق ، بل تسليمها إلى المستأجر ليس إلاّ من جهة تخيّل الموجر استحقاقه وهو في الواقع ليس بمستحق ، فتكون يده يد غصب وعدوان فيضمن المقبوض.

ونسب هذا القول في الرياض إلى جمع الفائدة للأردبيلي مدّعيا أنّه المفهوم من كلمات الأصحاب (1) ، فبناء على هذا يكون هذا نقضا على الكليّة السلبية ، أي جملة « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » لأنّ الإجارة الصحيحة لا يضمن فيها العين

ص: 117


1- راجع : « رياض المسائل » ج 2 ، ص 8.

بالتلف السماوي بدون تعدّ وتفريط مع أنّه في فاسدها ضمان بناء على هذا القول.

وبعض آخر قالوا بعدم الضمان. وبه صرّح العلاّمة قدس سرّه في التذكرة (1) ، وأيضا في جامع المقاصد استظهر القول بعدم الضمان من كلمات الأصحاب حيث قال في باب الغصب : إنّ الذي يلوح من كلامهم هو عدم ضمان العين المستأجرة فاسدة. لكنّه هو نفسه قال : والذي ينساق إليه النظر هو الضمان ، لأنّ التصرّف فيه حرام لأنّه غصب فيضمنه (2).

والتحقيق في هذا المقام هو أن يقال : إن كانت العين داخلة في مصبّ الإجارة فلا ضمان ، لا في صحيحها ولا في فاسدها ، وذلك أمّا في صحيحها فمن جهة أنّ مالك العين المستأجرة يلزم عليه تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر ، فتكون يد المستأجر يد مأذونة من قبل المالك ويد استحقاق ، فلا موجب للضمان وهو واضح. وأمّا في فاسدها فمن جهة أنّ العين حيث أنّها مصبّ الإجارة فدخل المالك على عدم الضمان بهذا الاستيلاء.

وقد عرفت أنّ إقدام المالك على تسليم ماله إلى الطرف بعنوان عدم الضمان يوجب عدم تأثير اليد في الضمان ، بل يوجب تخصيصه أو تخصّصه.

وأمّا إن لم تكن داخلة في مصبّ الإجارة بمعنى أنّ الإجارة تتعلّق بالمنفعة لا بالعين ، ففي الصحيح منها وإن كان أيضا لا ضمان بالنسبة إلى العين من جهة أنّ استيفاء المنفعة حيث أنّه متوقّف على تسليم العين في مثل إجارة الدار للسكنى والدكان للاشتغال فيه ، فيجب على المؤجر إعطائها وتسليمها إلى المستأجر من باب كونه مقدّمة لتسليم المنفعة إليه ، حيث أنّه بدونه لا يمكن ، فليس يد المستأجر القابض يد ضامن.

ولكن عدم الضمان ليس من جهة أنّ هذا العقد ليس فيه ضمان حتّى يقال في فاسده أيضا لا ضمان بحكم الكليّة الثانية ، أي الكلية السلبية ، لأنّه أمر خارج عن

ص: 118


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 318.
2- « جامع المقاصد » ج 1 ، ص 216.

مصبّ العقد.

وأمّا في الفاسدة فالضمان فيها بناء على هذا - أي بناء على عدم دخول العين في مصبّ الإجارة - يكون على طبق القواعد الأولية ، لأنّ يده وقعت على مال الغير من دون كونه مقدّما على إعطاء ماله لاستحقاق الطرف ، لأنّ المفروض أنّ الإجارة باطلة ولا استحقاق للطرف أصلا. هذا على حسب كلّ واحد من الاحتمالين. ولكن الظاهر في إجارة الأعيان أنّ العين داخلة في مصبّ الإجارة ، وحقيقة الإجارة في إجارة الأعيان وإن كان عبارة عن تمليك منفعة العين بعوض مالي معلوم ، ولكن تمليك المنفعة ليس بعنوانها مستقلّة بل بعنوان أنّها من صفات العين وعوارضها ، فالإجارة متعلّقة بالعين ومعنى إجارة العين تمليك منفعتها المعلومة بعوض معلوم ، ولذلك يقول المؤجر في مقام إنشاء الإجارة « آجرت هذه الدار أو هذا الدكان مثلا بكذا » ويفهم العرف من هذه العبارة أنّه ملك منفعة الدار ، أو الدكان ، أو الانتفاع بهما للمستأجر ، فالإجارة المتعلّقة بالعين تفيد هذا المعنى حتّى فيما تكون المنفعة من الأعيان ، كالثمرة التي على الشجرة ، وكالحليب في الشاة المنحة تلاحظ في إجارة الشجرة والشاة المنحة بوجودها التبعي أي الوصفي العرضي ، وإلاّ يكون بيعا للثمرة والحليب لا إجارة.

وحاصل الكلام أنّ الإجارة تتعلّق أوّلا وبالذات بالعين ، غاية الأمر باعتبار وصفها وعرضها الكذائي.

ويمكن أن يقال في باب الأجير أيضا يكون الأمر كذلك وإن كان الأجير حرا ، أي تعلّق الإجارة بنفس الحرّ باعتبار الانتفاع بعمله الكذائي. والشاهد على ذلك أنّ في عقد الإجارة ، الأجير يقول « آجرتك نفسي لعمل كذا » فتكون العين دائما في جميع أقسام الإجارات داخلة في مصبّ الإجارة ومتعلّقة لها ففي جميع أقسام الإجارات الفاسدة يكون الضمان بالنسبة إلى العين تابعا للضمان في الصحيحة ، وحيث لا ضمان في

ص: 119

الصحيحة منها لما ذكرنا من أنّ يد المستأجر يد مأذونة ويد استحقاق فتكون يده عليها بتسليم المالك لها إليه بواسطة لزوم الوفاء بالعقد فلا موجب للضمان ، وهذا الحكم جار حتّى في الأجير إذا كان عبدا أو أمة ، ففي جميعها تكون اليد يد أمانة مالكيّة ، ولا ضمان للعين لو لم يكن تعدّ ولا تفريط في البين ، فالكلّيتان إيجابا وسلبا ، أي قولهم « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » لا انتقاض فيهما.

وأمّا الأجير إذا كان حرّا فلا معنى للضمان ، لا في الصحيح ولا في الفاسد.

ومنها : العارية ، فإنّ في صحيحها في غير المضمونة وفي غير الذهب والفضة لا ضمان ، وكذلك في فاسدها في غير ذينك الموردين ، لعين ما ذكرنا في الإجارة من أنّ اليد والاستيلاء وقعت بإذن المالك مجّانا وبلا تعويض ، فلا تكون اليد يد ضمان لإقدام المالك على المجّانية وعدم التعويض بخلاف العقود المعاوضيّة فإنّ تسليم المالك ماله إلى الطرف هناك بعنوان التعويض وأخذ البدل.

وأمّا في فاسدها فيما إذا كانت مضمونة ، كما إذا شرط المعير ضامنها أو كانت عارية الذهب والفضة ، فمقتضى الكليّة الإيجابية أي « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » هو الضمان في المذكورات ، ولكن بناء على ما ذكرنا في وجه الضمان من وقوع اليد على مال الغير وعدم إقدامه على المجّانية وعدم التعويض ففي القسم الأوّل من المذكورات - أي فيما إذا اشترط الضمان - لا بدّ وأن نقول بالضمان لو تلف بعد قبض المستعير كما هو المفروض ، لأنّ المالك لم يقدم على المجّانية وعدم التعويض بل اشترط العوض.

وأمّا في الثاني - أي فيما إذا كانت عارية الذهب والفضّة - فإنّ قلنا بأنّ الضمان حكم تعبّدي من قبل الشارع وإلاّ فالمالك لم يقصد التعويض بل قصد إعطاء ماله للمستعير مجّانا وبلا عوض ، فتكون يد المتعير يد أمانة ولا ضمان. وهذا هو الصحيح كما هو واضح.

ومنها : الهبة ، وهي على قسمين : معوضة ، وغير معوّضة.

ص: 120

أمّا الثاني - أي غير المعوضة - فمن أوضح وأجلى مصاديق الكليّة السلبية أي « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » لإقدام المالك على المجّانية ، وكون الإعطاء بلا قصد تعويض ، فيد القابض يد مأذونة فلا ضمان.

وأمّا الأوّل - أي المعوّضة - فإن كان العوض بإزاء الموهوب ففي الصحيح والفاسد في كليهما الضمان ، لأنّ المالك لم يقدم على الإعطاء مجّانا ، فلا مخصّص لعموم « على اليد ».

وإن كان العوض بإزاء هبة الآخر الشي ء الفلاني ، بمعنى أنّه هبة بإزاء هبة ، لا الموهوب بإزاء الموهوب فلا ضمان لا في الصحيح ولا في الفاسد ، لأنّه لم يقصد بإعطائه المال الموهوب المبادلة والتعويض ، فهو في الحقيقة يرجع إلى أنّه أعطاه مجّانا وبلا عوض ، غاية الأمر اشترط عليه أن يهبه الشي ء الفلاني ، فإن لم يفعل يكون للواهب خيار تخلّف الشرط.

ومنها : الصلح ، وهو أيضا على قسمين : بلا عوض ، ومع العوض.

فالأوّل حاله حال الهبة غير المعوّضة ، أي لا ضمان فيه لا في الصحيح منه ولا في الفاسد.

وأمّا الثاني - أي الصلح مع العوض - فحكمه حكم البيع فيكون مشمولا لكلتا القاعدتين ، أي الأصل والعكس.

أمّا الأصل : فلأنّ المفروض أنّ صلح المال الفلاني بعوض مسمّى معناه تضمينه بذلك المسمّى وتبديله به ، ولذلك ربما يقال إنّ الصلح الواقع على الأعيان المتموّلة بعوض مالي هو عين البيع وإن كان هذا غير صحيح ، لأنّ المنشأ بعقد الصلح هو عنوان التسالم ابتداء ، غاية الأمر التسالم على مثل هذه المبادلة ، وأمّا المنشأ بعقد البيع ابتداء هو نفس المبادلة ، فالنتيجة أنّ إقدام المالك في مثل هذا الصلح ليس مجانا وبلا عوض ، ففي صحيحة وفاسده الضمان.

ص: 121

ومنها : الرهن ، فإنّ صحيحه لا يوجب الضمان ، لأنّ الراهن يسلم المال المرهون إلى المرتهن ليكون وثيقة لدينه ، ولا يقصد بذلك الإعطاء والتسليم المعاوضة والمبادلة فتكون أمانة مالكية عند المرتهن ، فيد المرتهن على ذلك المال يد مأذونة ولا يوجب الضمان ، وتكون خارجة عن مفاد « على اليد » تخصّصا أو تخصيصا.

فكذلك فاسده أيضا لا يوجب الضمان ، وذلك لوحدة السبب فيهما ، وهي إقدامه في إعطائه وتسليمه إلى المرتهن على عدم الضمان في كلتا الصورتين.

ومنها : عقد السبق ففي الصحيح منه يستحقّ السابق السبق ، فالعمل الذي يصدر من السابق فيه ضمان المسمّى أي السبق المعيّن. وهذا ممّا لا شكّ فيه إذ ليس المراد من الصحّة إلاّ هذا المعنى ، فمقتضى هذه القاعدة أي قاعدة كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده أن يكون في فاسده أيضا ضمان ، غاية الأمر ليس الضمان ضمان المسمّى لأنّه منوط بالصحّة ، فلا بدّ وأن يكون أجرة مثل عمله ، لأنّ عمله محترم ولم يقدم على إيجاده بدون عوض ، بل كان إقدامه على هذا العمل بعنوان أخذ السبق.

إن قلت : في هذا المورد ليست يد في البين كي تكون سببا للضمان.

قلنا : إنّ سبب الضمان هنا قاعدة احترام عمل المسلم ، حيث أنّ هذا العمل صدر منه بسبب التزام الطرف بإعطاء السبق له لو كان سابقا ، فعمله محترم وإن كان من جهة فساد هذا العقد لا يستحقّ مال الذي عيّن للسابق أي المسمّى ، ولكن عمله لا يكون هدرا ولغوا ، إلاّ أن يكون من الأعمال المحرّمة التي ألغى الشارع ماليّتها ، أو من أعمال السفهاء الذي لا اعتبار لها عند العقلاء كبعض ألاعيب السفهاء والصبيان.

وخلاصة الكلام هو أنّه في كلّ عقد أو إيقاع كان في صحيحه الضمان - سواء كان ضمان المسمّى بدل المال الذي يسلمه إليه الطرف ، أو العمل الذي يعمله كعمل الأجير في عقد الإجارة ، أو عمل العامل في الجعالة ، أو عمله في عقد السبق والرماية - ففي فاسده الضمان أيضا ، إمّا من جهة اليد على مال الغير مع عدم الإقدام على المجّانية من

ص: 122

قبل صاحب المال ، حتّى تكون يده يد مأذونة ولا تكون سببا للضمان بل تكون خارجة عن عموم على اليد تخصيصا أو تخصّصا كما تقدّم ، وإمّا من جهة احترام عمل المؤمن مع عدم إقدام العامل مجّانا.

وأمّا لو لم يكن في صحيحه الضمان من جهة عدم قصد المبادلة والمعاوضة في إعطاء ماله ، أو عدم قصد التعويض في عمله ففي فاسده لا ضمان أيضا ، لعدم تحقّق سبب الضمان لا قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّه » ولا قاعدة « الاحترام ». وقد تقدّم شرحهما مفصّلا.

ثمَّ إنّ هاهنا نقوض أوردوها على الكلّية السلبيّة والإيجابية ، ولذلك قالوا بعدم اطّراد هاتين الكلّيتين في موارد :

منها : فيما إذا استعار المحرم صيدا من المحلّ ، فقالوا : إنّه يجب على المحرم المستعير إرساله فورا ويكون ضامنا لصاحب الصيد بالقيمة.

وهذا النقض مبني على فساد هذه العارية ووجوب إرساله ، لا وجوب ردّه إليه ، فحينئذ يقال إنّ العارية لا يضمن بصحيحها في غير المضمونة وغير الذهب والفضة ، ومع ذلك حكموا هاهنا في فاسدها بالضمان.

وأجيب عن هذا النقض بأنّ الضمان ليس هاهنا مستندا إلى العقد ، بل من جهة الإتلاف ، والإتلاف في العارية الصحيحة أيضا موجب للضمان. وأمّا كون الضمان من جهة الإتلاف لا التلف السماوي فلما قالوا بخروج الصيد عن ملك مالكه بمحض قبض المحرم وأخذه إيّاه من يد المالك ، فيكون بناء على هذا نفس الأخذ والقبض إتلافا ، ويكون خارجا عن مورد القاعدة.

وفي هذه المسألة وجوه واحتمالات أخر ليس هاهنا محلّ ذكرها والنقض والإبرام فيها.

ومنها : النقض على الكليّة الإيجابيّة - أي الأصل لا العكس - وهي « كلّ ما يضمن

ص: 123

بصحيحه يضمن بفاسده » بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة ، فإنّها غير مضمونة في البيع الصحيح ومضمونة في الفاسد.

وفيه : أنّ الضمان في الصحيح عبارة عن المسمّى ، والمسمّى في الصحيح موجود بدل العين ، فبعوض ملكيّة العين يشتغل ذمّته بالمسمّى ، والمنافع مطلقا سواء كانت مستوفاة أو غير مستوفاة من توابع العين ، فإذا كانت العين مضمونة فالمنافع أيضا مضمونة ، كما هو الظاهر من قوله صلی اللّه علیه و آله : « الخراج بالضمان » (1) أي المنافع التي للعين تكون لمن انتقل إليه العين بواسطة ضمان المسمى ، فكان المسمّى في البيع الصحيح عوض العين ومنافعه ، فلا نقض.

ومنها : تلف الأوصاف ، فليس في العقد الصحيح لها ضمان ، لأنه الضمان فيه بإزاء العين ، ولم يجعل شي ء من الثمن المسمّى مقابل الأوصاف. وأمّا في الفاسد لو تلف جميعها أو بعضها يكون القابض ضامنا لقاعدة « على اليد » بضميمة عدم كونه مأذونا فتكون اليد يد ضمان.

ويمكن أن يقال هاهنا أيضا مثل ما قلنا في المنافع غير المستوفاة من أنّها تابعة للعين ، فكان ضمان العين ضمانها أيضا ، فهكذا صفات العين في الضمان تابعة للعين ، ولو أنّه ليس لها ضمان مستقلّ مقابل ضمان العين لكن ضمان العين ضمانها أيضا. فبناء على هذا في الصحيح أيضا لها ضمان ، فلا ينخرم القاعدة.

ومنها : فيما إذا كان المبيع حاملا فتلف الحمل في يد المشتري ففي الصحيح لا ضمان ، لأنّ ضمان المسمّى وقع مقابل نفس المبيع ، والحمل مملوك بالتبع بناء على كونه مملوكا للمشتري ، وإلاّ فبناء على بقائه على ملك البائع كما هو المشهور إلاّ مع شرط الدخول فهو خارج عن محلّ كلامنا. وأمّا في الفاسد فللحمل ضمان غير ضمان نفس الحاصل.

وفيه : أنّه إن قلنا بأنّ الحمل ليس داخلا في المبيع وباق على ملك البائع فهو

ص: 124


1- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 302 ، أبواب الخيار ، باب 7 ، ح 15428 .

خارج عن مصبّ العقد وأجنبي عن المعاملة ، ولا ضمان له في الصحيح ولا في الفاسد.

أمّا في الصحيح لانّه كما قلنا أجنبي عن المعاملة ، فلا ربط له بالعقد حتّى يشمله ضمان المسمّى. وأمّا في الفاسد فلا ضمان له ، لأنّه أمانة مالكيّة عنده لا يضمنه إلاّ بالتعدّي والتفريط.

وهذا كما لو اشترى البستان مع أشجاره المثمرة التي ثمرتها موجودة عليها ، فلو قلنا بأنّ الثمرة الموجودة ليست داخلة في المبيع وخارجة عنه انصرافا أو بواسطة تقييد البائع ففي الصحيح والفاسد من هذه المعاملة لا ضمان للثمرة الموجودة على الشجرة ، أمّا الصحيح لأنّها خارجة عن المعاملة ومصبّ العقد فلا يكون شي ء من المسمّى بإزائها ، وأمّا الفاسد لأنّها أمانة مالكيّة وقد تلفت بدون تعدّ وتفريط على الفرض.

وأمّا إن قلنا بأنّ الحمل وكذلك الثمرة الموجودة على الشجرة داخل في المبيع ففي الصحيح والفاسد كلاهما ضمان ، أمّا في الصحيح فلأنّ المسمّى وقع بإزاء المجموع من الحامل وحمله ، وأيضا في المثال الثاني بإزاء مجموع الشجرة وثمرتها. وأمّا في الفاسد فلوقوع اليد على كليهما أي الحامل والحمل وكذلك على الشجرة والثمرة ، والمفروض أنّ اليد ليست مأذونة ويد ضمان ، لأنّ الكلام بعد الفراغ عن ضمان أصل الحامل ، فكذلك الشجرة في المقبوض بالعقد الفاسد ، فلا نقض على اطّراد القاعدتين أي الكلّية الإيجابيّة والسلبيّة.

وهذا الحكم الذي ذكرنا إشكالا وجوابا جار في مطلق توابع المبيع كالحليب وغيره ، فإن قلنا بدخولها في المبيع فحالها حال نفس المبيع بالنسبة إلى الضمان في الصحيح والفاسد ، وإن قلنا بخروجها فلا ضمان لا في الصحيح ولا في الفاسد إلاّ بسبب آخر. وأمّا تحقيق أنّ أيّا منها داخل في المبيع وأنّ أيّا منها خارج فله محلّ آخر ، وهو كتاب البيع في فصل ما يدخل في المبيع وما لا يدخل.

ص: 125

ثمَّ إنّ شيخنا الأعظم قدس سرّه ذكر في هذا المقام أنه يمكن النقض أيضا بالشركة (1). والظاهر أنّ مراده شركة الأموال بعقد الشركة ، فيكون النقض عبارة عن أنّ أحد الشريكين مثلا في الشركة الصحيحة لو تصرّف في المشترك وصار تحت يده - كما هو المتعارف عند الشركاء - فتلف ذلك المال من دون تعدّ وتفريط لا يكون ذلك الشريك ضامنا لحصّة شريكه الآخر ، وهذا مقتضى صحّة عقد الشركة. وأمّا لو لم يكن العقد صحيحا وكانت الشركة فاسدة فيكون ذلك الشريك ضامنا ، لقاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ولا بدّ من فرض التلف في صورة عدم إذن ذلك الشريك الآخر في التصرّف ، فلا إذن من طرف المالك ، ولا أنّ جواز التصرّف مقتضى عقد الشركة ، فلا يكون المال لا أمانة مالكيّة ولا أمانة شرعيّة ، فتكون اليد يد ضمان.

وهذا بخلاف الصحيح فإنّه وإن لم يكن إذن من طرف الشريك حتّى يكون المال عنده أمانة مالكيّة ولكن الإذن من طرف الشارع بمقتضى صحّة عقد الشركة ، فيكون من قبيل الأمانة الشرعيّة ، فلا ضمان ، فلا تكون القاعدة مطّردة.

وفيه : أنّ هذا مبني على جواز التصرّف بصرف حصول الشركة الصحيحة وإن كان بدون إذن الشريك الآخر ، وهو لا يخلو من إشكال.

وممّا يمكن أن يكون نقضا على الكلّية الإيجابيّة التي نسمّيها بالأصل مقابل الكلّية السلبيّة التي نسميها بالعكس هو النكاح الدائم أو المتعة الفاسدين إذا كان الزوج جاهلا بالفساد من جهة الموضوع وكانت المرأة عالمة به ، فقالوا إنّ الزوج في مثل المفروض لا يضمن المهر ، مع أنّه لو كان العقد صحيحا كان يضمن قطعا.

وقد يجاب أوّلا : عن هذا النقض بأنّ هذا المفروض خارج عن محلّ البحث ومورد القاعدة ، لأنّ موردها العقود المعاوضيّة التي يقع العوض فيها تحت اليد ، وما نحن فيه من مورد النقض ليس كذلك وليس من العقود المعاوضيّة أوّلا ، وعلى

ص: 126


1- « المكاسب » ص 103.

الفرض لا تقع المرأة تحت اليد ثانيا.

وفيه : أنّ ظاهر هذه القاعدة عامّ يشمل كلّ عقد سواء كان ممّا ذكر أو لم يكن.

وثانيا : بأنّ عدم الضمان لدليل خارجي ولكونها بغيا لا ينافي اقتضاء العقد للضمان في حدّ ذاته ونفسه ، ولذلك لو كانت المرأة أيضا جاهلة بالفساد فلها حق على الزوج.

وفيه : أنّ ظاهر الكلّية أنّ كلّ عقد صحيح يكون فيه الضمان ففي فاسده بالفعل ضمان ، لا أنّ في فاسده اقتضاء الضمان إلاّ أن يمنع مانع عنه ، أو يأتي دليل على عدمه ، فلا يمكن الموافقة مع شيخنا الأستاذ قدس سره في كلا الجوابين (1).

ومما يتوهم أن يكون نقضا على الكلّية الإيجابيّة بيع الغاصب مال الغير ، فلو تلف المبيع عند البائع الغاصب قالوا بعدم ضمان الغاصب الثمن للمشتري لو تلف الثمن عنده ، لأنّه أي المشتري سلّط البائع الغاصب على الثمن مجّانا إن كان عالما بأن البائع غاصب مع أنّه في البيع الصحيح لو تلف الثمن عند البائع بعد تلف المبيع عنده يكون ضامنا للمشتري بالثمن.

وفيه أوّلا : أنّ مثل هذه المعاملة ليست فاسدة ، بل فضولي موقوف على إجازة المالك أي المغصوب منه ، فإذا أجاز تعدّ من المعاملات الصحيحة ، يترتّب عليها جميع آثار البيع الصحيح.

وثانيا : طرف المعاملة أي البائع في هذه المعاملة ليس هو الغاصب ، بل هو أجنبي ، والثمن الذي أعطاه المشتري ليس ثمنا للمبيع مع علمه بأنّه غاصب ، بل يكون مال له أعطاه للغاصب مجّانا وبلا عوض ، فلا يترتّب على تلفه آثار تلف الثمن ، فلا يكون نقضا على هذه الكلّية أصلا.

وممّا توهّم أنّه نقض على هذه الكلّية بيع الشخص ماله من سفيه محجور عليه فتلف المبيع عند السفيه ، فقالوا بعدم ضمان السفيه للمبيع ، مع أنّ تلف المبيع عند

ص: 127


1- . « منية الطالب » ج 1. ص 129.

المشتري بعد قبضه ، وعدم خيار للمشتري فقط دون البائع يوجب ضمانه للبائع في البيع الصحيح.

وفيه : أنّه بعد ما علم البائع أنّ المشتري محجور عليه ليس له التصرف في أمواله مطلقا ولو بناقل شرعي فإعطاؤه المبيع لمثل هذا الشخص يكون إقداما منه على تلف ماله وهتك احترامه ، فيكون إعطاؤه للسفيه ، وإن كان بعنوان البيع ، من قبيل إلقائه في البحر وإتلافه ، فلو كان عين ماله - أي المبيع - موجودا يمكن أن يقال بجواز استرداده ، وأمّا مع تلفه فلا ضمان في البين.

ومن جميع ما ذكرنا من أوّل هاتين القاعدتين - أي الكلّيتين الإيجابيّة والسلبيّة - يظهر صحة كلتيهما ، واطّرادهما ، وعدم ورود النقوض التي ذكروها في هذا المقام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ص: 128

19 - قاعدة التلف في زمن الخيار

اشارة

ص: 129

ص: 130

قاعدة التلف في زمن الخيار (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة المسلّمة عند الأصحاب قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها

وهو أمور :

الأوّل : الأخبار :

منها : صحيحة ابن سنان عن الرجل يشتري الدابّة أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين ، فيموت العبد أو الدابّة أو يحدث فيه حديث ، على من ضمان ذلك؟ فقال : « على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ، ويصير المبيع للمشتري ، شرط له أم لم يشترط. وإن كان بينهما شرط أيّاما معدودة فهلك في يد المشتري فهو من مال البائع » (2).

ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري مولى بنى شيبان قال : سألت

ص: 131


1- (*) « الحق المبين » ص 1. « القواعد » ص 101 و 105 ، « قواعد فقه » ص 278 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 391 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 268.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 103 ، باب عقود البيع ، ج 20 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 2.

أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل اشترى أمة يشرط من رجل يوما أو يومين ، فماتت عنده ، وقد قطع الثمن ، على من يكون ضمان ذلك؟ قال : « ليس على الذي اشترى ضمان حتّى يمضي بشرطه » (1).

ومنها : النبوي المروي في الوسائل عن محمد بن الحسن بإسناده عن جعفر بن محمد علیهماالسلام قال علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رجل اشترى عبدا بشرط ثلاثة أيّام فمات العبد في الشرط؟ قال : يستحلف باللّه ما رضيه ثمَّ هو برئ من الضمان » (2).

ومنها : ما عن الوسائل عن الصدوق بإسناده عن ابن فضّال ، عن الحسن بن رباط ، عن من رواه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إن حدث بالحيوان حدث قبل ثلاثة أيّام فهو من مال البائع » (3).

وظاهر هذه الأخبار - كما هو واضح - أنّ تلف المبيع في يد المشتري - وهي عبارة أخرى عن قبضه للمبيع إذا كان الخيار للمشتري فقط دون البائع - يكون من كيس البائع أي : ممن ليس له الخيار ، وهذا هو مفاد القاعدة أي : التلف في زمن الخيار من مال من ليس له الخيار الذي هاهنا هو البائع.

نعم لا يدلّ على هذه القاعدة بطور الكلّية ، بل فيما إذا كان من له الخيار هو المشتري دون البائع ، ولا يدلّ فيما إذا كان بالعكس أي : كان الخيار للبائع دون المشتري.

هذا أوّلا : وثانيا : لا يدلّ فيما إذا كان الخيار غير خيار الشرط والحيوان إلاّ بتنقيح المناط وإلقاء خصوصيّة خياري الحيوان والشرط.

وهو في غاية الإشكال ، لأنّ هذا حكم مخالف للقواعد ورد التعبد به ، فيجب الوقوف على مورده ، ومورده خصوص هذين الخيارين وبالنسبة إلى المشتري فقط ،

ص: 132


1- « الكافي » ج 5 ، ص 171 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 104 ، باب عقود البيع ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 351 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 4. وفيه : « عن عبد اللّه بن الحسن ... ».
3- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 5.

فلا يشمل غيرهما ، وكذلك لا يشمل فيما إذا كان ذو الخيار غير المشتري.

الثاني : الإجماع - وقد ادّعاه غير واحد كصاحب الرياض (1) ومفتاح الكرامة (2) - 0 - ونفى الخلاف في الأخير في هذه القاعدة.

ولكن أنت خبير أنّه على فرض تسليم وجود الاتّفاق وتحقّقه على هذا الحكم - أي كون التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له - لا اعتبار بهذا الاتّفاق ، لاستناد كثير منهم إلى هذه الروايات ، فلا يكون من الإجماع المصطلح الذي يكون مسبّبا عن تلقّيه من المعصوم علیه السلام ، أو يكون مسبّبا عن وجود دليل معتبر عند الكلّ وقد ضاع عندنا ، مع أنّ هذا الأخير لا يخلو عن إشكال.

فالعمدة في مستند هذه القاعدة هو هذه الروايات التي ذكرناها ، فلا بدّ من ملاحظتها ومقدار دلالتها.

الثالث : كون هذا الحكم مقتضى القواعد الأوّليّة ، إذ من له الخيار فقط من المتعاملين وليس للآخر يكون خروج العوض عن ملكه ودخول المقابل متزلزلا ، إذ له أن يفسخ ويرجع ما خرج إليه بسبب فسخه ، فكان التلف يقوم مقام الفسخ فيرجع ما خرج عن ملكه إليه ثانيا ، فالتلف يذهب من كيس من ليس له الخيار ، وهو مفاد هذا القاعدة.

وأمّا كون التلف بمنزلة الفسخ فمن جهة أنّ العقلاء يرون في موارد ثبوت الخيار - خصوصا في خيار الشرط وخيار الحيوان - أنّ ذا الخيار يتأمّل وينظر في أنّه هل إبقاء هذه المعاملة من صلاحه ، أو لا بل صلاحه حلّه وفسخه؟ فإذا تلف أحد العوضين فيما إذا كان التالف ما انتقل إلى ذي الخيار كما إذا كان الشرط للمشتري فقط وتلف المبيع ، وكما في خيار الحيوان إذا كان المبيع حيوانا ووقع التلف عليه عند

ص: 133


1- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 528.
2- « مفتاح الكرامة » ج 4 ، ص 599.

المشتري كما هو مورد الروايات بناء على اختصاص خيار الحيوان بالمشتري فيما إذا كان المبيع حيوانا كما هو المشهور فلا يبقى مجال للتأمّل والنظر وقهرا تنفسخ المعاملة ، ويرجع الثمن إلى ملك من له الخيار أي المشتري ، ويذهب الثمن من كيس من ليس له الخيار أي البائع.

وحاصل ما ذكرنا : أنّ ملكيّة ذي الخيار لما دخل في ملكه بسبب المعاملة متزلزل ، وكذلك خروج ما خرج متزلزل متوقّف على بقاء ما دخل في ملكه ، فإذا وقع عليه التلف فقهرا تنفسخ المعاملة ، ولا يبقى مورد للتأمّل والنظر حتّى يختار الفسخ أو الإبرام ، فحكمة جعل الخيار في الحيوان ثلاثة أيّام ، أو جعل الخيار والشرط من نفس المتعاقدين تقتضي أن يكون الضمان - أي المسمّى - ينتقل ثانيا ممّن ليس له الخيار إلى الذي له الخيار.

وفيه : أنّ هذا صرف استحسان لا يمكن أن يكون منشأ للحكم الشرعي. ومقتضى القواعد الأوّليّة - حيث أنّ المعاملة بالقبض تمّت وصار المبيع ملكا تامّا للمشتري وتلف في يده - أن لا يكون ضمان في البين أصلا ، ولا يكون المشتري ولا غيره ضامنا ، أمّا المشتري فلأنّ ماله تلف في يده على الفرض ، والإنسان لا معنى لأن يكون ضامنا لنفسه بواسطة تلف ماله عنده. وأمّا غيره - أي البائع - لأنّ غيره أجنبي هاهنا فمن جهة أنّ المعاملة والمعاوضة تمّت ومال كلّ واحد منهما انتقل إلى الآخر بعوض مال الآخر وما انتقل إلى المشتري تلف في يده فالبائع أجنبي عنه ، فلا وجه لأن يكون ضامنا لتلف مال شخص آخر في يد نفس ذلك الشخص.

نعم كان لذلك الشخص الآخر - أي المشتري مثلا وفي المفروض - خيار الفسخ لو كان يعمله وكان يفسخ لكان الثمن يرجع إليه ، وأين هذا من ضمان البائع بصرف التلف ومن دون الفسخ.

ص: 134

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومقدار دلالتها من حيث العموم والخصوص

اشارة

فنقول : لو كانت هذه الجملة والكليّة أي جملة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » بهذه الألفاظ واردة ومنصوصة ، أو كانت معقد إجماع لكانت شاملة للثمن والمبيع ، وأيضا كانت تشمل ذا الخيار مطلقا سواء كان خيار الحيوان أو الشرط أو غيرهما ، وذلك من جهة أنّ لفظ « الخيار » يشمل جميع الخيارات ، ولفظ « من لا خيار له » يشمل البائع والمشتري ، ولفظ « التلف في زمن الخيار » يشمل المبيع والثمن.

ولكن الأمر ليس كذلك ، أي هذه الجملة بهذه الألفاظ ليست مرويّة في خبر أو حديث ولا ممّا انعقد الإجماع على هذا العنوان بحيث يكون معقد الإجماع هذه الجملة بألفاظها حتّى يمكن التمسّك بإطلاق تلك الألفاظ ، بل المدرك لهذه القاعدة ليس إلاّ تلك الأخبار التي تقدّمت ، فلا بدّ من النظر والتأمّل في ظهورها وتشخيص ما هو المراد منها حتّى يعرف مقدار سعة دلالتها وشمولها.

فالبحث فيها من جهات :

الأولى : في أنّه هل مفادها ثبوت هذا الحكم مطلقا وفي أيّ خيار كان ، أو في خصوص خيار الحيوان وخيار الشرط؟

أقول : أمّا صحيحة ابن سنان فقوله علیه السلام في صدرها « على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ، ويصير المبيع للمشتري ، شرط له أم لم يشترط » ظاهر في خيار الحيوان فقط. وأمّا ذيلها ، أي قوله علیه السلام « وإن كان بينهما شرط أيّام معدودة فهلك في يد المشتري فهو من مال البائع » ظاهر في خيار الشرط ، فالصحيحة صدرا وذيلا لا تدلّ على ثبوت هذا الحكم إلاّ في خيار الحيوان وخيار الشرط. وكذلك الأمر في سائر الروايات الواردة في هذا الباب لا تدلّ على ثبوت هذا الحكم إلاّ في خيار الشرط أو خيار الحيوان ، فإثباته في غيرهما من الخيارات يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

ص: 135

وأمّا تسرية الحكم منهما إلى غيرهما من الخيارات بتنقيح المناط فأشبه بالقياس ، فالحقّ أنّ هذا الحكم مختصّ بخياري الحيوان والشرط لا يشمل غيرهما ، وذلك من جهة ما قلنا إنّ هذا الحكم تعبّدي ومخالف للقواعد الأوّلية ، ولا بدّ من الوقوف على مورد النص وما هو الظاهر منه ، وقد عرفت أنّ ظاهر الروايات هو ثبوت هذا الحكم في خياري الشرط والحيوان دون سائر الخيارات ، وأيضا فيما إذا كان التلف عند المشتري والخيار له ، فيضمن البائع الذي ليس له الخيار.

وبعبارة أخرى : هذا الحكم في تلف المبيع عند المشتري لا تلف الثمن عند البائع ، كلّ ذلك من أجل ظهور الروايات التي وردت في هذا المقام فيما ذكرنا من حصر مورد القاعدة في خصوص خيار الحيوان أو الشرط بالنسبة إلى تلف المبيع عند المشتري لا تلف الثمن عند البائع.

والحاصل : أنّ الخيار إمّا خيار شرط وحيوان وإمّا سائر الخيارات ، وهذه القاعدة تجري فيهما دون سائر الخيارات ، وفي تلف المبيع عند المشتري دون تلف الثمن عند البائع ، كلّ ذلك لأجل ظهور الروايات فيما ذكرنا بعد الفراغ عن عدم كون هذا الحكم على مقتضى القواعد الأوّلية.

نعم ربما يقال بثبوت هذا الحكم ، أي شمول هذا القاعدة لخيار المجلس خصوصا إذا كان للمشتري دون البائع ، كما إذا أسقط البائع خياره ، لأنّه لو كان الخيار لكلاهما - أي البيّعان - فلا موضوع لهذه القاعدة ، لأنه ليس هناك من ليس له الخيار حتّى يكون ضمان التالف عليه ، فإتيان هذه القاعدة وشمولها لخيار المجلس - مع أنّه مجعول في أصل الشرع لكلا المتعاقدين - منوط بسقوط خيار أحدهما ، وهذا واضح معلوم.

فإذا فرضنا سقوط خيار البائع في خيار المجلس وبقاء خيار المشتري فقط فلو قبض المشتري المبيع في المجلس وتلف في يده في نفس المجلس فلو قلنا بشمول هذه القاعدة لخيار المجلس يكون الضمان على البائع ، لأنّه ليس له الخيار على الفرض

ص: 136

فيرجع الثمن إلى المشتري بدون رجوع شي ء إلى البائع.

واستظهر شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره من قوله علیه السلام في ذيل صحيحة ابن سنان « حتى ينقضي شرطه ويصير المبيع للمشتري » شمولها لخيار المجلس إذا كان للمشتري فقط دون البائع (1).

وتقريب استظهاره من هذه الفقرة هو أن ظاهر لفظ « الشرط » في الأخبار هو خيار المجلس ، فيكون مفاد الصحيحة أنّ ضمان المبيع على البائع حقّ ينقضي الشرط ، أي خيار المجلس الذي للمشتري ، فحينئذ أي بعد انقضاء خيار المجلس يخرج البائع عن الضمان ، أمّا قبله فيكون الضمان عليه وإن قبض المشتري المبيع في المجلس.

فالمناط في خروج البائع عن الضمان هو انقضاء خيار المشتري لا القبض ، بل قوله علیه السلام بعد ذلك « ويصير المبيع للمشتري » يظهر منه أنّ المناط في سقوط ضمان البائع هو صيرورة المبيع ملكا مستقرّا للمشتري بحيث لا يمكن له الفسخ ، ولو كان هذا هو مناط سقوط ضمان البائع وخروجه عنه فتشتمل القاعدة جميع الخيارات إذا كان للمشتري ، ولا اختصاص لهذا الحكم بخياري الحيوان والشرط وخيار المجلس ، لأنّ العلّة سارية في الجميع.

بل يمكن أن يقال بعدم الفرق بين البائع والمشتري في شمول هذا الحكم للبائع أيضا بواسطة هذا التعليل والمناط ، وهو صيرورته ملكا مستقرّا للمشتري بحيث لا يمكن سلبه عن نفسه بفسخ المعاملة ، نعم لا بدّ وأن يلغى خصوصيّة المشتري وكون التالف هو المثمن ، بل لو كان التالف هو الثمن بعد قبض البائع ولكن كان الخيار للبائع فقط فالضمان أيضا على من ليس له الخيار أي المشتري لأجل هذا التعليل أي عدم استقرار ملكيّة الثمن للبائع بحيث لا يمكن سلبه عن نفسه بواسطة فسخ المعاملة ، إذ المفروض أنّ خيار البائع موجود وله أن يفسخ ، فذلك الملاك والمناط - الذي كان في

ص: 137


1- « المكاسب » ص 300.

صورة خيار المشتري فقط مع تلف المبيع عنده وفي يده موجودا في هذه الصورة أي فيما إذا كان الخيار للبائع فقط مع تلف الثمن في يده موجود أيضا ، لأنّ الثمن التالف في يده وإن كان قبضه ولكن حيث أنّ خياره باق يمكن له الفسخ وسلبه عن نفسه ، فذلك التعليل آت هنا أيضا.

وبعبارة أخرى : سقوط ضمان البائع في تلك الصورة كان منوطا بانقضاء الخيار وصيرورة المبيع ملكا مستقرّا للمشتري بحيث لا يمكن أن يسلب عن نفسه بالفسخ ، وهذا المعنى متوقّف على انقضاء الخيار ، فقبل انقضائه لا يسقط ضمان البائع للمثمن ولو تلف في يد المشتري ، بل يكون في ضمانه ، فليكن سقوط ضمان المشتري أيضا إذا تلف الثمن في يد البائع منوطا بانقضاء خيار البائع ، ويكون قبل انقضاء زمان خياره في ضمان المشتري.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا قياس محض.

واستشكل شيخنا الأستاذ قدس سرّه على هذا الوجه لتعميم هذه القاعدة وشمولها لجميع الخيارات ، سواء أكان أحد هذه الثلاثة - أي خيار الحيوان ، أو خيار الشرط ، أو خيار المجلس - أو كان غيرها من الخيارات ، بأنّ كلمة « حتّى » قلّما تستعمل في العلّية ، بل يكون معناها غالبا هي الغاية ، فلا تكون ظاهرة في العلّية لكي تكون القاعدة شاملة لجميع الخيارات ، بل وللثمن والمثمن (1).

ولكنّك خبير بأنّ معنى « حتّى » وإن كان غالبا هو انتهاء الغاية - كما صرّح بذلك ابن هشام في المغني (2) - ولكن هاهنا قرينة التعليل موجودة ، وهو قوله علیه السلام « ويصير المبيع للمشتري » ، وفي الحقيقة جملة « حتّى تنقضي الشرط » توطئة لذكر العلّة التي هي في الحقيقة قوله علیه السلام « ويصير المبيع للمشتري » المترتب على انقضاء الخيار ، ولمّا كان

ص: 138


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 177.
2- « مغني اللبيب » ج 2 ، ص 166.

صيرورة المبيع ملكا للمشتري ليس متوقّفا على انقضاء الخيار أيّ خيار كان فلا بدّ وأن يحمل على الملك المستقرّ الذي لا يمكنه أن يسلبه عن نفسه بأن يفسخ المعاملة.

ومعلوم أنّ مثل هذا الملك موقوف ومترتّب على انقضاء الخيار ، ففي الواقع علّل علیه السلام سقوط الضمان عن البائع بصيرورة المبيع ملكا مستقرا للمشتري.

والشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه أيضا يشير إلى هذا المعنى بأن يقول - بعد قوله : بناء على أنّ المناط انقضاء الشرط الذي تقدّم أنّه يطلق على خيار المجلس - بل ظاهره أنّ المناط في رفع ضمان البائع صيرورة المبيع للمشتري واختصاصه به ، بحيث لا يقدر على سلبه عن نفسه (1).

ثمَّ إنّه قدس سرّه يستشهد بكلام السرائر بما يؤيّد ما ذكرنا ، من أنّ العلّة استقرار الملك لا انقضاء الشرط ، وإنّما ذكر هو توطئة لذكر العلّة ، فافهم.

ثمَّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس سرّه استشكل بإشكالين آخرين على تعميم هذه القاعدة بالنسبة إلى جميع الخيارات بواسطة هذا التعليل :

أولا : بأنّ هذه الجملة على فرض كونها علّة لهذا الحكم تقيّد التعميم لو كان علّة للمجعول لا للجعل والتشريع.

وثانيا : أنّ ظاهر قوله علیه السلام « وإن كان الشرط أيّاما معدودة » أن يكون الشرط محدودا مضبوطا ، ففي هذه الصورة يأتي هذا الحكم. ومعلوم أنّ هذا المعنى لا ينطبق على غير خياري الحيوان والشرط ، إذ فيهما فقط الشرط يكون محدودا مضبوطا ، فخيار الحيوان محدود بثلاثة أيّام من طرف الشارع ، وخيار الشرط محدود من طرف المشروط له والمشروط عليه ، وما عداهما حتّى خيار المجلس ليس محدودا ، لأنّ أمد المجلس غير معيّن ، والمجالس تختلف قصرا وطولا ، فلا تشمل القاعدة خيار المجلس

ص: 139


1- « المكاسب » ص 300.

فضلا عن سائر الخيارات (1).

ولكنّك خبير بما فيهما :

أمّا في إشكاله الأوّل بأنّه لا شكّ في أنّ عدم صيرورة المبيع ملكا مستقرّا للمشتري وإمكان سلبه عن نفسه علّة للمجعول ، أي كون الضمان على البائع وإن كان تلف عند المشتري ، كما أنّ صيرورته كذلك علّة لسقوط الضمان ورفعه عن البائع ، ولا ينبغي التوهّم لكونها علّة لجعل الشارع هذا الحكم ، بل لم نفهم معنى محصلا لكونها علّة للجعل.

وأما في إشكاله الثاني : فإنّ قوله علیه السلام « وإن كان الشرط أيّاما معدودة » في مقام بيان ثبوت هذا الحكم في خيار الشرط ، ولا شكّ في أنّ خيار الشرط محدود مضبوط ، ولا ينافي كونه بصدد بيان خيار الشرط مع تسرية هذا الحكم إلى سائر الخيارات بواسطة عموم التعليل والمناط.

ثمَّ إنّ شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سرّه استشكل على هذا الوجه الذي استظهره من ذيل صحيحة ابن سنان على التعميم لجميع الخيارات بقوله : وفي الاعتماد على هذا الاستظهار تأمّل في مقابلة القواعد ، مع أنّه يمكن منع دلالة هذا المناط المستنبط عليه ، لأنّ ظاهر الصحيحة الاختصاص بما إذا كان التزلزل وعدم كون المبيع لازما على المشتري ثابتا من أوّل الأمر ، كما يظهر من لفظة « حتّى » الظاهرة في الابتداء (2).

ومراده من هذا الكلام :

أوّلا أنّ هذا الاستظهار من جهة مقابلته للقواعد الأوّلية المستفادة من أدلّة الأحكام - مع أنّه مخالف لها - لا يمكن الركون إليه ، إذ مقتضى القواعد الأوّلية أنّ مال شخص لو تلف في يده وعند نفسه لا يكون ضمانه على غيره ، ففي ما نحن فيه مثلا إذا

ص: 140


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 177.
2- « المكاسب » ص 301.

تلف المبيع عند المشتري وبعد قبضه إيّاه لا وجه لأن يكون ضمانه على البائع ولو كان للمشتري الخيار فقط دون البائع ، فهذا الحكم - أي كون الضمان على البائع - مخالف للقواعد المستفادة من الأدلّة الأوّلية ، والخروج عن تلك القواعد المسلمة الثابتة بالأدلّة القطعيّة بمثل هذا الاستظهار مشكل.

وفيه : إن صح هذا الظهور فهذا حكم تعبّدي مخالف للقواعد ، ودليله هذا الظهور كما أنّه في خياري الحيوان والشرط ثبت هذا الحكم ، مع أنّه هناك أيضا مخالف للقواعد. اللّهمّ إلاّ أن ينكر مثل هذا الظهور ، فحينئذ لا يثبت هذا الحكم وإن لم يكن مخالفا للقواعد ، لأنّ ثبوت كلّ حكم يحتاج إلى دليل.

وثانيا : مراده من قوله « إنّ ظاهر الصحيحة هو اختصاص هذا الحكم بما لو كان التزلزل من أول الأمر » أنّ خياري الحيوان والشرط يوجب تزلزل المعاملة من أوّل وجوده إلى انقضاء الخيار ، وسائر الخيارات ليس كذلك ، ولفظة « حتّى » الغائية ظاهرة في استمرار ما قبلها من أوّل وجوده إلى حصول تلك الغاية ، مثلا سرت حتّى دخلت البصرة ، أي سيري كان مستمرّا من أوّل وجوده إلى حصول الغاية أي دخول البصرة.

وفيما نحن فيه هذا المعنى متحقّق بالنسبة إلى خياري الحيوان والشرط ، أي تزلزل ملكيّة المشتري للمبيع متحقّق من أوّل وجوده إلى انقضاء الخيار في هذين الخيارين دون سائر الخيارات ، فلا عموم في البين كي يشمل سائر الخيارات ، أي خيار الغبن والعيب والرؤية وغيرها.

وفيه : أنّ قوله علیه السلام في صحيحة ابن سنان « وعلى البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ويصير المبيع للمشتري » مفاده كما هو الظاهر منه أنّ ضمان المبيع على البائع من أوّل وجود المعاملة إلى انقضاء الشرط ثلاثة أيّام أي خيار الحيوان ، وصيرورته المبيع للمشتري بحيث لا يمكن له أن يسلبه عن نفسه بالفسخ ، فيكون كناية عن اللزوم.

ص: 141

وهذا المعنى - أي كون المبيع مثلا في ضمان البائع من أوّل وجود المعاملة مستمرّا إلى انقضاء الخيار وحصول اللزوم - لا مانع من الالتزام به في جميع الخيارات ، فالالتزام بهذا الحكم في جميع الخيارات لا يكون مخالفا لما هو ظاهر كلمة « حتّى » وان قلنا بظهورها في استمرار وجود ما قبلها أي الحكم المغيى بها إلى حصول تلك الغاية.

وبعبارة أخرى : في غير هذين الخيارين - أي خياري الحيوان والشرط - كخيار الغبن والعيب أيضا الخيار وعدم استقرار الملك بحيث يمكن أن يسلب عن نفسه من أوّل وقوع العقد ، ووجوده موجود غاية الأمر لا يعلم بوجوده وبعد الاطلاع على أنّ المبيع معيب أو لا يساوي الثمن الذي اشتراه بذلك الثمن أي بعد ظهور العيب والغبن يعلم بوجود الخيار ، فظهور العيب أو الغبن كاشف عن وجود الخيار من أوّل الأمر ، لا أنّه سبب لحدوث الخيار ، فالتزلزل وعدم كون الملكية مستقرّا حاصل من أوّل وجود العقد ، ومستمرّ إلى انقضاء زمان الخيار.

نعم لو كان هناك قائل بأنّ ظهور العيب أو العلم بالغبن الفاحش موجب لحدوث الخيار من حين العلم والظهور فلا بدّ له من القول بعدم التعميم ، بناء على أن يكون هذا التعليل علة للتعميم وشمول القاعدة لسائر الخيارات.

وحاصل الكلام : أنّه بناء على أنّ ظهور الغبن والعيب كاشف عقلي من ثبوت الخيار لا أنّه شرط شرعي لحدوثه ، فلا يبقى مجال لإشكال شيخنا الأعظم قدس سرّه وتأمّله في استظهاره.

نعم هناك أمر آخر يوجب التأمّل في استفادة العموم من التعليل ، وهو أنّ جعل الضمان على البائع في خيار الحيوان مع قبض المشتري للمبيع وتلفه في يده من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان وأنّه قبل مضي ثلاثة أيّام يمكن أن يخفى عليه بعض نقائص المبيع ، فجعل القبض كالعدم ، وجعل مناط سقوط الضمان انقضاء الشرط وحصول الملكية المستقرّة بحيث لا يمكن أن يسلبه عن نفسه بالفسخ. ومع هذا

ص: 142

الاحتمال كيف يمكن أن يقال بتعميم المناط.

وأمّا خيار الشرط فشريك مع خيار الحيوان في هذه الجهة والنكتة ، ولذلك أطلق على كليهما الشرط في الأخبار ، غاية الأمر أنّ الشرط في خيار الحيوان من قبل الشارع ، وفي خيار الشرط من قبل المتعاملين. وهذا ليس بفارق فيها هو المهمّ في المقام من أنّ المناط لجعل الضمان في عهدة من ليس له الخيار حتّى بعد قبض من له الخيار من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان ، أو المشروط له في خيار الشرط ، فيكون التعليل مختصّا بهذين الخيارين ، ولا يسري إلى خيار المجلس فضلا عن سائر الخيارات.

وأمّا ما ربما يقال - في وجه عدم التعميم واختصاص هذه القاعدة بهذين الخيارين دون غيرهما من أنّ قولهم : « التلف في زمن الخيار » يدلّ على أنّ الخيار المذكور في هذه القاعدة لا بدّ وأن يكون من الخيارات الزمانية ، أي ما كان لها زمان محدود من طرف الشارع كخيار الحيوان المحدود بثلاثة أيّام ، أو من طرف المتعاملين كخيار الشرط ، وليس في سائر الخيارات تحديد بحسب الزمان لا من طرف الشارع ولا من طرف غيره ، فهذه القاعدة بقرينة كلمة « زمن الخيار » لا تشمل الخيارات غير الزمانية - فعجيب.

وذلك من جهة أنّ كلّ حادث زماني لا بدّ وأن يكون لوجوده زمان يمتدّ بامتداد وجوده ، وكما أنّ لكلّ جسم مكان يحيط به كذلك لكلّ حادث في سلسلة الزمان وفي وعائه زمان يحيط به ، وهذا الزمان هو عمر ذلك الشي ء ، فكلّ شي ء كان امتداد وجوده في وعاء الزمان أكثر يكون عمره أطول ، وكلّ خيار سواء كان أحد هذين الخيارين أو غيرهما حيث أنّه حادث زماني فله زمان يحيط به من أوّل وجود هذا الحقّ إلى آخره وانتهائه ، فقولهم : « التلف في زمن الخيار » أي ذلك الزمان المحيط بالخيار ، لا الخيارات الزمانية كما توهّم.

ص: 143

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا : أنّ مدرك هذه القاعدة هو الأخبار الواردة في خياري الحيوان والشرط ، والظاهر اختصاصها بذينك الخيارين وعدم شمولها لسائر الخيارات حتّى خيار المجلس ، فافهم. وذلك لعدم تنقيح المناط الذي ذكره شيخنا الأعظم قدس سرّه بطور يوجب الاطمئنان حتّى نحكم بالتعميم.

وأمّا شمولها لخيار المجلس - باعتبار إطلاق الشرط عليه في الأخبار مع اختصاص مورد الروايات الواردة في هذا الباب بخياري الحيوان والشرط - فلا يخلو من نظر وتأمّل.

وأمّا شمولها للثمن والمثمن بالنسبة إلى التالف ، وللبائع والمشتري بالنسبة إلى من لا خيار له ، فنقول :

إنّ صور المسألة أربع ، لأنّ التلف المفروض أنّه بعد القبض - وإلاّ يكون من مصاديق قاعدة تلف المبيع قبل القبض ، ويكون خارجا عن دائرة انطباق هذه القاعدة - إمّا يكون في يد البائع أو المشتري ، وفي كلّ واحدة من الصورتين إمّا أن يكون الخيار للذي وقع التلف في يده فقط ، أو يكون للآخر الذي لم يقع التلف في يده.

الصورة الأولى : أن يكون التلف في يد البائع ، فقهرا يكون التالف هو الثمن ، لأنّ المفروض أنّه بعد القبض ، ويكون الخيار للآخر أي المشتري فلا ضمان لأحد ، لأنّ ملك البائع تلف في يده ويكون كسائر أمواله. ولا وجه لأن يكون تلفه موجبا لضمان شخص آخر إلاّ بأحد أسباب الضمان المعروفة ، وليس شي ء منها في البين.

الصورة الثانية : أن يكون التلف أيضا في يد البائع ، ولكن كان الخيار للبائع فقط. وهذه هي الصورة التي يكون الضمان على المشتري إن قلنا بتعميم القاعدة بالنسبة إلى البائع والمشتري ، لأنّ الضمان يكون على من لا خيار له وهو هاهنا المشتري ، كما هو المفروض.

الصورة الثالثة : أن يكون التلف في يد المشتري وكان الخيار للبائع فقط ، ولا شكّ

ص: 144

في أنّ الضمان لا يكون على أحد أصلا ، وذلك لأنّ مال المشتري تلف في يده ، ولا وجه لأن يكون في ضمان شخص آخر إلاّ بأحد أسباب الضمان من إتلاف ذلك الآخر ، أو كون يده يد ضمان ، أو غير ذلك من أسباب الضمان ، والمفروض أنّه ليس شي ء آخر في البين.

الصورة الرابعة : أن يكون التلف في يد المشتري والخيار له فقط وهذه الصورة هي التي مشمولة لهذه القاعدة نصّا وفتوى إجماعا ، ويكون من المسلّمات أنّ ضمان التالف على البائع الذي ليس له الخيار فيما إذا كان الخيار الذي للمشتري خيار الحيوان أو خيار الشرط ، وأمّا فيما عداهما من الخيارات فيأتي ذلك الكلام الطويل الذي تقدّم.

بقي الكلام في أنّ الضمان المذكور في هذه القاعدة - وأنّه من مال من لا خيار له - هل هو ضمان المسمّى الذي هو أحد العوضين في المعاملة ، أو هو عبارة عن الضمان الواقعي أي المثل والقيمة كلّ واحد منهما في محلّه ومورده؟

فنقول : مبنى المسألة على أنّه جعل الشارع قبض ذي الخيار في المفروض كالعدم ، فالضمان الثابت قبل القبض باق لعدم ما يوجب رفعه ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من القول بأنّ الضمان ضمان المسمى ، لعدم الشكّ في كون الضمان السابق على القبض ضمان المسمّى.

وأمّا إن قلنا بأنّ الضمان إذا تلف في يد ذي الخيار بعد القبض حكم تعبّدي ، لا من جهة أنّ الشارع جعل القبض كلا قبض ، بل يقبض المشتري مثلا خرج المبيع عن عهدة البائع ، وحصل القبض والإقباض الذي كان من مقتضيات العقد.

فقوله علیه السلام فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد القبض في زمن خيار الحيوان أو الشرط « فهو من مال البائع » حكم تعبّدي لا ربط له بضمان البائع قبل القبض الذي كان عبارة عن اشتغال ذمّته بتسليم المبيع المعيّن المسمّى إلى المشتري ، لأنّ المفروض أنّ ذلك حصل وتمَّ ، ولا معنى للزوم حصوله ثانيا ، فلا معنى لبقائه بعد القبض

ص: 145

والتسليم ، فحينئذ لا طريق لمعرفة نوع الضمان إلاّ الاستظهار من هذه الجملة ، أي قوله علیه السلام : « فهو من مال بايعه ».

فنقول : يمكن أن يكون المراد من هذه الجملة أنّ خسارته وغرامته على البائع ، سواء فسخ المعاملة أم لم يفسخ ، بناء على أنّ تلف المبيع لا يكون مانعا عن جواز فسخ المشتري في زمان خياره. نعم لو فسخ المشتري يستردّ عين الثمن إن كان شخصيّا وكان باقيا ، وإن كان تالفا فمثله أو قيمته ، كلّ واحد منهما في مورده ، وإن كان كلّيا فيأخذ أحد مصاديقه. وإن لم يفسخ فيكون البائع ضامنا للمبيع التالف في يد المشتري بالضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة كلّ واحد في مورده ، لأنّه معنى كون غرامة التالف وخسارته على البائع هو أنّ ضمانه الواقعي عليه.

ويمكن أن يكون المراد منها أنّ التلف يقع من مال بائعه ، بمعنى أنّه ينتقل إلى البائع آنا ما فيتلف ، ولا شكّ في أنّه لا ينتقل إلى البائع مجّانا وبلا عوض ، فلا بدّ وأن يكون انتقاله إلى البائع إمّا ببدله الواقعي من المثل والقيمة كلّ في محلّه ، أو يكون بانفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف حتّى يرجع كلّ واحد من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل ، أي إلى مالكه قبل وقوع المعاوضة ، كما قلنا في مسألة تلف قبل القبض. ونتيجة الانفساخ القهري هو نتيجة الفسخ الاختياري - كما بيّنّاه - فيرجع عين الثمن إلى المشتري لو كان باقيا وإلاّ فعلى التفصيل الذي تقدّم في صورة الفسخ.

هذه الاحتمالات كلّها في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات : فالظاهر هو انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف ، وذلك من جهة أنّ قوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه » ظاهر في أنّ التلف يقع في مال البائع ، أي التالف يكون من أمواله لا أنّ خسارة التالف وغرامته عليه. وهذا أي كون التلف واقعا على ماله لا يمكن إلا بالانفساخ آنا ما قبل التلف حتّى يرجع التالف إلى ملك البائع ، فيكون التلف واقعا في ملكه.

ص: 146

فالصواب هو أنّ الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمّى لا الضمان الواقعي أي المثل والقيمة.

وبعبارة أخرى : التلف بعد القبض - إذا كان التلف في يد من له الخيار فقط دون صاحبه - في حكم التلف قبل القبض ، أي يكون ذلك الضمان الذي قبل القبض موجود وفي عهدة البائع باقيا بعد القبض أيضا ، ومعلوم أنّه كان ضمان المسمّى. وبهذا صرّح جمع من المحققين كالمحقق والشهيد الثانيين (1) ، ويظهر أيضا من الشهيد قدس سرّه في الدروس (2) حيث قال : وبالقبض ينتقل الضمان إلى القابض ما لم يكن له خيار. من جهة أنّ مفهوم هذا الكلام هو أنّه لو كان للقابض الذي هو المشتري في المفروض خيار فلا ينتقل الضمان إليه ، بل يبقى على حاله.

وخلاصة الكلام : أنّ لفظ « الضمان » وإن كان ظاهرا في الضمان الواقعي ، أي كون الشي ء بوجوده الاعتباري في العهدة وارتفاعه عن العهدة ورفع اشتغال الذمّة بأداء ذلك الشي ء ، وحيث أنّ الشي ء بعد تلفه لا يمكن أداؤه بخصوصيّته الشخصيّة ، فلا بدّ وأن يطبق ما في الذمّة على ما هو أقرب إليه من غيره ، وهو مثله وإن كان له المثل أي كان من المثليّات ، وقيمته وماليّته إن كان من القيميّات ، وذلك من جهة أنّ نظر العقلاء في مقام تفريغ الذمّة في الماليّات والغرامات بعد تعذّر الخصوصيّات الشخصيّة اعتبار وجود الجهات النوعيّة والمماثلات ، وبعد تعذّر هذه الجهات أيضا لا يرون الخروج عن العهدة إلاّ بأداء القيمة.

وبعبارة أخرى : لا فرق فيما هو المراد من الضمان بين باب التلف والإتلاف ، فإذا حكم الشارع بالضمان في مورد من موارد التلف - كما فيما نحن فيه - يكون المراد منه هو الضمان في باب الإتلاف.

ص: 147


1- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 308 ، « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 181.
2- « الدروس » ج 3 ، ص 210.

ولكن في المقام لم يقل الشارع إنّ من ليس له الخيار من المتعاملين ضامن لما تلف في يد ذي الخيار ، وأيضا لم يقل إنّ التلف في يد ذي الخيار يكون بحكم إتلاف من ليس له الخيار ، بل قال : التلف في زمن الخيار من مال من ليس له الخيار ، أو من مال بائعه. وأنت خبير بأنّ هذه العبارات غير التعبير بأنّه ضامن ، ولا تفيد ذلك المعنى الذي يستفاد من لفظة « الضمان ».

نعم أورد شيخنا الأستاذ قدس سرّه هاهنا إشكالين على كون الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمّى :

الأوّل : هو أنّ في صحيحة ابن سنان حكم بضمان البائع لو تلف المبيع في يد المشتري الذي له الخيار فقط دون البائع ، سواء كان التالف نفس المبيع أو صفة من أوصافها ، حيث قال الراوي ، فيموت العبد أو الدابّة ، أو يحدث فيه حدث ، على من يكون ضمان ذلك؟ فقال علیه السلام : « على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ». ولا شكّ في أن الوصف لا يقابل بشي ء من المسمّى ، وتمام الثمن بإزاء نفس العين.

نعم الأوصاف ربما توجب زيادة قيمة العين المتصفة بها ، وإلاّ فلا يقع شي ء من الثمن بإزاء الوصف ، ولذلك تخلّف الوصف لا يوجب تبعّض الصفقة ، بل يوجب الخيار بقبول المعاملة بنفس الثمن أو يفسخ ويستردّ الثمن تماما ، لا أنّه يقبل ولا يردّ المعاملة ويستردّ مقدارا من الثمن بإزاء فقدان الوصف.

فإذا كان الأمر كذلك ، فلا يمكن أن يكون الضمان الذي حكم الإمام علیه السلام في مورد حدوث الحدث بالعبد أو الدابّة ضمان المسمّى ، لأنه بالنسبة إلى الوصف ليس مسمّى في البين حتّى يكون ضمانه ضمان المسمّى ، فلا بدّ وأن يحمل قوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه » على الضمان الواقعي حتى يشمل ضمان العين والوصف جميعا وإلاّ يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

والثاني : هو أنّ ضمان المسمّى ارتفع بالقبض ، لأنّ ضمان المسمّى عبارة عن اشتغال

ص: 148

ذمّته بالمثمن إن كان بائعا ، وبالثمن إن كان مشتريا ، والمفروض في المقام أنّ البائع سلّم المثمن إلى المشتري وقبض المشتري ، فلا يبقى مورد ومجال لاشتغال ذمّته ثانيا بإعطاء المثمن ، بل هو من تحصيل الحاصل المحال. فلو تجدّد ضمان بواسطة كون التلف في زمن الخيار لا بدّ وأن يكون هو الضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة ، لأنّه الظاهر من لفظ « الضمان » (1).

والجواب : أمّا عن الإشكال الأوّل :

فأوّلا : أنّ المراد من حدوث الحدث في المبيع ليس هو فوات الوصف كما زعمه المستشكل ، بل المراد به أيضا التلف والموت ، فهو من قبيل التفنّن في العبارة ، أو المراد به موت خاصّ كالفجأة مثل ، فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ ، وكم له من نظير ، وقد ورد في الأخبار بهذا المعنى.

وثانيا : فبأنّ الضمان الواقعي أيضا لا يمكن أن يكون جامعا ، لأنّ الإنسان لا يضمن بالمثل أو القيمة لتلف ماله في يده ، فلا بدّ من حمل كلامه علیه السلام على معنى يلائم مع الانفساخ وغيره ، وهو أن يقال : إنّ المراد من قوله علیه السلام « فهو من مال بائعه » هو أنّه خسارته على البائع ويذهب من كيسه ، سواء أكانت الخسارة التي عليه من جهة انفساخ المعاملة ورجوع الثمن إلى المشتري من دون مقابل يرجع إلى البائع لأنّ المفروض أنّ مقابل الثمن تلف في يد المشتري بدون أن يكون عليه شي ء ، أو كانت من جهة فسخ المشتري ورجوع الثمن بتمامه إليه ورجوع العين الناقصة إلى البائع ، ففقدان الوصف خسارة واردة على البائع من غير تدارك.

وأمّا عن الإشكال الثاني : فبأنّ شخص ذلك الضمان وإن ارتفع بالإعطاء والإقباض وتسليم المثمن إلى المشتري ولكن لا مانع من إتيان الدليل على حدوث فرد آخر من ضمان المسمّى بواسطة التلف عند ذي الخيار تعبّدا ، كما هو كذلك وجاء الدليل ، أي

ص: 149


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 180.

قوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه ».

ثمَّ إنّه هل يجري استصحاب بقاء الكلى الجامع بين الفردين الذين أحدهما ضمان المسمّى قبل القبض ، وثانيهما هو الفرد الآخر الذي بعد القبض إذا شككنا في بقاء الضمان بعد القبض أي بقاء الجامع بين الفردين ، وإلاّ فالفرد منه الذي يقينا كان موجودا ارتفع بالقبض يقينا ، ولكن حيث أنّه من المحتمل حدوث فرد آخر منه أي من ضمان المسمّى بعد القبض في نفس زمان ارتفاع ذلك الفرد بواسطة الإقباض والتسليم ، فيكون الكلّي الموجود يقينا في ضمن الفرد الزائل قطعا ، موجودا بقاء احتمالا في ضمن فرد آخر محتمل الحدوث؟ فيه إشكال ، فإنّه من القسم الأوّل من الأقسام التي للقسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي بنينا تبعا لأكثر المحقّقين على عدم جريانه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه ليس هاهنا وجودين من ضمان المسمّى وأن يكون انعدام أحدهما وحدث وجود آخر ، بل هناك وجود واحد من ضمان المسمّى ، ممتدّ من أوّل المعاملة إلى ما بعد تلف المبيع في يد المشتري في زمان خياره الخاصّ به ، حتّى يخرج عن عهدته بإرجاع الثمن إلى المشتري بدون مقابل.

هذا في مفروض المسألة والمقام ، غاية الأمر بسببين ، حدوث هذا الضمان بسبب ، وبقاؤه بسبب آخر ، فحدوثه بسبب التزام المعاملي إلى زمان القبض ، وبعد حصول القبض ووفائه بالتزامه لا تأثير للالتزام المعاملي ، لأنّه كما ذكرنا يكون من قبيل تحصيل الحاصل ولكن بقاؤه بعد القبض يكون بالتعبد من قبل الشارع ، والدليل على هذا التعبد هو الاستصحاب.

لا يقال : بعد زوال العلّة ينعدم المعلول ، فإذا جائت علّة أخرى لذلك الشي ء فلا بدّ وأن يكون معلولة موجودا بوجود آخر ، فيعود الإشكال.

وذلك من جهة أنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من السببين في حدّ نفسه لو كان

ص: 150

وحده كاف في تأثيره في وجود المعلول ، غاية الأمر عند اجتماعهما يتداخلان ، فإذا انعدم أحدهما يؤثّر الآخر مستقلا كالخيمة القائمة بعمودين ولكن كلّ واحد منهما لو انفرد كاف في قيام الخيمة به ، فإذا انعدم أحدهما يكون قيام الخيمة بقاء بذلك العمود الباقي ، كما أنّه هو كذلك بالوجدان.

فلو فرضنا قيام الخيمة حدوثا بأحد العمودين ، ثمَّ في زمان ارتفاع ذلك العمود قام عمود آخر مقامه ، فالحدوث مستند إلى علّة ، وبقاء الخيمة إلى علة أخرى ، لا أنّ تلك الخيمة بواسطة ارتفاع العمود الأوّل تنعدم وتوجد خيمة أخرى ، وفي الاعتباريات تصويره وإمكان وقوعه أسهل وأوضح ، كما أنّ في باب الخيارات يمكن أن يكون حدوث الخيار بموجب وبقاؤه بموجب آخر.

« والحاصل » أنّه لا مانع من كون حدوث شي ء بعلّة وبقائه بعلّة أخرى ، ولا يخرج ذلك الشي ء بواسطة تعدّد العلّة من حيث علّة الحدوث والبقاء عن الوحدة.

ثمَّ إنّه على تقدير جريان هذا الاستصحاب هل يعارضه استصحاب عدم الانفساخ - أي الأصل العدمي مقابل هذا الأصل الوجودي - أم لا ، فإنّهما إذا تعارضا يتساقطان ، فلا يبقى استصحاب حتّى يقال ببقاء الضمان حتّى بعد القبض؟

الظاهر عدم تعارض هذين الأصلين ، أي الأصل الوجودي والعدمي ، وذلك من جهة حكومة الأصل الوجودي هاهنا على الأصل العدمي ، لأنّ الشكّ في الانفساخ مسبّب شرعا عن الشكّ في بقاء الضمان ، وذلك من جهة أنّ بقاء ضمان المسمّى تعبّدا من إثارة الشرعي انفساخ المعاملة حتّى يرجع الثمن إلى المشتري الذي له الخيار وحده دون البائع ، ومعلوم أنّ الاستصحاب في جانب السبب يرفع موضوع استصحاب المسبّب تعبّدا وفي عالم التشريع.

تذييل : وهو أنّ هذه القاعدة هل تختصّ بالمبيع والثمن الشخصيّين ، أو تشمل الكليّين منهما؟

ص: 151

مثلا لو باع عبدا أو حيوانا ورفع الغرر بذكر الأوصاف بكذا درهم أو دينار أيضا كليّين ، لا الدرهم أو الدينار الشخصيّين ، فالبائع سلّم إلى المشتري مصداقا من مصاديق ذلك الكلّي وأقبضه إيّاه ، فتلف ذلك المصداق في يد المشتري في زمان خياره المخصوص به.

فهل تشمل هذه القاعدة مثل هذه المورد ، فتجب على البائع ردّ مصداق الثمن الكلّي إن كان قبضه ، أو لا تشمل فلا تنفسخ المعاملة ، بل مال المشتري تلف في يده ، ولا ضمان على أحد لا على المشتري ولا على غيره ، لأنّ مال شخص تلف عند نفسه فلا وجه للضمان ، لا المسمّى ولا الواقعي؟

فنقول : الظاهر عدم شمولها للثمن أو المبيع الكليّين.

أمّا أوّلا : فمن جهة ظهور قوله علیه السلام في صحيحة ابن سنان « فهلك في يد المشتري » في أن يكون التالف في يد المشتري هو نفس المبيع ، لا الفرد المنطبق عليه المبيع الكلّي. وقد عرفت أنّ العمدة في دليل هذه القاعدة هي الروايات ، وهي لا تدلّ على أزيد ممّا كان المبيع شخصيّا ، ففي المبيع الكلّي يحتاج إتيان هذه القاعدة إلى دليل ، وهو مفقود في المقام.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ المبيع إذا كان شخصيّا فبعد قبض المشتري له وتلفه في يده فإنّ حكم الشارع بأنّه - أي التلف من مال البائع - معناه أنّ التلف وقع في ملك البائع وماله ، وهذا لا يمكن إلاّ بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف حتّى يكون التلف في ملك البائع ، وإلاّ فمال المشتري تلف في يده ولا معنى لأن يكون شخص آخر ضامنا له.

وأمّا إذا كان المبيع كليا ، وأعطى البائع مصداقا من ذلك الكلّي للمشتري ، وتلف ذلك الفرد المنطبق عليه الكلّي في يده فلا يلزم منه انفساخ العقد إن حكم الشارع بأنّ التلف وقع في ملك البائع ، من جهة أنّ ذلك الفرد ليس هو المبيع حتّى يكون العقد برجوعه إلى البائع منفسخا ، بل العقد باق ويعطي فردا آخر للمشتري مع أنّ ظاهر

ص: 152

القاعدة في موارد انطباقها هو الانفساخ.

وأمّا القول بأنّ ذلك الفرد المنطبق عليه الكلّي بعد انطباقه عليه يكون بالحمل الشائع هو المبيع - فرجوعه إلى البائع معناه الانفساخ والانحلال - فعجيب ، لأنّ المدار في الانفساخ عدم إمكان تسليم البائع للمبيع إلى المشتري بعد تلف ما هو المبيع في يد المشتري ، والمفروض ليس كذلك.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : القدر المسلّم منها هو فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد قبضه إيّاه في خيار الحيوان وخيار الشرط ، وأمّا فيما عداهما ، أمّا خيار المجلس فيظهر من الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه الميل إلى شموله له ، وإن قال : « على إشكال » (1). وأمّا سائر الخيارات المتّصلة بالعقد فجريانها فيها في خصوص المثمن لا يخلو من وجه ، وهو عبارة عن عموم التعليل في صحيحة ابن سنان المستفاد من قوله علیه السلام : « حتّى ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري » وان تأمّل الشيخ الأعظم في هذه الاستفادة (2) ، وعلى أيّ حال تقدّم تفصيل الكلام فيه في الجهة الثانية.

وأمّا الخيارات المنفصلة عن العقد ، كخيار الشرط إذا كان الشرط أي الخيار المجعول منفصلا عن العقد ، فقد تقدّم الإشكال

في جريان القاعدة ، لظهور كلمة « حتّى ينقضي الشرط » في كونه من ابتداء المعاملة إلى انقضائه - أي الشرط - على كلام وإشكال منّا ، تقدّم في الجهة الثانية.

وأمّا شمولها للثمن فقد تقدّم أنّه تابع لأن يكون هذا الحكم الكلّي - أي التلف في

ص: 153


1- « المكاسب » ص 301.
2- المصدر.

زمن الخيار من مال من لا خيار له - على طبق القواعد الأوّلية أم لا بل حكم تعبّدي مستنده الإجماع والأخبار. فبناء على الأوّل تشمل ، وبناء على الثاني فقوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه » أي تلف المثمن في أيّام خيار المشتري في يده من مال البائع ، فإسراء هذا الحكم إلى الثمن وتلفه في يد البائع في أيّام خياره المختصّ به من مال المشتري أشبه بالقياس ، بل هو نفسه. وقد تقدّم كلّ ذلك فلا نطول المقام.

وأما جريانها في المبيع الكلي فيما إذا طبق البائع على فرد ومصداق وأعطاه وسلّمه إلى المشتري ، فقد تقدّم الكلام والإشكال في شمولها له فلا نعيد.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 154

20 - قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات

ص: 155

ص: 156

قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات (1)

ومن القواعد الفقهيّة المعروفة بين الفقهاء أنّه « يحرم أخذ الأجرة على كلّ ما هو واجب عليه ».

فنقول : اختلف الفقهاء في أنّه هل يجوز أخذ الأجرة على الواجبات أم لا؟

فالمشهور ذهبوا إلى عدم الجواز مطلقا ، بل ادعى جماعة الإجماع عليه ، كما في الرياض (2) ، وجامع المقاصد (3) في بعض فروع المسألة ، وذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا ، وبعضهم فصّل بين التعبّدي والتوصّلي ، فقال بالجواز في خصوص الثاني ، وفصّل آخرون بين التعييني والتخييري ، وجماعة أخرى بين الكفائي والعيني ، وبعضهم فصّل بين الكفائي والتوصّلي فقال بالجواز ومنع في سائر الأقسام ، إلى سائر التفاصيل التي يجدها المتتبّع في كلام القول لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ في المسألة ، ويعلم منه قهرا حال سائر الأقوال.

فنقول : إنّ الحقّ في المقام هو عدم جواز أخذ الأجرة بل مطلق العوض - بأيّ عنوان كان ، سواء أكان من باب الإجارة أو من باب سائر العقود المعاوضيّة - على مطلق ما هو واجب على الإنسان فعله ، سواء أكان واجبا عينيّا أو كفائيّا ، أو تعيينيّا أو تخييريّا ، نفسيّا أو غيريّا ، تعبّديّا أو توصّليّا ، إلاّ على احتمال في التخيير الشرعي.

ص: 157


1- (*) « بلغة الفقيه » ج 2. ص 3 - 44 ، « رسالة في حرمة أخذ الأجرة على الواجبات » ( اصفهانى ) مع « الحاشية على المكاسب » ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 119 ، « قواعد فقهي » ص 149 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ص 510.
2- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 505.
3- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 36.

نعم هناك شي ء يجب التنبيه عليه وهو أنّ هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشي ء واجبا بالمعنى الاسم المصدري ، وأمّا إذا كان واجبا بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الأجرة عليه ، وسيأتي تفصيل هذا الكلام وتحقيقه عند التكلّم في الواجبات النظاميّة إن شاء اللّه تعالى.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا بدّ في تحقيق المقام من تمهيد مقدّمة ، وهي أنّه يشترط في صحّة عقد الإجارة - بل في سائر العقود المعاوضيّة التي تقع على الأعمال - أمور :

الأوّل : أن لا يكون سفهيّا ، أي يكون في العمل منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء تعود إلى المستأجر ، وإلاّ يكون أكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل وهذا واضح جدا.

الثاني : أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر لأنّ حقيقة الإجارة هي تمليك العمل للمستأجر بعوض مالي معلوم في إجارة الأعمال ، فإذا لم يكن هذا العمل قابلا لأن يملكه المستأجر فتكون هذه المعاوضة باطلة ، لأنّ حقيقة المعاوضة بين شيئين لا يتحقّق إلاّ بعد إمكان أن يدخل كلّ واحد من العوضين في ملك الآخر ، وهذا أمر زائد على الشرط الأوّل ، لأنّه من الممكن أن تعود منفعة العمل إلى شخص بدون دخول العمل في ملكه.

الثالث : أن يكون العمل مقدورا للعامل تكوينا وتشريعا ، وفعلا وتركا.

أمّا اشتراط القدرة التكوينيّة في العمل المستأجر عليه بالنسبة إلى العامل فمعلوم ، لأنّه لو كان عاجزا عن العمل - والمفروض أنّ الإجارة وقعت على عمله مباشرة - فلا يقدر على تسليم العمل الذي استؤجر عليه ، ومعلوم أنّ مثل هذه المعاملة لغو في نظر العقلاء ، ويكون من قبيل « وهب الأمير ما لا يملكه ».

وأمّا اشتراط القدرة التشريعيّة فلأنّ الشارع لو سلب القدرة في عالم التشريع عن مثل هذا العمل فيرى العامل في عالم اعتباره التشريعي عاجزا فيرى المعاملة باطلة.

فظهر أنّ صحّة المعاملة في باب إجارة الأعمال متوقّفة على أن يكون الأجير قادرا

ص: 158

على فعل العمل وتركه تكوينا وتشريعا.

إن قلت : عرفنا لزوم القدرة على الفعل ، ولكن لما ذا يلزم القدرة على الترك؟

قلنا : لأنّ معنى مقدوريّة فعل من الأفعال هو أن يكون الفعل والترك بإرادته وتحت اختياره ، وإلاّ لو كان الفعل ضروريّا ، كحركة الارتعاش في اليد مثلا ، لا يقال إنّ هذا الفعل مقدور له.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إن الواجب بأقسامها فيما عدا الواجب التخييري الشرعي التوصلي - على احتمال سيأتي - لو كان الواجب هو العمل بالمعنى الاسم المصدري - أي يكون المطلوب منه العمل الصادر ، لا جهة إصدار العمل ، لأنّ في العمل جهتين : إحداهما نفس الصادر ، والثانية جهة إصداره ، أي فاعليّة العامل لهذا العمل. وربما يكون هذا هو المراد من قولهم : جهة انتساب الفعل إلى فاعل مأخوذ في معنى المصدر ، بخلاف اسم المصدر - فلا يمكن أخذ الأجرة عليه ، لأنّ الفعل والعمل بواسطة الإيجاب خرج عن تحت قدرته واختياره تشريعا ، لأنّ الشارع في عالم تشريعه يرى العمل ضروري الوجود وأنّه ليس للمكلف تركه ، فكما أنّ في الحركة الارتعاشيّة في عالم التكوين ليس له تركه وخارج عن تحت قدرته تكوينا ، كذلك في جميع الواجبات في باب الأعمال إذا كانت واجبة بالمعنى الاسم المصدري تخرج عن تحت قدرة المكلف تشريعا ، فليس بقادر على العمل تشريعا.

وقد ذكرنا في المقدّمة إناطة صحّة الإجارة على أن يكون العمل مقدورا تكوينا وتشريعا ، ولذا قلنا بعدم صحّة الإجارة على الفعل المحرّم.

فالحاصل أنّ العمدة في عدم صحّة أخذ الأجرة على الواجبات بحيث يكون وافيا بجميع أقسام الواجب - من التعبّدي والتوصّلي ، والعيني والكفائي ، والتعييني والتخييري ، والنفسي والغيري - هو هذا الوجه ، وإلاّ سائر الوجوه التي ذكروها إمّا غير تامّ في حدّ نفسه ، أو أخصّ من المدعى.

ص: 159

ومن جملة الوجوه التي ذكروها في المقام هو الإجماع على عدم الصحّة.

ولكن أنت خبير أوّلا بأنّ الإجماع في أمثال هذه المسائل التي مدرك المجمعين ومستند المتّفقين معلوم ليس من الإجماع المصطلح عند المتأخرين الذي بنينا على حجيّته ، بل لا بدّ من الرجوع إلى مداركهم والنظر فيها ، وأنّها هل صحيحة هي أم لا؟

وثانيا : كيف يمكن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة التي اختلاف الأقوال فيها بهذه الكثرة.

ومن جملتها منافاة أخذ الأجرة لقصد الإخلاص والقربة.

وأجاب عن هذا صاحب الجواهر قدس سرّه بأنّ الإجارة توجب تأكّد الإخلاص ، لأنّ الوجوب يتضاعف بسبب الإجارة (1).

وأورد عليه شيخنا الأعظم قدس سرّه في مكاسبه ، بأنّ العمل الذي ليس فيه أجر دنيوي ، وكون الداعي على إتيانه فقط هو امتثال أمر اللّه تعالى ، قطعا أخلص من العمل الذي فيه أجر دنيوي ، ويكون تمام الداعي أو بعضه على الإتيان ذلك الأجر ، بل إذا كان تمام الداعي ذلك الأجر الدنيوي فلا إخلاص فيه أصلا ، لا أنّ العمل المجرّد أخلص فقط (2).

فالإنصاف أنّ أخذ الأجرة في العباديات ينافي الإخلاص وقصد القربة ، وإنكاره مكابرة.

ولكن هذا الدليل كما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرّه أخصّ من المدّعى ، من جهة عدم شموله للتوصّليّات ، بل أعمّ من المدّعى من وجه ، لجريانه في المندوبات التعبّديّة التي هي مندوبة ومستحبّة على نفس الأجير (3).

إن قلت : إن كان أخذ الأجرة ينافي الإخلاص فما تقول في العبادات المستأجرة

ص: 160


1- « جواهر الكلام » ج 22 ، ص 117.
2- « المكاسب » ص 62.
3- المصدر.

التي كانت واجبة على المنوب عنه ، وذلك كإجارته للحج عن قبل الميّت أو للصلاة عن قبله ، فإنّ جواز الإجارة مع وقوع العمل والعبادة صحيحا إجماعي ، فلو كان أخذ الأجرة ينافي العباديّة ووقوع العمل متقرّبا لما وقع صحيحا.

قلت : أجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

منها : أنّ أخذ الأجرة من قبيل الداعي على الداعي ، أي يصير داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره ، كما أنّ في باب الأمر بالمعروف رهبة وخوفا من الآمر بالمعروف لكن يكون خوفه داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره ، وإلاّ لا يكاد يتحقّق الأمر بالمعروف إذا كان عبادة ، لأنّه لو أنكرنا مسألة الداعي على الداعي فلا يقدر على إتيان المعروف بعد ما كان الداعي على الإتيان هو الخوف عن الآمر بالمعروف.

وهكذا مورد إتيان العمل العبادي رغبة في أمور دنيويّة مترتّبة على العبادة ، كسعة الرزق ، أو طول العمر ، أو الصحّة والعافية وأمثال ذلك ، فلو لم تكن هذه الأمور دواع على إتيان العمل بداعي أمره ، وكان لا يعقل لما كان العمل صحيحا والعبادة واقعة إذا أتى بأحد هذه الدواعي الدنيويّة ، مع أنّ صحّتها ووقوعها على الظاهر من المسلّمات ، بل ورد في بعض الروايات أنّه أفعل كذا إذا أردت قضاء حاجتك الفلانيّة مثلا.

وهذا الوجه لو تمَّ لا اختصاص له باب أخذ الأجرة في النيابيّات ، بل يجري أيضا في محلّ البحث ، أي في العبادات الواجبة على نفس الأجير.

ولكن أنت خبير بأنّ حديث الداعي على الداعي ليس إلاّ صرف عبارة. لسنا نقول إنّ الداعي على الداعي لا يمكن ، كيف وإن الداعي على الداعي في الدواعي الطوليّة أمر ضروري ، مثلا يحفر القناة لأجل الماء ، ويريد الماء لأجل الزرع ، ويزرع لأجل تحصيل الحنطة ، ويريد تحصيل الحنطة لأجل قوته وقوت عياله ، ففي الحقيقة العلّة المحرّكة لحفر القناة ليس إلاّ قوت نفسه وعياله بحيث لو كان قوته وقوت عياله حاصلا لم يقدم على الحفر أصلا.

ص: 161

وبعبارة أخرى : في باب الدواعي الطولية الداعي الحقيقي والعلّة الأصليّة للعمل هو الداعي الأوّل ، فإنّه هو المحرّك للفاعل على فعله بحيث لو لم يكن لم يقدم على الفعل أصلا. فإن اعترفت هاهنا أيضا بأنّه لو لم يكن أجرة في البين لما كان يقدم على هذا العمل فقد اعترفت بعدم تحقّق الإخلاص. ولعمري هذا واضح جليّ ، اللّهمّ إلاّ أن يراد بقصد الإخلاص صرف الخطور بالبال ، وما أظنّ أن يلتزم به هذا القائل.

وأمّا حديث الأمر بالمعروف ، فنقول : في الفرض الذي فرضت ، إذا كان الداعي على العمل ليس إلاّ الخوف فهذا العمل لا يقع عبادة البتّة ، وإنّما الأمر إليه وجب في الواجبات واستحبّ في المستحبات ، إمّا لأجل أنّ نفس هذه الصورة محبوبة عند اللّه تعالى لحكم ومصالح ، وإمّا من جهة أنّه يتمرن ويتعود حتّى يسهل عليه العمل فيأتي بداعي أمره بعد هذا ، كما أنّه المعروف من بعض أكابر العلماء في البلاد ، حيث كان يجبرهم على صلاة الجماعة لأجل أن يتعوّدوا فيعملوا فيما بعد بداعي أمره.

وأمّا إتيان العبادة بداعي الأثر الدنيوي المترتّب عليه فقياسه على المقام فاسد ، لأنّ الآثار الدنيويّة المترتّبة على امتثال الأمر ، قصدها لا ينافي قصد الأمر وقصد القربة.

بيان ذلك : أنّ حقيقة قصد القربة وإتيان العمل بقصد الإخلاص معناه إتيانه لمحبوبيّته عند اللّه تعالى ، وذلك يحصل بأحد الأمور الثلاثة :

إمّا أن يكون محرّكه على الإتيان هو نفس أمره تعالى ولا شكّ أنّ هذا المعنى محبوب له تعالى ومثل هذا العمل تعبّد له.

وإمّا أن يكون الداعي له على إيجاد العمل ما هو واقع في سلسلة علل الأمر ، كالمصلحة الموجبة للأمر ، فلو أوجد العمل بداعي المصلحة التي هي موجبة للأمر لكان متقرّبا ، لأنّ مثل هذا المعنى محبوب له تعالى ، ولذلك أمر به.

وقد أجيب عمّا استشكل به البهائي قدس سرّه - في مبحث الضدّ من إنكاره الثمرة بأنّ العبادة باطلة على كلّ حال سواء قلنا بالاقتضاء أم لا ، لعدم الأمر واحتياج العبادة

ص: 162

إلى الأمر ، لأنّ التقرّب المعتبر في العبادة لا يحصل إلاّ بقصد الأمر بأنّ قصد المصلحة كاف في تحقّق العبادة.

وإمّا أن يكون الداعي ما هو واقع في سلسلة معاليل الأمر ، سواء أكان من الأمور الأخرويّة ، كتحصيل الدرجات المترتّبة على العبادة ، أو الفرار عن الدركات المترتّبة على عدمها ، أو كان من الأمور الدنيوية ، كسعة الرزق ، أو برئ مرض وأمثال ذلك.

وأمّا إن كان المحرّك لا يرجع إلى أحد هذه الثلاثة - بل كان أمرا دنيويّا أجنبيّا عن العبادة بالمرّة - فلا يمكن تحقّق الإخلاص والعبادة بمثل هذا الداعي ، فتصحيح أخذ الأجرة على الواجب العبادي على الأجير وعدم منافاته للإخلاص - بأنّه من قبيل الداعي على الداعي - ممّا لا يمكن المساعدة عليه. ويقول شيخنا الأستاذ قدس سرّه : عدّ هذا إشكالا أولى من عدّه جوابا عن الإشكال (1).

ومنها : أنّ فعل النائب والأجير فعل تسبيبي للمستأجر ، وبعبارة أخرى : العمل الصادر من الأجير له نسبتان : نسبة إلى الأجير باعتبار أنّه مباشر له ، ونسبة إلى المستأجر باعتبار أنّه مسبّب له ، فيصحّ إسناد العمل إلى كلّ واحد منهما وأن يقال لكلّ واحد منهما : أنّه فاعل لهذا العمل ، فله فاعلان : فاعل تسبيبي ، وفاعل مباشري. وفي وقوع الفعل على صفة العبادية يحتاج إلى قصد القربة من الفاعل ، وهاهنا حيث لا يمكن قصد التقرب من الفاعل المباشر فيقصد الفاعل الآخر ، أي الفاعل المسبّب أعني المستأجر.

وهذا الجواب أيضا لو صحّ لا اختصاص له بباب النيابة ، بل يجري فيما إذا كان العمل المستأجر عليه هو الواجب على نفس الأجير.

وفيه : أنّ حديث وقوع العمل الصادر عن الأجير بصفة العبادية بواسطة صدور قصد القربة من المستأجر من أعجب الأعاجيب ، لأنّ العمل الذي يصدر من الفاعل

ص: 163


1- « منية الطالب » ج 1 ، ص 17.

المباشر بداع شهواني مثلا ، كيف يعقل أن يصير عباديّا بواسطة قصد القربة من شخص آخر.

وأمّا حديث بناء المسجد الذي يصدر من البنّاء بداعي أخذ الأجرة وهو الفاعل المباشر - ومع ذلك يصير قربيّا بواسطة صدور قصد القربة من الفاعل التسبيبي ، أي الذي يعطي الأجرة - فهو أجنبي عن المقام ، لأنّ العبادة هناك عبارة عن نفس التسبيب وصرف الدراهم والدنانير لأجل بناء المسجد ، فلو فعل هذه الأشياء بداع شهواني كالشهرة والسمعة ، أو الرياء وأمثالها لا يقع عمله عبادة ، لا عمل الأجير البناء فإنّ عمله لا يقع عبادة إذا كان بداعي أخذ الأجرة ، سواء أكان معطي الأجرة قاصدا للقربة في بذله أم لا.

وبعبارة أخرى : لو كان عمل الأجير في نفس المثل فرضا من العباديّات وقد أتى به بقصد أخذ الأجرة لا يقع صحيحا ، سواء قصد باذل الأجرة القربة أم لا. وحيث أنّه لا دليل على لزوم أن يكون البنّاء الصادر من البناء الذي يبنى المسجد قربيّا وعباديّا بل يكفي قصد القربة من الواقف لأنّ فعله - أي الوقف - عبادي ، لا فعل البنّاء ، فلا مانع للبناء الأجير أن يأخذ الأجرة ، لأنّ فعله ليس بعبادة ، ولا فرق بين أن يشتغل في بناء خان ، أو دكان ، أو مسجد من جهة عدم كون عمله عبادة في الجميع.

ومنها : أنّ أخذ الأجرة في باب العبادات المستأجرة على إهداء الثواب إلى المنوب عنه.

وهذا أعجب من سابقة وإن كان صادرا عن بعض الأعاظم 5 لأنّ المفروض صحّة الإجارة على العبادة الواجبة على الغير بحيث يشتغل ذمّة الأجير بما كان مشغول ذمّة المنوب عنه بعد الإجارة. ومسألة إهداء الثواب أجنبيّة عن هذا الباب بالمرّة ، فهو في الحقيقة اعتراف بالإشكال ، وعدم إمكان دفعة.

والصواب في الجواب هو ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه في الجواب عن هذا

ص: 164

الإشكال بإبداء الفرق بين المقامين ، أي باب أخذ الأجرة على الواجب على غير الأجير كما في باب النيابات ، وبين ما كان العمل المستأجر عليه واجبا على نفس الأجير (1).

بيان ذلك وتوضيحه : أنّ في باب الإجارة على ما هو الواجب على نفس الأجير ، كما إذا آجر نفسه على أن يصلّي صلاة الظهر لنفسه ، فمتعلّق الأمر الإجاري ليس إلاّ ذات العمل ، غاية الأمر مقيّدا بإتيانه بقصد القربة ، وكذلك متعلّق الأمر العبادي ليس إلاّ ذات العمل ، إمّا وحده إذا قلنا بأنّ قصد الأمر لا يمكن أن يؤخذ في متعلّق الأمر ، لا بأمر واحد ولا بأمرين بل يكون بحكم العقل ، وإمّا مقيّدا بقصد الأمر بناء على ما هو التحقيق عندنا من إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه بأمرين وجعلين ، يكون أحدهما متمّما للآخر.

وعلى كلّ فمتعلّق كلا الأمرين - أي العبادي والإجاري - واحد بالنسبة إلى ذات العمل ، أعني نفس المقيّد غاية الأمر بناء على ما هو التحقيق يكون المتعلّق واحدا في مجموع القيد والمقيّد ، وبناء على القول الآخر في خصوص نفس المقيد ، أي ذات العمل وكلا الأمرين متوجهان إلى الأجير. وهذا واضح.

وأمّا في باب النيابات : فهما مختلفان من كلتا الجهتين : أمّا من جهة التوجه والمخاطب - فالأمر العبادي متوجّه إلى المنوب عنه ، والأمر الإجاري مخاطبة الأجير ويكون متوجّها إليه. وأمّا من جهة المتعلّق فالأمر العبادي المتوجّه إلى المنوب عنه بالأعمّ من المباشرة والنيابة متعلّق بذات العمل ، إمّا وحده وإمّا مقيّدا بقصد الأمر على القولين. والأمر الإجاري متعلّق بجعل نفسه نائبا عن الميّت أو عن الحيّ الذي ناب عنه في إتيانه هذا العمل بقصد الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه لا المتوجّه إلى نفسه.

وهذا الفرق أوجب صحّة الإجارة في باب النيابيّات وعدم الصحّة فيما هو واجب

ص: 165


1- « المكاسب » ص 65.

على نفس الأجير.

بيان ذلك : أنّ الأجير إذا أخذ الأجرة على إتيان ذات العمل بقصد الأمر المتوجّه إلى نفسه - كما هو المفروض في باب إجارة ما هو الواجب على نفس الأجير - فلا يمكن أن يكون صدور هذا العمل منه بداعي الأمر المتوجّه إليه ، لأنّ المفروض أنّ المحرّك له إلى العمل هو الأمر الإجاري التوصّلي.

وبعبارة أخرى : يكون صدور العمل لأجل الوفاء بالإجارة وإعطاء حقّ الغير.

إن قلت : من الممكن أنّه لا يعتني بأمر الإجاري ، بل ليس غرضه من إيجاد العمل إلاّ امتثال الأمر العبادي المتوجّه اليه ، بحيث لو لم يكن ذلك الأمر العبادي في البين لم يقدم على الإتيان أصلا ، بل كان يعصي الأمر الإجاري التوصّلي.

قلنا : نعم إنّ هذا أمر ممكن في بعض الأحيان ، ولكنّه لا بدّ في الأمر الإجاري أن يكون المكلّف بحيث لو أراد أن يوجد العمل المستأجر عليه بقصد الوفاء بذلك الأمر الإجاري لكان له ممكنا.

وبعبارة أخرى : لا بدّ أن يكون ممكنا للأجير إتيان العمل بقصد تفريغ ذمّته وإعطاء حقّ الغير ، ومعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يمكن بالنسبة إلى ما هو الواجب على نفس الأجير تعبديا لمنافاته للإخلاص.

وأمّا إذا أخذ الأجرة على جعل نفسه نائبا عن قبل الغير في إتيان عمل عبادي كان واجبا عليه - أي على ذلك الغير لا على نفسه - فلا ينافي ذلك الإخلاص ، لأنّ أخذ الأجرة على جعل نفسه نائبا ، لا على إتيان العمل بقصد أمره حتّى تقول إنّ المحرّك إلى العمل في الحقيقة هو أخذ الأجرة ، وجعل نفسه نائبا ليس أمرا عباديّا ، بل توصّلي يقع بقصدها بأي داع كان.

وبعبارة أخرى : هاهنا أمران عرضيان ليس أحدهما في طول الآخر حتّى يكون من قبيل الداعي على الداعي :

ص: 166

أحدهما : جعل نفسه نائبا الذي قد يفعله تبرّعا ، وهذا أمر توصّلي يقع بأيّ داع كان ، وهذا الأمر يقع متعلّقا للإجارة ولا يلزم منه محذور أصلا.

والثاني : إتيان العمل الذي كان واجبا على المنوب عنه ، وهذا أمر عبادي لكن لم تقع الإجارة عليه ، فما وقعت الإجارة عليه ليس بعبادي ، وما هو عبادي لم تقع الإجارة عليه.

إن قلت : إذا كانت الإجارة على صرف جعل نفسه نائبا فيستحقّ الأجرة بصرف هذا الجعل ولو لم يعمل ، وإن كان يشمل العمل أيضا فيعود المحذور.

قلنا : الإجارة على صرف جعل نفسه نائبا ، لكن في إتيان العمل الفلاني ، ومعلوم أنّ تحقّق عنوان النيابة في العمل الفلاني مثل كونه نائبا عن شخص في الحجّ مثلا لا يمكن وغير معقول بدون وجود العمل الفلاني ، فوجود العمل الذي جعل نفسه نائبا عنه في إتيان ذلك العمل عنه مقدّمة لتحقّق عنوان النيابة التي استؤجر عليها ، لا أنّه بنفسه متعلّق للإجارة أو قيد لمتعلّقها.

قال الشيخ : الذي ينساق إليه النظر أنّ مقتضى القاعدة جواز أخذ الأجرة على كلّ عمل كان له منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء ، وإن كان ذلك العمل واجبا على الأجير. ثمَّ قال رحمه اللّه : إنّ ذلك العمل بعد وقوعه متعلّقا للإجارة إمّا صالح لأن يمتثل به الواجب المذكور ، أو كان ممّا يسقط الواجب به أو عنده فقد حصل الأمران ، أي برأيه ذمّته عن الواجب واستحقاقه للأجرة ، وإلاّ يستحقّ الأجرة فقط ، ويبقى الواجب في ذمّته لو بقي له وقت يمكن إتيانه فيه ، أو كان ممّا له القضاء فيقضيه ، وإلاّ يكون متعاقبا على تركه وعصيانه عن عمد (1).

وبعبارة أخرى : صرف وجوب الشي ء ليس بمانع عن أخذ الأجرة عليه ، بل هاهنا تفصيل وهو أنّ الواجب على الأجير إمّا من قبيل الواجب العيني التعييني ، أم لا.

ص: 167


1- « المكاسب » ص 63.

فالأوّل لا يصحّ أخذ الأجرة عليه ولو كان للعمل منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء.

وحاصل ما أفاد في وجه المنع أنّ مثل هذا العمل ليس بمحترم ، فأكل المال بإزائه أكل بالباطل ، لأنّه مقهور على إيجاده ، وليس له أن يتركه في عالم التشريع ، بل لو أراد أن يتركه يجبر على الإتيان من باب الأمر بالمعروف ، طاب نفسه على الإتيان أم لا ، وما هذا شأنه خارج عن تحت قدرته واختياره في عالم التشريع ، فلا يصحّ أخذ الأجرة عليه ، لما ذكرنا في المقدّمة من اشتراط صحّة الإجارة بأمور ثلاثة :

أحدها : أن يكون الأجير قادرا على إتيان العمل الذي يوجر نفسه عليه ، ولا فرق بين عدم القدرة التكوينيّة والتشريعيّة. ثمَّ يقول : لا فرق في هذا بين التعبّدي والتوصّلي ، غاية الأمر الواجب التعبّدي إذا كان عينيّا تعيينيّا يختصّ بوجه آخر.

مضافا إلى هذا الوجه وهو منافاة أخذ الأجرة مع الإخلاص وقصد القربة كما تقدّم.

ثمَّ يجيب عن النقض الوارد عليه بجواز أخذ الأجرة للوصي على عمله بعد أن أوقعه وعمل - مع أنّ العمل واجب عيني تعييني على الوصي بعد أن قبل الوصيّة ، أو وصل الخبر اليه بعد موت الموصي - بأنّه ليس من باب أخذ الأجرة وتحقّق المعاملة الخاصّة ، بل حكم شرعي أجاز الشارع أن يأخذ الوصي بدل عمله ، ولا ربط له بباب الإجارة أصلا.

هذا حاصل ما ذكره قدس سرّه في الواجب العيني التعييني ، وأمّا سائر شقوق الواجب وأقسامه فسننقل كلامه مع ما فيه إن شاء اللّه.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرّه في مكاسبه في هذا المقام ، الذي نقلناه بطور الخلاصة والمعنى إلى هاهنا ، فيه مواقع للنظر.

أمّا أوّلا : قوله : إنّ كلّ ما له منفعة محللة عقلائيّة يجوز أخذ الأجرة عليه نقول : صرف هذا المعنى لا يكفي في صحة الإجارة ، بل يحتاج إلى أمرين آخرين :

ص: 168

أحدهما : أن يكون العمل تحت اختياره وقدرته ، بمعنى أن يكون الأجير قادرا على الفعل والترك تكوينا وتشريعا ، فلو كان عاجزا عن الفعل أو الترك تكوينا أو تشريعا ، كما أنّ المكلّف عاجز عن الفعل تشريعا في المحرّمات ، وعن الترك في الواجبات ، فلا يصحّ أخذ الأجرة على مثل هذا العمل لأنّه بواسطة الوجوب مقهور على الفعل وليس له أن يترك.

ثانيهما : أن يكون العمل قابلا للتمليك ، بحيث يمكن أن يصير ملكا للمستأجر ، لأنّ حقيقة الإجارة هو تمليك منفعة أو عمل بعوض مالي معلوم.

إذا تبيّن هذا فنقول : إنّ قوله قدس سرّه : إنّ كل ما له منفعة محلّلة عقلائية يجوز أخذ الأجرة عليه - ولو كان واجبا وصرف الوجوب ليس مانعا عن جواز أخذ الأجرة - ليس كما ينبغي ، لأنّ صرف الوجوب وطبيعته ، كان متخصّصا بأيّ خصوصيّة وتحقّق في ضمن أيّ قسم من أقسامها ، أي سواء كان عينيّا أم كفائيّا ، وسواء أكان تعيينيّا أم تخييريا ، وسواء أكان نفسيّا أم غيريّا.

وكلّ واحد من هذه الأقسام تعبديّا كان أم توصليا ، أصليّا كان في مقام الإثبات أم تبعيّا مانع عن صحّة الإجارة على نفس الواجب الذي هو محلّ الكلام ، وأمّا تعلّق الإجارة بأمر خارج عمّا هو متعلّق الوجوب فخارج عن محلّ الكلام.

والحاصل : أنّ ما تعلّق به الوجوب خرج عن تحت قدرة الأجير على فعله وتركه في عالم الاعتبار التشريعي ، ويراه الشارع في عالم اعتباره التشريعي واجب الوجود ولا يرضى بتركه ، ويرى المكلّف الأجير ملزما بفعله ، فنفس طبيعة الوجوب منافية لأخذ الأجرة ، غاية الأمر إذا كان تعبديّا تنضمّ إليه جهة أخرى أيضا ، وهي منافاته مع قصد القربة.

وأمّا ثانيا : ما يقول في استحقاق الأجير الأجرة على كلّ حال ، غاية الأمر إذا كان العمل الواجب ممّا يمتثل به الواجب أو يسقط الواجب به أو عنده ، فيبرأ ذمته عن

ص: 169

الواجب أيضا علاوة على استحقاق للأجرة ، وإلاّ يبقى الواجب في ذمّته لو بقي وقته ، وإلاّ عوقب على تركه ، فتصوير استحقاق الأجير للأجرة مع عدم سقوط الواجب في غاية الإشكال ، لأنّ الإجارة على الفرض وقعت على إتيان ما هو واجب على نفسه ، فلو أتى ما هو الواجب على نفسه سقط الوجوب واستحقّ الأجرة بناء على الجواز ، وإلاّ لم يستحقّ الأجرة أيضا. فالتفكيك بينهما لا نعقله ، بل لو كان توصليّا وقلنا ببطلان الإجارة كما هو التحقيق يسقط الواجب ولا يستحقّ الأجرة.

نعم إذا كان تعبديّا ، وقلنا بأن قصد القربة لا يتحقّق منه فلا يحصل كلا الأمرين ، أي لا يسقط الواجب ولا يستحقّ الأجرة ، مع أنّه هناك أيضا مقتضي بطلان الإجارة وإمكان تحقق قصد القربة سقوط الواجب بالامتثال وعدم استحقاقه للأجرة. وعلى كلّ تقدير استحقاقه للأجرة مع عدم سقوط الوجوب شي ء لا نعقله.

وأمّا ما ذكره من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب العيني التعييني فحقّ لا محيص عنه ، وقد أجاد فيما أفاد في وجه ذلك ، فجزاه اللّه خير الجزاء.

وأمّا ما ذكره أخيرا من جواب النقض عليه بجواز أخذ الوصي أجرة عمله بأنّه حكم شرعي فعجيب ، لأنّ ما يأخذه بعنوان أجرة عمله لا بعنوان التعبّد وأنّه إلزام من قبل الشرع بإعطائه مجّانا ، فلو كان عمله غير محترم كما هو اعتراف شيخنا قدس سره في هذا المقام فليس له أخذ شي ء بعنوان بدل عمله ، فإنّه أكل بالباطل كما هو مصرّح به في كلامه (1).

والثاني ، أي ما ليس من قبيل الواجب العيني التعييني ، فهو إمّا من قبيل التخييري ولو كان عينيّا ، أو من قبيل الكفائي ولو كان تعيينيّا.

أمّا التخييري فهو إمّا توصّلي أو تعبّدي ، فإن كان توصّليّا قال شيخنا الأعظم قدس سرّه : لا أجد مانعا عن جواز أخذ الأجرة على أحد فرديه بالخصوص ، ثمَّ يمثّل لذلك بما إذا

ص: 170


1- « المكاسب » ص 63.

تعيّن دفن ميّت على شخص وتردّد الأمر بين حفر أحد موضعين يكون أحدهما راجحا عند الولي لغرض من الأغراض فيستأجره على حفر ذلك الموضع الخاصّ ، لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجبا عليه مقدمة للدفن (1).

وأنت خبير بأنّه فرق واضح بين أن يستأجره لإيجاد الخصوصيّة فقط - التي هي خارجة عن متعلّق الوجوب ، ولا يتحقّق إلاّ فيما كان للخصوصيّة وجود مستقلّ ، ولو كان ملازما ومنضمّا إلى الطبيعة دائما بحيث لا تنفكّ عنها - وبين أن يستأجره لإيجاد الطبيعة المتخصصة كما هو المفروض في مثال الشيخ.

ولا شكّ في أنّ في القسم الثاني الذي هو ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدس سرّه يتّحد متعلّق الوجوب والإجارة في نفس الطبيعة ، وهذا موجب لبطلان الإجارة بعين البرهان الذي تقدّم في الواجب التعييني ، بل هو عين التعييني ، لأنّه ليس هناك واجب تعييني لا يتطرّق فيه التخيير العقلي إلاّ فيما شذّ وندر ، أي فيما إذا تعلّق الوجوب بشخص فعل ممتنع الصدق على كثيرين ، كالصوم في شهر رمضان ، أو النذر المعيّن ، مع أنّه بالنسبة إلى صوم شهر رمضان أيضا يعقل التخيير بالنسبة إلى الأمكنة. نعم في نذر المعيّن لو عيّن جميع جهاته من الزمان والمكان وسائر الجهات يمكن فرض عدم مجي ء التخيير العقلي في البين أصلا.

نعم في القسم الأوّل لا مانع من أخذ الأجرة ، لكنّه خارج عن موضوع البحث ، لأنّ كلامنا في أخذ الأجرة على الواجبات وفي ذلك الفرض الواجب شي ء ومتعلّق الإجارة شي ء آخر.

وبعبارة أخرى : موضوع البحث هو أن يكون معروض الوجوب ومتعلّق الإجارة شيئا واحدا ، بحيث لو قلنا بالجواز يحصل للأجير أمران : أحدهما : سقوط الواجب عن ذمّته.

ص: 171


1- المصدر.

والثاني : استحقاقه للأجرة.

وقد تقدّم الإشكال على شيخنا قدس سرّه حيث أنّه قال بإمكان التفكيك بين الاستحقاق للأجرة وسقوط الواجب عن عهدة الأجير.

هذا كلّه فيما إذا كان توصّليّا ، وأما إذا كان تعبّديّا - وذلك كغسل الميّت إذا تعيّن على شخص وتردّد الأمر بين أن يكون بماء الفرات أو بماء آخر مثلا - قال شيخنا قدس سرّه في هذا المقام أيضا : إن قلنا بكفاية الإخلاص في القدر المشترك ولو كان إيجاد الخصوصيّة لداع آخر فيجوز أخذ الأجرة على الخصوصيّة ، وإلاّ فلا (1).

وأنت خبير بأنّه لا وجه لعدم كفاية الإخلاص في القدر المشترك ، أترى أنّ أحدا يمكن أن يستشكل فيما إذا اختار المصلّي مكانا خاصّا لصلاته من جهة برودة الهواء وحسنها ، أو لداع آخر عقلائي فليس في المسألة إشكال من هذه الناحية أصلا ، بل الإشكال من الجهة التي تقدّمت في التوصّلي ، لأنّ ذلك الإشكال مشترك بين التوصّلي والتعبدي.

والحاصل أنّ اتّحاد الطبيعة مع الخصوصيّة في الوجود الخارجي لا يمنع من أن يكون قصدها للإخلاص وقصد الخصوصيّة لغرض آخر.

هذا كلّه كان في التخيير العقلي ، وأمّا التخيير الشرعي كخصال الكفّارة فهل يجوز أخذ الأجرة على اختيار أحد الأفراد ، أم لا؟

وليس في كلام شيخنا قدس سرّه تعرّض لهذا القسم أصلا.

والتحقيق فيه : أنّه إن قلنا بأنّ في التخيير الشرعي أيضا متعلّق الوجوب هو الجامع ، لامتناع قيام غرض واحد بالمتعدّد بما هو متعدّد - كما قيل - فمرجع التخيير الشرعي حينئذ إلى العقلي ، بل هو هو ، ويكون تسميته بالتخيير الشرعي من جهة خفاء الجامع عن نظر العرف وتصريح الشارع بالمصاديق ، فحاله حال التخيير العقلي

ص: 172


1- « المكاسب » ص 63.

- كما عرفت مفصّلا - بل هو هو.

ولكن هذا القول بمعزل عن التحقيق ، كما حقّق في محلّه في الأصول.

وإن قلنا بأنّ الواجب التخييري بالتخيير الشرعي عبارة عن تقييد إطلاق الواجب بعدم الاشتغال بعدله بمعنى أنّ كلّ واحد من الأفراد حقيقة متعلّق الوجوب ، غاية الأمر ليس وجوبه مطلقا بل مقيّد بصورة عدم الاشتغال بسائر الأفراد ، مثلا يجب إطعام ستّين مسكين أمّا لا مطلقا حتّى في صورة الاشتغال بأحد عدليه من صيام شهرين متتابعين أو تحرير رقبة ، بل مقيّد بصورة عدم الاشتغال بأحدهما ، فليس ملزما بإتيان أحد الأفراد بالخصوص ، ولا جامع في البين حتّى نقول ملزم بإتيان ذلك كما قلنا في التخيير العقلي ، فإذا لم يكن إلزام مطلق في البين فيبقى احترام عمله على حاله ، ولا يسقط بواسطة المقهوريّة.

وبعبارة أخرى : حيث أنّ الشارع لم يلزم المكلّف بخصوص أحد الأفراد بل جوّز الانتقال إلى بدله واختيار عدله ، فاختيار أيّ واحد من الأفراد والعدول يبقى على احترامه ، ويجوز أخذ الأجرة عليه.

وأمّا الواجب الكفائي إن كان تعبّديّا فالأمر فيه واضح أنّ أخذ الأجرة مناف للإخلاص - كما بيّنّا وعرفت - وإن كان توصّليّا قال الشيخ قدس سرّه : لا مانع من أخذ الأجرة ويقع العمل لباذل الأجرة لا للعامل (1).

ولكن أنت خبير بأنّ الكلام في أخذ الأجرة على ما هو الواجب على نفس الأجير ، يعني يأتي بما هو الواجب على نفسه ويأخذ الأجرة عليه ، فوقوع العمل لغيره - أي المستأجر - مع أنّه أتى بما هو واجب على نفسه خلف.

وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يملك المستأجر العمل الذي واجب على الأجير ولو كان الوجوب كفائيّا بعين البرهان الذي تقدّم في الواجب العيني التعييني ، من أنّ

ص: 173


1- « المكاسب » ص 63.

المكلّف ملزم بهذا الفعل ولا يجوز له تركه إلاّ في صورة اشتغال الغير ، وأمّا في صورة عدم اشتغال الغير - كما هو المفروض في المقام - فهو مقهور في الفعل وليس له الترك ، حتّى أنّه لو ترك يجبر من باب الأمر بالمعروف ، فلا يبقى لعمله احترام على مذاق شيخنا الأعظم قدس سرّه كما أفاده في مكاسبه (1) ، أو ليس بقادر على الفعل والترك في عالم التشريع وهو الملاك في عدم صحّة الإجارة عندنا.

والحاصل : أنّ كلّما كان واجبا على المكلّف سواء أكان وجوبه عينيّا أو كفائيّا ، تعيينيّا أو تخييريّا ، نفسيّا أو غيريّا ، تعبديّا أو توصليّا لا يجوز أخذ الأجرة عليه إلاّ في بعض أقسام التخييري ، أي التخيير الشرعي ، كما تقدّم. وما قلنا من جواز أخذ الأجرة في التخيير الشرعي هو فيما إذا لم يكن تعبّديّا ، وأمّا التعبّدي فلا يجوز مطلقا.

إذا عرفت ما ذكرنا - من عدم صحّة أخذ الأجرة على جميع أقسام الواجبات - فيرد الاشكال المشهور ، وهو أنّه لا شكّ في جواز أخذ الأجرة على الصناعات التي تجب كفاية على جميع المسلمين ، لاختلال سوقهم ونظام معاشهم بدون ذلك ، فكيف التفصّي عن هذا الإشكال مع قولكم بعدم جواز أخذ الأجرة على جميع أقسام الواجب؟

وقد تفصّى عنه بوجوه :

منها : خروج هذه الواجبات عن تحت تلك القاعدة بالإجماع والسيرة.

وفيه : استبعاد أن يكون أخذ الأجرة حكما تعبديّا من طرف الشارع ، مخالفا لقواعد باب الإجارة بل المعاملات جميعا.

منها : أن نقول في أصل المسألة بالفرق بين التعبّدي والتوصّلي بأنّه يجوز أخذ الأجرة في التوصّلي دون التعبّدي ، كما هو مسلك جماعة. والواجبات النظامية كلّها - إلاّ ما شذّ وندر - توصّلي ، فلا مانع من أخذ الأجرة عليها أصلا ، ونلتزم فيما إذا كانت

ص: 174


1- المصدر.

تعبّديّة بالعدم على فرض وجود التعبّدي فيها.

وفيه : أنّ هذا الإشكال يجري ويرد على ما اخترناه من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب مطلقا ، فلا بدّ من التماس جواب آخر بالنسبة إلى من يختار مثل ما اخترناه.

منها : اختصاص الجواز بصورة قيام من به الكفاية ، وفي تلك الصورة ليس بواجب.

والجواب عنه أنّه أوّلا : بقيام شخص آخر لا يسقط الوجوب ما لم يفعل ، فإذا فعل فلا يبقى موضوع حتّى يتكلّم في أنه يجوز أخذ الأجرة عليه أم لا ، ففي ظرف جواز أخذ الأجرة الذي هو ظرف عدم وجود الواجب من قبل ذلك الغير القائم به الوجوب باق ولم يسقط عن الأجير ، فيأتي الإشكال.

مضافا إلى أنّه من المسلمات جواز أخذ الأجرة على هذه الواجبات ولو لم يكن أحد قائما بها ، ولو تعين عليه بواسطة عدم وجود من به الكفاية.

منها : الفرق بين الواجبات التي مطلوبة لذاتها لوجود مصالح فيها فلا يجوز ، وذلك مثل دفن الميّت وغسله ، وكفنه حيث أنّ في نفس هذه الأفعال مصالح ملزمة أوجبت مطلوبيّتها من قاطبة المكلّفين كفاية ، وبين ما يكون مطلوبيّتها لأجل عدم تحقّق اختلال النظام وعدم قيام السوق للمسلمين.

والجواب : أنّ هذا الفرق دعوى بلا برهان ، بل ظاهر الدليل الذي يمنع عن جواز أخذ الأجرة على الواجبات عدم الفرق بين هذين القسمين من الواجب الكفائي. هذا مع أنّ نفس هذا التقسيم لا يخلو عن مناقشة.

ومنها : أنّ الوجوب في هذه الأمور مشروط بالعوض ، بمعنى أنّه يجب على الخيّاط مثلا الخياطة بشرط إعطاء العوض على عمله ، وهكذا بالنسبة إلى الصنائع الآخر ، ولا شكّ أنّ الواجب المشروط ليس بواجب عند عدم شرطه ، وعند تحقّق شرطه -

ص: 175

أي : إعطاء العوض بإجارة أو جعالة أو غيرهما - فرض عدم جواز أخذ الأجرة خلف.

والجواب عنه : أنّه كيف يمكن أن يكون الوجوب مشروطا بما ينافيه ويضادّه؟

فلا بدّ من رفع المنافاة والمضادّة بينهما أوّلا ، ثمَّ القول باشتراط الوجوب بالعوض بإجارة أو غيرها.

والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال هو أنّ الوجوب تارة يتعلق بفعل المكلف بالمعنى المصدري ، وأخرى يتعلّق به بالمعنى الاسم المصدري.

بيان ذلك : أنّه لو تعلّق الوجوب بجهة إصدار فعل عن المكلّف لا بما هو الصادر - أي كان المطلوب منه والذي يلزم به هو أن يصدر عنه هذا الفعل وأن لا يمتنع عن الاشتغال به ، وإلاّ فنفس الفعل وذاته يقع للفاعل ولا يخرج بهذا الطلب عن حيطة سلطانه - فلا يمنع عن أخذ الأجرة عليه ، لأنّ المفروض أنّ المطلوب في هذا القسم هو اشتغال المكلّف بالفعل وعدم امتناعه عنه ، وهذا هو الذي ألزم به ، فما خرج عن تحت قدرته في عالم التشريع ليس إلاّ صرف الاشتغال وعدم الامتناع عن العمل ، وأمّا نفس العمل الصادر فليس بمطلوب ، فلم تخرج عن ملكه وحيطة سلطانه ، فيكون وجوب هذا القسم من الأعمال في باب الأعمال كوجوب بيع الحنطة مثلا وعدم جواز احتكاره في باب الأموال ، فكما أنّه هناك وجوب صدور البيع وعدم جواز الاحتكار لا يخرج الحنطة عن ملكه وحيطة سلطانه ، فكذلك هاهنا وجوب صدور العمل عنه لا يخرج ذات العمل عن ملكه وسلطانه ، فيجوز أخذ العوض على العمل الصادر ، لا على جهة الإصدار.

فما هو الواجب شي ء - أي جهة الإصدار والمعنى المصدري - وما هو يؤخذ العوض عليه شي ء آخر ، أي نفس الصادر والمعنى الاسم المصدري.

هذا كلّه فيما إذا تعلّق الوجوب بالمعنى المصدري ، كجميع الواجبات النظاميّة التي

ص: 176

بتركها عن الجميع وعدم اشتغال من به الكفاية بها يتحقّق اختلال النظام.

وأمّا لو تعلّق الوجوب بما هو الصادر ، أي تعلّق بما هو الفعل بالمعنى الاسم المصدري فيخرج ذات الفعل ونفس العمل الصادر عن تحت قدرته تشريعا ، ويكون ملزوما بإتيانه ، وليس له أن يتركه ولا يأتي به ، بل يجبر على الفعل إن أراد الترك من باب الأمر بالمعروف. وقد بيّنّا سابقا أنّ من شرائط صحّة الإجارة - بل كلّ معاوضة في باب الأعمال - أن يكون العمل تحت سلطانه وقدرته تكوينا وتشريعا ، فلو خرج عن ذلك لا يجوز أخذ الأجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاملات المعاوضيّة.

فظهر ممّا ذكرنا وجه جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظاميّة.

ولا يرد هذا الإشكال على القائل بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات مطلقا ، لما عرفت من أنّ جهة الوجوب في الواجبات النظاميّة غير جهة أخذ الأجرة ، ومسألة وجوب بذل المال للمضطرّ ووجوب الإرضاع أيضا من هذا القبيل ، أي الواجب في الموردين هو العمل بالمعنى المصدري ، فلا ينافي وجوبهما جواز أخذ عوض المال المبذول في الأوّل ، وجواز أخذ الأجرة في الثاني ، كما هو صريح قوله تعالى ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (1) ولا يردان نقضا على ما قلنا أيضا.

والحاصل : أنّ أخذ الأجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاوضة لا يجوز بالنسبة إلى العمل الذي يكون واجبا بالمعنى الاسم المصدري ، سواء أكان وجوبه تعبديّا أم توصّليّا ، عينيّا أم كفائيّا ، تعيينيّا أم تخييريّا ، نفسيّا أم غيريّا ، إلاّ فيما إذا كان الواجب واجبا تخييريّا شرعيّا ، على احتمال أبديناه سابقا.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى أخذ العوض في باب الواجبات.

وأمّا المحرّمات : فقد سبق الكلام في عدم جواز أخذ الأجرة عليها ، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا ، فالعمل المحرّم غير مقدور شرعا ، فلا يجوز أخذ الأجرة بل كلّ

ص: 177


1- الطلاق (65) : 6.

قسم من أقسام المعاوضة ، وأمّا المباح والمكروه فلا مانع من التكسّب بهما أصلا.

وأمّا المستحب : فالتحقيق فيه أنّه إن كان تعبديّا بالمعنى الأخصّ - يعني كان تحقّقه وامتثاله متوقّفا على إتيانه بقصد القربة - فلا يجوز أخذ العوض أيضا عليه ، لما ذكرنا في الواجب من منافاته مع الإخلاص المعتبر فيه فلا نعيد.

وأمّا إن لم يكن كذلك ، بل كان توصّليّا يمكن أن يؤتى به بدون قصد القربة فلا وجه لعدم جواز المعاوضة عليه ، وذلك كمسألة نيابة شخص عن غيره في عمل مستحبّ أو واجب على ذلك الغير فيما إذا كانت النيابة عن الغير في تلك الأعمال مستحبّة ولكن لا يكون تعبّديّا ، بل كان يمكن أن يجعل نفسه نائبا عن غيره في عمل بدون قصد القربة وإن كان يمكن أن يقصد القربة ويستحقّ الثواب ، لكن ذلك ليس بلازم ، بل ذلك بأيّ داع كان سواء أكان بداعي التقرب أو بداعي أخذ الأجرة ، فحينئذ لا وجه للقول بعدم جواز أخذ الأجرة عليه ، لأنّ المفروض أنّه ليس تعبّديّا حتّى يكون أخذ الأجرة منافيا للإخلاص ، ولا بواجب كي يكون مقهورا ومجبورا بالإتيان في عالم التشريع فيكون خارجا عن تحت قدرته تشريعا ، فلا يكون واجدا لأحد شروط صحّة الإجارة كما تقدّم الكلام فيه في الإجارة على الواجبات مفصّلا.

نعم ربما يتوهّم في باب النيابة في العبادات إذا استؤجر عليها إشكال آخر لا ربط له بمسألة أخذ الأجرة على المستحبّات التوصّليّة ، وهو أنّ النيابة في العمل العبادي إذ وقعت متعلّقة للإجارة ، فقهرا يكون نفس العمل العبادي أيضا داخلا في المستأجر عليه باعتبار كونه قيدا ومتعلّقا للنيابة الخاصّة ، فيكون أخذ الأجرة عليه منافيا للإخلاص.

ونحن دفعنا هذا الإشكال فيما تقدّم في الفرق بين أخذ الأجرة على ما هو واجب على نفس الأجير ، وبين ما هو كان واجبا على الغير وهو يأتي بالعمل بعنوان النيابة عنه ، بعدم الجواز في الأوّل ، والجواز في الثاني فلا نعيد.

ص: 178

والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد

وأهل بيته الطاهرين المعصومين.

ص: 179

ص: 180

21 - قاعدة البناء على الأكثر

اشارة

ص: 181

ص: 182

قاعدة البناء على الأكثر (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد الركعات إن كان الشكّ في الرباعيّة الواجبة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو عبارة عن الروايات المعتبرة الواردة في هذا المقام :

منها : موثّقة عمّار الواردة في حكم الشك عن الصادق علیه السلام قال علیه السلام : « كلّما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر قال علیه السلام : « كلّما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر قال علیه السلام : فإذا انصرفت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » (2).

ومنها : موثّقته الأخرى ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شي ء من السهو في الصلاة؟ فقال : « ألا أعلّمك شيئا إذا فعلته ثمَّ ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شي ء؟ » قلت : بلى ، قال علیه السلام : « إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت ، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه

ص: 183


1- (*) « القواعد » ص 71. « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 248.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 193 ، ح 762 ، باب أحكام السهو في - الصلاة ... ، ح 63. « الاستبصار » ج 1 ، ص 376 ، ح 1426 ، باب من شكّ فلا يدري صلّى اثنتين أو ثلاثا ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 318 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 4.

شي ء ، وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت » (1).

ومنها : موثّقة ثالثة عن عمّار أيضا قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « يا عمّار أجمع لك السهو كله في كلمتين : متى ما شككت فخذ بالأكثر ، فإذا سلّمت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » (2).

ثمَّ إنّ المراد من السهو - في الموثّقتين الأخيرتين - هو الشكّ لا السهو بمعناه الحقيقي ، أي النسيان وذلك أنّ الناسي إذا لم يلتفت إلى نسيانه لا في الصلاة ولا بعدها فلا يتوجّه إليه حكم بالنسبة إلى نسيانه ، وإن التفت إليه فإن كان في حال الصلاة والمفروض أنّ متعلّق النسيان هو ركعات الصلاة فإن كان ما أتى به ناقص فيجب أن يأتي بالباقي متّصلا لا منفصلا كما في صلاة الاحتياط ، وظاهر هذه الروايات وإن كان ما أتى به من الركعات زائدا على الفريضة فتكون الصلاة باطلة ويجب إعادتها.

فالمراد بقرينة هذا الحكم - أي : قوله علیه السلام « فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت انّك نقصت » إلى آخره - هو الشكّ وإطلاق السهو على الشكّ بعلاقة السببيّة جائز لا ضير فيه ، إذ المجاز بعلاقة السببيّة متعارف ومعهود في اللغة.

وأمّا كون السهو سببا للشك فأمر معلوم غني عن البيان ، ودلالة الموثّقات الثلاث على هذا الحكم - أي البناء على الأكثر - واضح لا يحتاج إلى التكلّم فيه.

الجهة الثانية : في شرح مفاد هذه القاعدة

اشارة

وهو يتوقّف على بيان أمور :

ص: 184


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 349 ، ح 1448 ، باب أحكام السهو ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 318 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 3.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 340 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 992 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 317 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 1.

[ الأمر ] الأوّل : أنّ الشكّ في عدد الركعات الذي هو موضوع هذه المسألة قد يكون في النافلة ، وقد يكون في الفريضة.

والأوّل خارج عن محلّ كلامنا ، لورود أدلّة خاصّة على نفي الشّك في النافلة ، كقوله علیه السلام « ليس في النافلة سهو » (1). وقد تكلّمنا في هذه القاعدة - أي قاعدة نفي الشكّ في النافلة - في هذا الكتاب (2) ، وقلنا بأنه مخيّر بين البناء على الأقلّ والبناء على الأكثر.

والثاني قد يكون في الفريضة الثانيّة مثل أن يكون الشكّ في فريضة الصبح بين الواحد والاثنين أو غيرها من الصور ، وقد يكون في الثلاثيّة مثل أن يشكّ في المغرب بين الواحد أو الاثنين والثلاث أو غيرها من الصور ، وقد يكون في الرباعيّة.

وهذا على قسمين : لأنّ الشكّ قد يكون قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، وقد يكون بعده.

فالأوّل مثل أن يشكّ بين الاثنين والثلاث مثلا ، ولكن قبل إكمال السجدتين ، مثل أن يكون شكّه هذا في حال القيام أو في حال السجدة الأولى من الركعة التي بيده.

والثاني مثل أن يكون شكّه أيضا بين الاثنين والثلاث مثلا ، ولكن بعد إكمال السجدتين من الركعة التي بيده.

وبعبارة أخرى : الشكّ في الفريضة الرباعيّة تارة يكون طرف الأقلّ من الشكّ أقلّ من الركعتين التامّتين وأخرى لا يكون كذلك ، بل يكون طرف الأقلّ هو حصول الركعتين التامّتين فما زاد ، كالشك بين الثلاث والأربع في أيّ حال كان من الحالات. وأما الشكّ بين الاثنين فما زاد فلا بدّ وأن يكون بعد تماميّة السجدة الثانية ، وإلاّ ليس

ص: 185


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ولم يدر ... ، ح 5 و 9. « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 54 ، ح 187 ، باب أحكام الجماعة وأقل الجماعة ... ، ح 99. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 340 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 8.
2- سيأتي في هذه المجلّدة ، ص 317.

الشكّ بعد إكمال السجدتين.

فالشكّ في الثنائيّة والثلاثيّة خارج عن تحت هذه القاعدة مطلقا وفي أيّ حال من الأحوال كان ، والشكّ في الرباعيّة أيضا خارج إن كان قبل إكمال السجدتين بالمعنى الذي عرفت ، أي كون طرف الأقلّ من الشكّ أقلّ من الركعتين التامّتين ، وذلك لما دلّ على بطلان الصلاة بهذه الشكوك ، وتلك الأدلّة أخصّ من الموثّقات فتخصّص بها.

فبناء على هذا ، لو شكّ في الثلاثيّة أو في الثنائيّة الواجبة - كصلاة المغرب ، أو الصبح ، وفي السفر ، سواء أكانت ثنائيّة بالأصل أو صارت ثنائيّة بواسطة وجوب التقصير في السفر ، وكصلاة الجمعة ، وصلاة الكسوف ، بل وصلاة العيدين بناء على عدم شمول حكم النافلة لهما في عصر الغيبة ، وإلاّ تكون خارجة عن محلّ البحث - تكون صلاته باطلة وليست مشمولة لهذه الموثّقات.

والدليل على بطلانها - وتخصيص هذه الموثّقات به - قوله علیه السلام في مصحّح حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إذا شككت في المغرب فأعد ، وإذا شككت في الفجر فأعد » (1).

وصحيح العلاء عن الصادق علیه السلام سألته عن الرجل يشكّ في الفجر؟ قال علیه السلام : « يعيد ». قلت : المغرب؟ قال علیه السلام : « نعم والوتر والجمعة » من غير أن أسأله (2).

وقوله علیه السلام في هذه الرواية « والوتر والجمعة » مبني على أن يكون الوتر ثلاثة ركعات ، أي مجموع الشفع والوتر ، وإلاّ لو كان الوتر عبارة عن الركعة الواحدة مقابل

ص: 186


1- « الكافي » ج 3 ، ص 350 ، باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 178 ، ح 714 ، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة ، ح 15 و 24 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 365 ، ح 1390 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 1 و 7 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 304 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 1 و 5.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 180 ، ح 722 ، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه اعادة الصلاة ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 305 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 7 ، وص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 3.

الشفع فتصوير الشكّ في عدد الركعات لا يخلو من نظر.

نعم يمكن الشكّ فيه بمعنى الشكّ في وجوده وعدمه.

وموثق سماعة قال : سألته عن السهو في صلاة الغداة؟ فقال علیه السلام : « إذا لم تدر واحدة صلّيت أم ثنتين فأعد الصلاة من أوّلها ، والجمعة أيضا إذا سها فيه الإمام فعليه أن يعيد الصلاة لأنّها ركعتان ، والمغرب إذا سها فيها فلم يدر كم ركعة صلّى فعليه أن يعيد الصلاة » (1).

ومصحّح ابن مسلم ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يصلّي ولا يدري واحدة صلّى أم ثنتين؟ قال : « يستقبل حتّى يستيقن أنّه قد أتم » (2).

ويظهر من موثق سماعة أنّ كون الصلاة التي وقع فيها الشكّ ركعتين موجب للبطلان ، وذلك من جهة تعليله علیه السلام إعادة الجمعة التي وقع فيها السهو - أي الشكّ - بقوله علیه السلام : « لأنّها ركعتان » ، فيستفاد حكم كلّ فريضة ثنائيّة منها سواء أكانت ثنائيّة بالأصل كالصبح والجمعة والعيدين وصلاة الآيات ، أو صارت ثنائيّة بواسطة السفر كالتقصير في الرباعيّات في السفر.

وعلى كلّ حال يظهر من هذه الروايات بطلان الصلاة في ثلاثة أقسام : أحدها الثنائيّة الواجبة. الثاني : الثلاثيّة الواجبة. الثالث : أن يكون الشكّ بين الواحدة وما زاد.

وأمّا ما ذهب إليه الصدوق قدس سرّه (3) من التخيير بين الإعادة والبناء على الأقلّ فيما إذا

ص: 187


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 179 ، ح 720 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 21. « الاستبصار » ج 1 ، ص 366 ، ح 1394 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 305 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 8.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 179 ، ح 715 ، باب أحكام السهو في الصلاة و ... ، ح 16. « الاستبصار » ج 1 ، ص 365 ، ح 1391 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 304 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 2.
3- حكى عنه العلامة في « المنتهى » ج 1 ، ص 410 ، وراجع : « الفقيه » ج 1 ، ص 351 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ذيل ح 1024.

شكّ بين الواحدة والاثنين ، للجمع بين الروايات المتقدّمة ورواية الحسين بن أبي العلاء عن الرجل لا يدري أركعتين صلّى أم واحدة؟ قال علیه السلام : « يتمّ » (1).

ففيه : بأنّ هذا الجمع لا شاهد له وليس جمعا عرفيّا كما في الخاصّ والعامّ ، والحاكم والمحكوم ، والظاهر والأظهر ، ومضافا إلى أنّ هذه الرواية لم يعمل بها أحد ، حتّى أنّ الوحيد وصاحب الحدائق (2) - قدس سرّهما - أنكرا نقل هذا القول عن الصدوق.

وكذلك رواية عمّار - عن رجل لم يدر صلّى الفجر ركعتين أو ركعة؟ قال علیه السلام : « يتشهّد وينصرف ثمَّ يقوم فيصلي ركعة ، فإن كان قد صلّى ركعتين كانت هذه تطوّعا ، وإن كان قد صلّى ركعة كانت هذه تمام الصلاة ». قلت : فصلّى المغرب فلم يدر اثنتين صلّى أم ثلاثا؟ قال علیه السلام : « يتشهّد وينصرف ثمَّ يقوم فيصلّي ركعة ، فإن كان صلّى ثلاثا كانت هذه تطوّعا ، وإن كان صلّى اثنتين كانت هذه تمام الصلاة » (3) - لم يعمل به أحد وأعرض عنه الجميع.

وخلاصة الكلام أنّ بطلان الصلاة في الموارد الثلاثة المذكورة اتّفاقي لم ينكره أحد إلاّ الصدوق قدس سرّه فيما تقدّم ، وقد عرفت الحال فيه.

وأمّا الشكّ في الرباعيّة قبل إكمال السجدتين : فيدلّ على بطلانها صحيح زرارة : روى الصدوق بإسناده عن زرارة بن أعين قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « كان الذي فرض اللّه على العباد عشر ركعات ، وفيهنّ القراءة وليس فيهنّ وهم - يعني سهو - فزاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبعا وفيهنّ الوهم وليس فيهن قراءة ، فمن شكّ في الأوّلتين أعاد

ص: 188


1- « تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 177 ، ح 710 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 11. « الاستبصار » ج 1 ، ص 364 ، ح 1387 ، باب السهو في الركعتين الأولتين ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 303 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 20.
2- « الحدائق الناضرة » ج 9 ، ص 193.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 182 ، ح 728 ، باب أحكام السهو في الصلاة و ... ، ح 29. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 306 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 12.

حتّى يحفظ ويكون على يقين ، ومن شكّ في الأخيرتين عمل بالوهم » (1).

وأيضا روى بإسناده عن عامر بن جذاعة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا سلمت الركعتان الأولتان سلمت الصلاة » (2).

وأيضا بإسناده عن إبراهيم بن هاشم في نوادره ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « ليس في الركعتين الأوّلتين من كلّ صلاة سهو » (3).

وما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا سهوت في الأوّلتين فأعدهما » (4).

ورواية موسى بن بكر قال : سأله الفضيل عن السهو؟ فقال : « إذا شككت في الأوّلتين فأعد » (5).

هذه جملة ممّا يدلّ على بطلان الصلاة إذا كان الشك في الأوّلتين وبهذا المضمون روايات كثيرة فوق حد الاستفاضة.

وحاصل مفاد جميعها هو بطلان الصلاة ولزوم الإعادة مع احتمال نقص في الأوّلتين ، بل لا بدّ في الحكم بصحّة الصلاة من حفظ الأوليين بتمامهما وكمالهما ، ولازم هذا المعنى هو أن يكون الشكّ بعد إكمال السجدتين ، فالشكّ في الموارد الأربعة المذكورة موجب للبطلان وخارج عن مفاد أخبار البناء على الأكثر حكومة

ص: 189


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 201 ، باب فرض الصلاة ، ح 605 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 299 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 346 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1010 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 299 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 3.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 352 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1028 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 300 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 177 ، ح 706 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 7. « الاستبصار » ج 1 ، ص 364 ، ح 1383 ، باب السهو في الركعتين الأوّلتين ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 302 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 15.
5- « الاستبصار » ج 1 ، ص 364 ، ح 1381 ، باب السهو في الركعتين الأوّلتين ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 302 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 19.

أو تخصيصا.

ثمَّ إنّه من موارد بطلان الصلاة بالشكّ في عدد ركعاتها - وعدم شمول هذه القاعدة له - هو الشكّ بين الاثنتين والخمس أو الأكثر وإن كان بعد إكمال السجدتين ، وذلك من جهة أنّه لا طريق إلى تفريغ الذمّة ممّا اشتغل به يقينا ، لا وجدانا ولا تعبّدا.

أمّا وجدانا فواضح ، لأنّ المفروض أنّه شاكّ في أنّ ما أتى به اثنتين أو الخمس أو الأكثر ، فإن سلّم ولم يأت بشي ء فاحتمال النقيصة والزيادة كلاهما موجود ، وليس دليل تعبدي في البين يدلّ على عدم مضرّية هذه الزيادة أو النقيصة على تقدير وجودهما. ولو أتى بما يحتمل نقصانه فيبقى احتمال الزيادة ، وليس شي ء يدلّ على عدم مضرّية هذا الاحتمال وتفريغ الذمّة.

وأمّا تعبّدا فمن جهة عدم شمول روايات البناء على الأكثر للمقام ، لأنّها واردة فيما إذا كان الأكثر صحيحا ، كي يكون موجبا لتفريغ الذمّة.

وأمّا إذا كان البناء على الأكثر موجبا لفساد الصلاة فهو خارج عن محطّ نظر هذه الأخبار.

وبعبارة أخرى : هذه الروايات كلّها ناظرة إلى علاج العمل وكيفيّة تصحيحه ، فلا يشمل الأمر الذي يوجب بطلان العمل ، فليس هذا المورد مشمولا لتلك الأخبار العلاجيّة ، أي البناء على الأكثر وإتمام ما نقص منفصلا بصلاة الاحتياط.

وأمّا أخبار البناء على اليقين فأيضا لا تشمل المقام ، لأنّ الظاهر منها أيضا هو البناء على الأكثر وتتميم ما نقص بصلاة الاحتياط كي يحصل اليقين بالبراءة على كلّ واحد من التقديرين ، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لأنّه على تقدير كونه في الواقع هو الأقلّ يمكن التدارك بصلاة الاحتياط وتحصيل اليقين بتفريغ الذمّة. وأمّا على تقدير كونه هو الأكثر تكون الصلاة باطلة ، ولم يرد دليل بالخصوص على عدم كون الزيادة على تقدير وقوعها مضرّة.

ص: 190

وأمّا استصحاب عدم تحقّق الزيادة على المقدار المعلوم وهو الاثنتين ففيه أوّلا : أنّه طرح الشارع إجراء الاستصحاب في باب الشكّ في عدد الركعات لحكمه بالبناء على الأكثر. وثانيا أنّ الاستصحاب لا يثبت أنّ ما أتمّه هي الركعة الثانية حتّى يتشهد فيها ، ولا الثاني من الركعتين التاليتين اللتين يأتي بهما بعد الاستصحاب أنّها الرابعة فيأتي فيها بالتشهد الأخير ، إلاّ على القول بالأصل المثبت.

مع أنّ صريح الأخبار أنّ ظرف التشهّد الأوّل هو بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية في الركعة الثانية ، والتشهّد الثاني هو بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية من الركعة الرابعة ، فلا طريق إلى تصحيح العمل وتفريغ ما في الذمّة بالاستصحاب ، فلا بدّ من الإعادة.

وهذا معنى كون الشكّ موجبا للبطلان.

فظهر أنّ مورد الخامس من الشكوك المبطلة أيضا خارج عن عموم هذه القاعدة ، وعلى هذا المنوال المورد السادس والسابع من موارد الشكوك المبطلة - أي الشكّ بين الثلاث والستّ أو الأزيد ، أو الشكّ بين الأربع والستّ أو الأزيد - يكونان خارجين عن عموم هذه القاعدة ، أي البناء على الأكثر.

أمّا المورد السادس فلعين ما ذكرنا في المورد الخامس حرفا بحرف.

وأمّا المورد السابع - أي : الشكّ بين الأربع والستّ أو الأزيد فقد قاسه بعضهم - وهو ابن أبي عقيل (1) - بالشكّ بين الأربع والخمس فقال بالصحّة قياسا على الشكّ بين الأربع والخمس.

ولكن أنت خبير بأنّ الصحّة هناك لدليل خاصّ لا يشمل المقام ، فإنّ قوله علیه السلام في صحيح عبد اللّه بن سنان - « إذا كنت لا تدري أربعا صلّيت أم خمسا فاسجد سجدتي

ص: 191


1- « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 390.

السهو بعد تسليمك » (1) - حكم خاصّ في موضوع خاصّ ، أي الشكّ بين الأربع والخمس ، فإسراء هذا الحكم إلى موضوع آخر وهو الشكّ بين الأربع والستّ يشبه القياس ، أو هو هو.

وأمّا كون المراد هو الشكّ بين ما هو تمام العدد الصحيح وما هو الزائد عليه - وذكر الخمس في الرواية من باب أحد المصاديق - دعوى بلا بيّنة ، بل خلاف ظاهر الرواية.

وأمّا التمسّك لصحّته باستصحاب عدم تحقّق الزائد على الأربع ، فقد بيّنّا أنّه لا يثبت أنّ ما أتمّه هي الركعة الرابعة ، إلاّ على القول بالأصل المثبت. مضافا إلى ما ذكرنا من أنّ الشارع لم يعتن بالاستصحاب في تعيين عدد ركعات الصلاة ، بل أسقطه عن الاعتبار بجعل البناء على الأكثر فيما إذا شكّ في أعداد الرباعيّة بعد إكمال الركعتين الأوّلتين.

وأمّا المورد الثامن من الشكوك المبطلة - وهو أن يكون شكّه بحيث لا يدري أنّه كم صلّى - فهو أيضا خارج عن عموم هذه الموثّقات ، للإجماع على بطلان الصلاة ولزوم الإعادة ، وللروايات المعتبرة الواردة في لزوم الإعادة إذا اتفق كون شكّه هكذا ، أي كان بحيث لا يدري أنّه كم صلّى ، واحدة أم اثنتين ، أم ثلاثا ، أم أربع.

منها : رواية صفوان عن أبي الحسن علیه السلام : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع ووهمك على شي ء فأعد الصلاة » (2).

هذا ، مضافا إلى أنّ مرجع هذا الشكّ إلى عدم حفظ الأوليين ، وقد تقدّم أنّه يبطل الصلاة عند عدم حفظهما.

ص: 192


1- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 195 ، ح 767 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 68. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 314 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 5 ، ح 2 ، وباب 14 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 744 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 45. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1419 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة أو اثنتين ... ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 327 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 1.

وخلاصة الكلام أنّ جميع الصور الثمانية التي تكون للشكوك المبطلة خارج عن عموم هذه القاعدة ، وذلك من جهة أنّ أخبار البناء على الأكثر وردت في مقام علاج الشكّ في عدد الركعات ، فإذا كان الشكّ غير قابل للعلاج - ولا بدّ فيه من إعادة الصلاة ، أو جاء دليل خاصّ على بطلان الصلاة بشكّ - فيكون خارجا عن عموم هذه الموثّقات.

وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الشكوك المبطلة لا تخلو من أحد هذين الأمرين : إمّا لا يمكن العلاج فيها ، وإمّا دلّ دليل خاصّ على بطلان الصلاة بها.

هذا حال الشكوك المبطلة.

وأمّا الشكوك التي لا اعتبار بها كشكّ كثير الشكّ ، وشكّ كلّ واحد من الإمام والمأموم مع حفظ الآخر ، والشكّ في النافلة ، والشكّ في صلاة الاحتياط ، فكلّها خارجة عن تحت هذه القاعدة وعموم هذه الموثّقات حكومة أو تخصيصا.

وأمّا الشكوك التسعة الصحيحة فكلّها مشمولة لهذه الموثّقات كما سنبيّن فيما سيأتي إنّ شاء تعالى.

الأمر الثاني : في أنّه علیه السلام بصدد علاج الشكّ بقوله : « إذا سهوت فابن على الأكثر » أو قوله : « كلّما دخل عليك من الشكّ في صلاتك فاعمل على الأكثر ، فإذا انصرفت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » أو غيرهما ممّا هو بهذا المضمون.

ومعلوم أنّ هذا العلاج لا يتمّ فيما إذا كان الأكثر من طرفي الشكّ أو أطرافه زائدا على الأربع.

فإذا كان الشكّ في الرباعيّة قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية تكون الصلاة باطلة لما تقدّم ، وتكون هذه الصورة خارجة عن عموم هذه الأخبار لما تقدّم أيضا.

وأمّا إن كان بعد تماميّة الركعتين وسلامتهما ، فلو كان أحد طرفي الشكّ أو أحد أطرافه زائدا على الأربع ، فالصلاة أيضا باطلة ، لعدم تطرّق هذا العلاج وليس

ص: 193

علاج آخر.

نعم في خصوص الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين جاء الدليل على الصحة بالبناء على الأقلّ الذي هو الأربع - وسجدتي السهو للزيادة المحتملة - أو كان هذا الشك في حال القيام حتّى بهدمه يرجع الشكّ إلى الثلاث والأربع كي لا يكون البناء على الأكثر مبطلا ، وهذا يجري في كلّ مورد كان طرف الأكثر هو الخمس وكان في حال القيام كي يرجع بالهدم إلى الأقلّ من الأربع والأربع ، فيمكن تطرّق هذا العلاج فتشمله هذه الأخبار.

الأمر الثالث : في صور الشكّ في الرباعيّة ، وهو على قسمين : مركّب وبسيط.

والمراد بالشكّ البسيط هو أن يكون للشكّ طرفان فقط : الأقلّ والأكثر ، كالشكّ بين الاثنين والأربع ، أو الثلاث والأربع.

والمراد بالمركّب هو أن يكون أطراف الشكّ أكثر من الاثنين ، كالشكّ بين الاثنين والثلاث والأربع.

وفي كلّ واحد من القسمين - أي البسيط والمركّب - إمّا أن لا يكون طرف الأكثر أكثر من الأربع أو يكون ، والقسم الثالث هو أن يكون كلا طرفي الشكّ أكثر من الأربع.

وإن شئت قلت : تارة لا يكون كلا طرفي الشكّ أكثر من الأربع. وأخرى يكون كلاهما أكثر من الأربع. وثالثة يكون أحد طرفيه أكثر دون الآخر.

أمّا الأوّل كالشكّ بين الثلاث والأربع. وأمّا الثاني كالشكّ بين الخمس والستّ.

وأمّا الثالث كالشكّ بين الأربع والخمس.

فمجموع الأقسام يصير ستّة : اثنان منها البسيط والمركب في نفس الرباعيّة ، بمعنى أنّ طرف الأكثر ليس زائدا على الأربعة ، أو كلاهما - أي طرفا الشكّ في البسيط والمركب - في الزائد على الأربعة ، أو كلاهما - أي البسيط والمركب - فيما إذا كان أحد

ص: 194

طرفي الشكّ في الأربعة والطرف الآخر في الزائد عليها.

أمّا القسم الأوّل ، أي الشكّ البسيط في نفس الأربعة صورة ثلاث : وهي الشكّ بين الاثنين والثلاث ، والشكّ بين الاثنين والأربع ، والشكّ بين الثلاث والأربع.

أمّا القسم الثاني ، أي : الشكّ المركّب في نفس الأربعة فصورة واحدة ، وهي الشكّ بين الاثنين والثلاث والأربع.

فهذه أربع صور للشكّ البسيط والمركب في نفس الأربعة ، أي ليس طرف الأكثر زائدا على الأربعة.

وأمّا القسم الثالث ، أي الشكّ البسيط فيما إذا كان طرفا الشكّ زائدا على الأربعة ، كالشكّ بين الخمس والستّ.

وأمّا القسم الرابع ، أي الشكّ المركّب في الزائد على الأربعة بحيث تكون أطراف الشكّ زائدة على الأربعة ، كالشكّ بين الخمس والستّ والسبع.

وأمّا القسم الخامس ، أي الشكّ البسيط بحيث يكون أحد طرفيه في الأربعة والطرف الآخر فيما زاد عليها ، كالشكّ بين الأربع والخمس.

وأمّا القسم السادس ، أي الشكّ المركّب فيما إذا كان طرف الأقلّ داخلا في الأربعة وطرف الأكثر زائدا عليها ، كالشكّ بين الثلاث والأربع والخمس ، أو بين الأربع والخمس والستّ.

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا حكم القسم الأوّل والثاني أي تلك الصور الأربع فواضح ، أي يجب البناء على الأكثر وتتميم ما يحتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، كما هو صريح موثّقات عمّار.

ص: 195

نعم هاهنا أمران يجب أن يذكر :

[ الأمر ] الأوّل : أنّ مقتضى قوله علیه السلام - « فابن على الأكثر » لو لم يكن قوله علیه السلام : « فإذا سلّمت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » - هو المضي وعدم وجوب صلاة الاحتياط لأنّ معنى البناء على الأكثر عدم الاعتناء باحتمال الأقلّ عملا ، بل يجب عليه أن يجعل عمله على طبق احتمال الأكثر.

لست أقول إنّه - أي البناء على الأكثر - أمارة ومن باب تتميم الكشف ، لأنّ الشكّ مأخوذ في موضوعه ، ومثل ذلك لا يمكن أن يكون أمارة ، لأنّ مفاد الأمارة إلغاء الشكّ ، والموضوع لا بدّ وأن يكون محفوظا حتّى يأتي الحكم ، وتخلّفه عن الموضوع خلف محال ، بل ولا نقول بأنّه من الأصول المحرزة ، لأنّ الأصل المحرز عبارة عن لزوم العمل على طبق أحد طرفي الشكّ عمل المتيقن به ولذلك يكون حاكما على الأصل غير المحرز لرفع موضوعه به تعبّدا ، وليس في أخبار الباب ما يدلّ على أنّ العمل بالأكثر والبناء عليه باعتبار أنّه عمل المتيقّن بالأكثر.

وعلى كلّ حال فيكون معنى البناء على الأكثر ترتيب آثار الأكثر شرعا من حيث العمل ، ومن آثار الأكثر أنّه ليس عليه شي ء ، لا صلاة الاحتياط ولا غيرها ، فتشريع صلاة الاحتياط بملاحظة احتمال الأقلّ وتداركه ، ولذلك ربما يقال بأنّ جعل صلاة الاحتياط مرجعه إلى البناء على الأقلّ لا البناء على الأكثر ، وقوله علیه السلام « ابن على الأكثر » يكون باعتبار تصحيح محلّ التشهّد والتسليم ، وإلاّ فبحسب أصل كمّيّة صلاة الفريضة يكون البناء على الأقلّ.

ولذلك قال بعضهم : إنّ البناء على الأكثر في الصلاة ليس مخالفا للاستصحاب ، بل وجوب صلاة الاحتياط يكون نتيجة استصحاب عدم إتيان ما يحتمل عدم إتيانه ، وإلاّ لم يكن وجه لوجوب الإتيان بصلاة الاحتياط.

الأمر الثاني : في أنّ طرف الأقلّ من الشكّ في الرباعيّة إذا كان الاثنتين لا بدّ وأن

ص: 196

يكون بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، لما تقدّم من دلالة الروايات على لزوم حفظ الأوليين بتمامهما وكمالهما ، وأنّ الشكّ في أي جزء منهما ما لم يكن دليل شرعي أو عقلي على تماميّتهما مبطل للصلاة ، فيقع الكلام في أنّه ما المدار في إكمال السجدتين؟ هل هو الدخول في السجدة الثانية مع الاستقرار فيها ، أو بعد الإتيان بذكر الواجب فيها ، أو بعد رفع الرأس عنها؟ ونسب الأخير إلى المشهور.

ولكنّ الظاهر أنّ المدار في إكمالها هو الإتيان بالذكر الواجب في السجدة الثانية من الركعة الثانية ، وذلك من جهة أنّ وجود المركّب بوجود تمام أجزائه ، فإذا وجد الجزء الأخير منه مع كونه مسبوقا بوجود سائر الأجزاء في المركّب التدريجي الوجود يصدق أنّه وجد بتمامه وكماله ، وأمّا الخروج عنه فليس جزء له كما هو واضح.

ومعلوم أنّ الركعة عبارة عن القيام والذكر الواجب فيه من القراءة أو التسبيح والركوع والسجدتين ، فإذا وجد هذه الأمور فقد وجد الركعة بتمامها واحتمال أن يكون رفع الرأس من السجدة الثانية أيضا جزء للركعة بعيد بل مقطوع العدم ، لعدم الدليل عليه وإنما هو مقدّمة للدخول في الركعة التي بعدها ، أو للتشهد والتسليم.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

فنقول :

إذا عرفت هذه الأمور فلنرجع إلى التكلّم في الشكوك الأربعة للقسم الأوّل والثاني ، أي الشكّ البسيط والمركّب ، من الشكّ في نفس الرباعيّة من دون أن يكون طرف الأكثر زائدا على الأربعة.

[ الصورة ] الأولى : أي الشك بين الاثنتين والثلاث بعد إكمال السجدتين فهو يبنى على الثلاث على المشهور ، بل ادّعى عليه الإجماع ، بل عن الأمالي : أنّه من دين

ص: 197

الإماميّة (1).

والدليل عليه هي الموثّقات العمّار الثلاث التي تقدّمت (2).

هذا هو الحكم الأوّل في هذا الشكّ والحكم الثاني هو الإتيان بصلاة الاحتياط ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس بعد إتمام صلاته ، أي بعد إتيان الرابعة والتشهّد والتسليم.

والدليل على وجوب صلاة الاحتياط قبل الإجماع - لما قلنا مكررا من أنّ الإجماع في أمثال هذه الموارد ممّا لها مدرك من الأخبار الصحيحة المعمول بها عند الأصحاب لا وجه له - هو ذيل الموثقات الثلاث للعمّار ، أي قوله علیه السلام : « فإذا انصرفت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » ، وما هو بمضمونه في الموثّقتين الأخيرين ، فإنّ ذيل هذه الموثّقات صريح في أنّ إتمام مظنون النقصان إنّما هو بعد الفراغ من الصلاة والانصراف عنها ، فيكون بصلاة مستقلّ وهو الذي نسمّيه بصلاة الاحتياط.

ثمَّ إنّ هاهنا أمران :

[ الأمر ] الأول : إنّ في هذه المسألة أقوال أخر : البناء على الأقل وهو المحكي عن الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه في الفقيه (3) ، والتخيير بين البناء على الأقلّ والأكثر وهو المحكي عن والده علي بن بابويه (4) ، والإعادة وهو المحكي عن المقنع (5). ومنشأ هذه الأقوال هو اختلاف الأخبار الواردة في هذا المقام ، فلنذكرها كي نرى ما هو المحصّل منها ، فنقول :

ص: 198


1- « أمالي الصدوق » ص 513.
2- تقدّم في ص 183 و 184.
3- حكى عنه في « مدارك الأحكام » ج 4 ، ص 256.
4- « فقه الرضا » ص 117 - 118.
5- « المقنع » ص 101.

منها : مصحّح زرارة - أو حسنته - عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : قلت له : رجل لا يدري واحدة صلّى أم اثنتين؟ قال : « يعيد ». قلت : رجل لم يدر اثنتين صلّى أم ثلاثا؟ قال : « إن دخله الشكّ بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثمَّ صلّى الأخرى ولا شي ء عليه ويسلّم » (1).

فربما يقال : بأنّ هذه الرواية دليل على قول الصدوق قدس سرّه أي البناء على الأقلّ ، وذلك من جهة أنّ قوله علیه السلام « مضى في الثالثة ثمَّ صلّى الأخرى » معناه أنّ ما أتى به هو اثنين ، وهذا الذي بيده هو الثالثة ويصلّى الأخرى ، أي الركعة الرابعة الباقية متّصلة ويسلّم ولا شي ء عليه ، لا الإعادة ولا صلاة الاحتياط ، وهذا هو البناء على الأقلّ.

وبعبارة أخرى : ظاهرها أنّ الركعة التي يشكّ في أنّها الثانية أو الثالثة هي التي فرغ عنها ودخل في الثالثة ، فالأمر بالمضي في الثالثة وقوله علیه السلام بعد ذلك « ثمَّ صلّى الأخرى - أي الرابعة - ويسلّم » صريح في أنّه أمر بالبناء على أنّ الركعة المشكوكة التي فرغ عنها بالدخول في الثالثة هي الثانية ، وهذا هو البناء على الأقلّ ، فيخصّص بها موثّقات عمّار المتقدّمة ، لأنّها أخصّ منها. والنتيجة هي قول الصدوق قدس سرّه أي البناء على الأقلّ.

هذا أحد الاحتمالين في الرواية الذي موافق لما نسب إلى الصدوق وحكي أيضا عن السيّد - قدّس سرهما - في المسائل الناصريات (2).

والاحتمال الآخر - الذي موافق لمذهب المشهور ، أي : البناء على الأكثر وأصرّ عليه صاحب الحدائق (3) واستظهره من هذه الرواية - هو أن يكون اللام في قوله « إن

ص: 199


1- « الكافي » ج 3 ، ص 350 ، باب السهو في الركعتين الأوّلتين ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 192 ، ح 759 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 60. « الاستبصار » ج 1 ، ص 375 ، ح 1423 ، باب من شكّ فلا يدري صلّى اثنتين أو ثلاثا ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 300 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 6 ، وباب 9 ، ح 1.
2- « الناصريات » ضمن الجوامع الفقهيّة ، ص 237.
3- « الحدائق الناضرة » ج 9 ، ص 212.

دخله الشكّ » للعهد ، أي الشكّ المسؤول عنه إن عرض له بعد الدخول في الثالثة ، أي الركعة التي قطعا ليس أقلّ من الثالثة ، وإن كان من المحتمل أن تكون هي الرابعة.

وقوله علیه السلام بعد ذلك « مضى في الثالثة » أي ، يمضي في صلاته مع بنائه على أنّ تلك الركعة المشكوكة المحتملة أن تكون الثانية أو تكون الثالثة هي الثالثة ، فتكون الركعة التي بيده هي الرابعة فيكون المراد بقوله « ثمَّ صلّى الأخرى » هو أن يأتي بركعة منفصلة ، أعني صلاة الاحتياط ، وبعد أن أتم ما ظنّ نقصه بصلاة الاحتياط يسلّم. وهذا كما ترى هو البناء على الأكثر في الركعة المشكوكة.

وممّا يؤيّد أنّ المراد بقوله علیه السلام « ثمَّ صلّى الأخرى » هي الركعة المنفصلة لا الموصولة هي كلمة « ثمَّ » التي للترتيب بانفصال ، وإلاّ لو كان المراد هي الركعة الموصولة لكان ينبغي أن يقول علیه السلام « مضى في الثالثة ويصلي الأخرى » بالواو لا بثمّ.

ثمَّ إنّه على تقدير أن لا يكون هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأوّل لكن يكون موجبا لإجمال الرواية ، فلا يكون دليل على البناء على الأقلّ كما توهّم.

ولكن الإنصاف أنّ الاحتمال الأوّل - أي كون الأمر بالمضي في الثالثة بمعنى أنّه يبنى على أنّ ما بيده الذي هو كان ظرف وجود الشك في أنّ الركعة التي خرج منه ودخل في الثالثة هل هي الثانية أو الثالثة هي الثالثة - أظهر ، وذلك من جهة ظهور قوله علیه السلام « ثمَّ صلّى الأخرى ولا شي ء عليه ويسلّم » في الركعة الموصولة.

ويؤيّد هذا الظهور وقوع « يسلّم » بعد هذه الجملة ، ولو كان المراد هي الركعة المنفصلة وصلاة الاحتياط كان ينبغي أن يقدّم هذه الكلمة ويقول « يسلّم ثمَّ صلّى الأخرى ».

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا التعبير منه علیه السلام إيهام إلى البناء على الأقلّ تقيّة ، وفي أخبار الباب يوجد كثيرا مثل هذا الخبر ممّا ظاهرها يوهم البناء على الأقلّ وظاهر عليها أمارات التقيّة والتورية ، وقد أشرنا إليها في بعض روايات باب الاستصحاب.

ص: 200

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ هذه الرواية مجملة لا تدلّ على قول المشهور ، ولا على ما حكي عن الفقيه وعن السيّد من البناء على الأقلّ.

ومنها : رواية العلاء قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال علیه السلام : « يبني على اليقين ، فإذا فرغ تشهد وقام قائما فصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » (1) بناء على أنّ المراد من البناء على اليقين هو البناء على الأقلّ ، لأنّه هو المتيقّن.

ولكن أنت خبير بأنّه ينفي هذا الاحتمال قوله علیه السلام : « فإذا فرغ تشهّد وقام قائما فصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » لأنّ هذا ظاهر في صلاة الاحتياط أوّلا لتعيينه علیه السلام فاتحة الكتاب في القراءة ، وثانيا بقرينة قوله علیه السلام « فإذا فرغ تشهّد » لظهور هذا التشهّد في التشهّد الثاني ، أي ما هو في الركعة الرابعة ، فأمره علیه السلام - بعد هذا التشهّد بالقيام وصلاة ركعة بفاتحة الكتاب - صريح في صلاة الاحتياط ، لأنّه لا مورد للركعة الموصولة بعد التشهّد الثاني كما هو واضح. وصلاة الاحتياط ركعة واحدة في مفروض المسألة لا يلائم إلاّ على البناء على الأكثر.

هذا ، مضافا إلى أنّ مصطلح الأخبار هو تسمية البناء على الأكثر بالبناء على اليقين ، فهذه الرواية أيضا لا تدلّ على البناء على الأقلّ كما توهّم.

ومنها : صحيحة عبيد عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن رجل لم يدر ركعتين صلّى أم ثلاثا؟ قال علیه السلام : « يعيد ». قلت : أليس يقال : لا يعيد الصلاة فقيه »؟ فقال علیه السلام : « إنّما ذلك في الثلاث والأربع » (2).

وبعد ما عرفت من الإجماع والروايات على عدم وجوب الإعادة وعدم بطلان

ص: 201


1- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 319 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 9 ، ح 2 ، « قرب الإسناد » ص 30 ، ح 99.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 193 ، ح 760 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 61. « الاستبصار » ج 1 ، ص 375 ، ح 1424 ، باب من شكّ فلا يدري صلّى اثنتين أو ثلاثا ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 320 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 9 ، ح 3.

الصلاة بالشكّ بين الاثنتين والثلاث إذا كان بعد إكمال السجدتين ، فلا بدّ من حمل هذه الصحيحة على وقوع الشكّ المذكور قبل إكمال السجدتين.

وأمّا الاستدلال للبناء على الأقلّ بموثّقة إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن الأوّل علیه السلام قال : « إذا شككت فابن على اليقين » قال : قلت : هذا أصل؟ قال : « نعم » (1). وبما هو بهذا المضمون من البناء على اليقين في أخبار كثيرة ، فالظاهر أنّه ليس المراد من البناء على اليقين البناء على القدر المتيقّن الذي هو الأقلّ ، بل المراد اليقين بالامتثال الذي هو البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط إتماما لما ظنّه من النقصان.

وقد عبّر في الأخبار عن هذا بالبناء على اليقين ، كما في خبر قرب الإسناد في رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال : « يبني على اليقين فإذا فرغ تشهّد وقام وصلّى ركعة بفاتحة الكتاب ».

وأنت خبير بأنّ قوله علیه السلام وقام وصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » المراد به صلاة الاحتياط ، وعدم ذكر التسليم بعد قوله علیه السلام « فإذا فرغ وتشهّد » للنكتة التي نبّهنا عليها وهي الإيهام للتقيّة وصلاة الاحتياط معناها البناء على الأكثر ، فعبّر عن البناء على الأكثر بالبناء على اليقين ، أي اليقين بالامتثال.

والحاصل : أنّ هذه الطائفة من الروايات إن لم تكن دليلا على البناء على الأكثر فليست دليلا على البناء على الأقلّ.

وأمّا سائر الروايات التي ظاهرها البناء على الأقلّ - على تقدير وجودها وعدم الإشكال في دلالتها - لا بدّ من طرحها ، أو تأويلها بضرب من التأويل ، لإعراض الأصحاب عنها ، بل انعقاد الإجماع على خلافها ، إذ لم ينقل الخلاف إلاّ عن السيّد والصدوق - 0 - في الناصريّات (2) وفي الفقيه (3) ، على إشكال في الأوّل ، إذ

ص: 202


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 351 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1025 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 381 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 2.
2- « الناصريات » ضمن الجوامع الفقهية ، ص 237.
3- حكى عنهما في « مدارك الأحكام » ج 4 ، ص 256.

المنقول عن انتصاره موافقته للمشهور (1). وأمّا الصدوق فالمنقول عنه تجويز البناء على الأقلّ لا تعيينه ، مع أنّ المنقول عن مقنعة بطلان الصلاة ووجوب إعادتها (2).

ثمَّ إنّه استدلّ للقول المشهور أيضا بصحيحة محمّد بن مسلم قال : « إنّما السهو بين الثلاث والأربع ، وفي الاثنتين بتلك المنزلة ومن سها فلم يدر ثلاثا صلّى أو أربعا واعتدل شكّه قال : يقوم فيتمّ ثمَّ يجلس ويتشهّد ويسلّم ويصلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس ، وإن كان أكثر وهمه إلى الأربع تشهّد وسلّم ثمَّ قرأ فاتحة الكتاب وركع وسجد ، ثمَّ قرأ وسجد سجدتين ، ثمَّ تشهّد وسلّم. وإن كان أكثر وهمه اثنتين نهض فصلّى ركعتين وتشهّد وسلّم » (3).

ودلالتها على المطلوب - أي البناء على الأكثر - متوقّف على أن يكون المراد بقوله « فلم يدر ثلاثا صلّى أو أربعا » هي الركعة التي على وشك الشروع فيها ولم يشرع بعد بأن يكون جالسا ويشكّ في أنّ الركعة التي يجب أن يقوم بإتيانها هل هي الثالثة أو الرابعة؟ فيقول علیه السلام في مقام الجواب عن هذا السؤال « يقوم ويتمّ » أي يبني على أنّ هذه الركعة التي يريد أن يأتي بها هي الرابعة ، فيأتي بها بهذا العنوان ويجلس ويتشهّد ويسلّم ، فهذا معنى قوله « يقوم فيتمّ » وبيان له.

ثمَّ يقول علیه السلام في علاج تدارك ما احتمل نقصه بعد البناء على الأكثر الذي هو الأربع في المقام « ويصلّي ركعتين » إلى آخر ما قال علیه السلام ، فيعالج الشكّ بركعتين من جلوس بدل ركعة من قيام ، كما هو المذكور في سائر أخبار صلاة الاحتياط.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا خلاف ظاهر جملة « فلم يدر ثلاثا صلّى أو أربعا » جدّا ، بل ظاهرها أنّ ما أتى به لم يدر أنّه ثلاث أو أربع؟ فقوله علیه السلام « يقوم فيتمّ » ظاهره

ص: 203


1- « الانتصار » ص 156.
2- « المقنع » ص 101.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 352 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 4.

البناء على الأقلّ ، أي يبنى على أنّ ما أتى به ثلاث فيقوم فيتمّ ، أي يأتي بالرابعة وهذا ظاهرها جدّا.

لكنّ هذا الظاهر لا يلائم مع قوله علیه السلام فيما بعد هذه الجملة « ويصلّى ركعتين » لأنّه بناء على أنّ ما أتى به ثلاث ، فقام وأتى بالرابعة فلا يبقى مجال لصلاة الاحتياط ، لعدم احتمال النقيصة بناء على هذا كي يحتاط.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ وجوب ركعتين من جلوس في المفروض حكم تعبّدي وليس من باب تدارك ما نقص ، وهو بعيد إلى الغاية.

وعلى كلّ حال إثبات البناء على الأكثر أو الأقلّ بهذه الرواية مشكل جدّا ، لإجمالها.

ولكنّ هذا الحكم - أي البناء على الأكثر في الشكّ بين الاثنتين والثلاث - إجماعي ، ومدلول الروايات العامّة التي مفادها البناء على الأكثر في أي شكّ في أعداد الركعات في الفريضة الرباعيّة إذا لم يكن البناء على الأكثر موجبا لفسادها ولبطلان الصلاة ، وليس في البين ما يخصّصها.

وقد عرفت حال سائر الأقوال من البناء على الأقلّ ، والقول بالتخيير ، والقول بالبطلان ولزوم الإعادة.

هذا ، مضافا إلى الأدلة الخاصّة ، أي الروايات الواردة في خصوص الشكّ بين الاثنتين والثلاث التي مفادها البناء على الأكثر ، كحسنة زرارة التي تقدّمت (1) ، ورواية قرب الإسناد في رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال : « يبني على اليقين » بناء على ما تقدّم من أنّ المراد بالبناء على اليقين هو اليقين بالامتثال أي : البناء على الأكثر ، وتدارك ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط.

الأمر الثاني : هو بيان مدرك التخيير في صلاة الاحتياط في هذه الصورة بين إتيانها

ص: 204


1- سبق ذكره في ص 199 ، رقم (1).

ركعتين من جلوس أو ركعة من قيام ، فنقول :

ذكروا لذلك وجوها :

الأوّل : قوله علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم : « ويصلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » ظاهر في أنّ تدارك ركعة محتمل الفوت بركعتين من جلوس. وفي رواية قرب الإسناد بركعة من قيام.

ومقتضى الجمع الدلالي العرفي - الذي يرفع التعارض بينهما - هو الحمل على التخيير ، وهذا ليس من التخيير الذي هو مفاد أدلّة التخيير في باب تعارض الخبرين حتّى يتكلّم فيه أنّه تخيير في المسألة الأصوليّة أو الفرعية ، بل العرف يجمع بينهما بالتخيير فيرتفع التعارض من البين.

وفيه : أنّه لو كانت هاتان الروايتان واردتين في مورد الشكّ بين الاثنتين والثلاث لكان لهذا الكلام وجه وجيه ، ولكن موردهما مختلف ، لأنّ مورد الصحيحة هو الشكّ بين الثلاث والأربع ، ومورد رواية قرب الإسناد هو الشكّ بين الاثنتين والثلاث ، فيحتاج إلى تنقيح المناط.

وهذا وجه آخر سنتكلّم فيه إن شاء اللّه.

الثاني : أنّ هذا الشكّ بعد البناء على الثلاث والقيام للركعة الرابعة مستلزم لشكّ آخر وهو أنّ هذه الركعة التي قام إليها - أعني الرابعة البنائية - يشكّ وجدانا أنّها ثالثة أو رابعة ، فكلّ شكّ بين الاثنتين والثلاث ينتهي بالأخرة إلى الشكّ بين الثلاث والأربعة ، وحكم صلاة الاحتياط فيه - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - هو التخيير المذكور لمرسل جميل الآتي إن شاء اللّه ، فمدرك التخيير في صلاة الاحتياط في الشكّ بين الاثنتين والثلاث هو نفس مدرك التخيير في الشكّ بين الثلاث والأربع.

وفيه : أنّ ظاهر أدلّة البناء على الأكثر هو باعتبار أوّل شكّ يحصل له ، لا باعتبار الشكوك اللازمة لهذا الشكّ ، غاية الأمر بشرط استقراره وعدم انقلابه الى شكّ آخر.

ص: 205

وأمّا مسألة تتالي الشكوك الذي قاس شيخنا الأستاذ قدس سرّه المقام به (1) فليس من قبيل ما نحن فيه ، لأنّها من قبيل تبدّل الشكّ الأوّل وانقلابه إلى شكّ آخر بعد زوال الشكّ الأوّل ، وما نحن فيه الشك الأوّل موجود ، وهذا الشكّ الثاني من لوازم الشكّ الأوّل.

والإنصاف أنّ هذه المقايسة من شيخنا الأستاذ قدس سرّه غريب.

الثالث : تنقيح المناط ، بمعنى العلم بأنّ المقصود من صلاة الاحتياط هو تدارك ما فات على تقدير فوته بعد البناء على الأكثر ، لكونه في الواقع هو الأقلّ.

وقد جوّز الشارع وخيّر المكلّف بين تدارك كلّ ركعة بركعة من قيام مثل ما فات ، وبين تدارك كلّ ركعة بركعتين من جلوس.

فإذا صرّح الشارع في مورد بمثل هذا التخيير - كما أنّه صرّح في الشكّ بين الثلاث والأربع في مرسل جميل - نعلم بعدم خصوصيّة لذلك المورد ، بل طريق تدارك ما فات أحد الأمرين.

ومرسل جميل عن الصادق علیه السلام هو هذا : قال فيمن لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا ووهمه في ذلك سواء؟ قال علیه السلام : « إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار ، إن شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء صلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » (2).

فبناء على هذا لا فرق في التخيير في صلاة الاحتياط بين ركعتين من جلوس وبين ركعة من قيام ، بين أن يكون الشكّ بين الثلاث والأربع وبين أن يكون بين الاثنتين والثلاث ، لوحدة المناط والملاك.

ولكن أنت خبير بأنّ تنقيح المناط لا يفيد إلاّ في مورد القطع بالمناط والملاك ، وإلاّ لا يخرج عن كونه قياسا باطلا.

ص: 206


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 92.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 184 ، ح 734 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 35. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 320 ، أبواب الخلل في الصلاة ، باب 10 ، ح 2.

الرابع : الإجماع ، وهو العمدة ، واعتمد عليه في هذا الحكم جميع كثير.

ولكن أنت خبير بأنّ الإجماع الاصطلاحي الذي قلنا بحجّيته في الأصول هو فيما إذا لم يكن للمتّفقين مستند معلوم ، وأمّا في أمثال المقام ممّا ذكروا له مستندات فليس من قبيل ذلك الإجماع الذي قلنا ، بل لا بدّ من الرجوع إلى نفس المدارك ، وقد عرفت الحال فيها فلا ينبغي ترك الاحتياط في المقام بأن يأتي بركعة من القيام والأحوط منه أن يجمع بينهما وأحوط من ذلك إعادة الصلاة أيضا مضافا إلى ذلك الاحتياط.

والوجه في هذه الاحتياطات الثلاث واضح بعد الإحاطة على ما ذكرنا.

الصورة الثانية : من الصور الأربعة التي للشكّ البسيط والمركّب في نفس الأربعة ، بمعنى عدم خروج طرف الأكثر عن الأربعة ، أي لا يكون زائدا عليها ، وهي عبارة عن الشكّ بين الثلاث والأربع في أي حال من الحالات ، كان في حال القيام أو الركوع أو السجود يبني على الأكثر - أي الأربع - ويتمّ ويسلّم بعد أن تشهّد ، ثمَّ يأتي بصلاة الاحتياط مخيّرا بين ركعتين من جلوس وبين ركعة من قيام.

أمّا البناء على الأكثر : فأوّلا لما مرّ من الأدلّة العامّة ، كموثّقات الثلاث العمّار (1) الدالّة على البناء على الأكثر في كلّ فريضة رباعيّة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية فيما إذا لم يكن البناء على الأكثر موجبا للفساد والبطلان ، كما أنّه فيما نحن كذلك ، أي ليس موجبا للفساد والبطلان.

وثانيا للأخبار الخاصّة في نفس المورد ، أي في الشكّ بين الثلاث والأربع :

فمنها : صحيحة عبد الرحمن بن سيابة وأبي العباس البقباق ، جميعا عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا لم تدر ثلاثا صلّيت أو أربعا ووقع رأيك على الثلاث فابن على الثلاث ، وان وقع رأيك على الأربع فابن على الأربع ، فسلّم وانصرف ، وإن اعتدل

ص: 207


1- سبق ذكرها في ص 183 و 184.

ووهمك فانصرف وصلّ ركعتين وأنت جالس » الحديث (1).

ومنها : مرسلة جميل عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : فيمن لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا ووهمه في ذلك سواء؟ قال : فقال علیه السلام : « إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار ، إنّ شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء صلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » الحديث (2).

ومنها : صحيحة زرارة عن أحدهما علیهماالسلام في حديث قال : « إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شي ء عليه ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » (3).

ومنها : مصحّح الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال علیه السلام : « وإنّ كنت لا تدري ثلاثا صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ثمَّ صلّ ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بأمّ الكتاب ، فإن ذهب وهمك إلى الثلاث فقم فصلّ الركعة الرابعة ولا تسجد سجدتي السهو ، وإن ذهب وهمك إلى الأربع فتشهّد وسلّم ثمَّ اسجد سجدتي السهو » (4).

ومنها : حسن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إن استوى وهمه في الثلاث والأربع سلّم وصلّى ركعتين وأربع سجدات بفاتحة الكتاب وهو جالس يقصر

ص: 208


1- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 184 ، ح 733 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 34. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 316 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 7 ، ح 1.
2- سبق تخريجه في ص 206 ، رقم (2).
3- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 186 ، ح 740 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 41. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1416 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 5.

في التشهّد » (1).

ومنها : موثق أبي بصير فيمن لا يدري في الثالثة هو أم في الرابعة ، قال علیه السلام : « فما ذهب وهمه إليه إن رأى أنّه في الثالثة وفي قلبه من الرابعة شي ء ، سلّم بينه وبين نفسه ، ثمَّ يصلّي ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب » (2).

وروايات أخر ذكرها في الوسائل في باب الذي عقده لهذه المسألة (3) ، وإن شئت فراجع.

فهذه الأخبار مضافا إلى الأخبار العامّة دلالتها على البناء على الأكثر في هذه الصورة من الشكّ - أي الشكّ بين الثلاث والأربع وإتمام ما نقص بصلاة الاحتياط - واضحة لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

نعم في صحيحة زرارة ربما يقال بأنّها تدل على البناء على الأقل ، لأنّ قوله علیه السلام « قام فأضاف إليها أخرى ولا شي ء عليه » ظاهرها هي الركعة الموصولة فيكون عبارة عن أنّه ابن على الثلاث الذي هو الأقلّ في المقام وقم وائت بالرابعة ولا شي ء عليك.

ويؤيّد هذا المعنى أيضا تطبيقه علیه السلام هذا الحكم على الاستصحاب بقوله « ولا ينقض اليقين بالشكّ » أي اليقين بعدم الرابعة بالشكّ في وجوده ، بل يجب عليه أن يبني على العدم ويقوم ويأتي بالرابعة ، وهذا هو البناء على الأقلّ.

ولكنّ أنت خبير بأنّ ظاهر هذه الجملة وإن كان كما توهّمه المتوهّم ولكن ظاهر

ص: 209


1- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 185 ، ح 736 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 37. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 6.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 185 ، ح 735 ، باب احكام السهو في الصلاة ... ، ح 36. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 322 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 7.
3- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 320 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10.

الجملات الأخر الستّ ما عدا قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشكّ » أنّ المراد باليقين هو اليقين بالامتثال وهو أن يبني على الأكثر ثمَّ يأتي بصلاة الاحتياط لتدارك ما فات على تقدير فوته منفصلا ، وإلاّ لو كان المراد هي الركعة الموصولة والتطبيق على الاستصحاب لما كان لهذه التأكيدات وجه ، فمن هذه التأكيدات يستكشف أنّه علیه السلام بصدد بيان البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط للتدارك منفصلا ، ولكن بصورة البناء على الأقلّ كي لا يكون مخالفا للتقيّة ولرأي الجمهور.

والشاهد الآخر : أنّه علیه السلام في صدر هذه الصحيحة يقول في جواز قول السائل : قلت له : من لم يدر أنّه في أربع هو أو ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب » (1).

ولا شكّ في أنّ جوابه علیه السلام بقوله « يركع ركعتين » إلى آخره ظاهر بل صريح في البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط منفصلا ، وبعيد إلى الغاية أنّه علیه السلام يحكم في الصدر بالبناء على الأكثر وفي الذيل بالبناء على الأقلّ ، وإن كان هو في الشكّ بين الاثنتين والأربع وهذا في الشكّ بين الثلاث والأربع.

ثمَّ إنّ في هذه الصحيحة ناقشوا بعض المناقشات ليس مربوطا بمسألتنا ، وقد فصّلنا الكلام فيها في كتابنا « منتهى الأصول » (2).

وخلاصة الكلام : أنّ حمل الصحيحة على الركعة الموصولة بعيد وخلاف ظاهر الفقرات الستّ ، وأمّا ما رجّحنا في كتابنا « منتهى الأصول » (3) من دلالة هذه الصحيحة على حجّية الاستصحاب فلا ينافي البناء على الأكثر ، لما ذكرنا هناك.

ص: 210


1- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1416 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 323 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 3.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 427.
3- المصدر.

ثمَّ إنّ في هذه الروايات في بعض فقراتها وجملها وإن كان ما يقتضي شرحها والتكلّم عنها ولكن أصل المطلب وما نحن بصدد إثباته حيث أنّه معلوم - وبعبارة أخرى : دلالتها على كلا الأمرين ، أي البناء على الأكثر ووجوب التدارك بصلاة الاحتياط حيث أنّها واضحة - فلا يهمّنا بيان سائر ما فيها والإشكالات التي أوردوها عليها والجواب عنها.

نعم بقي أمر : وهو أنّ صلاة الاحتياط هاهنا هل الواجب هو ركعة من قيام ، أو ركعتين من جلوس ، أو التخيير بينهما؟

ظاهر العمّاني (1) والجعفي (2) على المحكي عنهما تعيين ركعتين من جلوس (3) ، كما أنّ المحكي عن بعض القدماء هو تعيين ركعة من قيام ، ولكن فتوى المشهور هو التخيير ، وهو الصحيح.

أمّا أولا : فلمرسلة جميل التي تقدّمت حيث يقول علیه السلام فيها : « إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار إن شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » (4).

وضعفها منجبر بعمل الأصحاب.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ ظاهر موثّقات عمّار هو أن يكون الاحتياط بركعة من قيام ،

ص: 211


1- هو الحسن بن على بن ابى عقيل أبو محمد العماني الحذاء ، من فقهاء الشيعة في ابتداء الغيبة وهو من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه. تطلب ترجمته من : رجال النجاشي : ص 1. تنقيح المقال : ج 1 ، ص 291. معجم رجال الحديث : ج 5. ص 22.
2- هو محمد بن احمد بن إبراهيم أبو الفضل الجعفي الكوفي ثمَّ المصري كان من أفاضل قدماء أصحابنا الإمامية ممن أدرك الغيبتين له كتب كثيرة في الفقه وغيره منها كتاب الفاخر وكتاب تفاسير معاني القرآن وكتاب التوحيد والايمان الى غير ذلك يروى عنه الشيخ والنجاشي بواسطتين وابن قولويه بلا واسطة. « الكنى والألقاب » ج 2. ص 363. تطلب ترجمته من : رجال النجاشي : ص 264. تنقيح المقال : ج 2 ، ص 65 ، معجم رجال الحديث : ج 14 ، ص 311.
3- حكى عنهما الشهيد في « ذكري الشيعة » ص 227 ، مضافا : حكى عن العمّاني في « مختلف الشيعة » ج 2 ص 384.
4- تقدم تخريجه في ص 206 ، رقم (2).

لأنّ ذلك مقتضى إطلاق قوله علیه السلام : « وأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » (1) ، وخصوصا قوله علیه السلام في موثّقة الأخرى للعمّار : « إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت » (2). فأمره علیه السلام بالقيام وصلاة الاحتياط بعد الفراغ والتسليم للصلاة الأصليّة له ظهور تامّ في أنّ صلاة الاحتياط لا بدّ وأن تكون عن قيام.

وظاهر هذه الروايات الخاصّة بل صريح جميعها هو كونها ركعتين من جلوس ، ومقتضى الجمع الدلالي العرفي بين الطائفتين هو التخيير. مضافا إلى ادّعاء الإجماع من بعض في المسألة والشهرة المحقّقة ، لأنّه لا مخالف من القدماء إلاّ العمّاني والجعفي.

نعم الأحوط هو الأخذ في مقام العمل بركعتين من جلوس خروجا عن خلاف العمّاني والجعفي ، ولأنّ الروايات الواردة في نفس المسألة أغلبها - إن لم يكن جميعها - مفادها تعيين ركعتين من جلوس.

ولو احتاط بالجمع فالأحوط تقديم ركعتين من جلوس ، لأنّه بناء على تعيّن ركعتين من جلوس الذي احتماله ليس بعيدا فإن قدّم الركعة من قيام يكون فاصلا بين الصلاة الأصليّة وبين صلاة الاحتياط ، وهذا لا يجوز.

وأمّا القائلون بالتخيير بين البناء على الأقلّ والأكثر ، كالصدوق (3) من القدماء وبعض المتأخّرين ، فاستدلّوا بأخبار الاستصحاب وقالوا بأنّ مقتضاها هو البناء على الأقلّ ، ومقتضى موثّقات عمّار وهذه الأخبار الخاصّة هو البناء على الأكثر ، فمقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين هو التخيير.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأخبار بل وموثّقات عمّار أخصّ من أخبار الاستصحاب فتخصّص بها أخبار الاستصحاب ، ولا موجب لرفع اليد عن ظهور

ص: 212


1- تقدّم تخريجه في ص 183 و 184.
2- تقدّم تخريجه في ص 184 ، رقم (1).
3- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 384.

كليهما بالجمع بالتخيير.

وأمّا استدلالهم بصحيحة زرارة فقد عرفت الحال فيها وأنّها لا تدلّ على البناء على الأقلّ كما توهّموا ، وعلى تقدير دلالتها يكون من باب التقيّة فلا حجّية لها.

الصورة الثالثة : من الصور الأربع ، هو الشكّ بين الاثنتين والأربع بعد إكمال السجدتين. فأيضا المشهور هو البناء على الأكثر - أي الأربع - والاحتياط بركعتين منفصلتين عن الصلاة الأصليّة قائما.

ويدلّ على قول المشهور :

أوّلا : موثّقات عمار الثلاث المتقدّمة (1).

وثانيا : الأخبار الخاصّة في نفس المسألة :

منها : صحيح محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : « عن رجل صلّى ركعتين فلا يدري ركعتان هي أو أربع؟ قال علیه السلام : « يسلّم ثمَّ يقوم فيصلّي ركعتين بفاتحة الكتاب فيشهد وينصرف وليس عليه شي ء » (2).

ومنها : صحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام ، قال علیه السلام : « إذا لم تدر اثنتين صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ، ثمَّ صلّ ركعتين وأربع سجدات ، تقرأ فيهما بأمّ القرآن ثمَّ تشهّد وسلّم ، فإن كنت إنّما صلّيت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع ، وإن كنت صلّيت الأربع كانتا هاتان نافلة » (3).

ومنها : صحيح زرارة الذي تقدّم ذكره ، حيث إنّ في صدره : من لم يدر في أربع هو أو ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال علیه السلام : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة

ص: 213


1- تقدّم في ص 183 و 184.
2- « الاستبصار » ج 1 ، ص 372 ، ح 1314 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 324 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 8 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 349 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1015 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 322 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 1.

الكتاب ويتشهّد ولا شي ء عليه » (1).

ومنها : خبر ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل لا يدري ركعتين صلى أم أربعا؟ قال علیه السلام : « يتشهّد ويسلّم ، ثمَّ يقوم فيصلّي ركعتين وأربع سجدات يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ، ثمَّ يتشهّد ويسلّم ، فإن كان صلّى أربعا كانت هاتان نافلة ، وإن كان صلّى ركعتين كانت هاتان تمام الأربع ، وإن تكلّم فليسجد سجدتي السهو » (2).

فهذه الأخبار الخاصّة بالشكّ بين الاثنتين والأربع ، مضافا إلى الأخبار العامّة تدلّ دلالة واضحة في هذه الصورة على البناء على الأكثر ، أي الأربع. وكذا تدل على أنّ صلاة الاحتياط فيها ركعتين من قيام ، وهذه الأخبار كلّها متفق في هذا الحكم ، ولذلك لا خلاف بين القائلين بالبناء على الأكثر في هذه الصورة في هذا الحكم ، أي في أنّ صلاة الاحتياط هاهنا ركعتان من قيام.

نعم ذهب بعض إلى البناء على الأقلّ ومستندهم في ذلك أخبار ربما يشعر بذلك ، ولكن لا بدّ من حملها على التقيّة أو طرحها ، من جهة مخالفتها لهذه الأخبار الصحيحة الخاصّة والعامّة ، وإعراض المشهور عنها ، بل ربما ادّعى الإجماع على خلافها ، مضافا إلى موافقتها للعامّة ، ولذلك أخبار البناء على الأقلّ يجب أن تطرح أو يؤول.

وأمّا صحيح محمّد بن مسلم - قال : سألته عن الرجل لا يدري صلّى ركعتين أم أربعا؟ قال علیه السلام : « يعيد الصلاة » (3) - فلم يفت أحد بمضمونه إلاّ ما حكي عن الصدوق قدس سرّه في المقنع (4) على كلام فيه ، لأنّه حكى عنه أيضا أنّه قال : وروى أنّه يسلّم

ص: 214


1- تقدّم تخريجه في ص 210 ، رقم (1).
2- « الكافي » ج 3 ، ص 352 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 186 ، ح 739 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 40. « الاستبصار » ج 1 ، ص 372 ، ح 1315 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 323 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 186 ، ح 741 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 2. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1417 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 324 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 7.
4- « المقنع » ص 102.

فيقوم فيصلّي ركعتين (1). فلعلّه يقول بالتخيير بين البناء على الأكثر والإعادة ، بل يمكن استظهاره من هذا الكلام بناء على ما يقال : إنّ نقله لرواية علامة للعمل بها.

وللقول بالتخيير بين البناء على الأكثر والإعادة وجه ، وهو أنّ البناء على الأكثر على وجه الترخيص للعلاج وتصحيح العمل تخفيفا على المكلّف. وحكي ذلك عن الشهيد في الذكرى وعن العلاّمة أيضا (2) ، فإذا كان الأمر كذلك فالإعادة مجزية بطريق أولى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حرمة قطع العمل وإبطاله مانع عن جواز الإعادة ، لا البناء على الأكثر.

ولكن يمكن أن يقال : بأنّه بناء على قول المشهور - أي البناء على الأكثر - أيضا يجب أن يسلم ويخرج من الصلاة.

فهذه الرواية التي مفادها الإعادة متّفقة مع روايات البناء على الأكثر في الخروج عن الصلاة ، غاية الأمر أنّ مفاد روايات البناء على الأكثر هو العلاج بإتمام ما نقص بصلاة الاحتياط تخفيفا على المكلّف ، وهذه الرواية مفادها تفريغ الذمة بالإعادة ، فالنتيجة هو التخيير بين الأمرين. وعلى كلّ ، هذه الرواية بمعنى وجوب الإعادة تعيينا معرض عنها للجميع ، فلا بدّ من تأويلها أو طرحها.

الصورة الرابعة : هو الشكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، والصور الثلاث التي تقدّمت كانت من الشكّ البسيط في نفس الرباعيّة ، بمعنى أنّ طرف الأكثر من الشكّ لم يكن زائدا على الأربع ، وهذه الصورة تكون من الشكّ المركّب أيضا في نفس الرباعيّة بالمعنى المذكور.

وقد تقدّم المراد من الشكّ المركّب والبسيط ، ونقول :

ص: 215


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 349 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1015 و 1021 ، و « المقنع » ص 102.
2- « ذكري الشيعة » ص 225.

إنّ هذا الشكّ مركّب أي في الحقيقة ليس شكّا واحدا بل مركّب من شكّين فما زاد ، كما أنّ هذا الشكّ مركّب من ثلاثة شكوك ، الأوّل : بين الاثنين والأربع. والثاني : بين الاثنين والثلاث. والثالث : بين الثلاث والأربع.

والحكم في هذه الصورة أيضا البناء على الأكثر - أي الأربع - وصلاة الاحتياط يقرأ ركعتين من قيام لاحتمال أن يكون الاثنين ، وركعتين من جلوس ، لاحتمال أن يكون ثلاثا. وأمّا احتمال أن يكون أربعا فلا يحتاج إلى تدارك ، لأنه تامّ فيكون ما صلّى احتياطا ، نافلة على هذا التقدير. والاحتمالات منحصرة فيما ذكرنا.

ومستند هذا الحكم - مضافا إلى ادّعاء الإجماع عن الانتصار (1) والغنية (2) ، والروايات العامّة ، أي الموثّقات الثلاث المتقدّمة للعمّار (3) - الروايات الخاصّة الواردة في خصوص هذه الصورة :

منها : صحيح ابن أبي عمير ، عن الصادق علیه السلام في رجل صلّى فلم يدر اثنتين صلّى ، أم ثلاثا ، أم أربعا؟ قال علیه السلام : « يقوم فيصلّي ركعتين من قيام ويسلّم ، ثمَّ يصلّي ركعتين من جلوس ويسلم ، فإن كان أربع ركعات كانت الركعتان نافلة وإلاّ تمّت الأربع » (4).

ومنها : صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن الكاظم علیه السلام : قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل لا يدري اثنتين صلّى ، أم ثلاثا ، أم أربعا؟ فقال : « يصلّي ركعة من قيام - على بعض نسخ الفقيه - وركعتين - على بعض نسخ الآخر - ثمَّ يصلّي ركعتين وهو جالس » (5).

ص: 216


1- « الانتصار » ص 156.
2- « الغنية » ضمن الجوامع الفقهية ، ص 504.
3- تقدّم ذكره في ص 183 و 184.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 742 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 43. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 326 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 13 ، ح 4.
5- « الفقيه » ج 1 ، ص 350 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1021 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 325 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 13 ، ح 1.

ودلالة هذه الروايات على أصل الحكم - أي البناء على الأكثر ، أي الأربع هاهنا - واضحة ، ولا خلاف فيه أيضا إلاّ من ابن الجنيد (1) فإنّه جوّز البناء على الأقلّ ، وليس له دليل على هذا التخيير إلاّ تخيّل أنّه مقتضى الجمع بين الأخبار الدالّة على البناء على الأقلّ والأخبار التي تدلّ على البناء على الأكثر.

وأنت خبير بما في هذا الكلام ، وأنّ أخبار البناء على الأقلّ محمولة على التقيّة ، ومعرض عنها عند المشهور ، بل عرفت ادّعاء الإجماع عن الغنية والانتصار على خلافها في خصوص هذا المورد.

فالإنصاف أنّ أصل الحكم - أي : البناء على الأكثر وتدارك ما احتمل فوته بصلاة الاحتياط - ممّا لا ينبغي أن يشكّ فيه.

نعم وقع الخلاف في كيفيّة صلاة الاحتياط من حيث الكميّة ، ومن حيث الترتيب بين الركعتين قائما والركعتين جالسا.

أمّا الأوّل أي الاختلاف من حيث الكميّة ، فقد عرفت أنّ المشهور هو ركعتين من قيام وركعتين من جلوس.

ومقابل هذا القول ما عن الصدوق (2) ووالده (3) - قدس سرّهما - وقوّاه الشهيد قدس سرّه أيضا في الذكرى (4) من حيث الاعتبار ركعة من قيام بدل ركعتين.

ودليلهم على هذا القول أمران :

الأوّل : موافقته للاعتبار ، ومن هذه الجهة قوّاه الشهيد ، وهو أنّه كما أشرنا إليه أنّ الاحتمالات في هذا الشكّ منحصرة في الثلاثة ، لأنّه إمّا صلّى اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، فإن صلّى أربعا فصلاته من حيث عدد الركعات تامّة لا يحتاج إلى التدارك وصلاة

ص: 217


1- « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 382.
2- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 384.
3- « فقه الرضا » ص 118.
4- « ذكري الشيعة » ص 226.

الاحتياط أصلا ، وإن كان ما صلّى ثلاثا فيكفي في التدارك ركعة واحدة قائما ولا يحتاج إلى الاثنتين قائما ، بل هو مضرّ كما هو واضح ، وإن كان اثنتين فمع انضمام تلك الركعة الواحدة إلى الركعتين من جلوس يكفي في تدارك الاثنتين الفائتتين ، لأنّ الركعتين من جلوس تحسبان ركعة من قيام ، فلا يحتاج إلى ركعتين من قيام.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الاعتبار لا يقاوم تلك الأدلّة الدالّة على وجوب ركعتين من قيام ، ويكون اجتهادا مقابل النصّ.

الثاني : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج بناء على أن يكون متن الرواية ركعة من قيام ، لا ركعتين ، أي بناء على إحدى نسختي الفقيه.

وفيه أوّلا : أنّ اختلاف النسخة لا يوجب تعدّد الرواية كي يدخل في باب تعارض الخبرين ، فيشمله أخبار التخيير عند فقد المرجّحات أو مطلقا بناء على حمل أخبار الترجيح بالمزايا على الاستحباب أو على وجه آخر ، بل كلّ واحد من محتملي الصدور يسقط عن الحجية للشكّ في موضوع الحجّة.

وثانيا : الظاهر من نفس كلام الفقيه هو أنّ عبارة صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج « ويصلّي ركعتين من قيام لا ركعة من قيام » كما في بعض النسخ ، وذلك من جهة أنّه بعد نقله هذه الصحيحة عن عبد الرحمن بن الحجّاج وفيها على النسخة المخطوطة التي عندي « يصلّي ركعتين من قيام » يروى عن علي بن حمزة رواية ، وعن سهل بن اليسع رواية ثمَّ يقول بلا فصل : وقد روى أنّه يصلّي ركعة من قيام وركعتين وهو جالس.

فلو كان في صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج « يصلّي ركعة واحدة من قيام » على نقله ، لم يكن محلّ لأن يقول : وقد روى أنّه يصلى ركعة من قيام. فنقل هذه المرسلة يوجب الاطمئنان بأنّ ما في صحيحة عبد الرحمن هو « ويصلّي ركعتين من قيام ».

فيبقى مرسلة صدوق فقط ، وهو مع إعراض المشهور لا يصحّ أن تكون مستندا لفتواهم ، فالصحيح ما هو عليه المشهور.

ص: 218

وأمّا تقديم ركعتين من قيام على ركعتين من جلوس فهو ظاهر هذه الأخبار ، حيث أنّه علیه السلام يقول فيها بعد الأمر بصلاة ركعتين من قيام : « ثمَّ يصلى ركعتين من جلوس » ومعلوم أنّ كلمة « ثمَّ » يفيد الترتيب والبعديّة.

فما حكى من القول بالتخيير عن المرتضى في الانتصار (1) ، أو القول بوجوب تقديم ركعتين من جلوس كما نسب القول به إلى بعض الأصحاب ، لا وجه له.

وأضعف من هذين القولين القول بلزوم تقديم ركعة من ركعتي القيام دون كليهما إن كان له قائل ، وقد نسبه الفقيه الهمداني إلى المفيد (2) - قدس سرّهما.

وذلك لأنّ الوجه الاعتباري المتوهّم - وهو أن الفائت لو كانت ركعة واحدة تكون تلك الركعة الواحدة تداركا لها ، ولو كانت اثنتين تكون هي والركعتين من جلوس اللتان تحسبان ركعة واحدة من قيام ، أو مع الركعة الواحدة الأخرى من قيام تداركا للاثنتين الفائتين - لا يأتي هاهنا. وفيه ما لا يخفى.

والذي ذكرنا من أقسام الشكوك الأربعة كان من أقسام الشكّ في نفس الأربعة ، بمعنى أنّ طرف الأقلّ والأكثر كانا من نفس الأربعة وبعد إكمال السجدة الثانية من الركعة الثانية ، سواء كان الشكّ بسيطا أو مركّبا على التفسير المتقدّم.

فهذه الشكوك الأربعة التي تقدّم ذكرها قسمان من الأقسام الستّة التي قسّمنا الشكوك إليها ، أي الشكّ البسيط والمركّب في نفس الأربعة.

وأمّا لو كان طرف الأكثر من الشك زائدا على الأربعة ، فالصور كثيرة في قسميه ، أي البسيط والمركب بحسب إمكان الوقوع ، وإن كان وقوعه نادرا.

وقد ذكر الشهيد الثاني في شرح الألفيّة (3) : أنّ جميع صور الشكّ إمّا ثنائيّة أي

ص: 219


1- « الانتصار » ص 156.
2- « مصباح الفقيه » كتاب الصلاة ، ص 568.
3- « مقاصد العلية في شرح الألفية » ص 193.

للشكّ طرفين فقط ، أو ثلاثية ، أي : له ثلاثة أطراف ، أو رباعية أي له أربع أطراف. وهذه الشكوك إمّا في الأربعة أو بزيادة الخامسة.

فالثنائيّة : ستّ صور. وهي :

الأوّل : الشكّ بين الاثنتين والثلاث.

والثاني : بين الاثنتين والأربع.

والثالث : بين الاثنتين والخمس.

والرابع : بين الثلاث والأربع.

والخامس : بين الثلاث والخمس.

والسادس : بين الأربع والخمس.

والثلاثية : أربع صور :

الأوّل : بين الاثنتين والثلاث والأربع. الثاني : بين الاثنتين والثلاث والخمس.

الثالث : بين الاثنتين والأربع والخمس. الرابع : بين الثلاث والأربع والخمس ، فمجموعهما عشرة.

والرباعيّة واحدة ، وهي بين الاثنتين والثلاث والأربع والخمس.

فهذه كلّها أحد عشر ، وباعتبار حال عروض الشكّ في الركعة ينقسم إلى تسعة أقسام :

الأوّل : بعد الأخذ في القيام. الثاني : بعد استيفائه وقبل الشروع في القراءة.

الثالث : أثناء القراءة.

الرابع : بعدها قبل الركوع. الخامس : بعد الانحناء وقبل رفع الرأس. السادس : بعد رفع الرأس وقبل السجود. السابع : في السجود قبل الفراغ من ذكره الواجب. الثامن

ص: 220

بعد الفراغ عن الذكر وقبل الفراغ عن نفس السجدة.

التاسع : بعد الفراغ ، فهذه تسعة حالات في كلّ ركعة يمكن عروض الشكّ في كلّ واحد منها. وحيث أنّ الشكوك البالغة أحد عشر التي تقدّم ذكرها يمكن وقوع كلّ واحد منها في كلّ واحد من هذه الحالات التسع ، فيكون مجموع صور الشكّ في الرباعية تسع وتسعين ، حاصل من ضرب أقسام الشكوك الأحد عشر في الحالات التسع.

فإذا كانت السادسة أيضا طرفا للشكّ فيصير مجموع الشكوك ستّة وعشرين ، لأنّ بزيادة السادسة طرفا للشكّ يزيد على عدد الشكوك خمسة عشر ، فبانضمامه إلى تلك الأحد عشر يصير المجموع ستّة وعشرين.

ومن ضرب هذا المجموع في الحالات التسع يحصل مائتين وأربع وثلاثين صورة وكلّما زاد في أطراف الشكّ يزيد في عدد صور الشكّ ، وربما يبلغ إلى ما لا تحصى كثرة ، ولكن صرف فرض لا تحقّق لأغلبها في الخارج ، وبعضها وإن كان ممكنا وقوعه في الخارج ولكن في غاية الشذوذ والندرة.

ونحن نذكر منها خصوص الشكوك الصحيحة :

أقول : خمسة منهما وردت الروايات في موردها بالخصوص على صحّتها ، مضافا إلى الأدلّة العامّة قد تقدّم أربعة منها وذكرناها ، وبقي واحد منها وهو الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، وحكمه البناء على الأربع ثمَّ يتشهّد ويسلّم ، ثمَّ بعد التسليم يسجد سجدتي السهو ويسلّم بعدهما.

ويدلّ على هذا الحكم أخبار :

منها : صحيح عبد اللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام ، قال علیه السلام : « إذا كنت لا تدري أربعا صلّيت أو خمسا فاسجد سجدتي السهو بعد تسليمك ، ثمَّ سلّم بعدهما » (1).

ص: 221


1- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 195 ، ح 767 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 68. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 314 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 5 ، ح 2.

ومنها : صحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام أيضا : « إذا لم تدر أربعا صلّيت أم خمسا أم نقصت أم زدت فتشهّد وسلّم واسجد سجدتين بغير ركوع ولا قراءة تتشهّد فيهما تشهّدا خفيفا (1).

ومنها : موثّق أبي بصير عن الصادق علیه السلام أيضا قال : « إذا لم تدر خمسا صلّيت أم أربعا فاسجد سجدتي السهو بعد تسليمك وأنت جالس ، ثمَّ سلّم بعدهما » (2).

ومنها : صحيحة زرارة - أو حسنته - قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر زاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ، وسمّاهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المرغمتين » (3) لأنّهما يرغمان الشيطان ، أي يغضبانه ، أو يرغمان أنفه.

ودلالة هذه الأخبار على هذا الحكم في هذا الشكّ واضحة لا يحتاج إلى الشرح والبيان ، فكلّ واحدة منها يدلّ على البناء على الأربع وإتمام الصلاة ، وبعد التسليم والفراغ عن الصلاة على وجوب الإتيان بسجدتي السهو وهو جالس.

والظاهر من التقييد بكونه بعد الصلاة إتيانهما قبل أن يقوم من مكانه ، وأمّا دلالتها على أنّ مورد هذا الحكم بعد إكمال السجدتين هو التعبير بلفظ الماضي في قوله علیه السلام « إذا لم تدر أربعا صلّيت أم خمسا » ولا يصدق مضيّ الأربع إلاّ برفع الرأس عن الركعة

ص: 222


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 350 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1019 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 196 ، ح 772 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 73. « الاستبصار » ج 1 ، ص 380 ، ح 1441 ، باب التسبيح والتشهد في سجدتي السهو ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 327 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 14 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 326 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 14 ، ح 3.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 354 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 326 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 14 ، ح 2.

الرابعة ، وهذا واضح جدّا.

نعم ظاهر صحيحة زرارة أو حسنته ، وكذلك ظاهر صحيح الحلبي عدم اختصاص هذا الحكم بهذا الشكّ ، بل يأتي في كلّ مورد احتمل الزيادة على الأربع أو النقيصة عنه ، فلا بدّ من تقييدها بالأدلّة الخاصّة الواردة في مورد كلّ شكّ بالنسبة إلى النقيصة ، وبأدلّة البطلان بالنسبة إلى الزيادة على الخمسة.

وأمّا الأربعة الهدميّة من الشكوك الصحيحة الباقية فلم يرد فيها شي ء من الروايات ، وإنّما يستدلّ على صحّتها بالقواعد العامّة.

نعم زاد شيخنا الأستاذ قدس سرّه صورة أخرى على الشكوك المنصوصة فيصير مجموع الشكوك المنصوصة عنده ستّة ، وهي عبارة عن الشكّ بين الأربع والخمس والستّ بعد إكمال السجدتين (1).

واستدلّ على صحّته بمفهوم خبر زيد الشحّام وفيه : سألته عن رجل صلّى العصر ستّ ركعات أو خمس ركعات قال علیه السلام : « إن استيقن أنّه صلّى خمسا أو ستّا فليعد » (2).

ومفهومه أنّه إذا لم يستيقن أنّه صلّى خمسا أو ستّا فلا تجب الإعادة.

وأمّا أنّ مورده الشكّ بعد إكمال السجدتين ، فلما تقدّم من التعبير بلفظ الماضي.

وفيه : أنّ الأخذ بظاهر هذه الرواية مستلزم للقول بصحّة الصلاة التي يشكّ فيها بين الأربع والستّ بدون أن يأتي بسجدتي السهو بعد التسليم ، وهو بعيد.

وأمّا الشكوك الهدميّة الأربعة التي قالوا فيها بهدم القيام كي يرجع إلى الشكوك المنصوصة فيعمل بها عملها وهي الشكّ بين الأربع والخمس حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والخمس حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والأربع والخمس حال القيام ، و

ص: 223


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 115.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 352 ، ح 1461 ، باب أحكام السهو ، ح 49 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 311 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ج 17.

الشكّ بين الخمس والستّ حال القيام.

فهذه الأربعة وإن كانت ترجع إلى الشكوك المنصوصة بعد هدم القيام فيها ، إلاّ أنّ الشأن في هدم القيام وأنّه ما الوجه فيها؟

والظاهر أنّ الهدم فيها بملاحظة كون الركعة التي فيها محكومة بالزيادة ، فقبل أن يدخل في الركن - كي لا تتحقّق زيادة الركن وهو الركوع ، والقيام المتّصل بالركوع الذي لا يحصل إلاّ بالدخول في الركوع - لو التفت الى هذه الزيادة يجب عليه أن يهدم هذا القيام ويتمّ الصلاة على عدد الصحيح الذي هو الأربع.

والدليل على ذلك : أنّه لو علم تفصيلا بأنّ الركعة التي هو فيها هي الخامسة ، فلو كان علمه هذا بعد الدخول في الركوع تكون صلاته هذه باطلة لزيادة ركنين : أحدهما الركوع ، والثاني : قيام المتّصل بالركوع.

وأمّا لو كان حصول علمه قبل الدخول في الركوع يجب هدم قيامه وإتمام صلاته ، لزيادة هذا القيام وهو زيادة غير ركنيّة عن نسيان ، فلا تكون مضرّة.

فإذا كان الأمر في مورد العلم الوجداني كذلك يقينا فكذلك الأمر فيما إذا حكم الشارع بالزيادة ، لوحدة الملاك فيهما ، وهي زيادة الركعة التي بيده.

وأمّا كونها محكومة بالزيادة شرعا فمن جهة أنّ الشكّ في أنّ ما بيده هي الخامسة مستلزم للشكّ في أنّ الركعة السابقة على هذه التي بيده هل هي الثالثة أو الرابعة؟

فهاهنا في الحقيقة شكّان بالفعل : أحدهما : بالنسبة إلى ما بيده ، وهي بين الرابعة والخامسة. والثاني : بالنسبة إلى السابقة هذه الركعة ، وهي بين الثلاث والأربع.

والشكّ الأوّل وإن لم يكن فيه حكم إذا كان في حال القيام ، إذ ليس فيه نصّ ، ولكن الشكّ الثاني ، أي الشكّ بين الثلاث والأربع من الشكوك المنصوصة ، ومشمول للنصوص العامة. مضافا إلى أنّ فيه نصّ خاصّ ، ومفاد تلك النصوص العامّة هو البناء على الأكثر ، فإذا بنى على الأكثر فقهرا ما بيده يكون خارجا عن الأربعة ، و

ص: 224

يكون زائدا ، فيجب هدمه ، كما إذا علم وجدانا بأنّها زائدة.

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا بالنسبة إلى ثلاث صور من الشكوك الهدميّة فالأمر في كمال الوضوح ، وهي الشكّ بين الأربع والخمس في حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والخمس في حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والأربع والخمس في حال القيام.

وأمّا الصورة الرابعة ، أي الشكّ بين الخمس والستّ في حال القيام فيعلم تفصيلا بزيادة هذا القيام سواء أكان خمسا أو ستّا ، فيجب هدم القيام والجلوس ، فيرجع شكّه إلى أنّ ما صلّى هل هو أربع أو خمس؟ وهذا هو الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، وهو من الشكوك المنصوصة ، وحكمه البناء على الأربع وأن يسجد سجدتي السهو.

وبعبارة أخرى : هاهنا شكوك فعليّة موجودة قبل الهدم ، لا أنّها تحصل بالهدم حتّى تقول ما هو مجوّز الهدم؟ كي يرجع الشكّ إلى الشكوك المنصوصة ، فليس تلك الشكوك مسبّبة عن الهدم ومعلولة له ، بل الأمر بالعكس ، أي يكون الهدم معلوم لتلك الشكوك ، لأنّه بواسطة حكم تلك الشكوك يحكم بزيادة ذلك القيام وخروجه عن الصلاة ، وواقعا في وسط الصلاة فيجب هدمه.

فهذه الشكوك الأربعة في الحقيقة ترجع إلى الشكوك المنصوصة.

ثمَّ لا يخفى أنما ذكرنا من رجوع هذه الشكوك الأربعة الهدمية إلى الشكوك المنصوصة ليس معناه انقلاب الشكّ غير المنصوص إلى المنصوص كما يوهمه ظاهر عبارة الرجوع ، بل المراد ما ذكرنا سابقا من أنّ الشكّ المنصوص موجود قبل الهدم وهو بحكمه موجب للهدم.

إن قلت : إن ما ذكرت من أنّ البناء على الأكثر في هذه الشكوك الهدميّة الأربعة بالنسبة إلى الشكّ السابق على هذا الشكّ الأخير موجب للحكم بزيادة هذه الركعة

ص: 225

الأخيرة التي بيده وبنيت جواز الهدم على هذا ، هو من الأصل المثبت الذي ليس بحجّة ، لأنّ موضوع البناء على الأكثر هو الشكّ في عدد الركعات ، فالخطاب متوجّه إلى الشاكّ ، وهذا أي أخذ الشكّ في الموضوع وكون الخطاب إلى الشاكّ هو المراد بالأصل العملي.

قلنا أوّلا : إنّه ربما يقال بأنّه ليس بأصل عملي كي يكون هذا الحكم ظاهريّا ، بل هو حكم واقعي جعل للشاكّ في عدد الركعات ، ولذلك لو بنى على الأكثر وأتى بصلاة الاحتياط ثمَّ تبيّن الخطأ وأنّ ما أتى به كان هو الأقلّ لا تجب الإعادة.

وإن كانت هذه المقالة لا تخلو من نظر وإشكال وسيأتي ما هو التحقيق في الأمر الثالث.

وثانيا : ليس الحكم بزيادة الركعة المشكوكة من اللوازم العقلية للبناء على الأكثر بل معنى البناء على الأربع الذي هو الأكثر في المسائل المذكورة أنّ ركعات الصلاة تمّت وليس ما وراء هذه الركعة المبنيّة على كونها رابعة ركعة صلاتيّة ، وهذا عبارة أخرى عن زيادتها ، لا أنه زيادتها من لوازم البناء على الأكثر.

وينبغي التنبيه على أمور

[ الأمر ] الأوّل : في أنّه إذا كان الشكّ بين التمام والزيادة من الستّ فما فوق كالشكّ بين الأربع والستّ أو السبع بعد الإكمال ، فهل يمكن تصحيحه باستصحاب عدم الزيادة ويجري الاستصحاب ، أم لا لخلل فيه؟

فنقول : قد يقال في تقريب عدم جريان الاستصحاب : أنّ الشارع ألغى جريان الاستصحاب في باب عدد الركعات.

أمّا في الأوليين فلجهة حكمه بلزوم كون الأوليين محفوظا وسالما بقوله : « إذا

ص: 226

سلمت الركعتان الأوليان سلمت الصلاة » (1) وبالاستصحاب لا يمكن إثبات عنوان الحفظ والسلامة إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، لأنّ السلامة والحفظ من اللوازم العقليّة لعدم الركعة المشكوكة.

وأمّا في الأخيرتين فلعدم اعتناء الشارع بالاستصحاب ، وحكمه بالبناء على الأكثر على خلاف الاستصحاب.

وأمّا في الزائد على الأخيرتين فلأنّ الشارع لمّا جعل البناء على الأكثر في الأخيرتين علمنا أنّ احتمال الزيادة في الصلاة مضرّ بالصحّة ، ولذلك ألغى الاستصحاب ، لأنّ في الاستصحاب لا محالة احتمال الزيادة موجود في أيّ صورة من الصور ، ولذا حكم بالبناء على الأكثر وسدّ احتمال الزيادة بهذا البناء ، وسدّ احتمال النقيصة بصلاة الاحتياط.

وحاصل الكلام : أنّ احتمال الزيادة والنقيصة كلاهما موجب للإعادة ، للشكّ في الامتثال وتحصيل الملاك ، فمن جهة سدّ احتمال الزيادة سدّ باب الاستصحاب ، وسدّ احتمال النقيصة بجعل صلاة الاحتياط ، فمناط سدّ باب الاستصحاب في الأخيرتين هو بعينه موجود في جميع صور الشكّ فيما إذا كان أحد طرفي الشكّ هو احتمال الزيادة على الأربعة.

غاية الأمر في خصوص الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين جاء الدليل على الصحّة ، وعدم مضرّية احتمال الزيادة في هذا المورد بالخصوص ، وتداركه بسجدتي السهو وأمّا فيما عداه فالإشكال بحاله ، فلا بدّ من الإعادة إلاّ في بعض الصور الذي يمكن استظهار صحّته من مفهوم رواية زيد الشحّام ، وقد تقدّم تفصيله (2).

وفيه : أنّ كون مناط إلغاء الشارع للاستصحاب في الركعتين هو خصوص احتمال

ص: 227


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 346 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1010 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 299 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 3.
2- تقدّم في ص 223 ، رقم (2).

الزيادة غير معلوم ، وتنقيح المناط ظنّا قياس ، باطل عندنا.

والشاهد على عدم كون المناط هو احتمال الزيادة هو أنّه حكم في بعض الموارد بالبناء على الأربع مع احتمال الزيادة ، كما في الشكّ بين الأربع والخمس مع احتمال كون الركعات زائدة على الأربع ، وكذلك في الشكّ بين الأربع والخمس والستّ بناء على الأخذ بمفهوم خبر زيد الشحّام ، وأيضا فيما إذا شكّ في إتيان الركوع مع عدم تجاوز محلّه حكم بالبناء على العدم ، مع أنّه لو أتى به بعد هذا العدم يحتمل زيادة الركوع.

ولا فرق بين زيادة الركوع وبين زيادة الركعة لو كان احتمال زيادتها مضرا ، إذ لو كانت زيادة الركعة مضرّة يكون باعتبار زيادة الركن ، أي الركوع فيها ، وإلاّ فزيادة أجزائها غير الركنية عن غير عمد فليس بمضرّ قطعا.

وقد يقال بعدم جريان الاستصحاب لأنّه لا أثر له ، إلاّ بناء على اعتبار الأصل المثبت وهو مما نقّحنا بطلانه في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

بيان ذلك : أنّه إمّا أن يستصحب رابعيّة هذه الركعة التي بيده - التي هي مورد الشكّ بين كونها رابعة أو زائد ، فهذه ليست لها حالة سابقة متيقّنة لأنّها من أوّل وجودها مشكوك الرباعيّة - وإمّا أن يستصحب عدم وجود الزائد على الأربعة.

فهذا الاستصحاب وإن كان له مجرى من حيث تماميّة أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، ولكن إن كان المراد منه صرف عدم تحقّق الزائد على الأربع فلا أثر له ، لأنّه ليس لعدمه أثر شرعي. وإن كان المراد منه إثبات أنّ ما بيده رابعة فيتشهّد ويسلّم فهذا مثبت ، لأنّ كون ما بيده رابعة من اللوازم العقليّة لعدم تحقّق الزائد على الأربع.

والحاصل : أنّه وإن يعلم بالوجدان أنّ الأربع لا بشرط عن وجود ركعة بعده وعدم وجودها موجود ، ولكن الأثر للأربع بشرط لا ، وانطباقه على هذه الركعة التي

ص: 228


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 477.

بيده مشكوك ، وباستصحاب عدم الزائد على الأربع وإن كان يثبت أنّه أي : الرابع بشرط لا هو هذه الأخير لكنه مثبت ، لأنّ كون الأخيرة كذلك من اللوازم العقلية لعدم الزائد على الأربع ، لا من الآثار الشرعيّة له ، كما هو واضح.

فظهر ممّا ذكرنا بطلان الصلاة في جميع صور احتمال الزيادة على الأربع ولزوم إعادتها ، إلاّ في ما إذا جاء دليل بالخصوص على الصحّة ، كما أنّه جاء في الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين. وادّعى في الشكّ بين الأربع والخمس والستّ بعد إكمال السجدتين بمفهوم رواية زيد الشحّام.

وأمّا بعض صور الشكّ في الزيادة واحتمال السادس إذا كان الشكّ في حال القيام إن قلنا بصحّتها فذلك من جهة هدم القيام ، ورجوع الشك إلى الشكوك المنصوصة ، كما مرّ تفصيلا ، وليس من جهة استصحاب عدم الزائد.

وقد أجاب عن هذا الإشكال شيخنا الأستاذ قدس سرّه بأنّ أجزاء الصلاة المترتّبة في الوجود يجب أن يوجد الجزء التالي بعد تحقّق الجزء السابق عليه وعدم وجود الجزء اللاحق ، فالركعة الرابعة يجب أن توجد بعد تحقّق الثالثة وعدم وجود الخامسة ، ولا يلزم أن تتّصف الركعة بالثالثة.

ففي المقام يجب التشهد والتسليم بعد إحراز وجود الرابعة وعدم وجود الخامسة ، ولا يلزم أن يتّصف الركعة التي بعد رفع الرأس عن سجدتها الثانية ، يتشهّد ويسلّم بكونها رابعة ، بل يكفي في صحّة إتيان التشهّد والتسليم إحراز وجود الرابعة وإحراز عدم الخامسة ، وفي المفروض إحراز وجود الرابعة بالوجدان ، وإحراز عدم الخامسة بالأصل (1) هذا ما ذكره قدس سرّه.

ولكن ظاهر أدلّة التشهّد والتسليم في الرباعيّة هو أن يتشهّد في الرابعة ، وهذا يقتضي أن يكون التشهد الثاني في الركعة التي أحرز أنّها رابعة ، والتشهّد الأوّل في

ص: 229


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 106.

الركعة التي أحرز أنّها الثانية ، ففي رواية أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « إذا جلست في الركعة الثانية فقل بسم اللّه » إلى آخر ما قال علیه السلام ، إلى أن قال علیه السلام : « فإذا جلست في الرابعة قلت بسم اللّه وباللّه » إلى آخر ما قال علیه السلام (1) فما ذكره قدس سرّه لا يخلو من غرابة وأغرب منه قوله بأنّ استصحاب عدم الزيادة وإن كان تامّا من ناحية تماميّة أركانه وتأثيره في صحّة الصلاة التي يشكّ في زيادتها إلاّ أنّه لا يجري لانصراف أدلّة الاستصحاب عن أمثال هذه الموارد.

الأمر الثاني : في أنّه يجب التروّي والفحص عند الشكّ في عدد الركعات أم لا ، بل يبني على الأكثر بمحض حدوث الشكّ؟

فنقول : التروّي والفحص عمّا في خزانة النفس قد يكون من جهة استعلام حال الشكّ وأنّه يدوم أو يزول - وبعبارة أخرى : شكّ مستقرّ وثابت ، أم ليس له قرار وثبات ، بل يزول - وقد يكون الاستعلام حال الترديد الذي في خزانة النفس وأنّه هل لأحد طرفي المحتمل ترجيح كي يكون ظنّا ، أم لا حتّى يكون شكا مقابل الظنّ والوهم.

فإن كان بمعنى الأوّل : فالظاهر عدم لزومه في الموارد التي حكم الشارع بالبناء على الأكثر ، وذلك من جهة أنّ موضوع هذا الحكم هو الشكّ في الركعتين الأخيرتين من الرباعيّة ، فمتى تحقّق موضوعه يتحقّق ذلك الحكم ، نعم لا بدّ من الصدق العرفي. ولا يبعد أن يكون التروّي واجبا إذا كان بأدنى التفات والرجوع إلى خزانة النفس يتبيّن الحال ، ولعلّه لعدم صدق الشكّ حينئذ عرفا.

وأمّا التروّي بالمعنى الثاني : فالظاهر لزومه بناء على أنّ الظنّ حجّة وأمارة في

ص: 230


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 99 ، ح 373 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ... ، ح 141. « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 989 ، أبواب التشهّد ، باب 3 ، ح 2.

معرفة عدد الركعات ، وذلك من جهة أنّ الظنّ والشكّ بناء على هذا مختلفان موضوعا وحكما ، أمّا موضوعا فواضح ، وأمّا حكما فلأنّ حكم الشكّ هو البناء على الأكثر ، وحكم الظنّ هو الجري على طبق المظنون وعدم الاعتناء بالاحتمال المرجوح ، ولا فرق في لزوم الجري على طبق المظنون أن يكون هو الأقلّ أو يكون هو الأكثر.

فلا بدّ أن يفحص عمّا في خزانة نفسه ويفتّش حتّى يتبيّن الحال وأنّ وظيفته هل هو البناء على الأكثر أو الجري على طبق الظنون؟ سواء أكان هو الأقلّ أو الأكثر ، لأنّه لا معنى لترتّب الحكم بدون معرفة الموضوع. هذا في الركعتين الأخيرتين ، وأمّا في الركعتين الأوليين حيث أنّ الشكّ فيهما مبطل.

ومن المعلوم أنّ مبطليّته ليس بمحض حدوثه ، بل يكون مراعى ببقائه فإن زال وانقلب إلى العلم أو إلى الظنّ - بناء على حجيّة الظنّ في عدد الركعات حتّى في الأوليين - فليست الصلاة باطلة ، فالشكّ في زواله يكون شكّا في القدرة على الإتمام ، كما أنّه لو علم بزواله يعلم بأنّه قادر على الإتمام فيمضي في صلاته وكما أنّه لو كان عالما بعدم الزوال فتكون باطلة ولا يجب الفحص ، بل لا معنى للفحص مع العلم في الصورتين ، أي في كلتا صورتي العلم بالزوال والعلم بعدم الزوال.

وأمّا في صورة عدم العلم بكلا الأمرين واحتماله للزوال وعدمه ، فهو شاكّ في أنّه قادر على الإتمام أم لا. وفي باب الشكّ في القدرة لا بدّ وأن يشتغل بالمأمور به ويفخص حتّى يتبيّن الحال. وهذا حكم العقل في باب الشكّ في القدرة.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه فرق في لزوم التروّي وعدمه بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين ، وأنّ للتروّي معنيين ، وأنّه لازم بمقدار الصدق العرفي وهو أن لا يكون سريع الزوال بل يحتاج في الصدق العرفي إلى استقراره ، وأنّ التروّي بمعنى الفحص عن أنّ ما في خزانة نفسه هل هو ظنّ أو شكّ هو لازم إلى أن يحصل له أحد الأمرين ، أي كونه ظنّا أو شكّا ليرتّب عليه حكمه من البناء على الأكثر أو الجري على طبق

ص: 231

المظنون ، كان المظنون هو الأقلّ أو كان هو الأكثر.

الأمر الثالث : في أنّ البناء على الأكثر حكم ظاهري موضوعه الشكّ في عدد الركعات في الفريضة الرباعيّة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، وقد حقّقنا في مبحث الإجزاء أنّ الحكم الظاهري امتثاله وإتيان متعلّقه لا يكون مجزيا عن الواقع لو انكشف الخلاف ، وأنّ القول بالإجزاء ملازم مع القول بالتصويب ، ففي المقام بعد البناء على الأكثر لو تبيّن الخلاف وعلم أنّ ما صلّى كان هو الأقلّ فمقتضى القاعدة هو وجوب الإعادة وعدم الاعتناء بما صلّى مع البناء على الأكثر.

ولكن فتوى المشهور هو أنّه بعد البناء على الأكثر وإتمام الصلاة والإتيان بصلاة الاحتياط لا تجب الإعادة ، مع أنّ جلّهم قائلون بعدم إجزاء الأمر الظاهري.

والسّر في ذلك : هو أنّ الشارع لم يكتف بصرف البناء على الأكثر ، بل أمر بعد الإتمام بصلاة الاحتياط لتكون تداركا لما فات على تقدير كون ما صلّى هو الأقل وبعبارة أخرى : هاهنا حكمان : أحدهما البناء على الأكثر ، والثاني : وجوب الإتيان بصلاة الاحتياط ، وليس الثاني من مقتضيات الأوّل ، بل مقتضى الأوّل هو إتمام الصلاة مع البناء على الأكثر وعدم وجوب شي ء آخر عليه.

فالحكم الثاني هو حكم مستقلّ لتتميم ما ظنّه من النقص ، فعدم وجوب الإعادة مستند إلى امتثال هذا الحكم ، أي الإتيان بصلاة الاحتياط لا إلي البناء على الأكثر ولذلك لو علم قبل الإتيان بصلاة الاحتياط أنّ الواقع هو الأكثر فلا تجب صلاة الاحتياط قطعا ، كما أنّه لو علم قبل السلام بأنّ ما صلّى هو الأقلّ يجب عليه أن يأتي بالمقدار الذي يحتمل نقصه متّصلة.

وأمّا لو علم بالنقص وأن ما صلّى هو الأقلّ بعد السلام وقبل الإتيان بصلاة الاحتياط هل تجب عليه الإعادة ، أو له أن يكتفي بصلاة الاحتياط ، أو يأتي بالنقيصة متّصلة؟ لأنّ السلام وقع في غير محلّه فليس بمخرج فيسجد سجدتي السهو للسلام

ص: 232

الواقع في غير محله بعد إتمام الصلاة. هذا فيما إذا لم يصدر منه بعد ذلك السلام الواقع في غير محلّه ، ما هو المنافي عمدا وسهوا وإلاّ يتعيّن عليه الإعادة.

والظاهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأخير ، أي لزوم الإتيان بالنقيصة متّصلة وسجدتي السهو للسلام الواقع في غير محلّه فيما إذا لم يصدر منه ما هو المنافي عمدا أو سهوا ، وذلك من جهة أنّ حكم البناء على الأكثر موضوعه الشكّ ، فإذا زال الشكّ يزول حكمه ويجب عليه العمل على طبق علمه ، وهو كما ذكرنا عبارة عن إتيان مقدار النقيصة متّصلة وسجدتي السهو للسلام الواقع في غير محلّه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الاكتفاء بصلاة الاحتياط لو انكشف الخلاف بعد البناء على الأكثر وبعد صلاة الاحتياط ليس من جهة أنّ امتثال الأمر الظاهري مفيد للإجزاء ، بل يكون من جهة أنّ الشارع جعل صلاة الاحتياط متمّما لما نقص على تقدير نقصانه ، وإلاّ فهي نافلة.

الأمر الرابع : لو شكّ المصلّي جالسا لعجزه عن القيام ، فلا ينبغي أن يشكّ في شمول عمومات البناء على الأكثر له ، وإنّما الكلام في أنّه من كان وظيفته التخيير بين ركعتين جالسا أو ركعة من قيام فهذا التخيير في حقّه لا مورد له لعجزه عن أحد طرفي التخيير ، أي عن إتيان ركعة قائما فهل يتعيّن عليه الطرف الآخر - أي الركعتين من جلوس ، كما هو قانون باب التخيير - أو ركعة جالسا؟ لأنّ القيام ساقط في حقّه.

والظاهر هو الثاني ، لأنّ المقام ليس من قبيل الواجبات التخييريّة بالأصل ، لوجود الملاك المطلوب في كلّ واحد من الطرفين واستوائهما في ذلك كي يقال إن تعذر أحد الطرفين فيتعيّن الطرف الآخر ، بل المقصود الأصلي تدارك الركعة الفائتة على تقدير فوتها وتدارك تلك الركعة بشكلين : أحدهما مثلها ركعة من قيام ، والثاني : ركعتين من جلوس ، وكان الشارع الأقدس جعل زيادة كمّيّة الركعة في مقام التدارك بدلا عن نقصان كيفيّتها. وإن شئت قلت : بدلا عن تبدّل وضعها - كما أنّ جعله في صلاة

ص: 233

النافلة أيضا كذلك ، أي جعل ركعتين جالسا بدل ركعة قائما.

ومعلوم أنّ هذا إنّما يجري فيما إذا كان المبدل منه ركعة قائما ، وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، لأنّ الفائتة وما هو المبدل منه ليس إلاّ ركعة جالسا ، فبدلها أيضا يكون مثلها ركعة واحدة جالسا ، ولا وجه للتعدّد.

نعم لو قدر على القيام قبل الإتيان بصلاة الاحتياط وبعد السلام فعليه أن يأتي بها قائما متّصلة ، كما تقدّم شرحه مفصّلا.

الأمر الخامس : في أنّه هل يجوز في الشكوك الصحيحة أن يرفع اليد عن صلاته ويستأنف من جديد ، أم لا بل يجب البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط؟

ربما يقال بعدم جواز القطع والاستئناف ، لحرمة القطع.

وبناء على هذا هل يمكن الفرق في حرمة القطع بين القطع حال حال عروض الشكّ وفي الأثناء ، وبين القطع بعد التسليم أم لا؟

أقول : أمّا القطع والاستئناف قبل التسليم فالظاهر عدم جوازه ، لادّعاء الإجماع على الحرمة ، وأمّا بعد التسليم وقبل صلاة الاحتياط فإن قلنا إنّ التسليم الواقع في غير محلّه ليس بمخرج ولو كان في محلّه البنائي فيكون مثل القطع في الأثناء ، لأنّه على تقدير النقصان وكون صلاة الاحتياط جزء للصلاة الأصلي يكون بعد في الصلاة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ كونه قطعا مشكوك فتجري البراءة. والحاصل أنّ الحكم بحرمة القطع بعد التسليم مشكل جدّا.

وأمّا صحّة الصلاة الأولى والثانية أو بطلانهما لو استأنف في الأثناء ، فالظاهر بطلان الصلاة الأولى ، لأنّه بعد استئنافها ، إمّا أن يأتي بصلاة الاحتياط أم لا. فإن لم يأت فتكون الصلاة مشكوك التمام ومعلوم البطلان ، وأمّا إن أتى بصلاة الاحتياط بعد الصلاة المستأنفة ، فلفوات الموالاة التي شرط في صحّة الصلاة.

ص: 234

وأمّا الصلاة المستأنفة ، فقيل في وجه بطلانها وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّها علّة لإبطال الأولى وهو حرام ، وعلّة الحرام حرام فتكون باطلة لتعلّق النهي بنفس العبادة ، وقد تقرّر في محلّه بطلان مثل هذه العبادة المنهي عن نفسها.

وفيه : أنّ هذا مبني على مقدّمتين ، وهما :

أوّلا : أن يكون الإبطال حراما ولو كان بعد التسليم ، باعتبار كون صلاة الاحتياط جزء من الصلاة.

وفيه نظر واضح ، فلو استأنف بعد التسليم وقبل صلاة الاحتياط لا يأتي هذا الوجه.

وثانيا : أن يكون الاستئناف علّة تامّة أو كان هو جزء الأخير من العلّة التامّة للحرام الذي هو الإبطال.

وفيه أيضا نظر ، لأنّ الإبطال قد يكون لعدم المقتضي للإتمام ، أي إرادة الإتمام ، فالإبطال مستند إلى عدم إرادة الإتمام ، لا إلى وجود ضدّه ، أي الصلاة المستأنفة.

الوجه الثاني : سقوط الأمر عن الأجزاء التي أتى بها ، وإلاّ يكون من قبيل طلب الحاصل ، فتكون الصلاة المستأنفة بالنسبة إلى تلك الأجزاء بدون الأمر ، فلا تقع عبادة.

وفيه : أنّ الأمر بالطبيعة باق ما لم يأت بالمجموع ، مضافا إلى ما قلنا من جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر.

الوجه الثالث : ظهور أدلّة الشكوك الصحيحة في أنّ وظيفة الشاكّ هو العمل بالوظيفة المعيّنة من البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط بعد التسليم ، وليس له العمل بغير هذه الوظيفة.

ص: 235

وفيه : أنّ مرجع هذا الوجه إلى أنّ التكليف الواقعي انقلب في حقّ الشاكّ من الأربعة الموصولة إلى الأربعة الملفّقة من الثلاثة أو الاثنتين الموصولة وصلاة الاحتياط ، وهذا لا يخلو من غرابة ، إذ الوظيفة المجعولة للشاكّ علاج للعلم بإتيان الأربعة الواقعيّة بلا زيادة ولا نقصان ، من جهة التسهيل على المكلّف الشاكّ لئلا يقع في كلفة الإعادة ، لا أنّ التكليف الواقعي انقلب إلى هذه الوظيفة ، كما توهّم.

والحاصل : أنّ الصلاة المستأنفة خصوصا بعد السلام وقبل صلاة الاحتياط لا وجه لبطلانها ، وبناء على هذا لا يبقى وجه لإتيان صلاة الاحتياط بعدها.

هذا كلّه فيما لو استأنف قبل إتيان المنافي ، أمّا لو استأنف بعد إتيان ما هو المنافي - سواء أكان في الأثناء أو بعد التسليم ولكن قبل صلاة الاحتياط - فلا وجه لبطلان المستأنفة ، بل يجب الاستئناف إن كان وجود المنافي في الأثناء ، بل وكذلك إن قلنا بلزوم عدم وجود المنافي بين الصلاة المبنيّة وصلاة الاحتياط ، والوجه واضح.

الأمر السادس : في أنّه لو غفل عن شكّه واستمرّ في الصلاة وأتمها فتبيّن مطابقة ما أتى به للواقع ، فهذا إمّا في موارد الشكوك الصحيحة أو في موارد الشكوك الباطلة.

فإن كان من قبيل الأوّل - فبناء على ما قلنا في الأمر السابق من عدم انقلاب التكليف الواقعي إلى ما هو وظيفة الشاك ، فغاية الأمر أنّ هذه الوظيفة التي عيّنت للشاكّ علاج في مقام امتثال ذلك التكليف الواقعي بأنّه أتى به ، وفي المفروض قاطع بأنّه أتى به بدون أن يعمل بوظيفة الشاكّ بدون أيّ خلل في المأتي به ، وبعبارة أخرى أوجد المأمور به تامّ الأجزاء والشرائط وفاقدا لجميع الموانع متقرّبا - فيسقط الأمر ويحصل الامتثال القطعي.

وأمّا إن كان من الشكوك الباطلة فمرجع الأمر إلى أنّه هل حدوث الشكّ فيها مثل حدوث الحدث أو سائر القواطع المبطل؟ أو معنى البطلان فيها أنّه لا تشملها أدلّة العلاج من البناء على الأكثر وسجدتي السهو وصلاة الاحتياط؟

ص: 236

فإن كان الأوّل فواضح أنّه لا يمكن القول بصحّتها ولو انكشف بعد الإتمام أنّ ما أتى به تامّ المطابقة مع الواقع.

ولكن هذا المعنى واضح الفساد ، نعم الذي يمكن أن يقال : إنّه إذا اعتبر في صحّتها الحفظ واليقين من أوّلها إلى آخرها ، فإذا حصل الشكّ يفقد الشرط فتكون باطلة بمحض حدوث الشكّ وتجب الإعادة ، وأمّا إنّ كانت جهة البطلان عدم شمول أدلّة العلاج لها فتكون صحيحة في المفروض لأنّها صحيحة وتامّ الأجزاء والشرائط.

وهذه الاحتمالات في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات : فالظاهر أنّ الشكوك الباطلة على قسمين :

فالثنائية والثلاثية والأوليين من الثلاثيّة والرباعية اعتبر فيها الحفظ واليقين في جميع الحالات ، ولذلك بمحض حدوث الشكّ ووجوده عرفا - أي بعد استقراره - تكون باطلة وحكم بالإعادة ، كما في صحيحة ابن أبي يعفور : « إذا شككت فلم تدر أفي ثلاث أنت أم في اثنتين ، أم في واحدة ، أم في أربع ، فأعد ولا تمض على الشكّ » (1).

وأمّا القسم الآخر : فالظاهر أنّ بطلانها من جهة عدم شمول أخبار العلاج لها ، كالشكّ بين الأربع وما فوق الستّ ، حيث أنّ بطلانها من جهة عدم العلاج.

ففي مثل هذا القسم لا وجه للبطلان بعد تبيّن أنّها مطابق للواقع ، ولا يحتاج إلى العلاج حتّى تقول لا تشملها أخبار العلاج.

فالحقّ هو التفصيل بين هذين القسمين من الشكوك الباطلة.

الأمر السابع : المسافر في أحد أماكن التخيير لو نوى قصرا فشكّ بين الاثنتين والثلاث مثلا أو أحد الشكوك الصحيحة الآخر لو كانت الصلاة رباعيّة ، فحيث أنّ

ص: 237


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 743 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 44 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1418 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة أو ... ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 328 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 15 ، ح 2.

الشكّ في الصلاة الثنائيّة مبطل فهل له أن يعدل بعد حدوث الشكّ إلى الإتمام فيبني على الأكثر ويتمّم صلاته ويأتي بعد أن أتمّ بصلاة الاحتياط فيكون قد عالج بذلك شكّه وصحّح صلاته ، أم لا وليس له ذلك؟

وعلى تقدير أن يكون له ذلك ، فهل يجب عليه العدول ، أم لا بل يجوز فقط وهو مخيّر بين العدول ورفع اليد عن صلاته لبطلانه على تقدير عدم العدول؟

فنقول : بعد الفراغ عن اشتراط العدول بأن يكون المعدول عنه صلاة صحيحة ، بحيث لو لا العدول وكان يتمّ تلك الصلاة التي يريد أن يعدل عنها لكانت تقع صحيحة.

فالمسألة بناء على هذا مبنيّة على أنّ الشكّ في الصلوات التي يكون الشك مبطلا لها موجب للبطلان بمحض حدوثه ، ويكون من قبيل القواطع ، أم لا بد معنى مبطليّة الشكّ عدم شمول أدلة العلاج لها؟

فإن كان من قبيل الأوّل فلا يبقى محلّ للعدول ، لأنّ ما مضى من صلاته صار باطلا وليس قابلا لأن ينضمّ إليه ركعة أخرى حتّى يصير المجموع صلاة رباعيّة صحيحة.

ولا أثر لكون صلاة القصر والإتمام حقيقة واحدة أو حقيقتين مختلفتين ، لأنّ العدول ليس متوقّفا على أن يكون المعدول عنه والمعدول إليه حقيقة واحدة ، إذ يصحّ العدول من الظهر إلى العصر وكذلك العكس ، مع أنّهما ليستا حقيقة واحدة قطعا بل حقيقتين مختلفتين.

ولكنّ الظاهر جواز العدول ، لعدم كون الشكّ بمحض حدوثه مبطلا كالقواطع ، بل مبطليّته من جهة اشتراط صحّة الأوليين باليقين ، واستصحاب عدم الزيادة في ظرف الشكّ ممّا يقوم مقام اليقين الذي أخذ في موضوع الصحّة.

إن قلت : إنّكم في الأمر السابق بنيتم على بطلان الصلاة الثنائيّة والثلاثيّة والأوليين من الرباعيّة بمحض حدوث الشكّ.

ص: 238

قلنا : هناك بنينا على البطلان من جهة عدم جريان أصالة عدم الزيادة في الثنائيّة والثلاثيّة للأدلّة الخاصّة التي مفادها الإعادة ، وأمّا هاهنا فلا مانع من جريان استصحاب عدم الزيادة ، لأنّه لسنا نثبت باستصحاب عدم الزيادة صحّة الصلاة الثنائيّة ، بل نريد إثبات صحّته من جهة شرطيّته للعدول فقط ، لا صحّته من حيث ترتيب آثار الصحّة عليه مطلقا وسقوط أمره ، والممنوع بالأدلّة الخاصّة هو المعنى الثاني من الاستصحاب ، لا المعنى الأوّل. ومع ذلك كلّه صحّة العدول لا تخلو من نظر وتأمّل.

وأما الشق الثاني من المسألة : وهو أنّه على تقدير صحّة العدول والبناء على الأكثر ، هل يجب العدول أو يجوز فقط؟

ربما يقال بوجوبه من جهة حرمة الإبطال.

وفيه : أنّ حرمة الإبطال متوقّف على صحّة العمل في حدّ نفسه ، فيكون إبطاله حراما ، وهاهنا العمل في حدّ نفسه باطل ويريد أن يصحّح العمل بالعدول ، فعدم العدول وتركه ليس إبطالا ، بل هو عدم التصحيح مع إمكانه ، ولا دليل على وجوب التصحيح وعلاج الشكّ مع إمكانه ، وأدلّة وجوب العلاج ، أي وجوب البناء على الأكثر مع تعقيبه بصلاة الاحتياط موضوعه الشكوك الصحيحة ، وهاهنا كون الشكّ من الشكوك الصحيحة متوقّف على العدول ، فكيف يمكن أن يكون وجوب العدول مستندا إلى تلك الأدلة؟ وهل هذا إلاّ تقدّم الشي ء على نفسه.

فالإنصاف ، أنّ وجوب العدول لا دليل عليه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : قوله علیه السلام « لا يعيد الصلاة فقيه » (1) نهى عن الإعادة مع إمكان العلاج ، وهاهنا حيث يمكن العلاج بالعدول فيجب.

ص: 239


1- تقدّم تخريجه في ص 201 ، رقم (2). وليس هذا نصّ كلام الإمام علیه السلام ، بل يكون من كلام الراوي والسائل وليكن الإمام يقرّر هذا الكلام ويبيّنه.

الأمر الثامن : فيما إذا انقلب شكّه بعد الفراغ إلى شكّ آخر ، مثلا كان في الصلاة شاكّا بين الاثنتين والثلاث ، وبعد البناء على الثلاث وإتمام الصلاة بإتيان ركعة أخرى والفراغ عنها ، تبدّل هذا الشكّ بشكّ آخر - وهو الشكّ بين الثلاث والأربع قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط - فليس عليه شي ء ، أي لا يجب عليه صلاة الاحتياط ، أعني ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس بدل الركعة الفائتة على تقدير فوتها.

وذلك من جهة أنّ الشكّ الأوّل زال ، لأنّه انقلب إلى شكّ آخر ، وصرف حدوثه لا يكفي في وجوب عمل الاحتياط. وأمّا الشكّ الثاني وإن كان باقيا ولكنّه لا أثر له ، لأنّه شكّ بعد الفراغ ، وهو لا اعتبار به ويكون من الشكوك التي ألغى الشارع اعتبارها. ولكن وهذا الذي ذكرنا من عدم الأثر بعد الانقلاب فيما إذا لم يكن عدم العمل بالاحتياط وعدم الاعتناء بالشكّ موجبا للعلم بالزيادة أو النقيصة.

وإلاّ فقاعدة الفراغ لا أثر لها مع العلم بالإخلال زيادة أو نقيصة ، لأنّها قاعدة مجعولة للشاكّ ، وأنّ شكّه في إتيان جزء أو ركعة لا اعتبار به.

وأمّا قاعدة « لا تعاد » فلا تشمل الأركان ، لأنّها داخلة في عقد المستثنى ، مثلا لو شكّ بين الاثنتين والأربع في حال الصلاة فبنى على الأربع وأتمّ الصلاة ، ثمَّ بعد الصلاة انقلب شكّه إلى الاثنتين والثلاث فيعلم بالنقيصة ، لأنّه يعلم بعدم الرابعة ، فإنّه في الشكّ الأوّل وإن كان يحتمل وجود الأربعة لأنّها أحد المحتملين ولكنّه زال ، وفي الشكّ الثاني يعلم بعدمها ، فهذا هو العلم بالنقيصة.

وأمّا العلم بالزيادة فكما لو شكّ بين الاثنتين والثلاث فبنى على الثلاث وأتى بركعة وأتمّ الصلاة وبعد الفراغ انقلب شكّه إلى الأربع والخمس بعد الإكمال ، فيعلم بزيادة ركعة. وفي هذه الصور التي يعلم بالزيادة أو النقيصة يجب أن يعمل على طبق الشكّ الأخير إن كان العلم بالنقيصة ، بمعنى أنّه يعلم بأنّ السلام وقع في الصلاة فليس بمخرج ، فيجب أن يقوم ويأتي بالنقيصة ويأتي بسجدتي السهو للسلام في غير محلّه ،

ص: 240

من جهة سهوه في الركعات.

وأمّا إذا كان العلم بالزيادة بواسطة. انقلاب الشكّ كما مثّلنا له فتجب إعادة الصلاة لعدم علاج آخر ، وأمّا الشكّ الأوّل فلا أثر له على كلّ حال لأنّه زال وانعدم ، وبقاء الموضوع شرط عقلي لترتّب حكمه.

وأما إذا علم إجمالا بعد الانقلاب بالزيادة أو النقيصة ، كما إذا شكّ بين الثلاث والأربع في حال الصلاة فبنى على الأربع وأتمّ الصلاة ، ثمَّ بعد الفراغ انقلب شكّه إلى الثلاث أو الخمس ، فلا يخلو الأمر حسب الشكّ الأخير أنّ ما صلّى إمّا الثلاث - فتكون ناقصة - وإمّا تكون الصلاة التي صلاها خمس فتكون زائدة فيها ركعة ، ولا طريق إلى العلم بالامتثال والفراغ اليقيني إلاّ بالإعادة فتجب.

الأمر التاسع : لو مات الشاكّ في الشكوك الصحيحة بعد أن بنى على الأكثر أو على ما هو وظيفته ، كما إذا كان شاكّا بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، فبنى على الأربع - كما تقدّم وجهه - قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط في الشقّ الأوّل ، وقبل أن يأتي بسجدتي السهو في الثاني ، فهل يجب أن يقضى عنه الصلاة ، أم لا بل يجب صلاة الاحتياط في الفرض الأوّل ، وسجدتي السهو في الفرض الثاني؟ أو يفصّل بين الفرضين بأن يقضي الصلاة في الفرض الأوّل ويقضى عنه سجدتا السهو فقط في الفرض الثاني؟ وكذلك الأمر لو كان المنسي بعض أجزاء الركعة التي لها قضاء كالتشهّد والسجدة الواحدة ، فإنّه يجب قضاؤها دون أصل الصلاة ، وجوه :

الأقوى : هو التفصيل بين الفرضين ، ففيما إذا كان الفراغ والتسليم من جهة البناء على الأكثر وكانت الوظيفة وجوب الإتيان بصلاة الاحتياط فاللازم أن يقضى عنه أصل الصلاة ، لأنّ ما أتى به - على تقدير كونه الأقل - بعض الصلاة ، ويكون كما لو مات في أثناء الصلاة ، وحيث أنّ الصلاة واجب ارتباطي فإذا لم يتعقّب البعض الأوّل ببعضها الباقي يبطل ذلك البعض الأوّل ، فيجب أن يقضى عنه مجموع الصلاة ، لأنّ ما

ص: 241

أتى به بمنزلة العدم.

هذا ، مضافا إلى تشريع القضاء في بعض الواجب الارتباطي غير معهود من الشرع ولم يرد دليل عليه.

هذا بالنسبة إلى الفرض الأوّل ، وأمّا في الفرض الثاني فقد أتى بتمام الصلاة وسقط الأمر ، ووجوب سجدتي السهو تكليف آخر وليس من أجزاء الصلاة ، فلا وجه لأن يقتضي عنه أصل الصلاة والقضاء تابع لفوت الفريضة ، والمفروض أنّ الفريضة لم تلفت عنه ، وإنّما الفائت هو سجدتا السهو ، وهو ليس من أجزاء الفريضة ، بل هو واجب مستقلّ فيجب قضائه ، لأنّه فريضة فاتت.

الأمر العاشر : في أنّ في قاعدة البناء على الأكثر حيث أنّ روايات الباب كانت مشتملة على حكمين :

أحدهما : هو البناء على الأكثر فيما كان موجبا لصحة الصلاة ، ولذلك سمّيت مثل هذه الشكوك بالشكوك الصحيحة.

والثاني : هو تتميم ما احتمل نقصانه بصلاة مستقلّة منفصلة ، تسمّى بصلاة الاحتياط.

ولمّا كانت صلاة الاحتياط من لواحق البناء على الأكثر فالمناسبة تقتضي أن نذكر هاهنا شطرا من أحكام صلاة الاحتياط وكيفيتها وشرائطها وغير ذلك من خصوصيّاتها حتّى تكون القاعدة تامّة الفائدة.

فنقول : وتوضيح هذه المسألة وبيان كيفيّتها وأحكامها وشرائطها وموانعها متوقّف على بيان أمور :

[ الأمر ] الأوّل : يشترط فيها جميع يشترط في الصلاة من الشرائط العامّة ، كطهارة البدن ، واللباس ، والستر ، والاستقبال ، وعدم غصبيّة المكان ، أي إباحته إلى غير ذلك من شرائطها.

ص: 242

والدليل على ذلك أنّها صلاة ، غاية الأمر مردّد أمرها بين أن تقع نافلة أو متمّما للصلاة الأصليّة ، فكلّ أمر دلّ الدليل على اعتبار وجوده أو عدمه في الصلاة من حيث صلاتيّتة فهو معتبر وجودا أو عدما في صلاة الاحتياط.

وحيث أنّ الدليل دلّ على اعتبار النيّة في الصلاة بما أنّها صلاة فتكون معتبرة في صلاة الاحتياط لعين تلك الجهة ، أي أنّها عبادة. ولا يمكن تحقّق العبادة بدون قصد القربة والنيّة ، وكذلك تكبيرة الإحرام ، فإنّ الدليل دلّ على أنّ الصلاة لها افتتاح واختتام ، افتتاحها بالتكبير واختتامها بالتسليم وهذه الأمور التي ذكرناها بإضافة الطهارة الحدثيّة من شرائط طبيعة الصلاة ، وكلّ ما صحّ على الطبيعة صحّ على جميع الأفراد والأصناف ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على عدم اعتباره في فرد خاصّ ، أو صنف مخصوص.

فمقتضى القاعدة الأوّليّة وجود هذه الأمور وغيرها ممّا اعتبر في طبيعة الصلاة في صلاة الاحتياط ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الموانع والقواطع ، ولا يحتاج إلى وجود دليل خاصّ على اعتبار الوجود أو العدم.

ولكن ربما يستشكل في لزوم تكبيرة الإحرام بل في جوازها ، وذلك من جهة أنّ صلاة الاحتياط ذات احتمالين وتقديرين.

فعلى تقدير عدم النقصان تقع نافلة ، وعلى هذا التقدير تكون تكبيرة الإحرام لازمة ، لأنّ الصلاة ولو كانت نافلة غير معهود وقوعها بدون تكبيرة الإحرام.

وأمّا على تقدير النقصان يكون جزء للصلاة الأصليّة ، فتكون تكبيرة الإحرام وجودها مضرّا للصلاة الأصليّة ، فيكون أمرها من قبيل دوران الأمر بين محذورين ، لأنّ عدم تكبيرة الإحرام مناف مع كونها نافلة مستقلّة على تقدير عدم النقصان ، ووجودها مناف مع جزئيّتها على تقدير النقصان ، لأنّها زيادة ركن في الصلاة.

ولكنّ الذي يدفع هذا الإشكال أنّ وجوب تكبيرة الإحرام في صلاة الاحتياط

ص: 243

إجماعي ، فيكون الإجماع دليلا على عدم مضرّية هذه الزيادة على تقدير الجزئيّة. أو يقال : بأنّه يستكشف من هذا الإجماع أنّه صلاة مستقلّة حتّى على تقدير النقصان ، غاية الأمر يحصل بها ذلك المقدار الذي فات من المصلحة بواسطة النقصان.

ويمكن أن يستشهد لوجوب تكبيرة الإحرام في صلاة الاحتياط برواية زيد الشّحام التي تقدّمت ، وفيها قال علیه السلام : « وإن كان لا يدري أزاد أم نقص فليكبّر وهو جالس ، ثمَّ ليركع ركعتين بفاتحة الكتاب في آخر صلاته ثمَّ يتشهّد » (1).

ثمَّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا من اعتبار جميع ما اعتبر في الصلاة فيها تعيّن قراءة فاتحة الكتاب فيها ، لأنّها صلاة ، ولا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب.

مضافا إلى ورود أخبار تدلّ عليها ، كرواية العلاء ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال علیه السلام : « يبني على اليقين ، فإذا فرغ تشهّد وقام قائما فصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » (2).

وكصحيحة الحلبي : « إن كنت لا تدري ثلاثا صلّيت أم أربعا ، ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ثمَّ صلى ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بأمّ الكتاب » (3).

وكصحيحة زرارة ، قال علیه السلام في ذيلها في بيان حكم من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين قال : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب » (4).

فهذه الأخبار وغيرها ممّا هو مثلها تدلّ على وجوب قراءة فاتحة الكتاب وتعيّنها في صلاة الاحتياط.

ثمَّ إنّه هل يجب الإخفات فيها أو يجوز الجهر بها؟

ص: 244


1- تقدّم تخريجه في ص 223 ، رقم (2).
2- تقدّم تخريجه في ص 201 ، رقم (1).
3- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (4).
4- تقدّم تخريجه في ص 210 ، رقم (1).

وقال جماعة كما حكى عن الشهيد قدس سرّه (1) وغيره بالأوّل.

ولعلّ مستندهم أنّها على تقدير النقصان تقوم مقام الركعتين الأخيرتين والحكم فيهما الإخفات في القراءة لو اختارها دون التسبيح ، فكذلك فيما يقوم مقامهما ، بل في الحقيقة صلاة الاحتياط هي الأخيرتين فيما كانت ركعتين ، أو إحديهما فيما كان النقصان بواحد.

ولكن ظاهر الأخبار أنّها صلاة مستقلّة منفردة يتدارك بها المقدار الفائت من مصلحة الصلاة الأصليّة على تقدير النقصان.

وبناء على هذا حيث أنّه لم يرد دليل على وجوب الإخفات أو الجهر فمقتضى القاعدة هو التخيير ، وإن كان الإخفات أحوط.

الأمر الثاني : في أنّه لا أذان ولا إقامة ولا سورة ولا قنوت فيها.

أمّا الأوّلان - أي عدم الأذان والإقامة فيها - فلأنّ أمرها دائر بين أن تكون نافلة فليس فيها الأذان والإقامة ، أو تكون جزءا للفريضة الأصلية ولم يشرعا في جزء الفريضة. نعم لو قلنا بأنّ صلاة الاحتياط صلاة واجبة مستقلّة وسبب وجوبها تدارك مصلحة الفائتة بها على تقدير النقصان ، فيمكن أن يقال بشمول إطلاقات أدلّتهما لهذا المورد أيضا.

وفيه : أنّه وإن ورد في موثّقة سماعة « لا صلاة إلاّ بأذان وإقامة » (2) ولكن لا يمكن الأخذ بهذا الإطلاق ، وذلك للاتّفاق على عدم مشروعيّتهما في غير اليوميّة ، فلو كانت صلاة الاحتياط صلاة مستقلّة ، ولم تكن من متممات اليوميّة ، فتشريع الأذان والإقامة فيها غير معلوم ، ومقتضى الأصل عدم جوازهما.

ص: 245


1- « الدروس » ج 1 ، 372 ، « البيان » ص 255.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 282 ، ص 1123 ، باب الأذان والإقامة ، ح 25 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 300 ، ح 1109 ، باب الأذان والإقامة في صلاة المغرب ... ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 4 ، أبواب الأذان والإقامة ، باب 35 ، ح 2.

نعم لو كانت مع أنّها صلاة مستقلّة جزء لليوميّة وبحكمها لكانا مشروعين فيها ، ولكن إثبات ذلك مشكل ، مع أنّها لو كانت كذلك فأيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنّ الفريضة اليوميّة منصرفة عن مثل هذه الصلاة فالأصحّ أنّ الأذان والإقامة لم يشرعا فيها.

وأمّا السورة والقنوت فللاتّفاق على عدم وجوبهما فيها ولا استحبابهما ، وأيضا لو كانا فيها واجبين أو كان خصوص السورة واجبا لكان علیه السلام ذكره في عداد الواجبات ، ونصوص الباب خالية عنهما مع ذكر سائر الواجبات فيها.

وأمّا القول بوجوب السورة بلحاظ وجوبها في سائر الصلوات الواجبة فلو قلنا بأنّ صلاة الاحتياط صلاة واجبة مستقلّة يتدارك بها ما فات من مصلحة الفريضة ، فالدليل على وجوبها في سائر الصلوات الواجبة دليل على وجوبها فيها.

وفيه : أنّ وجوب هذه الصلاة وإن كان من المسلّم ، ولكن ليس وجوبا مستقلا كسائر الواجبات لوجود ملاك ومصلحة في نفسها ، بل وجوبها باعتبار تتميم ما نقص من الفريضة الأصليّة ، ولذلك لو تنبّه في أثنائها بتماميّة الفريضة الأصليّة لا يجب عليها إتمامها ، ويجوز بل يجب العدول إلى النافلة لأنّه لا موضوع بعد ذلك الالتفات لإتيانها بصفة الوجوب ، لأنّ موضوعها احتمال النقص في الصلاة الأصليّة.

الأمر الثالث : فيما إذا صدر منه ما يبطل الصلاة قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط ، كما إذا صدر منه أحد القواطع فهل تبطل الصلاة ويجب إعادتها؟ إذ لا تأثير بعد ذلك في صلاة الاحتياط ، إذ بناء على أنّ صلاة الاحتياط متمّمة للنقص الذي حصل في الصلاة الأصلية ، فالقاطع كالحدث مثلا وقع في الأثناء ، فليست صلاة الاحتياط باعتبار أنّها متمّمة للصلاة الأصليّة قابلة لأن تنضمّ إلى الصلاة الأصليّة ، لأنّ القاطع قطع حبل الاتّصال.

وبعبارة أخرى : القاطع قطع صورة الصلاتيّة ، وبهذا الاعتبار يطلق عليه القاطع ،

ص: 246

فالجزء الصوري الذي يكون المراد به الهيئة الصلاتيّة انعدمت بواسطة القاطع ، فليست الأجزاء الباقية بعد وجود القاطع قابلا لتشكيل الهيئة الصلاتيّة بواسطة انضمامها إلى الأجزاء السابقة ، فقهرا تبطل الصلاة ويجب إعادتها.

ولكن هذا بناء على كون صلاة الاحتياط جزءا متمّما للصلاة الأصليّة على تقدير النقصان.

وأمّا لو قلنا بأنّها صلاة مستقلّة شرعت لأجل تدارك ما فات من مصلحة الصلاة الأصليّة على تقدير النقصان ، وهذا الأمر من قبيل حكمة تشريعها ، كما ورد في حكمة تشريع النوافل التي هي رواتب الفرائض اليوميّة أنّها شرعت لأجل جبران النقص الذي ربما يقع في الفرائض الخمس ، بحيث يكون المجموع من الرواتب والفرائض الناقصة وافيا بمصالح الفرائض الواقعيّة التامّة ، فوقوع الحدث مثلا قبل صلاة الاحتياط وبعد الصلاة الأصليّة لا يؤثّر في بطلان الصلاة الأصليّة ، لأنّه وقع قبلها لا في أثنائها.

ولكن التحقيق : أنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة هو أنّ هذه الصلاة لا مستقلة تماما ، ولا جزء متمّم ، بل فيها جهة الاستقلال باعتبار قوله علیه السلام في مرسل جميل : « إن شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء صلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » (1).

وأيضا قوله علیه السلام : في صحيحة الحلبي : « ثمَّ صلّ ركعتين وأنت جالس » (2).

وفيها جهة الجزئيّة.

وإنّها متمّم لنقص الصلاة الأصليّة لقوله علیه السلام في موثّقة عمّار « وأتم ما ظنت أنّك نقصت » (3) فهي معنى متوسط بين الاستقلال والجزئيّة وليست أجنبيّة عن كليهما.

ص: 247


1- تقدّم تخريجه في ص 206 ، رقم (2).
2- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (4).
3- تقدّم تخريجه في ص 183 و 184.

وبناء على هذا - من حيث أنّها صلاة مستقلّة ، وتشريعها لأجل تدارك المصلحة الفائتة على تقدير النقصان ، وليست جزء من الصلاة الأصليّة - فالصلاة الأولية تمّت بواسطة البناء على الأكثر ، والفراغ منها بواسطة التسليم حصل ، فلم يقع القاطع في أثنائها كي تبطل ، والمصلحة الفائتة يتدارك فيما بعد بواسطة صلاة الاحتياط ، فلا يبقى وجه للبطلان والإعادة.

ومن حيث أنّ فيها جهة كونها متمّما للصلاة الأصليّة تكون بحكم الجزء ، فكان القاطع وقع في الأثناء فتكون فاسدة ، فيكون حدوث القاطع موجبا للبطلان ولزوم الإعادة.

ولكن أنت خبير بأنّ ما قلنا : إنّ فيه جهة الجزئية ، ليس المراد منه أنّها جزء الصلاة الأصليّة ، بل المراد أنّها جزء متمّم لما هو ذو المصلحة ، فالصلاة الأصليّة وصلاة الاحتياط كلاهما مجموعا دخيلان في حصول المصلحة لا أنّ أحدهما جزء للآخر ، فوقوع الحدث بينهما لا يضرّ بكلّ واحد منهما.

الأمر الرابع : فيما إذا تذكر بعد الفراغ عن الصلاة الأصليّة والبناء على الأكثر أنّ ما صلّى كان كذلك من الركعة ، وارتفع الشكّ وحصل له اليقين.

فهذا لا يخلو حاله : إمّا أن يحصل له اليقين بالتمام أو بالنقصان.

فإن كان الأوّل وكان بعد الإتيان بصلاة الاحتياط فتكون صلاة الاحتياط نافلة ، كما هو مفاد بعض الأخبار.

وإن كان قبل صلاة الاحتياط فلا يجب إتيانها ، لأنّ وجوبها كان باعتبار تتميم ما نقص ، وبعد اليقين بالتمام وتذكّره وارتفاع الشكّ الذي كان موضوع وجوب صلاة الاحتياط لا يبقى مورد ومحلّ لوجوب إتيانها.

وإن كان التذكّر في أثناء الاحتياط فله أن يقطع ويرفع اليد عنها ، لتبيّن عدم وجوبها فلا مانع من قطعها. وله أن يتمّها نافلة ، فإن كان الاحتياط ركعة يضمّ إليها

ص: 248

ركعة أخرى ويتمّها نافلة.

ولا يكتفي في جعلها نافلة بتلك الركعة الواحدة ، وذلك من جهة عدم معهوديّة كون صلاة النافلة ركعة واحدة في غير الوتر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الدليل الذي مفاده جعل صلاة الاحتياط نافلة على تقدير كون الصلاة الأصلية تامّة يشمل بإطلاقه ما إذا كان صلاة الاحتياط ركعة واحدة ، فيدلّ على صحّة كون النافلة ركعة واحدة.

وإن كان الثاني ، ( تذكر نقصان الصلاة الأصليّة ) ، فلها صور :

الصورة الأولى : أن يكون تذكّره بعد الإتيان بصلاة الاحتياط ، وكان النقص المنكشف مطابقا مع صلاة الاحتياط كمّا وكيفا فلا شي ء عليه ، وقد أتى بما هو وظيفته ، وصحّت صلاته ، لما تقدّم من قوله علیه السلام في موثّقة عمّار : « وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت » (1).

الصورة الثانية : هي عين الصورة الأولى لكن مع الاختلاف في الكمّ مثل أن يكون النقص المنكشف ركعتين والاحتياط ركعة واحدة ، كما إذا شكّ بين الثلاث والأربع ، فبعد استقرار الشكّ بنى على الأربع وصلّى الاحتياط ركعة واحدة ، وبعد الفراغ عنها تذكر أنّ صلاته الأصليّة كانت ركعتين ، ففي مثل هذا المورد من المحتمل القول بأنّه يضيف على الاحتياط ركعة أخرى كي يتمّ بها النقص المنكشف.

وهناك احتمالان آخران :

أحدهما : كفاية صلاة الاحتياط التي أتى بها وإن كانت مخالفة مع النقص المنكشف في الكمّ.

واختار شيخنا الأستاذ قدس سرّه هذا الاحتمال تمسّكا بإطلاق قوله علیه السلام : « وإن ذكرت

ص: 249


1- تقدّم تخريجه في ص 184 ، رقم (1).

أنّك نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت » (1).

ولكنّ الظاهر أنّه علیه السلام في مقام أنّ صلاة الاحتياط لا تذهب هدرا على كلّ تقدير ، بل إمّا أن تكون متمّما للنقصان على تقدير النقص ، وإمّا أن تكون نافلة على تقدير التمام. وليس في مقام بيان أنّه متمّم على كلّ حال ولا يحتاج إلى شي ء آخر ، فلا مجال للتمسّك بإطلاقه من هذه الجهة.

الثاني : بطلان الصلاة ووجوب الإعادة باعتبار عدم إمكان العلاج ، والشكّ في الامتثال بإتيان ركعة أخرى وتتميم ما نقص.

أمّا عدم إمكان العلاج فمن جهة عدم كون صلاة الاحتياط جابرة للنقص ، لكونها أقلّ منه.

وأمّا تتميمها بركعة أخرى منفصلة فليس عليه دليل ، إذ صلاة الاحتياط في مورد الشكّ ، والشكّ ارتفع ، فلو أتى بركعة أخرى مضافا إلى صلاة الاحتياط وإن كان يتمّ بها النقص من حيث عدد الركعات ولكن الانفصال والخروج عن الصلاة بالتسليم لا علاج له.

ولا يقاس بصلاة الاحتياط ، فإنّها وإن كانت منفصلة وبعد التسليم ، إلاّ أنّ عليها دليل كموثقات عمّار وغيرها. وتلك الأدلة لا تشمل المقام ، لأنّ موضوع الحكم بالاحتياط فيها هو الشكّ ، والمفروض أنّ الشكّ ارتفع فيما نحن فيه ، فيكون شكّا في الامتثال فتجب الإعادة لتحصيل القطع بالامتثال.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّه لا وجه للقول بأنّه يعمل عمل المحتمل لهذا النقص المنكشف ، والشاكّ فيه مثلا في المفروض أليس أنّه انكشف أنّ صلاته التي صلاّها كانت ركعتين والنقص بركعتين ، فيعمل عمل الشكّ بين الاثنتين والأربع ، أي يأتي بركعتين من قيام ويصرف النظر عن الاحتياط الذي عمل به.

ص: 250


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 198.

وهو احتمال غريب ، لأنّه لم يشكّ مثل هذا الشكّ بل ليس له شكّ أصلا ، لأنّ شكّه الذي كان بين الثلاث والأربع ارتفع ، وليس له شكّ آخر فيكون حكما بلا موضوع ، فالأظهر بل الأرجح هو الإعادة في صورة الاختلاف في الكمّ.

وأمّا إن كان اختلافهما في الكيف ، مثلا شكّ بين الاثنتين والثلاث فبنى على الثلاث وأتمّ الصلاة ، ثمَّ صلّى صلاة الاحتياط ركعتين من جلوس ، فتذكر أنّ صلاته كانت اثنتين ، فالظاهر أنّه أتى بوظيفته. وركعتين من جلوس وإن كانتا مخالفتين في الكيف مع الركعة من قيام ، لكنّ الشارع جعلهما بدلا عن الركعة من قيام ، فحصل الامتثال وسقط الأمر.

هذا كلّه فيما إذا كان تذكره بعد صلاة الاحتياط.

وأمّا لو كان قبلها ، أي تذكر النقص وأنّه بركعة مثلا أو بركعتين قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط ، فهذه الصورة الثالثة من تذكّر النقص.

وهنا احتمالات :

الأوّل : وهو الصحيح أن يأتي بالنقص المتيقن ، وذلك من جهة وقوع السلام في غير محلّه فلم يخرج عن الصلاة بصرف السلام ، والمفروض أنّه لم يأت بمناف ، أي أحد القواطع من الحدث ، أو الاستدبار ، أو السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ، أو غيرها من القواطع ، وإلاّ فمعلوم أنّه فيما إذا أتى بأحد القواطع فالصلاة باطلة وتجب إعادتها.

فمقتضى القاعدة أنّ سلامة مثل السلام السهوي ، فبعد أن تذكّر السهو يجب عليه أن يقوم ويأتي بالبقيّة.

وهناك احتمالان آخران :

الأوّل : بطلان الصلاة ووجوب إعادتها ، وذلك من جهة أنّه خرج عن الصلاة بالتسليم ، وعلم بنقصان صلاته بركعة أو ركعتين ، والركعة مشتملة على الأركان ،

ص: 251

ونقيصة الركن غير مغتفر في الصلاة ، عمدا كانت أو سهوا.

وفيه : أنّ نقيصة الأركان وإن كانت موجبة للبطلان ، ولكن النقيصة لا يتحقّق إلاّ بأحد أمرين : إمّا بخروجه عن الصلاة بإيقاع السلام في محلّه ، أو بوجود أحد القواطع ، وإلاّ بصرف عدم وجود شرط أو جزء ركني مع بقاء محلّه لا يصدق النقيصة.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات معتبرة على أنّه لو تذكّر نقص صلاته بعد التسليم وقبل صدور المنافي يجب عليه أن يأتي به.

منها : خبر محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام في نقصان ركعتين في رجل صلّى ركعتين من المكتوبة فسلّم وهو يرى أنّه قد أتم الصلاة وتكلّم ، ثمَّ ذكر أنّه لم يصلّ غير ركعتين؟ فقال علیه السلام : « يتمّ ما بقي من صلاته ولا شي ء عليه » (1).

والفرق بين المقام وبين ذاك بأنّ مورد الرواية هو السلام باعتقاد الفراغ هناك ، وهاهنا بحكم الشارع غير فارق فيما هو المناط وهو كون في غير محلّه.

وقد شرحنا هذه المسألة ، أي تذكر النقص بعد السلام في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، في شرح قاعدة « لا تعاد » (2) وإن شئت فراجع.

وخلاصة الكلام : أنّ بطلان الصلاة بنقص ركعة أو ركعتين أن تذكّر وانكشف له بعد التسليم قبل إتيان ما هو المبطل لا وجه له ، بل يجب عليه التدارك وإتيان ما نقص بعنوان تتمّة الصلاة ، لا صلاة الاحتياط.

الثاني : هو أنّه يجب عليه الصلاة الاحتياط ، كما أنّه لو كان شكّه باقيا ولم يتذكّر النقص فصلاته الأصلية مع صلاة الاحتياط موجبة للقطع بالامتثال ، وتوجب براءة الذمّة وإسقاط الأمر.

ص: 252


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 757 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 58. « الاستبصار » ج 1 ، ص 378 ، ح 1436 ، باب من تكلّم في الصلاة ساهيا أو عامدا ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 309 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ح 9.
2- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 116.

وهذا احتمال غريب وبعيد إلى الغاية ، وذلك من جهة أنّ صلاة الاحتياط موضوعها الشاكّ ، فإذا ارتفع الشكّ وتذكّر النقص يخرج عن موضوع خطاب صلاة الاحتياط.

وأمّا إذا كان تذكره للنقص في أثناء صلاة الاحتياط ، فهذه هي الصورة الرابعة.

وفي هذه الصورة صور ، ربما يختلف حكمها ، فنقول :

الأولى : أن تكون صلاة الاحتياط مطابقة مع النقص الذي تذكره كمّا وكيفا ، مثلا شكّ بين الاثنين والثلاث وبنى على الثلاث ، ثمَّ تذكّر أنّ صلاته ناقصة بركعة في أثناء صلاة الاحتياط التي هي عبارة عن ركعة من قيام.

فهاهنا يجب عليه إتمام صلاة الاحتياط ، وليس عليه شي ء.

والوجه واضح بعد اغتفار زيادة تكبيرة الإحرام ، فإنّ المأمور به في حال الشكّ بعد التسليم هي الركعة الواحدة من قيام ، غاية الأمر بزيادة التكبير ، وبعد تذكّر النقص وأنّه ركعة واحدة أيضا يكون المأمور به هو نفس ما كان حال الشكّ فلا وجه لرفع اليد عنها وتجديدها ثانيا.

الثانية : أن تكون مخالفة مع النقص الذي تذكّره في الكمّ والكيف أو في أحدهما. فهذه الصورة الثانية تنقسم إلى ثلاث :

فالأوّل ، أي المخالف في الكمّ والكيف كما إذا شكّ بين الثلاث والأربع فبنى على الأربع وشرع في صلاة الاحتياط واختار ركعتين من جلوس ، فتذكّر في أثنائها أنّ النقص ركعة واحدة ، فصلاة الاحتياط في هذا الفرض مخالف مع النقص المذكور كمّا ، لأنّه ركعة واحدة وصلاة الاحتياط ركعتين ، وكيفا ، من جهة أنّه من قيام وصلاة الاحتياط من جلوس.

فهنا احتمالات بل أقوال ثلاث :

الأوّل : بطلان الصلاة ولزوم الإعادة ، لأنّ النقص فيها معلوم وليس له علاج ، ولا

ص: 253

يمكن تداركه ، لأنّ التدارك إمّا بصلاة الاحتياط ، ولا يمكن بهذه التي هو فيها ، لمخالفتها مع النقص المعلوم كمّا وكيفا ، أو برفع اليد عن الاحتياط والصلاة قائما بمقدار النقص الذي تذكره أي يتمّها لا بعنوان صلاة الاحتياط ، وهذا لا يمكن ، للفصل بين المتمّم - بالكسر - والمتمم - بالفتح - أوّلا ، ولزيادة الأركان المتعدّدة بناء على جزئيّة صلاة الاحتياط للصلاة الأصليّة ثانيا ، ومن جهة الخروج عن الصلاة بالتسليم ثالثا.

وأيضا لا يمكن تداركه بصلاة احتياط أخرى مطابقا للنقص المذكور ، لأنّ صلاة الاحتياط موضوعها الشكّ ، فإذا ارتفع - كما هو المفروض في المقام - لا يبقى مجال لصلاة الاحتياط مطابقة للنقص الذي تذكّره مرة أخرى ، فلا بدّ من الإعادة.

الثاني : إتمام صلاة الاحتياط والاكتفاء بها وإن كانت مخالفة للنقص المعلوم كمّا وكيفا ، لإطلاق أدلّة صلاة الاحتياط.

وفساد هذا الاحتمال واضح ، لما ذكرنا أنّ جابريّة صلاة الاحتياط للنقص المعلوم فيما إذا كانت مطابقة للنقص المعلوم ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فكونه جابرا مع ارتفاع الشكّ لا وجه له أصلا.

الثالث : إدخال هذه المسألة فيمن تذكّر النقص بركعة أو ركعتين بعد التسليم سهوا ، حيث أنّ في تلك المسألة دلّت الأخبار على إتمام الصلاة بالمقدار الذي علم بالنقص.

وقد تقدّم خبر محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام وأنّه علیه السلام قال : « يتمّ ما بقي من صلاته ولا شي ء عليه » (1) ، وقلنا هناك : إنّ الفرق بين المسألتين بأنّه هناك - أي في مورد الرواية - صدور السلام يكون سهوا ، وفيما نحن فيه عمدي وبحكم الشارع ليس بفارق فيما هو مناط الحكم وهو وقوع السلام في غير محلّه.

والأرجح من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأخير ، كما ظهر ممّا تقدّم وجهه.

الثالثة : أن تكون مخالفة للشكّ المحتمل وإن كانت موافقة للنقص المعلوم كمّا وكيفا.

ص: 254


1- تقدّم ذكره في ص 252 ، رقم (1).

والظاهر أنّه مثل الصورة الأولى من الصورة الرابعة ، أي يمضي في الاحتياط ولا شي ء عليه ، إذ ما دام تكون صلاة الاحتياط موافقة مع النقص المعلوم لا أثر لمخالفتها لحكم الشكّ المحتمل ، إذ الشكّ ارتفع وجاء مكانه القطع بالنقص ، فلا بدّ من ملاحظة آثار هذا القطع الموجود لا الشكّ الزائل ، كما أنّه لو كانت موافقة للشكّ المحتمل ، ولكن كانت مخالفة للنقص المعلوم لا أثر لموافقتها للشكّ المحتمل.

الصورة الخامسة : أن يكون تذكّره للنقص بين الاحتياطين. وذلك كما أنّه في الشكّ المركّب ، كالشكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع مثلا ، بنى على الأربع فهاهنا - كما تقدم في أحكام الشكوك الصحيحة - يجب عليه الاحتياط بصلاتين : إحديهما ركعة واحدة من قيام أو ركعتين من جلوس. الثانية : ركعتين من قيام.

فلو حصل له اليقين بمقدار النقص بعد أن أتى بأحد الاحتياطين دون الآخر ، فإن كان الاحتياط الذي أتى به موافقا مع النقص المعلوم ، مثلا علم بأنّ النقص ركعة إذ تذكر أنّه صلّى ثلاث ركعات ، وهو أوّلا أتى بوظيفة الشكّ بين الثلاث والأربع أي صلّى صلاة الاحتياط ركعة من قيام ، أو ركعتين من جلوس ، فإن كان مختاره ركعة من قيام ، فتمّ عمله وليس عليه شي ء قطعا. وهذا واضح جدا.

وإن كان مختاره ركعتين من جلوس ، فالظاهر أنّه أيضا كذلك ، لأنّ جعل ركعتين من جلوس في ظرف الشكّ بمنزلة ركعة من قيام ومجزيتين عنها كان مفاد الأدلّة.

والحاصل : أنّه إن كان الاحتياط الأوّل الذي أتى به موافقا مع النقص الذي تذكره ، فصلاته صحيحة ولا شي ء عليه ، لما ذكرنا فلا نعيد.

وأمّا إن كان مخالفا له في الكيف والكمّ ، أو الكمّ وحده فواضح أنّه لا يجوز الاكتفاء به ، لزيادتها إن كان الاحتياط الأوّل الذي أتى به أزيد من النقص الذي تذكره ، أو لبقاء مقدار من النقيصة إن كان أقلّ. وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن تكون صلاة الاحتياط الأولى جابرة للنقص المعلوم.

ص: 255

فلا بدّ إمّا من صرف النظر عما أتى به من باب صلاة الاحتياط ، والإتيان بمقدار النقص المعلوم من باب إدخال المسألة في مسألة تذكّر نقص الصلاة بركعة أو ركعتين بعد السلام بزعم الفراغ ، أو إعادة أصل الصلاة.

وقد تقدّم الكلام فيما تقدّم من نظير هذه المسألة إن تذكّر في أثناء الإتيان بصلاة الاحتياط إذا كان احتياطا واحدا كما في الشكّ البسيط.

وأمّا إن كان مخالفا في الكيف فقط ، فيمكن أن يقال بالاكتفاء بذلك الاحتياط ، لجعله الشارع بدلا عمّا هو النقص الواقعي ، مثلا لو شكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع فهنا له وظيفتان : إحديهما : وظيفة الشكّ بين الثلاث والأربع ، وهي ركعتان من جلوس. وأخرى : وظيفة الشكّ بين الاثنتين والأربع ، وهي ركعتان من قيام.

فلو قدّم إتيان الوظيفة الأولى - أي الشكّ بين الثلاث والأربع - واختار ركعتين من جلوس ، فتذكّر بعد الإتيان بهذه الوظيفة وقبل الإتيان بالوظيفة الأخرى ، أنّ صلاته التي صلاّها كانت ثلاث ركعات والنقص بواحدة ، فحيث أنّ الشارع جعل ركعتين من جلوس في ظرف الشكّ بدلا عن الركعة من قيام ، وقد أتى هو بها في ظرف الشكّ ، فيكون مجزيا وليس عليه شي ء. فالاختلاف في الكيف إذا أتى بها في ظرف الشكّ لا أثر له إذا كان مطابقا في الكمّ.

وخلاصة ما ذكرنا في هذا الأمر الرابع - أي فيما تذكر النقص وارتفع الشك الذي كان موضوعا لصلاة الاحتياط - أنّ تذكّره وارتفاع شكّه إمّا أن يكون قبل صلاة الاحتياط ، أو بعدها ، أو في أثنائها ، أو في أثناء الاحتياطين.

أمّا الأوّل أي فيما إذا كان قبل صلاة الاحتياط ، فالأظهر هو الإتيان بالنقص المعلوم ، لا البطلان وإعادة الصلاة ، ولا التدارك بصلاة الاحتياط ، لارتفاع موضوعها وهو الشكّ.

وأمّا في الشقوق الثلاثة الأخيرة فإن كان ما أتى به بعنوان الاحتياط أو دخل فيه

ص: 256

كذلك موافقا في الكمّ والكيف ، أو في الكمّ فقط مع النقص المعلوم فيمضي في احتياطه ولا شي ء عليه ، وإلاّ فيجب إعادة صلاته.

وأمّا موافقة صلاة الاحتياط لحكم الشكّ المحتمل وعدم موافقتها له فلا أثر له بعد بيان الواقع وكشفه وارتفاع الشكّ وحصول اليقين ، فالمناط كلّ المناط مطابقة صلاة الاحتياط للنقص المعلوم وعدم مطابقتها.

ثمَّ إنّه كان جميع ما ذكرنا فيما إذا تذكّر نقص الصلاة التي أتى بها ، وأمّا لو تذكّر زيادتها على ما هو الفرض بركعة أو أزيد ، فواضح بطلانها ، ولزوم إعادتها ، لعدم علاج لزيادة الأركان وأنّها موجبة للبطلان ، عمدا كان أو سهوا.

الأمر الخامس : لو شكّ في إتيان صلاة الاحتياط بعد وجوبها وتنجّزها عليه ، فإن كان الشكّ بعد خروج الوقت فهذا من الشكّ بعد الوقت ولا اعتبار به ، لأنّ حال الصلاة الاحتياط حال سائر أجزاء الصلاة الأصليّة ، فيبني على الإتيان.

وأمّا لو كان حدوث الشكّ في الوقت ، فمقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان بها ، إلاّ فيما يكون مجرى لقاعدة الفراغ أو قاعدة التجاوز ، فإذا كان جالسا في محلّ الصلاة ولم يأت بما هو مناف ومبطل للصلاة ، حتّى السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ، ولم يدخل في فعل آخر ، فلا مورد لجريان كلتا القاعدتين.

أمّا عدم إحراز مجرى قاعدة الفراغ فلأجل أنّ مجراها هو الشكّ في تماميّة الموجود ، وهاهنا يكون الشكّ في أصل الوجود.

وأمّا قاعدة التجاوز فلأجل عدم التجاوز عن المحلّ الشرعي لصلاة الاحتياط ، بل ولا العرفي.

أمّا لو أتى بالمنافي والمبطل أو دخل في فعل آخر فهل يكون داخلا في مجرى القاعدتين أو إحديهما أو لا؟ فيه كلام.

وتفصيله عبارة عن أنّه هل يصدق الفراغ بإيجاد المنافي أم لا؟ وكذلك التجاوز؟

ص: 257

والظاهر أنّ المنافي إذا كان مثل الاستدبار أو السكوت الطويل ممّا يكون غالبا بعد الفراغ عن الصلاة يصدق الفراغ به عرفا.

وأمّا الدخول في فعل آخر فلا شك في صدق الفراغ معه ، مضافا إلى أنّ موضوع الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ ليس هو عنوان الفراغ ، بل عنوان المضي والتجاوز والخروج عن الشي ء والدخول في غيره ، وهذه العناوين تصدق قطعا مع الدخول في فعل آخر مناف للصلاة حتّى مثل التعقيب.

فلو كان جالسا ويشتغل بالتعقيب ، وقلنا بوجوب صلاة الاحتياط عقيب التسليم بلا فصل - كما هو مقتضي الجزئية على تقدير النقصان - فمع دخوله في التعقيب يصدق التجاوز عن محلّ صلاة الاحتياط والفراغ عنها وعن الصلاة الأصليّة ، ومع ذلك كلّه لا ينبغي ترك الاحتياط بإتيان صلاة الاحتياط ، لأنّه وإن كانت هاتان القاعدتان حاكمتين على قاعدة الاشتغال ، بل وكذلك على استصحاب عدم الإتيان بها إلاّ أنّ الشأن في جريانهما فإنّه لا يخلو من إشكال وإن رجّحنا جريانهما في بعض صور المسألة ، خصوصا إذا حصل الشكّ بعد دخوله في فعل مناف للصلاة.

الأمر السادس : في أنّه لا سهو في سهو.

ويدلّ على هذا الحكم روايات :

منها : ما عن الشيخ في الصحيح - أو الحسن - عن حفص البختري ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « ليس على الإمام سهو ، ولا على من خلف الإمام سهو ، ولا على السهو سهو ، ولا على الإعادة إعادة » (1).

ومنها : ما عن الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن هاشم في نوادره أنّه سئل أبا عبد اللّه علیه السلام عن إمام يصلّي بأربع نفر أو بخمس فيسبّح اثنان على أنّهم صلّوا ثلاثا ، ويسبّح ثلاثة على أنّهم صلّوا أربعا ، يقول هؤلاء : قوموا ، ويقول هؤلاء : أقعدوا ،

ص: 258


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1428 ، باب أحكام السهو ، ح 16.

والإمام مائل مع أحدهما أو معتدل الوهم ، فما يجب عليهم؟ قال علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلف سهوه باتّفاق منهم ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام ، ولا سهو في سهو » الحديث (1).

وعن الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن رجل ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام نحوه (2).

فلا إشكال في هذه الجملة من حيث اعتبار السند والصدور ، خصوصا مع تلقّيها الأصحاب بالقبول ، فالعمدة فهم المراد منها.

فنقول : الظاهر من قوله علیه السلام : « لا سهو » ، أنّ السهو - أي : السهو المنفي - بمعنى الشكّ ، بقرينة نظائره في قوله علیه السلام « ليس على الإمام سهو ، ولا على من خلف الإمام سهو ، ولا سهو في سهو ، وليس في المغرب سهو ، ولا في الركعتين الأوليين في كلّ صلاة سهو ، ولا سهو في نافلة ».

فإنّ كلمة « السهو » في جميع هذه الموارد المراد به الشكّ كما هو واضح ، وإن كان في حدّ نفسه مع قطع النظر عن هذه القرينة فيها احتمالات ثلاث : خصوص الشكّ ، وخصوص النسيان ، والأعم منهما. والمراد من السهو الثاني ، أي : ما هو الظرف للسهو المنفي ، صلاة الاحتياط التي هي حكم الشكّ في عدد الركعات ، فيكون هذه الجملة نظير « لا شكّ لكثير الشك » من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فمعناه أنّ حكم الشكّ ليس في حكم الشكّ أي البناء على الأكثر ، وصلاة الاحتياط ليس في صلاة الاحتياط إذا شكّ في عدد ركعاتها ، فالسهو الأوّل والثاني - أي الظرف والمظروف - بمعنى واحد.

ويمكن أن يكون المراد من السهو في كلا المقامين - أي الظرف والمظروف - أعمّ من

ص: 259


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 352 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1028.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ولم يدر زاد أو نقص ... ، ح 5.

الشكّ والنسيان ، أي حكم الشكّ الذي هو عبارة عن صلاة الاحتياط ، وحكم النسيان الذي هو عبارة عن سجدتي السهو فقط في بعض الموارد ، ومع القضاء في البعض الآخر ، ليس في حكم الشكّ وفي حكم النسيان فيكون معناه أن الشكّ في عدد ركعات صلاة الاحتياط ليس فيه البناء على الأكثر وصلاة الاحتياط ، وكذلك في سجدتي السهو وقضاء بعض الأجزاء المنسيّة ليس سجدتي السهو ، ولا قضاء إذا نسي شيئا منها.

ولكن هذا المعنى لا يناسب مع وحدة السياق ، فالظاهر تعيّن المعنى الأوّل ، وإلاّ فبحسب الاحتمال تكون الاحتمالات تسعة ، حاصلة من ضرب ثلاثة احتمالات للسهو المظروف في ثلاثة احتمالات السهو الذي هو ظرف ويكون مدخولا لحرف الجر ، سواء كان هو « في » كما في بعض الروايات ، أو « على » كما في البعض الآخر.

ولا يتوهّم أنّ المراد من السهو الأوّل وإن كان هو حكم الشكّ أي البناء على الأكثر وصلاة الاحتياط ، لأنّه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ولكن لا دليل على أن يكون المراد من السهو الثاني الذي هو ظرف للسهو الأوّل أيضا حكم الشكّ ، وذلك لعدم جريان دليل الأوّل - الذي هو عبارة عن نفي الحكم بلسان نفي الموضع - فيه ، لأنّه هناك ليس مقام نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فإنّه لا نفي هناك أصلا ، لا نفي الحكم ، ولا نفي الموضوع ، وذلك من جهة أنه لا يمكن أن يكون المراد منه نفس الشكّ ، لأنّه حينئذ يكون المعنى : ليس حكم الشكّ في الشكّ. اللّهمّ إلاّ أن يكون متعلّق الشكّ هو عدد ركعات صلاة الاحتياط ، فيكون نفس المعنى ، وكرّ على ما فرّ.

ثمَّ إنّ حكم الشكّ وان لم يكن منحصرا بالبناء على الأكثر ولا متعلّقه منحصر بعدد الركعات بل قد يتعلّق بأفعال الصلاة أي إتيان أجزائها وشرائطها ، وترك موانعها وقواطعها ، كما أنّ حكمه قد يكون إبطال الصلاة التي وقع فيها الشكّ كالفريضة الثنائيّة والثلاثيّة والأوليين من الرباعية ، وقد يكون عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في المشكوك كالشكّ في النافلة ، وبعد الفراغ وبعد الوقت ، ولكن ظهور نفي حكم الشكّ بنفي

ص: 260

موضوعه وإن كان بواسطة غلبة الوجود وأنس الذهن في نفي البناء على الأكثر ونفي صلاة الاحتياط التي من آثار البناء على الأكثر لا يمكن أن ينكر.

الأمر السابع : لو شكّ في عدد ركعاتها ، فهل عليه البناء على الأكثر أو لا يجري هذا الحكم في حقه؟

وقد عرفت في الأمر السابق أنّ قوله علیه السلام : « لا سهو في سهو » ظاهر في أنّ حكم الشكّ الذي هو البناء على الأكثر ليس في السهو ، أي فيما هو مسبّب عن السهو أي صلاة الاحتياط ، فالبناء على الأكثر لا وجه له ، لحكومة هذه الجملة على عمومات البناء على الأكثر على فرض شمولها لصلاة الاحتياط.

فيبقى الكلام حينئذ في أنّه هل يبنى على الأقلّ لاستصحاب عدم الزائد عليه؟ أو الاستصحاب ألغاه الشارع في باب عدد الركعات ، فيكون أصل الصلاة باطلة لعدم إمكان العلاج فتجب الإعادة لقاعدة الاشتغال؟

والظاهر عدم مانع من جريان الاستصحاب ، فيجب البناء على الأقلّ. ولكن الاحتياط بالإعادة لا ينبغي تركه ، لاحتمال إلغاء الشارع اعتبار الاستصحاب في باب عدد الركعات في الفرائض اليوميّة.

الأمر الثامن : لو نسي صلاة الاحتياط وشرع في صلاة أخرى فتذكّرها في أثنائها ، فهل يجب عليه العدول إليها فيما لم يجز عن محلّ العدول؟ أو يجب قطعها والشروع في صلاة الاحتياط؟ أو يشرع في صلاة الاحتياط بدون قطع تلك الصلاة ، بمعنى أنّه بعد صلاة الاحتياط يبني على ما كان من صلاته؟ أو يتم ما فيها ثمَّ يشرع في صلاة الاحتياط؟ وجوه واحتمالات :

أقول : إنّ الصلاة التي دخل فيها بعد أن نسي الاحتياط إمّا مرتّبة على الصلاة التي وجب الاحتياط لأجل الشكّ فيها ، وإمّا لا. وعلى التقدير الثاني إمّا فريضة أو نافلة. وعلى جميع التقادير إمّا جاز عن محلّ العدول أم لا.

ص: 261

والمراد من التجاوز عن محلّ العدول كون ركعات ما صلّى في الصلاة الثانية أزيد من صلاة الاحتياط ، مثلا صلاة الاحتياط ركعتين وهو تذكّر نسيان صلاة الاحتياط بعد أن دخل في الثالثة ، وأتى بالركوع فلا يمكن العدول فإذا أمكن العدول وقلنا بأنّ العدول موافق للقاعدة فيجب العدول.

وأمّا إن قلنا بعدم كونه على القاعدة ، أو لا يمكن العدول وقلنا بفوريّة الاحتياط وعدم جواز تأخيره ، فإن قلنا بجواز الصلاة في الصلاة وأنّها على القاعدة ، فيشرع في صلاة الاحتياط في أثناء تلك الصلاة ، ثمَّ بعد أن فرغ عن صلاة الاحتياط يبني على تلك الصلاة ويتمّها ، وإلاّ فيقطع تلك الصلاة ويشرع في صلاة الاحتياط ، ثمَّ بعد إتمامها يستأنف تلك الصلاة. وأمّا إن كانت تلك الصلاة نافلة فلا محذور في القطع على كلّ حال.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 262

22 - قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة

اشارة

ص: 263

ص: 264

قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة (1)

ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة « حجيّة الظنّ في الصلاة ». والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في مدركها

وهو أوّلا : الإجماع ، وقد ادّعاه في الجملة جماعة ، وإن قلنا مرارا إنّ دعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل ممّا لها مدارك نقليّة لا وجه له أصلا ، وليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي أثبتناه هناك حجّيته.

وثانيا : الأخبار المستفيضة ، وفيها صحاح :

فمنها : النبوي العامي « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أيّ ذلك أحرى إلى الصواب فليبن عليه » (2).

والنبوي الآخر « إذا شكّ أحدكم فليتحرّ » (3).

والاحتمالات في هذا الحديث أربعة :

ص: 265


1- (*) « القواعد » ص 111.
2- « صحيح مسلم » ج 1 ، ص 401 ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب 19 ، ح 90 ، « سنن النسائي » ج 3 ، ص 28 ، باب التحري ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 383 ، كتاب الإمامة ، باب 133 ، ح 1211.
3- « سنن البيهقي » ج 2 ، ص 330 ، باب لا تبطل صلاة المرء بالسهو فيها ، « سنن النسائي » ج 3 ، ص 28 ، باب التحري ، مع تفاوت يسير.

الأوّل : أن يكون المراد من الشكّ في الصلاة هو الشكّ في إتيان الصلاة وامتثال أمرها.

الثاني : أن يكون المراد منه الشكّ في عدد الركعات.

الثالث : أن يكون المراد منه هو الشكّ في أفعال الصلاة وأجزائها.

الرابع : أن يكون المراد الأعمّ من الأفعال ومن الركعات.

والإنصاف أنّ الظاهر من النبوي الأوّل هو هذا المعنى. وأمّا النبوي الآخر على فرض أن يكون حديثا آخر فالظاهر هو أن يكون المراد منه أيضا هذا المعنى ، أي إذا شكّ في عدد الركعات أو الأفعال فيجب التحرّي عن المشكوك.

هذا بناء على أن يكون متعلّق الشك فيه أيضا هو الصلاة ، وإلاّ فلا يخلو عن إجمال. وأمّا الاحتمال الأوّل - وهو أن يكون المراد من الشكّ في الصلاة هو الشكّ في أصل إتيان الصلاة وامتثال أمرها - وإن كان موجبا للخروج عن محلّ البحث ، ويكون الحديث بناء عليه غير مرتبط بالمقام ، ولكن الاحتمال بعيد ، وذلك لعدم حجّية الظنّ في مقام الامتثال ، وهذا واضح جدا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ الشارع جعل الظنّ حجيّة في مقام الامتثال ، كما أنّه قيل بناء على الكشف وتماميّة مقدّمات الانسداد ، ولكن هذا يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

ومنها : صحيحة صفوان عن أبي الحسن علیه السلام ، قال علیه السلام : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ، ولم يقع وهمك على شي ء فأعد الصلاة » (1).

ومفهوم هذه الصحيحة هو أنّه لو وقع وهمك على شي ء أي وقع ظنّك على أحد طرفي المحتملين ، فلا تجب الإعادة.

ص: 266


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 744 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 45. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1419 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة أو ... ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 327 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 15 ، ح 1

وذلك من جهة أنّ المراد من الوهم لا بدّ وأن يكون هو الظنّ ، أي : المحتمل الراجح ، لأنّ العلم أوّلا لا يعبّر عنه بالوهم ، وثانيا حجّية العلم ذاتي ومعلوم ، فلا يحتاج إلى التفصيل.

ولا يمكن أن يكون المراد هو الشكّ المتساوي الطرفين ، لأنه موضوع التفصيل والسؤال والوهم بمعنى مرجوحيّة المحتمل لا يناسب هذا التفصيل الظاهر من المنطوق والمفهوم قطعا ، فلا بدّ وأن يكون المراد منه الظنّ وهو يناسب المقام وهذا التفصيل ، لأنّ معنى الصحيحة وما يحصل منها بناء على هذا هو أنّه إن كان الشكّ والترديد متساوي الطرفين ، ولم يحصل ترجيح لأحد المحتملين فتجب الإعادة. وأمّا إن كان أحد المحتملين مظنونا ، وحصل ترجيحه على الطرف الآخر فلا تجب الإعادة ، بل يبني على ما ظنّه ، وهذا عين حجية الظنّ في عدد الركعات ، لأنّ متعلّق عدم الدراية هو عدد الركعات في المنطوق ، والمفهوم تابع له في الموضوع والمورد ، فهذه الصحيحة لا إطلاق لها يشمل حجّية الظنّ في الأفعال.

ومنها : خبر عبد الرحمن بن سيابة ، وأبي العباس : « إذا لم تدر ثلاثا صلّيت أو أربعا ووقع رأيك على الثلاث فابن على الثلاث ، وإن وقع رأيك على الأربع فسلّم وانصرف ، وإن اعتدل وهمك فانصرف وصلى ركعتين وأنت جالس » (1).

ولا شكّ في أنّ قوله علیه السلام : « ووقع رأيك على الثلاث » وهكذا قوله علیه السلام : « وإن وقع رأيك على الأربع » المراد بوقوع الرأي على الثلاث ووقوع الرأي على الأربع هو الظنّ لا العلم ، بقرينة قوله علیه السلام مقابل هذين القسمين « وإن اعتدل وهمك » لأنّ مقابل الاعتدال ، عدم الاعتدال ، وعدم الاعتدال حسب المتفاهم العرفي هو عبارة عن ترجيح أحد الطرفين لا البتّ في طرف.

فلو كان وقوع الرأي قابلا في حدّ نفسه لانطباقه على العلم ، ولكن بهذه القرينة

ص: 267


1- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (1).

لا بدّ من حمله على الظنّ ، ثمَّ إنّه من الواضح أنّه لا خصوصية للمورد في هذه الرواية ، فأيّة خصوصيّة يحتملها المستنبط في مقام الاستنباط للشكّ بين الثلاث والأربع ، فالحكم عامّ في أيّ شكّ كان ، بل في أيّ صلاة كان.

وحاصل الكلام : أنّ مفاد هذه الرواية هو أنّ الشكّ إذا لم يكن متساوي الطرفين وكان خارجا عن الاعتدال بأن وقع ظنّه على أحد طرفي الشكّ كان ذلك ثلاثا أم أربعا يبني عليه ، وهذا معناه حجّية الظنّ ، وبإلغاء خصوصية المورد يجري في كلّ شكّ في كلّ صلاة ، ثنائيّة كانت أو ثلاثيّة أو رباعيّة ، وفي الرباعيّة ، كان في الأوليين أو كان في الأخيرتين.

ومنها : خبر الحلبي : « وإن كنت لا تدري ثلاثا صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ، ثمَّ صلّ ركعتين وأنت جالس » (1).

وتقريب دلالته على حجية الظنّ في عدد الركعات مثل تقريب دلالة خبر عبد الرحمن بن سيابة وأبي العباس البقباق ، وأيضا بإلغاء الخصوصيّة يكون الحكم عامّا.

ومنها : صحيحة الحلبي « إذا لم تدر اثنتين صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ، ثمَّ صلّ ركعتين » (2).

وهذا الأخبار بعد إلغاء خصوصيّة المورد ، دلالتها على اعتبار الظنّ في عدد الركعات في الجملة واضحة.

وأمّا سند النبوي وهو إن كان عاميا ولكن اشتهاره بين فقهائنا - رضوان اللّه عليهم - وذكره في كتبهم وفي مدارك فتاويهم يوجب جبر ضعفه والوثوق بصدوره الذي هو موضوع الحجّية.

ص: 268


1- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (4).
2- تقدّم تخريجه في ص 213 ، رقم (3).

وأمّا الروايات المرويّة عن الأئمّة الأطهار فمعتبرة ، وقد عمل بها الأصحاب وقد عرفت أنّ بعضها صحيحة ، فإذا كان لها إطلاق يجب الأخذ به حتّى يثبت التقييد.

الجهة الثانية : في أنّ الظنّ هل هو معتبر في الأوليين ،

أم يختصّ اعتباره بالأخيرتين من الرباعيّة

والحقّ اعتباره مطلقا ، سواء أكان في الثنائيّة أو الثلاثيّة أو الرباعية ، وفي الأخير سواء كان في الأوليين أو كان في الأخيرتين.

وذلك من جهة أنّ ما قيل في وجه عدم اعتباره في الأوليين هو أنّه لا بدّ فيهما من الحفظ واليقين والدراية والسلامة ، وهذه العناوين الأربعة المأخوذة في لسان الدليل لا يمكن تحصيلها بالظنّ ولا تتحقق به.

وفيه : أنّ المراد بهذه الأربعة معنى واحد ، وكلّها يرجع إليه ، وهو اليقين.

وبعبارة أخرى : الحكم بصحّة الصلاة في أيّة صلاة موقوف على اليقين بسلامة الأوليين ، ولكن الظاهر أنّ اليقين المأخوذ في موضوع الحكم بالصحّة مأخوذ على وجه الطريقيّة لا الصفتيّة ، بل قلنا في مبحث حجّية القطع من كتابنا « المنتهى » أنّه لا يوجد في الشرعيّات مورد يكون القطع مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي على نحو الصفتيّة حتّى في الشهادة.

فإنّ اليقين المأخوذ في موضوع وجوب أو جواز أدائها هو على نحو الطريقية لا الصفتيّة ، ولذا يقوم مقام الاستصحاب. وقد بيّنّا هناك - أي في مبحث حجية القطع - أنّ الأمارات والأصول التنزيليّة تقوم مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة لا الصفتيّة.

ص: 269

فإذا كان اليقين المأخوذ في موضوع الحكم بالصحة على نحو الطريقيّة ، وكان المراد من قوله علیه السلام « إذا سلّمت الأوليان سلّمت الصلاة » هو اليقين وإحراز سلامتهما ، وكذا المراد من الدراية والحافظ هو اليقين بتحقّق الأوليين ، وكان اعتبار الظنّ من جهة أنّ الشارع جعله أمارة على وجود المظنون فيقوم مقام ذلك القطع المأخوذ في موضوع الحكم بالصحّة.

ويدلّ على أماريّته قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أيّ ذلك أحرى إلى الصواب فليبن عليه ».

وكذلك النبوي الآخر : « إذا شكّ أحدكم فليتحرّ » ظاهر في أنّ الأحرى إلى الصواب طريق إلى ما هو الصواب ، وهكذا الأمر بالتحرّي لا يبعد أن يكون من جهة تحصيل الظنّ بالعدد ، لأنّ تحصيل العلم غالبا في مورد الشكّ غير ممكن ، فهو صلی اللّه علیه و آله جعل طريقا لرفع الشكّ تعبّدا.

فتكون هذه الأدلّة التي تدلّ على حجّية الظنّ حاكمة على الأدلّة التي مفادها إعادة الصلاة في الثنائية مطلقا ، سواء كانت مستقلّة كفريضة الصبح ، أو كانت الأوليين من الرباعيّة وكذلك الثلاثية كصلاة المغرب.

والحاصل : أنّه يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ الشارع الأقدس جعل الظنّ أمارة لعدد الركعات.

وأمّا الضعف في سند الحديث فقد تكلّمنا فيه فلا نعيد ، وكذلك الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار علیهم السلام تدلّ على أماريّته ، كما هو يظهر بأدنى تأمّل ، فحكمه علیه السلام - بالأربع بذهاب الوهم إليه وكذلك بالثلاث بذهاب الوهم إليه - دليل واضح على أنّه جعل الظنّ بالثلاث أو الأربع أمارة عليهما ، ومعلوم أنّ الظنّ إذا كان أمارة يقوم مقام اليقين الذي أخذ موضوعا للحكم بالصحّة في الأوليين من الرباعيّة ، وكذلك في الثنائيّة المستقلّة كصلاة الصبح ، والثلاثيّة كصلاة المغرب.

ص: 270

هذا ، مضافا إلى أنّه لم ينقل خلاف في هذا الحكم إلاّ من ابن إدريس (1) قدس سرّه وحكى صاحب الجواهر دعوى إجماعات من جمع (2) ، وهو رحمه اللّه أصرّ إصرارا بليغا على قيام الظنّ في هذا المورد - أي في عدد الركعات - مقام العلم حتّى أنّه حكى عن نفس ابن إدريس الذي كان مخالفا في هذه المسألة الاعتراف بقيام الظن مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّره (3).

والحاصل : أنّه ينبغي أن يعدّ حجّية الظنّ في عدد الركعات مطلقا في الرباعيّة وفي الثنائيّة من المسلّمات.

[ الجهة ] الثالثة : في أنّ الظنّ هل هو حجّة في الأفعال أيضا ، كما هو حجّة في عدد الركعات أم لا؟

فنقول : المشهور بل ادّعى المحقّق الثاني نفي الخلاف عن قيامه مقام العلم بالنسبة إلى الأفعال أيضا والروايات المتقدمة المرويّة عن أهل البيت علیهم السلام كانت مخصوصة بالظنّ في عدد الركعات.

وأمّا النبوي العامي فعامّ ، لأنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أي ذلك أحرى إلى الصواب » يشمل الأفعال والركعات جميعا ، فبضميمة دعوى نفي الخلاف من المحقّق الثاني ، والوجوه الاستحسانية التي ذكروها في هذا المقام التي سنذكرها إن شاء اللّه تعالى ربما يوجب الاطمئنان بحجيّة الظنّ في الأفعال أيضا ، بمعنى أنّه لو تعلّق بوجود جزء أو شرط أو مانع تكون حجّة على وجودها ، فلا تجب

ص: 271


1- « السرائر » ج 1 ، ص 245.
2- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 362.
3- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 365.

إعادة ذلك الجزء أو الشرط ، ولو كان في صورة عدم تجاوز محلّهما فيكون حاكما أو مخصّصا لمفهوم قاعدة التجاوز وكذلك حجّة إذا تعلّق بعدمها فتجب الإعادة حتّى مع التجاوز عن محلّهما ، وبعبارة أخرى : يكون حاله حال العلم. وأمّا الوجوه الاستحسانيّة التي ذكروها :

فمنها : أنّ الظن إن كان حجّة في إثبات الركعة وفي نفيها ، فبطريق أولى يكون حجّة في أبعاض الركعة ، لأنّها مشتملة على ذلك البعض والأبعاض الآخر ، فما يكون طريقا إلى الكلّ فهو طريق إلى جزء ذلك الكلّ بطريق أولى لأنّ مئونة طريقيّة الشي ء إلى الكلّ أزيد من مئونة الطريقية إلى الجزء.

وفيه : المنع أوّلا من الملازمة بين كون الشي ء طريقا إلى الكلّ مع كونه طريقا إلى جزئه مستقلا لا في ضمن الكلّ. نعم طريقيّة شي ء إلى الكلّ ووجوده ملازم مع كونه طريقا إلى وجود كلّ جزء في ضمن الكلّ ، لا إلى وجوده مستقلا ، فإنّه واضح البطلان.

وثانيا : على فرض كونه طريقا إلى وجود جزئه مستقلا فالأولويّة ممنوعة ولا وجه لها أصلا ، لأنّه من الممكن أن يكون في شي ء ملاك الطريقيّة إلى وجود مركّب ولا يكون فيه ملاك الطريقيّة إلى وجود بعض أجزائه وجودا مستقلا.

وبهذا يندفع ما توهّمه بعض من دلالة اللفظ الذي يدلّ على طريقيّة الظنّ في الركعة على طريقيّته إلى أجزائها بمفهوم الموافقة.

ومنها : أنّ الشك في الأوليين موجب للبطلان [ فإذا جعل الشارع الظن حجة فيهما فيكون حجة في الأجزاء بطريق أولى ] لأنّهما فرض اللّه ، فأهميّتهما صارت سببا لاعتبار العلم والحفظ والسلامة فيهما ، فإذا جعل الشارع الظنّ حجّة فيهما - كما هو المفروض - فيكون حجّة في الأجزاء - وخصوصا غير الركنية منها - بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذا صرف استحسان لا يصحّ أن يجعل مناط الحكم الشرعي ، والحجّية في الأجزاء يحتاج إلى دليل معتبر يدلّ عليه ، وتنقيح المناط القطعي لا يمكن ، والظني لا يفيد.

ص: 272

ومنها ، أنّ الصلاة عمل كثير الأجزاء والشرائط ، فلو لم يعتبر الشارع الظنّ فيها يلزم الحرج ، وهو ينافي الآية والمستفيض من الرواية من نفي جعل الأحكام الحرجيّة في الدين.

وفيه : أنّ أدلّة نفي الحرج لا شك في حكومتها على إطلاقات وعمومات الأوّليّة ويرفع الحكم الحرجي ، ولكن ليس من شأنها إثبات الحكم ووضعه ، كما أنّ الأمر في قاعدة نفي الضرر أيضا كذلك ، فإنّها تنفي الحكم الضروري ولا تثبت حكما يلزم من عدم جعله الضرر. وشرحنا هذه المسألة مفصّلا في شرح هاتين القاعدتين في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

نعم ربما يكون الحرج النوعي علّة لجعل الحكم كالتيمّم لمن لا يقدر على استعمال الماء لفقده أو لمرض وكالتقصير المسافر ، ولكن ذلك يحتاج إثباته على وجود دليل لمثل هذا الجعل ، وبصرف وجود حرج النوعي لا يمكن إثبات ذلك الحكم.

هذا ، مضافا إلى عدم تسليم الصغرى وأنّه يلزم الحرج من عدم اعتبار الظنّ في الأفعال ، وأيّ حرج يلزم مع وجود قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز من عدم حجّية الظنّ في أفعال الصلاة.

ومنها : أنّه لا يجتمع اعتبار الظنّ في الركعة مع عدم اعتباره في أجزائها ، ويلزم التناقض.

بيان ذلك : أنّ الركعة ليست إلاّ مجموع أجزائها ، وليست من المركّبات الحقيقيّة بحيث يحصل من اجتماع الأجزاء وامتزاجها صورة نوعيّة ووحدة حقيقية ، بل ليست الركعة إلاّ مجموع الأجزاء المترتّبة في الوجود ، فعدم اعتباره في هذه الأجزاء باعتبار الجزئيّة ، واعتباره فيها باعتبار كونها ركعة متناقضان.

وفيه : أنّه من الممكن أن يكون هذه الأجزاء بشرط الاجتماع على الترتيب المعيّن موضوعا لاعتبار الظنّ فيها ، وبشرط عدم اجتماع الجميع على ذلك الترتيب تكون

ص: 273

موضوعا لعدم الاعتبار ، فلم يتّحد الموضوعان ، فلا تناقض في البين.

ومنها : أنّه كيف يعتبر الظنّ في الركعة التي لا تسقط بحال ، ولا يعتبر في السورة التي تسقط بمجرّد الاستعجال لقضاء حاجة.

وفيه : أنّه ليس ملاك الاعتبار أهميّة المظنون حتّى يستدلّ على اعتباره بمثل هذه الاستحسانات التي تشبه القياس ، بل هو هو.

ومنها : أنّه لو فرضنا أنّ المصلّي شاكّ بين الاثنتين والثلاث ، وكان شاكّا في إتيان السجدة من الركعة المشكوكة ولكنّه ظانّ أنّه على تقدير الإتيان بتلك السجدة تكون الركعة المشكوكة هي الثالثة مثلا فظنّ بإتيان السجدة فيظن بأنّ الركعة المشكوكة هي الثالثة ، ولازم ذلك - أي عدم اعتبار الظنّ في الأفعال واعتباره في الركعات - هو الأخذ بظنّه في الركعة والبناء على أنّها ثالثة وعدم الأخذ بظنّه في الجزء ، فيبني على عدمه ويلزم أن يأتي بها.

وفيه : أنّه ليست أدري أيّ مانع في أن يأخذ بالظنّ في الركعات ويبني على الثلاث ولا يعتني بالظنّ في وجود السجدة ويأتي بها ، لأنّه شكّ في المحلّ وأيّ محذور يلزم من ذلك؟

وأمّا ما ذكره المستدلّ بهذا الوجه من أنّه يلزم في بعض موارد التفكيك بين اعتبار الظنّ في الركعات واعتباره في الأفعال بأن يقال بعدم اعتباره في الأفعال فساد الصلاة للعلم الإجمالي بزيادة الركن أو نقيصته.

ففيه : أنّه على فرض لزوم ذلك في بعض الموارد ليس هذا محذورا ، بل يعمل في ذلك المورد بمقتضى العلم الإجمالي ويعيد الصلاة.

ومنها : أنّ كلّ واحد من الإمام والمأموم يجب عليه متابعة الآخر في ظنّه في الأفعال ، فكيف يمكن أن يكون ظنّ شخص آخر حجّة عليه في فعله ، ولا يكون ظنّ نفسه في فعله حجّة.

ص: 274

وفيه : أنّه إن قلنا إنّ الظنّ أيضا حفظ وفي مورد ظنّ كلّ واحد منهما بالنسبة إلى الأفعال أيضا يجب على كلّ واحد منهما الرجوع إلى الآخر كموارد علم كلّ واحد منهما فالفارق هو النصّ ، إذا جاء الدليل - أي النصّ - هناك ، ولم يأت هاهنا دليل على اعتبار ظنّ نفسه في أفعال الصلاة.

نعم لو قلنا بأنّ اعتبار ظنّ كلّ واحد منهما في حقّ الآخر من جهة كونه سببا لحصول الظنّ لذلك الآخر ، فهذا يدلّ على حجّية ظنّ نفسه ابتداء ، لكن كون الاعتبار لأجل هذه الجهة ممنوع.

وخلاصة الكلام في هذا المقام : أنّ هذه الوجوه الكثيرة التي ذكروها لاعتبار الظنّ في أفعال الصلاة ، كلّ واحد منها في حدّ نفسه ليس إلاّ استحسانا ، ولا يمكن أن يكون مناطا للحكم الشرعي بالاعتبار.

نعم كما ذكرنا هذه الوجوه مؤيّدات ، فبضميمتها إلى إطلاق النبوي الذي تقدّم ذكره يحصل الاطمئنان وركون النفس باعتبار الظنّ في الأفعال.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 275

ص: 276

23 - قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر

اشارة

ص: 277

ص: 278

قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة أنّه « لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم » وكذلك بالعكس ، أي لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام. وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمران :

الأوّل : الروايات :

فمنها : مرسلة يونس عن الصادق علیه السلام المروية في الكافي والتهذيب عن يونس ، عن رجل ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام سألته عن الإمام يصلّي بأربعة أنفس أو خمسة ، فيسبّح اثنان على أنّهم صلّوا ثلاثة ، ويسبّح ثلاثة على أنّهم صلّوا أربعا ، ويقول هؤلاء : قوموا ، ويقول هؤلاء : اقعدوا والإمام مائل مع أحدهما أو معتدل الوهم ، فما يجب عليه؟ قال علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه باتفاق منهم ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام ، ولا سهو في سهو ، وليس في المغرب سهو ، ولا في الركعتين الأوليين من كلّ صلاة سهو ، ولا سهو في نافلة ، فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط ، الإعادة والأخذ بالجزم » (2).

ص: 279


1- (*) « القواعد » ص 241.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ولم يدر زاد أو نقص ... ، ح 5. « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 54 ، ح 187 ، باب أحكام الجماعة ... ، ح 99. وفيهما : « بإيقان منهم » بدل « باتّفاق منهم ».

وخبر حفص بن البختري في الصحيح أو الحسن عنه أيضا ، قال علیه السلام : « ليس على الإمام سهو ، ولا على من خلف الإمام ، ولا على السهو سهو ، ولا على الإعادة إعادة » (1).

وهاهنا أخبار كثيرة ذكرها في الوسائل (2) ، ولكن أغلبها يفيد معنى آخر غير ما نحن بصدده وإن ذكرها صاحب الوسائل في هذا الباب.

وفيما ذكرناه خصوصا مرسلة يونس غنى وكفاية ، فإنّها صريحة في أنّ المورد مورد شكّ الإمام إمّا متساوي الطرفين أو الإمام مائل إلى أحد الطرفين فأجاب الإمام علیه السلام بأنّه « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه باتفاق منهم » فهذه الجملة تدلّ على عدم الاعتبار والاعتناء بشكّ الإمام مع حفظ المأموم سهوه عليه ، فنزل علیه السلام حفظ المأموم سهو الإمام عليه منزلة حفظ نفس الإمام سهوه. والجملة الثانية - أي قوله علیه السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » تدلّ على أنّه لا اعتبار بشكّ المأموم مع حفظ الإمام سهوه عليه.

فالجملتان تدلاّن دلالة واضحة على طرفي هذه القاعدة ، أي : عدم الاعتناء بشكّ الإمام مع حفظ المأموم ، وعدم الاعتناء بشكّ المأموم مع حفظ الإمام. وحيث أنّ العمل بهذه الرواية متّفق عليه بين الأصحاب ، ولم يخالف أحد منهم فلا مجال للقول بأنّها مرسلة وضعيف السند.

الثانية : الإجماع ، فإنّه لم يخالف في هذا الحكم أحد من الأصحاب رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين. وقد تكرّر الإشكال في مثل هذه الإجماعات التي لها مدارك

ص: 280


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته ولم يدر زاد أو نقص ... ، ح 7. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1428 ، باب أحكام السهو ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 3.
2- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 - 341 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، : باب 24 : باب عدم وجوب شي ء بسهو الإمام مع حفظ المأموم.

معيّنة ، فلا نعيد.

وقد يقال بوجه آخر لاعتبار هذه القاعدة من الطرفين ، وهو أنّه يستفاد من مجموع أخبار هذا الباب أنّ صلاة الإمام مع صلاة المأموم كأنّهما صلاة واحدة وصادرة من شخص واحد ، وبعبارة أخرى : كان المصلّي واحد ، ولذلك تكون قراءة الإمام بدلا عن قراءة المأموم ، فكأنّه هو قرأ ، فبناء على هذا يكون حفظ أحدهما حفظ الآخر ، فيجب على كلّ واحد منهما آثار حفظ نفسه - وإن كان شاكّا - عند حفظ الآخر ، لما ذكرنا من أنّ حفظ كلّ واحد منهما يكون بمنزلة حفظ الآخر ، فيجب على كلّ واحد منهما إلغاء شكّ نفسه وعدم الاعتناء بشكّه إذا كان الآخر حافظا ، فيرتّب آثار الحفظ مع أنّه شاكّ ويلغى آثار الشكّ.

فلو شكّ أحدهما في الأوليين يلغى أثر الشكّ الذي هو البطلان ، ويراجع إلى حفظ الآخر فيبني على صحّة صلاته ، مع أنّه شكّ في الأوليين.

ولو شكّ في الأخيرتين يلغى أثر الشكّ ، وهو البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط منفصلة ومستقلّة ، بل يرجع إلى حفظ الآخر ويتمّ صلاته ولا شي ء عليه ، لما ذكرنا من أنّ حفظ الآخر يحسب حفظه ، فكأنّه ليس بشاكّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام وإن كان استحسانا حسنا ولكن صرف الاستحسان والظنّ بالملاك لا يمكن أن يكون مدركا للحكم الشرعي ، ويحتاج إلي ورود دليل على ذلك وأنّ حفظ كلّ واحد منهما يحسب حفظا للآخر. نعم هذا الحكم في الجملة مورد الاتّفاق وظاهر الروايات المعتبرة التي ذكرنا بعضها.

[ الجهة ] الثانية : في مفادها وتوضيح المراد منها

وهو يتوقف على ذكر أمور :

ص: 281

الأوّل : في أنّه هل يعتبر في رجوع الإمام إلى المأموم أن يكون المأموم عادلا ، أو يجب الرجوع إليه وإلغاء شكّه إن كان حافظا وان لم يكن عادلا؟

وكذلك يعتبر في الرجوع إليه في شكّه مع حفظه أن يكون رجلا ، أو يجب وإن كان امرأة؟

وكذلك يعتبر في الرجوع إليه أن يكون بالغا ، أو يجب الرجوع إليه وإن كان صبيّا؟

وحيث أنّ العمدة في دليل هذه القاعدة ، الأخبار الواردة في هذا الباب فلا بدّ من ملاحظتها أنّه هل لها إطلاق يشمل الشقوق المذكورة الثلاثة ، أي كون المأموم فاسقا أو امرأة أو صبيا ، أم لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجميع ، أولها إطلاق بالنسبة إلى بعضها دون بعض؟

فنقول : لا شك في أنّ قوله علیه السلام في مرسلة يونس : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه » له إطلاق في حدّ نفسه يشمل الأقسام الثلاث ، أي الفاسق والصبي والامرأة ، لأنّ عنوان « من خلفه » عنوان عامّ ينطبق على الأصناف الثلاث نحو انطباقه على ما يقابل هذه الأصناف.

فشمول « من خلفه » للعادل وغير العادل ، وللبالغ وغير البالغ إذا كان مميّزا خصوصا إذا قلنا بشرعيّة عباداته ، وللرجل والامرأة على نسق واحد ، ولا طريق لإنكار الإطلاق إلاّ دعوى الانصراف - في الموصول في من خلفه - إلى غير هذه الأصناف الثلاثة. وهو كما ترى ، خصوصا الانصراف إلى المأموم العادل ، مع أنّ الغلبة في المأمومين في أغلب الأعصار والأمصار لغير العدول.

وأمّا ادعاء أنّ اشتراط كونهم عدول في رجوع الإمام إليهم لأجل حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم - وغير العادل لا يحصل الوثوق من قوله - ففيه : أنّ الرجوع إلى المأمومين ليس من باب الشهادة ، ولا من باب حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم ، ولذلك لو كانوا عدولا وكانوا حافظين على الإمام سهوه يجب الرجوع إليهم ولو لم

ص: 282

يحصل الوثوق والاطمئنان من قولهم ، بل ولو لم يحصل الظنّ من قولهم ، كما سيجي ء ونتكلّم فيه إن شاء اللّه ، بل حكم تعبّدي يمكن أن يكون حكمته ما تقدّم من أنّ صلاتهما كأنّهما صدرت من شخص واحد ، ولذلك قراءة الإمام تكون بدلا عن قراءته ، فمن هذه الجهة جعل حفظ أحدهما بمنزلة حفظ الآخر ولو لم يحصل له ظنّ ، فضلا عن الوثوق والاطمئنان.

والحاصل ، أنّ ادّعاء الانصراف إلى العدول ، أو كون مناط اشتراط كونهم عدولا في الرجوع إليهم حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم بعيد عن الصواب.

وأمّا الانصراف إلى البالغين وعدم شمول الموصول في « من خلفه » لغير البالغين ، فإن قلنا بعدم شرعيّة عبادات الصبي وان كان مميّزا عاقلا كاملا بل كان مجتهدا فهو كلام حقّ لا محيص عنه ، لعدم كون صلاته صلاة حقيقيّة ، بل هو صرف صورة الصلاة لأجل التمرين ، فليس بمأموم حقيقة حتّى يرجع الإمام إليه.

نعم لو كان المناط حصول الوثوق ، ربما يحصل الوثوق من قول بعض الصبيان أكثر ، ولكن عرفت أنّه ليس بمناط ، فادّعاء الانصراف عن غير البالغين - خصوصا إذا كان أقلّ من زمان البلوغ بمدة قليلة ، مثل ساعة بل ومثل يوم - فلا شاهد له إنصافا.

وأمّا الانصراف عن المرأة فالظاهر أنّه لا وجه له إلاّ غلبة الوجود ، بمعنى أنّ المأمومين غالبا هم الرجال ، والنساء قليلون.

وهو كما ترى ، لأنّ غلبة الوجود ليس موجبا للانصراف ، كما حقّق في محلّه.

فالحقّ شمول القاعدة للمأموم مطلقا ، عادلا كان أم غير عادل ، رجلا كان أو امرأة ، صبيان كان أو بالغا ، فالمراد ب- « من خلفه » أعمّ من جميع ذلك.

الثاني : أنّه ما المراد من السهو في قوله علیه السلام : « لا سهو للإمام » أو قوله : « لا سهو للمأموم » المستفاد من روايات الباب.

فنقول : الظاهر من قوله علیه السلام « ليس على الإمام سهو إذا حفظ من خلفه عليه

ص: 283

سهوه » في مرسلة يونس ، المراد به الشكّ يقينا ، لأنّ الراوي سأل عن الإمام المعتدل الوهم بالنسبة إلى مقالة كلتا الطائفتين من المأمومين ، حيث أنّ طائفة منهم يقولون : قوموا ، أي يدّعون أنّ ما بيدهم هي الركعة الثالثة ولذلك يقولون : قوموا ، والطائفة الأخرى يقولون : أقعدوا ، أي يدّعون أنّ ما بيدهم هي الرابعة ، والإمام إمّا مائل إلى إحدى الطائفتين ، أو معتدل الوهم. ومعلوم أنّ هذا فرض شكّ الإمام لا فرض نسيانه ، هذا أولا.

وثانيا : أنّه لو كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعمّ منه ومن الشكّ ، فيكون مفاد « لا سهو » أي لا حكم لسهوه ، أي إذا نسي جزء أو شرطا ، ركنا كان أو غيره فتذكر في المحلّ فلا يجب عليه أن يأتي به ، أو إذا كان له القضاء فلا يجب قضائه ، أو إذا كان موجبا لسجدتي السهو فلا يجب على الإمام ، وهكذا سائر أحكام النسيان ، وهذه الأمور ممّا لا يمكن الالتزام بها.

هذا مضافا إلى أنّ تعليق رفع حكم النسيان على حفظ المأمومين عليه نسيانه لا بدّ وأن يكون المراد منه أنّ الناسي يرجع إلى حفظ المأمومين ، كما أنّه لو كان المراد من السهو هو الشكّ معناه أنّه لا يعتني بشكّه بأن يعمل بحكم الشاكّ ويبني على الأكثر ، بل يرجع إلى حفظ المأمومين ويعمل على طبق حفظ المأمومين ، سواء كانوا قاطعين أو ظانّين ، على تقدير صدق الحفظ على الظنّ.

فلو كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعمّ من الشكّ والنسيان ، فمعنى التعليق على حفظ المأمومين أنّه يرجع فيما نسيه إلى حفظهم.

وهذا بالنسبة إلى الناسي غير معقول ، لأنّ الناسي لا يلتفت إلى نسيانه بخلاف الشاكّ فإنّه يلتفت إلى كونه شاكّا فيبني على حفظ المأمومين ، أي على ما اعتقدوا من عدد الركعات.

وخلاصة الكلام : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ المراد من السهو في هذه القاعدة هو

ص: 284

الشكّ ، فتكون هذه القاعدة حاكمة على أدلّة البناء على الأكثر في الشكوك الصحيحة ، أي يخرج شكّ الإمام مع حفظ المأموم ، أو شكّ المأموم مع حفظ الإمام عن موضوع البناء على الأكثر تعبّدا ، فيجب البناء من كلّ واحد من الإمام والمأموم على حفظ الآخر ، سواء كان المحفوظ طرف الأقلّ من شكّه أو طرف الأكثر.

الثالث : أنّ المراد بالحفظ هل هو خصوص اليقين أو يشمل الظنّ أيضا؟ فلو شكّ الإمام أو المأموم في عدد الركعات ، وظنّ الآخر قدرا معيّنا كالثلاث أو الأربع مثلا فيجب رجوع الشاكّ منهما إلى الآخر الظانّ ، لا يبعد أن يكون المراد منه ما هو الأعمّ من اليقين والظنّ ، وذلك من جهة حجّية الظنّ في عدد الركعات إذا كان متعلّقا بإحدى الأخيرتين ، فإذا كان فالظنّ يقوم مقام العلم في إثبات متعلّقه ، فيخرج في عالم الإثبات عن الترديد ويثبت عنده ما تعلّق به الظنّ من العدد ، وهذا هو الحفظ ، لأنّ المراد من الحفظ بالنسبة إلى عدد الركعات هو أن يكون العدد محفوظا عنده ، لا يحتمل أن يكون أقلّ منه ولا أكثر منه.

وهذا المعنى في العلم وجداني وتكويني ، وفي الظنّ تعبّدي وجعلي ، فهو - أي الظنّ - أيضا مصداق للحفظ تعبّدا ، فبناء على هذا فلو شكّ الإمام أو المأموم في أنّه كم صلّى يجب أن يرجع إلى ظنّ الآخر.

الرابع : في أنّه هل هذه القاعدة تجري في الشكّ في الأفعال ، أو مخصوصة بالشكّ في عدد الركعات؟

قال في الجواهر : ويظهر من صاحب المدارك بل هو المنقول عن جدّه أيضا ، بل ربما تبعه عليه بعض من تأخّر عنه أنه لا فرق في الحكم بين الأفعال والركعات. بل نسبه في المدارك إلى الأصحاب ، وهو لا يخلو من تأمّل ، للشكّ في شمول الأدلة لها انتهى (1).

ومراده قدس سرّه من الأدلة الإجماع والأخبار الواردة في هذا الباب.

ص: 285


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 411.

أمّا الإجماع على تقدير صحّة الاستدلال به والإغماض عمّا استشكلنا عليه فغير معلوم التحقّق في الشكّ في الأفعال ، والقدر المتيقّن على تقدير وجوده هو في الشكّ في الركعات.

وأمّا الأخبار فعمدة الدليل منها على هذه القاعدة هو مرسلة يونس ، وصحيحة عليّ بن جعفر ، ومورد كليهما خصوص مورد الشكّ في عدد الركعات ، لا الشكّ في الأفعال.

إن قلت : إنّ الجواب في المرسلة الذي هو مدرك استفادة هذا الحكم عامّ يشمل الركعات والأفعال ، لأنّ قوله علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه » وكذلك في طرف المأموم قوله علیه السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » (1) لم يذكر متعلّق السهو أنّه خصوص الركعات أو الأعمّ منها ومن الأفعال ، فلفظ السهو مطلق ، سواء أكان متعلّقه الركعات أو الأفعال.

فمعنى رفع السهو - أي الشكّ - بناء على ما تقدّم من معناه ، هو رفع الحكم المترتّب شرعا على الشكّ ، والحكم المترتّب شرعا على الشكّ إن كان متعلّق الشك هو الركعات هو البناء على الأكثر ، إن كان الشكّ من الشكوك الصحيحة والخمسة المعروفة.

فحفظ كلّ واحد منهما موجب لرفع وجوب البناء على الأكثر عن شك الآخر إذا كان شكّه متعلّقا بعدد الركعات. والحكم المترتّب شرعا على الشك في وجود جزء أو شرط إذا كان الشكّ في المحلّ إتيان ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، فحفظ كلّ واحد منهما يرفع هذا الأثر عن شكّ الآخر ، فلا يجب الإتيان به ، ولو كان الشكّ في المحلّ فلا قصور في دلالة المرسلة على العموم وشمولها للشكّ في الأفعال أيضا.

ص: 286


1- تقدّم تخريجه في ص 279 ، رقم (1).

نعم لا يستفاد العموم من صحيحة علي بن جعفر (1) ، لأنّ السائل سأل عن مورد خاصّ وأنّه هل هناك في مفروضه أثر لشكّه؟ فأجابه علیه السلام بقوله : « لا » فلا عموم في البين.

قلنا : إنّ ما ذكرت صحيح ، ولكن وحدة السياق قرينة على الأخذ بخصوصيّة المورد ، وموجبة لعدم ظهوره في الإطلاق ، لأنّ قوله علیه السلام بعد هذه الجملة : « لا سهو في سهو ، وليس في المغرب سهو ، ولا في الركعتين الأوليين من كلّ صلاة سهو ، ولا سهو في نافلة » كلّها راجع إلى نفي حكم الشكّ في عدد الركعات ، أي صلاة الاحتياط ولا ربط لها بحكم الشكّ في الأفعال أي الإتيان بالجزء أو بالشرط الذين شكّ في إتيانهما ، فليس دليل على رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما في الأفعال.

وهذا ، أي عدم الدليل على رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما في الأفعال هي العمدة في اختصاص الرجوع بالشكّ في الركعات ، لأنّه لا يصحّ الرجوع إلى شخص آخر ورفع حكم الشكّ عن نفسه مع شمول عموم ما دلّ على لزوم إتيان ما شكّ في وجوده إذا كان شكّه لم يتجاوز المحلّ ، إلا بدليل يكون حاكما على تلك القاعدة أو مخصّصا ، فلو لم يكن دليل في البين لا بدّ من الأخذ بذلك العموم.

وأمّا ما ربما يقال من الفرق بين الركعات والأفعال بأنّ رجوع الشاكّ إلى الحافظ في الأوّل موافق مع الاعتبار ، دون الثاني ، وذلك من جهة اتّحاد الركعة بين الإمام والمأموم لأنّ الركعة التي هي للإمام هي بعينها ركعة المأموم ، وكذلك العكس ، فحفظ أحدهما لركعته حفظ للآخر ، لأنّ هذه الركعة كما تكون له كذلك تكون للآخر.

وبعبارة أخرى : هذه الركعة التي بيد الإمام وبيد المأموم المقتدي بذلك الإمام يحسب ركعة لكل منهما ، فهذه الركعة يصحّ أن ينسب إلى كلّ واحد منهما ، فحفظ كلّ

ص: 287


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 350 ، ح 1453 ، باب أحكام السهو ، ح 41 ، وج 3 ، ص 279 ، ح 818 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 138. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 1.

واحد منهما لها يكون حفظا للآخر ، وهذا بخلاف الأفعال ، فإنّه بناء على عدم لزوم المتابعة في الأقوال والأفعال مع بقاء الاقتداء والجماعة فيمكن أن تكون السجدة الأولى لأحدهما والثانية للآخر.

وفيه : أنّ المراد بوحدة الركعة التي يقتدي فيها المأموم مع الركعة التي يوجدها الإمام إن كان أنّ ما يصدر من الإمام واحد مع ما يصدر من المأموم بصرف أنّه يتبعه في القيام والركوع فهذا واضح البطلان.

وإن كان المراد وحدتهما من حيث مرتبة العدد مثلا ثالثة الإمام وثالثة المأموم ، فهذا قد يكون وقد لا يكون ، لأنّه قد يكون ثالثة الإمام أو رابعته والثانية أو الأولى من المأموم ، كما أنّه لو اقتدى به والإمام في الثالثة ، فيكون الأولى للمأموم والثالثة للإمام ، وما بعدها الرابعة للإمام والثانية للمأموم ، فلا يمكن التفرقة بين الركعات والأفعال من هذه الجهة والقول بالرجوع في الأوّل دون الثاني.

كما أنّه لا وجه للاستدلال للعموم وشمول الأفعال كالركعات بوحدة الملاك والمناط فيهما بأن يقال : مناط الرجوع في الركعات هو محفوظيّة الركعات عند الآخر فكأنّه حفظ الآخر علّة لرجوع الشاك منهما إليه ، والعبرة بعموم العلة لا بسعة الموضوع وضيقه.

لأنّ هذا الكلام صحيح فيما إذا كان الكبرى المجعول والملقى إلى المكلّف هي العلّة ، وإنّما يلقى إليه الأعمّ أو الأخصّ من العلّة لنكتة ، إمّا لأهميّة ذلك الفرد أو الصنف الملقى ، أو لخفاء مصداقيّته للعلّة ، أو لنكتة أخرى ، فقوله : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » ففي الحقيقة الكبرى الملقى إلى الطرف لا تشرب المسكر ، وهذا في مقام الإثبات لا بدّ وأن يكون إمّا منصوص العلّة بقوله « لأنّه » أو قوله « فإنّه » ، أو كان تنقيح المناط قطعيا الذي يقال له المستنبط العلّة ، وفيما نحن فيه ليس إلاّ صرف استحسان.

وبعبارة أخرى : يكون من باب تخريج المناط الظنّي ، فيكون حاله حال القياس ،

ص: 288

بل هو هو. فلا طريق إلى إثبات العموم والشمول للأفعال مثل الركعات إلاّ إطلاق الأدلّة - أي الروايات - أو إطلاق معقد الإجماع ، وقد عرفت أنّ كليهما مفقودان.

الخامس : في أنّه هل تجري هذه القاعدة في الركعتين الأوليين ، أم مختصّة بالأخيرتين؟

الظاهر جريانها فيهما أيضا كالأخيرتين ، ولا وجه للمنع إلاّ ما ربما يتخيل من لزوم سلامتهما وأنهما لو سلمتا سلمت الصلاة وأنّ الشكّ فيهما يوجب البطلان.

ولكن أنت خبير بأنّه بعد حكم الشارع برجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما فيكون حفظه حفظا للشاكّ ، وبعبارة أخرى : يكون حاكما على الأدلّة التي تعتبر سلامتهما وأنّ الشكّ فيهما يوجب البطلان.

وأمّا الدليل على جريانها في الأوليين فهي الإطلاقات ، فإنّ قوله علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » فيه إطلاق بالنسبة إلى الشكّ في الأوليين والأخيرتين.

ولا فرق بينهما في كون الشكّ من الإمام أو المأموم مرفوع حكمه عن كلّ واحد منهما مع حفظ الآخر ، غاية الأمر أنّ الحكم المرفوع في الركعتين الأخيرتين هو البناء على الأكثر ، وفي الأوليين هو بطلان الصلاة وفي كلتا الصورتين يبني الشاكّ منهما على ما حفظه الآخر.

السادس : هل يعتبر في رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما حصول الظنّ للشاكّ بما أخبر به الآخر الحافظ ، أو يجب الرجوع إليه سواء حصل له الظنّ أم لا ، بل بقي بعد الرجوع أيضا على شكّه؟

الظاهر ، بل المسلم عدم اعتبار حصول الظنّ من قوله ، لأنّ موضوع وجوب الرجوع هو كونه شاكّا وكان هو الآخر حافظا ، ولم يعتبر الشارع شيئا آخر في موضوع حكمه.

ص: 289

هذا ، مضافا إلى أنّه لو حصل له الظنّ وارتفع شكّه فنفس الظنّ بعدد الركعات حجّة ، وليس من باب رجوع الشاكّ إلى من هو حافظ للعدد.

وحاصل الكلام : أنّ أخبار الباب مطلقات من هذه الجهة مفادها وجوب رجوع الشاكّ منهما إلى الآخر الذي هو حافظ للعدد ، سواء حصل له من رجوعه إليه الظنّ أم لا.

السابع : هل إذا كان أحدهما ظانّا والآخر متيقنا يجب رجوع الظانّ إلى المتيقن كرجوع الشاك إليه ، أم لا؟

الظاهر عدم جواز الرجوع ، لأنّ الظانّ هو بنفسه حافظ بواسطة حجية الظنّ في عدد الركعات ، فرجوعه إلى غيره وإن كان ذلك الغير متيقنا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة حاكمة على قاعدة البناء على الأكثر ، فجريانها يكون في مورد لو لم تكن هذه القاعدة تكون وظيفته البناء على الأكثر.

وهاهنا ليس الأمر كذلك ، لأنّ ظنّه حجّة ، ولو لم تكن هذه القاعدة لم تكن وظيفته البناء على الأكثر ، بل كان يجب أن يعمل بظنّه.

وأمّا احتمال أن يكون الحفظ منصرفا إلى الحفظ القطعي لا الظني مضافا إلى أنّ هذا الادعاء باطل - لما تقدم في الأمر الثالث - لا ربط لها بالمقام ، لأنّ هذا الكلام على فرض صحته تكون نتيجته عدم جواز الرجوع إلى الظانّ ، لا وجوب رجوع الظانّ إلى المتيقن الذي هو المدعى في المقام.

الثامن : لو كان كلّ واحد من الإمام والمأموم شاكا وقامت البينة على التعيين عند أحدهما فهل يجب عليه البناء على ما قامت عليه البينة أم لا؟ ثمَّ على تقدير وجوب بنائه على طبق البينة ، فهل يجب على الآخر الشاكّ الرجوع إلى من قامت عنده البينة أم لا؟

ص: 290

أقول : أمّا الأوّل - أي وجوب البناء على طبق البينة بالنسبة إلى من قامت البينة عنده - فممّا لا إشكال فيه أصلا ، وذلك لأنّ دليل اعتبار البينة يخرجه عن كونه شاكّا تعبدا ، ويجعله عالما وحافظا.

وهذا معنى حكومة البينة على الأدلّة المتكفلة لبيان أحكام الشاكّ ، فالشاكّ بعد قيام البينة عنده على تعيين عدد ليس بشاكّ في عالم التشريع ، بل يكون عالما وحافظا للعدد ، فيجب البناء على ما علم بتوسط قيام البينة.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه يجب على الآخر الشاكّ الرجوع إليه ، لأنّه بواسطة قيام البينة عنده صار حافظا ، والمفروض أنّ مفاد الأدلة هو رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما.

التاسع : أنّه بعد الفراغ عن حجية الظنّ في عدد الركعات إذا قامت بينة عند الظانّ منهما على خلاف ظنّه ، هل له أن يعمل على طبق البينة ويترك العمل على طبق ظنّه ، أو لا يجوز ، بل يجب عليه العمل على طبق ظنّه ، أو لا هذا ولا ذاك؟ لأنّه من باب تعارض الأمارتين ، كما أنّه إذا قامت عنده بينتان مختلفتان ، إحديهما تقول إنّ ما بيدك هي الثالثة ، والأخرى تقول بأنّها رابعة فيتساقطان ، وحينئذ إمّا يرجع إلى أمارة أخرى إن كانت ، وإلاّ يعمل عمل الشاكّ فيبني على الأكثر؟ وجوه واحتمالات.

ولكن الظاهر منها هو التساقط ، لأنّه حصل عنده أمارتان متعارضتان كان يجب عليه العمل على طبق كلّ واحد منهما لو لا التعارض ، فيتساقطان بعد عدم إمكان الجمع بينهما وعدم جواز الترجيح بلا مرجح ، فالنتيجة أنّه يبقى على شكّه فيعمل عمل الشاك.

هذا فيما إذا كان الذي هو ظانّ تقوم أمارة عنده على خلاف ظنّه.

وأمّا لو كان أحدهما ظانّا والآخر قامت عنده بينة على خلاف ما ظنّه صاحبه ، فليس لكلّ واحد منهما أن يرجع إلى الآخر ، بل كلّ واحد يعمل على طبق الأمارة التي عنده ، لأنّه بناء على هذا كلاهما حافظان ، فلا معنى لوجوب الرجوع إلى الحافظ ،

ص: 291

فيكون حالهما كما إذا قطع كلّ واحد منهما على خلاف الآخر فيعمل كلّ واحد منهما بقطعه.

العاشر : لا شك في وجوب رجوع الإمام إلى المأمومين إن كانوا متفقين في الحفظ ، بمعنى أنّ كلهم متفقون على أن ما بيدهم هي الركعة الثالثة أو الرابعة مثلا ، سواء كان منشأ اتفاقهم هو القطع ، أو الظنّ ، أو البينة.

وأمّا إذا كانوا مختلفين ، فإن كان بعضهم شاكّا وبعضهم الآخر قاطعا فلا شبهة في وجوب رجوعه إلى القاطعين ، لأنّهم الحافظون ، وأمّا الشاكون فحالهم مثل حاله ، لا حفظ لهم.

وما في ذيل مرسلة يونس من قوله علیه السلام « فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم » (1) ليس المراد من الاختلاف هذا المعنى ، بل المراد اختلافهم في الحفظ ، بمعنى أنّ طائفة منهم قاطعون أو ظانون - بناء على أنّ الظنّ أيضا حفظ - على أنّ الركعة التي بيدهم مثلا هي الثالثة ، وطائفة أخرى قاطعون أو ظانون بأنّ ما في يدهم مثلا هي الرابعة ، وإن كانوا كلهم حافظين ولكنهم مختلفون في الحفظ ، فهل له الرجوع إلى إحدى الطائفتين مخيرا ، أو ليس له الرجوع إليهم أصلا؟

أمّا الرجوع إلى إحديهما معينا ، أي خصوص الطائفة التي يعتقد بالأقلّ ، أو خصوص الطائفة التي يعتقد بالأكثر فواضح البطلان لأنّه ترجيح بلا مرجح.

الظاهر هو الثاني ، أمّا أوّلا : فلأنهم إذا كانوا مختلفين في الحفظ فكلّ طائفة كما أنّه يثبت ما اعتقده تنفي ما اعتقده الأخرى ، فبدلالة المطابقة إخباره بكون ما بيدهم مثلا هي الثالثة يثبت كونه ثالثة ، وبدلالة الالتزام ينفي قول الطائفة الأخرى ، فكلّ واحدة من الطائفتين لو كان حفظه وإخباره حجّة ، فتحصل عند الإمام حجّة على نفي الثالثة

ص: 292


1- تقدم تخريجه في ص 279 ، رقم (1).

من قول طائفة ، وحجّة أخرى على نفي الرابعة من طائفة أخرى ، والواقع لا يخلو من أحدهما فيتكاذبان في النفي والإثبات فيتساقطان.

وأمّا ثانيا : فلما في مرسلة يونس من تقييد الرجوع إليهم بكونهم متفقين في الحفظ ، ومع اختلافهم فعلى الإمام وعلى المأمومين في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم حيث يقول علیه السلام فيها : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه باتفاق منهم ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام - إلى أن يقول علیه السلام - فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم » (1).

فإنّ هذه الرواية صريحة بأنّ رجوع الإمام إلى المأمومين الحافظين على الإمام مقيد بصورة اتفاقهم في الحفظ ، أي فيما قطعوا أو فيما ظنوا - بناء على أن الظن أيضا هو حفظ ، وهو كذلك كما تقدم - وأما إذا اختلفوا فليس رجوع في البين ، بل على الإمام والمأمومين جميعا غير القاطعين الإعادة من باب الاحتياط وأخذا بالجزم أي الامتثال اليقيني.

ثمَّ إنه بعد ما ظهر مما تقدم أن المأمومين لو كان بعضهم متيقنين والآخرون شاكون فالإمام يرجع إلى المتيقنين منهم ، فهل بعد رجوع الإمام إليهم وأن صار حافظا بحفظهم فالشاكون عليهم الرجوع إلى الامام ، لأنه صار حافظا بواسطة رجوعه إلى الحافظين منهم - أي المتيقنين منهم - أو يجب على الشاكين الرجوع إلى نفس المتيقنين ، أو لا هذا ولا ذاك؟ احتمالات :

أما الوجه الأول : أي الرجوع إلى الإمام ، فلأن مفاد الروايات كما تقدم رجوع المأموم الشاك إلى الإمام الحافظ للعدد فقد يقال : إن الإمام في المفروض وإن كان شاكا من قبل نفسه فهو مثل المأموم الشاك ، فكيف يرجع المأموم الشاك إليه ، ولكن بعد رجوعه إلى تلك الطائفة المتيقنين من المأمومين يصير حافظا بواسطة الرجوع

ص: 293


1- تقدم تخريجه في ص 279 ، رقم (1).

إليهم ، فيوجد موضوع رجوع المأموم الشاك إلى الإمام الحافظ.

ولكن أنت خبير بأن ظاهر المرسلة هو نفي الشك عن المأموم إذا لم يسه الإمام ، لقوله علیه السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الامام » وهاهنا المفروض أن الإمام أيضا سهى مثل المأموم. اللّهم إلا أن يقال : إن الشارع بعد أن حكم برجوعه إلى المتيقنين من المأمومين فكأنه ألغى سهوه ، وجعله في عالم التشريع غير شاك وحافظا ، فتحقق موضوع الرجوع إليه.

وأما الوجه الثاني : أي رجوع المأمومين الشاكين إلى الطائفة الأخرى الذين هم متيقنون هو أن مناط الرجوع كون ذلك الشخص منهم الذي يرجع إليه حافظا مع اشتراكه مع الشاك في الركعة التي بيدهما ، ولا خصوصية لكون من يرجع إليه المأموم هو الإمام ، فإذا كان مناط الرجوع هو الذي ذكرنا فهو موجود في المأمومين المتيقنين ، فيجب رجوع الشاكين منهم إليهم.

وفيه : أنه بعد ما كان المصلي شاكا في عدد ركعات صلاته وقد جعل الشارع له حكما وهو البناء على الأكثر وتدارك ما يحتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، فرفع اليد عن هذا الحكم وصرف النظر عنه لا بد وأن يكون بدليل حاكم عليه ، أو مخصص له.

والدليل الحاكم هاهنا عبارة عن هذه الروايات التي عرفت أن مفادها رفع السهو والشك عن الإمام مع حفظ المأموم ، وعن المأموم مع حفظ الإمام ، وليس هاهنا دليل يكون مفاده رفع الشك عن المأموم مع حفظ المأموم الآخر.

وبعبارة أخرى : رجوع المأموم إلى المأموم لا دليل عليه وإن كان أحدهما شاكا والآخر متيقنا.

وأما وجه احتمال الثالث : هو عدم الدليل على رجوع المأموم الشاك إلى المأموم الآخر ، وأيضا عدم الدليل على رجوعه إلى الإمام الذي هو في حد نفسه شاك ، ويجب عليه الرجوع إلى الغير ، فلا يجوز له الرجوع لا إلى الإمام ولا إلى المأمومين المتيقنين.

ص: 294

والأوفق بالقواعد هو الاحتمال الثالث ، لأن الدليل على رجوع كل واحد من الامام والمأموم إلى الآخر هذه الروايات ، لأن الإجماع أيضا كما بينا بالأخرة ينتهي إلى هذه الروايات ، وهي لا تدل إلا على رجوع المأموم الشاك إلى الإمام ، لا إلى المأموم الآخر المتيقن ، ولا إلى الإمام الشاك ولو بعد رجوعه إلى المتيقنين من المأمومين كما شرحنا.

ولكن مع ذلك كله ، الاحتمال الأول لا يخلو عن قوة ، لأنه بعد رجوع الإمام الشاك إلى المأموم المتيقن الحافظ لعدد الركعات ، وحكم الشارع بأنه صار بمنزلة المتيقن وألغى شكه فموضوع الرجوع إليه يوجد بحكم الشارع.

وأما الاحتمال الثاني - أي رجوع المأموم الشاك إلى المأموم المتيقن - فخارج عن مدلول هذه الروايات قطعا ، لأن مدلولها رجوع الإمام إلى المأموم ورجوع المأموم إلى الإمام ، لكن في صورة كون الذي يرجع إليه إماما كان ، أو مأموما ، حافظا لعدد الركعات ، وأما رجوع المأموم إلى المأموم فلا أثر له في هذه الأخبار.

وليس هاهنا دليل آخر يدل على رجوع المأموم إلى المأموم ، وما ذكرنا في وجه هذا الاحتمال ليس إلا استحسانا شبيها بالقياس.

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما إذا قامت بينة على تعيين الركعات عند بعض المأمومين دون بعضهم الآخر ، وأيضا قامت بينة عند الإمام ، فهل المأموم الشاك الذي لم تقم عنده بينة يرجع إلى الإمام لأنه صار حافظا بواسطة قيام البينة ، أو يرجع إلى المأموم الذي قامت عنده لأنه أيضا صار حافظا بواسطة قيام البينة ، أو لا إلى هذا ولا إلى ذاك؟

وقد عرفت أن رجوع المأموم إلى المأموم لا دليل عليه إلا ما هو من قبيل الاستحسان الذي هو شبيه بالقياس.

وأما احتمال الرجوع إلى الإمام في هذا الفرض أقوى من الفرض السابق ، لأن الإمام بواسطة قيام البينة عنده يصير حافظا واقعا ، لأن البينة من الأمارات وتقوم

ص: 295

مقام العلم ، ويجوز أن يشهد على طبق مؤداها وأن يحلف على طبق مؤداها ، مع أن الشهادة لا تجوز إلا عن علم ، والحلف أيضا هكذا لا بد وأن يكون عن بت.

فالإمام في هذا الفرض يصير حافظا بواسطة قيام البينة بلا كلام ، وموضوع الرجوع إلى الإمام هو أن يكون المأموم شاكا والإمام حافظا ، والمفروض حصول كلا الأمرين ، لأن المأموم شاك على الفرض والإمام في حكم العالم بواسطة قيام البينة.

نعم لو قلنا بأن يقين المأموم بالعدد أمارة للإمام على العدد فتصير الصورة المتقدمة أيضا مثل هذه الصورة.

الحادي عشر : فيما إذا كان واحد منهما - أي الإمام والمأموم - شاكا من دون أن يكون الآخر حافظا ، فإن كان الإمام وجميع المأمومين متفقين في الشك مثلا يكون شك كلهم بين الثلاث والأربع ، فجميعهم يعملون عمل الشك ، أي يبنون على الأكثر أي الأربع ويتممون الصلاة جماعة بمعنى أن الجماعة والاقتداء يبقى ولا يبطل لعدم اختلاف بينهما.

نعم بعد أن أتموا الصلاة وسلموا ووصلت النوبة إلى صلاة الاحتياط هل يأتون بها أيضا جماعة أو فرادى؟ فهي مسألة أخرى لا نتكلم عنها الآن ، وعلى كل تقدير لا رجوع في هذه الصورة لأحدهما إلى الآخر كما هو واضح.

وأما إن كانوا مختلفين ، مثلا كان شك الإمام بين الاثنتين والثلاث وكان شك المأمومين بين الثلاث والأربع.

والاختلاف على قسمين : تارة : تكون بينهما رابطة ، وأخرى : لا تكون.

فالأول : أي ما كان بينهما رابطة أي قدر مشترك في البين أي الأكثر في أحد الشكين يكون من مراتب الأقل في الشك الآخر ، مثل أن يشك الإمام مثلا بين الثلاث والأربع ، والمأموم بين الأربع والخمس ، فالمأموم قاطع بوجود الأربع ولكن يحتمل الزيادة.

ص: 296

والإمام شاك في وجود الأربع فيرجع في ذلك إلى المأموم ، والإمام قاطع بعدم الخمسة والمأموم شاك فيه ، فيرجع إلى الإمام فيبني على عدمه. والنتيجة أن كلاهما بعد رجوع كل واحد منهما فيما شك إلى ما تيقن به الآخر ، يبنون على الأربع ويتمون الصلاة جماعة ولا شي ء عليهما ، لا حكم شك الإمام وهو صلاة الاحتياط ، ولا حكم شك المأموم وهو سجدتا السهو إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين.

وأما الثاني : أي ما لم يكن بينهما رابطة أي قدر مشترك ، مثل أن يشك الإمام مثلا بين الاثنتين والثلاث ، والمأموم بين الأربع والخمس ، فكل واحد منهما قاطع ببطلان شك الآخر وعدم مطابقته للواقع في طرفي شكه ، ففي هذه الصورة حيث أن الشكين لا رابطة بينهما ، أي ليس قدر مشترك بينهما ، بل كل واحد منهما أجنبي عن الآخر ، فكل واحد منهما يرتب حكم الشك على شكه ، فالإمام في المثل المفروض يبني على الثلاث إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين ، وإلا فصلاته باطلة ، والمأموم يبني على الأربع ويسجد سجدتي السهو إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين ، وقهرا ينفردان فالإمام يرتب حكم شكه في صلاة منفردا ، والمأموم أيضا كذلك.

ثمَّ إن الانفراد وترتيب كل واحد منهما حكم الشك على شكه في هذا القسم من المختلفين - أي ما لا رابطة بينهما ، بمعنى عدم قدر مشترك في البين - مسلم لا كلام فيه ، إنما الكلام في القسم الأول - أي ما كان بينهما رابطة وقدر مشترك في البين - وأنه هل يرجع كل واحد منهما إلى ما تيقن به الآخر كما ذكرنا في المثال المتقدم ، أم لا بل لا رجوع في البين ، أو يفصل بين ما يرتفع الشك بواسطة وجود الرابط والقدر المشترك بين الشكين - كالمثال المذكور في القسم الأول من المختلفين وهو أن يكون الإمام مثلا شاكا بين الثلاث والأربع والمأموم بين الأربع والخمس ، فالأربع قدر مشترك بين الشكين أي هو الطرف الأكثر من شك ، والأقل من شك آخر ، ففي هذا المثال بعد رجوع كل واحد منهما إلى ما تيقن به الآخر لا يبقى شك في البين ، ففي مثل هذه الصورة يقال بالرجوع - وبين ما لا يرتفع الشك بواسطة وجود الرابط أي القدر

ص: 297

المشترك في البين ، كما إذا شكّ أحدهما بين الاثنتين والثلاث والأربع ، والآخر بين الثلاث والأربع ، فالثلاث هو المتيقن في الشكّ الثاني ، فإذا رجع إليه وبنى على الثلاث لا يذهب شكّه من البين بالمرّة.

نعم معنى رجوعه إلى المتيقن الذي هو الثلاث في المفروض إلغاء احتمال الاثنتين ، وأمّا احتمال الأربع لم يلغ وموجود ، فبعد الرجوع إلى قدر المتيقن من الشكّ الثاني يصير الشكّ الأوّل مثل الشكّ الثاني بين الثلاث والأربع ، فيصير الشكّان من المتوافقين ، ففي مثل هذه الصورة يقال بعدم الرجوع.

أمّا وجه هذا التفصيل فمن جهة أنّ المقصود من رجوع الشاكّ إلى الحافظ هو ارتفاع حكم الشاكّ وإلغائه ، وهذا إنما يكون فيما يرتفع الشكّ بالرجوع تعبدا حتّى يرتفع حكمه بارتفاع موضوعه.

وأمّا فيما لا يرتفع الشكّ ويبقى قهرا حكمه أيضا فلا أثر للرجوع ، ويكون لغوا مثلا في المثال الذي ذكرنا ، وهو أن يكون أحدهما شكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع ، والآخر بين الثلاث والأربع ، فإذا رجع الأوّل إلى الثاني وألغى احتمال الاثنتين فعليه أن يبني على الأربع مثل الثاني ، ويعمل عمل الشاكّ بين الثلاث والأربع ، أي يأتي بصلاة الاحتياط ، فلم يترتّب أثر على الرجوع وصار لغوا ، ولهذا فصل بين صورة بقاء الشكّ بعد الرجوع ، فقيل بعدم الرجوع ، وصورة ارتفاع الشكّ فقيل بالرجوع.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان هذا علّة التفصيل فلا وجه له ، لأنّ أثر الرجوع يظهر في صلاة الاحتياط ، فبناء على الرجوع تكون صلاة الاحتياط عبارة عن ركعة واحدة عن قيام ، وبناء على عدم الرجوع تكون عبارة عن صلاتين ، إحديهما ركعة عن قيام والأخرى ركعتان عن قيام ، فلا يكون الرجوع لغوا وبلا فائدة.

نعم ، يبقى الكلام في أصل الرجوع ، وإن كان فيما يرتفع الشكّ بالرجوع فنقول :

مبنى هذه المسألة على أنّ المدار في رجوع الشاكّ منهما - أي الإمام والمأموم إلى

ص: 298

الآخر ، كان حسب أخبار الباب - هو حفظ الآخر سهو الشاكّ عليه ، والظاهر أنّ المراد من حفظ سهوه عليه هو اليقين فيما شكّ فيه.

فإذا شكّ شخص بين عددين مثل الثلاث والأربع ، أي يحتمل أن يكون المعدود ثلاثا ، ويحتمل أن يكون أربعا ، فإذا كان الشاكّ تروى ولم يجزم بأحد المحتملين ، أي بقي على احتماليه ، فإذا كان هناك من يعلم بأنّ ما أتى به هو المحتمل الفلاني مثلا هو الثلاث أو هو الأربع جزما ولا ترديد عنده ، فهذا معنى حفظ سهوه عليه ، بحيث لو كان إخباره حجّة للشاكّ يخرج عن ترديده ويجزم جزما تعبديا بأحد المحتملين.

وبعبارة أخرى ، الشكّ عبارة عن عدم الجزم بثبوت النسبة التي بين المحمول والموضوع في القضيّة ، سواء أكانت القضيّة سالبة أو موجبة ، فمعنى الشكّ في عدد الركعة التي بيد المصلي مثلا في أنّها رابعة أي غير جازم بأنّها رابعة ويحتمل أن يكون خامسة ، فيكون الشكّ بين الأربع والخمس ، أو يحتمل أن تكون ثالثة فيكون الشكّ بين الثلاث والأربع ، وإذا احتمل أن تكون خامسة أو ثالثة فيكون الشكّ بين الثلاث والأربع والخمس ، وهكذا صعودا ونزولا.

ومعنى حفظ هذا الشكّ على صاحبه هو الجزم بأحد طرفيه ، أو أحد أطرافه ، ففي المثل الذي ذكرنا أنّ الإمام مثلا إذا شكّ بين الثلاث والأربع فمعنى حفظ شكّه عليه أنّ الحافظ يجزم بأحد محتمليه ، أي يجزم بأنّه مثلا ثلاث أو يجزم بأنّه أربع بحيث أنّه لو كان اعتقاده في هذه القضيّة اعتقاد الحافظ كان يجزم بأحد المحتملين ويذهب شكّه.

والحاصل : أنّ معنى حفظ سهوه عليه هو الجزم بتلك النسبة التي كان هو مرددا فيها ، وأين هذا من أن يشكّ في المثل المذكور ، أي فيما إذا شكّ الإمام بين الثلاث والأربع والمأموم بين الأربع والخمس فيقال بأنّه يعلم بأنها - أي الركعة المشكوكة - ليست ثالثة ، والإمام يعلم بأنّها ليست خامسة ، فكلّ واحد منهما يرجع في أحد محتمليه إلى الآخر كي يثبت بواسطة رجوع كلّ واحد منهما إلى الآخر أنّ الركعة

ص: 299

المشكوكة هي الرابعة.

والإنصاف أنّه لا يصدق على مثل هذين الشاكين أنّ كلّ واحد منهما حافظ لشكّ الآخر كي يكونا مشمولين للروايات ، ويكون رجوع كلّ واحد منهما إلى الآخر واجبا لإثبات القدر المشترك.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن المأمومون مختلفين في شكوكهم.

وأمّا لو اختلفوا فتارة يكون بين شكوكهم وشكّ الإمام رابطة ، وأخرى لا يكون قدر مشترك بين شكوكهم وشكّ الإمام.

فعلى الأول أي بناء على أن يكون بين شكوكهم وشكّ الإمام رابطة أي قدر مشترك كما إذا شكّ الإمام بين الاثنتين والثلاث ، وبعض المأمومين شكّ بين الثلاث والأربع وبعضهم الآخر شكّ بين الثلاث والخمس ، فالثلاث رابطة أي قدر مشترك بين الشكوك الثلاثة.

فبناء على الرجوع والإغماض عمّا استشكلنا على صدق الحفظ على أمثال هذه الموارد فكلّ واحد من المأمومين يرجع إلى الإمام ، أحدهما في نفي الرابعة والآخر في نفي الخامسة ، فقهرا يبقى لهما الثالثة ، وذلك لأنّ الإمام يعلم بعدم الرابعة والخامسة في المفروض ، ومن ذلك الطرف كلّ واحد منهما يعلم بعدم كون الركعة المشكوكة هي الثانية فالإمام يرجع إليهما في نفي الثانية.

والنتيجة أنّ كلهم يبنون على الثلاث ، ويتممون الصلاة مع بقاء القدوة ومن دون الاحتياج إلى صلاة الاحتياط.

وأمّا على الثاني ، أي بناء على عدم الرابطة بين شكوكهم وشكّ الإمام ، وحينئذ إن كان شكهم جميعهم موافقا للإمام فكلهم يعملون عمل الشكّ من البناء والإتيان بصلاة الاحتياط ، أو إتيان سجدتي السهو فيما فيه السجدتان ، ويبقى القدوة أيضا إلى إتمام الصلاة.

ص: 300

وأمّا إتيان صلاة الاحتياط جماعة أيضا فمبني على جواز الاقتداء والجماعة فيها ، ولا يستبعد خصوصا بناء على أنّها ليست صلاة مستقلّة بل جزء للصلاة التي وقع فيها الشكّ.

وإن كان بعضهم موافقا دون بعض فيبقى القدوة مع بعض الموافق ، وأمّا البعض المخالف فينفرد ويعمل عمل الشكّ كالمنفرد ، وإن كانوا كلهم مخالفين في الشكّ مع الإمام والمفروض أنّه لا رابطة أيضا بين شكهم وشكّ الإمام ، فالجماعة تنحلّ من حين الشكّ قهرا ، لعدم التوافق بينهم وكلهم يعملون عمل الشكّ من البناء وصلاة الاحتياط. أو سجدتا السهو ، كلّ في محلّه المقرّر له.

وخلاصة مجموع ما ذكرنا في هذا الأمر الحادي عشر هو أنّه إذا شكّ كلّ واحد من الإمام والمأموم ، فإذا كان بين شكيهما رابطة - أي قدر مشترك - فكل واحد منهما يرجع إلى ذلك القدر المشترك ، كما إذا كان ذلك القدر المشترك هو الأقل في أحد الشكين ، والأكثر في الشك الآخر ، وتبقى القدوة ويتمون الصلاة جماعة.

وأما إذا لم يكن قدر مشترك بين الشكين إلا لبعض المأمومين دون جميعهم فالإمام يرجع إلى ذلك البعض ، وبعد رجوعه إلى ذلك البعض وصيرورته حافظا بواسطة الرجوع إلى ذلك البعض يرجع إليه البعض الآخر ويتمون الصلاة ، لكن مع إشكال قوى في رجوع الإمام إلى ذلك البعض ورجوع البعض الآخر إليه.

وأما إن لم يكن بين شكوك المأمومين وشك الإمام قدر مشترك ورابطة فحينئذ إما أن تكون شكوكهم كلهم موافقة للإمام من دون أن يكون قدر مشترك في البين ، فكل واحد منهم من الإمام والمأموم يعمل عمل الشك مع بقاء القدوة حتى في صلاة الاحتياط على الأصح.

وإما أن تكون مخالفة معه كلهم ، ففي هذه الصورة ينفردون كلهم ويعملون عمل الشك.

ص: 301

وإما أن يكون شك بعضهم مخالفا معه دون بعضهم الآخر ، فبالنسبة إلى الموافقين تبقى الجماعة ، وأما المخالفون فينفردون ، ولكن كلهم الإمام والمأمومون ، جميعهم الموافق في شكه مع الإمام والمخالف له يعملون عمل الشاك.

واعلم أنه لا فرق فيما ذكرنا من أحكام شك الإمام والمأموم بين أن يكونا من الشكوك المبطلة أو كانا من الصحيحة أو كانا مختلفين. مثلا كان شك الإمام من الشكوك الصحيحة وشك المأموم من الشكوك المبطلة ، أو كان بالعكس ، والوجه واضح.

تذييل

هذا الذي ذكرنا من أول القاعدة إلى هنا كان حكم شك الإمام والمأموم. وأما سهوه ، أو سهو المأموم - بمعنى النسيان لا بمعنى الشك - فيه صور ثلاث :

سهو الإمام وحده دون المأموم ، مثل أن ينسى الإمام القراءة أو الركوع أو السجود مثلا والمأموم أتى بها.

وسهو المأموم وحده من دون الإمام ، كما إذا نسي المأموم أن يأتي بالمذكورات أو ببعضها وقد أتى الإمام بها.

وسهوهما معا ، كما إذا نسيا معا بعض المذكورات مثلا.

أما الصورة الأولى : أي فيما إذا كان السهو مخصوصا بالإمام فعليه أن يعمل بما هو وظيفة الناسي لو كان منفردا ، لأنه لا فرق في شمول حكم الناسي للمصلي بين أن يكون إماما أو منفردا.

وأما قوله علیه السلام : « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » تقدم أن المراد من السهو هو الشك لا النسيان ، فأن مورد الجواب بهذه العبارة هو السؤال عن حكم الشك وأن

ص: 302

الإمام مائل مع إحدى الطائفتين من المأمومين المختلفين في أن الركعة التي بيدهم هي الثالثة أو الرابعة ، أو يكون معتدل الوهم.

مضافا إلى أن تقييد النفي بحفظ من خلفه عليه يلائم مع كون المراد من السهو هو الشك لا النسيان.

فالأدلة التي مفادها لزوم إتيان الناسي بعد تذكره الجزء أو الشرط المنسيان لو لم يتجاوز المحل - أي لم يدخل في الركن الذي بعد ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، وإن كان تجاوز محل التدارك ، فإن كان له القضاء كالتشهد يقضيه ، وإن لم يكن له القضاء وكان له سجدة السهو يسجد سجدتي السهو - تشمله.

والحاصل : أنه بعد ما عرفت أن هذه الجملة التي صدرت عن الإمام علیه السلام أي : « لا سهو للإمام مع حفظ من خلفه عليه » (1) لا ربط لها بالنسيان ، بل المراد منها حكم شك الإمام ، فلا فرق بين أن يكون الناسي إماما أو منفردا ، وتشمل العمومات كلاهما على نسق واحد ، وقد عرفت أن حكم الناسي هو الإتيان بالمنسي إذا كان تذكره قبل تجاوز المحل ، وأما بعده فإن كان له قضاء أو سجدتا السهو فيجب عليه أن يأتي بهما ، وإلا فلا شي ء عليه ، لصحيحة : « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » (2).

ثمَّ إن المأموم الذي لم يسه هو بنفسه ، هل يجب عليه متابعة الإمام الناسي حين ما يريد أن يتدارك المنسي ، أو يأتي بقضاء المنسي ، أو يأتي بسجدتي السهو أم لا؟

فنقول : أما تدارك المنسي أو قضائه فلا موضوع لهما في حق المأموم الغير الناسي ، ولم يقل به أحد. وأما الإتيان بسجدتي السهو فربما يتوهم لزوم متابعة الإمام في مقام

ص: 303


1- تقدم تخريجه في ص 279 ، رقم (1). وفيه : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه ».
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 279 ، باب القبلة ، ح 857 ، وص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 991 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 152 ، ح 597 ، باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة ، ح 55 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 260 ، أبواب الوضوء ، باب 3 ، ح 8.

الإتيان بهما ، لقوله علیه السلام : « وعلى المأموم أن يتبع الإمام في الركوع والسجود » (1).

ولكن أنت خبير بأن المراد من هذا الكلام وما هو الظاهر منه هو أنه يجب على المأموم متابعته فيما يجب على نفس المأموم من ركوعه وسجوده ، بمعنى أنه لا يأتي بما يجب عليه مستقلا ومن دون تبعيته للإمام ، وذلك من جهة أن هذا مقتضى طبع الاقتداء والائتمام ، لأن معنى الائتمام والاقتداء به في صلاته هو الإتيان بصلاته حال كونه تابعا في أفعاله التي من هذه الصلاة للإمام لا مستقلا ومن دون تبعية ، وليس معناه أنه يجب عليه أن يأتي بكل ما يأتي به الإمام ، ألا ترى لو أنه اقتدى في صلاته المغرب بصلاة العشاء لا يجب عليه أن يأتي بالرابعة تبعا للإمام ، بل لو أتى بها كانت صلاته باطلة يقينا.

لا يقال : إن أمثال هذا المورد يكون من باب التخصيص بدليل خاص ، وإلا فمقتضى دليل تبعية المأموم للإمام أن يأتي بكل ما يأتي به الإمام.

وذلك لما ذكرنا من أن المتفاهم العرفي من دليل التبعية وعنوان الائتمام والاقتداء هو أن ما يجب عليه من أفعال صلاته - أي أجزائها - يأتي بها تبعا للإمام ، لا مستقلا ومن دون تبعيته للإمام.

وبعبارة أخرى : لا يفهم العرف من دليل التبعية إلا كونه تابعا فيما يجب على نفسه ، لا فيما يجب على الإمام. ولعمري أن هذا في كمال الوضوح ، بل ينبغي أن يعد القول بمتابعة المأموم للإمام في الموارد الثلاثة - أي إعادة المنسي إذا كان تذكر الإمام في المحل ، وقضاء المنسي إذا كان المنسي مما له القضاء ، وسجدتا السهو فيما يجب فيه ذلك مع عدم نسيان للمأموم - من المضحكات أو يذكر بعنوان المزاح.

وإلا فكيف يمكن أن يقال : إنه وجب عليه قضاء ما لم يفت منه ، أو إعادة ما لم ينسه وأتي به بعنوان أنه المنسي ، أو بوجوب سجدتا السهو عليه مع أنه لم يسه ما يوجبهما.

ص: 304


1- لم نجدها في الكتب الأربعة ووسائل الشيعة وبحار الأنوار ومستدرك الوسائل.

نعم لا مانع من وجوب هذه الأمور تعبدا لا بعنوان المنسي والمسهو ، ولكن يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وليس شي ء في البين.

وأما التمسك لوجوبهما على المأموم بسبب سهو الإمام بموثق عمار عن الرجل يدخل مع الإمام وقد سبقه الإمام بركعة أو أكثر ، فسهى الإمام كيف يصنع؟ فقال علیه السلام : « إذا سلم الإمام فسجد سجدتي السهو فلا يسجد الرجل الذي دخل معه ، وإذا قام وبنى على صلاته وأتمها وسلم سجد الرجل سجدتي السهو » إلى آخره (1).

وتقريب الاستدلال به واضح ، فإنه بظاهره يدل على وجوب سجدتي السهو على الرجل بسبب سهو الإمام ، ولكن يمكن حمله على ما إذا كان الرجل أيضا سها تبعا لسهو الإمام ، وإن أبيت عن حمله على اشتراك المأموم مع الإمام في السهو وقلت إن ظاهر نسبة السهو إلى الإمام اختصاصه به ، فلا بد من طرحه ، لإعراض المشهور عنه وعدم أخذهم بمضمونه.

هذا كله فيما إذا كان السهو مختصا بالإمام دون المأموم ، وقد عرفت أنه لا يجب على المأموم متابعة الإمام الساهي في إتيانه المنسي بعد تذكره في المحل ، ولا في قضائه للمنسي إذا كان مما فيه القضاء ، ولا في سجوده للسهو إذا كان مما فيه سجود السهو.

أما الصورة الثانية : أي فيما إذا كان السهو مختصا بالمأموم ، فتارة نتكلم في وجوب سجدتي السهو عليه أم لا وأخرى في وجوب تدارك الأجزاء المنسية إذا تذكرها قبل تجاوز محلها ، وثالثة في قضائها إن تذكرها بعد تجاوز محلها إن كانت مما لها القضاء.

أما الأول : أي وجوب سجدتي السهو عليه فيما يوجبهما عليه لو كان منفردا ، ففيه قولان :

الأول عدم الوجوب. وبه قال جمع من أعاظم الفقهاء ، والشيخ ادعى الإجماع

ص: 305


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 354 ، ح 1466 ، باب أحكام السهو ، ح 54 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 7.

عليه (1).

وتدل عليه عدة من الأخبار :

منها : موثقة عمار عن الصادق علیه السلام عن الرجل سها خلف الإمام بعد ما افتتح الصلاة ، فلم يقل شيئا ولم يكبر ولم يسبح ولم يتشهد حتى سلم؟ فقال علیه السلام : « قد جازت صلاته وليس عليه شي ء إذا سها خلف الإمام ولا سجدتا السهو ، لأن الإمام ضامن لصلاة من خلفه » (2).

ومنها : موثقته الأخرى ، عنه علیه السلام أيضا عن الرجل ينسي وهو خلف الإمام أن يسبح في السجود أو في الركوع ، أو نسي أن يقول شيئا بين السجدتين؟ فقال علیه السلام : « ليس عليه شي ء » (3).

ومنها : خبر محمد بن سهل عن الرضا علیه السلام : « الإمام يحمل أوهام من خلفه إلا تكبيرة الإحرام » (4).

وفي رواية الكليني بدل تكبيرة الإحرام « تكبيرة الافتتاح » (5).

هذا هو مستند القائلين بعدم الوجوب.

وأما القائلون بالوجوب فأيضا مستندهم أخبار كثيرة :

ص: 306


1- « الخلاف » ج 1 ، ص 463 ، مسألة 206.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 206 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1205 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 278 ، ح 817 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 137 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 439 ، ح 1693 ، باب الإمام إذا سلم ينبغي له أن لا يبرح من مكانه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 5.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 405 ، باب صلاة الجماعة ، ص 1203 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 278 ، ح 816 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 136 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 4.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 347 ، باب السهو في افتتاح الصلاة ، ح 3 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 406 ، باب الصلاة الجماعة ، ح 1206 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 144 ، ح 563 ، باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 716 ، أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 6.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 247 ، باب السهو في افتتاح الصلاة ، ح 3.

منها : صحيحة زرارة عن الصادق علیه السلام في السؤال عن الإمام يضمن صلاة القوم؟ قال علیه السلام : « لا » (1).

ومنها : صحيحته الأخرى عن أحدهما علیهماالسلام وفيها : « ليس على الإمام ضمان » (2).

ومنها : صحيح أبى بصير عن الصادق علیه السلام في السؤال عن ضمان الإمام الصلاة؟ قال علیه السلام : « لا ليس بضامن » (3).

ومنها : ما رواه في التهذيب والفقيه عن الصادق علیه السلام في السؤال عن القراءة خلف الإمام؟ قال علیه السلام : « لا ، إن الإمام ضامن للقراءة ، وليس يضمن الإمام صلاة من خلفه ، إنما يضمن القراءة » (4).

ومنها : صحيح معاوية بن وهب عن الصادق علیه السلام قال : قلت له علیه السلام : يضمن الإمام صلاة الفريضة فإن هؤلاء يزعمون أنه يضمن فقال علیه السلام : « لا يضمن ، أي شي ء يضمن إلا أن يصلي بهم جنبا أو على غير طهر » (5).

ومنها : صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق علیه السلام عن الرجل يتكلم ناسيا

ص: 307


1- « الكافي » ج 3 ، ص 377 ، باب الصلاة خلف من يقتدى به ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 269 ، ح 769 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 89 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 421 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 30 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 378 ، باب الرجل يصلى بالقوم ، ح 3 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 406 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1208 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 269 ، ح 772 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 92. « الاستبصار » ج 1 ، ص 440 ، ح 1695 ، باب الإمام إذا سلم ينبغي له ... ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 433 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 36 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 406 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1207 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 279 ، ح 819 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 139. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 421 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 30 ، ح 2.
4- « الفقيه » ج 1 ، ص 378 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1103 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 279 ، ح 820 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 140.
5- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 277 ، ح 813 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 133. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 434 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 36 ، ح 6.

في الصلاة يقول : أقيموا صفوفكم؟ قال علیه السلام : « يتمّ صلاته ثمَّ يسجد سجدتين » (1).

ومنها : خبر منهال القصّاب عن الصادق علیه السلام قال : قلت له علیه السلام : أسهو في الصلاة وأنا خلف الإمام. فقال علیه السلام : « إذا سلّم فاسجد سجدتين ولا تهب » (2).

والظاهر أنّ قوله علیه السلام « ولا تهب » أي لا تخف لأنّ إتيانهما مخالف لما هو المشهور عند المخالفين.

هذا بناء على أن يكون من هابه أي خافه واتّقاه ، ويحتمل أن يكون من « هب » ، فيكون معناه : لا تسرع بالحركة والقيام عن مكانك.

ثمَّ إنّه لا ينبغي أن يشكّ في أنّ الأقوى هو وجوب الإتيان بسجدتي السهو على المأموم إذا سهما فيما إذا كان سهوه ممّا كان موجبا لإتيانهما لو كان منفردا ، أمّا أوّلا لقوّة مستند هذا القول من الروايات الصحيحة ، لأنّ خمسة من الروايات التي ذكرنا في مستند هذا القول من الصحاح ، وهي : صحيحتا زرارة ، وصحيح أبي بصير ، وصحيح معاوية بن وهب ، وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج.

وثانيا : من جهة موافقتها للمشهور. وثالثا : من جهة مخالفتها للعامّة.

وقد عرفت ممّا ظهر من هذه الروايات حال تدارك أجزاء المنسيّة إذا تذكر قبل تجاوز المحل ، وهكذا حال قضائها بعد السلام إذا كان المنسي مما له القضاء ، وذلك من جهة أن عمدة مدرك القائلين بعدم التدارك - إذا كان التذكر قبل التجاوز عن المحل ، أو عدم وجوب القضاء فيما له القضاء إذا كان التذكر بعد التجاوز عن المحل - هو أن الإمام ضامن لما لم يأت بها المأموم ، فلا يبقى موضوع للتدارك ولا القضاء ، بل ولا

ص: 308


1- « الكافي » ج 3 ، ص 356 ، باب من تكلم في صلاته أو انصراف ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 755 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 56. « الاستبصار » ج 1 ، ص 378 ، ح 1433 ، باب من تكلم في الصلاة ساهيا أو عامدا ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 313 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 4 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ح 2 ، ص 353 ، ح 1464 ، باب أحكام السهو ، ح 52 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 6.

لسجدتي السهو.

ولكن كان مفاد هذه الروايات الصحيحة عدم ضمان الإمام ، فانظر إلى صحيحتي زرارة وصحيح أبي بصير فإنها تصرح بعدم ضمان الإمام ، فلا بد وأن تحمل الطائفة الأولى من الروايات - التي كان مفادها ضمان الإمام أو أن الإمام يحمل أوهام المأموم ، أو أن المأموم ليس عليه شي ء - على التقية.

كما هو صريح صحيح معاوية بن وهب : أنه سأل عن الصادق علیه السلام وقال : إن هؤلاء يزعمون أنه يضمن - أي الإمام ، ومعلوم أن المراد من « إن هؤلاء يزعمون » هم المخالفون - فقال علیه السلام : « لا يضمن » الى آخره.

فإذا قدمنا هذه الروايات للجهات التي تقدمت لا يبقى وجه للقول بعدم وجوب هذه الأمور الثلاثة ، أي : التدارك إذا كان تذكره قبل تجاوز المحل ، والقضاء فيما له القضاء إذا كان التذكر بعد التجاوز عن المحل ، وسجدتا السهو في نسيان ما يوجب نسيانه سجدتي السهو.

وأما الإجماع الذي ادعاه الشيخ قدس سره على عدم وجوب هذه الأمور الثلاثة على المأموم فموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

أما الصورة الثالثة : أي فيما إذا كان السهو مشتركا بينهما ، بمعنى أنهما معا سهوا عن جزء من أجزاء الصلاة.

والكلام فيما في مقامين : أحدهما : في وظيفة كل واحد منهما بالنسبة إلى سهوه.

والثاني : بقاء القدوة وعدمه.

وأما الأول : أي وظيفة كل واحد منهما بالنسبة إلى سهوه ، فيجب على كل واحد منهما أن يعمل بوظيفة الساهي لو كان منفردا ، من التدارك في المحل ، والقضاء فيما إذا كان تذكره بعد تجاوز المحل فيما له القضاء ، وسجود السهو فيما له سجدتا السهو.

ص: 309

ولا وجه لتوهم عدم وجوب الأمور الثلاثة على المأموم في هذه الصورة ، لأنه على فرض كون الإمام ضامنا لما يفوت من المأموم من الأجزاء - وكان لا يجب عليه التدارك إذا كان تذكره قبل تجاوز المحل ، ولا القضاء إذا كان بعد تجاوز المحل ، ولا سجدتا السهو إذا كان المنسي مما له سجدتا السهو - يكون مورد ضمانه فيما إذا أتى الإمام بذلك المسني ، وأما إذا لم يأت به كما هو المفروض في المقام فالقول بكونه ضامنا مع أنه يجب عليه نفسه هذه الأمور الثلاثة كل في محله ، لا يخلو من غرابة.

وأما الثاني : أي بقاء الجماعة والقدوة ، فإن كان بالنسبة إلى الأجزاء المنسية قبل تجاوز محل تداركها فيرجعان ويأتيان بها جماعة. ولا وجه لتوهم بطلان الجماعة وعدم بقائها ، لعدم وجود شي ء يكون مضرا بهذه الجماعة في هذه الصلاة ، مثلا إذا نسيا آية من آيات فاتحة الكتاب فيرجعان ويقرءان تلك الآية وما بعدها لحصول الترتيب.

وأما إن كان بعد تجاوز المحل ففيما له القضاء إذا أرادا قضاءه بعد الصلاة ، أو فيما إذا أرادا سجدتي السهو إذا كان المنسي مما له سجدتا السهو فهل يجوز فيهما - أي في القضاء وفي سجدتي السهو - أن يأتيا بهما جماعة أم لا؟ كما أن هذا الكلام جار في صلاة الاحتياط أيضا في مورد اشتراك شكهما ، أي : هل يجوز أن يأتيا بها جماعة أم لا؟

فنقول : في جواز الإتيان بهذه الثلاثة جماعة وعدمه ، وفي التفصيل بين صلاة الاحتياط وبين الأجزاء المنسية وسجدتي السهو ، فالجواز في الأول والعدم في الآخرين أو بالعكس ، أو التفصيل بين الأجزاء المنسية ، فيقال فيها بالجواز والعدم بالنسبة إلى سجدتي السهو وصلاة الاحتياط ، أو التفصيل بين صلاة الاحتياط فيقال فيها بالجواز والآخرين فيقال فيها بالعدم وجوه وأقوال.

فلنذكر كل واحد من هذه الثلاثة منفردا ، فنقول :

ص: 310

أما قضاء الأجزاء المنسية من هذه الصلاة التي صلاها جماعة ، واشتراك هو في السهو في هذه الصلاة مع هذا الإمام فالأقوى هو جواز إتيانها جماعة مع هذا الإمام ، لأنه في الحقيقة من تتمة هذه الصلاة وهذه الجماعة ، لا أنه واجب آخر وجماعة أخرى.

غاية الأمر بواسطة السهو تبدل مكان الجزء المنسي ويجب الإتيان به خارج الصلاة ، وبهذه الجهة سمي إتيانه بعد السلام بالقضاء ، فكما أن في فوت الوقت وإتيان الواجب في خارج وقته يسمى بالقضاء ففي فوت محله الذي عين له الشارع وإتيانه في خارج محله ومكانه أيضا سمي بالقضاء.

نعم لو كان قضاء هذا الجزء من صلاة أخرى صلاها منفردا أو جماعة مع إمام آخر ، أو مع هذا الإمام في جماعة أخرى لا يبعد عدم جواز إتيانه جماعة في هذه الجماعة.

وأما سجدتا السهو فالظاهر عدم جواز إتيانهما جماعة مطلقا ، سواء كان في هذه الجماعة مع هذا الإمام أو في جماعة أخرى مع هذا الإمام ، أو مع إمام آخر ، وسواء كان سببهما سهو في هذه الصلاة أو في صلاة أخرى.

وذلك من جهة أن سجدتي السهو ليستا من أجزاء هذه الصلاة كي تعد الجماعة فيهما من تبعات الجماعة في هذه الصلاة.

والقول بأنهما من لواحق هذه الصلاة أشبه بالخطابة ، وليس لأدلة الجماعة إطلاق يدل على تشريعها في كل ما هو من لواحق الصلاة وتبعاتها ، بل الأدلة قامت على استحباب الجماعة في الصلوات الواجبة.

وأما صلاة الاحتياط فالإتيان بها جماعة ابتدأ - بمعنى أن عليه ركعتين مثلا لأنه شك بين الاثنتين والأربع بعد إكمال السجدتين ، ففي مقام أداء صلاة الاحتياط يقتدي بإمام يصلي فريضة - لا يخلو عن إشكال ، لعدم إطلاق في أدلة الجماعة يتمسك به لجوازه.

ص: 311

وأما ما يقال : من أن قوله علیه السلام في صحيحة زرارة والفضيل : « الصلوات فريضة وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها ولكنها سنة » (1) وأمثاله يدل على استحباب في جميع الصلوات كلها إلا ما خرج بالدليل وهي النافلة.

ففيه أولا : أن هذه الصحيحة المراد من الصلوات فيها خصوص الفرائض اليومية ، وإن كانت في حد نفسها من ألفاظ العموم ، لأنه جمع معرف بالألف واللام لقوله علیه السلام في صدر الحديث « الصلوات فريضة ».

ومعلوم أن المراد بها فرائض اليومية ، لأن جميع الصلوات ليست بفريضة قطعا ، فالمراد بها في قوله علیه السلام : « وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها » أيضا هي اليومية.

ومعلوم أن الاستدراك بكلمة « ولكنه سنة » بعد نفي الوجوب عن الاجتماع في اليومية إثبات كونه سنة فيما نفى عنه الوجوب ، وقد عرفت أنها اليومية.

وثانيا : أن الإطلاقات ، سواء أكانت في هذه الرواية أو في غيرها - كما في صحيحة ابن سنان : « الصلاة في جماعة تفضل على كل صلاة الفرد بأربعة وعشرين درجة » (2). مسوقة لبيان تشريع الجماعة وفضلها وكثرة ثوابها ، وليس في مقام بيان أنها في أي نوع من الصلاة مشروعة.

وثالثا : لا شك في ورود روايات معتبرة مستفيضة على عدم مشروعية الجماعة في النافلة ، وصلاة الاحتياط - على تقدير عدم النقص في الصلاة الأصلية - نافلة ، ووجوب الإتيان بها ليس لأنها واجبة على كل حال ، بل لتحصيل اليقين بامتثال ذلك الواجب الأصلي ، ولذلك عبر عنها في الأخبار بالبناء على اليقين.

ص: 312


1- « الكافي » ج 3 ، ص 372 ، باب فضل الصلاة في الجماعة ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 24 ، ح 83 ، باب فضل الجماعة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 371 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 1 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 25 ، ح 85 ، باب فضل الجماعة ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 370 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 1 ، ح 1.

والحاصل : أنه لا شك في أنه مقتضى الأصل عدم جواز ترتيب آثار الجماعة على صلاة إلا بعد إحراز تشريع الجماعة فيها ، وإحراز تشريع الجماعة في صلاة الاحتياط مشكل ، فمقتضى الأصل عدم جواز ترتيب آثار الجماعة.

ثمَّ إنه لا يخفى أنه بناء على ما رجحنا من عدم مشروعية الجماعة في صلاة الاحتياط لا فرق بين ائتمام الاحتياط بالفريضة أو بالاحتياط.

وأما اقتداء الفريضة اليومية كاقتداء صلاة الصبح بصلاة الاحتياط فيما إذا كانت صلاة الاحتياط أيضا مثل صلاة الصبح ركعتين فهل يجوز أم لا؟

يمكن أن يقال بالجواز ، وذلك لتشريع الجماعة في فريضة اليومية يقينا.

ولكن وفيه : أن ظاهر أدلة تشريع الجماعة في الفريضة بعد انصرافها إلى اليومية لما ذكرنا في بيان المراد من الصلوات في صحيحة زرارة وفضيل ، أن يكون كلاهما من اليومية أي صلاة الإمام وصلاة المأموم ومع الشك تجري أصالة عدم التشريع.

ولا فرق فيما ذكرنا من عدم جواز الجماعة في صلاة الاحتياط بين أن نقول بأنها صلاة مستقلة يتدارك بها نقصان ملاك صلاة الأصلية على تقدير النقصان أو أصل الملاك بضميمة صلاة الاحتياط إلى الأصلية ، أو نقول بأنها جزء للصلاة الأصلية على تقدير النقصان ، وذلك من جهة عدم إحراز النقصان وكونها جزء منها واحتمال كونها زائدة ونافلة.

هذا كله في الاقتداء ابتداء ، أما لو كان مقتديا وكان شكه مطابقا لشك الإمام فبنى الاثنان على الأكثر وأراد الإمام أن يأتي بصلاة الاحتياط ، فلا يبعد الجواز في هذه الصورة ، على إشكال أيضا.

ص: 313

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها

وقد عرفت جميعها مما تقدم ، فلا نعيد.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 314

24 - قاعدة لا شك في النافلة

اشارة

ص: 315

ص: 316

قاعدة لا شك في النافلة

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة هو أنه « لا شك في النافلة ». وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها

وهو أمران :

الأول : الروايات :

فمنها : قوله علیه السلام في حسنة البختري : « لا سهو في نافلة » (1) بعد الفراغ عن أن المراد من السهو بقرينة سائر الفقرات هو الشك.

ومعلوم أن المراد من نفي الشك في النافلة هو نفيه تشريعا لا تكوينا ، والنفي التشريعي للأمور التكوينية لا بد وأن يكون بلحاظ الآثار التشريعية لذلك الشي ء ، وإلا فالشي ء التكويني لا يمكن رفعه حقيقة في عالم الاعتبار ، كما أنه لا يمكن أن يوجد في عالم الاعتبار والتشريع وإلا ينقلب الاعتبار تكوينا ، وهو خلف محال.

والأثر المجعول للشك في عدد الركعات في عالم التشريع هو البطلان في الثنائية

ص: 317


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شك في صلاته كلها ولم يدر ... ، ح 5. « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 54 ، ح 187 ، باب أحكام الجماعة ... ، ح 99. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 340 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 8.

والثلاثية ، والبناء على الأكثر في الرباعية ، فإذا كانت صلاة النافلة أربع ركعات - كما في صلاة الأعرابي وبعض الموارد الأخر المنصوصة - فمعنى نفي الشك فيها هو عدم وجوب البناء على الأكثر ، بل إما البناء على الأقل بحكم الاستصحاب بعد سقوط حكم الشك - أي البناء على الأكثر - بواسطة هذه الروايات وغيرها من الأدلة ، وإما التخيير بين الأقل والأكثر بعد البناء على عدم حجية الاستصحاب في عدد ركعات الصلاة إجماعا.

وإذا كانت أقل من أربع ركعات فحكم الشك هو البطلان ، للروايات المستفيضة الواردة في هذا الباب ، فإذا ارتفع البطلان فالحكم إما البناء على الأقل لو قلنا بحجية الاستصحاب في عدد الركعات ، أو التخيير بناء على عدم حجيته.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال : سألته عن السهو في النافلة؟ فقال علیه السلام : « ليس عليك شي ء - وفي بعض النسخ - سهو » (1) وعلى كلتا النسختين ، النتيجة واحدة وهي صحة الصلاة وعدم وجوب البناء على الأكثر.

ومنها : ما رواه في الكافي مرسلة وقال : وروى : « إذا سها في النافلة بنى على الأقل » (2).

وظاهر هذه المرسلة هو تعين البناء على الأقل ، وبناء على ما قلنا - من عدم دلالة الصحيحة على وجوب البناء على الأكثر بل لها دلالة على عدم البناء على الأكثر ، كما أنه يجب ذلك أي البناء على الأكثر ، في الرباعيات من الفريضة فإنه حكم الشك فيها ومرفوع في النافلة - فلا تعارض بينها وبين المرسلة التي رواها الكليني ، فتكون النتيجة هو البناء على الأقل.

ص: 318


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شك في صلاته كلها ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 343 ، ح 1422 ، باب أحكام السهو ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 395 ، باب من شك في صلاته كلها ... ، ح 6.

ولكن لما تحقق الإجماع على التخير ، بل قال في الأمالي : إنه من دين الإمامية ، فلا يمكن الالتزام بالبناء على الأقل.

وبعبارة أخرى : مقتضى الصحيحة هو المضي في الصلاة التي كانت نافلة وعدم الاعتناء بالشك ، فيلاحظ المصلي ما هو صرفته فيبني عليه ، سواء كان هو الأقل أو الأكثر ، فربما يكون صرفته في البناء على الأكثر ، فله أن يبني عليه ، كما أنه إذا كان صرفته في البناء على الأقل له أن يبني عليه.

وهذا المعنى خلاف التخيير ، بل معناه لزوم البناء على الأقل في صورة ، ولزوم البناء على الأكثر في صورة أخرى ، وظاهر المرسلة هو تعين البناء على الأقل مطلقا.

ولكن بواسطة هذا الإجماع المحقق لا بد وأن يرفع اليد عن ظهور كل واحد في تعين خصوص الأقل أو الأكثر ، أي يجمع بين الصحيحة والمرسلة هكذا.

وربما يقال : بأن ظاهر الصحيحة هو التخيير ، لأن ظاهر قوله علیه السلام « ليس عليك شي ء » هو أنك لست ملزما بشي ء ، فلو كان الواجب هو البناء على الأقل أو كان هو البناء على الأكثر فيلزم أن يكون عليه شي ء ، وهو وجوب البناء على خصوص الأقل أو خصوص الأكثر ، فمقتضى نفي الشي ء عليه هو التخيير.

هذا ، ولكن الظاهر من نفي الشي ء هو صلاة الاحتياط ، أو سجود السهو ، إن كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعم منه ومن الشك.

والتحقيق : هو أنه لو لم يكن هذا الإجماع لكان مقتضى قوله علیه السلام : « لا سهو في النافلة » بناء على أن يكون المراد من السهو هو الشك - نفي حكم الشك الذي هو البطلان في الثنائية والثلاثية ، والبناء على الأكثر في الرباعية ، وبعد نفي هذين الاثنين ، فإما التخيير لو قلنا بعدم حجية الاستصحاب في الركعات كما أنه قيل ، أو البناء على الأقل بناء على حجيته.

وأما خصوص البناء على الأكثر فلا يستفاد من هذه الرواية أصلا ، وأما الصحيحة

ص: 319

فقد عرفت أن ظاهرها هو البناء على الصرفة. وأما المرسلة فقد عرفت أن ظاهرها تعين البناء على الأقل ، وأما تعين البناء على الأكثر فليس له أثر في الأخبار إلا إذا كان فيه الصرفة.

والإنصاف : أنه لو لم يكن هذا الإجماع على التخيير كان المتعين هو الأخذ بالصرفة الذي هو مفاد الصحيحة ، لأن المرسلة وإن كان لا ينكر ظهورها في تعين البناء على الأقل ، إلا أن مخالفتها للشهرة بل الإجماع المحقق توجبها ضعفا على ضعف ، فلا يمكن الالتزام بمؤداها.

وأما قوله علیه السلام في حسنة البختري « لا سهو في النافلة » فلا تعارض له مع مفاد الصحيحة ، أي الأخذ بالصرفة ، لأنه في مقام نفي حكم الشك لا البناء على خصوص الأقل أو الأكثر. ولكن هذا الإجماع المحقق على التخيير يمنع عن تعين الأخذ بالأقل أو الأكثر وإن كان فيه الصرفة.

وربما يقال : إن المراد من « لا سهو في النافلة » أو قوله علیه السلام « ليس عليه شي ء » أي ليس عليه الإعادة - من جهة الحكم بالبطلان ، كما هو كذلك في جملة من موارد الشك في الفريضة التي حكم فيها ، ببطلان ما وقع الشك فيها كفريضة الصبح والمغرب ، أو الذي لا يدري أنه كم صلى - أو أنه ليس عليه جبر مع البناء على الأكثر ، أي يبني على الأكثر وليس عليه صلاة الاحتياط ، مثلا لو شك بين الواحد والاثنين فيبني على الاثنين بدون تدارك ما احتمل فوته ، أي الركعة الثانية بالركعة المنفصلة احتياطا ، كما أنه كان يجب الاحتياط في الفريضة.

واحتمل أن الكليني قدس سره فهم - من صحيحة محمد بن مسلم - عن أحدهما قال : سألته عن السهو في النافلة؟ قال علیه السلام : « ليس عليه شي ء أو في نسخة أخرى : ليس عليه سهو » هذا المعنى ، أي ليس عليه الجبر بصلاة الاحتياط ويجب البناء على الأكثر فقط ، بخلاف الفريضة ، لأن فيها الجبر ويجب فيها البناء على الأكثر أيضا.

ص: 320

فمفاد الصحيحة بناء على هذا هو ، أنّ النافلة والفريضة مشتركان في البناء على الأكثر ، والفرق بينهما هو أنّه ليس في النافلة جبر ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، بخلاف الفريضة فإنّ فيها الجبر. وحيث فهم من الصحيحة هذا المعنى ، أي البناء على الأكثر مع عدم الجبر ذكر بعد ذلك تلك المرسلة التي تدلّ على البناء على الأقلّ كي يجمع بينهما وبين الصحيحة بإرادة التخيير.

ولكن أنت خبير بما في هذا الاحتمال من الضعف والخلل ، وقد عرفت أن الظاهر من الصحيحة هو البناء على الصرفة ، لأن الظاهر من كلمة « لا شي ء عليه » أي يمضي في صلاته بدون أن يكون عليه شي ء من الإعادة أو الجبر بصلاة الاحتياط ، ولازم هذا المعنى هو الأخذ بالصرفة التي قلنا بها في معنى الحديث.

الثاني : الإجماع ، وقد ادعاه جمع من الأعاظم كما في المعتبر (1) ، والرياض (2) ، والمصابيح ، والتهذيب (3) ، وعن مفتاح الكرامة نقلا عن الأمالي أنه من دين الإمامية (4) ، وعن الغنية والخلاف كما في الجواهر نقلا عنه حيث قال : لا سهو في النافلة ، وبه قال ابن سيرين. وقال باقي الفقهاء : حكم النافلة حكم الفريضة فيما يوجب السهو. دليلنا : إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل البراءة ، فمن أوجب حكما فعليه الدليل ، وأخبارنا في ذلك أكثر من أن تحصى (5).

وقد عرفت مرارا ما في الاستدلال بالإجماع في هذه الموارد فلا نعيد. نعم هذه الإجماعات المدعاة في أمثال المقام توجب الوثوق بصدور الرواية التي مفادها مفاد هذه الإجماعات.

ص: 321


1- « المعتبر » ج 2 ، ص 395.
2- « الرياض » ج 1 ، ص 222.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 178 ، ذيل ح 713.
4- « مفتاح الكرامة » ج 3 ، ص 345.
5- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 424.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة وبيان المراد منها

فنقول : إن توضيح هذا المطلب يتوقف على بيان أمور :

الأول : أن التخيير المدعى في المقام بين الأقل والأكثر من جهة الإجماع والقدر المتيقن منه هو ، أن لا يكون البناء على الأكثر موجبا لفساد الصلاة ، وذلك لأنه بمناسبة الحكم والموضوع يفهم أن هذا الحكم - أي التخيير - توسعة في مقام امتثال النوافل ، ومن باب المسامحة فيها وأن الاهتمام في حفظ النوافل وحدودها ليس مثل الاهتمام بالفرائض وحدودها ، وكذلك الاهتمام بفرض اللّه أزيد من الاهتمام بفرض النبي ، ويتسامح فيه بما لا يتسامح في فرض اللّه.

وبعبارة أخرى : التخيير للتسهيل ، فهو ينافي ما إذا كان موجبا لبطلان العمل ولزوم الإعادة ، فظهر أن التخيير فيما إذا كان الشك بين الواحد والاثنين فيما إذا كانت النافلة ثنائية كما هو كذلك في أكثر النوافل ، أو كان بين الاثنين والثلاث كما في نافلة الوتر بناء على أن الشفع والوتر صلاة واحدة ، أو بين الثلاث والأربع كصلاة الأعرابي بناء على أنها أربع ركعات متصلة.

والحاصل : أن لا يكون طرف الأكثر من شكه أزيد من الصلاة المشكوك فيها ، ففي مثل هذه الموارد مخير بين البناء على الأقل والأكثر ، لأن البناء على كل واحد منهما لا ينافي مع صحة الصلاة ، فالقول بالتخيير مطلقا لا وجه له.

وأما إذا كان الشك بين الاثنين والثلاث فما زاد في الثنائية ، أو الثلاث والأربع فما زاد في الثلاثية ، أو الأربع والخمس فما زاد في الرباعية ، كل ذلك بعد إكمال السجدتين وفي حال الجلوس ، فليس له البناء على الأكثر ، بل يتعين عليه البناء على الأقل كي تكون صلاته صحيحة.

وهذا معنى قوله علیه السلام : « لا شي ء عليه » لأنه بناء على هذا لا اعادة عليه ، ولا عليه

ص: 322

صلاة الاحتياط بل إن كان طرف الأقل آخر ركعة ، صلاته صحيحة فيتشهد ويسلم وينصرف ، وإن كان غيرها فيقوم ويأتي بالباقي ركعة أو ركعات متصلة - لا مثل صلاة الاحتياط منفصلة - ويتشهد ويسلم ، ولا يضر هاهنا زيادة ركعة أو ركعات واقعا ، كما كان مضرا في الفريضة ، وذلك لما ذكرنا من عدم اهتمام الشارع بحفظ حدود النوافل ، مثل اهتمامه بحفظ حدود الفرائض ، كل ذلك من جهة اختلاف المصالح الواقعية فيها.

الثاني : في أنه ما هو مقتضى الأصل لو شك في ثبوت هذا الحكم في مورد ، مثلا لو شك في النافلة المنذورة ، كما إذا نذر أن يصلي صلاة الليل أو صلاة جعفر وأنه هل يشملها هذا الحكم أم لا؟ ومعلوم أنه لو كان إطلاق لدليل إلغاء الشك في النافلة بحيث يشمل مورد الشك فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي مطلقا ، تنزيليا كان أم غير تنزيلي لحكومة الإطلاقات اللفظية على الأصول العملية ، فإن شك في شمول الإطلاقات لمورد ربما يتوهم الرجوع إلى استصحاب عدم تحقق الأكثر من طرفي الشك فتكون النتيجة البناء على الأقل ووجوب الإتيان بالباقي ، فمقتضى الأصل صحة الصلاة ووجوب إتيان ما يحتمل عدم الإتيان به من ركعات الصلاة المنذورة. وهذا هو عين البناء على الأقل عملا.

وفيه : أنه لا شك في أن الصلاة إما نافلة ، بمعنى أنها مصداق حقيقي لمفهوم النافلة ، وإما ليست بنافلة. والثاني إما رباعية أو غير رباعية ، فهذه ثلاثة أقسام.

أما غير الرباعية سواء كانت ثنائية أو ثلائية ، وكذلك الرباعية إذا كان الشك في تحقق الأوليين ، بمعنى أنه شك مثلا بين الواحد والاثنين ، ففي هذه الصور الثلاث ، الأدلة تدل على بطلان الصلاة ، فلا مورد ولا مجال للاستصحاب.

وأما إذا كان الشك في الرباعية في الأخيرتين بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، فالأدلة تدل على وجوب البناء على الأكثر ، فأيضا لا يبقى مورد

ص: 323

للاستصحاب ، لحكومة تلك الأدلة على الاستصحاب.

وأما إذا كان الشك في النافلة فألغي الشك بحكم الشارع ، فلا يبقى مورد للاستصحاب في عدد الركعات مطلقا.

وبعد ما ظهر لك أنه لا مجال للاستصحاب في عدد الركعات فنقول :

إن أدلة الشكوك في الصلاة تدل على بطلان الصلاة في بعض الموارد ، وعلى البناء على الأكثر في بعض الموارد الآخر ، ودليل « لا شك في النافلة » خصص هذين الحكمين - أي البطلان في البعض ، والبناء على الأكثر في بعض آخر - بلسان الحكومة بغير النافلة ، أي أخرج النافلة عن تحت هذين الحكمين لكن لا بلسان التخصيص بل بلسان الحكومة.

وحيث أن لفظ النافلة مجمل مفهوما في هذا المقام كما هو المفروض ، ولا يعلم أن المراد منه أن تكون نافلة بالذات وبالفعل - بمعنى أنها تكون نافلة بحسب الجعل الأولي ولم يطرأ عليها ما يوجب صيرورتها واجبة بالعرض ، كأمر السيد أو الوالدين ، أو بنذر ، أو حلف ، أو ما شابه ذلك - أو يكفي كونها نافلة بالعرض ولو لم تكن نافلة بالذات ، أو يكفي كونها نافلة بالذات ولو لم تكن نافلة بالفعل وصارت واجبا بالعرض؟

وخلاصة الكلام : أنه إذا حصل الشك ولم يكن استظهار في البين فالمرجع هو العام ، لإجمال المخصص مفهوما ، كما هو محرر في الأصول. والعام هاهنا أدلة الشكوك التي مفادها إما بطلان الصلاة إذا كانت ثنائية أو ثلاثية أو كانت في الركعتين الأوليين من الرباعية ، وإما البناء على الأكثر إن كانت الصلاة التي الشك فيها رباعية ، وكان الشك بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، لحكومة الإطلاقات عليها.

الثالث : ما هو الذي يستظهر من الأدلة ، وهل نفي الشك عن النافلة ، يشمل

ص: 324

الأقسام الثلاثة للنافلة ، أو ظاهر في بعضها دون بعض؟

فنقول : أما الأقسام الثلاثة : فالأول : هو أن تكون نفلا بالذات وبالفعل ، كصلاة الليل التي لم يطرأ عليها عنوان الوجوب بسبب من الأسباب ، وهذا هو القدر المتيقن من مورد النفي.

والثاني : أن تكون نفلا بالذات ولكن صارت واجبة بالعرض.

والثالث : أن تكون واجبة بالذات ولكن صارت نفلا بالعرض.

وفي هذين القسمين - الأخيرين ، أي ما كان نفلا بالذات ولكن صار واجبا بالعرض ، أو كان واجبا بالذات ولكن صار نفلا بالعرض - وقع الخلاف ، وأن المدار في هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشك وإلغاؤه - هل هو فعلية النفل وإن كان عرضيا ، المدار فيه على كونها نفلا بالذات وإن لم يكن نفلا فعلا ، أو المدار على اجتماع الأمرين أي يكون نفلا بالذات وبالفعل؟

اختار صاحب الجواهر قدس سره كونها نفلا بالذات وإن صارت واجبة بالعرض (1). فبناء على قوله لو نذر أن يصلي صلاة جعفر حيث أنها بالذات نافلة ، لو شك مثلا بين الواحد والاثنين فيشمله قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » ، ويكون الشك ملغا ولا تكون باطلة.

وقال آخرون : المدار على النافلة الفعلية سواء كانت بحسب الجعل الأولى أيضا نافلة ، أو لم تكن بل كانت فريضة بالذات ولكن طرأ عليها أمر صارت نافلة ، كصلاة العيدين في عصر عدم حضور الإمام علیه السلام أو عدم بسط يده ، وكصلاة المعادة جماعة استحبابا ، أو كصلاة المعادة احتياطا استحبابيا ، ففي مثل هذه المذكورات لو حصل الشك ففي مورد البطلان - لو لا طرو هذا الاستصحاب - لا تكون باطلة ، وفي مورد البناء على الأكثر يكون مخيرا ، لأنه فعلا نافلة وظاهر الدليل هو نفي الشك عما هو

ص: 325


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 427.

نافلة فعلا.

واستدل صاحب الجواهر قدس سره على ما اختاره (1) من أن المدار على كونه نفلا بالذات بوجهين :

الأول : أن عنوان النافلة الذي جعل موضوعا لهذا الحكم إشارة إلى الذوات التي تكون بحسب الجعل الأولى نافلة ، وليس لوصف النفل مدخلية في الحكم ، والقول بانتفاء هذا الحكم عند انتفاء هذا الوصف استدلال بمفهوم الوصف ، وقد ثبت في محله عدم مفهوم للوصف ، خصوصا في الوصف الغالبي ، والوصف الذي ليس متعمدا على الموصوف كما في المقام ، لأن قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » ليس من قبيل الوصف المعتمد على الموصوف وأيضا الوصف غالبي ، لأن تلك الذوات غالبا متصفة بالنفل ، وقد يعرض عليها الوجوب بواسطة طرو عنوان آخر كالنذر ، أو أمر الوالدين ، أو الإجارة أو غير ذلك من موجبات الوجوب.

وفيه : إننا لا نريد أن نستدل على نفي هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشك عن النافلة التي طرأ عليها الوجوب - بمفهوم الوصف ، حتى تقول بأنه لا مفهوم للوصف ، خصوصا في الوصف الغالبي ، والوصف غير المعتمد على الموصوف ، بل نقول بأن ظاهر كل عنوان أخذ موضوعا لحكم هو أن يكون ذلك العنوان فعليا ، لا أنه كان كذلك أو يكون فيما بعد.

هذا ، مضافا إلى أنه ثبت في محله أن المشتق مجاز فيما انقضى عنه المبدأ ، فيصح سلب مفهوم النافلة عن النافلة التي طرأ عليها الوجوب ، فيكون من قبيل انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ، لا من قبيل الاستدلال بالمفهوم.

الثاني : الاستصحاب ، وبيانه أن صلاة جعفر مثلا قبل نذرها كان الشك فيها ملغا لا يعتنى به ، وبعد أن نذرها يشك في بقاء هذا الحكم فيستصحب. وكذلك في العكس ،

ص: 326


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 427 - 428.

أي صلاة الظهر التي صلاها فرادى ، فيعيدها جماعة استحبابا نقول هذه الصلاة قبل أن تكون معادة كان الشك فيها أي في الركعتين الأخيرتين بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية موجبا للبناء على الأكثر ، وبعد أن طرأ عليها الاستحباب يشك في بقاء هذا الحكم فيستصحب.

وفيه : بعد الإغماض عن عدم اتحاد القضيتين بحسب الموضوع حتى عرفا ، أن الاستصحاب فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي في البين ، وهاهنا إطلاق دليل « لا سهو في النافلة » لو شمل النافلة بالعرض فلا يبقى مجال للاستصحاب ، كما أنه لو لم يشمل وكان مفهوم النافلة منصرفا عن مثل هذه الاستحبابات العرضية يكون مشمولا لإطلاقات أدلة البناء على الأكثر في بعض الموارد ، ولأدلة البطلان في البعض الآخر ، وعلى كل حال لا يبقى مجال ومحل للاستصحاب.

وخلاصة الكلام في المقام : هو أنه لا بد وأن يرجع إلى العرف في تعيين مفهوم النافلة وأنه عبارة عن النوافل الأصلية التي جعلها الشارع نافلة بعنوانه الأولي - ولو طرأ عليها عنوان الوجوب بعد ذلك لجهة أخرى وخرج عن كونه نافلة وصار واجبا بالعرض كما يدعيه صاحب الجواهر قدس سره - أولا؟ بل الظاهر والمتفاهم العرفي هو أن يكون بالفعل متلبسا بمبدإ الاشتقاق كما هو الحال في سائر المشتقات ، فإن كل ذات كان متلبسا بمبدإ الاشتقاق فإطلاق المشتق عليه حال تلبسه حقيقي ، سواء كان بحسب الجعل الأولي كذلك أو لم يكن. اللّهم إلا أن يدعي الانصراف إلى النوافل الأصلية ، أو كان مفهوم النافلة عنوانا مشيرا إلى تلك النوافل الأصلية التي جعلها الشارع نافلة بعنوانها الأولي.

أو يقال بأن مفهوم النافلة غير مفهوم المستحب ، فإن مفهوم المستحب مقابل مفهوم الواجب ، فإن الواجب هو المطلوب الذي لم يرخص الشارع في تركه ، والمستحب هو المطلوب الذي رخص في تركه. وأما مفهوم النافلة عبارة عن الأفعال التي لها - بعناوينها الأولية - ملاكات ومصالح غير ملزمة ، فبناء على هذا إطلاق

ص: 327

النافلة على هذه المستحبات التي صارت مطلوبة بواسطة طرو بعض العناوين عليها غير صحيح.

ولكن أنت خبير بأن هذه الدعاوي كلها خالية عن البينة والبرهان ، بل ظاهر اللفظ هو أن يكون مستحبا فعلا خصوصا بمناسبة الحكم والموضوع ، لأن عدم الاعتناء بالشك والمسامحة يناسب المستحب الذي يسامح فيه بأشياء لا يسامح في الواجب ، كما أنه لم يعتبر القيام والسورة والاستقبال والاستقرار وغير ذلك.

فالأولى أن يقال : إن في ثبوت هذا الحكم - أي إلغاء الشك وعدم الاعتناء به - لا بد من اجتماع كلا الأمرين : أي يكون نافلة في الأصل أي بالذات ، وبالفعل أيضا أي لم يطرأ عليه الوجوب.

أما لزوم كونها بالفعل نافلة ولم يطرأ عليه لما عرفت من أن ظاهر كل عنوان أخذ موضوعا للحكم هو أن يكون بالفعل كذلك ، أي متصفا بذلك العنوان ، وأما ما يصح سلبه عنه ومع ذلك يكون موضوعا فهو في غاية الركاكة ، فموضوع هذا الحكم في لسان الدليل هو عنوان النافلة فقوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » شموله لما ليس بنافلة فعلا وما يصح سلب هذا المفهوم عنه في غاية البعد ، فلا بد في شموله من كونه نافلة بالفعل.

وأما لزوم كونها نافلة في الأصل وبالذات فمن جهة الشك في شمول قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » للفريضة التي طرأ عليها النفل لاحتمال أن يكون عنوان النافلة في الرواية عنوانا مشيرا إلى تلك النوافل الأصلية التي بالذات - أي بعنوانها الأولي - جعلها الشارع نافلة ، وهذا الاحتمال يكون موجبا لعدم ظهور لفظ النافلة في مطلق النافلة ، سواء كان نفلها بالذات أو بالعرض ، فإذا سقطت هذه الرواية عن ظهورها في الإطلاق لأجل هذا الاحتمال يكون المرجع عموم أو إطلاق أدلة البناء على الأكثر في بعض الموارد ، أو أدلة بطلان الصلاة بالشك في بعض الموارد الأخر. ولا تصل النوبة

ص: 328

إلى الاستصحاب ، وذلك لحكومة الإطلاقات والعمومات التي هي أمارة على الاستصحاب. وقد تقدم تفصيل ذلك.

وخلاصة الكلام ، أن ثبوت هذا الحكم ، أي التخيير بين البناء على الأقل والأكثر ، وإلغاء الشك وعدم الاعتناء به مختص بما إذا كانت الصلاة التي وقع الشك فيها نافلة بالفعل وبالذات ، وأما إذا كانت نافلة بالذات وطرأ عليها الوجوب كالنافلة المنذورة ، أو كانت فريضة بالذات ولكن طرأ عليها النفل كالمعادة جماعة بعد ما أتى بها فرادى فلا يشملهما هذا الحكم.

ثمَّ إنهم ذكروا أمثلة وموارد للنفل بالذات والنفل بالعرض ، وكذلك الفرض بالذات والفرض بالعرض لا يخلو بعضها عن المناقشة والخلط ، فها نحن نذكرها لتميز الصحيح منها عن غير الصحيح.

وبعد ما عرفت واقع الأمر تعرف أن حكمهم بعدم الاعتناء بالشك والتخيير بين الأقل والأكثر في بعض الموارد والأمثلة ، وكذلك حكمهم بالاعتناء بالشك والبطلان أو البناء على الأكثر في بعض الموارد والأمثلة الأخر لا وجه له ، بل خلط واشتباه.

فمن القسم الأول : وقولهم بجريان حكم النفل - أي عدم الاعتناء بالشك والتخيير بين الأقل والأكثر - هو صلاة الطواف لمن اعتمر استحبابا بزعم أن الصلاة فيها نفل بالذات عرض عليها الفرض.

وهذا الزعم باطل ، لأن صلاة الطواف في العمرة المستحبة ليس مستحبة كي يقال بأنها نافلة طرأ عليها الفرض ، بل هي واجبة فيها وإن كانت العمرة في أصل شروعها مستحبة. ولكنه حيث يجب إتمامها بعد أن دخل فيها استحبابا فكل فعل يصدر من المعتمر بعد الشروع فيها يقع بصفة الوجوب ، فصلاة الطواف فيها بهذا القيد - أي بعد الشروع فيها وان كان أصل الشروع فيها غير واجب - تكون أزلا وأبدا واجبة ، ولم تكن في آن من الآنات نفلا كي يقال بأنها نفل بالذات عرض عليها الوجوب ، بل هي

ص: 329

فريضة بالذات دائما.

ومن القسم الثاني : صلاة العيدين في عصر الغيبة حيث أنّهم يقولون بأنّها كانتا فريضتين بالذات فصارتا بواسطة غيبة الإمام - عجل اللّه تعالى فرجه - نافلة بالعرض ، فبناء على كون المدار في ثبوت هذا الحكم وعدمه هو النفل والفرض الأصلي ، وإن تغيّرا بالعرض بواسطة طروّ عنوان عليهما يقولون بالاعتناء بالشكّ فيهما ، لأنّهما بالذات من الفرائض ، فيحكمون ببطلانهما بوقوع الشكّ فيهما لأنّهما ثنائيّة.

ولكن أنت خبير بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وهي تختلف بحسب اختلاف الحالات ، فيمكن أن تكون لصلاة العيدين في حال الحضور مصلحة ملزمة ، وفي حال الغيبة لا تكون مصلحتهما ملزمة ، فيكون من قبيل التنويع فنوع منها - أي في حال الحضور - واجب بالذات ، ونوع آخر منها - أي في حال الغيبة - تكون نافلة بالذات ، فيكون الحكم فيهما في حال الغيبة هو التخيير بين البناء على الأقلّ أو الأكثر ، لأنّهما في هذا الحال نافلتين بالذات.

وكذلك نقول في عبادة الصبي - بناء على شرعيّتها - أنّها نافلة بالأصل ، وليس مما هو واجب بالأصل فصار نافلة بالعرض ، لما ذكرنا من اختلاف المصالح والمفاسد باختلاف الحالات بل الأزمنة ، وأيضا بطروّ العناوين للأفعال كالقيام بعنوان تعظيم المؤمن له مصلحة ، وبعنوان إهانته والاستهزاء به يصير ذا مفسدة. فصلاة الظهر مثلا في حال الكبر لها مصلحة ملزمة وتكون واجبة. وفي حال الصغر ليست لها مصلحة ملزمة ولذا لا تكون واجبة ، فإنّها في تلك الحال إمّا ليس لها مصلحة أصلا فلا تكون عبادته شرعيّة وهذا مبنى القول بعدم شرعيّة عبادات الصبي ، وإمّا لها مصلحة ولكن ليست ملزمة فتكون نفلا وهذا مبنى القول بمشروعيّتها.

وعلى كلّ حال : بناء على شرعيّة عباداته تكون عباداته نفلا بالذات وبالأصل ، لا أنّ صلاة الظهر مثلا كانت واجبة بالأصل مطلقا فصارت بواسطة الصغر نفلا

ص: 330

بالعرض.

وهذا ليس بأولى من أن يقال : كانت صلاة الظهر نفلا بالذات فلمّا وصل إلى حدّ البلوغ صارت فرضا بالعرض.

نعم فيما إذا كان فعل في حدّ نفسه وبعنوانه الأوّلي له مصلحة غير الملزمة ، أو الملزمة فصار بعنوان ثانوي ما ليس له مصلحة ملزمة ذا مصلحة ملزمة أو بالعكس صحّ أن يقال في الأوّل كان نفلا بالذات فصار فرضا بالعرض ، كصلاة الليل أو صلاة جعفر حيث أنّها بعنوانها الأوّلي ليست لها مصلحة ملزمة من أيّ شخص وفي أيّ زمان أو مكان كانت ، ولكن لمّا تعنونت بعنوان الحلف أو النذر أو العهد تصير ذا مصلحة ملزمة فيصحّ أن يقال كانت صلاة الليل أو صلاة جعفر مثلا أو سائر النوافل نفلا بالذات وبالأصل ، وبواسطة النذر أو العهد أو الحلف صارت فرضا بالعرض. وصحّ أن يقال في الثاني - أي فيما له المصلحة الملزمة - كانت فرضا بالذات فصارت نفلا بالعرض.

ولكن ليس من هذا القبيل صلاة المعادة جماعة لمن صلاّها فرادى ، وذلك من جهة أنّ المعادة أيضا فرض مثل المبتدئة فرادى ، ولذلك يجب عليه أن ينوي أنّه يريد أن يأتي بما هو واجب عليه أي بالصلاة الواجبة ، غاية الأمر بمصداق آخر لتلك الطبيعة التي تعلّق بها الأمر الوجوبي فيختار اللّه أحبّهما إليه.

وكذلك الأمر في صلاة المتبرّع بها عن الغير ، فليست من الفرض الذي عرض له النفل ، بل المتبرّع يأتي بما هو واجب على غيره ، ولذلك يجب عليه أن يأتي بها بقصد الأمر الوجوبي المتوجّه إلى ذلك الغير في حياته ولم يمتثله قصورا أو تقصيرا.

وكذلك النوافل المستأجرة عليها ليست من النفل الذي عرض عليها الفرض بواسطة الإجارة ، بل هي باقية على نفليّتها حتّى بعد الإجارة. والأمر الذي يأتي من قبل الإجارة وإن كان أمرا وجوبيّا - أي يجب على المستأجر إتيان ما هو متعلّق

ص: 331

الإجارة - ولكن ذلك الأمر الوجوبي لم يتعلّق بالصلاة بعنوان كونها صلاة ، مثلا لو استأجر على صلاة جعفر فليس الأمر الآتي من قبل هذه الإجارة متعلّقا بصلاة جعفر بعنوان صلاة جعفر ، بل هي باقية على استحبابه ، وإنّما الأمر الوجوبي الآتي من قبل الإجارة متعلّق بالوفاء بهذا العقد.

وإن شئت قلت : إنّ المستأجر ملك على ذمّة الأجير هذا العمل ، ويجب على الأجير تسليم ما ملكه المستأجر في ذمّته إليه.

وربما يقال في النفل المنذور أيضا إنّ لله تعالى بواسطة النذر يتعلّق حقّ بالمنذور ، فيجب على الناذر إيصال ذلك الحقّ إليه تبارك وتعالى بالوفاء بنذره ، ولا تجب نفس الصلاة المنذورة.

ولكن ما ذكرنا في باب النذر والحلف والعهد هو الصحيح ، وهو أنّ هذه الأمور عناوين ثانويّة توجب تغيير المصلحة في نفس الفعل ، فيطرأ عليه الوجوب ، ولذلك لو نذر إتيان مستحبّ عبادي فهناك يتعلّق بذلك الفعل أمران : أحدهما : واجب توصّلي ، وهو الأمر الذي يأتي من قبل النذر. والآخر : مستحبّ تعبّدي. وكلّ واحد من الأمرين يكتسب لونا من الآخر ويتّحدان ، فالأمر الاستحبابي العبادي يكتسب الوجوب من الأمر النذري ، والأمر النذري يكتسب العباديّة من الأمر الاستحبابي العبادي.

والنتيجة : أنّه بعد كسب كلّ واحد منهما من الآخر ما قلنا يكون الفعل واجبا عباديّا.

والسرّ في ذلك : أنّ الأمر النذري يتعلّق بعين ما تعلّق به الأمر الندبي ، ويكون الأمران عرضيّين لا طوليّة بينهما فقهرا يتّحدان ، وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين أي الوجوب والاستحباب.

وبعبارة أخرى : الأمر الندبي يلغي حدّ الاستحبابي ويتلبّس حدّ الوجوبي ، والأمر

ص: 332

الوجوبي حيث توصّلي يكتسب لون التعبّدي من الأمر الندبي ، فتصير النتيجة هو أن يكون الفعل واجبا تعبديّا ، فهاهنا من الموارد التي يطرأ الوجوب على النفل الأصلي.

وأمّا أمر السيّد عبده بإتيان صلاة النافلة ، أو أمر أحد الوالدين بها ، أو الاستئجار عليها فليس من هذا القبيل.

بيان ذلك : أنّ متعلّق الوجوب في هذه الأمور ليس ذات العمل ، بل متعلّق الوجوب في أمر الوالدين وأمر السيّد هو عنوان الإطاعة ، أو في أمر الوالدين ليس وجوب في البين ، بل يحرم مخالفتهما - أي العقوق - وعلى كلّ حال تحصل الإطاعة أو يمتثل حرمة المخالفة بإتيان ذلك المستحبّ الذي أمر كلّ واحد من السيّد والوالدين به ، ولم يتعلّق أمر من قبل اللّه تبارك وتعالى بذات العمل ، لا ابتداء ولا من قبل أمر هؤلاء.

فالنفل الأصلي باق على ما كان ولم يطرأ عليه وجوب أصلا ، وكذلك في باب الإجارة المأمور به هو الوفاء بعقد الإجارة ، والوفاء يتحقّق بإتيان هذا العمل المستحبّ.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره وأنّ الأمر الآتي من قبل أمر الوالدين أو من قبل الإجارة في طول الأمر الندبي المتعلق بذات العمل ، وأنّ الأمر الآتي من قبل النذر في عرض الأمر الندبي المتعلّق بذات العمل ، ففي مورد النذر يطرأ الوجوب على ما هو نافلة بالأصل دون هذه الموارد الثلاث ، أي أمر السيّد ، وأمر الوالدين ، وأمر الآتي من قبل الإجارة (1).

ولكن أنت خبير بأنّ الفرق لا يخلو من مناقشة بل تحكّم ، وخلاصة الكلام أنّ الأمر الآتي من قبل هذه الأمور لم يتعلّق بالفعل بعنوان أنّها صلاة ، بل بعنوان الوفاء بالعقد أو العهد أو النذر أو الإطاعة كلّ في مورده ، وهذه العناوين أجنبيّة عن الصلاة.

ص: 333


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 187.

فالإنصاف أنّ الصغرى لهاتين الكبريين - أي النفل الأصلي الذي طرأ عليه الفرض ، أو بالعكس - إمّا لا توجد أو في غاية القلّة ، فهذا البحث - أي أنّ موضوع هذا الحكم هل هو اجتماع الأمرين أي يكون نفلا ذاتا وبالفعل ، أو يكفي كونها ذاتا وان لم يكن بالفعل ، أو يكفي كونها نفلا بالفعل وإن لم يكن كذلك ذاتا - قليل الجدوى أو لا جدوى فيه أصلا.

الرابع : الظاهر أنّ هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشكّ وإلغائه في النافلة - فيما إذا كان في عدد الركعات ، لا فيما إذا تعلّق الشكّ بأفعال الصلاة ، فلو شكّ في أنّه كبّر تكبيرة الافتتاح ، أو قرأ فاتحة الكتاب ، أو ركع ، أو سجد ، أو تشهّد ، أو سلّم أو لا فحال النافلة من هذه الجهة حال الفريضة ، فإذا كان شكّه قبل تجاوز المحلّ يأتي به ، لأصالة عدم الإتيان به. وإذا كان بعد تجاوز المحلّ فيمضي ، لقاعدة التجاوز.

وذلك من جهة أنّ المراد بالسهو في قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » هو خصوص الشكّ ، من جهة وحدة السياق مع سائر الفقرات التي في الرواية. والرفع تعبدي ، لأنّ الرفع التكويني أوّلا ليس من وظيفة الشارع في عالم التشريع ، وثانيا رفع التكويني يحتاج إلى أسباب تكوينيّة ولا يتحقّق بصرف النفي ، كما أنّه لم يتحقّق وموجود كثيرا ، والرفع التشريعي مرجعه إلى رفع الآثار الشرعيّة التي للشي ء.

والآثار الشرعيّة للشك المجعولة له من قبل الشارع هو البطلان لو كان الشكّ في الثنائيّة أو الثلاثيّة ، أو كان في الرباعيّة ولكن في الأوليين قبل إكمال السجدتين ، أو البناء على الأكثر لو كان في الرباعيّة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانيّة منها ، وكلا الأمرين في الشكّ في عدد الركعات ولا ربط لهما بالشكّ في أفعال الصلاة ، ولم يجعل الشارع للشكّ في أفعال الصلاة إذا كان الشكّ في المحلّ حكم كي يرفع بقوله « ليس في النافلة سهو » بل وجوب إتيانه لأصالة العدم ، ولو لم تكن أصالة العدم لكان وجوب الإتيان بمقتضى قاعدة الشغل.

ص: 334

وأمّا إذا كان بعد التجاوز عن المحلّ فحينئذ وإن حكم الشارع بعدم الاعتناء والمضيّ فيها ، ولكن ارتفاع هذا الحكم معناه الاعتناء بالشكّ فيكون نقيض ما هو المراد من القاعدة ، لأنّ الظاهر من القاعدة بمناسبة الحكم والموضوع هو المسامحة والتسهيل وعدم الاهتمام بحفظ حدود النافلة كثيرا مثل الاهتمام بالواجبات والفرائض ، وإلغاء الشكّ ، وفرضه كالعدم فيها ، فرفع حكم عدم الاعتناء بالشكّ إذا كان بعد التجاوز عن المحلّ معناه عدم إلغائه والاعتناء به ، وهذا نقيض ما يستفاد من ظاهر هذه القاعدة ، فاتّضح عدم شمول هذه القاعدة للشكّ في الأفعال.

الخامس : لا فرق في جريان هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشكّ ورفع حكمه من الإبطال أو تعيّن البناء على الأكثر وتدارك ما احتمل نقصانه بصلاة الاحتياط ، أي بالركعة أو الركعات المنفصلة ، والتخيير - بين أن تكون صلاة النافلة ثنائيّة - كما هو الغالب ، بل دائما إلاّ في موردين - وبين أن تكون ثلاثيّة أو رباعيّة.

أمّا النافلة الثلاثيّة كصلاة الوتر بناء على أنّ الشفع والوتر صلاة واحدة وليس بينهما تسليم بل يقوم بعد أن تشهّد في الثانية ويأتي بالوتر. والشاهد على ذلك بعض الروايات الذي مفاده أنّ القنوت في الوتر في الثالثة.

وأمّا النافلة الرباعيّة فكصلاة الأعرابي مثلا ، فلو شكّ فيها بين الاثنين والثلاث ، أو الثلاث والأربع أو غير ذلك من الأقسام الشكّ المتصوّر فيها فهو مخيّر بين البناء على الأكثر أو الأقلّ ، فكذلك في صلاة الوتر لو شكّ بين ما هو الأقلّ وبين ما هو الأكثر فهو مخيّر بين الأقلّ والأكثر.

ولكن تقدّم أنّ هذا التخيير فيما إذا لم يكن البناء على الأكثر موجبا لبطلانه وإلاّ ليس له التخيير ، وكذلك إذا شكّ في الثنائيّة التي كونها نافلة هو الغالب ، بل وكذلك لو شكّ في الوتر بناء على أنّها ركعة واحدة ، فلو شكّ في أنّه أتى بالوتر ركعة واحدة أو اثنتين لم تبطل صلاته ، ولكن ليس له هاهنا التخيير ، بل يتعين عليه البناء على الأقلّ ،

ص: 335

لأنّ البناء على الأكثر موجب لفساده وبطلانه.

ودليل عدم الفرق بين أقسام الثلاثة من النافلة إطلاق قوله علیه السلام « ليس في النافلة سهو » فيشمل بإطلاقه النافلة مطلقا ، ثنائيّة كانت أو ثلاثيّة أو رباعيّة ، وليس مقيّدا يقيّده أو يخصّصه بقسم خاصّ منها.

نعم ، روى الشيخ قدس سره في الصحيح عن العلاء ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل يشكّ في الفجر؟ قال : « يعيد ». قلت : المغرب؟ قال : « نعم ، والوتر والجمعة » من غير أن أسأله (1).

وعن الخصال في حديث الأربعمائة قال : « لا يكون السهو في الخمس : في الوتر ، والجمعة ، والركعتين الأوليين من كلّ صلاة مكتوبة ، وفي الصبح ، والمغرب » (2).

وظاهر الصحيح أنّه تجب إعادة الوتر إذا شك فيه ، كما أنّ ظاهر رواية الخصال أيضا ذلك من باب وحدة السياق ، لأنّ المراد من نفي السهو في غير الوتر من الأربعة التي يذكرها بعده هو البطلان ، فلا بدّ وأن يكون المراد من نفي السهو في الوتر أيضا هو البطلان بحكم وحدة السياق.

وقد يقال في توجيه الروايتين - بناء على قول المشهور من عدم بطلان الوتر - بأنّهما منزلان على الغالب ، وهو أن يكون في أصل وجود الوتر لا الشكّ في عدد ركعاته.

وهو توجيه بعيد ، خصوصا بملاحظة وحدة السياق ، وقد حمل صاحب الوسائل إعادة الوتر مع الشكّ في الصحيح على الاستحباب ، وهو حسن.

السادس : في أنّ هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشك في عدد الركعات والمضي في الصلاة ، وكونه مخيّرا بين البناء على الأقلّ أو الأكثر - هل يختصّ بالشكّ أم يجري في

ص: 336


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 180 ، ح 722 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 23. « الاستبصار » ج 1 ، ص 366 ، ح 1395 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 6.
2- « الخصال » ص 828 ، أبواب الثمانين وما فوقه.

نسيان الركعة أو نسيان فعل من أفعال الصلاة؟ فيكون المراد من السهو هو الغفلة كي يكون أعمّ من الشكّ والنسيان كما احتمله الوحيد البهبهاني قدس سرّه في قوله علیه السلام « ليس سهو في النافلة » (1) فرفع النسيان ونفيه تشريعا عبارة عن عدم ترتّب الأثر على النسيان ، فيكون نفيه عبارة عن عدم بطلانها بالنسيان ، ونتيجته عدم لزوم الإعادة وإن كان المنسي ركنا من الأركان؟

أقول : بعد ما عرفت أنّ المراد من السهو بقرينة وحدة السياق هو الشكّ ، - لا خصوص النسيان ولا الأعمّ منه ومن الشكّ - فلا وجه لإسراء هذا الحكم إلى النسيان.

وأمّا القول بأنّ مناط هذا الحكم في باب الشكّ - أي المسامحة والتسهيل في أمر النافلة - موجود في النسيان أيضا ، فهو أشبه بالقياس ما لم يكن مدلولا لدليل لفظي.

السابع : يغتفر زيادة الركن في النافلة.

ويدلّ عليه خبر الحلبي : سألته عن الرجل سها في ركعتين من النافلة ، فلم يجلس بينهما حتّى قام فركع في الثالثة؟ قال علیه السلام : « يدع ركعة ويجلس ويتشهّد ويسلّم ثمَّ يستأنف الصلاة » (2). وخبر الصيقل عن الصادق علیه السلام في الرجل يصلّي الركعتين من الوتر ، ثمَّ يقوم فينسى التشهّد حتّى يركع ، ويذكر وهو راكع؟ قال : « يجلس من ركوعه فيتشهّد ثمَّ يقوم فيتمّ » قال : قلت : أليس قلت في الفريضة إذا ذكره بعد ما يركع مضى ثمَّ يسجد سجدتين بعد ما ينصرف فيتشهد فيهما؟ قال علیه السلام : « ليس النافلة مثل الفريضة » (3). هذا ما قيل.

ص: 337


1- لم نجد هذه العبارة في الكتب الروائيّة والموجود هكذا : « سالته عن السهو في النافلة فقال ليس عليك شي ء ». « الكافي » ج 3. ص 359 ، ح 6 ، « التهذيب » ج 2 ، ص 343 ، ح 10 ، باب 13 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 189 ، ح 750 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 51. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 4.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 448 ، باب صلاة النوافل ، ح 22 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 189 ، ح 751 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 52. « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 997 ، أبواب التشهّد ، باب 8 ، ح 1.

ولكن أنت خبير بأنّ ظاهر خبر الحلبي أنّه يريد أن يأتي بنافلة الظهر مثلا ثمانية ركعات ، ركعتين ركعتين ، وبعد كلّ ركعتين يجلس ويتشهّد ويسلّم ، ثمَّ يقوم ويشرع في الركعتين الأخريين ، وهكذا يجلس ويتشهّد ويسلّم ، ثمَّ يقوم في الركعتين الأخريين حتّى يتمّ الصلاة ، أي نافلة الظهر التي هي ثماني ركعات. فعلى هذا لم يزد ركنا في النافلة ، وإنّما أبطل صلاته الثاني لعدم إتمام الأوّل ، فالمراد بقوله علیه السلام « ثمَّ يستأنف الصلاة » أي الصلاة الثانية من النافلة.

وبعبارة أخرى : نافلة الظهر مثلا عبارة عن أربع صلوات ، كلّ واحدة منها ركعتين مثل فريضة الصبح أو نافلته ، فإذا سها أي نسي التشهّد والتسليم من إحديهما وقام للصلاة الأخرى وكبّر وقرأ وركع ، ثمَّ بعد أن ذكر بعد الركوع فيقول علیه السلام : يجلس ويتشهّد ويسلم ، ثمَّ يستأنف أي يشتغل بصلاة أخرى من تلك الصلوات الأربع التي هي نافلة الظهر فلم يزد في النافلة شي ء ، لأنّه دخل في صلاة أخرى لنسيان التشهّد والتسليم ، لا أنّه مثلا كبّر وقرأ وركع بعنوان أنّه في الركعتين الأوليين من النافلة حتّى تكون زيادة الركن فيها وتكون مغتفرة.

والشاهد على ذلك أنّ قوله : « فلم يجلس بينهما » ليس المراد من ضمير التثنية هو الركعتين ، أي عدم الجلوس بين نفس الركعتين حتّى يكون معناه عدم الجلوس بين الركعة الأولى والثانية ، إذ لا ارتباط بين عدم الجلوس بين نفس الركعتين والقيام للثالثة.

فالمراد من « بينهما » أي بين الركعتين الأوليين وبين الركعتين الثانيتين أي النافلتين ، وحينئذ يكون الأمر كما وجّهنا أي ليس ما زاد على الركعتين زيادة فيها ، بل من جهة شروعه في نافلة أخرى لنسيان التشهّد والتسليم في النافلة الأولى ، فلا ربط لهذه الرواية باغتفار زيادة الركن في النافلة.

ص: 338

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهر قوله : « حتّى قام فركع في الثالثة » أي بدون تكبيرة الإحرام وبعنوان أنّه يأتي بتتمّة النافلة التي كان مشغولا بها وسها عن أنّ هذه هي الركعة الثالثة ، بل يأتي بها بزعم أنّها الثانية ، ثمَّ بعد أن ركع التفت بأنّها ثالثة ، فقوله علیه السلام : « يجلس ويتشهّد ويسلّم » صريح في أنّ زيادة الركوع ليس بمضرّ.

نعم هذه الرواية لا تدلّ على أنّ زيادة غير الركوع من سائر الأركان أيضا ليس بمضرّ إلاّ على سبيل القياس الباطل ، وأيضا لا تدلّ على عدم بطلان النافلة بنقيصة الأركان بطريق أولى.

وأمّا خبر الصيقل : فعلى تقدير انفصال صلاة الوتر عن الشفع - كما هو المعروف - وكونهما صلاتين مستقلّتين فلا يدلّ على المطلوب ، لأنّ معنى قوله : « ثمَّ يقوم فينسى التشهّد حتّى يركع ويذكر وهو راكع » اشتغاله بصلاة الوتر بزعم إتمام صلاة الشفع لنسيانه التشهّد والتسليم ، ثمَّ تذكر بعد أن ركع للوتر فقوله علیه السلام : « يجلس من ركوعه » - إلى آخر ما قال علیه السلام - معناه أنّه يرفع اليد عن الوتر ويتمّ الشفع ، ثمَّ يقوم ويتمّ الوتر ، فلم تقع زيادة في نافلة الشفع ولا في نافلة الوتر ، لأنّه يرفع اليد عن المقدار الذي أتى بنافلة الوتر ، ويأتي بالتشهّد والتسليم لإتمام الشفع ، ثمَّ يأتي بالوتر من أوّله ويستأنف أو يبني على ما أتى ، وعلى كلّ حال ، لم يأت بزيادة لا في الشفع ولا في الوتر.

وأمّا لو قلنا بأنّهما - أي الشفع والوتر - صلاة واحدة ولا بدّ أن يأتي بالوتر متّصلة فلا محالة يكون من زيادة الركوع في النافلة ، كما هو واضح.

ويشهد على ذلك أيضا قوله علیه السلام : « ليس النافلة مثل الفريضة » بعد سؤال الراوي ، وقوله : « أليس قلت في الفريضة إذا ذكر بعد ما يركع مضى ثمَّ يسجد سجدتين بعد ما ينصرف فيتشهّد فيهما ».

فكلامه قدس سره يدلّ على أنّ زيادة الركوع في الفريضة توجب بطلان الصلاة ، ولذلك بعد أن دخل في الركوع ليس له أن يرجع ويتشهّد ، أي يرجع ويأتي بالمنسي ، لأنّه بعد

ص: 339

أن يأتي بالتشهّد المنسي إمّا أن يأتي بما بعده ممّا أتى به وقت النسيان ، وإمّا أن لا يأتي. ففي الصورة الأولى يلزم زيادة الركوع الذي هو ركن ، وفي الصورة الثانية يلزم ترك جملة من أجزاء الصلاة عمدا ، وفيها الركن أعني الركوع.

وأمّا في النافلة وإن لزم أيضا من إتيان المنسي زيادة الركوع الذي هو ركن ، ولكن يفهم من هذه الرواية أنّ زيادة الركوع في النافلة ليس بمضرّ.

ثمَّ إنّ المذكور في الروايتين وان كان زيادة الركوع من جهة نسيان التشهّد ، فهل يشمل لو كانت الزيادة في غير الركوع من الأركان؟ لا يخلو من إشكال.

وأيضا هل يشمل ما إذا كان المنسي ابتداء هو نفس الركوع مثلا في الركعة السابقة فيرجع ويأتي به ، ثمَّ يأتي بما بعده وفيه الركوع؟

والإنصاف أنّه لا يخلو من إشكال وإن كان التعليل بعدم كون النافلة كالفريضة يشعر بشمول كلتا الصورتين أيضا ، نعم لا يشمل النقيصة قطعا.

الثامن : أنّه لا تجب سجدتا السهو في النافلة إذا طرأ عليها ما يوجبهما في الفريضة ، ولا القضاء فيما فيه القضاء في الفريضة كنسيان السجدة والتشهّد في النافلة ، وذلك لاختصاص دليلها أي دليل القضاء بالفريضة اليوميّة ، فلا تجب في سائر الواجبات فضلا عن النافلة. وإن شئت راجع أخبار الباب فإنّ موردها فريضة اليوميّة ، وليس لها إطلاق يتمسّك به لوجوب القضاء في غير الفريضة اليوميّة.

الجهة الثالثة : في نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوّلية التي دلّت على ثبوت أحكام الشكّ وفي موارد تطبيقها

أمّا الأوّل : فدليل هذه القاعدة ، أي قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » له حكومة

ص: 340

على الأدلّة التي مفادها بيان حكم الشكّ في عدد ركعات الصلاة ، والحكومة هاهنا حكومة واقعيّة في جانب الموضوع بالتضييق. وقد شرحنا الحكومة وأقسامها الثمانية في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وإن شئت فراجع. وذلك من جهة أنّ الشكّ جعل موضوعا للبناء على الأكثر في الصلوات الرباعيّة إذا كان في الركعتين الأخيرتين منها ، أو جعل موضوعا للبطلان في الثنائيّة والثلاثيّة ، أو في الرباعيّة إن كان قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، فدليل هذه القاعدة - الذي هو عبارة عن قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » أي الشكّ - يرفع الشكّ تعبّدا ، وهذا معنى تضييق الموضوع تعبّدا.

وأمّا الثاني : أي موارد تطبيق هذه القاعدة : فقد عرفت كثيرا منها ولا يحتاج إلى ذكرها وإعادتها ، وبطور الإجمال : إذا كان الشكّ في عدد ركعات النافلة ، أيّ نافلة كانت ، ثنائيّة أو ثلاثيّة أو رباعيّة مخيّر بين البناء على الأقلّ والأكثر ، إلاّ إذا كان البناء على الأكثر موجبا لبطلانها فيتعيّن البناء على الأقلّ.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 341


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 535.

ص: 342

25 - قاعدة لا شكّ لكثير الشكّ

اشارة

ص: 343

ص: 344

قاعدة لا شك لكثير الشك (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « نفي الشكّ وعدم اعتباره من كثير الشكّ في الصلاة » : أي حكمه ، ولذلك قد يعبّر عن هذه القاعدة بأنّه : « لا حكم للسهو مع كثرته ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

وهو الأخبار والإجماع.

أمّا الإجماع : فقد تكرّر منّا في هذا الكتاب أنّه لا اعتبار بها في مثل هذا الموارد التي وردت فيها أخبار معتبرة ، للظنّ بل العلم بأنّ مدرك المجمعين هو هذه الأخبار ، فلا بدّ من الرجوع إليها وأنّها هل تدلّ على هذه القاعدة أم لا؟

وأمّا الأخبار : فمنها : صحيحة محمد بن مسلّم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك فإنّه يوشك أن يدعك ، إنّما هو من الشيطان » (2).

ص: 345


1- (*) « القواعد » ص 243. « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 251.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 8. « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 989 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 343 ، ح 1422 ، باب أحكام السهو ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 1.

ومنها : صحيحة زرارة وأبي بصير - أو حسنتهما - قالا : قلنا له : الرجل يشكّ كثيرا في صلاته حتّى لا يدري كم صلّى ولا ما بقي عليه؟ قال علیه السلام : « يعيد ». قلنا : فإنّه يكثر عليه ذلك كلّما أعاد شكّه؟ قال علیه السلام : « يمضي في شكّه » ، ثمَّ قال علیه السلام : « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه فإنّ الشيطان خبيث معتاد لما عود ، فليمض أحدكم في الوهم ، ولا يكثرن نقض الصلاة ، فإنّه إذا فعل ذلك مرّات لم يعد إليه الشكّ ». قال زرارة : ثمَّ قال علیه السلام : « إنّما يريد الخبيث أن يطاع ، فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم » (1).

محمّد بن الحسن بإسناده عن محمّد بن يعقوب مثله (2).

ومنها : بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن ابن سنان ، عن غير واحد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » (3).

ومنها : موثّق عمّار عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الرجل يكثر عليه الوهم في الصلاة ، فيشكّ في الركوع فلا يدري أركع أم لا. ويشكّ في السجود فلا يدري أسجد أم لا؟

فقال علیه السلام : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتّى يستيقن يقينا » الحديث (4).

ومنها : مرسلة الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين ، قال : قال الرضا علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو في الصلاة فامض على صلاتك ولا تعد » (5).

ص: 346


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته ولم يدر زاد أو نقص ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 188 ، ح 747 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 48. « الاستبصار » ج 1 ، ص 374 ، ح 1422 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة ... ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 343 ، ح 1423 ، باب أحكام السهو ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 3.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 604 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ... ، ح 62. « الاستبصار » ج 1 ، ص 362 ، ح 1372 ، باب من شكّ فلم يدر واحدة سجد أم اثنتين ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 5.
5- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 998 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 6.

ومنها : ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن الصادق علیه السلام قال : « إذا كان الرجل ممّن يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن كثر عليه السهو » (1).

ومنها : ما روى ابن إدريس في آخر السرائر منتهيا إلى أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا سهو على من أقرّ على نفسه بسهو » (2).

هذه هي الأخبار الواردة في هذا الباب.

فنقول : أمّا دلالة صحيحة محمّد بن مسلم على عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه واضح بناء على أن يكون المراد من السهو هو الشكّ في قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » وهو كذلك إذ لو كان المراد منه النسيان - بمعنى أنّه يعلم بنسيان الجزء الفلاني كالركوع أو السجود - فلا يمكن ردعه ، لأنّ حجّية العلم ذاتيّة ليس قابلا للردع ، فلا بدّ وأن يكون المراد منه الشكّ واحتمال عدم الإتيان لا القطع بعدمه ، فالمراد من قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » هو أنّه إذا كنت شكّاكا فلا تعتن بشكّك ، واحتمال النقيصة فيما إذا كان شكّك بالنسبة إلى عدم الإتيان بجزء أو شرط ، ولا تعتن باحتمال الزيادة إذا كان شكّك بالنسبة إلى وجود مانع ، وامض في صلاتك والق احتمال عدم وجود شرط أو جزء ، أو احتمال وجود مانع في صلاتك ، أي ابن على تماميّة ما أتيت به ، وعدم خلل فيه من حيث الزيادة والنقيصة.

والفرق بينها وبين أصالة الصحّة أنّ الثانية تجري بعد الفراغ عن العمل وهذه القاعدة في الأثناء ، وبينها وبين قاعدة التجاوز هو أنّ الثانية تجري بعد التجاوز عن المحلّ وهذه تجري ولو كان في المحلّ.

وأمّا صحيحة زرارة وأبي بصير : فصدر الرواية ربما يوهم خلاف المقصود ، لأنّ جوابه علیه السلام بقوله « يعيد » - عن قولهما : الرجل يشكّ كثيرا في صلاته - يدلّ على

ص: 347


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 990 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 7.
2- « كتاب السرائر » ج 3 ، ص 614.

الاعتناء بالشكّ ولو كان كثير الشكّ ، بل الحكم بالاعتناء والإعادة في نفس مورد كثير الشكّ.

لكنّه ليس كذلك ، إذ المراد بهذه الجملة يمكن أن يكون أنّ الرجل ليس ممن يحفظ عدد الركعات دائما ، بل يشكّ كثيرا باعتبار الوقائع المتعدّدة ، مثلا في كلّ أسبوع يشكّ في عدد ركعات صلاته مرّتين وإن كان لا يصل إلى حدّ يتّصف بعنوان أنّه كثير الشك عرفا ، وأنّه يشكّ في صلاة واحدة ثلاث مرّات ، أو يشكّ في ثلاث صلوات متواليات في كلّ واحد منها مرّة واحدة.

فإذا كانت الكثرة في صدر الرواية بهذا المعنى فلا تنافي بين صدر الصحيحة وذيلها حيث يحكم علیه السلام في الصدر بوجوب الإعادة في موضوع كثير الشكّ ، ويحكم في الذيل بعدم الاعتناء بالشكّ والمضيّ في صلاته أيضا في هذا الموضوع ، أي موضوع كثير الشكّ ، لأنّه كما عرفت ليس كثرة الشكّ في المقامين بمعنى واحد.

واحتمل بعضهم أن يكون المراد بكثرة الشكّ في الصدر باعتبار تعدّد المتعلّق في تلك الواقعة الواحدة ، أي تعدّد احتمالاته ، مثلا يحتمل أن يكون ما بيده هي الركعة الأولى وبعد لم يتمها ، ويحتمل أن تكون هي الثانية ، ويحتمل أن تكون هي الثالثة وهكذا كثرة الاحتمالات بواسطة كثرة المحتمل ، مع أنّه شكّ واحد في واقعة واحدة.

ولكن الإنصاف أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر قوله : « الرجل يشكّ كثيرا ».

واستظهر المقدّس الأردبيلي قدس سره من هذه الصحيحة التخيير (1) ، بمعنى أنّ كثير الشكّ مخيّر بين أن يعتني بشكّه ويبني على عدم إيجاد المشكوك ويعيد الصلاة ، وبين أن لا يعتني بشكّه ويبني على وجود المشكوك ويمضي في صلاته. فمفاد الصدر هو الشقّ الأوّل من شقّي التخيير ، ومفاد الذيل هو الشقّ الثاني.

وحكى في الجواهر عن المحقّق الثاني أيضا التخيير بين البناء على وجود المشكوك

ص: 348


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 3 ، ص 142.

ووقوعه ، والبناء على الأقلّ بمعنى عدم الإتيان بالمشكوك (1).

وحكى عن الشهيد في ذكري أيضا أنّ عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه رخصة فيجوز أن يعمل على مقتضى الشكّ فيتلافى إن كان في المحلّ مثلا (2).

ولكن أنت خبير بأنّ التخيير ينافي ظاهر هذه الروايات ، حيث أنّه علیه السلام أمر بالمضي في صلاته ، والأمر ظاهر في الوجوب ، خصوصا مع هذا التعليل وأنّ المضي وعدم الاعتناء بالشكّ رغما لأنف الشيطان وعصيان له وإذا عصى لا يعود ، ونهيه علیه السلام عن تعويده بالاعتناء بالشكّ وأنّه إذا عصى لا يعود لأنّ الخبيث يريد أن يطاع فلا يعود إذا عصى ، ونهيه علیه السلام عن الإتيان بالمشكوك بقوله : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتّى يستيقن يقينا » في خبر ابن سنان.

والحاصل : أنّ هذه الروايات لها ظهور تامّ في تعيّن المضي ووجوب عدم الاعتناء بالشكّ ، وآبية عن التخيير بأيّ معنى كان ممّا ذكرنا ، فما أفاده المقدّس الأردبيلي - ونسب إلى الشهيد في ذكري وإلى المحقّق الثاني في رسالته السهويّة - ممّا لا يمكن الموافقة معهم ، وليس كما ينبغي. والإنصاف أنّه لا إشكال ولا غبار في دلالة هذه الروايات على هذه القاعدة ، أي عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ.

ثمَّ إنّه بناء على وجوب المضي وعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ لو أراد أن يتلافى المشكوك المحتمل العدم وأتى به ، فالظاهر بطلان صلاته ، لأنّه زيادة منهيّة عنها في الصلاة ، إلاّ أن يكون المشكوك المحتمل العدم من الأشياء التي يجوز فعله في الصلاة لكن لا بقصد الجزئيّة ، بل يأتي بها بقصد القربة المطلقة ، فالمتعيّن هو عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في الصلاة بأن يبني على وجود المشكوك إن كان من الأجزاء والشرائط ، وعلى عدمه إنّ كان من الموانع ، لأنّ هذا المعنى هو المتفاهم العرفي وما هو

ص: 349


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 417.
2- « ذكري الشيعة » ص 223.

الظاهر من كلمة « يمضي » سواء كان بصورة الجملة الخبريّة ، أو بصورة الإنشاء كقوله امض.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة على تقدير اعتبارها

اشارة

فنقول : إنّ بيان هذه الجهة منوط بذكر أمور :

الأوّل : أنّه قد تقدّم أنّه المراد من السهو - في الروايات أو في كلامهم في مقام التعبير عن هذه القاعدة ، كما في عبارة الشرائع « لا حكم للسهو مع كثرته » (1) - هو الشكّ لا خصوص معناه الحقيقي أي النسيان ، ولا الأعمّ منه ومن الشكّ ، إذ لو كان المراد منه أحد هذين المعنيين يلزم أن لا يكون اعتبار بنسيان كثير النسيان ، بمعنى أنّه مثلا لو سها في صلاة واحدة - أي نسي الركوع والسجود كلّ واحد من ركعة ونسي أيضا الركعة الأخيرة من تلك الصلاة بعينها - لا يكون عليه بأس وتكون تلك الصلاة صحيحة مع العلم بفقدان المذكورات ، ولا يمكن الفقيه أن يتفوّه بمثل هذا ، بل ينبغي أن يعدّ مثل هذا الكلام من الأعاجيب.

والحاصل : أنّه فرق كثير بين الحكم بعدم الاعتناء باحتمال عدم الإتيان بالجزء أو الشرط ، أو الحكم بعدم الاعتناء باحتمال وجود المانع الذي هو عبارة عن الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، وبين الحكم بعدم الاعتناء بالعلم بعدم وجود الجزء أو الشرط أو العلم بوجود المانع ، ولو كان ترك ذلك الجزء أو الشرط أو إيجاد ذلك المانع سهوا ، لرجوع الأوّل إلى كفاية الامتثال الاحتمالي لمثل هذا الشخص - أي كثير الشكّ - والثاني إلى كفاية الإتيان بما أتى مع العلم بعدم الإتيان بالمأمور به بتمامه.

إن قلت : أيّ إشكال في هذا ، أليس مفاد « لا تعاد » هو هذا في سهو غير الأركان

ص: 350


1- « الشرائع » ج 1 ، ص 118.

ونسيانها ، فإنّ مفاد صحيحة « لا تعاد » هو صحّة الصلاة مع القطع بعدم الإتيان بتمام الأجزاء والشرائط ومع القطع بإيجاد الموانع ، ولكن كلّ ذلك في غير الأركان ، لدلالة عقد المستثنى على ذلك.

قلنا : إنّ صحيحة « لا تعاد » كما تقول توسعة في مقام الامتثال ، بمعنى أنّ ما وقع فيه الخلل - من عدم جزء أو شرط أو وجود مانع - يقبل بدل التامّ ، أو مفادها نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال السهو والنسيان ، ولكن كلّ ذلك في غير الأركان كما هو مفاد عقد المستثنى. ولكن في موضوع كثير الشكّ لو قلنا بأنّ المراد من السهو خصوص معناه الحقيقي - وهو النسيان أو المراد أعمّ منه ومن الشكّ - فيشمل الأركان وغيرها لا استثناء هاهنا ، والالتزام بهذا للفقيه ممّا لا يمكن.

ان قلت : تقع المعارضة بين قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » وبين عقد المستثنى في صحيحة « لا تعاد » حيث أنّ عقد المستثنى في تلك الصحيحة أخصّ من هذه الروايات ، فتخصّص هذه الروايات به ، فيصير مفادها مفاد صحيحة « لا تعاد » بعينه ، فلا يبقى إشكال ، لأنّ الصحيحة معمول بها عند كلّ الفقهاء.

قلنا : مرجع هذا الكلام إلى إلقاء خصوصيّة كثير الشكّ ، لأنّ مفاد الصحيحة حكم مشترك بين كثير الشكّ وغيره ، وهذا لا يلائم مع ظاهر هذه الأخبار مع هذا التعليل الوارد فيها لعدم الاعتناء بالسهو ، وهو أنّه لا تعودوا الخبيث ، أي الشيطان وهو يريد أن يطاع ، فإذا عصى لا يعود ، وأمثال هذه العبارات ، والإنصاف : أنّ الالتزام بأنّ السهو في هذه الأخبار هو خصوص النسيان ، أو الأعمّ منه ومن الشكّ ممّا هو مردود عند الذوق الفقهي.

وأمّا احتمال أن يكون المراد من نفي السهو في هذه الأخبار هو نفي الأثر الشرعي الذي جعله الشارع لنفس السهو أعني سجدتي السهو - حتّى يرجع معنى قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو فليس عليك سجدتا السهو » وجوب سجدتي السهو على غير

ص: 351

كثير السهو ، لا أن يكون المراد من نفي السهو هو عدم الاعتناء باحتمال عدم السهو أو باليقين بعدمه.

فيدفعه أنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر هذه الأخبار ، لأنّ قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » ظاهره أنّ كثرة السهو علّة لعدم الاعتناء بعدم وجود المسهو ، وأنّه يجب عليه المضي ، لا أنّ حكم نفس السهو والأثر المترتّب عليه ساقط عنه ، وهذا واضح جدا.

الثاني : الظاهر أنّ المراد من المضيّ في صلاته - بعد أن التفت إلى أنّه كثير الشكّ - عدم الاعتناء بالخلل الوارد على صلاته من ناحية هذا الشكّ ، سواء كان احتمال الخلل من جهة احتمال عدم وجود ما يكون عدمه مضرّا كالجزء والشرط ، أو احتمال وجود ما يكون وجوده مضرّا كالمانع ، فإنّ هذا المعنى هو المناسب للتعليل بالنهي عن تعويد الشيطان.

وحاصل معنى هذه الروايات أنّ كثير الشكّ يجب عليه أن لا يعتني باحتمال الخلل مطلقا ، سواء كان ترك ركن أو الأجزاء والشرائط غير الركنيّة ، أو كان احتمال الخلل لاحتمال وجود مانع حتّى يصير الشيطان مأيوسا ، ويرى أنّ وسوسته لغو لا أثر له فلا يعود ، وإلاّ لو رأى أنّ الشاكّ يرتّب الأثر على شكّه واحتماله - أي إذا كان احتمال عدم وجود جزء أو شرط ولم يتجاوز المحلّ يأتي به ، وإذا كان بعد تجاوز المحلّ ، أو كان شكّه واحتماله احتمال وجود المانع يعيد الصلاة - فيطمع عدو اللّه فيه ويصرّ على الوسوسة كي يوقعه في التعب الكثير حتّى ينتهي بالآخرة إلى ترك الصلاة ، أو الاستخفاف بها لعجزه عن العمل بكلّ ما يحتمل.

الثالث : أنّ هذا الحكم تعييني لا تخييري ، كما نسب إلى المقدّس الأردبيلي (1) ،

ص: 352


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 3 ، ص 142.

والشهيد (1) ، والمحقّق الثاني (2) - قدّس أسرارهم - لكمال منافرة التعليل لوجوب المضيّ - بأنّه من باب إرغام أنف الشيطان كي لا يعود إلى وسوسته وإيقاعه في الشكّ - مع التخيير فإنّ مناسبة الوجوب التعييني مع هذا التعليل في كمال الوضوح ، مضافا إلى أنّ ظاهر الوجوب المستفاد من قوله : « يمضي في صلاته » هو الوجوب التعييني ، لأنّه مقتضى إطلاق الوجوب.

وقد تقدّم منشأ قول هؤلاء الأكابر بالتخيير والجواب عنه فلا نعيد. والإنصاف أنّ ذهاب هؤلاء الأعاظم إلى التخيير عجيب.

الرابع : أنّ هذا الحكم - أي عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه - هل مختصّ بالصلاة أم يجري في سائر العبادات أيضا؟ وعلى تقدير اختصاصه بالصلاة هل يجري في مقدّماتها الخارجيّة أم يختصّ بنفس الصلاة؟

ربما يقال بعدم اختصاصه بنفس الصلاة ، بل يجري في مقدّماتها الخارجيّة كالوضوء والغسل والتيمم ، بل يجري في سائر العبادات المركبة كالحجّ وأمثاله لوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : لدليل نفي العسر والحرج الثابت بالكتاب والسنّة ، إذ ترتيب كثير الشكّ أثر الشكّ على شكّه والاعتناء به حرج شديد عليه ، سواء كان في الصلاة أو في غيرها من العبادات خصوصا في مثل الحجّ ، مثلا لو شكّ في رمي الجمرات أو في السعي أو في الطواف وكان كثير الشكّ ، فترتيب أثر الشكّ وتكرار هذه الأفعال ثانيا وثالثا ورابعا مثلا في غاية الصعوبة ، وخصوصا إذا كان شكّه ممّا يوجب إعادة العمل في السنة المقبلة مع بعد بلد الشاكّ ، فهو يقينا من الحرج المنفي في الشريعة.

وفيه : أنّ الحرج ليس مختصّا بكثير الشكّ ، بل يمكن أن يتحقّق في غير كثير الشكّ أيضا ، وعلى كلّ الحرج الشخصي الرافع للحكم الإلزامي إذا وجد وتحقّق يرفع الحكم ،

ص: 353


1- « ذكري الشيعة » ص 223.
2- « وسائل المحقق الكركي » ج 2 ، ص 142.

سواء كان كثير الشكّ أو قليله ، وسواء كان في الصلاة أو في غيرها من العبادات ، وسواء كان في أجزاء الصلاة أو في مقدّماتها الخارجيّة.

وأمّا إذا كان الحرج النوعي الذي هو حكمة التشريع للتسهيل على المكلفين - كما هو كذلك في جعل وجوب الإفطار ، والتقصير على المسافر ، والطهارة الترابيّة على فاقد الماء وأمثال ذلك - فلا يطّرد اطّراد علّة الحكم بحيث يستدلّ بوجوده لثبوت الحكم في موضوع آخر ، بل يكون من قبيل القياس المنهي عنه في الدين ، وأنّه يوجب محقة.

ففي هذا القسم ، أي فيما هو من قبيل حكمة التشريع لا بدّ من إتيان الدليل على الحكم ، وأنّ حكمته التسهيل وعدم لزوم الحرج ، وهذا هو الفرق بين أن يكون الحرج علّة للحكم أو يكون من قبيل حكمة التشريع.

ففي القسم الأوّل : يكون هو مناط الحكم أين ما وجد ، ويكون من قبيل منصوص العلّة أو تنقيح المناط القطعي.

وفي القسم الثاني : إسراء الحكم إلى موضوع آخر لأجل وجود ذلك الحرج النوعي من قبيل القياس المردود غير المقبول.

ولا شكّ أنّ ما نحن فيه من القسم الثاني ، فلا يصحّ إثبات الحكم بالحرج النوعي في غير الصلاة من سائر العبادات.

الوجه الثاني : هو التعليل الذي في صحيحة زرارة وأبي بصير بعدم الاعتناء بالشكّ بقوله علیه السلام : « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه » (1) إلى آخر ما قال علیه السلام لعدم اختصاص هذه العلّة بالصلاة ، بل تجري في جميع العبادات المركّبة بل في المعاملات أيضا.

ويؤيّد ما ذكرنا من عموم التعليل ، وعدم اختصاصه بالصلاة وأجزائها ومقدّماتها

ص: 354


1- سبق تخريجه في ص 346 ، رقم (1).

الداخلية - صحيح ابن سنان عن الصادق علیه السلام قال : قلت له : رجل مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟ » فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال علیه السلام : « سله هذا الذي يأتيه من أيّ شي ء هو؟ فإنّه يقول لك : من عمل الشيطان » (1).

والظاهر أنّ قول القائل « رجل مبتلى بالوضوء » أي كثير الشكّ وشبيه بالوسواسي ، فقول الإمام علیه السلام : « إنّه يطيع الشيطان » تعليل لعدم عقله بالاعتناء بشكّه وسمّاه بإطاعة الشيطان ، فهو علیه السلام يشنع عليه الاعتناء بشكّه وترتيب الأثر عليه ، فيستفاد لزوم عدم الاعتناء بشكّه ، مع أنّه في الوضوء وهو من مقدّمات الخارجيّة للصلاة لا نفس الصلاة ، فالحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ليس مختصّا بالصلاة وأجزائها ومقدّماتها الداخليّة.

وفيه : أيضا أنّ هذا التعليل من قبيل حكمة التشريع ، فلا يكون مطّردا اطرّاد العلّة.

[ الوجه ] الثالث : الإجماع على جريان حكم كثير الشكّ أي عدم الاعتناء بشكّه في الوضوء.

وفيه : أوّلا : عدم تسليم اتّفاق الكلّ. وثانيا : لو كان فليس هو الإجماع المصطلح الذي قلنا بحجيته في الأصول ، لأنّ المظنون استناد المتفقين إلى الوجوه المذكورة فلا أثر لهذا الاتّفاق ، ولا بدّ من الرجوع إلى نفس المدارك ، وقد عرفت حالها فلا نعيد.

فظهر أنّ جريان هذه القاعدة في غير الصلاة في غاية الإشكال ، لورود الروايات في مورد الصلاة فقوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » لا يشمل غير الصلاة وأجزاء وشرائطها الداخليّة ، كالقبلة والستر والطمأنينة وأمثال ذلك.

وأمّا المقدّمات الخارجيّة كالطهارات الثلاث ، فشمول القاعدة لها - مع أنّ موارد

ص: 355


1- « الكافي » ج 1 ، ص 12 ، كتاب العقل والجهل ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 46 ، أبواب مقدمة العبادات ، باب 10 ، ح 9.

الروايات هو عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في الصلاة - لا يخلو عن إشكال.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاعتناء بالشكّ فيها - إذا حصل الشكّ في أثناء الصلاة - عدم المضي في الصلاة والشارع أمر بالمضي فيها ، فالمقدّمات الخارجيّة حيث أنّ الشكّ فيها ينتهي إلى الشك في إتيان الصلاة جامعة للأجزاء والشرائط ، فأمره علیه السلام بالمضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشكّ يشملها من هذه الجهة.

ثمَّ إنّه لا فرق في الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، وفي شمول هذه القاعدة بين أن يكون شكّه في عدد الركعات أو الأفعال وتشمل الجميع ، وذلك لأنّ قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » مطلق يشمل بإطلاقه الشكّ في الأفعال وفي عدد الركعات.

هذا ، مضافا إلى أنّ موثّق عمّار نصّ في الأفعال ، لقوله علیه السلام في جواب لا يدري أركع أم لا؟ وهكذا في جواب لا يدري أسجد أم لا : « لا يركع ولا يسجد ويمضي في صلاته ».

وصحيحة زرارة وأبي بصير ظاهرة في عدد الركعات ، لأنّ قوله علیه السلام « يمضي في شكّه » في جواب ما سئلا عنه علیه السلام وهو أنّه يشكّ كثيرا الظاهر أنّه في عدد الركعات كلّما أعاد الشكّ ، فالدليل - في جريان القاعدة في كلا الموردين - موجود ولا يحتاج إلى التمسّك بالإطلاق.

الخامس : في أنّه لو كان كثير الشكّ في بعض أفعال الصلاة ، مثلا كان كثير الشكّ في خصوص الركوع أو السجود أو تكبيرة الإحرام ، فهل إذا شكّ في جزء آخر غير الجزء الذي هو كثير الشكّ فيه ، أو غير كثير الشكّ في ذلك الشرط يجري فيه حكم كثير الشك - أي عدم الاعتناء بشكّه والبناء على وقوعه ، إذا كان المشكوك من الأجزاء والشرائط ، والبناء على عدمه إذا كان من الموانع - أم لا يلحقه حكم كثير الشكّ؟ وكذلك لو كان كثير الشكّ في خصوص عدد الركعات دون الأجزاء والشرائط

ص: 356

والموانع ، أو كان بالعكس كثير الشكّ في الأجزاء والشرائط والموانع دون عدد الركعات فهل يسري حكم كثير الشكّ ممّا هو فيه كثير الشكّ إلى ما ليس فيه كذلك ، فلو كان كثير الشكّ في الأجزاء دون عدد الركعات ، فهل يسري هذا الحكم إلى عدد الركعات أو بالعكس ، أم لا يسري فيه؟

وجهان ، بل قولان :

والأوجه هو عدم السراية ممّا هو كثير الشكّ فيه إلى غيره ممّا ليس فيه كثير الشكّ ، فلو كان كثير الشكّ في خصوص تكبيرة الإحرام ولم يدخل بعد في القراءة أي يكون الشكّ في المحلّ ، فبحكم هذه القاعدة يبني على وقوع تكبيرة الإحرام وإيجاده ، فلو شكّ بعد ذلك قبل أن يركع في أنّه هل قرأ السورة أم لا؟ ولكنه شكّ بدوي غير مسبوق بالشكّ فيه أصلا ، فلا تجري القاعدة في السورة ، بل يجب عليه أن يأتي بها ، لأنّ عمدة ما يمكن أن يتمسّك به للسراية ، صحيح ابن سنان عن الصادق علیه السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » (1) ، فإنّه مطلق لم يذكر فيه متعلّقا لكثرة السهو ، بل رتّب حكم المضي في صلاة على كون المصلّي كثير السهو ، فيمكن أن يستفاد منها عدم الاعتناء بشكّه في أيّ جزء من أجزاء الصلاة بمحض كون المصلّي من مصاديق مفهوم كثير الشكّ ، فإذا صحّ أن يقال : إنّ هذا المصلّي كثير الشكّ فلا عبرة بشكّه في أي جزء أو شرط وقع الشك فيه ، بل ولا فرق بين أن يكون شكّه في عدد الركعات أو في أفعال الصلاة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الاستفادة خلاف ظاهر الرواية ، لأنّه ليس المراد من قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو » أنّ كثرة السهو في أيّ شي ء كان ، سواء أكان ممّا هو متعلّق بالصلاة كالأفعال وعدد الركعات ، أو كان متعلّقا بشي ء آخر ممّا هو أجنبي عن الصلاة فامض في صلاتك ، يقينا وخصوصا مع ذلك التعليل المذكور في سائر الروايات

ص: 357


1- تقدّم تخريجه في ص 346 ، رقم (3).

من النهي عن تعويد الشيطان ، فلا بدّ وأن يكون المراد أنّه إذا كثر عليك السهو في شي ء من صلاتك فامض في صلاتك ولا تعتن بشكك في ذلك الشي ء.

فالظاهر من هذه العبارة حسب المتفاهم العرفي أنّ متعلّق الشكّ الذي حكم الشارع بإلقائه وعدم الاعتناء به مع متعلّق الشكّ الذي في « كثر عليك الوهم » شي ء واحد ، فيكون ظاهر صحيح ابن سنان كظاهر سائر الروايات إذا كثر شكّك في شي ء من صلاتك سواء كان هو من الأفعال أو كان عدد الركعات فلا تعتني بذلك الشي ء.

ويؤيّد هذا الاستظهار تعليل هذا الحكم بعدم تعويد الشيطان على العود إلى الوسوسة ، وإرغام أنفه بعصيانه وعدم اطاعته.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يسري الحكم ممّا هو كثير الشكّ فيه إلى غيره ، سواء كان ذلك الغير هو أحد الأفعال من الأجزاء والشرائط أو عدد الركعات.

السادس : في أنّه ما المراد من كثير الشكّ وكثير السهو؟

أقول : لا شكّ في أنّ الألفاظ المستعملة في كلام الشارع تحمل على المعاني العرفيّة ، إلاّ أن يرد تصرّف من قبل الشارع من نقل أو تحديد ، أمّا النقل فكالصلاة والصوم والحجّ وأمثالها ، وأمّا التحديد فكالإقامة والسفر فإنّ الشارع أو المتشرّعة نقلوا ألفاظ القسم الأوّل من المعاني العرفيّة إلى ماهيّات مخترعة شرعيّة تعيينا أو تعيّنا ، وفي القسم الثاني حدّد السفر بثمانية فراسخ والإقامة بعشرة أيّام.

وأمّا لو لم يكن نقل ولا تحديد في البين فلا بدّ وأن يحمل على ما هو معناه عرفا ، وهذا واضح جدّا.

ومن جملة تلك الألفاظ والجمل التي جعلت موضوعا للحكم الشرعي في لسان الشارع كلمة « كثير الشك » أو « كثير الوهم » وقد تقدّم أنّهما بمعنى واحد في هذا المقام ، فلو لم يكن تصرّف من قبل الشارع لا بدّ من الرجوع إلى العرف في فهم المراد منه وما هو معناه.

ص: 358

وعند العرف يحتمل أن يكون من حالات النفس وخلقا لها ، لا صرف كثرة وجود الشكّ ، فحينئذ تعيينه بثلاث مرّات في صلاة واحدة ، أو في ثلاث صلوات متواليات لا أساس له ، بل لا بدّ من وجود تلك الحالة والخلق في النفس ، سواء أكان حصولها بنفس ذلك العدد المذكور ، أو بأقلّ أو بأكثر منه. وطريق تشخيصه هو حكم العرف من الآثار كالوسواسي والقطّاع.

وأمّا إن كان عبارة عن كثرة وجود الشكّ والسهو بدون أن يكون من حالات النفس ، فلا بدّ من مراجعة العرف في حدّ الكثرة.

هذا كلّه إذا لم يكن تحديد من قبل الشرع ، وإلاّ فيجب الرجوع إلى ذلك الدليل الذي يحدّد موضوع حكمه ، لأنّ تعيين موضوع حكمه بيده ونظره لا بنظر العرف.

وما يمكن أن يكون تحديدا من قبل الشارع هو ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن أبي عمير ، عن محمّد بن أبي حمزة عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن يكثر عليه السهو » (1).

والاحتمالات في هذه الرواية أربعة :

أحدها : أن يكون ما أضاف إليه لفظة « كلّ » هو لفظة الصلاة مقدّرة ، فيكون المعنى والتقدير أنّه : إذا كان الرجل يسهو في كلّ صلاة ثلاث ، فلو شكّ في كلّ صلاة مرّتين لا يكون كثير الشكّ ، بل لو شكّ في أغلب الصلوات ثلاث ولكن في بعضها القليل لم يشكّ أصلا ، أو كان شكّه أقلّ من ثلاث لا يكون كثير الشكّ.

وهذا الوجه مستبعد جدّا ، ولم يقل به أحد.

ثانيها : أن يكون المحذوف أو المقدّر هو الذي أضاف إليه لفظة « ثلاث » ، لا لفظة « كلّ » كي يكون التقدير هكذا : إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث صلوات ، أي يسهو

ص: 359


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 990 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 7.

في الثالث والسادس والتاسع وهكذا فهو كثير الوهم. وهذا هو حدّ الأقلّ ، فلو كان يسهو في كلّ اثنين منها فيكون كثير الشكّ بطريق أولى. ولا شكّ أنّ كلّ ثلاث بناء على هذا المعنى من قبيل العامّ الاستغراقي أو الأصولي ، أي الحكم بكونه كثير الشكّ موضوعه هو أن يشكّ في كلّ ثلاث من صلواته ، فلو شكّ في إحدى الصلوات الثلاث الأولى مثلا - أي في الصلاة الأولى أو الثانية أو الثالثة - فهو كثير الشكّ ولم يشكّ بعد ذلك في الرابعة والخامسة والسادسة ، فيخرج عن كونه كثير الشكّ. وبعد ذلك لو شكّ في أحد الثلاث الآتية يدخل في كثير الشكّ ، وهكذا على هذا النسق خروجا ودخولا.

ثالثها : أن يكون المراد من كلّ أحد ثلاث من الصلوات الخمس ، وذلك بتقدير لفظة « الأحد » المضاف إلى ثلاث ، وبتقدير من الصلوات الخمس اليومية بعد لفظة « ثلاث » كي يكون كلمة « من الصلوات الخمس » متعلّقا بثلاث ، فتكون النتيجة أنّه لو شكّ في إحدى صلوات الثلاث من الخمسة اليوميّة ، أي إمّا في الصبح ، أو في الظهر ، أو في العصر.

هذا إذا جعلنا المبدأ صبحا ، وأمّا إذا جعلنا المبدأ ظهرا فيشكّ إمّا في الظهر ، أو العصر ، أو المغرب. وإن جعلنا المبدأ عصرا فيشك إمّا في العصر ، أو في المغرب ، أو في العشاء.

رابعها : أن يكون المراد أن يشكّ في كلّ ثلاث من الخمسة في كلّ يوم ولو كان الثلاث غير متواليات ، فلو شكّ مثلا في الصبح والعصر والعشاء يكون كثير الشك ، أمّا لو شكّ في الاثنتين منها ولو كانتا متواليتين كالظهر والعصر ، أو العصر والمغرب ، أو المغرب والعشاء فليس بكثير الشكّ. فالمدار في كونه كثير الشكّ بناء على هذا هو أن يشكّ كلّ يوم وليلة في أكثر الفرائض اليوميّة ، سواء كانت الصلوات التي وقع فيها الشكّ متواليات أو منفصلات ، وأوّل مراتب الأكثر في الخمسة هي ثلاث صلوات منها.

ص: 360

والفرق بين هذا المعنى والمعنى الثاني هو أوّلا : أنّ المراد من الثلاث صلوات في الثاني المتواليات ، وهاهنا أعمّ من أن يكون متواليات أو منفصلات.

وثانيا : أنّ المراد من الثلاث ثلاث من جميع الصلوات ، سواء كانت من يوم واحد كالصبح والظهر والعصر من يوم واحد ، أو كانت من يومين كالعشاء من هذا اليوم مع الصبح والظهر من غده ، غاية الأمر متواليات ، وهاهنا الثلاث من الخمسة في يوم واحد وإن لم يكن متواليات كما شرحنا وذكرنا.

والإنصاف أنّ الرواية لا تخلو من هذه الجهة - أي من جهة تعدّد الاحتمالات - من إجمال ، مضافا إلى أنّه من المحتمل قريبا أن لا يكون قوله علیه السلام « إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن كثر عليه السهو » في مقام تحديد مفهوم كثير السهو ، بل بصدد بيان بعض مصاديقه العرفيّة.

فإذا لم يكن تحديد من قبل الشارع لأحد الوجهين المذكورين - أي لإجمال الرواية ، أو من جهة كونه علیه السلام بصدد بيان أحد مصاديقه العرفيّة - فلا بدّ من الرجوع إلى فهم العرف من هذه الجملة ، أي جملة « كثر عليك السهو ».

ولا يبعد أن يكون المراد منها حسب المتفاهم العرفي هو كون الشخص له حالة وخلق يوجب شكّه كثيرا ، فكما أنّ الوسواسي هو كونه ذا حالة توجب الوسوسة ، فكذلك كونه كثير الوهم وشكّاكا. بل يمكن أن تكون كثرة الشكّ مرتبة نازلة من الوسوسة وإذا كان هذا معنى كونه كثير الشكّ فلو عرض له حالة فجائيّة أوجب كثرة الشك لاغتشاش حواسّه لمصيبة ، أو لسرور زائد ، أو لاشتغال فكره بأمر مهمّ فلا يكون من كثير الشكّ لأنّه ليس خلقا له ، بل عارض يرتفع بسرعة.

والحاصل : أنّك عرفت الاحتمالات وهي أربعة في الرواية.

وأمّا احتمال الخامس : بأن يكون المراد وقوع الشكّ في كلّ صلاة ثلاث مرّات فلا تساعده قواعد النحو ، إذ مقتضاها أن يكتب ثلاثا بالألف كي يكون منصوبا وتمييزا ،

ص: 361

ومعلوم أنّه لو كان ثلاثا بالألف كان هذا الاحتمال أظهر الاحتمالات وإن لم يكن على طبقه قول في الفقه ، لأنّ معنى هذه الجملة بناء على هذا الاحتمال هو أن يسهو في كلّ صلاة ثلاث مرّات بنحو العامّ الاستغراقي.

ومثل هذا المعنى إمّا لا يوجد أصلا أو نادر الوجود ، إذ معناه أن يشكّ طول عمره في كلّ صلاة من الصلوات التي يأتي بها ثلاث مرّات ، لأنّ هذا هو المعنى الذي يستفاد من العامّ الاستغراقي. وما ذكرنا هو احتمالات الرواية.

وأمّا الأقوال في الفقه أيضا كالاحتمالات أربعة :

الأوّل : قول المشهور ، وهو إيكاله إلى العرف. وهو الصحيح عندنا ، لما ذكرنا من إجمال الرواية ، أو لكونها بصدد بيان بعض مصاديقها الشائعة والأكثر وجودا.

الثاني : عروض الشكّ عليه ثلاث مرّات متواليات ، سواء أكان في صلاة واحدة ، أو كان في ثلاث صلوات متواليات.

الثالث : تعيّن هذه الثلاثة في صلاة واحدة.

الرابع : أن يسهو في كلّ ثلاث صلوات مرّة واحدة بنحو العامّ الأصولي. وهذا القول هو مختار شيخنا الأستاذ قدس سره وقد حمل الرواية على هذا المعنى ، وجعله أظهر الاحتمالات فيها.

ثمَّ إنّه بناء على المختار من كونه عبارة عن حالة وخلق نفساني يوجب كثرة وقوع الشكّ ، فلو حصل الشكّ في وجود مثل هذه الحالة في نفسه ، فيجري استصحاب عدم وجودها ، لأنّ هذه الحالة ليست من ذاتيّات الإنسان ، ولا من عوارضه اللازمة غير المفارقة كي لا يكون لعدمها النعتي حالة سابقة. وعدمها المحمولي وإن كان له حالة سابقة ولكن لا أثر له ، لأنّ الأثر - أي إلقاء حكم الشكّ وهو البناء على الأكثر إذا كان الشكّ في عدد الركعات ، ولزوم الإتيان بالمشكوك إذا كان الشكّ في الأفعال وقبل تجاوز المحلّ - مترتّب على وجودها النعتي لا الوجود المحمولي ، فعدمها النعتي له الأثر ،

ص: 362

أي ثبوت هذين الحكمين كلّ في محلّه.

والحاصل : حيث أنّ هذه الحالة من العوارض المفارقة فلا مانع من استصحاب عدمها ، فيكون حالها حال سائر الحالات والملكات كالعدالة والاجتهاد يستصحب عدمها عند الشكّ في وجودها.

وأمّا لو كان عبارة عن كثرة وجود الشكّ وكان منشأ الشكّ هي الأمور الخارجيّة فأيضا يجري استصحاب عدم ذلك المقدار.

وأمّا إن كان منشأ الشكّ هو ترديد المفهوم بين الأقلّ والأكثر فلا يجري الاستصحاب ، لعدم الحالة السابقة لذلك المفهوم المردّد ، وعلى تقدير وجود الحالة السابقة لا يثبت أنّه الأقلّ أو الأكثر ، فلا بدّ من الرجوع إلى العامّ ، لأنّ المخصّص المنفصل المجمل مفهوما لا يمنع ولا يضرّ بالتمسّك بعموم العامّ.

والمسألة محرّرة مشروحة في الأصول وقد حقّقنا وأوضحناها في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وإن شئت فراجع ، والعموم هنا في الشكّ في عدد الركعات هو البناء على الأكثر ، وفي الشكّ في الأفعال هو لزوم الإتيان بالمشكوك إذا كان الشكّ قبل تجاوز المحلّ.

السابع : في أنّ كثير الشكّ لو شكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، فلو لم يكن كثير الشكّ فالحكم هو البناء على الأربع والإتيان بسجدتي السهو ، وأمّا أنّه حيث يكون كثير الشكّ فيبني على الأربع بدون أن يأتي بسجدتي السهو. فإنّ هذا معنى المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ ، وكذلك الحكم لو كان شكّه بين الأربع والخمس قبل إكمال السجدتين لعين الدليل.

وأمّا لو عرض له هذا الشكّ في حال القيام ، فلو لم يكن كثير الشكّ كانت وظيفته هدم القيام حتّى يرجع الشكّ إلى الثلاث والأربع ، فيبني على الأربع فيأتي بصلاة

ص: 363


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 449 - 457.

الاحتياط. وأمّا لو كان كثير الشكّ - كما هو المفروض - فهل يجب عليه أن يبني على الأربع ويتمّ وليس عليه صلاة الاحتياط؟ كما هو مقتضى عدم الاعتناء بشكّه بحكم هذه الأخبار ، فإنّ مفادها كما ذكرنا عدم الاعتناء باحتمال العدم إذا كان العدم مضرّا ومفسدا ، وباحتمال الوجود أنّ كان الوجود مفسدا ومضرّا. والمقام من الأخير ، لأنّ وجود الخامسة مضرّ ، فإذا احتمل وجودها يبني على العدم ، أو لا بل يجب عليه أن يهدم القيام حتّى يرجع شكّه إلى الشكّ بين الثلاث والأربع.

حكى عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره الثاني ، ولكنّ الأوّل هو الصحيح ، وذلك لما سنذكر من حكومة دليل عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ على أدلّة البناء على الأكثر إذا كان الشكّ في عدد الركعات ، فإذا شكّ في الركعات بين الأربع والخمس فلا يأتي دليل البناء على الأكثر ، لأنّ دليل البناء على الأكثر إنّما ورد لتصحيح الصلاة لا لإفسادها ، ولذلك لا تشمل هذا الشكّ ، فالحكم بصحّة الصلاة والبناء على الأربع لدليل خاصّ إذا كان بعد إكمال السجدتين.

وأمّا إذا كان في حال القيام فليس دليل خاصّ في البين ، فمقتضى القاعدة ابتداء هو الفساد بالنظر البدوي ، وذلك لعدم شمول دليل البناء على الأكثر له لما ذكرنا ، ولا دليل على عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ لعدم حكم له كي يكون حاكما عليه ، وليس دليل خاصّ في البين ، كما هو المفروض.

هذا ، ولكنّ عند التأمّل هذا الشكّ مستلزم لشكّ آخر ، وهو أنّ الركعة السابقة مردّدة بين الثلاث والأربع ، وله حكم وهو البناء على الأربع ، وحيث أنّه كثير الشكّ ويجب عليه عدم الاعتناء بشكّه ، أي يلغي احتمال كونها رابعة والبناء على كونها ثالثة ، فإذا بني على كونها ثالثة فيكون ما بيده - المحتمل كونها خامسة وجدانا - حسب الحكم الشرعي هي الرابعة ، فيتمّها من دون وجوب هدم القيام ، بل لا يجوز ذلك ، لحكم الشارع بأنّها رابعة ، فيتمّها ولا شي ء عليه حتّى سجدة السهو ، لأنّها منصوصة في مورد خاصّ.

ص: 364

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حكم الشارع بالمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في نفس المورد الذي وقع الشكّ لا ما يلازم هذا الشكّ ، ففي نفس المورد لا بدّ وأن يكون للشكّ حكم حتّى يرفعه دليل عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ ووجوب المضي في الصلاة. وهاهنا ليس في نفس المورد حكم في البين كي يكون دليل وجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه حاكما عليه.

فلا بدّ من هدم القيام حتّى يرجع الشكّ إلى الشكّ بين الثلاث والأربع ، فيبني على الأربع ويتمّ الصلاة وليس عليه صلاة الاحتياط ، لأنّ الشارع ألغى احتمال عدم وجود الرابعة ، لأنّه كثير الشكّ.

وفيه : أنّ وجود الشكّ بين الثلاث والأربع في الركعة السابقة على ما بيده وجداني وتكويني ، وحكم ذلك الشكّ مع قطع النظر عن دليل عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه هو أنّ السابقة رابعة ، وهذه التي بيده خامسة فيجب هدمها.

ولكن حيث أنّ المفروض أنّه كثير الشكّ فلا يأتي هذا الحكم - أي كون هذه التي بيده خامسة - في المقام ، بل يجب عليه المضي في صلاته وإلغاء احتمال الخامسة ، لما ذكرنا أنّ مفاد أدلّة عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه والمضي في صلاته هو عدم الاعتناء باحتمال العدم فيما يكون عدمه مضرّا ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود فيما يكون وجوده مضرّا.

وإن شئت قلت : بأنّ مفاد أخبار الباب هو الحكم بالصرفة وإرغام أنف الشيطان ، ولا شكّ في أنّ الصرفة في المقام تقتضي عدم الاعتناء باحتمال وجود الخامسة ، فلا يجوز الهدم بل يجب البناء على الأربع وإتمام الصلاة بدون أن يكون عليه شي ء من صلاة الاحتياط أو غيرها ، فلا يبقى وجه لما حكى عن الشيخ الأعظم قدس سرّه من وجوب هدم ما بيده.

الثامن : في أنّه هل يلحق كثير الظنّ بكثير الشكّ في هذا الحكم أم لا؟ بعد الفراغ

ص: 365

عن عدم إلحاق كثير القطع به يقينا ، بل عدم إمكانه ، لعدم إمكان سلب الحجّية عن القطع ولو كان قطّاعا ، أي كثيرا ما يحصل له القطع من أسباب لا توجب القطع عند أهل العرف والمتعارف من الناس ، بخلاف الظنّ فإنّه يمكن تقييد حجّيته بما إذا كان حاصلا من أسباب متعارفة عند أغلب الناس.

فالدليل الذي يدلّ على حجّية الظنّ في عدد الركعات أو في أفعال الصلاة وإن قلنا بأنّه يمكن أن يقيد بالظنّ المتعارف لا مطلق الظنّ ، ولكن صرف الإمكان لا يثبت كونه - أي كثير الظنّ - مثل كثير الشكّ وأن لا يعتني بظنّه ، مثلا لو كان كثير الظنّ وظنّ بعدم الركوع مع عدم التجاوز عن المحلّ فيحكم بعدم اعتبار هذا الظنّ ويقال بوجود الركوع وصحّة الصلاة ، بل يحتاج اتّحاد كثير الظنّ مع كثير الشكّ في هذا الحكم - أي عدم الاعتناء باحتمال العدم إذا كان العدم مضرّا بالصحّة ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود إذا كان الوجود مضرّا بالصحّة - إلى دليل على ذلك. والأخبار المتقدّمة - التي كانت دالّة على عدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ - لا تدلّ على ذلك ، لخروج كثير الظنّ عن موضوع كثير الشكّ.

هذا إذا كان الظنّ حجّة ، وأمّا إذا لم يكن حجّة فهو في حكم الشكّ بل هو هو ، لأنّه ليس المراد من الشكّ تساوي الاحتمالين كي لا يشمل الظنّ ، فإنّه معنى اصطلاحي عند المنطقيين والأصوليين ، وإلاّ ففي العرف الشكّ خلاف اليقين فيشمل الظنّ والوهم.

فبناء على هذا لو قلنا بعدم حجّية الظنّ في أفعال الصلاة ، فلو ظنّ بعدم القراءة مثلا وكان في المحلّ أي كان قبل الدخول في قراءة السورة ظنّ بعدم قراءة فاتحة الكتاب ، أو ظنّ بعدم قراءة السورة قبل الدخول في الركوع ، فلو لم يكن كثير الظنّ فمقتضى الشكّ في المحلّ أن يأتي بالمشكوك ، وأمّا لو كان كثير الظنّ والمفروض عدم حجّية الظن في الأفعال فيجب المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالظنّ بالعدم ، لشمول قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك ».

ص: 366

نعم ، إذا قلنا بحجّية الظنّ في أفعال الصلاة - كحجّيته في عدد الركعات - قامت الحجّة على العدم في المثل المذكور ، فكيف يمكن أن يقال بعدم الاعتناء بمثل هذه الحجّة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ دليل وجوب المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشكّ في مورد كثير الشكّ حاكم على دليل اعتبار الظنّ في أفعال الصلاة ، أي يخرج كثير الظنّ عن تحت دليل اعتبار الظنّ وحجّيته تعبّدا ، فكأنّه قيد دليل اعتبار الظنّ بعدم كونه من كثير الظنّ.

وننكر ما اعتذرنا سابقا لعدم الحكومة بخروج كثير الظنّ عن موضوع كثير الشكّ ، وهذا الإنكار في محلّه وصحيح ، لما قلنا من أنّ الشكّ لغة وعرفا يشمل الظنّ والوهم ، لأنّه خلاف اليقين.

التاسع : في أنّه لو كان كثير الشكّ في أصل وجود الصلاة - بمعنى أنّه كثيرا يشكّ مثلا في أنّه صلى صلاة الظهر أم لا ، وهكذا في سائر الصلوات - فهل تجري هذه القاعدة ، أي يحكم بوجود تلك الصلاة أم لا؟

الظاهر عدم الجريان ، لأنّ قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » أنّ كثرة الشكّ تكون في صلاته ، لا في أصل وجود الصلاة. وهذا بقرينة الحكم المترتّب على هذا الموضوع ، لأنّ الحكم قد يضيّق الموضوع مع سعته في حدّ نفسه ، مثل « لا تمش مع أحد » فإنّ لفظ « أحد » بحسب مفهومه اللغوي والعرفي يشمل الأحياء والأموات ، ولكن بقرينة الحكم - أي لا تمش - يختصّ في المثل المذكور بالأحياء. وهاهنا جملة « إذا كثر عليك السهو » حيث لم يذكر فيها متعلّق السهو ففيه إطلاق يشمل السهو في أفعال الصلاة وعدد ركعاتها وأصل وجود الصلاة ، ولكن حكمه علیه السلام بقوله : « فامض في صلاتك » يخصّصه بأفعال الصلاة وركعاتها ، لأنّه إذا شكّ في أصل الصلاة فلا يبقى مورد لقوله علیه السلام : « امض في صلاتك » وهذا واضح جدا.

ص: 367

وأمّا مسألة عموم التعليل فالتمسّك به لا مجال له ، لما ذكرنا من أنّه حكمة التشريع وليس من قبيل علّة الحكم ، وإلاّ فكان الواجب إجراءها في كلّ مركّب ، عبادة كانت أو معاملة ، في أجزائها وشرائطها ومقدّماتها الخارجيّة. وأصل وجود كلّ شي ء يكون للحكم بوجوده أثر شرعي مركّبا كان أو بسيطا ، وليس الأمر كذلك قطعا.

وتقدّم الكلام في هذا الموضوع عند ما تكلّمنا في جريان هذه القاعدة وعدمه في سائر المركّبات غير الصلاة والمقدّمات الخارجيّة للصلاة ، واخترنا عدم الجريان.

العاشر : في أنّه وردت روايات فيها الأمر بالإدراج ، أي التخفيف في الصلاة كي لا يقع في الشكّ كثيرا ، وكذلك الأمر بالإحصاء بالحصى لأجل هذه الجهة ، وكذلك استحسان التخفيف في الصلاة من أجل السهو ، فهل هذه الأمور واجبة أم لا؟

فالأوّل : أي الأمر بالإدراج كما في خبر الحلبي قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن السهو؟ قلت : فإنّه يكثر عليّ ، فقال علیه السلام : « أدرج صلاتك إدراجا » قلت : وأي شي ء الإدراج؟ قال : « ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود » (1).

وأمّا الثاني : فكما في خبر حبيب الخثعمي قال : شكوت إلى أبي عبد اللّه علیه السلام كثرة السهو في الصلاة ، فقال : « أحص صلاتك بالحصى » أو قال : « احفظها بالحصى » (2).

والثالث : كما عن الحلبي أيضا في خبره الآخر عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « ينبغي تخفيف الصلاة من أجل السهو » (3).

والاحتمالات في هذه الروايات إمّا الحمل على الإرشاد من دون أن يكون أمر

ص: 368


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 9. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1425 ، باب أحكام السهو ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 335 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 22 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 348 ، ح 1444 ، باب أحكام السهو ، ح 32 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 343 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 28 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 567 ، باب نوادر الصلوات ، ح 1566 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 335 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 22 ، ح 2.

مولوي في البين ولو استحبابيّا ، أو الحمل على الاستحباب ، أو الحمل على بعض مراتب الشكّ النازلة عن مرتبة كثير الشكّ المأمور بعدم الاعتناء بذلك الشك ، وذلك لأنّ الإحصاء والتخفيف نوع اعتناء.

أمّا الحمل على الوجوب المولوي فلا يلائم مع قوله علیه السلام في رواية الحلبي الثانية « ينبغي » ، لأنّ كلمة « ينبغي » ظاهرة في عدم الوجوب ، بل وكذلك كلمة « لا بأس » في خبر المعلى ، سأل أبا عبد اللّه علیه السلام فقال له : إنّي رجل كثير السهو ، فما أحفظ صلاتي إلاّ بخاتمي أحوّله من مكان إلى مكان؟ فقال علیه السلام : « لا بأس » (1).

والظاهر من هذه الاحتمالات هو الإرشاد إلى طريق تسلّم صلاته من وقوع الخلل والنقصان فيها.

الجهة الثالثة : في بيان نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوليّة ، وموارد تطبيقها

اشارة

فنقول : أمّا نسبتها مع الأدلّة الأوليّة فهي الحكومة ، من جهة أنّ المراد من الأدلّة الأوّليّة في المقام هي الأدلّة التي مفادها ترتّب حكم على الشكّ ، ففي الشكّ في عدد الركعات عبارة عن الأدلّة التي مفادها البناء على الأكثر ثمَّ تدارك ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، وفي الشكّ في أفعال الصلاة من الأجزاء والشرائط عبارة عن الأدلّة التي مفادها إتيان المشكوك إذا كان الشكّ في المحلّ.

ودليل القاعدة لو كان نفي الشكّ عن كثير الشكّ كما هو المشهور والمتداول في الألسنة لكانت حكومته على الأدلّة الأوّليّة في جانب الموضوع واضحة ، لأنّ موضوع الأدلّة الواقعيّة هو الشكّ ، إمّا الشكّ في عدد الركعات ، أو الشكّ في الأفعال لكن قبل

ص: 369


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 255 ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّي فيه من الثياب ... ، ح 781. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 343 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 28 ، ح 2.

تجاوز المحلّ ، ودليل القاعدة يرفع الشكّ تعبّدا ، وهو معنى الحكومة بالتضييق في جانب الموضوع من الأقسام الثمانية للحكومة.

وقد شرحنا الحكومة وأقسامها في كتابنا « منتهى الأصول » (1) ومن أراد فيراجع.

ولكن لم نجد في أدلّة القاعدة وأخبار الباب ما يكون لسانه نفي الشكّ عن كثير الشكّ صريحا ، وإنّما الموجود في أخبار الباب التي هي أدلّة عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ ثلاث عبارات : أحدها : « يمضي في شكّه ». ثانيهما : « امض في صلاتك » أو « فليمض في صلاته » بصورة أمر الحاضر تارة ، وأمر الغائب أخرى. ثالثها : « يمضي في صلاته » بصورة الجملة الخبريّة.

والفرق بين الثالث والأوّل هو أنّ الأوّل كانت العبارة « يمضي في شكّه » والثالث « يمضي في صلاته » وإلاّ فالاثنان بصورة الجملة الخبريّة ، والمستفاد من العبارات الثلاث هو المضي وعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، فإذا كان معنى المضي وعدم الاعتناء بالشكّ هو نفي الشكّ ورفعه في عالم التشريع فتكون هذه الأخبار - التي هي أدلّة القاعدة - حاكمة على الأدلّة الأوّليّة.

وأمّا إذا كان معناه رفع حكم الشكّ عن كثير الشكّ بدون تصرّف في كونه شاكّا ولو تعبّدا فيكون تخصيصا لا حكومة. والظاهر هو الأوّل.

وأمّا موارد تطبيقها : أمّا بطور الإجمال : ففي كلّ مورد شكّ في أيّ جزء من أجزاء الصلاة ، أو شرائطها ، أو أيّ مقدّمة من مقدّماتها الداخليّة وكان الشكّ قبل تجاوز المحلّ الذي مقتضي القواعد الأوّليّة لزوم تداركها ، فإذن كان كثير الشكّ لا يعتني بشكّه ويمضي في شكّه. وكذلك في عدد الركعات لا يعتني بشكّه ويمضي في صلاته ، بمعنى ما ذكرنا من أنّه يبني على عدم ما يضرّ وجوده بالصحّة ، وعلى وجود ما يضرّ عدمه بها ، فهذا هو معنى المضي في صلاته ، وهذا هو البناء على الصرفة.

ص: 370


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 535.

وأمّا بطور التفصيل : فقد يكون الشكّ في عدد الركعات ، وقد يكون في الأفعال.

أمّا الأوّل [ أي الشك في عدد الركعات ] فلو شكّ في صلاة الصبح مثلا بين الواحد والاثنين بمعنى أنّ ما بيده هل هي الركعة الأولى أو الثانية ، وحيث أنّ مرجع هذا الشكّ إلى احتمال عدم الإتيان بالثانية ، وأيضا حكم الشكّ في الثنائيّة والثلاثيّة كالصبح والمغرب هو البطلان ، فمعنى عدم اعتنائه بشكّه لأنّه كثير الشكّ فرض الشكّ كالعدم ، فبطلان الصلاة الذي كان حكم الشكّ يرتفع بارتفاع موضوعه في عالم التشريع.

وأيضا معنى رفع هذا الشكّ تعبّدا وفي عالم التشريع يرجع إلى رفع احتمال عدم الثانيّة ، وهذا معناه وجود الثانيّة تعبّدا ، فلو شكّ في صلاة الصبح بين الواحد والاثنين فالصلاة ليست باطلة ، بل يجب عليه أن يبني على الاثنتين ويتمّ الصلاة.

ولا فرق في كون حدوث هذا الشكّ في حال الجلوس ، أي بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية ، أو كان في حال القيام.

ولو كان هذا الشكّ - أي الشكّ بين الواحد والاثنتين - في صلاة المغرب أيضا يكون الأمر كما ذكرنا في صلاة الصبح ، أي هذه القاعدة ترفع البطلان واحتمال عدم الثانية ، فيجب عليه البناء على صحّة الصلاة والاثنتين.

وأمّا لو كان هذا الشكّ في غير صلاة الصبح وغير المغرب ، أي كان في الرباعيّات وحيث أنّ حكم الشكّ أيضا فيها البطلان - لأنّ الشكوك الصحيحة في الرباعيّات بعد إحراز الاثنتين وبعد إكمال السجدتين - فالأمر كما في صلاة الصبح والمغرب ، أي ترفع هذه القاعدة كلا الأمرين من البطلان واحتمال عدم الثانية ، فالصلاة صحيحة ويبني على الاثنتين.

هذا كلّه فيما إذا كان شكّ كثير الشكّ بين الواحد والاثنين.

وأمّا لو كان بين الاثنين والثلاثة فإن كان في صلاة الصبح فيبني على الاثنين ، بناء على ما ذكرنا من أنّ مفاد القاعدة رفع احتمال العدم إذا كان العدم مضرّا ، ورفع احتمال

ص: 371

الوجود إذا كان الوجود مضرّا لأنّ هذا معنى المضي وعدم الاعتناء بالشكّ ، وحيث أنّ في صلاة الصبح وجود الثالثة مضرّ فهذا الاحتمال ملغا فيبني على الاثنين والصحة ، أمّا الاثنين لما ذكرنا من أنّ احتمال وجود الثالثة حيث أنّه مضر فملغى. وأمّا الصحّة فلأنّ حكم الشكّ في الثنائيّة - أي صلاة الصبح - والثلاثيّة - أي صلاة المغرب - هو البطلان ، فهذه القاعدة ترفع هذا الحكم برفع موضوعه تعبّدا وفي عالم التشريع.

وأمّا إن كان هذا الشكّ - أي بين الاثنين والثلاث - في صلاة المغرب فيبني على الثلاث والصحّة ، أمّا الصحّة فلما ذكرنا في صلاة الصبح عينا. وأمّا البناء على الثلاث فلأنّ هاهنا احتمال العدم مضرّ فيبني على وجودها ، فهذا الشكّ في صلاة المغرب يكون بعكس صلاة الصبح ، لأنّه كان في الصبح يبني على الاثنين ، وفي المغرب يجب البناء على الثلاث ، لما ذكرنا من أنّه يجب البناء على الصرفة لأنّ المتفاهم العرفي من « يمضي في صلاته » أو « يمضي في شكّه » هو هذا المعنى.

وأمّا لو كان هذا الشكّ - أي بين الاثنتين والثلاث - بعد إكمال السجدتين في الرباعيّات كالظهر والعصر والعشاء ، فحيث أنّ حكم الشك ليس فيها البطلان فهذه القاعدة لا تثبت الصحّة ، لأنّها صحيحة مع قطع النظر عن هذه القاعدة ، وأيضا ليس أثر هذه القاعدة في هذه الصورة هو البناء على الثلاث فقط ، لأنّ هذا أيضا كان مع قطع النظر عن هذه القاعدة ، فالمرفوع بهذه القاعدة في هذه الصورة هو وجوب صلاة الاحتياط ، لأنّه كان أثر هذا الشكّ لو لم يكن كثير الشكّ فيرتفع هذا الأثر بهذه القاعدة.

وأمّا إذا شكّ بين الثلاث والأربع ، فإن كان في صلاة الصبح وكان بعد الدخول في الركوع فهي باطلة ، لزيادة الركوع بل الركعة يقينا. وأمّا إنّ كان قبل الدخول في الركوع ، فيجب عليه هدم القيام ، لعدم كون هذا القيام من الصلاة قطعا ، وإنّما هو زيادة سهويّة فلا يضرّ من هذه الجهة ، وبعد هدمه القيام يرجع شكّه إلى ما بين الاثنتين والثلاث بعد إكمال السجدتين ، وحكم هذا الشكّ وإن كان في حدّ نفسه هو البطلان ،

ص: 372

لأنّه شكّ في الثنائيّة - أي صلاة الصبح - ولكن حيث أنّه كثير الشكّ فيرتفع الحكم ببطلان هذه الصلاة لحكومة هذا القاعدة على ذلك الدليل.

ولمّا ارتفع الحكم بالبطلان فاحتمال الثلاثة أيضا يرتفع بهذه القاعدة ، لأنّ وجودها مضرّ لصلاة الصبح ، فإذا ارتفع احتمال الثلاثة بحكم الشارع فالنتيجة صحّة الصلاة والبناء على الاثنتين.

وأمّا إذا كان هذا الشكّ في صلاة المغرب ، ولمّا كان حكم الشكّ فيها هو البطلان كصلاة الصبح فيرتفع بهذه القاعدة ، ولمّا كان احتمال الأربعة مضرّا فهو أيضا يرتفع ، فالنتيجة صحّة الصلاة والبناء على الثلاث.

وأمّا لو كان هذا الشكّ في الرباعيّات - أي صلاة الظهر أو العصر أو العشاء - فحيث أنّ حكم الشكّ في نفسه مع قطع النظر عن كونه كثير الشكّ هي الصحّة فمن هذه الجهة لا أثر لكونه كثير الشكّ ، كما أنّ حكم الشكّ في هذه الصورة هو البناء على الأربع ، فمن هذه الجهة أيضا غير كثير الشكّ وكثير الشكّ متوافقان ، لما قلنا أنّ معنى عدم الاعتناء بالشكّ والمضي فيه هو البناء على وجود ما يكون عدمه مضرّا ، فاللازم البناء على وجود الرابعة ، فمن هاتين الجهتين لا فرق بينهما ، وهما متوافقان.

نعم الفرق بينهما أنّ في الشكّ المتعارف يجب أن يأتي بصلاة الاحتياط منفصلا ومستقلاّ لتدارك ما احتمل فوته ، وهذا كمال الاعتناء بالشكّ ، ففي كثير الشكّ الذي حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ لا يجب عليه شي ء أصلا ، وهذا الحكم - أي وجوب صلاة الاحتياط - مرفوع عنه.

وأمّا الشكّ بين الأربع والخمس ، ففي صلاة الصبح والمغرب موجب للبطلان قطعا ، ووجهه واضح في الشكّ المتعارف وكثير الشكّ. نعم لو كان في حال القيام يمكن أن يقال بوجوب هدم القيام في صلاة المغرب ، لأنّ هذا القيام ليس من الصلاة قطعا ، فإذا هدم يرجع الشكّ إلى ما بين الثلاث والأربع ، فيبني في كثير الشكّ على الثلاث ويلغا

ص: 373

احتمال الرابعة ، لأنّ وجودها مضرّ كما تقدّم شرحه. وأمّا في الشكّ المتعارف فالصلاة باطلة ووجهه معلوم.

وممّا ذكرنا عرفت أنّه لو كان أحد طرفي الشكّ ، أو أحد أطرافه هو الأربع والطرف الآخر أيّ عدد كان زائدا على الأربع وكان في حال القيام ، فالعلاج هدم القيام وتصحيح الصلاة إذا كان كثير الشكّ في صلاة المغرب ، وأمّا في الرباعيّات فيبني على الأربع في أيّ حال كان إذا كان كثير الشكّ. وأمّا في الشك المتعارف فقد تقدّم الكلام فيه في قاعدة البناء على الأكثر.

هذا كلّه في الشكّ في عدد الركعات.

وأمّا الثاني : أي الشكّ في الأفعال : فكذلك أيضا يجب عليه عدم الاعتناء بشكّه والبناء على وجود المشكوك إن كان عدمه مضرّا ، والبناء على عدمه إن كان وجوده مضرّا ، فلو شكّ في أنّه كبّر وكان كثير الشكّ يبني على أنّه كبّر تكبيرة الإحرام ، ولا يجوز له أن يكبّر ثانيا بقصد تكبيرة الإحرام ، لأنّها زيادة عمديّة مبطلة. نعم لو أتى بها من باب الاحتياط وبرجاء إدراك الواقع ثمَّ تبيّن أنّه لم يأت بها ، فالظاهر أنّ صلاته صحيحة ، ولا تجب الإعادة.

ولو شكّ في أنّه قرأ فاتحة الكتاب أو السورة ، فإن كان الشكّ في فاتحة الكتاب قبل الدخول في السورة ، والشكّ في السورة كان قبل الدخول في الركوع في الركعة الأولى أو قبل الدخول في القنوت في الركعة الثانية - وبعبارة أخرى كان قبل تجاوز المحلّ - فيبني على وجود المشكوك ، إذ عدمه مضرّ بالصحّة ، فيبني على وجوده وإن كان الشكّ في المحلّ.

ولو شكّ في الركوع فيبني على إتيانه وإن كان في المحلّ ، لعين ما ذكرنا من وجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه ، مضافا إلى ورود النصّ في المقام وفي الشكّ في السجود بقوله علیه السلام في موثّق عمّار عن الصادق علیه السلام : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتى

ص: 374

يستيقن يقينا » (1).

ولو شكّ في السجود سواء أكان المشكوك سجدة واحدة أو سجدتين يبني على الإتيان. وقد عرفت آنفا النهي عن الإتيان بها أو بهما ثانيا في خبر عمّار ، وهكذا الحال لو شكّ في التشهّد والتسليم أو في جزء منهما بعين ذلك الدليل.

ولو شكّ في وجود مانع كالتكلّم بكلام الآدمي ، أو تنجّس بدنه أو لباسه مثلا ، أو وجود حدث أو استدبار مثلا وكان كثير الشكّ فيبني على عدمه ، لأنّ هذا معنى عدم الاعتناء بالشكّ والمضيّ فيه حسب المتفاهم العرفي ، لأنّ العرف يفهم من عدم الاعتناء بالشكّ والمضي فيه أنّ ما هو مشكوك الوجود إذا كان شي ء مضرّ وجوده ، يبنى على عدمه ، وإذا كان مضرّا عدمه يبنى على وجوده ، وبعبارة أخرى : معنى عدم الاعتناء إلغاء احتمال المضرّ.

هذا في الأجزاء والموانع والقواطع.

أمّا الشرائط : فالداخلية منها حالها حال الأجزاء ، فلو شكّ كثير الشكّ في الستر ، أو طهارة البدن ، أو اللباس ، أو الاستقبال ، أو الجهر في الجهرية ، أو الإخفات في الإخفاتيّة ، أو الموالاة ، أو الترتيب ، أو غير ذلك من الشرائط الداخلية ، فيبني على وجودها ، فإنّ هذا معنى المضي في الصلاة وعدم اعتنائه بشكّه.

وأمّا الشرائط الخارجيّة : والمراد بها ما يكون لها وجود مستقلّ في خارج الصلاة كالوضوء والغسل والتيمم ، مقابل الشرائط الداخليّة التي ليس لها وجود مستقلّ خارج الصلاة ، مثلا الوقت الذي من شرائط الصلاة عبارة عن كون صلاة الظهر والعصر بين الحدّين ، أي بين زوال الشمس عن دائرة نصف النهار وبين استتارها في الأفق أو ارتفاع الحمرة المشرقيّة إلى ما فوق الرأس ، وهذا المعنى لا يمكن أن يوجد

ص: 375


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 604 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ... ، ح 62. « الاستبصار » ج 1 ، ص 362 ، ح 1372 ، باب من شكّ فلم يدر واحدة سجد أم اثنتين ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 5.

إلاّ في نفس الصلاة.

فإن قلنا بعدم شمول هذه القاعدة لها فلا كلام ، وإن قلنا بشمولها لها إذا كان الشكّ فيها في حال الصلاة ، مثلا إذا شكّ أنّه تطهّر عن الحدث الأكبر بالغسل أو التيمّم ، كلّ واحد منهما في محلّه ، أو تطهّر عن الحدث الأصغر بالوضوء أو التيمّم ، كلّ في محلّه أيضا وكان شكّه هذا في حال اشتغاله بالصلاة فيبني على وجودها ، لشمول قوله علیه السلام : « يمضي في صلاته » أو « يمضي في شكّه » لمثل هذه الشروط الخارجيّة ، لكن في حال الصلاة ، لأنّه في ذلك الحال يشبه الشروط والمقدّمات الداخليّة ، ولها بالنسبة إلى الصلاة وجود تبعي.

وبعبارة أخرى : الشروط الخارجيّة بالمعنى الذي ذكرنا لها في حال الصلاة ترجع تقريبا إلى الشروط الداخليّة فيلحقها حكمها تبعا ، لأنّ معنى شكّه في الوضوء في حال الصلاة هو أنّ صلاته مع الطهارة أم لا ، غاية الأمر أنّه من أوصاف المصلّي مثل ستر العورة والاستقبال. نعم لو شكّ قبل الصلاة في أنّه تطهّر من الحدث الأكبر أو الأصغر فلا تشمله القاعدة ، كما تقدّم الكلام فيها فلا نعيد.

تنبيهان

[ التنبيه ] الأوّل : هو أنّ هذا الحكم - أي حكم الشارع بوجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه والمضي في صلاته بمعنى أنّه لو شك في وجود جزء أو شرط يبني على وجوده ولا يعتني باحتمال عدمه ، وأنّه لو شكّ في وجود مانع أو قاطع يبني على عدمه ولا يعتني باحتمال وجوده - حكم ظاهري ، فإذا بنى على الوجود فظهر وتبيّن عدم وجوده ، أو بنى على العدم فتبيّن وجوده ، فيعمل بمقتضى ما ظهر وتبيّن.

فإن كان ما بنى على وجوده وظهر خلافه ركنا من الأركان ولم يبق محلّ تداركه ، فصلاته باطلة ، لأنّ نقيصة الركن عمدا وسهوا موجبة للبطلان.

ص: 376

وأمّا إن لم يكن ركنا ، فإن كان محلّ تداركه باقيا يجب عليه إن يتدارك ما فات ، وإن لم يكن باقيا فإن كان ممّا فيه القضاء فيجب عليه القضاء ، وإن كان ممّا فيه سجدة السهو فيجب عليه سجدتا السهو ، وإلاّ فلا شي ء عليه ، ولا إعادة لحديث « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » (1).

وأمّا إن بنى على العدم فبان وجوده يعمل بمقتضى وجوده ، كلّ ذلك من جهة أنّ مفاد هذه القاعدة حكم ظاهري ، والحكم الظاهري - كما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي (2) - حكم إثباتي ، لا ثبوت ولا واقع له ، وهو كسراب يحسبه الجاهل حكما ، ولذلك قلنا في مبحث الإجزاء أنّه لا يفيد الإجزاء. والحقّ ما أفاده الشيخ الشهيد قدس سره أنّ القول بالإجزاء ملازم مع القول بالتصويب.

التنبيه الثاني : إذا كان كثير الشكّ في شي ء لا حكم له ، إمّا من جهة كون الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، وإمّا من جهة قيام أمارة على لزوم عدم الاعتناء بذلك الشكّ ، فالأوّل : كما إذا كان شكّه وكثرته في السجدة الثانية دائما بعد الدخول في التشهّد. والثاني : كما لو كانت كثرة شكّ الإمام أو المأموم في جزء مثلا مع حفظ الآخر ، فاتّفق في الأوّل وقوع شكّه في ذلك الشي ء - أي السجدة الثانية مثلا قبل التشهّد - وفي الثاني لو شكّ الإمام مثلا من باب الاتّفاق في جزء مع عدم حفظ من خلفه عليه فهل يجب الاعتناء بهذا الشكّ - لعدم كونه كثير الشكّ في هذا الشكّ بالخصوص ، وما كان فيه كثير الشكّ لم يكن له حكم - أم لا يجب الالتفات والاعتناء بهذا الشكّ؟ لكونه كثير الشك في هذا الجزء ولو في غير هذا الحال ، أي في غير حال عدم التجاوز في الأوّل ، وفي حال عدم الحفظ في الثاني وجوه وأقوال.

قول بالالتفات مطلقا ، وقول بالعدم مطلقا ، وقول بالتفصيل بين القسمين ، ففيما كان

ص: 377


1- تقدّم تخريجه في ص 303 ، رقم (2).
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 535.

من قبيل القسم الأوّل ، أي لا حكم له في حدّ نفسه يجب الالتفات ، فإذا اتّفق وقوع الشكّ لكثير الشكّ في ذلك الجزء قبل تجاوز المحلّ يجب عليه أن يأتي به.

وأمّا فيما إذا كان من القسم الثاني ، أي فيما إذا كانت أمارة على إلغاء الشكّ وعدم الاعتناء به فلا يجب الالتفات إليه.

واختار شيخنا الأستاذ قدس سره هذا التفصيل - معلّلا بأنّ الشكّ في القسم الأوّل نوعان بخلاف القسم الثاني - وهو عجيب ، والظاهر هو عدم الاعتناء مطلقا لكونه كثير الشكّ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ص: 378

فهرس الموضوعات

ص: 379

ص: 380

14 - قاعدة عدم ضمان الأمين

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها وهي أمور : ... 9

الأوّل : عدم وجود السبب لضمانه ... 9

الثاني : اليد ... 9

الثالث : التغرير ... 10

الرابع : الاخبار ... 12

الخامس : الاجماع ... 11

السادس : الأمين محسن والضمان منفيا عنه ... 12

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة ... 12

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 21

15 - قاعدة الإتلاف

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في مداركها ... 25

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة ... 28

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 31

الاتلاف بالمباشرة والاتلاف بالتسبيب ... 31

ص: 381

إذا اجتمع السبب والمباشر قدم المباشر في الضمان ... 34

ليس على المكره ضمان في غير الدماء ... 35

مسائل الضمان فيها على السبب ، لأنه أقوى من المباشر ... 36

مسائل فيها تردد بالضمان ... 37

والعناوين المأخوذة في تلك الروايات موضوعا للضمان : ... 38

أحدها : كل شئ يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن ... 38

الثاني : من حفر بئرا في ملك غيره أو في الطريق فهو ضامن ... 38

الثالث : قول الرسول صلی اللّه علیه و آله : من أخرج ميزابا أو كنيفا ... 38

أمثله من « الشرائع » بضمان الفاعل العاقل المختار المسبب للتلف ... 39

لو ارسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا ، وفي هذه المسألة ست صور 43

مسائل من « التذكرة » تسند السبب إلى الجزء الأخير من علة التلف ... 46

16 - قاعدة الاشتراك

وفي هذه القاعدة جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها وهي أُمور : ... 53

الأوّل : الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل بين الحاضرين في زمان التكليف 53

الثاني : اتفاق الأصحاب على اشتراك جميع المكلفين في الاحكام ... 54

الثالث : ارتكاز عامة المسلمين بان حكم اللّه في أي واقعة واحد ... 55

الرابع : الاخبار ... 57

الخامس : الاحكام من الأزل جعلت على نهج القضايا الحقيقية ... 62

الجهة الثانية : في المراد من هذه القاعدة ... 63

ص: 382

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة ... 65

وهم ودفع ... 66

امّا الأوّل : وهم : عدم اطراد القاعدة وانحرافها في مواضع عديدة ... 66

وامّا الثاني : دفع والوهم : التخصص لا يضر باطراد القاعدة ... 68

كلام في الخنثى المشكل ... 69

17 - قاعدة تلف المبيع قبل القبض

والكلام فيها من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها ، وهو أُمور : ... 79

الأوّل : الروايات ... 79

الثاني : الاجماع على هذا الحكم ... 82

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ، وما هو المراد منها ، وشرح ألفاظها ... 83

الجهة الثالثة : في موارد انطباق هذه القاعدة ... 87

هل تختص هذه القاعدة بالبيع أو تشمل سائر العقود المعاوضية؟ ... 79

ينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل: في مرجوعية النماء الحاصل للمبيع التالف ما بين العقد والتلف... 94

الثاني : في عدم سقوط ضمان البائع للثمن لو تلف البيع قبل قبض المشتري ، وعدم سقوط ضمان المشتري للمبيع لو تلف الثمن قبل قبض البائع باسقاط كل منهما ... 94

الثالث : أن لا يكون التلف مسببا عن إتلاف شخص ... 95

الرابع : لو كان شخص وكيلا عن البائع والمشتري أو وليا عليهما ، فبمحض وقوع العقد يعد التلف بعد القبض 95

ص: 383

الخامس : لو فرط وكيل البائع في الاقباض فتلف المبيع انفسخ العقد ورجع المبيع إلى البائع 97

السادس : في حالة تعارض هذه القاعدة مع قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » 98

18 - قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفساده

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها ومستندها ، وهو أُمور ... 103

الأوّل : قاعدة الاقدام ... 103

الثاني : قاعدة الاحترام ... 103

الثالث : قاعدة اليد ... 103

الرابع : الاجماع ... 103

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومعناها ... 111

في معنى الضمان ... 111

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 116

جريانها في جميع العقود المعاوضيّة :

فمنها : البيع ... 116

ومنها : الإجارة ... 116

ومنها : الهبة ... 120

ومنها : الصلح ... 121

ومنها : الرهن ... 122

ومنها : عقد السبق ... 122

ص: 384

نقوض أوردوها على القاعدة والإجابة عليها ... 123

19 - قاعدة التلف في زمن الخيار

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى في مستندها ، وهو أُمور : ... 131

الأوّل : الأخبار ... 131

الثاني : الإجماع ... 133

الثالث : كون هذا الحكم مقتضى القواعد الأولية ... 133

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومقدار دلالتها ... 135

هل هذا الحكم ثابت مطلقا أو مخصوص بخيار الحيوان وخيار الشرط؟... 135

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 153

20 - قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات

عدم جواز أخذ الأجرة على مطلق ما هو واجب على الانسان فعله... 157

شروط صحة عقد الإجارة وسائر العقود المعاوضية التي تقع على الأعمال... 158

عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات إذا كانت بمعنى الاسم المصدري ، وبالجواز إذا كانت بالمعنى المصدري 159

ادعاء الاجماع على عدم الصحة بأخذ الأجرة على الواجبات ... 160

منافاة أخذ الأجرة لقصد الاخلاص والقربة ... 162

إشكال على صحة الإجارة في العبادات ، والإجابة عليه ... 162

إتيان العبارة بداعي الأثر الدنيوي لا ينافي قصد الامر والقربة ... 162

ص: 385

الإجابة عما استشكل به البهائي في مبحث الضد ... 162

بيان : إن أخذ الأجرة في باب العبادات المستأجرة على اهداء الثواب إلى المنوب عنه 164

في باب النيابات في الإجارة ، وبيان ذلك ... 165

ما أفاده الشيخ الأنصاري قدس سره بجواز أخذ الأجرة في التخيير العقلي... 716

النظر في قول الشيخ الأنصاري قدس سره ... 168

جواز أخذ الأجرة في التخيير الشرعي كخصال الكفارة ... 172

جواز أخذ الأجرة على الواجب الكفائي إن كان توصليا ... 173

اشكال : جواز أخذ الأجرة على الصناعات التي تجب كفاية ومخالفته لمنطوق القاعدة 174

21 - قاعدة : البناء على الاكثر

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها - الروايات - ... 183

الجهة الثانية : في شرح مفاد هذه القاعدة ... 184

الشك في الثلاثية والثنائية بالأصل أو بسبب مبطل للصلاة ... 186

بطلان الصلاة بالشك بين الاثنين والخمس أو الأكثر في الرباعية ... 190

بطلان الصلاة بالشك بين الثلاث والست أو الأكثر ، والأربع والست أو الأكثر 191

القاعدة تشمل الشكوك التسعة الصحيحة ... 193

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 197

الصورة الأولى : الشك بين الاثنين والثلاث بعد إكمال السجدتين ... 197

الصورة الثانية : الشك بين الثلاث والأربع يبنى على الأكثر ... 207

ص: 386

الصورة الثالثة : الشك بين الاثنتين والأربع بعد إكمال السجدتين ... 213

الصورة الرابعة : لاشك بين الاثنتين والثلاث والأربع بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية 215

أقسام الشكوك ... 221

وينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأوّل : عدم جريان الاستصحاب في باب عدد الركعات ... 226

الأمر الثاني: هل يجب التروي والفحص عند الشك في عدد الركعات؟... 230

الأمر الثالث : في أن البناء على الأكثر حكم ظاهري ... 232

الأمر الرابع : المصلي العاجز عن القيام يتعين عليه في التخيير الركعتين من جلوس أو ركعة جالسا 233

الأمر الخامس : هل يجوز في الشكوك الصحيحة أن يرفع اليد عن صلاته ويستأنف من جديد؟ 234

الأمر السادس : لو غفل عن شكه وأتم صلاته فتبين مطابقة ما أتى به للواقع... 236

الأمر السابع : الشك في الصلوات التي يكون الشك مبطلا لها موجب للبطلان بمحض حدوثه أم لا؟ 237

الأمر الثامن : فيما إذا انقلب شكه بعد الفراغ إلى شك آخر ... 240

الأمر التاسع : لو مات الشاك في الشكوك الصحيحة بعد أن بنى على ما هو وظيفته ، فهل يجب ان يقتضى عنه الصلاة أم لا؟ 241

الأمر العاشر : أحكام صلاة الاحتياط وكيفيتها وشرائطها ... 242

الأمر الأوّل : يشترط فيها جميع ما يشترط في الصلاة من الشرائط العامة... 242

ص: 387

الأمر الثاني : لا أذان ولا إقامة ولا سورة ولا قنوت فيها ... 245

الأمر الثالث : فيما إذا صدر منه ما يبطل الصلاة قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط ، فهل تبطل الصلاة ويجب إعادتها؟ 246

الأمر الرابع : لو حصل له اليقين بعد الفراغ عن الصلاة الأصلية والبناء على الأكثر 248

الأمر الخامس : لو شك في إتيان صلاة الاحتياط بعد وجوبها ... 257

الأمر السادس : لا سهو في سهو ... 258

الأمر السابع : لو شك في عدد ركعاتها فهل عليه البناء على الأكثر؟... 261

الأمر الثامن : لو نسي صلاة الاحتياط وشرع في صلاة أخرى ... 261

22 - قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في مدركها : ... 265

أولا : الاجماع ... 265

ثانيا : الاخبار ... 265

الجهة الثانية : حجية الظن في عدد الركعات مطلقا ... 269

[ الجهة ] الثالثة : في أنّ الظنّ هل هو حجّة في الأفعال أيضا ... 271

وجوه استحسانيّة :

منها : الظن إن كان حجه في إثبات الركعة ونفيها فبطريق أولى يكون حجة في ابعاض الركعة 272

ومنها : عدم اعتبار الظن من الشارع في الصلاة يلزم الحرج ... 273

ومنها : لا يجتمع اعتبار الظن في الركعة مع عدم اعتباره في أجزائها ويلزم

ص: 388

التناقض ... 273

23 - قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها ... 279

الأوّل : الروايات ... 279

الثانية : الإجماع ... 280

الجهة الثانية : في مفادها وتوضيح المراد منها ، وفيه أمور : ... 281

الأوّل : عدم اعتبار العدالة في المأموم عند رجوع الامام إليه ... 282

الثاني : في المراد من السهو في قوله علیه السلام : « لا سهو للامام ... » ... 283

الثالث : هل المراد بالحفظ هو خصوص اليقين أو يشمل الظن أيضا؟... 285

الرابع : هل هذه القاعدة تجري في الشك في الافعال أو مخصوصة بالشك في عدد الركعات؟ 285

الخامس : جريان القاعدة في الركعتين الأوليين ولم تختص بالأخيرتين... 289

السادس : هل يعتبر في رجوع الشاك منهما إلى الحافظ حصول الظن؟... 289

السابع : عدم جواز رجوع الظان إلى المتيقن ... 290

الثامن : لو كان الإمام والمأموم شاكين وقامت البينة على التعيين عند أحدهما فيجب البناء عليها ورجوع الشاك إليه 290

التاسع : إذا قامت بينة عند الظان منهما على خلاف ظنه ، هل يعمل على طبقها ويترك ظنه أو لا؟ 291

العاشر : وجوب رجوع الامام إلى المأمومين إن كانوا متفقين في الحفظ... 292

الحادي عشر : فيما إذا كان أحدهما شاكا ولم يكن الاخر حافظا ... 296

أما السهو - النسيان - فيه ثلاث صور : ... 302

ص: 389

الصورة الأولى : إذا كان السهو مخصوصا بالامام ... 302

الصورة الثانية : إذا كان السهو مختصا بالمأموم ... 305

الصورة الثالثة : إذا كان السهو مشتركا بينهما ... 309

24 - قاعدة لا شك في النافلة

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها : ... 317

الأول : الروايات : ... 317

الثاني : الإجماع ... 321

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة وبيان المراد منها ، وفيه أُمور : ... 322

الأول : التخيير للتسهيل وينافي ما إذا كان موجبا لبطلان العمل ولزوم الإعادة 322

الثاني : ما هو مقتضى الأصل لو شك في ثبوت هذا الحكم في مورد؟... 323

الثالث : هل نفي الشك عن النافلة يشمل الأقسام الثلاثة للنافلة أو ظاهر في بعضها دون بعض 324

الرابع : إن هذا الحكم - الغاء الشك في النافلة - مخصوص في عدد الركعات ولا يشمل باقي أفعال الصلاة 334

الخامس : جريان هذا الحكم في كل نافلة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ... 335

السادس : هل ان هذا الحكم يختص بالشك أم يجري في النسيان والغفلة؟... 336

السابع : غفران زيادة الركن في النافلة ... 337

الثامن : لا تجب سجدتا السهو في النافلة ... 340

الجهة الثالثة : في نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوّلية التي دلّت على ثبوت أحكام

ص: 390

الشكّ وفي موارد تطبيقها ... 340

25 - قاعدة لا شكّ لكثير الشكّ

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو : الاخبار والاجماع ... 345

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ، وفيه أمور : ... 350

الأوّل : المراد من السهو في هذه القاعدة هو الشك لا خصوص معناه الحقيقي 350

الثاني : في المراد من المضي في صلاته ... 352

الثالث : أن هذا الحكم تعييني لا تخييري ... 352

الرابع : هل هذا الحكم مختص بالصلاة أم يجري في سائر العبادات أيضا... 353

الخامس : لو كان كثير الشك في بعض أفعال الصلاة وشك في جزء آخر ، هل يجري فيه حكم كثير الشك أم لا؟ 356

السادس : في المراد من كثير الشك وكثير السهو ... 358

السابع : لو شك كثير الشك بين الأربع والخمس يبنى على الأربع بدون أن يأتي بسجدتي السهو 363

الثامن : هل يلحق كثير الظن بكثير الشك في هذا الحكم أم لا؟ ... 365

التاسع : عدم جريان القاعدة في الشك في أصل وجود الصلاة ... 367

العاشر : هل الامر بالتخفيف في الصلاة والاحصاء بالحصى لكثير الشك واجب أم لا؟ 368

الجهة الثالثة : في بيان نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوليّة ، وموارد تطبيقها... 369

ص: 391

تنبيهان

الأول : أن هذا الحكم - عدم اعتناء كثير الشك بشكه - حكم ظاهري... 376

الثاني : إذا كان كثير الشك في شئ لا حكم له ، فهل يجب الاعتناء بهذا الشك أم لا؟ 377

ص: 392

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الثالث

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 3

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

فهرس الإجمالي

26 - قاعدة عموم حجّية البيّنة............................................... 7

27 - قاعدة إقراء العقلاء ................................................. 43

28 - قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ........................ 69

29 - قاعدة كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين ............................ 109

30 - قاعدة العقود تابعة للقصود ........................................ 133

31 - قاعدة انحلال العقود .............................................. 157

32 - قاعدة الإلزام .................................................... 177

33 - قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات .................... 207

34 - قاعدة المؤمنون عند شروطهم ...................................... 247

35 - قاعدة التسامح في أدلّة السنن ..................................... 325

ص: 5

ص: 6

26 - قاعدة عموم حجّية البيّنة

اشارة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخير بريته ، سيّد الأوّلين والآخرين ، محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

قاعدة عموم حجّية البيّنة (1)

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « حجيّة البيّنة ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في الدليل على اعتبارها

اشارة

فنقول : لا شكّ في أنّ المراد من البيّنة في هذه القاعدة هو شهادة عدلين ، فكلّ دليل نأتي به على اعتبارها لا بدّ وأن يكون مفاده حجّية البيّنة بهذا المعنى ، لا بمعنى آخر.

ص: 9


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 405 ، « عوائد الأيام » ص 88 و 273 ، « عناوين الأصول » عنوان 82 ، « خزائن الأحكام » ش 40 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 461 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 46.

فنقول أوّلا : ما هو معنى البيّنة لغة وعرفا؟

ولا شكّ في أنّها صفة مشبّهة من بان ، فإذا كان موصوفها مذكّرا يقال : هو بيّن ، وإذا كان مؤنّثا يقال : هي بيّنة ، فهو كسيّد وسيّدة من سادَ.

وحيث أنّ موصوفها هي الحجّة ، فيقال : إنّها بيّنة ، أي حجّة واضحة لا سترة ولا خفاء فيها ، وهي بهذا المعني تكون مرادفة للبرهان.

وقد استعمل بهذا المعني في خمسة عشر موضعا من القرآن العظيم ، وقد عبر فيه عن المعجزتين اللتين لموسى علیه السلام تارة بكلمة « برهان » ( وأخرى ) بلفظة « البيّنة » في قوله تعالى ( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ ) (1) وفي قوله تعالى حكاية عن قول موسى علیه السلام ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) إلى قوله تعالى ( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ ) (3) فمعني هذه الكلمة لغة وعرفا هي الحجّة الواضحة ، والبرهان أي : ما يوجب اليقين.

ولكن الظاهر أنّها في لسان الشرع عبارة عن شهادة عدلين على أمر ، وهذا المعنى - بعد حكم الشارع باعتبارها وبعد أن جعلها أمارة وحجّة - تكون من مصاديق الحجّة الواضحة بناء على أنّ حجّية الأمارات من باب تتميم الكشف في عالم الاعتبار التشريعي ، فتبادر هذا المعنى في لسان الشرع يرجع إلى انصراف المفهوم الكلّي إلى بعض مصاديقه ، ولذلك لم يحتمل أحد من الفقهاء في قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (4) أو في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و

ص: 10


1- القصص (28) : 32.
2- الأعراف (7) : 105.
3- الأعراف (7) : 107 - 108.
4- « عوالي اللئالى » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.

الأيمان » (1) أن يكون مراده صلی اللّه علیه و آله غير هذا المعنى ؛ لأنّ اليد تكون أمارة شرعية إمضائيّة لما عند العقلاء.

فإذا ادّعى أحد على صاحب اليد فتكليفه بالبيّنة لا يفهم منه إلاّ شهادة عدلين ، وإلاّ لو كان المراد منها مطلق الحجّة ، فلو كان سابقا ملكا للمدّعي فاستصحاب ملكيّته حجّة له بناء على اعتبار الاستصحاب - كما هو كذلك - فلا يحتاج إلى حجّة أخرى ، ففهمهم شهادة شاهدين من ذلك الكلام دليل على انصراف البيّنة إلى ما هو المتبادر منها في تلك الأذهان وهو شهادة عدلين ، وإلاّ لو كان مراده صلی اللّه علیه و آله مطلق الحجّة فالمنكر هو الذي يكون قوله مطابقا للحجّة الفعلية ، فلا يبقي مجال لهذا التفصيل بين المدعي والمنكر ، بل تكون لكلّ واحد منهما الحجة.

فإذا عرفت ما هو المتبادر من لفظة « البينة » في الأحاديث الصادرة عن المعصومين علیهم السلام . فنقول :

استدلّوا لحجية البينة بالمعنى المذكور بأمور :

الأوّل : رواية مسعدة بن صدقة « كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع ، أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة » (2).

ص: 11


1- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب أنّ القضاء بالبينات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 2 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

وبعد ما عرفت من أنّ المتبادر من لفظة « البينة » في الروايات هو شهادة شاهدين ، فدلالة هذه الرواية على عموم حجّيتها في كلّ موضوع وعدم اختصاصها بباب القضاء واضحة ، إذ الجمع المعرّف باللام يفيد العموم ، مضافا إلى تأكيد كلمة « الأشياء » بكلمة « كلّها ».

فمعني الرواية أنّ جميع الأشياء ، أي الموضوعات الخارجيّة على ذلك ، أي الحلّية إلى أن تعرف بالعلم الوجداني حرمتها أو بالبيّنة ، فجعل علیه السلام قيام البيّنة بمنزلة العلم في حصول غاية الحكم بالحلّية في جميع الأشياء ، سواء أكان في باب القضاء أو غيرها.

وأورد على الاستدلال بهذه الرواية على عموم حجّية البيّنة في جميع الموضوعات بايرادات :

الأوّل : عدم اعتبارها ، لأنّ راويها مسعدة عامّي ولم يوثّقوه.

وفيه : أنّ عمل الأصحاب بها يوجب الوثوق بصدورها ، وموضوع الحجّية هو خبر الموثوق الصدور ، لا خبر الثقة.

الثاني : أنّ المراد بقوله علیه السلام « حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » العلم والعلمي ، فيحتاج إثبات أنّ البيّنة - أعني شهادة عدلين - دليل علمي في جميع الموضوعات ، سواء أكان في باب القضاء أو غير القضاء إلى دليل آخر غير هذه الرواية.

وفيه : أنّه وإن تقدّم أنّ لفظة « البيّنة » معناها لغة هي الحجّة الواضحة ولعلّه عرفا أيضا كذلك ، فلو كان المراد في هذه الرواية هذا المعنى فهو كما توهّم ويحتاج إثبات أنّ البيّنة بمعنى شهادة عدلين من الحجّة الواضحة إلى دليل آخر غير هذه الرواية.

ولكن قلنا إنّ هذه الكلمة بواسطة كثرة الاستعمال في شهادة اثنين على موضوع عند العرف صارت منقولا عرفيا ، وإن أنكرت كونها منقولا عرفيا فلا يمكن إنكار أنّها منقول شرعي ، لما قلنا من أنّها في لسان الشارع ظاهرة في شهادة عدلين. مضافا إلى

ص: 12

أنّها لو كان المراد منها مطلق الحجّة الواضحة يلزم أن يكون قسم الشي ء قسيما له ، لوضوح أنّ الاستبانة - أي العلم - قسم من الحجّة الواضحة ، بل أعظم وأجلى مصاديقها.

الثالث : أنّ البيّنة في هذه الرواية جعلت غاية للحلّ ، فكأنّه قال علیه السلام : كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم حرمته أو تقوم البيّنة على حرمته ، ولا تدلّ إلاّ على حجّية البيّنة لإثبات حكم الحرمة ، لا إثبات الموضوعات كخمريّة مائع ، أو كرية ماء ، أو اجتهاد زيد أو عدالته ، وأمثال ذلك من الموضوعات ، بل لا تدلّ على حجّيتها لإثبات سائر الأحكام الجزئية كنجاسة ذلك الشي ء ، أو ملكيّته لفلان ، أو زوجيّة فلانة لفلان وأمثال ذلك ، والمدّعي هو عموم حجّيتها في جميع الموضوعات.

وفيه : أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من هذه الرواية هو أنّ الحرمة لا تثبت باحتمال ما هو موضوع الحرمة ، بل لا بدّ من العلم بالموضوع وأنّه سرقه أو هي رضيعة ذلك الشخص ، وأمثال ذلك مثل أنّه ميتة أو خمر أو غير ذلك ، أو أن تقوم البيّنة على ذلك الموضوع ، أي يحتاج إثبات الحرمة وارتفاع الحلّية على إثبات ما هو موضوع الحرمة ، والمثبت للموضوعات إمّا العلم أو البيّنة ، فجعل علیه السلام البيّنة عدلا للعلم.

وحيث أنّ حجّية العلم ذاتيّة فلا يحتاج إلى جعل تشريعي ، بل لا يمكن ذلك ، ولكن البيّنة ليست كذلك ، فيحتاج حجّيتها وأماريّتها إلى الجعل ، فلمّا حكم الشارع بكونها لإثبات الموضوعات مثل العلم يستكشف أنّها حجّة وأمارة لإثباتها ، فيثبت بها الموضوعات ، فيترتّب عليها جميع أحكامها من الحرمة والنجاسة والطهارة والملكيّة والزوجيّة وغيرها ، فإذا شهدت البيّنة بعدالة شخص فيجوز الصلاة خلفه والطلاق عنده ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام.

وبعبارة أخرى : ظاهر قوله علیه السلام « الأشياء كلّها على ذلك » أي على الإباحة حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة ، أي حتّى تقوم أمارة العلمي أو العلم على

ص: 13

ثبوت موضوع الحرمة ، فإذا ثبت بالعلم أو الذي كالعلم في الأماريّة - أي البيّنة - فيرتفع الحلّية والإباحة.

ثمَّ إنّه بعد هذا الاستظهار من الرواية - وأنّها تدلّ على أماريّة البيّنة لإثبات الموضوعات مثل العلم - فلا يبقي مجال لأن يقال غاية ما تدلّ الرواية هي حجّية البيّنة لإثبات الحرمة ، لا مطلق الأحكام الجزئية وموضوعاتها ، فالدليل يكون أخصّ من المدّعى ، لأنّ المدّعي حجّيتها لإثبات جميع موضوعات الأحكام ، وضعية كانت أم تكليفيّة ، والتكليفية حرمة كانت أو غيرها ، ومفاد الدليل هو حجّيتها في خصوص إثبات الحرمة ، لا سائر الأحكام ولا الموضوعات مطلقا.

وذلك من جهة أنّ هذه الموضوعات التي يعدّها علیه السلام في الرواية - من كون المال سرقة ، أو كون المملوك حرّا قهر عليه ، أو خدع فبيع ، أو كون المرأة التي تحته أخته أو رضيعته - جعلها فيما إذا كانت مشكوكة موارد لقاعدة الحلّ إلاّ فيما إذا استبان أحد هذه الأمور ، أو قامت عليه البيّنة ، فكما أنّه لو علم بوجود أحد هذه الأمور يترتّب عليه جميع أحكامه لا خصوص الحرمة ، فكذلك في صورة قيام البيّنة.

والمشار إليه لكلمة « على ذلك » في قوله علیه السلام : « الأشياء كلّها على ذلك » وإن كان هي الحلّية ، لكن موضوع الحلّية في هذه الجملة وهو « الأشياء » عبارة عنها مع الشكّ في حكمها من ناحية الشكّ في موضوع الحرمة بعد الفراغ عن معلوميّة حكم الموضوعات من ناحية الشبهة الحكميّة.

فيكون المراد من الاستثناء بقوله علیه السلام « حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » استبانة الموضوع وأنّه ممّا هو محرّم كالسرقة ، وكون المملوك حرا ، وكون المرأة أخته أو رضيعته وغير ذلك من الموضوعات المحرّمة.

وكذلك الأمر في قيام البيّنة ، أي الموضوعات المشكوكة أنّها من الموضوعات المحلّلة أو من الموضوعات المحرّمة ، فهي حلال إلاّ أن يثبت كونها من الموضوعات

ص: 14

المحرّمة ، وطريق إثباتها أمّا العلم أو البيّنة ، فتدلّ الرواية على أنّ البيّنة مثل العلم طريق مثبت للموضوعات ، فيترتّب عليها أحكامها مطلقا ، حرمة كانت أو غيرها ، وهو المطلوب.

وبناء على ما ذكرنا فلا يبقى مجال لأن يقال : غاية ما تدلّ عليه هذه الرواية هو حجّية البيّنة فيما إذا قامت على الحرمة ، فلا يقتضي حجّيتها على الموضوع فضلا عن عمومها لجميع الموضوعات ، لما عرفت من دلالة هذه الرواية على أنّ البيّنة مثبتة للموضوعات مثل العلم ، فكما أنّ العلم مثبت لجميع الموضوعات فكذلك البيّنة ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ طريقيّة العلم ذاتيّة وجدانيّة ، وطريقيّة البيّنة جعليّة تعبّديّة وإمضاء لبناء العقلاء على حجّيتها.

فلا يحتاج إلى أن يتكلّف بأنّ قيام البيّنة على الحرمة أعمّ من أن تكون الحرمة مدلولا التزاميّا أو مطابقيّا لما قامت عليه ، فإذا قامت على موضوع محرّم - كالسرقة ، أو كون المرأة أختا له أو رضيعته ، أو كونه حرّا فبيع ، وما شابهها - فقد قامت على الحرمة التزاما ، ثمَّ بعدم القول بالفصل بين مثل هذه الموضوعات وغيرها ممّا ليس حكمها الحرمة يتمّ المطلوب ، أي عموم حجّيتها على جميع الموضوعات ، والإنصاف أنّ هذا يشبه الأكل من القفا.

الثاني : من أدلّة حجّيتها هو الإجماع. وادّعته جماعة ، وفي الجواهر نفي وجدانه للخلاف في إثبات النجاسة بها ، ولم ينقل الخلاف إلاّ من القاضي بن البرّاج ، وظاهر عبارة الكاتب والشيخ قدس سره .

قال في الجواهر : بل لا أجد فيه خلافا إلاّ ما يحكى عن القاضي وعن ظاهر عبارة الكاتب والشيخ ، ولا ريب في ضعفه (1).

ولا ريب في أنّ المتتبّع في كلام الأصحاب يجد تسالمهم على إثبات كلّ موضوع

ص: 15


1- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 172.

ذي حكم شرعي بها ، فإنّهم يعترفون بثبوت النجاسة والطهارة والقبلة والوقت للصلاة ، وأسباب التحريم في باب النكاح من النسب والرضاع ، وثبوت الوكالات للأشخاص وعزلهم والوصايا إلى غير ذلك من الموضوعات أو الأحكام الجزئية بها ، من غير نكير لأحدهم في إثبات هذه الأمور بها إلاّ الشاذّ الذي لا يعبأ بخلافه ، بل المخالف الشاذّ أيضا لا يخالف إلاّ في بعض الموارد الجزئيّة بجهة أخرى غير إنكار حجّية البيّنة ، بل يدّعي مثلا أنّ ارتفاع الطهارة لا يكون إلاّ بالعلم بالنجاسة ، لأنّ طهارة المشكوك مغيّاة بالعلم بالخلاف والبيّنة ليست بعلم.

وإن كان هذا الكلام باطلا ، لأنّ أدلّة حجّية البيّنة ، بل الاستصحاب ، بل كلّ حجّة شرعيّة على النجاسة كإخبار ذي اليد ، أو خبر العدل الواحد - لو قلنا بحجيّته - تكون حاكمة على قاعدة الطهارة.

والحاصل : أنّ الفقهاء لا يزال يستدلّون على ثبوت الموضوعات التي لها أحكام بقيام البيّنة عليها ، ولا ينكر على المستدلّ بها أحد منهم إلاّ المناقشات في تحقق البيّنة وفي جهات أخر غير جهة حجّيتها.

نعم هاهنا مطلب آخر ، وهو أنّه تقدّم منّا مرارا في هذا الكتاب أنّ هذه الإجماعات ليست ممّا هو مصطلح الأصولي التي ثبتت هناك حجّيتها ، لاحتمال اعتماد المتّفقين بل الاطمئنان بأنّهم اعتمدوا على بعض هذه المدارك المذكورة أو على كلّها.

نعم هذا الاتّفاق والتسالم منهم يؤيّد ما استظهرنا من رواية مسعدة بن صدقة (1) من مفروغيّة حجّية البيّنة ، وأنّها مثل العلم في إثبات موضوعات الأحكام بها.

الثالث : من أدلّة حجّيتها في جميع الموضوعات الروايات :

منها : ما هو المروي في الكافي والتهذيب عن عبد اللّه بن سليمان ، عن الصادق علیه السلام

ص: 16


1- تقدّم في ص 11 ، رقم (2).

في الجبن : « كلّ شي ء حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة » (1).

وظاهر هذا الخبر أنّ ارتفاع الحلّية عن مشكوك الحلّية والحرمة لا يكون إلاّ بقيام شاهدين على تحقّق موضوع الحرمة وثبوته ، وهو في المورد عبارة عن كون الميتة فيه ، أي في الجبن.

فتكون الرواية ظاهرة في أنّ قيام الشاهدين على وجود موضوع الحرمة - أي كون الميتة فيه - أمارة على وجوده ، ومعلوم أنّه علیه السلام بصدد بيان أنّ شهادة شاهدين بمنزلة العلم في إثبات ما قامت عليه ، ولا خصوصيّة للميتة وإنّما ذكرها في الرواية لبيان المورد ، وإلاّ فلا خصوصيّة فيها.

وأمّا الإشكال عليها بضعف السند ، ففيه أنّ اتفاق الأصحاب على حجّية البيّنة في جميع الموضوعات - إلاّ الشاذّ منهم - يكون جابرا لضعف سندها ، وموجبا للوثوق بصدورها الذي هو موضوع الحجّية ، وقد حرّرنا المسألة من هذه الناحية في كتابنا « منتهي الأصول » (2) ومن أراد فليراجعها.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في ثبوت الهلال بشهادة عدلين - أي البيّنة - كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّ عليّا علیه السلام كان يقول « لا أجيز في رؤية الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين » (3) وصحيح منصور بن حازم عنه أيضا أنّه علیه السلام قال : « صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه ». (4) وروايات أخر

ص: 17


1- « الكافي » ج 6 ، ص 339 ، باب الجبن ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 91 ، أبواب الأطعمة المباحة ، باب 61 ، ح 2.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 91 و 613.
3- « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 180 ، ح 499 ، باب فضل صيام يوم الشك ، ح 71 ، « وسائل الشيعة » ج 7 ، ص 208 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، باب 11 ، ح 8.
4- « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 157 ، ح 436 ، باب علامة أوّل شهر رمضان وآخره ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 2 ، ص 63 ، ح 205 ، باب علامة أوّل يوم من شهر رمضان ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 208 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، باب 11 ، ح 4.

كهاتين الصحيحتين وبهذا المضمون تقريبا.

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّه علیه السلام بصدد أنّه لا يثبت الهلال إلاّ بالرؤية والعلم ، أو بما هو بمنزلة العلم في إثبات ما قام عليه ، فكأنّه علیه السلام جعل أماريّة البيّنة وكونها بمنزلة العلم أمرا مفروغا عنه ومن المسلّمات ، ولذلك قال علیه السلام : « إذا شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه » لأنّ شهادتهما بالرؤية بمنزلة علمك بها ، مثبت لها.

وأيضا ظاهر هذه الروايات أنّ الحكم بشهادة عدلين لكونها مثبتة وأمارة ولا دخل في كون متعلّقها رؤية الهلال في أماريّتها ، ولكن مع ذلك كلّه ظهور هذه الروايات في عموم حجّية البيّنة - بالنسبة إلى جميع الموضوعات وعدم اختصاصها بإثبات الهلال - لا يخلو من تأمّل وإشكال.

فالأحسن أن تجعل هذه الروايات من المؤيّدات لعموم حجّيتها ، وكونها مؤيّدة له لقوّة احتمال عدم كون المتعلّق - وهو رؤية الهلال - دخيلا في اعتبارها.

ومنها : الأخبار الواردة في باب الدعاوي وأنّها وظيفة المدّعي وتثبت بها دعواه ، كقوله علیه السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (1).

وتقريب الاستدلال بها أنّ حجّيتها في مقابل المدّعي مع كونه صاحب اليد وله أمارة الملكيّة أو غيرها ممّا هو محلّ النزاع ، تدلّ على حجّيتها بطريق أولى فيما إذا لم يكن مدّع وصاحب يد في البين ، لأنّه علیه السلام إذا قال إنّها حجّة على ما قامت عليه مع معارضتها بحجّة أخرى من قبل الخصم ، فالظاهر والمتفاهم العرفي من هذه العبارة حجّيتها فيما إذا لم يكن لها معارض بالأولويّة القطعيّة.

ص: 18


1- تقدّم في ص 10 ، رقم (4).

والسرّ في ذلك أنّه علیه السلام جعل البيّنة طريقا ومثبتا لما قامت عليه وكاشفا له بحيث لا يبقي مع وجودها للمدّعي اعتبار ليد المنكر في قبالها.

ومنها : قوله علیه السلام : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (1). وحكي أيضا : « إذا شهد عندكم المؤمنون فاقبلوا » (2).

وتقريب الاستدلال بهما ، هو أنّ المراد بالشهادة قيام البيّنة على شي ء أو أمر فيجب تصديقها أو قبول قولهما.

وفيه : أنّ ظاهرهما على فرض أن يكون المراد من التصديق والقبول ترتيب الأثر على قولهم ولزوم العمل على طبق مقالتهم ، حجّية خبر كلّ مؤمن ومسلم ، سواء أكان عادلا أم لا ، وسواء أكان واحدا أم كان المخبر متعدّدا. وبعبارة أخرى : مفادهما حجّية خبر كلّ فرد من أفراد المسلمين أو المؤمنين الذي معلوم عدمها.

نعم ربما يقال بحجّية خبر كلّ ثقة في الموضوعات أيضا مثل الأحكام ، ولكنّه بهذا العموم لم يقل به أحد.

والحقّ ، أنّ هاتين الروايتين على فرض صحّة سندهما ، مفادهما مفاد قوله تعالى :

( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (3) فيكون المراد منهما ما قيل في تفسير الآية من القبول الصوري وعدم تكذيبهم والإنكار عليهم ، أو بعض مراتب التصديق النفسي فيما ينفعهم أو غيرهم ولا يكون مضرّا لغيرهم ، لا ترتيب الآثار الواقعيّة على ما أخبروا به وإن كان يضرّ غيرهم.

الرابع : الآيات :

ص: 19


1- « الكافي » ج 5 ، ص 299 ، باب في حفظ المال وكراهة الإضاعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 230 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 6 ، ح 1. وفيهما : « المؤمنون » بدل « المسلمون ».
2- لم نجده في وسائل الشيعة وبحار الأنوار ومستدرك الوسائل.
3- التوبة (9) : 61.

منها : قوله تعالى ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (1).

وقوله تعالى ( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2).

وقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (3).

وقوله تعالى ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (4).

فالآية الأولى وإن كانت في مورد القرض والاستشهاد عليه ، والثانية في مورد الوصية ، والثالثة في مورد جزاء الصيد في حال الإحرام وحكم رجلين عدلين وشهادتهما بالمثليّة للصيد ، ولكن يستظهر منها أنّ اللّه تبارك وتعالى جعل البيّنة - أي شهادة رجلين عدلين - طريقا وكاشفا مثل العلم ، ويثبت بها كلّ موضوع قامت عليه ، سواء أكان أحد هذه الثلاثة - أي القرض والوصيّة وكون الجزاء مثل الصيد - أو غيرها من سائر الموضوعات.

وكذلك الآيات التي تدلّ على وجوب تحمّل الشهادة ووجوب أدائها وحرمة كتمانها ، كقوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ) (5) وقوله تعالى ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (6) وقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (7) ظاهرة بالدلالة الالتزاميّة في وجوب قبولها ، وإلاّ يكون وجوب تحملها ووجوب أدائها وحرمة كتمانها لغوا وبلا فائدة.

ص: 20


1- البقرة (2) : 282.
2- المائدة (5) : 106.
3- الطلاق (65) : 2.
4- المائدة (5) : 95.
5- الطلاق (65) : 2.
6- البقرة (2) : 283.
7- البقرة (2) : 283.

نعم ظاهر هذه الآيات وجوب قبول إخبار العادل بموضوع من الموضوعات وإن كان واحدا ، ولكن يمكن أن يقال بتقييد إطلاقها بكونها متعدّدة ، إمّا بالإجماع أو بالأخبار كرواية مسعدة بن صدقة (1) وغيرها.

وخلاصة الكلام : أنّ الفقيه المتتبّع في موارد قبول شهادة الرجلين العادلين ، إذا أمعن النظر فيها ولاحظ وتدبّر يقطع بأنّه لا خصوصية لتلك الموارد ، بل تكون حجّيتها عامّة في جميع الموضوعات إلاّ ما خرج عن تحت ذلك العموم بأدلّة خاصّة.

فما روي الصدوق قدس سره في كتاب عرض المجالس عن الصادق علیه السلام ، وفيه : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة » (2) ظاهر في أنّ شهادة العدلين في ارتكاب الذنب مثل رؤيته طريق مثبت لارتكاب الذنب ، ومعلوم أنّه لا خصوصية لارتكاب الذنب من بين سائر الموضوعات.

والانصاف أنّ إنكار حجّية البيّنة العادلة - التي نسب إلى القاضي عبد العزيز بن برّاج (3) في إثبات النجاسة ، وكذا ما هو الظاهر من السيّد في الذريعة (4) ، والمحقق الأوّل في المعارج (5) ، والثاني في الجعفريّة (6) ، وبعض آخر - قدس اللّه أسرارهم - من أنّ الاجتهاد لا تثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه - لا وجه له بعد ما عرفت توافر الأدلّة على عموم حجّيتها.

الخامس : من أدلّة حجّيتها هي سيرة العقلاء من كافة الملل وإن لم يكونوا من

ص: 21


1- تقدّم في ص 11 ، رقم (2).
2- « الأمالي » للصدوق ، ص 91 ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 292 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 41 ، ح 13.
3- « جواهر الفقه » ص 9 ، مسألة 9.
4- « الذريعة » ج 2 ، ص 81.
5- « معارج الأصول » ص 201.
6- « الجعفريّة » ضمن رسائل المحقق الكركي ، ج 1 ، ص 80.

أهل الدين ، فجميع الملل والعقلاء يرون شهادة شخصين - غير متّهمين ولا معروفين بالكذب ولا مغرضين بالنسبة إلى المشهود عليه - طريقا مثبتا ؛ لما قامت عليه في أحكامهم العرفيّة بالنسبة إلى جميع الموضوعات.

والحاصل : أنّ كون شهادة شخصين بالقيود التي عندهم من الأمارات العرفيّة وطريقا مثبتا لأيّ موضوع تعلّقت به من المسلّمات عندهم ، وعليها - أي حجّية البيّنة في إثبات جميع الموضوعات التي لها آثار عندهم - استقرّت سيرتهم في معاملاتهم ومعاشراتهم وسياساتهم ولم يرد ردع من قبل الشارع ، بل وردت إمضاءات من قبل الشارع على العمل على طبقها ، وهي موارد الأخبار الكثيرة المتقدّمة ، بل يمكن ادّعاء جريان سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة على حجّيتها.

نعم خصّصت هذه القاعدة في موارد ، مثل شهادتهما على الزناء واللواط وأمثالهما ممّا لا يكتفي بشهادة الاثنين ، بل ثبوتهما يحتاج إلى شهادة أربع من العدول ، وكالشهادة على الميّت بكونه مديونا بكذا ، فإنّها - أي البيّنة - لا تقبل إلاّ مع ضمّ يمين المدّعي إليها ، وكشهادتهما على النفي بناء على عدم قبول بيّنة النفي ، وكبيّنة المنكر المسمّى ببيّنة الداخل بناء على اختصاص هذه الوظيفة بالمدّعي ، وغير ذلك.

فهذه قاعدة شرعيّة قابلة للتخصيص كسائر العمومات الصادرة من الشارع ، فيجب الأخذ بها والعمل على طبقها إلاّ أن يرد دليل وحجّة من قبله على التخصيص. وإذا حصل الشكّ في مخصّصية شي ء يؤخذ بأصالة العموم ، كما هو الحال في سائر الموارد.

ثمَّ إنّ هاهنا أمور ينبغي أن يذكر

[ الأمر ] الأوّل : في أنّه بعد ما عرفت من عموم حجّية البيّنة في كلّ موضوع ، فاعلم : أنّه لا بدّ وأن يكون له أثر شرعي ، لأنّه إذا لم يكن له أثر شرعي لا معنى للتعبّد

ص: 22

بقبولها.

ففي كلّ مورد لا يكون عدم شي ء ، أو وجوده ، أو بقاؤه محرزا بالوجدان ، والشارع أمر بترتيب الأثر على عدمه كما في مورد أصالة البراءة ، أو على وجوده كما في موارد الأمارات والأصول المثبتة للتكاليف والأحكام أو لما هو موضوع للحكم الشرعيّ ، أو على بقائه وعدم ارتفاعه كما في موارد الاستصحاب لا بدّ وأن يكون لذلك الوجود أو ذلك العدم أو لبقاء ذلك الشي ء بعد القطع بحدوثه - سواء أكانت تلك الحالة السابقة هو الوجود أو العدم - أثر شرعي ، كي يكون أمر الشارع بالتعبّد بلحاظ ترتيب ذلك الأثر ، فلا بد في مورد قيام البيّنة أيضا أن يكون لما قامت عليه أثر شرعي.

فإن كان موضوع الأثر أمرا محسوسا وقامت البيّنة عليه فلا كلام ، وأمّا إن لم يكن من الأمور المحسوسة - كالعدالة والاجتهاد وسائر الحالات والملكات النفسانيّة التي لثبوتها أثر شرعي - فهل تقبل البيّنة فيها أم لا؟

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ أدلّة حجيّة البيّنة - سواء كانت هي سيرة العقلاء أو الإجماع أو الاخبار أو الآيات - ظاهرة فيما إذا كان أخبارهما عن حسّ ، إذ هو المتفاهم العرفي عن لفظة « الشهادة » و « البيّنة ».

ولكن المشهود به قد يكون من الأمور المحسوسة بنفسه ، كما إذا شهدا بإطلاق ماء أو إضافته أو خمريّة مائع وغير ذلك من الأمور المحسوسة بأحد الحواسّ الخمسة التي لها آثار شرعيّة. وهذا هو الذي لا كلام في حجيّة البيّنة فيها ، بناء على عموم حجيتها في جميع الموضوعات.

وقد لا يكون من الأمور المحسوسة بأحد الحواسّ الخمسة بنفسه ، ولكن له آثار محسوسة بحيث تكون بينها وبين ذلك المشهود به ملازمة عرفيّة ، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات أيضا تقبل ، وتكون إحساسها بإحساسها آثارها غير المنفكّة عنها عند العرف.

ص: 23

وكذلك إذا كان لها أسباب محسوسة ، مثل الطهارة والنجاسة والزوجيّة والملكيّة ، وغير ذلك من الاعتبارات الشرعيّة أو العرفيّة التي لها أسباب محسوسة ، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات أيضا تقبل ، لإمكان عدّها في المحسوسات باعتبار كون أسبابها محسوسة.

ويمكن أن يقال : إنّ الشهادة على هذا المسبّب غير المحسوس شهادة على السبب المحسوس بالالتزام ، فإذا ثبت السبب بها لكونه محسوسا يثبت المسبّب ، للملازمة بينهما. وحيث أنّ البيّنة من الأمارات ولا مانع من إثبات لوازم ما قامت عليه ، وكذلك ملزوماته بها.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ نفس المشهود به إذا كان من المحسوسات فيثبت بالبيّنة ، وكذلك فيما إذا كان له سبب محسوس أو كان له أثر محسوس ، وأمّا فيما عدا ذلك فلا دليل على وجوب قبولها ، لأنّ دليل حجيتها إمّا الأخبار والآيات ، فهي لا تدلّ إلاّ على حجيّة البيّنة إذا كانت شهادتهما وأخبارهما عن مشاهدة وعيان.

وبهذا الاعتبار يطلق على أخبارهما بشي ء لفظة « الشهادة » وذلك لأنّ المتفاهم العرفي من كلمة « الشهادة » هو الإخبار عمّا عايناه وعلماه بإحدى الحواس الخمس لا مطلق الإخبار عن علم ، ولذلك لا يقال للإخبار عن رأيه واعتقاده فيما إذا أخبر المجتهد عن رأيه : أنّه شهد بذلك.

وكذلك إخبار أهل الخبرة عن رأيه في موضوع يتعلّق بفنّه ليس من باب الشهادة ، ولذلك لو قلنا بحجيّة قول أهل الخبرة - كما هو كذلك ، لقيام سيرة العقلاء عليها - لا يعتبر فيه التعدّد ولا العدالة.

وإمّا الإجماع والسيرة - أي بناء العقلاء ، أو سيرة المتشرّعة - فلأنّ القدر المتيقّن منهما هو فيما إذا كان أخبارهما بأحد الطرق الثلاث ، أي يكون نفس المشهود به من المحسوسات ، أو له آثار محسوسة ، أو يكون له سبب محسوس.

ص: 24

الأمر الثاني : في أنّ البيّنة هل هي عبارة عن شهادة رجلين ، وشهادة المرأة خارجة عن البيّنة موضوعا ، أم هي أيضا بيّنة ولكن اعتبر شرعا فيها بدل كلّ واحد من الرجلين امرأتان ، فتكون البيّنة فيما إذا كن شاهدات عبارة عن شهادة أربع امرأة؟

ثمَّ على تقدير كون البيّنة صادقة على شهادتهنّ عرفا - غاية الأمر مقيّدة بكون عددهنّ أربع إجماعا - فهل يكون مقتضي عموم حجيّة البيّنة حجيّة شهادتهنّ في جميع الموضوعات إلاّ ما خرج بالدليل - كثبوت الهلال والطلاق وغيرهما ممّا لا تجوز شهادتهنّ فيها ، لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال ، لنصوص وردت في عدم جواز شهادتهنّ فيها - أم لا ، بل قبول شهادتهنّ في أي موضوع يحتاج إلى ورود دليل على القبول في ذلك الموضوع ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدم القبول ، لا منفردات ولا منضمات ، ولا في باب الدعاوي ومقام المخاصمة ، ولا في غيرها؟

ربما يستشهد لعموم حجيّة شهادتهنّ إلاّ ما خرج بالدليل برواية عبد الكريم بن أبي يعفور ، عن الباقر علیه السلام ، قال علیه السلام : « تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات ، معروفات بالستر والعفاف ، مطيعات للأزواج ، تاركات للبذاء والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم ». (1)

وفيه : أنّ ظاهر هذه الرواية أنّه علیه السلام في مقام بيان شروط قبول شهادة المرأة وأن أي امرأة تقبل شهادتها ، لا في مقام بيان أنّه في أيّ موضوع تقبل ، كي يؤخذ بإطلاقها.

والتحقيق في المقام : أمّا في الأوّل - أي في شمول مفهوم البيّنة حسب المتفاهم العرفي لشهادة النساء ، وعدم خروجها عن مفهوم البيّنة موضوعا - فالظاهر أنّها ليست بخارجة عنها موضوعا ، بل البيّنة عبارة عن شهادة اثنين ، سواء أكانا رجلين

ص: 25


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 242 ، ح 597 ، باب البيّنات ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 13 ، ح 34 ، باب العدالة المعتبرة في الشهادة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 294 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 41 ، ح 20.

أو امرأتين. اللّهمّ إلاّ أن يدّعي انصرافها إلى الرجلين.

وعلى كلّ تقدير لا شكّ في ورود الدليل على قبول شهادتهنّ منفردات في بعض الموارد ، ومنضمات إلى الرجال في موارد أخر.

والفرق بين الصورتين أنّه بناء على عدم شمول مفهوم البيّنة لشهادتهنّ وضعا أو انصرافا ، ففيما إذا لم يوجد دليل خاصّ على القبول في مورد فمقتضى الأصل عدم القبول. وأما بناء على الشمول ، فلو كان عموم أو إطلاق بالنسبة إلى حجيّة البينة في كل موضوع - كما ادعينا وجوده - فمقتضى ذلك العموم أو ذلك الإطلاق هو قبول شهادتهن ، إلا أن يأتي دليل في ذلك الموارد على عدم القبول.

وقد تعرض الفقهاء في كتاب الشهادات لموارد القبول وعدمه منفردات ومنضمات الى الرجال ، والروايات الواردة في باب شهادة النساء مختلفة جدا ، فمفاد بعضها جواز شهادتهن فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا اليه ويشهدوا عليه. (1) وظاهر هذا القسم من الروايات انحصار القبول فيما ذكر ، وعدم قبولها فيما يستطيع الرجال ان ينظروا إليه. ومفاد بعضها جواز شهادتهن في النكاح منضمات إلى الرجال ، وعدم قبولها في الطلاق. (2) ومفاد بعضها عدم قبولها في الطلاق والهلال ، معللا بضعف رؤيتهن ومحاباتهن (3) ، إلى غير ذلك من الاختلافات بينها.

وتفصيل هذه المسألة في كتاب الشهادات ، وليس هاهنا مقام بحثها ، والغرض هاهنا بيان حكم مورد الشك ، وعدم وجود دليل لا على القبول ولا على عدم القبول.

وقد ذكرنا الفرق بين عدم شمول إطلاقات أدلة حجية البينة لشهادتهن ، وشمولها لها ففي الصورة الأولى مقتضى الأصل عدم القبول ، وفي الثانية قبولها وجوازها في

ص: 26


1- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 258 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 24 ، ح 4 ، 5 ، 7 و 9.
2- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 258 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 24 ، ح 4 ، 5 ، 7 و 11.
3- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 258 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 24 ، ح 8 ، 10 و 11.

مورد الشك ، لعدم دليل لا على القبول ولا على عدمه.

الأمر الثالث : في أنه بعد ما عرفت حجية البينة في جميع الموضوعات التي لها أثر شرعي ، فيجب على كل من علم بقيام البينة - واجدة لشروط اعتبارها - على موضوع ترتيب أثر ذلك الموضوع عليه ، إن كان الأثر المترتب على ذلك الموضوع مما يكون مربوطا إليه ، سواء أكان غيره أيضا شريكا معه في هذا الأثر ، أم لا.

مثلا إذا شهد شاهدان عدلان عنده : أنك تركت في هذه الصلاة التي صليتها الآن أحد أركانها ، فيثبت بالبينة المعتبرة هذا الموضوع ، أي فقدان صلاته للركن الفلاني.

ولكن ثبوت هذا الموضوع لا أثر له إلا لنفس المصلي إذا كان ما قرأه صلاة نفسه ، فيجب عليه الإعادة أو القضاء إذا قامت عنده البينة ، أو علم بوجودها ، ولا أثر لقيام هذه البينة في حق غيره ، وأما إذا كان غيره شريكا معه في هذا الأثر ، كما إذا قامت البينة المعتبرة على نجاسة هذا المائع مثلا ، فمن اطلع على هذه البينة يجب عليه الاجتناب عن هذا المائع.

وقد يكون أثر ذلك الموضوع مخصوصا بالغير ، كقيام البينة عند زيد على أن عمروا مثلا فات عنه الصلاة الفلانية ، فهذه البينة بالنسبة إلى زيد لا أثر له ، فإن علم عمرو بوجود مثل هذه البينة يجب عليه ترتيب الأثر ، وإلا فلا يجب شي ء ، لا على عمرو ولا على زيد.

ثمَّ إنه لا يخفى أن ما ذكرناه مبني على أن يكون العلم بقيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع مثبتا لذلك الموضوع عند العالم بقيام البينة عند ذلك الشخص ، فيجب ترتيب أثر ذلك الموضوع عليه وإن لم يقم عنده البينة ، مثلا لو علم بأن شاهدين عدلين شهدا عند زيد بأنهما رأيا هلال شوال ، فبناء على عموم حجية البينة ، أو حجيتها في خصوص الهلال مثلا يجب على هذا العالم بقيام البينة عند زيد ترتيب أثر شوال أي الإفطار وحرمة الصوم.

ص: 27

أما لو قلنا بأن قيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع لا يثبت ذلك الموضوع إلا لمن قامت عنده البينة ، وأما بالنسبة إلى غيره فلا يثبت ذلك الموضوع ولو علم بقيام البينة على وجوده عند شخص آخر.

فليس الأمر كما ذكرنا وقلنا من الأقسام الثلاثة ، بأن الأثر إما مخصوص بنفس من قامت عنده البينة ، فيجب عليه ترتيب ذلك الأثر فقط ، ولا ربط لقيامها بالآخرين. وإما غيره شريك معه ، فيجب ترتيب الأثر منه ومن غيره. وإما مخصوص بغيره ، فيجب ترتيب الأثر من ذلك الغير فقط دون نفسه.

والظاهر من أدلة عموم حجية البينة - سواء أكانت الأخبار والآيات ، أو كانت هي سيرة المتشرعة وبناء العقلاء - أن قيامها عند أي شخص على موضوع ذي أثر شرعا مثبت لذلك الموضوع للجميع ، فكل من كان ثبوت ذلك الموضوع له أثر يجب عليه ترتيب ذلك الأثر ، سواء أكان من له أثر هو من قامت البينة عنده ، أو غيره ، أو كانا شريكين.

ثمَّ أنه بناء على القول الآخر - أي اختصاص ثبوت مؤدى البينة بمن قامت عنده - فلا يجب التعرض للآخر ، سواء أكان الآخر شريكا معه في أثر ذلك الموضوع الذي قامت عليه البينة ، أو كان الأثر مخصوصا بذلك الغير ، لأن المفروض بناء على هذا القول عدم ثبوت المؤدى له وهو باق على جهله.

ولا يتوهم : أن له التعرض من باب الأمر بالمعروف إذا كان أثر المؤدى هو الوجوب عليه - ككون المؤدى مثلا رؤية هلال شهر رمضان ومن باب النهي عن المنكر إذا كان المؤدى هي الحرمة ، وذلك ككون المؤدى رؤية هلال شوال باعتبار حرمة الصوم في ذلك اليوم في الفرض الثاني ، ووجوبه في الفرض الأول - لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موردهما فيما إذا تنجز التكليف وجوبا في الأول ، وحرمة في الثاني على المكلف وقام عليه البيان ، والمفروض في المقام أن ذلك الغير جاهل و

ص: 28

لم يصل التكليف إليه ولم ينجز عليه ، لعدم ثبوت مؤدى البينة لغير من قامت عنده البينة على هذا القول.

نعم لو كان ما قام عليه البينة من المحرمات الكبيرة التي يكون وجودها مبغوضا عند الشارع ولو كان صادرا عن غير المكلفين - كما إذا كان المرتكب صغيرا أو مجنونا أو جاهلا أو غير ذلك مما يرفع الحرمة - فله التعرض والمنع ، ولكن لا بمناط النهي عن المنكر ، بل بمناط حكم العقل بلزوم المنع عن إيجاد ما هو مبغوض وجوده عند الشارع ، وإن كان المرتكب غير مكلف بتركه ولا يعاقب على فعله ، لرفع القلم عنه لصغره أو لجنونه أو لكونه مكرها على فعله ، أو لم يتنجز عليه لجهله وعدم وصول التكليف إليه.

تتميم

وهو أنه هل الخبر الواحد الذي مخبره عادل حجة في الموضوعات كما أنه حجة في باب الروايات التي مفادها نقل الأحكام عن الإمام علیه السلام أم لا؟

ذهب جماعة إلى الأول ، واستدلوا على حجيته في الموضوعات أيضا بسيرة العقلاء وبنائهم أولا ، وبالأخبار ثانيا.

فنقول : أما وجود السيرة وبناء العقلاء على قبول خبر الثقة وإن كان غير بعيد ، إلا أنه أولا خبر الثقة غير خبر العادل ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، إذ يمكن أن يكون خبر عدل ولا يكون ثقة ، لكثرة الاشتباه ، أو عدم الضبط ، أو غير ذلك.

وأما كونه ثقة وغير عادل فإمكانه من الواضحات ، بل يمكن أن يكون كافرا وثقة في إخباره ، لتحرزه عن الكذب.

وإن ادعى المدعي تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد ، فعهدة هذه الدعوى عليه ، إذ العقلاء لا يهتمون بعدالة المخبر ، خصوصا إذا كانوا من غير أهل الدين ، بل ردهم وقبولهم دائر مدار الوثوق بالمخبر وإن كان كافرا ، فضلا

ص: 29

عن أن يكون فاسقا ، هذا أولا.

وثانيا : على فرض تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد ، تكون رواية مسعدة بن صدقة « الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (1) رادعة عن هذه السيرة ، كما أنها رادعة عن السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر الثقة أيضا ، من جهة أن ظاهر الرواية حصر غاية الحلية فيها في الاستبانة وقيام البينة ، فلو كان خبر العدل الواحد أو خبر الثقة إذا كان المخبر واحدا حجة ، فلم يكن وجه للحصر في ذينك الأمرين.

إن قلت : إن خبر العدل الواحد إذا كان حجة ، وكذلك خبر الثقة يكون داخلا في الاستبانة تعبدا ، لحكومة أدلة حجية الخبر العدل الواحد ، وكذلك أدلة حجية خبر الثقة على الدليل الذي أخذ الاستبانة غاية للحلية ، كرواية مسعدة ، كما أن استصحاب الحرمة أيضا حاكم ، وذلك لما ذكرنا في الأصول أن الأمارات والأصول التنزيلية لها حكومة على العلم الذي أخذ في الموضوع على وجه الطريقية. (2)

قلنا : إن هذا الكلام صحيح ، ولكن لازمه أن يكون خبر العدل الواحد ، أو الخبر الثقة الذي يكون مخبره واحدا عدلا للبينة ، فكأنه علیه السلام قال : الأشياء كلها على الحلية ، إلا أن تعلم بموضوع الحرمة ، أو يخبر عدل واحد أو عدلان بما هو موضوع الحرمة.

وجعل العدل الواحد عدلا للعدلين في غاية الركاكة ، خصوصا إذا كانت شهادة العدلين تدريجيا لا دفعة واحدة ، لأنه مع شهادة العدل الأول يثبت الموضوع ، فشهادة الثاني يكون لغوا وبلا أثر ، بل يكون اعتبارها لثبوت المؤدى من قبيل تحصيل الحاصل ، فاعتبار التعدد مع ثبوت المؤدى بواحد متنافيان.

نعم اعتبار التعدد في خبر العدل غير الثقة مع ثبوت المشهود به بخبر الواحد

ص: 30


1- تقدم تخريجه في ص 11 ، رقم (2).
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 22 و 538 - 539.

الثقة لا تنافي بينهما ، ولكن اعتبار خبر الواحد الثقة مع إطلاق اعتبار التعدد في خبر العدل - أي وإن كانا ثقتين - متنافيان.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه مع اعتبار خبر العدل الواحد ، أو خبر الواحد الثقة لا يبقى لاعتبار التعدّد وحجية البينة مجال ، فمن دليل حجية البينة واعتبارها يستكشف عدم اعتبار خبر العدل الواحد ، أو خبر الواحد الثقة ، فتكون رواية مسعدة رادعة للسيرة وبناء العقلاء على فرض تحققها.

هذا ، مضافا إلى خبر عبد اللّه بن سليمان ، المروي في الكافي والتهذيب ، في الجبن : « كل شي ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة » فجعله علیه السلام غاية الحلية مجي ء شاهدين يشهدان أن فيه ميتة ، يدل على عدم كفاية مجي ء شاهد واحد ولو كان عدلا أو ثقة (1).

وخلاصة الكلام : أن اعتبار التعدد كما في البينة مع عدم اعتبار التعدد كما في خبر العدل الواحد - أو خبر الثقة الواحد كما هو ادعاء الطرف - مما لا يجتمعان ، إذ هما متناقضان.

اللّهم إلا أن يقال بعدم اعتبار خبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد في كون الميتة في الجبن ، وهو لا يخلو - مضافا إلى بعده - من الغرابة.

وأما الأخبار التي استدلوا بها على حجية الخبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد :

فمنها حسنة حريز - أو صحيحته - المروية في الكافي ، وفيها بعد ما وبخ الصادق علیه السلام ابنه إسماعيل في دفعه دنانير إلى رجل شارب الخمر بضاعة ليعامل بها ويعطي مقدارا من النفع لإسماعيل ، فأتلف النقود ذلك الرجل ، قال علیه السلام له : « لم فعلت ذلك ولا أجر لك؟ » فقال إسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، إني سمعت الناس

ص: 31


1- تقدم تخريجه في ص 17 ، رقم (1).

يقولون ، فقال : « يا بني إن اللّه عز وجل يقول في كتابه ( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) يقول : يصدق اللّه ويصدق المؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » (2).

ولا شك في أن قوله علیه السلام « إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » كلمة « المؤمنون » فيه حيث أنها جمع معرف باللام يفيد العموم الاستغراقي ، لأن العام المجموعي - بمعنى أنه إذا شهد عندك جميع المؤمنين معا فصدقهم - قطعا ليس بمراد ، لأن شهادة جميع المؤمنين الموجودين في الدنيا على موضوع عادة غير ممكن ومحال.

فإذا كان العام استغراقيا ، فتنحل إلى قضايا متعددة حسب عدد أفراد المؤمنين كسائر العمومات ، فيكون مفاد هذه الجملة أن أي واحد من المؤمنين إذا شهد عندك بموضوع ، سواء أكان هو شرب الخمر كما أنه هو المورد ، أو كان غيره فصدقه.

ومعلوم أن معنى التصديق في المقام هو ترتيب أثر المشهود به على شهادته ، وهذا معنى وجوب قبول خبر الثقة والعدل الواحد ، وقد روى بعضهم « إذا شهد عندك المؤمنون فاقبلوا » (3).

وفيه : أولا : أن أحدا لم يقل بحجية خبر كل مؤمن بل كل مسلم ، لما حكي بعضهم « المسلمون » في هذه الرواية بدل « المؤمنون ».

وثانيا : لم يقل أحد بحجية خبر الثقة أو العدل الواحد في باب الحدود ، بل ينفي تصديق المؤمن الواحد في باب ارتكاب الذنب ما رواه الصدوق في كتاب عرض المجالس ، وفيه : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من

ص: 32


1- التوبة (9) : 61.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 299 ، باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 230 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 6 ، ح 1.
3- تقدم ذكره في ص 19 ، رقم (2).

أهل العدالة والستر » (1).

وثالثا : من المقطوع عدم حجيتهما في مقام المخاصمة ومقابل ذي اليد.

ورابعا : يجب تقييدها - أي الحجية بكونهما متعددا - برواية مسعدة بن صدقة (2) وخبر عبد اللّه بن سليمان (3).

هذا كله ، مضافا إلى أنه ليس المراد من وجوب تصديقهم ترتيب الأثر على ما يخبرون به وإن كان فيه ضرر على الغير ، لما ورد « كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم » (4) أي فيما يضره ولا ينفعهم.

فالمراد من وجوب تصديقهم وكذا من قبول قولهم - بناء على صحة الرواية الأخرى - هو التحذر عما أخبر به فيما إذا احتمل أن يكون على تقدير صحة ما أخبر عنه ضرر عليه ، كما أنه كذلك كان في مورد صدور الرواية.

والحاصل : أنه يدور الأمر بين هذه التخصيصات الكثيرة التي ربما يكون العموم مستهجنا معها وتقييد واحد ، وهو تقييد وجوب تصديق المؤمن بكونه متعددا ، ولا شك في أن الثاني أولى بل هو المتعين ، وكذلك الحال في مفهوم آية النبإ بناء على ثبوت المفهوم لها وشموله للأخبار عن الموضوعات وعدم كونه مختصا بالأحكام ، فيدور الأمر بين تخصيصه بهذه التخصيصات أو تقييده بالتعدد بالنسبة إلى الموضوعات ، ومعلوم أن الثاني أولى ، بل هو المتعين.

ص: 33


1- تقدم تخريجه في ص 21 ، رقم (2).
2- تقدم تخريجه في ص 11 ، رقم (2).
3- تقدم تخريجه في ص 17 ، رقم (1).
4- « الكافي » ج 8 ، ص 147 ، كتاب الروضة ، ح 125 ، « عقاب الأعمال » ص 295 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 609 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 157 ، ح 4.

وأما الأخبار الواردة في الموارد الخاصة ، كقول علي علیه السلام : « المؤذن مؤتمن » (1) وكقوله علیه السلام : « الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة » (2).

وقوله علیه السلام في رواية إسحاق بن عمار قال : سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا؟ فقال لي : « إن حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير ، فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي : إنه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي ، فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ، ولم يعلم أخوه أن عندي شيئا ، فقال علیه السلام : أرى أن تتصدق منها بعشرة دنانير » (3).

والرواية ظاهرة في وجوب قبول قول هذا الرجل المسلم الصادق ، حيث أن التصدق على خلاف الإرث ، والروايات الواردة في وجوب الاعلام في بيع الدهن المتنجس (4) ولو لم يكن إخبار البائع واجب القبول ، كان وجوب الإخبار لغواً.

وما ورد في الاعتماد على إخبار البائع بالكيل أو الوزن (5) ، وكذلك في إخباره باستبراء الأمة (6) وغير ذلك من الموارد ، وفي الجميع مضافا إلى المناقشات في دلالتها أنها موارد جزئية لا يظهر منها الدلالة على قاعدة كلية ، وهي حجية كل خبر ثقة أو عدل واحد في أي موضوع من الموضوعات.

ص: 34


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 282 ، ح 1121 ، باب الأذان والإقامة ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 618 ، أبواب الأذان والإقامة ، باب 3 ، ح 2.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 87 ، ح 3385 ، باب الوكالة ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 213 ، ح 503 ، باب الوكالات ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 286 ، أبواب كتاب الوكالة ، باب 2 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 235 ، ح 5561 ، باب نوادر الوصايا ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 237 ، ح 923 ، باب الزيادات ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 482 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 97 ، ح 1.
4- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 66 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 6.
5- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 255 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 5.
6- « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 501 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 5.

وأما الاستدلال بما حكى بعضهم « المؤمن وحده حجة » فلا يخفى ما فيه من حيث السند والدلالة.

وأما استدلال لقبول خبر الثقة بمضمرة سماعة : سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال : إن هذه امرأتي وليست لي بينة ، فقال : « إن كان ثقة فلا يقربها ، وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه » (1).

ففيه أولا : معارضتها برواية يونس ، قال : سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان ، فسألها : ألك زوج؟ فقالت : لا ، فتزوجها. ثمَّ إن رجلا أتاه فقال : هي امرأتي ، فأنكرت المرأة ذلك ما يلزم الزوج؟ قال : « هي امرأته إلا أن يقيم البينة » (2).

ونحوه مكاتبة الحسين بن سعيد (3).

وأيضا معارضتها بخبر عبد العزيز المهتدي ، سألت الرضا علیه السلام قلت له : إن أخي مات فتزوجت امرأته ، فجاء عمي فادعى أنه كان تزوجها سرا ، فسألتها عن ذلك ، فأنكرت أشد الإنكار وقالت : ما كان بيني وبينه شي ء قط فقال : « يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها » (4).

ومعلوم أن المعارض أقوى من مضمرة سماعة ، لكثرة عددها ، وعمل المشهور بها وإعراضهم عنه ، وعدم الفتوى به.

ص: 35


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 461 ، ح 1845 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 468 ، ح 1874 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 82 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 477 ، ح 1914 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 122 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ذيل ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 563 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ح 27 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 472 ، ح 4650 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ح 1.

وثانيا : أنه من المحتمل القريب أن يكون النهي عنه من جهة شدة حسن الاحتياط في الفروج ، خصوصا مع قوة الاحتمال إذا كان المدعي ثقة ، ولذا جعل الشارع وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية في باب الفروج مثل وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية من باب الدماء ، لكثرة الاهتمام بهذين البابين.

وخلاصة الكلام : أنه لم نجد دليلا يمكن الركون إليه والاعتماد عليه من نقل أو بناء العقلاء وسيرتهم على حجية خبر العدل الواحد ، أو خبر الثقة الواحد مع إمضاء من قبل الشارع ، بل وجدنا الأدلة على عدم حجية كليهما ، أي خبر الثقة وخبر العدل الواحد ، وقد تقدم ذكر تلك الأدلة.

الجهة الثانية

في نسبة هذه القاعدة ، أي قاعدة حجية البينة في جميع الموضوعات مع سائر الأدلة ، من الأصول والأمارات التي تستعمل في الموضوعات.

فنقول : أما بالنسبة إلى الأصول الموضوعية كقاعدة الفراغ كما إذا شك في إتيان العمل تام الأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع ، أو أتى به ناقصا بأن أتى به تاركا لجزء أو شرط أو أتى به مقرونا بمانع ، وكان هذا الشك بعد الفراغ عن العمل ، فمقتضى قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بذلك الشك والبناء على أنه أتى به صحيحا وتام الأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع.

فلو قامت بينة شرعية معتبرة على أنه ترك الجزء الفلاني أو الشرط الفلاني أو أتى بالمانع الفلاني أو القاطع الفلاني ، فمقتضى حجية البينة بطلان العمل ، إلا أن يكون هناك دليل آخر على صحة العمل الفاقد لذلك الجزء أو ذلك الشرط أو واجدا لذلك المانع ، كما أنه ورد الدليل بالنسبة إلى الصلاة إن أتى بالناقص نسيانا ، وهي صحيحة « لا تعاد » في غير الأركان ، وكما أنه وردت أدلة خاصة في باب الحج بأن النقص أو

ص: 36

الزيادة في بعض الأجزاء والشرائط نسيانا لا يضر بصحة العمل ، وإن علم وجدانا بالنقص ، فضلا عن البينة التي هي أمارة تعبدية.

وخلاصة الكلام : أنه إذا وقع التعارض بين قاعدة الفراغ التي مفادها صحة العمل وعدم الاعتناء بالشك والمضي عنه وعدم وجوب الإعادة ، وبين البينة على عدم تماميته وأنه تجب الإعادة ، فيجب العمل على طبق قاعدة حجية البينة والإعادة ، إلا فيما ذكرنا من وجود دليل على عدم وجوب الإعادة وإن علم وجدانا بالخلل بالزيادة أو النقيصة ، وذلك من جهة أن البينة أمارة ، وقاعدة الفراغ على ما هو الصحيح عندنا أصل تنزيلي ، ودليل الأمارة حاكم على دليل الأصل وإن كان تنزيليا ، وقد حققنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول ». (1)

وقد ظهر مما ذكرنا حال تعارض البينة مع سائر الأصول ، كقاعدة التجاوز ، وأصالة الصحة ، وقاعدة الوقت حائل ، وقاعدة الطهارة ، والاستصحاب ، وأصالة عدم التذكية ، وأصالة الحل ، كل ذلك في الشبهات الموضوعية ، والمناط في الجميع واحد ، وهو حكومة الأمارات على الأصول.

إذ موضوع الأصل وإن كان تنزيليا هو الشك ، والأمارة - على ما هو التحقيق من أن حجيتها من باب تتميم الكشف - يرفع الشك تعبدا ، وهذا هو معنى الحكومة ، فلا يبقى موضوع للأصل حتى يعارض الأمارة.

وأما حالها مع سائر الأمارات : أما مع اليد ، فلا شبهة في تقديمها على اليد ، لأن عمدة تشريع حجيتها في باب المخاصمة لإبطال التمسك باليد ، وبواسطة قيام البينة من طرف المدعي يؤخذ المال من ذي اليد ويعطى للمدعي.

ولو لم تقدم البينة على اليد يبقى القضاء بلا ميزان ، لأن ميزان القضاء هي البينة على المدعي واليمين للمنكر ، وليس اليمين ابتداء للمنكر ، بل ميزانيته في صورة فقد

ص: 37


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.

البينة ، وإلا في صورة وجود البينة للمدعي لا ميزانية له ، فإذا لم يقدم البينة على اليد فيبقي القضاء بلا ميزان ، ويقف الحكم.

وأما بالنسبة إلى سوق المسلم ، فأمارية السوق على التذكية أو الحلية أو غير ذلك موقوفة على عدم كون البينة على خلافها.

وخلاصة الكلام : أن تقديم البينة على اليد والسوق من الواضحات والمسلمات.

وأما تعارضها مع الإقرار ، مثل أن أقيمت البينة على أن هذا المال له وهو أقر بأنه لزيد مثلا وكذب البينة ، أو في باب الجنايات فلو شهدت البينة المعتبرة أن هذه الجناية صدرت من فلان ، وهو أقر واعترف بأنه الجاني وفاعل هذه الجناية ، فمقتضى القاعدة وإن كان تساقط الأمارتين بناء على ما هو الصحيح عندنا من كون حجية الأمارات من باب تتميم الكشف ، ولكن الظاهر أن بناء العرف والعقلاء على تقديم الإقرار عليها ، ففي المثال المذكور بعد أن أقر أن هذا المال الذي في يده ليس له ولزيد ، فقيام البينة أنه له لا اثر له.

ولعل السر في ذلك أنهم يرون الإقرار أكشف من البينة ، كما أنه لو علم كذب البينة فلا حجية لها ، لأن التعبد بالأمارة في ظرف الجهل بالمؤدي ، وأما لو علم بوجود المؤدى وثبوته أو علم بعدمه ، فلا معنى ولا مجال للتعبد بوجوده أو عدمه.

والحاصل : أن العقلاء لا يرون كاشفية للبينة في ظرف إقرار المشهود له على خلافها ، كما أنه لا كاشفية لها مع العلم بالخلاف.

ولكن وردت روايات في أنه إذا قامت البينة على أن زيدا مثلا قاتل ، ثمَّ أقر شخص آخر بأنه أنا القاتل ، أن للولي الأخذ بأية واحدة من الأمارتين ، فله قتل أي واحد منهما إذا أراد ، وكل ذلك لصحيحة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام (1) وقد عملوا بها

ص: 38


1- « الكافي » ج 7 ، ص 290 ، باب النادر ( من كتاب الديات ) ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 172 ، ح 678 ، باب البينات على القتل ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 108 ، أبواب دعوى القتل وما يثبت به ، باب 5 ، ح 1.

وأفتوا على طبقها وإن كان مفادها على خلاف مقتضى القواعد والأصول ، لكنّه يجب العمل بها في موردها على كل حال.

وأما تعارض البينة مع مثلها ، فالتكلم فيه في بيان قاعدة « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ».

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيقها في الفقه

فنقول : إن هذه القاعدة سارية وجارية في جميع أبواب الفقه.

ففي كتاب الطهارة مثلا تستعمل في إثبات الطهارة والنجاسة بناء على عموم حجيتها ، وفي موضوعات أحكام النجاسات ، وفي إثبات الملاقاة للنجس وعدم الملاقاة ، وفي إثبات أن هذا الماء كر أو ليس بكر ، وأنه مطلق أو مضاف ، وأنه تغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجس أم لم يتغير ، وأنه توضأ أم لم يتوضأ ، وكذلك هل اغتسل أم لا ، وأنه هل كان على البشرة ومحل غسل الوضوء أو مسحه وكذلك في الغسل مانع وحاجب أم لا ، وأنه تيمم أم لا ، وهل هذا التراب الذي يريد أن يتيمم عليه طاهر أم نجس ، وأنه هل هو مما يصح التيمم عليه أم لا في الشبهة الموضوعية لا الحكمية ، وفي مقدار المساحة التي يجب الفحص عن الماء في الشبهة الموضوعية لا الحكمية ، وفي لون الدم الذي تراه المرأة إذا كانت عاجزة عن الرؤية لعمى أو لجهة أخرى وفي نفوذه في القطنة وعدمه كذلك ، وفي كونه مستديرا على القطنة كي يكون دم العذرة أو لا فيكون استحاضة أو حيضا أو شيئا آخر ، وأنه هل انقطع على العشرة أو تعدى وأنه هل كان أقل من الثلاثة أم لا.

ص: 39

كل ذلك فيما إذا لم يكن في قيام البينة محذور شرعي.

وفي كتاب الصلاة تستعمل في معرفة القبلة والأوقات ، وفي لباس المصلي من كونه حريرا أو ذهبا أو غير مأكول ، وفي مكانه من حيث كونه غصبا ، وفي معرفة ما يصح السجود عليه ، وفي ضبط عدد الركعات وتعيينها ، وفي زيادة ركن أو نقيصته وإن كان نسيانا ، وفي حصول المسافة وتعيينها ، وفي مقدار الإقامة أو مضي ثلاثين مترددا ، وفي معرفة حد الترخص ، وفي صلاة الجماعة من حيث عدالة الإمام وصحة قراءته ، والاتصال مع الإمام ، وعدم علو الإمام ، وعدم الحائل بين المأموم والإمام ، كل ذلك في الشبهة الموضوعية ، وغير ذلك من موضوعات الأحكام في كتاب الصلاة.

وفي كتاب الزكاة وصول المال إلى مقدار النصاب في الشبهة الموضوعية ، وفي إثبات الفقر وكونه ابن السبيل ، وأنه من الغارمين ، وأن دينه لم يكن من جهة الصرف في المعصية ولا من جهة الإسراف ، وفي كونه عبدا تحت الشدة ، وفي كونه مسكينا ، وفي إثبات بلوغ المالك وكونه عاقلا وحرا متمكنا من التصرف في ماله تمام التمكن ، وأن تملكه للغلات بواسطة الزراعة وكونه زارعا ، أو انتقل إليه الزرع أو الشجر قبل تعلق الزكاة بهما أي قبل اشتداد الحب في الذرع وقبل بدو الصلاح في الأشجار المثمرة ، أعني النخيل والكروم ، وفي مقدار مئونة تحصيل الغلات ، سواء كانت من قبيل الزرع أو كانت من قبيل أشجار المثمرة ، أي النخيل والكروم.

وفي كتاب الخمس أما بالنسبة إلى ما يتعلق به الخمس ، فمثل المعدن ، أو الغوص ، أو الحلال المختلط بالحرام ، أو أن له الربح ومقدار الربح مستعمل فيها البينة إذا شك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا المفهومية ، لأن المرجع في الشبهة المفهومية هو العرف أو الأدلة الشرعية إن كان تصرف من قبل الشارع فيها ، أي فيما أخذ موضوعا لحكمه ، وكذا في بلوغ النصاب فيما له نصاب منها كالغوص والمعدن.

وأما بالنسبة إلى المستحق فتستعمل في إثبات كونه من بني هاشم ، وأنه لا يملك

ص: 40

مئونة سنته ، وبالنسبة إلى سهم الإمام علیه السلام وإيصاله إلى الفقيه العادل الجامع للشرائط أو صرفه في ما يأذن أو إعطائه لمن يأذن ، ففي جميع هذه الموضوعات تستعمل البينة لإثباتها.

وفي كتاب الحج تستعمل في تعيين المواقيت أو محاذاتها من ناحية الشبهة الموضوعية ، وكذلك في ثوبي الإحرام وكونهما مما يجوز لبسهما في الإحرام ، ثمَّ في عدد أشواط الطواف إذا شك فيه ، وكذلك في عدد السعي بين الصفا والمروة ، وكذلك في تعيين زمان الوقوف في عرفات ومكانه ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المشعر ومنى زمانا ومكانا ، كل ذلك من ناحية الشبهة الموضوعية ، وفي شرائط الذبيحة يوم العيد في منى ، وغير ذلك من الموضوعات الكثيرة للأحكام الشرعية في كتاب الحج التي لا يخفى على الفقيه المتتبع ، وأنه إذا حصل له الشك فيها من ناحية الشبهة الموضوعية فأحد طرق إثباته هي البينة.

وأما في أبواب المعاملات فأغلب الموضوعات للأحكام فيها عرفية ، وبعد أخذ المفهوم من العرف إذا شك في مصداقه ، فأحد طرق إثباته هي البينة ، كالعيب في خيار العيب من ناحية الشبهة الموضوعية ، والغبن أيضا كذلك في خيار الغبن ، وكذلك الحال في سائر المعاملات.

وأما في كتاب الصيد والذباحة والأطعمة والأشربة ، ففي أكثر الموضوعات المشتبهة من حيث المصداق والشبهة الموضوعية تثبت الحلية والحرمة بالبينة ، مثلا إذا شك في أنه عند الرمي هل قال : « بسم اللّه » أم لا؟ فان شهدت البينة بأنه سمى يثبت التسمية ، أو إذا شك في أنه ذبح بالحديد ، أو بآلة من فلز آخر ، أو من شي ء آخر - بناء على توقف الحلية على أن يكون الذبح بالحديد - فإن شهدت بأنه كان بالحديد تثبت الحلية بها.

وفي الأطعمة والأشربة إذا شك في أن هذا السمك هل له فلس أم لا؟ فإن

ص: 41

شهدت البينة بأنه كان له الفلس تثبت الحلية ، أو إذا شك أن هذا الطائر هل له حوصلة أم لا ، وأن دفيفه أكثر من صفيفه أم لا؟ فإن شهدت البينة أن دفيفه أكثر ، أو أنها شهدت أن له حوصلة أو قانصة أو صيصية فتثبت الحلية.

وأما في كتاب القضاء وأبواب الدعاوي ، فهي الركن الركين.

وأما في كتاب المواريث ، فالبينة تستعمل في إثبات الأنصاب ومقدار حصص الورثة ، وغير ذلك من الموضوعات للأحكام من كفر الوارث ، أو كونه قاتلا للمورث ، أو كونه أكبر الأولاد ويستحق الحبوة.

وفي كتاب الحدود والديات تستعمل في مقدار الجناية وتعيين الجاني والمجني عليه.

والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 42

27 - قاعدة إقرار العقلاء

اشارة

ص: 43

ص: 44

قاعدة إقرار العقلاء (1)

ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأول : اتفاق العقلاء من جميع الملل كافة على نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه ، بمعنى أن إقرار العاقل على نفسه طريق مثبت لما أقر به عندهم جميعا ، ولم ينكره أحد.

وذلك أن العاقل لا يقدم على إضرار نفسه إلا لبيان ما هو الواقع لوخز ضميره من الخلاف الذي صدر عنه ، سواء أكان ذلك الخلاف هي السرقة أو جناية أو غصب أو قذف وما شابه ذلك ، أو يقر على نفسه ببيان الواقع حذرا من العذاب الأخروي.

مثلا لو كان مال غيره في يده وتحت سيطرته وتصرفه ، فلا يعترف أنه لذلك

ص: 45


1- « الحق المبين » ص 99 ، « عوائد الأيام » ص 172 ، « عناوين الأصول » عنوان 81 ، « خزائن الأحكام » ش 43 ، « مجموعه رسائل » العدد 22 ، ص 497 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 7 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 207 ، « القواعد » ص 53 ، « قواعد فقهي » ص 223 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 63 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 403 ، « در باب إقرار » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلة « كانون وكلاء » 27 ، « إقرار » سيد على شايكان نشرة « مجموع حقوقي » العام 1 ، العدد 30.

الغير إلا لما ذكرنا من الوجوه ، كما أنه لو كان لنفسه فلا يعترف إنه لغيري ، لعدم الداعي إلى ذلك في الغالب.

نعم قد يتفق له الداعي على إقراره بما هو ضرر عليه مع أنه على خلاف الواقع ، ولكن هذا القسم شاذ قليل الوجود ، ولو لم يكن موجودا أصلا لكان الإقرار على النفس موجبا للعلم بصحة ما أقر به ، ولكن وجود هذا القسم من الإقرار على النفس اتفاقا صار سببا لأن يكون من الأمارات الظنية القوية ، ولذلك العقلاء بنوا على حجيته.

ألا ترى أن أحدهم لو اتهم بسرقة أو جناية أو غصب أو غير ذلك - مما يكون الإقرار به ضررا على نفسه - لو أقر واعترف بذلك ، لا يتردد أحد في تصديقه وقبول قوله وصدور هذه الأفعال عنه ، فإذا أنكر شخص آخر صدور هذه الأفعال عنه يقال له : كيف تقول إنها لم يصدر عنه ، وهو بنفسه أقر واعترف بذلك؟! ولعل هذا مضمون كلام أبي عبد اللّه جعفر الصادق علیه السلام في مرسل عطار : « المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمن عليه » (1).

ولذلك ترى أن القضاة والحكام من جميع الملل والأقطار والأمصار في جميع الأعصار ، يعدون اعتراف الجاني والسارق والقاتل بهذه الأمور من أقوى المدارك لصدور هذه الأفعال عنه ، ولم يردع الشارع عن هذه الطريقة ، بل أمضاها كما يمر عليك دليل الإمضاء في الأمور الآتية.

وإذا أردت أكثر من هذا أدلة الإمضاء فراجع كتاب القصاص والحدود والديات من كتب الحديث التي ألفها العامة والخاصة.

الثاني : الإجماع من كافة علماء الإسلام ، وعدم الخلاف من أحدهم في حجية

ص: 46


1- « صفات الشيعة » ص 37 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 110 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 1.

إقرار العقلاء على أنفسهم ، ونفوذه في الجملة بطور الموجبة الجزئية.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الإجماع والاتفاق الظاهر أنه ليس اتفاقا وإجماعا تعبديا من جهة تلقيهم هذا الحكم من المعصوم علیه السلام ، بل من جهة أنهم يرونه طريقا عند العقلاء مثبتا لما أقر به ، ولم يردع عند الشارع بل أمضاها - كما ذكرنا - فليس من الإجماع المصطلح ، كما نبهنا عليه مرارا.

الثالث : الأخبار ، وعمدتها الحديث المشهور بين الفريقين - وقد عبر عنه صاحب الجواهر قدس سره بالنبوي المستفيض أو المتواتر (1) ، ولا يبعد تواتره لاتفاق الفريقين على نقله والاستدلال به في الموارد الخاصة - وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (2). وقوله صلی اللّه علیه و آله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم » (3).

أما قوله صلی اللّه علیه و آله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم جائز » سنتكلم عنه في بيان مفاد القاعدة مفصلا إن شاء اللّه تعالى.

وأما قوله صلی اللّه علیه و آله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم ». فتقريب الاستدلال به أن الأمر ظاهر في الوجوب ، فإذا كان قول الحق واجبا ولو كان على نفسه فيجب قبوله ، وإلا يكون وجوب قول الحق لغوا وبلا فائدة ، فلا بد من القول بوجوب القبول ، وهذا معناه حجية الإقرار على النفس لكونه واجب القبول.

وفيه : أن ظاهر الحديث - بناء على ما ذكرت - أن قول الحق واجب القبول ، سواء أكان على نفسه أو لنفسه ، أو على غيره ، أو كان لا له ولا عليه ، ولكن بعد ما ثبت أنه قول حق بعلم أو علمي ، وأما أن كل ما يقول ويقر على نفسه فهو قول حق فمن أين؟

ص: 47


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 3.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، وج 2 ، ص 257 ، ح 5 ، وج 3 ، ص 442 ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 110 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 2.
3- « بحار الأنوار » ج 77 ، ص 173 ، ب 7 ، ح 7. « قل الحق ولو على نفسك ».

ولعله يقول قولا باطلا ، وإقرارا كاذبا على نفسه لجهة من الجهات ، كما أنه يريد إظهار سخاوته ، فيقول : استدنت من فلان مبلغ كذا وقسمته بين الفقراء ، أو يريد إثبات شجاعته فيقول : جنيت على فلان بكذا وكذا.

فالإنصاف أن الحديث لا ربط له بهذه القاعدة ، بل في مقام بيان وجوب إظهار الحق وعدم جواز كتمانه ، وإن كان إظهاره على ضرره.

وأما الأخبار المروية عن الأئمة المعصومين علیهم السلام فكثيرة جدا ، خصوصا في الموارد الخاصة بصورة القضايا الشخصية ، وتقدم مرسل عطار عن الصادق علیه السلام :

« المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمن ». وظاهره أن شهادة المؤمن على نفسه - أي إقراره على نفسه - أكشف من شهادة سبعين مؤمن ، وأيضا خبر جراح المدائني عن الصادق علیه السلام : « لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه » (1). وهذا الخبر يدل على نفوذ الإقرار على النفس وإن كان فاسقا ، لأنه لا فرق فيما هو المناط في نفوذ إقراره بين أن يكون فاسقا أو عادلا.

وخلاصة الكلام : أن الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة علیهم السلام في الموارد الخاصة الدالة على نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه كثيرة جدا ، ومن راجع كتب الحديث من الفريقين - باب القصاص ، وباب الحدود ، وباب الديات ، وباب الغصب ، وباب الإقرار ، وباب القضاء منها وأمعن النظر - لا يتأمل في أن ذكر الموارد لأجل تطبيق الكبرى الكلية عليها ، أو لأجل الجواب عن القضايا الشخصية ، وإلا فلا خصوصية لها ، بل الحكم عام ، أي مفاد تلك الأخبار نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه في أي مورد كان ، ويكون حكما كليا لإقرارات جميع العقلاء في جميع الموارد.

الرابع : الآيات ، ومنها قوله تعالى :

ص: 48


1- « الكافي » ج 7 ، ص 395 ، باب ما يرد من الشهود ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 242 ، ح 600 ، باب البينات ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 112 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 6 ، ح 1.

( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ) (1).

ومنها قوله تعالى ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) (2).

وقوله تعالى ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (3).

وفيها : أما الآية الأولى ، فلا ربط لها بمقامنا ومحل بحثنا ، أي نفوذ الإقرار على النفس ، لأن اللّه تعالى في الآية يخاطب الناس ويقول بعد أخذ العهد والمواثيق منهم : أن يؤمنوا وينصروا رسله ، هل أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، أي ثقلي؟ والمراد بالثقل : العهود والمواثيق الذي أخذ منهم ، أي قبلتم عهودي ومواثيقي ، قالوا : أقررنا ، أي قبلنا تلك العهود والمواثيق ، فقال اللّه تعالى : فاشهدوا أيتها الملائكة أو الأنبياء أو الأمم على قبولكم ، وأنا اللّه أيضا من الشاهدين ، فلا ربط لها بنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم ، لأن المراد من الأمر بالشهادة تثبيت تلك العهود والمواثيق عليهم وإتمام الحجة ، ولذلك يقول هو تعالى بعد ذلك ( وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ) أي لا يمكن لكم أن تنكروا هذه العهود.

وأما الآية الثانية ، فالمراد من قوله تعالى ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) إما هم الفاسقون ، المعترفون بذنوبهم ، التائبون عما فعلوا من خلط العمل الصالح بالعمل السي ء ، أو هم المتخلفون عن غزوة تبوك فندموا وتابوا ، على التفصيل المذكور في كتب التفاسير ، وعلى كل واحد من التقديرين لا ربط لها بنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم.

نعم اعترافهم بذنوبهم إقرار على أنفسهم ، ولكن أي ربط له بنفوذ إقرار كل عاقل على نفسه.

وأما الآية الثالثة ، فتقريب الاستدلال بها أن أمره تعالى بكونهم شهداء لله ولو

ص: 49


1- آل عمران (3) : 81.
2- التوبة (9) : 102.
3- النساء (4) : 135.

على أنفسهم ملازم مع وجوب قبول تلك الشهادة التي على النفس ، وهذا معناه نفوذ إقراره على نفسه.

وفيه : أن ظاهر الآية وجوب أداء الشهادة وحرمة كتمانها ولو كانت على أنفسهم ، وهذا لا يدل على أزيد من وجوب قبول شهادة المؤمنين وإن كانت على أنفسهم إذا كانت واجدة لشرائط وجوب قبول الشهادة من التعدد والعدالة ، فلا ربط لها بنفوذ إقرار العاقل على نفسه وإن كان فاسقا وغير متعدد الذي هو محل البحث.

وقد ظهر مما ذكرنا أن الدليل على اعتبار هذه القاعدة أمران :

أحدهما : هو الأمر الأول ، أي اتفاق كافة العقلاء على أماريتها ، وعدم ورود ردع عن قبل الشارع ، بل ورد الإمضاء.

الثاني : هي الأخبار ، وعمدتها النبوي المشهور ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

الجهة الثانية : في بيان مفاد هذه القاعدة وأنه ما المراد منها

اشارة

فنقول : إن مفاد القاعدة والمراد منها تابع للسعة والضيق في مدركها ، فإرادة المعنى الأوسع من مدركها يرجع إلى إرادة ما لا دليل عليه ، وإرادة الأضيق من دليلها معناه عدم الاعتناء بدليلها ، وعدم القول باعتبار ما اعتبره الشارع.

وقد عرفت أن المدرك لهذه القاعدة أمران : اتفاق العقلاء على أن إقرار العاقل على نفسه أمارة على ثبوت ما أقر به ، من حيث أنه على نفسه لا بقول مطلق - أي ولو كان له أثر على الغير ، فلو أقر بأن فلانة زوجتي ، فالعقلاء يبنون على زوجية فلأنه له من حيث الآثار التي على المقر ، أي المهر مثلا. وأما أن المرأة تطيعه وترتب آثار

ص: 50

الزوجية فلا - والأخبار وعمدتها قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ومفاد الحديث هو عين ما اتفق عليه العقلاء ، فلا بد من توضيح مفاد الحديث وبيانه.

فنقول : أما « الإقرار » لغة وبحسب المتفاهم العرفي عبارة عن جعل الشي ء ذا قرار وثبات ، فمعنى أقره على شغله أى : جعله ثابتا على ذلك الشغل.

والمتبادر من كلمة « على نفسه » هو كون الشي ء على ضرره ، كما أن معنى لنفسه كونه لنفعه. ومنه قولهم أنت لنا أو علينا ، أي : تنفعنا أو تضرنا.

ومعنى كلمة « جائز » أي : نافذ وماض لا الجواز مقابل الحرام ، وذلك من جهة أنها بذلك المعنى ليست مختصة بالإقرار على النفس ، بل الإقرار للنفس وبما ينفع المقر أيضا جائز ، فمن الواضح أن الجواز هاهنا بمعنى النفوذ والمضي ، كما قلنا أن على هذا المعنى اتفاق العقلاء.

هذا ، مضافا إلى أن الإقرار على النفس أيضا ربما يكون حراما ، وذلك فيما إذا كان كاذبا فيما يخبر عنه ، وخصوصا فيما إذا كان مضافا إلى أنه كذب مضرا للغير وموجبا لإهانته ، كما أنه إذا أقر واعترف كاذبا بأنه زنى بالمرأة المحصنة الفلانية ولا شك في أن مثل هذا الإقرار وإن كان على نفسه ، ولكنه من أشد المحرمات ، كما هو صريح الآية الشريفة ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (1).

ثمَّ إنه إن كان الظرف ، أي « على أنفسهم » متعلقا ب- « جائز » فيكون المعنى أن إقرار العقلاء مطلقا جائز على أنفسهم ، وإن كان متعلقا ب- « الإقرار » ، فيكون الحاصل أن إقرار العقلاء على أنفسهم لا مطلق أقاريرهم ، وتكون كلمة « جائز » مطلقا لا أنه مقيد بالجواز على أنفسهم فقط.

ص: 51


1- النور (24) : 23.

والفرق بين الصورتين في كمال الوضوح ، لأنه بناء على الصورة الأولي يكون المعنى عبارة عن أن إقرار العقلاء الذي يكون على ضررهم - لا مطلق إقرارهم ولو لم يكن على ضررهم - نافذ مطلقا ، سواء أكان النفوذ على ضرره أو على نفعه ، بمعنى أن الإقرار إذا كان على ضرره ولكن كان له لازم يكون لنفعه ، فبناء على تقدير الأول يرتب ذلك اللازم عليه ، لأنه يصدق عليه أنه إقرار على النفس. كما أنه لو أقر على أن هذا الولد ابني أو هذه المرأة زوجتي ، فهذا الإقرار ضرر عليه من حيث وجوب إعطاء النفقة لهما ، ولكن لازمه أنهما لو ماتا يرث منهما.

فلو كان الظرف من قيود الإقرار وكان الجواز مطلقا ، فيلزم القول بنفوذ هذا الإقرار بالنسبة إلى هذا اللازم ، وأما لو كان من قيود الجواز فيكون المعنى أن إقرارهم جائز في خصوص ما يضرهم لا فيما ينفعهم ، فيلزم القول بعدم نفوذ ذلك الإقرار في اللازم المذكور.

ولكن الإنصاف أن ظاهر هذا الكلام أنه صلی اللّه علیه و آله بصدد بيان أن إقرار العقلاء إذا كان على ضررهم فهو - أي : ذلك الإقرار الذي على ضرره - جائز ونافذ على نفسه ، فلو كان لإقرارهم الضرري لازم غير ضرري عليه ، سواء أكان نافعا له أو لم يكن ، وسواء أكان ضرر على الغير أو لم يكن ، ففي جميع هذه الصور لا يشمله الحديث ، لما ذكرنا أن معنى الحديث أن الإقرار الذي على أنفسهم جائز عليهم لا لهم. فكان الظرف المذكور في القضية متعلق بكلمة « إقرار العقلاء » وهو ظاهر اللفظ ، وإلا محذوف ومقدر متعلق بكلمة « جائز » بقرينة الأول ، مثل قوله تعالى ( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) (1) أي : بهم ، فحذف من الثاني بقرينة الأول ، فكان الكلام هكذا : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز على أنفسهم.

ونتيجة هذا أنه إذا كان للإقرار مدلول التزامي لا يكون ضررا على المقر

ص: 52


1- مريم (19) : 38.

لا يشمله الحديث.

إن قلت : إذا حكم الشارع بثبوت المقر به بالإقرار على النفس فقهرا يترتب آثار المقر به عليه ، سواء أكانت تلك الآثار واللوازم على المقر العاقل أو لنفعه ، أو لا لنفعه ولا على ضرره.

قلت : الأمر هكذا بناء على أمارية الإقرار كما هو كذلك ، ولكن تقدير الظرف المتعلق بكلمة « جائز » يمنع عن شمول الحديث لغير ما يضر المقر ، كما ذكرنا من أن معنى الحديث بعد تقييد الإقرار بكونه على نفس المقر وضرريا عليه ، وأيضا تقييد كلمة « جائز » ب- « على نفسه » المقدر ، فيكون المعنى أن الإقرار الذي عليه جائز عليه لا له.

إن قلت : بعد حكم الشارع بثبوت المقر به بذلك الإقرار ، كيف يمكن التفكيك بين ثبوته وثبوت لوازمه؟

قلت : إن الثبوت لو كان ثبوته واقعيا تكوينيا لكان لهذا الإشكال مجال ، وأما الثبوت التعبدي فهو بلحاظ الآثار ، فيمكن أن يرد الدليل بثبوته بلحاظ بعض الآثار دون بعض ، فيمكن أن يقول الشارع : تعبد بثبوت ما أقر به بلحاظ آثاره التي تكون على المقر لا له.

فتلخص مما ذكرنا أن معنى هذا الحديث - الذي هو مفاد هذه القاعدة والمراد منها - أن إقرار العقلاء الذي يكون على ضررهم مثبت وطريق كاشف عن وجود المقر به وثبوته ، ولكن من حيث آثاره التي تكون ضررا على المقر ، ففي كل مورد لم يكن الأثر ضرريا عليه لا يثبت ما أقر به من تلك الجهة.

والتفكيك بين اللوازم والملزومات في التعبديات لا مانع منه ، وله نظائر كثيرة ، لأن الثبوت فيها ليس ثبوتا حقيقيا ، بل هو ثبوت تعبدي بلحاظ الآثار ، فيمكن التفكيك بين ثبوته - أي : ما أقر به - من حيثية دون أخرى.

ص: 53

كما أنه قيل في قاعدة التجاوز ونحن بنينا على هذا (1) إنه لو شك في إتيان صلاة الظهر في أثناء الاشتغال بصلاة العصر ، أو شك في أنه توضأ للصلاة أم لا في أثناء الصلاة ، فقاعدة التجاوز تثبت الإتيان بصلاة الظهر من حيثية شرطية إتيانها قبل صلاة العصر ، ولا تثبت وجودها بقول مطلق ، ولذلك بعد الفراغ عن الصلاة يجب الإتيان بها ، لأن قاعدة التجاوز مفادها أن بعد التجاوز عن محل الشرط لو شك في إتيان الشرط يمضي في عمله ويبنى على الإتيان بالشرط. فالتعبد بوجود صلاة الظهر بما هو شرط ، لا بما هو هو.

وبعبارة أخرى : مفاد القاعدة أنه تعبد بأن العمل الذي أنت مشغول به ليس فاقد الشرط ، وأما ذات صلاة الظهر وأنه أتى بها أو لم يأت بها ، فلا نظر للقاعدة إليها ، ولذلك بعد الفراغ يلزم أن يأتي بها.

وكذلك الأمر في الشك في الوضوء في أثناء الصلاة ، فقاعدة التجاوز تثبت وجود الطهارة من حيث شرطيتها لهذه الصلاة ، ولا تثبت ذات الوضوء من حيث نفسه ، ولذلك بالنسبة إلى الصلوات الآخر لا بد له إلا أن يتوضأ.

وحاصل الكلام : أن قاعدة التجاوز مفادها التعبد بوجود صلاة الظهر من حيث شرطيتها لصلاة العصر ، وكذلك بوجود الوضوء من حيث شرطيته للصلاة ، لا أصل وجوده.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا وجه لما توهموه من الإشكال ، بأنه إن كان الإقرار على النفس مثبتا لما أقر به فيجب ترتيب جميع آثار ما أقر به ، وإن لم يكن مثبتا له فلا يترتب عليه شي ء أصلا ، لأنه بناء على هذا يكون إقراره ، وجوده كعدمه ، وذلك من جهة أن إقراره يثبت ما أقر به ، لكن بالنسبة إلى آثاره التي تكون على ضرر المقر ، لا ما يكون له ، ولا ما يكون ضررا على غيره ، ولا ما يكون لنفع غيره ، ولا ما يكون لا له

ص: 54


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 315.

ولا عليه.

فلا ينقض على هذه القاعدة بأنّه لو أقرّ بما يكون له ضرر على نفسه ، وعلى نفسه وعلى غيره ، كالزنا مثلا ، فإنّ ما أقرّ به يكون عليه وعلى غيره ، أي المرأة التي يقرّ بالزنا معها.

فالفقهاء يقولون بأنّ المقرّ يجلد إذا كان غير محصن ، ويرجم إذا كان محصناً.

وأمّا المرأة فلا شي ء عليها من ناحية هذا الإقرار ، نعم هي بنفسها لو أقرّت ، أو أقيمت عليها البيّنة تكون حالها حال المقرّ من ناحية إقرار نفسها ، أو من ناحية قيام البيّنة على أنّها مزنية بها.

وذلك من جهة أنّ إقرار ذلك الرجل بالزنا لا يثبت الزناء إلاّ بالنسبة إلى الآثار التي تكون ضرريّة على المقرّ دون غيرها. وأمّا التفكيك بين اللوازم ، فقلنا إنّه لا مانع منه في التعبّديات.

وكذلك لو أقرّ بأبوّة شخص له ، أو بنوّته ، أو أخوّته ، أو غير ذلك من النسب التي تكون من الطرفين ولم يقرّ الآخر ، فلا يترتب على إقراره إلا الآثار التي تكون ضررية على المقر ، دون ما يكون ضررا على ذلك الطرف الآخر ، فإذا كان واجب الإنفاق على المقر يجب عليه الإنفاق عليه ، ويرث من المقرّ.

وأما الطرف الآخر فلا يجب عليه الإنفاق على المقر ، وإن كان على تقدير ثبوت النسبة التي أقر بها واقعا يجب عليه الإنفاق على المقر ويرث المقر منه ، ولكن الإقرار لا يثبت النسبة واقعا وتكوينا ، والتعبد أيضا ليس بلحاظ جميع الآثار ، بل يكون بلحاظ الآثار التي تكون ضررية على المقر ، ولا يثبت الآثار التي تكون ضررية على غير المقر ، ولا الآثار التي تكون فيها نفع المقر.

إن قلت : أليس الإقرار أمارة على ثبوت المقر به ، فإذا ثبت الزناء مثلا القائم بالطرفين - الزاني والمزني بها - ولا يمكن تحقق أحدهما بدون الآخر ، وهكذا الحال في

ص: 55

جميع موارد المتضايفين ، فأبوه زيد لعمرو لا يمكن أن تتحقق بدون بنوة عمرو ، فإذا أقر زيد بأبوته لعمرو وقلنا أن أبوته لعمرو تثبت بالإقرار الذي من الأمارات ، فقهرا يثبت بنوة عمرو بتلك الأمارة.

كما أنه لو قامت البينة على أبوه زيد لعمرو ، تثبت بنوة عمرو له أيضا بتلك البينة ، وذلك لحجية مثبتات الأمارات.

قلت : أن أمارية الإقرار ليست مطلقة ، بل يثبت ما أقر به من حيث كونه منشأ للآثار التي تكون ضررية على المقر ، ولا يثبت ما أقر به مطلقا ، وقلنا إن الثبوت ليس ثبوتا حقيقيا وجدانيا وتكوينيا ، وإنما هو ثبوت تعبدي بلحاظ الآثار ، فيمكن أن يكون الإقرار أمارة على ثبوت الأبوة من حيث آثارها التي تكون ضررية على المقر فقط ، كما مثلنا بقاعدة التجاوز والشك في أثناء صلاة العصر أنه أتى بصلاة الظهر أم لا ، والشك في أنه توضأ أم لا.

وخلاصة الكلام : أن الإقرار قد يكون على نفس المقر فقط - مثل أن يقر بأن لفلان عليه كذا - فنافذ قطعا ، وقد يكون على نفسه وعلى غيره ، وهذا على قسمين :

الأول : أن يكون المقر به في كل واحد منهما مستقلا غير مربوط بالآخر ، مثل أن يقر أحد الشريكين ببيع تمام دار المشترك بينه وبين غيره ، فينفذ في حصته من تلك الدار دون حصة شريكه. وهذا الصورة أيضا لا كلام ولا إشكال فيها ، لأنه في الحقيقة إقراران : إقرار ببيع حصته ، وهذا على نفسه ونافذ. وإقرار ببيع شريكه حصته ، وهذا إقرار على الغير وليس بنافذ.

الثاني : أن يكون المقر به في كل واحد منهما مربوطا بالآخر ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن المقر به معنى قائم بالطرفين ، وذلك كإقراره بأبوة شخص أو بنوته أو أخوته ، أو بالزنا مع امرأة معينة ، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة لهذا القسم.

وهذا القسم هو الذي وقع محل الإشكال ، وأنه كيف يمكن التفكيك بأن يكون

ص: 56

نافذا في حقه ولا يكون نافذا في حق ذلك الطرف الآخر ، مع أنهما متضايفان ووجود أحدهما متوقف على وجود الآخر.

وهذا هو الذي أجبنا عنه ، وقلنا بأن توقف أحدهما على الآخر إنما هو في مقام الثبوت ، لا في مقام الإثبات.

نعم في مقام الإثبات أيضا ملازمة بين إثبات أحدهما وإثبات الآخر إن كان الإثبات تكوينيا وجدانيا ، لأن الملازمة بين المتلازمين كما تكون في مقام الثبوت كذلك تكون في مقام الإثبات ، فإن العلم بأحد المتلازمين - سواء كانا معلولين لعلة واحدة ، أو كان أحدهما علة والآخر معلولا - علة للعلم بالآخر ، ولكن هذه الملازمة بينهما ليست في مقام الإثبات إذا كان الإثبات تعبديا ، إذ من الممكن أن يحكم الشارع بالتعبد بأحد المتلازمين دون وذلك بأن يأمر بترتيب آثار أحدهما دون الآخر ، فلا يبقى إشكال في البين.

وهاهنا أمور يجب التنبيه عليها :

[ الأمر ] الأول : أن الإقرار لغة وعرفا عبارة عن جعل الشي ء ذا قرار وثبات ، وهذا المعنى قد يكون مدلولا مطابقيا للفظ ، كما أنه إذا قال : أنا مديون لزيد مثلا بكذا مقدار ، وقد يكون مدلولا التزاميا كقوله : رددت عليك بعد قول زيد لي عليك كذا.

وذلك من جهة أن مدلول المطابقي لكلمة « رددت عليك » هو إرجاع ما أخذ منه ، ولكن العرف يفهم منها بالدلالة الالتزامية أنه اعترف بأنه كان مديونا غاية الأمر يدعي أداء دينه.

وقد يكون بغير اللفظ ، كما إذا أقر بدين عليه بالإشارة المفهمة ، مثل أن يقول له الحاكم مثلا : إن فلانا يقول بأنك مديون له بكذا مقدار ، فهل ادعاه صحيح وأنت مديون له بهذا المقدار؟ فيصدقه بالإشارة ، بحيث يفهم منها العرف تصديقه للمدعي

ص: 57

بهذه الإشارة ، ولذلك يكون الأخرس العاجز عن الكلام إقراره بالإشارة.

والحاصل : أن الإقرار عبارة عن إثبات الشي ء ، أي جعله ذا قرار وثبات سواء أكان هذا الإثبات بالقول أو بالفعل ، غاية الأمر حجية ظواهر الأقوال معلومة وعليها بناء العقلاء وسيرتهم ، سواء كان المراد مدلولا مطابقيا للفظ ، أو مدلولا التزاميا. وأما الأفعال فليست كذلك ، فلا بد وأن يكون الفعل الذي يتحقق به الإقرار صريحا فيه ، لا يكون ذا وجوه بحيث أن العرف يرى أنه أقر واعترف بما ادعاه المدعي.

وبعبارة أخرى : يكون ذلك الفعل في نظر العرف وعندهم مصداقا لمفهوم « الإقرار » ويحمل عليه مفهوم « الإقرار » بالحمل الشائع. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المقر عاجزا عن الكلام كالأخرس ، أم لا ولكن أقر بالفعل لا بالقول لجهة أخرى غير العجز ، فكذلك الأمر في الكتابة ، فإن كانت عند العرف صريحة في الإقرار بحيث لا يشكون في أنه أقر بذلك ، أيضا يثبت بهذا الإقرار ، وحيث أن الإقرار عبارة عن الإخبار بثبوت مال أو حق - سواء كان حق الناس أو حق اللّه على نفسه أو لنفسه - أو الإخبار بثبوت أمر يستتبع مالا أو حقا على نفسه ، كإقراره بثبوت نسبة بينه وبين غيره ، فكل ما أفاد هذا المعنى عند العرف يسمى إقرارا.

ولعل هذا مراد صاحب الجواهر قدس سره حيث يقول بعد ذكره تعاريف القوم : ولعل الأولى من ذلك - أي : من تلك التعاريف - إيكاله إلى العرف الكافي في مفهومه ومصداقه. فبناء على هذا لو فهم العرف من الكتابة مثل المعنى الذي ذكرنا وصدق بأنه إقرار ، فتكون تلك الكتابة إقرارا. (1)

الأمر الثاني : هل نفي الحق عن نفسه ، أو نفي المال ، أو نفي النسبة بعد إقرار الطرف بثبوت هذه الأمور له يعد إقرارا على نفسه كي يكون جائزا ونافذا عليه ، أم

ص: 58


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 2.

لا بل هو إنكار لما أقر الطرف ، فلو قال أحد المتبايعين للآخر : لك الخيار في هذه المعاملة ، فنفي ذلك الآخر وقال : ليس لي هذا الحق ، أو قال : هذا المال لك ، أو قال : لك علي كذا من الدنانير ، فقال في جواب الأول : ليس هذا المال لي ، و [ في ] جواب الثاني : ليس لي عليك شي ء ، أو ورثة الميت قالوا له : أنت أخونا من هذا الأب الميت ، فأنكر هو وقال : لست ابنا لهذا الميت كي أكون أخاكم.

ولا شك في أن النفي في هذه الموارد مستتبع للضرر عليه ، فإن كان النفي إقرارا يكون من مصاديق « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فلو صدق المقر بعد النفي - أي رجع عن نفيه - يكون من الإنكار بعد الإقرار ، ولا يسمع.

وأما لو يكن النفي في هذه الموارد وما يشبهها إقرارا ، فلا دليل على نفوذ هذه الإنكارات ، فالإقرارات من ذلك المقر باق بحالها ، والنفي لم يؤثر فيها ، فإذا رجع عن إنكاره وصدق المقر يكون له هذه الأمور ، ويؤخذ المقر بإقراراته المفروضة.

والظاهر أن النفي في الموارد المذكورة وما يماثلها ، حيث أنه مستتبع للضرر عليه ، يكون إقرارا على نفسه ، ولا يرى العرف فرقا في صدق الإقرار بين أن يكون ما أقر به وجود صفة ، أو يكون عدم تلك الصفة ، فكما أنه لو اعترف بأنه فاسق مرتكب للكبائر يكون هذا إقرارا على نفسه ، كذلك لو قال بأنه ليس بعادل ، أو اعترف أنه ليس بمجتهد يكون هذا أيضا إقرارا على نفسه.

فبناء على أمارية الإقرار على النفس لإثبات ما أقر به ، يكون الإقراران من الأمارتين المتعارضتين ، وبعد عدم الترجيح لإحداهما على الأخرى تتساقطان ، فلا يؤخذ كل واحد منهما بإقراره ، لا المقر ولا النافي.

فإذا رجع النافي عن نفيه وصدق المقر ، فإن كان المقر باقيا على إقراره فيكون كإقرار جديد بلا معارض ، فيؤخذ بإقراره. وإن لم يكن باقيا على إقراره يدخل في باب الدعاوي ، وتنطبق عليه موازين القضاء من جديد.

ص: 59

الأمر الثالث : في أن الإنكار بعد الإقرار لا يسمع ولا أثر له ، وذلك من جهة أن الإقرار - كما تقدم - أمارة على ثبوت ما أقر به على نفسه ونفوذه في حقه ، والإنكار الذي يصدر منه بعد إقراره لا دليل على اعتباره ، فوجوده كعدمه ، وهذا معنى سماعه - أي : كلام - لا أثر له.

ولكن هذا فيما إذا تمَّ الإقرار وجرت أصالة الظهور لتشخيص المراد ، وهذا فيما إذا لم تكن قرينة متصلة أو منفصلة تكون أصالة الظهور فيها حاكمة على أصالة الظهور في طرف ذي القرينة ، ولذلك لا يكون الاستثناء عما أقر به إنكارا بعد الإقرار.

فلو قال له : علي عشرة إلا درهما ، كان إقرارا بتسعة لا بعشرة كي يكون استثناء الدرهم إنكارا بعد الإقرار ، وكذلك لو قال : هذه الدار لزيد إلا الغرفة الفلانية ، فهذا إقرار بما عدا تلك الغرفة ، ولو قال : هذه الدار لي إلا الغرفة الفلانية ، فإنها لزيد مثلا ، فالإقرار على نفسه يكون بتلك الغرفة فقط ، وهكذا الأمر في سائر الموارد.

فإذا كان الاستثناء عن الإيجاب ، وأقر بالمستثنى منه لغيره ، فيكون ما أقر به ما عدا المستثنى ، وإن كان الاستثناء في الكلام المنفي بأن قال : ليس لزيد شي ء من هذه الدار إلا الغرفة الفلانية ، فيكون ما أقر به نفس المستثنى.

والحاصل : أن في مقام الاستثناء تارة يكون إخباره بالنفي أو الإثبات متعلقا بحق الغير عليه ، فالاستثناء في الكلام الموجب نتيجته أن المقر به ما بقي بعد الاستثناء ، كما إذا قال له : علي عشرة إلا درهما ، فيكون الإقرار بتسعة. وأما الاستثناء ، في الكلام المنفي ، كما إذا قال : ليس له علي شي ء إلا درهم ، نتيجته أن المقر به هو نفس المستثنى ، أعني الدرهم الواحد. وتارة يكون إخباره بالنفي والإثبات بحق نفسه على الغير ، ففي الكلام الموجب كما إذا قال : لي على زيد عشرة إلا درهما ، يكون الإقرار بالنسبة إلى الدرهم الواحد فقط ، لأن نفي الملكية عنه هو الإقرار على نفسه ، فيكون المقر به هو المستثنى فقط ، عكس السابق.

ص: 60

وأما إذا كان الاستثناء في الكلام المنفي ، كما إذا قال : ليس لي من هذه العشرة دراهم إلا درهما ، فيكون المقر به هو تمام هذه التسعة الذي غير المستثنى ، فيكون ما أقر به في الصورتين - أي النفي والإيجاب - فيما إذا كان إخباره بالنفي والإثبات بحق نفسه على الغير ، عكس ما كان إخباره بهما بحق الغير عليه.

الأمر الرابع : في أن أمارية الإقرار واعتباره لإثبات المقر به هل مخصوص بما إذا كان في قبال من يدعي ما أقر به ، أو يكون أمارة مطلقا وإن لم يكن مدع في البين أصلا؟

وبناء على الأول ، فلو أقر بأن هذه الدار التي في يدي وتحت تصرفي لزيد ، أو ليس لي ، ولم يكن من يدعيها ، فلو أنكر بعد ذلك ما أقره وقال : إنها ليست لزيد ، أو قال : إنها ملكي ، فليس من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وتكون يده أمارة الملكية ، فلو وهبها لشخص أو وقفها أو باعها أو غير ذلك من التصرفات التي تنفذ للملاك في أملاكهم ، تكون هذه التصرفات نافذة ، ولا تأثير لإقراره السابق ، لأنه بناء على هذا التقدير يكون إقراره السابق كالعدم.

وأما بناء على الثاني - أي بناء على كونه أمارة مطلقا ، سواء أكان مدع في البين أو لم يكن - فإنكاره بعد ذلك يكون إنكارا بعد الإقرار ولا يسمع منه ، وتسقط يده عن الاعتبار بإقراره ، فلا يجوز له أي تصرف ناقل للعين أو لمنفعتها.

هذا فيما إذا لم يدع الملكية الجديدة ، وأما إذا ادعاها ، فإذا كان حصولها غير ممكن - من جهة اتصال زمان تصرفه بزمان إقراره للغير ، أو بوقفيته ، أو بشي ء آخر لا يمكن حصول الملكية معه - فالأمر واضح ، لسقوط يده عن الاعتبار بواسطة إقراره ، ولم يحصل سبب جديد لملكيته على الفرض ، فتكون تصرفاته غير نافذة حسب الأدلة والأمارات.

وأما إذا كان حصولها ممكنا ، فهل يده أمارة على الملكية الجديدة فيما لا علم بعدم

ص: 61

حصولها أم لا؟

والمسألة تدور مدار أن استصحاب حال اليد مقدم أو أمارية اليد الفعلي ، وذلك من جهة أنه لا شك في أنه بعد إقراره - بناء على نفوذه وإن لم يكن مدع في البين كما هو المفروض - تكون يده يد أمانة ، فيشك في أن تلك الحالة - أي كونها أمانة - باقية أم زالت وتبدلت يده من الأمانية إلى المالكية.

كما إذا كان مستأجرا لدار وكانت يده يد أمانة قطعا ، ثمَّ يدعي انتقالها إليه بناقل شرعي ، فهل مثل هذه اليد أمارة الملكية ، أو استصحاب حالتها السابقة يبطل أماريتها؟ لا يبعد جريان استصحاب حال اليد وعدم كونها أمارة الملكية.

ثمَّ إن الاحتمالين الذين بيناهما بالنسبة إلى أمارية اليد - من كونها أمارة مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان مدع في البين - كان بحسب مقام الثبوت.

وأما في مقام الإثبات ، فظاهر النبوي المستفيض أو المتواتر ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (1) هو نفوذ الإقرار مطلقا ، كان هناك مدع أو لم يكن ، ولا مخصص ولا مقيد لهذا الإطلاق في البين.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : إن موارد تطبيق هذه القاعدة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الإقرار كثيرة ، ولكن الموارد مختلفة ، فبعضها محل الوفاق ولا خلاف فيها ، لوضوح كونها من مصاديق القاعدة.

ص: 62


1- تقدم ذكره في ص 47 ، رقم (2)

مثلا لو أقرّ العاقل البالغ اختيارا بأنّ هذه الدار التي تحت تصرّفي وفي يدي ملك زيد ، أو له عليّ كذا مقدار من الدراهم والدنانير ، وكذا مقدار من الحنطة أو الشعير أو سائر الأجناس التي لها ماليّة ، أو أقرّ بحقّ من الحقوق كحقّ الخيار ، أو حقّ التولية والنظارة على وقف ، أو حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان للعبادة أو للمعاملة والتكسّب ، ففي جميع هذه الموارد إذا كان إقراره ممّا يكون على نفسه لا له ، يكون نافذا ولا إشكال ولا خلاف فيه.

ولا فرق بين أن يكون المقرّ له حيّا أو ميّتا ، والمقرّ به عينا أو دينا أو حقا.

نعم يشترط في صحّة إقراره ونفوذه أن لا يكون إقراره معلقا على أمر ، لأنّ التعليق ينافي الإقرار ، وذلك من جهة أنّ الإقرار - كما رجّحناه - عبارة عن الإخبار جزما وبتّا بثبوت شي ء عليه ، أي يكون ثبوت ذلك الشي ء على نفسه ، سواء أكان ذلك الشي ء عينا أو دينا أو حقّا من الحقوق ، أو كان ثبوت ذلك الشي ء مستتبعا لثبوت عين أو دين أو حقّ عليه. وثبوت الشي ء فعلا مع كونه معلّقا بثبوته على أمر - وإن كان محقّق الوجود فيما سيأتي كطلوع الشمس غدا - ممّا يتنافيان ، ولذلك يكون الإقرار معلّقا على أمر باطلا وليس بنافذ ، فلو قال : لك عليّ كذا إن قدم زيد من السفر ، يكون باطلا ولا ينفذ ، بل وكذلك لو قال : لك عليّ كذا إن طلعت الشمس غدا ، باطل ولا ينفذ.

والسرّ في ذلك ما ذكرنا من تنافي حقيقة الإقرار مع التعليق ، حتّى وإن كان المعلّق عليه أمرا محقّق الوقوع.

وبعض الموارد الآخر ليس انطباق القاعدة عليها بتلك المثابة من الوضوح ، ولذا وقع فيها الخلاف والإشكال.

فمنها : لو قال بعد ادّعاه المدّعي شيئا من مال أو حقّ عليه : إن شهد لك فلان

ص: 63

فهو صادق ، فقال جماعة - وهم الشيخ (1) على ما حكى عنه ، وابن سعيد (2) ، والعلامة (3) 0 على ما في الجواهر (4) ، بل حكى في الجواهر عن فخر الإسلام أنّه حكى عن والده نسبته إلى الأصحاب (5) - أنّه إقرار ويلزمه ما ادّعاه المدّعي ، وذكروا لكون هذا الكلام إقرارا وأنّه يلزمه ما ادّعاه المدّعي وجوها :

منها : ما ذكره المحقّق في الشرائع : أنّه إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد. (6)

بيان ذلك : أنّه أقرّ بصدق الشاهد إذا شهد ، ومعلوم أنّ شهادة ذلك الشاهد لا أثر لها في صدقه ، بل صدقه معلول سبب ثبوت ذلك الشي ء على المقرّ ، فصدق الشاهد على تقدير شهادته معناه أنّ ذلك السبب موجود ، فحيث أنّه أقرّ بصدق الشاهد على تقدير شهادته فأقرّ بوجود ذلك السبب على ذلك التقدير ، وحيث أنّ ذلك التقدير أجنبي عن وجود ذلك السبب ، فيكون إقراره بوجود السبب مطلق سواء شهد أو لم يشهد.

وهذا هو المراد من قول المحقّق قدس سره « إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد » أي ليس للشهادة تأثير في صدقه ، أو عدمها في كذبه ، بل مناط صدقه وكذبه وجود سبب الثبوت وعدم وجوده.

ومنها : أنّ ما يدّعيه المدّعي عليه إمّا ثابت عليه في الواقع ، أو ليس بثابت. وعلى الثاني ، فعلى تقدير الشهادة أيضا ليس بصادق ، فصدقه على تقدير الشهادة متوقّف على ثبوت ما يدّعيه المدّعي في الواقع ، فإقراره بصدق الشاهد على تقدير الشهادة

ص: 64


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 36.
2- « الجامع للشرائع » ص 340.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 277.
4- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 9.
5- « إيضاح الفوائد » ج 3 ، ص 423 - 424.
6- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 110.

يرجع إلى الإقرار بثبوت ما يدّعيه المدّعي ، فيلزمه المال أو الحقّ.

وذلك لأنّ الإقرار باللازم الذي هو الصدق على تقدير الشهادة إقرار بملزومه ، أعني ثبوت ما يدّعيه المدّعي.

ومنها : أنّه يصدق هذه القضية ، أي كلّما لم يكن المال ثابتا أو الحقّ كذلك في ذمّة المقرّ لم يكن الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ، فعكس ما نقيضه كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة كان المال ثابتا في ذمّته يكون صادقا ، وذلك لما تقرّر في المنطق أنّ الأصل إذا كان صادقا كان العكس أيضا صادقا ، والمقدّم في عكس النقيض أي : كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ثابت بإقراره ، فيترتّب عليه التالي ، وهو كان المال ثابتا في ذمّته.

ثمَّ انّ هاهنا كلام طويل وإيرادات ذكرها صاحب الجواهر قدس سره في كتاب الإقرار (1) ، تركنا ذكرها والبحث عنها ، لأنّ محلّ ذكرها والبحث عنها هو كتاب الإقرار.

ومنها : لو قال : نعم ، بعد قول المدّعي : ألست مديونا لي بكذا؟ وقع الخلاف في أنّه إقرار أم لا ، بعد الفراغ عن أنّه لو قال : بلى ، لا شكّ في أنّه إقرار ، وذلك من جهة أنّ « بلى » حرف جواب وتختصّ بالنفي وتفيد إبطاله.

وإن شئت قلت : إنّ مفادها تصديق المنفي لا النفي ، بخلاف « نعم » فإنّها تصديق للجملة التي قبلها نفيا كانت أم إثباتا ، ولذلك حكي في المغني عن ابي عباس رضی اللّه عنه أنّه قال : لو قالوا في جواب قوله تعالى ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (2) « نعم » كفروا ، وذلك من جهة أنّ « نعم » تصديق لتمام الجملة ، فيصير مفاد نعم - العياذ باللّه - نفي ربوبيّته تعالى لهم ، ولكن قالوا « بلى » وأبطلوا النفي وصدقوا ما بعده - أي المنفي - أعني

ص: 65


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 9.
2- الأعراف (7) : 172.

صدقوا ربوبيّته تعالى لهم (1).

ولكن مع ذلك ذهب جماعة إلى أنّه إقرار ، لأنّ « نعم » تستعمل بمعنيين ، أي تصديق النفي تارة ، والمنفي أخرى.

وقد استشهد لهم صاحب الجواهر قدس سره (2) بقول الأنصار في جواب النبيّ صلی اللّه علیه و آله حين قال لهم : « ألستم ترون ذلك »؟ فقالوا : نعم ، في مقام تصديق أنّه لهم.

وبقول الشاعر :

أليس الليل يجمع أم عمرو *** وإيّانا فذاك بنا تداني

نعم وأرى الهلال كما تراه *** ويعلوها النهار كما علاني

ثمَّ حكى عن المسالك أنّ الحكم بكونه إقرارا قويّ.

ولكن أنت خبير بأنّ صرف استعمال « نعم » مقام « بلى » في بعض الاستعمالات لا يثبت كونه إقرارا ما لم يكن له ظهور عرفي ، وإثبات مثل هذا الظهور بمجرّد استعماله مقام « بلى » في بعض الأحيان لا يخلو من نظر ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك.

ومعلوم أنّه إذا بلغت النوبة إلى الشكّ ، فالأصل عدم ثبوت الإقرار ، إلاّ أن يكون في مورده إطلاق لفظي يرفع الشكّ. وأمّا لو كان السؤال كلاما مثبتا - كما إذا سأل عنه : أنّ لي كذا درهما أو شيئا عليك؟ فأجاب بنعم أو بأجل - يكون إقرارا بمضمون ذلك الكلام ، وذلك لأنّ نعم وأجل كلاهما حرف تصديق وجواب ، فإذا أجاب بها أو بإحداهما فقد صدّق السائل فيما أثبته عليه.

ثمَّ انّ الفقهاء ذكروا فروعا كثيرة في كتاب الإقرار ، وتردّدوا أو تنظروا في انطباق هذه القاعدة على بعضها لم نذكرها ، لأنّ محلّ البحث عنها هو كتاب الإقرار ، والمقصود

ص: 66


1- « مغني اللبيب » ج 2 ، ص 452.
2- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 84.

هاهنا بيان اعتبار هذه القاعدة وشرح مفادها والإشارة إلى موارد تطبيقها بطور الإجمال ، لا تفصيل مسائلها ، وإلاّ كان اللازم ذكر جميع مسائل كتاب الإقرار ، وهو خروج عن وضع الكتاب.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 67

ص: 68

28 - قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر

اشارة

ص: 69

ص: 70

قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمران

الأوّل : قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (2).

واشتهار هذا الحديث بين طوائف المسلمين يوجب الوثوق والاطمئنان بصدوره عنه صلی اللّه علیه و آله ، فلا ريب في حجّيته واعتباره.

وروى في دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه ، عن أبيه ، عن آبائه عن أمير المؤمنين علیهم السلام « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : البيّنة في الأموال على المدّعي واليمين على

ص: 71


1- « القواعد والفوائد » ج 1 ، ص 405 ، « الحق المبين » ص 48 و 65 ، « عناوين الأصول » عنوان 76 ، « خزائن الأحكام » العدد 38 ، « بلغة الفقيه » ج 36 ، ص 376 و 388 ، « قواعد فقهي » ص 21 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 335.
2- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.

المدّعي عليه » الحديث. (1)

عوالي اللئالي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (2).

وفي كتاب الاستغاثة في كلام له في قصّة فدك مع قول الرسول صلی اللّه علیه و آله بإجماع الأمّة :

« البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر » (3).

محمّد بن يعقوب الكليني قدس سره في الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (4).

وأيضا محمّد بن يعقوب في الكافي بإسناده عن جميل وهشام ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعى عليه (5) ».

وفيما ذكرنا في مدرك هذه القاعدة غنى وكفاية ، وإن كان هناك روايات من طرقنا وطرق مخالفينا تركناها لعدم الاحتياج إليها.

الثاني : الإجماع من جميع علماء الإسلام قاطبة ، ومن جميع الطوائف منهم ، وهذا الإجماع المحقّق من جميع طوائف المسلمين وإن لم يكن من الإجماع المصطلح - كما نبّهنا

ص: 72


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 520 ، ح 1859 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 367 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 244 ، ح 172 ، وص 453 ، ح 188 ، وج 2 ، ص 258 ، ح 10 ، وص 345 ، ح 11 ، وج 3 ، ص 523 ، ح 22.
3- « الاستغاثة » ص 16 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 5.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب أنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 2 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب أنّ البيّنة على المدّعي و. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 553 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1.

عليه مرارا - إلاّ أنّه يوجب الوثوق بل القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلی اللّه علیه و آله فلا إشكال في هذه القاعدة من حيث المدرك.

[ الجهة ] الثانية : وهي العمدة هو بيان المراد من هذا الحديث ،

اشارة

وتوضيح ما يفهمه العرف منه

فنقول في مقام شرح مفهوم العرفي لألفاظ هذا الحديث : أمّا « البيّنة » فهي عبارة عن شاهدين ذوي عدل من المؤمنين حسب المتفاهم العرفي ، وقد تكلّمنا في ظهورها عرفا في هذا المعنى في قاعدة حجّية البيّنة ، وهذا لا ينافي كون هذه الكلمة لغة بل وعرفا أيضا بمعنى مطلق الحجّة الواضحة والبرهان ، كما أنّها استعملت في القرآن الكريم في خمسة عشر موضعا بهذا المعنى ، أي الدليل والبرهان والحجة الواضحة.

وذلك من جهة أنّ المنكر - كما سنذكر - من كان قوله مطابقا للحجّة الفعليّة ككونه ذا اليد ، فلا بدّ وأن يكون المراد من البيّنة التي جعلها صلی اللّه علیه و آله وظيفة المدّعي دون المنكر معنى آخر غير مطلق الحجّة ، وليس معنى آخر في البين يحتمل أن يكون هو المراد إلاّ هذه الحجّة الخاصّة ، أعني شهادة عدلين.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة في الموارد الخاصّة بمطالبة الشهود من المدّعي والحكم له على طبق شهادتها ، مضافا إلى أنّ أحدا من الفقهاء لم يحتمل غير هذا المعنى لها في هذا الحديث.

وأمّا كلمة « على » فباعتبار أنّ هذه الوظيفة - أي كون إقامة البيّنة على ثبوت ما يدّعيه - موجّها إليه تكون كلفة عليه.

وأمّا « اليمين » فهو الحلف والقسم ، وهذا واضح معلوم لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

ص: 73

وأمّا « المدّعي » فقيل في تعريفه وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : هو أنّ المدّعي عبارة عمن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة وإن كان موافقا مع الحجّة غير الفعليّة ، أي كان مثلا موافقا مع الأصل ولكن هناك أمارة على خلافه ، فحيث أنّ الأمارة حاكمة على ذلك الأصل - لذهاب موضوعه بها تعبّدا - كانت الحجّة الفعليّة هي الأمارة دون الأصل ، فيكون مدّعيا بناء على هذا التعريف. مثلا لو ادّعي أنّ هذا اللحم الذي في السوق غير مذكّى ، ويريد بذلك إبطال المعاملة ، فقول هذا الشخص وإن كان مطابقا مع الأصل - أي أصالة عدم التذكية - ولكن حيث أنّ سوق المسلم ويده كذلك أمارة على التذكية ، فأصالة عدم التذكية محكومة بتلك الأمارة ، فتكون تلك الأمارة هي الحجّة الفعليّة ، فيكون قول ذلك الشخص مخالفا للحجّة الفعليّة ، أعني تلك الأمارة وإن كان موافقا مع الأصل - أي أصالة عدم التذكية - فيكون مدّعيا.

وكذلك مدّعي الفساد في باب المعاملات يكون مدّعيا ، مع أنّ قوله موافق لأصالة عدم النقل والانتقال ، وذلك لما ذكرنا من أنّ المدار في تشخيص المدّعي هو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وإن كان مطابقا مع أصل محكوم ، أو أمارة كذلك.

وفيما ذكرنا من الفرع - أي دعوى الفساد في أبواب المعاملات - قوله : مخالف للحجّة الفعليّة ، أي أصالة الصحّة ، وإن كان موافقا لأصالة عدم النقل والانتقال.

وبناء على هذا التعريف للمدّعي ، فقد يختلف في كونه مدّعيا أو منكرا لاختلاف كلامه ، مثلا لو قال في مقام دعوى الطرف دينا عليه ، أو عينا عنده أمانة أو غصبا : ليس لك في ذمّتي أو عندي شي ء ، يكون منكرا ، لكون قوله موافقا مع الحجّة الفعليّة ، أي أصالة عدم اشتغال ذمّته له بشي ء ، وكذلك في ادّعاء العين ، الأصل عدم كونه عنده.

وأمّا لو قال في الأوّل : أدّيته ، وفي الثاني : رددته ، يكون مدّعيا ، لأنّ قوله يكون

ص: 74

مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهي أصالة عدم أدائه في الأوّل ، وأصالة عدم ردّه في الثاني.

وكذلك الأمر في الدعوى على ذي اليد بما هو تحت يده ، فلو قال : إنّ هذا ليس لك ، أو قال : لنفسي ، يكون منكرا ، لأنّ قوله موافق للحجّة الفعليّة ، أي : كونه ذا اليد. وأمّا لو قال : بأنّك وهبتني ، أو اشتريت منك ، أو ادّعي الانتقال إليه بناقل آخر بعد إقراره بأنّه كان له ، فيكون مدّعيا ، لأنّه أسقط يده عن الاعتبار بإقراره الضمني أو الصريح.

الوجه الثاني : هو أنّ المدّعي من لو ترك دعواه ترك. وبيانه أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يدّعي بثبوت دين ، أو عين ، أو حقّ على خصمه. وبعبارة أخرى :

يريد إلزامه بأحد الأمور المذكورة.

والمنكر في مقابله يردّ دعواه وينكر كونه ملزما بأحد هذه الأمور ، فإنكاره - في قبال ادّعاء المدّعي - يكون من قبيل القبول في مقابل الإيجاب ، ورتبته متأخّرة عن الدعوى ويكون متفرّعا عليها ، فكونه منكرا متفرّع على وجود مدّع يدّعي شيئا عليه ، فإذا ترك دعواه فلا مدّعي ولا منكر في البين ، وهذا هو المراد من قولهم « لو ترك ترك » ومن تعريفهم المدّعي بتلك الجملة.

وهذا المعنى للمدّعي موافق لما يفهمه العرف من هذه الكلمة ، لأنّ المدّعي عندهم من يريد إلزام خصمه بثبوت أمر عليه ، فهو المتعرّض لطرفه ، فلو ترك التعرّض ولم يطالب خصمه بشي ء ، لا يتعرّض الخصم له من ناحية هذه المخاصمة.

نعم يمكن أن يكون للخصم دعوى آخر عليه ، فلا يتركه بل يطالبه ، ولكن من جهة ادّعاء آخر من طرف المنكر.

وأمّا باب التداعي ، ففي الحقيقة هناك دعويان ، في إحديهما يكون هذا مدّع والآخر منكر ، وفي الأخرى بالعكس ، أي يكون المدّعي في الدعوى الأولى منكرا في الأخرى ، والمنكر فيها مدّعيا في هذه الدعوى. وفي كلّ واحدة من الدعويين لو ترك

ص: 75

المدّعي دعواه ، يترك من ناحية تلك الدعوى ولا يتعرّض له خصمه من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى مثلا لو كان مال مطروحا على الأرض ووقع عليه التلف ، وكلّ واحد من المتخاصمين لا بدّ له عليه ، ويدّعي أنّه له ، فكلّ واحد منهما ، يدّعي على الآخر إنّك أتلفت مالي ، فلو ترك أحدهما دعواه يترك من ناحية هذه ، ولا يتعرّض له الآخر من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى.

وكذلك لو كان المال في يدهما معا ، فكلّ واحد منهما بالنسبة إلى نصفه مدّع ، وبالنسبة إلى النصف الآخر منكر ، وذلك من جهة أنّ يد كلّ واحد منهما على الكلّ غير تامّة ، لأنّ معنى التماميّة وعدم النقصان في اليد أن يكون له جميع المتصرّفات المباحة ، ومنع جميع الأغيار ، وحيث أنّه مع الشريك ليس له منعه ، فهذه اليد الناقصة على الكلّ تعتبر يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء إن كان الشريك واحدا ، وعلى الثلث إنّ كانا اثنين ، وعلى الربع ، إن كان شركائه ثلاثة ، وهكذا.

فإذا كان المال في يد اثنين مثلا ، فتعتبر يد كلّ واحد منهما على المجموع يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء ، فبالنسبة إلى النصف الذي تحت يد كلّ واحد منهما يكون ذو اليد منكرا ، وبالنسبة إلى النصف الآخر مدّعيا ، فكلّ واحد منهما منكر بالنسبة لما في يده ، ومدّع بالنسبة لما في يد الآخر ، فيدخل في باب التداعي والتحالف ، ولكن كلّ واحد لو ترك المخاصمة بالنسبة لما في يده الآخر يترك من حيث هذه الدعوى ، ولا يتعرّض له الآخر من هذه الجهة ، وإن كان له تعرّض من ناحية النصف الآخر الذي في يده. فلا يرد النقض على هذا التعريف بمسألة التداعي وأن المدّعي فيها لو ترك لا يترك.

الوجه الثالث : هو أنّ المدّعي عبارة عمّن يكون قوله مخالفا للظاهر ، ومقابله المنكر وهو الذي يوافق قوله الظاهر. كما أنّه إذا ادّعى أنّ هذه الدار التي تسكنها هي داري ، أو الزوجة التي تحتك هي زوجتي ، فهذا القول خلاف ظاهر الحال ، فيكون من

ص: 76

يدّعيه مدّعيا ، ومن تكون الدار تحت يده وينكر كونها للمدّعي منكرا ، وكذلك الأمر في مثال الزوجة.

وفيه : أنّ هذا الظاهر الذي يكون قوله مطابقا معه ، إن كان حجّة معتبرة بالفعل - أي : كان أصلا معتبرا ، أو أمارة معتبرة - فيرجع إلى الوجه الأوّل ، أي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، من وجوه تعريف المدّعي وإن كان من الظنون غير المعتبرة.

فكونه موافقا معه لا ينافي مع كونه مدّعيا ، كما أنّه لو ادّعى شخص من الصلحاء وأهل الشرف على ذي اليد المتّهم بالسرقات أنّ هذا الذي تحت يده هو لي وملكي وأنّه سرقه منّي.

ولعلّ من يعرف المدّعي بأنّه عبارة عمّن يدّعي أمرا خفيا ، والمنكر من يقابله - أي : ينكر ثبوت مثل هذا الأمر الخفيّ - مراده من هذا التعريف هو هذا الوجه الثالث : لأنّ الأمر الخفيّ هو ما لا يكون ظاهرا.

ثمَّ إنّ المراد من هذه الكلمة - أي : كلمة الظاهر في قوله : إنّ المدّعي هو من يخالف قوله الظاهر - هل هو الظهور الشخصي أو الظهور النوعي؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّ مرادهم من الظاهر إن كان هي الحجّة المعتبرة ، فالمراد لا محالة يكون هو الظهور النوعي لا الشخصي ، وذلك لأنّ الحجج والأمارات بل مطلق الأدلّة - وإن كانت من الأصول حجّيتها باعتبار ظهورها النوعية ، وليست دائرة مدار الظنّ الشخصي.

وأمّا إن كان المراد منه هو الظهور العرفي - وإن لم يكن حجّة - فقابل لكلا الأمرين ، أي الظهور النوعي والشخصي ، ولكن الظاهر أنّ مرادهم في هذا التعريف هو الظهور العرفي الشخصي.

وعلى كلّ حال هذا التعريف لا يخلو عن الخلل ، لأنّ من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة - كما إذا ادّعى على ذي اليد بما في يده - يكون مدّعيا ولو لم يكن قوله

ص: 77

مخالفا للظاهر.

اللّهمّ إلاّ أنّ يقال : إنّ المراد من الظاهر في التعريف هي الحجّة الفعليّة ، فيرجع إلى الوجه الأوّل من وجوه تعريفه.

الوجه الرابع : هو أنّ المدّعي من يريد إثبات أمر على خصمه ، سواء أكان ذلك الأمر اشتغال ذمّة طرفه وخصمه له ، أو تقريغ ذمّة نفسه عمّا اشتغلت به لخصمه.

فالأوّل كما إذا ادّعى عليه أنّه مديون بكذا ، والثاني كما إذا ادّعي أداء ما كان عليه من دين له؟

وأنت خبير بأنّ هذا التعريف أيضا يرجع إلى بعض المذكورات.

الوجه الخامس : أنّ المرجع في فهم هذه اللفظة هو العرف فهو يعيّن ويشخّص ما هو المراد منها.

وفيه : أنّ هذا الكلام صحيح ولا مناص منه ، لأنّ المرجع في باب مفاهيم الألفاظ هو العرف ، إذ لم يخترع الشارع طريقا خاصا في باب إلقاء الأحكام إلى المكلّفين ، بل طريق الإفادة عنده ما هو الطريق عند العرف في محاوراتهم في مقام الإفادة والاستفادة ، فإذا قال علیه السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (1) فلا بدّ في فهم ألفاظ هذا الحديث من المراجعة إلى العرف ، لأنّ الخطابات الشرعيّة في محاوراته على طريقة العرف ، وعلى طبق محاوراتهم.

ولكن جميع التعاريف السابقة والوجوه المذكورة كانت بنظر من ذكرها وعرف المدّعي بها ما هو المتفاهم العرفي من هذه اللفظة ، لا أنّها من جهة اصطلاح جديد من قبل الشارع وأنّه صلی اللّه علیه و آله استعمل هذه اللفظة بذلك الاصطلاح.

الوجه السادس : أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين : إمّا الأصل ، أو

ص: 78


1- تقدم ذكره في ص 71 ، رقم (1).

الظاهر ، وقد عرفت الحال وكذلك المراد من كليهما.

هذه هي جملة الوجوه التي ذكروها في بيان معنى المدّعي والمراد منه.

ولكن الظاهر من لفظة « المدّعي » في مقام الخصومة وفي مقابل المنكر حسب المتفاهم العرفي - الذي هو المناط في باب تعيين مراد المتكلم - هو أن يكون ما يدّعيه ممّا ليس عليه حجّة فعليّة ، إذ لو كان على ما يدّعيه على خصمه من عين أو دين أو حقّ حجّة فعلية ، فيعمل على طبق تلك الحجّة.

وبعبارة أخرى : المدّعي يريد في مقام المخاصمة أن يثبت ما يدّعيه ، ولذلك يطالب بالبيّنة.

وأمّا إذا كان ثابتا لكونه على طبق الحجّة الفعليّة ، فلا معنى لأن يكون في مقام إثبات ما يدّعيه ، لأنّه يكون من قبيل تحصيل الحاصل ، وأيضا لا معنى لأن يطالب بالبيّنة ، فالذي تحت يده مال ويتصرّف فيه كيف ما يشاء ، فبعد الاعتراف بأنّ اليد أمارة الملكيّة ، فمالكيّة ذي اليد لذلك المال الذي تحت يده ثابتة لا تحتاج إلى دليل الإثبات ، فلا معنى لإطلاق المدّعي عليه.

نعم لو ادّعي شخص آخر - الذي ليس له يد على هذا المال - أنّه له ، يطالب بالدليل على ما يدّعيه ، ولا بدّ له في إثبات ما يدّعيه أن يأتي بدليل حاكم على اليد ، وهي البيّنة على ما قرّره الشارع ، وإلاّ لو لم يكن أقوى من اليد بالحكومة أو التخصيص يتعارضان ويتساقطان.

وخلاصة الكلام : أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بيان لوظيفة المتخاصمين ، وعبّر عن أحد المتخاصمين بالمدّعي وعن الآخر بالمنكر ، فجعل البيّنة وظيفة المدّعي واليمين وظيفة المنكر.

وحيث أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يخترع طريقا خاصّا في محاوراته لتبليغ الأحكام ، بل كان صلی اللّه علیه و آله يتكلّم بما هو طريقة العرف ، فلا بدّ في فهم مراده صلی اللّه علیه و آله من الرجوع إلى ما يفهمه العرف

ص: 79

من كلامه صلی اللّه علیه و آله ، إلاّ أن يثبت نقل من المعنى العرفي إلى معنى آخر عند الشارع كي يكون حقيقة شرعيّة ، أو استعمله في ذلك المعنى الآخر مجازا ، وذلك يحتاج إثباته إلى دليل ، وإلاّ فبحسب الطبع الأولى لا بدّ في فهم مراده صلی اللّه علیه و آله من مراجعة العرف.

وقد عرفت أنّ لفظة « المدّعي » حسب المتفاهم العرفي ، هو من يحتاج في إثبات ما يدّعيه إلى مثبت خارجي ، ولا يكون ثابتا في نفسه ، فبناء على هذا يكون الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها لمعنى المدّعي - أي : من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة - هو الصحيح في معناه.

ثمَّ إنّ تقييد الحجّة بالفعليّة من جهة أنّها لو لم تكن فعليّة ، بل كانت محكومة بحجّة الخصم وكانت حجّة الخصم هي الفعليّة ، فموافقة قوله لمثل هذه الحجّة المحكومة لا يخرجه عن كونه مدّعيا. مثلا لو ادّعى فساد المعاملة الواقعة بينهما ، فقوله وإن كان موافقا مع أصالة عدم النقل والانتقال - الذي قيل بأنّه الأصل في باب المعاملات - إلاّ حيث أنّها محكومة بأصالة الصحّة يكون مدّعيا ، لمخالفة قوله للحجّة الفعليّة التي هي أصالة الصحّة ، فيما إذا كان المورد ممّا يجري فيه هذا الأصل.

وبعد ما عرفت من هو المدّعي ، فالمنكر هو مقابل المدّعي ، بمعنى أنّ هذين المفهومين متقابلان ، لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في مخاصمة واحدة من جهة واحدة في زمان واحد ، وذلك من جهة أنّ مفاد قول المدّعي بثبوت أمر - من دين أو عين أو حقّ - على خصمه ، ومفاد قول المنكر نفي ذلك الأمر ، فهما متقابلان نفيا وإثباتا ، فبأيّ معنى من المعاني المذكورة فسّرت المدّعي ، يكون معنى المنكر عدم ذلك المعنى.

مثلا بناء على ما اخترنا من أنّ المدّعي من كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فالمنكر عبارة عمّن لا يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر المعاني المذكورة.

ص: 80

فإذا قلنا بأنّ المدّعي هو من لو ترك ترك ، فالمنكر هو الذي لو ترك لم يترك.

وكذلك إن قلنا بأنّه عبارة عمّن يكون قوله خلاف الظاهر ، فالمنكر من يكون قوله موافقا للظاهر.

وإن قلنا : إنّ المدّعي هو من يكون مفاد قوله إثبات أمر على خصمه ، فالمنكر هو الذي مفاد قوله نفي ذلك الأمر.

وإن قلنا إنّ المرجع في تعيين المراد من المدّعي والمنكر هو العرف ، فالعرف يرى المنكر من ينفي ما يدّعيه المدّعي.

وإن قلنا : إنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين ، أي الظاهر أو الأصل ، فالمنكر من لا يخالف قوله أحدهما.

وإذا ظهر لك معنى المدّعي والمنكر والبيّنة واليمين ، فلا يبقى إجمال في المراد من هذه القاعدة وفي مضمون الحديث الشريف.

نعم ينبغي التكلم عن أمور

الأوّل : فيما إذا شكّ في تشخيص المدّعي عن المنكر لأجل عدم إحراز كون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة أو موافقا لها - سواء أكان منشأ الشكّ هو الشكّ في حجّية ما هو مخالف له يقينا ، أو كان الشكّ في مخالفته له مع حجّيته يقينا - فهل يمكن التمسك لإثبات ما يدّعيه بالبيّنة أم لا؟

فيه إشكال لا من جهة الشكّ في عموم حجّية البيّنة - وذلك لما أثبتنا عموم حجّيتها في جميع الموضوعات - بل من جهة أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) خصّص ميزانيّة البيّنة في مقام القضاء بالمدّعي ، فإذا شكّ في كونه

ص: 81


1- تقدم ذكره في ص 71.

مدّعيا يشكّ في تأثير البيّنة في حقّه ، فلا يصحّ ولا يجوز الحكم له مستندا إلى قيام البيّنة على ما يدّعيه ، لعدم إحراز ميزانيتها للحكم لمثل هذا الشخص.

نعم لو طلب منه الخصم أن يحلف فحلف ، وجب الحكم له مع طلبه من الحاكم ، للعلم إجمالا بوجود الميزان ، إمّا البيّنة لو كان هو المدّعي واقعا ، وإمّا الحلف لو كان هو المنكر بحسب الواقع ، والواقع لا يخلو منهما ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

نعم لو انفرد كلّ واحد منهما بأحد الأمرين - أي البيّنة والحلف - فلا يجوز الحكم له ، لعدم إحراز وجود الميزان في حقّه ، كما أنّه لو اجتمع الاثنان - أي الحلف والبيّنة - لأيّ واحد من المتخاصمين في المفروض جاز أو وجب الحكم له ، للعلم الإجمالي المذكور بوجود الميزان في حقّه.

ولكن أنت خبير بأنّ الشكّ في كونه مدّعيا إذا كان منشأه الشبهة الحكميّة - أي الشكّ في حجّية ما هو قوله مخالف له يقينا - فبأصالة عدم حجّية ذلك المشكوك الحجّية يثبت عدم حجّيته ، فيثبت عدم كونه مدّعيا ، فلا يكون وظيفته البيّنة قطعا.

وأمّا إذا كان منشأه الشبهة المصداقيّة - أي كانت حجّيته معلومة ، ولكن الشكّ في مخالفة قوله لذلك المعلوم الحجّية - فحيث أنّ أصالة عدم المخالفة لا تجري ، لأنّ عدم المخالفة عدم نعتي ليس له حالة سابقة بناء على ما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » (1) فلا يمكن إحراز أنّه ليس بمدّع وإن قلنا بأنّ المدّعي موضوع مركّب من قول يكون مفاده إثبات أمر على طرفه ، ومن مخالفة ذلك القول للحجّة الفعليّة ، فيكون الأمر في هذه الصورة كما ذكرنا من عدم جواز الحكم بالبيّنة فقط ، أو الحلف وحده.

وأمّا توهّم أنّ عموم « فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه » (2) بضميمة عموم حجّية البيّنة بالنسبة إلى كلّ

ص: 82


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 497.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ح 514. باب من إليه الحكم وأقسام القضاة ، ح 6 ، وص 301 ، ح 845 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 52 ، « الاحتجاج » ص 355 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 98 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 1.

موضوع - يشمل المقام - لأنّه بعد قيام البيّنة يكون ما حكم على طبق البيّنة حكمهم علیهم السلام بحسب الظاهر.

ففيه : أنّه بعد الفراغ عن أنّ مطلق الحجّة ليس ميزانا للقضاء ، بل الميزان في باب القضاء هي البيّنة والأيمان ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1) وقطعه صلی اللّه علیه و آله الشركة بالتفصيل بقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (2) فالحكم على طبق البيّنة يكون حكمهم علیهم السلام إن كان قيامها على ما يدّعيه المدّعي.

وكذلك الحكم على طبق الحلف إن كان صدر الحلف من المنكر ، فلا بدّ من إحراز المدّعي والمنكر ، وإلاّ يكون من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لم يقل به أحد ولا ينبغي أن يقال به.

الثاني : أنّه يعتبر في سماع الدعوى عن المدّعي أمور.

وقبل بيان هذه الأمور يجب أن نبيّن أنّ حقيقة الدعوى والمخاصمة لا يتحقّق إلاّ بأن تكون على نحو يوجب إلزام الخصم - على تقدير ثبوت ما يدّعيه في الواقع أو بالحجّة - بالخروج عن عهدة ما ثبت عليه ، سواء أكان ذلك الأمر الثابت عليه عينا أو دينا أو حقّا.

وبعبارة أخرى : تكون الدعوى ملزمة على الخصم أمرا حتّى يستحقّ المطالبة عنه ، ولذلك قالوا : لو ادّعي أنّه وهبني الشي ء الفلاني مع اعترافه بعدم قبضه ، فمثل هذه الدعوى لا تسمع ، لأنّها ليست بملزمة على الخصم شيئا ، لأنّ إنكاره يعدّ رجوعا وإن كان المدّعي صادقا في دعواه.

ص: 83


1- تقدّم ذكره في ص 72 ، رقم (4).
2- تقدّم ذكره في ص 71 ، رقم (1).

وكذلك الأمر في كلّ ما يشترط صحّته بالقبض والإقباض ، كبيع الصرف والسلم ، ففي جميع هذه الموارد وما يشبهها لا تسمع الدعوى ، لأنّه على تقدير ثبوت ما يدّعيه واقعا ، أو في مقام الظاهر بحسب الدليل والحجة ، لا يكون من قبل دعواه إلزام على الخصم ، ولا يستحقّ مطالبة شي ء عنه ، فيكون سماع مثل هذه الدعوى ومطالبة البيّنة عن المدّعي لغوا وبلا فائدة.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ جملة من هذه الأمور التي سنذكر اعتبارها في سماع الدعوى مبنيّ على هذا الأساس.

فمنها : كونه واجدا لشرائط التكليف ، مثل البلوغ والعقل ، وقد ادّعى بعضهم عليه الإجماع ، ونفى الخلاف بعض آخر ، فلا تسمع دعوى المجنون ولا الصبيّ وإن كان مراهقا مميّزا وبلغ من العقل والعلم ما بلغ ، لوجوه :

الأوّل : الأدلّة الدالّة على عدم اعتبار كلامه وأنّه مسلوب العبارة ، وللأدلّة الدالّة على رفع القلم عنه وعدم جواز أمره.

وفيه : أنّ المراد من تلك الأدلّة عدم الاعتبار بكلامه ، وعدم جواز أمره في المعاملات مستقلاّ ، وعدم نفوذ تصرّفاته في أمواله فيما إذا لم تكن بإذن الولي ، لما ورد من قبول قوله وترتيب الأثر في بعض المقامات والموارد ، كباب الوصيّة إذا بلغ عشرا ، ولما اخترناه من شرعيّة عباداته.

وأمّا أدلّة رفع القلم ، قلنا في محلّه إنّ المراد قلم الإلزام ، أي الوجوب والحرمة ، وهذا من جهة الإرفاق به.

وأمّا ادّعاء الإجماع ، فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى ، فلذهاب جماعة إلى سماع دعوى الصبيّ المميّز المراهق في غير الماليّات ، كما إذا ادّعى جناية عليه ، أو أخذ شي ء منه قهرا وبالقوّة وله شهود على ذلك.

ص: 84

وأمّا الكبرى ، فلأنّ المظنون - بل المقطوع - أنّ مدرك المتّفقين على فرض وجود الاتّفاق وتحقّقه هو ما ذكرنا من أدلّة رفع القلم وعدم جواز أمره وغير ذلك ممّا تقدّم ، فليس من الإجماع المصطلح.

الثاني : أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى - من وجوب السماع وقبول البيّنة والإقرار وسقوطها ، أي الدعوى بحلف المنكر وغير ذلك - على دعواه.

وفيه : أنّ عموم « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » واف بلزوم ترتيب تلك الآثار.

الثالث : عدم سلطنة الصبي على المطالبة بذلك الشي ء الذي يدّعي ثبوته على الطرف ، فلا يمكن أن يكون له السلطنة على إلزام الطرف بأمر الذي من شؤونه السلطنة على مطالبته بذلك الأمر ، وإلاّ يلزم انفكاك اللازم عن الملزوم.

بيانه : أنّ حقيقة الدعوى المسموعة هي أن يكون المدّعي له السلطنة على إلزام خصمه بثبوت أمر ، من عين أو مال أو حقّ عليه ، وإن كان بتوسّط إقامة البيّنة على ذلك الأمر ، ولازم هذه السلطنة هو أن يكون له السلطنة على مطالبة ذلك الأمر ، فإذا جاء الدليل على نفي الأخيرة عن الصبي لصغره وعدم بلوغه إلى مرتبة الكمال ، فلازم نفي اللازم نفي الملزوم بالدلالة الالتزامية. هذا ما أفاده أستاذنا المحقق قدس سره في هذا المقام.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين سلطنته على إلزام الخصم وإثبات أمر عليه ، وسلطنة نفسه على مطالبة ذلك الأمر ، بل تكون سلطنة المطالبة بذلك الأمر لوليّه ، وذلك كما أنّه لو اشترى الولي شيئا يصير ملكا له ، ومن شؤون الملكيّة سلطنة المالك على ملكه بأنّ له أنحاء التصرّفات المشروعة ، ولكن بالنسبة إلى الصبي ليس له هذه التصرّفات مباشرة ، بل تكون هذه السلطنة لوليّه.

فالإنصاف أنّه لو لم يكن إجماع الكلّ واتّفاقهم في البين ، لكان مقتضى القواعد الأوّلية سماع قوله ، خصوصا في غير الماليات ، كادّعائه جناية عليه إذا كان مراهقا ً

ص: 85

ذكيّا فطنا عاقلا عالما. وأمّا حديث انصراف الأدلّة - مثل قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » - عن الصبيّ وإن كان مراهقا ، فدعوى بلا بيّنة ولا برهان.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه على خصمه لنفسه ، أو لموكله ، أو لمن له الولاية عليه بأحد أنحاء الولايات. وأمّا لو لم يكن لما يدّعيه تعلّق به أصلا وكان أجنبيّا عنه ، فلا يصدق عليه المدّعي في مقابل المنكر وفي مقام المخاصمة ، وإن كان يطلق عليه المدّعي بالمعنى الأعمّ ، لأنّه بذلك المعنى الأعمّ يصدق على كلّ من ادّعى أمرا حتّى على المنكر ، لأنّه أيضا يدّعي عدم ثبوت حقّ عليه من جانب المدّعي ، وذلك من جهة أنّ المدّعي في مقام المخاصمة يطالب الطرف بأمر يدّعي ثبوته عليه ، فلا يصدق بهذا المعنى على من هو أجنبيّ عن ذلك الأمر ، وليس له أن يطالب الطرف به ، وإن كان بعد ثبوته بالبيّنة.

نعم لا بأس بأن يقال بسماع دعوى من له حقّ التصدّي في الحسبيات ، إذا كان ذلك الحقّ الذي يدّعيه راجعا إلى من له حقّ التصدّي في أموره وشؤونه ، وذلك كأموال الغيّب والقصر أو حقوقهم.

فإذا كان لأحد هؤلاء عين أو دين أو حقّ على شخص آخر ، فيكون لمن يجوز له التصدّي في أمورهم أن يدّعي على ذلك الشخص ، ويثبت عليه ذلك الأمر بالبيّنة ، ثمَّ يطالبه بما ثبت عليه حسبة. وأمّا من هو أجنبيّ محض عما يدّعيه ، فليس له أن يدّعي ، وإن ادّعى تكون دعواه لغوا لا يترتّب على قوله أثر من الآثار ، من وجوب إحضار المدّعي عليه ، ووجوب الحلف ، أو الردّ إن لم يكن للمدّعي بيّنة وطلب الحلف من خصمه.

نعم لو أقام بيّنة في المفروض يجب ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه البيّنة ، ولكن من جهة عموم حجّية البيّنة لا من جهة فصل الخصومة.

ص: 86

و منها : أن يكون ما يدّعيه ممّا يصحّ تملّكه شرعا ، فلا تسمع دعوى من يدّعي على خصمه كذا مقدار من الخمر ، أو عدد كذا من الخنزير ، ولو كانت الدعوى على كافر ، ولكن هذا فيما إذا كان محطّ الدعوى هي ملكيّة أحدهما ، وأمّا لو كان محطّ الدعوى هو حقّ الاختصاص للانتفاعات المحلّلة المباحة - مثلا الخمر الذي في يد كافر أو مسلم يدّعي أنّ له حقّ الاختصاص به لأن يخلّله أو ينتفع به منفعة محلّلة أخرى - فلا وجه لعدم سماع مثل هذه الدعوى.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة ، وجائزا شرعا. فلو ادّعى أنّه سرق هذا منّي قبل أربعين سنة الشي ء الفلاني ، وعمره أقلّ من عشرين سنة مثلا ، أو ادّعى أنّه مديون لي بمبلغ فلان واستقرض منّي ، والمبلغ كثير والمدّعي فقير بحيث أنّه غير ممكن عادة إقراض هذا المبلغ الكثير ، أو يدّعي عليه مبلغا من باب الربا أو القمار ممّا لا يجوز شرعا ولا يمكن أن يكون مديونا شرعا من تلك الجهة ، ففي جميع هذه الموارد وما يماثلها لا تسمع الدعوى ، لأنّ حقيقة الدعوى عبارة عن ادّعاء ثبوت أمر - من مال أو حقّ - على من هو خصمه ، وفي هذه الموارد يكون مثل هذه الدعوى باطلا ، لعدم إمكان ثبوته إمّا عقلا أو عادة أو شرعا.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه معلوما بالنوع والوصف والقدر ، وأمّا لو كان مجهولا من هذه الجهة فلا فائدة ولا ثمرة لمثل هده الدعوى.

فلو ادّعي أنّ لي عليه مالا أو ثوبا أو فرسا فلا تسمع ، وعلّلوا عدم سماع الدعوى بأنّه لو اعترف المدّعي عليه لا يثبت عليه شيئا ، لأنّ المجهول لا يثبت بما هو مجهول ، لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار.

وفيه : أنّه لو اعترف المدّعي عليه بذلك المجهول ، أو أقام البيّنة عليه يلزم بالتفسير والتعيين نوعا ووصفا وقدرا ، كما أنّه لو أقرّ ابتداء من دون سبق دعوى بالتفسير ، فإن قبل المقرّ له فهو ، وإلاّ يحلف المقرّ على نفي الزائد ، فليكن الأمر فيما نحن فيه أيضا

ص: 87

كذلك ، فإن أقرّ المدّعي عليه به يكون الأمر كما ذكرنا ، وإلاّ فيلزم المدّعي بالتفسير ، فإن فسّر يعمل معه ومع المدّعي عليه بقانون القضاء ، ويطبق عليه ضوابط وموازين باب المدّعي والمنكر ، وإن لم يفسّر فإن أنكر المدّعي عليه يحلف إن لم يقم البيّنة على ذلك المجهول وطلب الحلف منه ، وإن أقرّ يلزم بالتفسير ويكون الأمر كما تقدّم في الإقرار الابتدائي.

وعلى كلّ حال لا وجه لعدم سماع هذه الدعوى مع بنائهم على نفوذ الإقرار بالمجهول والوصيّة به.

نعم لو ادّعي ما يكون مجهولا مطلقا ، مردّدا بين ما له قيمة وما ليس له قيمة - كما إذا قال : لي عليه شي ء - يمكن أن يقال بعدم سماع هذه الدعوى.

والفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى لو أقرّ المدّعي بما ادّعاه يثبت عليه شي ء ، وهو القدر المتيقّن ممّا ادعاه ، وفي الصورة الثانية ليس قدر متيقّن ماليّ في البين ، لأنّه من الممكن بل المحتمل أن لا يكون ذلك المردد مالا ، فلا يثبت عليه شي ء ولو أقرّ به أو أقيمت البيّنة عليه.

هذا ، مع أنّه يلزم في باب الدعوى أن يكون ملزما على المدّعى عليه شيئا لو أقرّ به ، أو أقيمت البيّنة على ما يدّعيه.

ومنها : ما قيل بأنّ من شرائط قبول دعوى المدّعي أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدّعي عينا أو مالا أو حقّا على المدّعى عليه ، فلا تسمع دعواه إن قال : إنّ هذا التمر من نخلي ، أو هذا العجل من بقرتي ، أو هذا الغزل من صوفي وأمثال ذلك ؛ لأنّه لا منافاة بين كون المذكورات كما قال وعدم كونها له ، إذ من الممكن انتقالها إليه بناقل شرعي ، فأمثال هذه الدعاوي لا تدلّ على استحقاق المدّعي شيئا ، حتّى ولو أقرّ المدعى عليه بما ادّعاه المدّعي ، أو أقام المدّعي بيّنة على ما ادّعاه.

وأمّا حديث تبعيّة الفرع للأصل في الملكيّة - بمعنى أنّه لو أقرّ بأنّ هذا العجل من

ص: 88

بقرة فلان ، أو هذا التمر من نخلة فلان ، فلازم هذا الإقرار إقراره بأنّ العجل لصاحب البقرة ، والتمر لصاحب النخلة - فلا أساس له في مقابل اليد التي هي أمارة الملكيّة.

وأمّا الفرق بين أن يقرّ بأنّ هذا الغزل من قطنك أو هذا الدقيق من حنطتك ، وبين أن يقرّ بأنّ هذا العجل من بقرتك أو هذا الغلام من أمتك بأنّه في الصورة الأولى إقرار بأنّ هذا الغزل لصاحب القطن وأنّ هذا الدقيق لصاحب الحنطة ، بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه ليس إقرارا بأنّ العجل لصاحب البقرة والغلام لصاحب الأمة ، وذلك لأنّ الدقيق والغزل عين الحنطة والقطن ، بخلاف العجل فإنّه ليس عين البقرة وكذلك الغلام ليس عين الأمة.

فلا يخلو من تأمّل وإشكال ، وذلك لأنّه وإن كان الدقيق عين الحنطة ، والغزل عين القطن خارجا ، بخلاف العجل والغلام إلاّ أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثّر في المقام ، إذ المقرّ مأخوذ بظاهر كلامه ، وصرف الاحتمال على خلاف ما هو ظاهر الكلام لا يضرّ بحجّية ظهوره في كونه كاشفا عن مراده ، فلا بدّ وأن ينظر إلى ظاهر هذه الدعاوي ، وهل لها ظهور في استحقاق المدّعي شيئا على المدّعى عليه أم لا؟

فنقول : أمّا الصورة الثانية ، أي ما كان لهما وجودان وملكيّة أحدهما لا يلازم ملكيّة الآخر ، بل يمكن أن يكون الأصل له دون الفرع ، وكذلك العكس ، فقوله هذا الغلام متولّد من جاريتي ، أو هذا العجل من بقرتي ، ظاهر في أنّ الأصل له في حال إنشاء الدعوى ، ولا ظهور لهذا الكلام أنّ الفرع أيضا له ، إلاّ أن ينضم إلى قوله : ولم ينتقل الفرع إلى غيري بناقل شرعي مطلقا وهو لي.

ومنها : ما قيل : إنّ من شرائط سماع دعوى المدّعي أن يكون له خصم في مقابله ، ينازعه ويخاصمه وينكر ما يدّعيه ، وإلاّ لو لم يكن له خصم في البين ويريد إصدار الحكم فعلا ليقطع النزاع المحتمل فيما سيأتي - لأنّه لو وقع النزاع فيما بعد ربما لا يتمكّن من إثبات دعواه في ذلك الزمان ، لفقد البيّنة الموجودة عنده الآن في ذلك الوقت ، أو

ص: 89

لجهة أخرى - فلا تسمع.

وأمّا تمسّك القائل بهذا الشرط ولزوم وجود الخصم حين سماع الدعوى بأنّ أدلّة القضاء والحكم وكذلك تعيين الوظيفة لكل واحد من المدّعي والمنكر ، كلّ ذلك في مورد المخاصمة ووقوع النزاع ، ولقطع النزاع والمخاصمة بين الطرفين ، فإن لم يكن نزاع ومخاصمة لا يبقى مورد لسماع دعوى المدّعي والحكم له على طبق بيّنته ، لأنّ هذه الأمور شرعت لدفع المخاصمة وقطع النزاع.

وفيه : أنّه بعد الفراغ عن عموم حجّية البيّنة وجعل المجتهد العادل المتّصف بكذا وكذا حاكما ، وعدم تقييد حكومته بمورد المخاصمة وقطع النزاع وإن كان ذلك حكمة جعله ، فالبيّنة أمارة شرعيّة بالنسبة إلى ما يدّعيه المدّعي ، وكذلك الحكم. فيثبت ما حكم به الحاكم حتّى في الأزمنة المتأخّرة.

نعم لا يجب على الحاكم سماع مثل تلك الدعوى ، والحكم بتلك البيّنة ، لأنّ وجوبها في موارد المخاصمة كما قال.

ومنها : أنّه يشترط في وجوب سماع دعوى المدّعي كون دعواه عن بت وجزم ، فلو كان ادّعاءه بصرف الاحتمال وهما أو شكا بل ولو ظنا لا يقبل ، وحكى في الجواهر عن الكفاية نسبة القول - باشتراط وجوب سماع الدعوى بهذا الشرط - إلى الشهرة (1) ،

وقيل في وجهه وجوه :

الأوّل : عدم صدق المدّعي عرفا على من لم تكن دعواه عن بتّ وجزم ، وذلك لما ذكرنا في تعريف المدّعي بأنّه من يدّعي ثبوت أمر على خصمه ، ومعلوم أنّ ادّعاء الثبوت غير احتمال الثبوت وإن كان الاحتمال ظنيّا.

الثاني : أنّه لو ادّعى وهما أو شكّا أو ظنّا ، وقلنا بوجوب السماع ، فيجب الحكم

ص: 90


1- « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 153 ، « كفاية الأحكام » ص 266.

بنكول المنكر عليه أو مع يمين المدّعي ، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك. أمّا بناء على وجوب الحكم على المنكر بصرف نكوله وعدم حلفه ، فمن جهة أنّ المدّعي يشكّ في استحقاقه على الفرض ، فلا يجوز له الأخذ بعد الحكم ، فيكون الحكم لغوا ، فيكون السماع لا فائدة فيه بل لا معنى له.

وأمّا بناء على أنّ الحكم بثبوت الحقّ على المنكر بعد عدم البيّنة ونكوله عن الحلف متوقّف على يمين المدّعي ، ففيه مضافا إلى عدم جواز الأخذ عدم جواز حلفه ، لأنه لا حلف إلاّ عن بتّ ، ففي كلا الشقّين يكون الحكم لغوا.

الثالث : أنّه في الدعاوي الصحيحة المنكر ، له الخيار بين أن يحلف أو يردّ إلى المدّعي ، وفي المقام لا يمكن الردّ ، لعدم علم المدّعي بثبوت الحقّ ، فلا يجوز له أن يحلف فلا وجه للردّ. والعمدة فيما ذهب إليه المشهور - من اشتراط سماع الدعوى إلى كونها عن بتّ وجزم - هو الوجه الأوّل ، أي عدم كونه مدّعيا عرفا إلاّ مع الجزم في دعواه ، وإلاّ فبصرف أن يقول : احتمل أن يكون فلان مديون لي بكذا - أو احتمل أن يكون عين مالي الفلاني عنده - لا يصدق عند العرف أنّه مدّع وطرفه منكرا ، ويكون مدّعى عليه.

وأمّا الوجه الثاني والثالث فضعفهما واضح ، إذ عدم إمكان ترتّب بعض آثار الدعاوي الصحيحة على الدعوى غير الجزمي لا يوجب عدم سماعها ، وعدم ترتيب الآثار الممكنة.

وأمّا التفاصيل المنقولة في هذه المسألة عن جماعة من الأساطين قدس سرّهم من وجوب السماع في مورد التهمة دون غيره ، أو في صورة الظنّ دون الوهم والشكّ ، أو السماع فيما يعسر الاطّلاع عليه دون غيره ، أو السماع في صورة احتمال صدور الإقرار من الطرف ، أو وجود البيّنة للمدّعي دون غيرها ، فكلّها ممّا لا وجه لها ، وما ذكروها في وجه هذه التفاصيل لا يمكن الركون إليها.

ص: 91

نعم ذكر صاحب الجواهر قدس سره (1) في وجه التفصيل بين مورد التهمة وبين غيره - أي فيما إذا اتّهم المدّعي المنكر - أخبارا مؤيّدا لما ذهب إليه من الإحالة إلى العرف في وجوب السماع ، بمعنى أنّ العرف هل يرون مثل هذه الدعوى من الدعاوي المقبولة عندهم ، أم لا يعتنون بها؟

وهذه الأخبار هي خبر بكر بن حبيب ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه ، قال علیه السلام : « إن اتّهمته فاستحلفه ، وإن لم تتّهمه فليس عليه شي ء » (2).

وأيضا خبره الآخر عنه علیه السلام : « لا يضمن القصّار إلاّ ما جنت يده وإن اتّهمته أحلفته » (3).

وخبر أبي بصير عنه علیه السلام أيضا : « لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين ، فيخوف بالبيّنة ويستحلف ، لعلّه يستخرج منه شيئا » (4).

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأخبار مفادها استحلاف المدّعي ، لا المنكر الذي هو محلّ كلامنا. وإن شئت قلت : يد القصار والحائك والصائغ يد أمانة ، والتلف عندهم لا يوجب الضمان إلاّ إذا اتّهمهم بالإتلاف أو بالتعدّي والتفريط في حفظه فله أن يستحلفهم ، وهذا المعنى أجنبي عن محلّ كلامنا الذي هو عبارة عن إحلاف المنكر مع

ص: 92


1- « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 154.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 221 ، ح 966 ، باب الإجارات ، ح 48 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 275 ، أبواب كتاب الإجارة ، باب 29 ، ح 16.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 221 ، ح 967 ، باب الإجارات ، ح 49 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 133 ، ح 481 ، باب الصانع يعطى شيئا ليصلحه. ، ح 12. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 275 ، أبواب كتاب الإجارة ، باب 29 ، ح 17.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 218 ، ح 951 ، أبواب كتاب الإجارات ، ح 33 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 257 ، ح 3928 ، باب ضمان من حمل شيئا. ، « وسائل الشيعة » ج 13. ص 274 ، أبواب كتاب الإجارات ، باب 29 ، ح 11.

كون الدعوى غير جزميّة وعدم البيّنة لذلك المدّعي.

وأمّا ما اختاره صاحب الجواهر قدس سره خلافا للمشهور في هذه المسألة من إحالته إلى العرف وأنّهم إذا رأوها من الدعاوي المقبولة تقبل ويجب سماعها.

ففيه : أنّه بعد ما حكم الشارع بأنّ البيّنة وظيفة المدّعي ، والحلف وظيفة المنكر ، ففي تشخيص المدّعي والمنكر المرجع هو العرف.

وبعد ما عرفنا أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يخبر جزما بثبوت أمر له على خصمه وطرفه ، فإن لم يكن إخباره عن بتّ وجزم ، بل قال : احتمل أن يكون لي علىّ فلان كذا ، فلا يكون مشمولا لقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ».ففي مثل هذه الصورة قول العرف - بأنّها من الدعاوي المقبولة - لا أثر له ، ولا يوجب وجود موضوع وظيفة البيّنة واليمين.

وأمّا ما أفاده أستاذنا المحقّق قدس سره في كتاب قضائه من سماع الدعوى الاحتمالي إذا قام أمارة على تهمة المدّعى عليه ، إذ العرف يسمعون مثلها ، وبناؤهم متّبع ما لم يردعهم الشارع ولم يثبت ذلك ، بل ثبت خلافه ، لخبري حبيب بن بكر ، وخبر أبي بصير الذين تقدّما.

ففيه : أنّ بناء العرف على سماع الدعوى غير الجزمي في مورد اتّهام المدّعى عليه ليس متّبعا شرعا إن لم ينطبق عليها موازين القضاء ، وقد عرفت عدم انطباقها عليها.

وأمّا إمضاء الشارع لبنائهم بتلك الأخبار ، فقد عرفت أنّها أجنبيّة عن مقامنا ، إذ أنّها تدلّ على استحلاف مدّعي التلف مع اتّهامه ، ولا ربط لها باتّهام المدّعى عليه الذي هو محلّ الكلام.

ومنها : تعيين المدّعى عليه ، فلو قال : أحد هذين ، أو أحد هؤلاء الأشخاص مديون لي بكذا ، لا تسمع ، لأنّه لا أثر لهذه الدعوى لو قامت البيّنة ، أو أقرّا بما ادّعى عليهما بنحو الترديد ، إذ ثبوت الحقّ عليهما بنحو الترديد لا يمنع عن البراءة في حقّ كلّ

ص: 93

واحد منهما ، لشكّ كلّ واحد منهما في اشتغال ذمّته.

ولا يقاس بما إذا علم أو أقام الدليل المعتبر على كونه مديونا لأحد شخصين أو لأحد الأشخاص ، لأنّه هناك يعلم باشتغال ذمّته ، فيجب عليه بحكم العقل تفريغ ذمّته بالجمع بين المحتملات ، ولكن حيث أنّه ضرر فإمّا أن يقرع أو يقسّم بينهما ثنائيا إن كانا اثنين ، وثلاثيا إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بقاعدة العدل والإنصاف التي هي قاعدة معتبرة عند العقلاء.

وأمّا فيما نحن فيه فليس إلاّ الشكّ في اشتغال الذمّة بالنسبة إلى كلّ واحد منهما ، ومعلوم أنّه مجرى البراءة.

وأمّا ما يقال من أنّ إجراءهما يكون ضررا على ذلك الشخص الذي يكون له الحقّ على أحدهما المردّد ، فلا بدّ من أن يقرع بينهما أو يقسّم ، كما قلنا فيما إذا يعلم باشتغال ذمّته لأحدهما.

ففيه : أنّه كلّ واحد منهما يجري البراءة مستقلاّ ، وليست براءته وتكليفه مربوطا بتكليف الآخر وبراءته ، ولا يلزم من إجراء برأيه كلّ واحد منهما العلم بضرر ذلك الشخص.

نعم يحتمل ذلك ، ولكن هذا المعنى - أي : احتمال ضرر الغير من إجراء البراءة في الماليّات والحقوق - موجود في جميع موارد الشبهة البدويّة ، ولم يحتمل أحد عدم جريان البراءة في الحقوق والماليّات في الشبهات البدويّة لأجل هذا الاحتمال.

والإنصاف أنّ هذه الدعوى مرجعها إلى دعويين احتماليتين ، كلّ واحدة منهما متّجهة إلى أحدهما ، وقد عرفت الحال في الدعوى غير الجزمي ، أي الاحتمالية.

ومنها : أنّه لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدّعى عليه ، بل تسمع وإن كان غائبا ، بأن يكون في خارج البلد ، أو كان مسافرا على المشهور وادّعى بعضهم عليه الإجماع ، وتدلّ عليه أخبار :

ص: 94

منها : مرسل جميل : « الغائب يقضى عليه إذا أقامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلاّ بكفلاء » (1).

ومثله خبر محمّد بن مسلم و *** زاد : « إذا لم يكن مليّا » (2)

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله لهند زوجة أبي سفيان بعد ما ادّعت أنّ أبا سفيان رجل شحيح وأنّه لا يعطيها ما يكفيها وولدها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (3).

ومنها : خبر أبي موسى الأشعري : كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا حضر عند خصمان فتواعد الموعد فوفى أحدهما ولم يف الآخر ، قضى للذي وفى على الذي لم يف ، اي : مع البيّنة (4).

ومقتضى الأصل الأولى وإن كان عدم نفوذ الحكم فيما شكّ في نفوذه ، سواء أكان منشأ الشكّ من ناحية المدّعي لفقد ما يحتمل اعتباره فيه وجودا أو عدما ، أو من ناحية المنكر لما ذكر ، أو من ناحية ما يدّعيه المدّعي.

ولكن مقتضى إطلاق قوله علیه السلام : « رجل قضى بالحقّ وهو يعلم » (5) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (6) هو نفوذ الحكم إذا صدق عليهما عرفا المدّعي والمنكر ، وكان الحكم حقّا ومما أنزل اللّه ، فالعمدة في نفوذ الحكم هو صدق

ص: 95


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 296 ، ح 827 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 34 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 216 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 26 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 191 ، ح 413 ، باب الديون وأحكامها ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 216 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 26 ، ح 1.
3- « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 549 ، كتاب الأقضية ، باب 4 ، ح 7 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 769 ، ح 2293 ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 403 ، ح 59.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 4 ، ح 3221 ، باب أصناف القضاة.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 407 ، باب أصناف القضاة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ، ح 53 ، باب من اليه الحكم وأقسام القضاة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 11 ، أبواب صفات القاضي ، باب 4 ، ح 6.
6- تقدّم تخريجه في ص 71.

المدّعي والمنكر على المتخاصمين عرفا ، وأن يكون الحاكم - أي المجتهد الجامع للشرائط - حكم بحكمهم علیهم السلام إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على اعتبار أمر آخر ، من حضور المدّعى عليه في مجلس الحكم وعدم غيابه ، أو السؤال عنه بعد إقامة المدّعي للبيّنة ، وأمثال ذلك.

وفيما نحن فيه - أي جواز الحكم على الغائب - لا دليل على اعتبار الحضور ، بل ظاهر الأخبار المتقدّمة صحّة الحكم ونفوذه على الغائب. ولا ينافي النفوذ قوله علیه السلام في ذيل مرسل جميل ، وخبر محمّد بن مسلم : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » (1) لأنّ المراد من النفوذ هو لزوم العمل على طبقه ما لم ينهدم بحجّة أخرى ، كما لو أقام بيّنة على أداء دينه أو على انتقاله إليه بناقل شرعي مثلا.

نعم يبقى الكلام في أنّ مفاد هذه الأخبار هل هو جواز الحكم على الغائب مطلقا بصرف غيابه عن مجلس الحكم ، ولو كان في البلد وكان متمكّنا عن الحضور ، امتنع أو لم يمتنع ، أو في خصوص ما إذا امتنع عن الحضور؟ أو في خصوص الغائب الذي لم يتمكّن من الحضور؟ أو في خصوص الغائب عن البلد ، سواء أكان مسافرا بالسفر الشرعي أو لم يكن كذلك؟ أو في خصوص ما إذا كان مسافرا شرعا ، سواء أكان متمكّنا من الحضور أو لم يكن؟ أو في خصوص ما إذا لم يتمكن؟ بمعنى أنّه يكون مسافرا ولا يكون متمكّنا من الحضور ، وفي جميع هذه الشقوق هل جواز الحكم فيما قلنا بجوازه مقيّد بإعلامه وامتناعه عن الحضور أو مطلقا؟ احتمالات بل أقوال.

القدر المتيقّن من جواز الحكم عليه ونفوذه ، هو عدم حضوره بعد إعلامه وتمكّنه من الحضور مع كونه في البلد ، أو كان مسافرا وأعلم لكن كان غير متمكّن من الحضور. وظاهر خبر محمّد بن مسلم ومرسل جميل هو أن يكون الغائب الذي يقضى عليه مسافرا ، لقوله علیه السلام : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » لكنّهما مطلقان من

ص: 96


1- تقدّم تخريجه في ص 95 ، رقم ( 1 و 2 ).

جهات أخر ، أي من حيث التمكّن من الحضور وعدمه ، ومن حيث الإعلام وعدمه ، ومن حيث كونه مسافرا شرعيّا ، أو ولم يكن بالغا مسافرته إلى حدّ المسافة الشرعيّة.

وأمّا في قضيّة هند زوجة أبي سفيان ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « خذي ما يكفيك وولدك » فالظاهر أنه صلی اللّه علیه و آله كان في مقام بيان الحكم الشرعي ، وأنّه يجوز لها الأخذ بقدر كفايتها وكفاية ولدها ، لا في مقام الحكم بين المتخاصمين.

وأمّا خبر أبي موسى الأشعري ، فظاهرها الحكم على الممتنع المتخلّف عن موعده ، لا أن يكون غائبا عن البلد.

وخلاصة الكلام : أنّ مفاد هذه الأخبار جواز الحكم إمّا على المسافر الخارج عن البلد ، أو على الممتنع عن الحضور المتخلّف عن موعده.

وأمّا الاستدلال على جواز الحكم على الغائب بأنّه عدم الجواز مع قيام البيّنة ربما يوجب الضرر الكثير على المدّعي ، فهذا وأمثاله من الاستحسانيّات لا يمكن أن يكون مدركا ولا ملاكا للحكم الشرعي ، لأنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول ، فالعمدة هي الروايات وقد عرفت حالها ومفادها وأنّه يجوز الحكم على الغائب في موردين ، الممتنع المتمكّن ولو كان في البلد ، والمسافر مطلقا.

نعم يظهر من مرسل جميل وخبر محمّد بن مسلم أنّ المال الذي يؤخذ من الغائب لا يعطى للمدعي إلاّ بكفلاء إذا لم يكن مليّا ، وذلك من جهة أنّه من الممكن أنّه بعد قدومه يثبت بالبيّنة أو بأمارة أخرى عدم اشتغال ذمّته بشي ء ، فإذا لم يكن مليّا فربما يضيع ماله.

ثمَّ إنّه قد يستدلّ لعدم جواز الحكم على الغائب مطلقا برواية أبي البختري : « لا يقضي على غائب » (1).

ص: 97


1- « قرب الإسناد » ص 66 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 217 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 26 ، ح 4.

وفيه : أنّ هذه الرواية بإطلاقها معرض عنها عند الجميع ، مع أنّه من المحتمل جدّا أن يكون المراد من عدم القضاء للغائب ونفيها هو أن يكون القضاء بنحو البتّ ، بحيث لا يكون الغائب على حجّته.

مضافا إلى ما في سنده من الضعف ، لأنّ راويه أبو البختري وهب ابن وهب كان كذّابا ، بل قيل في حقّه إنّه من أكذب البريّة.

والمراد من أنّ الغائب على حجته هو أنّ له إذا قدم أو حضر الاعتراض على الحاكم بعدم كونه أهلا للحكم ، أو جرح شهود الحكم ، أو إقامة بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي ، وأمثال ذلك ممّا يوجب عدم تأثير الحكم الصادر حال غيابه.

ثمَّ أنّه هل جواز الحكم على الغائب مخصوص بحقوق الناس ، أو يجوز الحكم عليه في حقوق اللّه أيضا ، كإقامة البيّنة على أنّه شرب الخمر ، أو زنى أو لاط مثلا؟

ذهب المشهور إلى الاختصاص لقاعدة درء الحدود بالشبهات ، فمن الممكن أن يكون للغائب ما يدرأ عنه الحدّ.

نعم لو كانت الدعوى ذات جهتين - كالسرقة - فهل يجوز مطلقا ، أو لا كذلك ، أو التفصيل والتفكيك بين الجهتين؟ فالجواز بالنسبة إلى جهة حقّ الناس والعدم بالنسبة إلى حقّ اللّه احتمالات :

والحقّ هو الأخير ، أي التفكيك بين حقّ الناس وحقّ اللّه في عالم الإثبات ، ففي مثل السرقة لو شهدت البيّنة على أنّه سرق المال الفلاني مع كونه غائبا ، فجواز الحكم عليه بالنسبة إلى غرمه للمال ، وأمّا بالنسبة إلى القطع فلا. أمّا الجواز بالنسبة إلى الغرم فللأدلّة الدالّة على جواز الحكم على الغائب ، وأمّا العدم بالنسبة إلى القطع فلما قلنا من أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، وإنّ حقّ اللّه مبنيّ على التخفيف لغنائه تعالى عن استيفائه.

ص: 98

ولكن تردّد في هذا التفكيك في الشرائع (1) لأجل كون المحققين معلولين لعلّة واحدة ، وهي قيام البيّنة على السرقة ، فلا يمكن التفكيك بينهما.

وفيه : أنّ كونهما معلولين لعلّة واحدة ممنوع ، فإنّه من الممكن كون الغرم معلولا لقيام البيّنة على السرقة مطلقا ، سواء أكان المشهود عليه حاضرا أو كان غائبا ، وأمّا القطع فمعلول له بشرط حضور المشهود عليه ، فلا يلزم التفكيك بين معلولي علّة واحدة كما توهّم.

هذا مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ الملازمة بينهما في مقام الثبوت وإن كانت ثابتة ولا ينكر ، ولكن في مقام الإثبات لا مانع من التفكيك بينهما ، لأنّه ربما يكون دليل الإثبات وافيا لإثبات إحدى الجهتين دون الجهة الأخرى ، وله نظائر كثيرة في الفقه ، كما أنّه في نفس هذا المورد ، أي السرقة لو أقرّ مرّة يثبت الغرم دون القطع ، لأنّ إثبات السرقة من حيث موضوعيّتها للقطع لا يكون إلاّ بالبيّنة أو الإقرار مرّتين ، ولكن إثباتها من حيث الغرم يكفي فيه الإقرار مرّة واحدة.

الجهة الثالثة : في موارد تخصيص هذه القاعدة

اشارة

وحيث أنّها مركّبة من كلّيتين :

إحديهما جملة « كلّ من هو مدّع في مقام المخاصمة فعليه البيّنة لإثبات دعواه ».

ثانيهما « كلّ منكر وظيفته اليمين » فقد ذكروا لكلّ واحدة من الجملتين مخصّصات.

فللجملة الأولى ذكروا مخصّصات :

ص: 99


1- « شرائع الإسلام » ج 4 ، ص 73.

منها : أنّ الأمين مطلقا - سواء أكانت أمانته شرعيّة أو مالكيّة - إذا ادّعي التلف لما في يده ، ليس عليه البيّنة ، بل يقبل قوله ، وليس عليه إلاّ اليمين إذا ادّعي عليه الإتلاف ، ويكون مخصّصا لقاعدة « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بالنسبة إلى جملتها الأولى.

وفيه : أنّه قد تقدّم في الجزء الثاني من هذا الكتاب في شرح قاعدة عدم ضمان الأمين (1) نفي ضمان اليد عن الأمين مطلقا ، سواء أكانت الأمانة شرعيّة أو مالكيّة ، لأنّ يده يد المأذون من قبل المالك ، أو من قبل الشارع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو يكون إتلافا من قبل ذي اليد من دون إذن المالك في الإتلاف ، فالموجب لضمان الأمين أحد الأمرين : إمّا إتلافه لما في يده ، أو التعدّي والتفريط منه. والأصل عدمهما ، فلا بدّ للمالك المدّعي لضمانه من إثبات أحد الأمرين ، فيكون المالك مدّعيا للضمان والأمين منكر.

وإن شئت قلت : إنّ المالك يدّعي أحد الأمرين : إمّا التعدّي والتفريط ، وإمّا الإتلاف ، فعليه البيّنة على ذلك. وإن لم يكن له بيّنة فله أن يحلف الأمين المنكر على عدم صدور كلا الأمرين منه على قول ، وعلى القول الآخر لا شي ء على الأمين إلاّ أن يقيم المالك البيّنة على صدور أحد الأمرين منه ، فلا تخصيص في هذا المورد لكلتا الجملتين ، بل الحكم في الأمين على طبق كلتاهما.

ومنها : دعوى الودعيّ ردّ الوديعة إلى مالكها مع إنكار المالك ، فالمشهور قائلون بقبول قوله من غير أن تكون عليه البيّنة ، مع أنّهم لا يقولون بذلك في سائر الأمانات المالكيّة ، وإذا ادّعى المستعير ردّ ما استعاره لا يقبل قوله بدون البيّنة ، وكذلك المستأجر لو ادّعى ردّ ما استأجره ، أو المرتهن ادّعى ردّ العين المرهونة ، أو الوكيل لو ادّعى ردّ ما وكلّ في بيعه مثلا ، لا تقبل دعوى جميعهم إلاّ بالبيّنة ، فيكون قبول قول الودعي بدون

ص: 100


1- « القواعد الفقهية » ج 2 ، ص 7.

البيّنة مخصصا لهذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى.

والدليل على قبول الودعي - في ردّه الوديعة إلى مالكه بدون البيّنة - الإجماع كما ادّعاه صاحب الجواهر قدس سره (1) والأخبار (2).

منها : أنّ المالك لو ادّعى الإبدال في أثناء الحول بالنسبة لما عنده من المال الزكوي فيما يعتبر فيه مضيّ الحول في تعلّق الزكاة بها ، للفرار عن تعلق الزّكاة بها أو لغرض آخر ، فيقبل قوله من دون أن تكون عليه البيّنة.

فلو ادّعى صاحب الدراهم والدنانير أو صاحب الأنعام - وهي الأجناس التي اعتبر في تعلق الزكاة بها مضي الحول عليها في ملكه واجدة لجميع شرائط وجوب الزكاة وتعلقها بها - أنّه أبدلها بغيرها في أثناء الحول ، فهذا الموجود لم يمض عليه الحول فلم يتعلّق به زكاة ، يقبل قوله إجماعا ، ولا يطالب بالبيّنة بل ولا يمين عليه ، لقاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

وقد تكلّمنا في مدرك هذه القاعدة والمراد منها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (3) ، وللروايات الخاصّة الواردة في هذا المقام.

منها : صحيحة بريد بن معاوية : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « بعث أمير المؤمنين علیه السلام مصدقا » وفيها : أنّه علیه السلام قال : « ثمَّ قل لهم يا عباد اللّه أرسلني إليكم وليّ اللّه لآخذ منكم حقّ اللّه تعالى في أموالكم ، فهل اللّه تعالى في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليه؟ فإن قال لك قائل : لا ، فلا تراجعه » (4) وفي خبر غياث بن إبراهيم :

ص: 101


1- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 148.
2- « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 111 ، أبواب زكاة الذهب والفضّة ، باب 12.
3- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 7.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 536 ، باب آداب المصدّق ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 96 ، ح 274 ، باب الزيادات في الزكاة ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 88 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 1.

« فإنّ ولّى عنك فلا تراجعه » (1).

ويظهر من هذه الروايات قبول قول المالك في نفي تعلّق الزكاة بماله الموجود عنده ، سواء أكان من جهة عدم مضيّ الحول عليه - وان كان عدم المضي من جهة تبديله في أثناء الحول - أو من جهة أخرى ، أو كان عدم وجوب الزكاة في ذلك المال من جهة دفعه زكاته الى المستحقّ ، ففي جميع ذلك يقبل قوله بلا بيّنة عليه ولا يمين أيضا عليه ، كلّ ذلك إرفاقا بالمالك.

فإذا كان مدّعي التبديل ومدّعي الدفع إلى المستحقّ يقبل قوله من دون أن تكون بيّنة عليه ، فيكون هذا تخصيصا للجملة الأولى من القاعدة ، وكذلك يقبل قول المالك في دعوى نقصان ما خرصه المصدق عليه.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المذكورات ليس من باب تخصيص تلك القاعدة ، بل قول المالك مطابق للحجّة الفعليّة ، وقد تقدّم في تشخيص المدّعي والمنكر أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقا لها.

وأمّا إنّ قول المالك هاهنا موافق لها ، فمن جهة أصالة عدم تعلّق الزكاة بهذا المال الموجود عنده ، وكذلك عدم مضيّ الحول عليه. نعم لو كان أثر شرعي مترتبا على عنوان التبديل فينفي بأصالة عدم وقوع التبديل ، ولكنّه أجنبيّ عن محلّ البحث.

وأمّا بالنسبة إلى الدفع إلى المستحقّ فربما يقال بأنّه بعد اعترافه بتعلّق الزكاة ووجوبها عليه ، مقتضى الأصل عدم الدفع وبقاء الاشتغال ، وأيضا حكم العقل بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني بعد ثبوت الاشتغال اليقيني يقتضي لزوم أدائه والأخذ عنه.

وفيه : أنّ هذا صحيح لو كان مصبّ الدعوى هو أداء ما كان واجبا عليه ودفع الحقّ إلى مستحقّه ، وأمّا لو كان مصبّ الدعوى هو أنّه هل في هذا المال الموجود زكاة

ص: 102


1- « الكافي » ج 3 ، ص 538 ، باب آداب المصدّق ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 90 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 5 ، وص 217 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 55 ، ح 1.

أم لا؟ فلا أصل يثبت وجود الزكاة فيه ، لأنّ هذا المال الموجود لم يكن في زمان من الأزمنة كون الزكاة فيه معلوم الوجود حتّى يستصحب في ظرف الشكّ ، لأنّه من الممكن أن يكون هذا ما عدا مقدار الزكاة.

وهذا إذا كانت من قبيل الكلّي في المعيّن واضح ، وهكذا لو كانت من قبيل حقّ الرهانة ، أو من قبيل منذور الصدقة ، نعم لو كانت الزكاة من قبيل الإشاعة في المال الزكوي فللاستصحاب مجال ، ولكنّه خلاف التحقيق ، كما بيّن في محلّه.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو كانت الدعوى في الدفع وعدمه ، فلا فرق بين أن يكون مصبّ الدعوى هو الدفع ، أو يكون في أنّ هذا المال الموجود فيه الزكاة أم لا؟ وذلك من جهة أنّه بعد القطع بتعلّق الزكاة بهذا المال الشخصي ، فاحتمال أداء الزكاة أو احتمال إخراج مقدار الزكاة عنه لا يخرج القضيّة المشكوكة عن الواحدة العرفيّة مع المتيقّنة.

ولكنّ الروايات والإجماع المدّعى في المقام حاكمان على هذا الاستصحاب على تقدير شمول إطلاقهما لمورد دعوى الدفع.

ثمَّ إنّهم ذكروا موارد أخر لعدم كون البيّنة على المدّعي وتخصيص هذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى ، كدعوى الذمّي إسلامه قبل حلول وقت الجزية للتخلّص عنها ، وكدعوى الحربي الذي نبت الشعر على عانته إنّ إنباته بعلاج حتّى لا يكون أمارة البلوغ فيقتل ، وكدعوى البلوغ لصحّة معاملاته أو لغرض آخر ، وكدعوى الإعسار في بعض صور المسألة ، فقالوا بقبول قولهم ودعواهم بدون البيّنة ، غاية الأمر في بعضها مع اليمين ، وفي بعضها الآخر بغير اليمين أيضا.

وقالوا أيضا في موارد أخر بقبول قول المدّعي من دون أن يكون عليه البيّنة ، تركنا ذكرها خوفا من الإطالة.

وعلى كلّ التحقيق في هذه الموارد ، وأنّه هل هي من موارد سماع قول المدّعي من

ص: 103

دون أن يكون عليه البيّنة ، أو ليست كذلك؟ يحتاج إلى بحث طويل.

وقد وقع الكلام والبحث والنقض والإبرام عن كلّ منها في محلّه وبابه ، والغرض هاهنا الإشارة إلى تلك الموارد لا تحقيق الحال فيها ، فإنّه خارج عن طور هذا الكتاب.

هذا كلّه كان في تخصيص الجملة الأولى من هذه القاعدة.

وأمّا التخصيصات الواردة على الجملة الثانية :

فمنها : يمين الاستظهار ، وهو عبارة عن يمين المدّعي في الدعوى على الميّت ، وادّعى الشهيد الثاني قدس سره عليه الإجماع (1) ، بأنّه من كان له دعوى على الميّت ، إمّا أن يكون له بيّنة على ما يدّعيه أم لا ، فإن لم تكن له بيّنة فدعواه ساقطة ، وإن كانت له البيّنة على ذلك فعليه اليمين استظهاراً.

أمّا كون هذا اليمين تخصيصا للقاعدة فوجهه واضح ، أمّا أوّلا : فلأنّهم ذكروا أنّ المبتدأ المعرّف باللام محصور في الخبر ، كقولهم : الكرام والفصاحة في العرب ، والصنعة في الصين ، فبناء على هذا يكون مفاد هذه القاعدة - التي هي عين مضمون الحديث الشريف - أنّ البيّنة محصورة في المدّعي وليست لغيره ، وهذا مضمون الجملة الأولى من هذه القاعدة - وقد ذكرنا موارد تخصيصها أو الموارد التي توهّم أنّها كذلك - وأنّ اليمين محصور في المنكر ، فكون اليمين على المدّعي وإن كان من باب الاستظهار تخصيص لهذه الكلّية ، أي الجملة الثانية.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ التفصيل قاطع للشركة ، فبحكم هذه القاعدة تكون البيّنة مختصّة بالمدّعي ، واليمين مختصّ بالمنكر ، ولا شركة بينهما في شي ء منهما ، فيكون الحكم على المدّعي على الميّت باليمين استظهارا مخصّصا للجملة الثانية.

ص: 104


1- « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 104.

وأمّا الاعتذار عن ذلك وتوجيهه - بأنّ كون هذا اليمين على المدّعي على الميّت باعتبار كونه منكرا لدعوى المتوهّمة من قبل الميت ، بمعنى أنّ الميّت لو كان حيّا فلربما يدّعي عليه الوفاء لدينه وحقّه ، فيكون المدّعي على الميّت بالنسبة إلى هذه الدعوى المحتملة الفرضيّة منكرا ، فمن هذه الجهة يكون عليه اليمين - لا يخلو من غرابة.

وأمّا مدرك هذا الحكم - أي يمين المدّعي على الميّت - مضافا إلى الإجماع الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة علیهم السلام .

منها : موثّقة عبد الرحمن التي رواها المشايخ الثلاث ، قال : قلت للشيخ (1) علیه السلام . وفيها : « فإن كان المطلوب بالحقّ قد مات ، فأقيمت عليه البيّنة ، فعلي المدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلاّ هو لقد مات فلان وأنّ حقّه لعليه ، فإن حلف ، وإلاّ فلا حقّ له ، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو غير بيّنة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له ، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت الحقّ » (2).

ومنها : صحيح الصفار ، كتب محمّد بن الحسن الصفار إلى أبي محمّد الحسن بن علىّ : هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين ». وكتب : أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيرا أو كبيرا وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض؟ فوقّع علیه السلام : « نعم ، وينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة ». وكتب : أو تقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « نعم من بعد يمين » (3).

ص: 105


1- يعني أبا الحسن الأوّل علیه السلام .
2- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب من ادّعى على ميّت ، ح 1 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 63 ، ح 3343 ، باب الحكم باليمين على المدعى. ، « تهذيب الأحكام » ج 6. ص 229 ، ح 555 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 172 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 4 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 394 ، باب شهادة الشريك والأجير والوصي ، ح 3 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 73 ، ح 3362 ، باب شهادة الوصي للميّت و. ، « تهذيب الأحكام » ج 6. ص 247 ، ح 626 ، باب البيّنات ، ح 31 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 273 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 28 ، ح 1.

والمراد بقوله علیه السلام : « من بعد يمين » ظاهر في يمين المدّعي. واحتمال كون المراد منه يمين الوصي بعيد لا يعتنى به ، بل لا مجال له ، لأنّ الحلف على مال الغير لا مورد له أوّلا ، وثانيا : لا حلف إلاّ عن بتّ ، ولا يمكن حصول البتّ للوصي ، ولو كان الاحتمال أنّ المدّعي برأ ذمّة الميّت بعد موته ثمَّ ندم ويدّعي.

فالإنصاف أنّ دلالة الروايتين على هذا الحكم - أي يمين المدّعي على الميّت على بقاء حقّه عليه ، وأنّه لم يوفه ، وهو أي المدّعي ، لم يبرئه بعد قيام البيّنة من طرف المدّعي على حقّه على الميّت - واضحة لا ارتياب فيه.

وأمّا ضعف السند في موثّقة عبد الرحمن البصري - لو كان - فمنجبر بعمل الأصحاب ، وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (1). مضافا إلى أنّ رواية الصفار صحيحة ، فلا إشكال لا من ناحية السند ، ولا من ناحية الدلالة.

نعم هاهنا فروع في هذه المسألة بحث الفقهاء عنها في كتاب القضاء :

منها : أنّه هل هذا الحكم - أي : الاحتياج إلى ضمّ يمين المدّعي إلى البيّنة لإثبات ما يدّعيه - مختصّ بالديون ، أو يجري في الأعيان أيضا؟

ومنها : أنّ أثر الحلف نفي احتمال الوفاء وأداء الميّت في حال حياته فقط ، أو أنّ أثره نفي جميع الاحتمالات حتّى احتمال الإسقاط والإبراء بعد الموت؟

ومنها : أنّه لو أقام المدّعي شاهدا واحدا ولم يحصل له شاهد آخر ، فهل هذا اليمين يكفي لانضمامه إلى ذلك الشاهد الواحد ، أو يحتاج إلى يمين آخر ، لأنّ هذا اليمين يمين استظهار؟

ومنها : أنّ هذا الحكم مختصّ بالدعوى على الميّت ، أو يتعدّى إلى المجنون

ص: 106


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 91.

والغائب؟

ومنها : أنّه هل هذا الحكم مختصّ بما إذا كان نفس المدّعي صاحب الحقّ الذي يدّعيه ، أو يجري وإن كان المدّعي وليا أو وصيّا أو وكيلا عن صاحب الحقّ.

فهذه أمور بحث عنها الفقهاء في كتاب القضاء ، ونحن تركناها خوفا من التطويل ، ولخروجها عن وضع هذا الكتاب.

ومنها : اليمين المردودة من طرف المنكر إلى المدّعي ، فإذا حلف المدّعي بعد أنّ المنكر ردّ اليمين إليه يثبت حقّه ، كما كان يثبت بالبيّنة. وظاهر الحصر في هذه القاعدة - كما بيّناه - أنّ ميزان الحكم للمدّعي وإثبات حقّه هي البيّنة ، وأنّ اليمين وظيفة المنكر وميزان له.

فاليمين المردودة إن كان ميزان للمدّعي فيكون مخصّصا للجملة الثانية من هذه القاعدة ، أي كون اليمين مختصّا بالمنكر وعدم كونه ميزانا إلاّ له.

وربما يقال : بأنّ الحصر في هذه القاعدة باعتبار الوظيفة الابتدائيّة ، وأمّا اليمين المردودة فليست كذلك ، بل بعد عجز المدعي عمّا هو وظيفته - أي البيّنة - وتوجّه اليمين إلى المنكر ونكوله عن الحلف وردّه إلى المدّعي يكون ميزانا للمدّعي لا أوّلا وبالذات.

وفيه : أنّه ليس مفاد القاعدة هو أنّ البيّنة وظيفة المدّعي أوّلا وبالذات ، واليمين وظيفة المنكر كذلك ، بل ظاهرها انحصار ميزان المدّعي في البيّنة وميزان المنكر في اليمين ، ولكن الحصر ليس حصرا عقليّا كي لا يكون قابلا للتخصيص ، وإنّما هو بحكم الشارع ، فقابل لأن يخصّصه بدليل آخر ، وهو الإجماع والنصّ.

كصحيحة محمّد بن مسلم في الرجل يدّعي ولا بيّنة له ، قال : « يستحلفه ، فإن ردّ

ص: 107

اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف ، فلا حقّ له » (1).

وصحيحة عبيد بن زرارة في الرجل يدّعي عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي ، قال : « يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ ، فإن لم يفعل فلا حقّ له » (2).

وصحيحة هشام قال : « تردّ اليمين على المدّعي » (3).

وروايات أخر بهذا المضمون مذكورة في كتاب القضاء (4).

هذا آخر ما كتبناه في هذه القاعدة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 108


1- « الكافي » ج 7 ، ص 416 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 557 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 416 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 556 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 417 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 560 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 7 ، ح 3.
4- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7.

29 - قاعدة كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين

اشارة

ص: 109

ص: 110

قاعدة كلّ مدع يسمع قوله فعليه اليمين (1)

ومن القواعد الفقهية قولهم : « كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها

فنقول : المراد من سماع قوله عدم تكليفه بالبيّنة أو بحجّة أخرى في الحكم له ، مثلا يقال : إنّ المالك يسمع قوله إذا ادّعى تلف العين الزكويّة في أثناء الحول ، أي قبل حلول وقت الزكاة ، أو ادّعى أنّه أدّيت زكاتي المتعلّق بمالي ، أو ادّعى الكافر إسلامه قبل حلول وقت الجزية ، أو المدّعي الذي بلا معارض مثلا يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة ، أو الودعي يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة إذا ادّعى التلف أو الردّ ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي يسمع قوله ولا يطلب منه البيّنة أو حجّة أخرى ، ففي جميع ذلك يكون عليه اليمين إلاّ ما خرج بالدليل ، وسنذكر إن شاء اللّه تعالى تلك الموارد.

ص: 111


1- « عناوين الأصول » عنوان 78.

[ الجهة ] الثانية : ذي مدرك هذه القاعدة

فنقول : إنّ هذه القاعدة من قواعد باب القضاء ، بمعنى أنّ الحاكم في مقام حكمه إذا يسمع قول مدّع ولا يطلب منه البيّنة فلا يحكم له إلاّ بعد اليمين ، مثلا إذا تخاصم المودع مع الودعي ولم يكن للمودع بيّنة على أنّ الودعي أتلف ماله أو قصر في حفظه ، أو تصرّف في الوديعة من دون إذن المودع ، أو غير ذلك ممّا يوجب الضمان ، فلا يحكم الحاكم بعدم اشتغال ذمّته إلاّ بعد حلف الودعي على نفي هذه الأمور ، وهذا معنى سماع قوله ، لا أنّه بمحض أن لا تكون للمودع بيّنة على أحد هذه الأمور يحكم للودعي بدون أي شي ء.

واستدلّوا على لزوم الحلف للمدّعي الذي يسمع قوله من دون بيّنة بأمور :

الأوّل : أن الحكم في مقام المخاصمة لا يجوز إلاّ بأحد الميزانين ، وهما البيّنة واليمين، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1).

ولا شكّ في أنّ « إنّما » كلمة حصر ، فيدلّ قوله صلی اللّه علیه و آله هذا على أنّ سبب الحكم منحصر في أحد هذين ، فإذا لم يطالب المدّعي بالبيّنة - كما هو المفروض في المقام - فإمّا أن يحكم له بدون اليمين أيضا ، وهذا خلاف قوله صلی اللّه علیه و آله : إنّ قضاء بأحد الأمرين ، وإمّا إيقاف الدعوى وعدم الحكم أصلا ، وهذا خلاف حكمة جعل القضاء. ويلزم اختلال النظام ، وتضييع الحقوق ، والهرج والمرج ، وخلاف الآية الشريفة ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (2) فلا بدّ وأن نقول بأن الحكم له

ص: 112


1- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب إنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 2 ، ح 1.
2- ص (38) : 26.

بذلك الميزان الآخر ، أي اليمين.

لا يقال : إنّه في بعض الموارد ورد الدليل على عدم الحلف أيضا ، كما في باب العبادات الماليّة كالزكاة والخمس ، وسماع قول المالك في عدم التعلّق وفي الأداء أيضا ، وكسماع قول الفقير في دعوى الفقر ، كلّ ذلك من دون بيّنة ولا حلف.

لأنّه لا نقول نحن بأنّ الحصر عقليّ ليس قابلا للتخصيص ، فإذا جاء الدليل في مورد على عدم لزوم الحلف أيضا يخصّص العمومات.

الثاني : أنّ قول المدّعي في هذه المقامات حجّة ، لأنّ الدليل الذي يفيد قبول قوله من دون قيام البيّنة من طرفه ، يرجع إلى أنّ قوله حجّة ، فلا يكون من المدّعي بالمعنى المراد من المدّعي والمنكر في قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) وهو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، بل يكون بمنزلة المنكر في أنّ قوله مطابق للحجّة الفعليّة ، بل هو المنكر حقيقة بناء على ما عرّفنا المنكر بأنّه عبارة عمّن يكون قوله مطابقا للحجّة الفعليّة.

إن قلت : أليس يقال المدّعي؟

قلنا : إطلاق المدّعى عليه من قبيل إطلاقه على ذي اليد باعتبار معناه اللغوي ، أي مطلق من يدّعي ، وإن كان دعواه موافقا للحجّة الفعليّة.

الثالث : الإجماع على أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، وذلك مثل الأمين إذا ادّعي التلف يقبل قوله ولا يطالب بالبيّنة ، إلاّ أنّ عليه اليمين ، ولذلك اشتهر في لسان الفقهاء وفي كتبهم : أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.

ثمَّ لا يخفى أنّ المراد من الإجماع في هذه المسألة هو انعقاده على هذه الكلية ، أي كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، فلا يرد على هذا الدليل أنّ تحقّق

ص: 113


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 3 ، ح 4.

الإجماع في بعض الموارد لا يفيد في مورد الخلاف والشكّ في لزوم الحلف ، لأنّ انعقاد الإجماع على هذا العنوان الكلّي ممّا يجعله كورود دليل لفظي عليه ، فيمكن التمسّك بإطلاقه عند الشكّ والخلاف ، كما يتمسّك بالإطلاقات اللفظيّة.

ولكن فيه أوّلا : أنّه في تحقّق مثل هذا الإجماع في ذلك العنوان الكلّي خفاء. وثانيا : على فرض تحقّقه ، في حجّية مثل هذا الإجماع إشكال ، بل معلوم عدمها ، وذلك لما ذكرنا مرارا أنّ وجه حجّية الإجماع هو كشفه عن رأي الإمام علیه السلام ، والحدس القطعي بكون الاتّفاق مسبّبا عن رأيه علیه السلام ، ومثل هذا لا يكون إلاّ فيما لا يكون مدرك آخر غير التلقّي عن الإمام علیه السلام يتّكئون ويعتمدون عليه ، وفي المقام مع وجود هذه المدارك والأدلّة المذكورة لا يبقى مجال لتحقّق الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.

الرابع : أنّ قول المنكر - مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة - يحتاج إلى اليمين ، وبدون اليمين لا يحكم له، فإذا قبل قول المدّعي بدون الاحتياج إلى البيّنة وهو مخالف للحجّة الفعليّة كما هو المفروض ، فيكون الاحتياج إلى اليمين فيه بطريق أولى ، وذلك من جهة أنّ المقصود من الحلف إمّا ارتداع من ليس له الحقّ عن بغيه وعدوانه ، وإمّا قوّة احتمال مطابقة قوله للواقع ، وعلى كلا الوجهين يقتضي في المدّعي الذي يقبل قوله - ولا يطالب بالبيّنة أيضا - أن يكون عليه اليمين بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذه المذكورات أمور استحسانية لا أدلّة شرعيّة ، فلا يمكن استناد الأحكام الشرعيّة إلى أمثال هذه الظنّيات. نعم لو حصل القطع بأنّ ملاك كون الحلف واليمين على المنكر أحد هذين الأمرين ، فللقول بأنّ المدّعي الذي يسمع قوله بدون البيّنة أيضا يحتاج إلى اليمين مجال.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأمور لا توجب أكثر من الظنّ. نعم في بعض صغريات هذه القاعدة - كالأمين والمحسن أدلّة لفظيّة تدلّ على عدم جواز اتّهامهم

ص: 114

وعدم السبيل عليهم ، كقوله علیه السلام في رواية قرب الأسناد : « ليس لك أنّ تتّهم من قد ائتمنته » (1) وقوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2).

ولا شكّ في أنّ تكليف الأمين باليمين اتّهام له ، وأيضا تكليف المحسن باليمين سبيل عليه ، وهما منفيّان بحكم الآية والرواية.

أقول : هذا الكلام بالنسبة إلى المحسن في محلّه ، وأمّا بالنسبة إلى الأمين فليس معنى عدم الاتّهام إلاّ عدم استناد الخيانة والتعدّي والتفريط إليه ، فيرجع إلى عدم إنشاء الدعوى عليه. والرواية بهذا المعنى لم يعمل بها قطعا ، لأنّه لا شكّ في صحّة دعوى الإتلاف أو التعدّي والتفريط على الأمين ، فهذا حكم أخلاقي معناه : لا تأتمن الرجل الخائن ، وإن ائتمنت أحدا فلا تظنّ به السوء ولا تتّهمه.

وأمّا القطع بخيانته وتعدّيه وتفريطه فقطعا يجوز الدعوى معه ، غاية الأمر لو ادّعى التلف يقبل قوله ، أي لا يطالب بالبيّنة ، ولكن اليمين عليه ، لما ذكرنا.

هذا ، مضافا إلى أنّ دعوى الإتلاف من طرف المالك مع إنكار الأمين ، يجعل الأمين منكرا ، فيكون الحلف عليه إجماعا ونصا مستفيضا ، بل متواترا ، وليس من طرف الأمين إلاّ الإنكار ، فيكون خارجا عن محلّ بحثنا ، لأنّ محلّ كلامنا في المدّعي الذي يسمع قوله ، وأمّا كون اليمين على المنكر فمن ضروريّات الفقه.

والحاصل : أنّ يد الأمين ليست يد ضمان ، لأنّها يد مأذونة ، إمّا من قبل مالكه وإمّا من قبل الشرع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو إتلاف الأمين له ، فصاحب المال إن كان يطلب الضمان فلا بدّ له من ادّعاء أحد هذه الأمور ، أي الإتلاف أو التعدّي والتفريط ، فيكون الأمين منكرا والحال في المحسن أيضا كذلك.

الخامس : أنّ المدّعي إن كان له شاهد واحد عادل على ما يدّعيه ، فلا يحكم له

ص: 115


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 229 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 9.
2- التوبة (9) : 91.

بذلك الشاهد الواحد ، بل لا بدّ من ضمّ يمينه إليه ، فإذا لم يكن له شاهد أصلا فيجب عليه اليمين لاستخراج حقّه الذي يدّعيه بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذا الدليل ينبغي أن يعدّ من المغالطات ، لأنّ انضمام اليمين هناك إلى الشاهد الواحد من جهة أنّ المدّعي هناك عليه البيّنة ، وحيث أنّه عاجز عن إقامة البيّنة بتمامها - ولم يقم إلاّ شاهدا واحدا - خفّف عنه بقيام اليمين مقام الشاهد الآخر ؛ بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه ليس عليه البيّنة أصلا ، إذ المفروض سماع قوله بدون البيّنة ، فلا وجه لتكليفه باليمين إلاّ ما ذكرنا من الوجهين الأوّلين.

السادس : أنّ لقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) دلالتين :

أحدهما : أنّ المتداعيين والمتخاصمين كلّ واحد منهما يحتاج في إثبات ما يقول إلى حجة ، وبدون الحجّة لا يحكم له.

والثاني : تعيين تلك الحجّة في حقّ كلّ واحد منهما ، وأنّها هي البيّنة في حقّ المدّعي ، واليمين في حقّ المنكر ، والحجّة في حقّ الاثنين منحصرة فيهما ، وليست هناك حجّة أخرى تكون ميزانا للقضاء.

فإذا جاء الدليل على عدم تكليف بعض المدّعين في بعض الموارد بإقامة البيّنة ولا يطالب بها ، فهذا الدليل لا يدلّ على أنّ الحكم لا يحتاج إلى حجّة أخرى أصلا ، وذلك لأنّ نفي الأخصّ لا يلزم منه نفي الأعمّ.

وحيث أنّ الحجّة في باب القضاء منحصرة بهما - أي البيّنة واليمين - وهذا الدليل يدلّ على عدم مطالبته بالبيّنة ، فبحكم دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله على لزوم أصل الحجّة - التي كانت فيما ذكرنا أولى الدلالتين - يجب عليه أن يقيم حجّة على ما يدّعيه ، وإذ ليست هي البيّنة - كما هو المفروض - والحجّة منحصرة فيهما ، فيكون عليه اليمين.

ص: 116


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.

وفيه : أنّه صلی اللّه علیه و آله عيّن وظيفة لكلّ واحد من المدّعي والمنكر في مقام المخاصمة ، فإذا جاء الدليل في مورد - أو في قسم من أقسام المدّعي - أنّه يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، فلا بدّ وأن يكون هذا التخصيص لجهة ونكتة ، فالقضاء تجري إمّا بالحكم له من دون اليمين ، أو بتوجّه الأمر إلى الطرف الآخر ، فإن حلف فلا شي ء عليه ويحكم له ، وإن ردّ اليمين أو نكل تجري أحكام الردّ والنكول.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : معنى سماع الدعوى بدون مطالبة البيّنة هو أنّه يحكم للمدّعي بمحض دعواه ، والحكم لا يمكن بدون أحد الميزانين ، أي البيّنة أو اليمين ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1) بناء على حصر ميزان الحكم في هذين الميزانين ، وعدم تحقّقه بدون أحدهما ، وحيث أنّ البيّنة لا تطلب منه ، فلا بدّ وأن يكون باليمين.

ولكن هذا مرجعه إلى الوجه الأوّل الذي ذكرناه ، وليس وجها آخر ، وهو الوجه الوجيه ومبناه على استفادة الحصر - في ما هو ميزان القضاء بهذين ، وعدم صدور الحكم بدون أحدهما - من قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ». وقد تقدّم جميع ذلك.

الجهة الثالثة : في بيان موارد هذه القاعدة وصغرياتها

اشارة

أي : الموارد التي يسمع دعوى المدّعي فيها بدون أن يكون عليه بيّنة ، وبيان وجه سماع دعواه.

فنقول : أمّا مواردها وصغرياتها فكثيرة جدّا ، ولكن هذه الموارد الكثيرة ليست

ص: 117


1- تقدّم تخريجه في ص 112 ، رقم (1).

تحت جامع واحد وكبرى واحدة ، بل هناك كبريات متعدّدة :

منها : كون المدّعي أمينا ، حيث أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.

ومنها : كون المدّعي بلا معارض.

ومنها : كون المدّعي ممّن يملك فعل ما يدّعيه.

ومنها : كون ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.

ومنها : ما هو خارج عن تحت هذه الكبريات الأربع ، لكن ورد دليل خاصّ على سماع قوله.

وأمّا عدّ سماع قول ذي اليد أيضا من هذه الكبريات - كما ذكره أستاذنا المحقّق قدس سره في كتاب قضائه (1) - فليس كما ينبغي ، من جهة أنّ إطلاق المدّعى على ذي اليد غير خال عن الخلل ، بل المتفاهم العرفي من المدّعي هو الذي يدّعي - مثلا - ملكيّة شي ء ليس ذلك الشي ء تحت يده ، فإن كان تحت يده ويدّعيه غيره فهو منكر ، وذلك الغير مدّع.

والحاصل : أنّ العرف والشرع متّفقان على عدم صحّة إطلاق المدّعى على ذي اليد، حتّى أنّه بعضهم عرّف المدّعي والمنكر بمن لم يكن في يده وهو المدّعي ، ومن كان في يده وهو المنكر.

ويشهد لما ذكرنا - من اتّفاق العرف والشرع في أنّ المدّعي هو من ليس ما هو محلّ النزاع والمخاصمة في يده ، وإلاّ إن كان في يده فهو منكر - استدلاله علیه السلام في بعض الأخبار على كفاية اليمين منه ، وعدم مطالبة البيّنة منه (2) بأنّه إنّما أمر النبي صلی اللّه علیه و آله أن يطالب البيّنة من المدّعي ، لا من ذي اليد.

ص: 118


1- « كتاب القضاء » ص 86 - 87.
2- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 214 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 25.

وخلاصة الكلام : أنّ كلامنا في أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ، ولا يطلب منه البيّنة فعليه اليمين ، وليس ذو اليد مدعيا كي يكون من صغريات هذه القاعدة.

فلنتكلّم في الكبريات الأربع :

الأولى : كبرى « كون المدّعي أمينا ». أمّا مصاديق هذه الكبرى : فكلّ ما كان تحت يد شخص بإذن المالك فهي أمانة مالكيّة ، كالعارية ، والوديعة ، والعين المستأجرة ، وغير ذلك من موارد اليد المأذونة من قبل المالك ، أو بإذن الشارع فهي أمانة شرعيّة كاللقطة ، وما في يد القيّم للصغار أو المجانين من أموالهم ، وما في يد الحاكم الشرعي من أموال الغيّب والقصر ، والحقوق الشرعيّة التي تعطى للحاكم الشرعي لأن يصرف في مصرفها ، من الأخماس والزكوات والصدقات الواجبة غير الزكاة كالكفارات وردّ المظالم ، إلى غير ذلك ممّا هو وظيفة الحاكم الشرعي حفظها أو صرفها فيما يلزم صرفها فيها.

ومن هذا القبيل الأوقاف التي لم يجعل لها متولّ ، أو مجهول توليتها ، فجميع ذلك - في يد الحاكم أو وكيله أو المنصوب من قبله - أمانة شرعيّة ، أي يكون تحت يده بإذن الشارع ، وفي كلا القسمين ليست اليد يد ضمان ، فلا ضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط.

وأمّا وجه سماع قول الأمين وعدم مطالبته بالبيّنة ، فمن جهة ما تقدّم منّا وذكرناه من أنّ التلف عنده لا يوجب الضمان. لأنّ مدرك الضمان في باب التلف إمّا اليد غير المأذونة ، أو خيانته بالتعدّي أو التفريط. وفي الحقيقة هذا أيضا يرجع إلى أنّه بالخيانة ليست يده مأذونة ، فيكون ضمانه ضمان اليد.

نعم لو كان إتلاف في البين يكون هو سببا وموجبا للضمان ، ولكن حينئذ يكون الطرف مدّعيا للإتلاف وهو منكر ، فيتوجّه عليه اليمين.

ص: 119

وحاصل الكلام : أنّ قول الأمين - ما لم يخرج عن كونه أمينا بالخيانة - يسمع من دون مطالبته بالبيّنة ، لأنّه لا يخلو إمّا أن لا تكون دعوى الإتلاف في البين ولا خيانة ، فلا ضمان. وإمّا أن تكون ، فيكون الطرف مدّعيا وهو منكر ، فليس وظيفته البيّنة.

وفي كلتا الحالتين لا تجوز مطالبة البيّنة من الأمين ، لا في التلف ، ولا في الإتلاف ، فهذا وجه سماع قول الأمين.

الثانية : كبرى « المدّعي بلا معارض » وهو أنّهم يقولون بسماع قول المدّعي الذي بلا معارض ، وقبوله بغير بيّنة في الماليّات وإن لم يكن له يد عليه ، فإذا ادّعى أنّ المال الفلاني الذي لا يد لأحد عليه - أو ينفي صاحب اليد كونه لنفسه ولا يدّعي كونه لشخص معيّن ، بل يعترف بعدم علمه بمالكه - إنّه لي ، وليس هناك معارض يعارضه ، يقبل قوله ويعطي له مع يمينه ، بناء على ما ذكرنا من تماميّة هذه القاعدة.

وأمّا في غير الماليّات - كما أنّه لو ادّعى طهارة شي ء أو نجاسته وهو ليس بمالك ولا بذي اليد عليه ، أو أنّ هذا اليوم يوم العيد وأمثال ذلك من غير الماليّات ولا معارض له ، فلا يسمع دعواه ، بل يحتاج إثباته إلى البيّنة ، أو إحدى الأمارات الشرعيّة الأخر ، وذلك من جهة أنّ عمدة مدرك سماع هذه الدعوى هي سيرة العقلاء وبناؤهم على قبول قول المدّعي الذي لا يعارضه أحد بغير البيّنة ، ولكن هذه السيرة القدر المتيقّن منها هو فيما إذا كان ما يدّعيه من الماليّات وإن لم يكن لذلك المدّعي يد عليه ، أو كان من الحقوق ، كادّعائه تولية وقف ، أو يدّعي حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان ، أو حقّا آخر ولا يعارضه أحد في هذه الدعوى.

وأمّا الإجماع الذي ادّعاه صاحب الرياض (1) وصاحب الجواهر (2) 0 فأيضا القدر المتيقّن منه هو فيما ذكرنا من الماليّات والحقوق والارتباطات كالزوجية والنسب ، كأن

ص: 120


1- « رياض المسائل » ج 2 ، ص 413.
2- « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 398.

يقول : هذه المرأة زوجتي ، أو هذا الغلام ابني ، أو هذه الصبيّة بنتي ، ومن هذه الجهة لو ادّعى في اللقطة أنّها لي ، ولم يكن له معارض يعطي المال له.

وربّما يستدلّ لسماع قول المدّعي بلا معارض برواية الكيس المعروفة ، وهي أنّ يونس بن عبد الرحمن روى عن منصور بن حازم ، قال : قلت : لأبي عبد اللّه علیه السلام : عشرة كانوا جلوسا ، وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال علیه السلام : « للذي ادّعاه » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على قبول قول مدّعي الذي ليس له معارض واضح ، لأنّه علیه السلام قال : هو للمدّعي الذي لم يعارضه أحد من تلك العشرة بل كلّهم نفوا عنهم.

ولكن استشكل على هذا الاستدلال شيخنا الأعظم الأنصاري على ما نقل بعض الأجلّة من تلامذته قدس سره وقبله ابن إدريس (2) بأنّ سماع قول ذلك المدّعي ليس من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه ، بل أنّ الكيس الكائن في وسط جماعة يكون تحت يد تلك الجماعة ، ولذلك لو ادّعاه شخص من غير تلك الجماعة ومن الخارج فلا يقبل قوله إلاّ بالبيّنة.

وأمّا لو كان من تلك الجماعة ، فإن ادّعى الباقون أيضا مثله ، فيجري عليه حكم الشريكين الذين يدّعي كلّ واحد منهما تمام ما في يدهما ، وأمّا إذا نفى الباقون كونه لهم ، فتسقط أمارية اليد في حقّهم. وأمّا الذي يدّعيه ولا ينفي عن نفسه فأماريّة يده باقية ،

ص: 121


1- « الكافي » ج 7 ، ص 422 ، باب النوادر ( من كتاب القضاء والأحكام ) ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 292 ، ح 810 ، باب من الزيادات في القضايا ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 1.
2- « السرائر » ج 2 ، ص 191.

ويكون هو بحكم ذي اليد الواحد الذي ليس لغيره يد عليه ، فيحكم بأنّه له من جهة يده عليه لا من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه هذه.

وبعبارة أوضح : أماريّة اليد لكون ما في يده ملك له متوقّفة على عدم إقراره بأنّه ليس له ، فإذا نفى عن نفسه وأقرّ بأنّه ليس له تكون يده كالعدم لا أماريّة لها ، واليد بنظر العقلاء تكون كاشفة وأمارة بالمطابقة بأنّ ما هو تحت اليد ملك لذي اليد ، وبالدلالة الالتزاميّة. تدلّ على أنّه ليس لغير ذي اليد.

فالكيس الذي كان في وسط جماعة حيث أنّ لتلك الجماعة يد عليه ، فبالدلالة الالتزامية تدلّ يد جميعهم على أنّه ليس لغيرهم. ويد كلّ واحد منهم وإن كانت تدلّ على أنّه له ، إمّا تماما كما احتمل ، أو بنسبة نفسه إلى الجميع على نحو الشركة ثلثا أو ربعا أو خمسا ، وهكذا حسب عدد الجماعة كما هو الصحيح ، ولكن هذه الدلالة سقطت بواسطة إقراره بأنّه ليس له.

وأمّا ذلك الشخص الواحد الذي ادّعاه حيث أنّه لم يقرّ أنّه ليس له ، بل ادّعى على طبق يده أنّه له ، فيبقى ليده كلتا الدلالتين : المطابقة والالتزامية ، فتثبت أنّه وليس لغيره ، كما هو الحال في اليد الواحدة التي ليس لها يد أخرى شريكة معها ، فيحكم له إلاّ أن يأتي المدّعي الخارج عن تلك الجماعة بالبيّنة على أنّه له ، كما هو الشأن في سائر المقامات بالنسبة إلى الدعوى على ذي اليد الواحد. فحكمه علیه السلام بأنّ الكيس لذلك الواحد المدّعي ليس من أجل أنّه بلا معارض ، بل من جهة أنّه ذو اليد على موازين باب القضاء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ صرف كون الكيس في وسط جماعة ليس ظاهرا عند العرف في ثبوت اليد لتلك الجماعة عليه. أو يقال بأنّ اليد الواحدة - أي الاستيلاء والسيطرة الواحدة - قائمة بالمجموع ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، فإذا نفوا عنهم ما عدا واحد منهم ، فتسقط تلك اليد الواحدة القائمة بمجموع تلك الجماعة ، وليس هناك

ص: 122

استيلاء آخر كي يكون أمارة على الملكيّة ، لأنّ اليد القائمة بالمجموع سقطت عن الاعتبار ، ويد المدّعي كانت في ضمن تلك اليد القائمة بالمجموع ، ولم يكن لها وجود مستقلّ ، فلا بدّ وأن يكون حكمه علیه السلام بكونه لذلك الواحد المدّعي مستندا إلى جهة أخرى غير اليد ، وليست إلاّ أنّه مدّع ليس له معارض.

ولكن أنت خبير بعدم صحّة كلتا الدعويين :

أمّا عدم صحّة دعوى عدم ظهور كون الكيس في وسطهم عرفا في ثبوت اليد لهم ، فممّا يشهد عليه العرف والوجودان. نعم في بعض الفروض يمكن دعوى عدم الظهور عرفا في ثبوت اليد لهم ، كما إذا كان الكيس موجودا في ذلك المكان قبل اجتماعهم فيه ، وبعد ذلك اجتمعوا وصار الكيس في وسطهم ، لكن هذا الفرض وأمثاله خارج عن ظاهر الرواية ، وتكون الرواية منصرفة عنها.

وأمّا دعوى أنّ لمجموع تلك الجماعة يد واحدة ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، ففيها : أنّه لو كانت الجماعة كلّهم يدّعون أنّه لهم فبنظر العرف - الذي هو المناط في فهم مفاهيم الألفاظ وتعيين المراد منها - كان الأمر كما ادّعاه صاحب هذه الدعوى ، بمعنى أنّ لكلّ واحد منهم كانت يد غير تامّة وغير مستقلّة ، كما في الشريكين أو الشركاء في دكّان مثلا.

وقد بيّنّا في محلّه أنّ اليد غير التامّة على المجموع بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على بعض ذلك المجموع بنسبة عدد الشركاء ، فإذا كانا اثنين متصرّفين في الدكّان مثلا ، يرى العرف أنّ لكل واحد منهما الاستيلاء التامّ على النصف ، وإن كانوا ثلاثة يرى الاستيلاء واليد التامّة على الثلث ، وهكذا.

وأمّا إن نفوا عنهم ما عدا واحد الذي ادّعى المجموع ، ففي هذه الصورة يرى العرف أنّ الاستيلاء لذلك الواحد فقط ، لأنّ سائرهم بواسطة إقرارهم بعدم كونه لهم أسقطوا يدهم عن الاعتبار ، فصارت يدهم كأن لم تكن ، فيد هذا الواحد كأنّها يد

ص: 123

واحدة مستقلّة على المجموع.

والحاصل : أنّ دلالة الرواية على قبول قول المدّعي الذي ليس له معارض في غاية الإشكال.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ جميعهم أو بعضهم لو ادّعى ملكيّة ذلك الكيس بعد نفيه عن نفسه أو عن أنفسهم لا يسمع ، لأنّه إنكار بعد الإقرار ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فإقراره السابق بعدم كون الكيس له أسقط ماليّته ظاهرا وإن كان ماله بحسب الواقع ، إلاّ أن يأتي بدليل حاكم على ذلك الإقرار ، أو علم بأنّ إقراره كان على خلاف الواقع لنسيانه ، أو لجهة أخرى.

الثالثة : كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » فلو ادّعى أنّه طلّق زوجته ، أو باع ماله الفلاني من فلان ، أو وهبه لفلان ، أو أعطيت زكاتي الواجب عليّ وأمثال ذلك ، سواء أكان له أو عليه ، يسمع بدون أن يطالب بالبيّنة لتلك القاعدة. وعمدة فائدة هذه القاعدة فيما لا يكون الإقرار على ضرره ، وإلاّ فلا احتياج إليها ، لكون موارد الإقرار على ضرر نفسه مشمولا لقاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز ».

وأمّا الدليل على هذه الكبرى ، أي كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » فقد تقدّم في شرح هذه القاعدة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ، فلا نعيد.

الرابعة : كبرى « أنّه يسمع كلّ دعوى لا يعلم إلاّ من قبل مدّعيها ».

واستدلّوا لهذه الكبرى بوجوه :

الأوّل : الإجماع الإجماع على أنّ من يدّعي شيئا لا يعلم إلاّ من قبله ، يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، ولكن الحكم له بعد الحلف ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على تصديقه بدون الحلف والشاهد على اتّفاقهم على هذا الحكم هو أنّهم يعلّلون في بعض الدعاوي سماعها بأنّه شي ء لا يعلم إلاّ من قبله ، ويرسلونه إرسال المسلّمات ولا ينكره

ص: 124

أحد منهم ، بل كلّ واحد من الفقهاء 5 يقبل هذا التعليل ولا يستشكل عليه ولا يطلبون من القائل الدليل عليه ، فيكون من الكبريات المسلّمة عندهم.

وفيه : أنّه ممنوع صغرى وكبرى. أمّا الصغرى : فمن جهة أنّ قولهم هذا في بعض الموارد لا يدلّ على اتّفاقهم على هذه الكبرى الكليّة.

وبعبارة أُخرى : التعليل إذا كان في آية أو رواية ، أي كان في كلام من يجب اتّباعه ، فيجب الأخذ بظاهره ، فإذا كان ظاهرا في العموم يجب الأخذ بذلك الظهور والحكم بعموم التعليل. وأمّا لو كان في كلام من ليس كلامه حجّة ، فلا بدّ من وجود دليل على وجوب الأخذ بظاهر ذلك الكلام ، والمفروض أنّه ليس هاهنا دليل إلاّ الإجماع ، فلا بدّ أن يكون نفس هذا التعليل - أي : عنوان « لأنّه لا يعلم إلاّ من قبله » - معقدا للإجماع ، وإثبات هذا الاتّفاق في غاية الإشكال.

ثمَّ على تقدير ثبوته يرد عليه ما ذكرنا مرارا أنّ مثل هذا الاتّفاق ليس كاشفا قطعيا عن رأيهم علیهم السلام لاحتمال أن يكون منشأ اتّفاقهم هو بعض ما ذكروه من الأدلّة على قبول دعوى التي لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها ، فلا يكون من الإجماع المصطلح في الأصول الذي قلنا بحجّيته.

الثاني : الحكمة أنّ حكمة جعل القضاء والقاضي هو رفع التشاجر والمخاصمة بين الناس وحسم النزاع ، فإذا كان دعوى المدّعي لا يعلم إلاّ من قبله ، فلا يمكن له إقامة البيّنة عليه ، لأنّ المفروض أن غير المدّعي لا يعلمه كي يشهد به ، ولا يمكن لخصمه المنكر أن يحلف ، لأنّ المفروض أنّ الخصم المنكر لا يعلم به ولا حلف إلاّ عن بتّ ، فيبقى القضاء بلا ميزان ، ولا يرفع المخاصمة.

أقول : وهذا الوجه ممّا يمكن الركون إليه.

لايقال : هذا الوجه صحيح فيما لا يمكن إقامة الشهود والبيّنة المعتبرة للمدّعي ، وموارد سماع دعوى من لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله - كما ذكروا - ليست منحصرة بما

ص: 125

لا يمكن إقامة البيّنة ويتعذّر ، بل أعمّ منه وممّا يتعسّر ، ففي القسم الثاني منه يمكن إقامة الشهود غاية الأمر مع التعسّر ، لأنّ التكليف بالأمر المتعسّر أيضا ليس من دأب الشارع وديدنه غالبا ، ولا يناسب الشريعة السمحة السهلة إلاّ فيما تكون المصلحة مهمّة ، بحيث يكون على المكلّف بذل كلّ نفس ونفيس كالجهاد والدفاع مع الكفّار فيما إذا هجموا على المسلمين مثلا.

فبناء على هذا يكون المتعسّر بحكم المعتذّر ، وكون التعسّر حكمة للجعل كثير في الشريعة ، كجعل التيمّم بدلا عن الطهارة المائيّة ، والتقصير والإفطار في السفر ، وأمثال ذلك.

الثالث : الأخبار أنّه وردت أخبار على أنّ الحيض والعدّة إلى النساء كصحيح زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام : « العدّة والحيض للنساء إذا ادّعت صدّقت » (1) وقول الصادق علیه السلام في تفسير قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ) (2) « قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء : الحيض ، والطهر ، والحمل » (3).

ومعلوم أنّ تفويض هذه الأمور إلى النساء من جهة أنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، وادّعى بعضهم أنّ في بعض هذه الأخبار تعليل قبول قولهنّ في هذه الأمور بتعذّر الإشهاد منهنّ عليها ، لأجل عدم اطلاع غيرهنّ عليها. ومعلوم أنّ هذا الكلام في قوّة أن يقول : لأنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، ولكنّني فتشت بمقدار وسعي ولم أجده.

نعم ورد في رواية محمد بن عبد اللّه الأشعري قال : قلت للرضا علیه السلام : الرجل

ص: 126


1- « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب ان النساء يصدّقن في العدّة والحيض ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 165 ، ح 575 ، باب عدد النساء ، ح 174 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 356 ، ح 1276 ، باب أنّ العدّة والحيض إلى النساء. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 441 ، أبواب العدد ، باب 24 ، ح 1.
2- البقرة (2) : 228.
3- « مجمع البيان » ج 2 ، ص 326 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 441 ، أبواب العدد ، ب 24 ، ح 2.

يتزوّج. إلى آخره؟ فقال علیه السلام : « أرأيت لو سألها البيّنة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج » (1).

والحاصل : أنّ ظاهر هذه الأخبار قبول قول المرأة في الحيض والحمل والطهر والعدّة ، وهذه أمور لا تعلم إلاّ من قبلهنّ في الغالب ، فمن هذا يستكشف كبرى كلّية ، وهو أنّ كلّ ما لا يعلم إلاّ من قبله يسمع قوله فيه.

هذا إذا لم يكن ذلك التعليل في البين ، وأمّا إذا كان كما ادّعاه الكني قدس سره في قضائه (2) فالأمر أوضح ، لأنّه بناء على ثبوت ذلك التعليل ووجوده في بعض الأخبار يكون الحكم بالقبول دائرا مدار وجود تلك العلّة ، ففي كلّ دعوى يتعذّر الإشهاد عليها أو يتعسّر ، يجب قبولها من دون مطالبة البيّنة عن مدّعيها.

ومعلوم مطابقة دعوى التي يتعذّر الإشهاد عليها مع ما لا يعلم إلاّ من قبله ، بمعنى أنّ كل دعوى لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها يتعذّر الإشهاد عليها ، لأنّ الإشهاد فرع معرفة الشاهد وعلمه بالمشهود به ، وعلمه بالمشهود به مع كون الدعوى ممّا لا تعلم إلاّ من قبله خلف.

الرابع : لا شكّ في أنّ قول المنكر مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة - كما بيّنّاه - يحتاج في الحكم له وثبوت قوله إلى اليمين ، فكيف يمكن الحكم للمدّعي بصرف الادّعاء بدون اليمين؟ مع أنّ قوله مخالف للحجّة الفعليّة ، كما عرفت في بيان معنى المدّعي.

وبعبارة أُخرى : حيث أنّ المدّعي كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فجعل الشارع وظيفته أثقل ميزاني القضاء - أي البيّنة - ولكن بالنسبة إلى بعض الدعاوي ارتفع هذا الثقل - أي : البيّنة - عنه لمصلحة وملاك لإحدى الجهات التي تقدّمت ، ولم يكلّف

ص: 127


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 253 ، ح 1094 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 457 ، أبواب المتعة ، باب 10 ، ح 5.
2- « كتاب القضاء » ص 104.

بالبيّنة.

ولكن لا يمكن أن يكون حاله أحسن من المنكر الذي قوله موافق مع الحجّة ولا يحتاج إلى اليمين أيضا ، وهذا معناه عدم الاعتناء بالحجّة.

وفيه : أنّ هذا صرف استحسان ، ولا يصحّ أن يكون مناطا وملاكا للحكم الشرعي ، والشارع عيّن وظيفة للمدّعي وهي البيّنة ، ووظيفة أخرى للمنكر ، أي اليمين بقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) وهذان الحكمان - أي كون وظيفة المدّعي هي البيّنة ووظيفة المنكر اليمين - عامان يشمل كلّ مدّع وكلّ منكر ، فجاء المخصّص بالنسبة إلى بعض أقسام المدّعي وأسقط لزوم إقامته البيّنة ، فكون وظيفة أخرى له يحتاج إلى جعل آخر ، وإلى دليل على ذلك الجعل في مقام الإثبات ، وإذ ليس فليس.

نعم الدليل هو الوجه الثاني الذي ذكرناه من أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (2) يستفاد منه أمران : أحدهما حصر ميزان القضاء في هذين الاثنين. والثاني : عدم جواز الحكم بدون الميزان ، فبضميمة عدم جواز إيقاف الحكم وارتفاع البيّنة عنه ، لا بدّ وأن نقول بأنّ الحكم لمثل هذا المدّعي لا يجوز إلاّ مع حلفه.

ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا وجوها استحسانية آخر لهذا الحكم - أي كون اليمين على المدّعي الذي يسمع قوله - تركنا ذكرها ، لعدم الاحتياج إليها ، وعدم صحّتها في أنفسها.

ثمَّ إنّ هذه القاعدة خصّصت في موارد ، بمعنى أنّه جاء الدليل على قبول قول بعض المدّعين بدون أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، أي ليس عليه كلتا الوظيفتين ، وما قلنا إنّ الحكم لا يجوز بدون أحد الميزانين ليس حكما عقليّا غير قابل للتخصيص ، بل

ص: 128


1- سبق تخريجه في ص 113.
2- سبق تخريجه في ص 112 ، رقم (1).

كان مفاد الحديث الشريف ، أعني قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » فإذا أتى دليل على عدم لزوم كلتا الوظيفتين يخصّصه.

فمنها : دعوى المالك للعامل أداء ما عليه من الزكاة ، فيقبل قوله من دون أن يكون عليه حلف أو بيّنة ، لقول عليّ علیه السلام لعامله في خبر غياث : « إذا أتيت على ربّ المال فقل : تصدّق رحمك اللّه ممّا أعطاك اللّه ، فإن ولّى عنك فلا تراجعه » (1). ولغير خبر غياث ممّا يدل على المقام.

ومنها : دعوى الفقير الفقر، فقالوا : إنّها تقبل بلا أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، لخبر عبد الرحمن العزرمي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « قال علیه السلام : « جاء رجل إلى الحسن والحسين علیهماالسلام وهما جالسان على الصفا ، فسألهما فقالا : إنّ الصدقة لا تحلّ إلاّ في دين موجع ، أو غرم مقطع ، أو فقر مدقع ففيك شي ء من هذا؟ قال : نعم ، فأعطياه » (2).

ولمصحّح عامر بن جذاعة : رجل أتى أبا عبد اللّه علیه السلام ، فقال : يا أبا عبد اللّه قرض إلى ميسرة ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إلى غلّة تدرك؟ » قال : لا ، قال علیه السلام : « إلى تجارة تؤب؟ » قال : لا واللّه ، قال علیه السلام : « عقدة تباع؟ » قال : لا واللّه ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « فأنت ممّن جعل اللّه له في أموالنا حقا » فدعا بكيس فيه دراهم (3).

تذييل

لا يخفى أنّ ما قلنا - من سماع دعوى المدّعي الذي لا يمكنه الإشهاد على ما يدّعيه ،

ص: 129


1- « الكافي » ج 3 ، ص 538 ، باب أدب المصدّق ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 90 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 5 ، وص 217 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 55 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 4 ، ص 47 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 145 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 1 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 501 ، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ، ح 14.

وإن شئت قلت : سماع دعوى الذي لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله إنّما يكون فيما إذا لم يظهر المدّعي خلاف ما يدّعيه وما ينافي دعواه ، فلو أقرّ على خلاف ما يدّعيه ، أو كان ظاهر كلامه خلاف ما يدّعيه ، فلا يسمع دعواه ، وإن كان ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.

وذلك من جهة أنّ إقراره أو ظاهر كلامه حجّة عليه فيما إذا كان على ضرره ، فإذا أقرّ بأنّه غنيّ وليس بفقير ، أو أقرّت واعترفت بانقضاء العدّة ، أو كان ظاهر كلامه ذلك ، فلا يسمع دعواه ، لأنّه من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وبإقراره أو ظاهر كلامه علم من قبله بالحجّة ، فدعواه يكون معلوم البطلان شرعا.

فلو قال وادّعى عدم القصد في المعاملة الفلانيّة أو ادّعت عدم القصد في عقد النكاح مثلا ، أو غير ذلك من العقود والإيقاعات ، كالطلاق أو الجعالة مثلا ، فلا تقبل دعواه ، وإن كانت الدعوى ممّا لا يعلم إلاّ من قبله ، أو وإن كانت ممّا يتعذّر الإشهاد عليه ، لأنّ ظاهر كلامه حجّة عليه ، فهو بدعواه هذه يكذب نفسه.

والحاصل : أنّه علم شرعا خلاف ما يدّعيه من قبل نفسه ، فلا يتعذّر الإشهاد فخرج عن موضوع هذا الحكم خروجا تعبديا.

إن قلت : أليس إنّهم يقولون بسماع دعوى الزوج عدم القصد إلى الطلاق حقيقة في الطلاق الرجعي في العدّة ، مع أنّ ظاهر صيغة الطلاق مخالف لهذه الدعوى؟

قلت : هذا من جهة أنّها ما دامت في العدّة له الرجوع ، وليس للمرأة أن يعارضها ، لقوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (1) بل ربما يقال : إنّها ما دامت في العدّة حقيقة زوجة ، فليس هذا المورد من باب المدّعي والمنكر ، بل هذا من حقوق نفسه بدون مقابل يعترض عليه ويلزمه بظاهر كلامه.

نعم لو كانت هذه الدعوى بعد انقضاء العدّة لا يسمع دعوى عدم القصد إلى

ص: 130


1- البقرة (2) : 228.

الطلاق حقيقة ؛ لأنّه يدّعي بذلك على المرأة بقاءها في حبالته ، وهي تنكر وتقول بانقطاع الزوجيّة وبينونتها عنه ، ولا يجري استصحاب بقاء الزوجيّة ، لحكومة ظاهر كلام الزوج - أي إنشاء الطلاق وأنّه مع القصد - على هذا الاستصحاب ، كما هو الشأن في باب تعارض الأمارات والأصول.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 131

ص: 132

30 - قاعدة العقود تابعة للقصود

اشارة

ص: 133

ص: 134

قاعدة العقود تابعة للقصود (1)

ومن القواعد الفقهيّة - المعروفة المشهورة قاعدة « العقود تابعة للقصود » وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الاولى : في بيان المراد منها

فنقول : الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة هو أنّ العقود حيث أنّها من الأمور القلبيّة ، لأنّ العقد كما قال بعض اللغويين هو العهد المؤكّد ، والعهد أمر قلبي وإن كان له مبرز خارجي ، كما إنّهم في عقد البيعة كانوا يظهرونه ، بل ينشؤونه بوضع اليد في يده ، وكان أمارة تعهّده بأنّه سلم لمن سالمه وحرب لمن حاربه.

وفي الحقيقة العقد عبارة عن تعهّد الشخص مع آخر في أمر من الأمور ، سواء أكان ذلك الأمر من الأمور الماليّة كباب المعاوضات ، أو أمرا آخر كما في باب النكاح ، حيث أنّ الزوجة تتعهّد بأن تكون زوجة ، فإذا قبل الزوج تتمّ المعاهدة ويحصل ذلك الأمر في عالم الاعتبار. فتترتّب عليه آثاره ، فنتيجة العقد حصول ما تعاهدا وتعاقدا عليه لأن يترتّب عليه آثاره.

ص: 135


1- « الحق المبين » ج 1 ، ص 18 ، « عوائد الأيّام » ص 52 ، « عناوين الأصول » عنوان 30 ، « خزائن الأحكام » العدد 11 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 9 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 35 ، « القواعد » ص 179 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 369.

ومعلوم أنّ حصول هذا المعنى في عالم الاعتبار - سواء أكان اعتبارا شرعيّا أم كان من اعتبارات العقلاء وأمضاها الشارع ، أو لم يمضها كما في باب بيع الغرر ، فإنّ الشارع نهى عنه وإن كان العقلاء يقدمون عليه ويرتّبون عليه الآثار في بعض مراتب الغرر - لا يمكن إلاّ بأن يكون ذلك المعنى مقصودا للمتكلّم والمنشئ حال إنشائه وعقده بأيّ لفظ كان.

فكما أنّ صلاة الظهر والعصر مثلا لا توجد بصرف قراءة أربع ركعات من دون قصد كونها ظهرا أو عصرا وأمثال ذلك ، فكذلك عناوين المعاملات والمعاوضات لا تقع إلاّ بالقصد والإرادة. مثلا إذا قصد تمليك ماله وكان ذلك المال من الأعيان بعوض مالي فيحصل عنوان البيع ، وإلاّ لو لم يقصد التمليك أصلا ، أو قصد التمليك بلا عوض ، وكان تمليكا مجّانيّا فيكون هبة.

كما أنّه لو قصد تمليك منفعة لذلك العين بعوض يكون إجارة ، إن كانت المنفعة معلومة من حيث نوع المنفعة ومن حيث المدّة وكان العوض أيضا مالا معلوما.

نعم ثمَّ يقع الكلام من جهات آخر ، مثلا من أنّ اللفظ الذي ينشأ به هذا المعنى هل يلزم أن يكون عربيّا أم لا ، بل يقع بأيّ لغة كان ، إلاّ أن يدلّ دليل خارجي على أنّه يلزم أن يكون باللفظ العربي ، كما أنّ المشهور قالوا بذلك في خصوص باب النكاح ، بل ادّعى جماعة عليه الإجماع.

وأيضا هل يلزم أن يكون بصيغة الماضي ، أو يقع وإن كان بصيغة المضارع؟

وكذلك في سائر الشروط التي ذكروها في العقد.

وعلى كلّ حال تحقّق هذه العناوين تابع لقصدها ، وبدون القصد لا تقع ، وليس المراد أنّ كلّ ما يقصده ويريده يقع شرعا ، لأنّ ما قصده إن لم يكن من المعاملات العقلائيّة وأيضا ليس ممّا أحدثه الشارع ، أو كان من المعاملات العقلائيّة ولكن لم

ص: 136

يمضها الشارع ، فجميع ذلك لا يقع شرعا قطعا ، بل المراد أنّ المعاملات العقلائيّة وعقودهم وعهودهم الدائرة فيما بينهم إن أمضاها الشارع ، فلا تقع إلاّ مع قصدها وإرادتها مع تحقّق سائر الشرائط ، من شرائط العقد ، ومن شرائط المتعاقدين ، ومن شرائط العوضين إن كانت المعاملة من المعاوضات.

هذا بالنسبة إلى نفس العناوين ، وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّات المعاملة ، ككون الثمن من نقد البلد ، أو من نقد خاصّ ، وإن لم يكن من نقد البلد ، أو وإن كان من أيّ نقد من النقود ، أو وإن كان من العروض ، فجميع ذلك تابع لإرادة المتعاقدين وقصدهم ، وكذلك الشرائط الضمنيّة ككون الثمن مساويا مع المبيع في البيع وغيره من الشرائط الضمنيّة ، غاية الأمر الدليل على القصد والإرادة في عالم الإثبات قد يكون بتصريح من الطرفين أو من أحدهما ، وقد يكون بالإطلاق ، وقد يكون بالانصراف.

وإلاّ ففي عالم الثبوت لا مناص إلاّ من إرادة هذه الخصوصيّات ، إذ بدون القصد والإرادة لا توجد ولا تتحقّق.

والسرّ في ذلك هو ما ذكرنا : من أنّ العقد هو العهد المؤكّد ، والعهد بدون قصد ما يتعاهد عليه لا يمكن ، وفي الحقيقة العقد - كما قلنا - ليس من باب الألفاظ ، بل من الأمور القلبيّة التي قد تسمّى بعقد القلب ، وإطلاقه على ألفاظ القبول والإيجاب مجاز ، من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمدلول على الدالّ ، أو من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمسبب على السبب ، وإن كان في تسمية المنشأ بتلك الألفاظ بالمسبب وتسمية تلك الألفاظ بالسبب مسامحة ، وذلك من جهة أنّ سبب المنشأ هو العاقد لا ألفاظ العقد ، أي ألفاظ القبول والإيجاب ، بل تسميتها بآلة الإنشاء أولى.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ القصد والإرادة له تمام المدخليّة في تحقّق العقود والمعاهدات وتحقّق خصوصيّاتها ، ولا معنى لتحقّق المعاهدة أو العهد بدون أن يقصد المعهود ، وكذلك ما تعاهدا عليه ، ولذلك أشكلنا على القائلين بالإباحة في بيع المعاطاة ،

ص: 137

وأنّه لا يمكن حصول الإباحة المجرّدة عن الملكيّة مع عدم قصد المتعاطيين لها ، لأنّ كلّ واحد من المتعاطيين يقصد تمليك ما يعطيه للآخر ، فكيف تقول لا يقع ما قصداه ويقع شي ء آخر لم يقصداه؟ وهل هذا إلاّ أنّ ما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد ، وكأنّ هذه الكبرى بطلانها ضروري وجداني ، ومرجعه إلى أنّ الأمور القصديّة - كالتعظيم والتوهين والعقود - وقوعها وحصولها في وعائها ، سواء أكان عالم العين أو عالم الاعتبار ، تابع لقصدها.

كما قلنا في صلاة الظهر والعصر مثلا إنّهما لا تقعان ولا تحصلان في عالم العين إلاّ بقصد عنوانهما ولو كان بصورة إجماليّة ، فوقوع الأمر القصدي بدون القصد ولو إجمالا لا يمكن.

ولا شكّ في أنّ العقود من الأمور القصديّة ، ولذلك لا تقع من الغالط والهازل والسكران والنائم والغافل وأمثال ذلك ، وهذا معنى بطلان إحدى الجملتين من قولهم : إنّ ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع ، أي الجملة الأولى منه.

وأمّا الجملة الثانية - أي ما قصد لم يقع - فبطلانها مبنيّ على أن يكون متعلّق القصد من العقود أو الإيقاعات التي شرّعها الشارع إحداثا إن كانت ، أو إمضاء كما هو الغالب والأكثر إن لم يكن الجميع ، ويكون واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المقرّرة شرعا لذلك العقد أو لذلك الإيقاع ، وإلاّ يمكن أن يقصد ولا يقع لفقد شرط أو لوجود مانع.

كما أنّه لو قصد الطلاق حقيقة وواقعا ولكن لم يكن في طهر غير المواقعة في حال حضور الزوج وعدم كونه مسافرا ، أو لم يكن بحضور شاهدين عدلين ، فلا يقع الطلاق. فمعنى أنّ العقود تابعة للقصود ، أي لا يقع العقد بغير قصد مضمونه وخصوصيّاته ، لا أنّ كلّ ما قصده يقع وإن لم يكن واجدا للشرائط المعتبرة في ذلك العقد أو في ذلك الإيقاع.

ص: 138

ثمَّ لا يخفى أنّ الشرائط الضمنيّة - التي يوجب تخلّفها الخيار - كلّها ممّا تعلّق القصد بها ، فلا يتوهّم أحد حصولها بدون القصد ، مثلا من جملة الشرائط الضمنيّة التي يوجب تخلّفها الخيار هو تساوي الثمن والمثمن بحسب القيمة السوقيّة ، إلاّ فيما إذا كان التفاوت بمقدار يتسامح العرف فيها ولا يكون فاحشا.

ولا شكّ في أنّ البائع والمشتري إنّما يقدمان على المعاملة الكذائيّة باعتقاد أنّ في هذه المعاملة لا يرد خسارة على كلّ واحد منهما ، ولذلك لو علم البائع بأنّ المبيع يساوي أكثر من الثمن المذكور في المعاملة بمقدار لا يتسامح فيه يترك المعاملة ، إلاّ أن يكون له غرض آخر ، وهو خارج عن المفروض.

وكذلك المشتري لو علم بأنّ المبيع لا يساوي هذا الثمن يترك المعاملة ولا يشتري ، فالمتعاملان قصدهما المعاملة بين المالين المتساويين من حيث الماليّة والقيمة السوقيّة ، وإنّما المبادلة تكون لأغراض أخر من احتياج المشتري إلى المبيع لقضاء إحدى حوائجه من المأكل والملبس والمسكن وغير ذلك ، والبائع لتحصيل النفع بالنسبة إلى شرائه الأوّل وإمرار كسبه ، وإلاّ ليس غرضهما من هذه المعاملة أن يخدع كلّ واحد منهما طرفه الآخر.

فهذا الذي نسميه بالشرط الضمني ، الذي هو عبارة عن تساوي العوضين من حيث القيمة السوقيّة ، يكون مقصودا لهما من أوّل الأمر ، وإلاّ فكيف يمكن أن يقع في باب المعاملات من العقود والإيقاعات من دون قصد المنشئ وإرادته ورغما عليه.

وأمّا مسألة كون ضمان المبيع على البائع قبل قبض المشتري وعلى من ليس له الخيار في زمن خيار الأخر ، فإن قلنا بأنّه تعبدي - ومن جهة الروايات الواردة في هاتين المسألتين - فأجنبيّ عن هذه القاعدة ولا إشكال في البين أصلا.

وإن قلنا : أنّ الضمان في كلا الموردين يكون من باب اقتضاء القاعدة ، فربما

ص: 139

يستشكل به على هذه القاعدة بأنّ الضمان في كلا الموردين لم يكن ممّا قصده المتعاملان ، فكيف صار الضمان على البائع لو وقع التلف قبل القبض ، أو لمن ليس له الخيار في زمن خيار الآخر؟

ولكن فيه ما ذكرنا هناك من بناء العرف والعقلاء على أنّ إنشاء العقود المعاوضيّة ، والمبادلة في عالم الاعتبار والتشريع لأجل الأخذ والإعطاء الخارجي ، بحيث لو لم يكن العوضان قابلين للأخذ والإعطاء خارجا ، تكون المعاملة والمبادلة في عالم التشريع لغوا وسفهيّا وعملا غير عقلائي ، فقابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مأخوذة في حقيقة المعاملة والمعاوضة حدوثا وبقاء.

فإذا خرج عن هذه القابليّة بواسطة التلف يكون بقاء المعاملة لغوا بنظر العرف والعقلاء ، فتنحلّ عندهم ، ولذلك ليس المراد بالضمان هو الضمان الواقعي ، بل المراد انحلال العقد آنا مّا قبل التلف ورجوع كلّ واحد من العوضين إلى مالكه الأوّل ، فلا نقض على هذه القاعدة ، لأنّ بقاء المعاملة منوطا ببقاء قابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مقصود من أوّل الأمر ، فالقصد تعلّق بانحلال العقد حين ذهاب تلك القابلية.

هذا بالنسبة إلى قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ».

وأمّا المسألة الثانية ، أي : « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » فلمّا ذكرنا في تلك القاعدة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب من أنّ التلف بمنزلة الفسخ ، من جهة أنّ العقلاء يرون في موارد ثبوت الخيار أنّ حكمة جعل الخيار أنّ ذا الخيار يتأمّل وينظر في أنّه هل إبقاء هذه المعاملة من صلاحه أم لا ، بل حلّه وفسخه أصلح بحاله؟ فإذا وقع التلف على الذي انتقل إلى ذي الخيار ، فلا يبقى مجال للنظر والتأمل ، بل يكون التلف بمنزلة الفسخ ، فقهرا ينحلّ العقد ، فهذا المعنى مقصود للمتعاملين ويقع جميع ذلك على طبق قصد المتعاقدين.

ص: 140

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعدة

وهوأمور :

الأوّل : الإجماع من جميع الفقهاء على أنّ العقود تابعة للقصود ، حتّى إنّهم يجعلونها كبرى كليّة مفروغا عنها في مقام الاستدلال على اعتبار القصد في العقود ، وأنّها لا تقع إلاّ على نحو ما قصد ، ولذلك قلنا في المعاطاة كيف يمكن أن تكون مفيدة للإباحة المجرّدة عن الملكيّة مع أنّ الإباحة المجرّدة ليست ممّا قصدها المتعاملان ، والذي قصدا بالتعاطي الخارجي هي الملكيّة ، فلا بدّ إمّا من كونها مفيدة للملكيّة - إن أمضاها الشارع - وإمّا من بطلانها وعدم إفادتها شيئا لا الملكيّة ولا الإباحة لعدم إمضائه لها.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الجملة كبرى كلّية مسلّمة عندهم بحيث لا ينكرها أحد منهم ، وهذا الاتّفاق والمسلّميّة عندهم من غير نكير من أحد منهم يكون دليلا قطعيّا على تلقّيهم هذه القضيّة من الإمام علیه السلام .

ولكن أنت خبير بأنّ هذه القضيّة ليست تعبّدية ، بل حكم وجدانيّ عقليّ ، وهو أنّ العقود والعهود تابعة لقصد المتعاقدين والمتعاهدين بعد الفراغ عن تشريع ذلك العقد ، وإلاّ لو لم يكن ممضى من قبل الشارع الأقدس لا توجد نتيجة ذلك العقد والمعاهدة في عالم التشريع ، سواء قصدا أو لم يقصدا ، فالقصد يؤثّر في وجود ما قصد بعد كون تلك المعاملة مشروعة من قبل الشارع الأقدس ، وإلاّ فالمعاملات الفاسدة في نظر الشارع الأقدس لا أثر للقصد وعدمه فيها ، لعدم كونها مؤثّرة على كلّ حال.

وخلاصة الكلام : أنّ ادّعاء الإجماع التعبّدي في مثل هذه المسألة الوجدانيّة لا يخلو عن غرابة.

الثاني : أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو عدم ترتّب الأثر على كلّ عقد وعهد

ص: 141

ومعاملة ، وأيضا على كلّ إيقاع ، ولعلّ هذا هو المراد من قولهم : إنّ الأصل في المعاملات الفساد ، ولا مخرج عن هذا الأصل إلاّ أن يأتي دليل على الصحّة وترتيب الأثر.

فيقال : إنّ العقود والمعاملات المشروعة - وكذا الإيقاعات المشروعة - إذا كانت متعلّقة للقصد والإرادة ، بمعنى أنّ الآثار المترتّبة على ذلك العقد شرعا كانت مقصودة للعاقد ، وقبول الطرف بذلك النهج ، فالدليل الدالّ على صحّة ذلك العقد وتلك المعاملة يدلّ على لزوم ترتيب تلك الآثار.

وأمّا لو لم تكن مقصودة فيشكّ في لزوم ترتيب تلك الآثار ، فمقتضى الأصل عدم لزوم ترتيب تلك الآثار ، بل عدم جوازه.

وفيه : أنّ القصد والإرادة إن كان دخيلا في تحقّق عنوان تلك المعاملة ، فلا يشمله دليل الإمضاء ، وذلك لعدم تحقّق موضوعه ، وهذا من أوضح الواضحات ، ولا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه. وإن لم يكن دخيلا فيه فأدلّة الإمضاء تشمله ، ويجب ترتيب الأثر على ذلك العقد أو الإيقاع ، سواء قصد أو لم يقصد.

الثالث : أنّ العقد الذي هو عبارة عن العهد المؤكّد - كما ذكره اللغويّون - من الأمور القلبيّة ، والصيغة بأيّ لفظ كان آلة لإنشاء ذلك المعنى القلبي في عالم الاعتبار ، مثلا عقد النكاح عبارة عن أنّ المرأة تتعهّد في قلبها أن تكون زوجة لفلان بمهر كذا وبشرط كذا ، إن كان لها في هذا الأمر شرط أو شروط ، ثمَّ هي أو وكيلها تنشأ ذلك الأمر القلبي - أي كونها زوجة لفلان بمهر كذا وشرط كذا - في عالم الاعتبار بأيّ لفظ كان ، أو بألفاظ مخصوصة حسب الجعل الشرعي ، وأنّه اعتبر لفظ خاصّ أو بلغة مخصوصة كما ادّعى الإجماع في عقد النكاح أنّه يجب أن يكون باللغة العربيّة.

فإذا كان الأمر كذلك فيتّضح وجه كون العقود تابعة للقصود ، لأنّه لو كان المراد من العقد في هذه الجملة هو ذلك الأمر القلبي - كما عرّفه اللغويّون بأنّه العهد المؤكّد - فهو عين القصد المتعلّق بأمر ، كزوجيّتها لفلان ، أو ملكيّة ماله الفلاني لفلان بعوض

ص: 142

كذا أو مجّانا.

وبعبارة أخرى : حقيقة العقد عبارة عن الالتزام بأمر لشخص أو أشخاص إمّا في مقابل أمر وشي ء من طرفه ، أو بدون مقابل ، كعقد البيعة أو عقد الهبة ، وهذا المعنى هو عين القصد المتعلّق بذلك الأمر. وبناء على هذا يكون المراد من هذه القضيّة - أي العقود تابعة للقصود - أعني : التعهّد بأمر مع الخصوصيّات المعتبرة شرعا أو عرفا في ذلك الأمر تابعة لقصده المتعلّق بذلك الأمر حال الإنشاء ، فإن لم يقصد خصوصيّة من قيد أو شرط حال الإنشاء ، فليس عقده متخصّصا بتلك الخصوصية ، ولا مشروطا بذلك الشرط.

ونتيجة ذلك عدم تحقّق التزامه وتعهّده بذلك الشي ء الذي لم يقصده ، ودليل صحة العقد أو وجوب الوفاء بالعقود لا يشمل تلك الخصوصية ، لأنّ مفاد هذا الدليل هو وجوب الوفاء بما عقد عليه وتعهّد به ، والمفروض أنّ هذه الخصوصيّة ليست ممّا تعلّق به قصده ، أي ليست ممّا تعهّد والتزم به.

وإن شئت قلت : إنّ دليل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) أو « المؤمنون عند شروطهم » (2) مفادهما هو وجوب العمل بما التزم به تكليفا ، أو نفوذ ما التزم به عليه وضعا ، وعلى أيّ واحد من الوجهين لا يبقى موضوع لهما بعد عدم قصد العاقد لتلك الخصوصيّة ، لا مستقلا ولا في ضمن العقد.

وأمّا لو كان المراد من العقد في هذه القضيّة هو الإيجاب والقبول ، كما أنّهم يطلقون هذه الكلمة عليهما ، فيقولون مثلا لكلمة « بعت » من البائع و « اشتريت » - أو « قبلت » من المشتري عقد البيع ، فلا بدّ أن يكون المراد حينئذ بالعقد المعنى المنشئ بهذه الألفاظ ، أي تمليك المبيع للمشتري ، وتملك الثمن للبائع ، فيكون المراد من هذه القضية -

ص: 143


1- المائدة (5) : 1.
2- « عوالي اللئالى » ج 3 ، ص 217 ، ح 77 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 310 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 7.

بناء على هذا المعنى - أنّ وقوع البيع مثلا - أي : التمليك والتملك المذكورين - تابع لقصد البائع والمشتري.

وهكذا الأمر في سائر العقود والمعاملات ، لعدم كون نفس هذه الألفاظ تابعة للقصود يقينا إلاّ بمعنى آخر غير مربوط بما نحن فيه ، وهو تبعيّة الوجود اللفظي للوجود الذهني ، فكان المتكلّم بكلام يجعل ما هو موجودا ذهنيّا موجودا خارجيّا لفظيّا ، فيكون المراد أنّ ما قصده يقع وما لم يقصده لم يقع.

وهذا أيضا يرجع إلى أنّ مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وأدلّة صحّة المعاملات - مثل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) وقوله تعالى ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) وقوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (3) وأمثال ذلك من الأدلّة على صحّة المعاملات ومشروعيّتها - هو وقوع المنشئات شرعا ولزوم ترتيب آثارها عليها طبق قصد المتعاقدين والتزامها ، فلو قصدا صرف هذه الأمور من دون ملاحظة خصوصيّة فيها - من قيد أو شرط - تقع نفس هذه الأمور من دون أيّ خصوصيّة فيها.

وأمّا لو قصدا مع خصوصيّة من قيد أو شرط تقع بتلك الخصوصيّة. نعم إثبات أنّ قصدهما أو أحدهما تعلّق بالمعاملة الفلانيّة بتلك الخصوصيّة يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، من تقييد الألفاظ التي تستعمل في مقام الإنشاء أو انصرافها ، وإلاّ ففي مقام الإثبات يتمسّك بإطلاق العقد لنفي الخصوصيّة المحتملة.

وربما يثبت بإطلاق العقد خصوصيّة في الثمن أو المثمن ، وذلك فيما إذا كان عدم تلك الخصوصيّة يحتاج إلى البيان ، وذلك كانصراف الثمن إلى نقد البلد ، فلو كان الدرهم أو الدينار في البلد غير الدرهم والدينار في غير البلد ، سواء أكان من حيث

ص: 144


1- البقرة (2) : 275.
2- النساء (4) : 128.
3- البقرة (2) : 283.

الوزن أو كان من حيث الجودة والرداءة من جهة كونهما مغشوشين وغير مغشوشين ، فينصرف إلى ما في البلد ، ولو كان المراد غيرهما يحتاج إلى البيان ، وهكذا في ناحية المثمن ، فلو كان وزن الحقّة أو الصاع أو الرطل في البلدان الأخر غير ما في البلد ، فالإطلاق يثبت به وزن البلد ، وكلّ ذلك لأنّ غير ما في البلد لو كان مرادا يحتاج إلى البيان.

وحاصل ما ذكرنا : أنّ وقوع المسبّب والمنشأ في عالم الاعتبار التشريعي تابع لما قصده المتعاقدان في الإطلاق والتقييد والاشتراط وعدمه ، وكذلك بالنسبة إلى جميع الخصوصيّات المحتملة.

ثمَّ إنّه قد يستدلّ لهذه القاعدة بأمور لا ينبغي أن يذكر أو يسطر ، كقوله علیه السلام : « إنّما الأعمال بالنيات » (1) ، وقوله علیه السلام : « لكلّ امرء ما نوى » (2).

فعدم التعرّض لها أولى.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

وقبل التكلّم فيها يجب التنبيه على أمور :

الأوّل : هو أنّ تبعيّة العقود للقصود أمر واقعي وفي مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فيؤخذ بظواهر الألفاظ ، ولا يسمع ادّعاء إرادة خلاف ظواهر الألفاظ التي استعملها في مقام الإنشاء من إطلاق أو تقييد ، أو تجوّز أو إضمار أو حذف ،

ص: 145


1- « الأمالي » للطوسي ، ج 2 ، ص 231 ، « مصباح الشريعة » ص 39 ، « دعائم الإسلام » ج 1 ، ص 156 ، « بحار الأنوار » ج 70 ، ص 210 ، ح 32 و 38 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 34 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 5 ، ح 10.
2- « الأمالي » للطوسي ، ج 2 ، ص 231 ، « مصباح الشريعة » ص 39 ، « دعائم الإسلام » ج 1 ، ص 156 ، « بحار الأنوار » ج 70 ، ص 210 ، ح 32 و 38 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 34 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 5 ، ح 10.

وأمثال ذلك.

الثاني : أنّ صرف الإرادة والقصد لا أثر لهما ما لم يكن على طبقهما إنشاء وذلك من جهة أنّه من أوضح الواضحات أنّ إرادة تمليك ماله لزيد مثلا بعوض أو بلا عوض لا يلزمه بشي ء ، لأنّ الذي يجب هو الوفاء بالعقد ، وصرف الإرادة والقصد ليس بعقد وإن قلنا إنّ العقد هو العهد المؤكّد وأنّه أمر قلبي ، ولكن لا يسمّى بالعقد إلاّ بعد وجود مبرز لذلك التعهّد القلبي ، كالإنشاء باللفظ أو بالكتابة ، أو وضع اليد على اليد كما في البيعة وأحيانا في بعض المعاملات كالبيع ، ولذلك يسمّونه بالصفقة ، فالعقد هو العهد المبرز بأحد هذه الأمور ، أو بغيرها ممّا تعارف بينهم.

الثالث : أنّ الأحكام والآثار المترتّبة على المنشأ شرعا ليست تابعة لقصدها ، بل تترتّب عليه ولو قصد عدمها ، فإذا زوّجت نفسها من شخص ، يجب عليها التمكين وإن قصدت عدمها ، وكذلك الزوج يجب عليها نفقتها وإن قصد عدمها حال القبول.

وأمّا لو اشترطا - أو أحدهما - مثل هذه الشروط في متن العقد ، فينظر هل إنّ هذا الشرط من الشروط الصحيحة أو من الفاسدة؟ فإن كان من الصحيحة يجب العمل به ، وإن كان من الفاسدة ، فيدخل في مسألة أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟ وعدم تبعيّة هذه الأمور من جهة أنّها أحكام شرعيّة موضوعها تحقّق المنشأ ، وليست هي من المعاهدات لا مستقلا ولا أنّها من أجزائها ، فلا يصحّ النقض على هذه القاعدة بلزوم ترتّب هذه الآثار وإن لم يقصدها المتعاقدان.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض الخيارات ، فإنّها تثبت مع عدم قصد المتعاقدين ، مثلا خيار الحيوان حكم شرعي مترتّب على المعاملة التي تكون أحد العوضين فيها حيوانا ، أو في خصوص ما إذا كان المبيع حيوانا - على القولين في المسألة - وإن لم يقصد الخيار لطرفه من انتقل عنه الحيوان.

الرابع : أنّ صحّة عقد المكره على تقدير لحوقه الرضا ليس نقضا على هذه

ص: 146

القاعدة ، وذلك من جهة أنّ المكره قاصد للمعنى ، وتمليك داره لزيد مثلا بعد إكراهه على بيعها منه ، والذي يكون عقد المكره فاقدا له هو طيب نفسه بهذه المعاملة ، لا أنّها ليست مقصودة له.

نعم ذكر العلاّمة (1) والشهيدان (2) 5 أنّ المكره قاصد إلى اللفظ لا إلى المعنى ، لكن الظاهر أنّ المكره ليس كذلك ، بل المكره يقصد اللفظ فانيا في المعنى ، وهذا هو معنى استعمال اللفظ ، غاية الأمر يكون هذا الاستعمال ناشئا عن الإكراه لا عن طيب النفس ، بل لدفع الضرر المتوعّد عليه ، فليس من قبيل الغالط والهازل.

أما الغالط فيريد شيئا ، ويستعمل لفظا آخر الذي يفيد معنى آخر غير ما أراد غلطا ، وأمّا الهازل وإن كان يستعمل اللفظ في معناه ، ولكن ليس قصده وقوع مضمون العقد في عالم الاعتبار التشريعي ، بل ينشأ بداعي الهزل والمزاح ، مثل التعارف وأنّه إذا يطلب منه أن ينزل عليه ضيفا وقصده من هذا الطلب ليس واقعا وحقيقة أنّه ينزل عليه ويكون ضيفا عنده ، بل صرف إنشاء بداعي التعارف وإظهار مودّته واحترامه له ، بخلاف ما إذا كان مكرها على هذا الطلب ، كما إذا أوعده المكره بضرر لو لم يضفه ، فلو طلب المكره - بالفتح - في هذه الصورة أن ينزل عليه ضيفا ، يكون طلبه طلبا حقيقيّا غاية الأمر أنّه ليس عن طيب النفس ، بل يكون للتخلّص عن الضرر المتوعّد عليه.

فإذا كان الأمر كذلك ، ففي عقد المكره جميع ما يعتبر في صحّة العقد موجود عدا طيب النفس ، فإذا لحقه الرضا وحصل طيب النفس يتمّ جميع الشرائط ويؤثّر أثره ، ولا يكون نقضا على هذه القاعدة أصلا.

إذا عرفت هذه الأمور فنقول : إنّه إن قصد خصوصيّة في أحد العوضين أو في

ص: 147


1- « نهاية الأحكام » ج 2 ، ص 456.
2- « الدروس » ج 3 ، ص 192 ، « المسالك » ج 3 ، ص 156 ، « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 126.

كليهما ، أو في أحد المتعاقدين أو في كليهما ، ولم يكن طبقها إنشاء ، أو أنشأ أمرا ولم يتعلّق به قصد ، فذلك لا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي ، بل لا بدّ من اجتماع كلا الأمرين : القصد والإنشاء بعد الفراغ عن مشروعيّتها.

فمن الموارد الواضحة لهذه القاعدة ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في بيع المعاطاة - قبال قول القائلين بالإباحة - : أنّه لا شبهة في أنّ المتعاملين لم يقصدا الإباحة المجرّدة ، وإنّما قصدهما تمليك العوضين ، كلّ واحد منهما ما هو ملكه للآخر عوض ما يتملكه منه ، فكيف يمكن أن لا يقع ما قصداه ويقع ما لم يقصداه؟ (1)

وما قيل في توجيه هذا الأمر - أي : تحقّق الإباحة بالتعاطي الخارجي ، مع قصد المتعاملين تمليك ماله للآخر بعوض تملّك مال ذلك الآخر - من أنّ هذه الدعوى مركّبة من أمرين :

أحدهما : عدم حصول الملك لكلّ واحد منهما لما أخذه بالمعاطاة.

ثانيهما : حصول إباحة جميع التصرّفات فيما أخذه حتّى التصرّفات المتوقّفة على الملك.

أمّا الأوّل - أي : عدم حصول الملك لكلّ واحد منهما وإن قصداه - فلأنّ صرف قصد التمليك ليس من الأسباب الملكيّة ، بل لا بدّ من إنشائه في عالم الاعتبار بلفظ يكون ظاهرا في التمليك ، وليس صرف الإعطاء والأخذ سببا للتمليك والتملّك.

وبعبارة أخرى : يكون داخلا تحت أحد عناوين الملكيّة ، من بيع أو صلح أو هبة أو غير ذلك.

وأمّا الثاني - أي : حصول الإباحة مع عدم قصدهما لها - فلأنّ الإباحة المجرّدة عن الملكيّة من العناوين الثانويّة التي تترتّب على الفعل الصادر عنه بعنوانه الأوّليّ

ص: 148


1- « المكاسب » ص 85.

قهرا وإن لم يقصدها ، بل وإن قصد خلافها وعدمها ، وذلك كما قيل في مسألة الرجوع إلى المرأة المطلّقة رجعيّة إنّ الزوج لو وطأها في أيّام عدّتها يحصل الرجوع قهرا وإن لم يقصده ، بل وإن قصد عدم الرجوع. كما إذا قصد بذلك الوطي الزناء لا الرجوع ، فالرجوع الذي هو عنوان ثانوي للوطئ يترتّب عليه قهرا وإن قصد به الزناء.

أقول : وكلا التوجيهين باطل :

أمّا الأوّل : فلأنّ المعاطاة - أي : الإعطاء بقصد كونه عوضا عمّا يعطيه الآخر - بيع عرفا ، بل البيع عند العرف غالبا بهذا الشكل - أي بالتعاطي - لا بالصيغة والقول ، فيكون من الأسباب المملكة.

وأمّا الثاني - أي : كون الإباحة من العناوين الثانويّة التي تترتّب على العنوان الأوّلي قهرا ، بمعنى أنّ تسليط المالك غيره على ماله بإعطائه له تترتّب عليه الإباحة قهرا وإن لم يقصدها ، بل وإن قصد عدمها - دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، خصوصا فيما إذا كان التسليط بعنوان كونه عوضا عن المسمّى.

نعم لو كان التسليط على ماله مجّانا وبلا عوض ، لكان من الممكن أنّ يترتّب عليه الإباحة قهرا ، فقياس المقام على وطئ المطلقة رجعيّة - في حصول الرجوع قهرا وإن قصد بذلك الوطي الزنا - في غير محلّه ، مع كلام في أصل المقيس عليه ، وأنّه - أي : الرجوع - هل هو من العناوين القصديّة التي لا تحصل إلاّ مع قصدها ، أم من العناوين غير القصديّة التي تحصل مع عدم قصدها ، بل وحتّى مع قصد عدمها كالايلام بالنسبة إلى الضرب الشديد الموجع؟

وعلى كلّ حال ليس المقام مقام تحقيق مسألة المعاطاة ، وكفى في عدم كون مطلق تسليط المالك غيره على ماله مفيدا للإباحة المجرّدة ، اتّفاقهم على أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب.

نعم هاهنا يرد إشكال آخر ، وهو أنّ القول بحصول الإباحة مع قصدهما التمليك

ص: 149

دون الإباحة ليس من موارد نقض هذه القاعدة ، كي يقال بهذه القاعدة بحصول الملكيّة لكلّ واحد من المتعاطيين ، ولا يلزم عدم تبعيّة العقود للقصود ، وذلك من جهة أنّ المعاطاة ليست بعقد ، لأنّ صرف الأخذ والإعطاء - وإن كان بقصد كونه ملكا للآخر عوض تملّكه من الآخر ما يعطيه ، أي ما سمّياه حين المبادلة بينهما - ليس عقدا عند العرف والعقلاء ، بل العقلاء والعرف لا يطلقون العقد إلاّ على التعهّد على أمر يكون لذلك التعهّد والالتزام القلبي مبرزا من لفظ يكون صريحا في إنشاء ذلك العنوان المعاملي.

ولذلك يقولون لألفاظ الإيجاب والقبول - التي ينشأ بها تمليك عين بعوض مالي - عقد البيع ، وهكذا الأمر في سائر المعاملات ، كعقد الإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وغيرها ، أو كتابة بناء على صدق العقد بالكتابة ، أو بالصفقة أو بوضع اليد في يده كما في عقد البيعة.

وأمّا الأخذ والإعطاء خارجا فليس من هذا القبيل ، لأنّه يمكن أن يكون بدون الالتزام والتعهّد بأن يكون ملكا للآخر عوض تملّكه عنه.

ومن موارد هذه القاعدة هو أنّه لو نسي ذكر الأجل والمدّة في عقد الانقطاع ، فقد يقال ببطلان ذلك العقد ، وقال بعض آخر : بأنّه ينقلب دائما ، فيستشكل عليهم بأنّ العقود تابعة للقصود ، فكيف يمكن أن يقع الدوام الذي لم يكن مقصودا ولا يقع ما هو المقصود وهو المتعة والانقطاع؟ فمقتضى هذه القاعدة هو بطلان هذا العقد ، أي عقد الانقطاع والمتعة الذي نسي فيه ذكر الأجل.

وذلك من جهة أنّ الدوام غير مقصود ، فلا يقع ؛ لأنّ العقود تابعة للقصود ، وأمّا الانقطاع وإن كان مقصودا ولكن قد عرفت أنّ صرف القصد لا يترتّب عليه أثر وثمرة ما لم يبلغ إلى مرتبة الإنشاء ، فيحتاج إلى اجتماع أمرين : القصد والإنشاء على طبقه ، وكلّ واحد منهما منفردا لا أثر له.

ص: 150

ونتيجة هذا عدم وقوع كليهما ، أي عدم وقوع الدوام والانقطاع جميعا ، لنقصان كلّ واحد منهما من جهة ، وعدم اجتماع الأمرين في كلّ واحد منهما. أمّا الانقطاع لعدم بلوغه إلى مرتبة الإنشاء لعدم ذكر الأجل لنسيانه ، وأمّا الدوام فلعدم كونه مقصودا.

وإن شئت قلت : إنّ المقصود هو المتعة والمنشأ هو الدوام ، فما هو المقصود ليس بمنشإ ، وما هو المنشأ ليس بمقصود ، ومع ذلك فالمشهور يقولون بأنّه ينعقد دائما ، بل ادّعى بعضهم عليه الإجماع.

ويمكن توجيه كلامهم بحيث لا يكون مخالفا لهذه القاعدة ، بأن يقال : إنّ المتعة والدوام ليستا من نوعين وحقيقتين مختلفتين ، بل كلاهما عبارة عن العلاقة الخاصّة ، والارتباط المخصوص بين الرجل والمرأة في عالم الاعتبار التشريعي يعبّر عنها بالزوجيّة ، والزوجيّة من الأحكام الوضعيّة التي جعلها الشارع في عالم الاعتبار التشريعي مثل الطهارة والنجاسة ، وهي من الاعتبارات القابلة للجعل ابتداء واستقلالا.

فكما أنّ للطهارة والنجاسة موضوعات في الشرع ، كذلك للزوجيّة أيضا موضوعات ، والحكم الكلّي المجعول من قبل الشارع وهو أنّ كلّ امرأة خلية إذا زوّجت نفسها بنفسها ، أو بتوسّط وكيلها ، أو وليّها بالشرائط المقرّرة شرعا - أي شرائط العقد من حيث المادّة والصورة ، وشرائط المتعاقدين أي الزوج والزوجة والمهر ، والأجل إن كان عقد الانقطاع - فهي زوجة ، سواء أكانت زوجيّتها دائمة أو موقّتة ، وهي المتعة.

فلا فرق في الزوجيّة بين أن تكون دائمة أو منقطعة ، والزوجيّة بعد اعتبارها لا ترفع إلاّ برافع ، وإلاّ فهي بحسب نفسها ليس لها أمد ونهاية.

نعم هي كسائر الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الشرعيّة تنتفي وتنعدم بانعدام موضوعها أو بتعيين الأجل والأمد لها من أوّل جعلها ، فالزوجيّة الدائمة ليست إلاّ

ص: 151

إنشاء نفس الزوجيّة من دون احتياجها إلى شي ء آخر ، وليست حقيقتها مركّبة من هذا الاعتبار وعدم ذكر الأجل ، بمعنى أنّها ليست بشرط لا ، كي تكون مركّبة من أمر وجودي وأمر عدمي ، أي العلاقة والارتباط الاعتباري وعدم كونها موقّتة ، كما توهّم هذا التركيب في الوجوب.

فقالوا بأنّه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك ، وبيّنّا خطأهم في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وقلنا إنّ الوجوب عبارة عن نفس طلب الشي ء من دون أيّ قيد عدمي أو وجودي آخر ، غاية الأمر بعد طلب الشي ء إذا صدر إجازة الترك من الشارع فيقال : إنّه مستحب ، وإلاّ فطبع نفس الطلب يقتضي الوجوب وعدم جواز الترك بحكم العقل بلزوم إطاعة المولى ، فلا يحتاج الوجوب إلى مئونة زائدة على نفس الطلب ، والذي يحتاج إلى مئونة زائدة هو الاستحباب.

ولذلك قلنا في الأصول إنّ إطلاق الصيغة يقتضي الوجوب ، وإلاّ لو كان راضيا بالترك كان عليه البيان ، وما نحن فيه من ذلك القبيل عينا ، أي : الزوجيّة الدائميّة لا تحتاج إلاّ الى إنشائها من قبل من له أهليّة ذلك ، من دون احتياجها إلى مئونة زائدة على ذلك ، من قيد عدم كونها موقّتة ، بخلاف الزوجيّة الموقّتة التي يقال لها المتعة والمنقطعة ، فإنّها تحتاج إلى ذكر الأجل ، فإذا لم يذكر الأجل لم تقع الزوجيّة الموقّتة في مقام الإنشاء ، وإرادتها بدون الإنشاء قلنا إنّها لا أثر لها.

فعدم وقوع الزوجيّة الموقّتة يكون مقتضى القاعدة ، وأمّا وقوع الدائمة فلأنّه قصد الزوجيّة على الفرض ، غاية الأمر كان له قصد آخر ، وهو أن تكون موقّتة لكن إنشاء وقع على طبق أحد القصدين ، أي قصده لأصل الزوجيّة ، دون قصده الآخر أي كونها موقّتة ، فذلك القصد الآخر الذي لم يقع الإنشاء على طبقه يبقى لغوا وبلا أثر أصلا.

فليس فتوى المشهور بحصول الزوجيّة الدائمة مخالفا لهذه القاعدة. وإن شئت

ص: 152


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 112.

قلت : إنّ إطلاق عقد النكاح يقتضي كون الزوجيّة المنشأة دائميّة.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات في هذه المسألة لعلّها تكون مستندهم في هذه الفتوى :

منها : ما رواه ابن بكير قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام في حديث : « إن سمّي الأجل فهو متعة ، وإن لم يسمّ الأجل فهو نكاح بات » (1).

ومنها : ما رواه أبان بن تغلب في حديث صيغة المتعة أنّه قال لأبي عبد اللّه علیه السلام : فإنّي أستحي أن أذكر شرط الأيّام ، قال علیه السلام : « هو أضرّ عليك » قلت : وكيف؟ قال علیه السلام : « لأنّك إن لم تشرط كان تزويج مقام ولزمتك النفقة في العدّة ، وكانت وارثا ، ولم تقدر على أن تطلّقها إلاّ طلاق السنّة » (2).

ومنها : أيضا ما رواه في التهذيب عن الكافي مثله (3).

ومنها : ما رواه هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أتزوّج المرأة متعة مرّة مبهمة؟ قال : فقال علیه السلام : « ذاك أشدّ عليك ترثها وترثك ، ولا يجوز لك أن تطلّقها إلاّ على طهر وشاهدين » قلت : أصلحك اللّه فكيف أتزوّجها؟ قال : « أيّاما معدودة بشي ء مسمّى مقدار ما تراضيتم به ، فإذا مضت أيّامها كان طلاقها في شرطها ، ولا نفقة ولا عدّة لها عليك » (4).

ص: 153


1- « الكافي » ج 5 ، ص 456 ، باب في أنّه يحتاج أن يعيد عليها الشرط. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 267 ، ح 1134 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 59 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 469 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 455 ، باب شروط المتعة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 265 ، ح 1145 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 70 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 150 ، ح 551 ، باب أنّه إذا شرط ثبوت الميراث. ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ذيل ح 2.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 267 ، ح 1151 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 76 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 152 ، ح 556 ، باب ان ولد المتعة لاحق بأبيه ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 3.

ومن الموارد التي يستشكل على هذه القاعدة مورد تخلّف الوصف حيث قالوا بصحّة المعاملة ، غاية الأمر إنّ تخلّف الوصف - مثل تخلّف الشرط - يوجب الخيار.

فلو قال : بعتك هذا العبد الكاتب ، فظهر أنّه ليس بكاتب ، فما قصداه هو العبد الكاتب ، وما هو الموجود ووقع على فرض صحّة هذه المعاملة غير ما هو المقصود.

وذلك من جهة أنّ واجد قيد غير فاقدة ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، فليست العقود تابعة للقصود.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ في مورد تخلّف الوصف - الذي هو عبارة عن بيع عين شخصيّة على أن تكون متّصفة بصفة كذا - أيضا التزامين وقصدين : أحدهما : تعلّق بنقل هذه العين الخارجيّة. والثاني : تعلّق بكونها متّصفة بصفة كذا ، غاية الأمر إنّ أحد الالتزامين مربوط بالآخر.

وليس هاهنا التزامين مستقلّين ، بحيث يكون أحدهما أجنبيّا عن الآخر ، بمعنى أنّه باع هذه العين والتزم بصيرورتها ملكا للمشتري مقابل العوض المسمّى والتزم أيضا كونها متّصفة بكذا والتزم المشتري بانتقالها إليه مقابل ذلك العوض الذي سمّياه ، ولكن كان هذا الالتزام منه في ظرف التزام البائع بكونها متّصفة بكذا ، فالتزامه مربوط بالتزام البائع بكونها متّصفة بصفة كذا.

فإذا لم يكن المبيع كذلك وكان فاقدا لتلك الصفة ، فهو - أي : المشتري مثلا - بالخيار في أن يقبل هذا الانتقال ويبرم العقد ويرفع اليد عن تخلّف ذلك الوصف ، أو يفسخ ويحلّ العقد من جهة عدم التزامه بقبول الفاقد للوصف مقابل ذلك العوض المسمّى كي يلزمه ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) بلزوم القبول وعدم جواز الحلّ والفسخ ، فما وقع

ص: 154


1- المائدة (5) : 1.

- أي : انتقال هذه العين التي كانت فاقدة لذلك الوصف - كان مقصودا ، غاية الأمر كان هناك قصد آخر ووقع أيضا تحت الإنشاء ، ولكن حيث ليس له مصداق فذلك المقصود لم يقع.

وبعبارة أخرى : ما وقع ليس تمام مقصوده ، لا أنّه وقع غير ما هو مقصوده ، بل الصحيح أنّ ما وقع تمام ما قصد لكن بأحد القصدين ، والقصد الآخر ومتعلّقه لم يقع أصلا ، لعدمه وعدم إمكان وقوع المعاملة على الصفة الشخصيّة المعدومة.

وبعبارة أوضح : حال تخلّف الوصف حال تخلّف الشرط ، فكما أنّ في مورد تخلّف الشرط يقولون بصحّة المعاملة - وليس من قبيل ما وقع لم يقصد ، بل يكون ما وقع مقصودا ، لأنّ الشرط التزام آخر في ضمن الالتزام بأصل المعاملة ولذلك يوجب تخلّفه الخيار - فليكن تخلّف الوصف أيضا هكذا ، فإنّه أيضا التزام في التزام.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 155

ص: 156

31 - قاعدة انحلال العقود

اشارة

ص: 157

ص: 158

قاعدة انحلال العقود (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « انحلال العقد الواحد المتعلّق بالمركب إلى عقود متعددة ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها

اشارة

فنقول : إنّ المراد من انحلال العقد الواحد إلى عقود متعدّدة ، هو أنّ العقد الواقع على هذا المركّب واقع على كلّ جزء من أجزائه ، فإذا باع داره مثلا فالبيع - أي التمليك بعوض مالي - واقع على جميع أجزاء هذه الدار ، فكما أنّه يصحّ أن يقال : إنّ جميع هذه الدار مبيع ، يصح أن يقال بالنسبة إلى كلّ جزء من أجزائها : أنّه مبيع ، وهذا كما أنّه في المركّب الذي تعلّق به الطلب يصحّ أن يقال : إنّ مجموعه واجب ، كذلك يصحّ أن يقال لكل جزء منه : إنّه واجب.

فكما أنّ الانحلال في باب الواجبات المركّبة من الأجزاء عبارة عن أنّ الواجب باعتبار المجموع واحد ، وباعتبار الأجزاء واجبات متعدّدة ، فكذلك الأمر هاهنا أيضا ، فالعقد باعتبار مجموع ما تعلّق به عقد واحد ، ولكن باعتبار أجزائه عقود متعدّدة ،

ص: 159


1- (*) « عناوين الأصول » عنوان 1. « مجموعه رسائل » العدد 4 ، ص 459 ، « قواعد فقهي » ص 237.

لكن لا مستقلّة ، بل تكون ضمنيّة ، كما أنّ الواجبات أيضا كذلك ، أي تكون الأجزاء واجبات ضمنيّة.

ولكن هناك فرق بينهما في بعض الموارد ، وهو أنّ الواجبات المركّبة دائما وفي كلّ مورد تكون أجزاؤها واجبات نفسيّة مثل الكلّ ولكن ضمنيّة ، وفي باب العقود قد لا يكون كلّ جزء من أجزاء المتعلّق قابلا لأن يتّصف بما يتّصف به الكلّ ، كما في باب عقد النكاح الواقع على امرأة ، فإنّ المجموع يتّصف بكونها زوجة ومعقودة لفلان ، ولكن كلّ عضو منها لا يتّصف بأنّه زوجة أو معقودة.

وأمّا في أغلب العقود والمعاملات يتّصف الجزء بما يتّصف به الكلّ ، وإن كان بعنوان الجزء المشاع ، لا الجزء الخارجي الشخصي.

والحاصل : أنّ الانحلال في العقود عبارة عن تعلّق العقد بالأجزاء مثل تعلّقه بالكلّ ، أي كما يكون المجموع في قبال مجموع ما جعل في العقد عوضا ، كذلك يكون كلّ جزء من أحد العوضين في قبال الجزء من العوض الآخر.

وهذا فيما إذا كان المجموع مع كلّ جزء منه من سنخ واحد بحسب الجنس ، وكذلك بحسب القيمة بنسبة كميّتهما واضح ، مثلا لو اشترى طنا من الحنطة بمبلغ كذا من الدراهم أو الدنانير ، فأبعاض المبيع من سنخ الكلّ ، أي الأبعاض حنطة والكلّ أيضا كذلك أي : حنطة ، وقيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة الكلّ كنسبة كميّة ذلك البعض إلى كميّة ذلك الكلّ.

فبناء على هذا ، لو باع مجموع الطن بثلاثين دينارا ، فقد باع نصفه بخمسة عشر ، وثلثه بعشرة ، وهكذا.

وأمّا لو لم تكن نسبة المجموع مع أبعاضه من هذا القبيل ، بل ربما لا يكون للجزء الخارجي - لا الجزء بعنوان أحد الكسور كالنصف والثلث وهكذا - قيمة أصلا ، مثلا الفرس العربيّة التي قيمتها ربما تكون مئات من الدنانير ، رجلها أو رأسها ليس له

ص: 160

قيمة أصلا ، فإن لم يكن للجزء الخارجي الشخصي المعيّن قيمة عند العرف أصلا ، فالانحلال بالنسبة إليه لا معنى له ، لأنّ المراد من الانحلال في هذا المقام هو انحلال العقد الواحد - بالنسبة إلى أبعاض العوضين - إلى عقود متعدّدة ، فكأنه كلّ بعض من المبيع مثلا وقع عليه العقد بإزاء ما يقابله عند العرف من الثمن ، وهذا فيما إذا كان عندهم للجزء مقابل ومقدار من الثمن ، قلّ أو كثر.

وإن لم يكن للجزء الخارجي قيمة ، فربما ينحلّ العقد إلى عقود متعدّدة بحسب الكسور المشاعة في العوضين. مثلا إذا باع فرسا نصفه المشاع لغيره ، فهذا العقد ينحلّ إلى عقدين : أحدهما متعلّق بالنصف الذي يملكه العاقد ، وهو عقد صدر من مالكه ، ويجب عليه الوفاء به ، والثاني : عقد متعلّق بمال الغير ، وهو عقد صادر عن غير المالك ، فيكون فضوليّا يحتاج نفوذه إلى إجازة المالك.

ومعنى الانحلال هو أنّ العقد الواحد وإن كان واحدا بحسب الصورة ، ولكن عند الدقّة عقود متعدّدة ، ولكن بالقوّة لا بالفعل.

وتظهر الثمرة فيما إذا كان بعض المبيع ممّا يملكه العاقد ، وبعضه الآخر ممّا لا يملكه ، بل ملك للغير ، أو بعضه ممّا يملك ومال شرعا يجوز المعاوضة عليه كالغنم والخلّ ، وبعضه الآخر ممّا لا يملك ، أي ليس بمال شرعا كالخنزير والخمر.

فلو باع مجموع غنم وخنزير صفقة واحدة ، أو خلّ وخمر كذلك - أي صفقة واحدة - فإن قلنا بعدم الانحلال ، فلا بدّ من القول ببطلان المعاملة ، لأنّه يشترط في صحّة المعاملة والبيع أن يكون المبيع مالا شرعا ، وإلاّ يكون الأكل بإزائه أكلا لمال الغير بالباطل.

وأمّا إذا قلنا بالانحلال ، فكأنّه صدر منه عقدان : أحدهما تعلّق بما هو ليس بمال شرعا ، وهو ما تعلّق بالخمر والخنزير مثلا ، فيكون باطلا. والآخر تعلّق بما هو مال ، وهو الذي تعلّق بالغنم والخلّ مثلا ، فيكون صحيحا.

ص: 161

غاية الأمر للمشتري أو البائع - أي : الجاهل منهما بالنسبة إلى ما انتقل إليه إن كان مركّبا ممّا يملك وما لا يملك - خيار تبعّض الصفقة ، وإلاّ فأصل المعاملة صحيح لا إشكال فيه.

فأثر الانحلال صحّة المعاملة والعقد بالنسبة إلى ذلك الجزء الذي لا مانع من جعله عوضا في المعاملة ، سواء كان جزءا خارجيّا أو كسرا مشاعا. والجزء الخارجي سواء كان له وجود مستقلّ ، كما إذا باع ثوبا وغنما صفقة واحدة ، أو لم يكن له وجود مستقلّ منفصل عن الأجزاء الآخر ، كالثمر على الشجر ، والحمل في بطن أمّه إذا كان الثمر لشخص والشجر لآخر ، وكذلك الأمّ لشخص والحمل لشخص آخر ، فصاحب أحدهما باع المجموع صفقة واحدة ، فالعقد ينحلّ إلى عقدين : أحدهما بالنسبة إلى ما يملكه ، وهو صحيح غاية الأمر للمشتري خيار تبعّض الصفقة ، والآخر بالنسبة إلى ما لا يملكه ، وهو موقوف على الإجازة.

وخلاصة الكلام : أنّ المتعلّق قد لا يكون قابلا للانحلال ، لا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة ، ولا بالنسبة إلى الكسر المشاع ، وذلك مثل تعلّق عقد النكاح بامرأة معيّنة ، فهذا العقد لا يمكن الانحلال فيه ، لا بالنسبة إلى أجزائها الخارجيّة ، ولا بالنسبة إلى كسورها المشاع ، لعدم إمكان أن يكون بعض أجزائها معقودة بعقد صحيح ، وبعضها الآخر غير معقودة ، وكذلك بالنسبة إلى كسورها ، فنصفها مثلا تكون زوجة والعقد بالنسبة إليه صحيح ، بخلاف النصف الآخر.

ومقابل هذا القسم هو تعلّقه بأشياء متعدّدة ، منفصلة كلّ واحدة منها ، مستقلّة في الوجود ، كما إذا قال : بعتك هذا الكتاب وهذا الثوب بكذا ، فجعل أمرين مستقلّين مبيعا في عقد واحد ، أو يقول من هو وكيل عن قبل امرأتين في تزويجهما : زوّجتك هاتين المرأتين. وهكذا الأمر في سائر المعاملات والعقود.

فلو ظهر مانع عن صحّة بيع أحدهما في المثال الأوّل ، مثل أن لم يكن أحدهما

ص: 162

مال شرعا ، أو لم يكن للبائع ، فينحلّ العقد ، ويكون صحيحا بالنسبة إلى ما ليس له مانع عن بيعه ، وفاسدا بالنسبة إلى الآخر ، أو يكون موقوفا على إجازة مالكه.

وكذلك لو ظهر عدم صحّة نكاح إحدى المرأتين - لكونها من المحارم ، أو لكونها بكرا وقلنا بتوقّف صحّة نكاح البكر على إذن الأب كما هو المشهور ، أو من جهة أخرى - فينحلّ العقد ، ويكون بالنسبة إلى إحداهما صحيحا ، وبالنسبة إلى الأخرى غير صحيح.

ثمَّ إنّه قد يكون ما وقع عليه العقد بالنسبة إلى كسورة المشاع قابلا للانحلال ، وأمّا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة ليس قابلا للانحلال. وذلك كما إذا كان المبيع عبدا أو جارية ، فبالنسبة إلى كسورة المشاع قابل للانحلال ، كما إذا كان نصف العبد أو الجارية له ونصفه الآخر لغيره ، فينحلّ العقد ويكون صحيحا بالنسبة إلى نصفه الذي يملكه ، ويكون موقوفا على إجازة المالك بالنسبة إلى ذلك النصف الآخر الذي لغيره ، أو يكون باطلا فيما إذا ردّه ولم يجز.

وأمّا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة فليس قابلا للانحلال ، لعدم كونها مالا فيما إذا كان كلّ واحد منها وحده وقع العقد عليه ، مثلا لو باع يد العبد أو رجله أو سائر أعضائه يكون البيع باطلا ، لعدم كونه مالا.

بل ربما يكون ما وقع عليه العقد أمرين ، كلّ واحد منهما مستقلّ في الوجود ، ومع ذلك لا يمكن الانحلال بالنسبة إليها ، لعدم كون كلّ واحد منها منفردا عن الآخر مالا ، وذلك فيما تكون الماليّة لكلّ واحد منهما في ظرف اجتماعه مع الآخر.

وبعبارة أخرى : الماليّة لهما فيما إذا كانا زوجين كمصراعي الباب ، أو كزوجي الحذاء والجورب وأمثالهما ، ممّا ليس لأحد الفردين منفردا عن الآخر قيمة عند العرف والعقلاء.

والضابط الكلّي لصحّة الانحلال هو أنّه لو أوقع عقدا مستقلاّ عليه كان صحيحا ،

ص: 163

بمعنى أنّ في صورة انفراده عن سائر أجزاء المعقود عليه يكون قابلا لوقوع العقد عليه. وقد يكون بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة أيضا قابلا للانحلال ، وذلك كعقد من لؤلؤ مثلا ، فلو باعه فظهر أن بعض حباته مغصوبة ، فينحلّ العقد ويكون صحيحا بالنسبة إلى أجزائه التي هي ملك للبائع أو ملك لموكّله أو لمن هو وليّ عليه ، وفاسد أو موقوف على الإجازة بالنسبة إلى أجزائه الآخر التي ليست له ولا لموكّله ولا لمن هو وليّ عليه.

ثمَّ إنّ الانحلال على ثلاثة أقسام :

أحدها : الانحلال في متعلّقات النواهي وموضوعاتها، أي متعلّقات متعلقاتها ، كقوله : لا تشرب الخمر ولا تغتب المؤمنين ، وكذلك الانحلال في موضوعات الأوامر ، أي متعلّقات متعلّقاتها ، كقوله : أكرم العلماء وأكرم السادات.

وأمّا بالنسبة إلى نفس متعلّقات الأوامر فلا انحلال أصلا ، إمّا لعدم القدرة غالبا على إيجاد جميع أفراد متعلّقاتها ، وإمّا لحصول الغرض بإتيان صرف الوجود منها ، فبعد إيجاد أوّل وجود منها لا يبقى سبب ووجه لطلب سائر أفرادها.

والمراد من الانحلال في هذا القسم هو أنّ الطلب فعلا أو تركا تعلّق بالطبيعة السارية إلى جميع أفرادها وخصوصيّاتها.

وإن شئت قلت : إنّ المصلحة والمفسدة في جميع وجودات الطبيعة والغرض قائم بكلّ وجود وكلّ فرد منها ، ولذلك يكون لكلّ فرد فعلا وتركا امتثالا مستقلاّ ، وعصيانا مستقلا ، فالاطاعة والامتثال في كلّ فرد لا مساس له بالمخالفة والعصيان بالنسبة إلى الفرد الآخر.

وأثر هذا القسم من الانحلال هو انحلال الخطاب الواحد إلى خطابات متعدّدة ، في النواهي بالنسبة إلى متعلّقاتها ومتعلّقات متعلّقاتها ، وفي الأوامر بالنسبة إلى متعلّقات متعلّقاتها فقط ، دون متعلّقاتها إن كان لتلك الموضوعات - أي متعلّقات

ص: 164

متعلّقات الأوامر - عموم أو إطلاق شمولي.

الثاني : الانحلال في باب دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر والمراد بالانحلال هناك هو الانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، والتفصيل ذكرناه في محلّه.

الثالث : الانحلال في هذا المقام ، وقد عرفت التفصيل فيه.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من انحلال العقود يأتي في الإيقاعات أيضا ، فلو أعتق عبدين بإيقاع واحد ، فظهر أنّ أحد عبدين ليس له بل لغيره ، فهذا العتق يقع صحيحا بالنسبة إلى ذلك الذي ملك للمعتق ، وباطل بالنسبة إلى ذلك الذي ملك لغيره ، وليس موقوفا على إجازة مالكه ، لأنّ الإجازة المتأخّرة عن الإيقاع فضولة لا تؤثّر فيه ، وليس الإيقاع من هذه الجهة مثل العقد ، فإنّ الإجازة المتأخّرة لا تصحّح الإيقاع الصادر من غير أهله. والتفصيل في محلّه.

والأقسام التي ذكرناها للانحلال في العقود تأتي في الإيقاعات أيضا ، فتارة الإيقاع ليس قابلا للانحلال أصلا ، لا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة ، ولا بالنسبة إلى كسورها ، كما إذا طلّق امرأته المعيّنة فلا معنى لانحلال هذا الإيقاع ؛ لأنّ بعض أجزائها الخارجيّة لا يمكن أن تكون مطلّقة دون بعض آخر ، كما أنّ كسورها أيضا كذلك ، أي لا يمكن أن يكون نصفها مثلا أو ثلثها مطلّقة دون كسورها الآخر.

والضابط الذي ذكرنا لصحّة الانحلال في العقود وهو أنّ الانحلال يكون صحيحا بالنسبة إلى الأجزاء أو الكسور التي لو كان كلّ واحد منها يقع مستقلا منفردا تحت العقد كان صحيحا ، فكذلك نقول : إنّ ضابط الانحلال في الإيقاعات هو أن يكون ما ينحلّ إليه لو كان الإيقاع يرد عليه مستقلا ومنفردا لكان صحيحا.

ص: 165

الجهة الثانية : في بيان مدرك هذه القاعدة

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع ، فإنّهم - إذا ظهر أنّ بعض المبيع مثلا ممّا لا يملك ، أو ظهر أنّه ممّا لا يملكه البائع - يقولون بصحّة البيع بالنسبة إلى ما يملك ، أو بالنسبة إلى ما يملكه ، وعدم صحّته بالنسبة إلى ذلك البعض الآخر أي البعض الذي لا يملكه ، أو يكون ممّا لا يملك.

واستدلّوا لهذا التفصيل بهذه القاعدة ، أي يقولون بأنّ الصحّة في البعض وعدمها في البعض الآخر تكون لأجل انحلال العقد إلى عقدين : أحدهما صحيح لأجل وجود جميع شرائط الصحّة فيه ، والآخر باطل أو موقوف على إجازة المالك لأجل عدم اجتماع جميع شرائط الصحّة ، فهم يتمسّكون بهذه القاعدة من غير نكير من أحدهم لهذا الاستدلال ، وهو كاشف عن اتّفاقهم على صحّة هذه القاعدة ، واتّفاقهم على ذلك يكشف كشفا قطعيّا عن تلقّيهم هذا الأمر - أي : صحّة هذه القاعدة - عن المعصومين علیهم السلام .

وفيه : ما ذكرنا مرارا من أنّ هذه الإجماعات التي ادّعيت في أمثال هذه المقامات ليست من الإجماعات التي اصطلحنا في الأصول على حجّيتها ، لاحتمال أن يكون مدركهم في هذا الاتّفاق أحد الأمور الآخر ممّا ذكروها مدركا لهذه القاعدة ، ومع هذا الاحتمال ينسدّ باب القطع بل الاطمئنان بأنّ اتّفاقهم مسبّب عن رأي الامام علیه السلام ، فلا يفيد مثل هذا الإجماع في كونه دليلا لمثل هذه القاعدة.

الثاني : بناء العرف والعقلاء في معاملاتهم أنّ المبيع مثلا إذا كان بعضه ممّا لا يملك وليس بمال عندهم ، أو ظهر كونه ملكا للغير ، على أنّ تلك المعاملة صحيحة بالنسبة إلى ذلك البعض الذي ليس ملكا للغير ، وأيضا ليس ممّا لا يملك بل هو مال عندهم ، ويكون لنفس البائع أو لمن أذن له أن يبيعه أو يكون لمن هو وليّ عليه.

ص: 166

وبعبارة أخرى : بناء العرف والعقلاء في أسواقهم ومعاملاتهم - سواء كان بيعا أو إجارة أو رهنا أو عارية أو وقفا أو غير ما ذكر من أقسام العقود والمعاملات بل وكذلك في الإيقاعات من طلاق أو عتق أو غير ذلك - على أنّ ما وقع عليه العقد أو الإيقاع إن كان بعضه لا يصلح لوقوع ذلك العقد عليه لفقد شرط من شرائط ذلك العقد أو ذلك الإيقاع أو لوجود مانع فيه ، وبعضه الآخر يصلح لذلك ، فيبنون على صحّة تلك المعاملة بالنسبة إلى ذلك البعض الذي واجد لشروط الصحّة ، وبطلانها بالنسبة إلى ذلك البعض الآخر.

مثلا لو قال لعبدين أحدهما ملك له والآخر لغيره ، من دون أن يكون مأذونا من قبله أو وليّا عليه : أنتما حرّان ، أو قال : أعتقتكما ، فيرون انحلال هذا الإيقاع والإنشاء إلى إيقاعين وإنشائين : أحدهما صحيح ونافذ ، والآخر باطل وغير نافذ ، وكذلك لو قال لامرأتين إحديهما زوجته والأخرى أجنبيّة بحضور شاهدين عدلين : أنتما طالقان ، وكان هذا الإيقاع في حال طهر زوجته من دون مواقعته لها ، فيرون انحلال هذا الطلاق إلى طلاقين : أحدهما صحيح ونافذ وهو طلاق من هي زوجته ، والآخر باطل وهو طلاق من هي أجنبيّة عنه ، وكذلك الأمر في سائر الإيقاعات.

وأمّا العقود فقد تقدّم أنّه لو باع مال نفسه ومال غيره بعقد واحد ، فيكون ذلك العقد منحلاّ إلى عقدين بنظر العرف والعقلاء : أحدهما صحيح وهو ما تعلّق بمال نفسه ، والثاني باطل إن ردّ المالك ، أو موقوف على إجازة المالك ، وكذلك الأمر عندهم - أي عند العرف والعقلاء - في سائر العقود والمعاملات.

مثلا لو أعطى شيئين عارية بعقد واحد ، أو إجارة كذلك - أي بعقد واحد - فيرون العقد منحلاّ إلى عقدين : أحدهما صحيح وهو الذي تعلّق بمال نفسه ، والآخر باطل أو موقوفا على الإجازة وهو ما تعلّق بمال الغير.

فهذا بنائهم في باب العقود والإيقاعات ، ولم يردع الشارع عن هذه الطريقة

ص: 167

والبناء ، بل أمضاها بواسطة العمومات والإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات.

الثالث : أنّ صيغ هذه العقود والإيقاعات أسباب شرعيّة لإنشاء مفادها ومضامينها ، فإذا قال المالك بعتك هذا الكتاب مثلا بدينار ، فهذا القول إذا صدر عن المالك غير المحجور عليه عن قصد وإرادة جدّية يكون سببا لتمليك المشتري لذلك الكتاب.

فإذا كانت المعاملة واجدة لشرائط الصحّة ولم يكن في البين ما يمنع عنها تكون الصيغة سببا أو آلة لإنشاء تلك المعاملة ، أي ملكيّة ذلك الكتاب لذلك المشتري بعوض ما سموه في تلك المعاملة.

ومن المعلوم أنّ هذه الصيغ لا تؤثّر في إيجاد مضمونها ومفادها في عالم الاعتبار التشريعي ، إلاّ إذا اجتمعت شرائط العقد والمتعاقدين والعوضين ولم يكن مانع في البين. فتارة تجتمع الشرائط في مجموع ما تعلّق به العقد ، فالصيغة تؤثّر في إيجاد المجموع ، وهذا هو معنى صحّة العقد بتمامه ، ولا معنى للانحلال حينئذ ، لأنّه عقد واحد صحيح وقع ووجد تمام مضمونه في عالم الاعتبار. وأخرى : لا توجد شرائط الصحّة في جميع أجزائها ، فيكون عقدا باطلا بتمامه ، وأيضا لا وجه للانحلال. وثالثة : توجد شرائط الصحّة في بعض أجزائه دون البعض الآخر ، ففي هذا القسم تؤثّر الصيغة في ذلك البعض الذي واجد لشرائط الصحّة دون البعض الآخر ، وهذا هو الانحلال.

فالانحلال على طبق القواعد الأوّليّة ، وليس أمرا خارجا عن القواعد كي يحتاج إلى دليل ، وجميع الإيقاعات فيما ذكرنا مثل العقود بلا فرق بينهما أصلا.

وفيه : أنّ ظاهر هذا الكلام شبه مصادرة على المطلوب ، خصوصا فيما إذا كان متعلّق العقد أو الإيقاع ومفادهما تمليك شخص عبد في العقد ، أو عتقه في الإيقاع ، وكان نصفه له ونصفه الآخر لغيره.

ص: 168

فظاهر كون الصيغة سببا لوقوع مفادها في عالم الاعتبار التشريعي هو وقوع تمليك مجموع العبد أو عتق مجموعه في الفرض الثاني ، فعدم وقوع المجموع لوجود مانع في البعض ، أو لفقد شرط فيه ، ووقوع البعض الذي هو خلاف ظاهر السببيّة للتمام يحتاج إلى دليل ، وكونها سببا للتمام لا يمكن أن يكون دليلا على وقوع البعض ، إلاّ بما سنذكره في الوجه الآتي إن شاء اللّه تعالى.

الرابع : أنّه إذا باع عبده أو عبديه فلا شكّ في أنّه نقل تمام هذا العبد عن ملكه إلى ملك المشتري ، وكذلك الأمر في عبديه أو شيئين آخرين ، فلو كان نصف العبد مثلا في الفرض الأوّل أو أحدهما في الفرض الثاني ملكا للغير أو متعلّقا لحقّ الغير وهو عمدا أو اشتباها ملك المجموع في الأوّل ، والاثنين في الثاني ، فتعلّق قصده بنقل المجموع أو الاثنين لا ينافي تعلّقه بالبعض في ضمن المجموع والكلّ ، وأيضا لا ينافي تعلّقه بأحدهما في ضمن الاثنين ، بل لا معنى لتعلّقه بالمجموع والكلّ إلاّ تعلّقه بكلّ جزء جزء منه إذا لم يكن المركّب الكلّ ذا هيئة وصورة ، تكون تلك إلهية والصورة متعلّق القصد والإرادة ، وأيضا لا معنى لتعلّقه بالاثنين إلاّ تعلّقه بهذا وذاك ، فنقل كلّ واحد من الأجزاء في ضمن نقل الكلّ ، ونقل كلّ واحد منهما في ضمن نقل الاثنين مقصود ، وقد تعلّق بهما الإرادة والقصد.

وكذلك الأمر في الإيقاعات ، فلو أعتق تمام العبد فقصد عتق نصفه في ضمن قصد عتق تمامه موجود ، وإذا أعتق اثنين فقصد عتق أحدهما في ضمن قصد عتق الاثنين موجود.

فلو كان نصفه ملكا للغير أو متعلّقا لحقّ الغير في الفرض الأوّل ، أو كان أحدهما كذلك في الفرض الثاني وقلنا بالانحلال ، بمعنى تحقّق العتق في النصف دون النصف الآخر في الفرض الأوّل ، وفي أحدهما دون الآخر في الفرض الثاني ، فلا يمكن أن يقال : إنّ ما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد ، لأنّ ما وقع بعض المقصود ، وذلك لما ذكرنا أنّ ما وقع وما لم يقع كلاهما قد قصدا ، لكن فيما لم يقع كان مانعا هناك عن الوقوع ، ولذلك لم يقع مع

ص: 169

أنّه أيضا كان مقصودا ، وقاعدة العقود تابعة للقصود ليس مفادها أنّ كلّ ما قصد يقع ، بل مفادها أنّه بدون القصد لا يقع وفي مورد الانحلال لم يقع شي ء بدون القصد ، فلا يكون الانحلال مخالفا لتلك القاعدة ، كما ربما يتوهّم. نعم إنّ ما وقع ليس تمام ما قصد ، لا أنه لم يقصد أصلا.

إذا عرفت ذلك ، فنقول عمومات عناوين المعاملات وإطلاقاتها ، وأيضا عمومات عناوين الإيقاعات وإطلاقاتها ، مثل ( أَحَلَّ اللّهُ )( الْبَيْعَ ) (1) و ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3) « والطلاق بيد من أخذ بالساق » (4) وأمثال ذلك تشمل ذلك العقد المنحلّ ، فيجب الوفاء به كالعقد المستقلّ المنفرد.

فإذا طلّق زوجتين له بصيغة واحدة وإيقاع واحد ، كما إذا قال بحضور شاهدين عدلين : يا فلانة ويا فلانة أنتما طالقان ، وكانت إحديهما واجدة لشرائط صحّة الطلاق ، أي كانت في طهر لم يواقعها فيه ، وأمّا الأخرى كانت حال الطلاق حائضا ، أو كانت في الطهر الذي واقعها فيه ، يصدق على التي شرائط صحّة طلاقها موجودة أنّه طلّقها بطلاق صحيح ، فيشملها أدلّة نفوذ الطلاق ، وكذلك في سائر الإيقاعات.

وأمّا في العقود ، لو باع خلاّ وخمرا أو شاة وخنزيرا ، فبالنسبة إلى الخلّ والشاة يصدق أنّه باعهما ببيع صحيح وعقد تامّ الأجزاء والشرائط ، فيشمله أدلّة نفوذ البيع و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .

نعم لو كان الانضمام والاجتماع منظورا أو شرطا ، فيأتي خيار تخلّف الشرط ، أو خيار تبعّض الصفة.

ص: 170


1- البقرة (2) : 275.
2- النساء (4) : 128.
3- المائدة (5) : 1.
4- « مستدرك الوسائل » ج 15 ، ص 306 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 25 ، ح 3 ، « الجامع الصغير » ج 2 ، ص 75.

فالانحلال أمر تكويني وجداني ، وأدلّة نفوذ العقد المستقلّ المنفرد ، وكذلك أدلّة نفوذ الإيقاع المستقلّ المنفرد يشمل هذا العقد الانحلالي وإيقاعه ، ولا يحتاج إلى دليل آخر في مقام الإثبات وإجراء حكم العقد أو الإيقاع الصحيح عليه ، غاية الأمر مع خيار تبعّض الصفقة.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : تجري هذه القاعدة في جميع العقود والإيقاعات :

فمنها : البيع ، فإذا باع داره مثلا ، فظهر أنّ نصفها المشاع أو أقل أو أكثر ، أو قطعة معيّنة من تلك الدار ملك للغير ، أو متعلّق لحقّ الغير ، ككونها مرهونة مثلا بحيث لا يصحّ بيعها بالنسبة إلى ذلك النصف أو تلك القطعة ، فالعقد ينحلّ إلى عقدين :

أحدهما بالنسبة إلى ذلك النصف المشاع الذي للغير ، أو تلك القطعة التي ملك للغير أو متعلّق حقّ الغير ، فهو باطل أو موقوف على الإجازة ، والثاني بالنسبة إلى ما هو ملك طلق له وليس متعلّقا لحقّ الغير ، وهو عقد صحيح ، غاية الأمر فيه خيار تبعّض الصفقة.

ومنها : الإجارة ، فإذا آجر ما يصحّ إجارته له وما لا يصحّ بعقد واحد ، فينحلّ هذا العقد إلى عقدين : أحدهما صحيح ، والآخر غير صحيح وباطل ، أو موقوف على الإجازة.

ومنها : العارية ، فإذا أعار أشياء بعضها له وبعضها ليس له - أو ليس له أن يعيره لكونه متعلّقا لحقّ الغير - بعقد واحد ، فينحلّ إلى عقدين ، فبالنسبة إلى ما هو ملكه وليس ممنوعا عن التصرّف فيه شرعا يصحّ عاريته. ولا فرق في صحّة عارية ما هو ملكه وله التصرّف فيه شرعا بين أن يكون ذلك الشي ء جزءا خارجيّا لمجموع ما وقع

ص: 171

عليه العقد ، أو يكون كسرا مشاعا من كسورة ، أو يكون له وجود مستقلّ جمعه المعير مع غيره في العقد الواحد.

وهذا الكلام - أي عدم الفرق بين هذه الأقسام - جار في جميع العقود بل الإيقاعات فيما يمكن ويصحّ أن يقع متعلّقا للإيقاع ، لا فيما لا يمكن كالطلاق ، فإنّ جزء المرأة خارجيّا كان أو مشاعا لا يمكن ولا يصحّ فيه الطلاق ، وكذلك في عقد نكاحها.

وأمّا بالنسبة إلى ما ليس له أو ما ليس له التصرّف فيه شرعا ، فهو باطل أو موقوف على الإجازة.

نعم لو تزوّج اثنتين بعقد واحد ، وكانت إحديهما ممّن يجوز له نكاحها بخلاف الأخرى ، فإنّها لا يجوز. ففي هذه الصورة ينحلّ العقد إلى عقدين ، فيكون صحيحا بالنسبة إلى من يجوز له نكاحها ، وباطلا بالنسبة إلى من لا يجوز له نكاحها لمانع ، من كونها محرّما أو لجهة أخرى من الجهات التي توجب حرمة نكاح المرأة المذكورة في كتاب النكاح مفصّلا.

وكذلك لو طلّق زوجتين بإيقاع واحد وكان طلاق إحديهما واجدا لشرائط صحّة الطلاق دون الأخرى فينحلّ ذلك الإيقاع إلى إيقاعين ، أحدهما صحيح ، والآخر باطل.

وقد تقدّم ذكر هذا الفرع ، وإنّما الإعادة كانت لجهة بيان أنّ الطلاق أيضا مثل العقد قد يكون قابلا للانحلال ، وقد لا يكون قابلا له.

ومنها : الوقف ، فلو وقف شيئين بعقد واحد ، وكان أحدهما قابلا لأن يكون وقفا ، والآخر ليس قابلا لذلك لجهة من الجهات المانعة عن قابليته للوقفيّة ، فينحلّ عقد الوقف الواحد إلى عقدين : أحدهما يكون صحيحا وهو بالنسبة إلى ذلك الذي قابل للوقفيّة ، والآخر باطل وهو بالنسبة إلى ذلك الآخر الذي ليس قابلا لأن يكون وقفا.

وأمّا لو وقف دارا يكون نصفها المشاع له ، ونصفها الآخر لشخص آخر ، وليس

ص: 172

الواقف مأذونا من قبل ذلك المالك ، ولا وليّا عليه ، فالانحلال هاهنا دائر مدار القول بصحّة وقف المشاع ، فإن قلنا بصحّته تحقّق الانحلال وكان صحيحا بالنسبة إلى ما يملكه مشاعا ، وباطلا بالنسبة إلى النصف الآخر.

ومنها : المضاربة، فلو أعطى العامل مقدارا من الدراهم والدنانير مضاربة بعقد واحد ، فظهر أنّ أحد النقدين أو بعض أحدهما مال الغير ، ولم يأذن للعاقد بجعله مضاربة ، فينحل عقد المضاربة إلى عقدين : أحدهما صحيح وهو الواقع على مال نفسه أو على ما هو مأذون من قبل المالك في إعطائه للعامل مضاربة ، والثاني باطل وهو الواقع على نقود الغير من دون إذنه ورضاه ولا إجازته بعد الوقوع بناء على تأثير الإجازة المتأخّرة.

والحاصل : أنّه إذا كانت المضاربة الواقعة بعقد واحد بالنسبة إلى بعض ما وقعت عليه واجدة لشرائط الصحّة ، وبالنسبة إلى البعض الآخر غير واجدة لها ، فينحلّ عقد تلك المضاربة إلى عقدين : أحدهما صحيح وهو الواجد لشرائط الصحّة ، والآخر باطل وهو الفاقد لشرائطها ، وهكذا الحال في سائر العقود من المزارعة والمساقاة والصلح وغيرها.

وأمّا الإيقاعات ، فمنها العتق ، فإذا أعتق عبدا وكان نصفه مثلا له ونصفه الآخر لغيره ، ففي هذا الفرض لا يمكن الانحلال كي يقال بالصحّة بالنسبة إلى ما هو ملكه ، وبعدمها بالنسبة إلى النصف الآخر الذي لغيره ، وأنّه باق على ملك مالكه ، لأنّ العتق لا يتبعّض ، بل يسري إلى ذلك النصف الآخر الذي ليس له ، فينعتق تمامه ويقوم حصّة الشريك عليه إن كان موسرا ، وإن كان معسرا وقصد الإضرار على شريكه قيل ببطلان عتقه فلا يقع منه شي ء ، وقيل بانعتاق تمام العبد ولكن هو يسعى في قيمة حصّة الشريك ويعطيها له ، وعلى كلّ حال لا يأتي الانحلال المصطلح ، أي يكون العتق صحيحا بالنسبة إلى حصّة نفسه وباطلا بالنسبة إلى حصّة شريكه.

ص: 173

نعم لو أعتق عبدين ، فظهر مانع شرعي عن عتق أحدهما - مثل أنّه كان كافرا بناء على عدم صحّة عتق الكافر ، أو كان أحدهما رهنا عند غيره ، أو كان عتقهما من جهة الكفّارة وكان أحدهما كافرا ، أو غير ذلك من الموانع - فينحلّ الإيقاع إلى إيقاعين : أحدهما صحيح وهو بالنسبة إلى العبد الذي لا مانع من عتقه شرعا ، والثاني باطل وهو بالنسبة إلى العبد الذي لا يصحّ عتقه لمانع شرعا.

ومنها : الطلاق ، فلو طلّق زوجتين له بطلاق واحد ، وكان طلاق إحديهما واجدا لشرائط صحّة الطلاق ، دون طلاق الأخرى ، فمثل ذلك الطلاق ينحلّ إلى طلاقين ، أحدهما صحيح والآخر باطل.

ومنها : النذر، فلو نذر بصيغة واحدة عتق عبدين ، أو ذبح شاتين ، أحد العبدين له والآخر ملك لغيره ، وكذلك في الشاتين بأن كان أحدهما ملكا له جائز له التصرّف والآخر ليس له أو ليس له التصرّف فيه وان كان ملكه ، فينحلّ ذلك النذر إلى نذرين ، أحدهما صحيح والآخر باطل ، وهكذا الأمر بعينه في العهد واليمين وسائر الإيقاعات ، فلا نطول المقام.

ثمَّ إنّه لا إشكال في جريان خيار تبعّض الصفقة في موارد الانحلال في العقود المعاوضيّة للبائع والمشتري بالنسبة إلى ما ينتقل إليهما ، لأنّ المفروض أنّه في موارد الانحلال تبطل المعاوضة بالنسبة إلى بعض كلّ واحد من العوضين ، فلا يأتي بيد كلّ واحد من المتعاقدين تمام ما جعل عوضا في المعاملة ، فيتبعّض صفقة كلّ واحد منهما ، مع بنائه على أنّ المجموع يأتي بيده ورضائه بالمعاوضة. على هذا التقدير فتبعيض الصفقة والحكم بكونه ملزما بأخذ البعض دون البعض الآخر يكون على خلاف التزامه ورضائه ، فيتدارك بالخيار إجماعا ، مع أنّ لازم الانحلال عدم تبعّض الصفقة ، لأنّ الانحلال يرجع إلى أنّ هناك عقدان : أحدهما باطل والآخر صحيح ، فما هو العقد الصحيح ليس فيه تبعّض الصفقة كي يأتي خياره. وبعبارة أخرى : لا يبقى موضوع لخيار تبعّض الصفقة.

ص: 174

وفيه : أنّ الانحلال علّة لتبعّض الصفقة ، فكيف يمكن أن يكون موجبا لانعدامه؟

وهل هذا إلاّ التناقض.

ووجه الاشتباه هو أنّ المتوهم تخيّل أنّ معنى الانحلال أنّ هذا العقد الواحد من أوّل الأمر يكون مركّبا من عقدين مستقلّين لا ربط لأحدهما بالآخر ، غاية الأمر يكون أحدهما باطلا والآخر صحيحا ، وكلّ واحد منهما أجنبيّ عن الآخر ، فكلّ واحد من هذين العقدين لم تتبعّض فيه الصفقة ، وإنّما يكون أحدهما صحيحا لوجود شرائط الصحّة فيه دون الآخر. ولكن هذا اشتباه ، بل المجموع كان عقدا واحدا وإنشاء واحدا ، غاية الأمر حلله العقل وكذلك الفهم العرفي إلى عقدين ، أحدهما صحيح والآخر باطل.

وحيث أنّ الرضا وطيب النفس في معاوضة المجموع بالمجموع ، فلذلك جاء الخيار.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 175

ص: 176

32 - قاعدة الإلزام

اشارة

ص: 177

ص: 178

قاعدة الإلزام (1)

ومن القواعد المشهورة في فقه الإماميّة قاعدة « إلزام المخالفين بما ألزموا به أنفسهم ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمران

الأوّل : إجماع الإماميّة - رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين - على صحّة هذه القاعدة ، وقد تقدّم منّا مرارا في هذا الكتاب أنّ هذه الإجماعات - مع وجود المدرك للمسألة من الروايات أو سائر الأدلّة - ليس من الإجماع المصطلح في الأصول الذي بنينا على حجّيته وكشفه عن رأي المعصوم علیه السلام .

الثاني : الروايات :

فمنها : قوله علیه السلام في التهذيب بإسناده عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن علیه السلام :

ص: 179


1- « خزائن الأحكام » العدد 12 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 32 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 174 ، « القواعد » ص 59 ، « قواعد فقه » ج 1 ، ص 136 ، « قواعد الفقه » ص 27 ، « قواعد فقهية » ص 241 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 167 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 159.

« ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتزوّجوهنّ ولا بأس بذلك » (1).

ومنها : ما عن عبد اللّه بن محرز قال قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وأمّه فقال علیه السلام : « المال كلّه لابنته وليس للأخت من الأب والأمّ شي ء ».

فقلت : إنّا قد احتجنا إلى هذا والميّت رجل من هؤلاء الناس وأخته مؤمنة عارفة ، قال علیه السلام : « فخذ لها النصف ، خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنّتهم وأحكامهم ». قال ابن أذينة : فذكرت ذلك لزرارة ، فقال : إنّ على ما جاء به ابن محرز لنورا (2).

ومنها : ما عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : سألته عن الأحكام؟ قال علیه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » (3).

وهناك روايات أخر خصوصا في مسألة جواز تزويج المطلّقة على غير السنّة ، يقول علیه السلام في بعضها « اختلعها » (4) وفي البعض الآخر « ابنها » (5) ، وفي بعضها « من دان

ص: 180


1- تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 190 ، باب أحكام الطلاق ، ح 109 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 292 ، ح 1032 ، باب ان المخالف إذا طلق امرأته ثلاثا. ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 321 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 5.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 100 ، باب ميراث الإخوة والأخوات مع الولد ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 321 ، ح 1153 ، باب ميراث الإخوة والأجداد ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 484 ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، باب 4 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 322 ، ح 1155 ، باب ميراث الإخوة والأجداد ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 148 ، ح 554 ، باب إن الإخوة والأخوات على اختلاف. ، ح 10. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 484 ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، باب 4 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 57 ، ح 186 ، باب أحكام الطلاق ، ح 105 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1027 ، باب إنّ المخالف إذا طلق امرأته. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدّمات الطّلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 1.
5- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 1 ، ص 310 ، ح 74 ، « معاني الأخبار » ص 263 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 322 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 11.

بدين لزمته أحكامهم » (1) وفي بعضها « إنّ المرأة لا تترك بغير زوج » (2). تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، لأنّ فيما ذكرنا غنى وكفاية ، والعمدة هو فهم المراد من قوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » لأنّ المراد من هذه القاعدة هو مفاد هذه الجملة وما هو الظاهر منها.

فنقول : أمّا سند الرواية المشتملة على هذه الجملة فلا ينبغي البحث عنه ؛ لكمال الوثوق بصدورها عنهم علیهم السلام ، وتكرّرها في جملة من الموارد كمورد أخذ المال منهم بالتعصيب وأيضا في مورد تزويج الزوجة المطلّقة على غير السنّة ، وغير ذلك ممّا تقدّم.

فالإنصاف أنّه إذا ادّعى أحد القطع بصدور هذا الكلام عنهم علیهم السلام ليس مجازفا فيما يدّعيه.

وأمّا ظاهر هذه الجملة ومعناها ، فهو عبارة عن أنّ المخالفين كلّ ما يرون أنفسهم ملزمين به من ناحية أحكامهم الدينيّة ويعتقدون أنّه عليهم ، سواء كان ذلك الشي ء من الماليّات أو الحقوق ، أو كان من الاعتباريّات الآخر كحصول الطلاق مثلا أو غيره وإن لم يكن ذلك ثابتا في أحكامكم الدينيّة ، فالزموهم بذلك مثلا إذا يرون أنفسهم ضامنين للمبيع إذا تلف عند المشتري وكان الخيار لذلك المشتري فالزموهم بذلك ، أي يكون الثمن لكم ويكون التلف عليه ، وإن كنتم لا تقولون بذلك وتقولون بأنّ الخيار لما كان للمشتري كما أنّه كذلك في خيار الحيوان بناء على اختصاصه بالمشتري ، أو من جهة كون المبيع حيوانا دون الثمن ، فالخيار للمشتري فقط دون البائع ، فالتلف يقع في

ص: 181


1- المصدر.
2- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 189 ، باب أحكام الطلاق ، ح 108 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 292 ، ح 1030 ، باب انّ المخالف إذا طلّق امرأته. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 4.

ملك من لا خيار له ، فلا بدّ للبائع أن يردّ الثمن إلى المشتري.

فإذا بعتم حيوانا من أحد هؤلاء وتلف عنده بعد قبضه ، فالزموه بضمان المسمّى وإن كان في زمان خياره وأنتم لا تقولون به ، لقاعدة « التلف في زمن [ الخيار ] من مال من لا خيار له » وفي المفروض من لا خيار له هو البائع ، فبمقتضى تلك القاعدة يكون ضمان المبيع التالف على البائع ، فيجب على البائع ردّ الثمن إلى ذلك المشتري.

ولكن حيث أنّهم يلزمون أنفسهم بأنّ التلف وقع في ملك المشتري فألزموهم بذلك ولا تردّوا إليهم الثمن.

وفي بعض أخبار هذا الباب تعليل هذا الحكم بأنّه خذوا منهم كما أنّهم يأخذون منكم ، بمعنى أنّ البائع لو كان واحد منهم لكان لا يردّ إليكم الثمن ، فأنتم أيضا لا تردّوا إليه الثمن وعاملوا معهم معاملة المثل.

وأمّا قول أبي جعفر علیه السلام في رواية محمّد بن مسلم عنه علیه السلام قال : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » فظاهره أنّ أصحاب كلّ دين أي المتديّنين به الملتزمين بأحكامه ينفذ عليهم ما يستحلّون ، مثلا إذا كانوا يستحلّون أكل أقرباء الميّت - أي العصبة - نصف المال من تركة الميّت ، فينفذ هذا الحكم عليهم ، أي إذا كانت العصبة منّا أي من أهل الولاية ، فيجوز له أن يأخذ منهم نصف تركة الميّت ، كما كان هذا صريح رواية عبد اللّه بن محرز حين ما قال ابن محرز له علیه السلام : إنّ الميّت رجل من هؤلاء الناس وأخته مؤمنة عارفة ، قال علیه السلام : « خذ لها النصف ، خذوا منهم كما يأخذون منكم ».

الجهة الثانية : في بيان شرح مفاد هذه القاعدة وسعة دلالتها وشمولها للموارد

فنقول : في كلّ مورد يلتزم المخالف بمقتضى مذهبه بورود ضرر عليه ، سواء كان

ص: 182

ذلك الضرر ماليّا ، أو ذهاب حقّ منه عبده ، أو عتق عبده ، أو فراق زوجته ووقوع طلاقه ، أو ضمانه لمال تالف ، أو كون حقّ الأخذ بالشفعة لشريك أو شركة غيره في ميراثه ، ففي جميع تلك الموارد للموافق إلزام المخالف وإن لم يكن ورد ذلك الضرر حقّا عند الموافق ، بل ينكره ولا يعترف به حسب مذهبه وما يدين به.

فلو كان المخالف حسب مذهبه يرى نفسه ضامنا لمال تالف بأحد أسباب الضمان عنده ، وليس ذلك السبب سببا للضمان عند الموافق ، كموارد ضمان ما لم يجب أو ضمان العارية غير المضمونة مثلا لو تلف عند المستعير المخالف ما استعاره ، وهو ممّا يمكن إخفاؤه كالثياب مثلا ففي بعض المذاهب - وهو مذهب المالكيّة - القول بضمان التالف ، فإذا كان المستعير منهم يرى نفسه ملزما بضمان ذلك التالف ، والموافق المعير لا يرى لماله التالف ضمانا ، لأنّ العارية التي غير الذهب والفضة ما لم يشترط ليس فيه ضمان وإن كان ممّا يمكن إخفائه ، ولكن مع ذلك له أن يلزم المستعير المخالف ويأخذ منه ضمان ماله التالف بهذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام ، لقوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » ولقوله علیه السلام : « خذوا منهم كما يأخذون منكم ».

وكذلك لو حلف المخالف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، بأن قال مثلا : زوجتي طالق ، أو عبدي حرّ ، أو جميع ما أملك أو بعضه المعيّن صدقة إن فعلت كذا ، أو إن لم أفعل كذا ، فهذا الحلف من أسباب الطلاق والعتاق والصدقة عند المخالف ، ولكن لا اثر له عندنا أصلا ، فيرون صحّة مثل هذا الطلاق وباقي المذكورات ، فيجوز إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتزويج تلك المرأة المطلقة بمثل ذلك الطلاق وأخذ ذلك المال من باب الصدقة وإن كان نادما من حلفه ، وأيضا ترتيب آثار الحرّية على مثل ذلك العبد ، كلّ ذلك لأجل هذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ ظاهر قوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » هو صحة إلزامهم بما يدينون به ، وإن كان ما يدينون به ممّا لا نقول بصحّته ، بل محلّ

ص: 183

جريان هذه القاعدة هو فيما إذا لا نقول بصحّة ما يدينون به ، وإلاّ فإن قلنا نحن أيضا بصحّته وكان ممّا ندين به أيضا ، فليس موردا لقاعدة الإلزام ، بل يكون حينئذ ترتيب الأثر عليه كترتيب الأثر على سائر الأحكام الشرعيّة.

فقاعدة الإلزام تشبه الأحكام الثانويّة ، أو هي منها على أحد الوجهين الذين نذكرهما إن شاء اللّه تعالى ؛ لأنّ الحكم الأوّلى عدم جواز تزويج المرأة المطلّقة التي طلاقها باطل ، فجوازه فيما إذا كان زوجها يدين بصحّة هذا الطلاق يكون من قبيل الأحكام الثانويّة ، وهكذا الحال في سائر الموارد التي تجري فيها هذه القاعدة.

مثلا بعد الفراغ عن أنّ القول بالتعصيب باطل عندنا ، فأخذ العصبة - أي أقرباء الميّت كأخته وأخيه - ميراث بنته يكون أخذ مال الغير بدون إذنه ورضاه ، ولا شكّ في حرمة ذلك بعنوانه الأوّلى فحكمهم علیهم السلام بجواز أخذه - إذا كان المأخوذ منهم ممّن يدينون باستحقاق العصبة وشركتهم مع البنت فيما إذا كان الآخذ ، أي العصبة ممّن لا يدين بجواز الأخذ وبالاستحقاق - يكون شبيها بالأحكام الثانويّة أو هو منها.

ثمَّ إنّ الظاهر من قوله علیه السلام : « ألزموهم » أنّ مرجع ضمير الجمع هم المسلمون من سائر الطوائف غير الطائفة الإماميّة الاثني عشريّة ، ولا يشمل أرباب سائر الأديان والملل ، فلو أنّ ذميّا طلّق زوجته بطلاق غير صحيح عندنا ولكنّه صحيح عندهم ، فلا تشمله هذه القاعدة بناء على ما ذكرنا من أنّ مرجع الضمير « هم » المسلمون من سائر الطوائف.

اللّهمّ إلاّ أنّ يتمسّك بغير هذه الرواية التي مدرك هذه القاعدة ، مثل قوله علیه السلام الذي تقدّم ذكره « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلون » (1). ولكنّه لا يخلو من تأمّل ونظر.

ص: 184


1- تقدّم تخريجه في ص 180 ، رقم (3).

أو يتمسّك بقوله علیه السلام في موثّق عبد الرحمن البصري عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : امراة طلّقت على غير السنّة ، فقال علیه السلام : « تتزوّج هذه المرأة لا تترك بغير تزويج » (1) فإذا كان بقاؤها بدون تزويج علّة لجواز تزويجها ، فهذه العلّة في مورد الكافر أيضا موجودة ، لأنّ كون ما ذكر علّة تامّة وملاكا تامّا للحكم غير معلوم ، بل معلوم العدم ، لأنّه من قبيل حكمة الحكم.

والضابط في الفرق بين ما هو علّة الحكم وبين ما هو حكمته هو أنّ العلّة لا تكون إلاّ فيما إذا كان من الممكن إلقاؤها إلى الطرف بصورة كبرى كلّية ، بحيث تكون هي موضوع الحكم ، كقوله علیه السلام : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » فيصحّ أن يقول : لا تشرب المسكر.

وأمّا فيما إذا لا يمكن ذلك ، كقوله علیه السلام : « يجب على المطلّقة المدخولة أن تعتدّ بثلاثة أقراء لعدم تداخل المياه واختلاط الأنساب » ، فهو من قبيل حكمة الحكم ولا اطّراد فيه ، كما أنّه لو علمنا أنّها عقيمة ولا تحبل ، فمع ذلك يجب عليها أنّ تعتدّ.

وأمّا إنّ هذا لا يمكن أن يكون موضوعا ، فلأنّ موضوع الحكم لا بدّ وأن يكون قابلا للتشخيص وإن يعرفه المكلّف ، وإلاّ يكون الحكم على مثل ذلك الموضوع - الذي ليس قابلا لأن يعرفه المكلّف ولأن يشخّصه - لغوا ، ومعلوم أنّ اختلاط المياه وتداخل الأنساب ليس قابلا لأن يعرفه المكلّف ، وفي المفروض من الواضح الجليّ أنّه لا يعلم أنّ هذه المرأة - المطلّقة بالطلاق على غير السنّة أو طلاق الكافر الباطل - تبقى بلا تزويج ، لأنّه من الممكن بل الغالب هو أن يتزوّجها من يقول ويدين بصحّة هذا الطلاق من أبناء دينها ومذهبها.

ص: 185


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 188 ، باب أحكام الطلاق ، ح 107 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1029 ، باب انّ المخالف إذا طلّق. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 3.

وأيضا ظاهر قوله علیه السلام « ألزموهم » أنّ المخاطب بهذا الخطاب هم الطائفة الإماميّة الاثني عشريّة ، فلا يشمل المخالفين بعضهم بالنسبة إلى بعض إن كانت طائفة منهم ترى صحّة معاملة وترى الأخرى فسادها ، فيلزم إحديهما الأخرى بما يدين وإن كان في نظرهم عدم صحّة تلك المعاملة.

مثلا لو أعار من لا يدين بمذهب مالك مالكيّا ما يمكن إخفاؤه ، كثوب حيث يمكن وضعه في صندوق وإخفاؤه فتلف ، فمذهب المستعير أنّ التلف في مثل هذه العارية موجب للضمان ، ومذهب المعير أنّه ليس في هذا التلف ضمان ، فهل يمكن إلزام المعير للمستعير بأخذ الضمان منه بهذه القاعدة أم لا؟ الظاهر هو العدم ، لما ذكرنا من أنّ المخاطب هم الطائفة الإماميّة ، ولا يشمل الحديث سائر الطوائف.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الحديث وإن كان لا يشمل إلزام المخالف للمخالف وإن كان ما يريد إلزامه به مخالفا لما يدين به ، فضلا عمّا إذا كان موافقا معه ، لما ذكرنا أنّ ظاهر الحديث أنّ ضمير الخطاب المقدّر في قوله علیه السلام « ألزموهم » مرجعه الطائفة الإماميّة.

ولكن هناك روايات أخر مفادها عامّ ولا يختصّ بالإماميّة ، مثل رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » (1).

فبناء على ما استظهرنا منها من أنّ ظاهرها عبارة عن نفوذ كلّ ما يستحلّون عليهم ، فلو كان أحد المخالفين يعتقد فساد المعاملة التي وقعت بينهما ، والآخر يعتقد صحّتها ، ومضت على تلك المعاملة أعوام ، فالذي يعتقد فساد المعاملة يعتقد أنّ نتاج ما حصل في يده ومنافعه ملك لطرفه لفساد المعاملة ، فلو أنتجت مثلا هذه البقرة أو هذه الفرس بقرات أو أفراس ، فحيث يعتقد بفساد هذه المعاملة - اجتهادا أو تقليدا -

ص: 186


1- تقدّم تخريجه في ص 180 ، رقم (3).

يرى ويعتقد أنّ هذه البقرات أو الأفراس ملك لصاحب البقرة أو الفرس قبل وقوع هذه المعاملة ، فيستحلّها له فينفذ عليه ذلك ، ويجوز لذلك الآخر أن يأخذها منه وإن كان معتقدا بصحّة هذه المعاملة وأنّ هذه المذكورات ليس له.

وكذلك بالنسبة إلى المنافع ، فلو اشترى دارا مثلا من زيد وسكن فيها سنين وهو يرى ويعتقد فساد هذه المعاملة ، فعليه أجرة تلك الدار التي سكن فيها سنين ، ويجوز للمخالف الآخر - أي البائع - أن يأخذ منه أجرة تلك السنين ، وإن كان معتقدا صحّة هذه المعاملة وأنّ هذه الدار ليست له.

وعلى كلّ تقدير لو قلنا بصحّة إلزام المخالف للمخالف فيما يلزم به نفسه ، فهذا خارج عن مفاد قاعدة الإلزام ، بل يكون له مدرك آخر ، وهو قوله علیه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون ».

ثمَّ إنّ ذكرنا من إمكان القول بصحّة إلزام المخالف للمخالف - مستندا إلى رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام ، وهو قوله علیه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » - مبني على أن يكونا مختلفين في المذهب بحيث يكون المراد من الدين المذهب ، فإذا استحل شيئا في مذهبه يصحّ أن يقال يستحلّه في دينه ، فلا يشمل مورد اختلاف المجتهدين في مذهب الإماميّة ، لأنّ لهما مذهب واحد وهو مذهب أهل البيت علیهم السلام ، لا أنّ فتوى هذا المجتهد دين ومذهب له ، وفتوى ذلك الآخر دين ومذهب للآخر. نعم يكون أحدهما مخطئا والآخر مصابا إن كان الفتويان متناقضين.

كما أنّ تطبيقه على اختلاف المذاهب الأربعة أيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنّه هناك أيضا ليس إلاّ اختلاف فتوى المجتهدين.

وحاصل الكلام : أنّ رواية محمّد بن مسلم لا يستفاد منها حتّى إلزام المخالف للمخالف ، بل ولا الموافق للمخالف ، لأنّ دين الكلّ واحد وهو الإسلام ، فالمراد من قوله علیه السلام « أهل كلّ ذي دين » هي الأديان المقابلة للإسلام ، فقاعدة الإلزام تستفاد من

ص: 187

قوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » وقوله علیه السلام « خذوا منهم كما يأخذون منكم » وما يكون بمضمونهما.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

منها : مسألة التعصيب ، وهو توريث ما فضل عن السهام من كان من العصبة ، أي قوم الإنسان الذين يتعصّبون له ، والمراد هاهنا أقرباء الميّت وهم الأب والابن ومن يتدلى بهما الى الميت ، فلو كانت للميّت بنت واحدة وأخ مثلا أو عمّ فللبنت النصف ، وبناء على القول بعدم التعصيب وبطلانه - كما هو كذلك عند الإماميّة - يكون باقي التركة أي النصف الآخر أيضا للبنت ، ولكن ردّا لا فرضا.

وعلى القول بالتعصيب - أي : إعطاء ما زاد على الفرض لأقرباء الميّت ، أي ابنه وأبيه والمتقرّب بهما إليه ، وعدم الردّ إلى صاحب الفرض وهي البنت في المفروض - يعطى باقي التركة ، أي النصف الآخر لأخ الميّت في المفروض. وهكذا لو كانت له بنت وعمّ ، فعلى مذهب الإماميّة يعطي جميع المال للبنت ، نصفه فرضا ونصفه الآخر ردّا ، وعلى قول المخالفين يعطى نصف المال للبنت فرضا ولا ردّا ، وباقي المال يعطى للعم.

ولو كانت للميّت بنتان فصاعدا وكان له أخ أو عمّ أو ابن أخ أو ابن عمّ ، فعلي القول بعدم التعصيب فلهما أو لهنّ الثلثان فرضا ، والباقي أيضا لهما أو لهنّ ردّا ، والعصبة بفيها التراب كما في الرواية (1) وأمّا على القول بالتعصيب فالباقي للعصبة ، أي الأخ والجد - أي أب الأب - والعمّ وأولادهما وابن الابن ، على الترتيب المقرّر في الإرث.

وبعد ما عرفت ما قلنا ، فإن كان من هو من العصبة إماميّا اثنى عشريّا - ولا يقول

ص: 188


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 431 ، أبواب موجبات الإرث ، باب 8.

بالتعصيب بل يقول بوجوب إعطاء الباقي ، أي ما زاد على الفرض أيضا إلى ذوي الفروض ، فمع أنّه يعتقد عدم استحقاقه وكون التركة كلّها لذوي الفروض فرضا وردّا - يجوز له الأخذ ويصير ملكا له بالأخذ ، لأجل دلالة هذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام على جواز الأخذ ، وفروع الأخذ بالتعصيب كثيرة.

والضابط الكلّي هو أنّه في كلّ مورد يورثونه المخالفون بحسب مذهبهم ، ولكن هو حيث أنّه إماميّ لا يعتقد استحقاقه لذلك الميراث ، لأنّه ليس من مذهبه ، فهذه القاعدة تجوز أخذه منهم وإلزامهم بما هو مذهبهم.

ومنها : مسألة الطلاق على غير السنة ، أي الطلاق الذي فاقد لأحد الشرائط المعتبرة في صحّته ، سواء أكان من شرائط المطلّق ككونه عاقلا بالغا مختارا ، أو المطلقة ككونها طاهرة من الحيض والنفاس مع حضور الزوج ومع كونها مدخولة وحائلا. وأيضا من شرائط صحّة طلاقها أن لا يقرّبها زوجها في ذلك الطهر الذي يقع الطلاق فيه. وأيضا من شرائط صحّة الطلاق أن يكون بحضور شاهدين عدلين.

فإذا كان الطلاق فاقدا لأحد هذه الشرائط أو أكثر يكون باطلا عند فقهاء الإماميّة ، وكذلك الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها يكون باطلا عند الإماميّة الاثنى عشريّة ، فإذا طلّق المخالف زوجته ولم يكن الطلاق واجدا لجميع هذه الشرائط ، فيكون ذلك الطلاق باطلا عندنا ، وتكون الزوجة باقية على زوجيّتها ، ولكن مع ذلك كلّه لو كان الزوج - أي المطلّق المذكور - يعتقد صحّة ذلك الطلاق حسب مذهبه ، فللإماميّ الاثني عشري أن يلزمه بما ألزمه به نفسه ، أي يلزمه بصحّة ذلك الطلاق الباطل ، ويرتّب عليه آثار الصحّة بهذه القاعدة ويتزوّج بها.

إن قلت : بناء على ما ذكرت من بطلان ذلك الطلاق ، وبقاء تلك الزوجة على زوجيّتها لذلك الزوج المطلّق ، فإذنه بل أمره علیه السلام بتزويج تلك المرأة في ما رواه عليّ بن أبي حمزة في قوله علیه السلام بعد أن قال : أيتزوّجها الرجل؟ فقال علیه السلام : « ألزموهم من ذلك ما

ص: 189

ألزموه أنفسهم وتزوّجوهنّ ولا بأس بذلك » (1) يكون معناه ومرجعه إلى أنّه علیه السلام أمر بتزويج ذات البعل. وهنا في غاية الاستبعاد ، بل لا يجوز أنّ يتفوّه به.

قلنا : إنّ مرجع أمره علیه السلام بتزويج مثل تلك المرأة إلى خروجها عن الزوجيّة بنفس العقد الواقع عليها ممّن لا يعتقد بصحّة ذلك الطلاق ، فيكون من قبيل وطي ذي الخيار للأمة التي باعها ، وكان للبائع الخيار ؛ فيتحقّق الفسخ بنفس الوطي. وحيث أنّ الفسخ يحصل بنفس الوطي فيكون الوطي علّة لحصول الملكيّة ، أي رجوع ملكيّة الأمة إلى البائع ، والعلّة والمعلول متّحدان زمانا ، والتقدّم والتأخّر بينهما رتبيّ فقط. فيكون الوطي والملكيّة في زمان واحد ، فهذا الوطي ليس وطيا في غير ملك كي يكون حراما ، لقوله تعالى ( إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (2).

وفيما نحن فيه نقول : حيث أنّ عقد القائل ببطلان ذلك الطلاق علّة لخروجها عن الزوجيّة ، فالعقد وعدم الزوجيّة يكونان في زمان واحد ، لأنّهما علّة ومعلول - كما ذكرنا - فلم يقع العقد على زوجة الغير.

إن قلت : من أي سبب صار العقد علّة لخروجها عن الزوجيّة؟

نقول : من قوله علیه السلام « ألزموهم » ومن قوله علیه السلام « تزوّجوهنّ » نستكشف ذلك ، بعد القطع بأنّه علیه السلام لا يأمر بتزويج امرأة ذات بعل ، وبعد القطع بأنّ هذا الطلاق باطل ، فلا يمكن الجمع بين هذه الأمور إلاّ بأن يقال : بأنّ الزوجيّة للمطلّق باقية إلى زمان عقد الصادر من الذي يعتقد ببطلان ذلك الطلاق ، فبعقده عليها تصير خلية بالنسبة إلى زوجها الذي طلّقها ، وتصير زوجة للذي عقد عليها.

وأمّا حديث حكومة قوله علیه السلام « ألزموهم » أو قوله علیه السلام « تزوّجوهنّ » فلا يرفع هذا الإشكال أصلا ، وذلك من جهة أنّ الحكومة - على أدلّة اشتراط الطلاق

ص: 190


1- تقدّم تخريجه في ص 180 ، رقم (1).
2- المؤمنون (23) : 6.

بالشرائط المذكورة في باب الطلاق - معناها صحّة هذا الطلاق ، وهذا مخالف للضرورة في مذهب الشيعة ، حيث أنّ الفقهاء كلّهم متّفقون على بطلان هذا الطلاق ، ولم يقل أحد منهم بصحّته ولو بالعنوان الثانوي ، أي بعنوان أنّه الطلاق الصادر عن المخالفين.

وأيضا مخالف للأخبار الصريحة في أنّه « إيّاكم وتزويج المطلّقات ثلاثا في مجلس واحد ، فإنّهنّ ذوات أزواج » (1).

وحاصل الكلام : أنّه في العناوين الثانوية جعل الشارع لفعل واحد من حيث الماهيّة حكمين واقعيّين مختلفين ، غاية الأمر بعنوانين : أحدهما هو العنوان الأوّلي للشي ء ، والثاني هو العنوان الثانوي ، مثل أكل لحم الميتة الذي هو بعنوانه الأوّلى حرام واقعا ، وبعنوانه الثانوي مثل أن يكون الأكل عن اضطرار أو إكراه أو غير ذلك هو حلال واقعا ، فيرجع الأمر فيما نحن فيه إلى أنّ الشارع جعل للطلاق حكمين : إذا كان صادرا عن الشيعة يكون صحّته مشروطا بتلك الشرائط ، وإذا كان صادرا من المخالف فليس مشروطا بتلك الشرائط.

وبعبارة أخرى : الطلاق الفاقد للشرائط المعتبرة فيه إذا كان المطلّق من الشيعة يكون فاسدا ، وإذا كان من مخالفيهم يكون صحيحا. وهذا كلام لا يمكن الالتزام به.

اما أوّلا : فلاستنكارهم علیهم السلام لصحّة مثل هذا الطلاق ، واستدلالهم على بطلانه بالكتاب العزير عليهم ، وهذا لا يناسب مع كون طلاقهم على غير السنة طلاقا صحيحا شرعيّا.

وثانيا : ما رواه في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام أنّ رجلا من أصحابه سأله عن رجل من العامّة طلّق امرأته لغير عدّة ، وذكر أنّه رغب في تزويجها ،

ص: 191


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 406 ، ح 4418 ، باب ما حلّ اللّه من النكاح ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 56 ، ح 183 ، باب أحكام الطلاق ، ح 102 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 289 ، ح 1022 ، باب من طلّق امرأته. ، ح 16. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 316 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 29 ، ح 20.

قال علیه السلام : « انظر إذا رأيته فقل له : طلّقت فلانة؟ إذا علمت أنّها طاهرة في طهر لم يمسّها فيه ، فإذا قال : نعم فقد صارت تطليقة فدعها حتّى تنقضي عدّتها من ذلك الوقت ، ثمَّ تزوّجها إن شئت ، فقد بانت منه بتطليقة بائنة ولكن معك رجلان حين تسئله ليكون الطلاق بشاهدين عدلين » (1).

وهذه الرواية ظاهرة - بل صريحة - في فساد الطلاق على غير السنّة ، وإن كان فيها إشكال من جهة أخرى ، وهي مخالفتها لقاعدة الإلزام ، ولكن يمكن أن يقال إنّها محمولة على الاستحباب من هذه الجهة.

وهناك روايات رواها في الوسائل تدلّ على أنّ المطلّقة ثلاثا باقية على زوجيّتها لزوجها المطلّق (2).

وخلاصة الكلام : أنّ القول بصحّة الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها فيما إذا كان المطلّق ممّا يقول بصحّة مثل هذا الطلاق - أي كان من مخالفينا بحيث يكون هاهنا موضوعين : أحدهما موضوع للصحّة وهو الطلاق الصادر ممّن يعتقد بصحّة مثل هذا الطلاق ، والثاني موضوع للبطلان وهو الطلاق الصادر ممّن يقول ببطلان مثل هذا الطلاق ، فالصحة والفساد يكونان منوطين بالقول بالصحّة والفساد - عجيب.

وبعد الإحاطة على ما ذكرنا تعرف أنّ مقتضي الجمع بين الأدلّة هو ما ذكرناه من أنّ الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها ، سواء كان بلفظ واحد أو بتكرار الطلاق ثلاثا من غير رجعة بينها لا يقع الثلاث ، بل لا يقع حتّى واحد منها ، وإن كان من هذه الجهة الأخيرة محلّ خلاف بيننا.

وكذلك يكون الطلاق فاسدا إذا كان فاقدا لسائر شرائط الصحّة ، وإن كان

ص: 192


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 263 ، ح 1002 ، « مستدرك الوسائل » ج 15 ، ص 304 ، أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، باب 23 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 311 ، أبواب مقدّمات الطلاق ، باب 29.

المطلّق ممّن يقول بصحّته ، وتكون الزوجة باقية على زوجيّتها. والقول بصحّة مثل هذا الطلاق ممّا يأباه المذهب وإن كان صادرا ممّن يعتقد بصحّة مثل هذا الطلاق.

وأيضا لا شكّ في أنّهم علیهم السلام أمروا بصحّة تزويج مثل هذه المطلّقة ، مع عدم إمكان أن يسند إليهم علیهم السلام القول بصحّة تزويج المزوّجة والتي هي زوجة الغير ، فلا بدّ من القول بأنّ تلك المطلّقة باقية على زوجيّتها للمطلّق ، ولكن بنفس العقد الواقع عليها من الذي يعتقد بطلان ذلك الطلاق يخرج عن كونها زوجة للمطلّق ، فذلك العقد يكون طلاقا بالنسبة إلى الزوج الأوّل ، ونكاحا بالنسبة إلى الثاني.

وهذا في مقام الثبوت ممكن ، لما ذكرنا من أنّه من قبيل وقف ذي الخيار أو عتقه لمن باعه في زمان خياره ، فعقد الوقف وكذلك إيقاع العتق يكون فسخا وإخراجا عن ملك المبتاع ، ووقفا أو عتقا أيضا في زمان واحد ، وليس أحدهما متقدّما على الآخر بحسب الزمان أصلا ، نعم التقدّم والتأخّر بينهما إنّما هو بحسب الرتبة ، وفيما نحن فيه أيضا كذلك الخروج عن الزوجيّة للزوج الأوّل ، وصيرورتها زوجة للثاني في زمان واحد ، فلم يقع العقد على زوجة الغير كما ربما يتوهّم.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فأمرهم علیهم السلام بتزويجهم ، أو أخذ المال في مورد التعصيب ، أو المعاملات الفاسدة والضمانات غير الصحيحة - مع أنّ لهم الولاية العامّة - يدلّ على أنّهم علیهم السلام جعلوا نفس العقد عليهنّ طلاقا لهنّ ، وتزويجا للزوج الثاني ، وبناء على ما ذكرنا يكون العقد واقعا على امرأة خلية ، لأنّ زمان حصول زوجيّتها للثاني مع زمان عدم زوجيّتها للأوّل واحد ، لأنّهما معلولان لعلّة واحدة ، وهو العقد الواقع عليها.

وعلى هذا الأساس بنينا صحّة الأمر الترتّبي بالنسبة إلى الضدّين بأن قلنا : إنّ عصيان الأهمّ الذي هو شرط فعليّة الأمر بالمهمّ مع نفس الأمر بالمهمّ وامتثاله أيضا

ص: 193

الثلاثة في زمان واحد. والتفصيل في محلّه في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وقد أطلنا الكلام لرفع شبهة ربما تقع في بعض الأذهان.

وأمّا القول بالإباحة فلا أساس له أصلا ، إذ هذا القائل لو يقول بفساد مثل ذلك الطلاق فنسبة إباحة وطي الزوجة الباقية على زوجيّتها للأوّل إلى الإمام علیه السلام مع علم الواطي بأنّها زوجة الغير - عجيب ، وقلنا ينبغي أنّ لا يتفوّه بذلك أحد ، وإن كان يقول بصحّة هذا الطلاق فتكون هي زوجته حقيقة ، فالإباحة المجرّدة لا معنى لها.

ويتفرّع على ما ذكرنا أنّ المخالف لو استبصر بعد أن طلّق زوجته بالطلاق الفاقد لشرائط صحّة الطلاق ولم يعقد عليها غيره ممّن يجوز له العقد عليها ، فله أن يرجع إلى زوجته المطلّقة بدون الاحتياج إلى عقد جديد ، لأنّها زوجته ولم تبن منه ولم تخرج عن زوجيّتها ، لما قلنا من أنّ الخروج بنفس العقد.

فما دام كان مخالفا حيث أنّه يعتقد صحّة طلاقه وكان مخطئا في اعتقاده هذا ، فلو كان يرجع إليها فأمّا كان متجرّيا متهتّكا غير مبال بارتكاب حرمات اللّه ، كما إذا أخطأ في اعتقاده واشتبه عليه فقارب زوجته باعتقاد أنّها زوجة الغير ، أو كان مرتكبا للحرام الواقعي ، بناء على أنّ الشارع نزل هذا الطلاق الفاسد بالنسبة إلى نفس المطلّق في حكم الطلاق الواقعي ، من حيث حرمة مباشرته ومقاربته معها.

وأمّا إذا استبصر فلا معنى لأن يكون متجرّيا ، لعلمه بفساد الطلاق وبقائها على زوجيّتها له على المبنى المذكور. وأمّا بناء على تنزيل هذا الطلاق الفاسد منزلة الطلاق الصحيح من حيث أثر حرمة وطيها وسائر انتفاعات الزوجيّة بالنسبة إليه ، فهذا كان فيما إذا كان مخالفا وما دام أنّه معتقد بصحّته ، كما هو ظاهر قوله علیه السلام في رواية عبد اللّه بن طاوس ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « أنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم » (2).

ص: 194


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 336.
2- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 1 ، ص 310 ، ح 74 ، « معاني الأخبار » ص 263 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 322. أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 11.

وأيضا ظاهر قول مولانا الرضا علیه السلام في رواية هيثم بن أبي مسروق ، حيث ذكر عنده بعض العلويّين ، فقال علیه السلام : « أما إنّه مقيم على حرام » قلت : جعلت فداك كيف وهي امرأته؟ قال علیه السلام : « لأنّه قد طلّقها » قلت : كيف طلّقها؟ قال علیه السلام : « طلّقها وذلك دينه ، فحرمت عليه » (1).

فهاتان الروايتان وما هو نظيرهما علّق الحرمة ولزوم التزامه بأحكام دين بما إذا كان معنونا بعنوان « أنّه دان بدين قوم » أو عنوان « ذلك دينه » فإذا زال هذا العنوان عنه بواسطة استبصاره ، يزول مع زواله حكمه أيضا ، لأنّ ظاهر أخذ كلّ عنوان في موضوع حكم أنّ لذلك العنوان دخل في الحكم حدوثا وبقاء ، لا حدوثا فقط. ولعمري هذا واضح جدّا ولا ينبغي أن يشكّ فيه.

فبناء على هذا لو استبصر قبل أن يعقد عليها شخص آخر ، له أن يرجع إليها. وأمّا إنّه إذا عقد عليها من يجوز له ذلك ، فلا يبقى مورد للرجوع إليها البتّة ، لما قلنا أنّ العقد بمنزلة الطلاق ، ويوجب خروجها عن حبالة الزوج المطلّق.

ومنها : أنّه لو تزوّج الشيعي بامرأة من المخالفين بدون حضور شاهدين على العقد ، فلو مات هذا الشيعي بعد الدخول بها ، فيجوز لورثة الميّت إن كانوا من الشيعة منعها من الإرث ومن مهرها أيضا ، وعن كلّ ما تستحقّ المرأة على زوجها من ناحية كونها زوجة لذلك الميّت ، لأنّها ترى هذا العقد فاسدا ، بناء على ما هو من مذهبها من بطلان النكاح بغير حضور شاهدين ، كما نقول نحن في الطلاق ، فمذهبهم على العكس من مذهبنا ، فالإماميّة قائلون بلزوم شاهدين عدلين في الطلاق دون النكاح ، ومخالفوهم يقولون بلزومهما في النكاح دون الطلاق.

ص: 195


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 187 ، باب أحكام الطّلاق ، ح 106 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1028 ، باب إنّ المخالف إذا طلّق امرأته. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 2.

ومنها : أنّ المخالف لو طلّق زوجته مكرها على ذلك ، فحيث أنّ طلاق المكره عند أبي حنيفة وجمع آخر صحيح ونافذ على ما نقل عنهم (1). فيجوز للشيعي ، أن يرتّب آثار الصحّة على هذا الطلاق - وإن لم يكن عنده صحيحا - بقاعدة الإلزام ، فيتزوّج بها بعد انقضاء عدّتها.

وكذلك الأمر في كلّ مورد يكون مذهبهم صحّة الطلاق مع عدم صحّته عند الإماميّة ، فيجوز للإمامي الاثني عشري ترتيب آثار الصحّة على ذلك الطلاق الفاسد في مذهبه إن كان صحيحا في مذهب المخالف ، كما إذا حلف بالطلاق إن فعل الأمر الفلاني أو إن لم يفعل ، فهذا الطلاق عندنا باطل ، لكن عندهم صحيح ، فيجوز أن يرتّب عليه آثار الصحّة بقاعدة الإلزام.

وخلاصة الكلام : أنّ موارد قاعدة الإلزام في أبواب النكاح والطلاق كثيرة ، والضابط الكلّي هو أنّ كلّ نكاح أو طلاق كان فاسدا حسب مذهب الإماميّة وكان صحيحا عندهم ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الصحّة عليه بهذه القاعدة إن كان في صحّته ضرر على المخالف ، لأنّ الإلزام لا معنى له إلاّ فيما إذا كان الملزم به ضررا عليه.

وكذلك العكس ، أي كلّ نكاح أو طلاق كان صحيحا حسب مذهب الإماميّة وكان فاسدا عندهم ، يجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد عليه إذا كان آثار الفساد ضررا عليه ، وذلك لما ذكرنا من عدم صدق الإلزام عرفا إلاّ مع كون الملزم به ضررا عليه.

وأيضا يدلّ على ما ذكرنا من لزوم كون الآثار ضررا عليه قوله علیه السلام في بعض روايات القاعدة : « خذوا منهم كما يأخذون منكم » (2) فبناء على ما ذكرنا لو عقد المخالف

ص: 196


1- « بدائع الصنائع » ج 3 ، ص 100 ، « الباب » ج 2 ، ص 226 ، « شرح العناية على الهداية » ج 3 ، ص 39 ، « شرح فتح القدير » ج 3 ، ص 39 ، « تبيين الحقائق » ج 2 ، ص 194 ، « حاشية إعانة الطالبين » ج 4 ، ص 5 ، « فتح الباري » ج 9 ، ص 390 ، « المغني لابن قدامة » ج 8 ، ص 260 ، « الشرح الكبير » ج 8 ، ص 243 ، « المجموع » ج 17 ، ص 67 ، ونقله عنه من أصحابنا الشيخ في « الخلاف » ج 4 ، ص 478.
2- سبق تخريجه في ص 180 ، رقم (2).

على المطلّقة اليائسة قبل انقضاء عدّتها ، فهذا العقد عندنا صحيح ، لأنّ اليائسة عندنا لا عدّة لها ، وعندهم فاسد ، لقولهم بوجوب العدّة عليها ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد على هذا العقد - وإن كان في مذهبه صحيح - بهذه القاعدة ، فله أن يتزوّج بها بدون أن يطلّقها الزوج المخالف.

وكذلك الأمر لو تزوّج المخالف بنت الأخ أو بنت الأخت على عمّتها في الأوّل ، وعلى خالتها في الثاني ، برضاء العمّة في الأوّل ، وبرضاء الخالة في الثاني ، فهذا العقد عند الإماميّة صحيح ، لكن المنقول عنهم عدم صحّته وفساده ، فإنّهم لا يجوّزون الجمع بين العمّة وبنت الأخ ، ولا بين الخالة وبنت الأخت ولو برضاء العمّة في الأوّل وبرضاء الخالة في الثاني ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد على عقد بنت الأخ وبنت الأخت - إن كان العقد عليهما متأخّرا عن العقد على العمّة أو الخالة - بأن يعقد عليهما بدون أن يطلّقهما الزوج المخالف.

وممّا ذكرنا ظهر لك حال طلاق السكران ، وطلاق الحائض مع حضور الزوج ، والطلاق في الطهر الذي قاربها وجامعها فيه ، ففي جميع ذلك يكون الطلاق فاسدا على مذهبنا ، ويكون صحيحا عند فقهائهم جميعا أو في بعض مذاهبهم ، فيجوز إلزامهم بصحّة الطلاق في الموارد المذكورة ، وإن كان فاسدا عندنا ، كلّ ذلك لأجل شمول قاعدة الإلزام لهذه الموارد المذكورة وأمثالها ممّا لم نذكرها.

ومنها : لو طلّق المخالف امرأته معلّقا على أمر محتمل الحصول أو متيقّن الحصول ، فالأوّل كما لو قال : امرأتي فلانة طالق لو قدم زيد من سفره هذا غدا مثلا أو مطلقا ، ثمَّ جاء في ذلك الوقت المعيّن في الأوّل أو مطلقا في الثاني. وبعبارة أخرى : حصل المعلّق عليه المحتمل الوقوع ، فهذا الطلاق عندنا فاسد إجماعا ، لمكان التعليق ، وصحيح عندهم ، فيجوز ترتيب آثار الصحّة على هذا الطلاق الفاسد عندنا بقاعدة الإلزام.

وأمّا في الصورة الثانية ، أي لو كان طلاقه معلّقا على أمر معلوم الحصول ، كما لو

ص: 197

قال لامرأته : أنت طالق لو طلعت الشمس أو غربت مثلا ، فمن يقول بصحّة مثل هذا الطلاق من فقهائنا فلا إشكال في أنّه يجوز له ترتيب آثار الصحّة على مثل هذا الطلاق ، لأنّه رأيه وفتواه ، سواء أكانت قاعدة الإلزام في البين أو لم تكن.

وأمّا من يقول بفساده لأجل الإجماع على بطلان التعليق في العقود وفي الإيقاعات - التي منها الطلاق - بطريق أولى ، فله ترتيب آثار الصحّة على هذا الطلاق بقاعدة الإلزام ، لأنّهم قائلون بصحّة الطلاق المعلّق على أمر محتمل الوقوع أو متعيّن الوقوع فيما إذا حصل المعلّق عليه.

ومنها : أبواب الضمانات ، سواء أكان الضمان ضمانا واقعيّا ، أو كان هو ضمان المسمّى كباب المعاوضات.

والضابط الكلّي هاهنا هو أنّه في كلّ مورد كان الضمان على المخالف - سواء أكان ضمان المسمّى أو الضمان الواقعي - باعتقاده ، وإن لم يكن عليه ضمان حسب مذهب فقهاء أهل البيت ، فيجوز إلزامه بذلك الضمان الذي يعتقد به حسب مذهبه بقاعدة الإلزام ، وهذا المعنى - أي : كون الضمان عليه - أعمّ من الواقعي والمسمّى حسب مذهبه يختلف سببه عندهم ، فقد يكون سبب الضمان عليه صحّة المعاملة عندهم ، وقد يكون فساد المعاملة موجبا لذلك ، وقد يكون فعل موجبا للضمان عندهم وليس موجبا عندنا.

وعلى كلّ واحد من التقديرين لا بدّ في إجراء قاعدة الإلزام أن يقول فقهائنا بعدم الضمان عليه ، وإلاّ لا معنى لإجراء القاعدة ، كما ذكرنا ذلك مفصّلا فلا نعيد.

وموارد هذا القسم كثيرة في أغلب أبواب المعاملات والضمانات بقسميه ، أي المسمّى والواقعي ، نذكر جملة منها :

ص: 198

أحدها : ما تقدّم منّا (1) من أنّه لو باع حيوانا من المخالف وقبضه المشتري المذكور فتلف في يده قبل انقضاء ثلاثة أيّام ، أي وقع التلف في زمان خيار المشترى ، فيكون الضمان عندنا على البائع الإمامي ، لقاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » وفي الفرض من لا خيار له هو البائع ، فيكون الضمان عليه حسب مذهبه. ولكن المخالفين قائلون بأنّ الضمان على المشتري ، لأنّه بعد أن قبض المبيع - كما هو المفروض - ينتقل الضمان من البائع إلى المشتري بواسطة القبض ، لأنّهم لا يعتبرون قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » دليلا يعتمد عليه ويركن إليه.

وبناء على هذا للبائع الشيعي أن لا يردّ إليه الثمن بقاعدة الإلزام وإن كان بحسب مذهبه يجب عليه ردّ الثمن بناء على أحد القولين ، أو قيمة المبيع إن كان قيميّا ومثله إن كان مثليّا على القول الآخر.

ثانيها : ما تقدّم أيضا من أنّه لو أعار للمخالف ما يمكن اختفاؤه ، مع أنّه ليس من الذهب والفضّة ، وأيضا ليس بدرهم ولا دينار ، ولم يشترط أيضا عليه الضمان ، فعلى مذهب المعير الشيعي ليس في مثل هذه العارية ضمان إذا تلف المعار ، ولكنّهم في بعض مذاهبهم يقولون بالضمان ، فإذا كان المستعير من أهل ذلك المذهب ، للمعير الشيعي إلزامه بالضمان إذا تلف بهذه القاعدة وإن كان مذهبه عدم الضمان.

ثالثها : لو باع شيئا من المخالف ، وكان المخالف حنفيّا ولم يشترطا خيارا لهما أو لخصوص المشتري الحنفي ، فلو فسخ ذلك المشتري وهما بعد في المجلس ولم يتفرّقا فللبائع الشيعي إلزامه ببقاء المعاملة ، وعدم صحّة هذا الفسخ وعدم تأثيره في انحلال العقد ، وذلك من جهة أنّ مذهب ذلك المشتري أنّه لا خيار في المجلس إلاّ بالشرط ، فإذا لم يكن شرط الخيار في المجلس فلا خيار ، وإن كان هذا خلاف مذهب البائع ، لأنّ

ص: 199


1- تقدّم ذكره في ص 182.

الشيعة متّفقون على ثبوت خيار المجلس ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (1).

وكذلك الأمر أيضا لو كان المشتري مالكيّا ، لأنّ مذهبهم أنّه لا خيار في المجلس أصلا ، ويقولون : إنّ الحديث الشريف المتقدّم ، وإن كان روايته صحيحة ، إلاّ أنّ عمل أهل المدينة كان على خلافه ، وعملهم مقدّم على الحديث وإن كان صحيحا ، لأنّه في حكم المتواتر الموجب للقطع بخلاف الحديث ، فإنّه وإن كان صحيحا لكنّه خبر آحاد يفيد الظنّ ، فالأوّل مقدّم عليه ، انتهى ، ولا يخفى أنّ كلامهم هذا صرف ادّعاء بلا بيّنة ولا برهان.

رابعها : لو باع الشيعي للمخالف ما اشتراه قبل أن يقبضه عن المالك الأوّل ، فهذا البيع صحيح عند فقهاء الإماميّة ، غاية الأمر يقول بعضهم بالكراهة في خصوص ما إذا كان المبيع ممّا يكال أو يوزن ، وقول شاذّ بالتحريم إذا كان ذلك المبيع الذي لم يقبضه طعاما ، ولكن هذا البيع - أي بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه - باطل عند الشافعي ، فلو باع الشيعي من أحد من الشافعيّة مثل هذا المبيع ، أي : ما اشتراه قبل أن يقبضه ، فندم يجوز له أن يلزم المخالف بما هو طبق مذهبه من فساد المعاملة ويسترجع المبيع ، وإن كان مذهب البائع صحّة هذه المعاملة.

وكذلك الأمر لو كان المشتري حنفيّا وكان المبيع الذي لم يقبضه عن المالك الأوّل وباعه قبل أن يقبضه من الأعيان المنقولة ، فإنّ الحنفيّة يقولون بفساد بيع الأعيان المنقولة قبل أن يقبضها (2) ، سواء باعها لمن اشتراها منه أو لغيره ، فالبيع الثاني باطل وفاسد ، وأمّا البيع الأوّل فيبقى على صحّته.

خامسها : لو باع حرّا وعبدا صفقة واحدة لحنفي ، فعندنا البيع بالنسبة إلى الحرّ

ص: 200


1- « الكافي » ج 5 ، ص 170 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 20 ، ح 85 ، باب عقود البيع ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 72 ، ح 240 ، باب ان الافتراق بالأبدان. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 346 ، أبواب الخيار ، باب 1 ، ح 3.
2- « الفقه على المذاهب الأربعة » ج 2 ، ص 234.

باطل ، وبالنسبة إلى العبد صحيح ولكن عند أبي حنيفة أبطل في الجميع ، فللبائع إلزام ذلك المشتري بالبطلان في الجميع إذا ندم من بيع عبده ، وإن كان صحيحا عند البائع بالنسبة إلى العبد ، وكذلك الأمر بعينه فيما إذا كان بعض الصفقة الواحدة مالا وبعضها ليس بمال ، كما إذا باع خمرا أو خلاّ أو شاة وخنزيرا.

سادسها : لو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن ، والمشتري كان شافعيّا ، فعندنا هذا البيع جائز ، وعند الشافعيّة باطل ، فإذا ندم البائع من بيعه هذا يجوز له إلزام المشتري بالبطلان بقاعدة الإلزام.

فهذه الموارد التي ذكرناها من موارد الخلاف بين فقهائنا وفقهاء مخالفينا في كتاب البيع موارد قليلة من الموارد الكثيرة فالتي ذكرها الأصحاب ربما يزيد عددها على المئات.

السابع : ذكر الشيخ قدس سره في الخلاف : أنّ الراهن إذا شرط أن يكون الرهن عند عدل صحّ هذا الشرط (1). ثمَّ ذكر بعد هذا الفرع فرعا آخر ، وهو : أنّ العدل في مقام أداء دين المرتهن لا يجوز له أن يبيع الرهن إلاّ بثمن مثله حالاّ ، فلا يجوز أن يبيعه نسيئة ولا بأقلّ من ثمن مثله.

ونسب إلى أبي حنيفة (2) أنّه قال : يجوز له أن يبيعه نسيئة وبأقلّ من ثمن المثل ، حتّى إنّه لو باع ضيعة تساوي مائة ألف دينار بدانق إلى ثلاثين سنة نسيئة جاز ذلك. وبناء على هذه الفتوى الغريبة من أبي حنيفة لو كان الراهن حنفيّا ، فيجوز إلزامه بصحّة هذا البيع بهذه القاعدة ، وإن كان غير صحيح عندنا.

وأيضا نسب الشيخ قدس سره إلى أبي حنيفة أنّ الرهن مضمون بأقلّ الأمرين (3) والظاهر

ص: 201


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 242 ، المسألة : 40 ، وص 244 ، المسألة : 44.
2- « المبسوط للسرخسى » ج 21 ، ص 84 ، « الفتاوى الهنديّة » ج 5 ، ص 443 ، « بدائع الصنائع » ج 6 ، ص 149 ، « تبيين الحقائق » ج 6 ، ص 81 ، « المغني لابن قدامة » ج 4 ، ص 426 ، « الشرح الكبير » ج 4 ، ص 452.
3- « الخلاف » ج 3 ، ص 245 ، المسألة : 46.

أنّ مراده بالأمرين ، أي الدين وقيمة العين المرهونة ، والصحيح عندنا لا ضمان في الرهن إلاّ مع التعدّي والتفريط ، لأنّه من قسم الأمانة المالكيّة ، وقد بيّنّا عدم الضمان بدون التعدّي والتفريط في الأمانات مطلقا في إحدى قواعد هذا الكتاب ، فلو كان المرتهن حنفيّا وتلف عنده الرهن بدون تعدّ ولا تفريط ، يجوز إلزامه بأخذ أقلّ الأمرين منه بهذه القاعدة ، وإن كان لا يجوز عندنا ولا ضمان.

وأيضا نسب الشيخ قدس سره إلى أبي حنيفة أنّ العدل لو باع الرهن لأداء الدين وقبض الثمن ، فلو تلف الثمن بعد القبض يسقط من الدين بمقدار الثمن (1). وبعبارة أخرى : يكون ثمن الرهن في ضمان المرتهن. وهذا وإن كان غير صحيح عندنا ، لأنّ المرتهن ما لم يقبض دينه لا وجه لسقوط دينه ، ولكن المرتهن إن كان حنفيّا يجوز إلزامه بسقوط دينه بهذه القاعدة.

وأيضا نسب الشيخ قدس سره إلى أبي حنيفة أنّ منفعة الرهن لا للراهن ولا للمرتهن ، مثلا لو رهن دارا فليس أن يسكنها الرهن أو يؤجرها ، ولا يجوز أيضا للمرتهن أن يسكنها أو يؤجرها (2) ؛ وحاصل كلامه : أنّ منفعة الرهن لا يملكه الراهن ولا المرتهن ، وأمّا نماؤه المنفصل فيدخل في الرهن ، فيكون رهنا مثل أصله.

وهذه الفتوى وإن كانت غير صحيحة عندنا ، لأنّ منافع الشي ء تابعة لأصله ، وكلّ من كان مالكا للأصل يكون مالكا للمنفعة والنماء ، متّصلة كانت النماء أم منفصلة ، ولكن لو كان الراهن حنفيّا يجوز إلزامه بدخول النماء المنفصل في الرهن ، فلو رهن بقرة مثلا فولدت عجلا ، يكون ذلك العجل أيضا مثل أمّه رهنا.

وهناك فروع كثيرة في كتاب الرهن تكون من موارد قاعدة الإلزام تركنا ذكرها خوفا من التطويل.

ص: 202


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 245 ، المسألة : 47.
2- « الخلاف » ج 3 ، ص 251 ، المسألة : 58.

الثامن : إذا كان هناك اثنان ، أحدهما راكب على دابّة ، والآخر آخذ بلجامها فتنازعا في تلك الدابّة ولم تكن لأحدهما بيّنة على ما يدّعيه من ملكيّة تمام الدابة ، أو أمارة أخرى ، أو دليل آخر ولو كان أصلا عمليّا كالاستصحاب ، فتجعل بينهما نصفين ، عملا بقاعدة العدل والإنصاف ، أو لكون يد كلّ واحد منهما على تلك الدابّة ، حيث أنّها ليست يدا مستقلّة على التمام ، فتكون عند العرف والعقلاء بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على النصف إذا كانا اثنين ، وعلى الثلث إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بالنسبة إلى عدد الشركاء قلّة وكثرة ، فبكثرة الشركاء ينقص الكسر ، وبقلّتهم يتصاعد حتّى يصل إلى النصف فيما إذا كان الشريك - في كونه أيضا ذا اليد - واحدا ، أو من جهة التصالح القهري ، هذا ما عندنا.

وباقي الفقهاء من مخالفينا قالوا : يحكم بأنّها للراكب ، فلو كان الراكب منّا يجوز له إلزام آخذ اللجام بذلك إن كان منهم.

التاسع : قال الشيخ قدس سره في الخلاف : لو أتلف شخص مال آخر وكان من القيميّات ، كما أنّه لو أتلف شاة له مثلا وكانت قيمتها ثلاث دنانير ، فأقرّ بأنّه أتلفها وصالحه على أقلّ من قيمتها الواقعيّة أو على أكثر منها ، فهذا الصلح باطل ، لأنّه يكون من الرباء المحرّم المبطل للمعاملة (1).

وهذا بناء على جريان حكم الرباء في الصلح مثل البيع ، مع كون ما في الذمّة بعد التلف قيمة التالف لا عينه بوجودها الاعتباري ، كما ربما يكون هذا ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله :

« وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (2). وهو ما اخترناه.

وأمّا كونه من الرباء فمن جهة أنّه بعد أن أتلف مال الغير وكان من القيميّات

ص: 203


1- « الخلاف » ج 2 ، ص 177.
2- « السنن الكبرى » ج 6 ، ص 90 ، « كنز العمال » ج 10 ، ص 360 ، ش 29811 ، « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 437 ، باب 6 ، ح 17216 وج 17 ، ص 88 ، باب 1 ، ح 20819.

تشتغل ذمّته بقيمة ذلك المال ، فالمصالحة تقع بين قيمة ذلك المال التي على عهدته وبين ما يتصالحان به ، وحيث أن المفروض أنّ القيمة أقلّ منه أو أكثر ، فيكون من الرباء ، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة : يجوز ، فلو كان طرف المصالحة حنفيّا وكانت تلك المصالحة على ضرره ، يجوز للآخر الذي يخالفه في المذهب إلزامه بذلك ، بهذه القاعدة.

العاشر : المنافع تضمن بالغصب عندنا ، سواء أكانت المنافع مستوفاة أو غير مستوفاة ، فلو غصب دارا وسكنها أو آجرها ، فكما أنّه ضامن لأصل الدار كذلك ضامن للمنافع التي استوفاه بالسكنى فيها أو بأن آجرها ، بل الحقّ كما قلنا أنّه يضمن المنافع وإن لم يستوفاه. ولتحقيق هذه المسألة مقام آخر.

وقال أبو حنيفة : إنّ الغاصب لا يضمن المنافع أصلا وإن استوفاها ، فضلا عمّا إذا لم يستوفها ، ويقول أيضا : إذا غصب أرضا فزرعها ببذره ، كانت الغلّة له ولا أجرة عليه ، إلاّ أن تنقص الأرض بذلك ، فيكون عليه جبران ما نقص.

وكذلك قال : إن آجر مثلا دارا أو دكّانا غصبهما ، فالأجرة لذلك الغاصب إن أخذها ويملكها دون مالكهما ، هذا ما حكاه الشيخ قدس سره عنه في الخلاف (1) ، فبناء على هذا لو كان المغصوب منه حنفيّا يمكن إلزامه بهذه القاعدة ولا يعطى اجرة ملكه أو أملاكه التي استوفاها الغاصب ، وإن كانت لسنين متعدّدة.

الحادي عشر : لا يصحّ ضمان المجهول عندنا ، فإن كان الذي يريد أن يضمن عن شخص لشخص آخر وكان مقدار دين المضمون عنه مجهولا ويحتمل أن يكون واحدا ويحتمل أن يكون ألفا ، فلا يصحّ مثل هذا الضمان وإن كان واجبا ، أي كان الدين محقّقا فعلا.

وبعبارة أخرى : لم يكن من قبيل ضمان ما لم يجب ، بل كان ضمان ما وجب عليه واشتغلت ذمّته به ، وكذا لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان المقدار معلوما ، مثلا يقول

ص: 204


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 402 ، المسألة : 11.

للبزّاز : أعط هذا مقدار عشرين دينارا بالدين وأنا ضامن ، أو يقول : إن أخذ هذا الرجل منك بالدين عشرين دينارا فأنا ضامن.

وهذا يسمّى بحسب اصطلاح الفقهاء بضمان ما لم يجب ، لأنّه بعد لم يجب عليه شي ء ، لأنّه لا دين فعلا في البين كي يكون أداؤه عليه واجبا ، أو يكون فعلا ذمّته مشغولة به ، وعلى كلّ حال لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان مقداره معلوم.

وقال أبو حنيفة ومالك : يصحّ مثل هذا الضمان (1) ، فإذا كان الضامن مالكيّا أو حنفيّا وضمن ما لم يجب أو ما ليس بمعلوم ، فيجوز إلزامهما بهذه القاعدة وإن كان غير صحيح عندنا.

الثاني عشر : شركة الأبدان عندنا باطلة ، وهي أن يشترك العاملان أو أكثر ، سواء أكانا متّفقي الصنعة والمهنة كالحدّادين أو النجّارين ، أو مختلفي الصنعة والمهنة كما إذا كان أحدهما نجّارا والآخر خبّازا على أنّ كلّ ما يحصل من كسبهما لهما أو كسبهم لهم ، يكون مشتركا بينهما أو بينهم بالسويّة ، أو بالاختلاف حسب شرطهم.

وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك (2) ، فإذا كان أحد الشريكين في شركة الأبدان حنفيّا ويكون صحّة هذه الشركة - بعد أن عملا مدّة - مضرّة له ونافعا للطرف الآخر الذي مذهبه بطلان هذه الشركة ، يجوز لهذا الأخير إلزامه للآخر بصحّة هذه الشركة بهذه القاعدة ، وإن كانت في مذهبه باطلة.

الثالث عشر : لا شفعة عند أكثر فقهائنا في المنقولات وكلّ ما يمكن تحويله بحسب المتعارف من مكان إلى مكان آخر ، كالأثواب والفروش والحبوبات والحيوانات.

ص: 205


1- « المجموع » ج 14 ، ص 19 ، « فتح العزيز » ج 10 ، ص 370 ، « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 294 ، « البحر الزخار » ج 6 ، ص 76.
2- « اللباب » ج 2 ، ص 75 - 76 ، « النتف » ج 1 ، ص 535 ، « المبسوط » ج 11 ، ص 154 و 216 ، « المغني لابن قدامة » ج 5 ، ص 111 ، « الشرح الكبير » ج 5 ، ص 185 ، « المحلّى » ج 8 ، ص 123 ، « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 252 ، « سبل السلام » ج 3 ، ص 893 ، « فتح العزيز » ج 10 ، ص 414 ، « البحر الزخار » ج 5 ، ص 94.

ومنها : السفن ، وقال مالك : إذا باع سهمه من السفينة المشتركة ، يجوز لشريكه الآخر إلزامه بالأخذ بالشفعة منه بهذه القاعدة ، وإن كان هو لا يقول بها (1).

الرابع عشر : لا تثبت الشفعة بالجوار عندنا ، وقال أبو حنيفة وبعض آخر من الفقهاء : للجار حقّ الأخذ بالشفعة (2) ، ولكن في طول الشريك لا في عرضه ، بمعنى أنّ الشريك لو ترك ولم يأخذ فالجار أحقّ من غيره ، فإذا كان المشتري حنفيّا ، أو ممّن يقول بحقّ الشفعة للجار من سائر الفقهاء ، فللجار إلزامه بهذه القاعدة إن كان منّا ، وإن لم يكن هذا الحقّ من مذهبنا.

وما ذكرنا في موارد هذه القاعدة قليل من كثير ممّا لم نذكرها ، لأنّ استقصاء جميع موارد الخلاف يحتاج إلى تأليف مجلّدات كبيرة ، خصوصا إذا كان مع أدلّة الطرفين ، وهو الذي يسمّى الآن بالفقه المقارن ، وقد كتب شيخ الطائفة قدس سره كتابا في موارد الخلاف سمّاه « الخلاف ».

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ص: 206


1- « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 245 ، « بدائع الصنائع » ج 5 ، ص 12 ، « شرح فتح القدير » ج 7 ، ص 405 ، « تبيين الحقائق » ج 5 ، ص 252 ، « فتح العزيز » ج 11 ، ص 364.
2- « المبسوط للسرخسي » ج 14 ، ص 94 ، « بدائع الصنائع » ج 5 ، ص 8 ، « المجموع » ج 14 ، ص 303 ، « المغني لابن قدامة » ج 5 ، ص 461 ، « الشرح الكبير » ج 5 ، ص 466 ، « البحر الزخار » ج 5 ، ص 8 ، « نيل الأوطار » ج 6 ، ص 81.

33 - قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات

اشارة

ص: 207

ص: 208

قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسببات

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في المراد منها

فنقول : أمّا المراد من أصالة عدم تداخل الأسباب هو أنّ كلّ سبب له مسبّب ، أي يتكرّر وجود المسبب بتكرّر وجود السبب ، سواء أكان السبب المكرّر وجوده من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة ، فالأوّل في الأسباب الشرعيّة كما إذا تكرّر منه البول أو الوطي أو الإنزال أو الاحتلام ، والثاني كما إذا بال ونام وخرج منه الريح بالنسبة إلى الوضوء ، فيجب مثلا في المفروض ثلاث وضوءات : واحد للبول ، وواحد للنوم ، وواحد لخروج الريح ، وكذلك واحد للغائط.

فلا فرق في تعدّد المسبّب بتعدّد وجود السبب بين أن تكون الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد ، وبين أن يكون السبب المكرّر من أسناخ متعدّدة.

فلو قلنا بأصالة عدم التداخل ، فكما أنّ السبب المكرّر لو كان من سنخين أو من أسناخ متعدّدة تتعدّد الكفارة بتعدّد السبب ، كذلك يتعدّد المسبّب لو كان من سنخ واحد ، وهذا معنى عدم التداخل.

وأمّا التداخل فمقابل هذا المعنى ، أي عدم تكرّر المسبّب بتكرّر السبب. وأيضا

ص: 209

لا فرق بين أن يكون السبب المكرّر من سنخ واحد أو يكون من أسناخ متعدّدة ، فالتقابل بين التداخل وعدمه تقابل العدم والملكة ، هذا معنى التداخل وعدمه في الأسباب.

وأمّا المراد من التداخل وعدمه في المسبّبات :

أمّا الأوّل : أي التداخل في المسبّبات ، فهو عبارة عن كفاية مسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، مثلا كفاية وضوء واحد عن الأبوال المكرّرة ، أو كفايته عن البول والغائط والنوم. ولا فرق في تداخل المسبّبات أيضا بين أن تكون أسبابها المتعدّدة من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة.

وما ذكرنا في معنى التداخل وعدمه مضافا إلى أنّ المراد منهما عند الفقهاء هو هذا المعني ، ونحن في مقام شرح قاعدة فقهيّة ، فلا بدّ وأن نتكلّم فيها على وفق مرادهم منها موافق لما هو ظاهر لفظ التداخل وعدمه ، إذ التداخل مصدر باب تفاعل من « دخل » فيكون معناه حسب اللغة والمتفاهم العرفي دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر بحيث يتّحدان من حيث المكان والحيّز إذا كانا جسمين ، ومن حيث التأثير إذا كانا سببين ، ومن حيث التأثّر إذا كانا مسبّبين ، وهكذا.

ولذا قالوا : الضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل ، أي تداخل الجسمين بحيث يكون لهما حيّز واحد.

فبناء على هذا المعنى المذكور يكون تداخل الأسباب في عالم السببيّة عبارة عن اتّحاد الأسباب في عالم التأثير ، أي يكون لجميعها تأثير واحد ، كما أنّه لو فرض أنّ جميعها سبب واحد ، ومثل هذا المعني في العلل التامّة التكوينيّة غير ممكن ، بل لا بدّ من أن يرجع إلى كون المجموع سببا واحدا ، وكلّ واحد منها جزء السبب.

وهذا إذا وجد المجموع دفعة واحدة ، وإلاّ لو كان وجودها تدريجيّا وعلى الترتيب ، فإن كان المسبّب قابلا للتكرار فيتكرّر ، وإلاّ يكون السبب الثاني بلا أثر ، لأنّ

ص: 210

فرض وجود ذلك الأثر - الذي وجد أوّلا - ثانيا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

وهذا القاعدة لا تأتي فيما لا يكون المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ المقصود منها هو أنّه فيما إذا شكّ في تعدّد المسبّب بتعدّد السبب هل مقتضى الأصل هو تعدّد المسبّب وهذا معناه عدم تداخل السبب وأيضا عدم تداخل المسبّب ، لأنّه لو تداخل السبب فلا يكون وجه لتعدّد المسبّب ، لما ذكرنا من أنّ معنى تداخل الأسباب كونها بمنزلة سبب واحد في مقام التأثير ، والسبب الواحد لا يؤثّر إلاّ في مسبّب واحد ، وكذلك الأمر مع تداخل المسبّب ، أي لا وجه لتعدّده مع تداخله ، لأنّ معنى تداخل المسبّب كما ذكرنا كفاية مسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة - أو مقتضى الأصل عدم تعدّد المسبّب وهذا معناه هو تداخل الأسباب ، أو مرجعه إلى تداخل المسبّبات؟

مثلا في موجبات الكفّارة للإفطار في نهار شهر رمضان لو قلنا بأنّ الأصل تداخل الأسباب أو المسبّبات ، ففي مورد الشكّ يحكم بكفارة واحدة ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد كما إذا جامع مكرّرا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا صدر منه الأكل والشرب والجماع في نهار شهر رمضان.

وعلى كلّ حال هذا البحث - أي أنّ مقتضى الأصل هل هو التداخل أو عدمه - لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، وأمّا إذا لم يكن المسبّب قابلا للتكرار - كالقتل بالنسبة إلى موجباته وأسبابه ، كما إذا قتل أشخاصا أو قتل واحدا ، وزنى مع أنّه محصن ، ولاط ، وارتدّ بالارتداد الفطري - فلا أثر لهذا البحث ، لأنّ المسبّب أي : القتل ليس قابلا للتكرار.

فلو قلنا بأنّ مقتضى الأصل عدم التداخل ، لا في الأسباب ولا في المسبّبات ، لا يمكن تعدّد القتل الذي هو أثر عدم التداخل. فهذا البحث مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار مثل الكفّارة.

ثمَّ إنّه لو قلنا بتداخل الأسباب ، فلا يبقى وجه للقول بتداخل المسبّبات ، لأنّه بناء

ص: 211

على تداخل الأسباب فليس في البين إلاّ مسبّب واحد ، ولا توجد مسبّبات كي يقال بتداخلها ، ويكون كما إذا وجد سبب واحد فهل يمكن البحث في ذلك المورد من أنّ الأصل هل هو تداخل المسبّبات أم لا؟ لا شكّ في أنّه لا يمكن ، لأنّ مفهوم التداخل سواء أكان مضافا إلى الأسباب أو إلى المسبّبات لا يتحقّق إلاّ مع تعدّدهما ، أي الأسباب والمسبّبات ، وإلاّ فمع وحدتهما لا معنى للتداخل ، كما بيّنّا أنّ التداخل عبارة عن دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر.

ثمَّ إنّ الفرق بين تداخل الأسباب وتداخل المسبّبات من حيث ثمرة البحث هو أنّه لو قلنا بأنّ مقتضى الأصل تداخل الأسباب والمسبّبات جميعا ، ففي مورد الشكّ مثل أنّه تكرّر منه الأكل في نهار شهر رمضان ، لا يجوز له أن يعطي أكثر من كفّارة واحدة بعنوان الوجوب وامتثال الأمر ، لأنّه تشريع محرّم.

ولو قلنا بأنّ مقتضي الأصل تداخل الأسباب دون المسبّبات ، فأيضا يكون الأمر كذلك ، من جهة أنّه وإن صدر السبب متعدّدا ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، لكنّها بمنزلة سبب واحد ، لتداخلها على الفرض ، فلا يجب عليه إلاّ مسبّب واحد ، ويشتغل ذمّته بذلك الواحد فقط ، فإتيان غيره بعنوان الوجوب وامتثال الأمر يكون تشريعا محرما.

ولو قلنا بتداخل المسبّبات دون الأسباب ، فإنّه وإن كان له الاكتفاء بالواحد ، لما ذكرنا من أنّ المراد من تداخل المسبّبات الاكتفاء بمسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، وذلك كالاكتفاء بوضوء واحد أو غسل واحد عن أسباب وموجبات متعدّدة ، ولكن يجوز له أن يأتي بفرد آخر من المسبّب ، لأنّ المفروض في هذه الصورة عدم تداخل الأسباب ، وتأثير كلّ واحد منها في لزوم إيجاد المسبّب.

غاية الأمر إنّ الشارع مثلا حكم بكفاية إتيان فرد واحد من طبيعة المسبّب ولا يؤاخذ على ترك البقيّة ، فهذا لطف وتسهيل من قبل الشارع على المكلّف ، وإتيانه

ص: 212

بالفرد الآخر من طبيعة المسبّب ليس تشريعا كي يكون محرّما ، بل عمل بمقتضى تأثير الأسباب المتعدّدة ، وإن كان يجوز له الاكتفاء بفرد واحد منّة منه تعالى عن عباده.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في هذه الصورة ، بناء على ما ذكره من أنّ تداخل المسبّبات عبارة عن الاكتفاء بمسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة المؤثّر كلّ واحد منها تأثيرا مستقلاّ (1).

ولكن أنت خبير بأنّ هذا ليس من تداخل المسبّبات ، بل هو إسقاط ما في ذمّة العبد من الأفراد المتعدّدة إلاّ فردا واحدا ، والظاهر من تداخل المسبّبات هو أن يكون الفرد الواحد من طبيعة المسبّب أثرا للجميع وهذا المعنى إمّا أن يرجع إلى تداخل الأسباب ، بمعنى : أنّ الأسباب المتعدّدة في عالم التأثير لها أثر واحد ، فيكون خارجا عن مفروض الكلام ، لأنّ مفروضنا الآن هو تداخل المسبّبات دون الأسباب ، وإمّا أن يكون المراد أنّ الآثار المتعدّدة المسبّبة عن الأسباب المتعدّدة يندكّ بعضها في بعض ويوجد مسبّب واحد ، وذلك كالسرج المتعدّدة التي كلّ واحد منها يؤثّر في وجود مرتبة من الضوء في الغرفة مثلا مستقلا ، لكن تلك الآثار يندكّ بعضها في بعض ويتشكل ضوء واحد قويّ.

فنقول : في الشرعيّات مثلا موجبات الوضوء أو الغسل ، كلّ واحد منها يؤثّر في مرتبة من الحدث ، فيوجد حدث واحد قويّ ، أصغرا كان أو أكبرا ، فيرتفع بوضوء واحد في الأوّل ، وبغسل واحد في الثاني ، فيصحّ أن يقال : إنّ هذا تداخل المسبّب من دون تداخل أسبابها وإلاّ لو كان لكلّ سبب تأثير مستقل في وجود فرد من طبيعة المسبّب ، ومع ذلك الأفراد الموجودة بحدودها المعيّنة تصير فردا واحدا ، فهذا محال معناه صيرورة الاثنين واحدا ، وهو مستلزم لاجتماع النقيضين.

ص: 213


1- « فوائد الأصول » ج 1 ، ص 49.

وإذا كان تداخل المسبّبات بهذا المعنى ، فإيجاد المسبّب ثانيا بعنوان الوجوب والامتثال يكون تشريعا محرما ، لأنّ المفروض في المثال أنّ الحدث إذا كان هو الأصغر ارتفع بالوضوء الواحد ، وإذا كان هو الأكبر ارتفع بالغسل الواحد ، فيكون الوضوء أو الغسل الثانيين بعنوان امتثال الأمر تشريعا محرما ، كما في تداخل الأسباب بلا فرق بينهما أصلا.

وإذا كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب فالأمر أوضح ، لأنّه ليس هناك أصلان كي يفرق بين ثمرتيهما ، بل هناك أصل واحد وهو أصالة عدم تداخل الأسباب ، وثمرتها معلومة وقد بيّنّاها ، ولو قلنا بعدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات فيجب أن يأتي بالمسبّب بعدد الأسباب ، وهذا واضح جدّا ، فلو جامع مرارا أو أكل كذلك ، فعليه الكفّارات بعدد الجماع أو الأكل.

الجهة الثانية : في بيان الأدلّة التي أقاموها على هذه القاعدة ، وبيان ما هو الصحيح منها وما ليس بصحيح منها

وقبل الشروع في ذكر الأدلّة نقدم أمورا :

الأوّل : لو وصلت النوبة إلى الشكّ ، أي لم نجد دليلا لا على أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، ولا على أنّه يقتضي تداخلها فما حكمه؟

فنقول : أمّا الشكّ في تداخل الأسباب ، فمرجعه إلى الشكّ في التكليف ، فيكون مجرى البراءة.

بيانه : لو شككنا في أنّ الأسباب المتعدّدة للكفّارة ، سواء أكانت سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، هل يقتضي تعدّد الكفارة أم لا ، فمعناه أنّه يشكّ في وجوب كفّارة

ص: 214

أُخرى غير الأولى أم لا ، فهذا شكّ في التكليف بالنسبة إلى الكفّارة الثانية ، فيكون مجرى البراءة.

وأمّا الشكّ في تداخل المسبّبات ، فإن كان المراد من تداخل المسبّبات ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من الاكتفاء بمسبّب واحد وإن كان في ذمّته مسبّبات متعدّدة بواسطة عدم تداخل الأسباب ، فلا شكّ في أنّ المرجع بناء على هذا قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ الشكّ يكون في مرحلة الامتثال بعد الفراغ عن اشتغال الذمّة بالمتعدّد ، وأنّه في مقام الامتثال هل يكفي الإتيان بالمسبّب الواحد أم لا؟

وأمّا لو كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب ، وأنّ تداخل المسبّبات بدون تداخل الأسباب محال كما ذكرنا ، فيكون المرجع هي البراءة ، لأنّ الشكّ فيه حيث أنّه يرجع إلى الشكّ في تداخل الأسباب ، فيكون الشكّ في أنّ ذمّته هل اشتغلت بالمتعدّد أم لا؟ فيكون الشكّ في ثبوت التكليف بإيجاد المسبّب ثانيا ، وهو مجرى البراءة.

وأمّا لو كان المراد من تداخل المسبّب هذا المعني الأخير الذي بيّنّاه - أي يندكّ تأثيرات الأسباب ويتشكل مسبّب قويّ واحد ، أي حدث أصغر أو أكبر واحد قويّ - فلا يبقى شكّ في البين أصلا بعد إتيانه بالوضوء أو بالغسل ، لارتفاع ذلك الحدث الأصغر القويّ بالوضوء ، والأكبر القويّ بالغسل. إلاّ أن يأتي دليل على عدم ارتفاع ذلك المسبّب الشديد بوضوء واحد أو بغسل واحد مثلا.

والذي يسهل الخطب أنّه لو قلنا بعدم تداخل الأسباب ، فتداخل المسبّبات خلاف الأصل يقينا ، ولا يمكن المصير إليه إلاّ بإتيان دليل على ارتفاع آثار الأسباب المتعدّدة بوجود واحد ممّا نسمّيه مسبّبا ، كوضوء واحد ، وكغسل واحد إذا وجدت لكلّ واحد منهما أسباب متعدّدة.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا - من أنّ الشكّ في تداخل الأسباب إن لم نجد دليلا على أنّ مقتضى

ص: 215

الأصل هو التداخل أو عدمه فمرجعه إلى البراءة - يكون في باب التكاليف.

وأمّا في باب الوضعيّات كما إذا وجد سببان للخيار ولم يدلّ دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالظاهر أنّه يكون مورد الاستصحاب لا البراءة ، مثلا لو ظهر في المبيع الذي هو حيوان ، عيب ، فما دام يكون البائع والمشتري في مجلس البيع وظهر العيب ، تجتمع للخيار أسباب ثلاثة : المجلس ، وكون المبيع حيوانا ، والعيب. فإذا أسقط الخيار المضاف إلى أحد هذه الأسباب فبناء على التداخل لا يبقى له خياران الآخران ، لأنّه بناء على هذا ليس له إلاّ خيار واحد وقد أسقطه.

وبناء على عدم التداخل فيكون الخياران الآخران موجودا ، فإذا شكّ في التداخل وعدمه ولم يكن دليل عليه ولا على عدمه ، فيشكّ في بقاء طبيعة الخيار ، فيكون مجرى الاستصحاب.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الخيار الذي هو عبارة عن حقّ خاصّ به يكون له السلطنة على حلّ العقد وإبرامه. ومثل هذا الحقّ ليس قابلا للتكرار ، فإذا أسقط فلا يبقى احتمال البقاء كي يستصحب ، بل البحث عن التداخل وعدم تداخل الأسباب لا يأتي هاهنا ، كما ذكرنا أنّ مورد هذا البحث هو فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ ما ليس قابلا للتكرار في مقام الثبوت فالبحث عنه في مقام الإثبات - بأنّ مقتضى الأصل هل هو عدم التداخل؟ أي : التكرار مع عدم إمكانه - لا مجال له أصلا.

إن قلت : إنّ الخيار وإن لم يكن قابلا للتكرّر بتعدّد الأسباب من حيث تعدّد وجوده ، ولكنّه قابل للتعدّد بواسطة إضافته إلى أسباب متعدّدة ، فقابل لأن يبحث فيه إذا تعدّد أسبابه ، كما ذكرنا أنّ مقتضى الأصل هل تداخل الأسباب كي يكون خيار واحد عند اجتماع تلك الأسباب ، أو مقتضى الأصل عدم التداخل كي تكون خيارات باعتبار إضافتها إلى أسبابها.

قلنا : إنّ هذا وإن كان كلاما صحيحا ولكن ليس مصحّحا لجريان الاستصحاب

ص: 216

بعد سقوطه أو إسقاطه باعتبار إضافته إلى بعض الأسباب ، وذلك من جهة أنّ الشكّ في التداخل وعدمه وإن كان موجبا للشكّ في وجود الخيار بعد سقوطه أو إسقاطه مضافا إلى أحد أسبابه ، ولكنّه ليس شكّا في بقاء ما هو كان موجودا يقينا الذي هو موضوع الاستصحاب ، لأنّه على تقدير التداخل حيث أنّه كان خيار واحد له ارتفع يقينا بالإسقاط أو السقوط ، ولم يبق شي ء ولو من حيث إضافته إلى سائر الأسباب غير ما أسقط أو سقط ، وعلى تقدير عدم التداخل فموجود يقينا من حيث إضافته إلى سائر الأسباب.

وحيث أنّ المفروض هو الشكّ في التداخل وعدمه ، فما عدا الساقط مشكوك الحدوث ، لا مشكوك البقاء ومتيقّن الحدوث كي يجري الاستصحاب.

وأمّا استصحاب بقاء الجامع - بين ما سقط والمضاف إلى سائر الأسباب لأنّه مشكوك البقاء - وإن كان صحيحا من حيث تماميّة أركانه ، لكنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي أثبتنا عدم صحّة جريانه.

وخلاصة الكلام : أنّ الوضعيّات إن لم تكن قابلة للتكرّر ولا للتأكّد فعند اجتماع الأسباب وتعدّدها لا يأتي بحث التداخل وعدمه ، وأيضا لا حكم للشكّ في التداخل وعدمه ، بل لا موضوع له ، لأنّ المفروض أنّ عدم التداخل بمعنى تعدّد المسبّب أو تأكّده غير ممكن فيه.

ولعلّه تكون الجنابة والنجاسة من هذا القبيل ، فإذا وجدت للجنابة أو النجاسة أسباب متعدّدة ، سواء أكانت تلك الأسباب من سنخ واحد ، كما إذا جامع مرارا ، أو لاقى مكانا من بدنه البول مرارا ، أو كانت من أسناخ متعدّدة ، كما إذا جامع بدون إنزال وأنزل بدون الجماع ، هذا بالنسبة إلى الجنابة ، أو لاقى مكانا من بدنه أو من ثوبه ، أو شي ء آخر البول والمني أو نجس آخر ، ففي جميع هذه الصور لا تؤثّر هذه الأسباب تعدّدا في الجنابة أو في نجاسة المحلّ ، ولا تأكّدا فيهما.

ص: 217

وأمّا إن كان قابلا للتعدّد أو التأكّد ، وإن كان تعدّده باعتبار اضافة إلى أسبابه كما قلنا في الخيار ، فهذا البحث وإن كان يأتي ولكن عند الشكّ وعدم وجود دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالاستصحاب لا يجري فيما هو قابل للتعدّد ، لما ذكرنا في الخيار.

وأمّا فيما هو قابل للتأكّد دون التعدّد ، فعدم فرد آخر مقطوع ، فلا مجرى للاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى احتمال بقاء مرتبة منه بعد القطع بزوال مرتبة منه - كما أنّه لو غسل مرّة ما تنجّس بالدم أوّلا ثمَّ لاقى البول أيضا ، فاحتملنا بقاء مرتبة من النجاسة بعد زوال مرتبة منها يقينا ، بناء على تأكّد النجاسة فيكون الاستصحاب حينئذ من القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، ولا يجري إلاّ فيما إذا كانت وحدة القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة محفوظة عرفا والمسألة مشروحة على التفصيل في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وإن شئت فراجع.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا بالنسبة إلى النجاسة من التأكّد وزوال مرتبة منها يقينا واحتمال بقاء مرتبة منه صرف فرض ومن باب المثال ، وإلاّ فلا واقعيّة له.

نعم لو كانت لهذه المسبّبات التي من الوضعيّات آثار تكليفيّة ، كوجوب الغسل - بالضم - أو الغسل - بالفتح - وكان الشكّ فيه وأنّه مرّة أو مرّتين ، فالمرجع وإن كان هي البراءة من حيث التكليف ، ولكن لا مانع من استصحاب نفس الوضع ، وذلك كما إذا شكّ في أنّ النجاسة الحاصلة من ملاقاة البول هل يزول بالغسل مرّة أم لا؟ فاستصحاب النجاسة لا مانع منه ، ومعلوم حكومة هذا الاستصحاب على البراءة عن وجوب الغسل مرّة أخرى.

الثاني : في أنّ هذا البحث والنزاع هل يأتي في الأسباب والعلل التكوينيّة بالنسبة إلى مسبّباتها ، أو يختصّ بالأسباب والمسبّبات الشرعية؟

ص: 218


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 448.

ثمَّ إنّ هذا البحث في الأسباب والعلل التكوينيّة على تقدير إتيانه لا يكون إلاّ فيما إذا كان لتكرّر المسبّب أثر شرعي ، وإلاّ يكون البحث لغوا وبلا ثمرة.

وقد عرفت أنّ هذا البحث لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار أو التأكّد ، وإلاّ ففيما لم يكن كذلك فقلنا إنّ عدم التداخل - أي : تعدّد المسبّب مع أنّه ليس قابلا للتكرار - محال ، فالبحث عنه باطل ، فهذا البحث على تقدير جريانه وإتيانه في الأسباب التكوينيّة مشروط بهذين الأمرين.

فنقول : المراد من الأسباب التكوينيّة إن كانت هي العلل التامّة ، فمع كون المسبّب قابلا للتكرار فالتداخل محال ، فلا محالة يتكرّر المسبّب بتكرّر السبب ، وإلاّ يلزم توارد علّتين تامّتين على معلول واحد. وأمّا مع عدم كونه قابلا للتكرار فقلنا إنّ هذا البحث لا يأتي مطلقا لا في الأسباب الشرعيّة ولا في الأسباب التكوينيّة.

والحاصل : أنّ احتمال التداخل في العلل التامّة التكوينيّة محال. وأمّا المعدّات فليست المسبّبات مترتّبة عليها حتّى نتكلّم أنّ مقتضى الأصول هل هو التداخل أم لا؟

فهذا البحث مختصّ بالأسباب الشرعيّة.

ولكن ربما يقال بأنّ إتيانه في الأسباب الشرعيّة أيضا مشروط بأن تكون معرّفات لا مؤثّرات وعلل حقيقية ، وإلاّ يكون حالها حال العلل التكوينيّة في عدم جريان هذا البحث لعين ما ذكرنا ، لعدم جريانه هناك.

وفيه : أنّ ما نسميّها بالأسباب الشرعيّة ليست هي إلاّ موضوعات الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، فلا مؤثّرات ولا معرّفات لما هو العلّة حقيقة ، وذلك من جهة أنّ الشارع هو الذي يوجد هذه الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، وهي اعتبارات من قبل الشارع ومجعولات له في عالم الاعتبار والتشريع.

وكما أنّ الموجودات الخارجيّة كلّها مخلوقات له تعالى في عالم الخارج والتكوين ، كذلك جميع الأحكام الشرعيّة ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة ، مجعولات من طرفه تعالى

ص: 219

في عالم الاعتبار والتشريع ، فالمؤثّر والعلّة في وجود الأحكام هو اللّه تعالى.

وهذه الأسباب التي نسمّيها بالأسباب لا علل حقيقية للأحكام كما هو واضح ، لما عرفت أنّ علّتها الحقيقة هو الشارع ، ولا معرّفات للعلل الحقيقة ، لأنّ هذه الأسباب ليست معرّفات للشارع ، لأنّ المراد من المعرّف هاهنا ظاهرا هو الدالّ والمبيّن ، وهذه الأسباب ليست دالاّ ومبيّنا للعلّة الحقيقة بحيث يعرف العلّة الحقيقيّة وأنّها هو الشارع.

فحديث دوران الأمر بين أن تكون أسباب الأحكام وشرائطها إمّا علل حقيقة لها أو معرّفات إليها لا أساس له ، وبناء على هذا فما فرّعوا على هذا الدوران من انّ مقتضى الأصل هو التداخل بناء على أنّها معرّفات ، وعدم التداخل بناء على أنّها علل حقيقيّة كلام فارغ لا محصّل له ، إذ مقصودهم من ابتناء التداخل على أنّها معرّفات ، وابتناء عدم التداخل على أنّها علل حقيقيّة ومؤثّرات واقعيّة هو ما أشرنا إليه ، وهو أنّ توارد علّتين تامّتين حقيقيّتين على معلول واحد محال ، فبناء على أنّها علل حقيقية يكون التداخل محالا.

وأمّا بناء على أنّها معرّفات فلا مانع من التداخل ، إذ من الممكن أن يكون للشي ء الواحد معرّفات متعدّدة وأمارات وعلامات كثيرة وكواشف مختلفة.

هذا إذا كان المراد من العلل الحقيقية هو موجدها في عالم الاعتبار والتشريع - أي الشارع - فقد عرفت أنّه بناء على هذا ليست هذه التي نسمّيها الأسباب والشروط علل حقيقيّة ، ولا معرّفات لها ، ولا كواشف عنها ، ولا أمارات عليها.

وأمّا لو كان المراد منها المصالح والمفاسد التي قد تكون من قبيل علّة الجعل ، وقد تكون من قبيل حكمته ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون هذه الأسباب والشرائط مؤثّرات في وجود المصالح والمفاسد التي هي إمّا علّة جعل الأحكام أو حكمته ، فيكون الإفطار في نهار شهر رمضان متعمّدا مؤثّرا في وجود مصلحة في إعطاء الكفّارة التي هي العلّة الحقيقيّة لجعل وجوبها ، وأيضا يمكن أن تكون معرّفات لوجود

ص: 220

المصلحة والمفسدة في ذلك الفعل الذي نسمّيه بالمسبّب ، لا مؤثرات حقيقيّة.

ولكن هذا التفصيل لا وجه له ، لأنّه على كلا التقديرين يمكن التداخل وعدم التداخل ، لأنّه على تقدير أن تكون مؤثّرات في وجود المصلحة والمفسدة يمكن أن يكتفي - مثلا بغسل أو وضوء واحد عند اجتماع أسباب متعدّدة ، كما أنّه بناء على أن تكون معرّفات يمكن أن يكون هذا السبب مثل البول في كلّ وجود له معرّفا لوجود مصلحة في وجود فرد آخر من طبيعة الوضوء ، أو الغسل كذلك بالنسبة إلى أسبابه.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذه الأسباب والشرائط مرجعها إلى قيود الموضوع مثلا السرقة ليست سببا للقطع ، بل السرقة من قيود موضوع وجوب قطع اليد ، لأنّ موضوع وجوب قطع اليد هو الإنسان المقيّد بكونه سارقا ، كما أنّ موضوع وجوب الحجّ هو الإنسان المقيّد بكونه مستطيعا ، ولا شكّ في أنّ الموضوع وقيوده ليس علّة للحكم ولا معرّفا له.

فهذا الكلام - أي القول بأنّ الأصل عدم التداخل إن كانت هذه الأسباب والشرائط علل ومؤثّرات حقيقيّة ، والتداخل إن كانت معرّفات - لا أساس له ، لأنّها من قيود الموضوعات ، لا علل للأحكام ، ولا معرّفات لها.

الثالث : ربما يتوهّم التنافي بين قولي المشهور ، فهاهنا يقولون بأصالة عدم تداخل الأسباب ، ونتيجة هذا القول هو تعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب ، وأيضا يقولون فيما إذا تعلّق الطلب بفعل - أي بطبيعة - مرّتين ، كما إذا قال : صم يوما ، ثمَّ قال ، أيضا : صم يوما ، أو قال : أكرم عالما ، ثمَّ قال ، أيضا : أكرم عالما ، وهكذا في سائر المقامات التي يتعلّق الطلب بطبيعة مرّتين أو مرّات بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له ، مع أنّ الطلب سبب للتكليف ، فإذا تعدّد يجب تعدّد التكليف ولزوم إيجاد المكلّف به متعدّدا بمقدار عدد الطلب.

فقولهم بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له وكفاية صوم يوم واحد وإكرام عالم

ص: 221

واحد وعدم تعدّد التكليف ولا المكلّف به ، مع القول بعدم تداخل الأسباب وأنّ تعدّد السبب موجب لتعدّد المسبّب متنافيان لا يجتمعان.

ولكن التحقيق أنّ هذا التوهّم باطل ، وذلك من جهة أنّ الطلب - فيما مثّلنا من المثالين وما هو من هذا القبيل - تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الصوم والإكرام ، وكذلك بالنسبة إلى متعلّقيهما - أي اليوم والعالم - فلفظ صم يوما ، وكذلك أكرم عالما ظاهر في طلب صرف الوجود من طبيعة الصوم ، وكذلك في صرف الوجود من اليوم في المثال الأوّل ، وكذلك الأمر في المثال الثاني - أي الطلب - تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الإكرام وصرف الوجود من طبيعة العالم.

وصرف الوجود من كلّ شي ء يتحقّق بأوّل وجود منه ، إذ هو نقيض عدمه المطلق ، ولو لم يصدق صرف الوجود للشي ء على أوّل وجود من ذلك الشي ء ، يلزم اجتماع النقيضين ، إذ المراد من صرف وجود الشي ء وجوده المطلق من دون أي تقييد فيه ، وهو نقيض عدمه المطلق ، أي من دون تقييد في ذلك العدم ، ومعلوم أنّ الوجود المطلق والعدم المحمولان على شي ء نقيضان لا يجتمعان ، فالوجود الثاني أو الثالث وهكذا ، وكذلك الوجود المعنون بعنوان الآخر للطبيعة ، ليس جميع ذلك مصداقا لمفهوم صرف الوجود ، وهذا مرادهم من قولهم : صرف الشي ء لا يتكرّر ولا يتثنّى.

فلو أراد الآمر وجود طبيعة مرّة أخرى ، لا بدّ له أن يقيّد مطلوبه بكلمة « ثانيا » أو « الآخر » ، أو « مرّة أخرى » ، وإلاّ لو تعلّق الطلب بوجود شي ء من دون أيّ تقييد في المطلوب يكون متعلّقا بصرف وجود ذلك الشي ء ، وحيث أنّ صرف الوجود لا يتكرّر ، فلا بدّ من حمل الطلب الثاني والثالث - وهكذا - على التأكيد لا التأسيس.

ومثل هذا خارج عن مورد هذا البحث ، لما ذكرنا أنّ مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدد والتكرار ، فعلى فرض تسليم أنّ المفروض من قبيل الأسباب والمسبّبات لا يأتي ذلك البحث هاهنا ، إذ الشكّ في وقوع شي ء فرع إمكانه ، وإلاّ فالعاقل الملتفت

ص: 222

لا يشكّ في وقوع اجتماع النقيضين أو وجود سائر الممتنعات.

وحيث كان مفاد الطلب المتعلّق بوجود شي ء - من دون تقييد المطلوب بأيّ قيد - متعلّقا بصرف وجود الشي ء ، وصرف وجود الشي ء ليس قابلا للتكرّر ، فالبحث عند الشكّ في أنّ الأصل هل تعدّد وجود المطلوب عند تعدّد الطلب ، أو مقتضى الأصل عدم التعدّد باطل لا ينبغي أن يصدر عن عاقل.

نعم لو صدر الطلب المتعلّق بصرف الوجود ثانيا بعد امتثال الطلب الأوّل ، فيدلّ على لزوم إيجاده ثانيا ، لأنّ ذلك الوجود مصداق صرف الوجود في ذلك الوقت.

وبعبارة أوضح : كلّ طلب تعلّق بصرف الوجود من دون تقييد المطلوب بقيد ، مثل « ثانيا » أو « مكررا » أو « آخر » وأمثال ذلك ، فأوّل وجود من تلك الطبيعة بعد صدور الطلب مصداق صرف الوجود ، وبعده وجود تلك الطبيعة ليس مصداق صرف الوجود.

وأمّا إيجاد تلك الطبيعة قبل صدور الطلب لا يكون مضرّا بمطلوبيّة صرف الوجود بعد صدور الطلب ، فلو صدر من الآمر طلب آخر متعلّق بصرف الوجود قبل إيجاد متعلّق الطلب الأوّل ، لا بدّ وأن يكون تأكيدا ، ولا يمكن أن يكون تأسيسا.

إذا عرفت هذه المقدّمات ، فنقول :

إنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، وذلك أمّا بالنسبة إلى عدم تداخل الأسباب فمن جهة ما ذكرنا أنّ مرجع الأسباب والشرائط إلى قيود الموضوعات.

فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، يكون هاهنا موضوعين وحكمين : أحدهما المظاهر يجب عليه عتق رقبة ، والثاني المفطر في نهار رمضان متعمّدا بدون أن يكون له عذر يجب عليه عتق رقبة ، وظاهر هاتين القضيّتين أنّ لكلّ واحد من الموضوعين هذا الحكم ثابت ، سواء اجتمع

ص: 223

مع الموضوع الآخر أم لا ، ففي مورد الاجتماع يكون له طلبان ومطلوبان ، أحدهما مترتّب عليه باعتبار كونه مظاهرا ، والآخر باعتبار كونه مفطرا في نهار شهر رمضان ، وهذا معنى عدم التداخل بالنسبة إلى الأسباب ، أي كلّ واحد من السببين يقتضي حكما غير حكم الآخر.

إن قلت : قد ذكرت أنّ صرف الوجود ليس قابلا للتكرار ، وهاهنا أيضا تعلّق الطلب بصرف الوجود في كلتا القضيتين. وبعبارة أخرى : ما الفرق بين أن يقول : أعتق رقبة ثمَّ يقول ثانيا : أعتق رقبة ، وتقول يكفي في امتثال كلتا القضيتين عتق رقبة واحدة ، وبين أن يقول : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة ، وتقول في هذا الفرض بلزوم عتق رقبتين ؛ لأنّ الأصل عدم تداخل الأسباب؟

قلت : الفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى - أي فيما لا يكون طلب وجود طبيعة مسبوقا بوجود السبب - يكون الحكمان على موضوع واحد ، والحكم هو طلب صرف الوجود الذي لا تكرار فيه ، فلا بدّ وان يكون الثاني تأكيدا للأوّل.

وأمّا في الصورة الثانية - أي : ما يكون الطلب مسبوقا بذكر السبب - يكون الحكم على موضوعين ، فيكون لكلّ موضوع حكمه ، وإن كان هو طلب صرف وجود الطبيعة ، ولكن طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع غير طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع آخر ، فقهرا يتقيّد المطلوب في الطلب الثاني بقيد - مثل « آخر » أو « ثانيا » وأمثال ذلك إذا كانت الطبيعة المطلوبة لها أفراد ، فقوله : إن ظاهرت فأعتق رقبة بعد قوله : إن أفطرت فأعتق رقبة قهرا تتقيّد الرقبة فيه بأخرى مثلا ، فيخرج المطلوب عن كونه صرف الوجود.

وهذا فيما إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة في غاية الوضوح ، وأمّا إذا كانت من سنخ واحد ، كما إذا أفطر في يوم واحد متعدّدا بالأكل مثلا أو بالجماع أو بالارتماس ، فظاهر القضيّة الشرطيّة هو الانحلال وأنّ كلّ وجود وفرد من أفراد طبيعة

ص: 224

الشرط موضوع للحكم المنشأ في الجزاء.

فظاهر قوله علیه السلام : « إن جامعت أهلك في نهار رمضان فأعتق رقبة » [1] أو قوله :

« من جامع أهله في نهار رمضان فعليه عتق رقبة » (1) هو أنّ كلّ فرد من أفراد الجماع الواقع في نهار رمضان موضوع مستقلّ لوجوب عتق الرقبة.

فلا فرق بين في أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب بين أن تكون الأسباب من سنخ ونوع واحد ، أو من أنواع مختلفة بعد أن عرفت أن القضيّة الشرطيّة ظاهرة في أنّ كلّ فرد من أفراد ما أخذ شرطا أو سببا موضوع مستقلّ للحكم المذكور في الجزاء ، ولا يجوز قياسها بالحكم المكرّر في القضيّة غير المسبوقة بالشرط والسبب ، لما ذكرنا من أنّ القضيّة المتكفّلة للحكم على موضوع إن لم تكن مسبوقة بشرط ، فإن تكرّرت تلك القضيّة من دون اختلاف في جانب الموضوع ولا في جانب المحمول بأخذ قيد أو وصف في موضوع إحديهما أو محمولها دون الأخرى ، فلا محالة تكون القضيّة الثانية تأكيدا للأولى ، لأنّ الوجود المطلق لطبيعة من دون تقيّده بأيّ قيد لا تكرّر فيه ويصدق بأوّل وجود منها.

وأمّا إذا كانت القضيّة مسبوقة بشرط أو سبب ، أو قيّد موضوعها بقيد لم يكن في موضوع القضيّة الأخرى فظاهرة في أنّ كلّ واحد من الموضوعين له حكم مستقلّ وجزاء غير الجزاء الآخر ، إلاّ أن لا يكون الجزاء قابلا للتكرار - كالقتل في قوله : المرتدّ يقتل ، والزاني المحصن يقتل ، واللائط يقتل ، سواء كانت تلك القضايا بصورة القضيّة الحمليّة ، أو كانت بصورة القضيّة الشرطية - أو إلاّ أن يأتي دليل على كفاية الجزاء الواحد لجميع تلك الموضوعات أو تلك الشروط والأسباب ، مثل قوله : إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ.

====

2. « مستدرك الوسائل » ج 7 ، ص 326 ، باب 7 ، ح 8308 وص 327 ، ح 8309.

ص: 225


1- لم نجده في بحار الأنوار ووسائل الشيعة ومستدرك الوسائل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ تعدّد السبب والشرط - في القضايا الشرطيّة وإن اتّحد الجزاء ، سواء كانت تلك الأسباب والشروط من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة - ظاهر في أنّ كلّ فرد من أفراد السبب والشرط له تأثير مستقلّ في الجزاء إذا كان الجزاء قابلا للتكرار ، ولم يكن دليل على أنّ جزاء واحدا يكفي للجميع ، أي لم يكن دليل على تداخل المسبّبات.

ويكون هذا الظهور قرينة على عدم إرادة صرف الوجود من الجزاء في القضيّتين كي لا يكون قابلا للتكرار.

ولا فرق في هذا الأمر بين أن تكون القضيّتان اللتان جزاؤهما واحد بصورة القضيّة الشرطيّة ، أو كانتا بصورة القضيّة الحمليّة مع تقييد موضوع إحدى القضيّتين بقيد أو وصف دون الأخرى ، أو كانت قضيّة واحدة حمليّة ولكن تكرّر وجود أفراد موضوعها ، كما إذا قال : من جامع أهله في نهار رمضان متعمّدا من غير عذر فعليه عتق رقبة ، ثمَّ تكرّر منه الجماع في يوم واحد.

فظهر أنّ مقتضى الأصل - أي الأدلّة اللفظيّة - عدم تداخل الأسباب.

وأمّا تداخل المسبّبات فأيضا مقتضى الأصل اللفظي عدمه ، فيكون مقتضى الأصل تعدّد المسبّب بتعدّد السبب ، وذلك من جهة أنّه بعد ما عرفت أنّ الأصل عدم تداخل الأسباب وأنّ كلّ سبب يؤثّر في مسبّب مختصّ به غير المسبّب عن السبب الآخر.

وإن شئت قلت : إنّ الموضوع لكلّ واحد من الحكمين في الجزائين في القضيّتين الشرطيّتين غير ما هو الموضوع في الأخرى بواسطة تعدّد السبب أو الشرط ، بل يتعدّد الموضوع بواسطة القيد والوصف وإن كانت القضيّة حمليّة فيكون تعدّد السبب أو الشرط أو تعدّد الموضوع بناء على هذا الأخير قرينة على عدم إرادة صرف الوجود في طرف الجزاء.

ص: 226

فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على المظاهر ، ثمَّ قال : إن أكلت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على الذي أكل في نهار رمضان من غير عذر. يكون الجزاء في القضيّة الثانية سواء كانت بصورة القضيّة الشرطيّة أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة مقيّدا بأخرى أو بالثانية أو بأمثالها.

مثلا يكون الجزاء في القضيّة الثانية هكذا : إن أكلت في نهار رمضان من غير عذر فأعتق رقبة ثانية أو أخرى.

إن قلت : إنّ المترتّب على الشرط في القضيّة الشرطيّة هو الحكم المتعلّق بفعل المكلّف لا نفس الفعل ، فالمترتّب على الظهار أو الأكل هو وجوب العتق ، لا نفس العتق الذي هو متعلّق الوجوب ، والوجوب المتعلّق بالعتق ليس قابلا للتكرار وإن كان قابلا للتأكّد.

فغاية ما يمكن أن يكون هو تأكّد وجوب العتق عند تعدّد الأسباب ، وأمّا تعدّد العتق فلا ، فيرجع إلى أنّ تعدّد الأسباب يوجب تأكّد وجوب عتق رقبة واحدة ، وهذا غير ما هو مقصودهم من عدم تداخل المسبّبات ، لأنّ مقصودهم من هذا الكلام هو تعدّد المسبّب بمقدار تعدّد السبب.

قلنا : إنّ تعدّد الحكم إمّا بتعدّد موضوعه ، وإن كان المتعلّق واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، ويا عمرو يجب عليك عتق رقبة ، وإمّا بتعدّد متعلّقة ، وإن كان موضوعه واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، وأيضا : يا زيد يجب عليك إطعام ستّين مسكينا ، وإمّا يكون بتعدّدهما جميعا كما فيما نحن فيه.

فالموضوع في إحدى القضيّتين المظاهر مثلا سواء كانت القضيّة بصورة الشرطيّة أو الحمليّة ، وفي الأخرى الأكل في نهار رمضان من غير عذر أيضا مع عدم الفرق في القضيّة بأيّ صورة كانت. وأمّا المتعلّق في إحداهما نفس عتق الرقبة مثلا من دون قيد ،

ص: 227

وفي الأخرى مقيّدا بقيد « الأخرى » أو « ثانية » كما ذكرنا مفصّلا.

فلا يحتاج الجواب عن هذا الإشكال إلى ما تكلّفه شيخنا الأستاذ ، بأنّ المعلّق على الشرط هو محصّل جملة الجزاء ومفاد مجموعها ، لا خصوص مفاد الهيئة - أي الوجوب - بل المترتّب على الشرط طلب إيجاد مادّة المتعلّق (1).

ففي المثال المذكور علّق الآمر على الظهار أو على الأكل في نهار رمضان مطلوبيّة إيجاد العتق عن المخاطب بهذا الخطاب ، وذلك من جهة أنّ نفس الوجوب الذي هو مفاد الهيئة معنى حرفي ليس قابلا للتقييد ولا التعليق.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره لا يخلو عن تأمّل ، فظهر ممّا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة أي الدليل اللفظي فيما إذا تعدّد السبب - إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة ، أو تكرّر وجوده إذا كانت من سنخ واحد - تعدّد المسبب وجودا ، لا صرف تأكّد وجوبه مع وحدته خارجا ، وهذا فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدّد والتكرّر.

وهذا الذي قلنا من أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات لا ينافي إتيان دليل خارجي على التداخل فيهما أو في أحدهما ، فيكون أصلا ثانويا ، وذلك كما في باب الوضوء لو اجتمعت أسباب متعدّدة من البول والغائط والنوم والريح يكفي وضوء واحد.

وكذلك في الغسل بناء على ما ذكروه من كفاية الغسل الواحد مطلقا عن الأسباب المتعدّدة ، أو فيما إذا نوى الجميع بذلك الغسل الواحد ، أو فيما إذا كان ذلك الغسل بقصد غسل الجنابة ، بناء على الأقوال المتعدّدة المختلفة في هذه المسألة.

ولكن كلّ ذلك لقيام الدليل على الاكتفاء بالواحد على خلاف الأصل الأوّلي في

ص: 228


1- « فوائد الأصول » ج 1 ، ص 495.

باب تداخل الأسباب والمسبّبات.

ثمَّ إنّه قد يكتفي بإيجاد المسبّب الواحد من جهة كونه مصداقا لعنوانين بينهما عموم من وجه ، مثلا لو نذر أن يطعم عالما وأيضا نذر أن يطعم هاشميا ، فلو أطعم عالما هاشميا وفي بنذريه من جهة كونه مصداقا لكلا العنوانين.

إن قلت : إنّ امتثال الحكمين - اي الواجبين - منوط بشمول كلا الدليلين لمورد الاجتماع ، ومورده في المثال المفروض حيث أنّ التركيب بين العنوانين فيه اتّحادي لا يمكن أن يشمله العمومان أو الإطلاقان وإن كانا بدليّين ، لامتناع اجتماع المثلين في واحد مثل الضدّين ، فلا بدّ من سقوط كلا الوجوبين أو أحدهما في مورد اجتماع العنوانين واتّحادهما.

قلنا : إنّ الفرق بين الضدّين والمثلين هو أنّ الحكمين الضدّين لا يمكن اتّحادهما وصيرورتهما حكما واحدا مؤكّدا ، بخلاف المثلين ، فإنّهما بعد اجتماعهما - سواء أكانا وجوبين أو حرمتين أو استحبابين - يتّحدان ويصيران حكما واحدا مؤكّدا ، فامتثالهما جميعا بإتيان مادّة الاجتماع.

ثمَّ إنّ ما حكي عن العلاّمة قدس سره من المقدّمات الثلاث دليلا وبرهانا على أن الأصل عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات يرجع إلى ما ذكرنا بل عينه ، غاية الأمر الفرق هو الإجمال والتفصيل.

والمقدّمات الثلاث هذه : الأولى :

أنّ ظاهر القضيّة الشرطية وتعدّد الأسباب هو كون كلّ شرط وسبب مؤثّر مستقلّ في الجزاء ، لا أنّه جزء سبب حتّى يكون المجموع عند اجتماعهما سببا واحدا.

وهذه المقدّمة هي الركن الركين في مسألة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات.

الثانية : أنّ ظاهر كلّ شرط أن يكون أثره غير أثر الشرط الآخر ، لا أن يكون

ص: 229

شيئا واحدا أثر الاثنين.

الثالثة : هو أنّ التعدّد والغيريّة في الأثرين للشرطين يكون بنحو انفصال كلّ واحد من الأثرين عن الآخر ، لا الاندكاك كي يكون بنحو التأكّد والاشتداد ، مثل آثار المصابيح المتعدّدة في الغرفة ، لأنّها وإن كان كلّ واحد منها سبب مستقلّ لمرتبة من الضياء لا أنّه جزء سبب لتلك المرتبة ، وأيضا أثر كلّ واحد من تلك المصابيح غير أثر الآخر ، لكن مجموع آثارها وجد بنحو ضياء واحد مؤكّد شديد ، بمعنى أنّ حدود تلك المراتب اندكّت وذهبت من البين بعد اجتماعهما ، وحصلت مرتبة أكمل وأشدّ. وهذا في الكمّ المنفصل كالأعداد تصويره أوضح ، فلو أنّ أشخاصا متعدّدة كلّ واحد منهم أتى مثلا بعدد من التّفاح أو الرمّان ، فبعد اجتماع تلك المراتب تسقط الحدود ، ويحصل حدّ مرتبة أزيد من العدد ، وهكذا في الكمّ المتصل بل في كلّ ما يقبل الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف ، وإن شئت قلت : في كلّ ما يقبل الكمال والنقص.

وإثبات هذه المقدّمات بالاستظهار من الأدلّة اللفظيّة في كمال الوضوح ، وترتّب أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات عليها أوضح ، كما بيّنّا وشرحناه مفصّلا.

نعم استشكل على ترتّب أصالة عدم التداخل على هذه المقدّمات فخر المحقّقين قدس سره (1) بأنّ ما ذكر صحيح في العلل والأسباب التكوينيّة ، وأمّا الأسباب والشرائط الشرعيّة فليست من هذا القبيل ، بل هي أمارات ومعرّفات ، وتبعه جمع ممّن تأخّر عنه.

وخلاصة كلامهم : أنّ ما هو المؤثّر - في وجوب الكفّارة مثلا أو الوضوء أو الغسل والسبب الحقيقي لهذه الأمور أو سائر المسبّبات الشرعيّة - ليست هذه الأسباب المذكورة في لسان الأدلّة ، أو هذه الشرائط المذكورة في أدلّة المسبّبات.

ص: 230


1- حكى الشيخ الأعظم نسبته إلى فخر المحقّقين واحتمل تبعيّة النراقي له في العوائد. راجع : « مطالع الأنظار » ص 175.

فليست الاستطاعة مثلا لها تأثير حقيقي في وجوب الحجّ ، وكذلك البول أو النوم وغيرهما من أسباب الوضوء ليس لها تأثير حقيقي في وجوب الوضوء ، وكذلك بالنسبة إلى أسباب الغسل والكفّارة وغيرهما ، بل المذكورات كواشف عن السبب الحقيقي ، وتعدّد المسبّب إنّما يكون بتعدّد السبب الحقيقي وما هو المؤثّر تكوينا ، وإلاّ فتعدّد الكواشف لا يوجب تعدّد المنكشف وما هو العلّة حقيقة.

وقد تقدّم الجواب عن هذا الكلام وأنّ الأسباب والشرائط للأحكام الشرعيّة ليست إلاّ قيودا لموضوعات تلك الأحكام وإن كانت بصورة القضيّة الشرطيّة ، فمعنى إن استطعت فحجّ ، أي يجب الحجّ على المستطيع. وكذلك قوله : إن بلت فتوضّأ ، أي يجب الوضوء على من بال أو نام. وكذلك قوله : إن قتلت مؤمنا خطأ فكفّر بكذا ، أي تجب الكفّارة على من قتل مؤمنا خطأ.

فتعدّد الأسباب الشرعيّة في لسان الأدلّة مرجعه إلى تعدّد الموضوع ، ومعلوم أنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العلّة إلى معلوله ، فإذا تعدّد الموضوع فلكلّ موضوع حكمه ، وقهرا يتعدّد الحكم بتعدّد موضوعه ، فلا ربط لمسألة أصالة عدم التداخل بأنّها أيّ الأسباب الشرعيّة معرّفات أو مؤثّرات حقيقية ، لأنّها ليست إلاّ قيودا للموضوعات ، لا معرّفات ولا مؤثّرات في الأحكام الشرعيّة.

فلا يبتني هذا البحث على ما ذكره فخر المحقّقين وتبعه على ذلك محقّق الخوانساري (1) والفاضلان صاحب اللوامع وصاحب المستند النراقيّان (2) قدس سره .

وقد ظهر من مجموع ما ذكرنا ثبوت أنّ مقتضى الأصل الأوّلى ، أي الظهور اللفظي فيما إذا تعدّد السبب - سواء كانت الجملة بصورة الجملة الشرطيّة ، كما إذا قال : إن بلت فتوضّأ وإن نمت فتوضّأ ، أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة ، كما إذا قال : يجب الوضوء

ص: 231


1- « مشارق الشموس » ص 61 - 69.
2- انظر : « المستند » ج 2 ، ص 371 ، وص 367.

على من بال وكذا يجب على من نام - هو تعدّد المسبّب وعدم التداخل ، لا في جانب الأسباب ولا في جانب المسبّبات.

نعم ورد الدليل في باب الوضوء (1) وكذا في باب بعض الكفّارات من كفّارة إفطار شهر رمضان (2) على عدم تعدّد المسبّب تعدّد السبب ، وكفاية وضوء واحد أو كفّارة واحدة إن تعدّدت أسبابهما ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور القضيّة اللفظيّة ، شرطيّة كانت أم حمليّة في تعدّد المسبب بتعدّد أسبابه ، والقول بأنّ المسبّب هو صرف الوجود من طبيعة المسبّب ، فليس قابلا للتكرار ولا للتأكيد ، فيكون خارجا عن موضوع البحث.

لأنّ البحث في هذا الأصل - كما تقدّم - كان فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ولو بواسطة الإضافة إلى سببه كما قلنا في باب الخيارات ، فإنّها قابلة للإسقاط باعتبار الإضافة إلى أسبابها أو للتأكّد ، فإذا لم يكن قابلا لهما فلا مورد لهذا الأصل اللفظي ، لأنّ الإثبات فرع إمكان الثبوت ، وإلاّ يكون البحث فيه باطلا.

ولكن هذا الوجه لا يأتي في باب الوضوء ، لأنّ الوضوء قابل للتأكّد يقينا ، لقوله علیه السلام : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (3) خصوصا إذا كان اسما لذلك الأمر المعنوي ، أي الطهارة الحاصلة للنفس بواسطة تلك الأفعال ، أي الغسلتان والمسحتان الصادرتان عن قصد القربة والإخلاص له تعالى.

ويمكن توجيه كفاية وضوء واحد عن أسباب متعدّدة والنواقص المختلفة بوجه آخر ، وهو أنّ سبب الوضوء في الحقيقة أمر واحد غير قابل للتعدّد ولا للتأكّد ، وهو الحالة النفسانيّة ، ويمكن أن يعبّر عنها بالقذارة النفسانيّة مقابل الطهارة النفسانيّة.

ص: 232


1- « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 263 ، أبواب الوضوء ، باب 7.
2- « وسائل الشيعة » ج 7 ، ص 27 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب 11.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 41 ، ح 82 ، باب صفة وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 265 ، أبواب الوضوء ، باب 8 ، ح 8.

وهذه النواقص محصّلات لتلك الحالة ، وحيث أنّ تلك الحالة ليست قابلة للتعدّد ولا للتأكّد ، فهذه النواقض لو وجدت مترتّبة وواحد بعد الآخر وفي طوله فبأوّل وجود منها تحصل تلك الحالة ، فيكون حصولها بعد وجودها بأوّل ناقض من تلك النواقض من قبيل تحصيل ما هو حاصل الذي هو محال ، فقهرا وجود سائر النواقض بعد وجود الأوّل منها يكون بلا أثر ولغوا من هذه الجهة.

ولكن هذا منوط بأن لا تكون تلك الحالة - أي القذارة النفسيّة - قابلة للتأكّد ، وإلاّ فبالثاني والثالث وهكذا تشتدّ. وإن شئت مثّل هذا بأنّ الطهارة المعنويّة والنورانيّة النفسانيّة التي هي إمّا مسبّبة عن الوضوء أو تكون عبارة عن نفس الغسلتين والمسحتين بمنزلة النور المتولّد عن سراج واحد أو عن اسرجة متعدّدة ، والنواقض بمنزلة هبوب ريح يطفأ ذلك السراج أو تلك الأسرجة ، فإذا انطفى ذلك السراج أو تلك الأسرجة بهبوب أوّل ريح ، فلا يبقى مجال لتأثير سائر الهبوبات بعد هبوب الأوّل ، وهذا المعنى مناسب مع إطلاق النواقض عليها فخذ واغتنم ، هذا في باب الوضوء.

وأمّا في باب الكفّارات ، فبالنسبة إلى كفّارة إفطار شهر رمضان لمن ليس له عذر ، فالمشهور قالوا بوجوب كفّارة واحدة في غير الجماع ، وإن تعدّد وجود المفطر ، وإن كانا من سنخين كالأكل والشرب ، مع أنّ الكفّارة التي هي المسبّب قابلة للتكرّر.

فيمكن أن يقال : إنّ السبب الكفارة هو الإفطار في نهار رمضان الصادر عن الصائم ، وهذا المعنى يصدق على أوّل وجود من المفطر ، وبصدوره من المتعمّد إلى الإفطار يبطل الصوم وينعدم ، فالوجود الثاني من المفطر - سواء أكان من سنخ الأوّل كالأكل بعد الأكل أو الشرب بعد الشرب ، أو كان من سنخ آخر كالأكل بعد الشرب أو الشرب بعد الأكل - لا يصدق عليه أنّه أفطر صومه ، لأنّه بإفطاره الأوّل أبطل صومه وليس بصائم بعد ذلك. ومن الواضح المعلوم أنّ موضوع الكفّارة هو إفطار الصوم ، لا مطلق الأكل والشرب مثلا في نهار رمضان وإن لم يكن صائما.

ص: 233

ففي الحقيقة هاهنا سبب واحد للكفّارة ، وهو أوّل وجود من المفطرات ، فليس من قبيل تداخل الأسباب أو المسبّبات.

وعلى كلّ حال هذا أصل أوّلى ، ومقتضى أصالة عدم تداخل الأسباب هو تعدّد المسبّب ما لم يأت دليل على خلافه.

وأمّا إتيان دليل على التداخل فلا ينافي هذه القاعدة ، لأنّ هذه القاعدة مفاد ظاهر القضيّة اللفظيّة ، فإذا جاء الدليل على خلافه لا يبقى مجال للأخذ بذلك الظهور ، أو كان المسبّب غير قابل للتكرّر ولا للتأكّد أو كان المسبّب المأتيّ به مصداقا لعنوانين وامتثالا لأمرين ، كما قلنا فيما لو نذر إطعام عالم ونذر أيضا إطعام هاشمي فأطعم عالما هاشميّا فقد أوفي بكلا نذريه وامتثل الأمرين جميعا.

ثمَّ إنّهم بمناسبة البحث عن أصالة عدم تداخل الأسباب في باب الأغسال تكلّموا في مسألة تعدّد حقائق الأغسال واتّحادها ، فذهب المشهور إلى أنّها حقائق مختلفة ، وبعض آخر إلى أنّه حقيقة واحدة ، وهو المحكيّ عن الأردبيلي وتلامذته 5 (1).

ومعنى كونها حقيقة واحدة تارة باعتبار أنفسها ، وأخرى باعتبار اتّحاد أسبابها ، وثالثة باعتبار آثارها.

أمّا الأوّل ، فلا شكّ في أنّ الغسل عبارة من غسل جميع البدن بإجراء الماء عليه مع النيّة ، أي قصد القربة بهذا الفعل ، ولا فرق بين أن يكون إجراء الماء على جميع البدن غسلا ارتماسيّا أو ترتيبيّا.

والعمدة أنّه هل قصد العنوان لازم في هذه الأغسال وبه يتحقّق وبدونه لا يوجد ، مثلا غسل الجنابة أو الجمعة أو مسّ الميّت لا يتحقّق بدون قصد هذه العناوين ، وإن كان بعنوانه الإجمالي مثل ما في الذمّة ممّا يشير إلى ذلك العنوان ، فيكون حال الغسل

ص: 234


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 1 ، ص 130 ، « مدارك الأحكام » ج 1 ، ص 98 و 194.

حال الصلوات الرباعيّة مثلا حيث لا يتحقّق إلاّ بقصد عناوينها من الظهر والعصر والعشاء ولو إجمالا وبعنوان ما في الذمّة.

فإن كان الأمر كذلك ، فلا بدّ وأن نقول باختلاف حقيقتها ، إذ قصد العنوان يكون بمنزلة الفصل المنوّع لها ، كما يكون كذلك في باب الصلوات.

وأمّا الثاني : أي وحدتها باعتبار أسبابها ، أي تداخل أسبابها في عالم التأثير ، أي يكون أثر كلّ واحد من تلك الأسباب قذارة معنوية يعبّر عنها بالحدث الأكبر.

ولا فرق في تلك القذارة المعنوية بين أن يكون حصولها من الجنابة ، أو من الحيض ، أو من مسّ الميّت ، أو من غير ذلك ، كما قلنا في الوضوء إنّ موجباتها توجب حدوث ظلمه في النفس ترتفع بواسطة الوضوء ، ولا شكّ في أنّ مقتضى القاعدة اختلافها من هذه الجهة أيضا ، وإلاّ يلزم تأثير المتعدّد في الواحد.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا يلزم لو لم تكن تلك القذارة المعنويّة قابلة للتأكّد ، وإلاّ فكلّ واحد من تلك الأسباب يؤثّر في مرتبة من تلك القذارة فتشتدّ ، ولا يلزم هذا المحذور ، ولكن الذي يلزم هو أنّه في بعض موجبات الغسل لا يمكن الالتزام بمثل هذا الأثر كغسل الجمعة ، فإنّ موجبه يوم الجمعة وهو لا يوجب قذارة معنويّة قطعا ، بل جميع الأغسال الزمانيّة ذلك الزمان الذي يوجبها لا يمكن أن يكون موجبا لوجود ظلمة أو قذارة معنويّة في النفس ، كغسل ليالي شهر رمضان خصوصا ليلة القدر.

فالقول باتّحاد حقيقة الأغسال من هذه الجهة ممّا لا يمكن الالتزام به.

وأمّا الثالث : أي اتّحادها باعتبار آثارها بأن يقال أثر جميعها واحد ، وهو وجود نورانيّة نفسانيّة ، كما قلنا في الوضوء مستدلاّ بقوله علیه السلام : « الوضوء نور ، والوضوء نور على نور ».

وفيه أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثّر فيما إذا لم يكن ذلك الأثر قابلا للاشتداد ، وأمّا إذا كان فيمكن أن يكون كلّ مرتبة من مراتب ذلك الأثر مستندا إلى

ص: 235

غسل من تلك الأغسال ، فعند اجتماع الأغسال المتعدّدة مرتبة من تلك النورانيّة تكون مستندة إلى غسل الجنابة ، وأخرى إلى غسل الجمعة ، وهكذا ، فلا يمكن استكشاف كون الأغسال حقيقة واحدة من وحدة الأثر بهذا المعنى.

فالإنصاف أنّ الحكم باتّحاد الأغسال من حيث حقائقها ، وكون الاختلاف من ناحية إضافتها إلى موجباتها - كقولك : غسل الجنابة ، وغسل الجمعة ، وغسل مسّ الميّت ، وغسل ليلة القدر وهكذا - ممّا لا دليل عليه ، بل ظاهر قوله علیه السلام : « إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » (1) تعدّد الحقوق ، غاية الأمر أنّ الرواية تدلّ على كفاية الامتثال للجميع بإتيان غسل واحد ، ولا ينافي الاكتفاء بواحد مع تعدّد حقوق المجتمعة واختلاف حقائقها ، كما هو صريح رواية حريز.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ ظاهر تعدّد الأسباب والموجبات للغسل - كالجنابة والحيض والاستحاضة في بعض أقسامها ومسّ الميّت ونفس الميّت ، أي كون موت المسلم موجبا للغسل ، وغسل الإحرام والجمعة والزيارة ، والأغسال الزمانيّة على كثرتها ، ورؤية المصلوب إلى غيرها من الأسباب المذكورة في الكتب الفقهيّة - هو تعدّد الغسل وأنّها حقائق مختلفة ، ومن آثارها عدم إجزاء واحد منها عن الباقي ، سواء نوى بذلك الواحد سائر الأغسال أو لم ينو ، وسواء كان ذلك الواحد الذي يأتي به غسل الجنابة أو غيرها.

ولكن وردت روايات متعدّدة تدلّ على أنّ إتيان واحد منها يكون مجزيا عن الباقي إذا كان ما في ذمّته متعدّدا ، خصوصا إذا كان بإتيان ذلك الواحد ينوي جميع ما في ذمته ، وخصوصا إذا كان ما يأتي به بعنوان غسل الجنابة وينوي الباقي في ضمنه وتبعا له.

ص: 236


1- « الكافي » ج 3 ، ص 41 ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 107 ، ح 270 ، باب الأغسال المفترضات والمسنونات ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 525 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 1.

ومنها : ما ذكرنا من رواية حريز ، عن زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام المرويّ في الكافي والتهذيب ، قال علیه السلام : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فإذا اجتمعت عليك حقوق اللّه أجزأها عنك غسل واحد » ثمَّ قال : « وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » (1).

وأيضا عن الكافي بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما أنّه علیه السلام قال : « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » (2).

وأيضا في الكافي والتهذيب بإسنادهما عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال : « غسل الجنابة والحيض واحد » (3). وروايات كثيرة مثل ما ذكرنا واردة في هذا الباب.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

فنقول : موارد تطبيقها في الفقه كثيرة :

فمنها : مسألة تداخل الأغسال وكذلك الوضوءات ، ولكن لا أثر لهذه القاعدة فيما

ص: 237


1- هي نفس الرواية المتقدّمة في ص 236.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 41 ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 526 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 83 ، باب المرأة ترى الدّم وهي جنب ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 395 ، ح 1223 ، باب الحيض والاستحاضة والنّفاس ، ح 46 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 527 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 9.

ورد الدليل على التداخل كما في هذين البابين.

ومنها : لو تعدّدت أسباب النزح في باب البئر بأن وقعت فيها نجاسات عديدة ، هل تتداخل ويكفي للجميع نزح واحد غاية الأمر بالأكثر منها ، أم لا تتداخل ، بل يجب لكل واحد من النجاسات النزح الخاصّ به ، فيتعدّد النزح بتعدّد النجاسات الواقعة فيها ، فينزح المقدّر لكلّ واحد منها؟

ومنها : لو تعدّد ورود النجاسات الخبيثة على محلّ فهل تتداخل ، أم يجب الغسلات المتعدّدة ، لكلّ واحد منها الغسل المختصّ بها ، مثلا لو لاقى بدنه أو ثوبه الدم والبول فبناء على التداخل يغسل مرّتين ، أي يأخذ بالأكثر منهما تقديرا وهو البول بناء على وجوب التعدّد فيه ، وبناء على عدم التداخل يجب غسله ثلاث مرّات ، مرّة للدم ومرّتين للبول.

ومنها : لو تعدّد نذره بالنسبة إلى فعل من الأفعال ، وذلك كما نذر مرّتين أن يصوم يوما أو نذر مرّتين أن يزور الحسين علیه السلام ، فبناء على التداخل يكفي صوم يوم واحد وزيارة واحدة ، وبناء على عدم التداخل يجب أن يصوم يومين ويزوره علیه السلام مرّتين.

ومنها : لو تعدّد موجبات الكفّارة في نهار شهر رمضان لمن يجب عليه الصوم ، كما إذا أكل أو شرب مرارا ، أو أكل وجامع وارتمس ، فبناء على أصالة عدم التداخل تكون عليه كفّارات متعدّدة بعدد أسبابها ، وبناء على التداخل ليس عليه إلاّ كفارة واحدة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى كفّارات الحجّ وكفّارات الإحرام ، تتعدّد الكفارة بتعدّد أسبابها لو قلنا بأصالة عدم التداخل ، وتكفي كفّارة واحدة لو قلنا بالتداخل.

ومنها : تعدّد الأسباب في باب الحدود بالنسبة إلى الجلد ، فلو قذف متعدّدا ، أو زنى غير محصن متعدّدا ، فبناء على عدم التداخل يجلد مرّات بعدد أسباب الجلد ثمانين أو مائة ، وإن قلنا بالتداخل لا يجلد إلاّ مرّة واحدة.

وخلاصة الكلام : أنّ هذا الأصل كثير الدوران في الفقه ، وله موارد كثيرة ،

ص: 238

واستيفاء تمامها موجب للتطويل ، ولذلك نكتفي بما ذكرنا ونحيل الباقي على الكتب الفقهيّة المفصّلة.

ونختم الكلام في هذه القاعدة بذكر أمور لا غناء عن ذكرها

الأوّل : في أنّه هل هذه القاعدة من القواعد الفقهيّة ، أم من القواعد الأصوليّة ، أم من القواعد العقليّة الكلاميّة

ولا ربط لها بالفقه ولا بالأصول أصلا.

أقول : التحقيق أنّ الجهات الثلاث موجودة فيها.

أمّا جهة كونها قاعدة أصوليّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان ناظرا إلى أنّ القضيّة الشرطيّة لو كان فيها الشرط متعدّدا والجزاء متّحدا هل لها ظهور في تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط أم لا؟ فيكون البحث فيها من هذه الجهة كالبحث فيها من حيث دلالتها على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، أي يكون حال البحث فيها من هذه الجهة حال البحث فيها من حيث أنّها هل لها مفهوم أم لا؟ فتكون بناء على هذا مسألة أصوليّة.

وأمّا كونها عقليّة وكلاميّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان من حيث أنّ الأسباب والشروط المتعدّدة هل يمكن أنّ يؤثّر في واحد بمعنى أنّ المسبّب الواحد أثرا ومعلولا لأسباب وعلل متعدّدة ، أو لا يمكن ، لأنّ تأثير العلل المتعدّدة بما هي متعدّدة في الواحد بما هو واحد غير معقول.

وبعبارة أخرى : كما أنّ صدور المتعدّد بما هو متعدّد عن الواحد بما هو واحد محال ، كذلك صدور الواحد بما هو واحد عن المتعدّد بما هو متعدّد محال ، إلاّ أن يكون المجموع علّة واحدة مركّبة من أجزاء ، وهو خلاف الفرض فيما نحن فيه.

وأمّا كونها فقهيّة ، فباعتبار أنّ البحث فيها عن أنّه هل مقتضى القاعدة الأوليّة هو وجوب إيجاد المسبّبات المتعدّدة ، عند وجود أسباب متعدّدة ، أو كفاية الإتيان

ص: 239

بواحد منها؟ وعلى هذا الأخير ذكرناها في القواعد الفقهيّة.

وخلاصة الكلام : أنّ جهة بحثنا عن هذه القاعدة هو أنّ الموارد التي ذكر الشارع أسباب متعدّدة لحكم من الأحكام - وقد ذكرنا جملة كثيرة منها - هل يجب في تلك الموارد إيجاد مسبّبات متعدّدة بعدد الأسباب ، أم لا يجب إلاّ إيجاد واحد منها؟ كما أنّهم يذكرون في باب الغسل أنّه إذا تعدّدت الأسباب سواء أكانت من سنخ واحد كما إذا جامع مرارا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا جامع واحتلم ونظر إلى المصلوب ، هل يكون عليه غسل واحد أم لا بل عليه أغسال متعدّدة بعدد الأسباب التي وجدت.

وهكذا بحثهم في باب الكفّارات وفي باب الحدود لو تعدّد وجوب أسباب الكفّارة ، أو تعدّدت أسباب الحدّ يبحثون في أنّه هل عليه كفّارة واحدة ، وكذلك هل عليه جلد واحد ، أو عليه كفّارات وجلدات متعدّدة بعدد أسبابهما.

الثاني : في أنّه هل هذا البحث - في أنّ مقتضى القواعد الأوليّة هو أصالة عدم التداخل وأنّ تعدّد السبب يوجب تعدّد المسبّب ، أم لا - مختص بما إذا وجد السبب الثاني والثالث وهكذا قبل الإتيان بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ، أم لا بل يأتي هذا البحث ولو أتى بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ثمَّ وجد السبب الثاني ، وهكذا في الثالث والرابع وما زاد. مثلا لو شرب في نهار شهر رمضان متعمدا مع أنّه صائم ، وكفر مثلا بإطعام ستّين مسكينا أو تحرير رقبة ، ثمَّ أكل فكفّر ، ثمَّ جامع وهكذا ، فيأتي هذا البحث ، أي بحث تداخل الأسباب أو لا؟

الظاهر أنّه لا يجري البحث في هذه الصورة ، وذلك من جهة أنّ المسبّب الموجود قبل هذا السبب المتأخّر لا يمكن أن يكون من آثاره ، بل لا بدّ وأن يكون من آثار السبب الذي وجد قبله ، وإلاّ يلزم تقدّم المعلول على علّته ، أو - بناء على ما حقّقناه من أنّ هذه الأسباب والشروط يرجع إلى قيود الموضوع - يلزم تقدّم الحكم على الموضوع ، وهو أيضا محال كالأوّل.

ص: 240

وأمّا ما حكي عن بعض من إتيان هذا البحث في مسألة وطئ الحائض ، من أنّه لو وطئ الحائض وكفّر ، ثمَّ وطئ ثانيا بعد أن كفّر عن الوطي الأوّل يأتي هذا البحث ، بمعنى أنّه بناء على تداخل الأسباب لا تجب الكفّارة للوطئ الثاني ، وبناء على عدم التداخل تجب كفّارة أخرى للوطئ الثاني.

فلا يبعد أن يكون مراد القائل هو أنّ سبب الكفّارة في وطئ الحائض هو صرف الوجود من طبيعة الوطي في حال الحيض ، ولا شكّ في أنّ صرف الوجود من تلك الطبيعة يتحقّق بأوّل وجود منها ، ولا يصدق بعد الوجود الأوّل على الوجود الثاني ، لأنّ معنى صرف الوجود لطبيعة هو وجودها المطلق عاريا عن كلّ قيد ، وهو الذي ربما يعبّر عنه بعادم العدم ، وهو نقيض العدم المطلق ، أي العدم غير المقيّد بقيد.

ولا شكّ في أنّ العدم المطلق - أي العدم المحمولي - لشي ء ليس قابلا للتعدّد ، فنقيضه ، أي الوجود المطلق ، أي صرف الوجود ليس قابلا للتعدّد ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

فإذا كان الأمر كذلك ، فبالوطئ الأوّل يتحقّق صرف وجود طبيعة الوطي ، والمفروض أنّه موضوع وجوب الكفّارة ، وسائر أفراد هذه الطبيعة لا توجب الكفّارة ، فلو كفّر بعد الوطي الأوّل لا يجب عليه الكفّارة ولو صدر منه الوطي ألف مرّة.

وبناء على ما ذكرنا لو وطئ في حال الحيض ولم يكفّر ، ثمَّ وطئ ثانيا وثالثا وهكذا ، لا يجب عليه إلاّ كفّارة واحدة للوطئ الأوّل الذي هو مصداق صرف الوجود ، دون سائر الأفراد.

فهذه المسألة أجنبيّة عن مسألة أصالة عدم تداخل الأسباب ، وعلى هذا الأساس قلنا : لو نذر شخص أن لا يشرب الشاي ، ويكون متعلّق نذره وهو ترك صرف الوجود من طبيعة شرب الشاي ، لا ترك جميع وجودات هذه الطبيعة. فلو شرب مرارا يحصل الحنث بأوّل وجود من هذه الطبيعة ، وتجب عليه كفّارة حنث النذر ، ولا تجب كفّارات أخر بإيجاد سائر أفراد تلك الطبيعة ، إذ لا يحصل بتلك

ص: 241

الإيجادات حنث ، ولا يصدق عليها صرف الوجود الذي تركه متعلّق نذره.

وأيضا على هذا الأساس قلنا : إنّ النواهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون متعلّق النهي هي الطبيعة السارية ، فيكون النهي انحلاليّا ، ينحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد الأفراد ، ولكلّ قضيّة من تلك القضايا إطاعة مستقلّة وعصيان مستقلّ مثل : لا تشرب الخمر ، وأغلب النواهي بل جميعها - إلاّ ما شذّ وندر - من هذا القبيل.

ولا فرق في كون أغلب النواهي انحلاليّا بين أن يكون لمتعلّقاتها التي هي أفعال المكلّفين مساس وتعلّق بالموضوع الخارجي ، مثل : لا تشرب الخمر ، ولا تغتب المؤمن ، وبين أن لا يكون لها ذلك مثل : لا تكذب.

ثانيهما : أن يكون متعلّقه صرف الوجود ، كقوله : لا تشرب ماء الدجلة ، بناء على أن يكون الأثر المبغوض لصرف وجوده ، وهذا الذي ذكرنا من كون موضوع وجوب الكفّارة في وطئ الحائض صرف الوجود من طبيعة وطئها إنّما هو كان في مقام إمكان أن يكون كذلك في عالم الثبوت ، فلا ينافي مقام الإثبات استظهار أنّ الموضوع للكفّارة هي الطبيعة السارية لوطء الحائض.

فما رواه في الاستبصار بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من أتى حائضا فعليه نصف دينار يتصدّق به » (1) فإنّه ظاهر في الانحلال ، وأنّ وجود طبيعة وطي الحائض - أيّ وجود كان ، سواء كان الأوّل أو غيره - سبب لوجوب الكفّارة.

وما في فقه مولانا الرضا علیه السلام أوضح وأصرح في أنّ الطبيعة في ضمن أي وجود منها كانت تكون سببا للكفّارة ، وهو قوله علیه السلام « ومتى جامعتها وهي حائض فعليك

ص: 242


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 163 ، ح 467 ، باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس ، ح 40 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 133 ، ح 456 ، باب ما يجب على وطى امرأة حائضا ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 575 ، أبواب الحيض ، باب 28 ، ح 4.

أن تتصدّق بدينار » (1).

الثالث : هو أنّ الكلام والبحث فيما إذا كان المسبّب واحدا بالنوع ، وكان من الممكن تعدّد وجوده بحسب الخصوصيّات الفرديّة. وأمّا إذا كان المسبّب عند وجود كلّ سبب من الأسباب غير ما هو المسبّب عند وجود السبب الآخر بالنوع ، مثلا قال : إذا بلت فتوضّأ ، وأيضا قال : إذا جامعت فاغتسل ، فمن أوضح الواضحات خروج هذا القسم عن محلّ النزاع لا كلام في هذا ، كما أنّه لا كلام في دخول الصورة الأولى في محلّ النزاع.

وإنّما الكلام في أنّه - أي المسبّب - لو كان من الكميّات المختلفة بحسب المراتب ، كما أنّه لو قال : إذا جامعت الحائض في أوّل الحيض فعليك دينار ، وإن كان في وسطه فنصف دينار ، وإن كان في آخره فربع دينار ، فهل هذا ملحق بالمتّحد نوعا الذي يمكن أن يتعدّد ويكون له وجودات وأفراد لذلك النوع الواحد ؛ كي يكون داخلا في محلّ النزاع ، أو يكون ملحقا بالمسبّب المختلف نوعا ، كي يكون خارجا عن محلّ البحث؟ لا يبعد أن يكون ما ذكر - أى المسبّب الواحد بالنوع ، ولكن المختلف بحسب الكميّة ، كصوم يوم أو يومين ، أو إعطاء مدّ في الكفّارة أو مدّين ، أو صدقة دينار أو نصف دينار أو ربع دينار في الوطي في أوّل الحيض وفي وسطه وفي آخره ، وأمثال ذلك وأشباهه - ملحقا بالمختلف نوعا ، لأنّ الملاك في الاثنين واحد ، وهو اختلاف الحكم والموضوع جميعا في كليهما.

فكما أنّ في قوله : « إن بلت فتوضّأ » الموضوع هو المكلّف الذي بال ، والحكم هو وجوب الوضوء ، وفي قوله : « إن جامعت فاغتسل » الموضوع هو المكلّف الذي جامع ، والمحمول هو وجوب الغسل ، فالقضيتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، فلا وجه للبحث عن التداخل وعدمه ، لأنّ واحدة من القضيتين أجنبيّة عن الأخرى موضوعا

ص: 243


1- « فقه الرضا علیه السلام » ص 31 ، « مستدرك الوسائل » ج 2 ، ص 21 ، أبواب الحيض ، باب 23 ، ح 1.

ومحمولا. وهذا البحث مورده اتّحاد المحمول في القضيتين ، وإن كانتا بحسب الموضوع مختلفين.

فكذلك ما نحن فيه أيضا القضيّتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، لأنّ الموضوع في إحديهما مثلا الوطي في أوّل الحيض ، والمحمول صدقة دينار ، والموضوع في الأخرى الوطي في وسط الحيض أو في آخره ، والمحمول صدقة نصف دينار أو ربعه ، مثل ما إذا كان المحمول مختلفا بالنوع.

بل بناء على القول بأصالة الماهيّة - وأنّ مراتب الكمّ والكيف أنواع - يكون ما ذكر من مصاديق ما يكون المسبّب مختلفا بالنوع حقيقة ، وإن كان هذا المبنى فاسدا ، كما هو مذكور في محلّه.

الرابع : بعد ما عرفت أنّ مقتضي القاعدة الأوّليّة أصالة عدم التداخل ، فاعلم أنّ هذا ما لم يأت دليل على كفاية مسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة. وأمّا إذا أتى - كما في باب الأغسال - أنّ الغسل الواحد يكفي عن الأسباب المتعدّدة ، فلو أجنبت ثمَّ حاضت وانقطع حيضها يوم الجمعة وطهرت في ذلك اليوم ومست بدن الميت ، فاجتمعت عليها أسباب متعدّدة ، يكفيها غسل واحد للجميع ، لما تقدّم من رواية حريز ، وروايات كثيرة بهذا المضمون ، لا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه هل صرف إتيان الغسل الواحد كاف عن الجميع ، أو في خصوص ما إذا نوى الجميع ، أو التفصيل بين ما إذا نوى خصوص غسل الجنابة يكفي عن الجميع ، وأمّا إذا نوى غير الجنابة فلا يكفي؟ وجوه واحتمالات.

والمستفاد من أخبار الباب أنّ نيّة الجميع بالغسل الواحد يكفي عن الجميع.

كما أنّه أيضا يستفاد ممّا رواه في الكافي - عن محمّد بن يحيى بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما علیهماالسلام ، أنّه علیه السلام قال : « إذا اغتسل الجنب بعد

ص: 244

طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » (1) أنّ نيّة غسل الجنابة تكفي عن كلّ غسل.

وأمّا لو لم ينو الجميع ولم ينو الجنابة أيضا ، أو لم تكن فيها الجنابة سواء نوى واحدا غير الجنابة - خصوصا إذا كان ذلك الغير هو غسل الحيض - أو لم ينو أصلا ، فالقول بكفاية مثل ذلك الغسل عن الجميع لا يخلو عن إشكال ، إذ الدليل على كفاية غسل واحد لا يرفع اعتبار النيّة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 245


1- تقدّم تخريجه في ص 237 ، رقم (2).

ص: 246

34 - قاعدة المؤمنون عند شروطهم

اشارة

ص: 247

ص: 248

قاعدة المؤمنون عند شروطهم (1)

ومن القواعد الفقهية المشهورة قاعدة « المؤمنون عند شروطهم ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

وهو أمور

الأوّل : الأخبار :

منها : ما رواه محمّد بن يعقوب بإسناده عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : « من اشترط شرطا مخالفا لكتاب اللّه فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ » (2).

ومنها : عن محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن محبوب مثله (3). وبإسناده عن

ص: 249


1- (*) « الحق المبين » ص 74 ؛ و 141. « عوائد الأيام » ص 41 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 80 ، « قواعد فقه » ( شهابى ) ص 66.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 169 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 22 ، ح 94 ، باب عقود البيع ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 22 ، ح 94 ، باب عقود البيع ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6. ح 1.

الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « المسلمون عند شروطهم ، إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فلا يجوز » (1).

ومنها : ما عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر علیه السلام عن أبيه علیه السلام : « إنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام كان يقول : « من شرط لامرأته شرطا فليف لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطا حرّم حلالا ، أو أحلّ حراما » (2).

ومنها : ما في عوالي اللئالي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « المؤمنون عند شروطهم » (3).

ومنها : ما عن دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « المسلمون عند شروطهم إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه » (4).

قال الشيخ قدس سره روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « المسلمون عند شروطهم » (5).

ومنها : ما في التهذيب عن أيّوب بن نوح، عن صفوان ، عن منصور بن يونس ، عن عبد صالح علیه السلام قال : قلت له : إنّ رجلا من مواليك تزوّج امرأة ثمَّ طلّقها فبانت منه ، فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلاّ أن يجعل اللّه عليه أنّ لا يطلّقها ولا يتزوّج عليها ، فأعطاها ذلك ، ثمَّ بدا له في التزويج بعد ذلك ، فيكف يصنع؟ فقال : « بئس ما صنع ، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار ، قل له فليف المرأة بشرطها ، فإنّ رسول

ص: 250


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 202 ، ح 3765 ، باب الشرط والخيار في البيع ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 22 ، ح 93 ، باب عقود البيع ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 80 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.
3- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 217 ، ح 77 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 310 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 7.
4- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 44 ، ح 106 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 300 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 1.
5- « الخلاف » ج 3 ، ص 10 ، المسألة : 7.

اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : المؤمنون عند شروطهم »(1).

وهناك أخبار كثيرة مفادها ثبوت هذه القاعدة ، تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، لأنّ ما ذكرناها - مضافا إلى صحّة جملة منها من حيث السند - قد عمل بها الأصحاب قديما وحديثا ، واستندوا في فتاويهم إليها.

فالإنصاف أنّها في كمال الاعتبار والوثوق بصدورها عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام .

وأمّا دلالتها على صحّة هذه القاعدة فلا يحتاج إلى البيان ، لأنّ متن كثير منها عين هذه القاعدة.

وأمّا المراد من هذه القاعدة - التي هي عين متن جملة من هذه الروايات - سنذكره ان شاء اللّه تعالى مع التخصيصات الواردة على هذا العموم ، وشرائط صحّة الشروط ، والشروط الابتدائيّة ، والشروط التي في ضمن العقود ، وحكمها في ضمن أمور.

وأمّا إجمالا : فالظاهر أنّ المراد من هذه القاعدة هو أنّه يجب على كلّ مسلم ومؤمن أن يكون ثابتا عند التزاماته ، بمعنى أنّه إذا التزام لشخص بأمر له ، فيجب عليه الوفاء له بذلك الأمر ، وذلك من جهة وضوح أنّ هذه الكبرى الكليّة الصادرة عنه صلی اللّه علیه و آله في مقام إنشاء الحكم ، لا الإخبار عن أمر خارجي ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « المسلمون عند شروطهم » أي : جميع المسلمين ، لأنّ الجمع المعرف باللام يفيد العموم ، يجب أن يثبتوا عند جميع شروطهم ، لأنّ الشروط أيضا جمع مضاف يفيد العموم ، فهو صلی اللّه علیه و آله يحكم على جميع المسلمين بلزوم الثبوت عند جميع شروطهم.

والمراد من الثبوت والاستقرار عند الشرط هو ترتيب الأثر على شرطه الذي

ص: 251


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور ، ح 66 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب من عقد على امرأة و. ، 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 4.

شرط ، وعدم الفرار عن العمل على طبق التزامه ، وحيث أنّ الشرط إذا تعدّي ب- « على » - مثلا قال : باع ، وشرط عليه - يكون المتفاهم العرفي أنّه ألزمه بأمر ، ولو قيل : شرط له بأمر ، فالمتفاهم العرفي أنّه التزم له بذلك.

ولذلك نقل عن أهل اللغة أنّه - أي الشرط - هو الإلزام والالتزام (1).

وبهذا المعنى يصحّ أن يطلق على جميع الأحكام الإلزاميّة من قبل اللّه على العباد أنّها شروط من قبل اللّه تعالى ، أي إلزامات من قبله تعالى عليهم.

ولعلّه من هذه الجهة أطلق الشرط صلی اللّه علیه و آله على كن الولاء للمعتق لا الذي يبيع الأمة بشرط أن يكون ولائها له في قصّة اشتراء عائشة لبريرة بشرط أن يكون ولائها للبائع بقوله صلی اللّه علیه و آله « إنّ شرط اللّه أحق وأوثق » (2)

أي : كون الولاء لمن أعتق.

وبناء على ما ذكرنا فيكون معنى « المسلمون عند شروطهم » هو وجوب الوفاء على كلّ مسلم بما التزام لغيره ، لا بما ألزم غيره ، لأنّه لا معنى لأن يكون ثابتا عند إلزامه غيره بأمر ، ولو لم يكن استثناء في البين لكان وجوب الوفاء عامّا بالنسبة إلى جميع التزاماته ، ولكن قوله صلی اللّه علیه و آله « المسلمون عند شروطهم إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه » كما في رواية دعائم الإسلام أخرج الشرط المخالف لكتاب اللّه عن تحت هذا العموم.

وفي بعض هذه الروايات قيد لزوم الوفاء بالتزاماتهم ، الذي هو عبارة أخرى عن شروطهم بكونها ممّا وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ ، وفي بعض آخر استثني عن لزوم الوفاء بكلّ شرط والتزام الشرط الذي حرّم حلالا أو أحلّ حراما ، وسنتكلّم في هذه القيود

ص: 252


1- « القاموس المحيط » ج 2 ، ص 542 ( شرط ).
2- « صحيح البخاري » ج 2 ، ص 18 ، كتاب البيوع ، باب 67 : البيع والشراء مع النساء ، وص 20 ، باب 73 : إذا اشترط شروطا في البيع لا تحلّ ، وص 119 ، كتاب الشروط ، باب 13 : الشروط في الولاء.

والاستثناءات عمّا قريب إن شاء اللّه تعالى.

وخلاصة الكلام في المراد عن هذه القاعدة بطور الإجمال هو أنّه يجب على جميع المسلمين الوفاء بجميع التزاماتهم إلاّ في موارد تلك الاستثناءات التي سنذكرها إنّ شاء اللّه تعالى. فهذه القاعدة بالنسبة إلى الشروط نظير ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) بالنسبة إلى العقود.

الثاني : هو الإجماع واتّفاق الفقهاء قديما وحديثا على وجوب الوفاء بالشروط الصحيحة في ضمن العقود اللازمة.

وفيه : مضافا إلى أنّ الدليل أخصّ من المدّعي ، ما قلنا مرارا من أنّ هذه الإجماعات مع وجود مدارك معتبرة من الروايات الواردة في هذه المسألة ليس من الإجماع الذي قلنا بحجّيته في الأصول.

الثالث : أنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود الصحيحة اللازمة من توابع تلك العقود ومرتبطة بها، وتكون من ملحقاتها ، فدليل وجوب الوفاء بالعقود كما يدلّ على لزوم الوفاء بتلك العقود وترتيب الأثر عليها ، كذلك يدلّ على لزوم الوفاء بتلك الشروط المرتبطة بالعقود الملحقة بها.

وفيه : أيضا مع أنّه أخصّ من المدّعي ، أنّ العقود عبارة عن نصّ المعاهدة الواقعة بين الطرفين المنشأ بالإيجاب والقبول ، والشروط وإن كانت في ضمن تلك العقود والمعاهدات التزامات أخر غير تلك المعاهدات المؤكّدة التي نسمّيها بالعقود ، ولذلك قالوا في مورد الشرط الفاسد : إنّ فساد الشرط لا يسري إلى العقد ، فكذلك وجوب الوفاء بالعقد لا يسري إلى الشرط ، بل يحتاج وجوب الوفاء بالشرط إلى دليل آخر غير دليل وجوب الوفاء بالعقود ، وهو قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 253


1- المائدة (5) : 1.

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1).

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة

اشارة

والفرق بين الشروط الابتدائيّة وما تقع في ضمن العقود ، وبيان شرائط صحّة الشروط ، وبيان أنّ مخالفة الشرط هل يوجب الخيار فقط أم لا بل يوجب بطلان العقد ، وأنّه ما هو حكم تعذّر الشرط؟

فهذه المطالب تذكر في ضمن أمور :

[ الأمر ] الأوّل : في شرح ألفاظ هذه القاعدة وما هو الظاهر منها ، وإن بيّنّاه إجمالا.

فنقول : أمّا كلمة « المؤمنون » أو « المسلمون » جمع معرّف باللام يفيد العموم ومعناهما واضح.

وأمّا الظرف متعلّق بثابتون المقدّر ، وهو مشتقّ من أفعال العموم. وأمّا « الشروط » فهو جمع مضاف يفيد العموم ، والمتفاهم العرفي من هذه الكلمة قلنا إنّه الإلزام باعتبار انتسابه إلى من له ، والالتزام باعتبار انتسابه إلى من عليه.

نعم يبقى شي ء آخر ، وهو أنّه - أي الشرط - مطلق الإلزام والالتزام ، أو هما في ضمن عقد. ونتكلّم فيه في بعض الأمور الآتية إنّ شاء اللّه تعالى.

وأمّا المعاني الأخر مثل ما اصطلح عليه النحويّون أو الأصوليّون فأجنبيّة عن محلّ كلامنا ، لأنّ كلامنا في المراد من القاعدة التي هي مضمون قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون أو

ص: 254


1- المصدر.

المسلمون عند شروطهم » ، وتعيين المراد من الحديث الشريف لا طريق له إلاّ بما يفهم العرف منه ، لأنّ ما هو حجّة عند العقلاء في محاوراتهم لتشخيص المراد ليس إلاّ ظهور الكلام ، والمراد من الظهور هو المتفاهم العرفي منه ، فذكر سائر المعاني والمصطلحات تضييع للعمر وإتلاف للوقت من غير مبرر.

فيكون معنى القاعدة - التي هي عين مفاد الحديث الشريف بناء على ما ذكرنا من شرح ألفاظها وأنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام إنشاء الحكم لا الإخبار عن أمر خارجي - أنّه يجب على كلّ مؤمن أو مسلم الثبوت عند التزاماته إمّا مطلقا ، وإمّا أن تكون تلك الالتزامات في ضمن عقد.

وهذا الاحتمال الأخير لأجل احتمال أن يكون إطلاق الشرط على الشروط الابتدائيّة مجازا.

والمراد من الثبوت عند التزاماته كون ما التزم به ثابتا عليه ، وأنّه في عهدته ، وأنّه لا يخرج عن عهدته إلاّ بالوفاء به ، فيشبه أبواب الضمانات.

فكما أنّه في باب الضمان تكون العين أو مثله في عهدته بوجوده الاعتباري ولا تتخلّص عهدته إلاّ بالأداء ، فكذلك لا يتخلّص الملتزم عمّا التزم به إلاّ بالوفاء بالتزامه والعمل على طبقه ، فيكون مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » - بناء على ما ذكرنا في معناه - حكما وضعيّا ، مثل مفاد قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهو ثبوت ما التزم به واستقراره عليه ، وليس مفاده وجوب العمل على طبق ما التزم به تكليفا فقط.

الأمر الثاني : في بيان الفرق بين الشروط الابتدائيّة ، وبين الشروط الواقعة في ضمن العقود.

فنقول : أوّلا : أنّ إطلاق الشرط على مطلق الالتزام بشي ء لشخص - سواء أكان في ضمن عقد ، أو كان التزاما ابتدائيّا غير مربوط بشي ء - لا يخلو من نظر وتأمّل ، بل

ص: 255

الظاهر حسب المتفاهم العرفي هو أن يكون إلزامه أو التزامه بشي ء في ضمن عقد ومعاملة ، أو أمر آخر ، بمعنى أن يكون إلزامه غيره بشي ء أو التزامه لغيره بشي ء مربوطا بأمر آخر ، وليس معنى الشرط مطلق الإلزام والالتزام.

فالشرط بالمعنى المصدري عبارة عن جعل شي ء مرتبطا بأمر آخر. وبهذا المعنى يكون مبدأ للاشتقاقات منه ، كالشارط والمشروط وأمثالهما من المشتقّات من هذه المادّة - وبمعنى الاسم المصدري عبارة عن الشي ء المرتبط بغيره.

هذا هو المتفاهم العرفي ، مضافا إلى أنّه لو كان مطلق الإلزام والالتزام - ولو كانا ابتدائيّين غير مربوطين بشي ء يلزم تخصيص الأكثر في قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » (1) وهو مستهجن جدّا.

فلا بدّ من حمل الشروط في الحديث على الشروط الواقعة في ضمن العقود ، كي لا يلزم تخصيص الأكثر المستهجن ، لأنّ الشروط الابتدائيّة لا يجب الوفاء بها إجماعا.

فإن قلنا بأنّ الشرط أعمّ من الشروط الابتدائيّة وغيرها ، فيكون استعماله في الحديث عنائيّا مجازيّا ، وهو خلاف ظاهر هذا الكلام.

وأمّا الاستشهاد لكونه أعمّ من الابتدائي وغيره بالأخبار ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « شرط اللّه أحقّ وأوثق ، والولاء لمن أعتق » في قصة بريرة ، فإطلاق الشرط على حكمه تعالى بأنّ الولاء لمن أعتق ، يمكن أن يكون استعمالا عنائيّا مجازيّا ، لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

ويمكن أن يكون على نحو الحقيقة ، باعتبار كون أحكامه تبارك وتعالى مرتبطة بعهده إلى العباد ، وأخذ الميثاق عنهم أن لا يعبدوا الشيطان ، كما يشير قوله تعالى ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) (2).

ص: 256


1- تقدّم تخريجه في ص 251.
2- يس (36) : 60.

فهذه الأحكام إلزام على العباد في ضمن ذلك العهد والميثاق ، فإطلاق الشرط على أيّ حكم إلزامي من الأحكام الشرعيّة لا ينافي كون معنى الشرط هو الإلزام والالتزام المرتبط بأمر آخر ، لأنّ جميع الأحكام الالتزاميّة الشرعيّة إلزامات مرتبطة بذلك العهد وفي ضمنه.

وأمّا التوجيه في الحديث الشريف - بأنّ إطلاق الشرط على كون الولاء لمن أعتق من باب المشاكلة على حدّ قول شاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا

- فلا يصحّح الإطلاقات الكثيرة الآخر بالنسبة إلى سائر الأحكام ، كإطلاقه على خيار الحيوان في قوله صلی اللّه علیه و آله : « الشرط في الحيوان ثلاثة أيّام » (1) ، وكقوله علیه السلام في رواية منصور بن يونس المتقدّمة « فليف للمرأة بشرطها » (2) حيث أطلق الشرط فيها على النذر أو العهد ، ولا مشاكلة في البين.

وعلى كلّ حال لا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي من لفظ « الشرط » بالمعنى المصدري هو إلزام المشروط عليه ، أو الالتزام للمشروط له بأمر في ضمن عقد ، أو عهد ، أو أمر آخر ، فالإلزامات أو الالتزامات الابتدائيّة لا يطلق عليها الشرط إلاّ بالعناية ، ولا يجب الوفاء بها إجماعا.

الأمر الثالث : في بيان شرائط صحّة الشروط الواقعة في ضمن العقود.

وهي أمور :

ص: 257


1- « الكافي » ج 5 ، ص 169 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 102 ، باب عقود البيع ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 350 ، أبواب الخيار ، باب 4 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور ، ح 66 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب من عقد على امرأة. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 4.

[ الشرط ] الأوّل : أن يكون مقدورا للمشرط عليه ، بمعنى أنّ الذي يلتزم به المشروط عليه للمشروط له يكون إيجاده داخلا تحت قدرته إن كان الشرط - أي ما التزم به - من الأفعال ، أو كان تسليمه متّصفا بذلك الوصف وتلك الخصوصيّة تحت قدرته إن كان ما التزم به من الأوصاف والحالات.

والمقصود من هذا الشرط أنّ المشروط عليه حيث أنّه بالتزامه فعلا للمشروط له ، أو وصفا وخصوصيّة فيما ينتقل إلى المشروط له ، فكأنّه جعل عهدته مشغولة له بأمر ، فلا بدّ أن يكون ذلك الأمر تحت سلطانه بحسب العادة كي يكون متمكّنا من الوفاء بما التزم به ، وإلاّ يكون مثل ذلك الاشتراط لغوا في نظر العقلاء ، ويكون من قبيل : « وهب الأمير ما لا يملك ».

فمثل اشتراط جعل الزرع سنبلا والبسر رطبا ، أو اشتراط كون الدابّة بحيث تحمل في المستقبل حيث أنّها ليست تحت سلطان المشروط عليه يكون لغوا وباطلا ، بل لو أخذ وصفا للمبيع في البيع أو لغيره في سائر المعاوضات يكون العقد فاسدا ، لكونه غرريّا. لأنّ هذه الأمور بيد اللّه جلّ جلاله ، وتكون أفعال العباد بالنسبة إليها من المقدّمات الإعداديّة ، فيمكن أن تقع ويمكن أن لا تقع ، وقال اللّه تعالى في كتابه العزيز ( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) (1) ، وقال تعالى أيضا : ( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (2).

فالتزام المشروط عليه بإيجاد هذه الأمور ، أو التزامه بتسليم العين متّصفة بهذه الصفات يكون ممّا لا يعتني به عند العقلاء ، ويرون الملتزم بها مجازفا.

وأمّا اشتراط النتائج ككون مال مثلا ملكا لشخص ، فإن كان ممّا يحصل بنفس الاشتراط ، ولا يحتاج إلى سبب خاصّ ، فلا إشكال فيه ، لحصولها بنفس الاشتراط.

ص: 258


1- الواقعة (56) : 58 - 59.
2- الواقعة (56) : 63 - 64.

وأمّا ما يحتاج إلى سبب خاصّ ، ككون زوجته مطلّقة ، أو أمته أو عبده حرّا فلا يصحّ قطعا ، لامتناع حصولها بصرف الاشتراط.

نعم لا مانع من اشتراط إيجاد أسبابها إن كانت تحت اختياره وقدرته ، وأمّا المرأة لو التزمت في ضمن عقد لازم بأن تكون مطلّقة بطور شرط النتيجة ، أو بطور إيجاد أسباب كونها مطلّقة ، فهذا الشرط باطل مطلقا ، لعدم قدرتها على إيجاد أسباب طلاقها ، لأنّ الطلاق بيد من أخذ بالساق.

وخلاصة الكلام : أنّ الالتزام بأمر غير مقدور له وإن كان في ضمن عقد لازم باطل ، لا يشمله قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » ، لأنّه لا يمكن الوفاء به ، فلا يجب. ثمَّ إنّه ربما يكون موجبا لصيرورة المعاملة غرريّا وباطلا ، مضافا إلى بطلان نفسه. وذلك فيما إذا كان إنشاء المعاوضة والمبادلة في العقد المعاوضي مبنيّا على هذا الشرط غير المقدور الذي يعلم حصوله في المستقبل.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ اشتراط ما هو لا يجوز شرعا ، كاشتراط أن يصنع تمره خمرا مثلا أيضا باطل ، وذلك لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

[ الشرط ] الثاني : أن يكون سائغا شرعا هكذا ذكره الفقهاء ، ولكن أنت خبير أنّ هذا الشرط داخل في الشرط الأوّل ؛ لأنّه لا فرق في عدم كونه مقدورا بين أن يكون عدم قدرته من جهة المنع الشرعي ، أو لجهات تكوينيّة.

[ الشرط ] الثالث : أن يكون ممّا فيه غرض معتدّ به عند العقلاء وإن لم تكن له ماليّة ، أي العقلاء لا يبذلون بإذائه المال.

والوجه في اشتراط هذا الشرط هو أنّه إن لم يكن كذلك فيكون لغوا ، وأدلّة وجوب الوفاء بالشروط تكون منصرفة عن مثل هذا الشرط.

[ الشرط ] الرابع : أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنّة.

ص: 259

وتوضيح هذا الأمر ببيان أمور :

الأوّل : الفرق بين هذا الأمر والأمر الثاني هو أنّ المراد من كونه سائغا هناك هو أن يكون الشرط بمعنى ما التزم به جائزا شرعا ، أي لا يكون فعل حرام ، أو ترك واجب.

وهاهنا المراد من كونه غير مخالف للكتاب والسنّة ، أو كونه موافقا لهما هو أن لا يكون ما يلتزم به ويجعل على نفسه أو يلزم غيره به مخالفا للجعل الإلهي ، مثلا في الكتاب والسنّة جعل الولاء لمن أعتق ، فإلزام المشتري بأن يكون الولاء للبائع أو التزامه بذلك يكون على خلاف ما جعل في الكتاب ؛ لأنّ الشارع جعل هذا الحقّ للمعتق.

فجعله بواسطة الشرط لشخص آخر يكون على خلاف الكتاب ، أي أحكام اللّه المكتوبة على المكلّفين ، سواء أكانت بواسطة كتاب اللّه الكريم ، أو بواسطة السنّة النبويّة ، أو الروايات المرويّة عن الأئمّة الطاهرين - صلوات اللّه عليهم أجمعين - وكذلك اشتراط رقّية حرّ ، أو توريث من لم يجعله اللّه وارثا.

فالالتزام بهذه الأمور مخالف للكتاب والسنّة ، أي لما هو المجعول فيهما. هكذا قيل.

ولكنّ الإنصاف أنّ الشرط الثاني مندرج في الشرط الرابع ، لأنّ اشتراط فعل محرّم أو ترك واجب يكون مخالفا للكتاب قطعا.

الثاني : في أنّ المستثنى من عموم هذه القاعدة هل هو عنوان المخالف للكتاب ، أو عنوان ما ليس في الكتاب ، أو يشترط نفوذ الشرط بأن يكون موافقا للكتاب؟ فإنّ هذه العناوين الثلاثة كلّها وردت في الروايات.

أقول : بعد الفراغ عن أنّ المراد بالكتاب ليس خصوص القرآن الكريم ، بل المراد منه كلّ ما كتب على المكلّفين من أحكام الدين ، سواء كان في القرآن الكريم ، أم في الأحاديث النبويّة المرويّة عنه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 260

وبعد العلم بأنّ الكتاب بهذا المعنى لم يهمل حكم شي ء ، بل بيّن جميع الأحكام المتعلّقة بجميع الأشياء ، فلا يبقى فرق بين هذه العناوين ، فكلّ شرط مخالف للكتاب بالمعنى الذي ذكرنا له يصدق عليه أنّه ليس في الكتاب ، ويصدق عليه أنّه ليس ممّا وافق الكتاب ، كما أنّه كل شرط لم يكن مخالفا للكتاب فلا محالة يكون موافقا للكتاب ، لعدم الواسطة بينهما.

وإن قلنا بأنّهما أمران وجوديّان ، والتقابل بينهما تقابل التضادّ ، مع أنّ التحقيق أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ففي الموضوع القابل لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما ، كما هو الشأن في جميع موارد تقابل العدم والملكة.

نعم ربما يفرق بين هذه العناوين بالنسبة إلى مجاري الأصول ، فلو كان الشرط - أي شرط صحّة الشرط - عدم مخالفته للكتاب ، فإذا شكّ في شرط أنّه مخالف أم لا ، فيجري استصحاب عدم مخالفته للكتاب بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي في النعوت العدميّة ، كأصالة عدم كون المرأة قرشيّة عند الشكّ في كونها قرشيّة.

فباستصحاب عدم كونه مخالفا قبل وجوده يحرز شرط الصحّة الذي هو عبارة عن عدم كونه مخالفا للكتاب ، وأمّا لو كان الشرط موافقة الكتاب ففي مورد الشكّ لا يمكن إحراز الشرط بالاستصحاب ، لعدم الحالة السابقة للموافقة.

ولكن بناء على ما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » (1) من عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة إذا كان الأثر للعدم النعتي لا للعدم المحمولي ، وذلك من جهة أنّ العدم النعتي مثل وجوده المقابل له متوقّف على وجود موضوعه ، ففي الرتبة السابقة على وجود موضوعه لا أثر له ولا عين له حتّى يجر بالاستصحاب إلى زمان وجود موضوعه.

والعدم المحمولي وإن كان له حالة سابقة أزلا لأنّ جميع الأشياء ما سوى اللّه

ص: 261


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 497.

تعالى كانت معدومة قبل وجودها ، لكن لا أثر له ، بل الأثر للعدم النعتي ، وإثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي يكون من الأصل المثبت الذي أثبتنا في الأصول عدم حجّيته.

فالنتيجة : أنّه لا فرق بين أن يكون شرط صحّة الشروط عدم مخالفتها للكتاب ، أو كان الشرط موافقته للكتاب حتّى بالنسبة إلى مجاري عدم الأصول وحديث السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع تهويل خال عن التحصيل.

الثالث : في أنّه ما المراد من عدم مخالفة الكتاب أو موافقته، وما هو الضابط لذلك؟ فنقول : الضابط في ذلك هو أن يكون الشرط نافيا لما أثبته الشارع ، أو مثبتا لما نفاه ، فلو شرط عليه ارتكاب حرام أو ترك واجب ، يكون هذا الشرط مخالفا للكتاب والسنّة قطعا ، لأنّ ارتكاب الحرام وترك الواجب ممّا نفاه الشارع ومنع منه.

وأمّا لو شرط عليه فعل ما ليس بواجب ولا حرام ، أو تركه سواء كان مباحا أو مستحبّا أو مكروها ، فلا يكون مخالفا ، لأنّ الشارع لم يمنع من فعل متعلّقات الأحكام غير الإلزامية ، ولا عن تركها ، فليس الشرط نافيا لما أثبته الشرع ، أو مثبتا لما نفاه.

نعم لو شرط عليه أو هو التزم بكون ما أحلّه الشارع حراما ، أو ما حرّمه حلالا وكذلك في سائر الأحكام الخمسة بأن يكون الحكم على خلاف ما جعله الشارع ، فيكون مثل هذا الشرط مخالفا للكتاب والسنّة ، لأنّه مثبت لما نفاه ، وناف لما أثبته.

فيكون مشتملا على أمرين كلّ واحد منهما يكون موجبا لكونه على خلاف الكتاب والسنّة ، بل اشتراط كون الفعل الفلاني حكمه كذلك مطلقا باطل ، سواء كان ذلك الحكم موافقا لما جعله الشارع ، أو كان مخالفا له. أمّا لو كان مخالفا فلأجل مخالفته أوّلا ، ولأجل عدم كونه مقدورا للمشروط عليه ثانيا ، لأنّ وضع الأحكام الشرعيّة ورفعها بيد الشارع وليس ذلك لغيره.

وأمّا لو كان موافقا فلأجل أنّ الشرط يكون حينئذ من قبيل تحصيل الحاصل ،

ص: 262

فيكون لغوا.

هذا بالنسبة إلى الأحكام التكليفيّة ومتعلّقاتها.

وأمّا الأحكام الوضعيّة فما كان منها مجعولا من قبل الشارع بلحاظ حال شخص ولرعايته ، سواء كان ذلك الشخص واحدا أو متعدّدا كباب الحقوق ، فيكون ذلك الشخص مسلّطا عليه ، وهذا اعتبار عقلائي ، وهو أنّ صاحب الحقّ له السلطنة على حقّه.

ولذلك اتّفقوا على أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط حتّى أنّهم عرفوا الحقّ بذلك ، لأنّه خاصّة شاملة ، فشرط وجوده وعدمه ليس مخالفا للكتاب ، لأنّ أمر وضعه ورفعه بيد من له الحقّ وإن كان مجعولا من قبل الشارع ، وذلك كأغلب الخيارات. بل قد يكون جعله أيضا بيد من له ومن عليه مع توافقهما كخيار الشرط.

وأمّا ما ليس جعلها من قبل الشارع برعاية حال أحد ، بل يكون جعلها كسائر الأحكام تبعا للمصالح والمفاسد التي في متعلّقاتها ، فهي على قسمين :

أحدهما : ما لا يكون الشرط من أسباب وجودها ، كالطهارة والنجاسة وغيرهما ، فشرط وجودها أو عدمها باطل على كلّ حال ، لكونه غير مقدور للمشروط عليه أوّلا ، وكونه مخالفا للكتاب ثانيا إن كان مخالفا لما جعله الشارع ، كاشتراط كون الميتة مثلا طاهرا ، أو اشتراط صيرورة ماء الكرّ بصرف ملاقاة النجاسة نجسا ، مع عدم تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة وإن كان موافقا لما جعله الشارع ، فلما ذكرنا من أنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فيكون الشرط لغوا.

بقي شي ء : وهو أنّه لو شرط عليه ترك ما ليس بواجب طول عمرة ، أو هو التزام بذلك ، فهل يكون مثل هذا الشرط باطلا ومخالفا للكتاب ، أم لا؟ وبعبارة أخرى : هذا تحريم للحلال ، أم لا؟

الظاهر أنّ هذا ليس من تحريم الحلال ، من جهة أنّ ترك ما ليس بواجب سواء

ص: 263

كان مباحا بالمعنى الأخصّ ، أو كان مستحبّا ، أو كان مكروها جائز شرعا ، فالالتزام به وإن كان طول العمر ليس مخالفا للكتاب فيأتي السؤال بأنّه فأين مصداق الشرط المحرّم للحلال الذي استثناه علیه السلام من الشرط الصحيح والجائز في الموثق المروي عن أمير المؤمنين علیه السلام : « من شرط لامرأته شرطا ، فليف به لها ، فإنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما » (1)؟

ولكن يمكن الجواب عن هذا السؤال بأنّ ما ذكرنا من أنّ شرط ترك ما ليس بواجب وإن كان الترك طول عمره ليس مخالفا للكتاب ومحرّما للحلال باعتبار مضمون الشرط والمعنى الاسم المصدري له ، أي باعتبار ما التزم به. وأمّا باعتبار المعنى المصدري له - أي نفس الالتزام - فمخالف للكتاب ومحرّم للحلال ، لأنّ الالتزام بترك شي ء طول العمر عرفا عبارة عن تحريمه على نفسه ، كما أنّ إلزامه غيره بذلك أيضا عبارة عن تحريمه عليه ، فيكون تحريم ما أحلّه اللّه عليه. ويشهد بذلك الرواية الواردة في بطلان الحلف على ترك شرب العصير المباح دائما ، معلّلا بأنّه ليس لك أن تحرم ما أحلّه اللّه.

فشرط ترك المباح دائما ، إن كان الالتزام متعلّقا بترك نوع مباح ، لا ببعض أفراده ومصاديقه لخصوصيّة فيه ، يكون تحريما للحلال باعتبار نفس الالتزام لا الملتزم به.

وأمّا شرط ترك بعض أفراد نوع منه ، كأن يشترط ترك شرب فرد من العصير مثلا وإن كان دائما فليس تحريما للحلال.

فصدق كون الشرط تحريما للحلال بنظر العرف - أي نفس الالتزام بذلك ، لا الملتزم به - مشروط بأمرين :

أحدهما : أن يكون المشروط ترك نوع من المباح ، لا فرد ومصداق من

ص: 264


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.

مصاديقه.

الثاني : أن يكون الشرط تركه دائما لا موقّتا ، خصوصا إذا كان الوقت قليلا.

وذلك من جهة أنّ الحرام والمنهيّ عنه غالبا يكون النهي متعلّقا بالطبائع ، والمطلوب ترك الطبيعة في جميع الأزمان لا موقّتا أو ترك فرد منها ، فإذا التزم بترك طبيعة دائما فدليل نفوذ الشرط واعتباره يلزمه بالوفاء به ، فيرجع أنّ شرطه هذا صار سببا لتحريم حلال عليه ، وحيث أنّ مثل هذا الشرط استثناه الشارع عن دليل اعتباره الشرط ونفوذه بقوله علیه السلام « المسلمون عند شروطهم ، إلاّ شرطا حرّم حلالا ، أو أحلّ حراما » فلا تشمله أدلّة الاعتبار ونفوذ الشرط.

ثمَّ إنّه بعد الإحاطة على ما ذكرنا يظهر لك حال موارد الخلاف ، وأنّها هل من الشرط المخالف أو ليس منه؟ وذلك مثل شرط رقّية الولد الذي أحد أبويه حرّ ، ومثل شرط إرث المتمتّع بها ، وشرط الضمان في العين المستأجرة ، وشرط اختيار المكان للزوجة ، فما ذكرنا من الضابط في مخالفة الشرط للكتاب والسنّة يجب أن يراعى في جميع الموارد ، إلاّ فيما إذا جاء دليل خاصّ معتبر على بطلان الشرط أو صحّته في ذلك المورد ، فيستكشف عدم مخالفته للكتاب ، وإلاّ فهذا الشرط ليس قابلا للتخصيص.

ثمَّ إنّه إذا حصل الشكّ في مورد أنّه من الشرط المخالف أم لا ، ولم يأت دليل خاصّ على بطلانه أو صحّته ، فلا يصحّ الرجوع إلى عموم « المؤمنون عند شروطهم » فإنّه تمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص ، وقد أثبتنا في الأصول عدم جوازه ، وقد عرفت عدم جريان أصالة عدم مخالفته للكتاب ، فليس أصل منقّح للموضوع في البين ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول الجارية في نفس حكم المسألة.

الرابع : الدليل على هذا الشرط الأخبار الكثيرة المستفيضة ، بل ربما يدّعي بلوغها حدّ التواتر :

فمنها : صحيحة عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول علیه السلام :

ص: 265

« من اشترط شرطا مخالفا لكتاب اللّه عزّ وجلّ فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ » (1).

ومنها : صحيحته الأخرى عنه أيضا قال علیه السلام : « المسلمون عند شروطهم ، إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فلا يجوز » (2).

ومنها : ما عن ابن سنان عنه علیه السلام أيضا قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا توهب؟ قال : « يجوز ذلك غير الميراث فإنّها تورث ، لأنّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه باطل » (3).

ومنها : مرسلة جميل عن أحدهما علیهماالسلام في رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيع ولا يهب ، قال علیه السلام : « يفي بذلك إذا شرط لهم » (4).

ومنها : رسالته الأخرى وزاد : « إلاّ الميراث » (5).

ومنها : موثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة (6).

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا تورث ولا توهب؟ فقال : « يجوز ذلك غير الميراث ، فإنّها تورث ، وكلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو ردّ » (7).

ص: 266


1- تقدّم تخريجه في ص 249 ، رقم (1).
2- تقدّم تخريجه في ص 250 ، رقم (1).
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 67 ، ح 289 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 3.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 25 ، ح 106 ، باب عقود البيع ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 44 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 2.
5- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 373 ، ح 1509 ، باب المهور والأجور ، ح 72 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 44 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ذيل ح 2.
6- سبق ذكره في 250 ، رقم (2).
7- « الكافي ج 5 ، ص 212 ، باب شراء الرقيق ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 43 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 1.

ومنها : أخبار أخر كثيرة تركناها لعدم الاحتياج إلى ذكرها ، وحيث أنّ دلالة هذه الأخبار على ما ذكرناه من شرح المراد من هذه القاعدة واضحة ، فلا يحتاج إلى بيان وجه الدلالة وبسط الكلام فيها.

[ الشرط ] الخامس : أن لا يكون منافيا لمقتضى العقد.

وهذه العبارة يحتمل فيها وجوه من المعاني :

أحدهما : أن يكون المراد منها أن لا يكون الشرط منافيا لما هو مضمون العقد بالمعنى المصدري ،

مثلا عقد البيع بالمعنى المصدري عبارة عن إنشاء تمليك عين متموّل بعوض مالي ، والمنشأ بهذا الإنشاء - أي التمليك المذكور - مضمون العقد ، وهو مقتضى العقد بالمعنى المصدري ، إذ المراد من المقتضى - بالكسر - هو مفيض الأثر ، فالأثر يفاض منه مع اجتماع الشرائط وعدم الموانع.

ولا شكّ في أنّ العقد بالمعنى المصدري يؤثّر في وجود مضمونه عند العرف ، وكذلك عند الشرع مع اجتماع شرائطه وعدم موانعه ، فلو كان الشرط منافيا لمقتضى العقد بهذا المعنى - بأن يقول : بعتك هذه العين المتموّلة بكذا ، بشرط أن لا يتحقّق هذا التمليك الكذائي - فهذا يرجع إلى قصد تحقّق النقيضين ، فيكون مثل هذا العقد باطلا قطعا ، فضلا عن بطلان الشرط. فإذا قال وكيل المرأة : أنكحتك الفلانة بشرط أن لا تصير زوجتك مثلا ، فهذا تناقض وتهافت لا يصدر عن عاقل إن لم يكن هازلا.

الثاني : أن لا يكون الشرط منافيا لجميع آثار ذلك العقد ، كأن يقول وكيل الزوجة : زوّجتك فلانة بشرط أن لا تستمتع منها أيّ استمتاع ، أو يقول : بعتك هذا المال بشرط أن لا تتصرّف فيه أيّ قسم من التصرّفات.

وهذا أيضا يرجع إلى الوجه الأوّل ، لأنّ نفي جميع الآثار مستلزم لنفي المؤثّر ،

ص: 267

خصوصا إذا كان المؤثّر من الأمور الاعتباريّة ، إذ مع نفي جميع الآثار يكون ذلك الاعتبار لغوا.

الثالث : أن يكون منافيا للأثر الظاهر للعقد ، بحيث يكون تمام النظر في العقد والمعاملة إلى ترتيب ذلك الأثر. وذلك كما أنّه لو شرط وكيل المرأة أو نفسها حين إنشاء النكاح الدائم عدم وطيها طول عمر الزوجين ، ولا شكّ في أنّ الأثر الظاهر للنكاح الدائم ، وما هو العمدة في نظر العرف بل الشرع هو الوطي ، فإنّه الغرض الأصلي من النكاح الدائم ، وإن كانت هناك أغراض وآثار أخر.

وكذلك التاجر الذي شغله البيع والشراء أو اشترى أشياء وأجناسا لأن يبيع ويربح كما هو شغل الكسبة والتجّار ، وشرط عليه البائع الأوّل أن لا يبيع تلك الأجناس ، فهذا الشرط مناف لما هو الأثر من الاشتراء الأوّل.

فهل مثل هذا الشرط باطل وحده ، أو المعاملة المشتملة على هذا الشرط باطلة ، أو ليس شي ء منهما بباطل؟

يمكن أن يقال : نفى الأثر الظاهر ملازم عرفا مع نفي ما هو مضمون العقد ، فيستكشف في مقام الإثبات عدم القصد إلى مضمون العقد ، لأنّ قصد الشرط مناف مع قصد المضمون ، فإن لم يقصد الشرط فالشرط باطل ، لعدم كونه مقصودا ، وإن قصده فالمضمون غير مقصود ، لما ذكرنا من التنافي بين قصديهما عرفا ، فالعقد باطل ، لأنّ العقود تابعة للقصود ، فيكون الشرط باطلا ، لأنّه يبقى بلا موضوع.

ولكن يمكن أن يقال : حيث أنّه في مقام الثبوت لا مانع من قصد عدم الأثر الظاهر مع قصد مضمون العقد ، فيؤخذ بظاهر الاثنين ويحكم بصحة العقد والشرط جميعا ، فلا مانع من الحكم بصحّة الشرط من ناحية كونه منافيا لمقتضى العقد ، وإن كان هناك مانع من الحكم بصحّته لا بدّ وأن يكون من جهة أخرى ، ككونه غير سائغ ، أو كونه مخالفا للكتاب والسنّة ، أو غير ذلك من الجهات التي تكون أجنبيّة عن

ص: 268

محلّ الكلام.

الرابع : أن يكون منافيا لبعض الآثار العرفيّة التي للعقد ، ولا يكون من الآثار الظاهرة للعقد بحيث تكون ملازمة عرفيّة بين نفيها ونفي مضمون العقد. وذلك كشرط البائع عليه عدم بيعه من زيد مثلا ، أو هبته لابنه ، أو أحد أصدقائه.

وبعبارة أخرى : إذا شرط البائع على المشتري أن لا يتصرّف في المبيع بعض التصرّفات التي من آثار ملكه عرفا ، فلا مانع من صحّة الشرط من جهة منافاته لمقتضى العقد ، لأنّ عمدة وجه بطلان الشرط ، إذا كان منافيا لمقتضى العقد هو عدم إمكان اجتماع صحّة العقد مع صحّة الشرط ، وإلاّ فلا وجه لبطلان الشرط من هذه الجهة. نعم يمكن أن يكون باطلا لجهة أخرى.

وبعبارة أوضح : وجه كون مخالفة الشرط لمقتضى العقد موجبا لبطلانه ، هو عدم إمكان الأخذ بدليل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) مع الأخذ بدليل وجوب الوفاء بالشرط ، لتنافيهما ، فلا بدّ إمّا من إسقاط كلا الدليلين ، أو إسقاط أحدهما ، وعلى جميع التقادير تكون النتيجة بطلان الشرط.

وفي المقام حيث لا تنافي بينهما في عالم الثبوت ، فلا تعارض بين الدليلين في مرحلة الإثبات ، إذ الشرط في المفروض ليس منافيا لمقتضى ذات العقد ، بل مناف لإطلاق العقد ، فإذا قيّد بواسطة الشرط لا يبقى موضوع لإطلاقه كي يكون الشرط منافيا معه ، فإذا لم يكن في مثل المقام وجه آخر لبطلان الشرط من كونه مخالفا للكتاب والسنّة ، أو كونه غير سائغ ، أو كونه غير مقدور وأمثال ذلك ، فلا يكون باطلا من جهة منافاته لمقتضى العقد.

الخامس : أن يكون منافيا لبعض الآثار الشرعيّة التي جعلها الشارع للعقد بالمعنى الاسم المصدري ، مثل أن تشترط الزوجة في عقد النكاح أن يكون السكنى باختيارها ، أو اشترطت على الزوج أن يسكن في بلد أبويها ، أو اشترطت عليه أن

ص: 269

يجوز لها الخروج من البيت متى شاءت ، وأمثال ذلك ممّا جعلها الشارع من آثار الزوجيّة التي حصلت بالعقد ، وأن يكون الشرط مخالفا لها.

وكذلك الأمر لو باعه مال وشرط على المشتري أن لا يتصدّق به على أحد ، وأمثال ذلك في سائر العقود والمعاملات ، فلا بدّ وأن ينظر إلى دليل ذلك الأثر ، وأنّه يستفاد منه أنّ هذا الأثر من الحقوق القابلة للإسقاط ، أم لا بل حكم شرعي ليس قابلا للإسقاط؟

فإن كان من قبيل الأوّل ، فلا مانع من اشتراط عدمه ، ويرجع إلى إسقاط المشروط عليه حقّه. وذلك مثل أن يشترط بائع الحيوان على المشتري أن لا يكون له خيار الحيوان ، أو يشترط الزوج على الزوجة أن لا يكون لها حقّ المضاجعة ليلة في كلّ أربع ، وعلى هذا النهج في سائر العقود.

وأمّا إن كان من قبيل الثاني ، فاشتراط عدمه يكون من مخالفة الكتاب والسنّة ، فلو شرطت على زوجها جواز الخروج عن بيتها بدون إذن الزوج ، أو المسافرة في غير السفر الواجب بدون إذنه ، يكون من الشرط المخالف للكتاب.

نعم لو شرطت عليه أن يأذن لها الخروج فيما يجوز الخروج مع إذنه ، كالخروج إلى مجالس العزاء لسيّد الشهداء علیه السلام ، أو لزيارة أحد أقاربها ومحارمها ، يجب الوفاء بهذا الشرط وأن يأذن لها.

وأمّا لو كان الخروج إلى مجلس يحرم الحضور فيه ، كذهابها إلى الملاهي فهذا شرط مخالف للكتاب.

وعلى أيّ حال شرط عدم بعض الآثار الشرعيّة للمعقود عليه لا يكون باطلا من جهة مخالفته لمقتضى العقد ، فإن كان مانع من صحّته يكون لجهات أخر.

ثمَّ إنّه صار بعض الفروع هاهنا وفي هذا المقام محلّ الكلام.

منها : أنّ المشهور بينهم عدم صحّة اشتراط الضمان في الإجارة ، وصحّته في

ص: 270

العارية، خلافا للمحقّق المقدّس الأردبيلي (1) ، وجمال المحقّقين (2) 0 فإنّهما قالا بصحّته في الإجارة أيضا. وفصّل شيخنا الأستاذ قدس سره بين الإجارة الواقعة على الأعيان والأموال ، وبين الإجارة الواقعة على الأعمال ، فقال في الأوّل بعدم صحّة شرط الضمان كما ذهب إليه المشهور ، وفي الثاني - أي الإجارة على الأعمال - بالصحّة.

والتحقيق : هو أنّ الإجارة مطلقا - سواء أكان إجارة الأعيان ، أو كان في إجارة الأعمال - تسليم العين إلى المستأجر في الأوّل ، وإلى الأجير في الثاني ، كما إذا أعطى وسلّم ثوبه إلى الخيّاط مثلا ، حيث أنّها أمانة مالكيّة بيد المستأجر في الأوّل ، وبيد الأجير في الثاني ، فتلفه لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط. وقد شرحا المسألة مفصّلا في إحدى قواعد هذا الكتاب (3).

ولكن عدم اقتضاء الأمانة المالكيّة للضمان غير اقتضائه عدم الضمان ، والإجارة مع العارية مشتركان في كونهما أمانة مالكيّة.

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في وجه التفصيل وعدم صحّة اشتراط الضمان في إجارة الأعيان من استحقاق المستأجر على الموجر كون العين المستأجرة تحت يده وتصرّفه ، وهذا الاستحقاق من ناحية عقد الإجارة ، فإنّ إجارة العين عبارة عن تمليك منفعة العين كسكنى الدار مثلا التي هي صفة في العين ، فتسليم هذا الملك إلى مالكه - حيث أنّه ليس له وجود استقلالي - يكون بتسليم العين ، فالمستأجر يستحقّ تسلم العين لاستحقاقه تسلّم المنفعة التي هي ملكه ، ووجود المنفعة مندكّ في وجود العين ، كما هو الحال في كلّ صفة مع موصوفه ، فاستحقاقه للمنفعة بعقد الإجارة عين استحقاقه لتسلّم العين بعقد الإجارة ، فلم يأخذ المستأجر إلاّ ما يستحقّ ، وهذا الاستحقاق ليس مجّانا بل بالعوض المسمّى ، أي ما جعل في العقد عوضا لتمليك المنفعة

ص: 271


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 10 ، ص 69.
2- « الحاشية على الروضة » ص 367 - 368.
3- « القواعد الفقهية » ج 2 ، ص 7 ، قاعدة عدم ضمان الأمين.

المعلومة ، فلا موجب لضمان آخر لأخذه العين وتسلّمها.

ثمَّ أفاد أنّ هذا الوجه لا يأتي في تسلّم الأجير للعين لأجل العمل فيها ، فالخيّاط مثلا الذي يستأجره المالك لأجل خياطة ثوبه لا يستحقّ بعقد الإجارة وبعوض ما يأخذه من أجرة عمله تسلّم العين وأن تكون تحت يده ، إذ من الممكن أن يخيطه وهو في يد مالكه ، فيمكن أن يقال بصحّة شرط الضمان على الأجير بخلاف شرط ضمان العين على المستأجر الذي صار مالكا للمنفعة بعقد الإجارة عوضا لما يأخذه مالك العين.

وما أفاده من الفرق بين تسلّم العين من الأجير لأجل العمل ، وبين تسلّمها من المستأجر لأجل استيفاء المنفعة وإن كان حسنا ، ولكن كونه موجبا لصحّة شرط الضمان في أحدهما دون الآخر لا يخلو من تأمّل.

وذلك من جهة أنّ صرف استحقاق المستأجر لتسلّم العين المستأجرة بعوض معلوم ، لا يوجب عدم صحّة شرط الضمان ، وكون شرط الضمان مخالفا للسنّة ، لأنّ يده واقعة على مال الغير ، وهذه اليد وإن كانت لا توجب الضمان - لأنّه مأذون من قبل المالك ، وما تحت يده أمانة مالكيّة ، وهذه الجهة مشتركة بين العارية وقسمي الإجارة ، أي إجارة الأعيان والأعمال - إلاّ أنّها ليست أيضا مقتضية لعدم الضمان كي يكون شرط الضمان خلاف مقتضاها.

ولا يقاس بالوديعة ؛ لأنّ ذا اليد في الوديعة محسن في حفظ مال الغير ، فليس عليه سبيل بحكم الشارع ، فيكون شرط الضمان هناك مخالف للكتاب ، ولم يحكم الشارع هاهنا بعدم الضمان كي يكون شرطه مخالفا للكتاب.

نعم إن قيل بعدم كون الشرط من أسباب الضمان - مثل اليد غير المأذونة ، والإتلاف ، وغيرهما من أسباب الضمان - فالشرط لا يؤثّر في الضمان.

ولكن هذا الكلام مع بطلانه في نفسه يكون مشتركا بين الإجارة والعارية.

ص: 272

وخلاصة الكلام : أنّ شرط الضمان في باب الإجارة لا مانع من نفوذه إن لم يكن إجماع على الخلاف ، وممّا ذكرنا ظهر الإشكال أيضا فيما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من عدم صحّة شرط الضمان على المرتهن في العين المرهونة ، باعتبار أنّ يد المرتهن على العين المرهونة بحقّ مالكي بواسطة عقد الرهن ، فيقتضي عدم الضمان ، فيكون شرط الضمان مخالفا للكتاب أو لمقتضى العقد الذي هو عدم الضمان.

وقد عرفت الجواب ، وأنّ عقد الإجارة في إجارة الأعيان وكذلك عقد الرهن لا يقتضي الضمان بالنسبة إلى العين المستأجرة ، وكذلك لا يقتضي الضمان بالنسبة إلى العين المرهونة ، لا أنّهما يقتضيان عدم الضمان كي يكون شرط الضمان فيهما منافيا لمقتضى العقد ، أو يكون خلاف الكتاب.

وأمّا حديث استحقاقه بحقّ مالكي ، أي استحقاق المرتهن كون العين المرهونة في يده بعقد الرهن ، لأنّ هذا معنى كونه وثيقة عنده. ويدلّ عليه قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) فقد عرفت أنّه لا يقتضي عدم الضمان ، وأيضا ليس من أحكام هذا الحقّ شرعا عدم الضمان كي يكون شرط الضمان خلاف المشروع.

نعم في الوديعة والوكالة حيث أنّ الوكيل والودعي نائبان عن المالك في حفظ ماله ، فتكون يدهما بمنزلة يد المالك ، فكما أنّه لو تلف في يد مالكه لا يوجب الضمان ، بل لا معنى لأن يكون الشخص ضامنا لنفسه ، فكذلك من هو بمنزلته ، أي الوكيل والودعي. هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ.

ولكن التحقيق هو الفرق بين الوكيل والودعي ، وذلك لأنّ الودعي محسن و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2) ، ولا شكّ في أنّ الضمان سبيل. وأمّا الوكيل الذي يعمل بأجرة ، فليس بمحسن كي لا يكون عليه سبيل.

ص: 273


1- البقرة (2) : 283.
2- التوبة (9) : 91.

نعم لو كان الوكيل يعمل مجّانا وقصده الإحسان إلى الموكّل ، فيكون حاله حال الودعي ، ولا يصحّ شرط الضمان عليه.

ثمَّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا واتّضح حال شرط الضمان في العارية ، وأنّه لا مانع منه وليس هناك ما يوجب بطلان هذا الشرط مثل نفي السبيل على المحسنين ، لأنّ المستعير ليس منهم ، بل المعير الذي هو صاحب المال محسن إليه. وأمّا كونه أمانة مالكيّة فليس مقتضيا لعدم الضمان.

نعم اليد الأمانيّة ليست موجبة للضمان ، لا أنّها موجبة لعدمها كي يكون شرط الضمان مخالفا لمقتضى العقد ، أو يكون مخالفا للكتاب. وأمّا أخذ العين باستحقاق مالكي بالعقد ، فمضافا إلى أنّه لا كبرى لهذا الكلام لا صغرى له في المقام ، فصحّة شرط الضمان في العارية لا إشكال فيه أصلا.

وأمّا قوله علیه السلام : « ليس على مستعير عارية ضمان » (1) فالمراد نفي الضمان من حيث اقتضاء نفس العارية ، لا نفيه مطلقا وإن كان من قبل الشرط.

فقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الأمانات الخمس ، أي العارية ، والإجارة ، والوكالة ، والرهن ، والوديعة ما عدى الأخير يصحّ في كلّها شرط الضمان.

ومنها : أي من الموارد التي صار محلّ الكلام : شرط البائع على المشتري عدم بيع ما اشتراه ، فالمشهور قالوا بعدم صحّة هذا الشرط ، ولكن العلامة قدس سره استشكل في التذكرة (2) ، وبعض من تأخّر عنه قوّى صحّته على ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري (3) قدس سره .

ص: 274


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 182 ، ح 798 ، باب العارية ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 124 ، ح 441 ، باب أنّ العارية غير مضمونة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 237 ، أبواب كتاب العارية ، باب 1 ، ح 6.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 489.
3- « المكاسب » ص 281.

والأقوى صحّة هذا الشرط إن لم يكن الإجماع على بطلانه.

وذلك من جهة أنّ شرط عدم البيع ليس منافيا لمضمون عقد البيع ، ولا منافيا للأثر الظاهر الذي يلازم نفيه عرفا نفي البيع الأوّل ، وأيضا ليس شرط عدم بيعه شرط نفي جميع الآثار كي يكون اعتبار ملكيّته للمشتري في البيع الأوّل لغوا ، ولم يرد دليل من الشرع أنّ عدم جواز بيع ما اشتراه مخالف للكتاب والسنّة حتّى يكون الشرط مخالفا للكتاب.

فلا موجب لبطلان هذا الشرط إلاّ ما ادّعاه الشيخ قدس سره من تحقّق الإجماع على بطلان هذا الشرط ، ثمَّ عقّبه بقوله : فلا إشكال في أصل الحكم (1). نعم ذكرنا فيما تقدّم أنّه قد يكون المشتري شغله البيع والشراء ، فيشتري لأن يبيع ، كما هو الشأن لأغلب الكسبة في القرى والمدن الصغيرة ، فيشترون في المدن الكبيرة من التجّار الكبار للبيع في المدن الصغيرة.

ففي مثل هذه الموارد يمكن أن يدّعي أنّ الأثر الظاهر للبيع الأوّل عرفا جواز بيع ما اشتراه ، فنفيه عرفا مناف لمضمون البيع الأوّل.

ومنها : اشتراط عدم الخسران لأحدهما في عقد الشركة بأن يقول أحدهما للآخر : تشاركنا على أن يكون الربح بيننا والخسران عليك ، فصار محلّ الخلاف في صحّة هذا الشرط وبطلانه. وتدلّ على صحّته صحيحة رفاعة قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن رجل شارك رجلا في جارية له وقال : إن ربحنا فيها فلك نصف الربح ، وإن كانت وضيعة فليس عليك شي ء؟ فقال علیه السلام : « لا أرى بهذا بأسا إذا طابت نفس صاحب الجارية » (2).

ص: 275


1- « المكاسب » ص 281.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 212 ، باب شراء الرقيق ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 175 ، أبواب كتاب الشركة ، باب 1 ، ح 8.

وذهب ابن إدريس قدس سره إلى بطلانه (1) ، ولم يعمل بالصحيحة ، لعدم حجّية الخبر الواحد عنده.

وقال الشهيد رحمه اللّه في اللمعة : الأظهر هو البطلان (2).

وقال في الشرائع : هذا الشرط - أي كون الخسران على أحدهما - فيه تردّد ، والمرويّ الجواز (3).

وحكى عن الدروس التعدّي إلى مطلق المبيع في بيع الحيوان (4) وفي الصلح تسلم الصحّة بلا إشكال بأن يصطلحا على أن يكون الربح بينهما والخسران على الآخر (5).

وحكي عن التنقيح الاقتصار على مورد النصّ تعبّدا ، (6) أي في خصوص الشركة في الجارية ، وذلك لأنّ النص على خلاف القاعدة عنده فوقف على مورده تعبّدا.

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ متعلّق هذا الشرط لو كان صيرورة الربح الحاصل ببيع مال المشترك ملكا للمشروط له ، وذلك بأن لا يتبع الربح والخسران المال الذي ربح أو خسر في بيعه ، فهذا يقينا خلاف ما تقتضيه الشركة ، وخلاف ما يقتضيه الكتاب.

وذلك من جهة أنّ ارتفاع قيمة مال أو نزولها تابع لذلك المال شرعا وعرفا بل عقلا ، لأنّه من نعوته القائمة به ، فنماء المال متّصلا كانت أو منفصلة ملك لصاحب المال ويتبع المال ، فشرط أن يكون لغير المالك خلاف الكتاب والسنّة ، وخلاف مقتضى الشركة.

ص: 276


1- « السرائر » ج 2 ، ص 349.
2- « اللمعة الدمشقيّة » ج 4 ، ص 201.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 106.
4- « الدروس الشرعية » ج 3 ، ص 223 - 224.
5- « الدروس الشرعية » ج 3 ، ص 333.
6- « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 120.

وأمّا لو كان الشرط انتقال حصّة النفع من أحد الشريكين إلى الآخر كي يكون مجموع الربح له ، أي حصّة نفسه وحصّة شريكه ، فلا مانع منه. نعم يحتاج إلى سبب مملّك ، وهو الشرط الواقع في ضمن العقد اللازم الذي هو البيع أو الصلح ، ولا بدّ وأن تحمل صحيحة رفاعة على هذا المعنى.

وفي كون الخسران على أحدهما دون الآخر أيضا يكون الأمر كذلك ، أي لو كان الشرط عدم تبعيّة الخسارة لحصّة الشريك ، فهذا خلاف الكتاب والسنّة ، وخلاف مقتضى الشركة ، بل غير معقول. وأمّا لو كان هذا الشرط مرجعه إلى جبران خسارته من مال الشريك الآخر ، فلا إشكال فيه ولا مانع منه.

ومنها : اشتراط عدم إخراج الزوجة من بلدها ، فقد صار محلاّ للخلاف.

والتحقيق فيه : أنّ متعلّق الشرط إن كان عدم سلطنة الزوج على إخراجها ، فهذا خلاف الكتاب والسنّة يقينا. وأمّا إن كان مرجعه إلى الالتزام بأن لا يعمل سلطنته ، فلا محذور فيه.

نعم لو كان اختيار السكنى بيد الزوج من الحقوق ، وبعد الفراغ عن أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، فيمكن أن يكون مرجع هذا الشرط إلى إسقاط حقّه ، فلا محذور أيضا.

ومنها : مسألة توارث الزوجين بالعقد المنقطع وعدمه.

فتارة : متعلّق الشرط توارثهما ، أو كون أحدهما يرث دون الآخر ، وأخرى : عدم توارثهما أو عدم كون أحدهما وارثا فصار صحّة هذا الشرط محلّ الكلام. وقال في الشرائع : لا يثبت بهذا العقد ميراث بين الزوجتين ، شرطا سقوطه أو أطلقا (1).

وقال في الجواهر : وفاقا للأكثر بل المشهور ، بل عن الغنية نفي الخلاف. انتهى. (2)

ويدلّ عليه روايات :

ص: 277


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 251.
2- « جواهر الكلام » ج 30 ، ص 190.

منها : صحيح سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة متعة ولم يشترط الميراث؟ قال : « ليس بينهما ميراث ، اشترطا أو لم يشترطا » (1).

والروايات في هذه المسألة مثل الأقوال وإن كانت مختلفة إلاّ أنّ المتحصّل من الجموع بعد الجمع أنّ عقد الانقطاع في حدّ نفسه لم يجعل الشارع بينهما توارث ، ومن هذه الجهة - أي جهة الميراث - هما كالاجنبيّين.

فشرط الإرث فيها - كشرط الإرث للأجنبي - مخالف للكتاب. وإن شئت قلت : إنّه غير مقدور ، لأنّ أمر جعل الأحكام بيد الشارع لا بيد الشارط.

وأمّا قول القائل : إنّه مع الشرط مجعول من قبل الشارع ، استنادا إلى صحيح محمّد بن مسلم عن الصادق علیه السلام في حديث : « وإن اشترطا الميراث فهما على شرطهما » (2) ، وإلى صحيح البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : « تزويج المتعة نكاح بميراث ، ونكاح بغير ميراث ، إن اشترطت كان ، وإن لم تشترط لم يكن » (3).

ففيه : أنّ هذا الكلام على تقدير صحّته ، وغضّ النظر عن الإشكالات التي أوردوها عليه ، ووجود المعارض الأقوى ، لا دخل له بما نحن فيه ، لأنّ كلامنا في أنّ الشرط نافذ ويشمله دليل نفوذ الشرط ، أم لا؟ وهذا لو صحّ يرجع إلى أنّ موضوع إرث زوجة المتمتّع بها مركّب من أمرين : أحدهما كونها زوجة منقطعة ، والثاني : شرط

ص: 278


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 264 ، ح 1142 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 67 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 149 ، ح 548 ، باب أنّه إذا شرط ثبوت الميراث. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 487 ، أبواب المتعة ، باب 32 ، ح 7.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 264 ، ح 1141 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 66 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 149 ، ح 547 ، باب أنّه إذا شرط ثبوت الميراث. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 486 ، أبواب المتعة ، باب 32 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 465 ، باب الميراث ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 264 ، ح 1140 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 65 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 149 ، ح 546 ، باب أنّه إذا شرط الميراث في المتعة. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 485 ، أبواب المتعة ، باب 32 ، ح 1.

كونها وارثة ، وهو عجيب.

[ الشرط ] السادس : أن لا يكون الشرط مجهولا إن كان في ضمن عقد البيع ، أو معاملة أخرى يكون الغرر فيه مبطلا ، لأنّ المعاملة التي لا يضرّ بصحّتها الجهالة ، كالصلح حيث أنّ مبناها على الجهالة ، أو المعاملة المحاباتيّة التي يكون البناء فيها على المسامحة والمحاباة ، فالغرر فيهما لا يوجب البطلان ، لأنّ المفروض أنّ البناء في الصلح على التسالم على أمر غير معلوم بعوض مالي ، وفي المحاباة على المساهلة والمسامحة ، فلا يضرّ الجهالة في أصل المعاملة ، فضلا عن شرطها.

وأمّا فيما يكون الغرر مضرّا ومبطلا ، كالبيع الذي يكون من المسلم واتّفاقا من الكلّ مبطليّة الغرر له ، للخبر المشهور : « نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر » (1) وكالإجارة وسائر المعاملات التي يكون الغرر فيها مبطلا على المشهور ، للمرسلة المعروفة : « نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الغرر » بدون لفظ « البيع » ، فيكون الغرر مطلقا في أيّ معاملة كانت منهيّا.

فالشرط إن كان غرريّا يكون باطلا على كلّ حال ، سواء سرى الغرر إلى نفس المعاملة والعقد أو لم يسر ، وذلك من جهة أنّه لو سرى إليها فتكون المعاملة غرريّة وباطلة ، فيبقى الشرط بلا موضوع ، لأنّ المفروض أنّ موضوع وجوب الوفاء هو الشرط الواقع في ضمن المعاملة الصحيحة والعقد اللازم ، وإذ ليس فلا يجب.

وأمّا إن لم يسر فنفس الشرط حيث أنّه يكون غرريّا يكون باطلا ، للمرسلة المعروفة : « نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الغرر » التي ضعف سندها منجبر بعمل الأصحاب ، ولكن لم يثبت وجود هذه الجملة ، أي جملة « نهى النبيّ عن الغرر » بدون لفظ « البيع » في كتب الروايات والأحاديث ، لا من طرق القوم وكتب أحاديثهم ، ولا من طرق الإماميّة رضوان عليهم أجمعين.

ص: 279


1- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 2 ، ص 46 ، ح 168 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 248 ، ح 17.

نعم في غير واحد من الصحاح المعتبرة عندهم يرون عن أبي هريرة : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله نهى عن بيع الغرر ، فإثبات أنّ المنهيّ هو مطلق الغرر مشكل.

فلا طريق إلى الحكم ببطلان المعاملة المشتملة على الشرط المجهول إلاّ أن تكون تلك المعاملة بيعا مع سراية جهل الشرط إلى نفس المعاملة ، إلاّ أن يكون دليل خاصّ من إجماع أو غيره على البطلان ، ولا يصحّ دعوى الإجماع في مسألتنا هذه على البطلان مع اختلاف الأقوال ، إذا كان الشرط من الأمور الخارجة عن العوضين.

فقال الشهيد قدس سره في الدروس فيما لو جعل الحمل جزءا للمبيع : الأقوى الصحّة ، لأنّه بمنزلة الاشتراط ولا يضرّ الجهالة (1).

ويظهر من هذه العبارة أنّ عدم بطلان المعاملة بالشرط المجهول أمر مفروغ عنه عنده. نعم إذا كان الشرط من أوصاف أحد العوضين وكان مجهولا ربما يدّعي اتّفاقهم على البطلان ، لصيرورة العوض بواسطة ذلك الشرط مجهولا.

فالأدلّة الدالّة على لزوم معلوميّة العوضين تدلّ على بطلان تلك المعاملة التي مشروطة بشرط مجهول يكون من أوصاف أحد العوضين.

والتحقيق في هذه المسألة أنّ المعاملة المشتملة على شرط مجهول ، إن سرت جهالة الشرط إلى نفس المعاملة بحيث صارت المعاملة بواسطة ذلك الشرط غرريّا ، فإنّه قد يكون ذلك وكان تلك المعاملة بيعا ، فتلك المعاملة باطلة قطعا ، وذلك لحديث « نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر » والضعف منجبر بعمل الأصحاب وإن كانت غير بيع ، فيحتاج الحكم بالبطلان إلى دليل خاصّ ، من إجماع أو غيره.

وأمّا إن لم تسر الجهالة إلى نفس المعاملة ، فلا وجه لبطلان الشرط ، فضلا عن بطلان المعاملة ، إلاّ ما يدّعي من نهيه صلی اللّه علیه و آله عن مطلق الغرر في البيع أو في غيره. وقد

ص: 280


1- « الدروس الشرعية » ج 3 ، ص 246.

عرفت أنّ إثبات هذا مشكل جدّا. أو ما يقال من بناء العقلاء على عدم ترتيب الأثر على المعاملة المشتملة على شرط مجهول ، وإثبات هذا أشكل ، وعلى فرض ثبوته لا يمنع عن لزوم العمل بالشرط ، ووجوب الوفاء بالعقد.

نعم حكى في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام ، إلى أن قال علیه السلام : « هذا كلّه لا يجوز ، لأنّه مجهول غير معروف ، يقلّ ويكثر ، وهو غرر » (1). فعلّل علیه السلام عدم جواز بيع المذكورات في الرواية بأنّه مجهول وغرر.

والإنصاف أنّ المستفاد من مجموع الروايات - الواردة في باب وجوب العلم بقدر المبيع ، وعدم جواز الكيل بمكيال مجهول ، وفي باب عدم جواز بيع ما في الآجام من القصب والسمك والطير مع الجهالة - هو اشتراط صحّة المعاملة بالعلم بالعوضين ومقدارهما وأوصافهما ، وكون الجهل مضرّا ولو كان من قبل الشرط المجهول ، وإن كانت واردة في باب البيع لكن الظاهر عدم اختصاصها به.

[ الشرط ] السابع : أن لا يكون الشرط مستلزما للمحال ، بمعنى أنّ وجود الملتزم به في مقام الامتثال يكون محالا. وذلك كقول الشارط : بعتك بشرط أن تبيعه منّي ، أو يقول بنحو شرط النتيجة : بعتك بشرط أن يكون مبيعا منّي.

وعلّل بطلان هذا الشرط في التذكرة بأنّه مستلزم للدور (2) ، حتّى اشتهر في لسان المتأخّرين عن العلاّمة هذا الدور بدور العلاّمة قدس سره .

وبيان استلزامه للدور هو أنّه تقدّم أنّ الشرط له إطلاقان : أحدهما هو نفس التزام المشروط عليه أو إلزام المشروط له. الثاني هو الملتزم به ، أي ذلك الأمر الذي

ص: 281


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 23 ، ح 42 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 237 ، أبواب عقد البيع ، باب 10 ، ح 1.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 490.

ألزمه الشارط بإيجاده أو هو التزم بذلك.

ولزوم الدور بناء على المعنى الثاني واضح ، وذلك لأنّ وجود المشروط متوقّف على وجود الشرط ، فوجود البيع متوقّف على وجود ذلك الأمر الذي التزم به المشروط عليه ، أي البيع الثاني فيما نحن فيه ، فوجود البيع الأوّل متوقّف على وجود البيع الثاني توقّف وجود المشروط على وجود شرطه.

والبيع الثاني أيضا وجوده متوقّف على البيع الأوّل لوجهين :

الأوّل : لأنّه لا بيع إلاّ في ملك ، فما دام لا يملكه بالبيع الأوّل لا يمكن أن يتحقّق منه وبصدر البيع الصحيح ، فوجود البيع الثاني الصحيح أيضا متوقّف على البيع الأوّل ، وهذا هو الدور الصريح.

والظاهر أنّ ما أفاده في جامع المقاصد (1) في وجه الدور من أنّ انتقال الملك موقوف على حصول الشرط ، وحصول الشرط موقوف على انتقال الملك هو عين ما ذكرناه ، وذلك من جهة أنّ انتقال الملك أثر البيع الصحيح ، فمراده من توقّف انتقال الملك أي البيع الصحيح ، أي البيع الأوّل ، ومراده من حصول الشرط أي وجود البيع الثاني.

هذا هو الوجه الأوّل لتوقّف البيع الثاني على البيع الأوّل.

والوجه الثاني : عدم معقوليّة البيع على المالك ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فالبيع الثاني متوقّف على الخروج عن ملك المالك الأوّل ، أي على البيع الأوّل ، وقد عرفت أنّ البيع الأوّل أيضا متوقّف على البيع الثاني توقّف المشروط على شرطه.

وجوابه : عدم توقّف البيع الأوّل على وجود البيع الثاني ، بل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني ، لا على نفس البيع ، ولذا لو التزم ولم يبع لا يبطل البيع الأوّل ، بل يكون

ص: 282


1- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 413 و 432.

تخلّف الشرط موجبا للخيار فقط ، لا بطلان المعاملة.

هذا بناء على أن يكون المراد من الشرط هو الملتزم به.

وأمّا لو كان المراد نفس الالتزام ، فما يمكن أن يقال في وجه الدور هو أنّه بناء على هذا البيع الأوّل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني ، والبيع الثاني حيث عرفت أنّه لا يمكن وجوده وتحقّقه إلاّ بعد البيع الأوّل ، والعاقل لا يمكن أن يلتزم جدّا بأمر محال ، فالتزامه جدّا متوقّف على البيع الأوّل ، وهذا هو الدور.

وفيه : أنّ الالتزام جدّا بأمر محال وإن كان لا يصدر من العاقل ، ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، لأنّه فيما نحن فيه إيجاد الملتزم به في ظرف الالتزام محال لا مطلقا ، والالتزام بأمر يكون وجوده فعلا محال ولكن يمكن أن يوجد بعد حين لا مانع منه.

وهذا أمر دائر بين العقلاء ، بل أغلب التزاماتهم من هذا القبيل ، فإنّه في حال إنشاء الالتزام لا يقدر على الوفاء بما التزم ، فإنّه في نصف الليل مثلا يلتزم بأشياء لا يمكن إيجادها إلاّ في الغد ، أو يلتزم في السفر بأشياء لا يمكن حصولها إلاّ في الحضر.

والحاصل : أنّ صحّة الالتزام بأمور لا يمكن وجودها إلاّ في الأزمنة المتأخّرة لا يمكن إنكارها ، فبيع المال على مالكه وإن كان لا يمكن ما دام هذا العنوان يكون منطبقا عليه ومتلبّسا بمبدإ اشتقاقه ، أي ما دام وصف مالكيّته لهذا الشي ء ثابت له ، ولكن بيعه عليه باعتبار حال انقضاء المبدإ لا مانع منه ، فلا مانع بأن يلتزم بالبيع على مالك هذا المال حال كونه مالكا له باعتبار حال خروجه عن ملكه ، بمعنى أنّ ظرف التزامه وإن كان في حال كونه مالكا لهذا المال ، ولكن ظرف الملتزم به حال زوال ملكيّته عنه.

والظاهر أنّ عمدة نظر العلاّمة قدس سره في هذا الإشكال - وأنّه لا يجوز اشتراط أن يبيعه المشتري على البائع في البيع الأوّل لا بنحو شرط الفعل ، ولا بنحو شرط النتيجة - هو محاليّة هذا المعنى ، أي البيع على المالك ثانيا ، فيكون البيع عليه متوقّفا على البيع

ص: 283

الأوّل حتّى يخرج عن ملكه ويمكن البيع عليه.

والجواب ما ذكرنا ، فلا نعيد ولا نطول المقام.

والشاهد على أنّه أراد هذا المعنى أنّه قال بجواز اشتراط بيعه على غير المالك لإمكانه ، بأن يكون وكيلا من قبل المالك ، أو بيعه فضولة ثمَّ يمضي المالك ، فوجه توقّف بيع الثاني على الأوّل أنّ البيع على المالك ممتنع ، فلا يمكن الالتزام به ، فبيع الأوّل متوقّف على أمر محال ، فيكون باطلا.

فلا يرد على العلاّمة قدس سره ما ذكروه من أنّه لو كان اشتراط البيع ثانيا على البائع باطلا ومستلزما للدور ، فيكون اشتراط البيع على غيره أيضا كذلك ، أي يكون مستلزما للدور ، وكذلك اشتراط عتقه أو وقفه ، بل اشتراط كلّ تصرّف يكون متوقّفا على كونه ملكا للمتصرّف يكون مستلزما للدور ، لأن ذلك التصرّف على الفرض متوقّف على الملك ، وملكه متوقّف على وقوع البيع الأوّل صحيحا ، ووقوع البيع الأوّل صحيحا متوقّف على وقوع البيع الثاني أو عتقه أو وقفه أو هبته أو غيره من التصرّفات المتوقّفة على الملك.

فتخصيص العلاّمة قدس سره الإشكال بهذا الفرع ، أي بالبيع على نفس المالك دون غيره يدلّ على أنّ نظره في الإشكال وثبوت الدور على امتناع بيع المال على مالكه ، وتوقّف صحّته على خروجه عن ملكه ، فلا يرد عليه الإيرادات المذكورة في كتبهم والنقوض التي ذكروها ، من صحّة اشتراط البيع على غيره ، أو اشتراط عتقه ، أو وقفه ، أو هبته لغير البائع ، لاشتراك الكلّ في استلزامها للدور.

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا أنّ الجواب عن هذا الدور بأنّ البيع الأوّل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني لا على وقوعه ، ليس كما ينبغي ، لأنّ إشكاله هو أنّ الالتزام بأمر محال - وهو البيع على المالك - لا يمكن إن كان التزاما جدّيا ، فالجواب هو الذي ذكرنا لا ما ذكروه.

ص: 284

[ الشرط ] الثامن : أن يلتزم به في متن العقد.

أقول : بعد الفراغ عن أنّ الشروط الابتدائيّة ، أي الالتزامات غير المربوطة بعقد ، أو ما وقعت في ضمن عقد جائز لا يجب الوفاء بها اتّفاقا - أمّا الأوّل فإمّا لعدم شمول قوله صلی اللّه علیه و آله « المؤمنون عند شروطهم » للشروط الابتدائيّة وضعا أو انصرافا ، وإمّا لتخصيصه بالإجماع. وأمّا الثاني فلأنّه بعد ما كنت نفس العقد غير واجب الوفاء ، فالشرط الواقع في ضمنه بطريق أولى.

فاعلم أنّ الشروط على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون مذكورة في ضمن العقد اللازم.

وهذا القسم هو القدر المتيقّن من قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم ».

الثاني : هي الالتزامات الابتدائيّة ،

والتعهّدات المستقلّة غير المربوطة بعقد المنشأة باللفظ ، ولكن بإنشاء مستقلّ حيث لا عقد في البين أصلا ، أو لا ارتباط بينهما وإن كان.

وهذا القسم هو الذي خارج عن تحت هذه القاعدة تخصّصا أو تخصيصا بالإجماع.

الثالث : هو ما يكون التباني والتوافق عليه خارج العقد ، ووقع العقد مبنيّا عليه من دون ذكرها في متن العقد.

وهذا القسم هو الذي محلّ كلامنا في أنّه هو يجب الوفاء به أم لا ، بل لا بدّ من ذكرها في متن العقد؟

وأمّا القسم الرابع : وهو أن يقع التواطي والتباني عليه قبلا ، ولم يقع العقد مبنيّا عليه ، بل كان حال العقد مغفولا عنه ، فهو في الحقيقة يرجع إلى القسم الثاني من حيث

ص: 285

عدم ارتباطه إلى العقد وعدم كونه مشمولا لهذه القاعدة ، بل حاله أنزل من القسم الثاني ، لعدم إنشائه باللفظ ، بل صرف تبان في خارج العقد.

وخلاصة الكلام : أنّ القسم الأوّل يقينا مشمول للقاعدة ، والقسم الثاني غير مشمول يقينا.

فعمدة الكلام في القسم الثالث ، وهو الذي سمّوه بشروط التباني بعد الفراغ عن أنّ القسم الرابع يرجع إلى القسم الثاني.

وفيه خلاف ،و القائلون بلزوم الوفاء به ذكروا لذلك وجوها :

الأوّل : هو أنّ التباني قبل العقد على التزام أحد المتعاقدين أو كلاهما على أمر -

وإن لم يذكروا في متن العقد - حاله حال الشروط الضمنيّة ، كلزوم تسليم كلّ واحد منهما الذي جعله في العقد عوضا إلى الآخر ، وككون الثمن من نقد البلد وأمثالهما.

وذلك من جهة أنّ الشروط الضمنيّة بواسطة تعاهدها عند العرف والعادة صارت مدلولا التزاميّا للعقد وإن لم يذكر في متنه ، بل وإن كان العاقد غافلا عنها غير ملتفت إليها. ومعلوم أنّ دلالة الالتزام معتبرة في باب الإنشاءات كالدلالة المطابقة ، لأنّها أيضا إحدى طرق الإفادة والاستفادة في محاوراتهم.

فكذلك التباني لأجل هذه العلّة بعينها ، لأنّهم إذا تبانوا قبل العقد على التزام أحدهما أو كليهما على أمر ، ثمَّ وقع العقد مبنيّا على ذلك التباني ، يكون ذلك الالتزام أو الالتزامين مدلولا التزاميّا لذلك العقد ، فيكون حاله حال الشروط الضمنيّة ويجب الوفاء به.

وفيه : أنّ المدلول الالتزامي لكلام لا بدّ وأن يكون من اللوازم العقليّة أو العرفيّة لذلك الكلام كي يدلّ ذلك الكلام عليه بالدلالة الالتزاميّة ، كما أنّ قوله : بعتك هذه الدار بألف دينار ، يدلّ بالدلالة المطابقة على مبادلة الدار بألف دينار ويدلّ بالالتزام على تسليم كلّ واحد منهما ما هو كان له إلى الذي انتقل إليه ، وتساوي العوضين من

ص: 286

حيث الماليّة ، وكون الدينار المذكور في العقد من قسم دينار البلد لا دينار مملكة أخرى.

كلّ هذه الثلاثة وما يماثلها من اللوازم العرفيّة لذلك الكلام ، أي لقوله : بعتك هذه الدار بألف دينار ، فيدلّ عليها بالدلالة الالتزاميّة لو كان إخبارا ، كما أنّه لو كان في مقام الإنشاء تكون منشآت بذلك العقد بالدلالة اللفظيّة الوضعيّة التي هي معتبرة في مقام الإنشاءات كاعتبارها في مقام الإخبار.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الأمر الأجنبي عن مدلول العقد ، كالالتزام بخياطة ثوب بائع الدار مثلا في خارج ، والتباني عليه لا يوجب صيرورته لازما عرفيّا لذلك الكلام - أي ذلك العقد - كي يكون العقد دالاّ عليه بالالتزام ، فقياس أحدهما على الآخر باطل.

وبعبارة أوضح : في الشروط الضمنيّة أيضا يكون إنشاء الشرط باللفظ ، غاية الأمر بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقيّة ، وأمّا في باب التباني فليس إنشاء لفظي في البين ، بل ليس مطلق الإنشاء لا لفظيّا ولا غير لفظي ، بل صرف تبان خارجي ، ومثل هذا التباني لا دليل على وجوب الوفاء به.

الثاني : أنّ وقوع العقد مبنيّا على التواطي والتباني السابق عليه يوجب تقييده بما تبانيا وتواطيا عليه، فيجب الوفاء بذلك العقد المقيّد بما تبانيا عليه ، والوفاء بذلك العقد المقيّد لا يمكن إلاّ بالعمل على طبق ذلك التباني الذي هو المراد من الشرط هاهنا ، فيكون الشرط لازم الوفاء.

وفيه : أنّ وقوع العقد مبنيّا على تواطئهما قبله وإن كان يوجب تقييد الثمن أو المثمن في مقام اللبّ والالتزام النفسي ، ولكن بصرف هذا الأمر النفسي لا يكون مشمولا لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، أو لقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » ، بل لا بدّ من شمولهما له من بلوغه إلى مرتبة الإنشاء القولي أو الفعلي على وجه ،

ص: 287

والمفروض فيما نحن فيه أنّ ما تبانيا عليه لم يقع في حيّز الإنشاء ، بل لا يكون إلاّ أمرا قلبيّا لا أثر له.

وأمّا دعوى انصراف العقد اللفظي ، أو انصراف لفظ الثمن أو المثمن المذكورين فيه إلى ذلك المقيّد - بواسطة التباني فتقع تلك الخصوصيّة التي يدّعي أنّ العقد صارت مقيدة بها تحت الإنشاء اللفظي - فمما لا وجه له أصلا ، لأنّ التقييد المعنوي من دون دليل عليه لا يوجب انصراف المطلق إلى ذلك الفرد الخاصّ المقيّد بذلك القيد المعنوي.

وأمّا سبق ذكر التباني بالمقاولة قبل العقد لا أثر له في ظهور ألفاظ العقد أو مجموع جملته ، ولذلك ذهب المشهور إلى عدم لزوم الوفاء بشروط التباني ، أي ما تواطيا عليه قبل العقد ، بل عن صاحب الرياض قدس سره نقل الإجماع على عدم لزوم الوفاء بها ، وحكاه أيضا عن بعض الأجلّة.

وأمّا ما أورده شيخنا الأستاذ قدس سره على هذا الوجه ، بأنّ القول بالانصراف إلى عقد خاصّ - أي المقيّد - يوجب بطلان العقد عنه تخلّفه أو تعذّره ، مع أنّ بناءهم في باب تخلّف الشروط أو تعذّرها أنّهما يوجبان الخيار لا البطلان. ففيه : أنّ الانصراف بواسطة التباني قبل العقد ليس أمره أعظم من التصريح في اللفظ ، حتّى فيما إذا كان تبانيهما على وجود وصف في أحد العوضين أو في كليهما ، مثلا تبانيهما على كون الجارية المبيعة طبّاخة ، أو العبد المبيع كاتبا - على فرض أنّه كان كالتصريح بذلك في مقام الإنشاء - لا يوجب تخلّفه أو تعذّره بطلان العقد ، بل بناؤهم على أنّ تخلّف الوصف أو تعذّره لا يوجب إلاّ الخيار.

والسرّ في ذلك أنّ هناك التزامان : أحدهما : هو الالتزام بنفس المبادلة بين العوضين. والثاني : هو التزامه بأن يكون أحد العوضين أو كلاهما كذا وكذا. والالتزام الثاني مربوط بالالتزام الأوّل ، فلو لم يعمل بالالتزام الثاني يكون ذاك موجبا للخيار ، لأنّ الالتزام الأوّل كان مشروطا بالالتزام الثاني ، فلا يجب الوفاء به إلاّ في ظرف

ص: 288

العمل بالالتزام الثاني ، فإذا تخلّف أو تعذّر فلا يجب الوفاء كي يكون لازما ، بل هو مخيّر بين أن يعمل بالتزامه العقدي - والمبادلة التي وقعت - وأن لا يعمل. وهذا معنى الخيار.

وبعبارة أخرى : وجوب الوفاء الذي هو منشأ اعتبار اللزوم موضوعه العقد المشروط ، أو العوض والمعوّض الموصوف بكذا ، فعند تخلّف الشرط أو الوصف لا يشمله دليل وجوب الوفاء ، فيكون مخيّرا. وهذا هو الخيار ، ولا وجه لبطلان العقد.

الثالث : أنّ التراضي وقع بين العوضين مبنيّا على العمل بالشرط المذكور قبل العقد الذي تواطيا عليه ، فبدون العمل بذلك الشرط يكون أكلا للمال بالباطل ، فيجب العمل على طبق تبانيهما وتواطئهما ، ويلزم الوفاء به لكي لا يكون أكلا للمال بالباطل.

وفيه أوّلا : لو صحّ هذا الكلام فمقتضاه بطلان العقد ؛ لأنّ ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وثانيا : هو أنّ الرضا المعاملي غير الرضا بمعنى طيب النفس ، ففي بيع المضطرّ ليس طيب النفس مع أنّه صحيح ، فالمراد من قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) هو أن لا تكون المبادلة بين العوضين بإكراه أو إجبار ، وفيما نحن فيه لا شكّ أنّه لا إكراه ولا إجبار ، والمبادلة بين المالين وقعت برضاء منهما ، غاية الأمر حيث كان الالتزام بهذه المبادلة مبنيّا على ما تبانيا عليه ، فإذا لم يعمل الطرف بما تبانيا عليه ، فدليل وجوب الوفاء لا يشمله ، لأنّ موضوعه المبادلة المشروط ، فيكون له الخيار ، لا أن يكون أصل المبادلة باطل ، لأنّها وقعت باختيارهما ، والالتزام - بأن يقف عند هذه المبادلة ولا يحلّ ما عقد عليه - مشروط بوجود هذا الشرط أو هذا الوصف ، فإذا تخلّف أو تعذّر الشرط أو الوصف فلا ملزم له بالوقوف عند هذه المبادلة ، بل له حلّه وفسخه. وهذا معنى الخيار.

ص: 289


1- النساء (4) : 28.

وقد عرفت ممّا ذكرنا عدم صحّة ما أفاده شيخنا الأعظم قدس سره (1) - في آخر هذا الأمر أنّ الشرط من أركان العقد ، بل جزء للثمن أو المثمن ، فلا بدّ من ذكره وإلاّ كان العقد باطلا - وأنّ العقد صحيح ، ذكر الشرط أو لم يذكر ، عمل به أو لم يعمل ، تعذّر أو لم يتعذر. نعم في صورة تخلّف الشرط أو تعذّره يرتفع اللزوم ، لأنّ العقد باطل. وهذا هو ما ذهب إليه المشهور ، بل ادّعي عليه الإجماع.

[ الشرط ] التاسع : ربما يقال إنّه من شرائط صحّة الشروط التنجيز. والكلام في اعتبار هذا الشرط في صحّة الشروط تارة : باعتبار نفس الشرط ، وأنّه هل يعتبر في نفس الشرط - مع قطع النظر عن العقد - التنجيز ، كما أنّه معتبر في نفس العقد ، وأنّ التعليق مبطل ، أم لا؟ وأخرى : باعتبار سارية التعليق إلى العقد ، فيكون العقد باطلا ، فالشرط يبطل بالتبع.

أمّا باعتبار الأوّل ، فتارة المراد من التعليق تعليق الإنشاء ، وأخرى تعليق المنشأ.

أمّا الأوّل ، أي تعليق الإنشاء ، أي كون الجعل والإيجاد معلّقا على أمر ، فهذا غير معقول ، بمعنى تحقّق الإنشاء والإيجاد والجعل معلّقا على أمر غير ممكن ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنشاء والجعل تكوينيّا أو كان تشريعيّا.

وبعبارة أخرى : الجعل لا ينفكّ عن المجهول ، والإيجاد عن الوجود ، فبهذا المعنى لا يمكن لا تعليق العقد ولا الشرط ولا غيرهما من الإنشاءات ، والإنشاء في التشريعيّات أيضا أمره دائر بين الوجود والعدم ، فكونه موجودا ومعلّقا غير ممكن.

وأمّا الثاني : - أي تعليق المنشأ - فهو في التكوينيّات كالإنشاء أيضا غير ممكن ، لأنّ المنشأ التكويني أيضا أمره دائر بين الوجود والعدم ، ولا معنى لأن يكون معلّقا على أمر. وأمّا في الأمور الاعتباريّة والتشريعيّة كالأحكام الشرعيّة مطلقا ، تكليفية كانت أم وضعيّة فالتعليق فيها ممكن ، ففي الجعالة يمكن جعل ملكيّة حمل بعير من

ص: 290


1- « المكاسب » ص 283.

الطعام لمن جاء بصواع الملك ، كما يشير إليه قوله تعالى ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (1) والمنشأ والمجعول تشريعا حمل بعير معلقا على مجيئه بصواع الملك ، ولا يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشإ ، لأنّ المنشأ وهي الملكيّة لحمل بعير يوجد في عالم الاعتبار والتشريع حال الإنشاء ، ولم يتأخّر منه آن من الآنات.

وهذا المعنى في الأمور التكوينيّة غير ممكن ، لأنّ الأمور التكوينيّة إن وجدت يكون وجودها بتّية ولا يقبل التعليق ، بخلاف الاعتباريّات فإنّ اعتبار أمر معلّقا على وجود أمر آخر لا مانع منه ، فيعتبر وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة ، فيجوز اعتبار نجاسة ماء العنب على تقدير الغليان من قبل أن يخلق الكرم ، فضلا عن كونه قبل وجود الغليان ، وأمّا مسكريّته فلا يمكن إيجادها في الخارج على تقدير الغليان قبل وجود الغليان.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المنشئات في باب العقود والإيقاعات حيث أنّها أمور اعتباريّة فلا مانع من تعليقها عقلا ، ولكن انعقد الإجماع على عدم جواز التعليق في منشآت العقود ، فالشرط أيضا حيث أنّه من هذه الجهة مثل العقود عبارة عن إنشاء الالتزام بأمر على نفسه لطرفه ، والمنشأ بهذا الإنشاء هو نفس الالتزام بذلك الأمر ، فلا مانع من أن يكون ذلك الأمر الذي التزم به معلّقا على أمر آخر ، مثلا لو التزم في ضمن عقد لازم أن يطبخ له ولكن معلّقا على نزول ضيف عليه ، أو التزم بأن يخيط له ثوبا معلّقا على تزويجه ، وهكذا في سائر الموارد لا يلزم منه - أي من تعليق الشرط - محذور عقلا أصلا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تعليق الشرط وعدم تنجيزه - بمعنى تعليق ما التزم به - لا محذور فيه عقلا أصلا ، مثل تعليق المنشأ في باب العقود ، ولكن الفرق بين الشروط والعقود هو أنّ في باب العقود وإن لم يكن محذور عقلا في تعليق منشآتها إلاّ أنّه ممنوع

ص: 291


1- يوسف (12) : 72.

شرعا ، للإجماع. وأمّا في باب الشروط فلا إجماع ولا محذور شرعا في البين في تعليقها.

وأمّا الثاني ، أي : تعليق الشرط هل يسري إلى العقد كي يكون باطلا فيكون الشرط باطلا بالتبع ، أم لا؟

أقول : إنّ تعليق الأمر الذي التزم به ، كخياطة الثوب مثلا في المثال المذكور لا ربط له بتعليق العقد ، فلو قال : بعتك هذه الدار على أن تخيط ثيابي إن تزوّجت ، يكون بيع الدار منجّزا على كلّ حال ، غاية الأمر إنّ المشروط عليه ملزم بخياطة ثياب البائع على تقدير زواجه. وأمّا إن لم يتزوّج المشتري ، فالدار له ولا شي ء عليه. وهذا واضح جدّا. فظهر أنّ تعليق الشرط لا يضرّ بصحّته.

ص: 292

خاتمة : في بيان أحكام الشروط الصحيحة

اشارة

أقول : الشروط الصحيحة التي هي الآن محلّ الكلام على ثلاثة أقسام :

شرط الصفة ،

وشرط الغاية ،

وشرط الفعل ،

فالأوّل : عبارة : عن اشتراط وجود صفة في المبيع الشخصي ، أو في متعلّق عقد آخر غير البيع. وأمّا اشتراط إيجاد صفة في ما تعلّق العقد به فهو راجع إلى شرط الفعل.

وحكم هذا القسم هو أنّه مع فقد ذلك الوصف يكون الخيار للمشروط له ، فلو باع حيوانا على حامل فلم يكن كذلك ، فيكون الخيار للمشتري ، وذلك من جهة أنّه يلتزم بهذه المعاملة والمبادلة فيما إذا كان المبيع متّصفا بهذه الصفة ، فإذا لم يكن فلا التزام له بالفاقد لهذه الصفة مستقلاّ.

إن قلت : فبناء على هذا تكون المعاملة باطلة ، لا أنّه له الخيار فقط لم قلت من عدم تعهّده والتزامه بالمبادلة مع فاقد الوصف.

قلت : إنّ المعاملة وقعت بين الذاتين ، غاية الأمر أنّ التزامه بهذه المبادلة بين المالين مبنيّ على اتّصاف أحدهما أو كليهما بتلك الصفة ، فالمشروط عليه ملتزم بأن يكون ما التزم بمبادلته مع عوضه المذكور في العقد متّصفا بصفة كذا.

وأمّا الشارط فحيث كان التزامه بالمبادلة مشروطا بوجود صفة كذا في متعلّق العقد ، فإن لم يكن فلا التزام له ، لا أنّه لا مبادلة في البين ، فأصل المبادلة بين المالين

ص: 293

متحقّق على كل حال.

نعم لو كان الوصف المفقود عنوان ذلك العوض وصورته النوعيّة ، ولو كان كذلك عند العرف لا ما هو منوّع عقلا ، فأصل المعاملة لا تتحقّق وتكون باطلة ، وذلك لأنّ المبادلة وقعت بين هذا العنوان والعوض الآخر ، فالفاقد لذلك العنوان ليس ما وقع عليه العقد ، فيصدق عليه أنّ ما قصد لم يقع.

مثلا لو قال : بعتك هذا الفرس ، وكان حمارا ، فهذا البيع باطل ، لأنّ ما وقع عليه عقد البيع هو عنوان الفرس ، والحمار مخالف معه في النوع وليس ذلك العنوان حقيقة. وكذلك لو قال : بعتك هذه الجارية الروميّة ، وكانت حبشيّة. واختلاف كونها روميّة وحبشيّة وإن لم يكن اختلافا نوعيّا عقلا ، ولكن عند العرف هما نوعان وحقيقتان ، فيكون البيع باطلا ، لأنّ ما وقع عليه البيع هي الجارية الروميّة ، وما في الخارج حقيقة أخرى.

وليس هذا من قبيل تعارض العنوان مع الإشارة ، كما قالوا في باب صلاة الجماعة : إنّه إذا اقتدى بهذا الحاضر على أنّه زيد فكان عمروا من صحّة الاقتداء إذا كان عمرو عادلا أيضا ، لأنّ المأموم هناك يقصد الاقتداء بهذا الشخص الحاضر ، غاية الأمر أنّه يخطأ في تطبيقه على زيد.

وأمّا فيما نحن فيه فلا يقع البيع على هذا الشخص بعنوان أنّه هذا الشخص الموجود ، بل يكون عنوان المبيع هو كونها جارية روميّة ، أو الفرس مثلا ، فإذا ظهر أنّها حبشيّة أو أنّه حمار ، فتختلف عنوان المبيع وظهر أنّه عنوان آخر ، فما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وبعبارة أوضح : المبادلة وقعت في موارد تخلّف العنوان بين العنوان المفقود الذي هو المقصود وبين الثمن. وأمّا العنوان الموجود فلم يقع طرفا للمبادلة ، ولذلك لا يصحّ البيع.

ص: 294

وأمّا إذا كان تخلّف الوصف مع بقاء عنوان المبيع ، فما هو طرف المبادلة موجود. نعم الالتزام بالوقوف والثبوت عند هذه المبادلة كان مشروطا بشرط كذا في مسألة تخلّف الشرط ، وعند وجود صفة كذا في مسألة تخلف الوصف ، فإذا تخلّف الشرط أو الوصف المذكوران في متن العقد ، فالمبادلة وإن حصلت ولكن الالتزام بالوقوف والثبوت عند تلك المبادلة يكون بلا موضوع ، لأنّ موضوعه كانت المبادلة الكذائيّة ولم تحصل على الفرض ، فلا تشمله أدلّة وجوب الوفاء بهذه المبادلة ، فمخيّر بين أن يفي بتلك المبادلة وأن لا يفي. وهذا هو معنى خياره في باب تخلّف الشرط والوصف.

لكن لازم هذا الكلام أنّ معنى الخيار في المقام هو عدم الدليل على اللزوم ، لا أنّه حقّ مجعول من طرف الشارع أو من طرف المتعاقدين.

إن قلت : إنّ ما ذكرت في باب تخلّف الشرط صحيح ، ولكن في باب تخلّف الوصف حيث أنّ المبادلة وقعت بين ذات المقيّد بالوصف ، فعند تخلّف الوصف لا مبادلة في البين ، لأنّ الذات العارية عن القيد غير المقيّدة به.

قلت : إنّ العرف يرى أنّ المبادلة وقعت بين ذات الموصوف - أي : هذه العين الخارجيّة - مع العوض الآخر ، غاية الأمر أنّه التزم أن تكون متّصفة بصفة كذا. وبعبارة أوضح : إن قال : بعتك هذا العبد الكاتب بكذا ، بادل هذا العبد الشخصي الخارجي بعوض كذا ، سواء أكان كاتبا أو لم يكن ، لأنّ العين الموجودة في الخارج لا تتغيّر عمّا هي عليه بوجود الوصف وعدمه.

نعم من ظاهر العبارة يستفاد أنّه التزم بأن يكون هذا العبد الذي نقله إلى المشتري كاتبا ، والمشتري أيضا يقبل على هذا الأساس ، ولكنّه لا شكّ في أنّه يقبل انتقال هذا العبد الشخصي إليه ، فينحلّ قبوله إلى أمرين : أحدهما انتقال هذا العبد الخارجي إليه بعوض معين ، ثانيهما أنّ قبوله لهذه المبادلة حيث أنّه كان في ظرف اتّصاف المبيع بهذه الصفة المذكورة في متن العقد ، فإذا لم يكن كذلك فهو ليس ملزما

ص: 295

بقبول الفاقد للوصف المذكور ، بل له الخيار في أن يقبل المبادلة الفاقدة لهذه الصفة وأن لا يقبل ، فالخيار هاهنا ليس حقّا مجعولا من قبل الشارع ، بل من باب عدم ملزم له على الوقوف والثبوت عند هذه المعاملة.

وأمّا القسم الثاني، أي شرط الغاية ، وقد يسمّى بشرط النتيجة ، أي ما هي نتيجة العقود والإيقاعات وما يحصل بها. وذلك كاشتراط كون شي ء ملكا لأحد المتعاقدين ، أو اشتراط كون عبد أحدهما حرّا ، أو اشتراط كون زوجه أحدهما مطلّقة ، فإنّ هذه الأمور - وما يشبهها - له أسباب خاصّة من طرف العرف والعقلاء أمضاها الشارع أو أحدثها ، كما أنّه لا يبعد أن يكون في الطلاق كذلك ، فالكلام في أنّه هل هذه الأمور كما أنّها تحصل بأسبابها الخاصّة المذكورة في أبواب الفقه تحصل بالشرط ، أم لا؟

والتحقيق أنّها ليست على نمط واحد ، بل بعضها لا يحصل إلاّ بأسبابها الخاصّة كالطلاق ، فإنّه لا يحصل بصرف الشرط ، فلو قالت المرأة : زوّجتك نفسي بشرط أن تكون زوجتك التي تكون تحتك مطلّقة ، فلا يحصل الطلاق ، وذلك لأنّ الشارع جعل للطلاق أسبابا خاصّة.

وقد يقال في مطلق الإيقاعات : أنّها كذلك ، أي أنّ لها أسباب خاصّة لا تحصل النتائج بغيرها ، فلو قال : بعتك هذه الدار بكذا بشرط أن يكون عبدك الفلاني حرّا ، لا يحصل العتق ، وعلى كلّ حال تحقيق هذه المسألة وأنّ النتيجة الفلانيّة هل لها سبب خاصّ ، أو يحصل بأيّ سبب كان؟ لا بدّ من المراجعة إلى دليل تلك المعاملة من العقد أو الإيقاع الذي يترتّب عليه تلك النتيجة ، وبعضها يحصل بأيّ سبب كان ، وبعضها يشكّ في أنّه من أيّ واحد من القسمين ، أي : هل له سبب خاصّ لا يحصل بغيره ، أم لا؟

وعمدة الكلام في هذا القسم ، وإلاّ فذانك القسمان حكمهما معلوم ، أي يكون شرط الغاية فيما إذا كانت الغاية لا تحصل إلاّ بأسبابها الخاصة باطل لا أثر له ، وفيما إذا

ص: 296

ليس لها أسباب خاصّة ، بل يحصل بكلّ سبب يكون سببا عند العرف ، أو بكلّ ما يدلّ على التزامه بحصول تلك الغاية ، فيكون الشرط مؤثّرا وصحيحا.

وقد تمسّك شيخنا الأعظم قدس سره في هذا القسم لتأثير الشرط وحصول النتيجة بعموم « المؤمنون عند شروطهم » بل بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، بناء على كون الشرط جزءا للعقد ، ولكن بعد تنقيح الموضوع بأصالة عدم مخالفة هذا الشرط مثلا للكتاب ، كي لا يكون من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة.

وقد عرفت أنّ هذا الأصل من العدم النعتي الذي لا يجري فيه استصحاب العدم لترتيب آثار ذلك العدم ، أي العدم النعتي عليه ، لعدم الحالة السابقة للعدم الذي هو نعت ، والعدم المحمولي - أي عدم وجود الشرط المخالف أزلا - وإن كان له الحالة السابقة ، إذ كلّ حادث مسبوق بالعدم المحمولي ، إلاّ أنّه لا أثر له ، لأنّ الأثر يترتّب على عدم كون هذا الشرط الموجود المشكوك المخالفة مخالفا ، لا على عدم وجود الشرط المخالف بمفاد ليس التامّة ، وإثبات الأوّل - أي عدم كون الشرط الموجود مخالفا - بالثاني - أي بعدم وجود الشرط المخالف - مثبت.

والعجب من شيخنا الأعظم قدس سره - مع أنّه هو الذي أسّس تنبيها في تنبيهات الاستصحاب لعدم جريان هذا الأصل أي : أصالة عدم النعتي - قال هاهنا بجريان هذا الأصل (1).

ولذلك وجّه شيخنا الأستاذ قدس سره كلامه بأنّ مراده أنّ التمسّك بعموم « المؤمنون عند شروطهم » ، وكذلك ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) ليس من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة كي يحتاج إلى الأصل المنقّح للموضوع.

وحاصل ما أفاده في هذا المقام - باختصار وتوضيح منّا - هو أنّ عدم حصول

ص: 297


1- « المكاسب » ص 283.
2- المائدة (5) : 1.

هذه الغايات بالشرط إمّا لتصرّف الشارع في ناحية أسبابها ، وإمّا في ناحية نفس المسبّبات.

والمراد من الأوّل أنّه جعل شيئا سببا لحصول هذه الغاية ، ونفي السببيّة عن شي ء آخر ، مثل الطلاق حيث جعل كلمة « أنت » أو « هي طالق » مع وجود سائر الشرائط المقرّرة سببا ، ونفي السببيّة عن سائر الألفاظ التي كانت سببا للطلاق عندهم ، كقولهم : ظهرك كظهر أمّي ، وأمثال ذلك.

والمراد بالثاني : هو جعل المسبّب غير قابل الحصول في حال أو بالنسبة إلى شخص ، وذلك كطلاق الحائض في حال الحيض ، أو في طهر المواقعة ، أو بيع المصحف من الكافر ، وأمثال ما ذكر ، وعلى كلّ واحد من التقديرين ليس الشكّ شكّا في مصداق المخالف للكتاب كي يكون الشكّ من الشكّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، فلا يجوز التمسّك بعموم العامّ لرفع حكم الشكّ موضوعا.

بيان ذلك : أنّ الشكّ في مصداق المخصّص - بعد الفراغ عن معرفة المخصّص مفهوما - إمّا بالظهور العرفي أو النصوصيّة ، ثمَّ يشكّ في أنّه هل هذا الفرد الموجود مصداق لذلك المفهوم المعيّن المعلوم ، أم لا؟ لجهات خارجيّة ، كما إذا علمنا أنّ مطلق مرتكب الذنب - صغيرة كانت أم كبيرة - فاسق ، ولكن شكّ في أنّه صدر عنه صغيرة ، أم لا؟

وأمّا إذا لم يعلم أنّ مرتكب الصغيرة فاسق شرعا أم لا؟ وارتكب صغيرة قطعا ، فهذا الشكّ ليس شكّا في المصداق ، ويجوز التمسّك بعموم العامّ. وما نحن فيه من هذا القبيل ، ومرجع الشكّ فيما نحن فيه إلى أنّ الشارع هل حكم بسببيّة كذا ، أو بنفي سببيّة كذا لحصول هذه الغاية أم لا؟ وهل حكم بعدم قابلية وجود هذه الغاية في هذه الحال؟ كحصول الطلاق في حال الحيض أو في طهر المواقعة ، فتكون الشبهة حكميّة ، ويجوز التمسّك بعموم « المؤمنون عند شروطهم » ، بل ب- ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولا يحتاج إلى

ص: 298

أصالة عدم المخالفة ، بل لا تصل النوبة إليها. هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره .

ولكن ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدس سره هو التمسّك بأصالة عدم المخالفة لا العمومات ابتداء ، بل الرجوع إليها بعد تنقيح موضوع العامّ بأصالة عدم المخالفة ، وهذه عبارته : فإن لم يحصل له - أي التمييز بين أنّ هذا الحكم الذي يريد أن يشترط في خلافه ممّا يجوز أن يتغيّر بالاشتراط أو لا - بنى على أصالة عدم المخالفة ، فيرجع إلى عموم « المؤمنون عند شروطهم ». انتهى محلّ الحاجة من كلامه ، زيد في علوّ مقامه.

فانظر إلى هذه العبارة ، فإنّه كالصريح في أنّ الشبهة مصداقيّة ، ولكن بواسطة جريان الأصل الموضوعي - وهو أصالة عدم مخالفة هذا الشرط المشكوك للكتاب والسنة - ينقّح موضوع العام ، فيتمسّك به.

فإن قلنا بعدم صحّة جريان هذا الأصل - كما هو المختار - لا يبقى مجال للتمسّك بهذا الأصل لإثبات موضوع العامّ ، ويرد الإشكال عليه.

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره وإن كان صحيحا ومتينا في حدّ نفسه ، ولكن لا يلائم مع عبارة شيخنا الأعظم قدس سره وإن كانت عبارته الأخيرة ربما يشعر بما ذكره شيخنا الأستاذ ، حيث يقول : ومرجع هذا الأصل إلى أصالة عدم ثبوت هذا الحكم على وجه لا يقبل تغيّره بالشرط ، انتهى.

فبناء على هذه العبارة الأخيرة تكون الشبهة حكميّة ، فيكون المرجع العمومات وإطلاقات أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، بل بالعقد.

وأمّا القسم الثالث ، أي شرط الفعل.

والمراد به أن يتعلّق الشرط بفعل اختياري مقدور للمكلّف ، يكون سائغا ، ويكون فيه غرض معتدّ به عند العقلاء ، ولا يكون مخالفا للكتاب والسنّة ، ولا يكون مخالفا لمقتضى العقد ، وأن لا يكون منافيا لبعض الآثار التي جعلها الشارع للمنشإ بالعقد ، وأن لا يكون مجهولا ، وأن يلتزم به في متن العقد.

ص: 299

ففيه أمور :

الأوّل : إذا كان الفعل المشروط جامعا لهذه الشروط الثمانية ، فهل يجب على المشروط عليه الوفاء بذلك الشرط ، أم لا؟ بل مخيّر بين أن يأتي بالشرط ويفي بالتزامه ، وبين أن لا يأتي به ولا يستحقّ العقاب على ترك العمل بالشرط ، غاية الأمر أنّه مع عدم العمل به يكون للمشروط له الخيار.

المشهور بين الأصحاب هو الأوّل ، بل ادّعى عليه في التذكرة الإجماع (1) ، وهو الأقوى ، وذلك أوّلا لقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » بناء على أن يكون الظرف متعلّقا بأفعال العموم ، فيكون التقدير : المؤمنون يثبتون ويقفون عند شروطهم ، فيكون كناية عن أنّهم يعملون بها ولا يتردّدون في ترتيب الأثر عليها ، فضلا عن عدم الاعتناء وترك العمل بها.

وحيث أنّ الظاهر في القضايا الصادرة عند الشارع - وإن كانت بصورة الجملة الخبريّة - هو أنّه في مقام بيان الحكم الشرعي ، وغالبا ينشأ طلب وقوع الشي ء بصورة الإخبار عن وقوعه في الماضي أو المستقبل ، كقوله في الصلاة مثلا « أعاد » أو « يعيد ».

فيكون معنى قوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » - بناء على ذلك التقدير - أنّ المؤمنين والمسلمين يجب عليهم الثبوت والوقوف عند شروطهم والتزاماتهم ، أي يجب عليهم العمل على طبق التزاماتهم ، خصوصا بملاحظة استشهاد أمير المؤمنين علیه السلام بهذه القضيّة لوجوب الوفاء بما شرط لامرأته في رواية إسحاق بن عمّار التي تقدّم ذكرها (2) في صدر هذه القاعدة ، وكذلك استشهاد أبي الحسن موسى علیه السلام في موثّقة منصور بن

ص: 300


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 490.
2- تقدّم ذكره في ص 250 ، رقم (2).

يونس التي أيضا تقدّمت (1) في أوّل هذه القاعدة.

وثانيا : قوله علیه السلام في رواية إسحاق بن عمار المتقدّمة (2) « من شرط لامرأته شرطا فليف لها به » فقوله علیه السلام « فليف لها به » أمر ، والأمر ظاهر في الوجوب.

وما أحسن ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره في هذا المقام ، وهو أنّ وجوب الوفاء بالشرط تكليفا لم ينكره أحد ، وإنّما الخلاف والبحث في أمر آخر ، وهو أنّه هل الشرط يوجب وثبت حقّا للمشروط له على المشروط عليه كي يكون وجوب الوفاء من آثار ذلك الحقّ ، أم لا يوجب ذلك ، بل أثر الشرط وفائدته قلب العقد اللازم جائزا ، وذلك لإناطة اللزوم بالوفاء بالشرط ، وإيجاد الفعل الملتزم به ، فإن لم يف به فلا لزوم ، وهذا الأخير هو الذي ذهب إليه الشهيد قدس سره .

ومن آثار إثبات الشرط وإيجابه حقّا على المشروط عليه ، هو جواز إجباره على العمل بالشرط ، فهو كسائر الحقوق يكون لمن له الحقّ ، سلطنة على من عليه الحقّ ، وله إجباره على أداء حقّه.

ومن آثار كونه موجبا لحدوث حقّ للمشروط له على المشروط عليه أنّه قابل للإسقاط ، فلو أسقط المشروط له لا يبقى وجوب الوفاء على المشروط عليه قطعا.

وهذا ممّا يدلّ دلالة قطعيّة على أنّ وجوب الوفاء ليس حكما تكليفيا محضا في عرض وجوب الوفاء بالعقد ، وإلاّ لو كان كذلك لما كان قابلا للإسقاط.

فهذا هو الفرق الجلي بين الحقّ والحكم ، وتكون القابليّة للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ ، ولذلك عرف به.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ هذه المسألة ذات قولين :

ص: 301


1- تقدّم ذكره في ص 251 ، رقم (1).
2- تقدّم ذكره في ص 250 ، رقم (2).

أحدهما : أنّ الشرط لا يوجب إلاّ تزلزل العقد وجعله معرضا للزوال ، وذلك من جهة إناطة اللزوم بحصول الشرط ، أي ما التزم به ، فإذا لم يحصل فلا لزوم ، فيكون مخيّرا بين الرضا بفاقد الشرط وبين عدمه ، فلا موجب للإجبار.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بجواز الإجبار أو وجوبه من باب الأمر بالمعروف ، بناء على استفادة وجوب الوفاء تكليفا ممّا ذكرنا من الأدلّة ، وإن لم نقل بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ على المشروط عليه.

ولكن يرد عليه أوّلا : أنّ وجوب الإجبار بناء على هذا وظيفة جميع المسلمين ، ولا اختصاص له بالمشروط له.

وثانيا : لو كان وجوب الوفاء بهذا المعنى ، وكان حكما تكليفيّا في عرض وجوب أداء مال الغير ومثله ، فليس قابلا للإسقاط ، مع أنّ للمشروط له إسقاط هذا الحقّ إجماعا.

ثانيهما : أنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له على المشروط عليه ،

ومن آثاره جواز إجبار المشروط عليه على الوفاء إذا امتنع ، وجواز إسقاطه. وأمّا في مقام الإثبات ، فمن الإجماع على صحّة إسقاطه يستكشف أنّه حقّ مالكي للمشروط له على المشروط عليه.

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا في بيان المراد من كلام الشهيد قدس سره - أنّه أراد أنّ الشرط لا يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له ، وإنّما يوجب تزلزل العقد فقط لإناطة اللزوم بحصول الشرط - أنّ المخالف ليس منحصرا بالشهيد قدس سره بل العلاّمة ، والشيخ في المبسوط (1) أيضا حيث قالا بعدم جواز الإجبار ، فلا بدّ وأن يكون نظرهما إلى عدم حدوث حقّ مالكي بالشرط للمشروط له على المشروط عليه ، واختيارهما مقالة الشهيد قدس سره من أنّ فائدة الشرط وثمرته تزلزل العقد وعدم لزومه ، لا حدوث حقّ

ص: 302


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 151.

للمشروط له ، لأنّ حدوث الحقّ مع عدم جواز الإجبار متنافيان ، إذ كلّ ذي حقّ له السلطنة على استيفاء حقّه ولو كان بالقهر والإجبار.

الثاني : في أنّه هل للمشروط له الفسخ مع التمكّن من الإجبار ، أم لا؟

فيه قولان : ذهب إلى الأوّل في التذكرة (1) وجامع المقاصد (2) ، وإلى الثاني في الروضة (3).

والأقوى هو الأوّل ، من جهة أنّ حقّ الخيار موضوعه تخلّف المشروط عليه عن إيجاده ، لا عدم إمكان وجوده ولو بإجباره ، فإن لم يفعل باختياره فيتحقّق موضوع الخيار ، ويوجد هذا الحقّ للمشروط له.

والسرّ في ذلك ما ذكرنا سابقا : أنّ مرجع هذا الخيار - أي خيار تخلّف الشرط - هو أنّ التزام المشروط له بهذه المعاملة في ظرف إيجاد المشروط عليه ما التزم به ، فإن لم يوجده فلا التزام من طرف الشارط ، فيكون مخيّرا بين الفسخ وإنفاذ المعاملة. ولا ينافي وجود هذا الحقّ مع وجود حقّ آخر له ، وهو حقّ إجباره للمشروط عليه بواسطة الاشتراط.

وذلك من جهة أنّ الاشتراط جعله مالكا على المشروط عليه أن يوجد هذا الشرط ، وليس مفاد الشرط صرف الوجوب التكليفي فقط ، كما تقدّم في الأمر الأوّل ، وقلنا : إنّ نتيجة الاشتراط هو حدوث حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، وقلنا : إنّ الدليل على أنّه حقّ لا صرف تكليف جواز إسقاطه ، فللشارط كلا الحقّين في عرض واحد : حقّ الفسخ لتخلّف الشرط ، وحقّ الإجبار لأجل الاشتراط ، فيتخيّر بين الفسخ وإجبار المشروط عليه على إيجاد ما التزم.

ص: 303


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 492.
2- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 422.
3- « الروضة » ج 3 ، ص 506.

وأمّا ادّعاء أنّ اجتماع هذين الحقّين ممّا لا يمكن ، فمما لا وجه له ، إلاّ بناء على أن يكون موضوع الخيار عدم إمكان وجود الشرط ، ولو بالقهر والإجبار. وهذا قول بلا بيّنة ولا برهان.

والذي ذكرنا - من أنّ موضوع الخيار هو عدم وفاء المشروط عليه بالشرط وإن كان من الممكن إجباره - يكون بناء على أن يكون منشأ الخيار عدم التزام الشارط بالوفاء بالعقد في ظرف عدم الوفاء بالشرط من طرف المشروط عليه ، كما تقدّم شرحه وسيأتي تحقيقه في الأمر الثالث.

وأمّا بناء على أن يكون مدركه الإجماع ، أو قاعدة نفي الضرر - كما قالوا - فالقدر المتيقّن من تحقّق الإجماع ، هو فيما إذا كان الشرط متعذّر الوجود ولو بالقهر والإجبار. وكذلك لو كان مدركه قاعدة نفي الضرر ، بناء على ما هو التحقيق عندنا من أنّ المرفوع هو الحكم الذي يكون ضرريّا ، فاللزوم الذي هو حكم وضعي ليس مطلقا ضرريّا حتّى مع إمكان إجبار المشروط عليه على الوفاء بالشرط ، فبناء على أن يكون مدرك الخيار أحد هذين لا يجتمع الحقّان معا وليسا عرضيّين ، بل حقّ الخيار في طول إمكان الإجبار.

لكنّك عرفت أنّ المدرك هو الذي ذكرنا ، ولا يكون هذين. وسنتكلّم فيه في الأمر الثالث الآتي إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : لو تعذّر الشرط فللمشروط له الخيار فقط ، لا الأرش ، ولا فساد المعاملة.

أمّا صحّة المعاملة وعدم فسادها مع كون الخيار له ، فبعد الفراغ عن أنّ مورد البحث هي العين الخارجيّة لا الكلّي ، فنقول : إن قال : بعتك هذه الفرس على أن يكون كذا ، أو هذه الفرس المتّصفة بكذا بعشرين دينار مثلا ، فالمبادلة وقعت بين هذه العين وكذا مقدار من الدينار ، واشتراط كون هذه العين كذا ، أو اتّصافها بكذا لا يخرجها عمّا

ص: 304

هي عليه. نعم هو - أي المشروط عليه - التزم بأمر ، وهو كون العين كذا ، سواء كان بنحو الشرط أو بنحو التوصيف ، والمشروط له قبل هذه المبادلة.

ولكن تعهّده بالوقوف عند هذه المبادلة في صورة وجود هذا الشرط وهذه الصفة ، وإلاّ فنفس المبادلة بين العين والبدل الآخر وقعت وليس فيها قيد أو شرط ، وذلك لما قلنا أنّ العين الخارجيّة لا تتعدّد ولا تتغيّر عمّا هي عليه بواسطة هذا الاشتراط أو هذا التوصيف.

نعم لو كان مورد الشرط أو القيد هو الكلّي ، لكان المقيّد بقيد أو المشروط بشرط - الذي هو أيضا بمنزلة التقييد بل هو هو - غير ذلك الكلّي الفاقد لذلك القيد أو لذلك الشرط. وأمّا في العين الخارجيّة لا يتطرّق هذا الاحتمال.

فأصل المبادلة بين العين والبدل الآخر وقعت مع قبول الطرف الآخر ، وهذا كما في باب خيار العيب أيضا يكون الأمر كذلك ، فإنّ المشتري مثلا اشترى هذه العين الشخصيّة ، ولكن يكون التزامه بالوقوف عند هذه المعاملة والوفاء بها في ما إذا لم يكن فيه عيب ، بل كان صحيحا وسالما ، ولا يكون خارجا عن مقتضى الخلقة الأصليّة بزيادة أو نقيصة عنه ، فإذا لم يكن كذلك فلا التزام له بالوقوف عندها والوفاء بها مع وقوع أصل المبادلة وحصول الرضا المعاملي بها ، فيكون مخيّرا بين الفسخ والالتزام بها.

وأمّا إذا كان ذات المقيد بقيد أو المشروط بشرط - الذي هو أحد العوضين - كلّيا ، فيجبر على إعطاء واجد القيد أو الواجد للشرط ، وإن كان متعذّر الوجود تكون المعاملة باطلة ، لعدم قدرته على التسليم.

فالفرق كثير بين أن يكون المبيع المقيّد بقيد أو المشروط بشرط كلّيا ، أو عينا شخصيّة ، فإنّه إن كان كلّيا وكان مقيّدا أو كان مشروطا ، فالمبيع في صورة وجود القيد والشرط وصورة عدم وجودهما مختلف ، فإذا تعذّر - أي القيد والشرط - فليس قادرا

ص: 305

على تسليم المبيع ، فيبطل البيع.

بخلاف ما إذا كان شخصا خارجيّا ، فإنّه ليس قابلا للتعدّد بواسطة وجود القيد والشرط وعدم وجودهما ، ففي صورة كون المبيع شخصا خارجيّا لا يمكن أن يقال : إنّ هذا الموجود الذي هو فاقد الوصف المذكور في العقد ، أو هو فاقد الشرط كذلك غير ما هو وقع العقد عليه.

وأمّا في صورة كون المبيع كلّيا وقيّد بقيد ، أو اشترط بشرط ، ففي صورة عدمهما يصحّ أن يقال : إنّ هذا الفاقد لم يقع عليه العقد ، فما قصد لم يقع مع أنّ العقود تابعة للقصود ، بل يمكن أن يقال : إنّ ما وقع - أي الفاقد القيد - غير مقصود.

نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة فيما إذا كان المبيع شخصا في صورة وجود هذين الأمرين ، أي الشرط والقيد ، فالتزامه بالوفاء معلّق ، لا المبادلة كي يكون من قبيل تعليق المنشأ فيكون باطلا إجماعا ، وإن كان ممكنا عقلا.

فالتحقيق : هو الفرق في باب تخلّف الوصف وتعذّره بين أن يكون الموصوف شخصا أو كليّا ، ففي الأوّل لا يوجب البطلان بل يوجب الخيار فقط ، وفي الثاني يوجب البطلان حسب القواعد الأوليّة.

هذا الذي ذكرنا كان بالنسبة إلى صحّة المعاملة وثبوت الخيار.

وأمّا الأرش بمعنى تدارك نقصان المبيع - كما قالوا به في باب خيار العيب من كون المشتري مخيّرا في بعض الصور بين الردّ وأخذ الأرش ، وفي بعضها الآخر يتعيّن أخذ الأرش وعدم جواز الردّ. والتفصيل مذكور في محلّه - فحيث أنّه على خلاف القاعدة ، وثبوته هناك بواسطة الأخبار الواردة في ذلك الباب ، فلا يمكن التعدّي إلى هاهنا ، والقول به في المقام لقصور تلك الأدلّة عن شمولها لمحلّ الكلام.

وبعبارة أخرى : القول بثبوت الأرش في مورد كون المبيع معيبا ليس من جهة أنّ مقدارا من الثمن يكون مقابلا لوصف الصحّة ، أو مقابل ذلك العضو الذي فقد فيه ، فلا

ص: 306

يفسخ المعاملة ، ولكن يستردّ من الثمن ذلك المقدار الذي ليس بإزائه شي ء ، أو يغرمه بقيمة ذلك الوصف المفقود ، أو بمثله ، لكونه في ذمّته ، بل تمام الثمن وقع في هذا العقد مقابل هذه العين الموجودة بما لها من النقص ، غاية الأمر حيث أنّ البائع التزم أن تكون على صفة كذا ، أو بشرط كذا ، فالتزام المشتري وتعهّده بالوفاء بهذه المعاملة يكون في ظرف وجود تلك الصفة ، أو ذلك الشرط وإلاّ فبدون وجودهما ليس ملزم شرعي يلزمه بالوقوف والثبوت عندها ، فهو مخيّر بين أن يفي بها ، وبين حلّ هذا العقد ، فلا موضوع للأرش ، لأنّ المبادلة وقعت بين هذا الموجود بما فيه من الوصف أو الشرط المفقودين.

إن قلت : إنّ هذا الذي ذكرتم ربما يكون صحيحا في الوصف المفقود في المعاملة على العين الشخصيّة ، أو الشرط الذي يكون بنحو شرط النتيجة ، أي ما يكون في حكم الوصف المفقود. وأمّا لو كان الشرط من قبيل شرط الفعل الذي له ماليّة عند العرف ، فليس الأمر كذلك ، بل في نظر العرف والعقلاء يقع مقدار من الثمن المسمّى في العقد بإزاء ذلك العمل الذي صار متعلّقا للشرط.

قلنا : إنّ الشرط وإن كان من قبيل شرط الفعل الذي يكون له عند العرف ماليّة ، كخياطة الثوب الكذائي مثلا ، ولكن مع ذلك كلّه في المعاملة الشخصيّة التي تقع المعاملة بين الثمن مثلا مع العين الخارجيّة الموجودة ، يكون طرف المبادلة نفس تلك العين الخارجيّة ، فإذا قال مثلا : بعتك هذا الفرس الموجود على أن يكون كذا ، أو بشرط أن يكون كذا ، أو بشرط أن أعمل كذا ، أو تعمل لي كذا ، ففي جميع هذه الصور الطرفان - أي : البائع والمشتري - يتعهّدان بوقوع المبادلة بين تلك العين الخارجيّة وتمام الثمن ، ولا يقع شي ء من الثمن بإزاء الوصف والشرط بكلا قسميه - أي : سواء أكان شرط الفعل ، أو شرط النتيجة - غاية الأمر أنّ المشروط عليه يلتزم في ضمن تلك المعاملة وذلك التعهّد بأمر آخر ، أو بأن يعمل له عملا ، فأصل المعاملة والمبادلة بين المالين ليس مربوطا ومعلّقا على أمر ، وإلاّ كان من تعليق المنشأ ، وهو باطل

ص: 307

إجماعا إلاّ في موارد معيّنة ورد الدليل عليه.

نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة والثبوت والوقوف عندها مربوط بوجود هذا الوصف ، أو هذا الشرط ، أو العمل على طبق هذا الشرط ، فإذا لم يوجد ذلك الشرط وذلك الوصف فلا ملزم في البين.

وأمّا حديث أنّ مقدارا من الثمن وان لم يقع مقابل الشرط في عالم الإنشاء ، ولكن لا شبهة في وقوعه مقابله في عالم اللبّ ، فممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، لأنّ الأغراض والدواعي لا اعتبار بها في أبواب المعاملات ، بل المناط كلّ المناط في تلك الأبواب هو وقوع العقد والإنشاء على أي شي ء ، وأمّا الأغراض والإرادات النفسانيّة فلا أثر لها ما لم تقع تحت الإنشاء.

الرابع : لو تعذّر الشرط بعد خروج العين عن تحت سلطنة المشروط عليه ببيع ،

أو هبة ، أو غير ذلك من التصرّفات الناقلة ، أو بتلف ، أو إتلاف وأمثال ذلك ، فهل للمشروط له فسخ المعاملة واسترجاع العين إن كانت باقية ، والرجوع إلى المثل أو القيمة - كلّ واحد منهما في مورده إن كانت تالفة - أو الرجوع إلى المثل أو القيمة مطلقا؟ وجوه واحتمالات ، بل أقوال. وهناك احتمال آخر وهو بطلان ذلك التصرّف الناقل.

أقول : التحقيق في المقام أنّ التصرّف الناقل من قبل المشروط عليه تارة يكون منافيا لنفس الاشتراط ، مثل أن يكون الشرط مثلا وقف الدار فباعها ، أو بيعها من زيد فباعها من عمرو. وأخرى ليس كذلك ، بل كان الشرط أجنبيّا عن التصرّف الناقل.

فالأوّل : إن قلنا بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له بالنسبة إلى تلك العين التي وقعت عليها المعاملة - من قبيل حقّ الرهانة ، ومنذور الصدقة ، وحقّ الفقراء بالنسبة إلى المال الذي تعلّق به الزكاة ، وحقّ الإمام علیه السلام أو الساداة بالنسبة إلى

ص: 308

المال الذي تعلّق به الخمس ، وحقّ الديّان بالنسبة إلى تركة الميّت في الدين المستوعب ، وأمثال ذلك - فيكون موجبا لقصر سلطنة المالك وعدم قدرته تشريعا على التصرّف الناقل ، فيكون نقله باطلا ، وللمشروط له استرجاع العين ممّن انتقل إليه وإلزام المشروط عليه بالوفاء بالشرط.

وأمّا إن قلنا بأنّ الشرط لا يوجب إلاّ وجوبا تكليفيّا بالوفاء بالشرط والعمل على طبقه ، فالمعاملة وإن كانت منهيّة بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة ، ولكن النهي في باب المعاملات مطلقا لا يوجب الفساد ، بل يوجبه فيما إذا كان متعلّقا بالمسبّب لا السبب ، وبعبارة أخرى : بالمعنى الاسم المصدري لا المصدري.

وفيما نحن فيه وإن كان النهي على تقدير وجوده متعلّقا بالمعنى الاسم المصدري ، ولكن الشأن في وجوده ، لأنّ التصرّف الناقل في المفروض ضدّ للوفاء بالشرط ، وليس نقيضه ، وقد تحقّق في الأصول عدم اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضده ، فلا نهي كي يقال بأنّه متعلّق بالسبب أو المسبّب ، فبناء على هذا لو لم نقل بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له ، فلا مانع من صحّة تصرّفاته الناقلة. هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات ، فالظاهر من قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » أو قوله علیه السلام : « كلّ شرط جائز إلاّ ما خالف الكتاب » هو ثبوت حقّ للمشروط له ، فتكون تصرّفات المشروط عليه باطلة ، ولا يحتاج إلى فسخ المشروط له.

هذا كلّه فيما إذا كان تصرّف المشروط عليه منافيا لنفس الاشتراط ، أي كان خلاف ما اشترط عليه.

وأمّا الثاني ، أي التصرّفات التي لا تكون منافية لما اشترط عليه ، بل تكون أجنبيّة عن الشرط ، كما إذا باع داره مثلا واشترط على المشتري أن يخيط ثوبه مثلا ، أو عملا آخر ، فلو تعذّر الشرط في هذه الصورة بعد ذلك التصرّف الناقل ، فلا وجه

ص: 309

للقول ببطلان ذلك التصرّف ، لأنّ الدار مثلا في المفروض صارت ملكا طلقا للمشتري ، وإن قلنا بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له على المشروط عليه ، لأنّ بطلان بيعه ليس من آثار ثبوت ذلك الحقّ ، بل غاية ما يمكن أن يقال أنّ أثر ذلك الحقّ تغريم المشروط عليه بقيمة ما شرط وماليّته ، وأمّا منعه عن بيع ماله ، أو أيّ تصرف مشروع آخر فلا وجه له أصلا.

نعم يبقى الكلام في أنّه هل للمشروط له فسخ المعالة بعد تعذّر ذلك الشرط ، أم لا؟ لعدم بقاء موضوع للفسخ ، لأنّ انتقاله إلى الغير بمنزلة تلفه ، فلا يمكن استرجاعه.

والتحقيق : أنّ له الفسخ ، لم ذكرنا أنّ التزامه بالوفاء بهذه المعاملة ، والثبوت عنده ، وعدم نقضه لها كان مشروطا بوجود ذلك الشرط ، فإذا تعذّر وجوده بأيّ سبب كان فليس له التزام ، فلا يجب الوفاء عليه وله حلّ تلك المعاملة.

وأمّا حديث عدم بقاء موضوع الفسخ فممّا لا أساس له ، حتّى في مورد التلف الحقيقي لما انتقل إلى المشروط عليه ، فضلا عن انتقاله بناقل شرعي إلى غيره ، وذلك لأنّ الفسخ ليس معناه استرجاع العين كما توهّم ، بل معناه حلّ تلك المعاهدة التي وقعت بينهما ، ورفع التزامه. ونتيجة ذلك هو أنّه بعد حلّ المعاهدة وفسخ العقد ، فإن كانت العين باقية في يد المشروط عليه يسترجعها ، وإن كانت تالفة فيرجع إلى مثلها أو قيمتها ، كلّ واحد منها في مورده ، أي المثل في المثلي ، والقيمة في القيمي.

وإن كانت نقلت إلى غيره بالتصرّف الناقل ، فيحتمل بطلان العقود المترتّبة على هذه المعاملة التي فسخها بواسطة تعذّر شرطها ، ويحتمل الرجوع إلى المثل أو القيمة كما في مورد التلف الحقيقي على القولين في المسألة.

وأمّا التفصيل بين العتق وسائر التصرّفات الناقلة - بالرجوع إلى القيمة في العتق ، والبطلان في سائر التصرفات الناقلة - فلا وجه له ، وإن نسب هذا التفصيل إلى

ص: 310

العلاّمة (1) والشهيد الثاني قدس سرهما وذلك لأنّ بطلان العقود المترتّبة من جهة كشف الفسخ عن عدم ورود العتق في مورده ، فإنّ مورده الملك المستقرّ لا الملك المتزلزل.

وأمّا قضيّة بناء العتق على التغليب ، فالمراد منها أنّ العبد لو انعتق شقص منه يسرى إلى البقيّة ، وأين هذا من صدوره عمّن هو ليس أهلا لذلك التزلزل ملكه ، وعدم استقرار مالكيّته ، وكونها في معرض الزوال؟! فإن قلنا بعدم بقاء العقود المترتّبة بعد فسخ المعاملة التي تكون هذه العقود مترتّبة عليها ، فلا فرق بين العتق وسائر العقود.

الخامس : هل للمشروط له إسقاط شرطه ، أم لا؟

أقول : إن كان الشرط من قبيل شرط النتيجة ، وكان الشرط كافيا في تحقّقها وحصولها ، ولم تكن وجودها محتاجا إلى وجود سبب خاصّ - كما رجّحنا ذلك في باب اشتراط كون الشي ء الفلاني ملكا للبائع مثلا أو لغيره - ففي هذه الصورة يحصل الشرط بنفس الاشتراط في ضمن المعاملة بعد تحقّق تلك المعاملة ، فالإسقاط لا معنى له ، لأنّ ما صار ملكا لشخص لا يخرج عن ملكه بإسقاطه ، أو بإسقاط شخص آخر.

وكذا لو كانت النتيجة المشروطة انعتاق عبد المشروط عليه ، وقلنا بأنّ العتق يحصل بنفس الاشتراط ولا يحتاج إلى سبب خاصّ ، فبعد وجود المعاملة التي وقع في ضمنها هذا الشرط يتحقّق الانعتاق ، ولا يبقى مجال لإسقاط الشرط ، كما هو واضح.

ولا فرق فيما قلنا - من عدم تأثير الإسقاط وعدم قابليّته له - بين أن يكون المشروط بطور شرط النتيجة ملكيّة مال شخصي أو مال كلّي في ذمّة المشروط عليه ، لما ذكرنا أنّ الشرط يحصل بعد وجود المعاملة التي وقع هذا الشرط في ضمنها ، فيشغل ذمّة المشروط عليه بذلك المال الكلّي بمحض وجود العقد ، فلا يبقى مجال لإسقاط الشرط.

ص: 311


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 492.

نعم له إبراء ذمّة المشروط عليه عمّا اشتغلت ذمّته به ، وهذا غير إسقاط الشرط.

والحاصل : أنّ الذي قابل للإسقاط هو الحقّ ، وأمّا المال فليس قابلا للإسقاط سواء أكان شخصيّا أو كلّيا بعم المال الكلّي قابل للإبراء.

هذا كلّه في شرط النتيجة ، وأمّا شرط الفعل فبناء على ما اخترنا من أنّه يوجب ثبوت حقّ على المشروط عليه للمشروط له ، فله إسقاط ذلك الحقّ ، لأنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، وهذه خاصّة شاملة للحقّ ، حتّى أنّ به عرّف الحقّ ، وجعلوا ذلك هو الفرق بين الحق والحكم.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك الشرط - أي شرط الفعل والعمل - ممّا له ماليّة عند العرف كخياطة ثوبة أو بناء داره ، وبين أن لا يكون له ذلك ، كما إذا شرط عليه عتق عبده أو غير ذلك.

نعم في خصوص شرط عتق عبده وقع الخلاف في أنّه هل له إسقاط هذا الشرط ، أم لا؟

فقال جماعة كالعلاّمة (1) والشهيدين وفخر الدين (2) 0 بعدم كون إسقاط هذا الشرط له ، وربما علّل عدم سقوطه بإسقاطه بأنّه اجتمع فيه حقوق ثلاثة : حقّ المشروط له ، وحقّ اللّه ، وحقّ للعبد ، فهو وإن كان قابلا للإسقاط من ناحية حقّ المشروط له ، ولكن ليس قابلا للإسقاط من ناحية الحقّين الآخرين ، لأنّ أمرهما ليس بيد المشروط له ، لأنّه أجنبي منهما.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا كلام عجيب ، من جهة أنّه أيّ حق للعبد ، ومن أين جاء له ذلك؟ نعم العبد ينتفع من وفاء المشروط عليه بهذا الشرط ، وهذا غير كونه صاحب حقّ على البائع أو المشتري.

ص: 312


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 492.
2- « إيضاح الفوائد » ج 1 ، ص 514.

ثمَّ على تقدير حدوث حقّ له بهذا الشرط ليس أمرا مستقلاّ ، بل تابع لحقّ المشروط له وجودا وعدما ، لأنّه من شؤونه ومعلوله ، فلو أسقط المشروط له حقّه فهو ينعدم قهرا وبالتبع.

وأمّا حقّ اللّه المدّعي في المقام ، فليس شي ء في البين إلاّ وجوب الوفاء بهذا الشرط على المشروط عليه ، ومعلوم أنّ وجوب الوفاء تابع لبقاء حقّ المشروط له ، فإذا أسقط لا يبقى موضوع لوجوب الوفاء ، فينعدم أيضا قهرا.

فظهر أنّه لا فرق في شرط الفعل بين أن يكون شرط عتق عبده ، أو غير ذلك من الأفعال والأعمال التي يجوز اشتراطها شرعا ، وأيضا لا فرق بين أن يكون لذلك الفعل والعمل ماليّة أو لا يكون ، ففي جميع ذلك الأمر يدور مدار أنّه هل الشرط يوجب ثبوت حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، أم لا؟ فإن قلنا بثبوته فهو قابل للإسقاط ، وإلاّ فلا.

السادس : في أنّ الثمن هل يقسّط على المبيع ، والشرط في الشرط الواقع في ضمن عقد البيع مثلا ، أم لا؟

والتحقيق - بعد ما عرفت فيما تقدّم أنّ الشرط ليس طرفا للمعاوضة والمبادلة ، ولا يقع شي ء من الثمن في البيع مثلا بإذائه - أنّه على أقسام :

الأوّل : أن يكون خارجا عن حقيقة العوض والمعوّض ، بأن لا يكون من ذاتيّاتهما ، ولا من أوصافهما المتّحد وجودا معهما ، ولا من أجزائها.

وذلك مثل أن يبيع داره بثمن كذا بشرط أن يخيط ثوبه ، أو يعمل له عملا آخر ، فهذا العمل الذي هو الشرط في ضمن عقد البيع ليس من أجزاء تلك الدار ، ولا من أوصافها ، ولا هو عند العرف من قبيل صورتها النوعيّة ، بل صرف التزام من قبل المشتري مثلا بأمر في ضمن تلك المعاوضة ، أي معاوضة الدار بالثمن المذكور ، ففي مثل هذا المورد لم يقع الشرط في مقابل الثمن أصلا ، بل يكون تمام الثمن بإزاء نفس الدار.

ص: 313

والتزام المشتري بأن يعمل له عمل كذا ، التزام آخر في ضمن الالتزام الأوّل وأجنبي عن كلا العوضين ، فلا وجه لأن يكون جزء من الثمن بإذائه.

ومثل شرط العمل اشتراط أن يعطي له عينا متموّلا خارجيّا ، فإنّه في ذلك العقد لم تجعل المبادلة بين ذلك الثمن وتلك العين ، بل جعل المبادلة وأنشأها في المثل المفروض بين نفس الدار والثمن المذكور ، فلا ينبغي أن يشكّ وأن يحتمل وقوع شي ء من الثمن في قبال ذلك الشرط.

الثاني : أن يكون الشرط من أوصاف المبيع مثلا كأن يقول : بعتك هذا العبد الكاتب ، أو هذا العبد بشرط أن يكون كاتبا. وهذا القسم أيضا مثل القسم الأوّل التزام آخر في ضمن الالتزام الأوّل ، والبائع أنشأ المعاوضة والمبادلة بين هذا العبد الشخصي الخارجي والثمن المذكور ، ففي مقام الإنشاء جعل تمام الثمن بدلا وعوضا في مقابل هذا العبد الشخصي.

غاية الأمر أنّه التزم بأن يكون هذا العبد متّصفا بصفة كذا ، ويكون التزامه بالوفاء بتلك المعاملة في ظرف وجود هذا الشرط. فإذا تعذّر ، أو لم يعمل المشروط بما التزم ، فلا يبقى التزام للمشروط له ، فيكون له الخيار.

وأمّا أصل المعاوضة والمبادلة فليست معلّقة ولا مشروطة بأمر ، وإلاّ يكون العقد باطلا ، لمكان التعليق في المنشأ الذي بطلانه إجماعيّ ، فعدم تقسيط الثمن على الشرط في هذا القسم أيضا واضح.

الثالث : أن يكون الشرط عنوان المبيع ، أو ما وقع عليه المعاوضة في سائر المعاوضات غير البيع ، ويكون عند العرف من قبيل صورته النوعيّة وإن لم يكن كذلك حقيقة وواقعا. كما إذا قال للمشتري : بعتك هذه الجارية الروميّة ، ولم تكن كذلك ، بل كانت حبشيّة ، فعند العرف الجارية الحبشيّة مخالفة في النوع مع الروميّة ، ويكون من قبيل الجوز واللوز وإن كانت بحسب الواقع متّحدة معها في النوع ، لأنّ كلتيهما من نوع

ص: 314

واحد وهو الإنسان ، ولكن في أبواب المعاملات المناط هو النظر العرفي لا الدقّة العقليّة ، لأنّ عليه مدار معاملاتهم.

وتخلّف الشرط في هذا القسم موجب لبطلان المعاملة ، لأنّ المعاوضة وقعت بين الثمن والمعوض الذي له تلك الصورة النوعيّة ، فإذا سئل المشتري وقيل له ما اشتريت؟ يقول : الجارية الروميّة وينكر كون المبيع هي الجارية الحبشيّة ، والعرف يصدّقونه في هذا القول.

الرابع : أن يكون للشرط جهتان : جهة جزئيّة وذاتيّة للمبيع مثلا أو لمعوّض آخر في سائر المعاوضات ، وجهة وصفيّة عرضيّة. فبالاعتبار الأوّل يقع في مقابل جزء من الثمن أو من سائر الأعواض ، وبالاعتبار الثاني يكون خارجا عن دائرة المعاوضة والمبادلة ، ولذلك وقع الخلاف والنزاع في هذا القسم ، وأنّه هل يقسّط الثمن عليه أم لا.

ومثال هذا القسم : كما إذا باع صبرة على أنّها عشرين صاعا ، فظهرت أقلّ أو أكثر ، أو باع أرضا على أنّها مائة جريب ، فظهر كونها أقلّ أو أكثر.

وفي هذا القسم من الشرط صور أربع كما ذكرها في التذكرة (1) ، لأنّ المبيع والشرط إمّا يكونان متساوي الأجزاء ، أو يكونان مختلفها ، وفي كلّ واحدة من الصورتين إمّا يظهر النقص عمّا شرط ، أو الزيادة عنه ، فهذه أربعة أقسام.

الأوّل : أن يكون المبيع متساوي الأجزاء ، وظهر النقص عمّا شرط كونه كذا مقدار ، مثلا شرط كون الصبرة التي باعها عشرين صاعا ، فظهر أنّها أقلّ من ذلك. فالمشهور قالوا بالتقسيط.

والعمدة في وجهه أنّ كميّة الشي ء وإن كانت من أعراض الشي ء وأوصافه ، إلاّ أنّ المعاوضة في بعض الأشياء تكون باعتبار الكميّة ، كما أنّ الأمر كذلك في أغلب ما

ص: 315


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 494.

يكون من المكيل أو الموزون ، كالحنطة والشعير والأرز والدهن واللحم وأمثالها.

ولذلك ربما تكون المقاولة بين البائع والمشتري قبل البيع بأنّ كلّ صاع من هذه الصبرة بكذا ، فحين البيع يقول : بعتك هذه الصبرة بكذا بشرط أن يكون عشرين صاعا مثلا ، فلا محالة يكون الثمن بنظر المتعاملين والعرف مقابل عشرين صاعا ، أي كلّ صاع من المبيع يقع في مقابل جزء من الثمن.

فلو فرضنا أنّه باع هذه الصبرة الشخصيّة الموجودة بعشرة دراهم على أنّها عشرين صاعا ، فيكون كلّ صاع منها مقابل نصف درهم ، فلو ظهر بعد وقوع العقد أنّها عشرة صيعان ، له أن يسترجع من الثمن المسمّى نصفه ، أي خمسة دراهم ، لما ذكرنا من أنّ العرف والعقلاء يرون الثمن مقابل الكميّة.

وبعبارة أخرى : يكون حال الكميّة في هذا القسم حال الصورة النوعيّة الحقيقيّة أو العرفيّة في القسم الثالث ، من حيث كونها مناط الماليّة ووقوع الثمن بإزائها ، فتكون جزء المبيع ، لا أنّها من أوصافه ، فيدخل في باب تبعّض الصفقة ، لا في باب تخلّف الوصف الذي لا يوجب إلاّ الخيار ، كما تقدّم تفصيله.

وبعبارة أوضح : يكون تبيّن النقص في المبيع المتساوي الأجزاء كظهور كون بعض المبيع ممّا لا يملك وممّا لا يملكه البائع ، غاية الأمر في باب تبعّض الصفقة بعض المبيع في حكم العدم ، من جهة إلقاء ماليّته شرعا بالنسبة إلى ما لا يملك شرعا ، وإن كان عند العرف له ماليّة ، أو من جهة كونه لغير البائع ، فلا يجوز تصرّف البائع فيه ، وفي هذه الصورة معدوم واقعا ، فيكون المشتري مخيّرا بين الفسخ وعدم إمضاء هذه المعاملة أصلا ، لعدم التزامه بالثبوت عند مبادلة هذا الناقص عمّا شرط ، وبين إمضاء هذه المعاملة بالنسبة إلى المقدار الموجود واسترجاع باقي الثمن.

وأمّا ما ربما يقال ، بل قاله جماعة من الأعاظم : إنّ الموجود الخارجي الشخصي - الذي هو المبيع في المفروض - لا يزيد ولا ينقص ، بل يكون على ما هو عليه من

ص: 316

المقدار ولا يتغيّر بالشرط ، وما وقع عليه العقد - أي تلك العين الخارجيّة - لم يتبيّن فيه نقص كي يكون من قبيل تبعّض الصفقة ، فهو وقع الطرف المعاوضة بدون أدنى تغيّر فيه. نعم البائع وصفه بوصف غير موجود فيه ، أعني الكميّة الكذائيّة ، فليس في البين إلاّ تخلّف ذلك الوصف المذكور ، فلا يوجب إلاّ الخيار. وقد تقدّم تفصيل كونه موجبا للخيار ، فلا نعيد.

ففيه : أنّ الموجود الخارجي في المفروض تعنون بالكميّة الكذائيّة ، فعند المتفاهم العرفي وما هو الظاهر عندهم أنّ المبيع في المفروض عبارة عن تلك الكميّة الكذائيّة ، لا أنّ المبيع تلك العين الخارجيّة ، والكميّة الكذائية وصف له كي يكون تبيّن النقيصة من قبيل تخلّف الوصف لا يوجب إلاّ الخيار ، فإذا كان المبيع تلك الكميّة الكذائيّة وبعضها غير موجود ، يكون من باب تبعّض الصفقة ، فيكون الأمر كما ذهب إليه المشهور.

والحاصل : أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل أن يشير إلى الكتاب الموضوع في قدامه ، ويقول : بعتك هذا الكتاب الموجود الذي هو مجلّدين من كتاب الرياض أو الروضة ، ثمَّ تبيّن أنّه مجلّد واحد من أحد ذينك الكتابين ، فهل ترضى من نفسك أن تقول : إنّ المبيع هو هذا الموجود الخارجي الذي لا يتغيّر ، وليس في البين إلاّ تخلف الوصف؟

ويدلّ على ما ذكرنا أيضا خبر عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل باع أرضا على أنّها عشرة أجربة ، فاشترى المشتري ذلك منه بحدوده ونقد الثمن ووقع صفقة البيع وافترقا ، فلمّا مسح الأرض إذا هي خمسة أجربة ، قال علیه السلام : « إن شاء استرجع فضل ماله وأخذ الأرض ، وإن شاء ردّ المبيع وأخذ ماله كلّه ، إلاّ أن يكون له إلى جنب تلك الأرض أيضا أرضون فليؤخذ ويكون البيع لازما عليه ، وعليه الوفاء بتمام البيع. فإن لم يكن له في ذلك المكان غير الذي باع ، فإن شاء المشتري أخذ الأرض

ص: 317

واسترجع فضل ماله ، وإن شاء ردّ الأرض وأخذ المال كلّه » (1).

وتقريب الاستدلال بهذا الخبر هو أنّ بائع الأرض التزم بكون الأرض التي باعها عشرة أجربة ، فتبيّن نقصها وأنّها خمسة أجربة ، فلو كان مثل سائر موارد تخلّف الوصف لكان جوابه علیه السلام أنّ المشتري بعد تبيّن النقص مخيّر بين الفسخ والإمضاء بتمام الثمن ، لا أنّه مخيّر بين الإمضاء واسترجاع فضل ماله ، وبين ردّ الأرض وأخذ ماله كلّه.

فمن جوابه علیه السلام يستكشف تقسيط الثمن على أجزاء المبيع ، أي الكميّة المذكورة في متن العقد وإن كان بصورة الشرط ، وقد تقدّم أنّه لا تأثير في اختلاف العبارة ، ولا فرق بين أن يكون بصورة الشرط أو يكون بصورة الوصف ، بل المناط كلّ المناط هو أن يكون الوصف عنوانا للمبيع عند العرف ومن قبيل صورته النوعيّة ، فيكون تخلّفه مبطلا ، أو يكون الوصف للمبيع فيكون موجبا للخيار فقط ، سواء أكان بصورة الاشتراط أو التوصيف.

وفي الاشتراط أيضا لا فرق بين أن يكون بأمر خارج عن المبيع ، كخياطة ثوب البائع مثلا ، أو يكون من شؤون المبيع وأوصافه ، أو يكون الشرط كميّة المبيع ، فيكون تخلّفه من قبيل تبعّض الصفقة وتكون المعاملة بالنسبة إلى الكميّة الموجودة صحيحة ، غاية الأمر للمشتري خيار تبعّض الصفقة ، ولذلك لو أمضى المعاملة يسترجع فضل ماله ، كما هو مذكور في الرواية.

وأمّا الإشكال على الاستدلال بالرواية بأنّها في مختلف الأجزاء ، فجوابه أنّه على فرض تسليم أنّه من قبيل مختلف الأجزاء تكون دلالتها على المقام بالأولويّة.

الثاني : أن يكون المبيع مختلف الأجزاء وتبيّن النقص عن الكميّة المذكورة في متن العقد. وفي هذا القسم أيضا ذهب الأكثر إلى التقسيط ، لعين ما ذكرنا في القسم الأوّل

ص: 318


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 239 ، ح 3875 ، باب بيع الكلاء والزرع... ، « تهذيب الأحكام » ج 7. ص 153 ، ح 675 ، باب أحكام الأرضين ، ح 24 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 361 ، أبواب الخيار ، باب 14 ، ح 1.

أي المبيع لمتساوي الأجزاء ، ولرواية عمر بن حنظلة التي هي نصّ في المقام.

ولا يأتي هاهنا الإشكال المتقدّم في القسم الأوّل من أنّ ظاهر الرواية كون هذا الحكم في مختلف الأجزاء ، فلا تشمل صورة كون المبيع متساوي الأجزاء.

فيجاب : أنّ شمولها لمتساوي الاجزاء بالفحوى ، وذلك لأنّ هذا القسم الثاني على الفرض هو المبيع المختلف الأجزاء ، فتكون الرواية نصّا فيه.

وأمّا الإشكال في سند الرواية مع عمل الأكثر على طبقها - خصوصا عمل من لا يعمل إلاّ بالقطعيّات كابن إدريس (1) - فلا مجال له.

نعم ذكر فخر الدين ، ابن العلاّمة قدس سرهما ، إشكالا على التقسيط في المقام (2) حاصله : أنّ التقسيط متوقّف على معرفة قيمة الجزء الفائت بالنسبة إلى قيمة مجموع الأجزاء المذكورة في متن العقد ، كي يمكن استرجاع قيمة مقدار الفائت من أجزاء المبيع من الثمن للمجموع ، وهذا المعنى في متساوي الأجزاء يمكن ؛ لأنّه إذا باع الحنطة مثلا على أنّها عشرين صاعا فتبيّن كونها خمسة عشر صاعا ، فالمقدار الفائت ربع المجموع ، وقيمته أيضا ربع قيمة المجموع ، فيسترجع ربع الثمن ، وذلك من جهة أنّ الأجزاء والأبعاض متساوية في القيمة إن كانت متساوية في المقدار.

وأمّا في مختلف الأجزاء فلا يمكن ذلك ، لأنّه إذا كانت قيمة الأجزاء مختلفة ، فلا يمكن تعيين ما يكون قسطا للمقدار الفائت ممّا ذكر في متن العقد من ثمن المسمّى ، لأنّ المفروض اختلاف الأجزاء في القيمة ، فمن الممكن أن يكون المقدار الفائت وإن كان بحسب المقدار ربع المجموع ولكن يحسب القيمة يكون مساويا مع ثلاثة أرباع الموجودة غير الفائتة.

وليس الفائت موجودا كي يقومه المقوّمون ، ولا له مثل كي يقاس به ، فلا طريق

ص: 319


1- « السرائر » ج 1 ، ص 47.
2- « إيضاح الفوائد » ج 1 ، ص 515.

إلى معرفة قسط الفائت من ثمن المسمّى ، بل تحصيله بطور التحقيق بحيث يعلم بأنّه قسطه محال ، لأنّ المفروض أنّ الأجزاء مختلفة بحسب القيمة.

مثلا هذه الأرض التي اشتراها على أنّها عشرة أمتار ، فظهر أنّها خمسة أمتار ، فالخمسة الفائتة يمكن أن تكون أمتارها كلّها من الغاليات ، ويمكن أن تكون كلّها من الرخيصات ، ويمكن أن تكون من المختلفات ، فبعضها يكون من الغاليات ، وبعضها من الرخيصات على اختلاف مراتب الغاليات والرخيصات أيضا ، وحيث أنّها ليست ولم تكن موجودة أصلا فلا يمكن تشخيصها وتعيينها لنا ، بل ليس لها تعيّن في حاقّ الواقع.

نعم لو كانت موجودة في زمان من الأزمنة ، لكان لها تعيّن في الواقع وإن كانت مجهولة عندنا. وعلى كلّ حال فلا يمكن التقسيط ، لعدم الطريق إلى معرفة قسطها من المسمّى ، فلا بدّ أن يفرق بين المبيع المتساوي الأجزاء من حيث القيمة ، وما هو مختلف الأجزاء من هذه الحيثيّة إذا تبيّن نقصان مقدارها عمّا شرط في متن العقد بالتقسيط في الأوّل دون الثاني ، كما ذهب اليه فخر الدين ابن العلامة 0 وجمع آخر.

ولكن يمكن أن يقال بعد الفراغ عن أنّ البيع وقع على عشرة أجربة ، والموجودة خمسة من الأرض ، المختلفة بحسب القيمة أجزاؤها ، كالأرض الواقعة على الشارع بعضها دون البعض الآخر ، ومعلوم أنّ الواقع منها على الجادّة العموميّة يساوي أضعاف ما هو بعيد عن الجادّة.

والفائت لا يمكن أن يحسب الأرض الواقعة على الجادّة ، ولا بحساب ما هو بعيد عن الجادة ، لأنّه لا يعلم أنّه من أيّ واحد من القسمين ، بل ليس من كلّ واحد من القسمين واقعا ، لأنّه لم يوجد كي يكون من أحدهما ، ففي حاقّ الواقع ليس له قسط أحدهما ، فاستحقاقه معلوم بقيمة خمسة جريان مجهول القيمة من جهة الجهل بكونها من أي قسم ، بل القطع بأنّها ليست من كلّ واحد من القسمين أو الأقسام ، لأنّها غير

ص: 320

موجودة.

فطريق وصول ما يستحقّ من جهة قيمة الفائت هو التصالح القهري ، كما قلنا في درهم الودعي ، أو يعمل بقاعدة العدل والإنصاف ، وذلك بتضاعف كلّ جزء من الموجود فيؤخذ نصف قيمة المجموع للفائت.

وذلك من جهة أنّ مشتري الأرض حيث أنّه يشتري بالمشاهدة فهو رأي الخمسة عشرة ، فكأنّه بنى على تضاعف كلّ جزء ممّا شاهده ، واشترى الأرض مبنيّا على هذا.

وحيث أنّه تقدّم أنّ المسألة في هذا القسم من قبيل تبعّض الصفقة ، وتبعّض الصفقة فيما نحن فيه لا يتصوّر إلاّ بهذا الترتيب ، لأنّه ليس بحسب الواقع صفقة مركّبة من جزئين ، أحدهما موجود والآخر فائت ومعدوم ، بل التركّب في الصفقة خيالي لا واقعيّة له ، فلا بدّ وأن يفرض كلّ جزء ضعف ما هو عليه بحسب الواقع كي تحصل الصفقة المركّبة الخياليّة.

ذكر هذا الطريق شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره (1) ولا بأس به - وإن لم يحصل بهذه الطريقة قسط الواقعي للفائت من ثمن المسمّى - لأنّه أقرب إلى العدل والإنصاف.

الثالث : تبيّن الزيادة في المبيع المتساوي الأجزاء من حيث القيمة بالنسبة إلى ما شرطا ، أو أحدهما من كميّة المبيع مثلا لو باع الصبرة من الحنطة على أنّها عشرين صاعا ، فتبيّن أنّها ثلاثين صاعا.

فمقتضى ما ذكرنا في طرف النقيصة - أنّ الجملة ظاهرة في أنّ المبيع مجموع الموجود والفائت ، وأنّ الفائت جزء للمبيع ، ولذلك يقسط عليه الثمن ويكون من باب تبعّض الصفقة يسترجع قسط الفائت ، ويكون له الخيار أيضا بالنسبة إلى الموجود -

ص: 321


1- « المكاسب » ص 287.

هو أن تكون الزيادة ملكا للبائع وأن لا يكون خيار في البين.

أما كون الزيادة باقية على ملك البائع ، فلأنّها خارجة عن المبيع ، لأنّ المبيع بناء على ما ذكرنا في القسمين الأوّلين - أي تبيّن النقيصة في متساوي الأجزاء وفي مختلف الأجزاء - يكون عبارة عن نفس الكميّة المذكورة في متن العقد ، والمفروض في هذا القسم الثالث هو تبيّن الزيادة على الكميّة المذكورة في متن العقد ، فتكون تلك الزيادة خارجة عن المبيع وباقية على ملكيّته للبائع.

وأمّا عدم الخيار ، فلعدم تبعّض الصفقة ، لأنّ الصفقة في المفروض عبارة عن الكميّة المذكورة في متن العقد ، وهي موجودة على الفرض. واحتمال أن يكون المبيع هي الكميّة المذكورة بشرط لا عن الزيادة - بحيث يكون عدم الزيادة عن الكميّة المذكورة وصفا للمبيع ، أو شرطا على البائع أو على المشتري ، فيأتي خيار تخلّف الوصف أو تخلّف الشرط - ملغى في نظر العرف والعقلاء ، أي ليس احتمالا عقلائيا ، فلا يعتنى به.

نعم لو كانت قرينة في البين على أنّ الراد من اشتراط كون المبيع كذا مقدار هو أن لا يكون أقلّ من ذلك المقدار ، وإلاّ فهو نقل إلى المشتري تمام ما هو الموجود ، سواء أكان مساويا لما ذكره في متن العقد ، أو كان أكثر ، فيكون المجموع للمشتري ولا خيار ، لأنّه ليس تخلّف الشرط أو الوصف في البين ، فالمسألة واضحة على جميع التقادير.

نعم لو كان مدرك أخذ ما يقابل الفائت من ثمن المسمّى رواية عمر بن حنظلة ، حيث أنّه كان مفادها أنّ البائع لو لم يكن له بجنب تلك الأرض أرض أخرى يتدارك بها المقدار الفائت عمّا شرطه في متن العقد ، يلزم عليه ردّ ما يقابل الفائت من ثمن المسمّى إلى المشتري.

فهذا الدليل لا يأتي في هذا القسم ، أي فيما إذا تبيّن الزيادة عن المقدار الذي شرطه في متن العقد ، لأنّ الرواية واردة في النقيصة لا في الزيادة ، فيكون الحكم في طرف الزيادة على طبق ما تقتضيه القواعد الأوّلية ، وذلك لعدم شمول الرواية لهذا القسم.

ص: 322

ومقتضى القواعد - بناء على هذا ، أي بناء على أن يكون المدرك في القسمين الأوّلين هي الرواية لا القاعدة - هو أنّ المسألة تكون من باب خيار تخلّف الوصف أو الشرط ، فإذا فسخ يرجع تمام الثمن إلى المشتري ، وتمام المثمن إلى البائع ، وإن أمضى فيكون تمام المبيع حتّى الزيادة ملكا للمشتري ، لأنّ تمام الموجود هو المبيع ولم يتخلّف إلاّ الوصف أو الشرط.

الرابع : تبيّن الزيادة في مختلف الأجزاء، مثلا باع أرضا على أنّها خمسة أجربة ، فلمّا مسحها المشتري أو البائع ظهر أنّها عشرة ، فبناء على القاعدة المتقدّمة وهي أنّ المبيع هي الكميّة المذكورة في متن العقد لا الشخص الموجود في الخارج بجميع تعيّناته ، غاية الأمر وصفه البائع بوصف الكميّة الكذائيّة ، أو شرط المشتري كونه كذا مقدار ، فالزيادة تكون ملكا للبائع.

وحيث أنّ الزيادة مشاعة ، فيكون البائع شريكا مع المشتري ، فيأتي خيار الشركة ويترتّب عليها إن لم يفسخ المشتري آثار الشركة.

وأمّا بناء على أن يكون المدرك لاسترجاع ما يقابل الفائت هناك من ثمن المسمّى هي الرواية لا القاعدة ، وإلاّ فالمبيع تمام الموجود فيكون تمام المبيع للمشتري ولا خيار في البين أصلا.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : الشرط الواقع في ضمن جميع العقود اللازمة - على التفصيل الذي تقدّم - يكون من صغريات هذه القاعدة وموارد تطبيقها ، فإذا كان ذلك الشرط صحيحا يجب الوفاء به.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 323

ص: 324

35 - قاعدة التسامح في أدلّة السنن

اشارة

ص: 325

ص: 326

قاعدة التسامح في أدلة السنن (1)

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة « التسامح في أدلّة السنن » (1). وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في شرح مفهوم هذه القاعدة والمراد منها

فنقول : المراد منها أنّه لو كان هناك خبر ضعيف - لا يكون موثوق الصدور لاختلال في سنده ، وعدم جابر من عمل المشهور به كي يوجب الوثوق بصدوره - فلا يكون مشمولا لدليل حجّية الخبر الواحد.

كما حقّقنا في الأصول من أنّ موضوع الحجيّة هو الخبر الذي يثق الإنسان بصدوره ، سواء حصل الوثوق من صحّة السند وكون الراوي عدلا أو ثقة ، أو حصل من عمل المشهور به ، أو كان مضمونه مطابقا لفتوى المشهور من قدماء الأصحاب.

فإذا لم يكن الخبر كذلك ، فلا يكون مشمولا لدليل الحجّية ، فهل مثل هذا الخبر

ص: 327


1- (*) « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص 164. « عوائد الأيام » ص 269 ، « عناوين الأصول » عنوان 15 ، « الرسائل الفقهية » ص 137 ، « اصطلاحات الأصول » ص 183 ، « القواعد » ص 83 ، « التسامح في أدلة السنن » سيد محمد مهدي آل حكيم ، أكبر آباد هند ، 1307 ق ، « بحث در قاعدة تسامح » سيد على محمد المدرّس الأصفهاني ، مجلّة « كانون وكلاء » العام 8 ، العدد 47 ، « تسامح در أدلة سنن ، بحثي در اخبار من بلغ » سيد أبو الفضل مير محمدي ، نشرة « مقالات وبررسيها » العدد 47 - 48 ، ص 1 - 17 ، والعدد 49 - 50 ، ص 1 - 18.

يثبت به الاستحباب وإن لم يثبت به الوجوب لو كان مضمونه ومفاده وجوب شي ء؟

وذلك لأجل التسامح في دليل الاستحباب ، فلو أثبتنا أنّه يمكن إثبات الاستحباب بمثل ذلك الخبر الذي ليس مشمولا لدليل الحجّية ، فهذا معناه هو التسامح في أدلّة السنن.

وخلاصة الكلام : أنّ الخبر الضعيف قد يكون مفاده الوجوب ، وقد يكون مفاده الاستحباب ، وفي كلتا الصورتين - بعد الفراغ عن أنّ الوجوب لا يثبت به - صار محلاّ للكلام في أنّ الاستحباب هل يثبت به ، أم لا؟ والقول بثبوته به هو التسامح في أدلّة السنن.

ولا شكّ في أنّ غير الحجّة لا يثبت به شي ء ، وفي هذه الجهة لا فرق بين الوجوب والاستحباب ، وثبوت كلّ واحد منهما يحتاج إلى دليل وحجة معتبرة.

ولكن الدعوى أنّ في باب الاستحباب هل ورد دليل معتبر على التسامح في دليله ، وأنّه يثبت ولو كان هناك خبر ضعيف مفاده الاستحباب بل وإن كان مفاده الوجوب ، أم لا؟

الجهة الثانية : في مدركها

وهو الأخبار الكثيرة المعتبرة الواردة في هذا المقام المعروفة بعنوان « أخبار من بلغ » فلنذكر جملة منها :

الأوّل : صحيحة هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من بلغه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله شي ء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله » (1).

ص: 328


1- « المحاسن » ص 25 ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 60 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 18 ، ح 3.

الثاني : المروي عن صفوان ، عن الصادق علیه السلام قال : « من بلغه شي ء من الثواب على شي ء من الخير فعمل به ، كان له أجر ذلك ، وإن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله » (1).

الثالث : خبر محمد بن مروان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من بلغه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله شي ء من الثواب ، ففعل ذلك طلب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان له ذلك الثواب ، وإن كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقله » (2).

الرابع : خبره الآخر ، قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل ، ففعله التماس ذلك الثواب ، أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه » (3).إلى غير ذلك من الأخبار.

فنقول : أمّا الاحتمالات التي ذكروها في مفاد هذه الأخبار - أو يمكن أن يحتمل - فكثيرة.

منها : أن يكون مفادها حجّية خبر الضعيف الذي قام على وجوب شي ء ، أو استحبابه ، بالنسبة إلى استحبابه ، فيكون حجّة على استحباب ذلك الشي ء ولو كان ظاهرا في وجوبه.

والمراد من الخبر الضعيف هو الخبر الذي ليس مشمولا لدليل الحجّية في حدّ نفسه لو لا هذه الأخبار ، وهذا الاحتمال هو الظاهر من قولهم بتسامح أدلّة السنن ، وبيان دلالة هذه الأخبار على هذا الاحتمال هو دلالتها على ترتّب الثواب على العمل الذي بلغه أنّ فيه الثواب.

ولا شكّ أنّ ترتّب الثواب على عمل دليل على استحبابه ، والمثبت لهذا

ص: 329


1- « ثواب الأعمال » ص 160 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 59 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 18 ، ح 1.
2- « المحاسن » ص 25 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 60 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 18 ، ح 4.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 71 ، باب من : بلغه ثواب من اللّه على عمل ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 60 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 18 ، ح 7.

الاستحباب هو عنوان البلوغ ، سواء أكان بالخبر الموثّق أو الضعيف ، فيكون خبر الضعيف حجّة على الاستحباب كالخبر الصحيح والموثق.

والإنصاف أنّ خبر الصفوان عن الصادق علیه السلام وصحيحة هشام بن سالم لهما لظهور في هذا المعنى ، حيث رتّب فيهما الأجر على نفس العمل عقيب البلوغ ، وبناء على هذا تكون المسألة أصوليّة ، لأنّ نتيجتها وهي حجّية الخبر الضعيف تقع كبرى في قياس الاستنباط.

ولكن هذا لا يثبت حجّية الخبر الضعيف الذي مفاده الوجوب أو الاستحباب بالنسبة إلى ثبوت الاستحباب به كما ادعاه المدّعي ، بل الدليل على استحباب هذا الفعل الذي بلغه الثواب على عمله هو نفس أخبار من بلغ ، وذلك من جهة أنّ استكشاف الاستحباب بناء على هذا الاحتمال من طريق الإن ، لأنّ كون الأجر والثواب له على عمل معلول استحباب ذلك العمل.

وحيث أنّ استكشاف الاستحباب - بناء على هذا الاحتمال - من ناحية كون الأجر والثواب للعامل الذي بلغه ذلك ، فالدليل على كون الأجر والثواب له هو الدليل على الاستحباب ، لأنّ الدليل على وجود المعلول والأثر دليل على وجود العلّة والمؤثّر.

ولا شكّ في أنّ الدليل على استحقاق الأجر والثواب هو أخبار من بلغ ، فإثبات الاستحباب يكون بأخبار من بلغ ، لا بذلك الخبر الضعيف.

نعم الخبر الضعيف يوجب تحقّق موضوع ما هو حجّة ودليل على استحباب ذلك العمل ، أي يوجب تحقّق موضوع أخبار من بلغ.

فالقول بأنّ أخبار من بلغ يوجب حجّية الخبر الضعيف - الدالّ على استحباب عمل أو وجوبه - لا يخلو عن مسامحة ، بل ليس بصحيح.

وأمّا حجّية نفس أخبار من بلغ فلا احتياج لها إلى البيان ، فإنّها أخبار صحيحة

ص: 330

معتبرة ، بل ربما ادّعي القطع بصدور بعضها بطور الإجمال ، ومرجع هذا الادّعاء إلى تواترها إجمالا.

ومنها : أنّ مفادها أنّ الانقياد في ترتّب الثواب مثل الإطاعة ، غاية الأمر ثواب الإطاعة بالاستحقاق ، وثواب الانقياد بالتفضّل ، بمعنى أنّه ولو لم يأت بما هو واجب أو مستحبّ ، ولكنّه بعد ما عمله عقيب قيام الحجّة التماس ذلك الثواب ، فاللّه تبارك وتعالى يتفضّل عليه بإعطاء الأجر ولو أخطأت الحجّة. وبعبارة أخرى : لا يذهب عمله وتعبه عند خطأ الحجّة سدى.

ولعلّ هذا ظاهر خبر محمّد بن مروان عن أبي جعفر علیه السلام . وبناء على هذا لا ربط لهذه الأخبار بما قالوا من التسامح في أدلّة السنن ، ولا بد لهم من التماس دليل آخر.

ولكن هذا الاحتمال - أي كون الثواب على الانقياد ، والعمل على طبق الحجّة وإن أخطأت - لا مورد له هاهنا ، لأنّ الخبر الضعيف ليس بحجّة على الفرض. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ موضوع الانقياد هو احتمال الوجوب أو الاستحباب وإن لم تقم حجّة عليهما.

والخبر الضعيف الدالّ على وجوب شي ء أو استحبابه موجب لوجود احتمالهما ، ولكن على فرض صدق الانقياد على إتيان محتمل الوجوب أو محتمل الاستحباب لا ربط له بأخبار من بلغ ، لأنّ حسن الانقياد مثل الإطاعة عقليّ ، سواء أكانت أخبار من بلغ أو لم تكن ، وكذلك لا ربط له بالتسامح في أدلّة السنن كما هو واضح ، بل هو حكم عقليّ إرشادي.

وأمّا دلالة هذه الأخبار على أنّه يعطي له الأجر على عمله ، فليس من جهة انقياده ، بل الصحيح أنّه من جهة استحباب العمل الذي تعنون بعنوان أنّه عليه الثواب ، ولا شكّ في اختلاف الأحكام باختلاف العناوين.

مضافا إلى ما ذكرنا أنّه لا انقياد هاهنا ، لأنّه مقابل التجرّي ، فكما أنّ التجرّي عبارة عن مخالفة الحجّة غير المصادفة للواقع ، كذلك الانقياد عبارة عن موافقة الحجّة

ص: 331

غير المصادفة للواقع.

والمفروض هاهنا أنّه ليس حجّة في البين ، لأنّ الخبر الضعيف ليس بحجّة على الفرض ، وليس مشمولا لأدلّة حجّية الخبر الواحد الموثوق الصدور ، فليس مفاد هذه الأخبار إلاّ إعطاء الأجر والثواب على نفس العمل الذي بلغه الثواب على ذلك العمل.

ومنها : أنّ مفادها هو الإرشاد إلى ما حكم به العقل من حسن الاحتياط والترغيب فيه بإتيان محتمل المطلوبيّة ، سواء أكان محتمل الوجوب أو محتمل الاستحباب ، بأنّ في الاحتياط وإتيان محتمل المطلوبيّة مطلقا ، سواء طابق الواقع أو لم يطابق أجر وثواب إذا أتاه بهذا الداعي.

وبناء على هذا لا تدلّ هذه الأخبار لا على استحباب العمل الذي يأتي به مطلقا - سواء أكان بداعي التماس الثواب وطلب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو لم يكن - ولا على حجّية الخبر الضعيف على الاستحباب.

ويمكن أنّ يستظهر هذا الاحتمال من خبري محمّد بن مروان ، حيث قيّد العمل في أحدهما بطلب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وفي الآخر بالتماس ذلك الثواب.

والذي يبعد هذا الاحتمال أنّ الإرشاد إلى الاحتياط بتوسّط عنوان يكون بينه وبين عنوان الاحتياط عموم من وجه - وهو عنوان « من بلغ » - في غاية البعد ، بل الاستهجاب.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بناء على هذا الاحتمال - أي كون مفاد هذه الأخبار هو الإرشاد إلى حسن الاحتياط بإتيان محتمل المطلوبية ، والترغيب فيه بأنّ فيه الأجر والثواب ، سواء أكان في الواقع مطلوب أو لم يكن - يكون جعل البلوغ موضوعا لهذا الحكم ، أي : إعطاؤه الأجر والثواب ، من جهة أنّ البلوغ محقّق لموضوع الاحتياط الذي هو عبارة عن احتمال كون ذلك العمل مطلوبا وجوبا أو استحبابا ، لأنّه لو لم يكن هذا الخبر الضعيف لم يحتمل الوجوب أو الاستحباب.

ص: 332

فبناء على هذا يكون عنوان البلوغ ملازم عادة مع احتمال المطلوبيّة ، وإن كان بالدقّة بينهما عموم وخصوص من وجه.

ثمَّ إنّ الظاهر من مفاد مجموع هذه الأخبار هو الاحتمال الأوّل ، أي كون العمل الذي أتى به بداعي التماس الثواب مستحبّا.

غاية الأمر إنّما الكلام في معروض هذا الاستحباب هل هو ذات العمل ، أو العمل المعنون بعنوان البالغ عليه الثواب؟ بحيث يكون من قبيل العنوان الثانوي للعمل ، كعنوان الإكراه والاضطرار ، فيكون ذات العمل وحدها غير محكوم بالاستحباب ، بل كان مباحا في حدّ نفسه ، ولكن بواسطة طروّ هذا العنوان وجدت فيه مصلحة صارت سببا لاستحبابه معنونا بهذا العنوان ، بمعنى أنّه واسطة في العروض ، لا أنّه واسطة في الثبوت فقط.

فالدليل على ثبوت الاستحباب - لهذا العمل المعنون بهذا العنوان - هو أخبار من بلغ ، لا الخبر الضعيف. وأخبار من بلغ في غاية القوّة والصحّة ، بل ربما ادّعي قطعيّة صدورها. نعم الخبر الضعيف يوجب تعنون العمل بهذا العنوان ، وبعبارة أخرى : يوجب تحقّق موضوع الحجّة.

فبناء على هذا قول المشهور بالتسامح في أدلّة السنن لا ينطبق على هذا ، وليس كما ينبغي إن كان مرادهم هذا المعنى.

نعم لو قلنا أنّ مفاد هذه الأخبار حجّية خبر الضعيف لإثبات الاستحباب ، وبعبارة أخرى : أنّ شرائط الحجّية في باب الخبر الدالّ على الاستحباب ليست عين الشرائط التي أخذت في باب الأحكام الإلزاميّة ، من لزوم كون الراوي عدلا أو ثقة ، ولم يعرض الأصحاب عن العمل به ، إلى غير ذلك من القيود والشرائط.

بل لو دلّ خبر ضعيف على استحباب عمل ، يكون حجّة ومثبتا لذلك الاستحباب. وعلى هذا ينطبق ما ذكروه من التسامح في أدلّة السنن ، ولكن عرفت أنّ

ص: 333

مفاد هذه الأخبار غير هذا المعنى.

ثمَّ إنّه بناء على دلالة هذه الأخبار على حجّية الخبر الضعيف في باب السنن ، فللفقيه أن يفتي باستحباب العمل الذي دلّ خبر ضعيف على استحبابه ، فيكون حاله حال سائر الأحكام الشرعيّة التي قامت حجّة معتبرة على ثبوتها ، فيكون مستحبّا في حقّه وفي حقّ مقلّديه.

ولكن عرفت أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على حجّية الخبر الضعيف بالنسبة إلى ثبوت الاستحباب ، كي تكون شرائط حجّية الخبر في إثبات الواجبات غير شرائط حجّيته في باب المستحبّاب.

نعم للفقيه أن يفتي باستحباب ما قام على استحبابه أو وجوبه خبر ضعيف ، فيما إذا تعنون بعنوان البلوغ لا بعنوانه الأوّلي ، ولا من جهة أنّ الخبر الضعيف حجّة - كما توهّم - بل من جهة دلالة حجّة معتبرة وهي أخبار من بلغ على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، كما استظهرنا هذا المعنى منها.

وأمّا إذا احتمل الاستحباب أو ظنّ به من فتوى فقيه ، بل من شهرة أو إجماع منقول ، أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّة شرعا ، فليس له أن يفتي بالاستحباب من ناحية أخبار من بلغ ، لعدم صدق البلوغ ، وعدم دلالة هذه الأخبار على حجّية هذه الأمور على الفرض ، بل دلالتها مختصّة بحجّية الخبر الضعيف.

وأمّا بناء على ما استظهرنا منها من أنّ مفادها استحباب العمل الذي بلغ إليه من ناحية المعصوم أنّ عليه الثواب والأجر كي تكون المسألة فقهيّة ، بخلاف الصورة السابقة فإنّها أصوليّة ، لأنّ مفادها حجّية الخبر الضعيف فيقع كبرى في قياس الاستنباط ، وقد تقدّم مرارا أنّه مناط كون المسألة أصوليّة.

فشمولها لفتوى الفقيه والشهرة وإجماع المنقول والاستحسانات وغير ذلك ممّا ليس بحجّية شرعا منوط على صدق البلوغ ، أي صدق بلوغ الأجر والثواب على

ص: 334

ذلك العمل الذي دلّ أحد هذه الأمور على استحبابه ، فإذا صدق البلوغ يكون مستحبا بأخبار من بلغ ، وإذ ليس فليس.

ولا شكّ في عدم صدق بلوغ الثواب والأجر عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو الأئمّة علیهم السلام بالنسبة إلى فتوى الفقيه والشهرة ، وذلك لأنّ فتوى الفقيه عبارة عن الإخبار عن رأيه لا عن المعصوم علیه السلام ، والشهرة أيضا كذلك عبارة عن أخبار جمع كثير من الفقهاء 5 عن آرائهم لا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فلا يتحقّق بهما - أي الشهرة وفتوى الفقيه - موضوع الاستحباب المستفاد من أخبار من بلغ.

وأمّا الإجماع المنقول إن قلنا بأنّه حجّة وكاشف عن رأي الإمام علیه السلام فيكون خارجا عن محلّ البحث ، وإن قلنا بعدم حجّيته كما هو كذلك فيكون حاله حال الشهرة ، بل هو هو.

وأمّا بناء على أن يكون مفادها أنّ ثواب الانقياد مثل الإطاعة تفضّلا - بدون أن يكون طلب استحبابي في البين - فلا تدلّ هذه الأخبار على استحباب ما دلّ على استحبابه خبر ضعيف ، فضلا عمّا إذا كان منشأ احتمال الاستحباب شيئا آخر - غير الخبر الضعيف - ممّا ذكرنا من مثل الشهرة وإجماع المنقول وغيرهما.

بل تدلّ على أنّ في كلّ مورد يصدق عنوان بلوغ الثواب - إذا كان البلوغ بسبب حجّة على أحد الاحتمالين ، أو مطلقا على احتمال آخر - ففعله التماس ذلك الثواب ، فاللّه تبارك وتعالى يتفضّل عليه بذلك الأجر والثواب وإن لم يكن البلوغ مطابقا للواقع.

فليس للفقيه أن يفتي - بناء على هذا الاحتمال - بالاستحباب حتّى يقلّده العامي ، ويأتي به بعنوان أنّه مستحب ، وليس له أيضا أن يأتي به بعنوان أنّه مستحبّ ، بل له أن يأتي برجاء الواقع والتماس ذلك الأجر والثواب ، كما أنّ له أن يرشد العاميّ إلى ما

ص: 335

هو مضمون ومفاد هذه الأخبار ، بأن يقول أو يكتب : من بلغه عن المعصوم سلام اللّه عليه ثواب أو أجر على عمل ، فأتى بذلك العمل رجاء ، يكون له أجر ذلك العمل.

وهذا ليس من باب الإفتاء وإظهار الحكم الشرعي ، بل من قبيل الإرشاد إلى أمر يترتّب عليه الثواب.

ثمَّ إنّه بناء على استفادة الاستحباب لا فرق بين أن يكون الخبر الضعيف مفاده استحباب الشي ء أو وجوبه ، لاتّحاد المناط فيهما ، وهو بلوغ الثواب والأجر فيهما ، كما أنّه بناء على سائر الاحتمالات أيضا لا فرق في تحقّق الموضوع وصدق البلوغ بينهما.

نعم بناء على استفادة حجّية الخبر الضعيف في باب الاستحباب - كي تكون المسألة أصوليّة كما بيّنّا - فالخبر الضعيف الدالّ على وجوب شي ء لا يثبت به مؤدّاه ، أعني وجوب ذلك الشي ء ، وهل يثبت به الاستحباب؟ بناء على هذا الاحتمال لا يبعد ذلك.

أمّا الأوّل - أي عدم ثبوت الوجوب به - فمن جهة أنّ المفروض دلالة هذه الأخبار على حجّية الخبر الضعيف بالنسبة إلى الاستحباب ، لا فيما إذا كان مفاده الوجوب.

وأمّا الثاني فمن جهة أنّ الخبر الضعيف الذي دلّ على وجوب شي ء ، يدلّ بالدلالة التضمنيّة على مطلوبيّته ورجحانه في ضمن دلالته على وجوبه بالدلالة المطابقيّة.

ويمكن أن يكون حجّة باعتبار دلالته التضمّنية بواسطة هذه الأخبار ، وإن لم يكن حجّة في مدلوله المطابقي ، ولا ملازمة في الحجية بين الدلالتين ولكنّه لا يخلو عن إشكال.

ثمَّ إنّه هل تدلّ هذا الأخبار على كراهة ما دلّ الخبر الضعيف على كراهته أو حرمته؟ فيكون حال الحرمة والكراهة حال الوجوب والاستحباب في التسامح ، بمعنى أنّه تثبت الكراهة بالخبر الضعيف الدالّ على الكراهة أو الحرمة؟

ص: 336

الظاهر عدم دلالتها على ذلك ، فلا يجري التسامح في أدلّة المكروهات ، لأنّ غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام : أنّ الخبر الضعيف الذي قام على كراهة شي ء أو حرمته ، يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على أنّ في ترك ذلك الشي ء أجر وثواب ، كما هو كذلك في تروك الصوم والإحرام ، فيدلّ على استحباب الترك ورجحانه ، فيكون الفعل مرجوحا.

وهذا معنى الكراهة فيما لا يكون الفعل حراما ، كما هو المفروض في المقام ، لأنّ الخبر الضعيف إذا كان ظاهرا في الكراهة فلا وجه لحرمة الفعل ، وإذا كان ظاهرا في الحرمة فلا تثبت الحرمة به لعدم حجّيته لضعفه.

وأنت خبير : بأنّ هذا الكلام - على فرض تماميّته وصحّته - لا يثبت إلاّ استحباب الترك ، لا كراهة الفعل ، لعدم الملازمة بينهما فعلا وتركا ، فيمكن أن يكون الفعل أو الترك مستحبّا ، ولا يكون الطرف الآخر مكروها ، وكذلك يمكن أن يكون الفعل أو الترك مكروها. ولا يكون الطرف المقابل مستحبّا.

هذا مع أنّه لو كان الفعل حراما أو مكروها معناه أنّ فيه مفسدة ملزمة في الأوّل وحزازة في الثاني ، لا أنّ في الترك مصلحة كي يكون له أجر وثواب.

هذا ، مضافا إلى أنّ ظاهر هذه الأخبار ترتّب الأجر والثواب على عمل عمله التماس ذلك الأجر ، والعمل ظاهر في الأمر الوجودي ولا يشمل التروك.

نعم ربما يكون مفاد الخبر الضعيف استحباب ترك أو وجوبه ، كما أنّه ربما يقع ذلك في باب الصوم وباب الإحرام ، فحينئذ يمكن التمسّك لا استحباب ذلك الترك بهذه الأخبار ، لكن هذا خارج عن محلّ البحث والكلام.

ثمَّ إنّه بناء على ما استظهرنا من هذه الأخبار من استحباب العمل الذي صار معنونا بعنوان بلوغ الأجر والثواب عليه ، فلا بدّ من صدق البلوغ عرفا لتحقّق موضوع الاستحباب به ، وذلك لا يكون إلاّ بدلالة الخبر الضعيف عليه بإحدى

ص: 337

الدلالات اللفظيّة الوضعيّة حسب الظهور العرفي. فلو كان الخبر الضعيف غير ظاهر في البلوغ فلا يثبت به الاستحباب.

وبناء على هذا لو ورد خبر ضعيف مطلق بالإطلاق الشمولي ، أو كان عامّا أصوليّا على إكرام جميع العلماء وجوبا أو ندبا ، وورد مقيّد أو مخصّص بالنسبة إلى بعض الحالات ، أو بعض الأفراد أو الأصناف ، فإن كان المقيّد أو المخصّص متّصلا ، حيث أنّهما يمنعان عن انعقاد الظهور بالنسبة إلى المقدار الخارج عن تحت العامّ أو المطلق الذي دلّ على عمومه أو إطلاقه خبر الضعيف ، فلا يصدق البلوغ بالنسبة إلى المقدار الخارج ، فلا يمكن إثبات استحباب ذلك المقدار بأخبار من بلغ ، وذلك لعدم تحقّق موضوعه ، أي البلوغ.

وأمّا لو كان التقييد أو التخصيص بالمنفصل ، فحيث أنّ الظهور لا ينثلم بالمنفصل ، يمكن أن يقال حيث أنّ ظهور المطلق في الإطلاق والعامّ في العموم باق بعد ورود المقيّد والمخصّص المنفصلين ، فيصدق البلوغ وتشمله أخبار من بلغ.

هذا فيما إذا كان المقيّد والمخصّص خبرا ضعيفا غير حجّة ، وأمّا إذا كان مشمولا لدليل الحجّية فربما يقال : حيث يسقط ظهور المطلق والعامّ عن الحجّية في تلك القطعة بواسطة تقديم ظهور المقيّد والمخصّص على ظهورهما ، فلا يصدق البلوغ بالنسبة إلى الظهور إلى الذي ليس بحجّة.

ولكن أنت خبير بأنّ بلوغ شي ء عن شخص بواسطة الإخبار عنه ليس إلاّ أن يكون كلام المخبر وإخباره ظاهرا في أنّه قال كذا ، سواء كان صادقا في إخباره أو كاذبا ، وسواء كان خبره حجّة أو لا.

ولذلك يمكن أن يقال في المتعارضين بعد التساقط أيضا ، كما إذا كان أحدهما ظاهرا في الوجوب أو الاستحباب والآخر في نفيهما ، وإن كان يسقط ما هو ظاهر في الوجوب أو الاستحباب عن الحجيّة ، إلاّ أنّ ظهوره في أحدهما باق فبأخبار من بلغ

ص: 338

يثبت استحبابه.

فلا فرق في صدق البلوغ وشمول أخبار من بلغ لتلك القطعة بين أن يكون ظهورهما حجّة فيها ، أو لم يكن. نعم لو كان مفاد دليل المقيّد والمخصص المعتبر حكما تحريميا ، فلا يمكن القول باستحباب تلك القطعة بأخبار من بلغ.

ثمَّ إنّه هل تشمل أخبار من بلغ فتوى الفقيه باستحباب شي ء أو وجوبه ، فيكون حاله حال الخبر الضعيف ، أم لا؟

الظاهر عدم الشمول ، لأنّ الفقيه يخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب ، وربما يكون منشأ رأيه وحدسه شيئا آخر غير الأخبار المرويّة عنهم علیهم السلام من الاستحسانات ، وتنقيح المناطات بنظره ، فلا ربط حينئذ بين الإخبار عن رأيه وفتواه ، وبين البلوغ عن النبي صلی اللّه علیه و آله مع أنّه لو كان منشأ رأيه وفتواه هي الأخبار أيضا لا يفيد ؛ لأنّه فرق بين رأيه المستنبط عن الأخبار وبين نقل ما قاله النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فالأوّل ليس اخبارا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا يصدق عليه البلوغ عن النبيّ بخلاف الثاني كما هو واضح.

ثمَّ إنّه هل تشمل هذه الأخبار مورد الخبر الضعيف الذي مفاده وقوع بعض المصائب لأهل البيت علیهم السلام أو للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن يقال : حيث أنّه من المسلّم والمقطوع أنّ البكاء على مصائبهم علیهم السلام له أجر وثواب عظيم ، فمفاد هذا الخبر الضعيف ينتهي إلى الأجر والثواب على البكاء في هذه المصيبة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام مغالطة عجيبة ، لأنّ كون البكاء على مصائبهم موجبا للأجر والثواب أمر مسلّم مقطوع ، فالمهمّ إثبات الصغرى وهي وقوع هذه المصيبة في الخارج ، وهي حيث أنّها من الموضوعات الخارجيّة فلا يثبت بالخبر الصحيح الواحد ، فضلا عن الخبر الضعيف.

نعم يمكن أن يقال : إذا كان البكاء لظنّ وقوع مصيبة أو احتماله عليهم علیهم السلام يوجب الأجر والثواب ، فكما أنّ الخبر الصحيح موجب لتحقّق موضوع الأجر

ص: 339

والثواب - أي الظنّ أو احتمال وقوع تلك المصيبة - فكذلك الخبر الضعيف.

وهذا لا ربط له بأخبار من بلغ ، وما قلنا جار في جميع الموضوعات الخارجيّة التي دلّ على وجودها خبر ضعيف وإن كان العمل المتعلّق بذلك الموضوع كان له أجر وثواب.

وأمّا جواز نقل ما هو مضمون الخبر الضعيف الوارد في مصائبهم علیهم السلام واستناده إليهم صلوات اللّه عليهم فأجنبيّ عن مقامنا.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً

ص: 340

فهرس الموضوعات

ص: 341

ص: 342

26 - قاعدة : عموم حجية البينة

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى : في بيان المراد من البينة... 9

أدلة عموم حجية البينة :

الأول : رواية مسعدة... 11

الثاني : الاجماع... 15

الثالث : الاخبار... 16

الرابع : الآيات... 19

الخامس : سيرة العقلاء... 21

تخصيص القاعدة بموارد... 22

ذكر الأمور المعتبرة في حجية البينة :

الامر الأول : الموضوع الذي تقوم عليه البينة لا بد وأن يكون له أثر شرعي... 22

الامر الثاني : هل شهادة المرأة خارجة عن موضوع البينة أم لا؟... 25

الامر الثالث : عند قيام البينة على موضوع يجب ترتيب أثر ذلك الموضوع... 27

تتميم

عدم حجية الخبر العدل الواحد في الموضوعات... 29

الجهة الثانية : في نسبة هذه القاعدة مع سائر الأدلة... 36

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة... 39

ص: 343

27 - قاعدة إقرار العقلاء

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو أمور... 45

الأول : اتفاق العقلاء... 45

الثاني : إجماع كافة علماء الاسلام... 46

الثالث : الاخبار... 47

الرابع : الآيات... 48

الجهة الثانية : بيان مفاد القاعدة... 50

التنبيه على أمور :

الامر الأول : بيان مفهوم كلمة الاقرار لغة وعرفا... 57

الامر الثاني : هل نفي الحق عن نفسه بعد إقرار الطرف بأنه له يعد إقرارا على نفسه؟ 58

الامر الثالث : الانكار بعد الاقرار لا أثر له... 60

الامر الرابع : أمارية الاقرار هل مختصة بما إذا كان في قبال من يدعي ما أقر به أو أمارة مطلقا؟ 61

الجهة الثالثة ، في موارد تطبيق هذه القاعدة... 62

28 - قاعدة : البينة على المدعي واليمين على من أنكر

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى : في مدركها :... 71

الأول : الحديث : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر )... 71

الثاني : الاجماع من جميع علماء الاسلام... 72

ص: 344

الجهة الثانية : بيان المراد من هذا الحديث... 73

وجوه في تعريف المدعي... 74

التكلم عن أمور :

الأول : فيما إذا شك في تشخيص المدعي عن المنكر ، فهل يمكن التمسك لاثبات ما يدعيه بالبينة أم لا؟ 81

الثاني : يعتبر في سماع الدعوى عن المدعي أمور :... 84

منها : كونه واجدا لشرائط التكليف... 84

ومنها : أن يكون ما يدعيه على خصمه لنفسه أو لموكله أو لمن له الولاية عليه 86

ومنها : أن يكون ما يدعيه مما يصح تملكه شرعا... 87

ومنها : أن يكون ما يدعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة وجائزا شرعا... 87

ومنها : أن يكون ما يدعيه معلوما بالنوع والوصف والقدر... 87

ومنها : أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدعي عينا أو مالا أو حقا على المدعى عليه 88

ومنها : أن يكون خصم في مقابله يخاصمه وينكر ما يدعيه... 89

ومنها : كون دعواه عن بت وجزم... 90

ومنها : تعيين المدعى عليه... 93

ومنها : عدم شرط حضور المدعى عليه... 94

الجهة الثالثة : موارد تخصيص هذه القاعدة... 99

تخصيصات جملة « البينة على المدعي » :... 99

منها : ليس على الأمين بينة إذا ادعى التلف لما في يده... 100

ومنها : قبول قول الودعي في رده الوديعة إلى مالكها بدون البينة... 100

ومنها : قبول قول المالك في نفي تعلق الزكاة بماله بلا بينة عليه و

ص: 345

لا يمين... 101

تخصيصات جملة « اليمين على من أنكر »... 104

منها : عدم تخصيص القاعدة بيمين الاستظهار... 104

مدرك هذا الحكم - يمين المدعي على الميت - الاجماع والاخبار... 105

منها : موثقة عبد الرحمن... 105

ومنها : صحيح الصفار... 105

فروع في المسألة بحثها الفقهاء في كتاب القضاء... 106

29 - قاعدة كل مدع يسمع قوله فعليه اليمين

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 111

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعدة... 112

الاستدلال على لزوم الحلف للمدعي بأمور :

الأول : إن الحكم في مقام المخاصمة يكون بالبينة واليمين... 112

الثاني : قول المدعي حجة... 113

الثالث : الاجماع على أن كل مدع يسمع قوله ولا يطالب بالبينة فعليه اليمين 113

الرابع : الاحتياج إلى اليمين عند قبول قول المدعي بدون بينة لمخالفة قوله للحجة الفعلية 114

الخامس : لا يحكم للمدعي بشاهد واحد عادل ، بل لا بد من ضم يمينه إليه ، ويجب عليه اليمين عند فقد الشاهد 115

السادس : أن لقوله صلی اللّه علیه و آله « البينة على المدعي واليمين ... » دلالتين... 116

الجهة الثالثة : بيان موارد هذه القاعدة... 117

ص: 346

الكبريات الأربع :

الأولى : كون المدعي أمينا... 119

الثانية : المدعي بلا معارض... 120

الثالثة : من ملك شيئا ملك الاقرار به... 124

الرابعة : يسمع كل دعوى لا يعلم إلا من قبل مدعيها... 124

واستدلوا لهذه الكبرى بوجوه

الأول : الاجماع... 124

الثاني : إذا كان دعوى المدعي لا يعلم إلا من قبله فلا يمكن إقامة البينة عليه ، ويبقى النزاع بلا حسم 125

الثالث : ورود أخبار بأن الحيض والعدة إلى النساء... 126

الرابع : لا يحكم للمدعي بدون يمين ، لمخالفة قوله للحجة الفعلية... 127

تذييل : لا يسمع دعوى المدعي فيما لو أظهر خلاف ما يدعيه... 129

30 - قاعدة : العقود تابعة للقصود

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 135

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعدة ، وهو أمور :... 141

الأول : الاجماع... 141

الثاني : عدم ترتب الأثر على كل عقد وعهد وإيقاع بمقتضى الأصل الأولي ، إلا بدليل على الصحة وترتيب الأثر 141

الثالث : وقوع المسبب والمنشأ في عالم الاعتبار التشريعي تابع لما قصده المتعاقدان 142

الجهة الثالثة : بيان موارد تطبيق هذه القاعدة... 145

ص: 347

يجب التنبيه على أمور :

الأول : الاخذ بظواهر الألفاظ في مقام الاثبات ، لان هذا الحكم واقعي وفي مقام الثبوت 145

الثاني : صرف الإرادة والقصد لا أثر لهما ما لم يكن طبقهما انشاء... 146

الثالث : الاحكام والآثار المترتبة على المنشأ شرعا ليست تابعة لقصدها... 146

الرابع : صحة عقد المكره الملحوق برضاه ليس نقضا على هذه القاعدة... 146

فمن موارد القاعدة : بيع المعاطاة... 148

ومن موارد القاعدة : بطلان عقد الزواج المنقطع لو نسي ذكر الأصول والمدة... 150

فتوى المشهور بحصول الزوجية الدائمة ليس مخالفا لهذه القاعدة... 152

31 - قاعدة : انحلال العقود

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 159

أقسام الانحلال الثلاثة... 164

الجهة الثانية : في بيان مدرك هذه القاعدة ، وهو أمور :... 166

الأول : الاجماع... 166

الثاني : بناء العرف والعقلاء في معاملاتهم... 166

الثالث : الانحلال على طبق القواعد الأولية وليس أمرا خارجا عنها... 168

الرابع : عدم خلاف قاعدة الانحلال لقاعدة العقود تابعة للقصود... 169

الجهة الثالثة : موارد تطبيق هذه القاعدة جميع العقود والايقاعات... 171

ص: 348

32 - قاعدة : الالزام

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو أمران :... 179

الأول : إجماع الإمامية... 179

الثاني : الروايات... 179

الجهة الثانية : في بيان مفاد هذه القاعدة... 182

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة... 188

منها : مسألة التعصيب... 188

ومنها : مسألة الطلاق على غير السنة... 189

ومنها : يجوز للشيعي أن يرتب آثار الصحة على طلاق المخالفين وإن لم يكن عنده صحيحا بقاعدة الالزام 195

ومنها : أبواب الضمانات... 198

جملة من موارد الضمانات... 198

33 - قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسببات

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في المراد منها... 209

الجهة الثانية : في بيان الأدلة على هذه القاعدة... 214

الأول : الشك في تداخل الأسباب... 214

الثاني : أن البحث مختص بالأسباب الشرعية... 218

الثالث : بطلان التوهم بالتنافي بين قولي المشهور... 221

دليل العلامة على هذه القاعدة من المقدمات الثلاث... 229

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة... 237

ص: 349

أمور لا بد من ذكرها :

الأول : هل هذه القاعدة من القواعد الفقهية أم من القواعد الأصولية؟... 239

الثاني : هل تعدد السبب يوجب تعدد المسبب أم لا؟... 240

الثالث : فيما إذا كان المسبب واحدا بالنوع وكان من الممكن تعدد وجوده بحسب الخصوصيات الفردية 243

الرابع : كفاية مسبب واحد عن الأسباب المتعددة... 244

34 - قاعدة : المؤمنون عند شروطهم

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو أمور :... 249

الأول : الاخبار... 249

الثاني : الاجماع... 253

الثالث : يجب الوفاء بالشروط الواقعة في ضمن العقود باعتبارها تابعة لها ومرتبطة بها 253

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة ، وفيه أمور :... 254

الامر الأول : في شرح ألفاظ القاعدة... 254

الامر الثاني : الفرق بين الشروط الابتدائية والشروط الواقعة في ضمن العقود 255

الامر الثالث : في بيان شرائط صحة الشروط الواقعة في ضمن العقود... 257

الشرط الأول : أن يكون مقدورا للمشروط عليه... 258

الشرط الثاني : أن يكون سائغا شرعا... 259

الشرط الثالث : أن يكون مما فيه غرض يعتد به عند العقلاء... 259

الشرط الرابع : أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنة... 259

ص: 350

الشرط الخامس : أن لا يكون منافيا لمقتضى العقد... 267

الشرط السادس : أن لا يكون الشروط مجهولا... 279

الشرط السابع : أن لا يكون الشرط مستلزما للمحال... 281

الشرط الثامن : أن يلتزم به في متن العقد... 285

الشرط التاسع : من شرائط صحة الشروط التنجيز... 290

خاتمة :

في بيان أحكام الشروط الصحيحة ، وهي ثلاثة أقسام :

الأول : شرط الصفة... 293

الثاني : شرط الغاية أو النتيجة... 296

الثالث : شرط الفعل... 299

فيه أمور :

الأول : يجب على المشروط عليه الوفاء بالشرط إذا كان الفعل المشروط جامعا للشروط الثمانية 300

الثاني : هل للمشروط له الفسخ مع التمكن من الاجبار أم لا؟... 303

الثالث : لو تعذر الشرط فللمشروط له الخيار فقط... 304

الرابع : هل للمشروط له فسخ المعاملة واسترجاع العين أو الرجوع إلى المثل أو القيمة عند التلف ، لو تعذر الشرط؟... 308

الخامس : هل للمشروط له إسقاط شرطه أم لا؟... 311

السادس : هل يسقط الثمن على المبيع والشرط - في الشرط الواقع في ضمن عقد البيع - أم لا؟ 313

الصور الأربعة للشرط كما في مثال : إذا باع صبرة... 315

ص: 351

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة... 323

35 - قاعد : التسامح في أدلة السنن

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في شرح مفهوم هذه القاعدة والمراد منها... 327

الجهة الثانية : في مدركها : وهو الأخبار المعتبرة... 328

الاحتمالات في مفاد الاخبار :

منها : حجية خبر الضعيف... 329

منها : أن مفادها أن الانقياد في ترتب الثواب مثل الإطاعة... 331

ومنها : أن مفادها هو الارشاد إلى ما حكم به العقل ، من حسن الاحتياط والترغيب فيه بإتيان محتمل المطلوبية 332

ص: 352

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الرابع

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 4

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

فهرس الإجمالى

36 - قاعدة : الإحسان... 9

37 - قاعدة : الولد للفراش وللعاهر الحجر... 23

38 - قاعدة : وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه... 53

39 - قاعدة : مشروعية عبادات الصبي... 109

40 - قاعدة : الميسور لا يسقط بالمعسور ... 127

41 - قاعدة : حجية سوق المسلمين... 155

42 - قاعدة : عدم شروطية البلوغ في الأحكام الوضعية... 173

43 - قاعدة : الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد... 189

44 - قاعدة : الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها... 229

45 - قاعدة : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب... 319

ص: 5

ص: 6

36 - قاعدة الإحسان

اشارة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وأهل بيته الطيبين لطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

قاعدة الإحسان (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة الإحسان ».

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2) والآية وإن كانت واردة في مورد قعود العاجزين عن الجهاد لفقرهم ، وعدم تمكّنهم من تحصيل الزاد والراحلة

ص: 9


1- (*) « الحق المبين » ص 125 ، « عناوين الأصول » عنوان 64 ، « مجموعه رسائل » ص 479 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 170 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 9 ، « قواعد فقه » ص 264 ، « القواعد » ص 27 ، « قواعد فقه » ج 2 ، ص 264 ، « قواعد فقهي » ص 41 ، « قواعد فقهية » ص 273 ، « القواعد الفقهيّة » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 281 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4
2- التوبة (9) : 91.

للسفر مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك ، حتّى أنّ بعضهم لم يجدوا نعلا ، فسألوا النبي صلی اللّه علیه و آله أن يحملهم على الخفاف المدبوغة ، والنعال المخصوفة ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « لا أجد ما أحملكم عليه ، فتولّوا وهم يبكون ، وهم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن ، فأنزل اللّه تعالى في حقّهم ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).

فظاهر الآية بناء على هذا نفي السبيل ، أي العقاب الأخروي ، والعتاب من المجاهدين عليهم لتخلّفهم عن الجهاد عن هؤلاء المتخلّفين العاجزين ، مقيّدا بنصحهم لله ورسوله ، ولكنّ العبرة بعموم الآية من حيث المفاد لفظا ، ولا اعتبار بخصوصيّة المورد.

وكثير من الآيات القرآنيّة واردة في موارد خاصّة ، ولكنّ الفقهاء يستدلّون بعمومها فيما هو خارج عن المورد. نعم لا بدّ وأن يكون العموم يشمل المورد ، لأنّ تخصيص المورد مستهجن.

فلا بدّ لنا من شرح هذا الكلام الشريف والجملة المباركة ، أي قوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) وأنّه ما هو الظاهر والمتفاهم العرفي منها.

فنقول : أما كلمة « المحسنين » فهو جمع معرّف باللام يفيد العموم ، وأمّا « الإحسان » هو صدور الجميل من قول أو فعل بالنسبة إلى غيره ، وذلك قد يكون بإيصال نفع إليه مالي أو اعتباري ، وقد يكون بدفع ضرر مالي أو اعتباري عنه.

والسبيل المنفي حيث أنّه نكرة واقعة في سياق النفي يفيد العموم ، لأنّ انتفاء الطبيعة لا يتحقّق إلاّ بانتفاء جميع أفرادها ، وإلاّ يلزم اجتماع النقيضين. فإذا كان مفاد الآية عموم النفي ، أي كون السبيل منفيّا بطور العموم ، ويكون السلب كليّا لا

ص: 10


1- التوبة (9) : 91.

المسلوب فقط ، فوجوده ولو كان في مورد واحد نقيضه ، لأنّ الموجبة الجزئيّة نقيض السالبة الكليّة.

فالآية بظاهرها تدلّ على نفي كلّ ما يصدق عليه أنّه سبيل عن كلّ من هو محسن ، فهذه كبرى ثابتة من الآية الشريفة تكون دليلا وحجّة لجميع مواردها في الفقه ، ولا يزال الفقهاء يستدلون بها على نفي الضمان في موارد الإحسان.

والسبيل جاء بمعنى : السبّ ، والشتم ، والحرج ، والحجّة ، والطريق. والظاهر أنّه في الآية بمعنى الحجّة والحرج.

وإن شئت قلت : بمعنى المؤاخذة ، أي ليس على المحسن مؤاخذة فيما تسبب عن إحسانه.

ولا شكّ في أنّ الضمان سبيل بأيّ معنى كان من المعاني المذكورة ، فتدلّ الآية على أنّ الفعل الذي صدر من المحسن وإن كان ذلك الفعل في حدّ نفسه سبب وموجب للضمان ، ولكن إذا كان محسنا فلا يوجب الضمان.

مثلا لو كان حيوانا جائعا صاحبه غائب ، وليس من يعلفه ، فأخذه وعلفه ، فصار سببا لتلفه من باب الاتّفاق ، فلا ضمان على المحسن. أو أدخله في اصطبله لحفظه عن البرد أو السبع ، ثمَّ وقع عليه البناء وتلف ، فليس عليه سبيل ، لأنّه محسن. أو الطبيب الذي أخذ المريض الفقير إلى داره ليعالجه ويعطيه الدواء والغذاء ، ولكن من باب الاتّفاق لدغته حيّة أو عقرب فمات فلا سبيل عليه ، لأنّه محسن.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الجملة كبرى كلّية تنطبق على جميع موارده ، إلاّ أن يأتي دليل مخصّص ويخصّصه ، فهو عامّ شرعي ، كسائر العمومات الشرعيّة قابلة لورود التخصيص عليه ، وما لم يكن مخصّصا في البين يؤخذ بعمومه.

وان شئت قلت : إنّ هذه الجملة تنحلّ من ناحية الموضوع إلى قضايا متعدّدة بعد أفراد الموضوع ، فيكون مفادها أنّ كلّ واحد من أفراد المحسنين ليس عليه كلّ ما

ص: 11

يصدق عليه السبيل.

نعم بقي شي ء : وهو أنّه موضوع الحكم هل هو الإحسان في قصده واعتقاده وإن كان إساءة في الواقع؟ أو هو الإحسان واقعا وإن لم يعلم أنّه إحسان ، بل وإن قصد به الإساءة ، أو كلاهما؟ أي يكون إحسانا واقعا وهو أيضا يكون قاصدا للإحسان؟ وجوه.

والظاهر أنّه دائر مدار الإحسان الواقعي وإن لم يقصد به الإحسان ، لأنّ الظاهر من العناوين والمفاهيم - الذي أخذ موضوعا للحكم الشرعي - هو واقعها والمعنى الحقيقي لها ، إلاّ أن يكون المتفاهم العرفي معنى آخر غير المعنى الحقيقي ، ولا شكّ في أنّ العرف لا يفهم من لفظ « الإحسان » غير ما هو المعنى الحقيقي له. نعم هذا بحسب ما يستفاد من هذه الجملة.

وأمّا الدليل العقلي والإجماع فسترى ما يكون مفادهما.

الثاني : حكم العقل بقبح مؤاخذة المحسن على إحسانه ولعلّ إلى هذا يشير بطور الاستفهام الإنكاري قوله تعالى ( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) (1) أي مكافاة الإحسان يكون بالإحسان إلي المحسن ، لا الإساءة إليه.

وبعبارة أخرى : شكر المنعم حسن بحكم العقل وعند العقلاء ، ولا شكّ في أنّ المحسن منعم ، فشكره ، أي جزاءه بالإحسان إليه قولا أو عملا حسن ، كما أنّ كفران نعمته قبيح.

ومعلوم أنّ تغريم المحسن وتضمينه فيما أحسن إليه كفران لما أنعم عليه ، وذلك كما في المثال الذي ذكرنا أنّه لو رأى غنم شخص صاحبه غائب عنه ، فأدخله في داره للحفظ عن التلف وأن لا يفترسه السباع ، فانهدم البناء وتلف ، فتغريم هذا الشخص وتضمينه قبيح بحكم العقل ، ويكون إساءة في مقابل جميلة وإحسانه ، لأنّه وإن وضع

ص: 12


1- الرّحمن (55) : 60.

يده عليه بدون إذن صاحبه ، إلاّ أنّه كان بقصد الإحسان وحفظ ذلك الحيوان عن التلف ، وفي الواقع كان إحسانا من جهة حفظه عن السباع ، لا أنّه صرف قصد الإحسان ، وإنّما وقع عليه التلف بجهة أخرى غير جهة إحسانه ، وهو انهدام البناء من باب الاتّفاق.

فتغريمه في مثل هذه الصورة قبيح ، فيستكشف من هذا الحكم العقلي ملاك حرمة تغريم المحسن وتضمينه في الفعل الذي صدر عنه بقصد الإحسان وكان واقعا إحسانا ، وإن تضرّر صاحب الحيوان من ناحية أخرى وتلف ماله.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب حكم العقل بقبح تغريم المحسن وتضمينه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف استحسان ، وإثبات الحكم الشرعي أو نفيه عن موضوعه لا يجوز بالظنون الاستحسانيّة ، بل لا بدّ من قيام دليل وحجّة ثبت حجّيته بالحجّة القطعيّة على ثبوته أو نفيه ، فلو وجد سبب الضمان من إتلاف ، أو يد غير مأذونه ، أو تعدّ ، أو تفريط من الأمين ، أو غير ذلك من أسباب الضمان لا يصحّ الحكم بعدم الضمان بصرف هذا الاستحسان.

الثالث : من أدلّة هذه القاعدة هو الإجماع ، فإنّ الفقهاء يستدلّون بها في كتبهم وفتاويهم على عدم ضمان المحسن من نكير منهم ، مثلا إذا كان المال الذي أودعه المودع عند شخص ، وكان ذلك الشخص غيّر مكان الوديعة لاعتقاده أنّه أحفظ ، وكان ذلك المكان واقعا أحفظ ، وكانت الوديعة من الأحجار الكريمة فانكسر ، فلا ضمان على الودعي ، لأنّه محسن في هذا النقل ، وإن كان بغير إذن المودع.

حتّى قال بعضهم : أنّه يجوز النقل إلى مكان أحرز ولو مع نهي المالك المودع عن النقل ، بل ادّعى الإجماع على عدم الضمان فيما نقل مع خوف التلف ، معلّلا بأنّه محسن في هذا الفعل و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) .

والحاصل : أنّ استدلالهم على عدم الضمان بهذه القاعدة وإن كان من المسلّمات ،

ص: 13

فهذا صاحب الجواهر قدس سره يستدلّ على قبول قول الودعي إن ادّعى التلف بالإجماع ، وبأنّه محسن قابض لمصلحة المالك (1). ولكن استدلالهم بهذه القاعدة في عدم الضمان لعلّه مستند إلى الآية الشريفة ، بل الظاهر أنّه كذلك ، لا أنّه صرف الاحتمال ، ومع هذا كيف يمكن أن يكون من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ عمدة المدرك لهذه القاعدة هو عموم الآية الشريفة (2) بناء على إلقاء خصوصيّة المورد ، كما بيّنّا وتقدّم مفصّلا.

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

فنقول : المراد منها - وإن ظهر ممّا بيّنّا في شرح أدلّتها ، خصوصا ما ذكرنا في شرح الآية المباركة ، ولكن نبيّن توضيحا لما سبق - أنّ الذي يفعل فعلا يكون موجبا للضمان والتغريم في حدّ نفسه ، كما أنّ الولي أو القيّم على الصغير لو صدر فعل عنه في مال الصغير من باب الإحسان إليه ، وكان ذلك الفعل في الواقع إحسانا ، لا أنّه اعتقد أنّه إحسان وفي الواقع لم يكن إحسانا ، لأنّ موضوع القاعدة هو الإحسان الواقعي لا تخيّل الإحسان ، ولكن اتّفق أنّه ترتّب على ذلك الفعل ضرر. كما أنّه لو نقل متاعه في البحر لانتفاع أكثر فغرق ، أو في البرّ فسرق ، فليس عليه الضمان ، لأنّه كان محسنا في هذه الفعل ، وهذا الفعل في حدّ نفسه إحسان إليه ، والغرق والحرق والسرقة أمر اتّفاقي.

ووجود هذه الأمور من باب الاتّفاق لا يمنع التجّار عن تجاراتهم ومكاسبهم ، كما أنّه لا يمنع عن صدق الإحسان إلى القصر إذا صدر عن الأولياء.

ص: 14


1- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 147.
2- التوبة (9) : 91.

وخلاصة الكلام : أنّ مفاد هذه القاعدة ففي السبيل مطلقا على كلّ واحد من أفراد المحسنين ، فهذه قضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة ، مثل قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1) حيث أنّه تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بعدد أفراد الموضوع ، أي اجتنبوا عن هذا الخمر وذاك وهكذا.

وحاصل معناها : أنّ كلّ ما وجد في الخارج وصدق عليه أنّه خمر يجب الاجتناب عنه ، وهذا هو معنى الانحلال ، وفيما نحن فيه أيضا معنى الانحلال هو أنّ كلّ من وجد في الخارج وكان محسنا فلا سبيل عليه ، ولا شك أنّ الضمان والتغريم سبيل عليه ، فيرجع المعنى إلى أنّه لا ضمان ولا غرامة في الفعل الذي صدر عن كلّ محسن بجهة الإحسان وكان في الواقع إحسانا ، لا ما تخيّل أنّه إحسان مع أنّه ليس بإحسان.

وبعبارة أخرى : نفي السبيل على المحسن باعتبار إحسانه ، فإنّ تعليق الحكم على الوصف وجعله موضوعا مشعر بهذا المعنى ، فيفيد أنّ الفعل الذي صدر بعنوان الإحسان وكان إحسانا واقعا ، ولكن من باب الاتّفاق ترتّب عليه ما يوجب الضمان لا يضمن ولا يغرم ، لأنّه محسن.

ثمَّ إنّه لا فرق في صدق الإحسان بين أن يكون فعل المحسن لجلب المنفعة لذلك الذي يريد الإحسان إليه ، أو يكون لدفع المضرّة عنه ، فكلاهما إحسان ، فكما أنّ جلب المنفعة له إحسان إليه ، كذلك دفع الضرر عن نفسه أو عن ماله إحسان إليه ، وربما يكون صدق الإحسان على دفع الضرر في بعض المصاديق والموارد أولى بنظر العرف من صدقه على جلب المنفعة ، خصوصا إذا كان دفع الضرر لحفظ النفس عن الهلاك ، فأيّ إحسان أعظم من هذا.

ص: 15


1- المائدة (5) : 90.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : تارة : يكون إحسانه إلى صاحب المال باعتبار دفع الضرر المالي أو النفسي عنه ، وأخرى : باعتبار جلب المنفعة له.

فمن الأوّل : لو رأى اشتعال النار في لباسه بحيث لا طريق إلى حفظ نفس ذلك الشخص عن الاحتراق إلاّ بتمزيق ألبسته ، فمزّقها ، فحيث أنّه محسن إليه في هذا الفعل فلا يضمن.

وكذلك لو كان البزّاز اشتعل النار في دكّانه ، فهو لدفع الضرر عنه وعدم احتراق أجناسه الغالية القيّمة هدم مقدارا من الدكّان ، لعدم وصول النار إلى تلك الأجناس ، فلا ضمان عليه ، لأجل أنّه محسن إليه في هذا الفعل فلا سبيل عليه.

أو أخرج الأجناس من دكّانه مع العجلة والسرعة خوفا من احتراقها في أثناء اشتغاله بتفريق المحلّ عن الأجناس ، ووقع التلف على بعضها فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

وكذلك الأمر لو أشرف شخص على الغرق ، ولم يمكن نجاته إلاّ بأن يتلف بعض ما معه من الأموال من الألبسة وغيرها ، فأتلفها لاستخلاصه فلا ضمان عليه ، لأنّه محسن في هذا الفعل الذي صدر عنه لدفع الضرر عن صاحب المال التالف.

وكذلك لو رأى ربّان السفينة أنّ السفينة مع الأموال الكثيرة التي فيها أشرفت على الغرق لثقلها ، والمفروض أنّ السفينة وجميع الأموال لمالك واحد ، فألقى مقدارا من تلك الأموال في البحر لحفظ السفينة وباقي الأموال فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

وكذلك لو كان السيل متوجّها إلى داره ، أو خانه الذي محلّ تجارته وفيهما أموال كثيرة ، فسدّ السيل عنهما ببعض فروش داره أو أثاث بيته من الأجناس والأنواع

ص: 16

الآخر ، أو غيّر مجرى السيل منهما إلى مزرعته ، فوقع التلف على فروشه وأثاث بيته أو على زرعه فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

ولا يخفى أنّ ما قلنا من عدم الضمان ، يصحّ فيما إذا كان الضرر الذي يرد عليه أقلّ من الضرر الذي يدفع عنه إذا كان الذي يدفع عنه ماليّا ، لأنّه لو كان أكثر بل ولو كان مساويا لا يعدّ هذا الفعل إحسانا إليه ، بل إذا كان الضرر الذي يدفع عنه أقلّ من الضرر الذي يرد عليه يكون هذا إساءة لا إحسانا ، وإذا كان مساويا يكون لغوا لا إحسانا ، إلاّ أن يكون جهة أخرى غير الماليّة ، فيخرج عن اللغويّة ، بل ربما يوجب صيرورته إحسانا وإن كان مساويا مع الضرر الذي يدفعه عنه من حيث الماليّة.

وكذلك الودعي لو أراد المسافرة التي لا يمكن له تركها ، ولا يمكن له الوصول إلى مالك الوديعة كي يردّها ، فيجوز له دفنها في محلّ الأمن إن لم يأمن - مع كونه ظاهرا بارزا - عن سرقته أو غصبه أو تلفه بشكل. فلو دفنه مع هذا الخوف ، فوقع عليه التلف من باب الاتّفاق فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

قال في الجواهر : كما أنّه لو خشي المعاجلة ، أو خاف عليها من معاجلة السارق أو الظالم لم يضمن حينئذ بالدفن المراعى مقدار ما يتمكّن منه من الحرزيّة والأعلام ونحوهما ، لانحصار طريق حفظها حينئذ بذلك ، وكذا لو كان السفر ضروريّا له ، وخاف معاجلة الرفقة ، فدفنها مراعيا ما سمعت بعد تعذّر ما وجب عليه من الردّ على الوجه المزبور (1). انتهى كلامه.

والحاصل أنّ موارد تطبيق على قاعدة الإحسان في هذا القسم - أي : فيما إذا كان الإحسان باعتبار دفع الضرر عمّن يحسن إليه - كثيرة لا يمكن في هذا المختصر استيفاؤها واستقصاؤها.

وأمّا موارد تطبيق هذه القاعدة في القسم الثاني ، أي فيما إذا كان الإحسان باعتبار

ص: 17


1- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 145.

جلب المنفعة وإيصالها إلى الذي يريد أن يحسن إليه فكثيرة أيضا.

فمنها : الأفعال الكثيرة التي تصدر من الأولياء لإيصال النفع إلى المولّين عليهم ، فاتّفق ترتّب الضرر على تلك الأفعال ، فلا ضمان لهم ، لأنّهم محسنون في تلك الأفعال إليهم. مثلا أحد الأولياء هو الحاكم ، فلو تصرّف في مال المولّى عليه لإيصال النفع إليه ، كما أنّه اشتغل في قناة له بالحفر والإصلاح لازدياد الماء ، فصار سببا لانهدام القناة ، فلا ضمان عليه ، لأنّه كان محسنا إليه. أو فتح طريق السيل إلى مزرعته أو بستانه لشرب الماء ونموّ زرعها ، أو نموّ أشجار البستان فاتّفق أنّ ذلك السيل أفسد تلك المزرعة وذلك البستان ، فلا ضمان عليه.

وكذلك لو أعطى الحاكم النقود التي عنده لأجرة العبادات للأجير الذي ثقة عنده فاتّفق أنّه لم يأت بتلك العبادة ومرض ومات ، ولم يترك مالا كي يؤخذ ما أعطاه الحاكم عن تركته ، فلا ضمان على الحاكم ، لأنّه محسن إلى صاحب المال.

وكذلك الحال في الأب والجدّ من طرف الأب بالنسبة إلى أموال صغيرهما ، فلو حبسوا طعامه ومتاعه ولم يبيعاه التماس زيادة الثمن ، فنزل السعر أو فسد الطعام والمتاع ، فلا ضمان عليهما ، لأنّهما محسنان في تأخير البيع.

وهذا فيما إذا كان نزول السعر أو فساد المتاع من باب الاتّفاق ، وإلاّ لو كان النزول أو فساد المتاع غالبيّا ، فتأخير البيع ليس إحسانا ، بل ربما يكون إساءة ، وذلك كالمنسوجات التي مادّتها صوف أو وبر ، فإبقاؤها وتأخير بيعها خصوصا في الصيف يوجب غالبا فسادها وإتلافها ، بواسطة أنّه غالبا تلك المنسوجات في الصيف في معرض أكل العثة.

وهكذا تأخير بيع الفواكه التماس زيادة الثمن ، لأنّ إبقاء الفواكه وتأخير بيعها غالبا ممّا يوجب فسادها ، فالتأخير في أمثال هذه لطلب زيادة الثمن وإيصال النفع ليس إحسانا ، بل يكون في بعض الصور إساءة.

ص: 18

وكذلك الأمر فيما لو زرع زرعا للمولّى عليه لإيصال النفع إليه ، ولكن من باب الاتّفاق بواسطة حوادث الجوّ فسد ذلك الزرع ، أو صار حاصل ذلك الزرع رخيصا وقليل الفائدة ، بحيث لم يف بنصف ما صرف في ذلك الزرع ، فلا ضمان على الوليّ ، لأنّه كان محسنا في ذلك الفعل.

وكذلك لو أجر سفينته أو أباعرة وجماله للركوب أو للحمل ونقل المتاع من مكان إلى مكان آخر ، فغرقت السفينة ، أو تلفت الأباعر والجمال ، فلا ضمان على الوليّ ، كما ذكرنا من أنّه محسن في هذا الفعل ، وقد نفى اللّه سبحانه وتعالى السبيل على المحسنين ، وقد تقدّم أنّ موارد تطبيق هذه القاعدة كثيرة ، ولا يمكن استقصاؤها واستيفاؤها تماما.

وقد أورد بعضهم ها هنا إيرادا ، وهو أنّ الفقهاء - قدّس اللّه أسرارهم - ذكروا في باب اللقطة أنّ الملتقط بعد اليأس عن إيصال المال إلى صاحبه يتصدّق بذلك المال عن طرف صاحبه المجهول ، لأنّ هذا أيضا نحو إيصال إلى المالك وإحسان إليه ، ومع ذلك حكموا بأنّه ضامن للمالك إن ظهر وعلم به بعد أن تصدّق ، وهذا الحكم منهم مناف لعموم هذه القاعدة.

ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنّ الشارع حكم بجواز التصدّق مع الضمان إن ظهر صاحبه ، والتصدّق إحسان بهذا القيد ، وإلاّ فصرف التصدّق بدون أن يكون في البين ضمان - على تقدير ظهور صاحبه وتبيّنه - يكون إحسانا مشكل.

وهذا الحكم ليس مختصّا باللقطة ، بل قالوا به في كلّ ما هو مجهول المالك ، كما لو وقعت في يده الأموال المسروقة أو المغصوبة التي لا يعلم صاحبها ، فبعد اليأس عن الإيصال إلى صاحبها يجب عليه أن يعطيها صدقة بشرط ضمانها لو ظهر صاحبها أو أصحابها.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 19

ص: 20

37 - قاعدة الفراش

اشارة

ص: 21

ص: 22

قاعدة الفراش (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المعروفة قاعدة « الولد للفراش ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

فنقول : وهو الحديث المشهور المعروف بين جميع الفرق والطوائف الإسلاميّة ، ولم ينكره أحد من المسلمين ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (2).

وقد روى هذا الحديث في الصحاح المعتبرة عندهم هكذا عن عائشة ، قالت : كان عتبة بن أبي وقّاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقّاص أنّ ابن وليدة زمعة مني فأقبضه. قالت : فلمّا كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقّاص ، وقال ابن أخي قد عهد إلىّ فيه ، فقام عبد بن زمعة ، فقال : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فتساوقا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فقال سعد : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابن أخي كان قد عهد إلىّ فيه ، فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « هو لك يا عبد بن

ص: 23


1- (*) « القواعد » ص 189.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 492 ، باب الرجل يكون له جارية... ، ح 3. « الكافي » ج 7 ، ص 163 ، باب ميراث ولد الزنا ، ح 1 و 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 380 ، ح 5812 ، باب النوادر ( من ألفاظ النبي صلی اللّه علیه و آله ) ، ح 50 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 565 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 56 ، ح 1 ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 647 ، ح 2006 و 2007 ، باب الولد للفراش وللعاهر الحجر.

زمعة » ثمَّ قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ». ثمَّ قال صلی اللّه علیه و آله لسودة - بنت زمعة زوج النّبي صلی اللّه علیه و آله - « احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة : فما رآها حتّى لقي اللّه تعالى » (1).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام في جواب معاوية : « وأمّا ما ذكرت من نفي زياد ، فإنّي لم أنفه بل نفاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر » (2).

وكتب الحسن علیه السلام في جواب زياد - لمّا كتب زياد إليه علیه السلام : من زياد بن أبي سفيان إلى حسن بن فاطمة علیه السلام يريد بذلك إهانته علیه السلام - : من حسن بن فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى زياد بن سميّة ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (3).

ورواية حسن الصيقل عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته ويسأل عن رجل اشترى جارية ، ثمَّ وقع عليها قبل أن يستبرأ رحمها ، قال علیه السلام : « بئس ما صنع يستغفر اللّه ولا يعد » قلت : فإن باعها من آخر ولم يستبرئ رحمها ، ثمَّ باعها الثاني من رجل آخر ، فوقع عليها ولم يستبرء رحمها فاستبان حملها عند الثالث؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (4).

ورواية سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد ، لمن يكن الولد؟ قال : « للذي عند الجارية ، لقول رسول

ص: 24


1- « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 70 ، باب تفسير المشبّهات ، و: ( يا سودة ) غير موجودة في نص البخاري ، « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 1080 ، ح 1457 ، كتاب الرضاع ، ح 36 ، باب الولد للفراش ، وتوقي الشبهات ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 646 ، ح 2004 ، باب الولد للفراش وللعاهر الحجر.
2- « الخصال » ص 213 ، باب : الأربعة ، عن ابن عباس.
3- « شرح نهج البلاغة » لابن أبى الحديد ، ج 16 ، ص 194 ، باب نسب زياد بن أبيه ..
4- « الكافي » ج 5 ، ص 491 ، باب الرجل يكون له جارية. ، ح 1. « الفقيه » ج 3 ، ص 450 ، ح 4557 ، باب أحكام المماليك والإماء ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 168 ، ح 587 ، باب لحوق الأولاد بالآباء ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 568 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 58 ، ح 2.

اللّه صلی اللّه علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر » (1).

ولا ينبغي البحث عن صدور هذا الحديث الشريف عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لأنّ صدوره قطعيّ.

وذلك من جهة أنّ إلحاق معاوية زياد بن سميّة بأبي سفيان صار سببا لاشتهار هذا الحديث بين المحدّثين والمؤرّخين ، إذ هذه القضية العجيبة التي كانت خلاف نصّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقعت في زمان وجود جمع كثير من الصحابة الكرام ، وأنكروا كلّهم هذا الأمر على معاوية لمّا سمعوا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا النصّ الصريح ، ولذلك اشتهر ونقله المحدّثون وأغلب المؤرّخين ، وذكروا له المطاعن الأربعة المعروفة عند جميع المسلمين : بغيه على أمير المؤمنين علیه السلام ، وقتله حجر بن عدي الذي كان من خيار أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإلحاق زياد ، ونصبه يزيد ابنه خليفة من بعده وأميرا على المسلمين.

ولما ذكرنا فمدّعى القطع بصدور هذا الحديث ليس بمجازف ، وعلى كلّ حال ثبوته وصدوره من المسلّمات بين المسلمين.

[ الجهة ] الثانية : في بيان مدلول هذا الحديث والمتفاهم العرفي منه

اشارة

فنقول : أوّلا : أنّ ألفاظ الحديث الشريف : ف- « الولد » عبارة عن أنّ النطفة بعد استقرارها في الرحم ونمائها إلى أن بلغ إلى قابليّتها لولوج الروح فيها ، أي بعد تكميل خلقتها البدنيّة ، فإذا ولج فيها الروح يسمّى ولدا ، سواء أكان وقت خروجه حيّا سويّا

ص: 25


1- « الكافي » ج 5 ، ص 491 ، باب الرجل يكون له جارية. ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 169 ، ح 589 ، باب لحوق الأولاد بالآباء ، ح 13 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 368 ، ح 1317 ، باب القوم يتبايعون الجارية. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 568 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 58 ، ح 4.

أم لا.

نعم بعض الآثار الشرعيّة يترتّب عليها بشرط خروجها حيّا ، وهذا الذي يسمّى بالولد له إضافة إلى من تولّدت النطفة منه ، وهذه الإضافة والنسبة خارجيّة ، لا أنّها صرف اعتبار تشريعي أو عرفي.

وهذه النسبة المكررة بين الوالد والولد ، وكذا بين الوالدة تكون من المحمولات بالضمائم ومن مقولة الإضافة ، وحالها حال سائر الأعراض التسعة الخارجيّة المقوليّة ، وهذه النسبة حيث أنّه لها طرفان ، بمعنى أنّه لكلّ واحد من الطرفين نسبة مقوليّة إلى الطرف الآخر.

وتسمّى هذه النسبة من الطرف الذي خرجت هذه النطفة من صلبه ب- « الأبوّة » ، ويسمّى ذلك الشخص باعتبار تولّد هذه النطفة منه ب- « الوالد » ، وتسمّى بالنسبة إلى نفس هذه النطفة بعد تكميلها وولوج الروح فيها ب- « البنوّة » إن كان ذكرا و « البنتيّة » إن كانت أنثى ، وموصوف هذه الإضافة والنسبة يسمّى بالابن إن كان ذكرا ، وبالبنت إن كانت أنثى.

كما أنّ الموصوف لتلك النسبة التي في الطرف يسمّى بالوالد أو الأب كما ذكرنا.

وأيضا لهذه النطفة نسبة مكرّرة إلى من استقرّت هي في رحمها ، وهي أيضا نسبة خارجيّة مقوليّة مكرّرة لها طرفان ، وليس فرق بين هذه النسبة وبين النسبة السابقة ، إلاّ أنّها من طرف من استقرّت في رحمها تسمّى بالأمومة ، وموصوفها تسمّى بالأمّ أو الوالدة ، فهذا هو معنى الولد ، والوالد ، والوالدة.

وأمّا « الفراش » فهي عبارة عمّا يفرش لنوم أو لغيره ، وها هنا كناية عن الزوج الشرعي أو المالك ، باعتبار أنّ من هو زوج شرعا أو كان مالكا لها له حقّ أن ينام معها فيه شرعا ويستمتع منها ، وأمثال هذه الكنايات كثيرة في لغة العرب وتعابيرهم وفي القرآن الكريم.

ص: 26

وأمّا « العاهر » هو الزاني ، و « الحجر » معناه واضح.

وهذا الذي ذكرنا كان معنى مفردات الحديث.

وأمّا المتفاهم العرفي من هاتين الجملتين :

أمّا الجملة الأولى ، فهي عبارة عن أنّ الولد مخصوص بالزوج ، وليس لأحد غيره حقّ ونصيب فيه ، وهذا المعنى نتيجة حصر المبتدأ في الخبر الذي يقولون به في علم البلاغة إذا كان المبتدأ معرّفا بالألف واللام ، كقولهم : الكرم والفصاحة في العرب.

ولا شكّ في أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام بيان الحكم الشرعي ، لا في مقام الإخبار عن أمر خارجي ، وظاهر القضايا الشرعيّة التي بصورة الأخبار كلّها من هذا القبيل ، أي وإن كانت بحسب الصورة جمل خبريّة ، لكنّها في الحقيقة إنشاءات بصورة الإخبار عن وقوعها في أحد الأزمنة الثلاثة.

مضافا إلى أنّها لو كانت إخبارات عن الأمور الخارجيّة تكون غير مطابق مع الواقع في كثير من الأحيان ، فقوله علیه السلام : « يغتسل » و « يعيد » وأمثال هذين في مقام بيان الأحكام الشرعيّة ، فربما لا يغتسل ولا يعيد.

وفي نفس محلّ الكلام لو كان قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش » إخبارا عن أمر واقع ، ربما لا يكون كذلك ، أي يكون الولد واقعا لغير الفراش ، خصوصا في الأزمنة التي تشيع فيها الفجور ، ولا يمكن أن يصدر الكذب منه صلی اللّه علیه و آله ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله معصوم ، فهذا وجه آخر لأنّها إنشاءات لا إخبارات.

فإذا كان الأمر كذلك ، فلا بدّ من القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام جعل الفراش أمارة معتبرة في مقام الإثبات لإثبات أنّ المولود في فراش شخص يكون له ، وليس لآخر نصيب فيه. ومن المعلوم أنّ جميع الأمارات الشرعيّة كالعرفيّة - بل هي أيضا عرفية في الأغلب أمضاها الشارع - قد تخطّى ، لكنّها غالب المطابقة ، وهذا مناط جعلها أمارة.

ص: 27

وأيضا معلوم أنّ أماريّة الأمارة منوطة بعدم القطع على خلافها وعلى وفاقها أيضا ، إذ مع القطع بأحد الطرفين لا يبقى مجال للتعبّد.

أمّا في صورة كون القطع على وفاقها ، فحجّية الأمارة تكون من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد ، الذي هو أسوء من تحصيل الحاصل المحال.

وأمّا في صورة كونه على خلافها ، فمن جهة عدم إمكان جعل الطريق والمثبت للذي خلافه ثابت لديه ، فالأمارة المعتبرة حجّة لمن يكن شاكّا في مؤدّاها ، فإذن قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش » يكون أمارة في مورد الشكّ في أنّ الولد هل لصاحب الفراش أو لغيره ، وإلاّ فمع أنّه له أو لغيره لا يبقى مجال للتمسّك به في مقام الإثبات.

نعم حيث أنّه بناء على ما ذكرنا أمارة معتبرة لا يعتنى بالظنون غير المعتبرة على خلافها ، كما هو الحال في كلّ أمارة ، مثلا لو شهدت البيّنة العادلة على أنّ فلانة زوجة فلان مع عدم نفيه ، فالظنّ غير المعتبر على أنّها ليس زوجة له لا أثر له.

وفيما نحن فيه بعد ما جعل الشارع الفراش أمارة على أنّ الولد لصاحب الفراش ، فكونه شبيها بالزاني وإن كان يوجب الظنّ بأنّه له ، ولكنّ الشارع لم يعتبر هذا الظنّ ، فلا أثر له في مقابل الحجّة المعتبرة ، ولذلك هو صلی اللّه علیه و آله لم يعتبر ولم يعتن بالشبه الذي كان بين الولد وعتبة بن أبي وقّاص ، وردّ دعوى سعد بن أبي وقّاص ، وحكم بكون الولد لزمعة ، معلّلا بأنّه صاحب الفراش. وأمّا أمره صلی اللّه علیه و آله زوجته سودة أمّ المؤمنين بالاحتجاب عن ذلك الولد للشباهة التي كانت بينه وبين عتبة - مع أنّه صلی اللّه علیه و آله حكم بأنّه أخوها - فمن باب الاحتياط ، وقد تقرّر في الأصول أنّ الاحتياط حسن عقلا وشرعا ، حتّى مع وجود الحجّة المعتبرة على أحد الاحتمالين. وهذا الحديث أيضا أحد الأدلّة على حسنه شرعا ، بل استحبابه إن كان أمره صلی اللّه علیه و آله باحتجابها منه مولويّا ، لا إرشاديّا إلى حسن الاحتياط.

ومن جملة الظنون غير المعتبرة التي لا تقاوهم هذه الأمارة قول القافة بواسطة

ص: 28

الأمارات التي عندهم ، ولا شكّ في أنّ قولهم يوجب الظنّ ، ولكنّ الشارع لم يعتبره.

وأمّا سرور النبي صلی اللّه علیه و آله من قول القائف حينما رأى رجلي أسامة وزيد وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت إقدامها ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض.

وقد روى هذا الحديث عن أمّ المؤمنين عائشة بعدّة طرق ، ومتن الحديث على ما رواه سفيان عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : دخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم مسرورا ، فقال : « يا عائشة ألم ترى أنّ مجزز السلمي المدلجي دخل علىّ فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت إقدامهما ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض » (1) فلا يدلّ على حجّية قول القائف واعتباره.

وذلك أنّ سروره صلی اللّه علیه و آله - على تقدير صحّة الرواية - كان من جهة أنّ أسامة كان أسود شديد السواد ، وكان زيد أبيض ، وكانوا يقدحون في نسب أسامة ويطعنون من هذه الجهة ، والنبي صلی اللّه علیه و آله كان يحبّ زيدا وكذلك أسامة ، فلمّا أخبر القائف بصحّة نسبه وأن زيدا أبوه فرح صلی اللّه علیه و آله بذلك.

ولا شكّ في أنّ الظنّ بوجود ما هو المطلوب والمحبوب يوجب السرور والفرح وإن لم يكن ذلك الظنّ حجّة شرعا ، فلو أخبر معلّم كافر مشرك بأنّ ابنك فلان ذكيّ ، سريع الفهم ، وفوق ذلك أنّه مشغول جدّا بالمطالعة والحفظ يسرّ الأب ، وان كان قول المعلّم ليس حجّة ، لأنّ قول المؤمن العادل الواحد ليس بحجة في الموضوعات ، فضلا عن قول الكافر المشرك.

هذا أوّلا.

وثانيا : في الجاهلية كانت العرب تعتبر قول القائفين ، وكانوا يرتّبون عليه الآثار ،

ص: 29


1- « صحيح البخاري » ج 8 ، ص 195 ، باب : القائف ، « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 1082 ، ح 1459 ، كتاب الرضاع ، ح 39 ، باب العمل بإلحاق القائف الولد ، « سنن النسائي » ج 6 ، ص 184 ، باب : القافة. في المصادر أعلاه : « أنّ مجزّزا المدلجي. ».

فأخبار القائف بصحّة نسب أسامة كان موجبا لارتداع القادحين عن قدحهم وطعنهم ، ولذلك سرّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لحبّه زيدا وولده أسامة.

وأمّا وجه سواد أسامة فهو من ناحية أمّه أمّ أيمن ، فإنّها كانت امرأة حبشيّة تزوّجها زيد بعد زوجها الأوّل ، وهو عبيد بن زيد من بني الحارث بن خزرج ، وكانت أمّ أيمن حاضنة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وورثها من أبيه مع خمس جمال وقطيعة من غنم ، فأعتقها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال صلی اللّه علیه و آله : « من سرّه أن يتزوج امرأة من أهل الجنّة فليتزوّج أمّ أيمن ، فتزوّجها زيد ابن حارثة ، فولدت له أسامة بن زيد (1) ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحبّ أسامة حبّا شديدا ، وقد صرّح بذلك حين أمره على الجيش المعروف بجيش أسامة.

ومن جملة الظنون التي لا تقاوم هذا الأمارة المعتبرة ، الأمارات الظنيّة غير المعتبرة شرعا ولكنّ العرف يعتمدون عليها ، من قبيل تحليل الدم وأمثاله الشائعة في هذه الأعصار عند الأطبّاء ، ولكن كلّ ما ذكرنا من عدم مقاومتها لهذه الأمارة المعتبرة يكون فيما إذا يوجب الظنّ.

وأمّا إذا أوجب القطع بأنّ الولد لغير صاحب الفراش ، فلا يبقى مجال لإجراء هذه القاعدة ، لأنّها أمارة عند الشكّ.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ نفي النسب عن الزاني أو عن غيره ممّن هو ليس بصاحب الفراش في صورة إمكان الانتساب إلى صاحب الفراش.

وأمّا إذا لم يكن - كما إذا كان الزوج في سفر طويل ، أو كان غيبته عنها لسبب آخر كالسجن الطويل مثلا وأمثال ذلك - فلا تجرى هذه القاعدة ، وبناء على هذا لو ولدت بعد الزواج بمدّة أقلّ من أقلّ الحمل ، أو ولدت بعد غياب الزوج بمدّة أكثر من أكثر الحمل فلا يجوز الإلحاق بهذه القاعدة.

هذا هو شرح الجملة الأولى من الحديث الشريف.

ص: 30


1- « الطبقات الكبرى » ج 8 ، ص 224 ، باب تسمية النساء المسلمات المبايعات.

وأمّا الجملة الثانية : فالعاهر هو الزاني ، والحجر معناه معلوم. وقيل في معنى هذه الجملة : أنّها كناية عن طرد الزاني وردّه عن دعواه الولد ، كما أنّ الكلب يطرد بالحجارة ، وقيل : بأنّ المراد من الزاني هو المحصن وهو لا يعطى له الولد ، بل يرمى بالحجارة حتّى يهلك ، أي يحدّ بهذا الحدّ الذي عيّنه الشارع للزاني المحصن.

والأوّل أولى ، وإن كان الذي يتبادر إلى الذهن أوّلا هو الثاني.

وجه الأولويّة : هو أنّ ظاهر الحديث الشريف أنّ أماريّة الفراش ليست مخصوصة بكونها في مقابل الزاني المحصن ، بل تكون أماريّته عامّة في قبال كلّ زان ، بل في قبال كلّ واطئ ليس بصاحب الفراش وإن لم يكن زانيا ، فحمله على المعنى الثاني خروج عمّا هو المتفاهم العرفي من ظاهر الحديث ، ويكون من قبيل التخصيص بلا مخصّص.

[ الجهة ] الثالثة : في بيان جملة من موارد تطبيقها

اشارة

فنقول :

الأوّل : أن يكون في مقابل الفراش زناء فقط ، ويمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما خارجا أي ليس شي ء يمنع المنع عن إلحاقه بأحدهما لا شرعا ولا تكوينا لو لا معارضة أحدهما بالآخر ولو لا هذه القاعدة.

وهذا القسم هو القدر المتيقّن من موارد هذه القاعدة ، وكان هذا هو مورد الحديث الشريف في دعوى سعد بن أبي وقّاص ، ودعوى عبد بن زمعة ، حيث أنّ عبد بن زمعة يدّعى الولد لزمعة الذي هو صاحب الفراش ، لأنّه كان مالكا للجارية.

والفراش يتحقّق بأحد أمرين : إمّا أن يكون زوجا لها بالعقد الدائم أو الموقّت

ص: 31

المسمّى بالمتعة في اصطلاح الفقهاء وعند العرف أيضا ، أو يكون مالكا لها. وأمّا التحليل سنتكلّم فيها ، وسعد بن أبي وقّاص يدّعيه لأخيه بالزنا وقد عرفت أنّه صلی اللّه علیه و آله حكم لزمعة : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

وإلحاق الولد بصاحب الفراش قد عرفت أنّه فيما أن يكون له عقلا وشرعا. أمّا الإمكان العقلي العادي هو أنّه لا يلزم من الانتساب إليه محال بحسب العادة ، كأن يكون الزوج مسافرا مدّة طويلة لا يمكن وصوله إليها عادة ، أو كان غائبا لجهة أخرى غير المسافرة لا يمكن له الوصول إليها ، أو لا يكون للزوج أو المالك أمناء لمرض ، أو لشيخوخة ، أو لأيّ علّة أخرى.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يكون الانتساب إلى صاحب الفراش - سواء أكان زوجا لها بالعقد الدائم أو المنقطع ، أو كان مالكا لها ، أو كان مالكها حلّلها له بناء على أنّ التحليل أيضا يوجب صيرورة المحلّلة له صاحب فراش كما أنّه ليس ببعيد - من قبيل وجود المعلول بدون العلّة.

وأمّا الإمكان شرعا فذكر الفقهاء - قدّس اللّه أسرارهم - له شروط ثلاثة :

الأوّل : الدخول ولو دبرا ، وقال : بعضهم وإن لم ينزل ، فإن كان المراد عدم العلم بالإنزال مع احتماله فله وجه ، وأمّا إن كان مرادهم من عدم الإنزال هو العلم بعدمه فهذا عجيب ، لأنّ مرجعه إلى وجود المسبّب بدون السبب.

وأمّا ما أفاده صاحب الجواهر - قدس سره - في هذا المقام بقوله : ولعلّه لتحرّك نطفة الامرأة واكتسابها العلوق من نطفة الرجل في محلّها ، أو غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلاّ ربّ العزّة (1) ، فهذا الذي قال من تحرّك النطفة إلى قوله « في محلّها » يشبه أن يكون أمرا خياليّا لا واقعيّا. وأمّا قوله - قدس سره - أو غير ذلك من الحكم إلى آخره.

ص: 32


1- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 223.

ففيه : أنّه حقّ لو جاء دليل قطعي على أنّه بدون إنزال صاحب الفراش يلحق به ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ، بل هنا قاعدة وأمارة شرعيّة ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » وبيّنّا أنّها أمارة لكون الولد لصاحب الفراش في ظرف إمكان ذلك عادة ، وبدون الإنزال لا يمكن ، ولذلك قال في الرياض ما خلاصته أنّ إلحاق الولد بصاحب الفراش مشروط بما إذا كان تولّده من مائه محتملا ولو باحتمال بعيد ، وفي غيره إشكال (1). وان حكى الإطلاق عن الأصحاب واحتمل الإجماع ، فاعتبار الدخول ليس لموضوعيّة فيه ، بل من جهة كونه مقدّمة لوصول الماء إلى رحمها ، ولذلك لو وصل الماء إلى رحمها من غير الدخول ، كما إذا لاعبها وأنزل على الفرج ووصل الماء إليها من غير الدخول يلحق بصاحب الفراش الملاعب قطعا ، وقد شاهدنا في عصرنا مواليد تكونوا من ماء أبيهم مع عدم زوال بكارة أمّهم ، وأولدتهم القوابل بالعلاج.

وروى في قرب الإسناد بإسناده عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبيه علیه السلام أنّ رجلا أتى عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال : إنّ امرأتي هذه حامل وهي جارية حدثة ، وهي عذراء ، وهي حامل في تسعة أشهر ، ولا أعلم إلاّ خيرا وأنا شيخ كبير ما افترعتها ، وأنّها لعلى حالها ، فقال له عليّ علیه السلام : « نشدتك اللّه هل كنت تهريق على فرجها؟ » إلى أن قال علیه السلام : « وقد ألحقت بك ولدها فشقّ عنها القوابل ، فجاءت بغلام فعاش » (2).

ورواية أخرى بهذا المضمون نقلها في الوسائل عن المفيد - قدس سره - في الإرشاد (3).

وظهر ممّا ذكرنا أنّ إدخال ماء الرجل بتوسّط الإبر في الرحم - كما يقولون لو

ص: 33


1- « رياض المسائل » ج 2 ، ص 154.
2- « قرب الإسناد » ص 149 ، ح 541 ، أحاديث متفرقة.
3- « الإرشاد » للمفيد ، ص 112 و 113 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 114 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 16 ، ح 2.

صحّ هذا - أيضا يوجب أن يلحق الولد بصاحب الماء ، وإن قلنا بأنّ هذا الفعل حرام ، وكذلك لو انجذب الماء إلى الفرج في الحمّام ودخل في الرحم ، وتكون الولد يلحق بصاحب الماء لو كان معلوما.

وحاصل الكلام : أنّ كون الولد لصاحب الماء أمر تكويني ، لأنّه هو نفس الماء ، غاية الأمر نما إلى أن جعله اللّه ولدا سويّا ، فهو في سياق الزرع ، كما أنّ البذر إذا وقع في الأرض ينمو إلى أن يصير سنبلا بإرادة اللّه وجعله ، كذلك النطفة بعد ما وصل إلى الرحم القابل ينمو إلى أن يجعله اللّه ولدا وينشأه خلقا آخر ، ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) . نعم في خصوص الزنا ألغى الشارع هذا الانتساب التكويني من حيث بعض الآثار لبعض المصالح ، ولعلّ عمدتها حفظ الجامعة عن الفجور.

وممّا ذكرنا ظهر الإشكال في كفاية الدخول في الدبر إلاّ مع الإمناء واحتمال السبق وعدم الشعور به ، ولذلك حكى عن ابن إدريس في السرائر (1) وعن العلاّمة في التحرير (2) - قدّس اللّه اسرارهما - عدم العبرة بالوطي دبرا ، وعدم اعتبارهما بالوطي في الدبر. إمّا في صورة عدم احتمال السبق ، أو لكون الاحتمال ضعيفا بدرجة يكون عند العقلاء بحكم العدم.

الثاني : مضىّ ستّة أشهر هلاليّة من زمان الوطي ، فلو كان أقلّ من ذلك وولدت تامّ الخلقة حيّا لا يلحق بصاحب الفراش ، وذلك من جهة أنّها أقلّ الحمل كتابا وسنّة ، مستفيضة بل متواترة ، ولا خلاف في ذلك بين الأصحاب ، بل نسب الاتّفاق إلى علماء الإسلام ، وقد نسب في الجواهر (3) إلى المفيد (4) والشيخ (5) - قدس سرّهما - التخيير

ص: 34


1- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 223.
2- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 223.
3- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 230.
4- « المقنعة » ص 538.
5- « النهاية » ص 505.

بين النفي والإقرار به.

وهذه الفتوى من هذين الشيخين الجليلين لا يخلو عن غرابة ، مع استفاضة الروايات واتّفاق الفقهاء على خلافهما.

ولكنّ الذي يظهر من عبارة المقنعة أنّه لو نفاه الزوج وخاصمته المرأة وادّعت أنّه منه واختلفا في زمان الحمل (1) ، لا أنّ المرأة مع اعترافها بأنّها وضعت لأقلّ من ستّة أشهر تدّعي أنّه له ، فيكون هذا من فروع اختلافهما في مدّة الحمل ، ويكون خارجا عن محلّ بحثنا ، وهو أن يكون معلوما مدّة الحمل وأنّها أقلّ من ستّة أشهر.

والشاهد على ذلك أنّه - قدس سره - يصرّح قبل هذا العبارة ، بأنّها إن ولدته حيّا تامّا لأقلّ من ستّة أشهر من يوم لامسها ، فليس له بولد بحكم العادة (2).

وعبارة المبسوط أيضا صريح في أنّها إذا وضعت لأقلّ من ستّة أشهر من حين لامسها فالولد لا يلحق به ، وهذا عين عبارته : كما لو أتت بولد لدون ستّة أشهر ، فإنّه ينفي عن الزوج بلا لعان ، لأنّه لا يمكن أن يكون منه (3).

فهذا الشرط أيضا مقدّمة لإثبات مورد القاعدة ، وهو احتمال أن يكون الولد لصاحب الفراش ، لأنّه قبل انقضاء ستّة أشهر من حين الوطي لو ولدت نفى الشارع كونه له ، فيكون احتمال كونه منه ملغى بحكم الشارع ، ويكون معلوم العدم ، فلا يبقى موضوع للقاعدة.

الثالث : أن لا يكون الوضع في أكثر من أكثر مدّة الحمل.

وفي تعيين أكثر مدّة الحمل خلاف ، فالمشهور يقولون بأنّه عبارة عن تسعة أشهر ، وبناء على هذا لو تجاوز مدّة الحمل - أي من زمان الوطي تسعة أشهر إلى

ص: 35


1- « المقنعة » ص 538.
2- « المقنعة » ص 538.
3- « المبسوط » ج 5 ، ص 185.

زمان الوضع - فلا يلحق. والأخبار التي تدلّ على أنّ أكثر مدّة الحمل تسعة أشهر كثيرة.

وقول آخر بأنّه عشرة أشهر ، وهو الذي استحسنه في الشرائع (1) ، وحكى عن الشيخ - قدس سره - في المبسوط (2) أيضا ، ونسب إلى العلاّمة (3) - قدس سره - أيضا ، وصرّح العلاّمة في التبصرة بذلك (4). وقول آخر بأنّه سنة ، وإليه ذهب المرتضى - قدس سره - في الانتصار مدّعيا عليه الإجماع (5) ، وأبو الصلاح (6) ، ومال إليه في المختلف (7) على نقل صاحب الجواهر (8) - قدس سره .

وقال الشهيد الثاني - قدس سره - إنّه أقرب إلى الصواب (9). ولكن المحقق قال في الشرائع : إنّه متروك (10) ، وهناك رواية على أنّه سنتين (11) ، ولكن لم يقل به أحد من الأصحاب ، وحملوها على التقيّة.

أقول : أمّا القول الأوّل الذي هو المشهور بين أصحابنا الإماميّة - قدّس اللّه أسرارهم - فمستنده قبل الإجماع روايات مستفيضة ذكر سبعة منها في الجواهر (12) ، ودلالة بعضها واضحة لا يمكن المناقشة فيها ، وذلك كمرسل عبد الرحمن ابن سيابة :

ص: 36


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 340.
2- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 226.
3- « تحرير الأحكام » ج 2 ، ص 44.
4- « تبصرة المتعلمين » ص 143.
5- « الانتصار » ص 154.
6- « الكافي في الفقه » ص 314.
7- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 316.
8- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 226.
9- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 458.
10- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 340.
11- « الفقيه » ج 3 ، ص 511 ، ح 4793 ، باب : طلاق الحامل ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 15.
12- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 225.

« أقصى مدّة الحمل تسعة أشهر ولا يزيد لحظة ، ولو زاد لحظة لقتل أمّه قبل أن يخرج » (1).

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مضمون هذا الخبر معلوم البطلان بالوجدان ، فلا يمكن صدوره عن الامام علیه السلام .

ولكن يمكن أن يقال : إنّ معلوميّة بطلانه بالوجدان غير معلوم ، لأنّ هذه أمور لا يعرفها غير ربّ العزّة جلّ جلاله ، هذا أوّلا.

وثانيا : صدر الرواية جملة مستقلّة لا إشكال في مضمونه ، وهو قوله علیه السلام : « أقصى مدّة الحمل تسعة أشهر » فلا مانع من التعبّد بصدوره ، وهو كاف في إثبات المطلوب.

وكرواية محمّد بن حكيم ، عن أبي الحسن علیه السلام في حديث قال : قلت : فإنّها ادّعت الحمل بعد تسعة أشهر ، قال علیه السلام : « إنّما الحمل تسعة أشهر » (2).

وأمّا رواية أبان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « إنّ مريم حملت بعيسى تسع ساعات كلّ ساعة شهر » (3). فدلالتها على أنّ الحمل لا يزيد على تسعة أشهر غير واضحة ، ولا يخلو عن المناقشة.

وعلى كلّ حال هذا القول - أي : أنّ أكثر الحمل لا يزيد على تسعة أشهر - بحسب المدرك قويّ ، للروايات المستفيضة ، وادّعاء الإجماع فيه ، والشهرة المحقّقة.

وأمّا القول الثاني - أي كون أكثر الحمل عشرة أشهر الذي استحسنه المحقق في الشرائع وقال : يعضده الوجدان (4) - فلا إجماع ولا رواية تدلّ عليه.

ص: 37


1- « الكافي » ج 6 ، ص 52 ، باب النوادر ( من كتاب العقيقة ) ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 115 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 115 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالجميل ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 8 ، ص 332 ، ح 516 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 7.
4- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 340.

وعمدة الوجه هو ادّعاؤهم الوجدان ، وأنّه كثيرا ما يزيد على تسعة أشهر.

ولكن فيه أنّ مبدأ الحقيقي للحمل غالبا غير معلوم ، وإن كان انتهاؤه بالولادة أمر محسوس ، وحكم القوابل أو النساء بالحمل إمّا بواسطة احتباس الحيض ، وإمّا بواسطة ظهور علامات الحمل. والأوّل ربما يكون لجهة أخرى غير الحمل ، بل يكون لعلّة ومرض فيها. والثاني غالبا يكون بعد مضيّ زمان من شهر أو شهرين بعد الحمل.

وأمّا القول الثالث - أي كون أكثر الحمل سنة - فادّعى المرتضى - قدس سره - عليه الإجماع (1) ، وقرّبه المسالك إلى الصواب (2).

ولكن ليس في الروايات ما يدلّ على ذلك ، إلاّ ما نقل من خبر غياث ، عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام عن أبيه علیه السلام قال : « أدنى ما تحمل المرأة لستّة أشهر ، وأكثر ما تحمل لسنة » (3). لكن في الوسائل روى هذه الرواية عن غياث « وأكثر ما تحمل سنتين » (4). وقلنا إنّه لم يقل به أحد من الأصحاب ، ولذلك حمله في الوسائل على التقيّة. ومع هذا الاختلاف في النقل لا يبقى مجال للاستدلال بها على السنة.

وأيضا ممّا يمكن أن يستدلّ به على هذا القول ما هو المروي عن نوادر المعجزات للراوندي عن سيّدة النساء علیهاالسلام أنّها ولدت الحسين علیه السلام عند تمام السنة (5) لكنّه معارض بما هو المعروف والمشهور أنّها ولدته لستّة أشهر (6).

ص: 38


1- « الانتصار » ص 154.
2- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 458.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 511 ، ح 4793 ، باب طلاق الحامل ، ح 7 ، وفيه : لسنتين بدل لسنة.
4- « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 15.
5- الراوندي في « الخرائج والجرائح » ج 2 ، ص 840 ، الباب (16) : في نوادر المعجزات ، وفيه : في تمام الستّة ، وفي نسخة « بحار الأنوار » ج 43 ، ص 273 ، فيه : فنزل تمام السنة.
6- « الكافي » ج 1 ، ص 385 ، باب مولد الحسين بن علي علیهماالسلام ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 4.

ففي الوسائل عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « حمل الحسين علیه السلام ستّة أشهر ، وأرضع سنتين ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (1) » (2). هذا ، مضافا إلى أنّه معارض بما ورد من أنّ ولادته علیه السلام في ثالث شعبان ، وولادة الحسن علیه السلام في النصف من رمضان ، ومعلوم أنّ الفصل بينهما أقلّ من السنة بما لا يتسامح.

وأيضا ربما يستدلّ لهذا القول بما رواه حريز عمّن ذكره ، عن أحدهما علیهماالسلام في قول اللّه عز وجل ( يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) (3) قال علیه السلام : « الغيض : كلّ حمل دون تسعة أشهر. وما تزداد : كلّ شي ء يزداد على تسعة أشهر ، فلمّا رأت المرأة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد بعدد الأيّام التي رأت في حملها من الدم » (4).

وظاهر هذه الرواية - على تقدير صحّة سندها والإغماض عن إرسالها ، ومع الإغماض عن معارضاتها الأقوى منها سندا ودلالة - هو أنّ المراد من الزيادة مقدار ما رأت الدم في حال حملها يزيد في مقدار الحمل ، فإن رأت الدم في حال الحمل خمسة أيّام يزيد في مدّة الحمل خمسة أيّام ، فلا تدلّ على المقصود أي كون مدّة أكثر الحمل سنة إلاّ على تقدير شاذّ في غاية الشذوذ.

بل يمكن أن يقال بأنّه حال عادة ، وهو أن ترى الدم في كلّ شهر عشرة أيّام كي يصير في مجموع تسعة أشهر الذي هو مدّة الحمل تسعين يوما ، فيزيد هذا المقدار على تسعة أشهر ، فيكون المجموع سنة كاملة.

ص: 39


1- الأحقاف (46) : 15.
2- « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 14.
3- الرعد (13) : 8.
4- « الكافي » ج 6 ، ص 12 ، باب بدء خلق الإنسان وتقلبه في بطن أمه ، ح 2 ، « تفسير العياشي » ج 2 ، ص 204 ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 6.

هذا حال الأخبار التي استدلّوا بها على هذا القول.

ولكن الشهيد الثاني - قدس سره - تمسّك لإثبات هذا القول بوجوه :

الأوّل : عدم دليل معتبر على الأقلّ من السنة (1).

وفيه : ما عرفت من وضوح دلالة بعض الروايات على أنّ أكثر الحمل تسعة أشهر (2) ، وقلنا لو كان ضعف في سندها فهو منجبر بعمل الأصحاب والشهرة المحقّقة ، وقد حكينا من جماعة الإجماع. وأمّا إجماع المرتضى - قدس سره (3) - فوجّهه في الجواهر على أنّ مراده منه نفي أكثر من السنة ، لإثبات السنة به (4). وهو توجيه حسن فلا يعارض هذا الإجماع.

الثاني : الوجدان ، وهو ما إذا سافر الزوج بعد الوطي مثلا إلى مكان بعيد لا يمكن وصوله عادة إليها ، وأيضا علم من الخارج من الأمارات الموجبة لليقين والمفيدة للعلم أنّه لم يصل إليها أجنبيّ ، ومع ذلك وضعت بعد مضيّ سنة من زمان الوطي.

وفيه : على فرض تسليم ما قيل ليس سبب الحمل منحصرا بوصول الزوج أو أجنبي إليها ، بل هناك احتمالات أخر معلومة لا يحتاج إلى الذكر.

الثالث : أمره بالاحتياط بعد انقضاء تسعة أشهر من حين الوطي في بعض الأخبار التي مفادها أنّ أكثر الحمل تسعة أشهر :

منها : خبر محمّد بن الحكيم ، عن أبي الحسن علیه السلام قلت له : المرأة الشابّة التي مثلها تحيض يطلّقها زوجها ويرتفع حيضها كم عدّتها؟ قال : « ثلاثة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت الحبل بعد الثلاثة أشهر ، قال علیه السلام : « عدّتها تسعة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت

ص: 40


1- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408.
2- تقدم راجع ص 37 ، هامش رقم (1).
3- « الانتصار » ص 154.
4- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 227.

الحبل بعد تسعة أشهر ، قال علیه السلام : « إنّما الحبل تسعة أشهر ». قلت : تتزوّج؟ قال علیه السلام :

« تحتاط بثلاثة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت بعد ثلاثة أشهر ، قال علیه السلام : « لا ريبة عليها تزوّجت إن شاءت » (1).

وهذه الرواية لها ظهور جليّ في أنّ من تدّعي الحبل بعد مضيّ تسعة أشهر من طلاقها أيضا يجب عليها أن تحتاط بثلاثة أشهر إن ادّعت بقاء الحبل بعد ذلك أيضا ، وهذا مرجعه إلى أنّ احتمال بقاء الحمل إلى سنة موجود ، ويجب ترتيب الأثر بعدم جواز التزويج قبل انقضاء السنة.

ومنها : خبر عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سمعت أبا إبراهيم علیه السلام يقول : « إذا طلّق الرجل امرأته فادّعت حبلا ، انتظر بها تسعة أشهر ، فإن ولدت وإلاّ اعتدّت بثلاثة أشهر ، ثمَّ قد بانت منه » (2).

ومنها : خبر أبان عن ابن حكيم ، عن أبي إبراهيم علیه السلام أو ابنه علیهماالسلام قال علیه السلام في المطلّقة يطلّقها زوجها ، فتقول : أنا حبلى ، فتمكث سنة ، فقال علیه السلام : « إن جاءت به لأكثر من سنة لم تصدق ، ولو ساعة واحدة في دعواها » (3).

فمن هذه الروايات يستكشف أنّ الشارع لم يلغ احتمال كونها أكثر من تسعة إلى السنة وإن كان نادرا.

نعم يستظهر منها أنّ احتمال الزائد على السنة ملغى في نظره ، ولذلك أجمعت

ص: 41


1- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408 ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالحمل ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 129 ، ح 445 ، في عدد النساء ، ح 44.
2- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408 ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالحمل ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 129 ، ح 444 ، في عدد النساء ، ح 43.
3- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408 ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالحمل ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 129 ، ح 446 ، في عدد النساء ح 45 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 442 ، أبواب العدد ، باب 25 ، ح 3.

الإماميّة الاثنتي عشريّة على نفي الزائد عنها ، ولم يقل به أحد ، وقلنا إنّ صاحب الجواهر وجّه إجماع المرتضى - قدس سره - بأنّ مراده نفي الزائد على السنة ، وقلنا : إنّه حسن.

أقول : لا شكّ في أنّ الغالب في أكثر الحمل هو تسعة أشهر كما نراه بالوجدان. نعم قد يزيد أو ينقص أيّام قلائل ، ولا شكّ في أنّ لكلّ أمر من الأمور الخارجيّة مصاديق وأفراد غالبيّة ، ومصاديق نادرة شاذّة ، وذلك كما أنّ البلوغ واليأس في المرأة أفرادها الغالبية في البلوغ يكون بإكمال تسع سنين هلاليّة ، وفي اليأس بإكمال خمسين أو ستّين ، والشارع لاحظ في الحكم بحيضيّة الدم الخارج عن المرأة الأفراد الغالبيّة إذ لم ير محذورا في ذلك ، فحكم بعدم الحيضيّة في أقلّ من تسع وأكثر من خمسين أو ستّين ، مع أنّ النساء يختلفن في ذلك قطعا حسب اختلاف امزجتهنّ ، إذ لا محذور مهمّ في عدم مراعاة الأفراد النادرة ، فأيّة مفسدة مهمّة في الحكم بحيضيّة دم ليس بحيض في الواقع ، أو بالعكس في الأفراد النادرة.

وأمّا إذا كان في عدم ملاحظة الأفراد النادرة مفاسد عظيمة - كما في ما نحن فيه ، لأنّ نفي النسب مع ثبوته واقعا ربما ينجرّ إلى مفاسد عظيمة ، كنكاح العمّ لبنت أخيه ، والأخ للأخت ، أو حرمان شخص عن ثروته الكثيرة ، أو عن شرف أسرته الجليلة - فحينئذ يجب مراعاة الأفراد النادرة. فمكث الحمل وبقاؤه في الرحم إلى السنة وإن كان في غاية القلّة والندرة ، ولكن مع ذلك مراعاته لازم لما ذكرنا ، ولذلك أمر بالاحتياط بثلاثة أشهر بعد مضيّ تسعة أشهر كما تقدّم.

والإنصاف أنّ قول المشهور وإن كان قويّا بحسب المدرك ، مضافا إلى اشتهاره بين أرباب الفتوى. ولكن مراعاة هذا الاحتياط لا ينبغي أن يترك ، لما ذكرنا من المفاسد العظيمة في تركه ، ولعلّه لذلك ذهب جماعة من أعاظم أساطين الفنّ

ص: 42

كالمرتضى (1) والعلاّمة في المختلف (2) والشهيد الثاني في المسالك (3) - قدّس اللّه أسرارهم - إلى هذا القول ، مع ما رأوا من القوّة في مدرك القول المشهور. وقد ذهب إلى هذا القول أيضا الفقيه المتتبّع السيّد الطباطبائي اليزدي - قدس سره - في حواشيه على التبصرة.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول :

تارة : يكون الزاني مدّعيا للفراش يدّعى الولد في مقابله ، فهذا هو القدر المتيقّن من مورد القاعدة إن كان صاحب الفراش - أي : الزوج دواما أو انقطاعا ، أو المالك - واجد للشرائط المذكورة التي كانت نتيجتها إمكان تكون ذلك الولد من مائه عادة ، وإن كان الفقهاء اشترطوا الدخول قبلا أو دبرا ، وعدم كون مدّة الحمل أقلّ من أقلّ الحمل والأكثر من أكثره ، لكن المقصود هو ما ذكرناه ، أو الحقّ ما ذكرناه وإن لم يكن مقصودا لهم.

وأخرى : يكون الواطئ بالشبهة يدّعي الولد في مقابل الفراش بالمعنى الذي ذكرنا للفراش.

وظاهر الأصحاب أنّه يقرع بينهما.

ولكن عندي في هذا تأمّل ، لأنّه بناء على ما ذكرنا من أنّ الشارع جعل الفراش أمارة لكون الولد لصاحب الفراش فيما يمكن أن يكون له تكوينا وشرعا. أمّا تكوينا فبوصول نطفة صاحب الفراش إلى رحمها ، وأمّا شرعا فبأن لا يكون حمله أقلّ من أقلّ الحمل ولا أكثر من أكثره ، فلصاحب الفراش أمارة على أنّ الولد له وهي الفراش ، فلا تصل النوبة إلى القرعة.

كما حقّقناه في قاعدة القرعة أنّها تستعمل في الشبهة الموضوعيّة التي لا يجوز فيها

ص: 43


1- « الانتصار » ص 154.
2- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 316 ، المسألة : 222.
3- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 458.

الاحتياط ولا يجب ، وتكون من المعضلات والمشكلات ، ومع وجود الأمارة في بعض أطراف العلم الإجمالي ينحلّ العلم ، ولا يبقى إجمال في البين.

وبعبارة أخرى : قلنا إنّ القرعة أمارة حيث لا أمارة في البين ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أماريّة الفراش مخصوصة بما إذا كان في قبال الزناء ، لا في قبال الوطي بالشبهة.

وهذا الاحتمال أبطلناه فيما تقدّم ، وقلنا إنّ أماريّته مطلقة ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش » كلام مستقلّ ، ومفاده أنّ الفراش - أي كون الرجل له حقّ المضاجعة في ذلك الفراش مع المرأة التي تنام فيه ، ويكون لها نحو اختصاص به - أمارة شرعيّة على أنّ الولد الذي ولد في ذلك الفراش ملحق بصاحب الفراش عند الشكّ ، فيكون حال الفراش حال البيّنة.

نعم الفرق هو أنّ البيّنة أمارة في جميع الموضوعات ، والفراش أمارة في خصوص إلحاق الولد بصاحب الفراش فيما أمكن الإلحاق به.

وأمّا الجملة الأخرى ، أي : قوله صلی اللّه علیه و آله : « وللعاهر الحجر » فلا ربط له بالجملة الأولى ، بل ذكره لطرد المدّعي المقابل لصاحب الفراش ، لأنّ المدّعي المقابل لصاحب الفراش في مورد الحديث كان زانيا ، فطرده بهذا الكلام.

وأمّا فيما إذا لم يمكن ، كما إذا كان صاحب الفراش لم يمسّه لا قبلا ولا دبرا ، أو لم يمض من حين وطئه مدّة أقلّ الحمل ، أو تجاوز من زمان وطئه إلى الوضع أكثر مدّة الحمل ، فلا يكون الفراش أمارة ، القطع بالعدم شرعا. وفي مثل هذه الصورة يعطي الولد الواطئ بالشبهة ، لأنّه مدّع بلا معارض ، أو للقطع بأنّه منه.

وأمّا لو كان المدّعي المقابل للفراش هو أيضا صاحب الفراش ، ففيه صور أربع :

الأولى : أن لا يمكن لحوقه بالثاني وأمكن لحوقه بالأوّل ، كما إذا طلّق الأوّل زوجته وبعد انقضاء عدّتها تزوّجها الثاني ، فوضعت لأقلّ من ستّة أشهر من زمان

ص: 44

وطئ الثاني ، ولم يتجاوز أقصى الحمل من زمان وطئ الأوّل ، فالولد ملحق بالأوّل لكونه ذا أمارة وفراش ، والثاني لا يمكن أن يكون أمارة لكونه ولدت في زمان يكون أقلّ من أقلّ الحمل ، فيستكشف بطلان نكاح الثاني لوقوعه في العدّة ، لأنّ انقضاء عدّة الأوّل بالوضع ، والمفروض أنّه تزوّجها قبل الوضع وتصير تلك المرأة محرمة على الثاني أبدا ، لأنّه وطأها في العدّة بعد العقد عليها.

الثانية : عكس الصورة الأولى ، وهو عدم إمكان لحوقه بالأوّل وإمكان لحوقه بالثاني ، كما إذا كانت الولادة بعد مضيّ أكثر الحمل من الوطي الأوّل ، ولا يكون أقلّ من أقلّ الحمل ، ولا أكثر من أكثره من حين وطئ الثاني ، ألحق بالثاني ، لعدم أماريّة فراش الأوّل ، لعدم الشكّ وعدم إمكان الإلحاق ، فيكون الفراش الثاني أمارة بلا معارض لها.

الثالثة : عدم إمكان الإلحاق بكلّ واحد منهما ، فيسقط أماريّة كليهما وينفي عنهما لما ذكرنا أنّ أماريّة الفراش في ظرف إمكان الإلحاق.

الرابعة : إمكان الإلحاق بكليهما ، فمقتضى القاعدة سقوط كليهما بالتعارض ، ولكن بناء الأصحاب على الإلحاق بالثاني ، لإحدى جهتين :

إمّا من جهة أنّ المراد من الفراش هو الفراش الفعلي ، ولا شكّ أنّ الفراش الفعلي هو الثاني ، دون الأوّل.

وفيه : أنّ لزوم الفعليّة في الفراش أمر مسلّم ، ولكن في زمان الوطي لا في زمان الوضع ، والمفروض أنّه في زمان الوطي كان كلاهما فعليّين.

وإمّا من جهة الأخبار ، وقد وردت روايات مستفيضة (1) في أنّ الولد يلحق

ص: 45


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 470 ، ح 4639 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ح 23 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 168 ، ح 584 ، في لحوق الأولاد بالآباء. ، ح 8. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 13.

بالفراش الثاني إن أمكن ، وإن كان لحوقه بالأوّل أيضا ممكنا.

وهو صحيح لا إشكال فيه.

وأمّا التمسّك بالإجماع مع وجود هذه الأخبار فلا وجه له ، لما ذكرنا مرارا فلا نعيد.

وقد عرفت أنّ المراد من الفراش في الحديث الشريف من له حقّ المضاجعة شرعا مع المرأة وأن يلامسها ، فالفراش كناية عن هذا الأمر ، وقد عرفت أنّ الزوج بكلا قسميه - الدوام والانقطاع - حيث أنّ له هذا الحقّ فيكون صاحب الفراش ، وكذلك مالك الجارية حيث له هذا الحقّ فيكون صاحب الفراش.

هذا ، مضافا إلى تطبيقه صلی اللّه علیه و آله هذه القاعدة على زمعة ، وهو كان مالكا لا زوجا.

وأمّا الواطئ بالشبهة ، فليس له هذه الحقّ قطعا ، بل هو متعدّ ومتجاوز على عرض الغير ، غاية الأمر لا يعاقب لجهله ، فهو معذور بالنسبة إلى العقاب والمؤاخذة ، لا أنّ له هذا الحقّ شرعا. وجواز الوطي له حكم ظاهري ، لا أنّه واقعا له جائز ، إلاّ على القول بالتصويب الباطل ، فلا فرق بين الزاني والواطئ بالشبهة في حرمة الوطي واقعا.

نعم هناك فروق آخر بينهما ، وهو أنّ الشارع جعل الزناء موضوعا لأحكام لا تجري ولا تترتّب تلك الأحكام على الوطي بالشبهة ، من الحدّ ، وعدم إلحاق الولد به بالنسبة إلى بعض الأحكام ، كتوريثه من أبيه ، فادّعاء أنّ الواطئ بالشبهة صاحب الفراش عجيب.

وأمّا التحليل فكون المحلّل له صاحب الفراش فله وجه ، لأنّه بالتحليل يوجد له هذا الحقّ ، خصوصا إذا قلنا بأنّ التحليل عقد محتاج إلى الإيجاب والقبول ، فيمكن أن يقال بأنّه تزويج لها من المولى ، فيكون كالمتعة تزويجا موقّتا ، فهو أيضا صاحب

ص: 46

الفراش كالزوج في عقد الانقطاع.

والحاصل : أنّ الفراش عبارة عن كونه مالكا شرعا للوطي ، وله حقّ أن يفعل ، والمشتبه ليس له ذلك ، وإنّما يرتكب محرّما معفوا عنه ، لجهله. نعم فعله ليس زناء ، لأنّه أخذ في مفهوم الزناء الالتفات والعلم أو العلمي بالحكم والموضوع جميعا ، فلا يترتّب على عمله آثار المترتّبة على الزناء ، من عدم إرث الولد والحدّ وغيره.

فلو كان هناك واطئان بالشبهة وأمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما يقرع بينهما ، أمّا لو اجتمع الزناء مع الوطي بالشبهة وأمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما ، كما إذا وطيا في طهر واحد ، والوضع صار بعد التجاوز عن أقلّ الحمل ، وعدم التجاوز عن أكثر الحمل من زمان وطئ كلّ واحد منهما.

فإن قلنا : إنّ الزاني مطرود ولا نسب له مطلقا ، فلا شكّ أنّ الولد للواطئ شبهة ، وليس للزاني إلاّ الحجر.

وأمّا إن قلنا : إنّ طرده فيما إذا ادّعى في قبال الفراش - كما هو مورد الحديث لا مطلقا ونفي النسب بملاحظة الإرث لا مطلقا ، ولذلك يحرم على الزاني تزويج بنته من الزناء إجماعا بل ضرورة - فمقتضى القواعد الأوّليّة هو أن يقرع بينهما ، ولكن الظاهر اتّفاق الأصحاب عن أنّه للواطئ بالشبهة ، ويطرد الزاني ، لأنّه علیه السلام عبّر من الولد المخلوق من ماء الزاني « أنّه لغية ».

محمّد ابن الحسن القمّي ، قال : كتب بعض أصحابنا على يدي إلى أبي جعفر علیه السلام : ما تقول في رجل فجر بامرأة فحبلت ، ثمَّ أنّه تزوّجها بعد الحمل ، فجاءت بولد هو أشبه خلق اللّه به؟ فكتب علیه السلام بخطّه وخاتمه : « الولد لغية لا يورث » (1) والغية ظاهرها أنّه باطل وخائب ولا يعتنى به ، فمفاد هذه الرواية هو أنّ الولد لا يلحق بالزاني وإن لم

ص: 47


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 182 ، ح 637 ، في لحوق الأولاد بالآباء. » ح 61. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 214 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 101 ، ح 1.

يكن مدّع في مقابله ، فضلا عمّا إذا كان مثل الواطئ بالشبهة الذي لم يلغ الشارع نسبه ، حتّى أنّ بعضهم ادّعى صدق الفراش على وطئ الشبهة.

ولكن مع ذلك كلّه ظاهر الرواية أنّه لغية من ناحية الإرث ، لا أنّه لغية بقول مطلق حتّى من ناحية نكاح المحارم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو زنى الاثنان بامرأة في طهر واحد فجاءت بولد يمكن القول بالاقتراع بالنسبة إلى الآثار غير الإرث.

تنبيه

ثمَّ إنّه من المعلوم والواضح الجلي أنّ الزناء قد يكون بالنسبة إلى الرجل والمرأة ، فيكونان زانيا وزانية ، والولد لا يرث من كلّ واحد منهما ويكون لغية من الطرفين.

وقد يكون الزناء من طرف واحد ، وذلك بأن يكون أحدهما متعمّدا ملتفتا ، والطرف الآخر مشتبها ، فيرث الولد من المشتبه دون الزاني والزانية.

وأمّا في غير الإرث فقد بيّنّا أنّه يلحق بهما بالنسبة إلى بعض الآثار ، كحرمة نكاح المحارم حتّى في الزناء من الطرفين ، بحيث يكونان باغ وبغيا ، فضلا عن أن يكون من طرف واحد.

هذا هو الذي اخترناه.

ولكن ظاهر المشهور وبعض الروايات هو أنّ الشارع ألغى النسب في الزناء. ولكن الالتزام بذلك مشكل جدّا ، خصوصا بالنسبة إلى نكاح المحارم ، كتزويج البنت من الزناء ، والأخت من الزناء.

وبناء على ما اخترناه فلو كان الولد الأكبر من الزناء لا يرث الحبوة ، ولكن يجب عليه قضاء صلوات أبيه.

ص: 48

هذا إذا كان الزناء من الطرفين ، وأمّا إذا كان أحد الطرفين مشتبها ، فيلحق الولد بالمشتبه قطعا ، ويترتّب عليه جميع آثار النسب الصحيح. واللّه هو العالم بحقائق الأمور والأحكام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 49

ص: 50

38 - قاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدّيه

اشارة

ص: 51

ص: 52

قاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدّيه (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة اليد

التي ذكرناها وشرحناها في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب.

فنقول : عمدة البحث والنظر في تلك القاعدة كان في أماريّة اليد ، وأنّها مثل البيّنة والسوق تثبت الملكيّة والتذكية والطهارة ، وأنّ هذه المرأة التي تحت يده زوجته ، وأنّ هذه العين الموقوفة التي تحت يده هو المتولّي والناظر عليها أم لا؟

وموضع البحث أيضا هناك عامّ ، لا اختصاص له باليد الغاصبة أو غير المأذونة من قبل المالك ، بمعنى أنّ المراد من اليد هناك سيطرة الشخص واستيلائه على شي ء ، ولم

ص: 53


1- (*) « الحقّ المبين » ص 128. « عوائد الأيّام » ص 108 ، « خزائن الأحكام » ش 24 ، « بلغة الفقيه » ج 3 ، ص 291 ، « مجموعه رسائل » ص 472 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 62 ، « مجموعة قواعد فقه » ص 25 ، قواعد فقه » ص 91 ، « قواعد » ص 181 ، « قواعد فقه » ص 75 ، « قواعد الفقه » ص 84 ، « قواعد الفقه » ص 111 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 83 ، « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 231 ، « قواعد الفقيه » ش 34 ، ص 63 « ضمان يد غير قانونى » عباس كريمى ، ماچستير جامعه الشهيد بهشتى ، 1368 ، « موجبات ضمان قهري وأسباب آن » غلامعلى پيراسته ، ماچستير ، جامعه طهران ، « يد مالكي ويد ضماني » أبو القاسم گرجى ، فصليّة « حقّ » دفتر 9 سال 1366 ، « قاعدة على اليد » سيد على محمد مدرس الأصفهاني ، « كانون وكلاء » العام 15 ، ش 84.

يكن حالها معلومة ، وأنّها يد المالك ، أو يد الغاصب ، أو يد المأذونة من قبل المالك ، أو يد الأمين شرعا ، كلّ ذلك غير معلوم ، فيبحث في أنّ مثل هذه اليد هل هي أمارة الملكيّة أو سائر ما ذكرناها أم لا؟ فالبحث دائما هناك عن جهة أماريّتها.

وها هنا موضوع البحث هو أنّ اليد المعلومة أنّها يد غير المالك ، وأنّها غير مأذونة من قبل المالك ، هل توجب الضمان ، أم لا بل يجب تكليفا ردّ ما في يده من مال الغير إلى صاحبه ، ففرق واضح بين موضوع البحث ها هنا ، وبينه هناك.

ونحن وإن تكلّمنا هناك قليلا من جهة كونها هل توجب الضمان أم لا ، وعن تعاقب الأيدي على مال الغير ، ولكن كان ذكرا تبعيّا ولم نستوف البحث ، ولذلك نذكر القاعدة ها هنا ، ونستوفي البحث عنها بمقدار وسعنا إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعد

اشارة

فنقول : مدرك هذه القاعدة هو الحديث المعروف المشهور بين جميع الطوائف الإسلاميّة ، والذي رواه العامّة والخاصّة ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (1).

فالبحث عن سنده وأنّه صحيح أو ضعيف لا وجه له ، لأنّه بعد هذا الاشتهار بين الفقهاء وقبولهم له والعمل به فيكون موثوق الصدور ، الذي هو موضوع الحجّية ، بل لا يبعد أن يكون من مقطوع الصدور.

ص: 54


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 409 ، المسألة : 22 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، باب القضاء ، ح 10 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 88 ، أبواب الغصب ، باب 1 ، ح 4 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 296 ، ح 3561 ، باب في تضمين العارية ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، ح 2400 ، أبواب الصدقات ، باب العارية ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 566 ، ح 1266 ، باب ما جاء في أنّ العارية مؤداة.

وعلى كلّ حال لا كلام في حجيّته ، إنّما الكلام في دلالته ، وبيان المراد منه. وطريق كشف المراد منه هو معرفة ما هو المتفاهم العرفي منه.

فنقول : من المعلوم أنّ كلمة « على اليد » خبر مقدّم للموصول ، أي كلمة « ما » في « ما أخذت » فتقدير الكلام عبارة عن أنّ الذي أخذته اليد ثابت أو مستقرّ على اليد ، وذلك من جهة أنّ الظرف أي « على اليد » يحتاج إلى عامل ومتعلّق مقدّر ها هنا ، لأنّه ليس في الكلام ، أي جملة « على اليد ما أخذت » فعل أو شبه فعل يكون قابلا لأن يتعلّق به الظرف ، فلا بدّ من تقديره.

والمقدّر العامل للظرف إن كان من أفعال العموم - ك « استقرّ » أو « ثبت » أو « كان » أو « حصل » يسمّى بأفعال العموم ، لأنّ كلّ فعل وحدث صدر عن الفاعل يصدق أنّه استقرّ وجوده ، وكان ، وثبت ، وحصل - يسمّى الظرف بظرف المستقرّ. ووجه التسمية واضح.

وإن كان من أفعال الخصوص - ك « ضرب » و « أكل » و « شرب » إلى غير ذلك من الأفعال الخاصّة ، التي هي عبارة عن الأحداث الخاصّة ، كلّ واحد منها لا ينطبق على الآخر ، بل شي ء مقابل أو مخالف له - يسمّى الظرف بظرف اللغو ، لأنّه ملغى عن الضمير المستتر فيه يرجع إلى العامل.

وظاهر الكلام حسب المتفاهم العرفي أنّ الظرف ظرف مستقرّ ، لا ظرف لغو ، فيكون المعنى أنّ الذي أخذته اليد ثابت ومستقرّ على اليد ، وهذا الثبوت والاستقرار باق على اليد ولا يرتفع عنها إلاّ بالأداء ، فنفس ما أخذت على عهدته وثابت على اليد إلى غاية ذلك الثبوت ، وغايته هي أداء ما أخذته.

وأمّا وجه أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من الحديث هو أنّ الظرف مستقرّ لا لغو فلجهات :

الأولى : أنّ الظاهر أنّ نفس ما أخذت يكون على اليد ، من دون إضمار في البين ،

ص: 55

لأنّ التقدير والإضمار خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلاّ بعد عدم استقامة الكلام بدونه. وفيما نحن فيه الكلام بدون الإضمار في غاية الاستقامة ، لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث - إذا كان الظرف ظرف مستقرّ - أنّ نفس المال الذي مثلا أخذت بدون الإذن يكون مستقرّا على ذلك اليد أي عهدته مشغولة به ، كما سنبيّن معنى « اليد » في المقام ، ولا يفرغ ذمّته إلاّ بأداء ذلك الذي أخذه إلى صاحبه.

وأمّا احتمال أن يكون العامل المقدّر « يجب » أو « يلزم » فيبعده ، بل ينفيه أنّ الأحكام التكليفيّة لا تتعلّق بالذوات والأعيان الخارجيّة ، بل لا بدّ وأن يكون متعلّقها فعل المكلّف ، فيحتاج في المقام إلى التقدير. والفعل المناسب لان يكون متعلّقا ليجب أو ليلزم في المقام هو الأداء والردّ ، ليكون معنى الحديث أنّه يجب أو يلزم ردّ ما أخذه من الغير وأداؤه إليه.

ولكن أنت خبير بأنّه مضافا إلى كونه خلاف الأصل ، ركيك إلى أقصى الغاية ، لأنّه يجب أن يكون الفعل مع غايته واحدا ، أي يكون معنى الحديث : يجب ردّ ما أخذ إلى أن يردّ.

وأمّا احتمال أن يكون المتعلّق ليجب أو ليلزم المقدّر هو « الحفظ » كي يكون المعنى : يجب أو يلزم حفظ ما أخذ حتّى يؤدّيه ، فبعيد جدا.

أمّا أوّلا : فلما قلنا إنّ التقدير خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلاّ لضرورة. وليس ها هنا ضرورة إلى التقدير ، لأنّ ظاهر الكلام بدون التقدير في كمال الاستقامة ، لأنّه عبارة عن أنّ نفس ما أخذته اليد ثابت في ذمّة اليد ، ولا يمكن الخروج عنه إلاّ بأداء ما هو ثابت في العهدة إلى من هو صاحب المال المأخوذ. وهذا معنى لطيف ، له كمال الملائمة مع الأخذ بالقوّة والقهر ، ومع الأخذ بدون إذن المالك ، ويشبه لما هو مفاد سائر أدلّة باب الغصب من قوله علیه السلام : « لأنّ الغصب كلّه مردود » (1) وغيره (2).

ص: 56


1- « الكافي » ج 1 ، ص 542 ، باب الأنفال ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 309 ، أبواب الغصب ، باب 1 ، ح 3.
2- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 308 ، أبواب الغصب ، باب 1 و 7.

وأمّا ثانيا : فلأنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام بيان ردّ مال الغير الذي وقع تحت يده وإيصاله إلى صاحبه ، لا في مقام حفظ مال الغير عن التلف ، مضافا إلى أنّ الظاهر من أمثال هذه التراكيب عرفا هو كون عهدته وذمّته مشغولة بما يكون مستعليا ، فإذا قال له : علىّ كذا درهم - مثلا - فهو إقرار واعتراف بأنّ ذلك المقدار على ذمّته وفي عهدته. أو إذا قال لي : على فلان كذا مقدار ، لا يفهم منه إلاّ ادّعاء أنّه له في ذمّة فلان ذلك المقدار.

والسّر في ذلك : أنّ كلمة « على » موضوعة للنسبة الاستعلائيّة التي بين شي ء ومدخول على ، فإذا قيل : زيد على السطح ، فعلى تحكي عن النسبة الاستعلائيّة التي بين زيد ومدخول على ، فيفهم من هذا الكلام أنّ زيدا مستعل على السطح ، والسطح مستعلي عليه ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت » حيث أنّ الموصول مبتدأ مؤخّر ، فيرجع مفاد الكلام إلى أنّ المال الذي أخذته اليد يكون مستعليا على اليد ، ومستقرّا عليها كاستقرار زيد واستعلائه على السطح.

ثمَّ إنّ « اليد » ليس المراد منها هي الجارحة المخصوصة ، لأنّه ربما لا يكون للأخذ - الغاصب أو بدون إذن المالك أو الشارع الذي هو وليّ المالك - تلك الجارحة المخصوصة ، أو الشي ء المأخوذ ليس قابلا لأن يؤخذ بالجارحة المخصوصة ، بل المراد منه ها هنا الاستيلاء على الشي ء خارجا ، أو في عالم الاعتبار الشرعي أو العرفي.

وبهذا المعنى يقال ليس الأمر بيدي ولو كان لكنت أفعل كذا ، ونفس الاستيلاء التكويني أو الاعتباري حيث أنّه من صفات المستولي ، فإذا قيل : إنّ الشي ء الفلاني على اليد بهذا المعنى ، فالمراد منه على المستولي باعتبار استيلائه.

وبهذا الاعتبار قال اللّه تعالى حكاية عن قول اليهود - لعنهم اللّه - ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (1) فالمراد من قولهم ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي ليس له القدرة على الإنفاق والتوسعة

ص: 57


1- المائدة (5) : 64.

في رزق العباد ، فأجابهم اللّه تعالى بقوله ( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) أي من التوسعة والتضييق حسب المصالح التي يراها.

فظهر أنّ اليد كناية عن الاستيلاء خارجا وتكوينا ، أو عرفا ، أو شرعا واعتبارا.

وقد تكون كناية عن المستولي المتّصف بصفة الاستيلاء.

وفيما نحن فيه بهذا المعنى الأخير ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت » ظاهر في أنّ المال الذي أخذه إنسان واستولى عليه يكون على تلك اليد ، أي يكون مستعليا ومستقرّا على ذلك المستولي باعتبار استيلائه على ذلك المال ، وهذا معنى عرفي لهذه العبارة.

ثمَّ إنّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن حكم بأنّ الذي أخذه المستولي يكون مستقرّا ومستعليا عليه ، غيّاه بقوله صلی اللّه علیه و آله : « حتّى تؤدّيه » أي هذا الاستعلاء والاستقرار مغيى بأداء ما أخذ ، بمعنى أنّه مستمرّ إلى حصول تلك الغاية ، أي أداء ما أخذ ولا يرتفع إلاّ به.

إذا ظهر ذلك ، فنقول : هذا معنى الضمان عرفا ، لأنّ معنى ضمان الشي ء وإن عرّفوه بتعاريف متعددة ، ولكن العرف لا يفهم من لفظ « الضمان » إلاّ استقرار الشي ء وثبوته في عالم الاعتبار في عهدة الضامن ، فليس الضمان أمرا خارجيّا تكوينيّا ، أي ليس من مقولات العشر ، إذ ليس له ما بحذاء في الخارج ، بل هو أمر اعتباري يعتبره الشرع أو العقلاء ، أو كلاهما معا.

فإذا كان الأمر كذلك ، فذات الموجود الخارجي بوجوده الخارجي لا يمكن أن يكون في الذمّة والعهدة ، لأنّ الموجود الخارجي وعاء وجوده عالم الخارج ، لا عالم الاعتبار ، إذ ليس عالم الاعتبار إلاّ عبارة عن الموجودات الاعتباريّة التي لا وجود لها إلاّ في عالم الاعتبار ، فلا يمكن أن يكون الموجود الخارجي موجودا في عالم الاعتبار ، وإلاّ يلزم انقلاب الخارج اعتبارا ، وذلك كما أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن يكون موجودا في الذهن وإلاّ يلزم انقلاب الخارج ذهنا ، وهو محال.

ص: 58

فمعنى كون المأخوذ في ذمّة الآخذ وفي عهدته ، هو أنّ المهيّة الموجودة في الخارج إن وقعت تحت اليد غصبا أو بدون إذن المالك أو الشارع ، يعتبرها الشارع أو العقلاء أو كلاهما في عهدة الآخذ. والمراد من الذمّة والعهدة هو عالم الاعتبار الذي هو عبارة عن نفس الاعتبارات ، فعهدة كلّ شخص وكذلك ذمّته عبارة عن اعتبارات الشارع أو العقلاء بالنسبة إليه.

فمفاد الحديث الشريف هو أنّ كلّ مال أخذه أمّا جبرا وبالقوّة ، أو بدون إذن من قبل مالكه ، أو من قبل الشارع فهو مستقرّ بوجوده الاعتباري على صاحب تلك اليد. وهذا الوجود الاعتباري ثابت عليه ، لا يرتفع إلاّ بأداء ذلك المأخوذ فبالأداء يفرغ ذمّته.

وأداء ذلك المأخوذ في الدرجة الأولى يردّ نفس العين الخارجيّة التي وقعت تحت اليد ، ولكن إذا تلفت تلك العين الخارجيّة فبصرف تلفها لا يرتفع ذلك الموجود الاعتباري ، لأنّ بقاءه في العهدة - أي في عالم الاعتبار - مغيى بالأداء ، فما لم يؤدّ لا يرتفع ويكون باقيا ، ولا منافاة بين تلفه خارجا وبقائه في عالم الاعتبار ، فإذا كان باقيا بعد تلف العين فأداؤه بردّ نفس العين الخارجيّة محال ، فتصل النوبة إلى الدرجة الثانية من الأداء ، أي أداء مثله ، فإذا لم يوجد مثله وتعذّر أو تعسّر تحصيله تصل النوبة إلى الدرجة الثالثة من الأداء ، وهي أداء ماليّته ، أي قيمته.

والسرّ في ذلك هو أنّ ردّ المال إلى صاحبه إن كان ممكنا بجميع خصوصيّاته الشخصيّة فيجب ، لأنّه الفرد الحقيقي من الردّ بدون أيّ عناية. وإن لم يمكن ردّه بخصوصيّاته الشخصيّة بواسطة التلف ، إذ كلّ فرد من طبيعة ذلك المأخوذ غيره بحسب الخصوصيّات الشخصيّة ، ولكن يمكن ردّ ذلك الشي ء بالصفات النوعيّة - وان كان فاقدا لخصوصياته الشخصية - فيجب ردّ ذلك المثل.

وإنّما قلنا ذلك المثل ، لأنّ الفرد الذي يصدق عليه ذلك الشي ء بحسب الماهيّة ، مع

ص: 59

كونه واجدا للصفات النوعيّة ، لا بدّ وأن يكون من أمثال ذلك التالف. بل المثل المنطقي أوسع من هذا ، إذ هو يطلق على كلّ فرد يكون متّحدا مع التالف في الماهيّة وإن لم يكن واجدا لجميع صفاته النوعيّة.

وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ المرتبة النازلة من ردّ التالف هي هذه المرتبة ، بعد عدم إمكان ردّه بجميع خصوصيّاته الشخصيّة ، وإن لم يمكن هذه المرتبة أيضا من ردّ ذلك الشي ء المأخوذ - والمفروض كما بيّنّاه أنّ ذلك الوجود الاعتباري باق في عهدته ، أي في عالم الاعتبار ، إذ لم يأت بالغاية التي توجب سقوطه - فتفريغ ذمّته الذي لازم بحكم الفعل والشرع يقتضي أن يأتي بمرتبة أخرى من ردّ التالف الممكنة ، وليست هي إلاّ أداء ماليّة التالف بعد عدم إمكان ردّ خصوصيّاته الشخصيّة ، ولا الجهات النوعيّة التي كانت للتالف ، فلا يبقى في البين ما يمكن ردّه إلاّ جهة ماليّته ، فتصل النوبة إليها ، وإن كانت هذه المرتبة أنزل من المرتبة الثانية.

وهذه المراتب ليس بصرف الدقّة العقليّة ، بل العرف أيضا يحكم مثل ما ذكرنا ، لأنّه أيضا بعد ما حكم بالضمان - بالمعنى الذي ذكرنا له - يرى في الدرجة الأولى ردّ نفس العين المأخوذة ، وبعد التلف وعدم إمكان ردّ نفس العين ، لو كان له مثل يحكم بلزوم ردّ المثل ، لأنّ في ردّ المثل لا يذهب من مال المغصوب منه إلاّ جهاته الشخصيّة ، وباقي جهاته تصل إليه ، أي جهة ماليّته وجهاته النوعيّة ، وجهاته الشخصيّة التي تذهب لا يمكن تداركها. وإن لم يكن له مثل ، أو تعسّر تحصيله فيحكم بأداء ماليّته ، إذ المقدار الممكن من وصول المال إلى صاحبه هو هذا المقدار.

وأمّا ما في بعض الروايات من وجوب إعطاء القيمة ابتداء بعد تلف المغصوب أو المأخوذ بدون إذن المالك ، من دون ذكر المثل ، فمن جهة كون المورد من القيميّات لا المثليّات.

وما ذكرنا من المراتب بالنسبة إلى المثلي والقيمي كان حسب الضابط العقلي

ص: 60

والعرفي ، وأمّا ما هو الضابط عند الشرع في تعيين المثلي والقيمي سنذكره إن شاء اللّه تعالى ، وفعلا مقصودنا شرح معنى الحديث الشريف ، وأنّ « اليد » من أسباب الضمان كالإتلاف.

فقد ظهر ممّا ذكرنا دلالة هذا الحديث على صحّة هذه القاعدة ، وهي أنّ اليد سبب لضمان عين ما وقع تحت اليد.

بقي الكلام في ضمان منافع العين بقسميها ، أي المستوفاة وغير المستوفاة.

فنقول :

أمّا المنافع المستوفاة ، فلا شبهة في ضمانها ، وأنّها في عهدة المستوفي.

أمّا أوّلا : فلأنّها مال ، وقاعدتا « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » و « أنّ مال المسلم لا يحلّ إلاّ بطيب نفسه » تدلاّن على ضمانها ، وكونها في عهدة المستوفي ، وذلك لأنّه لا فرق في صدق الماليّة بين الأعيان والمنافع ، بل في كثير من الأشياء ماليّة العين بواسطة المنافع ، وإلاّ نفس العين لو لا تلك المنافع لا يبذل بإزائها المال.

وثانيا : وقوعها تحت اليد يتبع وقوع العين تحتها ، ولذلك يقال في باب إجارة الأعيان - بناء على أن تكون الإجارة فيها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم - إنّ قبض المنفعة بقبض العين.

وأمّا منافع غير المستوفاة ، فالمشهور فيه أيضا الضمان ، وهو الصحيح ، وذلك للتفويت إن قلنا بأنّه من موجبات الضمان عند العقلاء ، كما هو كذلك عندهم ، ولم يردع الشارع عن هذه القاعدة العقلائيّة ، وهي أنّ « من فوّت مال الغير عليه فهو له ضامن » بل ربما يظهر من بعض الروايات إمضاؤها ، ولا شك في أنّ المنافع غير المستوفاة أيضا مال كالمستوفاة ، والغاصب الحابس للعين فوّت منافعها على المالك.

نعم يبقى هنا شي ء : وهو أنّه لو كانت للعين منافع متضادّة في الوجود ، فبناء على الضمان فهل يضمن الجميع ، أو يضمن الأكثر ماليّة ، أو أحدها مخيّرا ، والتخيير للمالك

ص: 61

أو للضامن؟ وجوه.

والأقوى بناء على أن يكون مدرك الضمان وموضوعه تفويت مال الغير كما هو المفروض ، هو ضمان المنفعة التي هي أكثر ماليّة ، وذلك من جهة أنّها بعد كونها متضادّة في عالم الوجود ، فصدق التفويت على جميعها جمعا محال ، لأنّ معنى التفويت معنى هو أنّه صار سبب الفوت ، بحيث أنّه لو لم يكن لكان هذا الفائت حاصلا ، وها هنا حصول الجميع في حدّ نفسه لا يمكن لتضادّها ، ففوت الجميع جمعا مستند إلى تضادّها ، لا إلى المفوّت.

وأمّا أنّ التي يضمنها المفوّت هي التي أكثر ماليّة ، لأنّ المقدار الزائد على البقيّة كان ممكن الحصول لو لا تفويته وحبسه للعين على المالك ، فيكون ضامنا له ، بناء على صحّة قاعدة التفويت واعتبارها ، كما هو المختار عندنا.

نعم هذه القاعدة لا تجري بالنسبة إلى جميع أقسام منافع غير المستوفاة وتكون مخصوصة بما إذا كان عدم الاستيفاء مستندا إلى تفويته ، لا إلى آفة سماويّة. فلو غصب بستانا - مثلا - أو دابّة كذلك ، وكان عدم استيفاء الغاصب لمنفعة ذلك البستان ، أو تلك الدابّة لوصول آفة سماويّة إليهما لا لحبس الغاصب لهما على مالكهما ، فلا تجري هذه القاعدة ، ولا يمكن الحكم بالضمان لأجل قاعدة التفويت ، وأيضا لقاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ، وذلك لما ذكرنا من أنّ اليد على العين يد على المنفعة ، فتكون في عهدته ، ولا يرتفع إلاّ بأدائها. ولا فرق من جهة وقوعها تحت اليد بين أن تكون مستوفاة أو غير مستوفاة.

فالحقّ هو أنّ اليد الغاصبة أو غير المأذونة موجبة لضمان العين والمنافع مطلقا ، سواء أكانت مستوفاة أو لم تكن.

ثمَّ إنّه مقتضى القاعدة هو أن يكون الضمان بالمثل في المثلي ، والقيمة في القيمي ، وقد عرفت ذلك مفصّلا عند شرحنا لمعنى الضمان.

ص: 62

وأمّا الدليل على أنّ الضمان بالقيمة في القيمي وفي المثلي بالمثل ، فتارة يتمسّك بالإجماع ، وحاصله اتّفاق فقهائنا كافّة على أنّ الضمان في الضمان الواقعي في المثلي بالمثل ، وفي القيمي بالقيمة. وأمّا في ضمان المسمّى فهو نفس المسمّى ، قلّ أو كثر.

ولكن أنت خبير بأنّ الاستدلال في أمثال المقام بالإجماع لا يخلو عن الإشكال والمناقشة ، لوجود المدارك المتعدّدة من الآية والرواية.

وأخرى : بالآية الشريفة ، وهي قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1) ولا شك في أنّ الاعتداء بمثل ما اعتدى عليه في المثليّات هو المثل ، بل يمكن أن يقال إنّ الآية نصّ في ذلك.

وفيه : أوّلا أنّ كلمة « ما » في ( بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) يمكن أن تكون مصدريّة لا موصولة ، فيكون معناها : أنّ اللّه تعالى أمر بالاعتداء بمثل اعتداء المعتدي ، فالمماثلة في نفس الاعتداء ، لا في الشي ء الذي وقع الاعتداء عليه ، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (2) حيث أنّه ظاهر في أنّ المماثلة في كون الجزاء أيضا سيّئة لا فيما يجزى به ، ولذلك قلنا إنّ إطلاق السيّئة ها هنا على الجزاء من باب صنعة - المشاكلة.

والاستدلال بها مبنيّ على أن تكن كلمة « ما » موصولة ، ويكون المراد منها أنّ الشي ء الذي تعتدون به على المعتدي الأوّل يكون مماثلا للشي ء الذي هو اعتدى به عليكم ، ولو لم يكن ظاهر الآية هو الاحتمال الأوّل ، فلا أقلّ من أن يكون سببا لإجمالها من هذه الجهة ، فلا يصحّ الاستدلال بها.

وثالثة : بما ذكرنا من أنّ ذلك مقتضى نفس أدلّة الضمان الواقعي ، ومنها : قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ». ومنها : قاعدة الإتلاف ، وهي قولهم : « من أتلف

ص: 63


1- البقرة (2) : 194.
2- الشورى (43) : 39.

مال الغير فهو له ضامن » المصطادة من الأخبار الواردة في أبواب مختلفة.

وقد شرحناها مفصّلا ، وقلنا : معنى الضمان هو اعتبار وجود التالف ، أو المغصوب ، أو المأخوذ بدون إذن المالك ، أو من يكون أمر ذلك الشي ء بيده - من قبل المالك أو من قبل اللّه - على ذمّة الشخص الذي يسمّى بالضامن ، إلى أن يفرغ ذمّته وعهدته عن ذلك الوجود الاعتباري بأداء ما أتلف ، أو ما وقع تحت يده ، أو ما فوّت على المالك.

وقلنا : إنّ لأداء ذلك الشي ء مراتب ودرجات ثلاث ، على التفصيل المتقدّم فلا نعيد. والمقصود ها هنا هو أنّه مع وجود المثل لا تصل النوبة إلى القيمة ، لأنّ القيمة هي الدرجة الثالثة من أداء الشي ء.

وقلنا : إنّ هذا المعنى للضمان من المرتكزات في أذهان العرف والعقلاء.

وأمّا ما ربما يقال : من لزوم أداء المثل في المثليّات لأنّه أقرب إلى التالف فلا أساس له ، لعدم الدليل على وجوب إعطاء الضامن في مقام تفريغ ذمّته ما هو أقرب إلى التالف ، بل الدليل مفاده ردّ المغصوب أو تفريغ ذمّته عمّا اعتبر عليها.

ولا شكّ في أنّه مع وجود العين المغصوبة أو الواقعة تحت اليد غير المأذونة ، فأداء العين المغصوبة وردّها إلى مالكها موجب لفراغ ذمّته عنها ، ومع تلفها حيث أنّه لا يمكن ردّ الخصوصيّات الشخصيّة فلا بدّ إمّا من القول بسقوط وجوب الأداء عنه بالمرّة ، وهذا شي ء لا يمكن الالتزام به ، وإمّا أن يقال بعد عدم إمكان ردّ الخصوصيّات الشخصيّة يردّ ما أمكن ردّه من التالف ، بحيث يكون عند العرف ردّه ردّ المغصوب في صورة عدم إمكان ردّ العين بخصوصياته الشخصيّة بأن يكون من أفراد ومصاديق تلك الماهيّة الواجدة لجميع جهات التالف ، ما عدى الجهات والخصوصيّات الشخصيّة ، وهو الذي نعبّر عنه بالمثل.

نعم عند عدم إمكان هذا ، أيضا لا بدّ وأن تكون الهويّة بينه وبين التالف باعتبار

ص: 64

المالية فقط ، وهو الذي نسمّيه بالقيمي ، فظهر أنّ عنوان أنّه أقرب إلى التالف ما نزل في آية ، ولا وردت به رواية ، ولا دلّ عليه إجماع ، ولا دليل عقلي.

وأيضا لا يتوهّم : أنّ معنى الضمان هو أن ينتقل التالف إلى ملك من يقع التلف في يده آنا مّا قبل التلف بعوضه الواقعي كالقرض ، فيكون التالف ملكه تلف في يده وعليه ضمانه الواقعي مثل باب القرض ، لأنّه لا وجه لفرض هذا الانتقال وصيرورته آنا مّا ملكا لمن وقع التلف في يده قبل التلف ، لأنّه حصول ملكيّة للغاصب بدون قصد صاحب المال ، بل وبدون التفاته إلى ذلك أصلا ولا تخيّل الغاصب ولا التفاته إلى ذلك ، فهذا شعر بلا ضرورة.

وقياسه على تلف المبيع قبل قبضه مع الفارق ، لأنّه هناك لا موجب للضمان ، لا قاعدة الإتلاف ، لأنّه لا إتلاف ، ولا ضمان اليد ، لأنّ اليد يد أمانة من قبل المالك ، بخلاف المقام فإنّ الموجب - وهي اليد - موجود ، ولا حاجة إلى فرض أمور لا دليل عليها ، مع مخالفتها للارتكاز العرفي كما عرفت ، فلا نعيد.

ثمَّ إنّهم اختلفوا في بيان ضابط المثلي والقيمي ، والتعاريف التي ذكروها أشبه بالتعريف اللفظي من التعريف الحقيقي. وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ المثلي هي الطبيعة التي أفرادها متماثلة في الجهات النوعيّة والصفات الصنفيّة ، بحيث يكون ما به الامتياز بينها هي الخصوصيّات الشخصيّة ، وأمّا في الجهات الصنفيّة والنوعيّة فمشتركة ، ولذلك يصحّ السلم فيه ، بل بعضهم عرّف المثلي بأنّه ما يصحّ السلم فيه.

والحاصل : أنّ المراد من المثلي في هذا المقام هو أنّه لا ينقص عن التالف إلاّ في الخصوصيّات الشخصيّة ، وإلاّ ففي سائر الجهات فهو والتالف سواء.

وهذا هو السرّ في أنّه مع وجوده لا تصل النوبة في مقام تفريغ ما في ذمّته إلى القيمة ، لأنّه بأداء المثل لا يذهب من كيس مالك التالف إلاّ الخصوصيّات الشخصيّة فقط ، وأمّا مع أداء القيمة فيذهب من كيسه - مضافا إلى الخصوصيّات الشخصيّة -

ص: 65

الجهات الصنفيّة ، والصفات والحالات والعوارض النوعيّة بلا موجب ولا مبرر.

نعم المثلي بهذا المعنى على قسمين :

لأنّ الاشتراك في الصفات والعوارض النوعيّة ، والاتّحاد في الجهات الصنفيّة قد يكون بحسب الخلقة الإلهيّة ، وذلك كأغلب الحبوبات ، فإنّ امتياز حبّة حنطة أو شعير أو عدس أو حمصة إلى غير ذلك عن سائر حبّات نوعه أو صنفه غالبا ليس إلاّ بالخصوصيّات الشخصيّة ، وليس امتياز بينها بحسب الصفات النوعيّة والجهات الصنفيّة غالبا عرفا.

ولذلك أحسن شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في تعريفه المثلي - على ما يستفاد من عباراته في هذا المقام - بأنّه هو ما لا يتفاوت أفراد نوعه أو صنفه ، ولا يتميّز كلّ فرد عن الآخر ، بحيث لو اختلطا أو امتزجا وكانا من مالكين تحصل الشركة القهريّة ، وأيضا كلّما يصحّ السلم فيه فهو مثلي (1).

فهذا أحد القسمين من المثلي ، وهذا القسم هو القدر المتيقّن من المثلي في المقام من حيث حكمهم بأنّه مع وجوده لا تصل النوبة في أبواب الضمانات والغرامات إلى القيمة.

والقسم الثاني : هو أن يكون الاشتراك والاتّفاق في الجهات النوعيّة والصنفيّة بتوسّط الصناعة البشريّة ، كالقرّائين طبع حافظ عثمان مثلا ، فكلّ فرد من طبعة فلان من المطبعة الفلانيّة مشتركة من غير الجهات والخصوصيّات الشخصيّة مع الأفراد الأخر من نفس تلك الطبعة في نفس تلك المطبعة ، وهكذا الحال في سائر الكتب المطبوعة ، بل في جميع الأجناس التي تستخرج من المكائن العصريّة من الحاجيات وغيرها ، بل لا يكاد يوجد في العصر الحاضر في الأنواع الصناعيّة بغير هذا الشكل.

فجميع هذه الأنواع أفرادها مثليّات واقعا حسب التعريف والمناط الذي ذكرنا له ، ولكن مع ذلك كلّه وقع الخلاف في عدّ هذا القسم من المثليّات على ما ذكره شيخنا

ص: 66


1- « المكاسب » ص 105 - 106.

الأستاذ قدس سره (1) ويظهر من تقييده المثلي - بأن يكون تساوى الصفات والآثار بحسب الخلقة الأصليّة (2) - عدم عدّ هذا القسم من المثلي ، ولكنّه كلام عجيب بناء على أن يكون مدرك هذا الحكم في المثلي - أي : عدم وصول النوبة إلى القيمة مع وجوده - هو نفس أدلّة الضمان ، لا الإجماع.

وذكر قدس سره وجها للفرق بين القسمين (3) ، وهو أعجب من أصل فرقه. وحاصل ذلك هو أنّه النوع أو الصنف الذي أفراده متّحد الصفات والجهات ، إن كان من المخلوقات الإلهيّة ، فالمادّة والصورة فيه موجودان بوجود واحد ، أفيض عليهما من قبل اللّه تعالى بجعل واحد ، وخلقة واحدة ، وليست المادّة فيه مصنوعة لشخص ، والهيئة والصورة لشخص آخر.

وأمّا ما كان من المصنوعات البشريّة ، فمن الممكن أن تكون المادّة لشخص والهيئة لشخص آخر ، وحصلت من عمل إنسان غير من هو صاحب المادّة ، فقهرا يكون له مالكان : أحدهما مالك الهيئة ، والآخر مالك المادّة.

مثلا : إذا كان الخشب لشخص ، وعمل النجّار فيه عملا بحيث يكون عمله محترما - لا كالغاصب الذي لا احترام لعمله - فصنعه بابا أو سريرا أو غير ذلك من أنواع ما يمكن أن يصنعه النجّار ، فيكون الخشب في ذلك السرير مثلا ملكا لصاحب الخشب ، والهيئة السريرية ملكا لذلك النجّار الذي صنع ذلك السرير ، فإذا غصب هذا السرير غاصب ، أو وقع تحت يده بالعقد الفاسد ، أو بغير ذلك ممّا هو ليس بإذن المالك ، فمثل هذا السرير وإن كان موجودا ولكن حيث أنّ للتالف كان مالكين ، فلا يمكن إعطاء المثل لكلّ واحد منهما ، لعدم استحقاق كلّ واحد منهما تمام المثل ، بل أحدهما تلف هيئته والآخر مادّته ، فلا بدّ في مقام تفريغ الذمّة من إعطاء قيمة الهيئة لمن يملكها ،

ص: 67


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 337 - 338.
2- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 337.
3- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 337 - 338 ، في تحديد المثلي والقيمي.

وقيمة المادة أيضا كذلك ، مع أنّ التالف من المثليّات بالمعنى الثاني.

وأمّا في الأنواع والأصناف التي لا دخل للصناعة البشريّة فيها ، بل هي بمادّتها وصورتها من المخلوقات الإلهيّة ، فلا يمكن أن تكون المادّة لشخص والصورة لشخص آخر ، فإذا صار تالفا فمقتضى كونه بوجوده الاعتباري في عهدة الضامن هو تفريغ ذمّته بأداء مثله في الدرجة الثانية ، أي بعد تعذّر العين ، لا القيمة التي هي الدرجة الثالثة ، كما بيّنّا هذه المطالب وشرحناها مفصّلا.

وأنت خبير بما في هذا الكلام ، مضافا إلى الإشكالات العلميّة التي فيه ، أنّ هذا الفرق غير فارق بالنسبة إلى ما هو المقصود.

أما أوّلا : فلعدم جريانه فيما إذا كان التالف بمادّته وهيئته ملكا لشخص واحد ، وهذا القسم هو الغالب في الخارج ، لأنّ المتعارف في هذا العصر أنّهم يشترون من الأسواق من المصنوعات البشريّة ، وما من بيت إلاّ وفيه عشرات منها ، فالمادّة والهيئة كلاهما لشخص واحد ، فإذا تلف تحت يد غير مأذونه أو غاصبة أو التي أخذه بعقد فاسد أو بغير ذلك من الأيدي الموجبة للضمان ، فلا بدّ للضامن من إعطاء مثله - لما ذكرنا ، فلا نعيد - إلاّ أن يكون إجماع على عدم كفاية المثل لتفريغ ذمّة الضامن فيما إذا كان المثل من المصنوعات البشريّة ، وادّعاء هذا عجيب.

وثانيا : لا مانع من أن يكون الضامن في عهدته مثل التالف لكليهما ، فيشتركان في ما هو في عهدة الضامن ، كما كانا في الأصل كذلك.

وثالثا : حيث تحصل الشركة القهريّة بين العامل الصانع - كالنجّار مثلا - وبين صاحب المادّة ، فلا يبقى موضوع لهذا الفرض كي يكون ضامنا لأحدهما بالمادّة وللآخر بالهيئة ، بل لأحدهما ضامن بأحد الكسور وللآخر بالآخر ، سواء كانا متّفقين في الكسر أو كانا مختلفين.

وخلاصة الكلام : أنّ الفرق بين الأنواع والأصناف الطبيعيّة والصناعيّة خلاف

ص: 68

المرتكزات العرفية وعند العقلاء في أبواب الضمانات والغرامات.

بل عندي أنّ لزوم إعطاء المثل ، وعدم جواز إلزام المالك للضامن بالقيمة في المثليّات الصناعيّة أولى وأرجح من المثليّات الطبيعيّة والمجعولات الإلهيّة ، وما لم تدخل في صنعة أيدي البشريّة ، وذلك من جهة أنّ الأخير ربما يكون بعض الاختلاف غالبا بين أفراد ذلك النوع من حيث الشكل والكبر والصغر ، فلو أنّ أحدا غصب أربع حبّات حنطة أو حمصة أو غير ذلك من الحبوب ، فالاختلاف بين الحبوب التالفة وبين ما يعطي الغاصب بعنوان الغرامة أزيد من الاختلاف بين استكان التالف المغصوب مع ما يعطي الغاصب بعنوان الغرامة من نفس الماركة.

بل عبارة شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في مقام تعريف المثلي « بأنّه ما لا تتميّز أفراده بعد الاختلاط أو الامتزاج » (1) انطباقه على المثليّات الصناعيّة أوفق من الطبيعيّة ، لقلةّ الاختلاف في الأوّل.

هذا بحسب المرتكزات العرفيّة وكون مدرك المثل في المثليّات هو فهم العرف من أدلّة الضمان ذلك.

وأمّا لو كان مدركه الإجماع ، فيمكن أن يفرق بين المثلين ، ولكن دعواه عجيب بحيث ينتهي إلى المعصوم قولا أو فعلا أو تقريرا ، وذلك لعدم المكائن في تلك الأعصار ، وأمّا ما كان من صنع اليد في تلك الأزمنة فالاختلاف بينها كانت كثيرة ، فلا يجوز إجراء حكم ما كان يصنع باليد في تلك الأزمنة على ما يصنع بالمكائن في هذا العصر.

وإنّما طوّلنا البحث في المقام لأجل كثرة الاحتياج والابتلاء في هذا العصر بالصناعيّات ، والضمان والغرمات فيها.

إذا عرفت ما ذكرنا في أنّ مقتضى قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » هو

ص: 69


1- « المكاسب » ص 105.

في الدرجة الأولى ردّ نفس العين ، ومع تلفها ردّ مثلها في المثليّات في الدرجة الثانية ، ومع كون التالف من القيميّات على الضابط المتقدّم تصل النوبة إلى الدرجة الثالثة ، وهي ردّ القيمة في القيميّات. فنقول :

إنّ ها هنا أمور يجب ذكرها والتنبيه عليها

[ الأمر ] الأوّل : أنّه لو لم يوجد المثل إلاّ بأكثر من ثمن أمثاله ، فهل ينتقل إلى الدرجة الثالثة ، ويكون عليه القيمة ، ويكون وجوده بمنزلة العدم ، أم لا بل يجب شراؤه وإعطاؤه غرامة للتالف؟

ثمَّ إنّ المراد بعدم وجوده إلاّ بأكثر من ثمن أمثاله هو عدم وجوده إلاّ عند شخص لا يبيعه إلاّ كذلك ، بحيث لو كان في السوق أو كان عند غير هذا الشخص لكان يباع بأقلّ من هذا ، وأمّا لو كانت زيادة القيمة من ناحية ترقّي قيمته في الأسواق ، فلا إشكال في وجوب شرائه ولزوم إعطائه لمالك التالف؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّه لا بدّ وأن ينظر ، وأنّ كونه في يد شخص لا يبيع إلاّ بأزيد من ثمن مثله وعدم وجوده في مكان آخر هل هو لانحصار وجوده فيما عند ذلك الشخص ، أو لقلّة وجوده؟ فإن كان كذلك ، فالظاهر أنّ هذا ملحق بتعذّره ، وسنتكلّم عنه.

وأمّا إن كان لأجل أنّ هذا الشخص أو مع غيره - ولكن ذلك الغير في بلاد بعيدة بحيث متعذّر أو متعسّر الاشتراء منه - حصروا هذا النوع أو الصنف عندهم ، ولم يكن وجوده في حدّ نفسه قليلا ، ففي مثل هذه الصورة لا يخرج عن كونه مثليّا ، لأنّ المثلي - بناء على ما ذكرنا - أن يكون نوع التالف أو صنفه ذا أفراد متماثلة غير متفاوتة من ناحية الصفات والجهات النوعيّة والصنفيّة ، وفيما نحن فيه يكون الأمر كذلك ، غاية الأمر حصره البعض عنده لأجل زيادة الربح ، كما هو شغل بعض المحتكرين ،

ص: 70

فيخزنون الحنطة مثلا ويجعلونها منحصرة بما عندهم ، ثمَّ لا يبيعونها إلاّ بما هو أضعاف قيمتها لو لا هذا الاختزان.

فالإنصاف : أنّ في مثل هذه الصورة مقتضى ما ذكرنا من الارتكاز العرفي هو لزوم تفريغ ذميته ، وأداء ما أخذته يده بالمثل ، ويجب شراؤه وإن كان بأضعاف قيمته.

وهذا بعنوانه الأوّلي ، ولكن بعنوان أنّ وجوب الشراء في مثل هذه الصورة ضرريّ ، والحكم الضرريّ منفيّ في الإسلام فذلك أمر آخر ، ولا بدّ من الملاحظة والدقّة في أنّ مثل هذه الموارد هل من موارد جريان قاعدة لا ضرر ، أو ليس كذلك.

وفيه كلام طويل ، وقد بحثنا عن هذه القاعدة ومفادها ومدركها وموارد جريانها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

وإجماله : أنّ مفاد القاعدة هو نفي الحكم الضرري ، بحيث يكون عنوان أنّه ضرريّ عنوانا ثانويّا لذلك الحكم ، فالحكم الذي لا يترتّب عليه ضرر أصلا خارج عن تحت هذه القاعدة ، والحكم الذي يكون طبعه مقتضيا للضرر أيضا كذلك ، كالجهاد أو الخمس أو الزكاة ، والحجّ بالنسبة إلى الزاد والراحة ، فهذه الموارد كلّها خارجة عن تحت هذه القاعدة.

فمورد القاعدة هو فيما إذا كان الحكم بحسب طبعه لا يقتضي الضرر ، ولكن قد يتّفق لجهات خارجيّة ترتّب الضرر عليه ، سواء كان ذلك الضرر بدنيّا أو ماليّا أو اعتباريّا ، ففي مثل ذلك المورد تكون هذه القاعدة حاكمة على عموم الدليل الأوّلى أو إطلاقه ، ويخصّصه أو يقيّده بغير مورد ترتّب الضرر.

فلو نذر أن يطعم زيدا - مثلا - إن صار كذا ، فيتنجّز نذره بوجود المعلّق عليه ، فيجب عليه الوفاء بنذره وشراء الطعام من السوق ، وإن كان هذا الشراء ضررا ماليّا عليه. والقاعدة لا ترفع هذا الوجوب ، لأنّ هذا الضرر مقتضى طبع وجوب الوفاء بالنذر في الماليّات ، وفي المفروض من المورد لو ترقّى قيمة اللحم ترقّيا فاحشا في

ص: 71

الأسواق لا يمنع هذا الضرر عن وجوب الوفاء بالنذر ، لما قلنا إنّ هذا القسم من الضرر مقتضى طبع وجوب الوفاء.

وأمّا لو كان غلاء قيمة اللحم من جهة احتكار شخص أو أشخاص ، لا من جهة ترقّي القيمة السوقيّة ، فيمكن المورد مشمولا لقاعدة لا ضرر ، لأنّ هذا الضرر له جهة خارجيّة ، وليس من مقتضيات طبيعة الحكم ، كما هو واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال جريان القاعدة في محلّ كلامنا وعدم جريانها ، وأنّه إن كانت زيادة قيمة المثل بأكثر من ثمن أمثاله من جهة احتكار من عنده المثل أو ما يشبه الاحتكار ، فالقاعدة تجري ، وأمّا إن كان طلب الزيادة من جهة قلّة وجوده ، فالقاعدة لا تجري ، لأنّ الشي ء القليل الوجود إذا كان مطلوبا للعموم فقهرا تترقّى قيمته ويغلو سعره ، وإذا غلى سعره - وإن كان بواسطة قلّة وجوده في الأسواق - يكون الضرر من مقتضيات طبع الحكم ، فلا يكون مشمولا للقاعدة.

وكذلك الأمر في مسألة شراء الماء للوضوء ، فإن كان من عنده الماء يطلب قيمة زائدة لأجل كونه في قافلة في فصل الصيف ، والماء هناك قليل وطلاّبه كثيرون ، فلا تجري القاعدة ، ويجب الشراء وإن كان غالبا ، لاقتضاء الزمان والمكان ذلك ، وهذا الضرر من مقتضيات طبع الحكم.

وأمّا إن كانت الزيادة لأجل حصر الماء عن الآخرين ، فتجري القاعدة.

وهذا ضابط كلّي في جميع الموارد.

[ الأمر ] الثاني : لو تعذّر المثل في المثلي ، فلا شكّ في أنّ الأداء وتفريغ الذمّة ينتقل إلى الدرجة الثالثة وهي القيمة. إنّما الكلام في أنّ وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك ، أو يكون مطلقا؟

ولتوضيح المقام وتنقيحه نقدّم أمورا :

الأوّل : في أنّه ما المراد من تعذّر المثل؟ وهل المراد عدم وجوده وعدم إمكان

ص: 72

تحصيله مطلقا حتّى مع التعب الشديد وصرف المال الكثير ، أو لا بل المراد منه عدم سهولة تحصيله من جهة قلّة وجوده ، أو كونه في بلد بعيد يصعب عليه جلبه من ذلك البلد؟

أقول : المناط في أبواب الضمانات والغرامات حسب الارتكاز العرفي في الانتقال من الدرجة الثانية إلى الثالثة ، عدم التمكّن من تحصيله عرفا ، فإذا حصل التعذّر بهذا المعنى فيجب عليه دفع القيمة ، بمعنى أنّه ليس للمالك إلزامه بإعطاء المثل ، ولو كان يجلبه من البلد البعيد وتحمّل المشقّة أو صرف المال الكثير ، فإنّ العرف يرى وجود المثل في هذه الصورة كالعدم ، فيفهم من أدلّة الضمان وجوب أداء القيمة.

الثاني : أنّ حكم تعذّر المثل هو حكم تلف العين ، أو حكم تعذّر العين؟ فإن كان هو الأوّل فقهرا ينتقل ما في الذمّة من كونه مثلا إلى القيمة ، كما أنّ العين إذا وقع عليها التلف ينتقل الضمان من العين إلى بدلها من المثل أو القيمة ، كلّ واحد منهما في مورده.

أمّا إن كان مثل تعذّر العين ، فكما أنّ في تعذّرها لا ينتقل الضمان إلى البدل ما دامت العين موجودة - غاية الأمر على الغاصب إعطاء بدل الحيلولة لا بدل نفس العين - فكذلك ها هنا لا ينتقل الضمان إلى القيمة ، بل المثل باق على عهدة الغاصب إلى زمان الأداء.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ قياس تعذّر المثل بتعذّر العين لا وجه له ، لأنّ العين مع وجودها وبقائها لا وجه لخروجها عن ملك مالكها ، لأنّ تعذّر الوصول إلى الملك ليس ممّا يوجب سقوط الملكيّة ، فمع بقاء عين ماله في ملكه لا معنى لأخذ بدله الواقعي ، لأنّه من الجمع بين البدل والمبدل ، فلو قلنا بلزوم تدارك ما فات من المالك لا بدّ أن يكون بدل حيلولته بين المال ومالكه.

وأمّا فيما نحن فيه ، فبعد تلف العين قلنا إنّ المرتكز العرفي - فيما إذا قيل إنّ الذمّة مشغولة ولا يرتفع بعد تلفها إلاّ بأداء ما أخذه - أنّ عليه أداء ما أخذه بالمثل إن كان ،

ص: 73

وبعد تعذّره تصل النوبة إلى القيمة ، فلا وجه لبقاء المثل في عهدته إلى زمان الأداء ولو بالقيمة. وقياسه على تعذّر العين باطل ، ومع الفارق إذ هو لم يملك المثل إلاّ بعد أن يعطى له بخلاف العين ، فإنّه يملكها ولا وجه لسقوط ملكيّتها بصرف التعذّر.

الثالث : أنّه بناء على ما عرفت في الأمرين المتقدّمين - وهما عدم سهولة تحصيله المثل عرفا ، وكون تعذّره بمنزلة تلف العين - فقهرا يكون التعذّر موجبا لأن يكون ذمّة الغاصب أو من هو بحكمه مشغولة بالقيمة. وإن شئت سمه بانقلاب المثل إلى القيمة ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

فبناء على هذا يجب دفع القيمة إلى المالك ، طالب أو لم يطالب ، بل له إلزام المالك بأخذ القيمة إلاّ أن يكون المثل مرجو الحصول في زمان قريب ، فله أن يمتنع عن أخذ القيمة ويصبر إلى زمان حصول المثل ، كما إذا كان التالف حنطة ، والحنطة إمّا ليس بموجود أو عزيز الوجود ، فللغاصب إلزام المالك بأخذ القيمة إلاّ أن يكون في زمان الحصاد والمتوقّع وفور الحنطة في زمان قريب.

ولا فرق فيما ذكرنا من الانقلاب بين التعذّر الطاري والبدوي أصلا ، كما هو واضح فلا يحتاج إلى تطويل الكلام.

[ الأمر ] الثالث : من الأمور التي قلنا يجب التنبيه عليها هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ المغصوب أو ما كان بحكمه إن كان قيميّا يجب أداء قيمته - إمّا للإجماع على ذلك كما ادّعى في المقام ، أو من جهة أنّ المرتكز في أذهان العرف هو ذلك من أدلّة الضمان كما هو المختار عندنا - هل المدار في تعيين القيمة قيمة يوم دخول العين تحت اليد ، أو قيمة يوم التلف ، أو قيمة يوم الأداء ، أو أعلى القيم من زمان دخول العين تحت اليد إلى زمان التلف ، أو إلى زمان الأداء؟

وجوه وأقوال ، وذكروا لهذه الأقوال والوجوه الخمسة أدلّة ومدارك ، ويطول المقام بذكر جميع ما قالوا في مدارك هذا القول ، ولذلك نحن نكتفي بذكر ما هو المختار

ص: 74

عندنا ، وهو قيمة يوم الأخذ غصبا ، أو بدون إذن المالك وإن لم يطلق عليه عنوان الغصب عرفا.

فنقول : ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » - كما تقدّم - هو أنّ نفس ما وقع تحت اليد يثبت ويستقرّ على عهدة الآخذ ، ولا شك في أنّ هذا المعنى - أي استقرار ما أخذته اليد عليها - حكم شرعي وضعي في عالم الاعتبار التشريعي ، ونفس المأخوذ مال وعين خارجيّة وقعت تحت اليد ، فنفس العين الخارجيّة من الموجودات الخارجيّة ، ولا يمكن أن تنتقل بنفسها إلى العهدة ، لأنّ المراد من العهدة والذمّة عالم الاعتبار ، والموجود الخارجي محال أن ينتقل بوجوده الخارجي إلى عالم الاعتبار ، وإلاّ يلزم أن ينقلب الخارج اعتبارا ، فكما أنّ الموجود الخارجي لا يأتي إلى الذهن للزوم الانقلاب ، فكذلك الأمر ها هنا. بل المحاليّة هاهنا أوضح ، لأنّ الموجود الخارجي والذهني كلاهما موجودان خارجيّان واقعيّان ، والقول بأنّ أحدهما ذهني والآخر خارجي مجرّد اصطلاح.

وأمّا في ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، بل الموجود الخارجي أمر واقعي وله وجود في الخارج ، سواء كان معتبر في العالم أو لم يكن ، بخلاف الأمر الاعتباري ، فليس له وجود أصلا وإنّما هو صرف اعتبار ممّن بيده الاعتبار.

وبعبارة أخرى : كما أنّ للأشياء وجود خارجي ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود كتبي ، كذلك للأشياء المتموّلة وجود اعتباري ، أي يعتبرها الشارع أو العقلاء في عالم الاعتبار لترتيب آثار ذلك الموجود عليه ، فالمراد من « على اليد ما أخذت » اعتبار ذلك الوجود الذي وقع تحت اليد فوق اليد ، أي على العهدة.

وذلك الوجود المأخوذ له جهات ثلاث : الخصوصيّات الشخصيّة ، والجهات الصنفيّة والصفات والعوارض الطارئة على نفس الطبيعة ، والثالثة ماليّته التي هي العمدة في أبواب الضمانات والغرامات ، ففي عالم الاعتبار يعتبر ما هو الواجد للجهات

ص: 75

الثلاث ، فما دام يمكن أداء الجهات الثلاث يجب عليه أداؤها جميعا. وهذا فيما إذا كانت عين المال المغصوب موجودة يجب على الآخذ أداؤها جميعا ، لأنّ في ذمّته بالمعنى الذي ذكرنا للذمّة.

وإذا تلفت العين تسقط الخصوصيّات الشخصيّة ، لأنّ اعتبارها على الذمّة لترتيب الأثر الذي هو وجوب أدائها ، فإذا لم يمكن فاعتبارها لغو وتبقى الجهتان الآخريان ، أي الماليّة ، والعوارض والطواري النوعيّة الموجبة لتصنيفه. وإذا فقد المثل وانعدم بالمرّة - إمّا من أوّل الأمر ، أو طرأ الفقدان بعد ما كان - فتسقط الجهات المصنّفة أيضا ، وتبقى الجهة الماليّة فقط.

وبقاء الجهة الماليّة في العهدة يجتمع حتّى مع وجود العين فيما إذا سقطت عن المالية كقربة من الماء في المفازة التي تحتاج إليه القافلة ، خصوصا مع فقد غيرها إذا أتي بها الغاصب ويريد أن يرجعها إلى المالك في حافة الشط ، وكالأوراق الماليّة التي غصبها في حال اعتبارها ويريد ردّها إلى مالكها في حال سقوط اعتبارها.

ثمَّ إنّه قد ظهر لك أنّ المدار في القيمي قيمة يوم الأخذ ، لأنّ ظرف الضمان حسب مفاد هذا الحديث الشريف هو وقت الأخذ ، فيأتي المأخوذ بجهاته الثلاث في العهدة في ذلك الوقت ، منها قيمته في ذلك الوقت.

وبناء على ما ذكرنا لو سقطت العين المغصوبة بعد أن غصبها عن الماليّة ، فيجب عليه أداء قيمتها ، وأيضا أداء نفس العين مع بقائها ، وذلك من جهة إمكان أداء الجهات ، أمّا القيمة فمن الخارج ، وأمّا الجهات المصنّفة والخصوصيّات المشخصة فلوجودها في العين مع بقائها.

إن قلت : إن كان المدار في القيمة قيمة يوم الأخذ ، فلما ذا قالوا بضمان النماءات التي تحصل للعين المغصوبة بعد الغصب ، وإن تلفت تلك النماءات بعد حصولها ، كما لو سمن الشاة مثلا في يد الغاصب ثمَّ زال عنها السمن وعادت حالته الأولى ، فلو كان الضمان

ص: 76

قيمة يوم الأخذ فقط ، فلا وجه لضمان تلك النماءات التي تحصل بعد يوم الأخذ.

قلنا : إنّ النماءات التي تحصل بعد الغصب تقع تحت اليد جديدا بتبع بقاء العين ، وفي الحقيقة تكون غصبا آخر غير مربوط بالغصب الأوّل ، ولذلك نفرق بين تلك النماءات وترقّى القيمة السوقيّة. وذلك من جهة أنّ ترقّيات القيمة السوقيّة ليست من أشياء تقع تحت اليد كي تكون غصبا جديدا وموجبا لضمان جديد.

هذا ، مضافا إلى دلالة صحيحة أبي ولاّد على أنّ المدار في القيمة قيمة يوم الغصب ، فلنذكر الصحيحة ونبيّن كيفيّة دلالتها على أنّ المدار في تعيين القيمة قيمة يوم الأخذ والغصب ، وهي هذه :

في الوسائل : محمّد بن الحسن بإسناده عن أبي ولاّد ، قال : اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت نحو النيل ، فلمّا أتيت النيل خبرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتبعته فظفرت به ورجعت إلى الكوفة - إلى أن قال : - فأخبرت أبا عبد اللّه علیه السلام ، فقال : « أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه » ، قال : قلت : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : « لا ، لأنّك غاصب » ، فقلت : أرأيت لو عطب البغل ، أو نفق أليس كان يلزمني؟ قال : « نعم قيمة بغل يوم خالفته » قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر؟ فقال : « عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه » ، قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : « أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك » الحديث (1).

ص: 77


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 313 ، أبواب الغصب ، باب 7 ، ح 1.

ثمَّ إنّه ربما يستشكل بالاستدلال بهذه الصحيحة بأنّها مخالفة للقواعد العامّة ، والأخبار المستفيضة ، بل الأخبار القطعيّة (1). وهي أنّه لا شكّ في أنّ البيّنة وظيفة المدّعي ، والحلف وظيفة المنكر ، والتفصيل قاطع للشركة ، فلا يجتمعان بالنسبة إلى أحد المتخاصمين في واقعة واحدة ، وهنا اجتمع بالنسبة إلى المالك.

وفيه أوّلا : أنّه يمكن أن يكون هذا الكلام باعتبارين واختلاف كيفية إنشاء دعويهما ، وذلك كما إذا ادّعى شخص على زيد مثلا بكذا ، فإن قال زيد في مقام جوابه :

لم تطلب مني شيئا ، يكون منكرا. وإن قال : أعطيتك ، يكون مدّعيا ، ففي المقام إذا ادّعى الغاصب تنزل القيمة يوم المخالفة بعد الاتّفاق في القيمة قبل يوم المخالفة بيوم أو بأيّام ، فيكون المالك منكرا للتنزّل ، وعليه الحلف وعلى الغاصب أن يأتي بشهود.

وأمّا لو كان مصبّ الدعوى والاختلاف في القيمة هو نفس يوم المخالفة ، من غير اتّفاق على القيمة سابقا ، فالقول قول الغاصب ، لمطابقة قوله للحجّة الفعليّة ، وهي البراءة عن الزائد الذي يدّعيه المالك ، فيكون على المالك إقامة البيّنة على ما يدّعيه.

وثانيا : اختلال بعض الفقرات لا ينافي مع حجّية فقرات الأخر.

وأمّا دلالة هذه الصحيحة على أنّ المدار في تعيين القيمة هو قيمة يوم المخالفة ، ففي موضعين :

[ الموضع ] الأوّل : قوله علیه السلام : « نعم قيمة بغل يوم خالفته ». وقد أفاد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في وجه دلالة هذه الفقرة على أنّ المدار في قيمة القيمي التالف قيمة يوم الغصب والأخذ هو أنّ الظرف قيد للقيمة ، وذكر لذلك وجهين :

الأوّل : إضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانيا ، فيكون معنى الكلام بناء على

ص: 78


1- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب ان البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 553 ، باب (89) كيفية الحكم والقضاء ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1 - 2.

هذا الاحتمال هكذا : قيمة بغل قيمة يوم المخالفة (1). وهو يوم الغصب والأخذ بدون إذن المالك ، فيكون صريحا فيما هو المقصود ، وهو أنّ المدار على قيمة يوم الأخذ في ضمان القيميّات.

ولكن الإشكال في أنّ الكلمة الواحدة في جملة واحدة تكون مضافة إلى شيئين في عرض واحد - كما هو مدعاه قدس سره على تقدير إمكانه ، - والإغماض عما استشكل عليه شيخنا الأستاذ قدس سره من الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في استعمال ولحاظ واحد - وهو محال (2) ليس معهودا في تراكيب الكلام والجمل العربيّة ، فمثل هذه الدعوى لا تقبل في استظهار مفاد الكلام العربي.

نعم الذي لا مانع منه هو تتابع الإضافات ، مثل ماء حوض ، دار فلان ومثل دأب قوم نوح الوارد في القرآن كريم ، ولكن هذا غير ما ذكره قدس سره .

الثاني : أن يكون الظرف قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل ، فيكون المعنى قيمة مختصّة بالبغل يوم المخالفة. وحيث أنّ كلمة « مختصّة » - الحاصلة من إضافة القيمة إلى البغل - شبه فعل ، فيجوز أن تكون عاملا في الظرف.

وعلى هذا التقدير أيضا يكون صريحا على أنّ المدار قيمة يوم الأخذ بدون إذن المالك ، لأنّ القيمة المختصّة بالبغل يوم المخالفة هي عين قيمة يوم الأخذ.

واستشكل شيخنا الأستاذ قدس سره على هذا الوجه أيضا بمثل الإشكال الأوّل ، وهو أنّ الاختصاص الحاصل من الإضافة معنى حرفي ، وملحوظ آلي ، فلا يمكن أن يرد عليه القيد (3) ، لأنّ المعاني الحرفيّة ليست قابلة للتقييد ، وذلك من جهة أنّ التقييد لا يمكن إلاّ مع ملاحظة القيد والمقيّد استقلاليّا ، فيلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي

ص: 79


1- « المكاسب » ص 110.
2- الشيخ الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 359 ، في مدرك القول بيوم الضمان.
3- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 359 ، في مدرك القول بيوم الضمان.

في لحاظ واحد.

ولكن الإنصاف أنّه يمكن أن يلاحظ ذلك الاختصاص الحاصل من الإضافة باللحاظ الآلي ، ثانيا بلحاظ آخر استقلالي. ونظائره كثيرة ، مثلا يقال : هذا عصاء زيد يوم سفره ، أو هذا عباؤه يوم الجمعة ، أي : عصائه المختص بيوم سفره ، أو عباؤه المختصّ بلبسها يوم الجمعة ، فليس التقييد بلحاظ ذلك اللحاظ الآلي في حال الإضافة ، بل بلحاظ آخر استقلالي بعد الإضافة.

نعم هنا وجهان آخران لاستفادة كون المدار على قيمة يوم الأخذ من هذه الفقرة :

أحدهما : كونها من تتابع الإضافات ، وهو أن تكون القيمة مضافة إلى بغل ، وبغل مضافا إلى يوم وسقوط اللام عن بغل بواسطة إضافته إلى يوم ، فيكون المعنى : قيمة بغل ذلك اليوم. وهذه عبارة أخرى عن قيمة ذلك اليوم ، أي يوم الغصب والأخذ بدون اذن المالك.

وذلك من جهة أنّ اختلاف البغل باختلاف الأيّام ، وإن كان من الممكن أن يكون باعتبار سمنه في يوم وهزاله في يوم آخر ، أو صحّته ومرضه كذلك ، ولكن في المورد ظاهر في أنّ تخصيص البغل بيوم المخالفة باعتبار قيمته في ذلك اليوم ، لأنّ مجموع الأيّام التي كان البغل تحت يده لا يتجاوز أيّام قليلة ، والبغل لا يختلف في تلك الأيّام القليلة من جهة السمن والهزال ، والصحّة والمرض ، فيكون ظاهر التخصيص بيوم المخالفة هو باعتبار قيمة ذلك اليوم. وبناء على هذا يكون الظرف قيدا للبغل.

الثاني : أن يكون الظرف قيدا ل- « نعم » ويكون متعلّقا ب- « يلزمك » المقدّر في جواب قول السائل والمستفهم ، أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ، فقوله علیه السلام :

« نعم » في جواب هذا الاستفهام تصديق وتقرير لما قال : أليس كان يلزمني ، فيصير المعنى : نعم يلزمك قيمة بغل يوم خالفته. وظاهر هذه العبارة وإن كان أنّ ضمانه

ص: 80

واشتغال عهدته في ذلك اليوم بقيمة بغل ، وأمّا قيمة يوم الغصب ، أو يوم التلف ، أو يوم الأداء ، أو أعلى القيم ، فكلّ ذلك ممكن ويصلح للجميع.

ولكن شيخنا الأستاذ قدس سره أفاد أنّ ضمان القيمة لو كان يوم المخالفة ، أي يوم الغصب يتعلّق بالعهدة ، وتشتغل الذمّة بها في ذلك اليوم (1) ، فلا يمكن أن تكون قيمة يوم المتأخّر عن يوم المخالفة ، وهو يوم التلف ، أو يوم الأداء.

وهذا الكلام وإن كان لا يخلو من تأمّل - بل وإشكال - ولكن يمكن أن يقال : إنّ معنى الضمان في ذلك اليوم - كما تقدّم - هو اشتغال ذمّته فيه بتلك العين التي وقعت تحت يده بدون إذن المالك ، أي اشتغال ذمّته بوجود العين في عالم الاعتبار ، وقلنا إنّ الوجود الخارجي لا يأتي في عالم الاعتبار ، فالذي يركب على العهدة هو الوجود الاعتباري لتلك العين المغصوبة ، أي الشارع أو العقلاء يعتبرون عليه وجود العين الخارجي بجهاتها الثلاث ، أي خصوصيّاتها الشخصيّة ، وصفاتها العارضية على النوع ، وماليّتها الموجودة في ذلك اليوم ، أي في يوم الضمان على الفرض وهو يوم الغصب. وهذا معنى اشتغال عهدته بقيمة يوم الغصب ، وقد تقدّم شرح ذلك تفصيلا.

فإذا تلفت العين وعدم المثل كما هو المفروض في تلف القيمي ، لا يبقى في العهدة إلاّ تلك الجهة الثالثة ، أي ماليّة تلك العين وقيمتها في يوم الغصب ، لأنّ العين بتلك الجهات الثلاث الموجودة في ذلك اليوم استقرّت في العهدة ، فتصير الصحيحة بناء على هذا الوجه موافقة في المضمون ، وبحسب مفادها مع قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

الموضع الثاني : قوله علیه السلام : « أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك ».

والظاهر من قوله علیه السلام « قيمة البغل حين اكترى » هو قيمة يوم الغصب ، إذ وقت

ص: 81


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 361 ، في الوجوه المحتملة من صحيحة أبي ولاّد.

الاكتراء لا ضمان قطعا.

ولكن حيث أنّ وقت الغصب ويومه هو نفس يوم الاكتراء في هذا المورد - لأنّه اكترى في الكوفة ، ووقع الغصب قرب قنطرة الكوفة حين ما سمع بتوجّه غريمه إلى النيل ، وهذا عادة يتّفق في نفس يوم الاكتراء بعد ساعة أو ساعات - عبّر عن يوم الغصب بيوم الاكتراء.

ولعلّ العدول عن يوم الغصب إلى عنوان « حين الاكتراء » لأجل أنّ تحصيل الشهود حين الاكتراء أسهل من حال الغصب ، وذلك من جهة أنّ حين الاكتراء غالبا محلّ اجتماع المكّارين العارفين بقيمة الدوابّ ، وأمّا حين الغصب وهو الواقع في أثناء الطريق لا طريق غالبا إلى تحصيل الشهود على معرفة قيمته في ذلك الوقت ، فبناء على هذا تكون هذه الفقرة صريحة في أنّ المدار في ضمان القيمي قيمة يوم الغصب والأخذ بدون إذن المالك.

وأمّا احتمال أن يكون المراد بهذه الفقرة ضمان عين المستأجرة مع عدم شرط الضمان الذي مخالف للقواعد ، فلا ينبغي صدوره عن فقيه ، مع كون هذه أحد شقّي الترديد في مطلب واحد ، وفي مورد واحد وهو ضمان البغل الذي وقع عليه التلف بعقر أو كسر أو دير بعد تصرّفه العدواني بدون إذن صاحبه.

ثمَّ إنّ ها هنا مناقشات فيما استظهرناه من الرواية يجب أن تذكر مع الجواب عنها :

منها : أنّ قوله علیه السلام « عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه » ظاهره أنّ المدار على قيمة يوم الأداء ، بناء على أن يكون هو المراد من « يوم تردّه عليه ».

وهذا بناء على أن يكون « يوم تردّه » قيدا للقيمة واضح ، وبناء على أن يكون متعلّقا ب- « عليك » يكون الظرف لغوا أو يكون العامل فيه من أفعال العموم ويكون الظرف مستقرا أيضا كذلك ، لأنّه بناء على الأوّل يكون المعنى : يلزمك القيمة يوم

ص: 82

تردّه ، ولا يمكن أن يأتي يوم الردّ على عهدته قيمة يوم آخر سابق عليه. وبناء على الثاني يكون المعنى : أنّ القيمة يثبت عليك يوم الردّ ، ويستقرّ على عهدتك ذلك اليوم.

والجواب : أنّ ظاهر هذا الكلام هو أنّ الظرف متعلّق ب- « عليك » ويكون المعنى :

يلزم عليك يوم تردّ البغل ، مثلا أن تعطى له قيمة تفاوت ما بين الصحّة والعيب ، وأمّا أنّ القيمة قيمة أيّ يوم فالرواية ساكتة عنه ، فلا يعارض ظهور هذه الفقرة ظهور الفقرات السابقة.

هذا ، مع أنّ هذه الفقرة في مقام بيان ضمان أرش العيب ، ولا دليل على لزوم اتّحاد زمان ضمان التلف مع زمان ضمان أرش العيب ، فيمكن أن يكون زمان ضمان التلف يوم الغصب ، وزمان ضمان أرش العيب يوم ردّ العين ، فتأمل.

ومنها : أنّه علیه السلام تارة جعل المالك منكرا ، لقوله علیه السلام : « إمّا أن يحلف هو فيلزمك » ، وأخرى جعله مدّعيا ، لقوله علیه السلام : « أو يأتي صاحب البغل بشهود » إلى آخره ، وذلك لوضوح أنّ الحلف ابتداء وظيفة المنكر ، والبيّنة وظيفة المدّعي ، وقد جمعها في الرواية للمالك ، فلا بدّ وأن يكونا في موردين كي لا يلزم هدم القاعدة المسلّمة المعروفة بين المسلمين ، وهي قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) ولا يمكن أن يكونا في موردين إلاّ أن يكون ضمان القيمي قيمة يوم التلف ، لا يوم المخالفة.

بيان ذلك : أنّه لو كان المدار على الأخير فدائما يكون المالك مدّعيا والغاصب منكرا ، لمطابقة قوله للحجّة الفعليّة ، وهي أصالة براءة ذمّته عمّا يدّعيه المالك من الزيادة في يوم المخالفة.

وأمّا لو كان المدار على قيمة يوم التلف ، فيمكن أن يكون المالك مدّعيا ، وهو فيما

ص: 83


1- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب أنّ البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 553 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، 1 - 2.

إذا كان معترفا بعدم تفاوت قيمة يوم الغصب مع قيمة يوم التلف ، وإنّما يدّعي قيمة زائدة على ما يقبله الغاصب ، وأصل البراءة مع الغاصب ، وليس دليل حاكم من استصحاب أو أمارة في البين ، فيكون المالك مدّعيا والغاصب منكرا ، لمطابقة قوله لأصل البراءة.

ويمكن أن يكون المالك منكرا ، وذلك فيما إذا ادّعى الغاصب نقصان القيمة يوم التلف عمّا كان يوم الغصب مع اتّفاقهما في ذلك اليوم ، فالمالك منكر ، لمطابقة قوله مع الاستصحاب.

والجواب عن هذه المناقشة : أنّ كون المالك تارة منكرا وأخرى مدّعيا أيضا يمكن مع كون المدار على قيمة يوم المخالفة.

بيان ذلك : أنّه لو كانا متّفقين على قيمة قبل يوم المخالفة ، وادّعى الغاصب نقصانها يوم المخالفة عن تلك القيمة المتّفقة عليها ، فيكون الغاصب مدّعيا والمالك منكرا ، وهذا واضح جدّا.

ولا ينبغي ذكر أمثال هذه المناقشات ، فترك ذكر باقي ما ذكروه في هذا المقام أولى.

وقد ظهر ممّا ذكرنا في مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » وصحيحة أبي ولاّد (1) أنّ المدار في تعيين قيمة القيمي هو قيمة يوم الأخذ بدون إذن المالك ، لا يوم التلف ، ولا يوم الأداء ولا أعلى القيم بكلتا صورتيه ، فلا حاجة إلى ذكر مدارك تلك الأقوال والمناقشة فيها.

[ الأمر ] الرابع : فيما إذا كانت العين باقية ولم يطرأ عليها التلف ، ولكن يتعذّر أو يتعسر إيصالها إلى المالك ، فهل على الغاصب أو من بحكمه إعطاء بدل الحيلولة بين المالك وماله ، أم لا؟

ص: 84


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 313 ، أبواب الغصب ، باب 7 ، ح 1.

الظاهر هو الأوّل.

بيان ذلك : أنّهم وإن ذكروا للقول الأوّل أدلّة متعدّدة من التمسّك بقاعدة لا ضرر تارة ، وفوت سلطنة المالك أخرى ، وكون الغاصب حائلا بين المال ومالكه ثالثة وغيرها ، ولكن لا يخفى على الناقد البصير عدم صحّة تلك الأدلّة كلّها ، فلا وجه لذكرها والردّ عليها ، فإنّه تطويل بلا طائل.

فلنذكر ما هو العمدة في المقام ، وهو أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » - كما بيّنّا فيما تقدّم - يدلّ على ما هو المتفاهم العرفي منه ، على أنّ العين المأخوذة بدون إذن المالك ورضاه ثابتة ومستقرّة في عالم الاعتبار التشريعي على عهدة المالك بجميع خصوصيّاتها الشخصيّة ، وعوارضها النوعيّة وصفاتها وماليّتها ، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء أيضا ، فإنّ لكلّ عين متموّلة خارجيّة لها وجود اعتباري عندهم على عهدة من غصبها.

وإن شئت قلت : إنّ ما يقع تحت اليد غير المأذونة بوجوده الخارجي من الأموال يستقرّ بوجوده الاعتباري - أي في عالم الاعتبار - فوق اليد ، أي على عهدة الغاصب ، وما يعبّرون عنه بالعهدة أو بالذمّة ليس إلاّ اعتبار من طرف العقلاء ، أو من طرف الشارع ، أو من كليهما. فإذا كان الأمر كذلك فيجب تكليفا ووضعا ردّ الجهات الثلاث مع الإمكان ، وعند تلف العين يجب ردّ الجهتين الأخريين ، كما ذكرنا مفصّلا.

وأمّا إن كانت العين باقية ، ولكنّ تعذّر أو تعسّر ردّها ، فحيث يسقط التكليف بردّ نفس العين للتعذّر أو التعسّر ، فيدور الأمر بين أن يسقط عن ردّ جميع الجهات الثلاث ، أو يبقى بالنسبة إلى الجهتين الباقيتين إن كان مثليّا ، والجهة الواحدة الباقية إن كان قيميّا.

ولا وجه للأوّل ، لأنّه بلا دليل ، بل الدليل على عدمه ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » الذي قلنا إنّه يدلّ على استقرار الجهات الثلاث في العهدة ،

ص: 85

وبارتفاع أحدها - وهي الخصوصيّات الشخصيّة للتعذّر أو التعسّر - لا يرتفع الأخريان ، فيجب عليه إعطاء المثل إن كان مثليّا ، والقيمة إن كان قيميّا.

ولكن هذا المثل أو القيمة ليس بدلا واقعيّا للعين المغصوبة ، لأنّ ملكيّته للعين باقية ، فيلزم الجمع بين البدل والمبدل. وهذا غير معقول ، لأنّ المراد من البدل في باب المعاوضات هو أن يكون عوضا عمّا يخرج عن ملكه ، فمع فرض عدم خروجه كما في المقام فكونه بدلا واقعيّا محال ، ولذلك قالوا إنّه بدل الحيلولة بين المالك وملكه.

نعم يقع الكلام في أنّه هل هذا البدل يصير ملكا للمغصوب منه دائما وأبدا ، أو ما دام لم يصل ماله إليه ، أو يكون مالكا لانتفاعاته إلى زمن إرجاع ماله إليه؟ احتمالات ، سنتكلم فيها إن شاء اللّه تعالى.

وحاصل الكلام : أنّ التعذّر وعدم إمكان الردّ تارة يكون لمدّة قصيرة ، فمثل هذا لا يسقط التكليف بردّ العين ، ولا يوجب إعطاء بدل الحيلولة. وأمّا لو كان لمدّة طويلة فمع اليأس عن الوصول إليه عادة ، كما إذا وقع في قاع البحر فهو في حكم التلف ، ويجب على الغاصب إعطاء بدل الواقعي. نعم إذا ارتفع التعذّر من باب الاتّفاق ، وردّ الغاصب ذلك المال إلى مالكه يأتي البحث الآتي في بدل الحيلولة في وجوب ردّ البدل إلى الغاصب أم لا. وسنتكلّم فيه إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا مع عدم اليأس بل رجاء ارتفاع التعذّر أو التعسّر ، فهذا هو مورد البحث عن بدل الحيلولة. وقد عرفت أنّ ذمّته مشغولة ولا تبرأ بصرف تعذّر أداء الخصوصيّة الشخصيّة ، بل يجب على الغاصب أداء مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا ، ولكن لا بعنوان كونه بدلا واقعيّا ، بل بعنوان كونه بدل الحيلولة بين المال ومالكه.

ثمَّ انّ ها هنا أمور يجب التنبيه عليها

الأوّل : هو أنّ المدار في التعذّر بناء على ما بيّنّا في معناه ، هو أن يكون موجبا

ص: 86

لسقوط التكليف بأداء العين ، ولذلك قلنا أنّ أداء العين تعذّر أو تعسّر ، لأنّ التعسّر أيضا قد يكون موجبا لسقوط التكليف ، وذلك من جهة ما بيّنّا أنّ المناط في وجوب إعطاء بدل الحيلولة هو سقوط الجهة الأولى من الجهات الثلاث للتعذّر أو التعسّر ، وبقاء الجهتين الأخريين مع بقاء العين وعدم تلفها ، لا حقيقة ولا حكما.

وذلك من جهة أنّه مع التلف الحقيقي أو الحكمي يكون البدل بدلا واقعيّا ، لا بدل الحيلولة كما هو واضح.

ولا فرق في ثبوت بدل الحيلولة بين أن تكون العين مرجو الحصول ، أو كان مأيوس الحصول.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ في صورة اليأس تكون بحكم التلف ، فيكون البدل بدلا واقعيّا ، ويخرج عن موضوع بدل الحيلولة.

الثاني : أنّ بدل الحيلولة هل يصير ملكا لمالك العين ، أو يكون تصرّفه فيه مباحا فقط بدون حصول الملكيّة؟

والظاهر بناء على ما استظهرنا من الحديث الشريف - من استقرار العين وثبوتها على العهدة بوجودها الاعتباري بجميع جهاتها الثلاث - هو أن يكون البدل ملكا لمالك العين ، لأنّه أداء العين بعد سقوط التكليف.

ولكن يرد ها هنا إشكال ، وهو الجمع بين العوض والمعوّض للمالك إن قلنا ببقاء ملكيّة العين له ، كما هو كذلك ظاهرا.

ولا يمكن الخروج عن هذا الإشكال إلاّ بالقول بأنّها بإعطاء البدل تصير ملكا للضامن.

وهو كما ترى وإن قال به بعض ، مضافا إلى أنّ الالتزام بهذا يوجب خروج البدل عن كونه بدل الحيلولة ، وصيرورته بدلا واقعيّا وهو خلاف الفرض.

ص: 87

ولكن يمكن أن يقال : إنّ إعطاء الضامن للمثل أو القيمة كلّ واحد في محلّه إن كان بعنوان المعاوضة وكونه بدلا عن المال الذي حيل بينه وبين المالك - كما توهّم - فيرد هذا الإشكال ، ولا مخرج عنه إلاّ ما قلنا.

وأمّا إن كان بعنوان الغرامة وتدارك خسارة التي أوردها على المالك كما هو المستفاد من ظاهر لفظ « بدل الحيلولة » فلا يرد هذا الإشكال أصلا.

إن قلت : إنّ تدارك الخسارة لا يقتضي ولا يوجب كون هذا البدل ملكا للمالك ، لأنّ تدارك خسارته يمكن بدون أن يصير ملكا له ، بل يحصل بجواز جميع التصرّفات له حتّى المتوقّفة على الملك وإن لم يكن ملكا.

قلنا : أوّلا : أنّ جواز جميع التصرّفات - حتّى المتوقّفة على الملك - ملازم عرفا للملكيّة ، ولا يمكن انفكاكهما في عالم الاعتبار.

وثانيا : بناء على ما استظهرنا من معنى الحديث إعطاء الضامن للمثل أو القيمة يكون بعنوان أداء ما في ذمّته من مال الغير ثبت واستقرّ على عهدته ، فلا يمكن أن لا يكون ملكا للمالك.

الثالث : أنّ ملكيّة المالك للبدل - بناء على ما اخترناه من القول بالملكيّة - هل هي ملكيّة دائمة أو ما دام بقاء تعذّر الردّ أو إلى أن يردّ؟ احتمالات ، والأظهر أنّها ملكيّة موقّتة ، وذلك من جهة أنّ تدارك الخسارة أو غرامتها لا يصدق إلاّ على مقدار ما خسر وفات ، وأمّا الزائد على ذلك المقدار فإن كان فيكون من قبيل الهبة وبدون مقابل.

وفيما نحن فيه لم يخسر العين ، لأنّها موجودة وتردّ عليه ، وما هو الفائت ليس إلاّ مقدار خروجه عن تحت سلطانه ، وهو زمان موقّت معيّن ، وحصل تداركه بإعطائه البدل في ذلك الزمان وكون ذلك البدل تحت سلطانه في ذلك المقدار من الزمان. فإذا كان في تلك المدّة مثل ماله تحت سيطرته وسلطانه ، فعند العرف كأنّه لم يخسر ،

ص: 88

ويصدق عليه أنّه حصل تداركه وغرم له ، فلا وجه لبقاء ملكيّته بعد أخذ غرامته وتدارك خسارته.

نعم لو كانت ملكيّته إلى الأبد ودائما مقابل تلك القطعة الفائتة - من كون ماله تحت سيطرته - فلا يرجع إلى الضامن أبدا ، ويصير ملكا دائميّا للمالك. ولكن هذا لا دليل عليه ، بل الدليل عن عدمه ، لأنّه إجحاف وتعدّ على الضامن بلا سبب يوجبه.

ثمَّ إنّه لا أثر لارتفاع التعذّر في ارتفاع ملكيّة المالك للبدل ، لأنّه ما لم يصل ملكه إليه ولم يقع تحت سلطانه ، خسارته لا ترتفع ، ويكون حاله حال التعذّر ، فالمناط كلّ المناط هو عود سلطنته على ماله ، وإلاّ ما لم يعدّ فالحيلولة بينه وبين ماله موجودة ، وتداركها بكون البدل عنده وتحت سلطانه.

ثمَّ إنّه ربما احتمل بعض القائلين بكون بدل الحيلولة ملكا دائميّا للمالك بأنّ العين المغصوبة تصير ملكا للغاصب الضامن بعد إعطائه للغرامة.

ولكن أنت خبير بأنّ صحّة هذا الكلام منوطة بأن يكون البدل بدلا واقعيّا ، ويكون إعطاء البدل من باب المعاوضة بين هذا البدل والعين المأخوذة بدون إذن المالك ، وهذا شي ء لا يمكن الالتزام به.

لأنّ المعاوضة إمّا مالكيّة يحتاج إلى قصدهما المعاوضة ، ومعلوم أنّه لم يتحقّق قصد المعاوضة بين المالك والغاصب. وإمّا شرعيّة تقع قهرا ، وذلك يحتاج إلى دليل ، وليس في المقام شي ء يدلّ على أنّ الشارع حكم بوقوع المعاوضة بين ما يعطى الضامن بعنوان بدل الحيلولة ، وغرامة خسارة المالك من فوت سلطانه على ماله.

وما ذكرناه هو السبب لعدم صيرورة العين المغصوبة ملكا لمعطي البدل ، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من أنّ الغرامات كلّها من باب واحد (1). فلو كانت الغرامة بإعطاء بدل الحيلولة سببا لصيرورة العين المغصوبة ملكا للضامن الغاصب ، فلا بدّ وأن

ص: 89


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 381 ، في بدل الحيلولة.

يكون الأمر في باب التلف الحقيقي والحكمي أيضا كذلك ، بل لا بدّ وأن نقول بحصول الملكيّة له بنفس التعذّر ، لأنّ إعطاء البدل بيّنّا أنّه ليس بعنوان المعاوضة ، فليست الملكيّة مربوطة بإعطاء البدل ، بل يخرج عن ملك مالكه بمحض التعذّر ولو قبل إعطاء البدل ، ولازم ذلك أن تكون منافع العين المغصوبة ملكا للغاصب قبل إعطاء البدل ، ولا أظنّ أنّ أحدا يلتزم به.

وذلك من جهة أنّه أوّلا يمكن أن يقال بأنّ حصول الملكيّة للغاصب بعد إعطاء البدل وإن لم يكن إعطاؤه بعنوان المعاوضة.

وثانيا أنّ ملكيّة منافع العين ليست بأعظم من ملكيّة نفسها ، فمن يقول بملكيّة نفس العين بصرف حدوث التعذّر وليست متوقّفة على إعطاء البدل ، يلتزم بها في المنافع بطريق أولى.

وأمّا قوله قدس سره بأنّ الغرامات من باب واحد ، فلو كانت الغرامة أو نفس التعذّر في مورد بدل الحيلولة موجبة لملكيّة العين المغصوبة فلا بدّ وأن يكون في مورد التلف الحقيقي أو الحكمي أيضا كذلك.

ففيه : أنّ التلف سبب للغرامة ، والغرامة سبب للملكيّة ، فيلزم أن يصير الشي ء بعد تلفه وانعدامه ملكا للغاصب ، واعتبار ملكيّة الشي ء بعد انعدامه باطل ، ويكون من قبيل اعتبار الحكم بعد انعدام موضوعه ، فالقياس في غير محلّه.

إن قلت : يمكن تقدير ملكيّته آنا مّا قبل التلف ، كما يقدرون في مسألة التلف قبل قبض المشتري لكي لا يلزم هذا المحذور.

قلنا : إنّ في باب التلف قبل القبض حيث جاء الدليل على أنّ التلف من مال البائع مع أن المبيع انتقل إلى المشتري بعد العقد ، فلا بدّ من الالتزام بالتقدير آنا مّا. وأمّا فيما نحن فيه فلا ملزم لهذا التقدير ، بل القول بملكيّة الغاصب للعين المغصوبة ، خصوصا قبل إعطاء الغرامة وبعد التلف في نظر العرف أمر من الغرائب.

ص: 90

فالحقّ في المقام هو بقاء العين في ملك مالكه حتّى بعد الغرامة ، وليس جمعا بين العوض والمعوّض في بعض الصور ، لأنّ إعطاء البدل ليس من باب المعاوضة ، بل يكون من باب الغرامة كما عرفت.

ثمَّ إنّه من فروع عدم كون إعطاء البدل من باب المعاوضة القهريّة أنّه لو خرج المال المغصوب عن الماليّة في يد الغاصب إمّا شرعا أو عرفا ، كما إذا صار الخلّ المغصوب خمرا ، أو بقي الجمد المغصوب صيفا إلى الشتاء عند الغاصب ، فلا شك في أنّ الغاصب يغرم بالبدل. فلو قلنا بأنّ إعطاء البدل يكون من باب المعاوضة القهريّة ، فحقّ الاختصاص في ذلك الخمر أو في ذلك الجمد لا يبقى للمالك بعد إعطاء البدل لخروجه عن ملكه بالإعطاء ، بل يكون للغاصب. فلو صار ذلك الخمر ثانيا خلا ، أو بقي ذلك الجمد إلى الصيف الآتي يكونان ملكا للغاصب بمقتضى تلك المعاوضة القهرية.

وأمّا إن قلنا بأنّه ليس من باب المعاوضة القهريّة ، بل يكون من باب الغرامة لما فات من كيس المالك من ماليّة ماله ، فيكون حقّ الاختصاص للمالك.

لا يقال : إنّ التلف وما في حكمه يخرج المال عن ملك مالكه ، لعدم صحّة اعتبار الملكيّة في التالف والمعدوم أو ما كان بحكمها ، فحال المالك حال سائر الأجانب عن ذلك المال. بل يمكن أن يقال بأنّه للغاصب ، لكونه في يده ، وبعد التلف ليس يده يدا عادية كي لا يترتّب عليها آثار اليد.

لأنّ زوال الملكيّة لا ينافي بقاء حقّ الاختصاص ، لأنّه مرتبة ضعيفة من الملكيّة ، وذهاب المرتبة القويّة لا يلازم عدم بقاء المرتبة الضعيفة أيضا.

ولو حصل الشكّ في بقائها يكون مجرى للاستصحاب ، ويكون هذا الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، فمع مساعدة العرف في وحدة القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة يجري الاستصحاب.

ص: 91

فرع آخر :

وهو أنّه لو توضّأ بماء الغير بدون إذن مالكه جهلا بكونه غصبا ، وبناء على صحّة الوضوء بالماء المغصوب جهلا بالموضوع ، فلو علم بالغصبيّة بعد تمام الغسلتين ووصول النوبة إلى المسح ، فذلك الماء حيث صار تالفا بسبب التوضّي به - وفرضنا أنّ المتوضّي أعطى البدل ، فعلى تقدير كونه من باب المعاوضة القهريّة - يجوز له أن يمسح ببلّة ذلك الوضوء حتّى مع منع المالك ، لأنّه خرج عن ملكه بإعطاء البدل ، فهو أجنبيّ عن هذه البلّة.

وأمّا إن لم يكن من باب المعاوضة القهريّة ، بل كان صرف غرامة - كما رجّحنا - فحقّ الاختصاص باق للمالك ، فبدون إذنه لا يجوز له أن يمسح بتلك البلّة إلاّ بناء على ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من إنكار كون تلك البلّة ممّا تقبل حقّ الاختصاص أيضا ، لعدم الانتفاع بها إلاّ بالنسبة إلى من هي في يده. (1)

وهذا كلام عجيب.

الرابع : هل للغاصب إلزام المالك بأخذ البدل ، وإن امتنع يرفع أمره إلى الحاكم ، أو لا؟

الظاهر أنّه بناء على ما ذكرنا في معنى الحديث الشريف من أنّه يدلّ على اشتغال ذمّة الضامن بالجهات الثلاث التي في العين ، فكلّ واحد من المالك والغاصب إلزام الآخر بدفع البدل.

أمّا المالك فواضح ، لأنّ له في ذمّته الجهات الثلاث ، فبعد تعذّر إحدى الجهات وهي الخصوصيّة الشخصيّة ، فله المطالبة بالجهتين الباقيتين وإلزام الغاصب بدفعهما ، ويجوز له أن لا يطالب بحقّه ، فإنّ هذا حقّ له لا عليه.

ص: 92


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 393 ، في بدل الحيلولة.

وأمّا الغاصب فله أيضا المطالبة بتفريغ ذمّته عن ذلك الثقل الذي عليه ، أي عن الجهتين الباقيتين في ذمّته ولا ينافي ذلك بقاء الخصوصيّات الشخصيّة في ملك المالك ، لأنّه حين ما تمكّن من ردّها برفع التعذّر وجب ردّها ، فلا يفوت من المالك شي ء.

هذا ، مضافا إلى أنّ حال هذا الضمان حال سائر الضمانات ، فكما أنّ في سائر الضمانات للضامن مطالبة المضمون له بتفريغ ذمّته - ففي الدين الذي حلّ أجله للمديون إلزام الدائن بالأخذ ، وإن لم يقبل يرفع أمره إلى الحاكم - فكذلك في المقام.

واعتذار المالك بأنّه لا يريد إلاّ جميع جهات ماله من الخصوصيّات الشخصيّة ، والجهتين الأخريين ، لا يقبل منه ، لأنّ تلك الجهة المتعذّرة فعلا ليست مكلّفة بالأداء لعجز الضامن ، والمفروض أنّ تلك الجهة لا تذهب من البين بالمرّة في التعذر الموقت ، غاية الأمر يتأخّر أداؤها.

وهذا يشبه أن يكون المغصوب شيئين ، فتعذّر ردّ أحدهما موقّتا وأمكن ردّ الآخر ، فامتنع المالك من قبول الموجود ويعتذر لامتناعه بأنّي أريد الاثنين.

وصرف أنّهما موجودان بوجودين ، والجهات الثلاث موجودة بوجود واحد ، لا يوجب فرقا فيما هو محلّ الكلام.

فما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من الاستدلال لما اختاره (1) - تبعا لشيخنا الأعظم قدس سره من عدم حقّ للضامن بإلزام المالك بأخذ البدل (2) ، بأنّ الخصوصيّات الشخصيّة وإن سقط التكليف عنها بالأداء للتعذّر ، ولكن لم يسقط ضمان الخصوصيّات الشخصيّة وضعا.

غير خال عن الخلل ، لما ذكرنا أنّ بقاء الخصوصيّات الشخصيّة بوجودها الاعتباري في ذمّة الضامن لا ينافي مع حقّ الضامن بتفريغ ذمّته عن المقدار الممكن

ص: 93


1- النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 390 ، في بدل الحيلولة.
2- « المكاسب » ص 106 - 107.

غير المتعذّر أدائه.

الخامس : أنّه حيث رجّحنا - بل اخترنا - أنّ بدل الحيلولة ليس من باب المعاوضة القهريّة ، بل يكون من باب الغرامة ، فالعين المغصوبة بجميع جهاتها باقية على ملك المالك ، فجميع منافعها المتّصلة والمنفصلة بعد البدل تكون للمالك ، كما كانت له قبل البدل ، إذ لم تتغيّر حال العين عمّا هي عليه قبل إعطاء البدل وبعده ، وهذا واضح جدّا.

السادس : أنّه بناء على ما اخترنا في بدل الحيلولة من أنّ الضمان فيه من باب الغرامة لا من باب المعاوضة القهريّة ، فحيث أنّ العين المغصوبة تبقى في ملك المالك ولا تخرج عنه ، فإذا ارتفع التعذّر يجب ردّها إلى المالك.

وأمّا بناء على المعاوضة فهل يجب أيضا ردّها ، لأنّ موضوع المعاوضة هو التعذّر ، فإذا ارتفع التعذّر فلا يبقى موضوع للمعاوضة ، فيدور المعاوضة مدار التعذّر ، فبعد ارتفاع التعذّر يرجع كلّ مال إلى صاحبه الأوّل ، فيكون ارتفاع التعذّر من قبيل فسخ المعاوضة ، أو لا ، لأنّه بعد حصول المعاوضة وصيرورة البدل ملكا للمالك والعين المغصوبة ملكا للضامن الغاصب ، فخروج كلّ واحد من البدل والعين من ملك مالكه يحتاج إلى دليل؟

نعم لو كانت المعاوضة من أوّل الأمر موقّتة إلى زمان ارتفاع العذر ، كان لهذا الكلام وجه صحيح تامّ ، لكن الأمر ليس كذلك ، لأنّ الملكيّة الموقّتة في باب المعاوضات في الأعيان أوّلا غير معهودة في الشرع ، وثانيا أنّ التعذّر ليس موضوعا للمعاوضة كي تكون دائرة مداره ، بل موضوع المعاوضة هو البدل والعين ، فإنّ المعاوضة القهريّة - إن قلنا بها - تقع بحكم الشارع بين المالين ، والتعذّر علّة وواسطة في الثبوت ، لا في العروض ، بالنسبة إلى حكم الشارع بالمعاوضة القهريّة.

ولكن بعد حكم الشارع بهذه المعاوضة بعلّة التعذّر وصيرورة البدل ملكا للمالك

ص: 94

والعين ملكا للضامن الغاصب ، فارتفاع التعذّر لا تأثير له في ارتفاع هذه المعاوضة ، فإذا ارتفع التعذّر لا يجب ردّ العين بناء على المعاوضة ، خلافا لشيخنا الأستاذ قدس سره حيث قال بوجوب ردّ العين بعد ارتفاع التعذّر حتّى على مبنى المعاوضة. (1)

السابع : هل تعذّر الردّ بواسطة أنّه موجب لتلف مال محترم أو نفس محترمة - كالخيط الذي خيط به ثوب ، أو جرح حيوان أو إنسان - في حكم التعذّر العقلي والعرفي أم لا؟ وكذلك الكلام فيما تعذّر ردّه بواسطة الخلط أو المزج؟

فنقول : أمّا مسألة الخيط المذكور وما يشبهه - ممّا يؤدّي ردّه إلى تلف حيوان أو مال محترم - فإن كان يؤدّي إلى تلف حيوان محترم ، فلا يجوز للمالك مطالبته قطعا ، لعدم جواز إتلاف الحيوان المحترم ، سواء أكان إنسانا أو غير إنسان ، فيكون كالتعذّر العقلي ، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

وإن كان يؤدّي إلى تلف مال آخر ، كالثوب مثلا ، أو الخشب الذي استعمل في البناء ، أو اللوح في السفينة الموجودة في الساحل فارغة عن الراكب وأمثال ذلك ، فإن كان ذلك المال الذي يتلف بردّ العين المغصوبة لنفس الغاصب ، فقد يقال بوجوب ردّه ، لعدم احترام ماله ، لأنّه بنفسه هتك احترام ماله ، وأوجد سبب إتلافه ، وأضرّ بنفسه.

ولكن الإنصاف : أنّ الالتزام بهذا مشكل ويأباه الذوق الفقهي ، خصوصا إذا كان موجبا لضرر مالي عظيم ، كما إذا كان المغصوب خشبة وضعها الغاصب في أساس بنائه ، بحيث يكون ردّها موجبا لهدم ذلك البنيان العظيم.

فالأولى أن يقال بأنّه في حكم التلف إن كان التعذّر دائميّا ، ومورد بدل الحيلولة إن كان موقّتا ، كما هو كذلك في بعض صور المسألة.

وأمّا إن كان ذلك المال لغير الغاصب ، فلا شكّ في أنّه لا يجوز إتلافه ، فيكون بحكم التالف بلا كلام ، وعلى الغاصب ردّ مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا إن

ص: 95


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 386 ، في بدل الحيلولة.

كان التعذّر دائميّا ، وإن كان موقّتا فعليه بدل الحيلولة.

وأمّا إن كان تعذّر ردّه من جهة الخلط أو المزج مع مال آخر من الغاصب أو من غيره ، فإن كان الخلط أو المزج مع غير جنسه ، فإمّا أن يستهلك المغصوب في الآخر ، فهذا في حكم التلف وعلى الغاصب دفع مثله في المثلي وقيمته في القيمي ، ولا فرق بين أن يكون استهلاكا حقيقيّا أو عرفيّا ، وذلك كما إذا غصب ملح شخص وصار ممزوجا مع عجين شخص آخر من غير اختيار أحد.

ولا شكّ في أنّ هذا المورد لا يمكن ردّ الملح ، فيدور الأمر بين أن يقال بتلف الملح ، فيكون كما ذكرنا من وجوب دفع المثل أو القيمة على الغاصب ، أو يقال بشركة مالك الملح مع مالك العجين بنسبة قيمة ماليهما.

وإمّا أن لا يستهلك ، فلا محاله تحصل الشركة.

وحيث أنّ الاستهلاك لا يمكن إلاّ في الجنسين المختلفين ، لأنّ الاستهلاك عبارة عن صيرورة المستهلك من جنس المستهلك فيه بواسطة المزج معه بعد ما لم يكن كذلك ، وأمّا لو كان الممزوجان من جنس واحد فلا يمكن هذا المعنى ، فلو وقعت قطرة ماء في البحر لا تصير مستهلكا فيه ، لأنّها بصورتها النوعيّة موجودة فيه.

والاستهلاك لا يمكن إلاّ بتبدّل صورته النوعيّة حقيقة أو عرفا إلى صورة المستهلك فيه ، فلو امتزج المغصوب مع ما هو من جنسه ، سواء أكان من غير اختيار أحد أو كان بفعل الغاصب أو بفعل شخص ، وسواء أكان المزج بحقّ أو بغير حقّ كمزج الغاصب ، وسواء أكان مع مال الغاصب أو مع مال غيره ، ففي جميع هذه الصور تحصل الشركة القهريّة بين المالكين ، فيكون مالك المغصوب شريكا مع ذلك الآخر بنسبة ماليهما إذا كان المالان متساويين في الجودة والرداءة.

وأمّا إذا كان أحدهما أجود فإن كان المزج من غير اختيار أحد ، أو كان باختيار من له الحقّ كما في مورد غير الغصب ، فلا بدّ وأن تكون الشركة بنسبة قيمة المالين في

ص: 96

قيمة مجموع الممتزجين ، لا في نفس الممتزجين كي لا يلزم الرباء.

وإن كان المزج بفعل الغاصب وكان مع ماله ، فإن كان الغاصب هو الأردء فتحصل الشركة في العين بنسبة مقدار ماليهما كي لا يلزم الرباء ، ولكن على الغاصب تفاوت القيمة التي حصلت في المغصوب.

وأمّا إن كان مال الغاصب هو الأجود ، فأيضا تكون الشركة بنسبة مقدار المالين كي لا يلزم الرباء ، فالزيادة التي حصلت في قيمة مال المغصوب رزق رزقه اللّه ، كما أنّ النقصان التي حصلت في قيمة مال الغاصب لا يضمنه أحد ، لأنّه بفعل نفسه.

وأمّا إن كان مع مال الغير ، فإن كان المغصوب أجود فالزيادة التي حصلت في مال ذلك الغير رزق رزقه اللّه ، والنقصان الذي حصل في المغصوب يضمنه الغاصب ، لأنّه بفعله. وأمّا الشركة في العين فبنسبة مقدار المالين على أيّ حال كي لا يلزم الرباء.

وأمّا لو كان المالان متساويين وكانا من جنس واحد - كما هو المفروض - ففي جميع صور المسألة تكون الشركة بنسبة مقدار المالين ، سواء أكان الخلط والمزج بفعل الغاصب أو بفعل غيره ، أو كان من باب الاتفاق ولم يكن بفعل أحد ، لا أحد المالكين ولا غيرهما.

الثامن : كلّ ما ذكرنا فيما تقدّم كان راجعا إلى المغصوب أو المقبوض بدون إذن المالك تحت يد واحدة. وأمّا لو تعاقبت الأيدي الغاصبة - أو غير المأذونة على مال الغير - فلا شكّ في أنّ كل واحدة من تلك الأيدي تضمن المال الذي وقع تحت سيطرتها ، وللمالك أن يرجع إلى أيّة واحدة منها إذا شاء ، وإذا رجع إلى اليد السابقة وأخذ منها فلها أن ترجع إلى اللاحقة من تلك الأيدي.

أمّا الأوّل - أي : ضمان كلّ واحدة من الأيدي المتعاقبة على ذلك المال الواحد - فلهذه القاعدة ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

فمفاد هذا الحديث الشريف جعل الضمان لكلّ يد عادية بطور القضيّة الحقيقيّة ،

ص: 97

فكما أنّ الحديث الشريف يشمل وقوع الأيدي المتعدّدة على الأموال المتعدّدة ، كذلك يشمل الأيدي المتعدّدة إن وقعت على مال واحد.

وذلك من جهة أنّ المناط في تعدّد الضمان تعدّد اليد ، إذ هو موضوع الحكم بالضمان على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فتنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد أفراد موضوعها الذي هي اليد ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ، ولا دخل في تعدّد ما تقع عليه اليد في الحكم بالضمان ، فإذا صارت الأيدي كلّ واحدة منها موضوعا مستقلاّ للضمان ، فمن آثار ذلك ، جواز رجوع المالك إلى كلّ واحدة منها.

نعم إذا رجع إلى إحديهنّ وأخذ منها المثل أو القيمة - في صورة تلف المغصوب - فليس له الرجوع إلى غيره من الأيدي ، لأنّه لم يكن له إلاّ مال واحد وقد قبضه.

نعم المقبوض منه إن لم يكن هو الذي صار عنده التلف واستقرّ عليه ، فله أن يرجع إلى كلّ واحدة من الأيدي اللاحقة لو لم يكن غارّا لها. وسيظهر وجهه إن شاء اللّه تعالى.

نعم ها هنا إشكال : وهو أنّ المال الواحد كيف يمكن أن يكون مضمونا بضمانات متعدّدة في عرض واحد؟ فإنّ تدارك المال الواحد من شخصين مستقلاّ ، بمعنى أن يكون على كلّ واحد منهما ردّ تمام هذا المال بتمامه غير ممكن ، فكما أنّ وجود شخص مال واحد في الخارج بتمامه عند شخص ، وكذلك بتمامه عند شخص آخر في نفس ذلك الزمان لا يمكن - وإلاّ يلزم أن يكون الواحد اثنين وهو محال - فكذلك وجوده في عهدة اثنين في عالم الاعتبار - بحيث يكون تفريغ ما في ذمّته يصدق عليه أنّه أداؤه - لا يمكن ، لأنّه لا يعقل أن يكون للشي ء الواحد أداءين في عرض واحد لما قلنا أنّه مستلزم لأن يكون الواحد اثنين ، وهو محال.

وقد صحّحه صاحب الكفاية قدس سره في حاشيته على مكاسب شيخنا الأعظم قدس سره

ص: 98

بإمكانه بنحو الواجب الكفائي (1) ، بأن يكون كلّ واحد من الشخصين مكلّفا بالأداء في ظرف عدم أداء الآخر ، فليس تكليف بأداءين كي يكن ممتنعا ، بل امتثال مثل هذا التكليف لا يقتضي إلاّ أداء واحدا ، فلا يمتنع أن يكون كلّ واحد منهما ضامنا في زمان واحد ، وفي عرض ضمان الآخر ، بأن يكون عليه وجوب تدارك المال التالف وأدائه في ظرف عدم تدارك الآخر وأدائه.

ولكن أنت خبير بأنّه ليس حكما تكليفيّا ، ويكون عبارة عن وجوب أداء التالف كي يصحّح ضمان شخصين ، كلّ واحد منهما لتمام مال واحد وفي عرض الآخر في ظرف عدم أداء الآخر ، بل هو حكم وضعي وعبارة عن وجود ذلك المال الخارجي في عهدة شخص ، ولا يرتفع عن عهدته.

وحيث أنّ أداءين لا يمكن كما بيّنّا ، فلو كان في عهدة شخصين وفرضنا أنّ أحدهما أدّاه ، فلا يرتفع عن عهدة الآخر إلى قيام يوم القيمة ، لأنّ أداءه ثانيا غير ممكن ، فقياس المقام بالواجب الكفائي ليس في محلّه ، كما فرضه قدس سره .

فظهر : أنّ المال الواحد بتمامه لا يمكن أن يكون في عهدة شخصين ، فلو دلّ الدليل في مورد على ضمان شخصين لمال واحد لا بدّ وأن يحمل على اشتراكهما في ضمان واحد ، بمعنى أنّ قيمة ذلك الواحد أو مثله في عهدة الشخصين بالشراكة ، فيجب على الاثنين بنحو الشركة أداء مثله أو قيمته.

فلو ضمن شخصان في زمان واحد كلّ واحد منهما تمام دين مديون ، فلا بدّ بناء على القول بصحّة مثل هذا الضمان من الالتزام بأنّ لكلاهما بنحو الاشتراك ضمان واحد ، لما ذكرنا من امتناع كون المال الواحد في عهدة شخصين ، بحيث أن يكون على كلّ واحد منهما أداء تمام المال في عرض واحد ، بل لا بدّ من أحد الأمرين : إمّا الطوليّة أو الاشتراك.

ص: 99


1- آخوند الخراساني في « حاشية كتاب المكاسب » ص 83.

والمراد من الطوليّة أن يكون اللاحق ضامنا لما يؤدّى السابق ، فالمالك له الرجوع إلى أيّ واحد من العادين. فإذا رجع إلى بعضهم فليس لذلك البعض الرجوع إلى السابق ، لأنّ السابق ليس ضامنا لذلك البعض اللاحق له. نعم له أن يرجع إلى لاحقه بناء على أنّ اللاحق يضمن لما يؤدّى اليد السابقة.

وأمّا وجه جواز رجوع المالك إلى كلّ واحد من الأيدي المتعاقبة - مع ما عرفت أنّ ضمان الجميع عرضا - أي كلّ واحد منهم يكون ضامنا لتمام ذلك المال الواحد - محال ، هو أنّ كلّ واحدة منها ضامن ، ولكن طولا لا عرضا.

بيان ذلك : أنّ اليد الأولى والغاصب الأوّل ضامن لنفس المالك ابتداء بنفس المال المغصوب ، بمعنى أنّ نفس المال بوجوده الاعتباري في عهدته كما بيّنّا مفصلا. واليد الثانية - أي : الغاصب الثاني - ضامن للعين المضمونة بما هي مضمونة ، أي العين التي في ذمّة الضامن الأوّل.

وبعبارة أخرى : المال الذي صار مغصوبا ووقع تحت اليد العادية ، يكون في ذمّة الغاصب بما له من الصفات والخصوصيّات ، تكوينيّة أم اعتباريّة. ولكن ما يقع تحت اليد الأولى ليس إلاّ نفس العين بصفاتها التكوينيّة فقط ، وفي اليد الثانية تقع العين تحتها بما هي مضمونة ، ففي اليد الثانية يزيد على ما وقع تحت اليد الأولى صفة اعتباريّة ، وهي كونها في ذمّة الغاصب الأوّل.

فكما أنّ لو كان للعين صفة خارجيّة تضمن اليد الواقعة عليها تلك الصفة الخارجيّة ، كذلك تضمن الصفة الاعتباريّة لو كانت لها. وحيث أنّ العين المغصوبة تكون في ذمّة الغاصب الأوّل ، ففي الغصب الثاني تكون ذات العين مع صفة كونها في ذمّة الغاصب الأوّل في ذمّة الغاصب الثاني.

وهكذا الحال لو وقع المال تحت يد ألف غاصب ، فما يقع تحت يد الغاصب الأخير ليس هي العين الخارجيّة فقط ، بل العين الخارجيّة مع كونها في ذمّة تسعمائة وتسعة

ص: 100

وتسعين.

وأثر إتيان هذه الصفة الاعتباريّة في عهدة الغاصب أنّه لو رجع المالك إلى الغاصب السابق ، له أن يرجع إلى الغاصب اللاحق ، لأنّه ضامن لضمانه ، فضمان كلّ لاحق في طول ضمان سابقة ، لأنّ ضمان السابق بمنزلة الموضوع لضمان اللاحق.

فلا يمكن أن يكونا في عرض واحد وإن كانا في زمان واحد ، بل لا يمكن أن يكونا في زمان واحد ، لأنّه ما لم يتحقّق الضمان السابق لا تصل النوبة إلى الضمان اللاحق ، فضمان اللاحق متأخّر عن الضمان السابق حتّى زمانا.

وحيث أنّ كلّ واحد من ذوي الأيدي العادية في ذمّته العين - إمّا بدون هذه الصفة الاعتباريّة كاليد الأولى ، أو معها كالأيدي المتأخّرة عنها - فيجوز للمالك الرجوع إلى كلّ واحد منها بدون أن يكون محذور ضمان المتعدّد للمال الواحد عرضا في البين.

لما عرفت أنّ الضمان وان كان متعدّدا ولكن طوليّ ، وليس ضمانان في عرض واحد ، لما ذكرنا من تأخّر رتبة كلّ ضمان لا حق عن ضمان سابقة.

ولا تتوهّم أنّه يأتي محذور تعدّد الضمان لمال واحد عرضا في هذه الصورة أيضا ، وذلك لأنّ متعلّق الضمان في الضمان الطوليّ في كلّ واحدة من الأيدي غير ما هو متعلّق الضمان في الأيدي الآخر ، لأنّ ضمان اليد الأولى متعلّق بنفس العين ، وضمان الثانية متعلّق بضمان العين في ذمّة اليد الأولى ، وضمان اليد الثالثة متعلّق بما في ذمّة الثانية ، وهكذا في سائر الأيادي اللاحقة بلغت ما بلغت ، فلم يجتمع الضمانان على متعلّق واحد ، وكلّ واحد من الغاصبين يضمن غير ما يضمنه الآخرون ، فلا إشكال في البين.

ولا يخفى أنّ رجوع المالك إلى كلّ واحد من الغاصبين يكون على البدل ، بمعنى أنّه لو رجع إلى أحدهم واستوفى حقّه منه ليس له الرجوع إلى الآخرين ، لأنّه لا يبقى موضوع لرجوعه إلى آخر بعد ذلك ، وهذا مرادنا من قولنا : « على البدل » في الجزء

ص: 101

الأوّل من هذا الكتاب في شرح تعاقب الأيادي في قاعدة اليد ، وإلاّ كون نفس ضمانهم عرضا على البدل لا يخلو عن إشكال.

لأنّ معنى الضمان على البدل إن كان مرجعه إلى تقييد إطلاق الجعل مثل باب التكاليف والواجب الكفائي أو التخييري ، حيث أنّ إطلاق الأمر مقيّد بعدم إتيان المكلّف الآخر في الواجب الكفائي ، وبعدم إتيان الفرد الآخر في الواجب التخييري ، فيكون معناه ضمان كلّ واحد منهما في ظرف عدم ضمان الآخر.

وحيث أنّهم كلّهم ضامنون ، فتكون نتيجة التقييد عدم ضمان كلّ واحد منهما ، وهو خلاف الدليل ، كما قلنا أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » يدلّ على ضمان جميع ذوي الأيدي بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بل خلاف الضرورة وإن كان مرجعه إلى تعلّق الضمان بطبيعة الغاصب وذو اليد العادية على هذا المال مثلا كما قيل في الوجوب الكفائي بأنّ الأمر بطور طلب صرف الوجود تعلّق بطبيعة المكلف ، فأيّهم امتثل حصل المطلوب ويسقط التكليف عن الباقين ، فهاهنا أيضا إذا كانت طبيعة الغاصب ضامنا لهذا المال ، فإذا أدّاه أحدهم فيحصل المطلوب ويرتفع الضمان.

ففيه أوّلا : أنّ هذا خلاف ظاهر أدلّة الضمان ، لأنّ ظاهرها الانحلال ، وأنّ كلّ فرد من أفراد اليد العادية يضمن ما في يده.

وثانيا : أنّ استقرار الضمان على من وقع التلف في يده لا يلائم مع كون الضمان متعلقا بالطبيعة.

وثالثا : كون الطبيعة ضامنا لا يساعده الاعتبار العرفي والعقلاء.

ثمَّ إنّ نتيجة ما ذكرنا واخترنا في مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أمور :

الأوّل : جواز رجوع المالك إلى أيّ واحد من الغاصبين.

الثاني : أنّه لو رجع إلى أحدهم واستوفى حقّه منه فليس له الرجوع إلى الآخرين

ص: 102

لعدم بقاء حقّ له.

الثالث : يجوز رجوع كلّ سابق إلى اللاحق إن لم يكن غارّا له ، وأيضا لم يتلف المغصوب عنده ، وإلاّ فمع أحد هذين أو كلاهما فليس له الرجوع إليه.

الرابع : أنّ جواز رجوع السابق إلى اللاحق لا بدّ وأن يكون بعد أداء ما في ذمّته من المثل أو القيمة ، وذلك من جهة ما قلنا إنّ الضمان طولي ، وإنّ اللاحق ضامن للخسارة والبدل الذي يعطيه السابق ويدفعه إلى المالك. وهذا معنى ضمانه لضمانه.

وها هنا تنبيهات

الأوّل : أنّ المالك لو أبرأ أحد الغاصبين وأسقط ما في ذمّة إحدى الأيدي العادية ، هل يسقط عن الجميع ، أو لا يسقط عن غير ما أسقط ما في ذمّته مطلقا ، أو يفصل بين السابق على ما أسقط واللاحق له وأنّه يسقط عن اللاحق دون السابق ، أو بالعكس؟ وجوه.

والأقوى هو سقوطه عن ذمّة الجميع.

بيان ذلك : أمّا سقوطه عن اللاحق فلما ذكرنا أنّ اللاحق ضامن لضمان السابق ، فإذا سقط ضمان السابق فلا يبقى موضوع لضمان اللاحق ، وذلك واضح جدّا. وأمّا سقوط السابق فلأنّ إبراءه للاحق بمنزلة استيفاء حقّه منه ، وحيث أنّ الحقّ واحد ، فلا يبقى للضمان موضوع بالنسبة إلى السابق أيضا.

ولكن الإنصاف أنّ التفصيل قويّ جدّا بين السابق ببقاء ما في ذمّته دون اللاحق ، لانتفاء موضوع ضمانه وهو ضمان السابق عليه الذي أسقط المالك ضمانه بإبراء ما في ذمّته. وأمّا بقاء ضمان السابق على الذي أبرأ عنه فلعدم وجه لسقوطه مع وجود سببه وهو اليد العادية.

ص: 103

وأمّا ما ذكر شيخنا الأستاذ قدس سره من الوجه لسقوطه - بأنّ ذمّة السابق مشغولة بما يكون مخرجه من اللاحق ، فإذا أبرأ اللاحق فلا يعقل بقاء الاشتغال السابق ، لأنّه يبقى بلا مخرج (1) - فعجيب ، لأنّ بقاءه بلا مخرج ليس محذورا كي يوجب سقوطه ، لأنّ المخرج يكون كيسه ، ولذلك لو غصب مالا ولم تقع يد آخر عليه يكون المخرج كيسه. وكذلك في اليد الأخيرة ليس لاحق كي يرجع إليه ، وكذا من عنده صار التلف عليه أن يعطى الغرامة أو البدل من كيسه.

نعم لو قيل بأنّ معنى الإبراء رفع يد المالك عن ماله ، أو عبارة عن استيفاء المالك حقّه ، فلا يبقى له حقّ كي يضمن أحد ، ولازم ذلك سقوط الضمان عن الجميع ، وعلى أيّ حال التفصيل الذي كان يرجّحه شيخنا الأستاذ قدس سره من سقوط السابق دون اللاحق لا وجه له.

الثاني : لو وهب المالك ما في ذمّة أحدهم له ، أو صالحه بلا عوض أو مع العوض ، فهل يكون هذا المتهب أو المتصالح مثل الأجنبي عن سلسلة ذوي الأيدي الذي وهب له ما في ذمّة أحدهم ، ومثل المالك في جواز الرجوع إلى كلّ واحد من ذوي الأيدي إن شاء ، أم لا بل تبرأ ذمّة الجميع ببراءة ذمّة نفسه؟

والفرق بين المسألتين هو أنّه في تمليك الأجنبي عن سلسلة ذوي الأيدي يقوم ذلك الأجنبي مقام ذلك المالك الذي وهب أو صالح بلا عوض أو مع العوض ما في ذمّة أحدهم معه ، لأنّه ينتقل المغصوب من ملكه إلى ذلك الأجنبي ، فيكون الأجنبي مالك المغصوب ، فيجوز له الرجوع إلى أيّ واحد منهم إذا شاء ، لأنّه يده العادية وقعت على ماله وهي موجبة لضمانه ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

وأمّا لو كان الموهوب له أو المتصالح هو نفس من في ذمّته مال المغصوب ، وإن كان هو أيضا تمليك ، ولكن نتيجة هذا التمليك هو إسقاط ما في ذمّته وإبراؤه ، فتصير

ص: 104


1- الأستاذ النائيني « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 300 ، في الفروع المترتبة على الضمان الطولي.

ذمّته فارغة في عالم الاعتبار ، بخلاف ما إذا كان الموهوب له أو المتصالح معه هو الأجنبي ، فإنّه في هذه الصورة لا يكون إسقاط وإبراء في البين ، بل تبقى ذمّته مشغولة لذلك الأجنبي.

غاية الأمر قبل ذلك كان طرف الإضافة هو المالك ، فصار بعد تلك الهبة أو تلك المصالحة هو ذلك الأجنبي ، والذمم في جميع السلسلة باقية على حالها.

وأمّا في الصورة المتقدّمة حيث أنّ نتيجتها الإبراء والإسقاط ، فكان المالك أعدم ماله الذي في ذمّة هذا الشخص في عالم الاعتبار ولم يكن له أموال متعدّدة ، فليس له الرجوع بعد ذلك إلى أحدهم. والموهوب له أيضا لم يبق له مال ، إذ قلنا أنّ نتيجة هبة المالك له ما في ذمّته هو إسقاط ما في ذمّته ، فليس له شي ء كي يطالب به أحدهم ، ومرجع ذلك إلى إبراء ذمّة الجميع ، فكأنّ المالك بإبراء ذمّة أحدهم أبرأ ذمّة الجميع ، فالتفصيل بين الذمم السابقة واللاحقة - بحصول الإبراء بالنسبة إلى الأولى دون الثانية - لا يخلو عن غرابة.

الثالث : لو أقرّ أحدهم بالغصبيّة دون الباقين ، وتلف المال المدّعى غصبيّته ، فعلى ذلك المعترف بالغصبيّة أداء المثل أو القيمة ، كلّ واحد في مورده. وأمّا الباقون فليس عليهم شي ء إلاّ أن يثبت المدّعي للملكيّة بحجّة شرعيّة أنّ المال له على موازين باب القضاء ، وإلاّ فبصرف ادّعاء الملكيّة مع إنكار ذي اليد ليس له الرجوع إلى الباقين.

هذا بالنسبة إلى رجوع من يدّعي الملكيّة إليهم.

وأمّا رجوع السابق منهم إلى اللاحق ، فإن لم يكن السابق مقرّا بالغصبيّة وانتقل المال إلى اللاحق بناقل شرعي لازم كالهبة اللازمة ، أو المصالحة ، أو الإرث ، أو غير ذلك فليس له الرجوع ، ولو تلف المال عند هذا اللاحق ، لأنّه تلف ماله عنده ولا يضمن لأحد.

وإن كان مقرّا وأدّى المثل أو القيمة كلّ في محلّه ، فإن كان اللاحق أيضا مقرّا بها ،

ص: 105

فيجب على اللاحق تدارك خسارة السابق ، لأنّه كما ذكرنا ضامن لضمانه ، وإن لم يعترف فعلى السابق الإثبات على موازين باب القضاء.

نعم إذا أثبت الغصبيّة فيكون الأمر كما قلنا في تعاقب الأيدي على المغصوب المسلّم المعلوم غصبيّته.

الرابع : لو رجع المال المغصوب من اللاحق إلى سابقة الذي أخذ منه ، بمعنى أنّ السابق استردّ من اللاحق ما أخذه منه ، فتلف في يده ، فلا شكّ في أنّه للمالك الرجوع إليه وإلى اللاحق ، لأنّ ماله وقع تحت يد كلّ واحد منهما بدون إذنه ، فوجد سبب ضمان كلّ واحد منهما. فلا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه لو رجع إلى السابق وأخذ منه البدل ، فهل للسابق الرجوع إلى اللاحق بأخذ ما خسره للمالك منه ، أم ليس له ذلك؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك من جهة أنّ المفروض أنّه استردّ المال من اللاحق ، وبهذا انقلب السابق لاحقا ، لأنّه بعد استرداده المال ممّن هو كان لاحقا ، صار لاحقا لذلك اللاحق ، وذلك اللاحق صار سابقا ، وهذا هو معنى الانقلاب ، فصار السابق بعد استرداده المال ضامنا لضمان من كان لاحقا.

ولذلك لو رجع المالك إلى هذا الذي كان لاحقا قبل الاسترداد ، فله أن يرجع إلى من كان سابقا قبل الاسترداد ، لصيرورته لاحقا بعده.

فبناء على ما بيّنّا في مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » من جواز رجوع المالك إلى كلّ واحد من الأيدي المتعاقبة ، وجواز رجوع كلّ سابق إلى لاحقه ، يكون الأمر كما ذكرنا. هذا تمام الكلام في هذه القاعدة.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا

ص: 106

39 - قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ

اشارة

ص: 107

ص: 108

قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المعروفة التي وقع الخلاف فيها بين الفقهاء ، هي قاعدة « مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها ، والأقوال فيها ، وما هو المختار منها

أمّا الأوّل : فالمراد منها أنّه هل توجّه إليهم الأوامر والنواهي غير الإلزاميّة - بعد الفراغ عن عدم توجّه الإلزام إليهم ، لا أمرا ولا نهيا - أم لا؟

ففي الحقيقة النزاع في أنّه هل شرع في حقّهم العبادات ، بحيث يصدق على إتيانهم بتلك العبادات الإطاعة والامتثال للأوامر المولويّة الاستحبابيّة ، أم لا ، إذ لم يشرع في حقّهم تلك العبادات أصلا ، وحالهم حال البهائم والمجانين ، فلو أتوا بها بقصد الإطاعة والامتثال للأوامر المولويّة يكن تشريعا وافتراء محرّما عقلا لا مولويّا؟

وأمّا الثاني : ففيه أقوال :

الأوّل : أنّها مشروعة في حقّهم ، غاية الأمر ليس من طرف المولى إلزام عليهم بالفعل في الواجبات ، ولا بالترك في المحرّمات ، فتكون الواجبات في حقّهم كالمندوبات ،

ص: 109


1- (*) « خزائن الأحكام » ش 23. « القواعد الفقهيّة » ( فاضل لنكرانى ) ج 1 ، ص 344.

والمحرّمات كالمكروهات.

وإن شئت قلت : إنّ الأحكام التكليفيّة في حقّهم ثلاثة : فالواجبات والمستحبّات مندوبات ، والمحرمات والمكروهات مكروهات ، إذ لا وجوب ولا حرمة في حقّهم. وأمّا المباح فباق على إباحته ، فالتكاليف منحصرة في حقّهم في ثلاث : المستحب ، والمكروه ، والمباح.

الثاني : أنّه لم يتوجّه إليهم خطاب من طرف المولى أصلا ، لا الوجوبي ولا الاستحبابي ولا التحريمي ولا التنزيهي ، والصبيّ المميّز - الذي له شعور وإدراك - حاله من هذه الجهة حال غير المميّز.

وأمّا الخطابات المتوجّهة إلى الأولياء بأمرهم لهم بالصلاة والصيام قبل أن يصيروا بالغين فللتمرين ، لا أنّ الأولياء أمروا بأن يأمروا بنفس الصلاة مثلا لمصلحة في نفس الصلاة ، بل أمروا أن يأمروا بالصلاة والصيام لأن يتمرّنوا ويتعوّدوا لكي لا يكون إتيانها بعد الوجوب ثقيلا عليهم ، فليس أمر الأولياء بأن يأمروا الصبيان والأطفال بالعبادات داخلا في مسألة أنّ الأمر بالأمر بشي ء هل أمر بذلك الشي ء أم لا؟ كي يقال إذا كان الأمر بالأمر بالشي ء أمر بذلك الشي ء ، فتكون العبادات متعلّقا للأمر المولوي ، وبعد الفراغ عن عدم وجوبها على الصبيان لا بدّ وأن تكون تلك الأوامر أوامر ندبيّة ، ففي الحقيقة أمر الشارع للأولياء أن يأمروا صبيانهم بالعبادات تعلّق بعنوان التمرين والتعويد ، أي مرّنوهم وعوّدوهم على الصلاة والصيام.

الثالث : أنّ الشارع أمر الصبيان كالبالغين بهذه العبادات ، لكن أمره بها ليس لمصلحة في أنفسها ، ولذا لو حجّ الصبيّ غير البالغ المستطيع لا يكفي حجّه عن حجّة الإسلام ، وذلك ليس إلاّ لعدم مصلحة في حجّه ، بل أمره لهم بها لمصلحة التمرين فقط ، فكأنّه قال : مرّنوا أنفسكم على الصلاة والصيام أو غيرهما من العبادات. وعوّدوها عليها ، فالمستحبّ عليهم هو عنوان تمرين أنفسهم وتعويدهم على العبادات.

ص: 110

وتظهر الثمرة بين هذا القول والقول الأوّل ، أنّه بناء على القول الأوّل يجوز أن ينوب في عمله العبادي عن غيره بأجرة كي يكون أجيرا ، أو بدون أجرة كي يكون تبرّعا ، لأنّ عمله واجد للمصلحة التامّة بدون نقص فيها ، غاية الأمر رفع الشارع الإلزام عنهم لطفا ورحمة عليهم ، ومن باب الرفق بهم والامتنان ، فيكون رفع التكليف الإلزامي عنهم مثل الرفع في باب الحرج ، وعدم جعله التكاليف الحرجيّة على قول ، وهو رفع الإلزام من دون تغيير في ناحية الملاك ، ولذا لو أتى بها وتحمّل الحرج يكون عمله صحيحا ومجزيا عند أرباب هذا القول.

وأمّا بناء على هذا القول فلا يصحّ أن ينوب عن قبل غيره ، لا مع الأجرة ولا بدونها ، إذ عمله يكون عبادة بحسب الشكل فقط ، ولا روح له ، فلا يجوز إجارته لعمل عبادي ، ولا تبرأ ذمّة الميّت بإتيانه ما فات عنه.

وظهر ممّا ذكرنا الفرق بين القول الثاني والأوّل ، وأنّه بناء على القول الثاني لا يصحّ أن ينوب عن غيره بطريق أولى ، إذ بناء على القول الثالث تكون لعمله مصلحة التمرين ، وإن لم يكن في نفس عبادته من صلاته وصومه وحجّه مصلحة وملاك أصلا.

وأمّا بناء على القول الثاني لا خطاب ولا ملاك ، حتّى ملاك التمرين.

وأمّا الفرق بين القول الثاني والثالث ، هو أنّه بناء على القول الثاني مصلحة التمرين في متعلّق أمر الأولياء ، فالشارع أمرهم بتمرين أولادهم ، فالثواب وجزاء التمرين لهم ، لأنّه مستحبّ عليهم ، ولا ربط لا للملاك ولا للخطاب بالصبيان ، لأنّ خطاب الشارع إلى الأولياء ، ولا خطاب إلى الصبيان أنفسهم.

وأمّا بناء على القول الثالث فالخطاب إلى الصبيان ، لكن لا بملاك في عباداتهم ، بل الملاك في تعوّدهم ، وإلاّ فنفس العبادة التي يأتي بها صرف صورة ويكون بشكل العبادة فقط.

ص: 111

وأمّا الثالث : فالمختار هو القول الأوّل ، وهو المشهور بين الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ، وسنذكر الدليل عليه في بيان الجهة الثانية ، وذكر مستند القائلين بالمشروعيّة.

الجهة الثانية : في بيان مدرك هذه القاعدة

فنقول :

أمّا مشروعيّة عباداته وأنّها شرّعت في حقّهم - غاية الأمر أنّها ليس بواجبة عليهم ، بل تكون مأمورة بالأمر الاستحبابي - فلوجوه :

الأوّل : شمول الأدلّة العامّة والمطلقات لهم ، فقوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) ، وقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (2) وأمثالهما من العمومات والإطلاقات في أدلّة العبادات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين.

ولا مخصّص للعمومات ولا مقيّد للمطلقات عدا ما يتخيّل من قول علي علیه السلام « أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة : عن الصبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ » (3).

وقد يدّعي أيضا انصراف تلك العمومات والإطلاقات إلى البالغين.

وفيهما : أمّا في دعوى الانصراف ، فإنّها لا تخلو عن مجازفة ، إذ لا شكّ في أنّ الشارع لم يتّخذ في مقام تبليغ أحكامه طريقا خاصّا ، بل يبلغ ويفهمهم على طريق

ص: 112


1- البقرة (2) : 43 ، 83 ، 110 ، النساء (4) : 77 ، يونس (10) : 87 ، النور (24) : 56 ،.
2- البقرة (2) : 185.
3- « الخصال » ص 40 و 175 ، باب الثلاثة ، ح 40 و 233 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 32 ، أبواب مقدمة العبادات ، باب 4 ، ح 11.

أهل المحاورة ، ولا شكّ في أنّ أهل المحاورة لا يفرقون في توجيه الخطاب وألفاظ المخاطبة بين البالغين ومن كان عمره أقلّ من عمر البالغ بساعة. بل يخاطبونهم على نسق واحد وبلفظ واحد ، فدعوى أنّ العمومات لا تشمل غير البالغين ، أو تكون منصرفة عنهم مجازفة محضة وبلا دليل ولا برهان.

وأمّا حديث رفع القلم الذي هو عمدة دليل القائلين بعدم شرعيّة عبادات غير البالغين ، فالإنصاف أنّه في مقام الامتنان واللطف والرأفة والرحمة ، فلا يدلّ على أزيد من رفع الإلزام. مثل قاعدة الحرج عند المشهور ، فإنّهم يقولون : ببقاء الملاك وارتفاع الإلزام والوجوب للامتنان ، ولذلك يقولون : لو تحمّل الحرج وأتى به يكون صحيحا ومجزيا.

وأمّا عدم إجزاء حجّ الصبي عن حجّة الإسلام ، فلعلّه لخصوصيّة في حجّة الإسلام لا تحصل تلك الخصوصيّة إلاّ بأن يكون بالغا ، كما أنّه في اشتراط الحرّيّة أيضا كذلك ، فليس من جهة عدم مصلحة وملاك في حجّ غير البالغين كما توهّمه هذا القائل.

ولكن ربما يرد ها هنا إشكال ، وهو أنّه لا شكّ في أنّ مفاد حديث رفع القلم هو رفع الوجوب عن غير البالغين ، فإذا ارتفع الوجوب فلا دليل على استحباب ذلك الفعل ، لأنّ دليله كان مفاده الوجوب وهو ارتفع على الفرض ، فما الذي يدلّ على استحبابه في مقام الإثبات؟ وإن لم يكن دليل على عدم استحبابه أيضا ولكن صرف عدم الدليل على عدم استحبابه لا يكفي في الحكم باستحبابه ، فإثبات الاستحباب لا طريق إليه.

وفيه أوّلا : أنّه ربما يقال بأنّه يمكن إثباته بالاستصحاب ، بأن يقال بأنّ القدر الجامع بين الواجب والمستحب وهو مطلق الطلب وجد ، وبارتفاع الوجوب يشكّ في بقاء الجامع لاحتمال بقائه في ضمن الطلب الاستحبابي.

وفيه : أنّ هذا الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ،

ص: 113

وأثبتنا في الأصول عدم جريانه.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه على تقدير جريانه يكون مثبتا ، لأنّ إثبات خصوص فرد باستصحاب الجامع بعد زوال الفرد الذي وجد الجامع في ضمنه يقينا ، واحتمال وجود فرد آخر من أوّل الأمر أو من حين زوال ذلك الفرد المتيقّن الوجود يكون من إثبات اللازم العقلي بالحكم ببقاء الملزوم.

فلا يرد ، لأنّ في المقام لا يحتاج إلى إثبات خصوص الفرد ، أي الطلب الاستحبابي ، لأنّ الأثر مترتّب على نفس بقاء الجامع ، وهو الطلب المشترك بين الاثنين.

ولكن يمكن ها هنا تصوير الاستصحاب بنحو لا يكون من القسم الأوّل أو القسم الثاني من القسم الثالث اللذان أثبتنا عدم جريانها ، بل يكون من القسم الثالث من القسم الثالث من الاستصحاب الكلّي الذي قلنا بجريانه مع وحدة القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة عرفا.

بأن يقال : إنّ الطلب الاستحبابي مرتبة من الطلب منطوية في الطلب الوجوبي ، فإذا ارتفعت تلك المرتبة الأكيدة من الطلب - المسمّى بالطلب الوجوبي - فيشكّ في بقاء تلك المرتبة الضعيفة التي كانت منطوية في المرتبة الأكيدة ، فيستصحب. وأركان الاستصحاب تامّة من اليقين بوجود تلك المرتبة سابقا والشكّ في بقائه.

وفيه أنّ هذا المبنى - من كون الاستحباب مرتبة ضعيفة من الطلب ، منطوية في المرتبة الأكيدة المسمّى بالوجوب - غير تامّ.

وثانيا : أنّ مقتضى طبع الطلب الصادر من المولى هو الوجوب بحكم العقل بلزوم إطاعته ، إلاّ أن يأذن هو في الترك ، فالاستحباب ليس مقتضى طبع الطلب ، بل يستفاد من إذنه في الترك ، والإذن في الترك كما يحصل من نفس هذا العنوان إلى التصريح بجواز الترك ، كذلك يحصل بعناوين آخر ، مثل رفع العسر والحرج ، ومثل هذا العنوان ، أي

ص: 114

رفع قلم الإلزام ، ورفع القلم عن شخص أو طائفة مقابل ما كتب عليه أو عليهم.

فكما لا يفهم من العبارة الأخيرة غير اللزوم والوجوب ، فكذلك لا يفهم من الأولى إلاّ رفع الوجوب والإلزام والإذن في الترك ، فحديث رفع القلم بمنزلة الإذن في ترك الواجبات ، فقهرا يكون مفاد الأوامر الأوّليّة بعد ورود الإذن في الترك بتوسّط حديث الرفع هو الاستحباب. لا أنّ حديث الرفع يرفع الخطاب الوجوبي من رأس ، كي تقول إذا ارتفع الخطاب الوجوبي بحديث رفع القلم عن الصبي فليس هناك آخر يستفاد منه الاستحباب.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذا الإشكال مختصّ بالواجبات ولا تأتي في المستحبّات.

الثاني : العمومات التي دلّت على ترتّب الثواب على من صلّى ، أو صام ، أو حجّ ، أو أعطى زكاة ماله وأمثال تلك المذكورات من العبادات ، وهذه العمومات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين. ودعوى الانصراف إلى البالغين خروج عن ظاهر اللفظ بدون دليل عليه.

ولا شكّ في أنّ ترتّب الثواب على فعل من لوازم استحباب ذلك الفعل ، فهذه العمومات والإطلاقات تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على استحباب تلك الواجبات على غير البالغين بعد القطع بعدم وجوبها عليهم.

الثالث : أنّ العقل مستقل بحسن بعض الواجبات ، كردّ الأمانة ، وحفظ النفس المحترمة ، ولا يفرق في حكم العقل بحسن ذلك الفعل واستحقاق الأجر والثواب عليه بين أن يكون للفاعل من العمر خمسة عشر سنة بالتمام ، أو كان ناقصا مقدار ساعة بل يوم بل شهر ، فكون الصبيّ غير البالغ مستحقّا للأجر والثواب على مثل ذلك الفعل ممّا يستكشف منه استحباب ذلك الفعل ، وبعدم القول بالفصل يثبت الاستحباب في سائر الواجبات أيضا.

مضافا إلى أنّه يثبت بهذا الدليل مشروعيّة عبادات الصبيّ في الجملة ، مقابل

ص: 115

السلب الكلّي الذي يدّعيه الخصم.

إن قلت : إنّ حديث رفع القلم يخصّص العمومات بغير الصبيّ من العاملين الممتثلين لتلك العبادات ، لأنّه إذا كان مفاد الحديث رفع قلم التكليف مطلقا ، سواء أكان وجوبا أو استحبابا ، فيرفع استحقاق الصبيّ غير البالغ للأجر والثواب من باب نفي اللازم بنفي الملزوم.

فجوابه : أنّ مفاد حديث رفع القلم ليس رفع التكليف مطلقا كما توهّم ، بل مفاده وظاهره رفع خصوص الإلزام والوجوب بالبيان المتقدّم.

الرابع : كمال الاستبعاد أن لا يستحقّ غير البالغ القريب إلى وصوله إلى البلوغ بزمان يسير كيوم مثلا أو أقلّ ، مع إتيانه بالصوم مثلا في نهار طويل من أيّام شهر رمضان وفي حرّ شديد مع كمال الإخلاص ، وهو يتحمّل الأذى قربة إلى اللّه تعالى ، أو يمشي إلى الحجّ مثل هذا الصبيّ مخلصا لله تعالى راجلا مع كمال المشقّة ، ثمَّ يقال إنّ هذا لا يستحقّ شيئا من الأجر والثواب لأنّه لم يصل إلى حدّ البلوغ.

فالإنصاف أنّ القول بعدم استحقاق مثل هذا الولد في هذا العمر مع أنّه في كمال الشعور والإدراك - خصوصا إذا كان من أهل الفضل والتقوى ، بل ربما يتّفق أن يكون من الفقهاء ، كما يقال في حقّ بعض الفقهاء الكبار قدس سره إنّه صار فقيها وبلغ إلى درجة الاجتهاد قبل أن يصير بالغا - خلاف الإنصاف ، بل خلاف الوجدان ، وكيف يمكن أن يقال مثل هذا ، مع أنه صلی اللّه علیه و آله قال : « في كلّ كبد حرى أجر » (1).

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّ هذا الوجه مع هذا التفصيل المذكور بالخطابة أشبه من كونه دليلا فقهيّا يكون مدركا للفتوى ، وذلك من جهة أنّه لو صدر عمل أشقّ ممّا ذكرنا من أكبر العلماء ، وكان إتيانه بعنوان أنّه من الدين بدون دليل عنده أنّه من

ص: 116


1- « مسند أبي يعلى الموصلي » ج 3 ، ص 137 ، ح 1568 ، « المعجم الكبير للطبراني » ج 20 ، ص 323 ، ح 763 ، « السنن الكبرى للبيهقي » ج 4 ، ص 186 ، باب ما ورد في سقي الماء.

الدين ، يكون ذلك تشريعا محرّما ولا يستحقّ شيئا من الأجر والثواب ، بل يستحقّ اللؤم والعقاب. ففيما نحن فيه أيضا يقال : حيث أنّه لم يدلّ دليل على أنّ مثل ذلك الصوم أو مثل ذلك الحجّ مشروع ، فلو أتى به بعنوان العبادة وأنّه مشروع يكون تشريعا ، ولا يستحقّ عليه شيئا من الأجر والثواب.

ثمَّ إنّهم ذكروا ها هنا وجوها أخر لمشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ ، تركنا ذكرها لكونها من الاستحسانيّات التي لا يصحّ جعلها مدركا للحكم الفقهي ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

وما ذكرنا كان مدرك القول الأوّل القائلون بمشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ كالبالغين ، وأنّ الواجبات أيضا في حقّهم مستحبّات.

وأمّا مدرك القول الثاني - أي عدم مشروعيّة عباداتهم أصلا وأنّ الشارع أهملهم كالبهائم والمجانين - هو عموم حديث رفع القلم عنهم للواجبات والمستحبّات ، فكما أنّ الوجوب مرفوع عنهم ، كذلك الاستحباب أيضا مرفوع ، لأنّه لا شكّ في أنّ قلم التكليف عامّ يشمل الأحكام الخمسة كلّها ، والنفي وارد على هذا المعنى ، فمعنى رفع القلم عنهم هو أنّ كلّما يكون مندرجا تحت عنوان قلم التكليف فهو مرفوع عنهم ، فرفع القلم مقابل وضع القلم.

فكما أنّ وضع القلم عند البلوغ معناه أنّ الأحكام الخمسة كلّها تكتب في حقّه ، فكذلك معنى رفع القلم عدم كتابة شي ء منها عليه ، لا الوجوب ، ولا الاستحباب ، ولا الحرمة ، ولا الكراهة ، حتّى ولا الإباحة بعنوان أنّه حكم شرعي ، فمع رفع القلم عنه وعن أفعاله لا يبقى مجال للقول بمشروعيّة عباداته واستحبابها ، ولذلك ترى أنّ العرف إذا يقولون : إنّ فلانا مرفوع القلم ، أي لا اعتبار بأقواله ولا بأفعاله ، أي حاله حال البهائم.

والإنصاف أنّ الحديث وإن كان ظاهره بحسب المتفاهم العرفي هو هذا المعنى ،

ص: 117

ولكن القرائن المقاميّة تدلّ على أنّ المراد منها هو خصوص الأحكام الإلزاميّة ، كالوجوب والحرمة ، لا مطلق الأحكام لكي يشمل الاستحباب والكراهة ، بل الإباحة الشرعيّة ، وذلك لما ذكرنا من أنّه تبارك وتعالى في مقام الرحمة والرأفة بالعباد ، وأنّ الصبيّ غير البالغ غالبا لا يميّز بين الضرر والنفع ، ولا يعتني بأنّ ترك الواجب وفعل الحرام مجلبة للضرر. لقصور عقله ، أو لغلبة شهواته الحيوانيّة.

ولذلك رفع المؤاخذة والعقاب عنه برفع منشئهما ، وهو الحكم الإلزامي ، أي الوجوب والحرمة.

وأمّا الروايات في عدم جواز أمره حتّى يحتلم (1). وأيضا ما ورد من أنّ عمده خطأ فأجنبيّ عن هذا المقام ، لأنّ الطائفة الأولى راجعة إلى عقوده وإيقاعاته ، وسائر معاملاته وإن لم يكن يعقد أو إيقاع ، كمعاملاته المعاطاتيّة. والطائفة الثانية راجعة إلى باب الجنايات ، لأنّها ظاهرة فيما يكون لعمده حكم ولخطائه حكم ، فقال علیه السلام في رواية إسحاق بن عمّار : « عمد الصبيان خطأ » (2) أي حكم المترتّب على ما صدر عنه عمدا هو حكم هذا الفعل لو كان يصدر من البالغ خطا ، ولذلك قال علیه السلام بعد هذه الجملة جملة أخرى ، وهي قوله علیه السلام : « يحمل على العاقلة ». فالقول بعدم مشروعيّة عبادات غير البالغين لا أساس له ، وإن كان يظهر من جماعة من أعاظم الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين.

وأمّا مدرك القول الثالث وهو أنّها شرعيّة لا من حيث عناوينها الأصليّة ، أي ليست الصلاة مثلا مشروعة ومستحبّة من حيث أنّها صلاة ، وكذلك في الصوم والحجّ وسائر العبادات الواجبة ليس مشروعيّتها من تلك العناوين أنفسها ، بل من حيث

ص: 118


1- « الكافي » ج 7 ، ص 197 ، باب حد الغلام والجارية اللذين يجب عليهما الحد تماما ، ح 1 ، « السرائر » ج 3 ، ص 596 ، المستطرفات ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 268 ، ح 22750 ، أبواب عقد البيع ، باب 14 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 233 ، ح 921 ، في باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 54 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 307 ، ح 35835 ، أبواب العاقلة ، باب 11 ، 3.

القعود وتمرين النفس على إتيانها ، فكان للصلاة مثلا جهتين : جهة الصلاتيّة التي هي عنوان أوّلى لها ، وجهة التمرن بإتيانها كي لا يشقّ عليه بعد البلوغ إتيانها.

فالمدّعى بناء على هذا القول الثالث ليس هو مشروعيّة الصلاة من حيث أنّها صلاة ، بل مشروعيّتها من حيث حصول التمرين والتعوّد على أداء الواجبات بإتيانها ، ففي الحقيقة موضوع الاستحباب ليس هو نفس الصلاة ، بل موضوع الاستحباب هو التمرين الذي يحصل بإتيان الصلاة في كلّ يوم في وقتها ، فهو مركب - أي القول الثالث - من أمرين :

أحدهما : عدم مشروعيّة العبادات من حيث عناوينها الأصليّة.

وفي هذا الأمر دليلهم دليل القول الثاني ، وجوابهم عين ذلك الجواب.

ثانيهما : استحباب تلك العبادات ومشروعيّتها من حيث حصول التمرين بإتيانها.

ودليلهم في هذا الأمر الأخبار الكثيرة التي مفادها استحباب التمرين والتعوّد. (1)

وفيه : أنّ دليل رفع القلم لو شمل المستحبّات ، فهذا الاستحباب أيضا مرفوع عنهم ، فهذا التفصيل لا وجه له.

نعم الأخبار الكثيرة واردة في أنّه على الوليّ أن يأمره بإتيان الواجبات لمصلحة التمرين (2) ، فيستحبّ أو يجب على الوليّ الأمر لمصلحة التمرين لا على الصبيّ.

فلا يخلو الأمر عن أحد هذين : وهو أنّ حديث رفع القلم مفاده إمّا رفع جميع

ص: 119


1- « الخصال » ص 626 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 381 ، ح 1590 ، (18) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 409 ، ح 1563 ، باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 11 ، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، باب 3 ، ح 1 - 8.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 409 ، باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها ، ح 1 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 281 ، ح 863 ، باب الحد الذي يؤخذ فيه الصبيان بالصلاة ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 381 ، ح 1590 ، (18) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 11 ، أبواب أعداد الفرائض ، باب 3 ، ح 1 - 5 - 6 - 7 - 8.

الأحكام حتّى المستحبّات ، فلا فرق بين أن يكون موضوع الاستحباب نفس عناوين العبادات ، أو يكون التعوّد والتمرين على إتيان تلك العبادة ، فلا يستحبّ على الصبيّ شي ء بأيّ عنوان كان. وأمّا مفاده رفع خصوص الإلزام ووجوب الفعل أو الترك ، فنفس هذه العناوين مستحبّات.

وقد تقدّم التفصيل ، فظهر أنّ القول الثالث لا وجه له.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة ، والفروع المترتّبة عليها

فنقول :

الأوّل : الطهارات الثلاث ، فبناء على القول بالمشروعيّة تكون مستحبّة على غير البالغ بعد دخول وقت الصلاة ، لأنّها واجبة على البالغين في ذلك الوقت ، كما أنّه بناء على القول باستحبابها في أنفسها تكون أيضا مستحبّة على غير البالغين. وفي كلتا الصورتين له أن يأتي بها بقصد أمرها الاستحبابي ، غاية الأمر في إحديهما بعد دخول الوقت ، وفي الأخرى وإن كان قبل دخول الوقت.

الثاني : في تجهيز الميّت من الغسل ، والكفن ، والصلاة عليه ، ودفنه بعد الصلاة عليه ، فبناء على المشروعيّة يستحبّ عليه هذه الأمور ، وإن كان على البالغين واجبا كفائيّا ، فيجوز له أن يتصدّى ويرفع موضوع الوجوب عن البالغين. وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فليس له أن يجهز الميّت وإن كان أباه أو أمّه.

الثالث : المستحبّات من الأفعال والأذكار الواردة في الطهارات الثلاث قبلها وبعدها وفي حين الاشتغال بها ، فبناء على المشروعيّة يستحبّ كلّ ذلك على الصبيّ غير البالغ أيضا كالبالغين ، وكذلك الحال في مستحبّات تجهيز الميّت.

ص: 120

الرابع : الأذان والإقامة قبل الصلاة مستحبّ عليه قبل الدخول في الصلاة ، وكذلك أذان الإعلام بناء على المشروعيّة ، وليس شي ء منها مستحبّا بناء على عدم المشروعيّة. وكذلك نفس الصلاة مع مستحبّاتها الكثيرة - التي كتب الشهيد قدس سره فيها كتاب الألفيّة والنفليّة - مستحبّة في حقّه بناء على مشروعيّة عباداته ، ولا يستحبّ شي ء منها بناء على عدم المشروعيّة.

وكتاب الألفيّة مشتمل على ألف واجب ، وكتاب النفليّة مشتمل على ما يزيد ثلاثة آلاف من المستحبّات ، فجميع هذه الأربعة آلاف أو أكثر من واجبات الصلاة ومستحبّاتها مستحبة على الصبيّ غير البالغ بناء على المشروعيّة ، فله أن يأتي بها بقصد أمرها الندبي.

وذكرها وبيان مدرك وجوبها واستحبابها خارج عن طور هذا الكتاب ، وقد أتعب الشهيد الأوّل قدس سره نفسه في استقصائها وذكرها في كتابيه ، وشرحهما الشهيد الثاني قدس سره أحسن شرح ، فلا حاجة إلى ذكرها.

والغرض ها هنا بيان أنّ هذه القاعدة - أي قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ - من أكبر القواعد الفقهية وأكثرها فرعا.

الخامس : الحجّ نفسها وواجباتها ومستحبّاتها الكثيرة التي بعد الصلاة لا يماثلها في كثرة الواجبات والمستحبّات عبادة ، فجميعها مستحبة في حقّ الصبيّ ، ويثاب ويوجر على الإتيان بها بناء على القول بمشروعيّة عبادات الصبيّ كما هو المختار.

وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فلا يستحبّ شي ء منها عليه.

السادس : الصوم ، واجباته ومستحبّاته مستحبّة على غير البالغ بناء على المشروعيّة ، كما أنّ الاعتكاف أيضا كذلك. وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فلا يستحبّ شي ء منها عليه ، وواجبات الصوم ومستحبّاته كثيرة ، وكذلك الاعتكاف.

ثمَّ إنّه بناء على ما اخترنا في معنى حديث رفع القلم عن الصبيّ من أنّ المراد برفع

ص: 121

القلم رفع الأحكام الإلزاميّة كالوجوب والحرمة ، فالمكروه أيضا كالمستحبّ ليس مرفوعا عنه ، فبناء على هذا لو صام في شهر رمضان استحبابا ، أو في غيره من الأزمنة التي يكون الصوم فيها مستحبّة ، وهو كلّ أيّام السنة إلاّ المنهيّ عنه ، والمؤكّد منها أيّام خاصّة ، كصوم أيّام الليالي البيض ، ويوم الغدير وصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وهو أوّل خميس منه ، وآخر خميس منه ، وأوّل أربعاء من العشر الثاني ، ويوم السابع عشر من ربيع الأوّل ، ويوم السابع والعشرون من رجب ، ويوم دحو الأرض - وهو اليوم الخامس والعشرون من ذي العقدة - إلى غير ذلك من الأيّام التي يستحبّ فيها الصوم ، فالمكروهات في حال الصوم مكروه في حقّه ، كالاكتحال والسعوط وشمّ الرياحين وغير ذلك.

كما أنّ أقسام الصوم المكروه كصوم يوم عاشوراء بناء على كراهته أيضا مكروه عليه ، كما أنّه لو صار جنبا بإدخاله في امرأة قبلا أو دبرا ، أو إدخال الغير فيها قبلا أو دبرا يكره عليه كلّ ما يكره على الجنب.

والحاصل : أنّ المكروهات كالمستحبّات غير مرفوع عنه ، فتكون في حقّه مكروها كالبالغين ، إلاّ أن يكون دليل الكراهة مخصوصا بالبالغين ، وذلك كالملاعبة مع زوجته في حال الصوم خوفا من الإنزال ، فهذا التعليل يوجب اختصاص هذا الحكم بالبالغين.

ثمَّ إنّه بناء على مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ المميّز لا وجه للقول بعدم جواز استيجاره للصلاة ، أو الصوم ، أو الحجّ عن الميّت ، بناء على ما هو المفروض من كون فعله ذا ملاك تامّ كالبالغين ، وإنّما ارتفع اللزوم إرفاقا ورأفة بهم ، فيمكن للصبيّ المميّز أن ينوب عن الميّت ، ويأتي بما على عهدته ، ويفرغ ما في ذمّته ، لأنّه لا خلل ولا نقصان في فعله.

فعدم الجواز وعدم الإجزاء لا يبقى له مجال ، ولو كان دليل على اشتراط البلوغ

ص: 122

في صحّة عبادة لكان تعبّدا يجب الالتزام ، ولكنّه ليس في البين إلاّ حديث رفع القلم (1) ، وحديث أنّ عمده خطأ (2) ، ورواية أنّ جوازه أمره موقوف على الاحتلام - أي البلوغ (3) - وقد عرفت الحال في هذه الأحاديث.

فالأقوى جواز استيجاره للعبادات التي يمكن النيابة فيها ، وإنّ الأحوط تركها ، خروجا عن مخالفة جمع كثير من أعاظم الفقهاء قدس سره .

وأمّا نذره أن يفعل ما هو عبادة غير مالي ، فأيضا بناء على مشروعيّة عباداته ، فبمقتضى القواعد الأوّليّة ينبغي أن يقال بصحّته ، ولكن لا قائل بها ، بل الظاهر انعقاد الإجماع على اشتراط البلوغ في صحّة النذر.

مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ من لوازم صحّة النذر وجوب الوفاء به ، لقوله تعالى ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (4) فإذا لم يكن وجوب الوفاء في مورد فلا يصحّ النذر في ذلك المورد ، لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم المساوي.

ولكن يمكن الجواب عن هذا بأنّ النذر لازمه أن يمكن الوفاء به ، ولذلك لا يجوز نذر ما لا يقدر عليه ، كما إذا نذر أن يحجّ ماشيا مع عدم قدرته على ذلك.

وأمّا وجوب الوفاء ، فهذا من الأحكام الشرعيّة التي رتّب الشارع عليه ، فمن الممكن أن يرفع الشارع هذا الحكم رأفة وامتنانا في بعض الموارد ، فالعمدة في وجه بطلان نذر الصبيّ غير البالغ هو الإجماع لا غير.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 123


1- تقدم راجع ص 112 ، هامش رقم (3).
2- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (2).
3- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (1).
4- الدهر (76) : 7.

ص: 124

40 - قاعدة الميسور

اشارة

ص: 125

ص: 126

قاعدة الميسور (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة الميسور ». وفيها جهات من البحث.

[ الجهة ] الأولى : في بيان مفادها

فنقول : المراد منها أنّ الشارع إذا أمر بمركب له أجزاء وشرائط وموانع ، فإذا تعذّر له إيجاد بعض الأجزاء أو بعض الشرائط أو تعسر عسرا يرفع التكليف عن المعسور ، أو تعذّر له ترك بعض الموانع ، أو تعسر فهل يسقط الوجوب بالمرّة ، ويرتفع عن جميع أجزاء ذلك المركّب مع شرائطه وموانعه ، المتعذّر منها وغير المتعذّر ، أم لا بل يرتفع عن خصوص ما هو المتعذّر منها ، وأمّا بالنسبة إلى الباقي فباق؟

ومعنى قاعدة الميسور هو أنّ الوجوب بالنسبة إلى المقدار الميسور من المركّب باق ، ولا يرتفع عن ذلك المقدار بواسطة ارتفاعه عن المقدار المتعذّر أو المعسور.

ص: 127


1- (*) « عوائد الأيّام » ص 88. « عناوين الأصول » عنوان 19 ، « مناط الأحكام » ص 25 ، « اصطلاحات الأصول » ص 201 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 118 ، « القواعد » ص 297 ، « قواعد فقهي » ص 291 ، « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 539.

[ الجهة ] الثانية : في مدركها

اشارة

وهو أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إطلاق دليل المركّب ، بمعنى أنّ دليل المركّب له إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكّن من إيجاد الجزء وعدم التمكّن منه ، مثلا قوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) لو فرض أنّه له إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكّن من رمي الجمرة وعدم التمكّن منه ، فإذا لم يكن متمكّنا منه وسقط الأمر عنه بواسطة عدم القدرة ، يتمسك بإطلاق دليل وجوب الحجّ لوجوب الباقي وعدم سقوطه بسقوط وجوب ذلك الجزء أو ذلك الشرط.

ولكن التمسّك بإطلاق دليل المركّب يتوقّف على أمور :

الأوّل : أن تكون مقدّمات الإطلاق فيه موجودة.

الثاني : أن لا يكون لدليل ذلك الجزء أو الشرط المتعذّر إطلاق يدلّ على جزئيّته أو شرطيّته مطلقا ، سواء كان المكلّف متمكّنا من إيجاده أم لا ، إذ مع إطلاقه لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق دليل المركّب ، لحكومة إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركّب.

الثالث : أن لا يكون اللفظ الموضوع لذلك المركّب موضوعا للصحيح إذا كان من العبادات ، وذلك لأنّه بناء على أن يكون كذلك لا يمكن التمسّك بإطلاقه في رفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة ، أو شرطيّته كذلك.

نعم لا بأس بالتمسّك بإطلاقها المقامي ، كما شرحنا كلّ ذلك مفصّلا في كتابنا « المنتهى ».

ص: 128


1- آل عمران (3) : 97.

[ الأمر ] الثاني : الاستصحاب. ومعلوم أنّ بقاء الوجوب بالنسبة إلى البقيّة - أي ما عدى المتعذّر من الأجزاء والشرائط والموانع وجودا بالنسبة إلى الأولين ، وعدما بالنسبة إلى الأخير - الذي هو عبارة عن الاستصحاب حيث أنّه مفاد الأصل العملي ، فلا تصل النوبة إليه ، إلاّ بعد فقد إطلاق دليل المركّب وإطلاق دليل القيد ، أي الجزء والشرط وعدم المانع ، إذ مع فرض إطلاق دليل المركّب مع إجمال دليل القيد ، فبقاء الوجوب للبقيّة معلوم بواسطة الإطلاق.

فلا يبقى موضوع لجريان الاستصحاب ، لحكومة إطلاق دليل المركّب عليه ، ومع فرض إطلاق دليل القيد سواء كان إطلاق لدليل المركّب أو لم يكن ، يكون سقوط الوجوب بالنسبة إلى البقيّة معلوما.

أمّا في فرض إجمال دليل المركّب فواضح ، وأمّا في فرض إطلاقه فلحكومة إطلاق دليل القيد على إطلاق دليل المركّب ، فلا مجال لوصول النوبة إلى الاستصحاب ، إلاّ فيما إذا كان دليل المركّب ودليل القيد كلاهما مجملين.

وأمّا إذا كان أحدهما مطلقا ، أو كان كلاهما مطلقين ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وذلك لحكومة الأمارات التي منها الإطلاقات على الأصول مطلقا ، محرزة كانت أو غير محرزة.

ثمَّ إنّ تقرير الاستصحاب ها هنا من وجوه :

الأوّل : استصحاب بقاء الجامع بين الوجوب النفسي المحتمل الوجود المتعلّق بما عدا القيد بعد تعذّره ، ووجوب الغيري الذي كان متعلّقا بما عدا القيد المتعذّر من باب المقدّمة.

ومعلوم أنّ هذا الوجه مبنيّ على وجوب المقدّمات الداخليّة بالوجوب الغيري ، مثل المقدّمات الخارجيّة.

ص: 129

بيان ذلك : أنّ وجود ذلك الجامع في ضمن الوجوب الغيري لما عدا قيد المتعذّر كان متيقّن الوجود ، وحيث أنّه من المحتمل وجوب النفسي المستقلّ لما عدا ذلك القيد المتعذّر بعد تعذّره ، فيكون بقاء ذلك الجامع مشكوكا بعد تيقّن وجوده ، فيكون مجرى الاستصحاب.

وفيه أوّلا : أنّ المقدّمات الداخليّة - أي أجزاء المركّب الواجب - ليست واجبة بالوجوب الغيري ، وقد حقّقنا ذلك في باب مقدّمة الواجب.

وثانيا : أنّ هذا الاستصحاب يكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، الذي قلنا بعدم جريانه وعدم تماميّة أركانه. وعمدة الإشكال فيه هو أنّ وجود الطبيعة في ضمن كلّ فرد غير وجوده في ضمن الفرد الآخر ، فوجود الجامع في ضمن الوجوب الغيري في المفروض متيقّن الارتفاع ، وفي ضمن الوجوب النفسي المحتمل مشكوك الحدوث ، فليس هناك وجود واحد متيقّن الحدوث ، ويكون هو مشكوك البقاء.

وثالثا : إثبات الوجوب النفسي المستقلّ لما عدى القيد المتعذّر بهذا الاستصحاب مثبت.

الثاني : استصحاب نفس الوجوب النفسي الذي كان متعلّقا بالمركّب قبل حدوث تعذّر القيد.

والإشكال : بأنّ موضوع ذلك الوجوب كان مجموع المركّب ، والمفروض ارتفاع ذلك الموضوع بواسطة تعذّر بعض أجزائه ، والبقيّة على تقدير وجوبها تكون موضوعا آخر ، ولا يمكن بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وتبدّله ، حتّى ولو كان الباقي واجبا لكان وجوبا آخر غير الوجوب الأوّل ، لما ذكرنا من تبدّل الموضوع من الأكثر إلى الأقلّ.

يجاب عنه : بأنّ وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة بحسب الموضوع عرفي ، ولا

ص: 130

يجب أن يكون الموضوع فيهما واحدا بالدقّة العقليّة ، وإلاّ لا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّية أصلا إلاّ من جهة احتمال النسخ ، فيستصحب عدمه. وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا « المنتهى ».

ولكن فيه : أنّ هذا الوجه من تقرير الاستصحاب لا يفي إلاّ بالموارد التي يكون موضوع القضيتين - المتيقّنة والمشكوكة - واحدا بنظر العرف ، وأمّا فيما لا يكون كذلك ، كما هو الأكثر في أبواب العبادات ، فإنّ حكم العرف بوحدة الحجّ المتعذّر فيه الوقوف في الموقفين - العرفات والمشعر ، الوقوف الاضطراري والاختياري - مع الحجّ المتمكّن فيه الوقوفان ، أو حكمه بوحدة صلاة فاقد الطهورين مع واجدهما أو أحدهما لا أثر له بعد العلم بأنّ الشارع يراهما متباينين حقيقة ، بل الواحدة العرفيّة ليست إلاّ بحسب الشكل فقط.

فليس للعرف طريق إلى تشخيص الوحدة بين المركّب التامّ الأجزاء والناقص في أغلب العبادات ، لعدم طريق له إلى معرفة الأركان ، وتميّزها عن غيرها إلاّ بما صرّح الشارع بركنيّتها.

وهذا الإشكال يأتي في إجراء قاعدة الميسور أيضا وسنتكلّم فيه إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل : أنّ خطاب لا تنقض اليقين بالشكّ وإن كان تشخيص موضوعه بنظر العرف ، ولكن فيما يكون للعرف طريق إلى التشخيص ، لا فيما ليس لهم طريق إلى ذلك.

هذا ، مضافا إلى أنّ العرف أيضا ربما لا يرى الوحدة بين الفاقد للقيد والواجد له ، حتّى فيما إذا كان المركّب من الأمور العرفيّة ، فالاستصحاب بهذا الوجه لا يفي بجميع الموارد.

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ القيد المتعذّر لو كان من قبيل الشرط أو المانع ، فيحتمل أن يكون بنظر العرف من قبيل الواسطة في الثبوت ، لا الواسطة في العروض ، فيكون

ص: 131

ما هو الموضوع في القضيّتين بنظره واحدا.

وأمّا إذا كان من قبيل الأجزاء فلا يمكن ذلك ، إذ لا شكّ في أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب ينبسط على جميع الأجزاء ، فكلّ جزء من الأجزاء يقع تحت الأمر المتعلّق بالمجموع ، فلا يكون من قبيل الواسطة في الثبوت ، بل هو بنفسه معروض ، ولا شكّ في انتفاء المركّب بانتفاء جزئه ، وأيضا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، فلا يبقى شكّ في بقاء الحكم عقلا ، وإن فرضنا وحدة الموضوع عرفا.

نعم بناء على هذا البيان يأتي وجه آخر للاستصحاب الشخصي ، سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

لا يقال : فلا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة بناء على ما ذكر ، للقطع بانتفاء الحكم بعد تغيّر الموضوع ، وبدونه لا شكّ إلاّ من قبل احتمال النسخ.

وذلك من جهة أنّه هناك من المحتمل أن يكون القيد المنفي من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض ، وهذا الاحتمال موجب للشكّ في بقاء الحكم. بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الجزء المتعذّر ها هنا ليس واسطة في الثبوت قطعا ، بل هو يكون بنفسه معروضا - كما بيّنّاه - فالفرق بين المقامين في كمال الوضوح.

الثالث : أنّه لا شكّ في أنّ الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان واجبا نفسيّا في ضمن المجموع المركّب منه وممّا تعذّر ، والجامع بين هذا الوجوب النفسي الضمني والوجوب النفسي المستقلّ المتعلّق بالمجموع كان موجودا يقينا ، وبعد انتفاء أحد فرديه - وهو الوجوب النفسي المتعلّق بالمجموع - يحتمل بقاؤه في ضمن الفرد الآخر ، وهو الوجوب المتعلّق بما عدا المتعذّر.

غاية الأمر وجوب الباقي بعد ما كان ضمنيّا ينقلب استقلاليّا ، ولا إشكال فيه ، لأنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع من أمر وجودي وهو وجوب الباقي ، وأمر عدمي وهو عدم وجوب الجزء المتعذّر. أمّا الثاني فهو المفروض ، وأمّا الأوّل فيثبت

ص: 132

بالاستصحاب.

وفيه : أنّ إثبات وجوب الباقي باستصحاب الجامع مثبت.

ويمكن تقرير هذا الوجه بشكل آخر ، وهو أنّ الجامع بين الوجوب النفسي الاستقلالي للمجموع مع الوجوب النفسي الاستقلالي للباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان موجودا يقينا في ضمن وجوب المجموع ، وبعد تعذّر بعض الأجزاء وإن كان انعدم وجوب المجموع ، ولكنّه حيث أنّه من المحتمل حدوث وجوب نفسي استقلالي للباقي ، فوجود الجامع محتمل البقاء ، فيستصحب.

وفيه أوّلا : أنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي قلنا بعدم جريانه.

وثانيا : إثبات وجوب الباقي باستصحاب الجامع مثبت.

أمّا إنّه من القسم الثالث من أقسام الكلّي ، لأنّ الجامع الموجود يقينا كان وجوده في ضمن الوجوب المتعلّق بالكلّ ، وقد انعدم قطعا ، واحتمال بقائه من جهة احتمال حدوث فرد آخر من مصاديق ذلك الجامع حال انعدمه - وهو وجوب النفسي الاستقلالي للباقي - عين القسم الثالث من استصحاب الكلّي.

وأمّا إنّه مثبت ، فمن جهة أنّ الجامع في المفروض له فردان : وجوب الكلّ ، ووجوب الباقي ، وبعد انعدام أحد الفردين وهو وجوب الكلّ فلو فرضنا بقاء الجامع كما هو مفاد الاستصحاب ، فلا بدّ وأن يكون في ضمن الفرد الآخر وهو وجوب الباقي ، وهذا لازم عقلي لوجود الجامع وبقائه ، وليس عينه.

الرابع : استصحاب الجامع بين الوجوب النفسي الضمني الذي كان لغير المتعذّر من الأجزاء قبل حدوث التعذّر ، والوجوب النفسي الاستقلالي المحتمل حدوثه للباقي بعد حدوث التعذّر ، ولا شكّ في أنّ هذا الجامع كان موجودا يقينا في ضمن الوجوب النفسي الضمني للباقي قبل حدوث التعذّر ويشكّ في بقائه بعد حدوث التعذّر لاحتمال

ص: 133

حدوث الوجوب النفسي الاستقلالي للباقي بعد التعذر.

وفيه : أنّ هذا أيضا أوّلا من القسم الثالث من أقسام الكلّي ، وثانيا أنّه مثبت. ومن كثرة وضوحه لا يحتاج إلى البيان.

الخامس : وهو الذي اعتمد عليه وسليم عن هذه الإشكالات ، وإن ذكرته في كتابنا « منتهى الأصول » بصورة الاحتمال.

وتوضيحه ببيان مقدّمة : وهي أنّ الإرادة إذا تعلّقت بمركّب ، فكلّ جزء من أجزاء ذلك المركّب يقع تحت قطعة من تلك الإرادة ، وليست الإرادة ، وليست الإرادة أمرا بسيطا متعلّقا بالمجموع بحيث يكون وجودها وجودا واحدا غير قابل للانحلال ، بل تنبسط على جميع الأجزاء نحو انبساط البياض - مثلا - على الجسم المعروض له.

ولأجل هذه الجهة قلنا إنّ المقدّمات الداخليّة - أي الأجزاء - ليست واجبة بالوجوب الغيري ، بل واجبة بالوجوب النفسي الضمني ، وأيضا لهذه الجهة قلنا بالانحلال في باب العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ، فإنّ الأقلّ معلوم تفصيلا وجوبه النفسي وكونه تحت الإرادة ، ويبقى كون الزائد تحت الإرادة مشكوكا ، فيكون مجرى البراءة.

وأمّا كون وجوب الأقلّ مردّدا بين أن يكون ضمنيّا أو استقلاليّا ، فأوّلا : لا دخل له بالمقام ، وثانيا : قلنا إنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع عن وجوبه وعدم وجوب غيره معه ، ولا فرق في كونه واجبا ومتعلّقا للإرادة بين أن يكون معه غيره أو لا يكون.

إذا عرفت هذا فنقول : فما عدى الجزء المتعذّر قطعا كان قبل حدوث التعذّر واجبا وكان تحت الإرادة ، وبعد حدوث التعذّر بالنسبة إلى بعض الأجزاء يشكّ في بقاء تلك القطعة التي كانت متعلّقة بما عدا الجزء المتعذّر ، إذ من المحتمل ارتفاع خصوص تلك القطعة المتعلّقة بخصوص الجزء المتعذّر - من باب أنّه تكليف بالمحال إذا كان ذلك الجزء متعذّرا ، أو من باب أنّ التكليف به مناف مع كون الشريعة سمحة

ص: 134

وسهلة إذا كان إيجاد ذلك الجزء متعسّرا - لا ارتفاع الإرادة بالمرّة.

ومعلوم أنّ الإرادة بعد التمكّن من إيجاد متعلّقها تابعة للملاك وجودا وعدما ، فيتمّ أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وهذا الاستصحاب شخصي وليس بكلّي.

ثمَّ لا يخفى أنّ الرجوع إلى الاستصحاب يكون بعد عدم دليل لفظي على لزوم الإتيان بالميسور ، أو أمارة لبيّة كالإجماع ، وإلاّ لو كان إطلاق دليل أو رواية معتبرة أو إجماع على لزوم الإتيان بما عدا الجزء المتعذّر أو عدم لزومه ، فلا تصل النوبة إلى هذا الاستصحاب.

[ الأمر ] الثالث : الإجماع والاتّفاق على أنّ الأمر المتعلّق بمركّب لا يسقط بصرف تعذّر بعض أجزائه أو تعسّره ، بل يكون ما عدا ذلك الجزء المتعذّر باق على مطلوبيّته ووجوبه.

والإنصاف : أنّ الإجماع على هذا العنوان العامّ وإن لم نتحقّقه ، ولكن لا سبيل إلى إنكاره بالنسبة إلى بعض مصاديقه وصغرياته ، خصوصا في مثل الحجّ والصلاة في غير الأجزاء الركنيّة لهما ، ومع ذلك لا يصحّ الاعتماد على مثل هذه الإجماعات التي يمكن أن يكون اتّفاقهم مستندا إلى بعض هذه الأدلّة التي أقيمت في هذا المقام.

[ الأمر ] الرابع : الروايات الواردة في هذه القاعدة :

منها : قوله صلی اللّه علیه و آله في خطبته في الحجّ : « أيّها الناس قد فرض اللّه عليكم الحجّ فحجّوا » فقال رجل : أكلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت صلی اللّه علیه و آله حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » ثمَّ قال صلی اللّه علیه و آله : « ذروني ما تركتم فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شي ء فدعوه » (1).

ص: 135


1- « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 975 ، ح 1337 ، كتاب الحج ، ح 412 ، (73) باب فرض الحج مرة في العمر ، « سنن النسائي » ج 5 ، ص 110 ، باب وجوب الحج.

منها : ما روى عن أمير المؤمنين علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (1).

منها : أيضا عنه علیه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2).

وهذه الروايات الثلاث لكثرة اشتهارها بين الفقهاء وعملهم بها لا يحتاج إلى التكلّم عن سندها ، أو الإشكال عليه بالضعف.

وعمدة الكلام هو التكلّم في دلالتها

فنقول :

أمّا الحديث الأوّل المرويّ عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فتقريب الاستدلال به على هذه القاعدة هو أنّه لا شكّ في أنّ مرجع الضمير في كلمة « منه » هو الشي ء المأمور به ، فتكون كلمة « من » ظاهرة في التبعيض ، لأنّ الشي ء المأمور به له بالنسبة إلى قدرة المكلّف حالات ثلاث : فتارة يكون تمامه مقدورا ، وأخرى تمامه غير مقدور ، وثالثة يكون بعضه مقدورا وبعضه غير مقدور.

أمّا على الأوّلين فحاله معلوم ، فيجب إتيان تمامه على الأوّل ، ولا يجب عليه شي ء على الثاني.

وأمّا على الثالث فثلاث صور : الأوّل إتيان تمامه ، وهذا لا يجب قطعا ، لأنّه تكليف بما لا يطاق. الثاني : عدم إتيان تمامه. الثالث : التبعيض بوجوب الإتيان بالمقدور منه فقط.

وهذا الأخير هو مفاد القاعدة ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « فأتوا منه ما استطعتم » ظاهر في هذا الأخير.

ص: 136


1- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 205.
2- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 207.

وذلك من جهة أنّ كلمة « من » وإن كانت قد تأتي لبيان ما قبلها وأنّه من أيّ جنس ، كقولهم : خاتم من فضة ، لكنّه فيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لأنّ مدخول « من » ضمير راجع إلى نفس الشي ء ، فلا يمكن أن يكون مفسّرا ومبيّنا له ، كما هو شأن « من » البيانيّة.

وأمّا كونها بمعنى الباء وإن كان ممكنا كي يكون المعنى كذلك : إذا أمرتكم بشي ء فأتوا بذلك الشي ء ما دام استطاعتكم ، ولكن هذا المعنى مع أنّه لا ينطبق على المورد - لأنّ السائل يسأل عن تعدّد الإتيان في كلّ عام بعد الفراغ عن القدرة على الإتيان في العام الأوّل. وإن شئت قلت : بعد الفراغ عن القدرة على إتيان صرف الوجود - يكون ذكر هذا القيد ركيكا ، من جهة أنّ اشتراط التكليف ووجوب الإتيان بالقدرة عقليّ وأمر واضح معلوم ، فلا بدّ وأن تكون كلمة « من » للتبعيض ، كما هو الظاهر والغالب من استعمالات هذه الكلمة ، فيكون المعنى هكذا : إذا أمرتكم بشي ء فأتوا بعضه الذي تحت قدرتكم واستطاعتكم. وتكون الماء موصولة ، لا مصدريّة ولا ظرفيّة ، فيكون مفاد الحديث الشريف عين القاعدة.

نعم ها هنا إشكال : وهو أنّ الاستدلال بهذا الحديث على هذه القاعدة مبنيّ على أن يكون المراد من « الشي ء » في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا أمرتكم بشي ء » هو الكلّ والمركّب من عدّة أجزاء ، وأمّا لو كان المراد به الكلّي والطبيعة المنطبقة على الأفراد والمصاديق المتعدّدة من دون ملاحظة خصوصيّات المشخّصة لها فيكون المعنى هكذا : إذا أمرتكم بطبيعة كلّية ذات أفراد ومصاديق متعدّدة فأتوا بعض تلك الأفراد والمصاديق الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم ، فيكون الحديث الشريف أجنبيّا عمّا نحن بصدده ، ويكون تامّ الانطباق على المورد ، لأنّ سؤال ذلك الصحابي كان عن لزوم تكرار الطبيعة وإيجادها في كلّ عام ، أو الاكتفاء بصرف الوجود منها ، والمتعيّن هو هذا الاحتمال وإلاّ يلزم عدم انطباقه على المورد وهو في غاية الركاكة.

ولا يمكن أن يقال بأنّ المراد من الشي ء كلا الأمرين : الكلّ والكلّي ، فيشمل المورد

ص: 137

والقاعدة جميعا ، وذلك لتنافي اللحاظين ، فلا يمكن جمعهما في استعمال واحد.

وفيه : أنّ إرادة الكلّ بهذا العنوان - أي الواحد المركّب من الأجزاء - والكلّي أيضا بهذا العنوان - أي الطبيعة الكلّية القابلة للانطباق على كثيرين - وإن كان لا يمكن جمعهما في استعمال واحد ، لما ذكرت من تنافي اللحاظين ، إلاّ أنّه لا مانع من إرادة الجامع بينهما ، إذ ليس بناء على هذا إلاّ لحاظ واحد ، وهو لحاظ الجامع بين الكلّ والكلّي ، لا لحاظ الكلّ والكلّي بخصوصيّتهما كي يكون من الجمع بين اللحاظين المتنافيين في استعمال واحد.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره من عدم إمكان أن يراد من « الشي ء » الأعمّ من الكلّ والكلّي كي يكون المعنى كما ذكرنا ، لعدم الجامع بينهما ، لأنّ لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء.

فقد عرفت ما فيه ، لأنّ لحاظ الجامع بمكان من الإمكان ، إذ الشي ء من المفاهيم العامّة ، ومصدر مبنيّ للمفعول وبمعنى المشي وجوده ، ويكون مساوقا للوجود ولمفهوم الموجود في الممكنات ، فكلّ ممكن شي ء وجوده فهو موجود ، لعدم تخلّف الإرادة التكوينيّة عن المراد ، وأمّا ما ليس بممكن ، أو كان ولكن لم يشأ وجوده كالعنقاء مثلا فهو معدوم ، وليس بشي ء. وأمّا واجب الوجود فهو شي ء لا كسائر الأشياء أي ما شي ء وجوده ، لأنّ الوجود عين ذاته تعالى.

فبناء على هذا المركّب من الأجزاء الذي شي ء وجوده شي ء ، وكذلك الكلّي والطبيعة التي شي ء وجودها شي ء ، فوجود الجامع بين الكلّ والكلّي من أوضح الواضحات.

وأمّا ما أفاده أخيرا من عدم صحّة استعمال كلمة « من » في الأعمّ من الأفراد والأجزاء ، وإن صحّ استعمال « الشي ء » في الأعمّ من الكلّ والكلّي.

ففيه : أنّ كلمة « من » استعملت في الربط والنسبة التبعيضية بين الفعل - أي فأتوا

ص: 138

- ومفعوله - أي الشي ء - كما تقول : ملأت الكوز من النهر ، فالمراد أنّ ما ملأ الكوز بعض ماء النهر ، وليس كلمة « من » في هذا المثال مستعملة في بعض ماء النهر ، بل استعملت في الربط التبعيضيّة الذي بين قوله « ملأت » و « ماء النهر » وهكذا الأمر في المقام ، فكلمة « من » استعملت في الربط الكذائي بين الإتيان والشي ء ، وإذا كان المراد من الشي ء باعتبار كونه مصداقا للجامع بين الكلّ والكلّي هو الكلّ ، فيكون مصداق تلك النسبة هي الربط التبعيضية في الأجزاء ، وإذا كان المراد بذلك الاعتبار هو الكلّي فيكون المصداق هو الربط المذكور في المصاديق والأفراد ، وإن كان المراد هو الجامع فيشمل كلا الأمرين كما فيما نحن فيه.

والإنصاف : أنّه لو لم يكن المورد من قبيل الكلّي والأفراد لكان مقتضى فهم العرفي - الذي هو الميزان في استظهار المعاني من الأحاديث والروايات ، بل الآيات أيضا وعليه مدار الفقاهة - هو أنّ المراد من « الشي ء » الكلّ ، بقرينة كلمة « من » الظاهرة في التبعيض.

ولكن حيث أنّ المورد ليس من قبيل الكلّ والأجزاء ، فلا بدّ وأن نقول بأنّ المراد منه هو الأعمّ من الكلّ والكلّي لكي يندرج فيه المورد ويخرج من الركاكة.

هذا مع أنّه لو قلنا بمقالة صاحب الكفاية قدس سره في المعاني الحرفيّة - من أنّ الموضوع له في الحروف والأسماء واحد كلّ لمرادفه ، (1) فيكون في المقام كلمة « من » بمعنى البعض الذي هو مفهوم اسميّ أيضا - لا يرد شي ء على ما استظهرنا من الحديث من أنّ مفاده اعتبار هذه القاعدة.

وذلك من جهة أنّ لفظ « البعض » أيضا مفهومه مشترك بين بعض الأجزاء وبعض الأفراد ، فلو كانت ألفاظ الحديث هكذا : إذا أمرتكم بمركّب ذي أجزاء أو بطبيعة ذات أفراد فأتوا بعضهما الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم. والمفروض أنّ ذلك

ص: 139


1- « كفاية الأصول » ص 11 - 12.

المركّب المأمور به ليس تمام أجزائه تحت قدرة المكلّف واستطاعته ، ولا تمامها خارج عن تحت قدرته ، بل يقدر على إتيان البعض دون البعض الآخر ، وكذلك في الطبيعة المأمور بها قادر على إتيان بعض الأفراد دون بعضها ، فهل يشكّ أحد في أنّ المراد به إتيان أجزاء المقدورة من ذلك المركّب والأفراد المقدورة من تلك الطبيعة؟

هذا تمام الكلام في الحديث الأوّل.

وأمّا الثاني : أي الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (1) فهو في دلالته على المطلوب أوضح ، لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ الميسور من كلّ ما أمر به الشارع الأقدس لا يسقط بواسطة سقوط المعسور من ذلك الشي ء ، فإذا أمر بالصلاة أو بعبادة أخرى ، فكان بعض أجزاء تلك العبادة معسورا وسقط التكليف عنه بواسطة تعسّره أو تعذّره ، فلا يوجب سقوط هذا البعض سقوط البعض الميسور من تلك العبادة. وهذا عين مفاد هذه القاعدة ، وليس ها هنا مورد مثل الحديث النبويّ صلی اللّه علیه و آله كي يأتي الإشكال المذكور فيه ، فيحتاج إلى الأجوبة التي تقدّمت ، أو إلى غيرها.

نعم يمكن أن يكون المراد من قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » أعمّ من الأجزاء والأفراد ، فباعتبار كونه الميسور من المركّب يكون الأجزاء غير المتعذّرة أو غير المتعسّرة ميسورة ، وباعتبار إضافته إلى الطبيعة الكليّة يكون ميسورها هو الأفراد غير المتعذّرة ، فيشمل كلا الأمرين ، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما.

فكما أنّ الصلاة - مثلا - لو تعذّر إتيان بعض أجزائها دون البعض الآخر يشملها هذا الحديث ، فكذلك لو قال : أكرم السادات أو العلماء ، والمكلّف متمكّن من إكرام بعض دون بعض ، فلا يسقط وجوب إكرام الأفراد الميسور إكرامهم بواسطة تعذّر إكرام الآخرين أو تعسّره.

ص: 140


1- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 205.

ثمَّ إنّ هذه الرواية تشمل المستحبّات كما تشمل الواجبات ، فلو كان في صلاة الليل - مثلا - بعض أذكارها المستحبّة ميسور له دون البعض الآخر ، فبتعذّر ذلك البعض لا يسقط البعض الميسور عن موضوعيّته للاستحباب.

وحيث أنّ السقوط عبارة عن ارتفاع حكم المعسور ، إذ لا معنى لارتفاع نفس المعسور ، فنفي السقوط عبارة عن عدم ارتفاع حكم الميسور - أي ثبوت حكمه - لأنّ النفي في النفي إثبات ، فيكون معنى الرواية أنّ حكم الميسور من كلّ شي ء باق ، ولا يسقط بسقوط حكم المعسور ، فإن كان حكمه الاستحباب فاستحبابه باق ، وإن كان الوجوب فوجوبه باق.

وأمّا ما قيل : من أنّ المنفي إن كان هو اللزوم فلا تشمل الرواية المستحبّات ، لأنّ الأجزاء الميسورة من المستحبّات لا لزوم لها كي يحكم الشارع بعدم ارتفاعها ، فتكون الرواية مختصّة بالواجبات ، وإن كان المنفي هو مطلق المطلوبيّة والرجحان ، فلا يثبت بها لزوم الإتيان بالميسور ، ويدلّ على أنّ الإتيان به راجح فقط.

وهذا خلاف ما يراد من الرواية ، لأنّ المقصود إثبات وجوب الباقي بعد تعذّر بعض أجزاء المركّب إن كان واجبا ، وبناء على التعميم استحباب الباقي بعد تعذّر البعض إن كان المركّب مستحبّا فلا بدّ وأن نقول بأنّ المنفي هو ارتفاع الوجوب عن الباقي بعد تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فتكون الرواية مختصّة بالواجبات ولا تشمل المستحبّات.

ففيه : أنّ المنفي هو سقوط موضوعيّة الميسور لحكمه السابق قبل حدوث التعذّر ، أو موضوعيّته لحكمه على تقدير عدم تعذّر بعض الأجزاء ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك الحكم على تقدير عدم تعذّر بعض الأجزاء هو الاستحباب أو الوجوب. وقد بيّنّا في كتابنا « المنتهى » أنّ الموضوعيّة للحكم الشرعي من الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل التشريعي ، فيكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع.

ص: 141

ومن الواضح الجليّ أنّ قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » ليس إخبارا عن أمر خارجي ، بل هو في مقام التشريع يحكم ببقاء موضوعيّة الميسور من كلّ مركّب كان موضوعا لحكم شرعي على ما كان ، وعدم سقوط موضوعيّته بتعذّر بعض أجزائه ، سواء كان حكمه السابق هو الوجوب ، أو كان هو الاستحباب.

وأمّا ما قيل : من أنّ حكمه السابق هو كان الوجوب النفسي الضمني ، وهو في ضمن وجوب الكلّ ، فإذا ارتفع الوجوب عن الكلّ لتعذّر بعض أجزائه فيرتفع ذلك الوجوب الضمني عن الباقي قهرا ، ولو كان هناك بعد ذلك وجوب فهو الوجوب النفسي الاستقلالي ، وهو غير ذلك الوجوب الضمني ، فموضوعيّته ارتفع قهرا ولا معنى لعدم سقوطه ، ولو فرضنا أنّه كان له مثل الحكم السابق ، فهذا حكم جديد وموضوعيّة جديدة.

ففيه : ما قلنا في بعض صور جريان الاستصحاب في هذه المسألة ، أنّه على تقدير وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء فليس هذا وجوبا آخر ، بل هو عين الوجوب السابق.

وأمّا كونه ضمنيّا في السابق واستقلاليّا بعد حدوث تعذّر بعض الأجزاء لا يوجب تغيّرا في وجوب الباقي. والضمنيّة والاستقلاليّة مفهومان ينتزعان عن وجوب ما عدا الباقي وعدم وجوبه ، وبهذا الوجه أجرينا الاستصحاب الشخصي ، واعتمدنا عليه ودفعنا جميع الإشكالات.

ثمَّ إنّه بعد ما ظهر لك دلالة هذه الرواية على مفاد هذه القاعدة ، وشمولها للمركّب الواجب والمستحبّ ، أقول : إنّه يعتبر في مقام إجراء هذه القاعدة كسائر القواعد إحراز موضوعها ، وتشخيص أنّ الباقي بعد تعذّر البعض ميسور ذلك المركّب الكلّ ، لأنّ موضوع الحكم بعدم السقوط هو كون الباقي المتمكّن منه ميسورا لذلك المركّب ، فلا بدّ وأن يكون من مراتب ذلك المركّب ، غاية الأمر ولو كان إحدى مراتب النازلة منه كي

ص: 142

يصدق عليها أنّها ميسورة.

وهذا فيما إذا كان المراد من الميسور هو الميسور من نفس المركّب ، مثلا الميسور من الوضوء أو الغسل بعد تعذّر بعض أجزائهما هو مرتبة منهما دون المرتبة الكاملة.

مثلا يمكن أن يقال : إنّ الوضوء أو الغسل مع المسح على الجبيرة في بعض أعضائهما مرتبة نازلة من الوضوء أو الغسل دون المرتبة الكاملة منهما ، التي في الوضوء عبارة عن غسل تمام بشرة الوجه واليدين من المرفق إلى رؤوس الأصابع ومسح الرأس والرجلين ، وفي الغسل عبارة عن إحاطة الماء على تمام بشرة البدن ، فالميسور من مركّب هو وجود مرتبة من ذلك المركّب وإلاّ إن لم يصدق عليه عنوان ذلك المركّب وكان أمرا مباينا له ، فلا يصدق عليه أنّه ميسورة.

إذا عرفت هذا فيرد ها هنا إشكال : وهو أنّ تشخيص هذا المعنى في الموضوعات العرفيّة ممكن غالبا ، لأنّ مفاهيم المركّبات العرفيّة غالبا معلوم عند العرف ، وأنّ الجزء المتعذّر هل له دخل في التسمية بحيث أنّه مع عدمه ينعدم المركّب ولا يصدق على الباقي عنوان ذلك المركّب ، أم ليس كذلك وليس له دخل في التسمية ، بل الجزء الفاقد يوجب سلب الكمال لا سلب أصل الحقيقة ، فإذا كان من القسم الأوّل فليس من ميسور المركّب ولا يشمله القاعدة ، بخلاف القسم الثاني فيصدق عليه أنّه ميسورة.

وأمّا إذا كان المركّب الكلّ من الموضوعات الشرعيّة ، كالصلاة والصوم والحجّ ، بل وكالوضوء والغسل والتيمم ، فإذا تعذّر إيجاد بعض أجزاء هذه المذكورات ، أو بعض شرائطها ، أو تعذّر ترك بعض موانعها ، فإطلاق الميسور على الباقي المتمكّن منها لا يخلو من إشكال.

وذلك من جهة عدم طريق للعرف إلى معرفة أنّ هذا الجزء أو الشرط المتعذّر وجودهما ، أو أنّ هذا المانع المتعذّر تركه هل له دخل في تحقّق ماهيّة هذا المركّب ، بحيث لو لم يكن في مورد تعذّر الجزء والشرط أو كان في مورد تعذّر ترك المانع لا

ص: 143

يوجد ماهيّة هذا المركّب ولو مرتبة ضعيفة منها ، ولا يصدق عنوان هذا المركّب الكلّ على الباقي المتمكّن منه.

وذلك من جهة أنّ دخل الجزء أو الشرط الكذائي في تأثير المركّب في الأثر المطلوب منه بحيث لو لم يكن لا أثر له أصلا لا يعرف إلاّ من بيان نفس الشارع ، فلا طريق إلى معرفة أنّه بعد بعض الأجزاء أو بعض الشرائط وجودا ، أو تعذّر بعض الموانع عدما إلاّ من طرف نفس الشارع الذي هو جاعله للوصول إلى الغرض المطلوب منه ، فلو لم يكن بيان من قبل الشارع لما كان يعرف العرف أنّ الحاجّ الذي يتحمّل المشاقّ ويأتي بجميع أعمال الحجّ من الإحرام والسعي والطواف وصلاته وأعمال منى جميعا ، ولكن لم يقف في وادي العرفات ولا في المشعر ، فهذا لم يحصل له الحجّ أصلا.

وكذلك من أتى بجميع أجزاء الصلاة وشرائطها وترك موانعها ، إلاّ أنّه ترك شرطا واحدا وهو أنّه أتى بها مثلا خمس دقائق قبل الوقت لا صلاة له ولو كانت مرتبة ضعيفة منها.

وحاصل الكلام : أنّ معرفة الأجزاء الركنيّة وكذلك شرائطها لا طريق إليها إلاّ من طرف بيان الشارع ، فبناء على هذا لا يمكن إحراز موضوع قاعدة الميسور في الموضوعات والمهيّات المخترعة من قبل الشارع ، فلا يمكن إجرائها فيها.

نعم أجزاء تلك العبادات ربما تكون من الموضوعات العرفيّة ، كالقيام والركوع والسجود في الصلاة ، وغسل البشرة في الوضوء أو الغسل ، والوقوف والسعي في الحجّ ، وأمثال ذلك ، فيمكن إجراء القاعدة في نفس هذا الجزء.

مثلا القيام أو الركوع لكلّ واحد منهما مراتب عند العرف ، فإذا لم يتمكّن من المرتبة العليا منهما فلا يسقطان بالمرّة ، بل على المكلّف أن يأتي بالمرتبة النازلة منهما التي يتمكّن منها. وهكذا الأمر في سائر الأجزاء والشرائط ، فلا نطيل الكلام أزيد

ص: 144

من هذا.

ولكن كلّ ما ذكرنا - بالنسبة إلى عدم إمكان إحراز موضوع قاعدة الميسور في المهيّات المخترعة عن قبل الشارع - كان فيما إذا كان المراد من كلمة « الميسور » في الرواية المذكورة الميسور من المركّب المأمور به. وأمّا إذا كان المراد منه الميسور من أجزائه لا نفس المركّب ، فلا يأتي هذا الإشكال ، لأنّ الميسور من الأجزاء أمر عرفي يفهمه كلّ أحد ، فالمركّب عن عدّة أمور لو تعذّر بعض أجزائه ، فالباقي من الأجزاء الذي تحت قدرته وهو متمكّن من إتيانه يصدق عليه أنّه الميسور من أجزاء ذلك المركّب ، سواء صدق عليه عنوان ذلك المركّب أو لم يصدق.

نعم يبقى الكلام في أنّ المراد من الميسور في مقام الإثبات هل هو ميسور المركّب أو الميسور من الأجزاء؟

والإنصاف أنّ لفظ « الميسور » وإن كان مطلقا من هذه الجهة ، لأنّ كلّ واحد منهما يصدق عليه الميسور ، ولكن إرادة الميسور من الأجزاء منه بعيد جدّا ، لأنّ الميسور من الأجزاء يصدق على جزء واحد من المركّب الذي يكون أجزائه عشرين مثلا وتعذّر تسعة عشر منها وبقي واحد منها تحت التمكّن ، فيقال وجوب هذا الواحد لا يسقط بتعذّر باقي الأجزاء ، فهذا في غاية البعد من ظاهر هذا الكلام.

وأمّا الثالث : أي قوله علیه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كله » فدلالته على هذه القاعدة في غاية الوضوح ، لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ الشي ء الذي لا يمكن الإتيان بجميعه لا يجوز ترك جميعه ، بل يجب الإتيان بالمقدار الذي يمكنه أن يدركه ويكون تحت قدرته. وأمّا احتمال أن يكون المراد من الموصول خصوص الكلّي - باعتبار أفراده المتعدّدة كي يكون المعنى : أنّ من لا يمكنه إدراك جميع أفراد الطبيعة التي أمر بها لا يجوز له ترك جميع تلك الأفراد ، بل يجب عليه أن يأتي بالمقدار المقدور منها - لا وجه له أصلا ، لأنّ ظهور جملة « ما لا يدرك كلّه » في الكلّ أقوى من ظهورها في خصوص

ص: 145

الكلّي. وهذا واضح جدّا.

نعم لا بأس بأن يقال إطلاق لفظ الكلّ في الجملتين يشمل كلّ أجزاء المركّب المأمور به ، وكلّ أفراد الكلّي الذي أمر به ، وأمّا تخصيصه بكلّ أفراد الكلّي يكون بلا مخصّص وليس له وجه ظاهر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه إن كان إشكال في دلالة قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » على هذه القاعدة لما ذكرنا ، لكن لا إشكال في دلالة الروايتين الأولى والثالثة عليها ، وفيهما غنى وكفاية.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها

فنقول : موارد تطبيقها في المسائل الفقهيّة كثيرة واستقصائها لا مجال له في هذا المختصر ، ولكن نذكر جملة منها. ولا يخفى أنّ أغلب موارد تطبيق هذا القاعدة ممّا نذكرها ها هنا - أو ممّا لم نذكرها - وردت أدلّة خاصّة على لزوم الإتيان بالباقي الميسور في الواجبات ، وعلى استحبابه في المستحبّات.

فمنها : ما إذا تعذّر تعدّد الغسل في المتنجّس بالبول - بناء على لزوم التثنية في البول فيما إذا غسل بالماء القليل - وهو متمكّن من غسله مرّة واحدة ، فهل يجب لأثر تخفيف النجاسة أم لا؟ الظاهر جريان القاعدة.

ومنها : إذا كان الإناء ولغ فيه الكلب والخنزير ولا يقدر على التعفير ، فهل يجب غسله بالماء القراح وحده بهذه القاعدة أم لا؟

الظاهر جريان القاعدة ولزوم الإتيان بالمقدار الميسور. ولكن يمكن أن يقال في هذين الموردين أنّ الشارع جعل سبب التطهير هو التعدّد في البول والغسل مع التعفير

ص: 146

في الولوغ ، فإذا لم يوجد السبب لا يوجد المسبّب ، ويبقى الإناء على نجاسته في مسألة الولوغ ، والثوب المتنجّس على نجاسته في مسألة المتنجّس بالبول.

وحيث أنّ وجوب الغسل في المسألتين مقدّميّ ، وتحصيل طهارة الثوب وطهارة الإناء ليستعمل فيما هو مشروط بالطهارة ، فإذا علم بعدم حصول الطهارة بدون التعدّد في البول وبدون التعفير في الولوغ ، فيكون الغسل الواحد في الأوّل وبدون التعفير في الثاني لغوا وبلا فائدة ، فلا معنى لأن يكونا واجبين بالوجوب المقدّمي. اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّهما يوجبان التخفيف في النجاسة ويرفعان مرتبة منها ، ولا يبعد ذلك.

ومنها : إذا تعذّر مقدار الذي عيّن الشارع من الدلاء في نزح البئر لوقوع النجاسات فيها ، ولكن يمكن له نزح بعض ذلك المقدار ، فهل تجري قاعدة الميسور لوجوب نزح مقدار الممكن إن قلنا بوجوب النزح ، أو لاستحبابه بناء على القول باستحبابه وبناء على القول بجريانها في المستحبّات ، كما هو المختار عندنا.

الظاهر جريانها إلاّ على الإشكال المتقدّم من كون وجوب النزح وجوبا مقدّميّا ، ومع عدم حصول ذي المقدمة يكون لغوا.

والجواب عن هذا الإشكال هو الجواب المتقدّم ، فلا نعيد.

والإنصاف : أنّ قاعدة الميسور على تقدير شمولها للمستحبّات تجري في الواجبات والمستحبّات النفسيّة ، وأمّا جريانها في الواجبات المقدّميّة مع العلم بأنّ هذا المقدار الميسور من المقدّمة لا تأثير له في إيجاد ذي المقدّمة مشكل جدّا ، بل في بعض الموارد يكون من المضحكات.

ومنها : أنّه لو تعذّر السدر والكافور في غسل الميّت ، فهل يجب الغسل بالماء القراح باعتبار أنّه الميسور من الغسل مع الخليط بأحدها ، أم لا؟

والظاهر جريان القاعدة ها هنا بدون إشكال في البين ، لأنّ هذا الغسل واجب نفسيّ ، فلا مانع من أن يكون الواجب والمطلوب أغسال ثلاثة بالماء القراح ، أحدها

ص: 147

هو المشروع الأوّلي بجعله كذلك ، واثنان منها بقاعدة الميسور.

ومنها : في باب الكفّارات لو تعذّر عتق الرقبة المؤمنة ، ولكنّه متمكّن من عتق غير المؤمنة ، فهل يجب بقاعدة الميسور ، أم لا؟

الظاهر جريانها ووجوب عتق الرقبة غير المؤمنة ، بناء على جريانها في الواجب المقيّد بقيد فيما إذا تعذّر قيده.

وربما يقال بأنّ المقيّد بقيد إذا تعلّق به الوجوب - كما في المثال المذكور - ففاقد ذلك القيد يباين الواجد له ، فليس بميسورة كي تشمله قاعدة الميسور ، كما أنّ ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا أمرتكم بشي ء فأتو منه ما استطعتم » (1) هو أن يكون المستطاع بعضا خارجيّا لذلك الشي ء الذي أمر به الشارع.

وكذلك الأمر في قوله علیه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2) ويكون مفاده لزوم الإتيان بالبعض الخارجي لذلك الكلّ المأمور به ، وفاقد القيد ليس بعضا خارجيّا لواجد القيد ، بل هو بعض تحليلي له ، وذلك من جهة أنّ القيد مع ذات المقيّد لهما وجود واحد ، لا أنّ لكلّ واحد منهما وجود حتّى يكون من قبيل المركّب الخارجي والكلّ وجزئه.

فلا يشمله أدلّة قاعدة الميسور ، إذ ليس مجموع القيد والمقيّد كلاّ خارجيّا بالنسبة إلى ذات المقيّد وحدها ، ولا أنّ ذات المقيّد جزء خارجي للمجموع ، ولا أنّه ميسورة.

ولذلك قالوا في بيع الجارية المغنّية بالبطلان وعدم كونه من باب تبعّض الصفقة ، كلّ ذلك من جهة أنّ ذات المقيّد مع قيده موجودان بوجود واحد في الخارج ، لا أنّ لكلّ واحد منهما وجود يخصّه ، فالتركيب بينهما اتّحادي لا انضمامي.

ص: 148


1- « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 975 ، ح 1337 ، كتاب الحجّ ، ح 412 (73) باب فرض الحج مرة في العمر ، « سنن النسائي » ج 5 ، ص 110 ، باب وجوب الحجّ.
2- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 207.

وفيه : أنّ القيود ليست على نسق واحد ، فتارة : يكون القيد من قبيل الفصل ، وذات المقيّد من قبيل الجنس. كما إذا أمره أن يأتي بحيوان ناطق ، وهو لا يقدر على الإتيان بهذا القيد ، ويقدر على إتيان الحيوان غير الناطق. ولا شكّ في أنّ في هذا القسم من القيد والمقيّد لا تجري قاعدة الميسور ، لعين ما ذكره هذا القائل. ولا شكّ في أنّ التركيب بين القيد والمقيّد في هذا القسم اتّحادي.

وأخرى : يكون من قبيل المعرّف لموضوع الحكم وإن كان عرضيّا ، كالجارية الروميّة ، فالقيد في هذا القسم وإن لم يكن منوّعا لذات المقيّد عقلا ، بل أضافه عرضيّة لها ، ولكن ليس أيضا عند العرف عرضا منضما إليها ، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة كذلك.

ففي هذا القسم أيضا لا تجري قاعدة الميسور ، فإذا قال المولى : أعتق جارية روميّة ، وهو لا يقدر على ذلك ولكن يقدر على عتق جارية حبشيّة ، فالعرف يرى هذا الأخير مباينا للمأمور به ، فلا تجري هذه القاعدة ها هنا ، وذلك من جهة أنّ الجارية الحبشيّة ليست ميسور الجارية الروميّة عنده. والمناط في تشخيص المفاهيم هو فهم العرف.

وثالثة : عند العرف وبحسب متفاهمهم أيضا يكون وجود القيد خصوصيّة زائدة على وجود ذات المقيّد ، كما في الرقبة المؤمنة. ففي مثل هذا القسم الظاهر جريان هذه القاعدة ، فإذا أمر المولى بالصلاة الجهريّة وهو لا يقدر على إتيانها جهرا لجهة من الجهات ، فهل ترضى من نفسك بأن تقول بعدم كون الصلاة الغير الجهريّة ميسور الصلاة الجهريّة ، ولا يجب عليه شي ء حتّى مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجيّة وأنّها لا تترك بحال.

والسر في ذلك : هو أنّ العرف يرى الصلاة شيئا ، وكونا جهرا شيئا خارجيّا زائدا على ذات الصلاة ومن الصفات العارضة عليها ، ويرى التركيب بينهما انضماميّا ،

ص: 149

وإن كان العرض يتّحد مع الذات بعد أخذه لا بشرط وجعله بصورة المشتقّ لا بصورة مبدأ الاشتقاق.

وأمّا عدم كون بيع الجارية المغنّية من قبيل تبعّض الصفقة ، فليس من جهة عدم كون وصف الغناء أمرا زائدا على الذات ، بل من جهة عدم الانحلال عند العرف إلى كون الذات مبيعا والوصف مبيعا آخر ، بل العرف يرى الذات المتّصفة بهذا الوصف مبيعا واحدا ، كما أنّ الجارية مع أنّه لها أجزاء يقينا ، من الرأس واليد والرجل وغيرها من سائر الأعضاء ، ومع ذلك لا ينحلّ إلى بيوع متعدّدة بعدد الأعضاء ، وذلك كلّه لأنّ العرف والعقلاء يرون المجموع مبيعا واحدا غير قابل للانحلال.

نعم باعتبار كسور المشاع يرونها بيوعا متعدّدة ، فلو ظهر أنّ نصف هذه الجارية ملك لغير البائع أو حرّ - إن قلنا بإمكان ذلك وعدم السراية - فينحلّ إلى بيعين ، ويكون من باب تبعّض الصفقة.

فظهر أنّه لو تعلّق الوجوب بذات متّصفة بصفة عرضيّة ، وكانت تلك الصفة من الأعراض الخارجيّة المحمولات بالضمائم ، وتعذّر تلك الصفة ، ولم تكن تلك الصفة عنوانا معرفة لذلك الشي ء ، ولم يكن منوّعا له عند العرف ، فبتعذّرها لا يسقط الوجوب أو الاستحباب عن ذلك الذات ، وتجري فيها قاعدة الميسور.

ومنها : أيضا في باب الكفّارات في عدد الأيّام في الصوم الذي جعل كفارة ، فلو لم يقدر على تمام العدد ولكن قدر على بعضها ، فهل تجري قاعدة الميسور ويحكم بوجوب المقدار المقدور منه ، أم لا فيسقط وجوب الباقي؟

الظاهر أنّها تجري ويحكم بوجوب الباقي.

وهذا فيما إذا لم يكن للصوم عدل لا تخييرا ولا ترتيبا واضح ، لأدلّة القاعدة.

وأمّا إن كان له عدل بأحد الوجهين ، فإن كان تخييرا كما فيما إذا أفطر في نهار شهر

ص: 150

رمضان متعمّدا بلا عذر بالحلال ، فبعد تعذّر إحدى الخصال الثلاث بتعيّن الآخران ، ولا تصل النوبة إلى إجراء قاعدة الميسور بالنسبة إلى الباقي. وهذا أيضا واضح.

وأمّا إذا كان العدل ترتيبا ، كما في كفّارة الظهار ، فإنّ إطعام ستّين مسكين جعل عدلا لصيام شهرين متتابعين بعد عدم استطاعة الصيام والعجز عنه ، لقوله تعالى : ( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) . (1)

ففي هذا القسم يمكن أن يقال : إنّ وصول النوبة إلى العدل بعد العجز عن تمام مراتب السابقة لا العجز عن خصوص المرتبة التامّة.

ولكن الظاهر أنّ الترتيب بين المرتبة التامّة وما رتّب عليها ، لا تمام مراتب السابقة.

ومنها : ما ورد في بعض المستحبّات من قراءة السور المتعدّدة ، كما ورد في عمل أمّ داود ، أو السورة الواحدة مرّات كثيرة محدودة بحدّ كعشرة أو مائة أو ألف سورة التوحيد - مثلا - كما ورد في أعمال ليلة القدر ، أو بعض ليالي الآخر من شهر رمضان المبارك ، أو ليلة النصف من شعبان أو الأذكار الواردة في صلاة الليل من الاستغفار وغيره ، أو مائة مرّة « السلام على الحسين وأصحابه وأولاده علیهم السلام » في زيارة عاشوراء ، فلو لم يقدر على إتيان الجميع في الجميع ، ولكن قدر على إتيان البعض في جميع ما ذكرنا وغير ما ذكرنا من المستحبّات الكثيرة المشتملة على الأذكار المتعدّدة ، فهل تجري قاعدة الميسور ، أم لا بناء على ما اخترناه من تعميم القاعدة ، وشمولها للواجبات والمستحبّات؟

والظاهر جريانها ، فتعذّر البعض لا يوجب سقوط الاستحباب عن الجميع. فبناء على هذا لو تعذّر عليه الاستغفار سبعين مرّة في صلاة الليل مثلا ويقدر على ثلاثين

ص: 151


1- المجادلة (58) : 4.

مثلا فليأت به استحبابا.

والفروع لهذه القاعدة كثيرة لا يمكن استقصاؤها في هذا المختصر.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 152

41 - قاعدة السوق

ص: 153

ص: 154

قاعدة السوق (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة السوق ». وهي أمارة على التذكية وغيرها. وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : استقرار سيرة المسلمين والمؤمنين على أنّهم يدخلون الأسواق ويشترون اللحوم والجلود من دون السؤال عن أنّها ميتة أو مذكّى ، حتّى أنّ صاحب الشريعة صلی اللّه علیه و آله ، والأئمّة المعصومين علیهم السلام أيضا كانوا كذلك ، وهذا شي ء لا يقبل الإنكار ، ولم يرد عنهم علیهم السلام ردع عن هذه السيرة ، بل هم أنفسهم علیهم السلام كانوا كسائر المسلمين يعملون بها ، فيدخلون سوق النخاسين ويشترون العبيد والإماء ، من دون أن يسألوا ويفتشوا هل هم أحرار قهروا فيبيعونهم ، أو عبيد.

حتّى أنّه قال علیه السلام في رواية حفص بن غياث : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (2) وظاهر هذه العبارة أنّ الاعتناء بهذه الاحتمالات - أي احتمال عدم التذكية في

ص: 155


1- (*) « القواعد » ص 149. « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 487.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 387 ، الباب (9) من أبواب الشهادات، ح1؛ «الفقيه» ج3، ص51، ح3307، باب من يجب رد شهادته ومن يجب قبول شهادته ، ح 27 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 261 ، ح 695 ، (91) باب البينات ، ح 100 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدّعوى ، باب 25 ، ح 2.

اللحوم والجلود ، واحتمال كونهم أحرار في العبيد والإماء ، واحتمال كونه مال الغير وأنّه سرق أو غصب في سائر الأموال - يوجب تعطيل الأسواق ، واختلال أمر المسلمين في معاملاتهم ، وهذا أمر مرغوب عنه عند الشارع ، فعدم الاعتناء بأسواق المسلمين وترتيب الأثر على هذه الوساوس منفور عنه.

الثاني : الإجماع على حجّية السوق ، فإنّه من قديم الزمان لم يشكّك أحد في حجّية السوق وفي أنّها أمارة التذكية.

ولكنّك عرفت ما ذكرنا مرارا من عدم اعتبار مثل هذه الإجماعات التي لها مدارك للمتّفقين يعتمدون عليها ، وليس من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته ، وكشفه عن رأي المعصوم علیه السلام .

الثالث : الأخبار :

منها : ما رواه الحلبي ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال : « اشتر وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه » (1).

وبعد الفراغ من أنّ الظاهر أنّ المراد من السوق هو سوق المسلمين ، فأمره علیه السلام باشتراء تلك الخفاف المشكوكة - أنّها مأخوذة من المذكّى أو من الميتة والصلاة فيها حتّى تعلم بأنّها مصنوعة من الميتة - يدلّ على أنّ السوق أمارة التذكية ، إلاّ أن تعلم بخلافها ، وإلاّ فمقتضى أصالة عدم التذكية التي هي من الأصول التنزيليّة هو عدم جواز شرائها ، وعدم جواز الصلاة فيها ، فلا بدّ وأن يكون هناك أمارة حاكمة على ذلك الأصل ، وليست هي إلاّ السوق حسب المتفاهم العرفي من نفس هذه الرواية.

ص: 156


1- « الكافي » ج 3 ، ص 403 ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ، ح 28 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 234 ، ح 920 ، (11) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه ، ح 128 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1071 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 2.

ولا يمكن أن يقال : إنّ أمره علیه السلام بالاشتراء والصلاة فيها حكم ظاهري مجعول للشاكّ ، حتّى يعلم من قبيل أصالة الطهارة ، لأنّه لو كان كذلك لكان استصحاب عدم التذكية حاكما على ذلك الأصل غير التنزيلي ، وعلى فرض عدم حجّية الاستصحاب نفس أصالة عدم التذكية تجري ، لأدلّة خاصّة ، فلا يبقى محلّ لذلك الحكم الظاهري الموهوم.

نعم بناء على مسلك صاحب المدارك قدس سره من أنّ أصالة عدم التذكية ليست أصلا برأسها ، وإنّما هو نفس الاستصحاب في مورد الشكّ في التذكية ، والاستصحاب ليس بحجّة (1) ، لكان لهذا الكلام وجه.

ولكن تردّه أدلّة حجّية الاستصحاب أوّلا ، وعلى تقدير تسليم عدم حجّيته تردّه الأدلّة الخاصّة التي تدل على حجّية أصالة عدم التذكية.

ومنها : رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكية ، أيصلّي فيها؟ فقال : « نعم ليس عليكم المسألة ، إنّ أبا جعفر علیه السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك » (2).

وهذه الرواية ظاهرة بل نصّ في أنّ في مورد الشكّ في التذكية لا يجب السؤال والتفتيش ويصلّى فيها ، مع أنّ مقتضى أصالة عدم التذكية هو عدم جواز الصلاة فيها ، إلاّ بعد المسألة وتبيّن أنّها ذكيّة ، فليس هذا إلاّ لأجل وجود أمارة على التذكية ، وهو هنا ليس إلاّ السوق.

ومنها : ما رواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن العبد الصالح

ص: 157


1- « مدارك الأحكام » ج 2 ، ص 387.
2- « قرب الإسناد » ص 385 ، ح 1358 ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 368 ، ح 1529 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 61 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1071 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 3.

موسى بن جعفر علیه السلام مثله. (1)

عن ابن أبي نصر عن الرضا علیه السلام قال : سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشترى الخفّ لا يدري أذكيّ هو أم لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري ، يصلّي فيه؟

قال علیه السلام : « نعم أنا اشترى الخفّ من السوق ويصنع لي وأصلي فيه ، وليس عليكم المسألة » (2).

ومنها : رواية الحسن بن جهم ، قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام اعترض السوق فاشترى خفّا لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال علیه السلام : « صلّ فيه ». قلت : فالنعل؟ قال علیه السلام مثل ذلك ، قلت : إنّي أضيق من هذا ، قال : « أترغب عمّا كان أبو الحسن يفعله » (3).

ودلالة هاتين الروايتين الأخيرتين على أماريّة السوق على حذو ما سبق ، بلا تفاوت أصلا.

وها هنا أخبار أخر تدلّ على اعتبار سوق المسلمين ، وأنّه أمارة التذكية ، (4) تركنا ذكرها ، لأنّ في ما ذكرنا غنى وكفاية.

الجهة الثانية

في أنّ اعتبار هذه القاعدة هل هو في خصوص إثبات التذكية في مورد الشكّ

ص: 158


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 257 ، ح 791 ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب وجميع الأنواع ، ح 42.
2- « قرب الإسناد » ص 385 ، ح 1375 ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 371 ، ح 1545 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 77 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 404 ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ، ح 31 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 234 ، ح 921 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 129 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1073 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 9.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 234 ، ح 922 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 130 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1073 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 8.

فيها ، أو أوسع من هذا فيثبت بها الملكيّة أيضا ، فإذا دخل السوق ويريد أن يشتري متاعا ويحتمل أن يكون مسروقا ، أو يدخل سوق النخاسين ويريد أن يشتري عبدا أو أمة ويحتمل أن يكونا حرّين ، فهل السوق أمارة على أنّ ذلك ملك للبائع ، والأمة والعبد مملوكان لبايعهما أم لا ، بل الذي هو أمارة الملكيّة هي اليد ، فلو فرضنا عدم وجود يد عليه فلا طريق إلى إثبات ملكيته؟

والظاهر : أنّ ما هو أمارة الملكيّة هي اليد ، وصرف كونه في السوق لا يدلّ على أنّه ملك لأحد أهل هذا السوق ، أو لأحد من الناس ، إلاّ أن يكون من الأموال التي يعلم بأنّها ملك لأحدهم وإن كان المالك مجهولا ، فبصرف وجود أشخاص في سوق النخاسين في صفّ العبيد والإماء لا يمكن الحكم عليهم بالمملوكيّة ما لم يكونوا تحت يد أحد.

وأمّا مسألة الطهارة في بيع ما يتوقّف صحّة بيعه على الطهارة - بحيث لو لم يكن طاهرا لا يكون له منفعة أصلا - كالسكنجبين مثلا من جهة أصالة الطهارة ، ولذلك في الموارد التي يجري استصحاب النجاسة فيها يحكم بالنجاسة ، وبصرف كونه في السوق ووقوع البيع والشراء لا يحكم عليه بالطهارة.

وأمّا في موارد الشكّ في الطهارة والنجاسة من جهة الشكّ في التذكية وأن يحكم عليه بالطهارة بواسطة كونه في السوق ، ولكن ذلك ليس من جهة إثبات الطهارة بأماريّة السوق عليها أوّلا وبالذات ، بل من جهة أنّ السوق أمارة التذكية ، ومن آثار التذكية هي الطهارة ، وكذلك الأمر في الحلّية ، فلا يثبت به الحلّية ابتداء ، بل من آثار التذكية الواقعة على الحيوان المحلّل الأكل هو حلّية أكل لحمه بعد التذكية.

الجهة الثالثة

في أنّه هل السوق أمارة في عرض اليد - بحيث لو كان من في السوق في دكّانه

ص: 159

اللحم ويبيعه كالقصّاب أو كالفراء الذي يبيع في دكّانه الفراء ، وهكذا أمثالهما ، فهاهنا أمارتان على التذكية في عرض الآخر - أم لا؟ بل السوق أمارة على الأمارة ، بمعنى : أنّ الذي هو أمارة على التذكية أوّلا وبالذات هي اليد.

وأمّا سوق المسلمين فيستكشف منه أنّ البائع المجهول الحال - الذي لا يعلم حاله أنّه مسلم كي تكون يده أمارة التذكية ، أم لا فتجري أصالة عدم التذكية ويحكم بلزوم الاجتناب - مسلم ويده يد المسلم وأمارة ، وبناء على كونه أمارة على الأمارة ، فلو كان البائع معلوم الحال فلا أثر للسوق أصلا.

وذلك من جهة أنّ أماريّة الأمارة متقوّمة بعدم العلم على خلافها ولا على وفاقها ، فلو علم أنّ البائع مسلم تكون يده حجّة قطعا ، ولا حاجة إلى السوق أصلا ، كما أنّه لو علم أنّ البائع مشرك ، فكونه في سوق المسلمين لا أثر له ، وإن احتمل التذكية بأن تلقاه هذا المشرك من يد مسلم ، ولكن هذا الاحتمال لا أثر له ، لأنّه لا يثبت به التذكية ، لأنّ السوق المعلوم الوجود ليس أمارة على التذكية على الفرض ، ويد المسلم الذي معلوم الأماريّة مشكوك الوجود ، لأنّ المفروض أنّه ليس إلاّ صرف احتمال أن تكون يد هذا المشرك مسبوقا بيد المسلم وأنّه تلقاه من يده.

ولكن الظاهر من قيام سيرة المتديّنين على الاعتماد على سوق المسلمين في أمر التذكية ، وعدم السؤال والتفتيش عنها - هو أنّ كون هذا الجلد أو اللحم في سوق المسلمين يباع ويقع عليه التعاطي بينهم - علامة أنّهم يرونه مذكّى في الغالب ، كما هو الشأن في أغلب الأمارات ، وإلاّ فليس هناك أمارة تكون دائم المطابقة ، حتّى القطع الوجداني ، فضلا عن الأمارات الظنيّة التي مناط حجّيتها كونها غالب المطابقة.

وحاصل الكلام في هذا المقام هو أنّه بعد العلم بأنّ المسلمين يجتنبون عن لحم غير المذكّى بنصّ قوله تعالى ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (1) فتعاطي اللحم بالبيع والشراء في

ص: 160


1- المائدة (5) : 3.

أسواق المسلمين يوجب الظنّ القويّ بأنّه مذكّى. وهذا الظنّ أقوى بكثير عن الظنّ الحاصل عن كونه في يد مسلم خارج السوق ، لأنّ احتمال كونه ممن لا يبالي بالأحكام الشرعيّة - أو الاشتباه في إجراء شرائط التذكية ، أو نسيان بعضها ممّا يضرّ بها فيه - أكثر ممّا هو يباع في سوق المسلمين علنا.

هذا بالنسبة إلى قيام السيرة على حجّية السوق.

وأمّا بناء على أن يكون مدركها الأخبار فلعلّ الأمر أوضح ، وذلك من جهة أنّ قوله علیه السلام : « أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي وأصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة » (1) ظاهر في أنّ مراده علیه السلام من نفي لزوم السؤال ، نفي السؤال عن كونه مذكّى أو غير مذكّى ، لا نفي السؤال عن أنّ البائع مسلم أو لا.

ومرجع هذا إلى أنّ كونه في السوق كاف في إثبات أنّه مذكّى ، فلا يحتاج إلى السؤال والفحص. وكون المراد منه أنّ السوق كاف في إثبات أنّ اليد يد المسلم ، وأنّها يثبت أنّ اللحم والجلد أو غيرهما من الأجزاء أو مشتقّات حيوان مأكول اللحم من المذكّى ، يكون من قبيل الأكل من القفى.

وأمّا قوله علیه السلام في خبر إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (2) [ عليكم أنتم أن تسئلوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسئلوا عنه ] لا يدلّ على عدم اعتبار السوق بالنسبة إلى كشفه عن أصل التذكية.

ص: 161


1- تقدم راجع ص 158 ، هامش رقم (2).
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 258 ، ح 792 ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب وجميع الأنواع ، ح 43 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 371 ، ح 1544 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 76 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 7.

بأن يقال : لو كان السوق كاشفا عن ذلك فلم يكن معنى للسؤال إذا رأوا أنّ المشركين يبيعونه ، وأيضا لم يكن معنى لتعليق عدم السؤال على صلاتهم فيه ، وذلك من جهة أنّ كلامه علیه السلام ظاهر في أنّ السوق أمارة وحجّة كاشفة عن التذكية فيما كان السوق والبيع والمعاملة مخصوصا بالمسلمين ، فلا يحتاج إلى السؤال.

وأمّا لو كان المشركون أيضا يبيعون ذلك ، بحيث يكون السوق مشتركا ، أو كان البيع مخصوصا بهم ، فعند ذلك يجب عليكم المسألة والفحص ، ولا أثر لكون البائع وحده في ذلك السوق مسلما في عدم وجوب السؤال ، فيمكن أن تعدّ هذه الرواية من جملة أنّ دلالة السوق إذا كان مخصوصا بالمسلمين على التذكية أهمّ من دلالة يد المسلم ، خصوصا إذا كان ذلك المسلم في السوق المخصوص بالكفّار ، بل وفي السوق المشترك أيضا.

وأمّا قوله علیه السلام بعد ذلك « وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » فمن جهة أنّ صلاتهم فيه بمنزلة شهادتهم عملا بأنّه مذكّى ، فهو أيضا طريق إلى أنّه صار مذكّى. ويؤيّد ما ذكرناه من أنّ سوق المسلمين بنفسه طريق إلى أنّه مذكّى رواية إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح علیه السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام » قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال علیه السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (1).

وهذه الرواية ظاهرة في أنّ كون الجلد في أرض تكون مخصوصة بالمسلمين ، أو كان أغلب أهلها من المسلمين موجب لثبوت كونه من المذكّى ، ولا موجب لذلك ظاهرا إلاّ أماريّة كونه في تلك الأرض لكونه من المذكّى.

ومعلوم أنّه لو كان بصرف وجوده في أرض الإسلام ، أو ما كان الغالب عليها

ص: 162


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 368 ، ح 1532 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 64 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 5.

الإسلام يثبت أنّه من المذكّى ، فبكونه في سوق المسلمين يثبت بطريق أولى ، وذلك من جهة أنّ طريقيّة السوق إلى ذلك أقوى من طريقيّة كونه في أرضهم.

وكذلك رواية السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّ أمير المؤمنين علیه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبها وبيضها ، وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « يقوّم ما فيها ، ثمَّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن ». قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدري سفره مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال علیه السلام : « هم في سعة حتّى يعلموا » (1).

وهذه الرواية يحتمل أن يكون المراد من قوله علیه السلام فيها : « هم في سعة حتّى يعلموا » بيان حكم اللحم الذي مشتبه تذكيته ، ولا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة؟ وأنّه علیه السلام بيّن أنّ حكم المشتبه هي الحلّية ، كي يعلموا بأنّه من غير المذكّى الذي هو حرام ، فيكون مفادها أصالة الحلّ في مشتبه المذكّى والميتة ، فيكون كأصالة الطهارة في مشتبه الطهارة والنجاسة ، وأصالة الحلّ في مشتبه الحلّية والحرمة أصلا عمليّا غير تنزيلي.

ولكن ينفي هذا الاحتمال أنّ أصالة عدم التذكية الجارية في المقام يثبت موضوع الحرمة ، فليسوا في سعة حتّى يعلموا ، فلا بدّ من جعل أصل تنزيلي يكون مقدّما على أصالة عدم التذكية عند المعارضة ، أو أمارة تكون حاكمة عليها ، أو رفع اليد عن حرمة غير المذكّى في ظرف الشكّ في التذكية رفعا واقعيّا ، كي يكون حال الشكّ حال الاضطرار.

لا سبيل إلى هذا الأخير ، لاستلزامه للتصويب الباطل ، فلا بدّ من القول بأحد الأوّلين ، أي الأصل المقدّم ، أو الأمارة الحاكمة.

وها هنا الأمارة الحاكمة المحتملة هو كون السفرة المطروحة في أرض الإسلام

ص: 163


1- « الكافي » ج 6 ، ص 297 ، باب نوادر ( من كتاب الأطعمة ) ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1073 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 11.

طريقا إلى ثبوت تذكيته ، أو أصلا تنزيليّا ، ولا بعد في ذلك ، من جهة غلبة كون اللحم الموجود في مثل هذه السفرة المطروحة في بلاد الإسلام من القسم المذكّى ، ولذلك حكم أمير المؤمنين علیه السلام بجواز وحلّية أكل ما فيها من حيث التذكية لكونها مطروحة في بلاد الإسلام ، والتقويم وتغريمهم لما فيها لصاحب السفرة إذا جاء ، لقاعدة احترام الأموال إن كان المالك مسلما ، لقوله علیه السلام : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (1). أو لقاعدة : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وإن لم يكن المالك مسلما لكن كان في ذمّة الإسلام ، أو كان من المعاهدين مع المسلمين.

ونتيجة ما ذكرنا هو أنّه إذا اشترى من سوق المسلمين ، أو وجد في أراضيهم التي كلّ أهلها مسلمون أو كان للغالب عليها المسلمون ، وكان شاكّا في تذكيته ، فكونه في سوق الإسلام وكذلك كون ذلك اللحم أو الجلد في أراضيهم موجب للحكم بأنّه مذكّى.

وهذا فيما إذا لا يعلم أنّ البائع ليس بمسلم واضح ، سواء أكان معلوم الإسلام أو كان مجهول الحال.

وأمّا إذا علم بأنّه ليس بمسلم ، ولكن يحتمل أنّه تلقّاه من يد مسلم مع فرض أنّ السوق سوق الإسلام ، كما أنّه إذا اشترى جلدا أو لحما من نصراني في بغداد ، ويحتمل أنّه تلقّاه من يد مسلم ، فبناء على كون السوق أمارة في عرض اليد ، فلا بدّ من القول بأنّه في حكم المذكّى.

وبناء على أنّه أمارة على الأمارة ، فمع العلم بأنّه غير مسلم ليس للسوق أثر. اللّهمّ إلاّ أن يقال بأحد أمرين : إمّا تقييد أماريّة السوق بعدم كونه في يد غير المسلم ، أو يقال بأنّه كما أنّ سوق المسلمين أمارة على التذكية كذلك يد الكافر أمارة على عدم

ص: 164


1- « الكافي » ج 2 ، ص 268 ، باب السباب ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 377 ، ح 5781 ، باب النوادر ( من ألفاظ موجزة للنبي ( ص ) ، ح 19 ، « المبسوط » ج 3 ، ص 59 ، كتاب الغصب ، « مسند أبى يعلى الموصلي » ج 9 ، ص 55 ، ح 5119 ، مسند عبد اللّه بن مسعود ، الديلمي في « الفردوس » ج 2 ، ص 143 ، ح 2727.

التذكية ، فتتعارض الأمارتان. وبعد تساقطهما بالمعارضة فالمرجع أصالة عدم التذكية ، وإلاّ فإنكار كون سوق المسلمين في عرض اليد لا مجال له.

[ الجهة ] الرابعة

في أنّه هل السوق - بعد الفراغ عن اعتباره وحجّيته لإثبات التذكية - أمارة أو أصل؟ وعلى تقدير كونه أصلا هل هو أصل تنزيلي ، أو يكون من الأصول غير التنزيلية؟

فنقول : أمّا كونه أصلا غير تنزيلي فمما لا ينبغي أن يحتمل ، لأنّه لو كان أصلا غير تنزيلي لكان أصالة عدم التذكية حاكما عليه ، وكان لا يبقى مورد لجريانه ، كما هو الشأن في كلّ أصل حاكم مع محكومة. هذا أوّلا.

وثانيا : قيام السيرة على اعتباره ليس إلاّ لأجل أنّ المتديّنين - بعد ما علموا أنّ الصلاة لا يجوز في غير المذكّى ، ومع ذلك كانوا يشترون المشكوك من أسواقهم ، وكانوا يرتّبون آثار التذكية عليه - يرون سوق المسلمين كاشفا وطريقا إلى كونه مذكّى ، فلذلك كانوا يرتّبون آثار التذكية عليه ، لا من جهة صرف التعبّد بالتذكية في ظرف الشكّ.

وأمّا أنه أصل تنزيلي أو أمارة ، فالظاهر أنّها أمارة ، وذلك لما ذكرنا من أنّ قيام السيرة على دخول المتديّنين في الأسواق الإسلاميّة ، وشرائهم المشكوك التذكية ، والمعاملة معه معاملة المذكّى ، مع أنّهم يدرون أنّ الصلاة في غير المذكّى ليست جائزة - دليل على أنّهم يرون أسواق المسلمين طريقا وكاشفا عن كونه مذكّى.

وبعبارة أخرى : نحن بيّنّا في محلّه في الفرق بين الأصل والأمارة ، أنّ الأمارية متقوّمة بأمرين :

أحدهما : أن يكون ذلك الشي ء الذي جعل أمارة ، فيه جهة كشف عن مؤدّاه ، ولو

ص: 165

كان كشفا ناقصا ، وإلاّ فالشي ء الذي في حدّ نفسه ليس فيه جهة الكاشفيّة أصلا ، لا يمكن جعله كاشفا في عالم الاعتبار التشريعي ، إذ الكاشفيّة أمر تكويني لا توجد إلاّ بأسبابها التكوينيّة ، وذلك مثل رافعيّة شرب الماء للعطش ، فإنّه أمر تكويني لا يمكن جعله لشي ء ليس رافعا للعطش أصلا ، وبالجعل في عالم الاعتبار والتشريع لا ينجعل.

ولذلك قلنا هناك إنّ معنى تتميم الكشف في باب جعل الأمارات ليس أن يضمّ الجاعل مقدارا من الكشف في عالم الاعتبار إلى ذلك المقدار الناقص الذي لذلك الشي ء موجود كي يصير المجموع كشفا تامّا ، بل المراد منه أنّ الشارع يرى ذلك المقدار من الكشف الناقص - الموجود في ذلك الشي ء في حدّ نفسه في عالم الاعتبار التشريعي - كشفا تامّا ومثبتا لمؤدّاه وطريقا إليه.

ثانيهما : أن يكون نظر الجاعل في مقام جعل الحجّية للأمارة إلى تلك الجهة من الكشف الموجود فيه في حدّ نفسه ، وإلاّ فبصرف الأمر بالعمل به والتعبّد بمؤدّاه لا يصير ذلك الشي ء أمارة ، بل يمكن أن يكون أصلا عمليّا في عالم الجعل التشريعي مع وجود تلك الجهة من الكشف فيه تكوينا ، فأماريّته متوقّفة على أن يكون جعل حجّيته بلحاظ تتميم ذلك الكشف الناقص الموجود فيه تكوينا في عالم التشريع والاعتبار.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في أنّ كون اللحم أو الجلد الذي في سوق المسلمين يباع ، فيه جهة كشف عن أنّه مذكّى ، لأنّهم غالبا لا يقدمون على بيع لحم الميتة أو جلده ، ووقوعه في بعض الأوقات من بعض الأفراد وإن كان لا ينكر ، ولكن هذا المقدار القليل لا يمنع عن حصول الظنّ بكونه من المذكّى ، لغلبة وجود هذا القسم مقابل القسم الآخر.

وأيضا لا شكّ في أنّ سيرة المتديّنين من الصدر الأوّل في دخولهم الأسواق واشترائهم اللحوم والجلود بلحاظ أنّ كونها في أسواق المسلمين تباع ، يكشف عن

ص: 166

أنّها مذكّى ، وسيرة المتديّنين لا تحتاج إلى الإمضاء مثل سيرة العقلاء ، وذلك من جهة كون شي ء طريقا عند العقلاء يمكن أن يقبل الشارع طريقيّته ويمكن أن يردّها ، فيحتاج إلى الإمضاء ، وإلاّ يبقى على كونه مشكوك الطريقيّة عنده.

وأمّا سيرة المتديّنين بما هم متديّنين - مثل الإجماع - كاشف ابتداء عملهم هذا عن موافقته لرأي المعصوم علیه السلام .

ولا شكّ أنّ السيرة فيما نحن فيه من القسم الثاني ، لأنّ التذكية من الأمور الشرعيّة التي لا شأن للعقلاء بها بما هم عقلاء ، نعم العقلاء بما هم عقلاء ينظرون إلى اللحم بنظر أنّه من الطيّبات أو من الخبائث ، لا أنّه مذكّى أو غير مذكّى.

وأمّا الروايات الواردة في هذه القاعدة واعتبارها ، فالظاهر من بعضها أيضا أماريّتها ، كرواية إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح علیه السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ». قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال علیه السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (1). وظاهر أنّ التفريق - في الأرض المشترك أهلها بين المسلمين وغيرهم بتعليق الحكم بعدم اليأس على غلبة المسلمين من حيث كثرتهم من غيرهم - دليل على أنّ نظرهم علیهم السلام في هذا الحكم إلى جهة كاشفيّة الأرض التي أهاليها المسلمون عن كونه مذكّى ، فإذا كان المسلمون هم الغالبون على الأرض فيكون احتمال التذكية أقوى.

وكذلك الأمر في رواية إسماعيل بن عيسى ، ففي قوله علیه السلام فيها « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (2) علّق السؤال والفحص عن أنّه مذكّى أو غير مذكّى على بيع المشركين ذلك ، وعدم السؤال والفحص على رؤية أنّهم يصلّون فيه.

ص: 167


1- تقدم راجع ص 162.
2- تقدم راجع ص 161 ، هامش رقم (2).

ولا شكّ في أنّ الأوّل يوجب ضعف احتمال التذكية ، فحكم عليهم بلزوم الفحص والسؤال على ذلك التقدير. والثاني يوجب قوّة احتمال تحقّق التذكية ، لأنّ المسلم بعد أن عرف أنّ الصلاة لا يجوز في غير المذكّى ، فإذا صلّى فيه ، فيكون ظاهره أنّه أحرز أنّه مذكّى ، فلا يبقى مجال ومورد للسؤال ، ولذلك نفي السؤال عنه على هذا التقدير.

ففي هاتين الروايتين حكمه علیه السلام بالصلاة فيه ناظر إلى جهة كشفه ، فبناء على الأصل الذي تقدّم يكون السوق أمارة ، لا أصلا بكلا قسميه من التنزيلي وغير التنزيلي.

[ الجهة ] الخامسة : في نسبة هذه القاعدة مع غيرها من الأدلّة في مقام التعارض

فنقول : أمّا بالنسبة إلى استصحاب عدم التذكية الجارية في المقام لو لم يكن السوق ، فإن قلنا بأنّه أمارة كما هو كذلك ، فيكون حاكما عليه بلا كلام ، كما هو شأن كلّ أمارة بالنسبة إلى كلّ أصل ، ولو كان من أقوى الأصول التنزيليّة.

وأمّا بناء على أنّه من الأصول وأنّه أصل تنزيلي - لما بيّنّا أنّ احتمال أنّه أصل غير تنزيلي واضح البطلان فلا ينبغي المصير إليه - فأيضا يكون مقدّما عليه ، وإن كان مقتضى القاعدة التعارض والتساقط ، لأنّ كليهما أصلان تنزيليان ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

ولكنّه في المقام لا بدّ من ذلك ، أي تقديمه على الاستصحاب ، وإلاّ لا يبقى له مورد أصلا ، فيكون جعله لغوا ، فبدلالة الاقتضاء لا بدّ من تقديم السوق على استصحاب عدم التذكية وإن كان مثله أصلا تنزيليّا وفي رتبته.

وأمّا بالنسبة إلى البيّنة فلو قامت البيّنة العادلة على أنّ هذا اللحم ، أو هذا الجلد من غير المذكّى ، أو هذا الحيوان الميّت مات حتف أنفه ، أو ذبح ولكن لم يكن الذبح

ص: 168

واجدا لشرائط التذكية وهكذا ، فبناء على كونه أصلا وإن كان أصلا تنزيليا فتقديم البيّنة عليه واضح ، لأنّ البيّنة أمارة ، وكلّ أمارة تكون لها الحكومة على كلّ أصل عند المعارضة.

وأمّا بناء على كونه أمارة كما هو المختار ، وإن كان مقتضى القاعدة هو التساقط ، كما هو الشأن في باب تعارض الأمارتين إن لم يكن أحدهما أقوى ، ولكن مع ذلك تكون البيّنة مقدّمة عليه لإحدى جهتين.

الأولى : أنّ البيّنة من أقوى الأمارات ، ولذلك جعلها الشارع ميزانا للقضاء على ذي اليد ، مع أنّ اليد أيضا من الأمارات ، فإذا كانت تقدّم على اليد مع أنّها من الأمارات القويّة ، تقدّم على السوق بطريق أولى.

الثانية : أنّ عمدة الوجه في حجّية السوق هي السيرة العمليّة من المتديّنين ، وهذه ليست قطعا فيما قامت البيّنة العادلة على عدم التذكية ، بل ولا فيما أخبر البائع بأنّه غير مذكّى.

هذا ، مضافا إلى أنّه على فرض التعارض النتيجة هو التساقط ، فيكون المرجع استصحاب عدم التذكية ، فنتيجة التساقط وتقديم البيّنة واحدة.

[ الجهة ] السادسة : في مورد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : بعد إحراز موضوع هذه - أي بعد إحراز أنّه سوق الإسلام ، إمّا لأنّ كلّهم مسلمون ، وإمّا لأنّ الغالب ممّن يكون فيه من أرباب المكاسب هم المسلمون - إذا اشترى من مثل هذا السوق أو استعار أو انتقل إليه بسبب آخر من أسباب الانتقال ، وشكّ في أنّه مذكّى أو غير مذكّى فلا يخلو الأمر ، فإمّا يكون الطرف الآخر الذي انتقل منه إليه معلوم أنّه مسلم ، أو معلوم أنّه ليس بمسلم ، أو مشكوك.

ص: 169

فهذه الأمارة تدلّ على أنّه مذكّى في المعلوم أنّه أخذ من يد مسلم ، وكذلك في المأخوذ من يد مشكوك الإسلام إذا كان السوق سوق الإسلام ، وهذا معنى أماريّته عند الشكّ في أنّه مذكّى.

والفرق بين هذين القسمين أنّ القسم الأوّل فيه أمارتان : إحديهما سوق المسلم ، والأخرى يد المسلم ، بناء على ما اخترناه من عرضيّة هاتين الأمارتين. وبناء على القول بأنّه ليس إلاّ أمارة واحدة وهي يد المسلم ، لأنّ السوق بناء على ذلك القول الآخر أمارة على أنّ اليد يد مسلم ، ومع العلم بذلك - لا يبقى مجال لأماريّة السوق لذلك.

وأمّا القسم الثاني فأمارة واحدة فقط ، وهو السوق.

وأمّا القسم الثالث فقد بيّنّا أنّه من تعارض البيّنتين على تقدير وعدم حجّية السوق على تقدير.

الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 170

42 - قاعدة عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ

اشارة

ص: 171

ص: 172

قاعدة عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « عدم شرطيّة البلوغ في الأحكام الوضعيّة ». وفيها جهات من الكلام

[ الجهة ] الأولى : في مدلولها

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع ، فإنّه لا خلاف بينهم في أنّ إتلاف الصبي مال الغير كإتلاف البالغين موجب للضمان ، واشتغال ذمّته بمثل ما أتلف إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا. وكذلك الحال في ضمان اليد ، فلو استولى الصبي على مال الغير وغصبه فتلف ذلك المال في يده - بل وإن كان التلف في يد غيره ، غاية الأمر استقرار الضمان على من وقع التلف في يده - يكون ضامنا وإن لم يكن بإتلافه ، بل كان بتلف سماوي.

وهذا الإجماع محقّق لكلّ من تتبّع في الفقه ، إذ لم ينقل الخلاف من أحد. ولا يمكن أن يكون اعتمادهم في هذا الاتّفاق على عمومات أدلّة الضمان ، مثل قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ». وما هو المعروف : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وغيرهما ممّا ذكرناها في قاعدة الإتلاف.

ص: 173


1- (*) « عوائد الأيام » ص 268. « عناوين الأصول » عنوان 84 ، « القواعد الفقهيّة » ج 1 ، ص 331.

وذلك من جهة وقوع الخلاف بينهم في انصراف الأدلّة العامّة عن الصبي ، ولم يقع خلاف في أصل الضمان ، فهذا إجماع يمكن الاعتماد عليه. ولا يرد عليه ما أوردنا على الإجماعات التي ادّعيت في أغلب القواعد الفقهيّة المذكورة في هذا الكتاب.

الثاني : سيرة المتديّنين ، بل العقلاء قاطبة على أنّ الصبي إذا أتلف مال الغير أو غصبه ، فوقع عليه التلف - وإن كان التلف في غير يده - فهو له ضامن ، بل ربما يقولون بضمانه إن فوّته على المالك وإن لم يقع يده عليه ولا أتلفه ، كما لو حبس حرّا ففوّت عليه منافعه ، خصوصا إذا كان عاقلا ذا شعور وإدراك وفهم حادّ وكان أقلّ من زمان البلوغ بزمان يسير ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة بل أمضاها بإطلاقات الأدلّة العامّة ، كما سنتكلّم عنها وعمّا قيل بأنّها رادعة إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : الروايات والأدلّة العامّة الواردة في أبواب الضمانات والنجاسات والطهارات ، وفي باب إحياء أراضي الموات ، وفي أبواب الديات والحيازات ، فإنّه في جميع الأدلّة عامّة أو مطلقة تشمل البالغ والصبيّ على نهج واحد.

فإنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (1) أو قوله : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (2) أو قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (3) وأمثال ذلك ممّا يدلّ على جنابة الواطى والموطوء وإن لم ينزل ، ولكن بعد غيبوبة الحشفة في أحد المأتيين (4). أو ما يدلّ على نجاسة بدن الذي لاقى النجس أو المتنجّس مع الرطوبة (5).

ص: 174


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 152 ، ح 673 ، (1) باب أحكام الأرضين ، ح 22 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 327 ، أبواب إحياء الموات ، باب 1 ، ح 5 و 6.
2- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 291.
3- تقدم راجع ص 54.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 46 ، باب ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة ، ح 1 و 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 118 ، ح 310 ، (6) باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 108 ، ح 358 ، (64) باب ان التقاء الختانين يوجب الغسل ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 469 ، أبواب الجنابة ، باب 6 ، ح 1 - 9.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 60 ، باب الكلب يصيب الثوب والجسد وغيره. ، ح 1 ، 2 ، 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 421 ، ح 1333 ، (22) باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ، ح 6 ، « وكذلك ، ج 1 ، ص 260 ، ح 756 ، (12) باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 43 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1034 ، أبواب النجاسات ، باب 26 ، ح 1 و 3.

والحاصل : أنّ الفقيه المتتبّع إذا نظر في تلك الأدلّة مع كثرتها يتيقّن بشمولها لغير البالغين مثل البالغين ، خصوصا إذا كان غير البالغ واجدا لجميع شرائط التكليف ما عدى مقدار قليل من الزمان كيوم ، بل وإن كان كشهر باقيا إلى أن يصير بالغا بحسب العمر.

ولا شكّ أنّ دعوى انصراف تلك الأدلّة عن مثل هذا الصبي الذي لم يبق إلى بلوغه بحسب العمر إلاّ يوما ، لا يخلو عن مجازفة ، فإذا شمل مثل هذا الفرض يتمّ في سائر الموارد بعدم القول بالفصل ، ولا مخصّص ولا مقيّد في البين لهذه العمومات والإطلاقات بعد الفراغ عن عدم انصرافها إلى خصوص البالغين ، عدا ما يتخيّل من قول عليّ علیه السلام : « أما علمت رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ » (1).

وبيانه : أنّ قوله علیه السلام : « رفع القلم عن الصبيّ » معناه أنّ الصبيّ ليس عليه جعل من قبل الشارع ، وكذلك الحال في المجنون حتّى يفيق ، والنائم حتّى يستيقظ ، فأهملهم كما أهمل الحيوانات ، ولم يكتب عليهم شيئا ، لا وضعا ولا تكليفا ، فالمنفيّ في هذا الحديث الشريف هو قلم جعل الأحكام مطلقا ، سواء أكانت الأحكام وضعيّة أم تكليفيّة ، فهذا الحديث الشريف تخصّص به الأدلّة العامّة ، أو تقيّد به الإطلاقات الواردة في الأبواب المختلفة.

وفيه أوّلا : أنّ الظاهر من هذه العبارة - التي في مقام الامتنان والتسهيل - هو رفع المؤاخذة عن هذه الثلاثة ، لعدم التفاهم إلى المصالح والمفاسد ، أمّا المجنون لعدم عقله

ص: 175


1- « الخصال » ص 40 و 175 ، باب الثلاثة ، ح 40 و 233 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 32 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 4 ، ح 11.

قبل أن يفيق ، وأما الصبيّ لقلّة عقله غالبا ، وأمّا النائم لغفلته بواسطة نومه وعدم تنبّهه إلى المضارّ والمنافع.

والمؤاخذة من آثار مخالفة التكاليف الإلزاميّة أي ترك الواجب وفعل الحرام ، فيستكشف من نفي اللازم الذي هو المؤاخذة ، نفي الملزوم - أي الوجوب والحرمة - فيدلّ على عدم تنجّز التكاليف الإلزاميّة على النائم لغفلته ، وعدم توجيه التكليف الإلزامي إلى الصبيّ والمجنون لقلّة عقله في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، ولا يدلّ على نفي الأحكام التكليفيّة غير الإلزاميّة ، فضلا عن نفي الأحكام الوضعيّة.

وهذا المعنى مناسب مع ما اشتهر بينهم من عدم اشتراط البلوغ في الأحكام الوضعيّة ، وأيضا ما اشتهر بينهم من مشروعيّة عبادات الصبيّ.

وثانيا : على فرض تسليم أنّه ليس المراد من رفع القلم خصوص نفي العقاب والمؤاخذة - بل المراد نفي قلم الجعل عليه - فلا بدّ وأن يكون المراد منه أنّ الأفعال التي تترتّب عليها الآثار لو صدرت عن البالغ العاقل المستيقظ ، لو صدرت عن الصبيّ أو المجنون أو النائم لا تترتّب عليها ، وذلك من جهة فقد البلوغ في الصبيّ ، والعقل في المجنون ، والانتباه في النائم.

فبناء على هذا المعنى لا يشمل الحديث الشريف الأفعال التي تترتّب عليها الآثار ، من دون فرق بين الالتفات وعدمه ، وكذلك الاختيار وعدمه. وتكون مثل هذه الأفعال خارجة عن مورد هذا الحديث تخصّصا ، فتكون أبواب الديات والجنايات والجنابة والأحداث مطلقا ، والإتلاف والضمان - من ناحية اليد - والنجاسة والطهارة خارجة عن مورد هذا الحديث الشريف تخصّصا.

وخلاصة الكلام : أنّه يظهر من هذا الحديث الشريف وذكر الصبيّ في سياق المجنون والنائم ، هو أنّه كما لا قصد في المجنون والنائم تكوينا قصد الصبي في حكم العدم تشريعا ، فكلّ أثر فعل كان مترتّبا على تعمّد ذلك الفعل وقصده ، بحيث لو صدر عنه

ص: 176

بلا التفات ليس ذلك الأثر له ، فإذا صدر عن الصبيّ لا يترتّب عليه ذلك الأثر وإن قصده وصدر عنه عمدا.

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه في قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري ، عن جعفر علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام ، عن علي علیه السلام ، أنّه كان يقول في المجنون المعتوه الذي لا يفيق ، والصبيّ الذي لم يبلغ : « عمدهما خطأ تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم » (1). فقوله علیه السلام : « وقد رفع عنهما القلم » بعد حكمه بأنّ عمده خطأ بمنزلة العلّة لهذا الحكم ، فيكون معنى رفع القلم عنه أنّ الأثر الذي كان يترتّب على الفعل الذي يصدر عن العاقل عن عمد وقصد لو كان بالغا لا يترتّب على مثل ذلك الفعل لو صدر عن الصبيّ غير البالغ ، فيكون قصده كلا قصد ، وعمده كالخطإ.

فالأفعال التي لا فرق في ترتّب الأثر عليها بين أن تكون صادرة عن قصد وعمد - مع الالتفات إليها أو عدم الالتفات إليها - ليس مشمولة لهذا الحديث الشريف.

وأمّا ما يقال : من أنّ الأحكام الوضعيّة اعتبارات من قبل الشارع ابتداء أو إمضاء من قبله لما اعتبره العرف والعقلاء ، والأمور الاعتباريّة سواء أكانت اعتبارات ابتدائيّة من قبله أو كانت إمضائية ، تكون اعتبارها بلحاظ الآثار المترتّبة عليها ، وإن قلنا بأنّها مستقلّة في الجعل ، وليست منتزعة عن الأحكام التكليفيّة كما هو المختار عندنا ، وإلاّ لو يكن لها أثر يكون اعتبارها لغوا لا يصدر عن عاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

ففي الحقيقة اعتبار الأحكام الوضعيّة - أي : جعلها في عالم التشريع - لأجل ترتّب الأحكام التكليفيّة عليها ، والفرق بين هذا القول المشهور والمذهب المنصور مع ما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدس سره هو أنّ الحكم الوضعي عند المشهور ملزوم وموضوع

ص: 177


1- قرب الإسناد » ص 155 ، ح 569 ، أحاديث قهزقة.

للأحكام التكليفيّة (1) ، وعند الشيخ قدس سره من لوازمها ومنتزعة عنها (2) ، وإلاّ ففي كلا القولين الحكم الوضعي بدون الحكم التكليفي لا يمكن أن يوجد ، إمّا لعدم إمكان وجود الملزوم بدون اللازم كما هو المذهب المشهور المنصور ، أو لعدم إمكان وجود اللازم بدون الملزوم ، كما هو المنسوب إلى الشيخ الأعظم قدس سره .

فلو سلّمنا أنّ معنى الحديث الشريف هو رفع خصوص الأحكام التكليفيّة ، لا الأعمّ منها ومن الوضعيّة ، لكن النتيجة في كلتا الصورتين واحدة ، إذ رفع الأحكام التكليفيّة ملازم مع رفع الأحكام الوضعيّة أيضا ، لما قلنا من عدم إمكان وجود اللازم بدون الملزوم ، بناء على أنّها منتزعات عن الأحكام التكليفيّة ، وعدم إمكان وجود الملزوم بدون اللازم ، بناء على المختار من أنّ الأحكام التكليفيّة من لوازم الأحكام الوضعيّة ، لأنّها بمنزلة الموضوع.

فجواز الاستمتاعات من لوازم الزوجية ، لا أنّ الزوجيّة منتزعة عن جواز الاستمتاعات ، وكذلك جواز التصرّفات ونفوذها من لوازم الملكيّة وآثارها ، لا أنّ الملكيّة منتزعة عن جواز التصرّفات.

والدليل على ذلك الأدلّة الواردة في الموارد المتفرّقة من الأحكام الوضعيّة ، مثلا : « الناس مسلّطون على أموالهم » (3) يدلّ على أنّ موضوع السلطنة وجواز التصرّفات هي الملكيّة وكون الشي ء مالا له ، وموضوع وجوب الإطاعة والتمكين هي الزوجيّة ، وموضوع عدم جواز الأكل والشرب هو كون المأكول والمشروب نجسا ، وهكذا الأمر في سائر الموارد ، وهذا ينبغي أن يعدّ من الواضحات.

فقد أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد من رفع القلم هو رفع المؤاخذة التي من لوازم مخالفة التكليف

ص: 178


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 601.
2- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 602 - 603.
3- « الخلاف » ج 3 ، ص 176 ، في أحكام القرض ، مسألة : 290.

الإلزامي بترك الواجب وإتيان الحرام ، وحيث أنّ رفع اللازم مستلزم لرفع الملزوم ، فالمرفوع هي التكاليف الإلزاميّة لا مطلق التكاليف ، فالأحكام الوضعيّة لا تبقى بلا أثر - كما توهّم - بل يستحبّ عليه إتيان الواجبات وترك المحرّمات ، بناء على شرعيّة عبادات الصبيّ.

الثاني : أنّ أثر الوضع هو وجوب تفريغ ذمّة الصبيّ على الوليّ ، إذ لا مانع من أن يكون فعل الصبيّ موضوعا للحكم التكليفي الإلزامي على شخص آخر ، وها هنا هو الولي ، بل هذا المعنى صريح قوله علیه السلام : « عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة » (1) فجناية الصبيّ إن كان عن عمد موضوع لوجوب الدية على العاقلة ، ولذلك لو أتلف الصبيّ مال شخص ، أو تلف بعد وقوع يده عليه ولو كان بتلف سماويّ يجب على الولي أداء مثله من مال ذلك الصبي إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا ، وهكذا الحال في باب جناياته ودياته التي اشتغلت ذمّته بها ، بل وكفّاراته التي تعلّقت به ، وسائر الضمانات التي تعلّقت به.

الثالث : وجوب ترتيب الأثر عليه بعد البلوغ ، وهذا كاف في عدم لغويّة ذلك الاعتبار.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدلّة الواردة في الأبواب المتفرّقة - التي تدلّ على أنّ بعض الأفعال موضوع أو سبب لثبوت حكم وضعي - عمومات أو مطلقات تشمل أفعال البالغين وغير البالغين.

فقوله : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (2) أو قوله علیه السلام : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (3) وكذلك سائر الأدلّة الكثيرة المتفرّقة في الأبواب المختلفة - لا اختصاص لها بالبالغين ، وحديث رفع القلم لا يخصّصها.

ص: 179


1- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (2).
2- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 291.
3- تقدم راجع ص 174 ، هامش رقم (2).

وأمّا الروايات الواردة في أنّ عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة فموافق للعمومات ، لا أنّها مخصّصة لها ، لأنّ مفادها أنّ الصبي إذا صدر عنه فعل عن عمد لا يترتّب عليه أثر العمد ، بل يترتّب عليه أثر الخطأ ، فكلّ فعل إذا صدر عن الصبي وكان لصدوره خطأ أثر يترتّب عليه.

وباب الجنايات والديات والجنابة من هذا القبيل ، فإذا وجدت أسباب هذه الأمور - وإن كان صدورها منه خطأ - تترتّب عليها تلك الأمور ، فالنتيجة ثبوت الأحكام الوضعيّة لغير البالغ أيضا مثل البالغين. وأمّا الروايات التي مفادها توقّف نفوذ أمره على البلوغ (1) فأجنبيّ عن محلّ كلامنا.

[ الجهة ] الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

فأقول : إنّ الفعل الذي يكون موضوعا لحكم وضعي - وقد يسمّى ذلك الفعل سببا لذلك الحكم ، ولكن التحقيق أنّ ذلك الفعل موضوع لذلك الحكم ، وليس سببيّة في البين ، لأنّ سبب الحكم هو الجعل الشرعي ، فالشارع هو السبب الموجد له ، وإنّما موضوع حكمه يكون ذلك الفعل - قد يصدر من البالغ وقد يصدر من غير البالغين ، وليس بلوغ الفاعل شرطا لتحقق ذلك الحكم.

مثلا حيازة المباحات - كالاحتطاب والاعتشاب - موضوع لملكيّة ذلك الحطب وذلك العشب للفاعل ، سواء صدر عن البالغ أو من غيره ، فليس بلوغ من احتطب أو اعتشب شرطا في تحقق ملكيّة ذلك الحطب أو ذلك العشب.

وقد تقدّم الدليل على عدم شرطيّة البلوغ لحصول الحكم الوضعي في الجهة

ص: 180


1- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (1).

الأولى ، وهو قوله علیه السلام : « من حاز شيئا من المباحات فقد ملكه » وكذلك الأمر في سائر الأمثلة. والمقصود من ذكر هذه الجهة بيان مفهوم هذه القاعدة.

[ الجهة ] الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول :

منها : حصول الجنابة لغير البالغ بغيبوبة الحشفة في أحد فرجيه ، سواء أكان مع إنزال الواطي البالغ أو مع عدمه ، بل وكذلك تحصل الجنابة له مع غيبوبة حشفته في فرج الآخر ، سواء أكان الموطوء بالغا أو لم يكن.

ومنها : حدوث الحدث الأصغر لمن خرج عنه البول أو الغائط أو الريح أو نام ، سواء أكان بالغا أو لم يكن.

ومنها : حصول الضمان واشتغال ذمّة من أتلف مال الغير ، سواء أكان المتلف بالغا أو لم يكن ، ودليله هو عموم « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » - وقد تقدّم شرح هذه القاعدة في بعض مجلّدات هذا الكتاب (1) - من غير مخصّص لذلك العموم.

ومنها : حصول الضمان لمن تلف ماله في يده غير المأذونة ، سواء أكان صاحب تلك اليد بالغا أو لم يكن. ودليله عموم قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (2) من دون وجود مخصّص لهذا العموم. وقد شرحنا هذا الحديث الشريف دلالة وسندا في قاعدة « وعلى اليد ».

ومنها : ما لو فوّت على الحرّ منافعه ، بأن حبسه عن شغله ، ففاتت تلك المنافع التي

ص: 181


1- راجع ج 2 ، ص 25.
2- تقدم راجع ص 54.

كان يحصلها لو لم يحبسه فهو له ضامن ، سواء أكان هذا الذي فوّت منافعه بالغا أو لم تكن.

ودليله إمّا قاعدة الإتلاف بناء على صدق الإتلاف عليه عرفا ، ولا شكّ في أنّه لو حبس مالك الأغنام والأغنام في برية فأكلها الذئب ، يصدق على الحابس عرفا أنّه أتلف الغنم.

وكذلك لو حبس مالك البستان ، ففسدت ثمراته لعدم من يصلحها ، أو يبست أشجارها لعدم من يسقيها ، فيصدق على الحابس أنّه أتلفها.

فكذلك لو حبس ذا صنعة أو منعه عن الاشتغال بشغله ، كما لو منع البنّاء من أن يبنى ، أو الصائغ من الصياغة ، يصدق عليه عرفا أنّه أتلف منافعه من عمله.

وفيه : الإتلاف إعدام شي ء موجود ، لا المنع عن إيجاده.

وإمّا قاعدة احترام مال المسلم وأنّ احترامه كاحترام دمه ، فإذا حبس ذا صنعة فوت عليه منافع إشغاله وأعماله التي كان يعملها لو لا منع الحابس عن الاشتغال بها.

ولا شكّ في أنّ تلك المنافع مال ، وماله محترم ، فمن فوّته يجب عليه تدركه وغرمه.

وفيه : أنّ المنافع وإن كانت مالا ولكن بعد وجوده لا قبل ، والحابس لم يتلف مالا موجودا ولا فوّته على صاحبه ، بل إنّما منع عن أن يوجد ، فلم يفوت مالا على صاحبه كي يكون ضامنا له بقاعدة الاحترام ولكنّه حيث يصحّ أن يواجر نفسه - والإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم عند أكثر الفقهاء قدس سره وإن عرف بتعاريف أخر ، ولا يمكن تمليك ما ليس بمالك له - فلا بدّ وأن يقال بأنّ أعماله قبل وجودها مال ، ولذلك تبادل بالمال ، فإذا فوّتها على المالك فقد فوّت مالا محترما عليه ، فيضمن بقاعدة الاحترام.

ص: 182

وإمّا قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1) ولا شكّ أنّ من حبسه ومنعه عن عمله واستيفاء منافعه فقد اعتدى عليه ، فله أن يعتدى عليه بمقدار الضرر الذي أورده عليه ويغرمه.

والتحقيق في مسألة تفويت المنافع غير المستوفاة ، هو أنّه إن كانت تفويت المنافع بواسطة وقوع ذي المنفعة تحت يده ، كما لو حبس عبده أو دابّته ومنعهما عن إيجاد منافعهما ، فهذا يرجع إلى ضمان اليد.

والدليل عليه : قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » وذلك من جهة أنّ اليد على الشي ء يد على منافعه ، فكما أنّه يجب إرجاع العين وردّه إلى صاحبه يجب عليه إرجاع المنافع غير المستوفاة أيضا ، لأنّها وقعت تحت يده بتبع وقوع العين تحت يده.

وهذا المعنى لا يمكن في حبس الحرّ ، لعدم إمكان وقوع الحرّ تحت يده ، وعدم صدق الموصول عليه في قوله صلی اللّه علیه و آله : « ما أخذت » لأنّ الحرّ ليس شيئا مأخوذا بحيث يكون الأخذ سلطانا عليه ، ويكون له التصرّف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك من التصرّفات ، فلا بدّ لإثبات الضمان فيه إلى التماس دليل آخر غير قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ».

وقد ذكرنا ما قالوا من اندراجه تحت قاعدة الإتلاف ، وقاعدة الاحترام أو الاعتداء في الآية المباركة ، وقد عرفت ما فيها.

والمسألة من حيث الأقوال أيضا فيها اختلاف كثير ، ذكرها شيخنا الأعظم قدس سره في مكاسبه ، وهو بنفسه له كرّ وفرّ. ونسب إلى المشهور القول بالضمان (2).

ص: 183


1- البقرة (2) : 194.
2- « كتاب المكاسب » ص 105.

ولكن عرفت أنّ هذا فيما يقع تحت اليد لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام فيما لا يقع تحتها ، كما قلنا في صورة حبس الحرّ وهو الذي يقال أنّه مورد لقاعدة التفويت. وقد ذكرنا ما يمكن أن يكون مدركا لقاعدة التفويت ، مع ما فيها من الخلل.

وأمّا ما يقال : إنّ مدركها الروايات ، فالروايات التي نحن اطّلعنا عليها ترجع إلى قاعدة الإتلاف ، وقد ذكرنا عدّة منها في مقام بيان مدرك قاعدة الإتلاف (1) ، وعلى كلّ حال كون قاعدة التفويت في قبال قاعدة الإتلاف - وقاعدة الاحترام وقاعدة على اليد قاعدة أخرى ويكون لها مدرك مختصّ بها - في غاية الإشكال.

نعم لو قلنا بأنّ منع الحرّ عن استيفاء منافعه بواسطة منعه عن العمل ، أو بواسطة منعه عن استثمار أملاكه موجب للضمان مع عدم كونه مندرجا تحت قاعدة الإتلاف ، ولا تحت قاعدة الاحترام ، ولا تحت قاعدة على اليد ، كما هو المفروض ، فلا بدّ وأن نقول إنّ هناك قاعدة أخرى ، وهي قاعدة التفويت.

فضمان المنافع غير المستوفاة ، - بدون وقوعها تحت اليد ولو بتبع العين ، مدركه قاعدة التفويت ، ومدرك قاعدة التفويت - بعد الفراغ عن عدم كون المذكورات مدركا له - هو بناء العقلاء على ذلك ، مع عدم صدور ردع عن قبل الشارع ، وتقريبه : أنّ في أبواب الضمانات غالبا أمضى الشارع الطرق العرفيّة.

ولا شكّ في أنّ العرف والعقلاء يرون من حبس شخصا حرّا ومنعه عن الاشتغال باشغاله - خصوصا إذا كان إشغاله ذات فائدة كثيرة وقيمة كبيرة - ضامنا ، ويحكمون بتغريمه وأخذ ما خسره المحبوس عنه.

وهذا دليل قطعيّ على أنّ تفويت المنافع على شخص موجب للضمان ، وإن كانت تلك المنافع غير مستوفاة ، وحيث أنّ الشارع لم يردع عن هذه الطريقة العقلائيّة فعدم

ص: 184


1- راجع ج 2 ، ص 25.

الردع دليل على إمضائها.

ومنها : حيازة المباحات ، فإنّه لا فرق بين أن يكون من حاز بالغا أو غير بالغ في حصول الملكيّة له بالحيازة. ودليله على عموم الحكم قولهم : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (1) من دون مخصّص لهذا العموم.

ومنها : عموم حكم الشارع بتعلّق الدية بذمّة من أوجد سببها ، سواء أكان بالغا أو غير بالغ ، من دون مخصّص في البين.

ودليله الأخبار الكثيرة الواردة في موارد الديات ، كرواية أبي الصباح عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « من أضرّ بشي ء من طريق المسلمين فهو له ضامن » (2).

وكرواية السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حفر شيئا في طريق المسلمين ، فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن ». (3) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في أبواب الديات والجنايات.

ومعلوم أنّ الموصول عامّ يشمل غير البالغين كما يشمل البالغين ، ولا مخصّص في البين ، عدا ما توهّموه. وقد عرفت عدم صحّة ما ذكروه.

ومنها : عموم حصول ملكيّة كلّ من أحيا أرضا ميتة ، سواء أكان بالغا أو لم يكن.

ص: 185


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 291.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 155 ، ح 5346 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا. ، ح 6. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 905 ، (18) باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 180 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 8 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 8 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 154 ، ح 5343 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا. ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 908 ، (18) باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 182 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 11 ، ح 1.

والدليل عليه قوله علیه السلام : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (1).

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 186


1- تقدم راجع ص 158 ، هامش رقم (1).

43 - قاعدة الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد

اشارة

ص: 187

ص: 188

قاعدة الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة هي أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟ وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان الأقوال فيها

فنقول :

ذهب الشيخ (2) والقاضي (3) وابن سعيد 5 (4) وجماعة أخرى إلى عدم كونه مفسدا مطلقا. وذهب جمع من المحقّقين كالعلاّمة (5) والمحقّق الثاني (6) ، والشهيدين (7) وغيرهم قدس سرهم بل

ص: 189


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 241 ، « الحق المبين » ص 74 ، « عناوين الأصول » عنوان 50 ، « قواعد فقه » ص 68 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 9 و 39 ، « قواعد فقهيّة » ص 119 ، « سه قاعدة فقهي ( الشرط الفاسد ليس بمفسد. ) » سيد محمد موسوي بجنوردى ، فصليّة « حق » ، دفتر 11 و 1. العام 1366.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 148 - 149.
3- نقل قوله العلاّمة في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، ولم نعثر عليه في « المهذب » ولعلّه في « الكامل » من كتب القاضي « مخطوط ».
4- « الجامع للشرائع » ص 251.
5- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 152 ، « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، الفصل (18) في الشروط ، مسألة : 295.
6- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 415 و 431.
7- الشهيدين « اللمعة - الروضة البهية » ج 3 ، ص 505 ، خيار الاشتراط.

قيل جلّ المتأخّرين إلى أنّه مفسد مطلقا. وفصّل ابن زهرة (1) بين ما إذا كان سبب فساد الشرط كونه غير مقدور فقال بالإفساد ، وبين ما إذا كان سببه كونه مخالفا لمقتضى العقد ، أو كونه مخالفا للسنّة فقال بعدم الإفساد وادّعى الإجماع في كلا الموردين.

وهناك تفصيل آخر نسب إلى ابن المتوج البحراني (2) ، وهو الإفساد إن كان سبب فساد الشرط كونه غير عقلائي ، وإلاّ فلا.

والحقّ : هو القول الأوّل ، وسيأتي بيانه وبرهانه إن شاء اللّه تعالى.

[ الجهة ] الثانية

في أنّه بعد الفراغ من أنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به لفساده وبطلانه - والشارع لم يعتن بهذا الالتزام والإلزام - فهل يستحبّ الوفاء به ، من حيث أنّه وعد ابتدائي ، لا من حيث أنّه إلزام أو التزام في ضمن العقد اللازم ، كي تقول بأنّه من هذه الجهة فاسد وباطل ولم يمضه الشارع.

أقول : أمّا فيما إذا كان منشأ بطلان الشرط وفساده كونه ممّا أحلّ حراما ، فلا وجه لإتيان هذا الاحتمال ، وهذا واضح.

وأمّا فيما عداه ممّا ليس مخالفا للمشروع ، فقد أفاد شيخنا الأعظم قدس سره أنّه لا تأمّل فيه ، لكونه من الوفاء بالوعد الذي لا شبهة في حسنه عقلا واستحبابه شرعا (3).

واستشكل عليه شيخنا الأستاذ قدس سره بأنّ الوعد إخبار ، فلا ربط له بباب الشروط التي تكون من مقولة الإنشاءات ، لما قلنا إنّها إلزامات والتزامات في ضمن العقود اللازمة ، فلا يشملها دليل استحباب الوفاء بالوعد ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « من كان يؤمن باللّه

ص: 190


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 524 - 525.
2- حكى عنه الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 287.
3- « كتاب المكاسب » ص 287.

واليوم الآخر فليف إذا وعد » (1) وكقوله علیه السلام : « عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له ، فمن أخلف فيخلف اللّه بذا ولمقته تعرّض ، وذلك قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (2). (3)

ولا دليل لزوم الوفاء بالشرط ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » (4) لأنّ المراد من الشروط هي الشروط الصحيحة. ولكن يمكن أن يقال : إنّ الواعد أيضا نحو التزام بإيجاد أمر في المستقبل ، فيكون من قبيل الإنشاءات.

ولذلك يقال : إنّه وفي بوعده ، ولو كان صرف الإخبار عن أمر فيما سيأتي لما كان للوفاء به معنى.

وأمّا اتّصافه بالكذب والصدق في الكتاب العزيز في موارد كثيرة ، فلا دلالة فيه على أنّه ليس من الإنشاءات ، لأنّ الإنشاء لا يتّصف بالصدق والكذب.

وذلك من جهة أنّ الإنشاء وإن لم يتّصف بهما باعتبار نفس الإنشاء ، لأنّه لا حكاية في الإنشاء كي تكون مطابقة للمحكي أو غير مطابقة له ، ولكن ربما يتّصف بهما باعتبار قصد الحقيقي وعدمه بالنسبة إلى وقوع المنشأ وعدمه ، فيكون اتّصاف الوعد بهما من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف.

هذا ، مضافا إلى أنّ العمل بالالتزام بأمر لا شكّ في حسنه عقلا وشرعا وإن لم يكن ذلك الالتزام مشمولا لدليل وجوب الوفاء بالشروط ، إذا لم يكن ممّا ندب

ص: 191


1- « الكافي » ج 2 ، ص 270 ، باب خلف الوعد ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 515 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 109 ، ح 2.
2- الصف (61) : 2 و 3.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 270 ، باب خلف الوعد ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 515 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 109 ، ح 3.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب (31) في المهور والأجور. ، ح 66. « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب (142) من عقد على امرأة وشرط لها أن لا يتزوّج عليها ولا تيسر ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أحكام المهور ، باب 20 ، ح 4.

الشارع إلى تركه.

[ الجهة ] الثالثة : في تعيين ما هو محلّ النزاع ، وبيان مورد ما وقع فيه الخلاف

اشارة

فنقول :

الحقّ في مقام تحرير محلّ الخلاف هو أن يقال : كلّ شرط كان وجوده - أي الالتزام به أو إلزام الطرف به - موجبا لاختلال العقد أو العوضين أو غيرهما من أركان المعاملة ، فهو خارج عن محلّ النزاع ، ولا شكّ في أنّ مثل هذه الشروط فاسدة ومفسدة للعقد ، فلو باعه شيئا بشرط أن لا يملكه ، أو زوّجه بشرط عدم جميع الاستمتاعات منها ، فمثل هذا الشرط فاسد ومفسد يقينا ، لأنّه مناقض للعقد ، غاية الأمر أنّه في المثال الأوّل تكون المناقضة بين الالتزامين - أي بين الالتزام العقدي والشرطي - صريحة ، لأنّ مفاد الأوّل تمليك ، ومفاد الثاني نفي التمليك.

وفي المثال الثاني تكون بالدلالة الالتزامية ، لأنّ الزوجيّة المنشأة بالعقد وإن كانت غير جواز الاستمتاعات منها ، إلاّ أنّ جواز الاستمتاع منها بطور الموجبة الجزئيّة من لوازمها ، وإلاّ يكون اعتبارها لغوا وباطلا ، فمفاد الشرط يكون نفي الزوجيّة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم ، فيتناقضان.

وها هنا ربما يتوهّم أنّ التناقض يكون فيما إذا أمضى الشارع هذا الشرط ورتّب عليه الأثر ، فصحّة العقد - بمعنى ترتيب الأثر عليه - مع صحّة الشرط - أي ترتيب الأثر عليه - متناقضان ، ولا تناقض بين العقد وصرف وجود هذا الشرط ، فلو قلنا بفساد الشرط وعدم لزوم ترتيب الأثر عليه فلا تناقض في البين ، في كلا المثالين - أي لا صريحا ولا بالدلالة الالتزاميّة - لأنّ الشرط بناء على هذا يكون صرف لقلقة لسان ، ووجوده كعدمه.

ص: 192

ولكن أنت خبير بأنّ مثل هذا الكلام متناقض من حيث المتفاهم العرفي ، سواء أمضى الشارع مثل هذا الشرط أو لم يمضه ، ولا يصحّ إنشاء النقل والانتقال أو الزوجيّة بمثل هذا الكلام المتناقض الذي ليس له مفهوم عرفي صحيح.

نعم هذا الإشكال يأتي - وله مجال - فيما إذا لم يكن الشرط بوجوده موجبا لاختلال العقد أو أحد أركانه ، بل يكون موجبا للاختلال على تقدير صحّته وإمضائه من قبل الشارع ، كما إذا باع العنب بشرط أن يعمله خمرا ، أو الخشب على أن يعمله صليبا أو صنما ، فحصر المنفعة في هذه المنفعة المحرّمة موجب لسقوط ماليّته وبطلان البيع وفساده لذلك ، لصيرورة المبيع بلا منفعة بناء على هذا ، فيخرج عن الماليّة ويختلّ أحد أركان العقد وهو ماليّة أحد العوضين ، ولكن هذا الخروج عن الماليّة حيث أنّه ليس خروجا تكوينيّا ، بل يكون خروجا تشريعيا ، فيحتاج إلى إمضاء الشارع لهذا الشرط ، وإلاّ فبصرف وجوده لا يوجب سقوط الماليّة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حصر المالك منفعة المبيع في هذا المحرّم موجب لسلب سائر المنافع عن ذلك المال ، سواء أكان هذا الشرط صحيحا أم لا ، فلا يبقى للمشتري إلاّ هذه المنفعة وهي محرّمة ، سواء أكان الشرط صحيحا أم فاسدا ، فيكون الشرط من ذلك القسم الذي بوجوده يوجب الاختلال ، لا باعتباره وإمضائه من طرف الشارع.

إذا تدبّرت فيما ذكرنا تعرف أنّ بعض التفاصيل في هذه القاعدة ليس قولا بالتفصيل ، بل خارج عمّا هو محلّ الخلاف.

وذلك كما إذا كان فساد الشرط موجبا لعدم القدرة على تسليم المبيع مثلا ، أو صيرورة البيع غرريّا ، أو التناقض بين مفاد الشرط ومفاد العقد ، فهذه الصور وأمثالها خارجة عن محلّ الكلام.

وحاصل الكلام : أنّ النزاع في هذه القاعدة - وأنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه أم لا - يكون فيما إذا كان وجه كونه مفسدا

ص: 193

تقييد المعاملة ، أو إناطة الرضا بالنقل والانتقال ، أو بأيّ شي ء كان مضمون العقد ومفاده بذلك الشرط؟ فيقال : إنّ الشرط إذا كان فاسدا ولا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز فيما إذا كان محرّما ، فهل ذلك العقد وتلك المعاملة تكون فاسدة - من جهة عدم الرضا بمضمونها ، أو من جهة انتفاء المقيّد بانتفاء قيده - أم لا ، إذ لا يلزم محذور؟

وأمّا لو كان الشرط سببا لاختلال أحد أركان العقد - أو أحد شرائط العوضين أو المتعاملين ، فهذا لا ربط له بهذه القاعدة.

إذا عرفت هذه الأمور ، فنقول :

الدليل على القول المختار - وهو عدم الإفساد مطلقا - من وجوه :

الأوّل : إطلاقات أدلّة المعاملات والعقود ، كقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وغيره من العمومات والإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات ، ولا يجوز الخروج عنها إلاّ بمخصّص أو مقيّد ، وليس في البين ما يكون صالحا لأن يكون مخصّصا ، أو يكون مقيّدا عدا ما توهّم من إناطة الرضا في العقد المشروط بذلك الشرط المذكور فيه ، ومن بعض الروايات التي ذكروها في مقام إثبات الإفساد ، (2) ومن أنّ للشرط قسطا من الثمن ، فإذا كان الشرط فاسدا يكون العوض في العقد مجهولا ، لأنّه لا يعلم أيّ مقدار منه بإزاء نفس المبيع مثلا ، وأيّ مقدار بإزاء الشرط.

وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى عن هذه الأمور الثلاثة مفصّلا في مقام الجواب عن أدلّة القول بالإفساد.

الثاني : الإجماع الذي ادّعاه السيّد أبو المكارم ابن زهرة (3) قدس سره ولكن فيه على فرض تسليم وجوده لا وجه لحجّيته مع وجود المدارك التي ذكرناها من العمومات

ص: 194


1- المائدة (5) : 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 59 ، ح 253 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 409 ، أبواب أحكام العقود ، باب 35 ، ح 1.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 524.

والإطلاقات ، وما سنذكرها من الروايات.

الثالث : الأخبار :

منها : النبويّ المشهور بين الفريقين المرويّة في كتب العامّة والخاصّة في قصة بريرة التي اشتراها أمّ المؤمنين عائشة ، وهو ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي عن الصادق علیه السلام أنّه ذكر أنّ بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة. فاشترتها عائشة فأعتقتها ، فخيّرها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « إن شاءت قعدت عند زوجها وإن شاءت فارقته » ، وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أنّ لهم ولاؤها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « الولاء لمن أعتق » (1).

ودلالة هذا الحديث الشريف المشهور بيننا وبين الجمهور على عدم إفساد الشرط الفاسد للعقد ممّا لا ريب فيه وواضحة جدّا ، وذلك لحكمه صلی اللّه علیه و آله بفساد الشرط وصحّة العقد جميعا.

أمّا حكمه صلی اللّه علیه و آله بفساد الشرط وأنّه خلاف السنّة فلقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّ شرط اللّه قبل شرطكم » (2) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « الولاء لمن أعتق ».

وأمّا حكمه بصحة العقد المشتمل على هذا الشرط الفاسد ، فلقوله صلی اللّه علیه و آله : « إن شاءت قعدت عند زوجها ، وإن شاءت فارقتها » فإنّ تخييرها بين العقود عند زوجها وبين مفارقتها له موقوف على صحّة عتقها ، وهي موقوفة على صحّة بيعها كي يكون

ص: 195


1- « الكافي » ج 6 ، ص 198 ، باب الولاء لمن أعتق ، ح 4 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 134 ، ح 3497 ، باب ولاء المعتق ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 250 ، ح 907 ، باب العتق وأحكامه ، ح 140 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 47 ، أبواب العتق ، باب 37 ، ح 2 ، « صحيح البخاري » ج 7 ، ص 62 ، باب 16 ، « سنن الترمذي » ج 4 ، ص 436 ، ح 2124 ، باب ما جاء في الرجل يتصدّق أو يعتق عند الموت ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 671 ، ح 2076 ، باب خيار الأمة إذا أعتقت.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 370 ، ح 1500 ، باب المهور والأجور... ، ح 63. « الاستبصار » ج 3 ، ص 231 ، ح 832 ، باب من عقد على امرأة وشرط لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 46 ، أبواب المهور ، باب 38 ، ح 1.

العتق في ملك المعتق ، وإلاّ فلا يصحّ العتق ، فلا يكون لها التخيير.

ومنها : مرسلة جميل وصحيحة الحلبي :

فالأوّل : عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما في رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيع ولا يهب؟ قال : « يفي بذلك إذا شرط لهم ». وفي طريق آخر زاد « إلاّ الميراث » (1).

والثاني : عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا تورث ولا توهب؟ فقال : « يجوز ذلك غير الميراث ، فإنّها تورث ، وكلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو ردّ » (2).

وظاهر هذه الصحيحة والمرسلة هو أنّ البائع لو شرط على الذي اشترى جاريته أن لا يبيعها ولا يوهبها ولا تورث ، فيجب على المشتري أن يفي بالشرطين - أي عدم بيعها وعدم هبتها - وشرط عدم الإرث لا ينفذ ، لأنّه خلاف كتاب اللّه تعالى ، فهو مردود.

ومعلوم أنّ وجوب الوفاء بذينك الشرطين موقوف على صحّة البيع الذي وقعا في ضمنه ، مع أنّ ذلك البيع مشروط بشرط فاسد ، أي : شرط أنّها لا تورث ، لأنّه خلاف الكتاب. فهذه الرواية تدلّ على أنّ الشرط الفاسد لا يكون مفسدا للعقد.

ولكن يشكل الاستدلال بهذه الرواية على عدم كون الشرط الفاسد مفسدا بأنّه مبنيّ على صحّة اشتراط بيع الجارية بعدم بيعها وعدم هبتها كي يكون الوفاء بهما واجب ، والمشهور يقولون بفساد هذين الشرطين وأنّهما خلاف السنة ، فلا يجب الوفاء بهما ، فتكون الرواية قد أعرض عنها المشهور ، بل ربما ادّعى الإجماع على خلافه ، إذ

ص: 196


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 373 ، ح 1509 ، باب المهور والأجور. ، ح 72. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 44 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 212 ، باب شراء الرقيق ، ح 17 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 67 ، ح 289 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 43 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 1.

حكى عن كاشف الرموز أنّه قال : لم أجد عاملا بهذه الرواية (1).

وأجاب شيخنا الأعظم قدس سره عن هذا الإشكال بحمل الأمر بالوفاء بالشرطين على الاستحباب (2) ، إذ المشهور لا ينكرون استحباب الوفاء ، بل يقولون بعدم وجوب الوفاء بالشرطين ، لعدم صحّتهما ، ولا ينافي عدم صحّة الشرط مع استحباب الوفاء به ، كما نبّهنا عليه في صدر القاعدة.

ولكن أنت خبير بأنّ ظاهر الرواية هو وجوب الوفاء بالشرطين ، وقلنا في الأصول إنّ الجملة الخبريّة إذا وقعت موقع الطلب تكون آكد في الوجوب من صيغة « افعل » فالرواية بظاهرها أعرض عنها الأصحاب ، فلا تكون صالحة للاستدلال بها على المطلوب ، وهو عدم كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد.

ومنها : رواية عبد الملك بن عتبة قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن الرجل ابتاع منه طعاما ، أو ابتاع منه متاعا على أن ليس منه على وضيعة هل يستقيم هذا؟

وكيف يستقيم وجه ذلك؟ قال علیه السلام : « لا ينبغي ». وفي بعض النسخ : وما حدّ ذلك؟ قال علیه السلام : « لا ينبغي » (3).

وظاهر هذه الرواية أنّ المشتري لو شرط أن تكون الوضيعة عن الثمن الذي اشترى به لو باع يكون على البائع الأوّل ، بمعنى : أنّه لو خسر المشتري في بيعه هذا المتاع لغيره تكون الخسارة على البائع الذي اشتراه منه ، لا على نفسه ، وهذا شرط فاسد ، لأنّه خلاف الكتاب والسنّة ، ومع ذلك لم يحكم الإمام علیه السلام بفساد البيع الأوّل ، بل قال : « لا ينبغي » وفيه احتمالان :

أحدهما : أنّه لا ينبغي أن يشرط على البائع مثل هذا الشرط ، فيكون نفس

ص: 197


1- « كشف الرموز » ج 1 ، ص 475.
2- « كتاب المكاسب » ص 281.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 59 ، ح 253 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 409 ، أبواب أحكام العقود ، باب 35 ، ح 1.

الاشتراط مكروها. ومعلوم أنّ هذا فيما إذا كان أصل المعاملة صحيحة ، وإلاّ فلا معنى لكراهة هذا الشرط.

ثانيهما : أنّ مثل هذه المعاملة لا ينبغي وقوعها وصدورها منهما. وهذا أيضا لا يدلّ على فساد هذه المعاملة ، بل معنى كراهيّتها أنّها تقع ولكن مع كونها مكروهة وفيها حزازة ، كما في سائر المعاملات المكروهة كالحياكة وبيع الأكفان وغيرهما ، فهذه الرواية أيضا تدلّ على القول المختار ، وهو عدم إفساد الشرط الفاسد للعقد الواقع هذا الشرط في ضمنه.

وأمّا احتمال أن يكون هذا الشرط في خارج العقد - فتكون الرواية أجنبيّة عن محلّ الكلام ، لأنّ محلّ كلامنا هو الشرط الفاسد الواقع في ضمن العقد ، لا الواقع في خارجه - فخلاف ظاهرها ، لأنّ الظاهر من قوله : « على أنّه ليس منه على وضيعة » أنّه - أي الظرف - متعلّق بابتاع ، فيكون المعنى أنّ الابتياع مبنيّ على هذا الشرط ، فلا وجه لاحتمال أن يكون هذا الشرط في خارج العقد.

هذا ، مضافا إلى أنّه لا وجه لكراهة مثل هذا الشرط في خارج العقد ، بل يكون وعدا ابتدائيّا يستحبّ الوفاء به.

وأمّا احتمال أن يكون « لا ينبغي » للإرشاد إلى عدم وقوع هذه المعاملة المشروطة بمثل هذا الشرط ، فبعيد إلى أقصى الغاية.

نعم يمكن أن يكون إرشادا إلى عدم صحّة هذا الشرط ، فيكون مفاده لغويّة هذا الاشتراط. ولكنّه أيضا خلاف الظاهر ، بل ظاهره هو أنّ المعاملة المشتملة على هذا الشرط مكروهة كسائر المعاملات المكروهة ، فلا قصور في دلالة هذه الرواية على المطلوب.

ومنها : رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قضى في رجل تزوّج امرأة وأصدقته هي واشترطت عليه أنّ بيدها الجماع والطلاق قال علیه السلام : « خالفت السنّة

ص: 198

وولّيت حقّا ليس بأهله ، فقضى أنّ عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق ، وذلك السنّة » (1).

وهذه الرواية صريحة في فساد الشرط وبطلانه ، وصحة العقد.

والإشكال في سنده من جهة اشتراك محمّد بن قيس بين من هو ثقة ومن هو ضعيف ، لا وجه له بعد عمل الأصحاب بها ، وبعد أن ذكرها المشايخ الثلاثة في كتبهم.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة صحيحة - في كتاب النكاح في أبواب المهور - صريحة في صحّة عقد النكاح وبطلان الشروط الواقعة في ضمنه.

وذلك كما إذا شرط في ضمن عقد النكاح لزوجته إن تزوّج عليها ، أو تسرى ، أو هجرها فهي طالق ، أو شرط عليها الإتيان وقتا خاصّا ، أو شرط ترك القسم وأمثال ذلك.

وأمّا التفصيل بين عقد النكاح وسائر العقود بعدم الإفساد في الأوّل والإفساد في سائر العقود لأجل هذه الأخبار ، فكان من الممكن لو كان مدرك الإفساد وعدمه هو الأخبار ، فيقال : إنّ الأخبار الواردة في هذا الباب مختلفة من حيث المفاد ، فالواردة منها في باب النكاح مفادها فساد الشرط وصحّة العقد. وأمّا الواردة في غيره فمفادها فساد الشرط والعقد جميعا. وربما ينسب هذا التفصيل إلى صاحب المدارك قدس سره (2) وقبله إلى العلاّمة قدس سره . (3)

ولكن أنت خبير بأنّ عمدة مدرك القائلين بالإفساد ونظرهم إلى إناطة الرضا بمضمون العقد بوجود الشرط ، ففي مورد الشرط الفاسد الذي لا يجب العمل به - بل

ص: 199


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 425 ، ح 4475 ، باب ما أحل اللّه عزّ وجلّ من النكاح وما حرّم منه ، ح 60 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 369 ، ح 1497 ، باب المهور والأجور وما ينعقد من النكاح من ذلك وما لا ينعقد ، ح 60 ، وفيه : قضى عليّ علیه السلام . ، « وسائل الشيعة » ج 15. ص 41 ، أبواب المهور ، باب 29 ، ح 1.
2- صاحب المدارك في « نهاية المرام » ج 1 ، ص 420.
3- العلاّمة في « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 152.

لا يجوز إن كان حراما - لا رضاء في البين ، وفي هذا المعنى لا فرق بين النكاح وسائر العقود.

فقد ظهر ممّا ذكرنا قيام الدليل على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد من الروايات.

الرابع : من أدلّة القائلين بعدم الإفساد وصحة العقد مع فساد الشرط هو أنّه لو كان صحّة العقد متوقّفة على صحّة الشرط يلزم منه الدور.

وفيه : أنّ صحّة العقد ليست متوقّفة على صحّة الشرط ، لأنّ العقد صحيح وإن لم يكن فيه شرط أصلا.

نعم العقد الذي وقع في ضمنه شرط صحّته موقوفة على أن لا يكون ذلك الشرط فاسدا ، وعدم كون الشرط المذكور في ضمن العقد فاسدا ليس متوقّفا على صحّة العقد ، كي يكون دورا ، بل موقوف على عدم علّته - أي عدم جعل الشرط الفاسد في ضمن ذلك العقد - فلا دور ، لأنّه من الممكن أن يكون الشرط الفاسد مفسدا بدون أن يكون دور في البين ، والأمر واضح جدّا ، فلا يحتاج إلى تطويل الكلام.

وإن شئت قلت : ليست صحّة الشرط من مقدّمات وجود العقد الصحيح ، إذ من الممكن وجود العقد الصحيح بدون أن يكون شرط في ضمنه ، لا الشرط الصحيح ولا الشرط الفاسد ، نعم الشرط الفاسد مانع عن صحّة العقد ، فيسري فساده إلى العقد ، فيكون وجود العقد الصحيح موقوفا على عدم وجود الشرط الفاسد في ضمنه ، توقّف وجود الشي ء على عدم مانعه.

ولكن عدم وجود الشرط الفاسد ليس موقوفا على صحّة العقد كي يكون دورا ، بل موقوف على عدم علّته ، أي عدم اشتراط مثل ذلك الشرط.

وبعد ما عرفت أنّ الشرط الفاسد لا يوجب فساد العقد ، فهل يوجب الخيار أم لا؟

ص: 200

الظاهر هو الأوّل ، وذلك من جهة أنّ المناط الذي أوجب الخيار في تخلّف الشرط الصحيح أو تعذّره موجود ها هنا ، بناء على ما حقّقنا في وجه ثبوت الخيار عند تعذّر الشرط أو عدم العمل على طبقه وعدم الوفاء به ، لا بناء على ما استند إليه شيخنا الأعظم قدس سره من الإجماع أو قاعدة الضرر في الشروط الصحيحة (1).

وذلك من جهة أنّ المناط في مجي ء الخيار عند التخلّف في الشروط الصحيحة هو أنّ دليل اللزوم لا يشمل مورد تخلّف الشرط أو تعذّره ، أو عدم الوفاء به ، لأنّ مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) الذي هو عمدة أدلّة لزوم العقود هو وجوب الوفاء بما التزم به والثبوت عند تعهّده ، فإذا لم يكن له التزام لا يبقى موضوع لوجوب الوفاء به ، فالعقد إن لم يكن شرط في ضمنه عبارة عن تعهّده والتزامه بما هو مضمون العقد ، فبمقتضى مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يجب عليه الوفاء بالتزامه بمضمون ذلك العقد والثبوت عنده وإبرامه ، وليس له حلّه وفسخه.

وأمّا إن كان مشروطا بشرط ، سواء أكان ذلك الشرط صحيحا أم فاسدا ، فالتزامه بمضمون ذلك العقد ليس مطلقا ، بل منوط بالعمل على طبق ذلك الشرط ووجوده في وعائه ، فإن تخلّف أو تعذّر ليس له التزام بالوفاء بذلك العقد في ظرف عدم وجود ذلك الشرط ، فموضوع وجوب الوفاء ودليل اللزوم يذهب من البين. وهذا هو المراد من عدم شمول دليل اللزوم لمورد تخلّف الشرط أو تعذّره.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مناط ثبوت الخيار في باب الشروط الصحيحة هو إناطة الالتزام بالوفاء بمضمون العقد بوجود ما اشترط ، فإذا تعذّر أو تخلّف المشروط عليه عن الوفاء به لا التزام من طرف المشروط له ، وعدم الوفاء قد يكون من جهة تعذّره عقلا وقد يكون من جهة فساده شرعا ، والممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

ص: 201


1- « كتاب المكاسب » ص 285.
2- المائدة (5) : 1.

وخلاصة الكلام : أنّ العقد المشروط بالشرط الفاسد إن لم يوجب ذلك الشرط اختلالا في أركان العقد يكون صحيحا ، غاية الأمر مع ثبوت الخيار. هذا هو القول الأوّل ، أي القول بعدم الإفساد.

وأمّا القول الآخر - أي القول بالإفساد - فاستدلّوا له بوجوه :

الأوّل : أنّ فساد الشرط يوجب سقوطه عن الاعتبار ، ولا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان حراما ، المشهور أنّ له قسطا من الثمن ، فبعد سقوطه يكون عوض المثمن مجهولا ، ولا يعلم أنّه أيّ مقدار من الثمن بإزاء المثمن ، فإذا صار عوض المثمن مجهولا تكون المعاملة باطلة ، لأنّه من شرائط صحّة المعاملة معلوميّة العوضين ، وإلاّ تكون غرريّة باطلة.

وفيه أوّلا : منع وقوع شي ء من الثمن بإزاء الشرط ، بل المبادلة والمعاوضة تقع بين الثمن ونفس المثمن في البيع مثلا. نعم الشرط أو الوصف يوجبان ازدياد ماليّة المثمن في البيع - مثلا - بدون أن يقسط عليهما وعلى المبيع مثلا ، وهذا أمر وجدانيّ ارتكازيّ للعرف والعقلاء في معاملاتهم في أسواقهم ، فيصفون سلعتهم بأوصاف مرغبة ، وربما يذكرون تلك الأوصاف بصورة الشرط لجلب المشتري ورغبته ، ولكن المبادلة تقع بين نفس المثمن وذلك العوض ، وليس الوصف والشرط مثل الجزء كي يقع شي ء من الثمن في مقابلهما.

نعم إجزاء المبيع كلّ واحد منها يقع مقابل جزء من الثمن ، خصوصا إذا كان متساوي الأجزاء من حيث القيمة كالحنطة والشعير ، وهذا مناط المثليّة في باب تعيين المثلي والقيمي ، ولكن الشرط أو الوصف ليسا كذلك ، ولا يوجبان إلاّ ازدياد قيمة نفس العوض.

نعم بعض الشروط ربما يكون كذلك ، أي له قسط من الثمن عند العرف والعقلاء ،

ص: 202

كما إذا كان الشرط عملا يبذل بإذائه المال ، كخياطة ثوبه مثلا ، أو عمارة داره وأمثال ذلك ، ولكن عند التدقيق أيضا لم يقع شي ء من الثمن في مقابله في مقام الإنشاء ، وإن كان في مقام اللبّ للمشروط له نظر إلى ذلك الشرط في مقام تعيين الثمن قلّة وكثرة.

ولكن في مقام إنشاء المبادلة والمعاوضة لم تنشأ المبادلة إلاّ بين نفس العوضين ، والشروط خارجة عن دائرة المبادلة ، ففي عالم الإنشاء عوض تمام الثمن - مثلا - هو تمام المبيع ، وإن كان في مقام اللبّ يبذل مقدارا من الثمن بإزاء الشرط ، ولكن لا اعتبار في باب المعاوضات بأنظار المتعاملين ، بل المدار على إنشائهما ، وهو المتّبع.

نعم حيث أنّ التزامه بهذه المبادلة - أي بذله تمام الثمن بإزاء المبيع - كان منوطا بوجود ذلك الشرط ، فلو لم يوجد بأيّ سبب كان لا التزام له ، فلا لزوم ويكون له الخيار ، ولذلك قلنا في باب تخلّف الشروط الصحيحة ليس له أخذ الأرش ، بل له الخيار فقط.

وثانيا : على فرض تسليم وقوع مقدار من الثمن مقابل الشرط وبإزائه مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان الشرط ممّا يبذل بإزائه المال مستقلا بتعذّره أو عدم وفاء المشروط عليه بما التزم ، لا يصير العوض مجهولا ، إذ العرف وأهل الخبرة يعيّنون مقدار المقابل للشرط وما هو بإزاء أصل المبيع مثلا ، فلا يبقى جهالة في البين.

وهذا الإشكال يأتي في الشروط الصحيحة إذا تعذّرت أو لم يف المشروط بها ، وأيضا يأتي في باب تبعّض الصفقة ، فيلزم القول ببطلان المعاملة في الجميع ، ونفس المستشكل لا يقول به هناك.

والجواب في الجميع واحد ، وهو أوّلا : عدم وقوع شي ء من الثمن بإزاء الشرط. وثانيا على تقدير وقوعه - كما أنّه يقع قطعا مقدار منه مقابل الجزء الذي لا يملك أو الذي لا يملكه ، كما في باب تبعّض الصفقة - فبتعيين أهل الخبرة ترتفع الجهالة ، ومثل هذه الجهالة لا تكون غررا ، ولا تضرّ بصحّة المعاملة ، ولذلك لم يقولوا ببطلان المعاملة

ص: 203

في باب تبعّض الصفقة مع وقوع مقدار من الثمن بإزاء الجزء الفائت قطعا.

الثاني : أنّ رضاء المشروط له بهذا العقد والمعاملة منوط بوجود هذا الشرط ووفاء المشروط عليه به ، وأمّا إذا لم يكن الوفاء لازما وواجبا - بل لم يكن جائزا فيما إذا كان الفساد لحرمته - فلا رضاء له ، ومن المعلوم أنّ المعاوضة والتجارة بدون الرضاء لا أثر لها ، بل الرضاء بمضمون العقد لازم في تأثيره ، ولو كان في غير باب المعاوضات كالنكاح.

وأجيب عنه حلاّ ونقضا :

أمّا النقض : فبالشروط الفاسدة في عقد النكاح ، فإنّه قد استفاضت الأخبار والروايات الصحيحة على فساد الشرط وصحّة العقد (1) ، وقد ذكرنا جملة من تلك الأخبار وتقدّمت ، ولا فرق فيما ذكرنا بين الشروط الفاسدة الراجعة إلى المهر ، أو إلى نفس مضمون العقد وحصول علاقة الزوجيّة.

وذلك من جهة أنّه كما لا تحصل المبادلة والمعاوضة بينهما بدون رضاء الطرفين ، كذلك لا تحصل علاقة الزوجيّة بينهما بدون رضائهما.

نعم هناك بعض الشروط في باب النكاح يوجب فساد العقد وبطلانه ، كما إذا شرطت الزوجة عدم جميع الاستمتاعات ، فكون هذا الشرط وأمثاله موجبا لبطلان النكاح ليس لخصوصيّة في النكاح ، بل لأجل الاختلال في أركان العقد ، أو التناقض بين مفاد الشرط ومفاد العقد ولو بالالتزام ، كما في المثال المذكور.

وهذا يجري في جميع العقود ، فما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في هذا المقام من أنّ المراد بالشروط الفاسدة في مورد النقض هي الشروط الراجعة إلى المهر لا إلى أصل عقد النكاح ، لا يخلو عن إشكال ، لما ذكرنا من ورود الأخبار الكثيرة في فساد بعض الشروط الراجعة إلى أصل النكاح ، مع صحّة أصل ذلك العقد.

ص: 204


1- تقدم راجع ص 195 - 199.

وأيضا النقض بصورة تعذّر الشرط ، أو عدم وفاء المشروط عليه وعدم إمكان إجباره ، وكذلك بصورة تخلّف الوصف ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان وفساد العقد في تلك الموارد.

نعم يقولون بالخيار للمشروط له ، وفي تخلّف الوصف أيضا ، كما أنّنا نقول ها هنا أيضا ، وكذلك النقض بصورة تبعّض الصفقة ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان ، مع أنّ هذا الإشكال - أي إناطة الرضا بوجود الشرط - هناك أقوى ، من جهة أنّه في باب الشروط غالبا الغرض الأصلي يتعلّق بمبادلة نفس العوضين ، أو حصول علاقة الزوجيّة بين الطرفين ، والشروط الواقعة في ضمن تلك العقود مقاصد فرعيّة ، بخلاف باب تبعّض الصفقة ، فإنّ المقصود الأصلي الأوّلي هو وقوع المبادلة بين تمام كلّ واحد من العوضين مع تمام العوض الآخر ، فأمر إناطة الرضاء بمجموع كلّ واحد من العوضين أهمّ من إناطة الرضا بمضمون العقد بوجود الشرط ، فكلّ ما يجيبون عن هذا الإشكال في تلك الموارد ، فليكن الجواب في هذا المقام.

وأمّا الحلّ : فقد ذكرنا في مسألة تعذّر الشرط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب (1) ، ولا بأس بالإشارة إليه ها هنا أيضا إجمالا.

فنقول : إنّ المبادلة والمعاوضة وقعت بين العوضين مع التراضي ، أي بدون إكراه ولا إجبار ، والمراد في باب المعاوضة والتجارة من التراضي هو هذا المعنى ، لا طيب النفس ، وإلاّ لو كان المراد من التراضي هو هذا المعنى الأخير ، فلا بدّ وأن يقال ببطلان بيع المضطرّ إلى البيع لغرض عقلائيّ مع كمال كراهته لهذا البيع. مثلا لو اضطرّ إلى بيع داره التي يسكنها لأجل أداء دينه ، أو لأجل حاجة أخرى ، فهو غير راض بهذا البيع ، بل ربما يبكي ويبيع لأجل تلك الضرورة ، حيث لا حيلة له في رفع حاجته إلاّ بهذا

ص: 205


1- راجع ، ج 3 ، ص 304.

الأمر ، مع أنّ صحّة بيع المضطرّ لرفع حاجته من المسلّمات.

فمن هذا يستكشف أنّ التراضي المعتبر في أبواب المعاملات والتجارات هو الاختيار المقابل للإكراه والإجبار ، بمعنى أنّه ليس هناك من يكرهه أو يجبره على المعاملة. وكذلك في باب النكاح المراد من رضاء الطرفين ليس طيب نفسيهما ، بل ربما يكون العقد الواقع بينهما لدواع أخر ، من إرضاء أبويهما ، أو شي ء آخر مع كمال كراهتهما ، أو كراهة أحدهما.

فإذا كان الأمر كذلك ، ففي مورد تخلّف الشرط أو الوصف تارة يكون الشرط المتخلّف أو وصفه من قبيل العنوان للموصوف والمشروط به ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط يكون من قبيل الصورة النوعيّة للموصوف والمشروط به ولو عند العرف ، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة ليسا كذلك ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط ليسا إلاّ من قبيل الأعراض الضمنيّة للحقيقة النوعيّة المشتركة بين واجد الوصف أو الشرط ، وبين فاقدهما.

وذلك كالجارية الموصوفة أو المشروطة بكونها روميّة ، وهي حبشيّة ، فالجارية الروميّة والحبشيّة وإن كانتا بحسب الحقيقة النوعيّة واحدة ، ولكن عند العرف في مقام المعاملة حقيقتان مختلفتان.

وأخرى : ليسا كذلك ، بل يكون من العوارض والطواري التي لا توجب اختلاف حقيقة الواجد والفاقد حتّى عند العرف.

فإن كان من قبيل الأوّل ، فالمعاملة باطلة قطعا ، لأنّه لم يقع التراضي المعاملي - أي إنشاء النقل والانتقال - على هذا الفاقد للوصف أو الشرط ، وذلك لما قلنا من أنّ المبيع الموجود في هذه الصورة - مثلا - غير ما وقع عليه النقل والانتقال حقيقة ، فما أنشأ نقله ليس بموجود ، بل الموجود حقيقة أخرى ، ولو عند العرف الذي نظرهم هو المتّبع في أبواب المعاملات ، وما هو الموجود لم يقع عليه نقل وإنشاء.

ص: 206

وأمّا إن كان من قبيل الثاني ، فإنشاء النقل والانتقال وقع على هذا الموجود بلا إكراه ولا إجبار ، فهذه المعاملة وقعت عن تراض معاملي ، ولا وجه لبطلانها.

نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة منوط بوجود ذلك الوصف أو الشرط ، فعند تخلّفهما لا التزام له ، فلا يشملها دليل اللزوم.

وأمّا الجواب عن هذا الإشكال بتعدّد المطلوب ، بأن يقال : إنّ كون طرف المبادلة هو الواجد للوصف أو الواجد للشرط هو مطلوب أوّلي ، وكون الفاقد لهما طرفا للمعاملة مطلوب آخر ، غاية الأمر أنّه مطلوب ثانوي ، بمعنى أنّه على تقدير فقد الوصف أو الشرط أيضا مطلوب ، لكن في طول الأوّل ، لا في عرضه.

فبناء على هذا ، العقد ينحلّ إلى عقدين ، وكلاهما صادران عن تراض بينهما ، حتّى ولو كان المراد من التراضي هو طيب النفس ، أي الحالة النفسانيّة التي يعبّر عنها بالرضاء الباطني ، فكأنّه في الدرجة الأولى يكون المشروط له رضاءه بهذه المعاملة مع وجود الشرط وعدم تخلّفه ، وكذلك الأمر في الوصف. وفي الدرجة الثانية يكون أيضا راضيا حتّى مع فقد الوصف أو الشرط.

وقد أفاد هذا المجيب أنّ المشخّص لذلك - أي أنّه من قبيل وحدة المطلوب كي تكون المعاملة فاسدة مع فقدهما ، أو من قبيل تعدّد المطلوب كي تكون صحيحة - هو العرف ، ثمَّ قال : هذا باب مطرد في العبادات والمعاملات والأوقاف والنذور ، ثمَّ استظهر اتّفاقهم على أنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود من قبيل تعدّد المطلوب ، لأنّهم اتّفقوا على أنّ الشرط الخارج عن غرض العقلاء فاسد ، ولا يوجب فساده فساد العقد.

وهذا الجواب أفاده بعض الأجلّة من تلاميذ شيخنا الأعظم قدس سره .

وفي هذا الجواب نظر من وجوه عديدة :

الأوّل : أنّ العرف لا طريق لهم إلى تشخيص وحدة المطلوب أو تعدّده ، لاختلاف الناس بحسب الأغراض والموارد ، فربّ شخص يريد مبادلة ماله بمال آخر مشروطا

ص: 207

بأمر ، وفي صورة عدم وجود ذلك الشرط لا يريد المبادلة أصلا ، وشخص آخر يريد مع وجود ذلك الشرط وعدمه ، غاية الأمر مع وجود الشرط مطلوب أوّلي ، وفي صورة عدمه مطلوب ثانويّ.

وكذلك الاختلاف بحسب الموارد ، حتّى بالنسبة إلى شخص واحد ، فذلك الشخص الواحد في مورد تكون مبادلته بالنسبة إلى ذلك الشرط من قبيل تعدّد المطلوب ، وفي مورد آخر تكون بنحو وحدة المطلوب ، فلا يمكن تعيين ضابط كلّي لتشخيص أنّ المعاملة المشروطة بشرط هل تكون بنحو وحدة المطلوب بالنسبة إلى ذلك الشرط ، كي يكون تخلّف ذلك الشرط موجبا لفسادها ، أو بنحو تعدّد المطلوب كي لا يكون موجبا لفسادها.

الثاني : أنّ الأغراض والدواعي في أبواب المعاملات والعقود ما لم تدخل في مرحلة الإنشاء ، لا يترتّب عليها أثر من الصحّة والفساد ، بل المدار فيهما على الإنشاء.

نعم الإنشاء بلا قصد أيضا لا أثر له ، بل يكون صرف لقلقة لسان ، فصرف أنّ مطلوبه واحد أو متعدّد لا أثر له ما لم يقع على طبقه الإنشاء.

فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ العقد المنشأ ، فإن كان المنشأ مقيّدا بالوصف أو الشرط ، فالنقل والانتقال تعلّق بالمقيّد ، فمطلوبيّة نقل الذات بلا قيد لا أثر له ، لأنّه لم يقع تحت الإنشاء.

فالعمدة في موارد تخلّف الوصف والشرط علاج هذا الإشكال ، وهو لا يرتفع بتعدّد المطلوب ، لما قلنا من أنّه لا أثر للمطلوبيّة ما لم يقع ذلك المطلوب تحت الإنشاء ، والتراضي أيضا لا بدّ وأن يكون بما أنشأ. وإلاّ فصرف الرضاء بالمبادلة بدون الإنشاء ليس تجارة.

فالعقد المتعلّق بعوض موصوف كما أنّه إذا قال : بعتك هذا العبد الكاتب ، أو المشروط كما إذا قال في نفس المثال : بشرط أن يكون كاتبا ، تعلّق بالمقيّد ، وتحقّق

ص: 208

الرضاء المعاملي أيضا به ، فلو كان هناك له رضاء آخر في الرتبة الثانية بفاقد القيد أيضا ، لا يصير بصرف هذا الرضاء الباطني - الذي لم يقع تحت الإنشاء - تجارة ومعاملة من بيع أو غيره ، ولا يمكن أن يقال بالنسبة إلى فاقد القيد : أنّه بيع صحيح بواسطة تعدّد المطلوب.

ولا يمكن الجواب عن هذا الإشكال إلاّ بما قلنا ، من أنّ إنشاء المبادلة والمعاوضة تعلّق بنفس هذه العين الخارجيّة ، والتزام الطرف بالشرط أمر آخر غير مربوط بنقل هذه العين ، بل هو التزام آخر في ضمن التزامه بهذا النقل ، فالتزامه بنقل هذه العين منوط بالتزام الطرف بالشرط أو الوصف ، لا أصل النقل.

نعم لو كان الشرط أو الوصف عنوانا ، ومن قبيل الصورة النوعيّة بالنسبة إلى ما وقع عليه إنشاء النقل ، فتخلّفه يوجب فساد النقل وبطلان المعاملة ، لأنّ ما قصد لم يقع عليه الإنشاء ، وما وقع عليه الإنشاء - أي العين الخارجيّة - لم يقصد. ولا يمكن أن يقال : إنّ ما هو من قبيل الصورة النوعيّة للشي ء يكون من الدواعي والأغراض الخارجة عن حقيقة الشي ء.

الثالث : ممّا استدلّوا على فساد العقد بفساد الشرط طائفة من الأخبار.

منها : رواية عبد الملك بن عتبة ، قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن الرجل ابتاع منه طعاما ، أو ابتاع منه متاعا على أن ليس منه على وضيعة هل يستقيم هذا؟ وكيف يستقيم وجه ذلك؟ قال علیه السلام : « لا ينبغي » (1) فقالوا إنّ المراد من قوله علیه السلام : « لا ينبغي » هو أنّ مثل هذا البيع المشتمل على هذا الشرط الفاسد - أي كون الوضيعة والخسارة في البيع الثاني على البائع الأوّل - ممّا لا ينبغي صدوره من المؤمنين ، فلا بدّ وأن يكون البيع بواسطة ذلك الشرط الفاسد فاسدا كي يقول علیه السلام : « لا ينبغي » وإلاّ لو كان بيعا صحيحا لا وجه لنهيه.

ص: 209


1- تقدم راجع ص 197 ، رقم (3).

وفيه : أنّه من الممكن أن يكون النهي عن هذه المعاملة مع صحّتها لحزازة فيها كسائر المعاملات المكروهة ، ولا إشكال في كون معاملة صحيحة يترتّب عليها الأثر ، ومع ذلك تكون مكروهة. ونظائرها في المعاملات كثيرة ، فهذه الرواية لا تدلّ على فساد الشرط ، فضلا عن فساد العقد.

وقد تقدّم أنّ القائلين بعدم كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد أيضا تمسّكوا بهذه الرواية. والحقّ أنّها لا تدلّ على كلّ واحد من الطرفين ، كما بيّنّاه وشرحناه.

ومنها : ما رواه الحسين ابن منذر عن أبي عبد اللّه علیه السلام في بيع العينة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة ، فاشترى له المتاع مرابحة ، ثمَّ أبيعه إيّاه ، ثمَّ أشتريه منه مكاني؟ قال : « إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر ، فلا بأس » فقلت : إنّ أهل المسجد يزعمون أنّ هذا فاسد ، ويقولون إن جاء به بعد أشهر صلح؟ قال : « إنّما هذا تقديم وتأخير فلا بأس » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية - على أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد - هو أنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة أنّه إن لم يكن بالخيار وكان ملزما بأن يبيع على البائع ، ففي هذه المعاملة بأس ، أي فاسد ، ومنشأ فسادها هو اشتراط البائع على المشتري أن يبيعه بعد اشترائه منه ، وهذا الشرط فاسد ، لما تقدّم في شرائط صحّة الشروط في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » (2) ، فصار سببا لفساد العقد.

وبعبارة أخرى : البيّاع المذكورون في هذه الرواية ثلاثة : البائع الأوّل هو الذي يبيع المتاع مرابحة من هذا السائل عن الإمام قدس سره ، ولكن فرض هذا البائع أجنبيّ عن مسألتنا ، وإنّما فرض لأجل أنّ الجنس لم يكن عنده ، ففي الحقيقة البائع اثنان ، وظاهر

ص: 210


1- « الكافي » ج 5 ، ص 202 ، باب العينة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 51 ، ح 223 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 370 ، أبواب أحكام العقود ، باب 5 ، ح 4.
2- راجع : ج 3 ، ص 257.

الرواية أنّه حسين بن المنذر. والبائع الثاني هو نفس هذا السائل الذي اشتراه مرابحة عن البائع الأوّل. والبائع الثالث هو ذلك الرجل الذي يطلب العينة.

ومفاد الرواية ما هو ظاهرها هو أنّ البائع الثالث كان ملزما بالبيع من البائع الثاني ، بواسطة شرط البائع الثاني عليه أن يبيعه منه ، فهذا البيع الثاني باطل وفاسد لفساد شرطه. فبناء على هذا تدلّ الرواية على فساد العقد بواسطة فساد الشرط ، وبيع العينة عبارة : عن بيع مال نسيئة بقيمة أزيد ممّا يباع نقدا ، فيكون الزائد مقابل ذلك الأجل الذي عينه في بيعه نسيئة ، ثمَّ يشتريه منه نقدا بقيمة أقلّ ممّا باعه ، وفي الواقع هذا القسم من البيع للفرار عن الرباء مع تحصيل ما هو نتيجتها من أخذ الزائد على ما يعطي بعد مضيّ مدّة.

ولكن يمكن الجواب عن دلالة هذه الرواية - على فساد العقد بواسطة فساد الشرط - بالبيان الذي تقدّم ، بأن يقال : بأنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة وإن كان بطلان البيع الثاني إن كان البائع ألزم المشتري بالشرط أن يبيعه ثانيا منه ، فيكون سبب بطلانه وفساده هو فساد ذلك الشرط.

ولكن يمكن أن يكون جهة بطلانه أنّ هذا الشرط مستلزم للمحال ، أي : الدور ، كما ذكره العلاّمة قدس سره (1) فليس جهة الفساد فساد الشرط ، كما توهّمه المستدلّ ، بل الجهة أنّ البيع الثاني من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية باطل من جهة استلزامه للدور.

ولكن هذا الجواب غير تامّ ، وقد ذكرنا في شرائط صحّة الشروط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الشرط السابع أنّ هذا الشرط لا يستلزم منه محال ، فلا يمكن حمل البطلان في الرواية على هذا المعنى ، وإن شئت فراجع هناك.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عن هذا الدليل - بعد أن قال : في هذا الاستدلال تكلّف واضح - بأنّ المراد من القضيّة الشرطيّة هو أن يكون البيع الأوّل - أي : البيع الثاني من

ص: 211


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 490.

البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية - جدّيا لا صوريّا ومقدّمة للبيع الثاني ، أي البيع الثالث من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية.

ولا شكّ في أنّ البيع الأوّل إن كان صوريّا غير جدّي ، فلم يصير الثاني - أي الذي طلب العينة - مالكا ، فبيعه من البائع الأوّل باطل وفيه بأس ، لأنّه « لا بيع إلاّ في ملك » (1) فلا يكون لها ربط بمحلّ كلامنا ، أي كون الشرط الفاسد مفسدا.

ولكن أنت خبير بأنّ ما ذكره قدس سره أكثر تكلّفا من الاستدلال ، لأنّ ظاهر الرواية تعليق عدم البأس على اختيار البائع والمشتري في البيع والشراء ، وعدم كونهما ملزمين بواسطة التزامهما ، أو إلزام الغير إيّاهما على البيع والشراء شرعا ، ولا شكّ في أنّ التزامهما أو إلزامهما شرعا بالأمرين لا بدّ وأن يكون بواسطة الشرط ، فعدم البأس معلّق على عدم الشرط.

وأمّا في صورة وجود ذلك الشرط الفاسد ففيه بأس ، ومنشأ البأس ليس إلاّ فساد الشرط.

وأجيب : أيضا عن ذلك الدليل : بأنّ كون البيع فيه بأسا لا يدلّ على فساده ، إذ البأس يصدق مع الحرمة التكليفيّة وإن لم يكن فساد وضعا في البين.

وفيه : أنّ الحرمة وإن لم تكن ملازمة مع الفساد ، إلاّ أنّه لا وجه للحرمة التكليفيّة بدون الفساد ، وذلك من جهة أنّ الحرمة التكليفيّة لا بدّ وأن يتعلّق بفعل اختياري يكون فيه مفسدة ملزمة ، وأيّ مفسدة يمكن أن يكون في البيع الثاني كي يكون حراما.

ومنها : رواية عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجل باع ثوبا بعشرة دراهم ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم ، أيحلّ؟ قال : « إذا لم يشترط

ص: 212


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 247 ، ح 16 ، نحوه ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 252 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 2 ، ح 1 ، نحوه ، « المستدرك » للحاكم ، ج 2 ، ص 17 ، نحوه.

ورضيا به فلا بأس » (1).

ورواه عليّ بن جعفر في كتابه ، إلاّ أنّه قال : بعشرة دراهم إلى أجل ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم بنقد (2).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية مثل الرواية السابقة ، بل هي أوضح دلالة منها ، لأنّها صريحة مفهوما في أنّ البائع الأوّل إذا اشترط على المشتري أن يبيعه ما اشتراه ، ففي هذه المعاملة بأس ، وحيث علّق علیه السلام عدم البأس على عدم الاشتراط فيكون الاشتراط سببا للبأس ، ومعنى هذا هو فساد العقد لفساد الشرط.

وقد أجاب شيخنا الأعظم قدس سره عن هاتين الروايتين بأنّ غاية مدلوليهما فساد البيع المشروط فيه بيعه عليه ثانيا ، وهو ممّا لا خلاف فيه ، حتّى ممّن قال بعدم فساد العقد بفساد الشرط كالشيخ قدس سره في المبسوط ، فلا يتعدّى منه إلى غيره (3).

وفيه : أنّ ما ذكره قدس سره لا بأس به إن لم يستظهر من الروايتين أنّ علّة فساد ذلك العقد هو فساد الشرط ، وإلاّ فيكون حكمه علیه السلام عامّا يشمل كلّ شرط فاسد ، ولا يقف على مورده.

ولا شكّ في أنّ ظاهر التعليق في القضيّة الشرطيّة في الروايتين هو علّيّة فساد الشرط لفساد العقد ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهرها علّيّة هذا الشرط الفاسد لفساد العقد ، لا كلّ شرط فاسد ، فافهم.

وأمّا الذي أفاده أوّلا من أنّ فساد البيع الثاني لعلّه من جهة عدم الرضا وعدم طيب النفس بواسطة التزامه في خارج العقد ، فهذا كلام عجيب ، من جهة أنّ في جميع الشروط يسلب اختيار المشروط عليه شرعا بالنسبة إلى ما اشترط عليه ، سواء أكان

ص: 213


1- « قرب الإسناد » ص 267 ، ح 1062 ، باب ما يحل من البيوع ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 371 ، أحكام العقود ، باب 5 ، ح 6.
2- « مسائل علي بن جعفر » ص 127 ، ح 100.
3- « كتاب المكاسب » ص 289 ، « المبسوط » ج 2 ، ص 148 - 149.

الاشتراط في ضمن العقد ، أو في خارجه.

ولازم هذا الكلام بطلان أيّ معاملة أو معاوضة اشترط عليه ، بل بطلان أيّ معاملة نذر أن يوجدها ، لأنّه ملزم في جميع ذلك بإيجادها شرعا.

والسرّ في عدم بطلان المذكورات أنّ الإلزام الآتي من قبل التزامه باختياره من قبل شرط أو نذر لا ينافي الرضا المعاملي ، ولا فرق في عدم تنافي الإلزام الآتي - من قبل التزامه مع الرضا المعاملي - بين أن يكون هذا الإلزام إلزاما واقعيّا ومن قبل الشارع ، أو كان إلزاما تخيليّا وهميّا.

فلو باع أو أوقع إحدى المعاملات الأخر بتوهّم أنّه نذر أو شرط ، وفي الواقع لم ينذر ولم يكن شرط في البين ، فهذه المعاملة صحيحة وإن لم يكن له الرضا الباطني وطيب النفس ، بل إنّما أوجدها باعتقاد أنّه واجب عليه من باب النذر أو الشرط.

فالأحسن أن يقال : إنّ هاتين الروايتين وإن كان لهما ظهور ما في علّيّة فساد مطلق الشرط للعقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور وحمله على علّيّة خصوص هذا الشرط - أي شرط أن يبيع المشتري ثانيا - على البائع لتلك الأدلّة القطعيّة التي تقدّمت ، وكانت تدلّ على أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد.

خصوصا قضيّة بريرة التي أعتقها عائشة ، وكان بائعوها شرطوا عليها أن يكون ولائها لهم ، فحكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصحّة البيع وبطلان الشرط.

ولا يبعد ادّعاء القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلی اللّه علیه و آله ، لما رواه الفريقان من غير نكير لأحد من الفريقين (1). ودلالته أيضا جليّة يشبه أن يكون نصّا ، مع ما في سند الروايتين من عدم الوثوق مع عدم جابر في البين ، واللّه الهادي إلى الصواب.

ص: 214


1- تقدم راجع ص 195 ، رقم (1).
ها هنا أمور يجب أن يذكر

[ الأمر ] الأوّل : لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد ، فهل على القول بأنّه مفسد يصحّ العقد ، لأنّه بعد سقوطه بإسقاط المشروط له ليس شي ء في البين كي يكون مفسدا ، أم لا يصح؟ لأنّ الشي ء بعد ما وجد لا ينقلب عمّا هو عليه ، والمفروض أنّه وجد باطلا؟

أمّا أنّه قابل للإسقاط فقد تقدّم الكلام فيه في الجزء الثالث من هذا الكتاب في شرح قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » (1) وقد بيّنّا هناك أنّ ظاهر أدلّة وجوب الوفاء بالشروط - والثبوت والوقوف عندها - هو أنّ الشرط يحدث حقّا للمشروط له على المشروط عليه ، ومن هذه الجهة قابل للإسقاط ، وذلك من جهة القابليّة للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ ، ولذلك عرفوا الحقّ بهذا الأمر.

ولكن هذا الكلام في الشروط الصحيحة ، ومحلّ بحثنا ليس فيها ، بل كلامنا فعلا في الشروط الفاسدة ، وتلك الشروط لا توجب ثبوت حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، فالإسقاط لا معنى له ، إذ ليس شي ء في البين كي يسقطه.

فالمراد بالإسقاط ها هنا ليس بمعناه المعروف ، بل المراد به رضا المشروط له بالعقد والمعاملة بدون ذلك الشرط الفاسد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فربما يقال : لو كان جهة بطلان العقد بالشرط الفاسد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد - لأنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان محرّما ، فلو كان العقد مع ذلك صحيحا يجب الوفاء بالعقد المجرّد عن ذلك الشرط ، مع أنّ رضائه كان بالعقد المقيّد بذلك الشرط ، فبعد أن أسقط الشرط - يكون ذلك الإسقاط رضا بالعقد ، فيرتفع المانع من البين ، فيكون العقد صحيحا.

ص: 215


1- راجع : ج 3 ، ص 303.

ولكن أنت خبير بأنّ العقد تعلّق بالمقيّد ، والرضاء المتجدّد تعلّق بالعقد المجرّد ، فما تعلّق به العقد - أي المقيّد - لم يتعلّق به الرضا ، وما تعلّق به الرضا المتجدّد - أي المجرّد - لم يتعلّق به العقد ، والمعتبر هو أن يكون ما تعلّق به العقد يكون متعلّقا للرضا كي يصدق عليه أنّه تجارة عن تراض.

وأمّا القول بأنّ العقد تعلّق بالذات وبالقيد أيضا - فهاهنا تعلّقان : تعلّق بالذات ، وتعلّق آخر بالقيد ، فلو قال : اشتريت منك هذا العنب بشرط أن تعصره لي خمرا ، والتزم الطرف بذلك ، فكان ها هنا تعهّدان من البائع : أحدهما نقل العنب إلى ذلك المشتري ، ثانيهما أن يعصره خمرا ، والمشتري قبل كذلك ورضى به ، فلما منع الشارع عن العمل بأحد التعهّدين - والممتنع الشرعي كالعقلي - بقي تعهّد نقل العنب فقط ، ولكن المشتري لم يرض بهذا التعهّد وحده ، أي بانتقال العنب إليه وحده من دون أن يعصره البائع خمرا ، فيبقى العقد المتعلّق بنقل العنب وحده - أي : تعهّده بذلك - موقوفا على رضا المشتري بذلك. والظاهر أنّ مراد العلاّمة قدس سره من الإيقاف هو هذا المعنى - فهو رجوع من القول بالإفساد إلى القول بعدمه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك ، وهو المختار.

هذا كلّه لو كان مدرك القائلين بالإفساد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد عن الشرط ، وأمّا لو كان مدركهم جهالة عوض المبيع ، لأنّ للشرط قسط من الثمن ، وقد تقدّم تفصيل ذلك ، أو كان مدركهم الروايات ، فالرضا المتجدّد وإن كان يرتفع به جهالة الثمن ، لأنّه يرضى بكون تمام الثمن في مقابل نفس المبيع - مثلا - بدون ذلك الشرط ، ولكن صرف هذا لا يصدق عليه التجارة ، ولا بدّ من وقوع العقد عليه ، وقد عرفت عدم وقوعه عليه.

وأمّا بالنسبة إلى مفاد الروايات على تقدير دلالتها على الإفساد وصحّة سندها ، فمفادها أنّ ذلك العقد الذي وقع من حيث اشتماله على الشرط الفاسد باطل ، فكأنّه لم يكن ولم يوجد. وقلنا : إنّ صرف رضائه بالانتقال المجرّد عن الشرط لا يجعله معاملة وتجارة عن تراض بدون عقد جديد ، لأنّ العقد الأوّل بناء على هذا انعدم في عالم

ص: 216

التشريع ، والشارع في عالم اعتباره لا يرى له وجودا.

والمفروض أنّه ليس عقد جديد في البين ، فلا وجه للقول بصحّة تلك المعاملة ، فيكون العنب - بناء على القول بالإفساد في المثال المذكور - في يد المشتري - لو قبضه بعنوان أنّه ملكه بذلك العقد ، حتّى مع رضا الطرفين - من المقبوض بالعقد الفاسد الذي يجري مجرى الغصب عند المحصّلين بقول ابن إدريس قدس سره (1).

الأمر الثاني : لو ذكر الشرط الفاسد قبل العقد ولم يذكره في متنه ، فهل يكون مفسدا - بناء على القول بالإفساد - أم لا؟

فيه وجهان ، بل قولان : الإفساد مطلقا ، وعدمه أيضا كذلك.

وحكى عن الشهيد الثاني قدس سره في المسالك (2) - التفصيل بين ما لو علما أنّ الشرط المتقدّم على العقد لا يؤثّر فلا يفسد ، وبين ما لو لم يعلما ذلك فيكون موجبا للفساد.

وذلك من جهة أنّه مع العلم بعدم تأثير الشرط المتقدّم على العقد لم يقدّما على ثبوت ذلك الشرط والوفاء به ، بخلاف ما إذا كان جاهلين ، فبنائهما على العمل بذلك الشرط ولزوم الوفاء به ، فهما أقدما على هذا الشرط الفاسد ، فيكون مفسدا في هذه الصورة.

إذا عرفت هذا فنقول : أمّا القول بالإفساد مطلقا ، فمبنيّ على أنّ الشرط الخارج عن العقد مطلقا ، سواء أكان صحيحا أم فاسدا ، لا أثر له ، لأنّ وجوده بالنسبة إلى العقد كالعدم ، إذ الالتزام بالوفاء بمضمون العقد غير مربوط بشي ء ، وكذلك تعهّده بالنقل والانتقال غير منوط بشي ء ، فيجب عليه الوفاء بتعهّده وعقده ، ويكون عقده مشمولا لأوفوا بالعقود.

وأمّا إن قلنا بأنّ الشرط المتقدّم يؤثّر أثره ، خصوصا إذا وقع العقد مبنيّا عليه ،

ص: 217


1- « السرائر » ج 2 ، ص 488.
2- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 142.

فيكون العقد فاسدا وباطلا ، لأنّه بناء على هذا يكون الشرط الخارج عن العقد مثل الداخل فيه في الآثار والأحكام ، فبناء على القول بالإفساد لا محالة يكون مفسدا ، لما قلنا من أنّ الشرط الخارج على هذا المبنى مثل الداخل ، ويجري فيه ما يجري في الداخل.

وأمّا إنّ أيّ واحد من المبنيين صحيح ، فالحقّ أنّ الشرط في خارج العقد لا أثر له كما عليه المشهور. وقد حقّقنا هذا الأمر في بعض شرائط صحّة الشروط الصحيحة في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب وهو الشرط الثامن ، وهو عبارة عن التزام المشروط عليه بذلك الشرط في متن العقد.

وخلاصة ما ذكرنا هناك في وجه هذا الشرط هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ الشروط الابتدائيّة ليس واجبة الوفاء ، فالشروط التي لم تذكر في متن العقد إن لم يقع العقد مبنيّا عليها ، فلا وجه لتوهّم وجوب ترتيب الأثر عليها ، لأنّها تكون من قبيل الشروط الابتدائيّة المحضة.

وأمّا إن وقع العقد مبنيّا عليها بدون أن تذكر في متن العقد - التي اصطلحوا على تسميتها بشروط التباني - ففي وجوب الوفاء بها - كالشروط المذكورة في ضمن العقد ، أو عدمه كالتي لم تذكر ولم يقع العقد مبنيّا عليها - فيه خلاف.

والقائلون بوجوب الوفاء بتلك الشروط ذكروا وجوها ذكرناها هناك مع ردّها ، وإن شئت فراجع.

والنتيجة أنّ شروط التباني لا يجب الوفاء بها ، فضلا عمّا ذكر في خارج العقد ولم يقع العقد مبنيّا عليها.

وممّا ذكرنا ظهر لك حال نسيان الشرط حال العقد ، بعد أن كان بناء الطرفين على ذكره ، وهو على كلّ حال حاله حال سائر شروط التباني ولا أثر له ، لأنّ العقد وقع بلا قيد ولا شرط ، وصرف نيّتهما بدون الإنشاء لا أثر لها.

ص: 218

وقد ذكرنا في هذا الكتاب - في قاعدة « العقود تابعة للقصود » - (1) أنّ وجوب الوفاء يحتاج إلى أمرين : الإنشاء باللفظ ، مع القصد ، وإنّ القصد بلا إنشاء أو الإنشاء بلا قصد لا أثر له ، فلا بدّ من اجتماع كلا الأمرين ، ففي صورة النسيان لا لفظ قطعا ، كما هو المفروض ، وقد لا يكون القصد أيضا ، كما إذا كان غافلا حال العقد عن أصل الشرط.

وقد فرّق شيخنا الأعظم قدس سره (2) بين هذه الصورة فقال فيها بالصحّة لما ذكرنا من وقوع العقد مجرّدا عن كلّ قيد وشرط ، وبين الصورة التي لم يكن غافلا من أصل الشرط ، وإنّما غفل عن ذكره في محلّه ، فقال في هذه الصورة بأنّه كتارك ذكر الشرط عمدا ، تعويلا على تواطئهما.

ولكن أنت خبير بأنّ الشرط غير المذكور لا أثر له أصلا ، سواء أكان مغفولا بالمرّة ، أو كان ملتفتا إليه حال العقد ، غاية الأمر نسي ذكره في محلّه.

الأمر الثالث : لو كان فساد الشرط لأجل عدم تعلّق غرض عقلائي معتدّ به بذلك الشرط ، فقالوا بأنّ مثل هذا الشرط الفاسد لا يفسد به العقد ، وإن قيل بالإفساد في سائر أقسام الشروط الفاسدة ، فقد حكى على العلاّمة قدس سره (3) التصريح بصحّة العقد ولغويّة الشرط.

وعمدة الوجه في نظرهم : أنّ مثل هذا الشرط لا يعتنى به عند العقلاء ، ويرون وجوده كالعدم ، فليس قابلا لأن يقيّد به العقد ، ويكون كالكلام اللغو والمهمل الذي يصدر عنه في أثناء العقد ، ولذلك ذكروا في باب السلم لغويّة بعض الشروط غير العقلائيّة ، وعدم لزوم ترتيب أثر عليها.

ص: 219


1- راجع : ج 3 ، ص 135.
2- « كتاب المكاسب » ص 290.
3- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 277 ، حكى على العلاّمة.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو قلنا بأنّ الشرط الفاسد يفسد العقد ، فجملة من الأدلّة التي استدلّوا بها يشمل المقام ، خصوصا مسألة الرضا بمضمون العقد ، فلا ريب في أنّ رضا المشروط له بمضمون هذا العقد مقيّد بوجود هذا الشرط ، وذلك لاختلاف الأنظار ، فربما يكون أمر عند نوع العقلاء لغوا ولا يعتنون به ولا يبذلون بإزائه المال ، بل إذا كان في ملكهم وأتلفه الغير لا يرونه ضامنا لعدم الاعتناء به ، ولكن مع ذلك كلّه هناك شخص يهتمّ به كلّ الاهتمام ، ويعتني به كلّ الاعتناء لغرض من الأغراض ، وإن كان ذلك الغرض غير عقلائي لا يعتني به نوع العقلاء.

الأمر الرابع : في الموارد التي خرجت عن تحت الكلّية التي اخترناها ، وهي أنّ كلّ شرط فاسد لا يوجب فساده فساد العقد :

فمنها : ما إذا كان الشرط مجهولا وسرى جهالته إلى أحد العوضين ، فالمعاملة فاسدة ، وإن قلنا بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد ، وذلك من جهة أنّه من شرائط صحّة المعاوضة أن يكون العوضان معلومين ، وجهالتهما أو أحدهما موجب لبطلان المعاملة ، لنهيه صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر (1).

ومنها : أن يشترط البائع على المشتري أن يبيعه عليه بعد اشترائه ، فهذا البيع فاسد ، حتّى عند القائلين بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد.

وذكروا لذلك وجوها ذكرناها مفصّلا مع أجوبتها في الشرط السابع من شروط صحّة الشروط في الجزء الثالث من هذا الكتاب في مقام شرح « قاعدة المؤمنون عند شروطهم » (2).

ص: 220


1- « عيون أخبار الرضا » ج 2 ، ص 45 ، باب (31) فيما جاء عن الرضا علیه السلام من الأخبار المجموعة ، ح 168 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 248 ، باب المتاجر ، ح 17 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 254 ، ح 3376 ، باب في بيع الغرر ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 330 ، أبواب آداب التجارة ، باب 40 ، ح 3 ، « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 1153 ، ح 1513 ، كتاب البيوع ، ح 4 ، باب (2) بطلان بيع الحصاة ، والبيع الذي فيه غرر ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 532 ، ح 1230 ، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.
2- راجع : ج 3 ، ص 281.

ومنها : الشروط المخالفة لمقتضى العقد ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط فاسدا ، للتناقض بين مدلول العقد ومفاد الشرط ، إمّا مطابقة وصريحا ، وإمّا التزاما. فالأوّل كما إذا قال : بعتك هذا بشرط أن لا تملكه. والثاني كما إذا قالت هي أو قال وكيلها : زوجتك موكّلتي فلانه بشرط أن لا تستمتع منها أيّ استمتاع.

والوجه في فساد هذا الشرط ومفسديته للعقد واضح ، وقد بيّنّا ذلك في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » فراجع (1).

ومنها : فيما إذا كان الشرط غير مقدور ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط غير قابل للوفاء. فلا يشمل أدلّة وجوب الوفاء بالعقد ، ولا أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، فيكون مثل هذه المعاملة لغوا وباطلا عند العقلاء ، ولا يمضيه الشارع أيضا ، فافهم.

ومنها : كون الشرط حراما ، وذلك مثل أن يبيع العنب على أن يجعله خمرا ، أو الخشب على أن يعمله صنما أو صليبا. لأنّ الشارع أسقط أمثال هذه المنافع عن درجة الاعتبار في عالم التشريع ، فلا يملكها المالك للعنب ، أو الخشب مثلا. فإذا حصر المنفعة التي يبيعهما - أي : العنب والخشب لأجل تلك المنفعة في المذكورات المحرّمات - يكون أكل المال بإزائها أكلا بالباطل ، فتكون المعاملة باطلة.

ولكن أنت خبير بأنّ خروج هذه الموارد عن تحت تلك الكلّية بالتخصّص لا بالتخصيص ، وذلك من جهة أنّ فساد العقد في تلك الموارد ليس لفساد العقد كما توهّم ، بل لوقوع خلل في بعض أركان العقد.

وبعبارة أخرى : موارد هذه الكلّية هي فيما إذا كان فساد الشرط من قبيل الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ الفساد أوّلا وبالذات عرض على الشرط ، ويكون انتسابه إلى العقد بالعرض والمجاز ، لا أن يكون الشرط واسطة في الثبوت ، بمعنى أنّ

ص: 221


1- راجع : ج 3 ، ص 267.

الفساد أوّلا وبالذات عرض على نفس العقد لاختلال بعض أركانه ، ويكون الشرط سببا وعلّة لعروض ذلك الاختلال على نفس العقد.

مثلا : إذا كان الشرط مجهولا ، كما إذا شرط أن يكون المبيع بكيل كذا ، أو بوزن كذا ، وكان ذلك الكيل أو ذلك الوزن مجهولا ، فتسرى الجهالة إلى نفس المبيع ، فيكون البيع غرريّا وفاسدا ، ففساد البيع ليس إلاّ لوقوع غرر في نفس البيع ، لا لفساد ذلك الشرط. وكذا في شرط البيع على البائع يكون بطلان مثل هذا البيع لأجل استلزامه للمحال ، للزوم الدور. فليس فساده ، لأجل فساد الشرط ، بل لو كان هذا الشرط جائزا كان هذا البيع فاسدا ، لما ذكرنا من استلزامه للمحال.

وإن شئت قلت : إنّ الشرط بوجوده يوجب فساد العقد ، لا بفساده ، لما قلنا إنّ وجود هذا الشرط موجب لصيرورة البيع الأوّل مستلزما للمحال وهو الدور. وأمّا إن أجبنا عن الدور ، فيخرج عن محلّ الكلام بالمرّة ، فلا يكون العقد ولا الشرط فاسدا. وقد تقدّم ما هو التحقيق فيه في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم ». (1)

وكذا الشروط المنافية لمقتضى العقد بوجودها يوجب التناقض بين مفاد العقد ومفاد الشرط ، ولا يكون مستندا إلى فساد الشرط ، وكذلك الشرط غير المقدور بوجوده يوجب لغويّة المعاملة ، فليس فساده مستندا إلى فساد الشرط ، بل يكون لوجوده.

وخلاصة الكلام : أنّ تلك الموارد المذكورة خارجة عن تحت هذه الكلّية تخصّصا ، لا تخصيصا.

ثمَّ إنّ الذين اختاروا عكس ما اخترناه - أي قالوا بأنّ كلّ شرط فاسد يوجب فساد العقد - أيضا قالوا بخروج الشرط الذي يكون فساده - أي : عدم لزوم وجوب الوفاء به - من جهة لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، مع أنّه فاسد لا يوجب

ص: 222


1- راجع : ج 3 ، ص 267.

فساد العقد.

وهذا كان منشأ تفصيل ابن المتوج البحراني بأنّ الشرط الفاسد مفسدا للعقد ، إلاّ فيما إذا كان جهة فساد الشرط لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، فإنّ العقد لا يفسد به (1) ، لأنّ وجود ذلك الشرط وعدمه سواء ، فلا يؤثّر في العقد.

وأنت خبير بأنّ خروج هذا القسم أيضا من قبيل التخصّص لا التخصيص ، لأنّ أدلّة وجوب الوفاء بالشرط منصرفة عن مثل هذه الشروط. نعم في باب النكاح ورد الدليل على أنّ بعض الشروط الفاسدة - كشرط عدم التزويج والتسرّي عليها - لا يوجب فساد عقد النكاح ، وقلنا إنّ تلك الروايات الواردة في باب النكاح ممّا تدلّ على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد. (2)

وقد ظهر لك ممّا ذكرنا أنّ التفاصيل في هذه المسألة لا وجه لها ، وأنّه ينبغي أن تحرّر المسألة ذات قول بالإفساد مطلقا ، وقول بعدمه مطلقا كما هو المختار ، وأمّا الموارد التي صارت سببا لتلك التفاصيل فهي خارجة عن تحت القاعدة تخصّصا.

الأمر الخامس : في بيان موارد جريان هذه القاعدة ، فنقول :

تجري هذه القاعدة في جميع العقود ، فإذا باع شيئا وشرط عليه شرطا مخالفا للكتاب والسنّة أو لمقتضى أصل العقد - لا مقتضى إطلاقه - أو لم يكن مقدورا ، أو لم يكن ممّا فيه غرض عقلائي ، أو كان مجهولا ، أو كان مستلزما للمحال ، أو لم يكن منجّزا ، أو لم يلتزم به في متن العقد ، فمثل هذه الشروط لا يجب الوفاء بها قطعا لا كلام فيه. وقد بيّنّا جميع ذلك في شرح قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » مع وقوع الخلاف في بعضها.

إنّما الكلام في أنّ هذه المذكورات توجب فساد ذلك العقد الذي وقعت هذه

ص: 223


1- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 287 ، حكى عن ابن المتوج.
2- تقدم راجع ص 195 - 198.

الشروط في ضمنه أم لا؟

وقد عرفت أنّ بعضها خارج عن محلّ الخلاف تخصّصا لا تخصيصا ، وعمدة ما هو داخل في محلّ الخلاف هو الشرط الذي مخالف للكتاب والسنّة ، فإذا باع أو أجار أو أعار أو رهن أو اقترض أو أودع أو صالح أو وكل ، أو أيّ عقد من العقود المذكورة في أبواب المعاملات ، وشرط شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، يكون محلا للخلاف.

وبناء على ما اخترناه في هذه القاعدة الشرط فاسد لا يجب الوفاء به ، ولكن لا يكون مفسدا لذلك العقد الذي وقع فيه. نعم في خصوص عقد النكاح ادّعى بعضهم خروجه عن محلّ الخلاف ، لورود أخبار كثيرة تدلّ على عدم فساد عقد النكاح بالشرط المخالف للكتاب والسنّة (1) ، مع دلالتها على أنّ ذلك الشرط فاسد لا يجب العمل به ، وقد عرفت أنّ تلك الأخبار كانت من جملة ما استدلنا بها على عدم الإفساد.

الأمر السادس : في أنّه هل يأتي هذا الخلاف في الإيقاعات أم لا؟ مثلا : لو أعتق عبده ، أو طلّق امرأته وشرط عليهما شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، فهل يوجب ذلك الشرط بطلان ذلك العتق وذلك الطلاق ، أم لا؟

ربما يقال بعدم دخول الشرط في الإيقاعات مطلقا ، سواء أكان شرطا صحيحا أو فاسدا ، وذلك من جهة أنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين ، والإيقاع ليس بين اثنين ، بل هو متقوّم بواحد ، فهو يعتق عبده من دون اطلاع أحد ، لا العبد ولا غيره ، أو يطلق زوجته من دون إخبارها. وأمّا لزوم كونه بحضور شاهدين عدلين ، فهو من باب الإشهاد ، لا أنّ الطلاق بين المطلّق وبينهما.

وفيه أوّلا : أنّهم يقولون بجواز اشتراط خدمة مدّة في عتق عبده.

وثانيا : قوله : « إنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين » إن كان مراده أنّه لا بدّ من

ص: 224


1- تقدم راجع ص 199 ، هامش رقم (1).

المشروط له والمشروط عليه - أو الشارط والمشروط عليه - فهذا موجود في الإيقاعات ، مثلا في الإطلاق المشروط له أو الشارط هو الزوج ، والمشروط عليها هي الزوجة ، وفي الإبراء بين الدائن والمديون ، وفي العتق بين السيد وعبده ، وهكذا في سائر الإيقاعات.

وإن كان مراده أنّه يحتاج إلى إيجاب من الشارط وقبول من المشروط عليه - فيكون الشرط من العقود ، لا أنّه فقط في ضمن العقود أو الإيقاعات أيضا - فمضافا إلى أنّه ليس كذلك قطعا - لأنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود لم يقل أحد إنّه يحتاج صحّة الشرط إلى قبول مستقلّ من طرف المشروط عليه عدا قبول ذلك العقد ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قبوله يتحقّق في ضمن قبول العقد وليس ببعيد - لا مانع من قبوله في الإيقاعات أيضا كما أنّهم قالوا في اشتراط خدمة العبد في عتقه بلزوم قبوله من طرف العبد.

وخلاصة الكلام : أنّه لا مانع عقليّا ولا شرعيّا عن دخول الشرط في الإيقاعات ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ في مورد مخصوص على المنع ، أو كان في الشرط خصوصيّة لا يلائم مع ذلك الإيقاع.

الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 225

ص: 226

44 - قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها

اشارة

ص: 227

ص: 228

قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان مدركها

فنقول : روى الصدوق عن الصفّار أنّه كتب إلى أبي محمّد الحسن بن علي علیه السلام في الوقف وما روى فيه عن آبائه علیهم السلام ، فوقّع علیه السلام : « الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه » (2).

وروى الكليني قدس سره عن محمّد بن يحيى ، قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمّد علیه السلام في الوقوف وما روى فيها ، فوقّع علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء اللّه » (3).

والظاهر أنّها رواية واحدة ، ومراد الكليني قدس سره من بعض أصحابنا هو محمّد بن

ص: 229


1- (*) « القواعد » ص 319.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 237 ، ح 5567 ، باب الوقف والصدقة والنّحل ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 295 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة والنّحل. ، ح 34. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 295 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 2.

الحسن الصفّار أيضا ، إلاّ أنّ في الأولى بزيادة لفظة « تكون » قبل كلمة « على حسب » ، وكلمة « يوقفها » بصيغة باب الإفعال ، وفي الثانية « يقفها » بصيغة الثلاثي ، ولعلّ الثانية أصحّ ، لما ذكره في نهاية ابن أثير : من أنّه يقال وقفت الشي ء اقفه وقفا ، ولا يقال :

أوقفت ، إلاّ على لغة رديئة (1) ، وإن كان بصورة باب الإفعال في الروايات كثيرة. ولا حجّية لما في النهاية.

وروى الشيخ بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روى أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك ، وما الذي يبطل؟ فوقّع علیه السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه » (2).

[ الجهة ] الثانية : في بيان المراد منها

اشارة

بعد ثبوتها بهذه الروايات المعتبرة التي يثق الإنسان بصدورها وإن كانت مكاتيب ، لما ذكره المشايخ الثلاث في جوامعهم ، وصحّة سندها ، واعتماد جلّ الأصحاب في فتاواهم عليها واستنادهم إليها.

فنقول : الظاهر أنّه علیه السلام بعد السؤال عن الوقف وأحكامه وكيفيّته وما روي

ص: 230


1- « النهاية » ج 5 ، ص 216 ، مادة « وقف ».
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 132 ، ح 562 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 9 ، « الإستبصار » ج 4 ، ص 100 ، ح 384 ، باب من وقف وقفا ولم يذكر الموقوف عليه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 307 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 7 ، ح 2.

عنهم علیهم السلام فيه ، يجيب بصورة كبرى كلّية لهذه الأسئلة ، فيكون مفادها أنّ كلّ وقف - لعموم جمع المعروف بالألف واللام - يجب أن يعامل معه بحسب ما وقفه الواقف ، من الشروط ، والخصوصيّات ، والكيفيّات ، وما عيّنه من التصرّفات فيه ، ومن عيّنه لأن يكون ناظرا عليه.

ومعلوم أنّ مراده علیه السلام عن لزوم العمل مع الوقف على طبق جعل الواقف - ممّا ذكرناه - فيما إذا كان أصل الوقف وجميع خصوصيّاته وكيفيّته وشرائطه المجهولة مشروعة ، ولم تكن ممّا منع عنه الشارع ، مثلا : الشرط الذي شرطه الواقف في ضمن عقد الوقف يكون واجدا لشرائط صحّة الشروط.

وهكذا تدلّ هذه الجملة على أنّه لا يجوز أن يعامل مع الوقف ما ينافي حقيقته وإن لم يشترط فيه شرط أصلا.

وتوضيح هذا المعنى - الذي ذكرنا في المراد من هذه القاعدة - ببيان أمور :

الأوّل : في بيان حقيقة الوقف وشرح ماهيته؟

فنقول : عرّفه الفقهاء 5 بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. والظاهر أنّ هذا التعريف مأخوذ من الأحاديث والروايات المرويّة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وعن الأئمّة المعصومين علیهم السلام .

منها : ما رواه ابن أبي جمهور عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « حبس الأصل وسبل الثمرة » (1).

ومنها : ما رواه عبد اللّه بن عمر أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إن شئت حبست أصلها وتصدّقت

ص: 231


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 260 ، باب الديون ، ح 14.

بها » (1).

والمراد بكلمة « تصدّقت بها » هو التصدّق بثمرتها ، وهو عبارة أخرى عن تسبيل ثمرتها ، لأن الصدقة هو الإعطاء مجّانا بقصد القربة.

ومنها : ما تكرّر ذكره في روايات الباب عن الأئمّة المعصومين علیهم السلام ، وهو قولهم وتعبيرهم عن الوقف ب- « صدقة لا تباع ولا تورث » (2) تارة ، وتعبيرهم ب- « صدقة مبتولة » (3) أخرى و « بتا بتلا » (4). ثالثة ، وكلّ هذه الجمل يرجع مفادها إلى تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.

وبعض الفقهاء بدّلوا كلمة « التسبيل » بالإطلاق ، والمراد واحد في الجميع كما هو ظاهر ، وإن كان الأقرب هو الأوّل ، بناء على أنّه من العبادات ويحتاج في وقوعه وصحّته إلى قصد القربة ، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

وبعضهم بدّل لفظة « الثمرة » إلى المنفعة ، ولا فرق بينهما ، وقد عبّر عنه في الروايات بالصدقة ، ولكن بوصف لا تباع ولا توهب ولا تورث.

ومعلوم أنّ الصدقة المتّصفة بهذه الصفات معناها أن يكون الشي ء موقوفا محبوسا عن النقل والانتقال ، وأن تكون ثمرته ومنفعته في سبيل اللّه ، ولفظ الوقف

ص: 232


1- « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 209 ، باب الشروط في الوقف ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 116 ، ح 2878 ، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 659 ، ح 1375 ، باب في الوقف.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 54 ، باب صدقات النبي صلی اللّه علیه و آله وفاطمة والأئمة علیهم السلام ووصاياهم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 148 ، ح 609 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 56 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 98 ، ح 380 ، باب أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 56 ، باب ما يلحق الميت بعد موته ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 292 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 1 ، ح 2.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 54 ، باب صدقات النبي صلی اللّه علیه و آله وفاطمة والأئمة علیهم السلام ووصاياهم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 148 ، ح 609 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 56 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 2.

أيضا يفيد معنى التحبيس أو الحبس عن النقل والانتقال ، ولكن حيث أنّه - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - يعتبر في صحّة الوقف قصد القربة ، وأيضا صرف حبس المال من دون تسبيل الثمرة أو المنفعة لغو ، فلذا يكون أخصّ من مطلق الحبس ، وإلاّ فلا فرق بين أن يقال وقفته وأوقفته ووقّفته - بالتضعيف - وبين أن يقال : حبّسته وأحبسته وحبّسته بالتضعيف.

فالوقف المصطلح عند الفقهاء وعند الشرع - وإن كان استعماله في لسان الشرع قليلا ، ويعبّر عنه في لسان الشرع غالبا بالصدقة ، غاية الأمر مقيّدة بالعناوين التي ذكرناها - هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، كما عرّفه الفقهاء بهذا. والمراد من التسبيل هو جعلها في سبيل اللّه.

وما ذكرنا كان لشرح حقيقة الوقف وماهيّته ، وإلاّ فتعاريف الفقهاء لموضوعات الأحكام غالبا تكون تعاريف لفظيّة ، تكون بالأعم تارة ، وبالأخصّ أخرى ، لا طرد ولا عكس لها.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ هذا المعنى الذي ذكرنا للوقف ليس أمرا تكوينيا ، كحبس إنسان ، أو حيوان في الخارج ، فإنّه لا يحصل إلاّ بأسباب خارجيّة ، بل هو اعتبار عرفي أو تشريعي لا يوجد إلاّ بالإنشاء ممّن له أهليّة هذا الإنشاء.

وإذا كان الأمر كذلك فربما يعتبر الشارع أو العرف - بناء على كون هذا المعنى عندهم قبل شرعنا - أمورا في جانب العقد والوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه ، كما أنّه ظاهرهم الاتّفاق على لزوم كون الإنشاء بالصيغة.

ثمَّ يقع الكلام في أنّه عقد يحتاج إلى القبول ، أو لا يحتاج مع أنّه عقد ، أو لأنّه إيقاع ، وكما أنّه شرط الشارع في طرف المنشئ أن يكون عاقلا بالغا مالكا غير ممنوع التصرّف بحجر من فلس أو سفه وأمثال ذلك ، وكما أنّه شرط في جانب المنشأ أيضا أمورا نذكرها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 233

ونبيّن هذه الأمور في ضمن مطالب :

المطلب الأوّل : في أنّ الوقف عقد يحتاج إلى القبول ، أو إيقاع
اشارة

أو عقد ولكن لا يحتاج إلى القبول القولي ، بل يكون نفس تصرّف الموقوف عليهم في العين الموقوفة وقبضهم لها قبولا فعليّا ، كما يكون الأمر كذلك في باب الجعالة بناء على أنّه عقد لا إيقاع ، بل في باب الوصيّة بناء على أنّها عقد ولا يعتبر القبول ، وإن رجّحنا نحن اعتبار القبول فيها ، وظاهر الأصحاب أنّه عقد وإن اختلفوا في اعتبار القبول فيه؟

والظاهر أنّه عقد كما هو ظاهر الأصحاب ، بل صريح جماعة ، بل جماعة منهم كالمحقّق رحمهم اللّه وغيره يعرفون الوقف بأنّه عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة (1).

ويحكي تعريفه بما ذكر عن القواعد (2) والتنقيح (3) وإيضاح النافع والكفاية (4).

وذلك من جهة أنّه لا ريب في أنّ الوقف حقيقة واحدة ، بمعنى أنّه ليس الوقف على الجهات كالمسجد والرباط والقنطرة حقيقة ، وعلى العناوين العامّة كالفقراء والعلماء والسادات وغير ذلك من العناوين وعلى الذريّة مثلا حقيقة أخرى ، بل الوقوف في الجميع بمعنى واحد كما هو الظاهر المتبادر من استعمالاتهم.

وأيضا الظاهر بل المعلوم أنّ الوقف على العناوين العامّة أو الخاصّة تمليك لهم كما سيأتي ، وظاهر التمليك والتملّك الاختياري هو أنّه معاهدة من الطرفين ، فيكون عقدا

ص: 234


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 211.
2- « قواعد الأحكام » ، ج 1 ، ص 266.
3- « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 300.
4- « كفاية الأحكام » ص 139.

حتّى إذا كان على الجهات العامّة كالمدارس والمساجد والقناطر والخانات والرباطات.

وأيضا صرّح جماعة ببطلانه بالردّ ، ولو كان إيقاعا لم يبطل ، وإذا كان عقدا فمقتضى الأصل هو احتياجه إلى القبول ، وهو أصالة عدم ترتّب الأثر إلاّ مع القبول.

اللّهمّ إلاّ أن لا يكون القبول دخيلا في تحقّق عنوان الوقف عرفا ، فإذا تحقّق عنوانه فإطلاقه ينفي شرطيّة القبول في صحّته.

وعمدة استدلال القائلين بعدم لزوم القبول خلوّ الأخبار المشتملة على أوقاف الأئمّة المعصومين علیهم السلام وسيّدة نساء العالمين علیهم السلام عن ذكر القبول.

وفيه : أنّه يمكن أن يكون خلوّ الأخبار المشتملة على أوقافهم من ذكر القبول من جهة أنّها في مقام بيان صدور كيفيّة الوقف عنهم علیهم السلام لا في مقام بيان تمام سبب حصول الوقف ، فلا إطلاق لها كي يتمسّك بها ، وأيضا يمكن أن يقال باكتفاء القبول من قيّم الوقف وإن كان هو نفسه ، كما في الجواهر (1).

وأمّا التفصيل بين الوقف الخاصّ والوقف العامّ - كما صدر عن بعض - فلا وجه وجيه له أصلا ، لأنّ اعتمادهم في هذا التفصيل على عدم من هو يقبل ، وجوابه إمكان قبول الحاكم أو من بحكمه.

وأمّا جريان الفضولي فيه أوّلا فمبنيّ على أنّه عقد أو إيقاع ، وأنّ الفضولي في البيع هل على القاعدة أو لأدلّة خاصّة؟ فإن قلنا إنّه إيقاع ، فالظاهر الإجماع على عدم جريان الفضولي في الإيقاعات ، وقد تقدّم أنّه ليس بإيقاع ، وقد تقرّر في محلّه أنّ صحّة معاملة الفضولي على القاعدة ، فمقتضى القاعدة جريانه فيه.

ولكن يمكن أن يقال بأنّه وإن لم يكن مانع عن جريانه فيه بمقتضى القاعدة ، إلاّ أنّه بناء على اعتبار قصد القربة فيه حال العقد وإنشائه ، فلا يحصل هذا الشرط وإن

ص: 235


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 7.

قصد الفضول القربة حال العقد ، لأنّ قصد القربة عن غير الواقف لا أثر له وإن كان بعنوان النيابة عن المالك ، خصوصا من غير استنابة المالك.

وأمّا قصد المالك حال الإجازة فغير مفيد ، لأنّ الشي ء بعد وقوعه لا ينقلب عمّا وقع عليه. نعم بناء على عدم اعتبار قصد القربة فيه ، وبناء على كونه عقدا لا إيقاعا ، وبناء على أنّ جريان الفضولي في المعاملات على القاعدة لا أنّه فقط في البيع وبالأدلّة الخاصّة ، فلا إشكال في جريان الفضولي ، فإذا وقف شخص فضولة ملك شخص وأجازه المالك الواجد لشرائط الإجازة ولكونه واقفا يصحّ ذلك الوقف ، ويكون كما صدر عن نفس المالك.

وأمّا اعتبار كونه بقصد القربة في وقوعه وتحقّقه شرعا أو لا؟

فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، واختار العلاّمة قدس سره في قواعده الاعتبار (1) ، وحكى ذلك أيضا عن الشهيد قدس سره في الدروس (2) ، ويظهر من السرائر (3) والغنية (4) دعوى الإجماع على الاعتبار ، وحكى عن بعض دعوى الاشتهار بين القدماء.

ثمَّ إنّه لو لم يوجد دليل لا على اعتبار قصد القربة في تحقّقه ووقوعه ولا عدم الاعتبار ، فهل مقتضى الأصل أيّ واحد منهما؟

أقول : أمّا أصالة عدم الاعتبار الذي ذكرها في الجواهر (5) فليس لها حالة سابقة على تقدير كون العدم نعتيّا. ومثبت إن كان محموليّا.

فتكون أصالة الفساد في المعاملات والعقود محكما ، لاحتمال دخله في تحقق ماهيّة الوقف شرعا ، ومع هذا الشكّ والاحتمال لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاقات أدلّة الوقف ،

ص: 236


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 267.
2- « الدروس الشرعية » ج 2 ، ص 264.
3- « السرائر » ج 3 ، ص 157.
4- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 540.
5- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 8.

فإنّ قوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » حكم على الوقوف بعد الفراغ عن تحقّق أصل حقيقة الوقف وماهيّته بجميع ما له دخل في تلك الماهيّة عرفا أو شرعا.

نعم لو كان الوقف معنى عرفيّا كالبيع ، ويكون في نظر العرف موجودا بدون قصد القربة ، وتكون المطلقات باعتبار ما هو المفهوم منها عرفا ، فإذا احتملنا دخل شي ء فيه شرعا ، ولم يدلّ دليل على اعتباره فيمكن التمسّك بالمطلق لرفع الشكّ وعدم اعتبار ما شكّ في اعتباره شرعا في تلك الماهيّة.

وعلى هذا المبنى سلك شيخنا الأعظم قدس سره في التمسّك بالمطلقات في باب البيع في مكاسبه (1) ، ولكن فيما نحن فيه لا نعلم بتحقّق حقيقة الوقف ، لأنّ الوقف ليس من العناوين العرفيّة المحضة ، بل تصرّف فيها الشارع بضمّ بعض الخصوصيّات وحذف أخرى ، فليس المطلق ملقى إلى العرف بما يفهمه العرف ويكون عندهم هو الوقف.

ويكون من هذه الجهة شبيها بمفاهيم عناوين العبادات ، فإنّه هناك يصحّ التمسّك بالمطلقات بعد إحراز عنوان المطلق شرعا ، وإن احتمل دخل خصوصيّة أخرى زائدة على المسمّى ، وإلاّ لا بدّ من القول بعدم جواز التمسّك بالإطلاقات في أبواب العبادات بناء على الصحيحي ، والاكتفاء بالإطلاق المقامي في رفع الشكّ.

وأمّا الدليل على اعتبار قصد القربة في الوقف :

فمنها : الإجماع المدّعى من السرائر والغنية.

ويجيب عنه صاحب الجواهر قدس سره بأنّه لم نتحقّقه ، لخلوّ كثير من عبارات الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه. (2)

ص: 237


1- « كتاب المكاسب » ص 80 و 96.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 8 ، الوقوف والصدقات.

أقول : قد تكرّر منّا عدم صحّة التمسّك بأمثال هذه الإجماعات - على فرض تحقّقه - في إثبات الاعتبار ، وذلك من جهة معلوميّة مدرك إجماعهم واتّفاقهم ، ولا أقلّ من احتمال كون مدركهم هذه الأدلّة التي سنذكرها ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا يبقى مجال استكشاف رأي المعصوم علیه السلام بالحدس القطعي من هذا الإجماع والاتّفاق.

ومنها : قوله علیه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه عزّ وجلّ » (1).

بناء على أنّ ماهيّة الوقف من أنواع الصدقة ، فهو صدقة خاصّة ، ولذا وصفوها علیهم السلام في الروايات العديدة ب- « لا تباع ولا توهب ولا تورث » (2) فيكون مفهوم الوقف أخصّ من مفهوم الصدقة ، ولذلك عبّر عنه بالصدقة في جميع أصناف الوقف.

فالصدقات على أقسام : منها : الوقف ، ومنها : الزكاة ، ومنها : غيرهما من الصدقات الواجبة والمندوبة.

وقد عبّر عن الوقف على الولد بالصدقة في بعض الروايات ، كرواية عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الرجل يتصدّق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثمَّ يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده؟ قال علیه السلام : « لا بأس بذلك » (3).

واحتمال إرادة غير الوقف من الصدقة بعيد.

وخلاصة الكلام : أنّ تعبيرهم علیهم السلام عن الوقف بالصدقة كثير في الروايات في الأقسام المختلفة من الوقف ، في الوقف على الجهات ، وعلى العناوين ، وعلى الذريّة والأولاد ، فادّعاء أنّ النسبة بينهما عموم من وجه لا يخلو عن مجازفة.

ص: 238


1- « الكافي » ج 7 ، ص 30 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 151 ، ح 619 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 66 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 319 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 13 ، ح 2 و 3.
2- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (2).
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 575 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 101 ، ح 389 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 300 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 5 ، ح 1.

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله في بيان الوقف على ما رواه ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « حبس الأصل وسبل الثمرة » (1) حتّى أنّ أكثر الفقهاء عرّفوا الوقف بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، ويقول في القاموس : وسبله تسبيلا : جعله في سبيل اللّه تعالى (2).

فبناء على هذا المعنى يكون حقيقة الوقف عبارة عن حبس الأصل وتوقيفه عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، وجعل ثمرته ومنفعته في سبيل اللّه ، وهل مع هذا يبقى شكّ في أنّ قصد القربة داخل في حقيقة الوقف؟!.

وقال الشيخ قدس سره في النهاية : وعلى كلّ حال ، فالوقف والصدقة شي ء واحد ، ولا يصحّ شي ء منهما إلاّ ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى ، فإن لم يقصد بذلك وجه اللّه لم يصحّ الوقف (3) ، انتهى.

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الجواهر قدس سره (4) من حصول القطع للفقيه بعدم اعتباره بأدنى ملاحظة فيما ذكره من الوجوه لعدم الاعتبار ، فإنّا لاحظنا في جميع ما ذكره ولم يحصل لنا الظنّ ، فضلا عن القطع.

وأمّا ما ذكره من عدم كون الوقف صدقة لعدم اعتبار الفقر فيه مع اعتباره فيها ، فلا يدلّ على عدم كونه صدقة ، لأنّه من الممكن أن تكون أصناف الصدقة مختلفة في الأحكام والآثار.

وأمّا صحّة الوقف على الكافر أو من الكافر ، فلا ينافي اعتبار القربة. أمّا على الكافر الذمّي إذا كان أحد أبويه ، لأنّه يمكن أن يتقرّب به إلى اللّه في إحسانه إليهم الذي أمر به اللّه ، بل وفي غير الأبوين من الكفّار غير الحربيّين لا ريب في حسن

ص: 239


1- تقدم راجع ص 231.
2- « القاموس المحيط » ج 3 ، ص 393 ، « السبيل ».
3- « النهاية » ص 596.
4- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 9.

الإحسان إليهم ، خصوصا إذا كانوا عجزة فقراء فأيضا ممكن التقرّب إلى اللّه بهذا الإحسان إليهم.

وأمّا من الكافر الذمّي ، فلأنّه من الممكن أن يقصد القربة وإن لم يحصل له التقرّب.

نعم بناء على اشتراط الإيمان في صحّة العبادة يدلّ على عدم كونه عبادة منه ، لا على عدم اعتبار قصد القربة.

وأمّا ما قيل : من أنّ قوله علیه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه » أنّ نفي الحقيقة مبالغة في نفي الكمال ، فنفي الحقيقة ادّعائيّ لا حقيقيّ.

فهذا الادّعاء خلاف ظاهر الكلام وما يفهمه العرف من هذه الجملة ، فظاهر « لا » النافية للجنس نفي الحقيقة حقيقة ، لا ادّعاء.

وأمّا الإشكال على الاعتبار بأنّ الوقف على الأولاد والذرّيّة بل سائر الأقارب ليس المحرّك والداعي إلى الوقف هو التقرب إلى اللّه ، بل الداعي إلى ذلك هو حبّه لهم والعطف عليهم. وأن لا يبقوا محتاجين وفقراء معرزين.

ففيه : أنّ حبّه لهم ليس مانعا عن قصد القربة ، لأنّ اللّه تبارك وتعالى أيضا يحبّ التودّد إليهم والعطف عليهم ، فالعاقل إذا علم أنّ نفي قصد التقرب بهذا الفعل يحصل كلا الأمرين : حسن حال أقربائه بنفس هذا الفعل ، وثواب الآخرة والدرجات الرفيعة بقصده القربة فيه ، فلا محالة يقصد القربة بفعله هذا.

وأمّا صدوره في بعض الأحيان عن بعض الأشخاص بدون قصد القربة - وصرف العطف على أقربائه من قلّة مبالاته بأمور الآخرة وثوابها وعقابها - فهذا ليس دليلا على عدم الاعتبار ، كما أنّ الذين لا يبالون بمخالفة أحكام الدين يراءون في عباداتهم لأغراض دنيويّة ، ولا مانع من الالتزام ببطلان وقفهم في هذه الصورة.

كما أنّه في العتق أيضا لو أعتق أحد أقربائه غير الذين ينعتقون عليه قهرا لحبّه

ص: 240

إيّاهم لا بقصد القربة ، خصوصا إذا كان في كفّارة ، لا مانع من القول بعدم وقوع الكفّارة ، بل عدم صحّة العتق بناء على اعتبار قصد القربة ، كما هو كان ظاهر قوله علیه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه تعالى ».

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ القول بعدم اعتبار قصد القربة في الوقف لا يخلو من نظر وتأمّل ، بل الأحوط وجوبا مراعاته.

ومن جملة ما يعتبر في الوقف - في صحّته أو في لزومه - هو الإقباض ، وسنتكلّم عنه في شرائط الوقف ، وأنّه هل من شرائط صحّة الوقف أو من شرائط لزومه إن شاء اللّه تعالى.

ثمَّ إنّه بعد وقوع عقد الوقف مع القبول وقصد القربة من الأصيل أو الفضولي ، وأجاز المالك بناء على جريان الفضولي فيه واجدا لجميع شرائط الوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه يكون من المنجزات ، فيكون حاله حال سائر المنجّزات في دخوله في مفاد المسألة المعروفة ، وهي أنّ منجّزات المريض الذي يموت في ذلك المرض هل مثل الوصية ، ويكون نفوذها في الزائد على الثلث منوطا بإجازة الورثة أم لا ، بل يكون من أصل التركة وليس معلّقا على إجازتهم؟

وتحقيق الحقّ والمختار في تلك المسألة موكول إلى محلّه ، والغرض ها هنا بيان أنّ الوقف بعد وقوعه وتماميّته بشرائطه يكون مثل البيع والصلح وسائر العقود المنجّزة.

المطلب الثاني : في شرائط الوقف
اشارة

وهي أمور أربعة :

[ الشرط ] الأوّل : القبض. ولا خلاف في أصل شرطيّته واعتباره في الوقف عندنا ،

ص: 241

وإنّما الخلاف في أنّه هو شرط الصحّة أو شرط اللزوم. وتظهر ثمرة القولين في النماء.

والدليل على اعتباره في لزومه الروايات الواردة الدالة عليه :

منها : صحيح صفوان بن يحيي ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمَّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا ، فقال : « إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمَّ جعل لها قيّما لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا كبارا ولم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها ، لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » (1).

ومنها : ما روى عن محمّد بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان علیه السلام : « وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثمَّ يحتاج إليه صاحبه ، فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلّما سلم فلا خيار فيه لصاحبه ، احتاج أو لم يحتج ، افتقر إليه أو استغنى عنه. وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » (2).

فقوله علیه السلام في رواية صفوان « لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » يدلّ على أنّ علّة جواز الرجوع هو عدم حيازتهم وقبضهم للضيعة ، وهذه العلّة بمفهومها تدلّ على أنّ

ص: 242


1- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 36. « الفقيه » ج 4 ، ص 239 ، ح 5573 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 134 ، ح 566 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 13 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 392 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 298 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 4.
2- الصدوق في « كمال الدين » ج 2 ، ص 520 - 521 ، ذكر التوقيعات ، ح 49 ، « الطبرسي في « الاحتجاج » ج 2 ، ص 558 - 560 ، في التوقيعات ، ح 351 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 300 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 8.

الحيازة والقبض موجب لعدم جواز الرجوع الذي هو من لوازم اللزوم.

وظهور هذا التعليل في هذا المفهوم عرفي ، وإنكاره مكابرة ، والفقرة السابقة على هذه الفقرة وهو قوله علیه السلام : « وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع » فعلّق علیه السلام عدم جواز رجوعه الذي هو كناية عن اللزوم على الحيازة لهم ، لأنّ حيازته حيازة لهم ، لأنّه وليّ عليهم ، فيكون القبض والحيازة علّة للزوم الوقف ، وهذا منطوق الرواية.

وأمّا رواية الأسدي ، الفقرة الأولى من تلك الرواية وهي قوله علیه السلام « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلما سلم فلا خيار فيه لصاحبه » إلى آخر الرواية ، فصريحة في أنّه شرط اللزوم.

بيان ذلك : أنّه حكم بالخيار في صورة عدم التسليم الذي هو بمعنى عدم الإقباض ، وحكم بعدم الخيار في صورة التسليم - أي الإقباض - ولا شكّ في أنّ عدم الخيار كناية عن اللزوم ، فعلّق اللزوم على التسليم الذي هو بمعنى الإقباض الملازم للقبض. والإنصاف أنّ ظهور هاتين الروايتين في أنّ القبض موجب للزوم لا يمكن إنكاره.

وأمّا ما ربما يقال ، بل قال بعض الأعاظم 5 من أنّ بطلان الوقف بموت الواقف قبل إقباضه دليل على أنّ القبض شرط الصحّة لا شرط اللزوم.

ففيه : أنّه من الممكن أن يكون نفس الموت موجبا لبطلانه إن كان قبله صحيحا غير لازم. وتظهر ثمرة القولين في النماءات ، فبناء على أنّه شرط اللزوم تكون النماءات من زمان وقوع العقد للموقوف عليهم ، وبناء على أنّه شرط الصحّة تكون للواقف.

وها هنا فروع لا بأس بذكرها

الأوّل : لو مات الواقف قبل القبض بطل الوقف ، لخبر عبيد بن زرارة عن أبي

ص: 243

عبد اللّه علیه السلام في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا ، قال علیه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » وقال علیه السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه » (1).

ودلالة الخبر على بطلان الوقف بموت الواقف واضح لا يحتاج إلى البيان ، لأنّ قوله « تصدّق على ولد له قد أدركوا » إمّا صريح في الوقف بالخصوص ، أو يشمله بالإطلاق.

واحتمال المدارك اختصاصه بالصدقة بالمعنى الأخصّ فلا يشمل الوقف ممّا لا شاهد له ، لعدم دليل على انصراف المطلق إلى أحد فرديه مع كثرة الاستعمال في الفرد الآخر أيضا.

وأمّا تأييده هذا الاحتمال بذيل الخبر « لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه اللّه » فلا وجه له أصلا ، لأنّه من المحتمل القريب أن تكون هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله علیه السلام : « فهو جائز » فيكون مفاده لا يرجع في الوقف إذا كان ابتغاء لوجه اللّه ، أو مطلق الصدقة ، وقفا كانت أو الصدقة الخاصّة ، حيث تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه لا يجوز أن يرجع فيها.

هذا فيما إذا مات الواقف ، وأمّا إن مات الموقوف عليه قبل أن يقبض ، فبناء على ما اخترناه من أنّ القبض شرط اللزوم لا الصحّة ، فالوقف وقع صحيحا ولا وجه لخروجه عن ذلك. نعم للواقف أن يرجع قبل قبض الطبقة اللاحقة أو الشخص اللاحق ، ولا إشكال في البين.

وأمّا بناء على أنّه شرط الصحّة ، فالصحّة التأهليّة باقية ، فإذا قبض البطن اللاحق

ص: 244


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 247 ، ح 5585 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 19 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 577 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 390 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 299 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 5.

مثلا تصير فعليّة ، وإن شكّ في بقائها فيمكن إحرازها بالاستصحاب.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه نظير قبول غير من خوطب به ، لأنّ ظاهر الاشتراط بالقبض هو القبض ممّن كان الطرف في إجراء الصيغة.

لا وجه له ، لأنّ المفروض أنّ العقد تمَّ من الإيجاب والقبول ممّن لهما أهليّة ذلك ، وإنّما الذي بقي حسب اشتراط الشارع صحّة الوقف هو قبض طبيعة الموقوف عليه ، وقبل موت الطبقة الأولى كان مصداق الطبيعة هو ذلك الشخص في الوقف الترتيبي ، وبعد موته صارت الطبقة المتأخّرة مصداقا.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الوقف على عنوان عامّ ، كأولادي - مثلا - نسلا بعد نسل ، أو كان على أشخاص معيّنين ، أو على شخص معيّن ثمَّ على أشخاص معيّنين أخر ، أو ثمَّ على شخص معيّن آخر.

الثاني : في أنّه هل يشترط في تحقّق القبض الذي هو شرط صحّة الوقف أو شرط لزومه أن يكون بإذن الواقف ، أم لا؟

أقول : مقتضى القاعدة عدم الاشتراط ، خصوصا بناء على أنّه شرط اللزوم لا الصحّة ، لأنّ العقد تمَّ من الطرفين بشرائطه ، غاية الأمر اشتراط الشارع شرطا للصحّة أو اللزوم ، وشرطيّة أصل القبض معلوم.

وأمّا كونه بإذن الواقف غير معلوم ، فيكون مجرى أصالة عدم الاشتراط ، وأصالة عدم تأثير العقد بدونه - المعبّر عنها بأصالة الفساد في أبواب المعاملات - محكوم بإطلاقات أدلّة الوقف ، لأنّ الوقف تحقّق عند العرف. وهذا اعتبار آخر زائد على تحقّق حقيقة الوقف عرفا ، وإثباته يحتاج إلى دليل معتبر ، وليس في البين شي ء يكون مانعا من جريان الإطلاقات.

فهذا من قبيل الشكّ في اعتبار بعض الخصوصيّات في عقد البيع شرعا بعد تحقّق ماهيّته عرفا ، كالعربيّة والماضويّة مثلا الذي قلنا بجريان إطلاقات أدلّة البيع ورفع

ص: 245

الشكّ بها.

وأمّا الاستدلال لاعتبار اذن الواقف بقوله علیه السلام : « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار » بأنّه علیه السلام علّق الخيار على عدم التسليم لا عدم القبض ، فيستفاد منه اشتراط الصحّة أو اللزوم بالتسليم وإقباض الواقف ، فلا أثر لصرف قبض الموقوف عليه بدون إقباض الواقف وتسليمه.

ففيه : أنّ المراد من هذه الجملة هو وصول المال الموقوف إلى الموقوف عليه وصيرورته تحت يده ، ولذلك عبّر عنه علیه السلام في صحيح محمّد بن مسلم بقوله علیه السلام : « إذا لم يقبضوا فهو ميراث » (1).

ولا شكّ في إطلاق جملة « فإذا لم يقبضوا » وشمولها لكلتا حالتي الإذن وعدمه ، وأزيد من هذا قوله علیه السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها » فإنّه يدلّ على أنّ أخذهم بالقوّة ورغما لأنف الواقف كاف في الصحّة أو اللزوم.

الثالث : هل يشترط في القبض أن يكون فورا أم لا؟

الظاهر عدم اشتراطه ، للأصل المتقدّم في الفرع السابق ، ويمكن أن يستظهر أيضا من قوله علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ».

وإطلاقه يشمل حتّى فيما إذا كان بين العقد مدّة طويلة ، فإذا حصل القبض بعد العقد بمدّة ولكن قبل الموت بساعة مثلا فيؤثّر أثره.

الرابع : في أنّ الوقف يتمّ صحيحا ويصير لازما بقبض الطبقة الأولى ، ولا يحتاج صحّته أو لزومه بقبض الطبقة الثانية والثالثة ، وهذا لأنّه بعد ما تمَّ وصار لازما لا يخرج عن الصحّة أو اللزوم الاّ بدليل على ذلك.

ص: 246


1- « الكافي » ج 7 ، ص 31 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 7. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 135 ، ح 569 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 16 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 101 ، ح 387 ، باب : من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 1.

نعم يبقى كلام في أنّ قبض بعض الموقوف عليهم يكفي عن قبض الآخرين ، أم لا بل يقسط ، ويكون صحيحا أو لازما بالنسبة إلى حصّة ذلك البعض فقط؟

الظاهر أنّه يحتاج إلى قبض جميع الطبقة الأولى ، ولا يكفي قبض بعضهم عن الآخرين ، أمّا أوّلا : فلأنّ ظاهر قوله علیه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث » أنّ اللزوم أو الصحّة متوقّف على قبض الجميع ، وكذلك قوله علیه السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها ».

وثانيا : أنّ الموقوف عليه جميعهم ، فإذا كان قبض الموقوف عليه شرطا في صحّة الوقف أو في لزومه ، فيجب قبض الجميع.

إن قلت : إنّ الطبقات المتأخّرة أيضا هم الموقوف عليهم ، فبناء على هذا يجب أيضا قبضهم.

أقول : إنّ الطبقة الأولى إذا قبضوا كلّهم إمّا أن يتمّ الوقف ، فلا مجال لاشتراط قبض الباقين لحصول الصحّة أو اللزوم ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال. وإمّا أن لا يتمّ ، فلا يتمّ إلى الأبد فيما إذا كان وراء كلّ طبقة طبقة ، وهذا شي ء مستنكر ومخالف للضرورة الفقهيّة ، فلا بدّ من القول بأنّه يتمّ بقبض الطبقة الأولى ، فلا يحتاج إلى قبض سائر الطبقات.

نعم لو وقف على أولاد زيد نسلا بعد نسل - مثلا - وكان لزيد أولاد موجودين حال الوقف ، وقبضوا ، فتجدّد له أولاد أو ولد واحد مثلا ، لا يبعد أن يكون قبض الولد المتجدّد أيضا معتبرا في صحّة الوقف أو لزومه ، لأنّهم أيضا من الطبقة الأولى ، وإن كان القول بتماميّة الوقف بقبض الموجودين حال الوقف أيضا له وجه.

وأمّا الموجودين حال الوقف من الطبقة الأولى إن قبض بعضهم دون بعض ، فهل يصحّ الوقف أو يلزم في التمام ، أو لا يصحّ في التمام ، أو يصحّ بالنسبة إلى حصّة القابضين دون الباقين؟ وجوه ، والأظهر هو الوجه الأخير.

ص: 247

الخامس : لو وقف على أولاده نسلا بعد نسل ، وكان الموجودون كلّهم صغارا ، فلا يحتاج إلى الإقباض ، لأنّ يد الأب والجدّ الأبي يدهم ، وقبضهما قبضهم ، وهذا الحكم جار في كلّ من هو وليّ شرعا بالنسبة إلى المولى عليه بلا كلام.

نعم الذي ينبغي أن يتكلّم فيه ، هو أنّه هل يحتاج إلى القصد عن قبلهم أم لا يحتاج؟ بل حكى عن كاشف الغطاء قدس سره أنّ قبض الوليّ هو قبض المولى عليه وان نوى الخلاف (1) ، مثلا لو اشترى شيئا للمولى عليه وقبضه وقصد أن لا يكون للمولى عليه ، بل لنفسه فتلف ، فليس هذا التلف من مصاديق تلف قبل القبض ، وليس ضمانه على البائع لحصول القبض بفعله له قهرا ، وإن قصد خلافه.

والظاهر : هو الأوّل ، لأنّ وقوع فعل شخص عن شخص آخر بحيث يصحّ استناده إلى ذلك الآخر ، لا بدّ وأن يكون بقصد أنّه عن قبله ، وإلاّ لا مصحّح للاستناد إليه ، بحيث أنّ يقال : إن قبض هذا الوليّ أو هذا الوكيل قبضه ، خصوصا مع قصد الخلاف.

وأمّا قوله علیه السلام في خبر عبيد بن زرارة : « فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره ». (2) فلا إطلاق فيه يشمل صورة عدم القصد ، لأنّ الظاهر منه أنّه لا يحتاج إلى قبض نفس المولى عليه ، إذ الوالد يلي أمره.

وأمّا كيفيّة ولايته لأمره - وأنّه هل مع القصد عن قبله أو بدون القصد - فليس في مقام بيان هذا ، فلا إطلاق لها. ومعلوم أنّ ما قلنا من كفاية قبض الولي فيما إذا كان في يده ، وأمّا إذا كان في يد غيره من غاصب ، أو آخذ بالعقد الفاسد أو غيرهما ، فيحتاج إلى قبض الولي وأخذه من يد غيره بعنوان الولاية على الموقوف عليهم.

والمراد من كونه في يد غير الوليّ خروجه عن تحت سيطرته ، فلا يضرّ كونه في

ص: 248


1- الشيخ جعفر في « كشف الغطاء » ص 372 ، كتاب الوقف.
2- تقدم راجع ص 244.

يد وكيله أو من استأجر أو استودع عنه ، بحيث لا ينافي كونه عند غيره مع سيطرته عليه وكونه في يد نفسه ، كما أنّه لو كان الوقف بيد الموقوف عليهم فلا يحتاج بعد الوقف إلى قبض جديد ، بأن يستردّه الواقف ويعطيهم ويقبضهم ثانيا ، لأنّ الشرط حاصل ، فتحصيله ثانيا من قبيل تحصيل الحاصل.

نعم لو قلنا باعتبار إذن الواقف في القبض ، فيحتاج إلى الاذن في البقاء. ولا فرق في ما قلنا من كفاية كونه في يدهم وأنّه لا يحتاج إلى قبض جديد بين أن يكون يدهم يد عادية ، أو يد أمانة شرعيّة ، أو مالكيّة. ويكفي في قبض المسجد والمقبرة لكافّة المسلمين أو لطائفة خاصّة صلاة شخص واحد في الأوّل ، ودفن ميّت واحد في الثاني ، بقصد أنّه وقف المسجد في الأوّل ، وأنّه مقبرة وقف على كافّة المسلمين ، أو خصوص طائفة في الثانية.

وذلك بناء على اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، وقد تقدّم اعتباره ، وبناء على أنّ القبض لا بدّ وأن يكون بإذن الواقف ، فلا بدّ في تحقّق قبض المسجد بصلاة واحدة ، وقبض المقبرة بدفن رجل واحد أن تكون تلك الصلاة وذلك الدفن بإذن الواقف.

السادس : في أنّه هل يحتاج صحّة الوقف أو لزومه على القبض في الأوقاف العامّة - كالوقف على الجهات العامّة ، كالمساجد والقناطر والرباطات والآبار في الطرق العامّة وأمثالها ، وهكذا الوقف على العناوين العامّة ، كالعلماء والسادات والفقراء وأمثالهم - أم لا؟

والمشهور هو الأوّل. ويمكن أن يستدلّ له بقوله علیه السلام في صحيح صفوان : « فله أن يرجع فيها ، لأنهم لا يحوزونها » (1) فعلّل علیه السلام جواز الرجوع بعدم حيازتهم لها ، فيستكشف من هذا التعليل أنّ حقيقة الوقف وطبيعته لا يصحّ - أو لا يلزم - إلاّ

ص: 249


1- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (1).

بحيازة الموقوف عليهم له.

وأمّا القول بأنّه ليس هناك في الوقف على الجهات العامّة من يقبضه. وقد تقدّم نظير هذا الكلام في اشتراط الوقف بالقبول ، وقد أجبنا عنه بأنّه إمّا أن يقبل الحاكم أو أحد مصاديق تلك العناوين.

ونقول ها هنا أيضا نظير ما تقدّم ، مضافا إلى أنّ مقتضى الأصل أيضا هو اعتبار القبض فيه ، إذ ليس عموم يتمسّك به لعدم الاعتبار.

أمّا قوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (1) فلما ذكرنا من أنّ هذه الجملة ناظرة إلى أحكام الوقف بعد الفراغ عن تحقّق ماهيّته ، وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون القبض دخيلا في تحقّق ماهيّته بناء على أنّه شرط صحّته لا لزومه.

وأمّا قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فلاحتمال عدم كونه عقدا ، بل يكون إيقاعا ، فيكون خارجا عن موضوع عموم الآية. ولكن تقدّم أنّه عقد ، فالتمسّك لاحتياج كلّ وقف إلى القبض لصحّته أو للزومه بالروايات أولى.

وعلى تقدير لزوم القبض حتّى في الوقف على الجهات ، يكفي قبض المتولّي ، أو الحاكم ، أو أحد المسلمين ممّن كان مصداقا لتلك الجهة إن كان قبضه بعنوان أنّه مصداق لتلك الجهة ، فلو عبّر أحد المسلمين من القنطرة التي وقفها لأجل عبور المسلمين بعنوان أنّه من مصاديق هذه الجهة ، فهذا يعتبر قبضا منه لتلك القنطرة.

الشرط الثاني من شرائط الوقف الدوام. فلو قال : وقفت هذا الخان - مثلا - على الزوّار مدّة عشر سنين ، فلا يصحّ ولا يقع وقفا.

وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط ، وتمسّكوا أيضا بوجوه أخر :

ص: 250


1- تقدم راجع ص 229 ، هامش رقم (1).

منها : الروايات الواردة في كيفيّة وقف الأئمّة علیهم السلام ومن تعبيرهم علیهم السلام في تلك الروايات عن أوقافهم بالصدقة التي لا تباع ولا توهب ولا تورث (1).

ولا شكّ أنّ نفي هذه الأمور الثلاثة معا ملازم للدوام ، بل نفي خصوص الإرث يكفي في إثبات شرطيّة الدوام لتحقّق حقيقة الوقف. مضافا إلى أنّ في بعضها : « حتّى يرثها وارث السماوات والأرض ». وفي وقف أمير المؤمنين علیه السلام داره التي كانت في بني زريق هذه العبارة مرويّة « صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها اللّه الذي يرث السماوات والأرض » (2).

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات هو أنّ الصدقة أنواع ، والوقف نوع من تلك الأنواع ، فهم علیهم السلام لتعيين هذا النوع من بين سائر الأنواع وصفوها بهذه الأوصاف ، وقيّدوها بهذه القيود ، وليست هذه الأوصاف من الشروط الضمنيّة الخارجة عن ماهيّة الوقف ، لأنّ ظاهر هذه الروايات حسب القواعد العربيّة أنّ الصدقة هو مفعول مطلق نوعيّ ويكون قوله علیه السلام : « لا تباع ولا توهب ولا تورث » صفة معيّنة لذلك النوع.

فيكون حاصل المعنى أنّه علیه السلام يتصدّق بهذه الدار - مثلا - صدقة كذائيّة التي متّصفة بكذا وكذا ، أي : هذا النوع من الصدقة التي من آثارها وأحكامها عدم جواز بيعها ولا هبتها ولا إرثها حتّى قيام القيامة ، فعيّن الوقف وعرّفه بهذه الأوصاف.

وأمّا القول بأنّ الصدقة مصدر ، فلا يتّصف بصفات العين.

ففيه : أنّها تتّصف بها باعتبار ما يتصدّق به ، فتدلّ هذه الروايات على أنّ الدوام والتأبيد داخلان في حقيقة الوقف وماهيّته.

ص: 251


1- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (2).
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 248 ، ح 5588 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 22 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 131 ، ح 560 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 98 ، ح 380 ، باب : أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 304 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 4.

ومنها : أنّ الوقف من العقود المملّكة ، ومفادها تمليك الموقوف للموقوف عليه ، والتمليك لا يمكن بدون التأبيد ، فإنّ الملكيّة الموقّتة غير معهود في الشرع.

وفيه : أنّه ممنوع بكلتا مقدّمتيه : أمّا كون حقيقة الوقف تمليكا ، فمنقوض بالوقف على المساجد ، ووقف نفس المساجد ، حيث أنّ المشهور قالوا بأنّه فكّ ملك ، لا أنّه تمليك للمسلمين ، بل منقوض بجميع الأوقاف التي تقفها الملاّك على الجهات العامّة ، بل حقيقته - كما عرّفه أكثر القدماء - مأخوذ من النبوي المشهور بأنّه « تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة » (1).

وليس في هذه العبارة ما يفيد أنّه تمليك. وأمّا الملك الموقّت فلا مانع منه إذا دلّ الدليل عليه ، لأنّه أمر اعتباري قابل للتوقيت وللتأبيد ، فتابع للدليل واعتبار الشارع ، أو لاعتبار العقلاء.

وقد تقدّم الكلام فيه في بدل الحيلولة في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت » من إمكان ردّه كون بدل الحيلولة ملكا موقّتا إلى زمان حصول المغصوب ، أو إمكان ، أو إلى زمان نفس الردّ. وأيضا لو وقف على زيد عشر سنين ثمَّ على الفقراء ، فملكيّة زيد عشرة سنين تكون موقّتا.

فظهر بطلان كلتا المقدّمتين ، أي : لا يكون حقيقة الوقف هو التمليك ، ولا يمتنع أيضا الملكيّة الموقّتة ، بل هو معهود من الشارع أيضا.

وقد حكى هذا الوجه لاعتبار التأبيد عن تقرير بحث شيخنا الأعظم قدس سره وهو من مثله لا يخلو عن غرابة.

ومنها : أنّ الوقف عبارة عن توقيف العين الموقوفة ، وحبسه عن التقلّبات والنقل والانتقال في عالم الاعتبار التشريعي ، ومثل هذا المعنى يلائم مع التأبيد بل ينافي التوقيت.

ص: 252


1- تقدم راجع ص 231 ، هامش رقم (1).

وفيه : أنّ الحبس في عالم الاعتبار عن التقلبّات ، مثل الحبس الخارجي عن الانتقال من مكان إلى مكان ، يمكن أن يكون مؤبّدا ، ويمكن أن يكون موقّتا ، فالعمدة في دليله هو الإجماع.

ولكن فيه أنّ الإجماع أيضا يمكن أن يكون اتّكاء المجمعين على بعض هذه الوجوه المذكورة أو على جميعها ، فليس من الإجماع المصطلح الذي قلنا في الأصول بحجّيته ، ولكن مع ذلك كلّه الاتّفاق التامّ بحيث لم يوجد مخالف واحد في جميع الأعصار ممّا يوجب الاطمئنان باعتبار هذا الشرط في صحّة الوقف.

ثمَّ إنّه لو وقّت الوقف بسنة أو أكثر أو أقلّ مثلا ، فلا يقع الوقف بناء على اعتبار الدوام ، ولكن هل يكون هذا الإنشاء باطلا وبلا أثر - وكأنّه لم يكن - أو يكون حبسا يترتّب عليه آثار الحبس وأحكامه؟

وتحقيق الحقّ في هذا المقام هو أنّ الوقف والحبس إن قلنا بأنّهما مختلفتان بحسب الماهيّة والحقيقة ، فلو قصد الوقف بذلك الإنشاء فلا يقع شي ء منهما ، ويكون ذلك الإنشاء لغوا وبلا أثر ، أما عدم وقوع الوقف ، لانتفاء شرط الصحّة ، وأمّا عدم وقوع الحبس ، لعدم قصده ، والعقود تابعة للقصود.

وأمّا لو قصد الحبس فعدم وقوعه وقفا واضح ، لعدم قصده ، مضافا إلى انتفاء شرطه. وأمّا وقوعه حبسا فمبنيّ على أنّ إنشاء الحبس هل يلزم أن يكون بصيغة خاصّة ، أو يصحّ وإن كان بصيغة وقفت مثلا؟

وأمّا لو يعلم أنّه قصد أيّ واحد منهما ، بعد الفراغ عن أنّه ليس في مقام أداء هذا الكلام بلا قصد ، وأيضا لم يقصد المعنى الجنسي المشترك بينهما - وإلاّ فمن المعلوم أنّه لو كان أحد هذين الأمرين فلا يقع شي ء منهما - فهل التوقيت بمدّة معيّنة يكون قرينة على إرادة خصوص الحبس فتدخل المسألة حينئذ في ما ذكرنا من أنّ الحبس هل يصحّ بلفظ الوقف ، أم لا؟

ص: 253

الظاهر : أنّه تكون قرينة على إرادة الحبس فيما إذا يعلم باشتراط التأبيد في الوقف ، وأمّا تعين المراد - وأنّه قصد الحبس ولم يقصد الوقف - بأصالة الصحّة ، فممّا لا ينبغي احتماله.

وأمّا إذا قلنا بأنّهما حقيقة واحدة ، وكلاهما عبارة عن حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، غاية الأمر أنّ الواقف مشروط صحّته بأن يكون حبس الأصل دائميّا حتّى يرث اللّه السماوات والأرض ، فيكون حبسا بلا كلام ، لأنّ المفروض أنّه لا امتياز بينهما إلاّ بالتوقيت وعدمه ، فإنّ الوقف غير موقّت والحبس موقّت ، فإذا وقّته يكون حبسا ، ويكون حال هذه المسألة حال عقد الدوام والانقطاع وعدم ذكر الأجل.

فكما أنّه هناك بناء على أنّ الزوجيّة في الدائمة والمنقطعة حقيقة واحدة ، والفارق بينهما ليس إلاّ بذكر الأجل في المنقطعة دون الدائمة ، فإذا لم يذكر الأجل وإن كان نسيانا تقع دائمة وإن قصد الانقطاع ، لأنّهما حقيقة واحدة. فكذلك ها هنا إذا لم يذكر التأبيد بل وقّته بوقت معيّن قليلا كان أو كثيرا ، فلا محالة يكون حبسا.

ويمكن أن يستدلّ لكونه حبسا أيضا بصحيحة عليّ بن مهزيار ، قلت له علیه السلام :

روى بعض مواليك عن آبائك علیهم السلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكل وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك علیهم السلام ؟ فكتب علیه السلام : « هكذا هو عندي » (1).

وصحيح محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض

ص: 254


1- « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 31. « الفقيه » ج 4 ، ص 237 ، ح 5569 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 132 ، ح 561 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 307 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 7 ، ح 1.

ومن عليها ، وقال آخرون : هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع علیه السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء اللّه » (1).

أقول : ظاهر الصحيحة الأولى أنّ الوقف الموقّت بوقت معلوم صحيح ، والموقّت بوقت مجهول باطل ، فالظاهر أنّه يقع في الشقّ الأوّل وقفا صحيحا ، لا حبسا صحيحا ، ولذا استدلّ بعض بها على وقوع الموقّت المعلوم وقفا صحيحا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ الفرق بين الوقف والحبس بصرف التأبيد والتوقيت ، فالصحيحة تدلّ على صحّته حبسا ، وإن عبّر في السؤال بلفظ الوقف.

وظاهر الصحيحة الثانية هو أنّ الواقف بأيّ كيفيّة من الكيفيّات المذكورة وقف يكون صحيحا ، لأنّ الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها ، فعلى أيّ حال كلتا الصحيحتين تدلاّن على أنّ الوقف الموقّت يقع صحيحا ، غاية الأمر إمّا وقفا وإمّا حبسا. نعم تدلّ الأولى على أنّه إذا كان جهلا مجهولا فهو باطل ، ولذلك ترى أنّ الذي يقول بأنّ الموقّت حبس صحيح والذي يقول بأنّه وقف صحيح ، كلاهما استدلاّ بهاتين الصحيحتين.

الشرط الثالث : التنجيز ، بمعنى أنّه يلزم أن ينشأ الوقف منجّزا غير معلّق على شي ء ، وهذا الشرط لا اختصاص له بالوقف ، بل اعتبروه في جميع العقود ، وأنّ التعليق فيها مبطل لها.

وعمدة دليلهم على اعتبار التنجيز في العقود هو الإجماع المدعى في المقام ، وإلاّ ليس دليل عقليّ على تنافي التعليق مع العقد والعهد إذا كان التعليق في المنشأ.

ص: 255


1- تقدم راجع ص 229 ، هامش رقم (1).

وأمّا الإنشاء فلا يمكن التعليق فيه ، سواء أكان الإنشاء والإيجاد متعلقه أمرا تكوينيّا وموجودا خارجيّا أو أمرا اعتباريّا ، وذلك من جهة أنّ الإنشاء والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم منجّزا ، لأنّه إن أوجد ذلك الشي ء الخارجي ، والموجود التكويني في عالم الخارج ، أو الموجود الذهني في الذهن ، أو الأمر الاعتباري كالملكيّة في عالم الاعتبار فقد تحقّق الإنشاء جزما بدون أيّ تعليق في البين ، وإن لم يوجد ذلك الشي ء فلم يتحقّق الإيجاد قطعا وجزما ، وعلى كلّ حال ليس تعليق في البين.

وأمّا تعليق المنشأ فلا مانع منه عقلا ، بل واقع في الشرعيّات كثيرا ، ففي الجعالة - مثلا - ينشأ الجاعل ملكيّة الجعل لكلّ من ردّ عليه ضالّته ، فالملكيّة المعلّقة على ردّ الضالّة هي التي تعلّق بها الإنشاء ، كما في قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (1) وهكذا الحال في الوصيّة ، فهو ينشأ الملكيّة المعلّقة على موته وفي التدبير ينشأ حرّية عبده معلّقا على موته.

وكذلك في النذر ينشأ ملكيّة المنذور للمنذور له معلّقا على برء مرضه مثلا ، أو قدوم ابنه عن سفره ، وأمثال ذلك ممّا يتداول بين الناس النذر لأجله.

وهذا معنى قولهم أنّ التعليق في الإنشاء محال ، وأمّا في المنشأ فلا مانع منه عقلا ، إلاّ أنّ الإجماع قام على بطلان العقود بالتعليق في منشآتها إلاّ ما خرج بالدليل ، فيكون ذلك الدليل مخصّصا للإجماع ، كما ورد في الوصيّة والجعالة والتدبير كما عرفت (2).

وأمّا استدلال صاحب الجواهر قدس سره على بطلان التعليق في العقود ، لأنّه مناف مع ظاهر أدلّة تسبيب الأسباب لترتّب آثارها عليها ، (3) وذلك لأنّ ظاهرها حسب

ص: 256


1- يوسف (12) : 72.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 766 ، باب : الرجوع في الوصيّة ، ح 19 ، وكذلك ، ج 8 ، ص 264 ، ح 965 ، باب : التدبير ، ح 28 ، وكذلك ، ج 7 ، ص 344 ، ح 1407 ، باب : العقود على الإماء. ، ح 38. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 387 ، في أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 8 ، وكذلك ، ج 16 ، ص 96 ، من أبواب التدبير ، باب 11 ، ح 1 و 2.
3- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 63.

المتفاهم العرفي آثارها عليها حال وقوعها ، فإنّ ظاهر قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ترتيب آثار العقد على كلّ واحد من العقود حال وقوع ذلك العقد ، لا أنّه يرتّب آثار البيع - مثلا - أو النكاح أو الصلح أو غيرها على تلك العقود بعد مضيّ زمان من وقوعها.

ففيه : أنّ ظواهر تلك الأدلّة هو العمل على طبق العقد أو الشرط الواقع ، ووجوب الوفاء بمضمونهما ، فإن كانا مطلقين فمطلقا ، وإن كانا معلّقين على أمر فعند حصول ذلك الأمر ، سواء أكان معلوم الحصول أو مشكوكه ، بل إن كان العقد أو الشرط معلّقا وعمل بهما قبل حصول المعلّق عليه لم يف بعقده أو بشرطه ، وعمل بخلاف ظاهر دليل ذلك العقد أو ذلك الشرط.

مضافا إلى أنّ هذا الكلام لا يأتي فيما إذا كان المعلّق عليه حاصلا حال العقد أو الشرط ، فإنّه لا يتأخّر ترتيب الأثر عنهما في تلك الصورة.

فليس في البين إلاّ الإجماع وقد عرفت في هذا الكتاب مرارا حال هذه الإجماعات وأنّ أغلبها مستند إلى أصل أو رواية ضعيفة بحسب المسند ، أو الدلالة ، أو كلاهما ، أو اعتمد المجمعون على وجوه استحسانيّة التي أشبه بالقياس من الدليل الشرعي ، مع أنّ في بعض صور التعليق اختلاف كثير بينهم.

كما إذا كان التعليق على أمر محقّق الوقوع ، أو كان معلوم الحصول حال العقد ، فالأوّل كما إذا قال : وقفت هذه الدار على الفقراء - مثلا - إن طلعت الشمس غدا. والثاني كما إذا قال : وقفت هذه الدار على زيد - مثلا - إن كان عادلا ثمَّ على الفقراء ، وعدالة زيد معلوم عنده.

الشرط الرابع : إخراجه عن نفسه ، بمعنى أن لا يكون هو الموقوف عليه ولا

ص: 257


1- المائدة (5) : 1.

داخلا فيه أو شريكا معه ، فبناء على هذا لا يصحّ الوقف على نفسه.

وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط تارة ، وعدم إمكان الوقف على النفس أخرى ، لأنّ حقيقة الوقف هو إمّا تمليك المنافع للموقوف عليه وحده ، وإمّا مع العين ، ولا يمكن أن يملك الإنسان نفسه ، لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأجيب عن هذا الدليل بأنّ حقيقة الوقف ليس هو التمليك ، لا تمليك العين ولا تمليك المنفعة ، بل حقيقته تحبيس الأصل عن التقلّبات الاعتباريّة الواردة على المال - كبيعه وهبته وعتقه والصلح عليه وغيرهما - وتسبيل ثمرته ، وأيضا ليس التسبيل أيضا تمليك الثمرة والمنفعة ، بل إباحتها طلبا لمرضاة اللّه وفي سبيله ، فلا مانع عقلا من جعل نفسه موقوفا عليه أو شريكا معه.

وثالثة دلالة الروايات على عدم جواز الوقف على نفسه ، ولزوم إخراج الواقف الوقف عن نفسه :

منها : مكاتبة علي بن سليمان بن رشيد قال : كتبت إليه - يعني أبا الحسن علیه السلام - جعلت فداك ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان ، فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك لي أن أقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين ، أو أبيعها وأتصدّق بثمنها عليهم في حياتي؟ فإني أتخوّف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي ، فإن وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب علیه السلام : « فهمت كتابك في أمر ضياعك ، فليس لك أن تأكل منها من الصدقة ، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ إن كان لك ورثة ، وبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك ، وإن تصدّقت أمسك لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين علیه السلام » (1).

ص: 258


1- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل. ، ح 33. « الفقيه » ج 4 ، ص 238 ، ح 5570 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 129 ، ح 554 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 296 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 1.

ومنها : خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام أنّ رجلا تصدّق بدار له وهو ساكن فيها ، فقال علیه السلام : « الحين أخرج منها » (1).

وفيه : أنّ هاتين الروايتين أجنبيّتان عمّا هو محلّ الكلام.

أما الأولى منهما : فالسؤال فيه عن جواز أكله عنها بعد وقفه على الفقراء المفروض في الرواية ، فأجاب علیه السلام بالعدم ، لأنّه صدقة ووقف على الفقراء ، وهو ليس من الموقوف عليهم ، فلا يجوز له أن يأكل منها ، وهذا المعنى غير مربوط بجواز الوقف على نفسه وعدمه.

وأمّا الثانية : فالأمر فيه أوضح ، لأنّ السؤال عن أنّ الرجل تصدّق بداره التي يسكن فيها ، وظاهر هذه العبارة أنّه تصدّق بها على غيره ، فهو ليس من الموقوف عليه ، فيجب خروجه عنها فورا ، ولذلك أمر علیه السلام به.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا دليل في المسألة يدلّ على عدم جواز الوقف على النفس استقلالا أو تشريكا إلاّ الإجماع ، وما ذكرنا من عدم صحّة الوقف على نفسه مستقلا أو تشريكا على فرض تسليمه فيما إذا كان الواقف بنفسه موقوفا عليه مستقلا أو تشريكا معهم.

وأمّا لو وقف على عنوان ينطبق عليه أيضا ، كعنوان الفقراء والفقهاء ، فالظاهر صحّة مثل هذا الوقف ودخوله فيهم ، وجواز أخذه من ثمرة المال الموقوف وانتفاعه بها ، وليس من قبيل الوقف على النفس ، لأنّ الموقوف عليه هي الطبيعة الكلّية ، لا الأشخاص.

ولذلك لا يملكون الثمرة إلاّ بعد الأخذ وتطبيق الطبيعة ، وذلك من جهة أنّ أخذ

ص: 259


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 138 ، ح 582 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 29 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 103 ، ح 394 ، باب : من تصدّق بمسكن على غيره. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 4.

العنوان متعلّقا وموضوعا للوقف من قبيل القضايا الحقيقيّة ، لا من قبيل القضايا الخارجيّة.

نعم لو كان أخذ العنوان موضوعا للوقف من قبيل القضايا الخارجيّة ، بأن تكون مشيرة إلى أشخاص معيّنين وموجودين في الخارج ، والواقف أحدهم ، كما إذا قال :

وقفت داري على الجالسين تحت هذه الخيمة ، أو الساكنين في هذه الدار الساعة وهو أحدهم ، فلا يجوز ، لأنّه وقف على النفس.

ثمَّ اعلم : أنّه بعد ما تمَّ الوقف واجدا لهذه الشروط الأربعة وسائر الشروط التي نذكرها إن شاء اللّه تعالى يكون لازما ، ليس للواقف الرجوع إليه.

والدليل على ذلك مضافا إلى قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وقوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » الروايات الواردة في القبض ، وأنّه بعده يلزم ولا يجوز الرجوع إليه.

منها : ما تقدّم من ذيل خبر عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه » (2).

والظاهر أنّ المراد من الصدقة في هذه الرواية هو الوقف ، ولا أقلّ من شمولها له بالإطلاق.

ومنها : غيرها ممّا تقدّم في مسألة اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، كصحيح صفوان (3) ورواية العمري (4) وعلى كلّ تقدير لا شكّ في أنّ الوقف من العقود اللازمة عندنا ، خلافا لأبي حنيفة (5).

ص: 260


1- المائدة (5) : 1.
2- تقدم راجع ص 244.
3- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (1).
4- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (2).
5- السرخسي في « المبسوط » ج 12 ، ص 27 ، كتاب الوقف ، الميداني في « اللباب في شرح الكتاب » ج 2 ، ص 180 ، كتاب الوقف ، الكاساني في « بدائع الصّنائع » ج 6 ، ص 218 ، كتاب الوقف والصدقة.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ من شروط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، فلو وقف على من ينقرض غالبا ، كما إذا وقف على أولاده بلا فصل ، أي البطن الأوّل مثلا ، أو ولو قال بطنا بعد بطن إلى عشرة أبطن ، أو مطلقا ولكن لم يذكر عنوانا آخر كالفقراء أو الفقهاء بعدهم ، فهل يبطل فلا يقع وقفا ولا حبسا ، أو يقع حبسا فيرجع بعد انقراضهم إلى الواقف أو ورثته؟

فيه أقوال :

الأوّل : وقوعه وقفا.

الثاني : وقوعه حبسا.

والثالث : بطلانه وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا.

أمّا الثالث - أي البطلان وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا - فنسبه في الشرائع إلى القيل (1) ، وقال في الجواهر في شرح العبارة : كما عن المبسوط إرساله أيضا ولكن لم أتحقّق قائله (2).

أمّا الأوّل - أي وقوعه وقفا - فنسب إلى الشيخين 5 (3) والمختلف (4) والتذكرة (5) ، وقال في الجواهر : وأكثر الأصحاب (6).

وأمّا الثاني فنسب إلى جماعة منهم جامع المقاصد (7) وثاني الشهيدين في كتبه

ص: 261


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 216.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 55.
3- الشيخ المفيد في « المقنعة » ص 655 ، الشيخ الطوسي في « النهاية » ص 599.
4- « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 265 ، كتاب الوقف ، مسألة : 37.
5- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 433.
6- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 56.
7- « جامع المقاصد » ج 9 ، ص 16.

الثلاثة المسالك (1) والروض (2) والروضة (3) والإرشاد (4) والمختلف (5) والتنقيح (6) وإيضاح النافع وغيرهم.

والظاهر أنّ القول بالبطلان في غاية الشذوذ ، وأمّا القولان الآخران فكلّ واحد منهما له شهرة ، وعلى كلّ حال فمقتضى ما ذكرنا أنّ الفرق بين الوقف والحبس ليس إلاّ بالتأبيد والتوقيت ، فيقع حبسا لا محالة ، لأنّه بناء على هذا يكون حبسا للعين وتسبيلا للثمرة مدّة عدم انقراضهم ، وهذا هو الحبس.

غاية الأمر يبقى الكلام في أنّه يجوز إنشاء الحبس بصيغة « وقفت » أم لا؟

وهذا ليس فيه كثير إشكال بناء على أنّ حقيقة الوقف والحبس واحدة ، وهو إيقاف العين عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، غاية الأمر في الوقف دائما ، وفي الحبس موقّتا.

ولكن يرد عليه أنّ الحبس بعد انقضاء المدّة يرجع فيه المال المحبوس إلى المالك ، وفي الوقف خرج عن ملكه فلا يرجع إليه أو إلى ورثته ، بل الصحيح أنّ في الحبس لم يخرج المال عن ملك المالك ، بل هو تسبيل المنفعة موقّتا فهذا الاختلاف وغيره من الآثار والأحكام يدلّ على أنّهما ليسا حقيقة واحدة ، فإذا قصد الوقف وأنشأ بصيغة الوقف لا بدّ وأن يكون إمّا وقفا إن كان صحيحا ، وإمّا أن يكون باطلا.

وأمّا ما يقال : من أنّهما حقيقة واحدة ، والاختلاف في الأحكام والآثار من ناحية اختلافهما في المرتبة ، كالوجوب والاستحباب عند هذا القائل ، فالوقف هو الحبس

ص: 262


1- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 278.
2- « مفتاح الكرامة » ج 9 ، ص 17.
3- « اللمعة - الروضة البهية » ج 3 ، ص 169.
4- « إرشاد الأذهان » ج 1 ، ص 452.
5- « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 267.
6- « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 303.

المطلق غير المحدود ، والحبس هو الحبس المحدود المعيّن مدّته.

فعلى فرض صحّة هذا الكلام ، فإذا قصد مرتبة من تلك الحقيقة لا تقع مرتبة أخرى ، لأنّ العقود تابعة للقصود ، والمفروض أنّه فيما نحن فيه قصد الوقف ، فوقوع مرتبة أخرى لا وجه له ، فبناء على هذا لا بدّ من القول بوقوعه وقفا إن لم نقل بالبطلان.

ولكن يرد على هذا أيضا أنّ من شرائط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، بل احتملنا أن يكون داخلا ومأخوذا في حقيقة الوقف.

ويمكن أن يجاب عنه أوّلا : بأنّ الدوام ليس مأخوذا في حقيقة الوقف ، وليس دليل يدلّ على هذا ، وإنّما قلنا باعتباره فيه للإجماع ، وادّعاء الإجماع مع شهرة المخالف في هذه المسألة - حيث أنّهم يقولون بصحّته وقفا - لا يخلو عن غرابة.

وثانيا : المراد من الدوام المعتبر في الوقف هو أن لا يحدّد الوقف ومدّة حبسه ، وأمّا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه فعقليّ وليس من قبيل تحديد الحكم ، فلو قال لزيد :

بعتك هذه الدار بكذا ، فلم يحدّد تمليكه لزيد ولكن ملكيّة زيد ينعدم بموته عقلا ، إذ لا يمكن بقاء الحكم بدون الموضوع. وفيما نحن فيه إذا قال : وقفت على أولادي النسل الأوّل منهم ، لم يحدّد وقفه وحبسه ، وإنّما ينتفي الحبس بانقراضهم عقلا ، لا بتوقيت وتحديد من قبل المالك.

ولذلك لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، واتّفق أنّهم لم ينقرضوا ، فالوقف صحيح ، مع أنّ بقاءهم من باب الاتّفاق لا ربط له بإنشاء الواقف.

ثمَّ إنّه بناء على القول بأنّه حبس صحيح ، فلا شكّ في أنّه بعد انقراضهم يرجع إلى المالك أو إلى ورثته.

وأمّا بناء على ما رجحناه من أنّه وقف صحيح ، فهل يرجع إلى المالك أو إلى ورثته إذا لم يكن المالك باقيا ، أو يرجع إلى ورثة الموقوف عليه ، أو يصرف في وجوه

ص: 263

البرّ؟ وجوه بل أقوال :

وبيان الرجوع إلى المالك أو ورثته هو أنّه لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف صرف حبس ماله وإيقافه عن ورود التقلّبات الاعتبارية عليه ، وتسبيل ثمرته على عنوان خاصّ أو أشخاص مخصوصين من دون إخراجه عن ملكه ، فالأمر في غاية الوضوح ، لأنّه ملكه ، وبعد موته ملك وارثه.

وأمّا إن قلنا بأنّه تمليك للموقوف عليهم فيما عدا وقف المسجد ، بل وفيما عدا الوقف على الجهات ، كالقناطر والخانات والرباطات ، فمقتضى القاعدة عدم رجوعه إليه أو إلى وارثه ، لأنّ رجوعه إليه بعد خروجه عنه يحتاج إلى دليل وهو مفقود. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ خروجه عن ملك الواقف ليس مطلقا ودائميّا بل مقيّد ببقاء الموقوف عليهم ، فإذا انقرضوا يرجع إلى حالته الأولى ، بل ينبغي أن يقال يبقى على حالته الأولى ، لا أنّه يرجع إليها.

وأمّا إن قلنا بخروجه عن ملك الواقف ، وصيرورته ملكا مطلقا للموقوف عليهم غير مقيّد ببقائهم ، فإذا انقرضوا يكون لورثة البطن أو الشخص الأخير ، بمفاد قوله علیه السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » (1). وليس التمسّك به من قبيل التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية ، لأنّه بناء على عدم تقييد ملكيّته ببقائه يصدق عليه عنوان « ما تركه الميت » يقينا.

وأمّا القول بصرفه في وجوه البرّ فليس له وجه ، إلاّ أن يقال بأنّ المال خرج عن ملك الواقف مطلقا ودخل في ملك الموقوف عليهم مقيّدا ببقائهم ، فلا يرث وارثهم ولا الواقف ، لأنّ دخوله في ملكه ثانيا يحتاج إلى دليل وليس ، ومع ذلك كلّه الوقف باق على وقفيّته ، فيكون مثل الوقف المجهول المصرف يصرف في وجوه البرّ.

ص: 264


1- النراقي في « مستند الشيعة » ج 14 ، ص 412 ، « مسند احمد » ج 2 ، ص 453 ، نحوه ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص ص 914 ، ح 2738 ، باب ذوي الأرحام ، نحوه.

ولكن أنت خبير بعدم تماميّة هذه المقدّمات ، خصوصا المقدّمة الأخيرة والأولى ، بل الأقوى من الوجوه المذكورة هو الرجوع إلى الواقف ، وذلك لأنّ المال إمّا لم يخرج عن ملكه بالمرّة ، أو يكون خروجه ما دام بقاء الموقوف عليهم لا مطلقا.

بقي الكلام في أنّه بناء على المختار من أنّه يرجع إلى الواقف أو ورثته ، فهل المراد هو الوارث حين موت الواقف ، أو حين انقراض الموقوف عليهم؟

وتظهر الثمرة فيما إذا كان للواقف ولدان - مثلا - أحدهما مات بعد موت المالك الواقف ، ولكن قبل انقراض الموقوف عليهم. والثاني باق إلى زمان انقراضهم ، فلو كان المراد الوارث حين موت الواقف فيرث ذلك الولد الذي مات قبل انقراض الموقوف عليهم ، ويكون شريكا مع أخيه الباقي إلى زمان الانقراض ، ويرث منه ورثته الباقون.

وأمّا لو كان المراد الوارث حال الانقراض ، فيكون جميع المال لذلك الولد الباقي إلى زمان الانقراض.

والظاهر أنّ المراد من الوارث هو الوارث حال موت الواقف ، لا الوارث حال الانقراض ، وذلك من جهة أنّ المناط في رجوع المال إليه كونه وارثا لمن يرجع إليه - أي الواقف - وهذا المعنى يثبت له حال موت الواقف المورث ، ولا ربط لانقراض الموقوف عليهم بكونه وارثا ، كما هو واضح.

إن قلت : إنّ حال موت الواقف ليس شي ء في البين كي يرثه هذا الوارث ، لأنّ الرجوع بعد الانقراض ، ولا بدّ في كونه وارثا من صدق « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » والمفروض أنّه في حال موته لم يترك شيئا كي يرثه هذا الوارث.

قلت : بيّنّا أنّ الرجوع إلى المالك أو وارثه يكون إمّا بناء على عدم خروج المال الموقوف عن ملك الواقف أصلا ، وفي هذه الصورة واضح أنّه لا إشكال في البين. وإمّا بناء على أنّ تمليك الموقوف عليهم ليس تمليكا مطلقا ، بل يكون مقيّدا ببقائهم ، فمن زمان انقراضهم لم يخرج عن ملك المالك من أوّل الأمر.

ص: 265

وبعبارة أخرى : صار تقطيعا في ملكيّة المالك مثل الحبس ، حيث أنّه يصير ملكا موقّتا له ، فخروجه عن ملك الواقف بمقدار زمان الحبس ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، وفيما نحن فيه أيضا بناء على هذا المبنى كذلك ، أي خارج عن ملك الواقف بمقدار بقاء الموقوف عليهم ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، فلا يبقى إشكال في أنّه ينتقل حين موته إلى ورثته.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ أحد شروط صحّة الوقف إخراج الواقف نفسه عن الموقوف عليهم كي لا يكون من قبيل الوقف على النفس ، لأنّه باطل إجماعا - كما تقدّم مفصّلا - فلو وقف على أحد العناوين كالفقهاء أو السادات أو غيرهما من العناوين ، وشرط عليهم أداء ديونه أو إدرار مئونته أو عياله أو غير ذلك ممّا يرجع إلى نفسه ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس كي يكون باطلا ، أو ليس كذلك فيكون صحيحا؟

أقول : إن كان شرط عليهم إدرار مئونته أو أداء ديونه من غير منافع الوقف ومن ماله الآخر ، فلا إشكال في أنّه ليس من قبيل الوقف على النفس. وإن شرط أن يكون من منافع الوقف ، فيكون وقفا على النفس ، من جهة أنّ المراد من الوقف على النفس هو أن يرجع تمام الثمرة والمنفعة أو بعضها إلى الواقف ، وما نحن فيه كذلك ، فيكون هذا الشرط فاسدا. وحيث أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد ، وهو إحدى القواعد التي رتّبناها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، فيكون الوقف صحيحا ويصرف في نفس العنوان الموقوف عليهم ، ولو شرط صرف بعض منافعه وثمرته على أهله أو أضيافه أو على أولاده وإن كانوا ممّن هم نفقتهم واجبة عليه ، لأنّ هذا ليس من قبيل الوقف على نفسه.

وأمّا إذا شرط أداء زكاته الواجبة ، أو الخمس الواجب في ماله ، فهذا الشرط فاسد ، لأنّه من قبيل الوقف على نفسه. ولو شرط عليهم الحجّ له به بعد موته من منافع هذا الوقف ، فالظاهر عدم صحّة هذا الشرط.

ص: 266

فرع :

إذا استثنى مقدارا من منافع العين الموقوفة ، أو من نفس العين لنفسه ، فالظاهر أنّه ليس من الوقف على النفس ، بل هو إخراج عن أصل الوقف ، فيرجع إلى أنّه لم يقف تمام هذه العين ، أو لم يسبل تمام منافعه ، فلا إشكال فيه أصلا.

فرع آخر :

لو جعل نفسه متوليّا وناظرا على الوقف ، وجعل مقدارا من منافع ذلك الوقف قليلا أو كثيرا للمتولّي ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس وباطل ، أم لا؟.

أقول : إذا كان بمقدار المتعارف ، كالعشر من منافع الوقف ، فالظاهر أنّه لا إشكال فيه ، لأنّه في الواقع من قبيل الأجرة مقابل عمله وتعبه في إدارة الوقف من عمارته وإجارته وإصلاح شؤونه وسائر تصرّفاته.

ولا شكّ في أنّ حال الوقف حال الأملاك الشخصيّة ، كما أنّهم يجعلون أجرا للذي يدير ذلك الملك ، وقد يكون الأجر حصّة من منافع ذلك الملك ، وليس معنى ذلك أن يكون شريكا فيه ، بل يكون كسائر مؤن ذلك الملك ، فيكون حال المتولي والناظر في الوقف حال ذلك الرجل الذي يدير أمر ملك غيره ويديره.

وأمّا إذا كان كثيرا كتسعة أعشار منافعه مثلا لو جعلها للمتولّي الذي هو نفس الواقف ما دام حيّا وفي الطبقة الأولى ، وعيّن غيره بعد مماته ، وجعل له مقدارا متعارفا ، فالإنصاف أنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّه بنظر العرف وقف على نفسه ، فكأنّه جعل نفسه موقوفا عليه ، وإن كان بحسب الظاهر يقال : إنّه حقّ التولية ، ولكن في مقام اللبّ ليس بإزاء إتعابه في إصلاح شؤون الوقف وإدارة أموره.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ عمدة دليل بطلان الوقف على النفس هو الإجماع كما تقدّم ، ولا شكّ في أنّه ليس إجماع في مثل المقام ، بل القائلين بصحّة مثل هذا المقدار للمتولّي كثير ، إن لم يكن من القائلين بالبطلان أكثر.

ص: 267

أو يقال : بأنّه من باب استثناء هذا المقدار من المنافع مدّة حياة المتولي عن الوقف ، فلا إشكال من ناحية الوقف على النفس أصلا.

وأمّا من ناحية الاستثناء ، فالظاهر أنّه أيضا لا إشكال فيه ، لأنّ مرجع استثناء هذا المقدار في تلك المدّة عدم تعلّق الوقف بهذا المقدار من ثمرة الوقف في مدّة حياة ذلك المتولّي. ولا مانع من هذا لا عقلا ولا شرعا ، بل لو استثنى في ضمن إجراء الصيغة مقدار مئونته ما دام حيّا من منافع الوقف ، لا إشكال فيه ، لأنّ الوقف تعلّق بما عدا هذا المقدار.

ولذلك يجوز وقف العين باعتبار بعض منافعها ، ويبقى الباقي في ملك الواقف ، مثلا يجوز وقف الشاة لأن يعطي لبنها للأطفال الرضع ، ويبقى سائر منافعها للواقف ، وكذلك البستان باعتبار ثمرة نخيلها ، فتبقى منافعها الأخر للواقف.

وصحّة هذا القسم من الوقف - بناء على كونه عبارة عن صرف حبس الأصل عن التقلّبات في عالم التشريع ، وجعل ثمرته للموقوف عليهم - لا إشكال فيه ، لأنّ هذه الاستثناءات تدلّ على أنّ الثمرة المجعولة للموقوف عليهم ما عدا هذا المقدار ، كما هو شأن كلّ استثناء في كلّ مقام ، وهو أنّ حكم المستثنى منه يشمل ما عدا مقدار المستثنى.

وأمّا بناء على أنّه عبارة عن تمليك الموقوف عليهم للعين الموقوفة ، ربما يتوهّم : أنّه كيف يمكن أن تكون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين ، فباعتبار بعض المنافع تكون ملكا للموقوف عليهم ، وباعتبار بعض آخر تكون ملكا للواقف.

ولكن جوابه : أنّه يمكن أن يكون الأصل بتمامه ملكا للموقوف عليهم فاعتبار ذلك البعض من المنافع ، ويكون من قبيل ما لو آجر الملك قبل الوقف باعتبار بعض الثمرة ، كما لو آجر البستان باعتبار بعض ثمرته ، فأوقفه باعتبار بعض الآخر ، فيصير البستان ملكا للموقوف عليهم ، ولكن مجرّدا عن بعض المنافع. وأمّا لو كان مجرّدا عن جميع المنافع دائما أبدا فاعتبار التمليك لغو.

ص: 268

وأمّا ما ذهب بعض الأساطين 5 من مقاربي عصرنا إلى صحّة كون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين - بأنّ تمام العين من دون شركة الآخر ملكا لهذا ، وكذلك تمام العين يكون ملكا للآخر ، غاية الأمر ملكيّة كلّ واحد منهما لتمام العين باعتبار بعض منافعها غير بعض الآخر - فلا يخلو عن غرابة.

وأمّا لو وقف على العناوين العامّة ، كالمساجد على المصلّين ، والقناطر لكافة المسلمين بل لكافّة العابرين ، والخانات لكافّة المسافرين ، أو المدارس الدينيّة لكافّة طلاّب العلوم الدينيّة الإسلامية ، وكان مصداقا لأحد هذه العناوين ، فلا إشكال في أنّ هذا ليس من الوقف على النفس لو انتفع بها ، لأنّه كسائر مصاديق هذه العناوين ، فحاله حالهم.

وذلك من جهة أنّ الوقف على الجهة ليس من قبيل الوقف على الطبيعة السارية كي يكون كلّ فرد منها موقوفا عليه ، فيكون بالنسبة إلى حصّة الواقف من قبيل الوقف على النفس ، وذلك لو وقف على السادات أو الفقهاء أو الفقراء وكان هو منهم ، فشموله لنفسه ربما يقال إنّه من قبيل الوقف على النفس ، والوقف على إمام مسجد يكون هو إمامه حين الوقف أو إذا صار بعد الوقف يكون من هذا القبيل ، لأنّ إمام المسجد عنوان عامّ هو أحد مصاديقه ، غاية الأمر في كلّ زمان فرده منحصر بواحد غالبا.

وكذلك الوقف على أفقه البلد ، أو الأفقه بقول مطلق ، وكان هو مصداقه حين الوقف ، أو صار بعد ذلك من هذا القبيل.

وأمّا الفرق بين كونه كذلك حين الوقف في الفرعين - أي : مسألة الوقف على إمام المسجد ، ومسألة الوقف على الأفقه وأنّه صار مصداقا لذلك العنوان بعد الوقف - بالصحّة في الثاني دون الأوّل ، فلا وجه له أصلا ، والمسألة خلافيّة ، ولكن الأظهر عندي هو صحّة هذا الوقف وفاقا للمشهور.

ص: 269

أمّا أوّلا : فلأنّ الموقوف عليه هو العنوان ، وصرف قابليّته للتطبيق على نفسه لا يوجب صيرورته موقوفا عليه. وذلك كما أنّه لو باع صاعا من هذه الصبرة - مثلا - فالمبيع قابل للانطباق على كلّ واحد من صيعان الموجودة فيها ، ومع ذلك ليس شي ء من الصيعان - بعد تفرّقها في الخارج وانقسامها إلى صيعان منفصلة - مبيعا إلاّ بعد التطبيق وإقباضه للمشتري ، وإلاّ قبل القبض تعيّن أحدها لمعيّن ترجيح بلا مرجّح.

وأحدها غير المعيّن غير معقول ، لأنّ الصيعان الموجودة كلّ واحد معيّن وجميعها يكون مبيعا ، لأنّ قابليّة الانطباق في الجميع خلاف الفرض ، إذ المفروض أنّ المبيع صاع واحد ، فلا مناص إلاّ القول بأنّ قبل القبض كلّ واحد منها ليس مبيعا ، وبالقبض يتحقّق صفة المبيعيّة.

ففيما نحن فيه تمليك الثمرة للعنوان ، ولا يصير ملكا لنفس الواقف الذي مصداق إلاّ بعد ، فهو ليس بنفسه موقوفا عليه.

وثانيا : قلنا إنّ بطلان الوقف على نفسه لا دليل عليه إلاّ الإجماع ، والإجماع مع ذهاب المشهور إلى جواز انتفاعه من الوقف إذا وقف على عنوان الفقهاء الفقراء أو ما يشابههما إذا كان هو من مصاديق تلك العناوين.

مسألة :

إذا وقف وشرط عوده إليه إذا احتاج ، فيه أقوال :

قول بصحّة الوقف والشرط جميعا ، فيرتّب عليه آثار الوقف ما دام لا يحتاج إليه ، وعند الاحتياج يعود إلى ملكه. وحكى عن المرتضى قدس سره (1) دعوى الإجماع على هذا القول ، وادّعى بعضهم أنّ هذا هو قول الأكثر ، وعن جماعة بطلان الوقف والشرط ، وحكى عن ابن إدريس (2) دعوى الإجماع على ذلك.

ص: 270


1- « الانتصار » ص 226.
2- « السرائر » ج 3 ، ص 156 و 157.

وقول بصحّته حبسا لا وقفا ، وصحّة الشرط أيضا. وبه قال في الشرائع (1).

والأقوى هو القول الأوّل بناء على عدم كون التأبيد داخلا في ماهيّة الوقف ، وهو واضح ، وإلاّ فالقول الثالث الذي قال به في الشرائع ، وذلك من جهة أنّ التأبيد لو كان شرطا في تحقّق ماهية الوقف ، فحيث أنّ مرجع هذا الشرط إلى عدم التأبيد ، فلا يقع الوقف قطعا ، فيدور أمره بين البطلان بالمرّة ، أو وقوعه حبسا.

فإن قلنا : بأنّ الوقف والحبس حقيقتان مختلفتان ، فيكون باطلا بالمرّة ، لأنّ الذي قصده الواقف - وهو الوقف - لم يقع ، لعدم التأبيد ، والحبس أيضا لا يقع ، لأنّ العقود تابعة للقصود ولكن حيث قلنا بأنّهما حقيقة واحدة - غاية الأمر الفرق بينهما بخصوصيّة زائدة على الماهيّة والحقيقة ، بل تكون تلك الخصوصيّة من العوارض المصنّفة وهي التأبيد - فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، لعدم كونه مخالفا لمقتضى العقد ولا للكتاب والسنّة ، لأنّ عود الملك إلى الحابس ليس مخالفا للكتاب ، ولا الحبس يقتضي عدمه.

فالعمدة في المقام هو أنّ التأبيد داخلا في حقيقة الوقف وتحقّق ماهيّته ، أم لا؟

فإن لم يكن داخلا في حقيقة الوقف فيصحّ الوقف والشرط ، كما ذهب إليه المشهور ، لأنّه قصد الوقف ، وشرط رجوعه إليه عند الحاجة مناف لإطلاق عقد الوقف لا له مطلقا ، فلا مانع من صحّة الوقف والشرط جميعا.

وأمّا إن كان داخلا في حقيقة الوقف ، وكان الوقف والحبس حقيقتين مختلفتين ، فلا يقع شي ء منهما. وهو القول الثاني الذي ذهب إليه ابن إدريس وادّعى عليه الإجماع.

وأمّا إن كانا حقيقة واحدة مع اعتبار التأبيد في الوقف شرعا في تحقّق الوقف ، فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، وهو قول صاحب الشرائع.

ص: 271


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 217.

ثمَّ إنّه لمّا رجّحنا فيما تقدّم في شروط صحّة الوقف اعتبار التأبيد ، فلا يمكن الموافقة مع قول المشهور. ولمّا رجّحنا أنّ الوقف والحبس حقيقة واحدة ، فلا بدّ - بناء على ما رجّحنا - من الذهاب إلى ما قاله في الشرائع من صحّة الشرط ووقوعه حبسا.

هذا بحسب القواعد.

وهناك روايتان تمسّك كلّ واحد من الطرفين من القائلين بالصحّة والبطلان بهما :

أحدهما : خبر إسماعيل بن الفضل قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يتصدّق ببعض ماله في حياته في كلّ وجه من وجوه الخير قال : إن احتجت إلى شي ء من المال فأنا أحقّ به ، ترى ذلك له وقد جعله لله يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا أو يمضي صدقة؟ قال علیه السلام : « يرجع ميراثا على أهله » (1).

الثاني : قوله علیه السلام : « من أوقف أرضا ثمَّ قال : إن احتجت إليها فأنا أحقّ بها ثمَّ مات الرجل ، فإنّها ترجع إلى الميراث » (2).

ويروي هذا الخبر في المستدرك عن دعائم الإسلام بدل « أرضا » « وقفا » ، وبدل « ترجع إلى الميراث » « رجع ميراثا » (3) والمعنى واحد.

والظاهر أنّ الثلاثة خبر واحد ، فتارة نقل مسندا ، وأخرى نقل مرسلا.

وعلى كلّ حال الذي يستدلّ بها على بطلان الوقف يقول قوله علیه السلام : « ترجع إلى الميراث » أو « رجع ميراثا » أو « يرجع ميراثا على أهله » كلّها تدلّ على عدم صحّة هذا الوقف وبطلانه ، لأنّ الوقف لا يرجع ميراثا إلى أهله ، وباق إلى أن يرث اللّه

ص: 272


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 146 ، ح 607 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 54 ، وكذلك ، ج 9 ، ص 135 ، ح 568 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 3.
2- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1288 ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.
3- « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 47 ، أبواب كتاب الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 3.

السماوات والأرضين وما فيهما.

والذي يستدلّ بها على صحّة الوقف والشرط جميعا يقول : إنّ ظاهر « يرجع » أو « رجع » هو الدخول ثانيا بعد خروجها.

فظاهر هذه الروايات هو خروج ما وقف بالوقف ثمَّ رجوعه إليه بالشرط لاحتياجه إليه في حياته ، فتدلّ على صحّة الشرط أيضا ، فإذا رجع إليه ومات عنه فطبعا يكون ميراثا إلى أهله بقواعد الإرث وأدلّته ، وإسناد الرجوع إلى الميراث من باب أنّ الميراث معلول لرجوعه إليه بالشرط ، فأسند الرجوع إلى المعلول باعتبار رجوع علّته ، فيكون من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.

والإنصاف : هو أنّ الثاني أصح ، لأنّه علیه السلام بعد قول السائل : « يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا » ، فكأنّه فرّع كونه ميراثا بعد هلاك الرجل على كونه له في حياته ، فجوابه علیه السلام بأنّه يرجع ميراثا ظاهر في تصديقه علیه السلام له في هذا التفريع ، وأنّه يكون له في حياته.

ومعلوم أنّ كونه له في حياته لازم صحّة الشرط ، وصحّة الشرط ملازم مع صحّة الوقف.

إن قلت : كونه له في حياته يمكن أن يكون من جهة بطلان الوقف ، لا من جهة صحّة الشرط.

قلت : إن لفظ « الرجوع » ظاهر في العود إليه بعد الخروج عن ملكه ، فلا يمكن أن يكون له لبطلان الوقف ، لأنّه مع بطلان الوقف يكون له من أول الأمر ، ويكون ميراثا من أول الأمر بعد هلاكه ، لا أنّه يرجع ميراثا.

وأمّا ما قيل : من أنّ ظهور الخبرين وإن كان في البطلان وعدم صحّة مثل هذا الوقف مع مثل هذا الشرط ثابتا ، إلاّ أنّه علیه السلام حكم بالفساد والبطلان من جهة قصة الواقف أن يكون هو الموقوف عليه إنّ احتاج ، ومعلوم أنّ مثل هذا الوقف وقف على

ص: 273

النفس وباطل ، لكنّه لا ربط له بمحلّ كلامنا ، مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر هذه الروايات.

ينفيه : قوله علیه السلام : « يرجع ميراثا » لما بيّنّا من أنّ الرجوع هو العود بعد الخروج ، وهذا لا يلائم مع ما قال.

وأمّا اعتذاره عن هذا : أنّه بملاحظة قصده الوقف وعقده عليه - وان الوقف ممّا يخرج - فعجيب.

وأمّا ما أوردوا على صحّته وقفا :

منها : أنّه خلاف مقتضى عقد الوقف.

وأجبنا عنه : أنّه خلاف اقتضاء إطلاق العقد ، لا أنّه خلاف مقتضى العقد مطلقا.

ومنها : أنّه خلاف اشتراط الدوام في الوقف.

وأجبنا عنه : أنّ اشتراط الدوام على فرض تماميّته هو الدوام في مقابل التوقيت ، كأن يقول : وقفت هذا سنة ، أو أزيد ، أو أقلّ.

ومنها : أنّه يرجع إلى الوقف على النفس.

وفيه : أنّه في الحقيقة شرط زوال الوقف ، لا أن يكون الوقف باقيا ، ويكون هو الموقوف عليه.

ومنها : التعليق وأنّ التعليق في العقد موجب لبطلانه إجماعا.

وفيه : أنّ دعوى الإجماع في مورد الخلاف لا ينبغي أن يصدر من الفقيه ، مضافا إلى أنّ العقد لا تعليق فيه ، وإيقاع الوقف منجّز لا تعليق فيه ، وإنّما الشرط أثره رفع الوقف لا تعليقه ، فلا تعليق ، لا في الإنشاء ولا في المنشأ.

ص: 274

المطلب الثالث : في شرائط الموقوف

وهي أن يكون عينا مملوكا يمكن الانتفاع بها مع بقائه ، وأن يكون لها البقاء مدّة معتدّة بها ، وأن يكون نفعه محلّلا ، وأن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير ، بحيث يكون ذلك الحقّ مانعا عن التصرّف فيها ، وأن تكون ممّا يمكن إقباضها.

أمّا الشرط الأوّل : فلأنّه لو كان منفعة ، فلا يمكن تحقّق حقيقة الوقف الذي هو عبارة عن حبس الأصل وتسبيل ثمرته ، لأنّ تسبيل الثمرة ينطبق على نفس أصل الموقوف الذي هي المنفعة ، فلا يبقى له أصل حتّى يحبس.

فبناء على هذا الشرط لا يصحّ وقف المنافع ، كمنفعة الدار أو الدكان أو الخان التي ملكها بالإجارة ، وإن كانت لمدّة طويلة.

وأيضا لا يصحّ أن يكون دينا في ذمّة غيره ، كما لو كان له شيئا في ذمّة غيره.

وأيضا لا يصحّ أن يكون كلّيا في ذمّة نفسه.

والوجه فيهما أيضا عدم صحّة اعتبار الحبس ولو في عالم الاعتبار ، لأنّ الكلّي في ذمّة غيره أو في ذمّة نفسه ، حيث أنّه غير معيّن ، فلا معنى لحبسه وتسبيل ثمرته.

وقياسه على صحّة وقوع البيع والصلح عليه لا وجه له ، وذلك من جهة أنّ تلك النواقل الشرعيّة مفادها نقل ما في ذمّته إلى الغير ، فيملك ذلك الغير في ذمته ذلك الكلّي ، أو نقل ما يملكه في ذمّة الغير إلى غيره ، ولا يتصور مانع في كلا الفرضين ، بخلاف الوقف ، فإنّ تحقّقه موقوف على حبس شي ء تكون له ثمرة وتسبيل ثمرته ، ومثل ذلك في الكلّي الذي في ذمّته أو يملكه في ذمّة غيره ليس له اعتبار عقلائي.

وإن شئت قلت : كما أنّه لا يحبس الكلّي وطبيعة صرف وجود الإنسان مثلا في الحبس التكويني ، كذلك يكون الأمر في الحبس التشريعي. وإن أبيت إلاّ عن إمكانه وعدم وجود مانع في البين ، ففي الإجماع غنى وكفاية ، حيث أنّ عدم صحّة الوقف

ص: 275

الكلّي بقسميه - أي سواء أكان في ذمّته ، أو في ذمّة غيره - إجماعيّ لا خلاف فيه.

وأمّا الشرط الثاني : أي كونه مملوكا ، لأنّ غير المملوك إمّا لأنّه ليس ممّا يملك ، كالخنزير وكلب الهراش ، لأنّه ليس له منفعة يسبله. وإمّا من جهة أنّه ملك غيره ، فتصرّفاته فيه غير نافذة.

وأمّا مسألة الفضولي فقد تقدّم الكلام فيه.

وأمّا الشرط الثالث : أي يمكن الانتفاع بها مع بقائها ، فلو كان من المأكولات والمشروبات حيث أنّ الانتفاع بها بإتلافها أكلا أو شربا ، فلا يصحّ وقفها ، لعدم تصوير حبس العين فيها مع تسبيل ثمرتها ، وهذا واضح جدّا.

وأمّا الشرط الرابع : وهي أن يكون له البقاء مدّة معتدّة بها ، من جهة عدم صدق تحبيس الأصل وتسبيل ثمرته مع عدم بقاء مدّة معتدّة بها ، فلا يصدق هذا المعنى على وقف الورد للشمّ ، لعدم بقائه مدّة يصدق عليه حبس الأصل وتسبيل ثمرته عرفا.

وأمّا الشرط الخامس : أي كانت للعين الموقوفة منفعة محلّلة ، كي يصدق عليه التسبيل ، خصوصا إذا كان صحّة الوقف مشروطا بقصد القربة ، فإذا كانت المنفعة التي يقفها لأجل تسبيل تلك المنفعة محرّمة ، فيكف يتقرّب بمثل هذا الوقف إلى اللّه ، وكيف يقال : إنّ الواقف سبلها في سبيل اللّه تعالى؟ وهذا الأخير بناء على ما استظهرنا من التسبيل أنّ المراد من هذه الكلمة جعلها في سبيل اللّه تعالى.

وأمّا الشرط السادس : وهو أن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير المانع عن التصرّف. ووجه هذا الاشتراط واضح ، لأنّه إذا كانت العين لا يجوز التصرّف فيها ببيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك بواسطة كونها متعلّقا لحقّ الغير ، كالعين المرهونة ، أو الأعيان التي تركها الميّت مع كون دينه مستوعبا لتمام التركة ، فبناء على الانتقال إلى الورثة ولكن متعلّقة لحقّ الديّان ، وكالأموال غير المخمّسة أو غير المزكّاة بناء على كونها متعلّقة لحقّ السادات أو لحقّ الفقراء وأمثال المذكورات.

ص: 276

فكما أنّ سائر النقل والانتقالات والتقلّبات الشرعيّة لا يجوز - وعلى فرض إيجاد المالك لها تكون غير ممضاة من قبل الشارع ، فيكون باطلا - فكذلك الوقف ، مضافا إلى أنّ الوقف - بناء على ما ذكرنا - يحتاج إلى قصد القربة ، وكيف يتقرّب بما هو ممنوع شرعا؟ نعم بعد ارتفاع المنع من التصرّف كما إذا فكّ الرهن - مثلا - أو أجاز المرتهن فلا مانع من وقفه ، وهذا واضح.

وأمّا الشرط السابع : أي كونه ممّا يمكن إقباضه ، لأنّه بناء على أن يكون القبض من شرائط صحّة الوقف فواضح ، فإنّ المشروط لا يتحقّق بدون شرطه. وأمّا بناء على أنّه شرط اللزوم - كما رجّحناه - فلأنّه لو لم يمكن إقباضه - كالطير في الهواء الشارد من عنده ولا يمكن إعادته ، أو الحيوان الآخر النافر الذي لا يمكن قبضه عادة ، أو العبد الآبق الذي حصل اليأس من عوده أو وجدانه أو التغلب عليه وأمثال ذلك - يكون تسبيل ثمرته لغوا بل لا ثمرة له كي يسبل.

تنبيه :

ما ذكرنا في الشرط الخامس أنّه لا بدّ وأن يكون للعين الموقوفة منفعة محللة كي يكون التسبيل بلحاظها ، لا يلزم أن تكون تلك المنفعة لها فعلا ، بل يكفي في صحّته كونها لها ولو بعد مدّة. فلو وقف بستانا غرس فيه النخيل ، وهي صغار لا تحمل إلاّ بعد سنين ، فهذا الوقف صحيح باعتبار تلك المنافع التي لها قوّة الوجود ، وإن كان وجودها بعد عشر سنين مثلا ، وهكذا الحال في سائر الموارد.

المطلب الرابع : في شرائط الواقف

قال في الشرائع : ويشترط فيه البلوغ ، وكمال العقل ، وجواز التصرّف (1).

ص: 277


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 213.

ولكنّ الأولى أن يقال : ويشترط في الواقف أن يكون جائز التصرّف ، وأن يكون مختارا غير مكره عليه ، لأنّ البلوغ وكمال العقل مندرج في جواز التصرّف ، فيتفرّع على جواز التصرّف أن يكون بالغا ، لأنّه لا يجوز أمر الصبيّ حتّى يحتلم ، وأن لا يكون مجنونا ، لأنّه لا يجوز أمره حتّى يفيق ، وأن لا يكون محجورا عليه بفلس أو سفه ، وأن لا يكون عبدا بدون إذن مولاه ، لعدم نفوذ أمر العبد بدون إذن مولاه ، وهو بنفسه ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) و ( كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ) .

ويتفرّع على اشتراط الاختيار أن لا يكون في وقفه مكرها مع عدم لحوق الرضا أوّلا : للإجماع ، وثانيا : لحديث الرفع (1) ، كما أنّ الإكراه مع عدم لحوق الرضا موجب لبطلان سائر عقوده وإيقاعاته كبيعه وهبته وصلحه وطلاقه وعتقه ، وذلك كلّه للإجماع المحصّل الذي لم يخالف أحد ولحديث الرفع ، ولأنّه « لا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (2).

ولا شكّ في أنّ صدور الوقف عن المالك مع الإكراه وعدم لحوق الرضا به مرجعه إلى أنّ أكل الموقوف عليه لماله يكون من غير طيب نفسه. وأمّا بناء على ما قاله الشهيدان بل العلاّمة 5 (3) من عدم قصد المكره إلى وقوع مضمون العقد في الخارج فالأمر أوضح.

هذا فيما إذا لم يلحقه الرضا ، وأمّا فيما لحقه الرضا ، فإن كان وجه فساد عقد المكره وإيقاعه عدم القصد إلى وقوع مضمونه في الخارج - وأنّ العقود تابعة للقصود ، ففيه : أنّ القصد المعتبر في العقود هو أن يكون قصدا لإنشاء المعنى باللفظ ، فإن كان المراد

ص: 278


1- « الكافي » ج 2 ، ص 335 ، باب ما رفع عن الأمة ، ح 2 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 59 ، ح 132 ، باب : فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فيه ، ح 4 ، « الخصال » ص 417 ، ح 9 ، رفع عن هذه الأمّة تسعة أشياء ، « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1284 ، أبواب قواطع الصلاة ، باب 37 ، ح 2.
2- الطوسي في « الخلاف » ج 3 ، ص 410 ، مسألة : 23 ، « سنن الدار قطني » ج 3 ، ص 26 ، ح 91 ، « مسند أحمد » ج 5 ، ص 72 ، « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 100 ، باب : من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا.
3- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 428 ، فيما يشترط في الواقف.

من نفي القصد هذا المعنى في عقد المكره فهو.

وإن كان لحوق الرضا فيما بعد لا يجعل العقد الواقع بدون قصد إنشاء المعنى عقدا مقصودا ، فيكون العقد باطلا ، لما ذكرنا من أنّ العقود تابعة للقصود.

ولكن هذه الدعوى باطلة ليس لها أصل ، لأنّ المكره أيضا مثل المختار يقصد إنشاء المعنى باللفظ ، غاية الأمر أنّه ليس له طيب النفس بوقوع مضمون العقد في عالم التشريع ، وإن كان مراده هذا المعنى الذي ذكرناه من عدم قصده ، فهذا لا يضرّ بصحّة العقد بعد حصول الرضا وطيب النفس.

وأمّا احتمال اعتبار مقارنة الرضا وطيب النفس لحال الإنشاء لا دليل عليه ، بل الإطلاقات كقوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) و « لا يحلّ مال امرء مسلم » تدلّ على خلافه ، فأيّ وقت لحق بالمعاملة الرضا يصدق عليها أنّها تجارة عن تراض ، وأنّها عن طيب النفس ، فلا وجه لبطلان وقف المكره إذا لحقه الرضا كسائر معاملاته.

ثمَّ إنّ ها هنا وردت روايات على صحّة وقف الصبيّ الذي بلغ عشرا ، وكذلك وصيّته وعتقه ، وهي :

الأوّل : خبر زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إذا أتى على الغلام عشر سنين ، فإنّه يجوز في ماله ما أعتق ، أو تصدّق ، أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز » (2).

الثاني : خبر جميل بن درّاج ، عن أحدهما علیهماالسلام قال : « يجوز طلاق الغلام إذا كان

ص: 279


1- النساء (4) : 29.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب : وصية الغلام والجارية التي لم تدرك وما يجوز منها وما لا يجوز ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، ح 5451 ، باب : الحد الذي إذا بلغه الصبي جازت وصيته ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 729 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 1.

قد عقل ، وصدقته ، ووصيّته وإن لم يحتلم » (1).

الثالث : رواية الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سأل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم؟ قال : « نعم إذا وضعها في موضع الصدقة » (2).

ودلالة هذه الروايات على صحّة وقف الصبيّ إذا بلغ عشر سنين متوقّف على أن يكون المراد من التصدّق والصدقة خصوص الوقف ، أو المعنى الأعمّ من الوقف والصدقة بالمعنى الأخصّ ، وإلاّ لو كان المراد خصوص الأخير فلا دلالة فيها على المدّعى في هذا المقام ، وهو صحّة وقف الصبي الذي لم يبلغ مطلقا ، أو خصوص البالغ عشرا منهم.

وظهور لفظ الصدقة في خصوص الوقف أو في الأعمّ لا دليل عليه ، بل ظاهره بواسطة القرائن المذكورة فيها - من قوله علیه السلام : « على حدّ معروف وحقّ » في الأوّل ، ومن قوله علیه السلام : « قد عقل » في الثاني ، ومن قوله علیه السلام : « إذا وضعها في موضع الصدقة » في الثالث هو خصوص الصدقة بالمعنى الأخصّ ، الذي هو إعطاء مال لمؤمن بقصد القربة ، فلا مخصّص لعمومات عدم جواز أمر الصبي حتّى يحتلم بالنسبة إلى الوقف ، لأنّه من قبيل الشكّ في التخصيص ، فيتمسّك بأصالة العموم.

نعم لمّا وردت أخبار معمولة بها في نفوذ وصيّته ، فلو أوصى بالوقف ينفذ.

ثمَّ إنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، بل يجوز وقف الكافر وإن قلنا باشتراط قصد القربة فيه ، لتمشية منه. نعم الذي لا يعتقد - العياذ باللّه - بوجود إله العالم ، خالق السماوات والأرضين ، وينكر وجود صانع حكيم ، فقصد القربة لا يتمشّى

ص: 280


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 733 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 2.
2- « تهذب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 734 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 13.

منه ، لأنّ مثل هذا الرجل لا يعتقد بوجود شخص يتقرّب إليه بوقفه.

نعم يمكن أن يكون وقفه لعطفه ورأفته على الفقراء والضعفاء ، وهذا غير قصد القربة.

ثمَّ إنّه تقدم أنّه للواقف جعل المتولّي والناظر للوقف نفسه أو غيره ، وفي كليهما يجوز استقلالا واشتراكا ، وذلك لقوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ».

وحاصل الكلام : أنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، فيصحّ وقف الكافر إذا كان واجدا لشرائط صحّة الوقف والموقوف والموقوف عليه والواقف إذا كان الموقوف من المسلمين.

وأمّا إذا لم يكن من المسلمين فلا يشترط في صحّة وقفه بعض ما كان شرطا للموقوف فيما إذا كان الواقف مسلما ، كأن يكون للموقوف منفعة محلّلة ، فيجوز أن يقف الخنزير مثلا على أهل ملّته.

وهكذا لا يشترط في وقفه بعض ما يشترط في الموقوف عليه إذا كان الواقف مسلما ، كأن لا يكون الوقف عليه محرّما ، مثل الوقف على بيوت النيران ، ويجوز إذا كان الواقف مجوسيّا ، وكذلك يجوز على البيع والكنائس إذا كان نصرانيا.

المطلب الخامس : في شرائط الموقوف عليه

والمشهور أنّها أربعة :

الأوّل : أن يكون موجودا.

الثاني : أن يكون معيّنا.

الثالث : أن يكون ممّن تصحّ تملّكه.

ص: 281

الرابع : أن لا يكون الوقف عليه محرّما.

أمّا [ الشرط ] الأوّل : وهو أن يكون موجودا ، فلأنّ الشيخ قدس سره ادّعى الإجماع عليه في المبسوط. (1) وقال في الجواهر : ولأنّ الوقف يقتضي تمليك الموقوف عليه للمنفعة وحدها ، أو هي مع العين ، والمعدوم ليس قابلا للتمليك (2).

أقول : إنّ ما ادّعاه في الجواهر - من اقتضاء عقد الوقف تمليك الموقوف عليه للعين الموقوفة مع منفعتها ، أو خصوص منفعتها ، وأنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك - فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : فهو كوقف المسجد وأنّه ليس تمليكا لأحد ، بل هو فكّ ملك كالعتق ، وعلى كلّ حال يأتي الكلام فيه مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الكبرى : وهو أنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك ، ففيه : أنّ الملكيّة من الأمور الاعتباريّة ، وليست من الأعراض الخارجيّة كي لا يمكن أن توجد قبل وجود موضوعه ولو كان آنا من الآنات ، وذلك لأنّ العرض ليس لوجوده استقلال ولو كان آنا واحدا ، لأنّ وجوده في نفسه عين وجوده في موضوعه.

وإن شئت قلت : إنّ العرض في جوهر ذاته بحسب الوجود أمر ناعتي ، ففرض الاستقلال لوجوده ولو كان بآن خلف. وأمّا الملكيّة أمر اعتباري عرفا أو شرعا ، لا وجود لها في الخارج أصلا ، وكما يمكن اعتبارها لشخص موجود ، كذلك يمكن اعتبارها لشخص معدوم فعلا ولكن سيوجد.

نعم لو فرضنا أنّه لا يوجد أصلا فالاعتبار له لغو ، ولا يساعد على اعتبارها في هذه الصورة لا الشرع ولا العقلاء والعرف ، وخصوصا في المعدوم بالمعنى الذي يشمل الحمل ، فإنّه واقعا بل في بعض الصور تامّ الخلقة سوى فيه الروح وتمام الأعضاء.

ص: 282


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 292 و 293.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 27.

وحاصل الكلام : أنّ الأمر الاعتباري تحقّقه في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده الاعتبار ، ولا دخل في الوجود الفعلي لمن يعتبر له فيه.

هذا ، مضافا إلى ورود نقوض كثيرة على من ينكر إمكان تمليك المعدوم والذي سيوجد :

منها : مسألة الوقف على البطون المتتالية ، بناء على تمليك كلّهم حال إجراء العقد الصحيح ، فإنّ الواقف ينشأ ملكيّة الجميع في ذلك الحال ، غاية الأمر أنّ فعليّة الملكيّة لكلّ بطن في ظرف وجود ذلك البطن ، كما هو شأن جعل الأحكام الشرعيّة بطور القضايا الحقيقيّة في جميع الموارد ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة.

ومنها : أنّهم جوّزوا الوقف على أولاده الموجودين ومن يوجد بعد ذلك ، والكلام في تصحيحه كما ذكرنا في تصحيح الوقف على البطون ، وموارد أخر ، فلا نطول الكلام.

فالإنصاف : أنّ عمدة مدرك هذا الاشتراط هو الإجماع المدّعى في المبسوط (1) ، فإن تمَّ فهو ، وإلاّ فلا موجب لهذا الشرط.

وما ذكروه في هذا المقام من عدم قابليّة المعدوم للتمليك ، أو عدم الدليل على صحّة مثل هذا الوقف ، أو فساده ، كلّها لا يرجع إلى محصّل.

أمّا الأوّل : فقد عرفت إمكانه بل وقوعه. وأمّا الثاني : فلإطلاقات أدلّة الوقف.

وأمّا الثالث : فلحكومة الإطلاقات عليها.

وأمّا الشرط الثاني : وهو أن يكون الموقوف عليه معيّنا لا ترديد فيه ، كأن يقول : وقفت هذه الدار على أخي أو ابني ، أو يقول : على أحد أولادي ، ولكنّه يمكن أن يكون بين المثلين فرق بأنّه في الأوّل الموقوف عليه بحسب الواقع مردّد بين الأخ والابن ، ولكن في الثاني مفهوم أحد أولادي قابل للانطباق على كلّ واحد منهم ، فكلّ واحد

ص: 283


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 292.

يجوز أن يتصرّف فيه بنحو الاستقلال لا بنحو التشريك ، فإذا سبق أحدهم فقد تصرّف فيما هو له وليس ضامنا للآخرين ، وإذا صار بينهم تشاحّ فالمرجع هي القرعة.

وعلى كلّ الدليل على اعتباره هو الإجماع ، فإن ثبت فهو ، والاّ فالدليل العقلي الذي تمسّكوا به فغير تامّ ، وهو عدم إمكان تمليك المبهم المردّد ، لما عرفت أنّ الملكيّة أمر اعتباريّ ، وليس من العوارض الخارجيّة التي تستدعي في الخارج موضوعا معيّن غير مبهم ، فهي قابلة لأن تتعلّق بأحد الشخصين أو إحدى الطائفتين.

وليس أمر هذا الأمر الاعتباري أعظم من العلم الإجمالي الذي هو صفة خارجيّة وموجود واقعي محمول بالضميمة ، ومع ذلك يتعلّق بالمردّد ، وكما أنّه بناء على صحّة تزويج إحدى بناته ، أو طلاق إحدى زوجاته ، أو عتق أحد عبيده يستخرج ذلك الأمر المبهم المردّد بالقرعة ، فكذلك يتعيّن الموقوف عليه بالقرعة.

وأمّا الشرط الثالث : وهو أن يكون الموقوف عليه ممّن يصحّ تمليكه ، فلو لم يكن قابلا للتملك فلا يصحّ تمليكه ، لأنّ صحّة التمليك متوقّف على قابليّة الطرف للتملّك ، وإلاّ فالتمليك بدونها غير ممكن ، فالكافر الحربي حيث أنّ الشارع لم يمض كونه مالكا فالوقف عليه باطل ، بناء على أنّ الوقف تمليك وإن كان من جهات أخر لا يجوز الوقف عليه.

وعلى كلّ حال ، فالبحث ها هنا عن أنّ الوقف هل هو مشروط بكون الموقوف عليه قابلا لتمليكه العين الموقوفة أم لا؟ بعد الفراغ عن أنّه قابل أو ليس بقابل.

وأمّا البحث عن أنّ العبد أو المرتدّ الفطري قابل أو ليس بقابل ، فهو خارج عن محلّ كلامنا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لو كان حقيقة الوقف هو التمليك ، أو كان التمليك من لوازم طبيعة الوقف شرعا ، فاعتبار هذا الشرط في محلّه ، إذ التمليك بدون التملّك لا يعقل. وأمّا إذا لم يكن التمليك من لوازم الوقف - بل كان التمليك في بعض أقسام الوقف من

ص: 284

أحكام ذلك القسم شرعا - فلا وجه لاعتبار هذا الشرط ، إلاّ ادّعاء الإجماع ، فإن ثبت فهو وإلاّ فلا. وسنتكلم في هذه المسألة وأنّ الوقف حقيقته التمليك ، أو ملازم معه ، أو ليس شي ء منها فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الشرط الرابع : وهو أن لا يكون الوقف عليه محرّما ، وذلك كالوقف على الملاهي ، وأن يصرف في المعاصي ، وطبع كتب الضلال واستنساخها ، وأن يعطى لمن يرد على المذهب ويوقع الشبهات في قلوب المؤمنين ، وكالوقف على مبلّغي الأديان الباطلة ومروّجي العقائد الفاسدة.

واعتبار هذا الشرط بناء على اشتراط قصد القربة في تحقّق الوقف واضح ، إذ لا يمكن قصد القربة بما هو محرّم ومبغوض ، وبناء على عدم الاشتراط أيضا لا يصحّ الوقف على من يكون الوقف عليه محرّما ، لأنّ مثل هذا الوقف مبغوض عند الشارع ، وما هو مبغوض عنده لا يمضيه قطعا ، والمعاملات صحّتها تحتاج إلى الإمضاء ، وإلاّ فمقتضى الأصل في جميع المعاملات هو الفساد.

ولذلك قلنا في دلالة النهي في المعاملات على الفساد أنّه ذلك فيما إذا كان متعلّقا بالمعنى الاسم المصدري ، لأنّه حينئذ تكون المعاملة بالمعنى الاسم المصدري أي أثر العقد مبغوضا ، فلا يقع الإمضاء عليه ، فيكون باطلا.

إذا ظهر لك ما ذكرنا ، تعرف أنّ أغلب الفروع التي ذكرها الفقهاء في هذا المقام يرجع البحث فيها إلى صغريات هذا الشرط :

منها : عدم جواز الوقف على الكفّار ، أو جوازه مطلقا ، أو التفصيل بين الحربي والذمّي ، بعدم الجواز في الأوّل ، والجواز في الثاني.

ومنها : جوازه على الكنائس والبيع وعدم جوازه.

ومنها : جواز الوقف على استنساخ وطبع الكتب السماويّة المحرّفة ، أي التوراة والأناجيل ، فلا وجه لتطويل الكلام فيها.

ص: 285

ثمَّ إنّ الموقوف عليه تارة يكون معيّنا لا إهمال ولا إجمال فيه ، سواء أكان شخصا كزيد مثلا ، أو كلّيا كعنوان طلبة مدرسة فلان ، فلا كلام فيه.

وأخرى : يشكّ في شمول ذلك العنوان الذي جعله موقوفا عليه في العقد لبعض الأشخاص أو الأصناف ، فإن ثبت انصراف ذلك العنوان إلى بعض مصاديقه ، أو إلى بعض الأصناف التي تحت ذلك العنوان فيؤخذ به ، وإن لم يثبت فيجب الأخذ بإطلاقه إن كان في مقام البيان من تلك الجهة ولم يقيّد ، وإلاّ يرجع إلى الأصول العمليّة.

ومعلوم أنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت الوقف لذلك المشكوك ، كلّ ذلك فيما إذا كان مراد الواقف من ذلك مشكوكا.

وأمّا إن كان معلوما فيؤخذ به ، إلاّ أن يكون فيه الإشكال من جهة صحّة الإنشاء بذلك اللفظ ، وذلك من جهة أنّ المدار في العقود ليس على القصد فقط ، ولا على الإنشاء فقط ، بل لا بدّ وأن تكون المعاملة مقصودة له ومنشأه بالإنشاء الصحيح.

ولذلك وقع البحث في أنّه لو وقف على الفقراء ، فالمشهور ادّعوا انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف ، لأنّ المسلم - مثلا - لا يقصد غالبا من الفقراء في وقفه - بل وفي سائر عطاياه - إذا كانت لوجه اللّه فقراء غير المسلمين ، وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح. وقد ذكر بعضهم عناوين كثيرة وألفاظ متعدّدة وباحث عنها ، وكلّها يرجع إلى ما ذكرنا وأبحاث صغرويّة ، وقس الحال على هذا المنوال في سائر الموارد والمقامات ، فلا نطول المقام بذكر الأمثلة.

فرع

لو وقف على مصلحة معيّنة ، كما إذا وقف على طلاّب مدرسة دينيّة ، فانهدمت وصارت جزء للشارع العامّ ، بحيث لا أمل بحسب العادة في رجوعها مدرسة ، أو وقف على مسجد صار كذلك منهدما وصار جزء للشارع العامّ ، أو على قنطرة على نهر تغيّر مجرى ذلك النهر ، وصارت تلك القنطرة متروكة وبلا فائدة ، فهل يجب صرفه

ص: 286

في وجوه البرّ ، أو يرجع إلى المالك ، أو يصير مباحا لكل أحد كالمباحات الأصليّة؟ وجوه.

فالذي يقول برجوعه إلى المالك إن كان وإلاّ إلى ورثته ، فبنى كلامه على أنّه من قبيل وقف منقطع الآخر ، فأمّا أن لا يخرج من ملك المالك أبدا ، لأنّه مثل الحبس عبارة عن تسبيل ثمرته مدّة بقاء الموقوف عليه ، فإذا وقع التلف على الموقوف ، فلا يبقى موضوع للتسبيل ، فقهرا ترجع المنفعة إلى مالك العين الذي هو الواقف ، ومنه إلى ورثته.

وأمّا القولان الآخران فمبناهما أنّ بالوقف يخرج عن ملك المالك ، فالذي يقول بأنّه يصرف في وجوه البرّ يقول وإن كان الموقوف يخرج عن ملك الواقف ، ولكن غرضه من هذا الإخراج صرف منافعه في ما هو البرّ عند اللّه تعالى ، ويكون موجبا للأجر والثواب ، ولكن عيّن ما هو البرّ في نظره بموضوع خاصّ ، فإذا ارتفع ذلك الموضوع الخاصّ الذي رجّحه على سائر مصاديق البرّ فيفقد تلك الخصوصيّة المرجّحة ، ولكن صرفه في أصل البرّ ممكن فيجب ، لأنّه بعض مطلوبه بل أصل مطلوبه ، ولم يفقد ممّا أراد إلاّ تلك الخصوصيّة المرجّحة.

بل يمكن أن يقال : إنّ المنشأ ينحلّ إلى طبيعة البرّ وتلك الخصوصيّة المرجّحة ، وليس من قبيل صرف الغرض كي تقول في باب العقود لا أثر للغرض ما لم يقع المراد والمقصود تحت الإنشاء ، ففي الحقيقة أنشأ تسبيل منفعة هذه العين الموقوفة على البرّ الذي هو المسجد أو المدرسة مثلا ، فإذا تعذّرت الخصوصيّة وأمكن صرفه في الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق يجب العمل به ، لمكان ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بمقدار ما أمكن.

وليس الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق معنى جنسيّا حتّى تقول ينعدم الجنس بانعدام الفصل ، بل هو معنى متحصّل نوعيّ كسائر الطبائع والمهيّات النوعيّة ،

ص: 287

والذي يقول بأنّه مباح لكلّ أحد كالمباحات الأصليّة ، يقول بأنّه بعد خروجه عن ملك الواقف وعدم دخوله في ملك الموقوف عليه على الفرض لعدم قابليّة الموقوف عليه الذي هو جهة من الجهات - وإلاّ لو كان ملكا للموقوف عليه لكان ينتقل إلى ورثته ، لا إلى ورثة الواقف - فقهرا بعد تعذّر الموقوف عليه يبقى ملكا بلا مالك ، فيكون كالمباحات الأصليّة.

والصحيح عندي بناء على خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف - وسيأتي تحقيقه وما هو المختار عمّا قريب إن شاء اللّه تعالى - هو الوجه الأوّل ، أي صرفه في وجوه البرّ. وبناء على عدم خروجه هو الوجه الثاني ، أي رجوعه إلى الواقف ، أو إلى ورثته إن لم يكن الواقف باقيا.

ووجه المختار في كلا الشقّين واضح.

أما الأوّل : فلأنّه بعد الخروج عن ملكه والقول بالانحلال لا مناص إلاّ من القول به. وأمّا الثاني : بعد القول ببقاء العين الموقوفة على ملك الواقف ، فلا بدّ من القول برجوعه إلى الواقف أو إلى ورثته ، بل في القول بالرجوع مسامحة ، لأنّه لم يخرج كي يرجع.

وأمّا الوجه الثالث فلا أساس له أصلا ، بل الأولى أن يعبّر عنه بصرف الاحتمال ، ولم أجد قولا به في الأقوال المنقولة ، بل سمعته عن بعض أساتيذي 5 قبل ستّين سنة.

المطلب السادس : في اللواحق
اشارة

ونذكر فيه أمور :

الأمر الأوّل : في أنّه هل بالوقف بعد إن تمَّ بشرائطه يخرج الموقوف عن ملك

ص: 288

الواقف ويزول ملكه عنه ، أم لا؟

ظاهر المشهور هو الأوّل ، بل ربما يظهر من كلام الغنية (1) والسرائر (2) الإجماع عليه ، والظاهر عدم الدليل على ما ذهب إليه المشهور ، لأنّ الشهرة والإجماع المنقول لا اعتبار بهما ، كما أثبتناه في محلّه ، والإجماع المحصّل أوّلا : ثبوته وتحقّقه غير معلوم.

وثانيا : على فرض ثبوته لا اعتبار به ، لما ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أنّ الإجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اعتماد المتّفقين على مدرك أو مدارك ذكروها كما في المقام ، ليس من الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.

وأمّا كون تشريع الوقف لأجل إخراج عين الموقوفة عن ملكه - وجعله في سبيل اللّه - فهذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل ظاهر أدلّة تشريع الوقف هو أن يجعل الواقف ماله الموقوف محبوسا في عالم التشريع والاعتبار عن وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، ليبقى صدقة جارية على مرور الدهور ، ويجعل ثمرته في سبيل اللّه تعالى للموقوف عليه الذي عيّنه ، ومن الواضح المعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يستلزم الخروج عن ملكه لا شرعا ولا عرفا.

وأمّا ما قيل : من أنّ فائدة الملك هو الانتفاع بثمرته ، أو وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، فإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فاعتبار الملكيّة لغو ، لأنّ مورد الكلام هو الوقف المؤبّد ، وفي غيره لم ينكر المشهور عدم خروجه عن ملك الواقف ، بل إمّا لم يخرج أصلا ، أو خرج موقّتا ثمَّ يعود كما في الحبس ، بل وفي الوقف المنقطع الآخر.

وهذا الدليل وإن كان لا يخلو عن قوّة ، ولكنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ الملكيّة حيث أنّها من الأمور الاعتبارية يمكن اعتبارها ولو كان لأثر اعتباري.

وأمّا ما قيل : من أنّها صدقة ، ومن لوازم كون المال صدقة خروجه عن ملك

ص: 289


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 541.
2- « السرائر » ج 3 ، ص 153 و 155.

المتصدّق ، كما ربما يدلّ عليه قوله علیه السلام في رواية طلحة ابن زيد : « إنّما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردّها بعد ما يعتق » (1).

ففيه : أنّ هذا بالنسبة إلى الصدقة بالمعنى الأخصّ ، وهو غير الوقف.

وإن شئت قلت : إنّ هذا المعنى من لوازم بعض أقسام الصدقة ، لا الطبيعة المطلقة.

وأمّا ما قيل من القول بعدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف ، يلزم تخصيص قوله تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (2) والأصل عدم التخصيص ، وذلك لأنّ وطي أمته التي وقفها لا يجوز قطعا ، فلو لم تكن خارجة عن ملكه ومع ذلك لا يجوز ، يلزم تخصيص هذه الآية ، لأنّ مفادها جواز وطي كلّ من كانت ملك يمينه.

وهذا استدلال عجيب ، لأنّ مورد أصالة العموم - أو بتعبير آخر أصالة عدم التخصيص - فيما إذا كان الشكّ في الخروج عن تحت العموم ، لا ما هو مقطوع الخروج عن الحكم - كما في هذه الآية الشريفة - والشكّ في كونه مصداقا ، فإذا لم يكن دليل على زوال ملكيّة المال الموقوف عن ملك الواقف ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فالأصل يقتضي بقاء الملكيّة.

هذا كلّه في الوقف المؤبّد ، ولكن مع ذلك كلّه القول ببقاء ملكيّة الواقف - مع ما عرفت من الإجماع على العدم الذي يظهر من كلام السرائر والغنية ، ومع ما عرفت من لغويّة اعتبارها مع عدم وجود أثر لها ، ومع الأخبار الظاهرة في انقطاع الواقف عن العين الموقوفة ، كقول أمير المؤمنين علیه السلام في وقف عين التي كانت في ينبع « هي صدقة بتّا بتلا » (3) والبت والبتل بمعنى القطع والانقطاع ، وظاهره أنّه علیه السلام قطع نفسه عنها ولم يبق له علاقة معها - مشكل جدّا.

ص: 290


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 152 ، ح 622 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 69 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 316 ، ح 24430 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 11 ، ح 3.
2- المؤمنون (23) : 6.
3- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (4).

ثمَّ إنّه بناء على الخروج عن ملك الواقف ، فهل يدخل في ملك الموقوف عليه ، أو في ملك اللّه تعالى ، أو يبقى بلا مالك ، أو يفصّل بين الوقف الخاصّ والعامّ؟

فالأوّل عبارة عن الوقف على الأشخاص ، والثاني على العناوين.

ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي العامّ ينتقل إلى اللّه تعالى أو يفصّل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف على الجهات ، كالمساجد والقناطر ولخانات التي في الطريق لعموم المسافرين ، ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي الثاني إلى اللّه. وتفاصيل أخر. وجوه بل أقوال.

أقول : لو لم يوجد دليل على الانتقال إلى الموقوف عليه ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فلا شكّ في أنّ مقتضى الأصل عدم الانتقال.

وأمّا الدليل على الانتقال ، فعمدته عند القائلين به أمران :

أحدهما : بقاء الملك بدون مالك ، وهو غير معقول.

والثاني : أنّ الملكيّة اعتبار عقلائيّ أمضاها الشارع لترتّب آثار عليها ، فإذا رأينا أنّ الشارع يرتّب آثار الملكيّة لشخص أو عنوان بالنسبة إلى مال ، نستكشف ملكيّة ذلك المال لذلك الشخص ، أو لذلك العنوان عند وجودهما ، وهذا من الحكم بوجود اللزوم لوجود لازمه ، ولا شكّ في أنّ ملكيّة نماء مال وثمراته من الآثار ولوازم ملكيّة نفس ذلك المال ، وأيضا لا شكّ في أنّ نماءات مال الموقوف وثمراته تكون للموقوف عليهم.

أقول أمّا الأوّل : ففيه : أنّ كون المال بلا مالك لا مانع منه ، فإنّ المباحات الأصليّة التي يدفع بإزائها المال مال وليس لها مالك ، وكذلك الأموال التي يعرض عنها أصحابها بناء على القول بخروج تلك الأموال عن ملك أصحابها بالإعراض عنها ، فأموال وليس لها مالك قبل وضع آخر يده عليها.

وأمّا الملك بدون المالك وإن كان لا يمكن وغير معقول إلاّ أنّ كون المال الموقوف

ص: 291

ملكا بعد زوال ملك الواقف عنه أوّل الكلام ، ويكون ادّعاؤه شبه مصادرة.

وأمّا الثاني : فإنّ ملكيّة النماءات والثمرات من قبيل لازم الأعمّ بالنسبة إلى ملكيّة العين ، فإنّ المستأجر يملك منافع العين بعقد الإجارة مع عدم كونه مالكا للعين ، وهكذا في العارية بناء على أنّها تمليك منفعة لا تمليك صرف الانتفاع بها. ومعلوم أنّه لا يمكن استكشاف الملزوم الخاصّ من اللازم الأعمّ.

هذا ، مضافا إلى أنّ بعض أقسام الوقف ، كالوقف على الجهات العامّة - كالمساجد والقناطر والجسور والخانات الموقوفة في الطرق لنزول عامة المسافرين - ليس الموقوف عليه فيها قابلا لأن يتملك.

والقول بأنّ الملكيّة أمر اعتباري وليس عرضا خارجيّا فتابع لاعتبار المعتبرين ، فإذا اعتبروه لهذه الجهات فيتحقّق في عالم الاعتبار.

وفيه : أنّها وإن كان كذلك ، ولكن العقلاء أو الشارع لا يعتبرون ذلك الأمر الاعتباري إلاّ في مورد يكون مصحّحا لاعتبارهم ، فلا يعتبرون الولاية أو القيمومة على الصغير - مثلا - لسفيه أو مجنون ، ونرى بالوجدان أنّهم يستنكرون اعتبار الملكيّة لجماد أو نبات ، بل ولحيوان غير الإنسان.

ومضافا إلى أنّ هذه الدعوى معارض بمثلها ، وهو أنّه كما يستكشف من وجود الأثر واللازم وجود الملزوم ، كذلك يستكشف من نفي الأثر واللازم نفي الملزوم ، ولا شكّ أنّ من لوازم الملكيّة جواز التصرّف في الملك ببيع أو هبة أو صلح وسائر التقلّبات المشروعة في عالم الاعتبار التشريعي ، ولا شكّ في أنّ الموقوف عليه ليس له هذه التصرّفات حقيقة ، إذ هي ضدّ حقيقة الوقف الذي هو الحبس والإيقاف في عالم الاعتبار التشريعي.

فيمكن أن يقال بعدم الملكيّة لعدم جواز هذه التصرّفات.

ولكن الجواب في كلا المقامين واحد ، وهو أنّه لا وجود اللازم الأعمّ يدلّ على

ص: 292

وجود الملزوم الخاصّ ، ولا نفي الأثر الذي ليس لازما لنفس الطبيعة ، بل قد يكون وقد لا يكون لنفي تلك الطبيعة.

وبعبارة أخرى : الأثر فيما نحن فيه - أي : التصرّفات في العين وجواز ورود التقلّبات عليه - ليس أثرا لطبيعة الملك مطلقا ، سواء أكان طلقا أو غير طلق ، بل أثر للملك الطلق ، والوقف على تقدير كونه ملكا ليس بطلق ، فنفي اللازم وإن كان يدلّ على نفي الملزوم ، لكن فيما إذا كان من لوازم الشي ء مطلقا ، لا من لوازم بعض أقسامه ، كما فيما نحن فيه ، نعم يدلّ على نفي ذلك القسم الذي هو لازمه.

وممّا ذكرنا ظهر : أنّ ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره - من التفصيل بين الوقف على الجهات ، فقال بعدم انتقال الملك إلى تلك الجهة ، لعدم قابليّتها للتملّك ، ونفي البعد عن الانتقال إلى الموقوف عليهم في الأوقاف الخاصّة ، والعناوين العامّة القابلة للتملّك (1) - قول وتفصيل بلا دليل ، ولم يقم هو دليل على هذه الدعوى ، وما ذكروه عرفت حاله.

الأمر الثاني : في الوقف على أولاده.

وللوقف على الأولاد في مقام الإنشاء صور :

فتارة : يقف على أولاده بدون قيد الصلبي ، وأخرى : معه.

فإذا كان أولاده بدون قيد الصلبي ، فهل يشمل أولاد أولاده ، أو يختص بالصلبي؟

أي بدون واسطة ، كما أنّه لو كان مقيّدا بالصلبي لا يشملهم يقينا إلاّ مع قرينة.

وظاهر المشهور اختصاصه بالصلبي ، وعدم شموله لأولاد الأولاد.

ولكن هذه الكلمة بحسب الوضع اللغوي تكون موضوعه لمطلق الولد ، سواء أكان بلا واسطة أو معها ، فيشمل الجميع ، إلاّ أن يدّعي الانصراف وهو غير بعيد ، لأنّ مشهور الفقهاء الكبار إذا فهموا منه كون الولد بلا واسطة مع أنّ الأساطين منهم

ص: 293


1- السبزواري في « كفاية الأحكام » ص 142.

عربيّون وهم أعرف بظواهر لغتهم ، والمناط في باب الألفاظ هو ظهورها في معنى ، فإنّه حجّة ، لا أنّه موضوع لكذا أو كذا.

وأمّا لو قال : على أولادي وأولاد أولادي ، فهل يشمل خصوص البطن الأوّل والثاني فقط ، أو يعمّ جميع البطون؟

فذهب المشهور إلى أنّ كلمة « أولادي » ينصرف إلى بلا واسطة ، أي البطن الأوّل ، وكلمه « أولاد أولادي » إلى البطن الثاني فقط ، فلا يعمّ جميع البطون. وهو الصحيح ، لأنّ ذكر أولاد أولادي قرينة على عدم عموم كلمة أولادي الأوّل ، وإلاّ لما كان يحتاج إلى الثاني.

كما أنّه أيضا قرينة على اختصاصه بالبطن الثاني فقط ، ولا يشمل سائر البطون لعين تلك الجهة ، إذ لو يؤخذ بعموم لفظ « الأولاد » فلم يكن ذكره محتاج إليه بل كان لغوا ، فيكون ذكره قرينة على عدم العموم في المضاف وفي المضاف إليه.

وأمّا شمولها للذكر والأنثى بل الخنثى ، وإن كان الولد بحسب الوضع اللغوي عامّا يشمل الذكر والأنثى والخنثى ، ولكن حيث قلنا إنّ المناط هو الظهور لا المعنى الحقيقي ، فلا بدّ من مراعاة الظهورات ، وهي تختلف بحسب الأعصار والأمصار ، ففي هذا الزمان - مثلا في العراق - ينصرف لفظ الولد إلى الذكر ، ولا يشمل الأنثى ولا الخنثى.

فلو كان الواقف من أهل هذه البلاد وفي هذا الزمان ، يجب الأخذ بظاهرهما وما هو المتفاهم العرفي بينهم ، وإن كان بحسب الوضع اللغوي له معنى عامّ.

وأمّا لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، فهل يشمل البطون على الترتيب أو على التشريك؟ بمعنى أنّ الابن يشارك أباه ، وكذا ابن الابن يشارك أباه وجدّه وهكذا ، أو لا يصل إلى الطبقة الثانية إلاّ بعد موت الطبقة الأولى ، فلو كان للواقف ابن واحد حيّ وابن مات أبوه فهل يشارك عمّه ، أو لا؟

فبناء على القول بالترتيب لا يشارك ، وعلى التشريك يشارك.

ص: 294

وقد تقدّم أنّه يجب الأخذ بظاهر كلامه عند الإنشاء إن لم يعلم بمراده. والظاهر حسب المتفاهم العرفي من هذه العبارة هو الترتيب لا التشريك ، بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى الطبقة الثانية ما دام من الطبقة الأولى يكون موجودا ولو كان واحدا ، فلا تصل إلى أحفاده ما دام أولاده الصلبي موجودا. وهذا الترتيب بين الطبقات يستفاد من ظاهر لفظ « بعد » ، وهو واضح. والاحتمالات الأخر ملقى بنظر العرف.

الأمر الثالث : في أنّ الوقف لا يبطل بخرابه وانهدامه ، لا بجواز بيعه.

أمّا الأوّل : فلأنّ وقف دكّان أو دار أو بستان - مثلا - مثل بيعه أو هبته أو سائر الاعتبارات الواردة عليها ، فكما أنّه لا تبطل تلك العناوين بخرابه وانهدامه ، فكذلك في الوقف ، لأنّه أيضا أحد الاعتبارات الواردة عليه وليس الموقوف عنوان الدار أو الدكّان مثلا ، بل تلك القطعة من الأرض المعنونة بهذا العنوان.

فلو ارتفع العنوان فلا ينعدم موضوع الوقف بالمرّة ، بل الموقوف باق ، غاية الأمر وقع تغيّر فيه ، وهذا التغيير لا يضرّ ببقاء الوقف ولا ببقاء الموقوف عليه ، فلا وجه لبطلان الوقف.

نعم لو جاء دليل على أنّه خرج عن كونه وقفا بإتيان دليل على جواز بيعه ، فهو المتّبع ، وإلاّ فمقتضى الأصل بقاء وقفيّته حتّى مع جواز بيعه ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو تلك القطعة من الأرض التي كانت معنونة بعنوان الحمّام أو الدار أو الدكّان أو غير ذلك.

وأمّا الثاني : أي : عدم بطلان الوقف بجواز بيعه : فلأنّ بطلان الشي ء إمّا بانعدام علل قوامه - وذلك لأنّه بعد انتفاء علل قوامه جميعا لو بعضها أو بقي يلزم الخلف ، أي يلزم أن يكون ما فرضه داخلا في قوامه لا يكون داخلا في قوامه ، وهو محال - وإمّا بإتيان دليل تعبّدي على بطلانه.

أمّا الدليل التعبّدي من إجماع أو آية أو رواية معتبرة ، فليس شي ء من هذه في

ص: 295

المقام ، فالعمدة هو الوجه الأوّل ، أي انتفاء شي ء ممّا هو داخل في قوامه ، فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ هل عدم جواز البيع من مقوّمات حقيقة الوقف وماهيّته كي يبطل بجواز البيع ، أو من بعض آثاره وأحكامه كي لا يكون ارتفاعه وجوازه موجبا لبطلانه إذا جاء دليل من نصّ أو إجماع على جواز بيعه عند عروض بعض العوارض؟

إذا عرفت هذا ، فنقول : قد تقدّم أنّ الوقف عبارة عن الإيقاف وحبسه عن التقلّبات الاعتباريّة ، كبيعه وهبته والصلح عليه وغير ذلك ، ومقتضى هذا التعريف أنّ عدم جواز البيع كسائر التبدّلات الاعتباريّة داخل في حقيقة البيع وفي قوام ذاته ، أو لا أقلّ من مقتضيات ذاته ، فلا بدّ من القول ببطلانه عند جوازه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حقيقة الوقف وإن كان هو الحبس عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، ولكن لا مطلقا ، بل ما لم يعرض عليه أحد موجبات جواز بيعه ، وإلاّ ففي صورة حدوث أحد تلك الموجبات لجواز بيعه يجوز بيعه ، مع أنّه وقف. نعم بوقوع البيع خارجا لا يبقى موضوع للوقف ، فيرتفع قهرا.

وهذا أيضا يظهر من ظاهر عبارتهم أنّه يجوز بيع الوقف في مورد كذا وكذا ، فإنّ ظاهرها أنّ البيع يرد على الوقف.

وعلى كلّ حال قالوا بجواز بيع الوقف في موارد وصور :

الأوّل : أن يخرب الوقف بحيث يسقط عن المنفعة بالمرّة ، بمعنى أنّه لا يمكن انتفاع الموقوف عليهم به مع بقاء عينه.

ووجه جواز البيع في هذه الصورة هو أنّ حبس العين عن البيع وعن سائر التقلّبات كان لأجل أن ينتفع الموقوف عليهم به ، وهذه الغاية هو المراد والمقصود الأصلي من إنشاء الوقف ، فإن لم يمكن الانتفاع به أصلا فيكون الإيقاف لغوا.

ولذلك قلنا من شرائط صحّة الوقف أن يكون الموقوف ذا منفعة محلّلة قابلة

ص: 296

للتسبيل ، فالمنع عن البيع يكون لأجل هذه الجهة ، فإذا لم تكن منفعة في البين فلا مانع عن البيع ، لأنّ إبقاءه لغو ولا فائدة فيه.

وأمّا أدلّة المنع ، فادّعاء الإجماع على عدم جواز البيع ، مع ذهاب الأكثر إلى الجواز في هذه الصورة فممّا لا ينبغي أن يتفوّه به.

وأمّا قول أبي الحسن علیه السلام في رواية عليّ بن راشد : « لا يجوز شراء الوقف ، ولا تدخل الغلة في ملكك » (1) لا إطلاق لها يشمل هذه الصورة ، لورود هذه الرواية في مورد وجود منفعة العين الموقوفة كاملة ، وإنّما كان سؤال الراوي عن اشتراء الوقف من جهة مجهوليّة الموقوف عليه ، ولذلك قال علیه السلام : « ادفعها إلى من أوقفت عليه » قال :

لا أعرف لها ربّا ، قال علیه السلام : « تصدّق بغلتها ». فليس علیه السلام في مقام بيان أنّ الوقف بأيّ حال من الأحوال لا يجوز شراؤها.

وإن شئت قلت : إنّها منصرفة عن هذه الصورة التي ترجع إلى إبقائها بلا فائدة حتّى تتلف.

وبعبارة أخرى : المراد منها أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بحيث يجوز بيعه وشراؤه مطلقا.

وأمّا قوله علیه السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » فأجنبيّ عن هذا المقام ، لأنّ ظاهره لزوم العمل على طبق ما قرّره الواقف من القيود والشروط حين إنشاء الوقف.

ومعلوم أنّ إبقاؤها وعدم بيعها بعد ما لم تكن لها منفعة أصلا - وكان إبقاؤها لغوا وبلا فائدة - ليس من الكيفيّة التي أنشأ الواقف الوقف بتلك الكيفيّة ، ولا من الشروط أو القيود التي قرّر الوقف عليها حال الإنشاء.

ص: 297


1- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 35. « الفقيه » ج 4 ، ص 242 ، ح 5576 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 1.

وأمّا قوله علیه السلام : « صدقة لا تباع » في طائفة من الأخبار المتقدّمة ، (1) فالظاهر أنّ المراد منه أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بل لا يجوز بيعه وشراؤه إلاّ بعد دليل على الجواز في بعض الحالات الطارئة عليه ، فيكون مخصّصا لأدلّة عدم جواز بيعه إن كان لها عموم ، ومقيّدا إن كان لها إطلاق.

ويكون ذلك الدليل الدالّ على الجواز حاكما على أصالة عدم جواز البيع ، أو استصحاب المنع الذي كان قبل طروّ تلك الحالة ، على تقدير جريانه وتماميّة أركانه ، فيدور الأمر بين أحد هذه الأمور الثلاثة :

أحدها : إبقاؤها حتّى تتلف. وهذا ممّا يأباه الذوق الفقهي والفهم السليم.

والثاني : بيعه وإعطاء ثمنه للموجودين. وهذا تضييع لحقّ البطون اللاحقة.

الثالث : تبديله بعين أخرى تكون ذات منفعة جارية كالمبدّل ، فتكون صدقة جارية كالأصل ، وربما يكون في البدل نفعا أكثر من الأصل.

ويمكن أن يوجّه التبديل ، مضافا إلى ما ذكرنا أنّ الواقف أنشأ حبس العين بجهاتها الثلاث لجريان منافعها على الموقوف عليهم ، والمراد من الجهات الثلاث : الخصوصيّات ، والنوعيّة ، والماليّة للعين الموقوفة. وبعد تعذّر إبقاؤها شرعا بجهاتها الثلاث لكونها لغوا لا فائدة فيه ، ولا يترتّب عليه الأثر المقصود من وقفها ، وإمكان إبقائها بجهتين ، أي : الماليّة ، والجهات النوعيّة ، كما إذا كان الموقوف دارا فخربت ، وهي في مكان لا ينتفع بها أصلا ، ولكن أرضها واقعة بجنب دار أو دكّان أو خان يشتريها ربّ تلك الدار أو ذلك الدكّان أو الخان بأعلى القيم ، فيشتري دارا أخرى بثمن تلك الخربة دارا أوسع وأحسن منه بعشر مرّات ، فيمكن إبقاء حبس ماليّة تلك الدار الموقوفة مع جهاتها النوعيّة ، فلا وجه لعدم الالتزام بالإبقاء والقول بذهابه من البين.

ثمَّ إنّهم ذكروا ها هنا احتمالات وأقوال لا يهمّنا ذكرها بعد ما عرفت ممّا هو

ص: 298


1- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (2).

الصواب ، فذكرها والنقض على بعضها وإبرام بعضها الآخر لا فائدة فيها إلاّ تطويل المقام.

الصورة الثانية : أن يكون خرابه سببا لقلّة الانتفاع به ، كما إذا خرب دكّان أو خان ، وكان نفعهما حين ما كانا دكّانا وخانا كثيرا ، لأنّهم كانوا يستأجرونهما لمحلّ كسبهم وتجارتهم ، ولكن بعد خرابها وصيرورتها عرصتين وإن كانوا يستأجرونهما بمقدار قليل لبعض الحوائج ، ولكن بالنسبة إلى النفع الأوّل في حكم العدم ، فالمشهور ذهبوا إلى عدم جواز بيعه ، لأنّ إبقاءه ليس بلا فائدة ، غاية الأمر قليلة ولو كان قلّة المنفعة كانت سببا لجواز البيع ، فإذا كان الدكّان أو الخان في سوق كثير المارّة مزدحمة بالناس ، ثمَّ اتّفق أن صار ذلك السوق قليل المارّة بواسطة وجود الشوارع والأسواق المعمورة في ذلك البلد وإقبال الناس عليها ، فيقلّ طلاّب ذلك الدكّان أو ذلك الخان ، وربما يبلغ في القلّة ونزول غلّته إلى عشر ما كان في الأوّل ، فهل ترضى من نفسك أن تقول بجواز بيع مثل ذلك الدكّان والخان؟!

فالإنصاف : أنّ ما ذهب المشهور إليه من عدم جواز بيعه في هذه الصورة جيّد ولا بأس به. نعم لو قلّت منفعته بمقدار لا يعدّه العرف ذا منفعة ، بل يرونه عادم المنفعة ، فالظاهر إلحاقه بالصورة الأولى ، لأنّ الوقفيّة أيضا اعتبار من اعتبارات الشرع ، بل هو أيضا مثل الملكيّة من الاعتبارات العرفيّة التي أمضاها الشارع ، وليس من مخترعاته ، فإذا كان نفعه قليلا بحيث يرى العرف حبسه وتسبيل منفعته لغوا ، فلا تشمله أدلّة المنع عن بيع الوقف.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بجريان استصحاب عدم جواز البيع قبل أن تقلّ منفعته إلى ذلك الحدّ ، وذلك أيضا فيما إذا حصل الشك.

وأمّا إذا كان اعتبار الوقف لغوا في مثل هذا المال الذي بنظرهم يكون مسلوب المنفعة - وإن كان له منفعة قليلة - فلا يأتي شكّ كي يستصحب المنع.

ص: 299

الصورة الثالثة : لو زال العنوان الذي وقفه الواقف بذلك العنوان ، كالحمّام والبستان ، فوقف الأوّل لأن يغتسل فيه الزوّار أو الطلاّب مثلا ، والثاني لأن ينتفع بثمرته الفقراء ، فخربا وصارا عرصتين ، ولكن يمكن أن ينتفع الموقوف عليهم بهما بعد خرابهما وزوال عنوانهما بمنافع أخر أكثر من الأوّل أو ما يساويه.

فقال جماعة بجواز بيعهما بعد زوال عنوانهما ، لأنّ الواقف وقف الحمّام أو البستان ، والمفروض أنّ ما هو الموجود ليس بحمّام ولا ببستان ، فلم يبق ما هو الموقوف كي يقال بوقفيّته.

وأشكل عليه : بأنّ تعلّق الوقف بهذه العناوين مثل تعلّق البيع والهبة بها ، فكما أنّه لو باع الحمّام أو البستان ، أو وهبهما لا يخرجان عن ملك المشتري أو الموهوب له بزوال عنوانيهما وصيرورتهما عرصتين ، فكذلك لا يخرجان عن الوقفيّة بزوال العنوانين.

وما قيل في الفرق : بأنّ الحمّام أو البستان في البيع والهبة مورد ، وفي الوقف عنوان ، لا يخلو عن مجازفة.

اللّهمّ إلاّ أن يكون مراد هذا القائل أنّ في باب البيع والهبة يملك الأرض مع بنائها للمشتري والموهوب له ، ولذلك لو خربا وانهدما لا تخرج أرضهما عن ملكه ، بخلاف الواقف فإنّه يحبس هذا العنوان لتسبيل منفعته.

فعمدة نظره إلى تسبيل منفعة هذا العنوان ، فإذا زال فلا يبقى موضوع للحبس ولا لتسبيل منفعته ، لأنّه بناء على ما ذكرنا يكون مراد الواقف - وما أنشأه - هو تسبيل منفعة هذا العنوان ، لا منفعة هذه الأرض التي بنى عليها هذا العنوان ، فإذا وقف دارا على أن يسكن فيه إمام المسجد الفلاني مثلا ، فانهدمت وصارت عرصة لا بناء عليها ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون لتلك الأرض منافع كثيرة ، يجعلها مخزن للبعض الأجناس ، أو محلاّ للسيّارات ، ولكن هذه المنافع لم ينشأ نسبتها من

ص: 300

طرف الواقف.

نعم لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف تمليك للموقوف عليهم لكان حال الوقف حال البيع والهبة ، وقياسه في محلّه. ولكنّك عرفت أنّ حقيقة الوقف هو إيقاف العين لتسبيل ثمرتها ، أو هو مركّب من الأمرين.

نعم لو كان إعادة العنوان ممكنا بمقدار من غلّته ، كما إذا كانت إعادة البستان أو كونه حمّاما أو دكّانا أو خانا ، وهكذا بغرس الأشجار في الأوّل ، وبناء مثل ما انهدم في البقية بأن يواجره لمدّة ، خصوصا إذا كانت المدّة قليلة ، فلا يبعد عدم جواز بيعه ولزوم إعادة عنوانه ، مثلا الدكّان الذي وقع في محلّ مرغوب من البلد - ويستأجرونه بمقدار كثير من المال - لو انهدم ويمكن إعادة عنوانه بنصف إجارته السنويّة لا يصحّ بيعه وإبطال الوقف مع إمكان إبقائه عرفا ، وإن كان بتجديد بنائه. وهكذا الأمر والحال في سائر العناوين.

وقد تقدّم عدم بطلان وقفيّته بخرابه وانهدامه ، وكلامنا الآن في عدم جواز بيعه بعد الفراغ عن عدم بطلان وقفيّته.

وحاصل الكلام : أنّ ما ذكرنا في وجه جواز بيعه هو الذي أثبتنا فساده وبطلانه في مقام بيان عدم زوال وقفيّته بالخراب والانهدام ، فالحقّ أنّه لا يجوز بيعه بصرف زوال عنوانه مع بقاء منفعته بمقدار يعتنى به ، وخصوصا إذا كان إعادة عنوانه ممكنا بمقدار من غلّته.

الصورة الرابعة : أن يكون بيعها أنفع وأعود للموقوف عليهم ، بأن يبيعوها ويشترون بثمنها شيئا من أمثالها ، أو من غير أمثالها ، ويقفونه على من كان موقوفا عليه على النهج الوقف الأوّل ، وتكون غلّة الثاني أكثر بمقدار معتدّ به ، بل اتّفق في زماننا أنّه لو كان بيعها صحيحا في هذه الصورة يكون أعود عليهم بآلاف مرّة ، بل ليس قابلا للقياس عرفا ، مثلا : كانت مزرعة وقفا على مدرسة دينيّة تزرع فيها

ص: 301

الخضروات ، فصارت متّصلة بمكان مرغوب من بلد كبير مزدحمة بالسكّان ، يشترون كلّ متر من أرض تلك القرية بمقدار كثير من المال ، بحيث يمكن أن تكون منفعة ثمن هذا المتر الواحد لو يشترون به شيئا آخر مساويا لمنفعة تمام تلك القرية التي هي مئات ألوف من الأمتار ، فهذا شي ء غير قابل للقياس عرفا.

فهل يجوز بيعها في هذه الصورة ، أم لا؟

حكى عن المفيد - رضوان اللّه عليه - جواز بيعه ، (1) ولكن أنكر بعض صحّة هذه الحكاية ، والذي رأيته في المقنعة عبارته هكذا : « أو يكون تغيير الشرط في الوقف إلى غيره أعود عليهم وأنفع لهم » (2).

وأنت خبير بأنّ هذه العبارة لا تدلّ على جواز بيع الوقف إن كان البيع أعود لهم ، بل راجع إلى تغيير الشرط إذا كان ذلك التغيير أنفع لهم ، كما إذا شرط أن يكون زرعه شعيرا ، وكانت الحنطة أعود وأنفع لهم ، أو شرط أن يشغل فيه خباز ، وكانت الصيدلة أنفع لهم ، وهكذا.

وعلى كلّ حال مقتضى أدلّة المنع التي تقدّم ذكرها عدم جواز بيعها ، وليس مخرج عنها إلاّ ما يتوهّم من دلالة بعض الروايات على الجواز.

منها : رواية جعفر بن حنّان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام إلى أن يقول : قلت : فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلّة؟ قال : « نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيرا لهم باعوا » (3).

ومنها : خبر الحميري ، كتب إلى صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه : روى عن

ص: 302


1- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 170 ، حكى عن المفيد.
2- « المقنعة » ص 652 ، باب الوقوف والصدقات.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 35 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 29. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 133 ، ح 565 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 99 ، ح 382 ، باب : لا يجوز بيع الوقف ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 8.

الصادق علیه السلام غير مأثور : إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه ، وكان ذلك أصلح ، لهم أن يبيعوه ، فهل يجوز أن يشتري من بعضهم ان لم يجتمعوا كلّهم على البيع ، أم لا يجوز إلاّ أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب علیه السلام : « إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه ، وإذا كان على قوم من المسلمين فليبع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين إن شاء اللّه تعالى » (1).

أمّا الرواية الأولى : فظاهر السؤال أنّه يجوز بيع الوقف عند احتياج الموقوف عليهم ، وعدم كفاية غلّته لهم ، فأجاب علیه السلام بالجواز مع رضائه كلّهم ، وكان البيع خيرا لهم ، وهذه الصورة غير التي الآن محلّ كلامنا ، وسيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا رواية الحميري : فظاهرها جواز البيع مطلقا ، سواء أكان أعود أو لم يكن كذلك ، ولم يقل به أحد. وعلى كلّ حال خارج عمّا هو محلّ كلامنا.

الصورة الخامسة : أن يلحق الموقوف عليهم ضرورة شديدة وحاجة ولا يكفيهم غلّته.

فذهب جماعة إلى صحّة البيع وجوازه في هذه الصورة ، وحكى عن السيّدين المرتضى (2) وابن زهرة 5 (3) الإجماع على الجواز.

وعمدة الاستدلال على الجواز هو قوله علیه السلام في خبر جعفر بن حنّان قال : « نعم إذا رضوا كلّهم » في جواب السائل ، حيث يسأل عن جواز البيع إن احتاجوا ولم يكفهم غلّته.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ظاهر الجواب هو جواز البيع مطلقا ، لأنّ العبرة بعموم

ص: 303


1- « الاحتجاج » ص 490 ، في توقيعات الناحية المقدسة ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 9.
2- « الانتصار » ص 226.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 541.

الجواب لا بخصوصيّة المورد ، ولا بالخصوصيّة التي تذكر في السؤال. مضافا إلى ضعف هاتين الروايتين وإعراض الأصحاب عنهما وعدم العمل بمضمونهما.

فالإنصاف عدم جواز البيع في هذه الصورة أيضا ، بملاحظة أدلّة المنع.

الصورة السادسة : أن يقع بين أرباب الوقف اختلاف ربما ينجرّ إلى تلف الأموال والنفوس.

فذهب جماعة إلى جواز بيعه في هذه الصورة ، وعمدة الدليل على هذا القول هو مكاتبة عليّ بن مهزيار قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني علیه السلام : أنّ فلانا ابتاع ضيعة ، فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ، ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض ، أو تقويمها على نفسه بما أشتريها ، أو يدعها موقوفة؟ فكتب إليّ : « أعلم فلانا أنّي آمره ببيع حقّي من الضيعة ، وإيصال ثمن ذلك إليّ ، وإنّ ذلك رأيي إن شاء اللّه ، أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له » (1).

وكتبت إليه : أنّ رجلا ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا شديدا ، وأنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده ، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ، ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته؟ فكتب إليّ بخطّه : « وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس » (2).

ودلالة هذه الرواية على جواز البيع - إذا كان بين الموقوف عليهم اختلافا يظنّ

ص: 304


1- « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 30. « الفقيه » ج 4 ، ص 240 ، ح 5575 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 304 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 5.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 240 ، ح 5575 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 130 ، ح 557 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 6.

أنّه يوجب تلف الأموال أو النفوس - واضح لا ريب فيه.

ولكن من المحتمل القريب أن يكون تجويزه علیه السلام ذلك في الوقف المنقطع لا الدائم والمؤيّد الذي هو محلّ الكلام ، لأنّ الوقف المنقطع الآخر مثل الحبس إمّا لا يخرج عن ملك الواقف أصلا ، أو على فرض خروجه يكون خروجه موقّتا وما دام بقاء الموقوف عليهم ، فيجوز للواقف المالك أن يبيع ماله.

ويؤيّد هذا الاحتمال ظهور الرواية في كون الثمن للموجودين ، ولو كان مؤبّدا لكان منافيا مع حقّ البطون اللاحقة ، فلا بدّ من الحمل على الوقف المنقطع.

وأيضا من المحتمل أن يكون مورد السؤال هو الوقف بعد إجراء الصيغة وقبل القبض ، فيجوز رجوع الواقف وأن يبيعه.

ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ حصّة الإمام علیه السلام كانت قبل القبض يقينا ، لأنّه يخبره بأنّه جعل لك في الوقف الخمس ، والقبض فضولة لا معنى له ، وصاحب الوسائل قدس سره أيضا يدّعي ظهور الرواية في عدم القبض (1).

ويؤيّد كونه ، أي تجويزه علیه السلام للبيع في الوقف المنقطع ما عن دعائم الإسلام أنّه ذكر جواب الإمام هكذا : فكتب علیه السلام : « إنّ رأيي له إن لم يكن جعل آخر الوقف لله أن يبيع حقّي من الضيعة ويوصل ثمن ذلك إليّ ، وأن يبيع القوم إذا تشاجروا ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف إتلاف الأموال والأنفس » (2).

فبناء على صحّة هذا النقل جعل علیه السلام جواز البيع مشروطا بأن لم يجعل آخر الوقف لله تعالى ، وهذا عبارة عن الوقف المنقطع ، ولكن الظاهر أنّه نقل بالمعنى ، فيكون هذا الشرط حسب فهمه واجتهاده في استظهار المراد من الرواية ، فلا اعتبار به ، وعلى فرض عدم كونه اجتهادا منه في فهم المراد ، بل كان نقلا للرواية ، فأيضا لا

ص: 305


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 5 و 6.
2- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1290 ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.

اعتبار به ، لأنّه ليس قابلا للمعارضة مع ما رواه في الكافي (1) والتهذيب (2).

مضافا إلى أنّ في أصل حجّية كتابه كلام بل إشكال ، فالأحسن حمل الرواية على عدم حصول القبض ، كما حمله في الوسائل.

وعلى كلّ حال مع وجود هذه الاحتمالات لا يبقى مجال لرفع اليد عن الأدلّة المانعة بهذه الرواية.

الصورة السابعة : فيما إذا اشترط الواقف بيعه لو خرب أو قلّ نفعه ، أو إذا كان بيعه أعود عليهم ، أو إذا وقع بينهم الاختلاف ، أو عند حدوث أمر آخر غير المذكورات ، فهل يجوز البيع ويكون الشرط نافذا ، أو يكون الشرط فاسدا ، أو يكون الشرط والوقف كلاهما باطلان بناء على أنّ الشرط الفاسد إذا وقع في ضمن عقد يكون مفسدا لذلك العقد؟

والظاهر صحّة الشرط والوقف جميعا ، وذلك لأنّه لا وجه لبطلانهما أو بطلان خصوص الشرط ، إلاّ ما يتوهّم من أنّ هذا الشرط خلاف مقتضي العقد ، أو خلاف الكتاب والسنّة وكلاهما ليس في محلّه.

أمّا توهّم الأوّل : فلأنّ مقتضى عقد الوقف لو كان عدم جواز البيع مطلقا ، لكان لهذا التوهّم وجه ، ولكنّ الظاهر أنّ عدم جواز البيع مقتضى إطلاق عقدة ، لا مقتضى عقده مطلقا ، ولذلك يصحّ وقف المنقطع الآخر.

وأيضا لذلك قلنا بعدم بطلان الوقف بجواز البيع ، وإنّما يذهب موضوعه بنفس البيع خارجا ، لأنّه بعد البيع خارجا لا يبقى شي ء في عالم الاعتبار كي يقال بأنّه موقوف ، والمناط في كون الشرط مخالفا لمقتضى ذات العقد لا لإطلاقه هو أن يكون بين الشرط وبين ما أنشأه مضادّة في عالم الاعتبار التشريعي.

ص: 306


1- « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 30.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 130 ، ح 557 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 4.

كما إذا اشترط في عقد الإجارة عدم تصرّف المستأجر في الدار المستأجرة أصلا ، أو عدم استمتاع الزوج من الزوجة أصلا في عقد النكاح ولو بالنظر أو التقبيل ، فتجويز الشارع بيع الوقف في بعض الأحيان - كالصور المتقدّمة - دليل على عدم المضادّة بينهما.

وأما توهّم الثاني - أي : كونه خلاف الكتاب والسنّة لكونه مخالفا للأدلّة الشرعيّة المانعة عن بيع الوقف - ففيه أنّ مفاد تلك الأدلّة ليس عدم جواز بيع الوقف مطلقا ، بل عدم جوازه ما لم يكن دليل على الجواز ، ولذلك لا معارضة بين أدلّة الجواز وبين الأدلّة المانعة.

وإن شئت قلت : إنّ الأدلّة المانعة تدلّ على عدم الجواز بعنوانه الأوّلي ، وأدلّة الجواز عند طروّ حالة أو فيما إذا شرط الواقف ، فيكون قوله علیه السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (1)يدلّ على نفوذ الشرط بلا معارض.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّه بناء على أنّه يجب أن يشتري بثمنه بعد بيعه بدله وجعله وقفا فلا إشكال قطعا ، وليس خلاف مقتضى العقد يقينا ، وذلك لأنّ كون البيع خلاف الكتاب والسنّة على فرض صحّته يكون فيما لو أتلف ثمنه ، وكذلك كونه خلاف مقتضى العقد ، أمّا لو اشترى بدله فالوقف باق ببقاء الجامع بينهما ، لأنّ عقد الوقف لم يتعلّق بالخصوصيّة العينيّة. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ (2) تبعا لشيخنا الأعظم (3) 5.

ولكن أنت خبير بأنّ قوله : « وقفت هذا » يكون مثل قوله : « بعت هذا » وفي كليهما المشار إليهما هو هذا الشخص الخارجي ، فيتعلّق الوقف بخصوصيّتها العينيّة الشخصيّة ،

ص: 307


1- تقدم راجع ص 191 ، هامش رقم (4).
2- النائيني في « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 383.
3- « كتاب المكاسب » ص 168.

فالجواب الصحيح هو الذي قلنا.

وربما يقال : بأنّ قضيّة وقف مولانا أمير المؤمنين علیه السلام عين ينبع (1) يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى مع وجود البطن الأوّل وبصرف إرادة الحسن علیه السلام ومع عدم اشتراء بدله بثمنه.

ولذلك يقول شيخنا الأعظم قدس سره أنّ السند صحيح وتأويله مشكل والعمل به أشكل (2).

وأفاد شيخنا الأستاذ قدس سره في توجيه الصحيحة بأنّه منزل علي أنّ مرجع الشرط إلى أنّ له أن يجعله وقف المنقطع ، وأن يبقيه على حاله (3).

وفيه : أنّه علیه السلام أوقف تلك العين ، ولا يمكن أن يكون وقفه مردّدا بين المؤبّد والمنقطع وأن يكون المنشأ هو الجامع ، ويجعل اختيار أحدهما بيد الحسن علیه السلام بعد مدّة إذا أراد ، بل الظاهر - من الصحيحة ومن روايات أخر في قضيّة وقف عين ينبع - هو أنّه علیه السلام جعله وقفا مؤبّدا ، لقوله علیه السلام حين ما أوقفه « بتّا بتلا ».

ولا شكّ في ظهور هذه العبارة في الوقف المؤبّد ، فتجويز بيعه للحسن علیه السلام يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى في الوقف المؤبّد.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأعظم قدس سره أنّ العمل به أشكل (4).

ففيه : أنّه لا إشكال فيه أصلا ، بعد ما عرفت أنّ هذا الشرط مناف لمقتضى إطلاق العقد ، لا لمقتضى ذاته.

ص: 308


1- « الكافي » ج 7 ، ص 49 ، باب : صدقات النبي صلی اللّه علیه و آله وفاطمة والأئمة علیهم السلام ووصاياهم ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 146 ، ح 608 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 55 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 312 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 10 ، ح 4.
2- « كتاب المكاسب » ص 172.
3- النائيني في « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 400 ، في بيع الوقف.
4- « كتاب المكاسب » ص 172.

الصورة الثامنة : فيما لو ظنّ أنّ بقاءه يؤدّي إلى خرابه ، فيجوز أن يبيعه ويشتري بثمنه بديله ويقفه. وذلك كما إذا كان وقف دارا قريبا من الشط ، فبواسطة تبدّل مجرى الشط لبعض العوارض والطواري صارت على حافة الشط ، فيظنّ أنّها تخرب في أيّام فيضان ماء الشط ، وذلك لأنّ إبقاءها لا طريق له إلاّ بهذا الشكل ، فيدور الأمر بين ذهابه عن البين بالمرّة ، أو بقائه بهذا الشكل ، ولا شكّ في أنّ الثاني أولى وأوفق بغرض الواقف.

ولكن هذا الكلام لا يستقيم إلاّ بناء على لزوم إبقاء عين الموقوفة ، ولو كان بماليّتها وخصوصيّاتها الصنفيّة ، وهو مشكل جدّا.

المطلب السابع : في المتولّي والناظر للعين الموقوفة

وهما بمعنى واحد ، والمراد بهما من ينظر في شؤون المال الموقوف ويدبّر أمره.

وربما يطلق المتولّي على المتصرّف والمباشر لتدبير أمور الوقف استقلالا ، أو مع شراكة الغير ، والناظر على من يلزم أن يكون تصرّفات المتولّي باطّلاعه ، أو باستصوابه وتصويبه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الناظر على قسمين :

أحدهما : أن يكون إعمال المتولّي باطّلاعه.

والثاني : أن يكون بنظره وتصويبه.

ووجه التسمية في كلتا الصورتين معلوم ، وقد عبّر عنهما في بعض الأخبار بالوالي ، وهي رواية عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي الحسن موسى علیه السلام (1).

ص: 309


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 249 ، ح 5593 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 27 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 149 ، ح 610 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 57 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 314 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 10 ، ح 5.

وعلى كل حال ففيه أمور :

[ الأمر ] الأوّل : لا شكّ في جواز جعل الواقف نفسه استقلالا أو مع شركة الغير ، وكذلك غيره ناظرا ومتولّيا على الوقف في ضمن العقد الذي يقف مالا ، وذلك للإجماع ، ولم ينقل خلاف إلاّ من ابن إدريس قدس سره وعبارته ليس صريحة في الخلاف ، كما ذكره صاحب الجواهر قدس سره ونقل عين عبارته (1) وأنا شاهدتها في كتابه السرائر (2) ، وعلى كلّ حال مقتضى قوله علیه السلام « الوقف على حسب ما يوقفها أهلها » وسائر المطلقات صحّة هذا الجعل بجميع شقوقه التي ذكرناها.

نعم إذا جعل التولية لنفسه ، وجعل حقّ التولية من منافع العين الموقوفة أكثر من أجرة مثل عمله ، ربما يتوهّم أنّه يكون من قبيل الوقف على النفس الذي قلنا إنّه باطل إجماعا ، مضافا إلى عدم كونه تسبيلا للمنفعة الذي يعرف الوقف به ، وقد تقدّم تفصيل ذلك فلا نعيد ، ويجوز أن يجعل في ضمن عقد الوقف أمر جعل التولية بيده ، بأن يعيّن المتولّي والناظر متى شاء ، وكذلك له أن يجعل أمر عزل المتولّي بيده ، بأن يعزله متى شاء وأن ينصب غيره متى شاء ، ويجوز أن يجعل أمر جعل التولية بيد غيره ، بأن يجعل من يريد متوليّا متى شاء ، ويعزل هذا وينصب غيره متى شاء. ودليل جميع هذه الشقوق هو قوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » ويجوز أيضا أن يجعل لكلّ متولّ أن ينصب متوليّا بعده.

الأمر الثاني : لو لم يعيّن المتولّي في ضمن نفس العقد ، ومعلوم أنّه لا بدّ في الوقف من متولّ يلي أمره ويدبّر شؤونه ، فهل له أن يعيّن متوليّا على الوقف ، أو للموقوف

ص: 310


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 22.
2- « السرائر » ج 3 ، ص 156 ، شروط صحة الوقف.

عليهم ، أو للحاكم ، أو يفصّل بين الوقف العامّ فللحاكم ، وبين الوقف الخاصّ فللموقوف عليهم؟ وجوه وأقوال :

أقول : أمّا الواقف بعد أن تمَّ الوقف يكون كسائر الأجانب ، بناء على ما تقدّم من زوال ملكه بالوقف ، فلو لم يعيّن في متن العقد فليس له أيّ مداخلة في شؤون الوقف. وأمّا ما يقال : من أنّه كان له النظر في شؤون هذه العين التي وقفها ، وأيضا كان له أن يعيّن غيره للنظر فيها ، والذي معلوم زواله بالوقف هو الملك لا كون النظر فيها وتدبير شؤونها بنفسه أو بتعيين الغير له ، فيستصحب.

ففيه : أنّ كون النظر له من شؤون الملكيّة ، فإذا زالت فيزول قطعا ، فلا يبقى مجال للاستصحاب.

فيدور الأمر بين أن يكون أمر التولية وتعيين الناظر بيد الحاكم أو الموقوف عليه ، وقد تقدّم الوقف على الجهات العامّة - كالمساجد والقناطر والخانات الموقوفة للمسافرين وأمثال ذلك - لا يملكه أحد ، ففي مثل هذه الأوقاف لا شبهة في أنّ أمر توليتها بيد الحاكم ، بأن يباشر تدبير شؤونها إمّا بنفسه ، وإمّا بأن يعيّن غيره.

وأمّا بالنسبة إلى الأوقاف الخاصّة - كالوقف على أولاده وذراريه مثلا - والأوقاف على العناوين العامّة التي قابلة لأن تتملّك ، فبناء على كونهم مالكين للوقف وإن كان في بادئ النظر تأتي إلى الذهن قوّة احتمال أن يكون أمر النظر مباشرة أو تعيينا إليهم ، لكونهم ملاّك ولهم السلطنة على أموالهم بمباشرتهم بأنفسهم ، أو بتعيينهم شخصا آخر ، ولكن عند التأمّل حيث أنّ هذه الملكيّة ليست كسائر الأملاك المطلقة ليكون المالك مطلق العنان - بل لا بدّ من مراعاة حقوق البطون اللاحقة أيضا في جميع التصرّفات على أنحائها في هذا الملك ، وليست البطون اللاحقة بالنسبة إلى البطن السابق كالوارث ، لأنّ المورث مطلق العنان ، وملكه طلق ، بخلاف البطن السابق بالنسبة إلى اللاحق - فليس له ولاية التصرّف في هذا الملك الذي لا بدّ من ملاحظة

ص: 311

حقوق آخرين ، فتكون الولاية في أمرهم للحاكم ، لأنّهم بمنزلة الغيّب والقصر ، بل أنزل منهم ، فالمتعيّن أن يكون المرجع في تعيين الناظر والمتولّي هو الحاكم حتّى في الأوقاف الخاصّة ، كالوقف على الذراري.

نعم بعض التصرّفات من طرف الموقوف عليهم التي لا يضرّ بحقوق البطون يجوز لهم ولا مانع عنه ، لأنّهم مالكون.

الأمر الثالث : هل تعتبر العدالة في الناظر ، أم لا؟ أو يفصّل بين من يجعله الواقف فلا تعتبر فيه ، ومن يجعله الحاكم فتعتبر فيه؟

ومقتضى الإطلاقات - مثل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها - عدم اعتبارها فيمن يعيّنه نفس الواقف من ضمن عقد الوقف.

وأمّا ما قيّده في وقف مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في قضيّة وقف عين ينبع من قوله علیه السلام : « فإن وجد فيهم من يرضى بهداه وإسلامه وأمانته ، فإنّه يجعله إليه إن شاء » (1) أي : يجعله ناظرا ، فلا يدلّ على اعتبار العدالة ، لأنّ الهدى والإسلام والأمانة غير العدالة. نعم جعل فاسق يفسد الوقف ويفنيه ربما يكون منافيا لجعله صدقة جارية ، فالإنصاف : أنّه لا تعتبر العدالة ، بل ولا الأمانة فيمن يجعله الواقف.

نعم لو عيّن الفاسق الذي لم يعمل بالوقف طبق ما جعله الواقف ، ويهمل شؤونه حتّى يحتمل فناؤه وخرابه ، فلا يبعد وجوب ضمّ الأمين إليه من طرف الحاكم ، وإن كان المتولّي والناظر المنصوص هو نفس الواقف ، فضلا عن أن يكون غيره.

وذلك من جهة أنّ حفظ الوقف مطلوب من قبل الشارع ، ولا يرضى بتركه ، فيكون أمره بيد الحاكم ، لأنّه من الحسبيّات ، وحيث أنّ عزله لا يجوز - لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها - فلا بدّ من ضمّ أمين إليه بمنعه عن التعدّي وعن الإهمال جميعا.

ص: 312


1- تقدم راجع ص 308 ، هامش رقم (1).

وأمّا من يعيّنه الحاكم فلا بدّ وأن يكون ثقة وأمينا ، لأنّه لا بدّ في جعله من مراعاة مصلحة الوقف ، فليس له أن يأتمن الخائن.

وأمّا الفاسق الذي يرتكب الذنب - وإن كان صغيرة ، فإن كان أمينا موثوقا في أعماله ، بحيث يطمئنّ بعدم إهماله شؤون الوقف وتدبير أمره ، ويعمل على طبق الوقف ولا يتعدّى عن مضمون الوقف ، فالقول بعدم جواز تعيينه متوليّا وناظرا مشكل ، لعدم دليل على اعتبار عدالة الناظر ، إلاّ كونها موجبة للاطمئنان بحفظ شؤون الوقف ، فإذا حصل من دونها فلا وجه لاعتبارها.

وأمّا ادّعاء الإجماع - من الكفاية (1) والرياض (2) والحدائق (3) فغير مسموع ، مع ذهاب جمع كثير إلى عدم الاعتبار.

الأمر الرابع : في أنّ الواقف لو جعل شخصا ناظرا على المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فلا ريب في جواز ذلك له ، لأنّ هذا ليس مخالفا للكتاب ، فبمقتضى « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » يكون جعله نافذا.

وحيث أنّ الناظر - على ما تقدّم ذكره - قسمان : اطّلاعيّ واستصوابيّ. والأوّل عبارة عن أنّ كلّ فعل يصدر من المتولّي يلزم أن يكون باطّلاعه. والثاني عبارة عن أن يكون بتصويبه ، لا صرف اطّلاعه عمّا فعل ، ففي القسم الأوّل للمتولّي أن يفعل بدون لزوم أخذ الإذن منه ، بل صرف اطّلاعه كاف. وأمّا في القسم الثاني فيحتاج نفوذ تصرّفاته إلى أخذ الإذن منه وتصويبه لذلك الفعل.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ من مراجعة كلامه ، وأنّه ظاهر في أيّ واحد من القسمين فيؤخذ به ، وإن يستظهر منه شي ء من القسمين ، فلا بدّ

ص: 313


1- « كفاية الأحكام » ص 141.
2- « رياض المسائل » ج 2 ، ص 23.
3- « الحدائق الناضرة » ج 22 ، ص 184.

للمتولّي في مقام العمل من الجمع بين الأمرين ، أي أخذ الإذن منه واطّلاعه على العمل أيضا ، وذلك من جهة أصالة عدم جواز عمله ونفوذ تصرّفاته إلاّ بالأمرين.

الأمر الخامس : لو جعل التولية لأكثر من واحد ، فتارة على وجه الشركة ، وأخرى على وجه الاستقلال.

فإن كان من القسم الأوّل فلا يجوز تصرّف كلّ واحد منهما على الانفراد بدون مداخلة الآخر ، لأنّ معنى الشركة أنّ كلاهما بمنزلة شخص واحد ، كما أنّ الشركة في المال أيضا ذلك ، ولذلك هناك أيضا ليس كلّ واحد منهما مستقلاّ في التصرّف ، فيجب اجتماعهما على تصرّف كي ينفذ ، وإن امتنعا أجبرهما الحاكم مع الإمكان ، وإن لم يمكن فالمرجع هو الحاكم.

وأمّا إن كان من القسم الثاني ، فإذا اجتمعا فلا إشكال ، وأيّ واحد منهما تصرّف بدون رضا الآخر نافذ. ولو تصرّف كلاهما ، مثلا آجر أحدهما من زيد ، والآخر من عمرو ، قدّم المقدّم ، ولو كانا في زمان واحد بطلا. والسرّ واضح.

الأمر السادس : في أنّ الواقف إذا عيّن وظيفة المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فيعمل بما عيّن له من الوظيفة ، وإذا لم يعيّن وظيفة وجعله متوليّا من دون بيان عمل له ، فالظاهر من هذه العبارة والمتفاهم العرفي منه أنّه عليه تدبير شؤون الوقف ، من حفظه عن الخراب ، وإجارته ، وتحصيل مال الإجارة نقدا وجنسا ، وتقسيمه على الموقوف عليهم ، وإيصال حصّة كلّ واحد منهم إليهم ، وغير ذلك ممّا هو وظيفة المتولّي عند العرف.

وذلك من جهة أنّه بعد البناء على لزوم العمل بما أراده الواقف من لفظ المتولّي حال الجعل ، فطريق تشخيص مراده هو ظهور كلامه ، ففي أيّ معنى كان ظاهرا فيه فيحكم بأنّه مراده. وهذا معنى أصالة الظهور وحجّية الظواهر ، ومعنى الظهور هو ما يفهم العرف من الكلام عند إلقائه إليه ، ففيما نحن فيه إذا قال الواقف : وقف المال الفلاني

ص: 314

وجعلت فلانا ناظرا ومتوليّا عليه ، فما يفهمه العرف من لفظ « المتولّي » يحكم بأنّه مراده.

ولا ريب في أنّ العرف يفهم الذي يكون عليه ما ذكرنا من إدارة شؤون الوقف من عمارة ما انهدم منه ، أو ما يوجب حفظه عن الانهدام ، وجمع غلّته وتقسيمه على الموقوف عليهم. لا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه هل لغير المتولّي المنصوص - وإن كان موقوفا عليه ، أو وإن كان هو الحاكم - هذه التصرّفات ، أم لا؟

والظاهر أنّه مع وجود المتولّي المنصوص من طرف الواقف في ضمن عقد الوقف ليس لغيره هذه التصرّفات ، لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ، ولما في التوقيع عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان علیه السلام وفيه : « وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » (1).

فإنّ ظاهر التوقيع المبارك عدم جواز هذه التصرّفات لغير من جعله متوليّا وقيّما ، وعدم مزاحمة غيره له.

الجهة الثالثة

من جهات البحث في هذه القاعدة هي جهة

تطبيقها على مواردها

وقد عرفت أنّ موارد تطبيقها بعد ما صدق عليه الوقف عرفا وتحقّق مفهومه ،

ص: 315


1- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (2).

فعند ذلك كلّ شرط أو قيد اعتبر الواقف وجوده أو عدمه فهو نافذ وماض ، لقوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقد طبّقناها على مواردها في تضاعيف ما تقدّم ، فلا يحتاج إلى الإعادة.

وفي الحقيقة هذه القاعدة كسلاح للفقيه لدفع ما يتوهّم من عدم صحّة بعض الشروط ، أو القيود التي قيّد الواقف بها الموقف ، أو الوقوف عليه ، أو المتولّي ، أو الناظر وقد تقدّم موارد كلّ ذلك ، فعليك بالتتبّع التمام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 316

45 - قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

اشارة

ص: 317

ص: 318

قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب(1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في شرح مفهوم هذه القاعدة

فنقول : الرضاع بفتح الراء وكسرها ، وهكذا الرضاعة بالفتح والكسر مصدر رضع عبارة عن امتصاص الثدي أو الضرع أو مطلق شرب اللبن ، سواء أكان منهما أو من غيرهما ، واللبن كان من إنسان أو حيوان.

ثمَّ إنّ الرضاع مثل الولادة يوجب وجود إضافة بين شخصين أو أشخاص ، والإضافة على قسمين : اعتباريّة ومقوليّة ، وذلك لأنّ حقيقة الإضافة عبارة عن نسبة متكرّرة بين شيئين ، بمعنى أنّ النسبة الموجودة في أحد الطرفين بالنسبة إلى الآخر موجودة أيضا في ذاك الطرف الآخر بالنسبة إلى هذا الطرف ، فإن كانت النسبتان الموجودتان في الطرفين من سنخ واحد ، تسمّى تلك الإضافة بالإضافة المتشابهة الأطراف ، كمحاذاة جسم مع جسم آخر ، حيث أنّ لكلّ واحد من الجسمين

ص: 319


1- (*) « عناوين الأصول » عنوان 94. « بلغة الفقيه » ج 3 ، ص 119 و 130 و 207 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 169 ، « القواعد » ص 325 ، « قواعد فقه » ص 175 ، « قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع » جعفر السبحاني.

المتحاذيين نسبة مع الآخر. والنسبة من الطرفين تسمّى بالمحاذاة أو المقابلة مثلا ، فهما من سنخ واحد ، وإن كانتا من سنخين تسمى تلك الإضافة بمخالفة الأطراف ، كالفوقيّة والتحتيّة.

فحينئذ إن كانت تلك النسبة المتكرّرة غير موجودة في عالم الأعيان ، بل صرف اعتبار اعتبرها العقلاء وأمضاها الشارع ، أو اعتبار من قبل نفس الشارع إحداثا لا إمضاء فقط كالملكيّة والزوجيّة ، فمثل هذه الإضافة تسمّى إضافة اعتباريّة لا حقيقة مقوليّة.

وأمّا إن كانت تلك النسبة خارجيّة حقيقيّة وموجودة في عالم الأعيان ، كالفوقيّة والتحتيّة ، فتسمّى تلك الإضافة إضافة مقوليّة.

والولادة التي هي عبارة عن انفصال قطعة من المني من شخص ، ثمَّ دخولها واستقرارها في رحم شخص آخر ، حتّى يصير بأمر اللّه جلّ جلاله إنسانا سويّا فتضعها وتنفصل عنها ، توجب حدوث إضافات حقيقيّة ونسب خارجيّة مقوليّة بين شخصين أو أشخاص.

فلتلك القطعة نسبة مع من انفصل عنه تسمّى بالبنوّة ، كما أنّ لمن انفصل عنه هذه القطعة نسبة معها تسمّى بالأبوّة. وأيضا لتلك القطعة نسبة مع من استقرّت في رحمها أيضا تسمّى بالبنوّة ، كما أنّه لمن استقرّت في رحمها نسبة مع تلك القطعة تسمّى بالأمومة وهكذا في سائر النسب التي تحصل من الولادة كالبنتيّة والأختيّة.

وهكذا العناوين الآخر ، كالجّد ، والجدّة ، والعمّ ، والعمّة ، والخال ، والخالة ، وابن الأخ وبنته ، وابن الأخت وبنتها ، وابن العمّ وبنته ، وابن العمّة وبنتها ، وابن الخال وبنته ، وابن الخالة وبنتها. وموضوع تحريم النكاح بالنسب سبعة من هذه العناوين الحاصلة من الولادة بصريح الآية الشريفة (1) وهي : الأمّهات والبنات ، والأخوات ، والعمّات ،

ص: 320


1- النساء (4) : 23.

والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت.

والرضاع الذي هو عبارة عن امتصاص الثدي ، أو الضرع ، أو مطلق شرب اللبن - كما بيّنّاه - أيضا يوجب حدوث إضافات حقيقيّة ونسب خارجيّة مقوليّة مثل الولادة طابق النعل بالنعل ، فالولد الذي ارتضع من ثدي امرأة ، له نسبة مع المرضعة تسمّى بالبنوّة ، كما أنّ للمرضعة أيضا نسبة معه تسمّى بالأمومة ، وأيضا للولد المرتضع نسبة مع زوج المرضعة الذي هو صاحب اللبن تسمّى أيضا بالبنوّة ، كما أنّ لصاحب اللبن نسبة مع الولد المرتضع تسمّى بالأبوّة وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الإضافات التي تحصل من الولادة ، تحصل كلّها من الرضاع أيضا.

وكلّ هذه الإضافات والنسب الحاصلة من الولادة أو من الرضاع خارجيّة حقيقيّة ومقوليّة تكوينيّة ، وليس من الاعتباريات الصرفة التي لا وجود لها في الأعيان أصلا ، بل هي موجودة في الخارج ، سواء أكان في العالم معتبر أو لم يكن.

نعم تسمية تلك الإضافات بتلك الأسماء اعتبارات من الواضعين ، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الألفاظ الموضوعة لمعانيها ، ولذلك تختلف باختلاف الأمم واللغات ، وهذا واضح جدّا.

ثمَّ لا يخفى أنّ الإضافة الحاصلة من الرضاع ليس أضعف من الإضافة الحاصلة من الولادة بتوهّم عدم ترتّب جميع الآثار المترتّبة على الحاصلة من الولادة على الحاصلة من الرضاع ، كالتوارث مثلا.

وذلك من جهة أنّه من الممكن أن يكون وجه عدم الترتّب عدم جعل الشارع إحدى الإضافتين موضوعا مع ترتيبه الأثر على الأخرى بدون أن يكون اختلاف في الإضافتين من حيث الشدّة والضعف ، بل تصوير الاختلاف بالشدّة والضعف في سنخ واحد من الإضافة - كالأبوّة أو الأمومة مثلا - في الحاصلة من الولادة مع الحاصلة من الرضاع لا يخلو من غموض وإشكال.

ص: 321

ثمَّ إنّ الألفاظ الموضوعة لهذه النسب والإضافات ، كالأب والأمّ وغيرهما هل موضوعة للجامع بين القسمين؟ بمعنى أنّ لفظ الأمّ - مثلا - موضوع للجامع بين الأمومة الحاصلة من الولادة ، والحاصلة من الرضاع كي تكون آية تحريم نكاح العناوين السبعة - أعنى : الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت - دالّة على تحريم ما يحصل من هذه العناوين بالرضاع ، كما تدلّ على تحريم ما يحصل منها بالولادة من دون احتياج إلى دليل آخر.

أو مشترك لفظي بينهما ، كي لا تكون دالّة على ذلك ، لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لا يجوز ، وإرادة هذه العناوين الحاصلة من الولادة معلوم من الآية ، فيحتاج - تحريم ما يحصل من هذه العناوين من الرضاع - إلى دليل آخر غير الآية؟

أو تكون حقيقة في الحاصلة من الولادة ، ومجاز في ما يحصل من الرضاع. وبناء على هذا أيضا تحريم ما يحصل من الرضاع يحتاج إلى دليل آخر؟ احتمالات.

الأقرب هو الأخير ، لأنّ هذا تنزيل شرعيّ ، وإلاّ عند العرف هذه العناوين ظاهرة في الحاصلة من الولادة ، حتّى أنّ الشارع لو لم يجعل الرضاع سببا محرّما لما كان يلتفت العرف إلى هذه العناوين بالنسبة إلى الرضاع أصلا ، خصوصا في ما عدى الأمّ والأخت.

الجهة الثانية : في الدليل على هذه القاعدة

وهو ثلاثة :

الأوّل : الآية الشريفة ، وهي قوله تعالى ( وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ

ص: 322

مِنَ الرَّضاعَةِ ) . (1)

ولكن في هذه الآية الشريفة لم يذكر ممّا يحرم بالرضاع إلاّ موردين : أمّ الرضاعيّة ، والأخت من الرضاعة ، وأمّا سائر ما يحرم بالنسب - كالعمّة والخالة وبنات الأخ وبنات الأخت وغيرها - فيستفاد حرمتها من الحديث الشريف المرويّ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (2).

الثاني : الإجماع ، بل هو من ضروريّات الدين ، ولا خلاف فيه في الجملة بين المسلمين. نعم هناك اختلاف بين الفقهاء في تحقّق الرضاع الشرعي الذي جعل موضوعا لحرمة التزويج من حيث شروط الرضاع ، بعضها يتعلّق بالرضيع ، وبعضها بمدّة الرضاع ، وبعضها بكيفيّة الارتضاع ، وبعضها بالمرضعة ، وسنذكرها وما هو المختار منها إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : الأخبار.

فمنها : النبويّ الذي رواه الفريقان : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ».

ومنها : ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : « يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة » (3).

ومنها : ما رواه في الكافي عن عبد اللّه بن سنان - في الصحيح أو الحسن - عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « لا يصلح للمرأة أن ينكحها عمّها ولا خالها من الرضاعة » (4).

ص: 323


1- النساء (4) : 23.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 475 ، ح 4665 ، باب الرضاع ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 280 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 1 ، ح 1 ، « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 222 ، باب الشهادة على الأنساب ، والرضاع المستفيض ، « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 1070 ، ح 1445 ، كتاب الرضاع ، ح 9 ، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل ، « مسند أحمد » ج 1 ، ص 454 ، ح 2486 ، مسند عبد اللّه بن عباس.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 437 ، باب الرضاع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 291 ، ح 1222 ، باب من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرم منهن في شرع الإسلام ، ح 58.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 5.

ومنها : ما رواه في الكافي والفقيه عن أبي عبيدة الحذاء - في الصحيح - قال :

سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « لا تنكح المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها ، ولا على أختها من الرضاعة » (1).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « عرضت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابنة حمزة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أما علمت أنّها ابنة أخي من الرضاعة؟ وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعمّه قد رضعا من امرأة » (2).

ومنها : ما رواه في الكافي عن عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سئل وأنا حاضر عن امرأة أرضعت غلاما مملوكا لها من لبنها حتّى فطمته ، هل لها أن تبيعه؟ قال : فقال : « لا ، هو ابنها من الرضاعة ، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه » قال : ثمَّ قال : « أليس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؟ » (3).

ومنها : ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن الحلبي وابن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في امرأة أرضعت ابن جاريتها قال : « تعتقه » (4).

ومنها : ما رواه عن أبي بصير وأبي العباس وعبيد ، كلّهم جميعا عن أبي

ص: 324


1- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 304 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 13 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 11 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 411 ، ح 4436 ، باب ما أحلّ اللّه عزّ وجلّ من النكاح وما حرّم منه ، ح 21 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 292 ، ح 1229 ، باب من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرّم منهن في شرع الإسلام ، ح 65 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 446 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 307 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 17 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 878 ، باب العتق وأحكامه ، ح 111 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 307 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 17 ، ح 2.

عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يملك أمّه من الرضاعة ، ولا أخته ، ولا عمّته ، ولا خالته فإنّهنّ إذا ملكن عتقن ». وقال : « كلّما يحرم من النسب فإنّه يحرم من الرضاع » (1).

ومنها : ما عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن امرأة أرضعت جارية ، ولزوجها ابن من غيرها ، أيحل للغلام ابن زوجها أن يتزوّج الجارية التي أرضعت؟ فقال : « اللبن للفحل » (2).

ومنها : ما في الحسن عن الحلبي قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أمّ ولد رجل قد أرضعت صبيّا ، وله ابنة من غيرها ، أيحل لذلك الصبيّ هذه الابنة؟ قال : « ما أحبّ أن أتزوّج ابنة رجل قد رضعت من لبن ولده » (3).

ومنها : ما في الموثّق عن سماعة قال : سألته عن رجل كان له امرأتان ، فولدت كلّ واحدة منهما غلاما ، فانطلقت إحدى امرأتيه ، فأرضعت جارية من عرض الناس أينبغي لابنه أن يتزوّج بهذه الجارية؟ قال : « لا ، لأنّها أرضعت بلبن الشيخ » (4).

ومنها : ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : قلت له : أرضعت أمّي جارية بلبني ، فقال : « هي أختك من الرضاعة ». قال : قلت : فتحلّ لأخ لي من أمّي لم ترضعها أمي بلبنه ، يعني ليس بهذا البطن ولكنّ ببطن آخر؟ قال : « والفحل واحد؟ » قلت : نعم هو أخي لأبي وأمّي قال : « اللبن للفحل صار أبوك

ص: 325


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 113 ، ح 3435 ، باب العتق وأحكامه ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 246 ، ح 877 ، باب العتق وأحكامه ، ح 110 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 1.
2- « قرب الإسناد » ص 369 ، ح 1323 ، أحاديث متفرقة ، « الكافي » ج 5 ، ص 440 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 295 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 7.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 441 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1319 ، باب ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 27 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 722 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 295 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 8.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 440 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1317 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 25 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 720 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 295 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 6.

أباها وأمّك أمّها » (1).

ومنها : في الصحيح عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل تزوّج امرأة ، فولدت منه جارية ، ثمَّ ماتت المرأة فتزوّج أخرى ، فولدت منه ولدا ، ثمَّ إنّها أرضعت من لبنها غلاما ، أيحلّ لذلك الغلام الذي أرضعته أن يتزوّج ابنة المرأة التي كانت تحت الرجل قبل المرأة الأخيرة؟ قال : « ما أحبّ أن يتزوّج ابنة فحل قد رضع من لبنه » (2).

ومنها : ما عن التهذيب - في الموثق - عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا رضع الرجل من لبن امرأة ، حرم عليه كلّ شي ء من ولدها ، وإن كان الولد من غير الرجل الذي كان أرضعت بلبنه ، وإذا أرضع من لبن رجل حرم عليه كلّ شي ء من ولده ، وإن كان من غير المرأة التي أرضعته » (3).

ومنها : ما عن الكافي - في الصحيح أو الحسن - عن الحلبي وعبد اللّه ابن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل تزوّج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده قال : « تحرم عليه ». (4)

ومنها : أيضا ما في الكافي - في الصحيح أو الحسن - عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد النكاح » (5).

ص: 326


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 322 ، ح 1328 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 299 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 440 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1318 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 26 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 721 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 294 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 321 ، ح 1325 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 33 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 306 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 15 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 305 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 15 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 303 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 10 ، ح 2.

قال : وسألته عن امرأة رجل أرضعت جارية أتصلح لولده من غيرها؟ قال : « لا ». قلت : فنزلت منزلة الأخت من الرضاعة قال : « نعم من قبل الأب » (1).

ومنها : رواية عثمان عن أبي الحسن علیه السلام ، قال : قلت له : إنّ أخي تزوّج امرأة فأولدها فانطلقت فأرضعت جارية من عرض الناس ، فيحلّ لي أن أتزوّج تلك الجارية التي أرضعتها امرأة أخي؟ فقال : « لا إنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (2).

ومنها : رواية مسمع عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : « ثمانية لا يحلّ مناكحتهم - إلى أن قال : - أمتك وهي عمّتك من الرضاع ، أمتك وهي خالتك من الرضاع » (3).

ومنها : روايته الأخرى عنه علیه السلام قال : « عشر لا يجوز نكاحهن - إلى أن قال : - أمتك وهي عمّتك من الرضاعة ، أمتك وهي خالتك من الرضاعة » (4).

ومنها : رواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « يحرم من الإماء عشر : لا يجمع بين الأمّ والبنت ، ولا بين الأختين - إلى أن قال : - ولا أمتك وهي عمّتك من الرضاعة ، ولا أمتك وهي خالتك من الرضاعة ، ولا أمتك وهي أختك من الرضاعة » (5).

ص: 327


1- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 10 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 323 ، ح 1332 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 7.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 447 ، في نحوه ( في كتاب النكاح ) ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 293 ، ح 1230 ، باب : من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرم منهن في شرع الإسلام ، ح 66 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 198 ، ح 696 ، باب : السراري وملك الايمان ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 517 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 19 ، ح 2.
5- « الفقيه » ج 3 ، ص 451 ، ح 4559 ، أحكام المماليك والإماء ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 198 ، ح 695 ، باب : السراري وملك الايمان ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 517 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 19 ، ح 1.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام في رجل فجر بامرأة أيتزوّج أمّها من الرضاعة أو بنتها؟ قال : « لا » (1).

قال في الحدائق : ومن هذه الصحيحة يستفاد أنّه لو لاط بغلام حرمت عليه أمّه وأخته وبنته من الرضاع ، كما يحرمن من النسب تحقيقا لفرعيّة الرضاع على النسب ، كما دلّت عليه هذه الأخبار (2).

وأنت إذا تدبّرت وتأمّلت في هذه الأخبار وفي الآية الشريفة (3) عرفت أنّ هذه الأخبار أغلبها ، وكذلك الآية الشريفة ليست وافية بجميع ما يحرم بالرضاع وشاملة لجميع فروعها ، إلاّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » وهكذا قوله علیه السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة » الذي هو أيضا بمعنى الأوّل ، فإنّ هذا الكلام الشريف يشمل جميع موارد الرضاع وفروعه ، إلاّ ما شذّ ممّا ورد فيه دليل خاصّ في مورد مخصوص ، كما سنذكره فيما سيأتي إن شاء اللّه.

وذلك من جهة أنّ الآية الشريفة لم يذكر فيها إلاّ الأمّهات من الرضاعة والأخوات منها.

وأمّا الأخبار فكذلك لم يذكر في أغلبها إلاّ بعض موارد التحريم بالرضاع.

وأمّا قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » قضيّة كلّية ، مفادها أنّ كلّ عنوان من العناوين السبعة المعروفة ، أو من غيرها التي توجب حرمة نكاح المرأة إذا كان حاصلا من النسب ، فذلك العنوان بعينه يوجب حرمة النكاح إذا كان حاصلا

ص: 328


1- « الكافي » ج 5 ، ص 416 ، باب : الرجل يفجر بالمرأة فيتزوج أمها أو ابنتها. ، ح 8. « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 331 ، ح 1360 ، باب : القول في الرجل يفجر بالمرأة ثمَّ يبدو له في نكاحها. ، ح 18. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 325 ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، باب 7 ، ح 1.
2- « الحدائق الناضرة » ج 23 ، ص 442.
3- النساء (4) : 23.

من الرضاع ، مثلا الأمومة إحدى تلك العناوين التي توجب حرمة نكاح الأمّ على ابنها إذا كانت حاصلة من النسب - أي : الولادة - فهذا العنوان بعينه إذا كان حاصلا من الرضاع أيضا يوجب الحرمة.

فمن النسب يحرم عنوان الأمّ والبنت والأخت وغيرها من العناوين المحرّمة بوجوداتها السارية في جميع مصاديقها ، فكذلك تحرم نفس هذه العناوين أيضا الحاصلة من الرضاع بوجوداتها السارية ، فلا حاجة إلى تقدير لفظة « المثل » أو « النظير » بأن يقال : يحرم من الرضاع نظير ما يحرم من النسب ، كما صنعه شيخنا الأعظم قدس سره في رسالته المعمولة في الرضاع (1) مع اعترافه بأنّ ظاهر هذا الحديث الشريف هو أنّ عين ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع.

نعم لو كان المراد بالموصول في قوله صلی اللّه علیه و آله : « ما يحرم بالنسب » النساء الخارجيّات المعنونات بهذه العناوين ، فلا بدّ حينئذ من التقدير ، ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ ، لأنّ ظاهره - كما ذكرنا - أنّ نفس العناوين التي تحرم من النسب ، تحرم أيضا إذا كانت من الرضاع.

إن قلت : قد تكون الحرمة من جهة المصاهرة الشرعيّة كأمّ الزوجة أو بنتها مع الدخول ، بها ، من جهة الزنا كأمّ المزني بها وبنتها ، أو من جهة الإيقاب كأمّ الغلام الموقب وأخته وبنته ، مع أنّ كل هذه المذكورات تحرم إذا كانت هذه العناوين حاصلة من الرضاع ، فالأمّ الرضاعيّة للزوجة ، وبنتها الرضاعية مع الدخول بها ، والأمّ والبنت الرضاعيّتان للمزني بها ، والأمّ والأخت والبنت الرضاعيّات للموقب تحرم هذه كلّها ، مع أنّ الحرمة آتية من ناحية المصاهرة والزنا والإيقاب لا النسب ، فيحتاج حرمة هذه المذكورات إلى دليل غير هذا الحديث الشريف.

قلت : إنّ في حرمة أمّ الزوجة على الزّوج - مثلا - إذا كانت الأمومة حاصلة من

ص: 329


1- « كتاب المكاسب » ص 376 و 382.

النسب جهتين :

إحديهما : المصاهرة ، ولأجل ذلك عدّها الفقهاء 5 في المحرّمات بالمصاهرة ، إذ لو لم يكن بين هذا الرجل وهذه المرأة مصاهرة لما كان يحرم عليه أمّها.

ثانيهما : النسب ، أي نسبة الأمومة التي بين الزوجة وأمّها. فهذه النسبة أيضا دخيلة في حرمة أمّ الزوجة على الزوج ، إذ لو لم تكن بين الزوجة وتلك التي نسمّيها أمّها نسبة ، بل كانت أجنبيّة عنها لما كانت تحرم على الزوج. فثبت أنّ هناك جهتان يمكن إسناد الحرمة إلى مجموع الجهتين ، ويمكن إسنادها إلى كلّ واحدة منهما.

وأمّا عدّها الفقهاء في المحرّمات بالمصاهرة ، فلأجل مقابلتها مع ما هو علّة الحرمة متمحّض في النسب ، كالعناوين السبعة المعروفة ، لا أنّ علّة الحرمة فيها منحصرة في المصاهرة كما توهّم.

وهكذا الحال في أمّ المزني بها وبنتها وأمّ الموقب وأخته وبنته ، ففي كلّ من هذه أيضا جهتان : ففي الأوّل جهة الزنا وجهة النسب ، وفي الثاني جهة الإيقاب وجهة النسب ، ويصحّ إسناد الحرمة إلى كلّ واحدة من الجهتين ، كما يصحّ إسنادها إلى مجموعهما.

فالحديث الشريف يشمل جميع هذه الموارد ، لصدق أنّ الحرمة في هذه الموارد من جهة النسب ، وإن كان يصدق أيضا أنّها من جهة المصاهرة أو الزنا أو الإيقاب.

ولا دليل على أنّ شمول الحديث لا بدّ وأن يكون في مورد تكون النسب علّة تامّة منحصرة للتحريم ، بل ظاهره أنّ في كل مورد تكون العلاقة الحاصلة من النسبة دخيلة في الحرمة ، تكون تلك العلاقة إذا كانت حاصلة من الرضاع تقوم مقام العلاقة الحاصلة من النسب.

فلو كان موضوع الحرمة مركّبا من أمرين : أحدهما الإضافة الحاصلة من النسب ، وبوجودها وحدها لا يترتّب الحكم ، بل لا بدّ من وجود الجزء الآخر وهو

ص: 330

ثانيهما ، كذلك تلك الإضافة وحدها لو حصلت من الرضاع لا توجب ثبوت الحكم ، بل لا بدّ من وجود الجزء الآخر ، أي المصاهرة ، أو الزنا ، أو الإيقاب.

نعم هذا الحديث الشريف لا يشمل العناوين الملازمة للعناوين النسبيّة المحرّمة - كما توهّم - ويسمّونها بعموم المنزلة ، لأنّ ظاهره هو أنّ نفس هذه العناوين التي توجب تحريم المعنون بها الحاصلة من النسب توجب التحريم أيضا ، إذا كانت حاصلة من الرضاع ، لا الملازم لها ، فأمّ الأخ النسبي ملازم لأحد العنوانين الذين كلّ واحد منهما يوجب التحريم ، وهما : أمّ الإنسان وزوجة أبيه ، وكلتاهما محرّمتان عليه ، ومع ذلك عنوان أمّ الأخ ليس من العناوين المحرّمة. وسيأتي تفصيل هذه المسألة وما يقول القائل بعموم المنزلة وما يقول من يخالفه.

ثمَّ إنّه لا يتوهّم : أنّ المراد من النسب هي النسبة التي بين المحرم والمحرّم عليه كي لا تشمل المذكورات ، لأنّه لا نسبة بين الرجل وأمّ زوجته ، أو بين الزاني وأم المزني بها ، أو بين الموقب وأمّ الغلام الموقب مثلا ، لأنّه لا وجه لهذا التقييد ، بل ظاهر الحديث - كما ذكرنا - هو أنّ كلّما كانت النسبة سببا للحرمة ، بأن تكون تمام الموضوع أو جزء للموضوع إذا كانت حاصلة من الولادة ، فيقوم مقامها عين تلك النسبة إذا كانت حاصلة من الرضاع ، سواء أكانت النسبة النسبيّة بين المحرّم والمحرّم عليه ، كالعناوين السبعة المعروفة ، أو كان بين شخصين آخرين ، كالنسبة التي بين الزوجة وأمّها ، أو بين المزني بها وأمّها ، أو بين الغلام الموقب وأمّها.

الجهة الثالثة

اشارة

فيما إذا شكّ في الرضاع من جهة الشبهة المفهوميّة أو المصداقيّة ، فتارة نتكلّم من حيث الرجوع إلى الإطلاق ورفع الشكّ بها ، وأخرى من جهة الرجوع إلى الأصول العمليّة.

ص: 331

ومعلوم أنّه مع إمكان رفع الشكّ بالإطلاقات لا يبقى مجال للرجوع إلى الأصول العمليّة ، لحكومة الأصول اللفظية عليها.

أمّا التكلم من الجهة الأولى :

فنقول : إنّه فرع أن يكون هناك إطلاق في البين ، وهو متفرّع على أن يكون الرضاع الموجود في الأدلّة العامّة هو ما يكون عند العرف رضاعا ، وإلاّ لو كان معنى شرعيّا - استعمل لفظة « الرضاع » فيه مجازا أو بوضع آخر - فلا يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظي ، لأنّ العرف لا طريق له إلاّ بيان الشارع في فهم مراده ، فإذا شككنا في اشتراط الرضاع بشرط ، أو تقيّده بقيد في الشبهة المفهوميّة فليس إطلاق في البين حتّى يرفع هذا الشكّ.

نعم لا بأس بالتمسّك بالإطلاق المقامي ، وهو أنّ الشارع بصدد بيان تمام ما له دخل في حكمه ، أي الحرمة في هذا المقام ، فلو كان شي ء آخر غير المذكورات له دخل ، كان عليه البيان.

وقد بيّنّا نظير ذلك في الأصول في باب الصحيح والأعمّ بالنسبة إلى لفظة « الصلاة » بناء على وضعه للصحيح.

وأمّا الشبهة المصداقيّة ، فلا يمكن التمسّك لرفعها بالإطلاق على كلّ حال ، سواء أكان لفظة « الرضاع » المستعمل في الأدلّة بمعناه العرفي ، أم لا ، لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ لما هو مشكوك المصداقيّة له ، وهذا من قبيل إثبات الموضوع بالحكم ، وهو غير معقول.

والظاهر : أنّ لفظ « الرضاع » في الروايات العامّة لم يستعمل إلاّ فيما هو المراد منه عند العرف ، غاية الأمر أنّ الشارع جعله موضوعا لحرمة النكاح مقيّدا بقيود.

وذلك من جهة أنّ الرضاع في اللغة ولو كان بمعنى مطلق الامتصاص أو الشرب ولو كان مرّة ومقدارا قليلا من اللبن ، ولكن المتفاهم العرفي منه لا يبعد أن يكون

ص: 332

الشرب مدّة من الزمن حدّده الشارع بكذا ، مثل السفر والإقامة وغيرهما من الأمور المتكممة عند العرف والشرع ، وإن كان التحديد الشرعي ربما يكون أوسع ممّا عند العرف ، وربما يكون أضيق.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظي مثل الإطلاق المقامي لرفع الشكّ فيما شكّ في شرطيّته وفي مدخليّته في الرضاع المحرّم.

ثمَّ إنّه هل يمكن تنقيح موضوع الرضاع الذي جعله الشارع محرّما - بعد الفراغ عن أنّ الشي ء الفلاني مثلا شرط له - بالاستصحاب؟ مثلا بعد الفراغ عن أنّ الحياة شرط في المرضعة ، فإذا شككنا في حياتها فهل يمكن إثبات الموضوع المترتّب عليه الحرمة باستصحاب الحياة ، أم لا؟

والظاهر : أنّه لا مانع من إثباته به ، لأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الموضوع مركّب من شرب اللبن مع هذه القيود والشروط ، فيكون من قبيل الموضوعات المركّبة التي أحرز بعضها بالأصل ، وبعضها الآخر بالوجدان ، لا أنّ الموضوع للحرمة عنوان بسيط متحصّل من هذا المركّب الخارجي ، مثل الطهارة الحاصلة من الغسلات والمسحات في باب الوضوء ، بناء على أنّها من هذا القبيل ، كي يكون الاستصحاب مثبتا بالنسبة إلى حصول ذلك العنوان.

هذا كلّه فيما إذا كان المرجع هي الإطلاقات.

وأمّا إذا لم يكن إطلاق في البين ، ووصلت النوبة إلى الأصول العمليّة ، فالشبهة إمّا حكميّة وإمّا موضوعيّة مصداقيّة.

فالأوّل - أي الشبهة الحكميّة - كما إذا شككنا في اعتبار شي ء فيه شرعا ، ولم يكن إطلاق نتمسّك به إمّا لعدم كون مفهوم الرضا الذي جعله الشارع موضوعا لحرمة النكاح مفهوما عرفيّا ، والمفهوم الشرعي غير معلوم على الفرض ، للشكّ في اعتبار هذا الشي ء مثلا فيه. وإمّا من جهة عدم إحراز كون الشارع في مقام البيان في

ص: 333

الأدلّة العامّة ، وأيضا لم يكن إطلاق مقامي في البين ، وإلاّ لا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.

وأنت خبير بأنّ كلّما ذكرنا صرف فرض ، وإلاّ من الواضح أنّ الرضاع بماله من المفهوم العرفي أخذ موضوعا للحكم الشرعي ، ومعلوم أنّ الشارع بصدد بيان تمام ما له دخل في الحرمة ، وعلى فرض عدم تماميّة هذين لا إشكال في وجود الإطلاق المقامي ، فلا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة في الشبهة الحكميّة أصلا.

ولكن مع ذلك لو فرضنا الوصول إلى تلك المرتبة ، فربما يتوهّم جريان حديث الرفع لرفع شرطيّة ما هو مشكوك الشرطيّة للرضاع المحرم ، أو جزئيّة ما هو مشكوك الجزئيّة. أو قيديّة كلّ ما يحتمل أن يكون قيدا.

وفيه : أنّ حديث الرفع وإن كان يجري لرفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة ، وشرطيّة مشكوك الشرطيّة - كما حقّقناه في الأصول - إلاّ أنّه حيث كان في مقام الامتنان ، فلا يجري إلاّ في ما كان في رفعه منّة على الأمّة ، وها هنا جريانه ضد الامتنان ، لأنّه يلزم أوّلا من جريانه ثبوت الحرمة حتّى في فاقد المشكوك الشرطيّة ، وفي فاقد المشكوك الجزئيّة. وثانيا أنّ كون الفاقد موضوعا مشكوك ، وإثباته بإجراء حديث الرفع من الأصل المثبت.

وأمّا جريانه في مشكوك الموضوعيّة بأن يقال : موضوعيّة مشكوك الموضوعيّة غير معلوم فمرفوع ، فعلى فرض صحّته ينتج عكس المقصود ، لأنّ مشكوك الموضوعيّة هو الفاقد لذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، فينتج مدخليّة المشكوك في الموضوع وشرطيّته له.

وأمّا استصحاب عدم جزئيّة جزء المشكوك ، أو شرطيّة شرط المشكوك ، فليس له حالة سابقة ، والعدم المحمولي مثبت بالنسبة إلى الآخر النعتي.

وأمّا استصحاب عدم تحقّق ما هو الموضوع للتحريم عند الشارع بالمعنى العدم

ص: 334

النعتي ، ليس له حالة سابقة ، والعدم المحمولي وإن كان لا مانع من جريانه لكن مثبت.

وأمّا استصحاب عدم الحرمة - بأن يقال : بأنّ هذه المرأة لم تكن محرّمة على هذا الولد قبل أن يرتضع منها عشر رضعات ، وبعد ارتضاعه منها هذا المقدار نشكّ في التحريم أو حصول الأمومة مثلا ، فنستصحب عدم تحقّقهما ، أي التحريم والأمومة مثلا فلا بأس به.

وأمّا ما ربما يتوهّم : من أنّها قبل وقوع العقد عليها كانت أجنبيّة ومحرّمة عليه لأنّها أجنبيّة ، وبعد العقد نشكّ في حصول الزوجيّة وحلّية الوطي وسائر آثار الزوجيّة مثلا ، فنستصحب تلك الحرمة ، أو عدم حصول الزوجيّة ، أو عدم تلك الآثار.

ففيه : أنّ الاستصحاب الأوّل حاكم على هذا الاستصحاب ، لأنّ الشكّ في بقاء عدم الزوجيّة - وكونها أجنبيّة - مسبّب عن صيرورتها بهذا المقدار من الرضاع - مثلا - معنونة بأحد العناوين المحرّمة ، وبعد جريان الاستصحاب في عدم حصول أحد هذه العناوين ، لا يبقى مجال لهذا الشكّ أصلا ويرتفع تعبّدا ، وهذا معنى الحكومة. هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

وأمّا الشبهة الموضوعيّة المصداقيّة ، أي : الثاني من قسمي الشبهة ، فإن لم يكن أصلا موضوعيّا في البين ينقّح موضوع المشتبه ، ووصلت النوبة إلى الأصل الحكمي ، وذلك لأنّ الأصول الجارية في الموضوعات حاكمة على الأصول الجارية في أحكامها ، فمقتضى الأصل الحكمي هي حلّية المرأة المشتبهة حلّيتها وحرمتها ، وهو قوله علیه السلام : « كل شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (1).

إلاّ أن يقال بعدم جريان أصالة الحلّ في مثل هذه الشبهة أيضا ، لاهتمام الشارع بحفظ الأعراض وباب الفروج والدماء.

ص: 335


1- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ، ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

ولكن ذيل رواية مسعدة بن صدقة التي يقول فيها الإمام علیه السلام : « أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين أو تقوم به البيّنة » (1) ينفي هذا الاحتمال.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بوجود الأصل الموضوعي في مورد الرواية ، وهو أصالة عدم تحقّق العلاقة والإضافة الأختيّة بينه وبينها ، نسبيّة أو رضاعيّة ، فتكون حلّيتها من جهة تنقيح موضوعها وإخراجه عن موضوع الحرمة تعبّدا.

وأمّا الأصول الموضوعيّة في الشبهة المصداقيّة فمختلفة هي ومواردها وآثارها جدّا باعتبار المشكوك ومنشأ الشكّ.

وعلى كلّ حال لا يبقى مجال لجريان الأصل الحكمي بعد جريانها ، لما ذكرنا من حكومتها عليها وإدخالها للموضوع تحت موضوع الحرمة أو الحلّية تعبّدا ، فيرتفع الشكّ تعبّدا ، فمثلا لو شككنا في حياة المرضعة وقلنا إنّ موضوع حرمة النكاح مركّب من الارتضاع من ثدي المرأة ، وكون المرأة حيّة ، لا أنّه أمر بسيط مسبّب عن هذه الأمور ، فباستصحاب بقاء الحياة يثبت الموضوع ، فيحكم بالحرمة ، فلا يبقى مجال لجريان أصالة الحلّ ، لعدم بقاء الموضوع له تعبّدا.

وكذا لو شككنا في أنّ اللبن من نكاح ووطي صحيح أم لا؟ فبجريان أصالة الصحّة في العقد يثبت النكاح الصحيح ويرتفع الشكّ.

وقد يكون الأصل الموضوعي موجبا لرفع موضوع الحرمة ، كما هو الحال في أغلب موارد الشكّ والشبهة المصداقية ، لأنّ استصحاب عدم حصول أحد هذه العناوين السبعة - من المشكوك الرضاعيّة - يكفي غالبا لارتفاع موضوع الحرمة ، إلاّ أن يكون أصلا جاريا في طرف الموضوع ، أعني نفس الرضاع مع شرائطها وقيودها يكون موجبا لإحرازها ، أو إحراز البعض المركّب منه ومن غيره ، فيكون حاكما على

ص: 336


1- تقدم راجع ص 335.

هذا الأصل ، أعني أصالة عدم حصول أحد هذه العناوين.

وحاصل الكلام في هذا المقام : أنّ الأصل الحكمي بحسب طبعه الأوّلي هي الحلّية ، لو لم يكن مخصّصا بالإجماع على الاحتياط في باب الفروج في الشبهات المصداقيّة ، والأصل الموضوعي حاكم عليه مطلقا ، سواء أكان موافقا له أو كان مخالفا له.

والأصول الجارية في الموضوع غالبا تكون رافعة لموضوع الحرمة ، وقد تكون في الموارد القليلة موجبة لإثبات موضوع الحرمة ، وذلك في كلّ مورد يكون الأصل الموضوعي مثبتا لبعض أجزاء الموضوع المركب ، أو بعض شرائطه وقيوده ، ويكون البعض الآخر من ذلك الموضوع المركّب محرزا بالوجدان ، كي يكون الموضوع المركّب بعضه محرزا بالأصل ، وبعضه بالوجدان.

هذا تمام الكلام في حكم الشكّ في تحقّق الرضاع مفهوما ومصداقا من حيث الرجوع إلى الإطلاقات ، ومن حيث الرجوع إلى الأصول العمليّة.

الجهة الرابعة : في شرائط تحقّق الرضاع

اشارة

وهي أمور :

[ الشرط ] الأوّل : يشترط أن يكون اللبن عن نكاح صحيح ، أي وطي غير محرّم ، فإذا كان عن الفجور بامرأة فلا يكون محرّما وموجبا لنشر الحرمة قطعا إجماعا بقسميه كما عن الجواهر. (1) وقد حقّقنا في الأصول عدم حجّية مثل هذه الإجماعات التي لها مدرك بل مدارك من الأخبار.

فالعمدة في دليل هذا الحكم قوله علیه السلام فيما رواه دعائم الإسلام عن علي علیه السلام : أنّه

ص: 337


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 265 و 266.

قال : « لبن الحرام لا يحرّم الحلال ، ومثل ذلك امرأة أرضعت بلبن زوجها ثمَّ أرضعت بلبن فجور. قال : ومن أرضع من فجور بلبن صبيّة لم يحرم من نكاحها ، لأنّ اللبن الحرام لا يحرم الحلال » (1).

وقد ورد بهذه الجملة تعليلا لعدم حرمة الحلال بالحرام في موارد عديدة ، وعلى فرض عدم اعتبار ما يتفرّد به دعائم الإسلام هناك روايات معتبرة دالّة على أنّ اللبن الذي يوجب الارتضاع منه نشر الحرمة لا بدّ وأن يكون عن وطي صحيح ، بأن تكون زوجته بالعقد الدائم أو المنقطع ، أو تكون ملكا للواطي ، أو تكون محلّلة له من قبل المالك مع اجتماع شرائط التحليل ، فما ليس عن وطى كما لو درت بدون وطي أصلا لا يوجب الحرمة فضلا عن أن يكون بوطي محرّم مثل الحيض والمحلوفة على ترك وطيها وعن الزنا.

ومن تلك الأخبار ما رواه في الكافي عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن امرأة درّ لبنها من غير ولادة ، فأرضعت جارية وغلاما من ذلك اللبن ، هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال : « لا ». (2) ورواه الصدوق بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن يونس بن يعقوب مثله (3).

وما رواه الشيخ عن يعقوب بن شعيب قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام امرأة درّ لبنها من غير ولادة ، فأرضعت ذكرانا وإناثا ، أيحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟ فقال لي : « لا » (4).

ص: 338


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 243 ، ح 916 ، ذكر الرضاع.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 446 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 9 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 479 ، ح 4682 ، باب الرضاع ، ح 22 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 9 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 325 ، ح 1339 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 47 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 9 ، ح 2.

وما رواه الشيخ أيضا في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن لبن الفحل؟ قال : « هو ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام » (1).

وما رواه في الكافي عن بريد العجلي في حديث قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » فسّر لي ذلك؟ قال :

فقال علیه السلام : « كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام ، فذلك الذي قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » الحديث (2).

ويظهر من هذه الروايات : أنّ الرضاع المحرّم لا بدّ له من أمرين :

أحدهما : أن يكون عن ولادة.

ثانيهما : أن يكون اللبن لبن فحل المرأة شرعا ، فلو درّ لبنها عن غير ولادة لا يكون محرّما ، فضلا عن أن يكون اللبن من ذكر أو خنثى المشكل ، ولو لم يكن من فحل المرأة شرعا أيضا لا يكون محرّما.

أمّا الأمر الأوّل ، فلقوله علیه السلام « لا » في جواب من قال : امرأة درّ لبنها من غير ولادة أيحرم؟ إلخ.

وأمّا الثاني ، فلقوله علیه السلام - في تفسيره قوله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب - « كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام فذلك الذي قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ».

ولفظة « الفحل » في هذه الروايات وإن كان ظاهرا في الزوج ، سواء أكان حصول

ص: 339


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1316 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 719 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 294 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 6.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 442 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 293 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 1.

الزوجيّة بالعقد الدائم أو المنقطع ، ولكن لا يبعد كونه كناية عن الوطي الشرعي المحلّل مقابل الزنا ، فيشمل الملك والتحليل ، بل وطي الشبهة إن كان المراد من الوطي المحلّل المحلّل ظاهرا وإن كان حراما واقعيّا.

ولكن الأخير لا يخلو عن إشكال ، لبعد أن يكون المراد من هذه اللفظة هو الوطي الحلال ، ولو كان حلالا ظاهريا.

وعلى كلّ حال هذه الروايات تدلّ على أنّ اللبن الناشئ من الزنا لا يكون محرّما ، كما أنّها تدلّ على أنّ لبن الحاصل من الوطي الحلال واقعا سواء أكان حلّيته من جهة أنّ الواطي زوج أو مالك أو محلّل عليه من قبل المالك. نعم في شمولها للوطي بالشبهة إشكال كما ذكرنا.

وأمّا قوله علیه السلام - فيما رواه في الصحيح - [ عن ] عبد اللّه بن سنان « هو ما أرضعت امرأتك » محمول على الغالب ، وإنّ هذه اللفظة أيضا مثل لفظة « فحلها » كناية عن الوطي الشرعي الصحيح ، وعبّر عن هذا المعنى بامرأتك لأنّ غالب الوطي الصحيح الحلال واقعا يكن مع امرأته في أغلب الأشخاص ، وفي أغلب الأعصار والأمصار.

بقي الكلام في الوطي بالشبهة ، وأنّه هل ملحق بالوطي الصحيح من جهة حلّيته الظاهريّة ، أو ملحق بالزنا من جهة حرمته الواقعية؟

فيه وجهان :

قد يقال بأنّ عمومات التحريم ومطلقاته أنّه خصّصت أو قيّدت - بما ذكر في جملة من الروايات من أن يكون اللبن - بعنوان لبن امرأتك ، أو عنوان أن يكون لبن فحلها ، وهذان العنوانان لا ينطبقان على الوطي بالشبهة.

وقد أجبنا عن هذا بأنّ هذين العنوانين يمكن أن يكونا كنايتين عن الوطي الصحيح الشرعي.

ص: 340

ولا يرد على هذا التوجيه ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنّه لو بنينا على ورود التقييد مورد الغالب لينسدّ باب الاستدلال على اعتبار كثير من الشروط ، لتطرّق هذا الاحتمال في كثير منها إن لم يكن في جميعها (1).

وذلك لأنّ المتبع هي الظهورات ، ولا شكّ في أنّ القيود تختلف بحسب ظهورها ، وليست على نسق واحد ، وحيث أنّ المشهور ذهبوا إلى الإلحاق بالزوجة وما في حكمها في نشر الحرمة ، وإن تمسّك بعضهم بوجوه استحسانيّة لا يخرج عن كونها قياسا باطلا ، إلاّ أنّ فهمهم ممّا يؤيّد هذا الوجه الذي ذكرنا في المراد من هذين العنوانين ، ولا أقلّ من الإجمال ، فيكون المرجع هي العمومات والإطلاقات.

وأمّا دعوى انصراف العمومات والإطلاقات عن الوطي بالشبهة ، فدعوى بلا بيّنة ولا برهان.

ثمَّ إنّ في نشر الحرمة بالارتضاع من الخنثى المشكل إشكال ، لأنّ حصول الولد لها من الوطي الصحيح الشرعي الذي من شرائط نشر الحرمة بناء على عدم وجود طبيعة ثالثة من أمارات أنّه امرأة ، فليس من الخنثى المشكل ، والخنثى المشكل تصوير الوطي الصحيح في حقّه مشكل ، إلاّ أن يكون الوطي بالشبهة ، فيكون فيه جهتان من الإشكال : من جهة كونه خنثى ، ومن جهة أنّ وطيها وطي بالشبهة.

وفي الجواهر استدلّ على العدم بقول الباقر علیه السلام : « لا يحرم الرضاع أقلّ من يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة » (2). فإحراز كون المرضعة امرأة لازم ، وفي الخنثى المشكل لا طريق إلى ذلك حسب الفرض ، وإلاّ ليس بمشكل.

ولكن وفيه ما ذكرنا من ورود هذه الألفاظ مورد الغالب.

ص: 341


1- « كتاب المكاسب » ص 377.
2- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 267.
وها هنا فروع

الأوّل : هل يشترط في نشر الحرمة بقاء المرأة في حبال الرجل إلى تمام الرضاع بحيث لو طلّقها قبل ذلك ، أو مات عنها قبل أن يتمّ الرضاع لا يكن الرضاع محرّما ، أو لا؟ وجهان.

وقد ادّعى الإجماع على عدم لزوم البقاء ، وقد بيّنّا حال هذه الإجماعات ، فلا نعيد.

وجه الاشتراط هو قوله علیه السلام في الروايات السابقة في تفسير الرضاع « هو ما أرضعت امرأتك » والمشتقّ ليس حقيقة فيما انقضى المبدأ عنه ، فلا يصدق على المطلّقة والمتوفّى عنها زوجها هذا العنوان.

وأمّا عنوان « فحلها » الذي في بعض الروايات الأخر فيصدق حتّى مع الطلاق وأن يتوفّى عنها زوجها.

ويرد [ على ] هذا الوجه ما بيّنّا سابقا ، من أنّ هذا العنوان ليس المراد منه إلاّ الوطي الصحيح الشرعي ، وهذا المعنى لا منافاة له مع هذين كما هو واضح ، إذ الموت والطلاق لا يقطعان نسبة اللبن عنه ، وأيضا لا فرق بين أن يرتضع في العدّة أو بعد تماميّتها.

نعم بناء على اعتبار كون الرضاع المحرّم في الحولين ، يلزم أن لا يكون خارجا عن الحولين ، ومن هذه الجهة لا فرق بين أن يكون قبل الطلاق والوفاة أو بعدهما ، وكذلك لا فرق بين أن يكون في العدّة ، أو في خارجها ، لأنّ هذا شرط آخر في الرضاع معتبر بدليل آخر.

الثاني : في أنّها لو تزوّجت بعد أن طلّقها أو مات عنها ، فإذا لم تجعل من الثاني فالحكم كما لو لم تتزوّج ، لأنّ صرف تزوّجها لم يمنع عن استناد اللبن إلى زوجها

ص: 342

الأوّل.

وأمّا لو جعلت من الثاني فتارة يكون اللبن مستمرّا وبحاله من دون انقطاع ولا زيادة ولا نقيصة ، فالظاهر أنّه من الأوّل ، وإن كان من الممكن عقلا أن يكون من الثاني بقاء ، أو يكون للثاني أيضا له دخل ، بناء على أنّ الحمل قبل الوضع أيضا ربما يوجب درّ اللبن ، وإن كان كلّ هذه احتمالات وفروض ووقوعها مستبعد جدّا. وأخرى ينقطع ويعود أو ينقص ويزيد.

فربما يتخيّل أنّه بعد الازدياد يكون المقدار الزائد للثاني ، وهكذا بعد الانقطاع تمام ما عاد للثاني ، وإلاّ فلا وجه للنقص ثمَّ الزيادة ، أو الانقطاع ثمَّ العود ، إلاّ أن يكون المنشأ هو الحمل.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه احتمالات ليس لها أساس متين ، ولم يدلّ دليل على حجّية هذه الظنون ، مضافا إلى أصالة عدم حدوث لبن آخر مستندا إلى سبب آخر.

نعم بعد الوضع لا يبقى مجال لهذا الاستصحاب ، إذ الظاهر حينئذ أنّ اللبن غذاء الطفل المتولّد ، وقد ادّعى الإجماع على الأمرين : أي : أنّ اللبن قبل الوضع للزوج الأوّل ، وبعده للثاني.

الشرط الثاني : كمّية الرضاع.

أجمعت الإماميّة على أنّ للرضاع المحرّم تقدير ، ولا يكفي فيه مسمّى الرضاع ولو بمثل ما فطر به الصائم.

نعم ذهب إلى ذلك جمع كثير من العامّة ، كأبي حنيفة (1) ومالك (2)

ص: 343


1- « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 35 ، في مانع الرضاع ، نقل عن أبي حنيفة ، « اللباب » ج 3 ، ص 31 ، كتاب الرضاع.
2- « الموطأ » ج 2 ، ص 604 ، كتاب الرضاع ، ح 11 ، باب رضاعه الصغير ، « المدونة الكبرى » ج 2 ، ص 405 ، كتاب الرضاع، ما جاء في حرمة الرضاعة ، « بلغة السالك لأقرب المسالك » ج 1 ، ص 515 ، باب في بيان أحكام الرضاع.

والأوزاعي (1) والثوري (2) والبلخي (3) والليث (4) ، حتى الأخير منهم ادّعى إجماع أهل العلم على نشر الحرمة بمثل ما يفطر به الصائم ، مع أنّ أكثرهم قائلون بالتقدير.

نعم ذهب القاضي نعمان المصري صاحب « دعائم الإسلام » إلى مقالتهم ، لما رواه في ذلك الكتاب عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « يحرم من الرضاع قليله وكثيرة المصة الواحدة تحرم » (5).

ثمَّ قال في محكي الجواهر : وهذا قول بيّن صوابه لمن تدبّره ووفّق لفهمه ، لأنّ اللّه تعالى يقول ( وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) والرضاع يقع على القليل والكثير (6).

وفيه : أنّ الاستدلال لأمثال هذه الفتاوى بمطلقات الكتاب والسنّة لا وجه له ، بعد تقييدها بالمقيّدات المستفيضة ، كما ستمرّ عليك إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا ما رواه عن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام ، ومكاتبة عليّ بن مهزيار - في الصحيح - لأبي الحسن علیه السلام يسأله عمّا يحرم من الرضاع؟ فكتب علیه السلام : « قليله وكثيره حرام » (7) فلا بدّ وأن يطرحا أو يؤوّلا ، لإعراض الأصحاب عن العمل بظاهرهما ، ومعارضتهما مع ما هو معمول به بين الأصحاب ، وأصحّ سندا وأكثر عددا ، مع موافقة

ص: 344


1- « فقه الأوزاعي » ج 2 ، ص 129 ، في أحكام الرضاع ، المسألة الأولى : المقدار المحرم في الرضاع ، « المحلى » ج 10 ، ص 12 ، أحكام الرضاع ، نقل عن الأوزاعي ، « المغني » ج 9 ، ص 193 ، كتاب الرضاع ، (6410) المسألة الأولى ، نقل عن الأوزاعي.
2- « المغني » ج 9 ، ص 193 ، كتاب الرضاع ، (6410) المسألة الأولى ، نقل عن الثوري.
3- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 269 ، في شروط الرضاع وأحكامه ، نقل عن البلخي.
4- « المغني » ج 9 ، ص 193 ، كتاب الرضاع ، (6410) المسألة الأولى ، نقل عن الليث بن سعد.
5- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 240 ، ذكر الرضاع.
6- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270.
7- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1308 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 16 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 196 ، ح 711 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 285 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 10.

هذين لكثير من أهل الخلاف ، كما حكيناهم عن الجواهر ، ومخالفة تلك لهم (1).

وإن كان يمكن أن يقال : كلّ واحدة من هاتين الطائفتين مخالف لبعضهم وموافق للبعض الآخر ، وعلى كلّ حال الذي راجع أخبار التقدير يقطع ببطلان هذه الفتوى الذي صدر عن القاضي المصري ، ومثله في الشذوذ ما نقل عن الإسكافي : أنّه ذهب إلى أنّ الرضاع المحرّم هو الرضعة الكاملة حتّى يمتلأ بطنه (2).

قال في محكي الجواهر : قد اختلف الرواية من الوجهين جميعا ، في قدر الرضاع المحرّم ، إلاّ أنّ الذي أوجبه الفقه عندي - واحتياط المرء لنفسه - أنّ كلّما وقع عليه اسم رضعة - وهي ملأ بطن الصبي إمّا بالمص أو بالوجور - محرّم للنكاح (3).

وهذا القول وإن كان لا ينافي أصل التقدير ، لأنّه في الحقيقة تقدير برضعة كاملة ، وليس عبارة عن مسمّى الرضاع ، قليلا كان أو كثيرا ، إلاّ أنّه مخالفة المشهور ، بل مخالفة إجماع الإماميّة مثل القول الأوّل.

وما يمكن أن يكون دليلا لهذا القول روايات :

منها : رواية زيد ابن عليّ ، عن آبائه عن عليّ علیهم السلام قال : « الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لا تحلّ له أبدا » (4).

ومنها : مضمرة ابن أبي يعفور ، وفيها قال : سألته عمّا يحرم من الرضاع؟ قال : « إذا رضع حتّى يمتلئ بطنه ، فإنّ ذلك ينبت اللحم والدم ، وذلك الذي يحرم » (5).

ص: 345


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270 و 271.
2- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 30 ، في المحرمات بالرضاع ، نقل عن الإسكافي ، « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270 ، في شروط الرضاع وأحكامه ، نقل عن الإسكافي.
3- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 317 ، ح 1309 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 197 ، ح 712 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 286 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 12.
5- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1307 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 15 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 195 ، ح 708 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 290 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 4 ، ح 1.

ومنها : قوله علیه السلام في تفسير الرضاع قال : « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتّى يمتلئ ويتضلّع » (1).

وفيه : أنّ في دلالة بعض هذه الروايات على دعواه تأمّل واضح ، وعلى فرض تسليم دلالتها ليست قابلة للمعارضة مع ما هو أقوى وأشهر وأكثر عددا وأصحّ سندا منها ، خصوصا مع إعراض الأصحاب عن العمل بهذه الروايات ، بل انعقاد الإجماع على خلافها ، فهذا القول في البطلان مثل سابقتها.

وعلى كلّ حال : المشهور بين الأصحاب في تقدير الرضاع طرق ثلاث :

الأوّل : الأثر ، أعني إنبات اللحم ، وشدّ العظم.

الثاني : الزمان ، أعني يوما وليلة.

الثالث : العدد ، أعني العشرة أو الخمسة عشر.

أمّا الأوّل فقد وردت فيه روايات :

منها : ما رواه في الكافي عن عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم وشدّ العظم » (2).

ومنها : ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال : « ما ينبت اللحم والدم » ثمَّ قال : « أترى واحدة تنبته؟ » فقلت :

ص: 346


1- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1306 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 14 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 195 ، ح 707 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 290 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 4 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 289 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 3 ، ح 2.

اثنتان أصلحك اللّه؟ قال : « لا » ، فلم أزل أعدّ عليه حتّى بلغت عشر رضعات » (1).

ومنها : ما عن حمّاد بن عثمان - في الصحيح أو الحسن - عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم والدم » (2).

ومنها : ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد اللّه بن سنان عن أبي الحسن علیه السلام قال : قلت له : يحرم من الرضاع الرضعة والرضعتان والثلاثة؟ قال : « لا ، إلاّ ما اشتدّ عليه العظم ونبت اللحم » (3).

ومنها : ما عن مسعدة بن صدقة - في الموثق - عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما شدّ العظم وأنبت اللحم ، فأمّا الرضعة والرضعتان والثلاث حتّى بلغ عشرا إذا كنّ متفرّقات فلا بأس » (4).

ومنها : ما عن عبيد بن زرارة - في الصحيح - قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : انا أهل بيت كبير ، فربما كان الفرح والحزن الذي يجتمع فيه الرجال والنساء ، فربما استخفت المرأة انّ تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها وبينه رضاع ، وربما استخفّ الرجل أن ينظر إلى ذلك ، فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : « ما أنبت اللحم والدم ». فقلت : فما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : « كان يقال : عشر رضعات ». قلت : فهل

ص: 347


1- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 288 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 21.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 312 ، ح 1294 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 193 ، ح 699 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 289 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 3 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 312 ، ح 1295 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 288 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 23.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 439 ، باب : حدّ الرضاع الذي يحرم ، ح 10 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1297 ، باب من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 287 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 19.

تحرم عشر رضعات؟ فقال : « دع ذا » ثمَّ قال : « ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع » (1).

ومنها : ما رواه في التهذيب - في الصحيح - عن ابن رئاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت ما يحرم من الرضاع؟ قال : « ما أنبت اللحم والدم وشدّ العظم ». قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : « لا ، لأنّه لا ينبت اللحم ولا يشدّ العظم عشر رضعات » (2).

وظاهر هذه الأخبار ، بل صريح بعضها - كخبر الأخير - هو أنّ المدار على هذين ، ولا اعتبار بالعدد إلاّ من جهة كونه طريقا إليهما ، فما هو الموضوع الشرعي للتحريم ليس في الحقيقة إلاّ هذين ، أي إنبات اللحم ، وشدّ العظم.

وأمّا الإشكال على أنّه كيف يمكن أن يجعل الشارع شيئا موضوعا لحكمه ، مع عدم إمكان معرفته لأغلب الناس ، لأنّه ليس المراد منهما المرتبة الكاملة منهما ، بحيث كلّ من ينظر إلى المرتضع يرى وجود هذين فيه ، لأنّ تلك المرتبة لا تحصل بارتضاعه يوما وليلة ، أو خمسة عشر رضعة له قطعا ، والمرتبة التي تحصل بهذا المقدار من الارتضاع من الأمور غير المحسوسة التي لا يفهمها غالب الناس ، فيلزم إحالة الحرمة على المجهول.

ففيه أوّلا : أنّ كلّ أحد يدري بأنّ كلّ غذاء ترد إلى المعدة - بعد هضمها ودفع المعدة للفضول - تتحوّل إلى الدم ، ويجري في العروق الشعريّة ، وبعد وصوله إلى أيّ عضو من الأعضاء؟ تتشكل بشكل ذلك العضو من العظم واللحم وغير ذلك من الأجزاء والأعضاء ، فلا محالة كلّ غذاء يتغذّى به الإنسان ، بل الحيوان ، بل النبات

ص: 348


1- « الكافي » ج 5 ، ص 439 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1296 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 194 ، ح 701 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 287 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 18.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1298 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 2.

تكون موجبة لنموّ المتغذّي ، لأنّه لا معنى للنموّ إلاّ هذا المعنى ، والقوّة الغاذية مشتركة بين جميع الحيوانات والنباتات.

فبناء على هذا ، حتّى الرضعة الواحدة تكون موجبة لإنبات اللحم وشدّ العظم ، ولكن الشارع لم يجعل مطلق الإنبات ولو كان بالدقّة العقليّة موضوعا لحكمه ، بل كلّ ما يصدق عليه الإنبات عند أهل الخبرة من العرف ، وتلك المرتبة لا تحصل إلاّ برضاع يوم وليلة ، أو بخمسة عشر رضعة ، اللذان لا يكون الفاصل بينها التغذّي بغذاء آخر ، إمّا لانصراف الإطلاق إلى تلك المرتبة ، أو يفهم ذلك من الجعلين الآخرين ، أي الزمان والعدد.

وعلى كلّ حال : الطريق إلى فهم ما جعله الشارع موضوعا موجود ، وهو إمّا فهم أهل الخبرة ، أو الطريقين المجعولين ، أعني : الزمان والعدد.

وثانيا : أنّ الموضوع الواقعي هو الذي يكون فيه مناط الحكم وملاكه ، وفي عالم الإثبات يحتاج إلى طريق لمعرفته. وأمّا في عالم الثبوت فتابع للواقع ، أعني كونه ذا الملاك ، فيمكن أن يكون الموضوع الواقعي هو إنبات اللحم وشدّ العظم ، ولكن حيث لا طريق إلى معرفته في مقام الإثبات وهو لازم أعمّ لملزومين :

أحدهما : ارتضاع يوم وليلة. ثانيهما : ارتضاع خمسة عشر رضعة جعل الشارع في مقام الإثبات موضوع حكمه أحد العنوانين ، أي الزمان والعدد ، فإنبات اللحم وشدّ العظم موضوع ثبوتي واقعي ، والزمان والعدد موضوع إثباتي ، وفي كلّية الأحكام المعلّلة الموضوع الواقعي هي العلّة إذا كانت قابلة لتعلّق التكليف به.

ثمَّ إنّه على تقدير كون الموضوع هو إنبات اللحم وشدّ العظم مطلقا - سواء أكان حصولها بنفس المقدار المعيّن من الزمان أو العدد ، أو بأقلّ منهما ، أو بأكثر منهما ، بأن لا يكون ملازمة بينهما وبين هذا الموضوع ، أعني : إنبات اللحم وشدّ العظم ، وكون قول أهل الخبرة طريقا إلى معرفتهما - فهل حجّية قولهم من جهة كونه بيّنة كي يعتبر

ص: 349

فيه العدد والعدالة ، أو من جهة أنّ قول أهل الخبرة في نفسه حجّة من دون لزوم اندارجه تحت أدلّة حجّية البيّنة لبناء العقلاء على حجّية قولهم والرجوع إليهم ولو كان واحدا وفاسقا ، بل كان كافرا. كلّ ذلك من جهة بناء العقلاء وعدم ردع الشارع لهذا البناء؟

الظاهر هو الأخير ، لأنّ كلام أهل الخبرة في هذه المقامات ليس من جهة إحساسهم بأحد الحواسّ الخمسة الظاهريّة شيئا لا يدركه من عداهم ، لأنّه ربما يكون غير أهل الخبرة أقوى حواسّا من أهل الخبرة ، بل يكون من جهة إعمال رأيهم ونظرهم ، ولو كان هذا الرأي قد حصل لهم من ناحية الإحساس ، فبناء على هذا لا يحتاج إلى التعدّد ولا إلى العدالة.

ثمَّ إنّ في بعض هذه الأخبار كان بدل شدّ العظم « إنبات الدم » كما في روايتي عبيد بن زرارة ورواية حمّاد بن عثمان ، والظاهر أنّه ملازمة بين إنبات اللحم والدم مع إنبات اللحم وشدّ العظم ، لأنّه ليس المراد من إنبات الدم هو تحوّل الغذاء إلى الدم ، إذ لا يصدق عليه الإنبات في ذلك الوقت ، بل المراد به الدم الذي يجري في العروق الشعريّة ، ويأخذ كلّ عضو وجزء من الأعضاء والأجزاء النامية مقدارا منه ، ويصير من سنخ ذلك الجزء ، فالعظم أيضا مثل سائر الأجزاء له نصيب من هذا الدم.

فمعنى إنبات الدم أي صيرورة الجارية في العروق الشعريّة من سنخ الأعضاء المتغذّية بذلك الدم ، فيكون العنوانات - أي : عنوان إنبات اللحم ، والدم - مع عنوان إنبات اللحم وشدّ العظم متلازمين ، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.

فلا يبقى مجال لأن يقال : هل كلّ واحد منهما موضوع مستقلّ ، أو لا بدّ من اجتماع كلا العنوانين ، أو أحدهما موضوع دون الآخر؟ فيقع التعارض بين الأخبار التي مؤدّاها عنوان إنبات اللحم والدم ، مع التي مؤدّاها عنوان إنبات اللحم وشدّ العظم كي نحتاج إلى إعمال قواعد باب التعارض.

ص: 350

وقد عرفت ممّا ذكرنا أيضا أنّه لا انفكاك بين عنوان إنبات اللحم وشدّ العظم ، بل هما متلازمان ومعلولان لعلّة واحدة. وهي وصول الدم الذي تحوّل إليه الغذاء الواردة إلى المعدة بعد طبخها وهضمها فيها إلى كلّ جزء من أجزاء البدن ، فيحصل من هذا الوصول أمران : أحدهما إنبات اللحم ، ثانيهما شدّ العظم ، ولا يمكن أن يتخلّف أحدهما عن الآخر ، وإلاّ يلزم تخلّف المعلول عن العلّة.

نعم تقدّم : أنّ لازم هذا البيان أنّ الرضعة الواحدة ، بل المصة الواحدة تكون كافية في التحريم ، كما ذهب إليه جمع من أهل الخلاف ، والقاضي نعمان المصري منّا (1).

وقد أجبنا عن ذلك : بأنّ الموضوع للحكم ليس هو مطلق الإنبات والشدّ ولو كان بالدقّة العقليّة ، بل ما هو مصداق بنظر أهل العرف من أهل الخبرة بواسطة انصراف الإطلاق إلى ذلك ، أو من جهة أخبار التقدير بالزمان والعدد.

فلا حاجة إلى ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنّ مقتضى النصوص المذكورة هو اعتبار تحقّق كلا الأمرين واجتماعهما ، أي : إنبات اللحم وشدّ العظم (2) ، لما ذكرنا من تلازمهما وعدم انفكاكهما. نعم لو لم يكن بينهما تلازم كان ما ذكره قدس سره وجيها.

ولم يكن وجه لما ذكره شيخنا الشهيد قدس سره (3) لأنّ عطف شدّ العظم على إنبات اللحم بالواو يدلّ على ذلك.

وينفي ما ذهب إليه الشهيد قدس سره من الاجتزاء بكلّ واحد من الأمرين ، وذلك لأنّ مفاد العطف بالواو هو الجمع.

ثمَّ إنّه لا وجه لاحتمال أن يكون المراد من إنبات اللحم والدم ، أو إنبات اللحم وشدّ العظم قابليّة الطفل لأنّ يصير كذلك بالارتضاع لو لم يكن عروض عارض وطروّ

ص: 351


1- تقدم راجع ص 343 - 344.
2- « كتاب المكاسب » ج 378.
3- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 372.

مانع ، فيقال في الطفل المريض مثلا لو لم يكن المرض لكان ينبت له اللحم ويشتدّ له العظم بهذا الارتضاع.

وذلك من جهة ظهور كلّ عنوان أخذ موضوعا للحكم ، أو من أجزاء موضوعه ، أو من شرائطه في فعليّته ، لا أنّه موضوع بأعمّ من الفعليّة ، فقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1) جعل الإرث لمن يكون ولدا بالفعل ، لا للنطفة المستقرّة في الرحم التي كانت تصير ولدا لو لا عروض المانع. وهذا واضح لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

وأمّا الثاني ، أي التحديد والتقدير بالزمان ، فقد ورد فيه روايتان :

الأولى : موثّقة زياد بن سوقة ، قال : قلت لأبي جعفر علیه السلام هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ فقال : « لا يحرم الرضاع أقلّ من يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد ، ولم يفصل بينهما رضعة امرأة غيرها ، فلو أنّ امرأة أرضعت غلاما وجارية عشر رضعات من لبن فحل واحد ، وأرضعتهما امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما » (2).

الثانية : مرسل المقنع سأل الصادق علیه السلام هل لذلك حدّ؟ فقال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصّل بينهن » (3).

والظاهر أنّ هذا الرواية الثانية غير الرواية الأولى ، لأنّ الأولى كانت مرويّة عن أبي جعفر علیه السلام ، وهذه الرواية مرويّة عن الصادق علیه السلام .

ص: 352


1- النساء (4) : 11.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 315 ، ح 1304 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 192 ، ح 696 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 1.
3- « المقنع » ص 110 ، باب بدو النكاح ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 286 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 14.

واحتمال أن يكون الصادق وصفا لأبي جعفر علیه السلام خلاف مصطلح الأخبار.

ودلالة هاتين الروايتين على المدّعى - أي : التقدير بالزمان - واضح جليّ ، وصريحهما أنّ حدّ الرضاع المحرّم بحسب الزمان يوم وليلة ، ولا يكون أقلّ من ذلك ، ولا يحتاج إلى أكثر من هذا.

وأمّا سندهما وإن كانت الثانية مرسلة لا تشملها أدلّة حجّية الخبر الواحد في نفسه ، لما بيّنّا في الأصول أنّ مفاد تلك الأدلّة حجّية الخبر الموثوق الصدور ، ولكن حيث أنّ العمل بها مجمع عليه بين الأصحاب ، ولم يخالف أحد منهم في العمل بمفاد هاتين الروايتين ، فتدخلان تحت أدلّة الحجّية من هذه الجهة.

هذا ، مضافا إلى أنّ الأولى حجّة في نفسه ، لكونها موثّقة ، وعلى كلّ حال العمل بهما متعيّن.

وأمّا الروايات الأخر الواردة في التقدير بحسب الزمان - المعارضة مع هاتين مضمونا ومن حيث المؤدّى - فمطروحة أو تأوّل ، لإعراض الأصحاب عنها وعدم اعتنائهم بها ، كالتقدير بثلاثة أيّام متواليات في الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا علیه السلام قال فيه : « والحدّ الذي يحرم به الرضاع ممّا عليه عمل العصابة دون كلّ ما روى ، فإنّه مختلف ما أنبت اللحم وقوي العظم ، وهو رضاع ثلاثة أيّام متواليات ، أو عشرة رضعات متواليات محرّرات مرويّات بلبن الفحل » (1).

وكالتقدير بخمسة عشر يوما ولياليهنّ في مرسلة الصدوق أنّه سأل الصادق علیه السلام « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ولا يحرم من الرضاع إلاّ رضاع خمسة عشر يوما ولياليهنّ ، وليس بينهنّ رضاع ».

وكالتقدير بسنة في صحيح علاء بن رزين عن الصادق علیه السلام سألته عن الرضاع؟

ص: 353


1- « فقه الرّضا » ص 234 ، باب : النكاح والمتعة والرضاع.

فقال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضع من ثدي واحد سنة » (1).

وكالتقدير بحولين كاملين ، كخبر الحلبي عن الصادق علیه السلام : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما كان حولين كاملين » (2).

وكخبر عبيد بن زرارة عنه علیه السلام أيضا سألته عن الرضاع؟ فقال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين » (3).

فهذه الروايات ولو أنّ بعضها صحيح بحسب السند ، ولكن الأصحاب حيث أعرضوا عنها قديما وحديثا ولم يعتنوا بها سقطت عن الاعتبار ، بل قالوا كلّما ازداد صحّة ازداد وهنا ، وما أحسن عبارة المحقّق في المعتبر حيث قال فيه : فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه ، أو شذّ يجب طرحه (4).

ثمَّ إنّ ها هنا فروع

منها : أنّه لو أرضعت الولد يوما وليلة ولكن برضعات ناقصة ، هل يؤثّر مثل هذا الرضاع في نشر الحرمة ، أو يلزم أن يكون برضعات تامّة؟

والجواب : أنّه لا فرق بين أن يكون إرضاعها بالرضعات الكاملة أو الناقصة ، إذ

ص: 354


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4673 ، باب الرضاع ، ح 13 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1315 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 23 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 198 ، ح 718 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 286 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 13.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4675 ، باب الرضاع ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 292 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 10.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4674 ، باب الرضاع ، ح 14 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 317 ، ح 1310 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 18 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 197 ، ح 713 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 292 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 8.
4- « المعتبر » ج 1 ، ص 29 ، مقدمة الكتاب ، الفصل الثالث : في مستند الأحكام.

أنّ هذه الكلمة - أي : رضاع يوم وليلة بعد معلوميّة أنّه ليس المراد منها اتّصال الرضاع في هذه المدّة ، أي يكون الطفل مشغولا بالارتضاع في تمام هذه المدّة كي يكون المجموع رضعة واحدة ، لأنّ هذا المعنى غير ممكن وقوعها عادة - ظاهرة في أن يكون الولد في تمام هذه المدّة يرتضع بنحو المتعارف ، بحيث يشبع إذا جاع ، فلا فرق بين أن يكون إشباعه بعد أن جاع برضعات كاملة ، أو كان برضعات ناقصة. فلو أرضعته رضعة ناقصة ، ثمَّ أكملته برضعة أخرى ، وهكذا إلى تمام يوم وليلة يصدق أنّه رضاع يوم وليلة ، أو أنّه ليس بأقلّ منها.

ومنها : أنّه هل لا بدّ من أن يكون ابتداء الرضاع في أوّل النهار إلى تمام الليل ، أو ابتدائه من أوّل الليل إلى انتهاء النهار ، أو يكفي الملفّق منهما؟

الظاهر كفاية التلفيق لصدق رضاع يوم وليلة على الملفّق منهما ، لأنّه لا خصوصيّة لعنوان اليوم الكامل أو الليلة الكاملة ، بل المراد امتداد زمان الرضاع حتّى ينبت اللحم ويشدّ العظم ، ولا أثر لخصوصيّة بياض اليوم وسواد الليل ، حتّى إنّه لو كان من الممكن امتداد زمان الرضاع أربعة وعشرين ساعة متّصلة - كلّه من الليل أو كلّه من النهار - لكان كافيا ، لكنّه غير ممكن.

ويمكن أن يقال كما أفاده شيخنا الأعظم قدس سره (1) : إنّ قوله علیه السلام : « لا يكون أقلّ من رضاع يوم وليلة » أظهر في صدقه على الملفّق من صدق رضاع يوم وليلة ، لأنّ لفظة « لا يكون أقلّ من زمان كذا » ربما يكون قرينة على أنّ المراد من اليوم والليلة ليس عنوان اليوم الكامل والليلة هكذا.

ومنها : أنّه لو أطعمه في أثناء اليوم والليلة بطعام آخر ، هل يكون مضرّا بصدق رضاع يوم وليلة أم لا؟

الظاهر عدم كفاية ذلك الرضاع حينئذ ، لأنّ الظاهر من هذه الكلمة « أن يكون

ص: 355


1- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 379 ، في شروط انتشار الحرمة بالرضاع.

غذاؤه بحسب المتعارف مدّة يوم وليلة » هو هذا الرضاع ، نعم لو كان الطعام الآخر قليلا بحيث لا ينافي صدق هذا العنوان عليه ، فليس بمضرّ.

ومنها : أنّه هل يعتبر حال هذا الطفل في الإرضاع أو أوساط الأطفال؟

الظاهر هو ما ذكرنا من إشباع شخص هذا الطفل ، سواء أكان شربه لللبن أكثر من المتعارف أو أقلّ ، أو كان على المتعارف.

ومنها : أنّه هل يعتبر احتمال تأثير هذا الرضاع في إنبات اللحم وشدّ العظم ، أم لا؟

الظاهر لزوم هذا الاحتمال ، كما هو مفاد بعض الأخبار السابقة (1).

الثالث : التقدير بالعدد ، وقد عرفت عدم صحّة ما حكى عن القاضي نعمان المصري من التحرير بمسمّى الرضاع (2) ، وهكذا ما حكى عن الإسكافي من كفاية الرضعة الواحدة في نشر الحرمة (3) ، وقلنا إنّ الروايات التي استدلّوا بها لهذين القولين مأوّل أو مطروح (4) ، لإعراض الأصحاب عنها.

والمشهور بين الإماميّة في التحديد بالعدد قولان :

أحدهما : العشر رضعات.

ثانيهما : خمسة عشر رضعة ، ولعله أشهر القولين ، بل ما هو المشهور بين المتأخّرين هو الأخير ، أي الخمسة عشر رضعة.

والمدرك لكلّ واحد من القولين هي الروايات الواردة في هذا الباب.

فمدرك القول بالعشر أخبار :

ص: 356


1- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (2).
2- تقدم راجع ص 344.
3- تقدم راجع ص 345 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 344 - 346.

منها : رواية فضيل بن يسار عن الباقر علیه السلام قال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما كان مخبورا ». قلت : وما المخبور؟ قال : « أم مربيّة أم تربي أو ظئر تستأجر أو خادم تشتري أو ما كان مثل ذلك موقوفا عليه » (1).

ومنها : الموثّق عن عمر بن يزيد ، قال : سألت الصادق علیه السلام عن الغلام يرضع الرضعة والثنتين؟ فقال : « لا يحرم » فعددت عليه حتّى أكملت عشر رضعات؟ قال : « إذا كانت متفرّقة فلا » (2).

ومنها : خبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال : « ما ينبت اللحم والدم » ثمَّ قال : « أترى واحدة تنبته؟ » فقلت : اثنتان أصلحك اللّه فقال : « لا » فلم أزل أعد عليه حتّى بلغت عشر رضعات » (3).

ومنها : خبره الآخر أيضا في حديث ، إلى أن قال : فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : « ما أنبت اللحم والدم ». فقلت : وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : « كان يقال عشر رضعات ». قلت : فهل تحرم عشر رضعات؟ وقال : « دع ذا ، ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع » (4).

ومدرك القول بالخمسة عشر أيضا أخبار :

منها : ما تقدّم عن زياد بن سوقة في القسم الثاني من تحديد الرضاع ، أي : التقدير بالزمان ، في الموثق وهو قوله علیه السلام فيه : « لا يحرم الرضاع أقلّ من رضاع يوم وليلة ، أو

ص: 357


1- « معاني الأخبار » ص 214 ، باب : معنى قول الصادق علیه السلام « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما كان مجبورا » ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 324 ، ح 1334 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 42 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 284 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 7.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 439 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 314 ، ح 1302 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 194 ، ح 703 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 5.
3- تقدم راجع ص 347 ، هامش رقم (1).
4- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (1).

خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد ولم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها ، فلو أنّ امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد ، وأرضعتهما امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما » (1).

ومنها : مرسل مقنع الذي تقدّم في ذلك المقام أيضا ، وهو : سئل الصادق علیه السلام هل لذلك حد؟ فقال علیه السلام : « لا يحرم من الرضاع إلاّ رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعات متواليات لا يفصّل بينهن » (2).

ومنها : موثّقة عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول « عشر رضعات لا يحرمنّ شيئا » (3).

ومنها : صحيحة علىّ بن رئاب ، عن الصادق علیه السلام قال : قلت : ما يحرم من الرضاع؟ قال : « ما أنبت اللحم وشدّ العظم ». قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : « لا ، لأنّه لا تنبت اللحم ولا تشدّ العظم عشر رضعات » (4).

ومنها : ما في التهذيب عن ابن بكير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقال : « عشر رضعات لا تحرم » (5).

هذه جملة من الروايات الواردة في مدرك هذين القولين.

ص: 358


1- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (2).
2- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (3).
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1299 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 195 ، ح 706 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 3.
4- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (2).
5- « قرب الإسناد » ص 170 ، ح 622 ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1300 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 4.

وهناك وردت رواية أخرى مفادها عدم التحريم بخمسة عشر رضعة ، وهو ما رواه عمر بن يزيد قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « خمسة عشر رضعة لا تحرم » (1) ولكنّها مؤولة أو مطروحة ، للإجماع على خلافها.

ففي التقدير بالعدد يدور الأمر بين هذين القولين ، فإذا بطل أحدهما يثبت الآخر ، للإجماع على عدم تحريم أقلّ من العشرة ، ولا لزوم الزيادة على الخمسة عشر ، وعدم القول بتحريم ما زاد على العشرة مع كونه دون الخمسة عشر إلاّ من جهة كون العشرة محرّما ومندرجا تحته ، وإلاّ فالمتوسّط بين العشرة والخمسة عشر لم يجعل موضوعا للتحريم إجماعا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : ذهب المفيد (2) والمعاني (3) وسلار (4) والقاضي (5) والتقي (6) وابن حمزة (7) والعلاّمة في المختلف (8) وولده (9) والشهيد في اللمعة 5 (10) إلى التقدير بالعشر ، ومستندهم في ذلك - بعد الإطلاقات - الروايات المتقدّمة ، أي رواية فضيل بن يسار باعتبار ذيلها ، أي قوله علیه السلام : « ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (11) وموثّق

ص: 359


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 314 ، ح 1301 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 193 ، ح 697 ، باب مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 284 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 6.
2- « المقنعة » ص 502.
3- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 29 ، في المحرمات بالرضاع ، حكى عن العمّاني.
4- « المراسم » ص 149.
5- « المهذب » ج 2 ، ص 190.
6- « الكافي في الفقه » ص 285.
7- « الوسيلة » ص 301.
8- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 30.
9- « إيضاح الفوائد » ج 3 ، ص 46.
10- « اللمعة الدمشقية » ص 187 ، كتاب النكاح ، الفصل الثالث : في المحرمات.
11- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (1).

عمر بن يزيد ، (1) وخبري عبيد بن زرارة (2).

وفيه : أنّ الإطلاقات على فرض وجودها مخصّصة بالروايات المتقدّمة في التقدير بالأثر وما تقدّم في أوّل هذا العنوان - أعني : صحيحة على بن رئاب (3) ، وموثّقة عبيد بن زرارة (4) ، وخبر ابن بكير (5) - فلا يبقى وجه للتمسّك بالإطلاقات أصلا.

أمّا الروايات ، فعمدتها رواية فضيل بن يسار ، حيث أنّها تدلّ بمنطوقها على تحريم عشر رضعات بخلاف سائرها ، فإنّها لو كانت دالّة تكون دلالتها بالمفهوم ، مع وجود مناقشات كثيرة فيها سنذكر بعضها إن شاء اللّه تعالى.

وهذه الرواية مخدوشة من جهات :

فأوّلا : من جهة سندها ، لأنّ فيه محمّد بن سنان ، وقال النجاشي في حقّه : وهو رجل ضعيف جدّا ، لا يعول عليه ، ولا يلتفت إلى ما تفرّد به ، وحكى عن الكشّي ، عن محمّد بن قتيبة النيشابوري ، عن الفضل بن شاذان أنّه قال : لا أحلّ لكم إن ترووا أحاديث محمّد بن سنان (6) وطعن عليه الكشي أيضا (7).

وثانيا : من جهة مضمونها باعتبار حصرها المحرّم في المجبور ، مع أنّه ليس كذلك إجماعا ، لأنّه لو لم تكن المرضعة أمّا ولا مستأجرة ولا أمة أيضا يوجب إرضاعها التحريم إجماعا.

وثالثا : من جهة متنها ، فإنّ الصدوق قدس سره رواها بدون ذلك الذيل ، أي قوله علیه السلام :

ص: 360


1- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (2).
2- تقدم راجع ص 347 ، هامش رقم (1) ، وص 348 ، هامش رقم (1).
3- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 347 ، هامش رقم (1).
5- تقدم راجع ص 358 ، هامش رقم (5).
6- « رجال النجاشي » ص 328 ، رقم (888).
7- « رجال الكشي » ص 389 ، ح 729 ، وص 507 ، ح 979 و 980.

« ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (1). والتهذيب مع ذلك الذيل (2).

وإذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة ، ولو أنّ أصالة عدم الزيادة مقدّمة على أصالة عدم النقيصة عند العقلاء والاعتبار ، ولكن لا يجرى ذلك في هذا المقام ، لأنّه كيف يمكن لمثل الصدوق قدس سره الذي هو خرّيت هذه الصناعة ، ومن أحذق حذاق هذا الفنّ ترك مثل هذه الفقرة من الرواية وإسقاطها ، مع أنّها مدار الحكم ، وتترتّب عليه آثار مع أنّهم صرّحوا بأن الفقيه أضبط عند وقوع الاختلاف من التهذيب.

واحتمل الشيخ الأعظم قدس سره أنّ تكون هذه الزيادة من محمّد بن سنان ، لأنّه داخل في أسناد التهذيب ، وليس واقعا في سند الفقيه (3).

وهناك اضطرابات أخر في المتن من حيث الاختلاف الواقع في لفظة « المجبور » ففي بعض النسخ بالحاء المهملة ، وفي البعض الآخر بالخاء المعجمة ، وفي نسخة الفقيه بالجيم (4) ، ويرجحه - على الاحتمالين الآخرين - في الوافي (5) ، ومن حيث مقابلة المجبور مع الخادم والظئر في بعض نسخ التهذيب ، وجعلهما قسما له في نسخة أخرى (6).

ورابعا : من جهة ترك ظاهرها وعدم العمل به ، لأنّه لم يفت أحد بلزوم نوم الصبيّ بعد أن ارتضع وروى في التحريم ، فلذلك لا يبقى حجّية لهذه الرواية أصلا كي تكون مدركا ومستندا لهذا القول.

ولو لا ما ذكرنا من الإشكالات على هذه الرواية كان يمكن أن يقال : إنّ رواية فضيل بن يسار - بعد تخصيص عموم العشر رضعات بالمتواليات بواسطة منطوق

ص: 361


1- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (1).
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 315 ، ح 1305 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 13 ،
3- « كتاب المكاسب » ص 380.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4672 ، باب الرضاع ، ح 12.
5- « الوافي » 21 ، ص 239 ، ح 21154 ، أبواب بدء النكاح والحثّ عليه ، ح 23.
6- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1305 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 13.

موثّق عمر بن يزيد وخبري عبيد بن زرارة - تكون أخصّ من الروايات الدالّة على عدم تحريم العشر ، لأنّ تلك الروايات تدلّ على عدم تحريمه ، سواء أكانت متواليات أو متفرّقات ، وهذه الرواية تدلّ على تحريمه إذا كانت متواليات بعد تخصيصها بما ذكرنا ، فتكون أخصّ من تلك.

ولكن مع ذلك أيضا لا يفيد ، لأنّه حتّى على فرض غضّ النظر عن هذه المناقشات تعارضها رواية زياد بن سوقة ، التي مضمونها عدم التحريم بما هو أقلّ من خمسة عشر متواليات (1) ، فهو صريح في أنّ العشرة المتوالية وما زاد عليها إلى أن يبلغ خمسة عشرة المتوالية لا تكون محرّما ، وعلى فرض التكافؤ يتساقطان ، فيرجع إلى الأخبار الدالّة على عدم تحريم العشرة المتقدّمة.

وهذا الوجه كما يجري في رواية فضيل بن يسار ، يجري في موثّق عمر بن يزيد وخبري عبيد بن زرارة ، لأنّها أيضا طرف المعارضة ، فتسقط أيضا بالمعارضة.

مضافا إلى أنّ دلالتها بالمفهوم والمنطوق أقوى من المفهوم ، مع أنّه يمكن الخدشة في أصل دلالتها ، لأنّه من الممكن أن تكون في مقام عدم تحريم ما هو أقلّ من العشرة ، لا في مقام تحريم العشرة.

هذا كلّه ، مع أنّ القول بالعشرة موافق لمذهب بعض أهل الخلاف ، بخلاف القول بالخمسة عشر ، فإنّه لا يقول به أحد منهم ، لأنّ التحديد بالعدد عند من يقول منهم بالعدد أربعة : الرضعة الواحدة - بناء على أن يكون الواحد من الأعداد - والثلاثة ، والخمسة ، وعشرة.

وممّا يؤيّد ورود هذه الأخبار في مورد التقيّة قوله علیه السلام في إحدى روايتي عبيد بن زرارة ، في بيان ما هو المحرّم ، كأن يقال « عشر » ومعلوم أنّ هذا التعبير يناسب التقية ، لا بيان حكم اللّه الواقعي ، خصوصا بضميمة قوله علیه السلام في جواب المسائل بقوله قلت :

ص: 362


1- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (2).

فهل يحرم عشر رضعات؟ « دع ذا ، ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع ».

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ القول بتحريم عشرة رضعات ليس له مستند يمكن الاعتماد عليه والركون إليه.

وقد ذكرنا أنّ الأمر يدور بين هذين القولين ، فإذا بطل أحدهما يتعيّن الآخر ، فيتعيّن قوله الخمسة عشر.

ثمَّ إنّهم اعتبروا في الرضاع المحرّم من حيث العدد - سواء قلنا بأنّه العشر أو الخمسة عشر - شروطا :

[ الشرط ] الأوّل : أن يكون كلّ رضعة من تلك الرضعات رضعة كاملة ، بمعنى أن يكون الطفل بعد أن جاع واشتهى وطلب يرتوي ويشبع بتلك الرضعة.

ولعلّ هذا مراد من حدّدها بأن يرتوي فيصدر من نفسه ، يعني يرتوي بعد أن جاع ، فيرفع اليد عن الثدي باختياره من دون أن يبعد عنه.

وذلك من جهة ظهور هذه الكلمة في هذا المعنى في متفاهم العرف الذي هو المناط في باب تشخيص الظهورات.

مضافا إلى أنّه فسّر في الأخبار أيضا بهذا المعنى ، كقوله علیه السلام في رواية فضيل بن يسار ، « ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (1).

وكقوله علیه السلام في مضمرة ابن أبي يعفور : « إذا رضع حتّى يمتلئ بطنه ، فإنّ ذلك ينبت اللحم والدم وذلك الذي يحرم » (2).

وكقوله علیه السلام في تفسير الرضاع المحرم « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي

ص: 363


1- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (1).
2- تقدم راجع ص 345 ، هامش رقم (5).

يرضع حتّى يمتلئ ويتضلّع » (1).

وفي مرسلة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتّى يتضلّع ويمتلئ وينتهي من نفسه » (2).

وأنت خبير بأنّ مفاد هذه الروايات مطابق مع ما يفهمه العرف من هذه اللفظة في هذا المقام ، أي في مقام التحديد بالعدد ، وبناء على هذا لو مص الثدي وأعرض عنه فتارة يكون إعراضه لارتوائه بعد أن كان جائعا ، فهذا هي الرضعة الكاملة. وأخرى يكون لإبعاده عن الثدي ، أو للسعال ، أو لغلبة الوجع. أو الانتقال من ثدي إلى ثدي ، أو للالتفات إلى ملاعب وأمثال ذلك ، فلا يعدّ رضعة من تلك الرضعات ، وإن عاد بغير فصل طويل فالمجموع يحسب رضعة ، وإلاّ فلا.

الشرط الثاني : توالي الرضعات ، بمعنى أن لا يكون رضاع امرأة أخرى يفصل بين تلك الرضعات.

والدليل عليه قوله علیه السلام في رواية زياد بن سوقة : « أو خمس عشر رضعات متواليات من امرأة واحدة » (3).

في مرسل المقنع قوله علیه السلام : « أو خمسة عشر رضعات متواليات لا يفصّل بينهنّ » (4).

هذا مع أنّه لو كان المناط الحقيقي لنشر الحرمة هو إنبات اللحم وشدّ العظم بمرتبة خاصّة تحصل من رضاع يوم وليلة ، أو من رضاع خمسة عشر رضعة ، فالفاصل مطلقا سواء أكان هو رضاع امرأة أخرى ، أو أيّ غذاء آخر يكون مضرّا بحصول ما هو الموضوع. نعم لو كان الغذاء الفاصل قليلا ، بحيث لا يكون مضرّا باستناد تلك المرتبة من إنبات اللحم وشدّ العظم إلى تلك الرضعات ، فلا بأس بذلك.

ص: 364


1- تقدم راجع ص 346 ، هامش رقم (1).
2- تقدم راجع ص 346 ، هامش رقم (1).
3- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (3).

وأمّا في خصوص رضاع امرأة أخرى حيث أنّه منصوص ، فإن كان فلا بدّ وأن يكون من القلّة ، بحيث لا يصدق أنّه فصل رضاع امرأة أخرى.

هذا مع احتمال أن يكون المراد من رضاع امرأة أخرى الرضعة الكاملة ، فغير الكاملة لا تكون بها بأس أصلا.

ولكن ادّعى في الحدائق الاتّفاق على أنّ الفصل بغير الرضاع لا يكون منافيا مع التوالي المعتبر فيها (1).

الشرط الثالث : أن تكون تلك الرضعات الكاملة المتوالية من امرأة واحدة ، فلو ارتضع من امرأة بعض العدد وكان لصاحب اللبن - أي : الفحل - امرأة أخرى ذات لبن لنفس ذلك الفحل ، فارتضع ما يبقي من العدد من هذه الأخرى لا يؤثّر في التحريم ، ولا يصير ابنا أو بنتا له ، أي لذلك الفحل.

وأمّا المرضعتان فكلّ واحدة منهما لا تصير أمّا بالضرورة ، لأنّ الأمومة لا تحصل إلاّ بذلك العدد من نفس الأمّ ، لا بعضه منها وبعضه من امرأة أخرى ، ولذلك لو لم يكن الفحل أيضا واحدا فالأمر أوضح.

والدليل على هذا الشرط قوله علیه السلام في موثّقة زياد المتقدّمة « أو خمسة عشر رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد » (2).

وهناك روايات أخر تدلّ على هذا المعنى ، كقوله علیه السلام في صحيحة بريد العجلي : « كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى » (3) ، وقوله علیه السلام في صحيحة عبد اللّه بن سنان : « ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام » (4).

ص: 365


1- « الحدائق الناضرة » ج 23 ، ص 358.
2- تقدم راجع ص 358 ، هامش رقم (1).
3- تقدم راجع ص 339 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 339 ، هامش رقم (1).

ومعلوم أنّ المراد من إرضاع الامرأة بحسب العدد هو الخمسة عشر رضعة ، أو العشر رضعات.

فتدلّ هذه الروايات على أمرين : اتحاد المرضعة ، واتّحاد الفحل ، فنتيجة هذه الروايات هو أنّه لا بدّ في تحقّق الرضاع المحرّم من أن تكون المرضعة واحدة والفحل واحدا ، ففي صورة عدم اتّحاد كليهما لا تحريم ، كما إذا ارتضعت جارية مثلا من امرأة بعض العدد المعتبر في التحريم ، ومن امرأة أخرى لفحل آخر ما بقي من تمام العدد ، أو عدم اتّحاد الفحل فقط ، كما إذا أرضعت امرأة رجل ولدا ببعض العدد من لبن زوجها ، وبعد ذلك طلّقها زوجها أو وهبها أو باعها لو كانت أمته ، فتزوّجت من رجل آخر بعد انقضاء عدّتها ، وحبلت بعد ذلك من زوجها الثاني أو من مولاها الثاني ، ودرّ لبنها من الزوج الثاني أو من مولاها الثاني ، فكملت العدد من لبن الفحل الثاني.

لكن صحّة هذا الفرض منوط بأن يكون الفاصل بين الرضعات بغير إرضاع امرأة أخرى ، أي : لو كان بسائر الأغذية لا يكون منافيا مع التوالي الذي اعتبر فيها ، ولو كان ذلك الفاصل من الأغذية الآخر مدّة طويلة ، فلا تحريم في هذه الصورة أيضا ، كما أنّه لو كان الفحل واحدا والمرضعة متعدّدة ، كأن تكونا زوجتين ، أو أمتين ، أو مختلفتين لشخص واحد ، ويكون كلا اللبنين له ، فلا تحريم أيضا.

ثمَّ إنّه يمكن تصوير تعدّد الفحل مع وحدة المرضعة بشكل لا يكون الفاصل في البين أصلا ، لا بالإرضاع من امرأة أخرى ، ولا بغذاء آخر. وهو فيما إذا طلّق امرأته وتزوّجت بعد انقضاء عدّتها من رجل آخر ، فحبلت من ذلك الرجل ، ولكنّ اللبن كان مستمرّا من زمان أنّها كانت زوجة للزوج الأوّل إلى زمان وضع الحمل الذي صار من الزوج الثاني وبعده أيضا.

فبناء على ما اخترناه - تبعا لجمع من المحقّقين - من أنّ اللبن قبل الوضع للزوج الأوّل وبعد الوضع للزوج الثاني ، فيمكن أن يكون بعض الرضعات العشر أو الخمسة

ص: 366

عشر من لبن الزوج الأوّل ، أي ما كان قبل الوضع ، وبعضها الآخر من الزوج الثاني ، أي ما كان بعد الوضع ، فمجموع الرضعات حصلت من امرأة واحدة. ولكن اللبن لفحلين من دون فاصل في البين.

الشرط الرابع : أن تكون تلك الرضعات من الثدي لا بالوجور في حلقه.

وذلك لعدم صدق الرضاع والارتضاع عرفا إلاّ بامتصاص الثدي ، ولو شككنا في الصدق فقد تقدّم حكم الشبهة الحكميّة فراجع.

وأمّا ما يقال : من أنّ الغرض من الارتضاع هو شدّ العظم وإنبات اللحم حاصل من الوجور أيضا ، لأنّه لا فرق في حصول هذه النتيجة بين الامتصاص وبين الوجور.

ففيه : أنّ الموضوع في لسان الدليل هو عنوان الرضاع أو الإرضاع الذي يكون أثره إنبات اللحم أو الدم وشدّ العظم ، لا مطلق الإنبات ولو كان حاصلا من غير الرضاع ، فما ذهب إليه الإسكافي - من كفاية الوجور في حلقه في نشر الحرمة (1) - مضافا إلى أنّه مخالف لما ذهب إليه معظم الأصحاب - لا وجه له أصلا ، بل الوجه على خلافه كما عرفت.

وأمّا مرسل الفقيه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « وجور الصبي اللبن بمنزلة الرضاع » (2) ، مع أنّه ضعيف فلا حجّية له في حدّ نفسه وأعرض المشهور عن العمل به ، معارض برواية زرارة عن الصادق علیه السلام : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضعنا من ثدي واحد حولين كاملين » (3) بناء على أن لا يكون حولين كاملين تحديدا للرضاع بحسب مقدار الرضاع وكميّته بحسب الزمان ، بل يكون ظرفا لأصل الرضاع المقدّر بأحد التقديرات الثلاثة كي لا تكون معرضا عنها للأصحاب ، فلا تكون قابلة للمعارضة.

ص: 367


1- ابن الجنيد الإسكافي في « الفتاوى » ص 236.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 479 ، ح 4683 ، باب الرضاع ، ح 23.
3- تقدم راجع ص 353.

هذا ، مضافا إلى أنّ الإعراض عن الذيل لا يلازم الإعراض عن صدر الرواية ، بل هو يبقى على حجيته.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الشرط ليس مختصّا بالتقدير بالعدد ، بل يعتبر في التقديرات الثلاثة ، ولذلك ينبغي أن يعدّ هذا من شرائط الرضاع ، لا من شرائط العدد.

الشرط الخامس : أن تكون المرضعة حيّة ، فلا اعتبار بما يرتضع الطفل منها بعد موتها. هذا ما ذهب إليه معظم الأصحاب.

واستدلّوا عليه : بأنّ لفظة « الإرضاع » في الآية والرواية ظاهر بحسب متفاهم العرف في الارتضاع من الحيّ ، فهو المحرّم ، وأمّا الارتضاع من الميّت فلا دليل على تحريمها ، فيبقى تحت أصالة الإباحة ، ولو كانت بمعنى استصحاب عدم حدوث الحرمة ، كما تقدّم في حكم الشكّ في الشبهة الحكميّة.

وفيه أوّلا : أنّ هذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل البرهان على خلافه ، لأنّه لو كانت المرأة نائمة أو غافلة وسعى إليها الطفل والتقم ثديها من دون التفاتها إلى ذلك ، تحصل الحرمة إذا حصل أحد التقديرات الثلاثة كذلك ، مع أنّه لا فرق بين الميّت ومثل النائمة والغافلة بحسب الاعتبار ، لأنّ من يدّعي اعتبار الحياة من طريق ظهور لفظة « الإرضاع » في ذلك ، من جهة اعتبار الاختيار والمباشرة والالتفات والقصد إلى صدور هذا الفعل عنها ، وحيث أنّه ليس في الميّت مثل هذه العناوين ، فلا يصدق على الارتضاع منه أنّها أرضعت.

ولكن أنت خبير بأنّ جميع هذه العناوين مفقودة في المثال الذي فرضنا ، ففي النائمة أو الغافلة كلّ ذلك ليس ، فليس هناك مباشرة ولا اختيار ولا التفات إلى الفعل ولا قصد إلى صدوره ، فصدق الإرضاع مع ذلك يدلّ على عدم أخذ هذه الأمور في ذلك المفهوم ، بل لم تؤخذ هذه العناوين في مفهوم أيّ فعل من الأفعال ، لأنّ مادّتها موضوعة للحدث الكذائي ، وهيئاتها على اختلافها لأنحاء النسب التي بين المادّة

ص: 368

والذات ، وليس شي ء آخر في البين كي يكون موضوعا لهذه العناوين ، أو تكون هذه العناوين مأخوذة فيه.

وثانيا : لو سلّمنا عدم شمول لفظة « الإرضاع » - الذي في الآية والرواية - للارتضاع من الميّت ، فمع ذلك لا تصل النوبة أيضا إلى أصالة الحلّ ، أو استصحاب عدم حدوث الحرمة ، أو قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) لأنّ لفظة « الرضاعة » في قوله تعالى ( وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) (2) وهكذا لفظة « الرضاع » في قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (3) ، وفي سائر الروايات ، لا مانع من شموله للميت أيضا.

وأمّا ما ربما يقال : من أنّ الميّت يخرج من كونه متعلّقا وموردا للأحكام بواسطة الموت ، فالرضاع منه لا يترتّب عليه ثمرة شرعيّة أصلا.

فعجيب إلى الغاية ، لأنّ عدم صلاحيّة الميّت لكونه متعلّقا وموردا للأحكام إنّما هو بالنسبة إلى تعلّق حكم بنفسه ، لأنّه ليس قابلا لتوجيه خطاب إليه.

وأمّا تعلّق الأحكام بشخص آخر ، أو أشخاص آخرين - لوجود إضافة ونسبة بينه ، أو بينهم وبين الميّت - فمما لا كلام فيه فمن ذلك إرثه منه ، وجواز تغسيله لو كان مماثلا أو محرّما ، وإجراء الحدّ عليه لو زنى به ، وأخذ الدية منه لو جنى عليه ، إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة.

وأمّا دعوى انصراف الأدلّة والإطلاقات عن الرضاع من الميتة ، فليس له وجه ، إلاّ قلّة وجود هذا القسم ، وندرة وقوعه ، ولو كان مثل هذا انصرافا ومضرّا بالإطلاق ففي جميع الإطلاقات يلزم أن تكون الأفراد النادرة الوجود خارجة عن تحت

ص: 369


1- النساء (4) : 24.
2- النساء (4) : 23.
3- تقدم راجع ص 323 ، هامش رقم (2).

الإطلاقات ، ولا يلتزم به أحد.

هذا ، مضافا إلى أنّ بعض أقسام الرضاع من الميتة لا يمكن فيه دعوى الانصراف ، كما إذا كان مثلا أربعة عشر رضعة في حال الحياة ورضعة واحدة - بناء على القول بالخمسة عشر - في حال الممات ، فمثل هذا المورد لا يمكن أن يقال بعدم شمول الإطلاقات له وانصرافها عنه ، فحينئذ بعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

إلاّ أن يقال بقلب هذا الدليل ، بأنّه في كثير من الصور تكون الإطلاقات منصرفة عنها ، فتدخل تلك الصور تحت آية التحليل ، أي قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) وبعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب ، ولو سقط كلا الدليلين بواسطة التعارض عن الاعتبار ، فالمرجع أصالة الحل بالمعنى الذي ذكرنا.

ولكن أنت خبير بأنّ مسألة عدم القول بالفصل غير الاتّفاق والإجماع المركّب على عدم الفصل ، والذي موجود فيما نحن فيه هو الأوّل ، وهو غير مفيد ، والمفيد هو الثاني وليس بموجود فيما نحن فيه ، فلا مانع من الأخذ بالإطلاقات فيما تشمله ، والرجوع إلى أصالة الحلّ أو آية التحليل في موارد الانصراف.

الشرط السادس : ذهب معظم الأصحاب إلى أنّ الرضاع الذي يكون سببا لنشر الحرمة ، لا بدّ وأن يكون في حولي الرضاعة ، أي لا يكون الرضيع له أزيد من الحولين.

والدليل عليه - قبل الإجماع المدّعى في المقام - قوله علیه السلام فيما رواه الكافي عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا رضاع بعد فطام ». (2)

وحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا رضاع بعد فطام » (3).

ص: 370


1- النساء (4) : 24.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنّه لإرضاع بعد فطام ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 290 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنّه لإرضاع بعد فطام ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضار. 5 ، ح 2.

ورواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا رضاع بعد فطام ». قلت : جعلت فداك وما الفطام؟ قال : « حولين الذين قال اللّه عزّ وجلّ » (1).

ورواية فضل بن عبد الملك ، قال : « الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم » (2).

هذه هي الروايات المرويّة الواردة في هذا المقام.

والمراد من « الفطام » في هذه الروايات ظاهرا هي المدّة التي جعلها الشارع ظرفا للرضاع الكامل ، أي الحولين في قوله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (3) لا بمعنى الانقطاع عن الرضاع ، سواء أكان قبل انقضاء الحولين أو بعدهما ، كما ربما يظهر من هذه اللفظة حسب الوضع اللغوي ، وإن كان في بعض كتب اللغة فسّره بزمن الفطم ، وذلك لتفسير الصادق علیه السلام هذه الكلمة بما ذكرنا من الحولين في خبر حمّاد بن عثمان.

فبناء على هذا لو فطم الولد قبل تمام المدّة وتغذّى بغذاء آخر ، ثمَّ حصل الرضاع بعد انفطامه وقبل تمام الحولين تنشر الحرمة ، لأنّ مفاد هذه الروايات بناء على ذلك التفسير المروي ، عدم التحريم بعد انقضاء الحولين. فقبل ذلك لا تدلّ على عدم حصول الرضاع المحرّم ، فتشمله الإطلاقات ولو كان منفطما.

فما نسب إلى العمّاني من لزوم أمرين : أحدهما عدم تماميّة المدّة ، والثاني عدم الانفطام ، فكما أنّه بتماميّة المدّة لإرضاع ، كذلك بالانفطام - ولو كان قبل تماميّة المدّة -

ص: 371


1- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنه لا رضاع بعد فطام ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1313 ، باب : ما يحرم من النكاح في الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 21 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 198 ، ح 716 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 5.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنه لإرضاع بعد فطام ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1312 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 20 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 198 ، ح 715 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 20 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 4.
3- البقرة (2) : 233.

لا رضاع (1).

لا وجه له ، لما ذكرنا من أنّ المراد من الفطام هي مدّة الرضاع ، لا الفطم والقطع الخارجي.

ولا يتوهّم أنّ قوله علیه السلام في رواية فضل بن عبد الملك « الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم » (2) يدل على ما ذهب إليه العماني ، لأنّه علیه السلام أخذ في موضوع الرضاع قيدين :

أحدهما أن يكون قبل الحولين. والثاني أن يكون قبل أن يفطم ، لأنّه بعد ما فسّر الإمام علیه السلام الفطام بما ذكرناه يكون المراد من القيد الثاني عين ما هو المراد من القيد الأوّل.

ولعلّ وجه ذكره مع الاستغناء عنه هو الإشارة إلى قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » (3) وأنّ ما هو قبل الحولين قبل الفطام ، فالمراد من الفطام ليس إلاّ انقضاء الحولين ، ولذلك قال في الجواهر : بل لم نتحقّق خلاف الحسن ، أي : ابن أبي عقيل وهو العمّاني ، لأنّ المحكي عنه اعتبار الفطام ، ويمكن ارادته سنّ الفطام (4).

ثمَّ إنّه نسب إلى الإسكافي قدس سره ثبوت التحريم قبل أن يفطم ، ولو كان الارتضاع بعد مضيّ حولين عن سنّ المرتضع. (5)

ولعلّ مدركه رواية داود بن الحصين المرويّة في الفقيه والتهذيب عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم يحرّم » (6).

ص: 372


1- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 35 - 36 ، مسألة : 3 ، كتاب النكاح ، في الرضاع ، حكى قول ابن أبي عقيل العمّاني.
2- تقدم راجع ص 371 ، هامش رقم (2).
3- تقدم راجع ص 371 ، هامش رقم (1).
4- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 296 ، في شروط الرضاع وأحكامه.
5- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 297 ، في شروط الرضاع وأحكامه ، حكى عن الإسكافي.
6- « الفقيه » ج 3 ، ص 476 ، ح 4667 ، باب الرضاع ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1314 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع و ما لا يحرم منه ، ح 22. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 292 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 7.

وأنت خبير بأنّ هذا خبر شاذّ مخالف للإجماع والأخبار : ولا يمكن الركون إليه.

وقال الشهيد قدس سره إنّ هذه الفتوى - أي فتوى ابن الجنيد ، وهو أن يكون الارتضاع بعد مضيّ حولين من سنّ المرتضع وقبل أن يفطم يكون موجبا لنشر الحرمة - مسوقة بالإجماع على الخلاف وملحوقة به (1).

وربما قيل في توجيه هذه الرواية بأنّ المراد من « بعد الحولين » أي بعد مضي الحولين من عمر ولد المرضعة وقبل أن يفطم المرتضع ، ويكون المراد من هذه الرواية أنّه يمكن أن يقع الرضاع هكذا ، لا أنّه من شروط الرضاع أن يكون هكذا كي يكون منحصرا في كونه هكذا ، كما هو ظاهر الرواية لو كان المراد من الحولين صفة ولد المرضعة ، لا المرتضع كما ذكرنا ، فيكون ردّا على ابن بكير. ولكن هذا التوجيه عجيب.

ثمَّ إنّه هل يعتبر هذا الشرط - أي : عدم انقضاء الحولين ومضيهما عن عمره - في خصوص المرتضع ، أو يكون شرطا لولد المرضعة أيضا؟

فيه خلاف ، فالمشهور بين المحقّقين والفقهاء هو الأوّل ، وحكى عن أبي الصلاح (2) وابن زهرة (3) وابن حمزة (4) بل ادّعى في الغنية الإجماع عليه (5) كما حكى عنه في الجواهر (6) هو الثاني.

وهؤلاء الذين يقولون بالاشتراط حتّى في ولد المرضعة يتمسّكون بالإجماع وبإطلاق قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » حيث أطلق الفطام ولم يقيّده بفطام المرتضع ،

ص: 373


1- الشيخ الأعظم في « كتاب المكاسب » ص 378 ، في شروط انتشار الحرمة بالرضاع ، حكى قول الشهيد.
2- « الكافي في الفقه » ص 285.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 547.
4- « الوسيلة » ص 301.
5- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 547.
6- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 297.

فيشمل فطام الاثنين ، فإذا انقضى فطام ولد المرضعة أيضا فلا فطام للأصل ، لأنّه بعد انقضاء فطام ولد المرضعة إذا شككنا في التحريم فمقتضى أصالة الحلّ أو عدم حدوث الحرمة عدم تأثير مثل ذلك الرضاع ، وبفهم ابن بكير من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » فطام ولد المرضعة أيضا.

وذلك حيث سأل ابن فضّال عن ابن بكير في المسجد فقال : ما تقولون في امرأة أرضعت غلاما سنتين ، ثمَّ أرضعت صبيّة لها أقلّ من سنتين حتّى تمّت السنتان ، أيفسد ذلك بينهما؟ قال : « لا يفسد ذلك بينهما ، لأنّه رضاع بعد فطام » وإنّما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » أي : أنّه إذا تمَّ للغلام سنتان أو الجارية فقد خرج من حدّ اللبن ، ولا يفسد بينه وبين من شرب من لبنه (1).

وفيه : أنّ حال هذا الإجماع - مع ذهاب الأكثر على خلافه ، مضافا إلى تمسّك المجمعين بهذه المدارك التي ذكروها - معلوم.

وأمّا إطلاق قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » فممنوع شموله لولد المرضعة ، لأنّه خارج عن مورد البحث والكلام ، بل ظهور الحديث في فطام المرتضع فقط من الواضحات. وعلى فرض الشكّ فالمرجع هي الإطلاقات الواردة في باب تحريم الرضاع ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » لصدق الرضاع عليه يقينا ، والشكّ في تقييد الإطلاق لإجمال مفهوم المقيّد.

وأمّا فهم ابن بكير : فأوّلا هو اجتهاد منه ، وليس بحجّة. وثانيا معارض بفهم الصدوق (2) والكليني خلاف ما فهمه.

وقال الأخير في معنى قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » إنّ الولد إذا شرب لبن

ص: 374


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 317 ، ح 1311 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 19 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 197 ، ح 714 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 6.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 476 ، ح 4666 ، باب الرضاع ، ح 6.

المرأة بعد ما تفطمه لا يحرم ذلك الرضاع التناكح (1).

وحيث أنّه في مقام تفسير هذا الكلام فلا مجال لتوهّم أنّه بين إحدى الصورتين ، ولا ينافي ذلك وجود صورة أخرى ومصداق آخر ، وهو فيما إذا شرب الولد لبن المرأة بعد فطام ولد نفسها ، لا بعد فطام المرتضع.

وأمّا الأصل ، فلا أصل له أصلا ، لما ذكرنا من شمول الإطلاقات لصورة حصول الرضاع مع انقضاء الحولين ومضيّهما من عمر ولد المرضعة.

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا أنّ الأقوى هو القول الأوّل.

ثمَّ إنّ المراد من الحولين هو أربعة وعشرين أشهر هلاليّة ، كما هو الحال في باب البلوغ وحلول الحول في الزكاة وأمثالهما من نظائر المقام. فإن كانت الولادة في أوّل الشهر فينتهي في آخر الشهر الرابع والعشرين ، وإن كانت في الأثناء فيكمّل مقدار النقص من الشهر الخامس والعشرين.

واحتمال العدد حينئذ في جميع الشهور - بأن يحسب من يوم الولادة إلى ثلاثين يوما شهرا وهكذا - بعيد إلى الغاية ، بل ممّا يقطع بخلافه ويزيد على سنتين قطعا ، لأنّ أشهر السنة الهلاليّة ليست كلّها ثلاثين يوما يقينا ، كما أنّ احتمال أن يكون مبدأ الحولين من أوّل الرضاع لا من أوّل الولادة معلوم العدم ، وذلك لأنّه علیه السلام فسّر الفطام بالحولين الذين قال اللّه عزّ وجلّ ، (2) ومعلوم أنّهما في الآية الشريفة من حين الولادة ، لقوله تعالى ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (3).

الشرط السابع : أن يكون اللبن خالصا غير ممزوج بشي ء جامد أو مائع ، وأن لا يصير جبنا ، كلّ ذلك لأجل عدم صدق اللبن أو انصرافه عنه ، مع ما تقدّم أنّ حقيقة

ص: 375


1- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب : لا رضاع بعد فطام ، ح 5.
2- تقدم راجع ص 371 ، هامش رقم (1).
3- الأحقاف (46) : 15.

الرضاع هو شرب اللبن بامتصاص الثدي ، فلا بدّ من تحقّق عنوان شرب اللبن ، لأنّه من مقوّماته ، فكلّما يخرجه عن هذا العنوان فتحقّق الرضاع يكون مشروطا عقلا بعدمه ، كامتزاجه بجسم آخر جامد أو مائع ، بحيث يخرجه عن كونه لبنا.

ومن هذا القبيل ما يصنع من اللبن ، كالمخبص والجبن ، وأمثال ذلك ممّا هو من فروع اللبن.

هذا تمام الكلام في الشرائط الرضاع.

الجهة الخامسة : في عموم المنزلة

والبحث فيه تارة بلحاظ عموم المنزّل عليه وخصوصه ، أي السعة والضيق في التنزيل باعتبار السعة والضيق في المنزّل عليه ، فمن يقول بعموم المنزلة يقول : ليس التنزيل فقط باعتبار العناوين السبعة النسبيّة المعروفة ، أي الأمّ ، والبنت ، والأخت ، والعمّة ، والخالة ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، بل يشمل جميع العناوين النسبيّة التي تعرضها الحرمة ، ولو من جهة ملازمتها للعناوين النسبيّة التي جعلها الشارع موضوعا للحرمة ، كعنوان أمّ ولد البنت نسبا ، أو عنوان أمّ السبط نسبا المتلازمان مع البنتيّة في باب النسب ، أو عنوان أمّ الأخ للأبوين الملازم مع كونها أمّا له أيضا في النسب ، أو عنوان أخت الأخ للأبوين الملازم لكونها أختا له أيضا ، وهكذا بالنسبة إلى سائر العناوين الملازمة للعناوين السبعة المعروفة التي جعلها الشارع موضوعا للحرمة في باب النسب.

ومن يقول بخصوص المنزلة يقول : المنزّل عليه هي العناوين السبعة فقط ، أي أنّ الشارع نزّل بقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » هذه العناوين السبعة الحاصلة من الرضاع منزلة نفس هذه العناوين الحاصلة من النسب ، لأنّها فقط

ص: 376

موضوع الحرمة في لسان الدليل ، لا العناوين الملازمة لتلك العناوين وجودا.

وأخرى : يكون البحث فيه باعتبار عموم آثار المنزّل عليه ، أو خصوص بعض الآثار فمن يقول بالعموم من هذه الجهة يقول بأنّ كلّ أثر كان يترتّب على الأمّ النسبي - مثلا - يترتّب على الأمّ الرضاعي ، إلاّ ما خرج بالدليل ، كالإرث ، لأنّه من المسلم أنّه لا يرث من أمّه الرضاعيّة ، ولكنّه كما أنّ أمّه النسبيّة مثلا إذا كانت أمة واشتراها تنعتق عليه ، هل كذلك تكون أمّه الرضاعية إذا اشتراها تنعتق عليه ، أم لا؟

فمن يقول بعموم المنزلة بالنسبة إلى جميع الآثار إلاّ ما خرج يقول بالأوّل ، ومن يقول : إنّ التنزيل بلحاظ خصوص تحريم النكاح يقول بالثاني.

أمّا البحث الأوّل : أي عموم المنزلة بلحاظ عموم المنزّل عليه فالمشهور عدمه ، وأنّ التنزيل بلحاظ العناوين السبعة المعروفة المذكورة في الآية الشريفة (1).

وذهب جملة من المتأخّرين منهم المحقّق الداماد ، ونسب إلى الشيخ الشهيد أيضا - ولو ناقش بعض في هذه النسبة - إلى عموم المنزلة ، وقالوا : إنّ كلّ امرأة تحرم من جهة وجود نسبة بينها وبين الرجل - سواء أكانت تلك النسبة من العناوين السبعة المعروفة أو لم تكن ، بل كانت من العناوين المستلزمة لأحد هذه العناوين المعروفة - إذا حصل مثل تلك النسبة من الرضاع يحرم أيضا ، سواء أكانت تلك النسبة الحاصلة من الرضاع أيضا من تلك العناوين السبعة المعروفة ، أو كان من غيرها ممّا هي مستلزمة لإحدى تلك العناوين السبعة إذا كانت حاصلة من النسب. مثلا أمّ ولد الولد في النسب محرّمة عليه من جهة أنّها إمّا بنته وإمّا زوجة ابنه ، وكلتاهما حرام عليه ، فلو أرضعت أجنبيّة ولد ولده فتصير أمّ ولد ولده ، ولكن لا تصير بنته من الرضاع ولا حليلة ابنه من الرضاعة.

فبناء على عدم عموم المنزلة بالمعنى الذي ذكرنا ، لا وجه لتحريم مثل هذه

ص: 377


1- النساء (4) : 23.

المرضعة عليه ، لأنّه لم يحصل بينه وبينها أحد تلك العناوين السبعة لا من النسب ولا من الرضاع. وبناء على العموم ولو لم يحصل أحد هذه العناوين لا من النسب ولا من الرضاع ، ولكن حصل عنوان بالرضاع ، أعني عنوان أمّ ولد الولد الذي لو كان حاصلا من النسب لكانت تلك امرأة حراما عليه ، لملازمة ذلك العنوان مع أحد العنوانين الذين كلّ واحد منهما محرّم : أحدهما عنوان البنت ، والأخرى عنوان زوجة الولد.

هذا ، ولكن الحقّ ما ذهب إليه المشهور ، وذلك لأنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » ظاهره كما بيّنّا في ما تقدّم أنّ كلّ عنوان جعله الشارع موضوعا للحرمة إذا كان حاصلا من النسب ، فعين ذلك العنوان يكون موضوعا للحرمة أيضا إذا كان حاصلا من الرضاع.

نعم هذا المعنى موقوف على أنّ العناوين السبعة المعروفة كما أنّها تحصل من النسب ، كذلك كانت حاصلة من الرضاع أيضا عند العرف ، كي يكون التنزيل بلحاظ الآثار والأحكام.

بمعنى : أنّ عنوان الأمّ - مثلا - يكون عنوانا عاما ، يحصل تارة من النسب أي الولادة ، وأخرى من الرضاع ، فيكون الموصول كناية عن تلك العناوين السبعة ، لأنّها هي التي حكم الشارع عليها في الآية الشريفة بالتحريم ، لا العناوين المستلزمة لإحدى تلك العناوين ، فإنّ الشارع لم يجعل عنوان أمّ ولد الولد مثلا ، أو عنوان أخت الأخ للأبوين ، وهكذا غيرهما من العناوين المستلزمة لأحد تلك العناوين موضوعا للحرمة أصلا ، فلا يشمل عنوان ما يحرم مثل تلك العناوين ، فالمراد ممّا يحرم هي موضوعات الحرمة في لسان الدليل ، وملازم الموضوع ليس بموضوع ، فليست تلك العناوين المستلزمة لأحد تلك العناوين ممّا يحرم في النسب كي يكون مما يحرم في الرضاع. وهذا واضح جدّا ، وإن وقع جماعة من المحقّقين في الاشتباه.

ثمَّ إنّ هذه القاعدة وإن كانت لا تشمل بعض الموارد ، كعنوان أخت الابن - مثلا

ص: 378

- ما لم تكن بنتا أو ربيبة ، ولكن وردت روايات تدلّ على عدم جواز نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، ولا في أولاد المرضعة (1) ، وإلاّ كان يجوز وإن كانت أختا للمرتضع من الرضاعة ، وبالنسبة إلى أبي المرتضع تكون أختا لابنه ، فلو لم تكن تلك الروايات كان مقتضى القاعدة - كما شرحنا - جواز نكاحها لأبي المرتضع ، لأنّها ليست بنتا له ولا ربيبة ، وقلنا : إنّ عنوان المحرّم هو البنت أو الربيبة ، لا عنوان أخت الابن ، وكانت حرمة أخت الابن في النسب من جهة ملازمتها مع عنوان البنت أو الربيبة ، وإلاّ فهو بنفسه ليس من المحرّمات.

وأمّا الروايات :

فمنها : صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : سأل عيسى ابن جعفر أبا جعفر الثاني علیه السلام : أنّ امرأة أرضعت لي صبيّا فهل يحلّ لي أن أتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لي :

« ما أجود ما سألت من ها هنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل ، هذا هو لبن الفحل لا غيره ». فقلت له : الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي هي ابنة غيرها؟ فقال : « لو كنّ عشرا متفرّقات ما حلّ لك شي ء منهنّ وكنّ في موضع بناتك ». (2)

ومنها : في الصحيح عن أيّوب بن نوح ، قال : كتب عليّ بن شعيب إلى أبي الحسن علیه السلام : امرأة أرضعت بعض ولدي ، هل يجوز لي أن أتزوّج بعض ولدها؟ فكتب علیه السلام : « لا يجوز ذلك لك ، لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك » (3).

ص: 379


1- « الكافي » ج 5 ، ص 441 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 320 ، ح 1320 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 723 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 296 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 10.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 441 ، باب صفة لبن الفحل ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ص 320 ، ح 1320 ، باب ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 723 ، باب انّ اللبن للفحل ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 296 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 10.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 476 ، ح 4668 ، باب الرضاع ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 321 ، ح 1324 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 32. « الاستبصار » ج 3 ، ص 201 ، ح 727 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 306 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 16 ، ح 1.

ومنها : ما روى الكليني - في الصحيح - عن عبد اللّه بن جعفر ، قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام : امرأة أرضعت ولد الرجل ، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقّع علیه السلام : « لا تحلّ له » (1).

فبناء على العمل بهذه الروايات ، تحرم الزوجة على زوجها لو أرضعت أمّها ولدها الذي من هذا الزوج ، لأنّ الزوجة تكون من أولاد صاحب اللبن ، فتحرم على أبي المرتضع الذي هو زوجها.

وممّا ذكرنا ظهر عدم حرمة إخوة المرتضع على أولاد الفحل ، أي صاحب اللبن ، لأنّ إخوة المرتضع تكون بالنسبة إلى أولاد صاحب اللبن أخوات أخيهم.

وليس أخت الأخ من العناوين المحرّمة في النسب كي يكون الرضاع مثله ، وهكذا بنات صاحب اللبن ليس محرّمات على أولاد أبي المرتضع ، لأنّهنّ أيضا بالنسبة إلى أولاد أبي المرتضع أخوات أخيهم وهذا العنوان ليس من العناوين السبعة المعروفة التي يكون التنزيل بين حصول هذه العناوين بالرضاع وبين حصولها من النسب ، بمعنى : أنّ حرمة النكاح التي رتّبها الشارع على هذه العناوين عند حصولها من النسب يرتّب على مثل هذه العناوين إن حصلت من الرضاع ، الذي استظهرناه من مثل قوله علیه السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (2).

فإنّ ظاهر الحديث النبوي - الذي رواه الفريقان - أنّ المراد من الموصول ، أي كلمة « ما » في قوله صلی اللّه علیه و آله : « ما يحرم من النسب » هذه العناوين المعروفة التي جعلها اللّه تبارك وتعالى في كتابه العزيز موضوعا لحرمة النكاح عليهنّ وتزويجهنّ من النسب ،

ص: 380


1- « الكافي » ج 5 ، ص 447 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 307 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 16 ، ح 2.
2- تقدم راجع ص 323 ، هامش رقم (2).

فحكم بحرمة هذه العناوين الحاصلة من الرضاع.

وبعبارة أخرى : جعل الرضاع مثل النسب في ترتّب حرمة النكاح على هذه العناوين الحاصلة منها.

وأمّا العناوين الملازم لهذه العناوين في النسب - كعنوان أخت الابن ، بحيث يكون الابن ابنا نسبيّا ، والأخت لذلك الابن أيضا إذا كان أختا نسبيّا - فلا محالة لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن تكون بنتا له إذا كانت الأخت اختيّته لذلك الابن باعتبار تولّدهما من هذا الأب ، وإمّا أن تكون ربيبة له إن كانت أختيّته باعتبار تولّدهما من أمّ واحد ، ولا يشتركان في الأب.

فالحرمة التي في أخت ابنه من جهة أحد الأمرين : إمّا من جهة أنّها ابنته ، أو من جهة أنّها ربيبته ، وإلاّ لم يجعل الشارع عنوان أخت الابن موضوعا للحرمة ، ولذلك لو فرضنا - محالا - وجود أخت ابن في النسب مع عدم كونها ربيبة ولا بنتا لا تحرم ولكن هذا وقوعه في النسب محال. وأمّا في الرضاع فليس بمحال ، كما قلنا إنّ بنات المرضعة أو بنات صاحب اللبن وان كنّ من غير المرضعة أخوات من الرضاعة للمرتضع ، وليست بنتا ولا ربيبة لأبي المرتضع ، ولذلك لو لم تكن تلك النصوص الخاصّة لم نقل بحرمتهنّ على أبي المرتضع. ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى إطالة الكلام.

الجهة السادسة

في أنّ الرضاع كما أنّه إن حصل أحد العناوين المحرمة به قبل النكاح والتزويج يكون موجبا لحرمة التزويج يكون موجبا لبطلان الزوجيّة ، كذلك لو حصل بعد التزويج - بمعنى : أنّه إن كانت زوجته غير محرّمة عليه لعدم تعنونها واتّصافها بأحد العناوين المحرّمة لا نسبا ولا رضاعا - أحد العناوين المحرمة بواسطة الرضاع يكون

ص: 381

موجبا لصيرورة الزوجة المحلّلة محرّمة.

كما أنّه في النسب لو فرضنا أنّه يمكن انقلاب عنوان المحلّل إلى أحد العناوين المحرّمة ، لكنّا نقول بالحرمة بعد. ما كانت محلّلة.

ولكن هذا الانقلاب في النسب لا يمكن ، بخلاف الرضاع ، فإنّه من الممكن أن لا تكون المرأة معنونة بعنوان محرّم ، ثمَّ يطرأ عليها عنوان المحرّم بواسطة الرضاع بعد التزويج.

ومعلوم أنّه متى ما وجد موضوع الحكم ، يترتّب الحكم عليه ، فالمائع الذي كان خمرا وكان نجسا وحراما شربه متى صار خلاّ يصير طاهرا ويكون شربه حلالا ، وكذلك الأمر في العكس متى صار الخلّ خمرا يصير نجسا ويكون شربه حراما ، فتغيير النسبة يرجع إلى تغيّر الموضوع ، غاية الأمر في النسب لا يمكن ، وفي العناوين الحاصلة من الرضاع يمكن.

والسرّ في ذلك : أنّ العناوين الحاصلة من النسب من لوازم الوجود ، ولا يمكن انفكاكها عن موضوعاتها ، بخلاف العناوين الحاصلة من الرضاع ، فإنّها ليست من لوازم الوجود.

وقد وردت في هذا المعنى - أي : في كون العنوان الحاصل من الرضاع اللاحق على النكاح محرّما - روايات :

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته فسد النكاح » (1).

فكلّ عنوان محرّم حصل من الرضاع بالنسبة إلى زوجته التي كانت قبل الرضاع زوجة له بالنكاح الصحيح يفسد نكاحه ، كما أنّ هذا العنوان لو كان حاصلا قبل

ص: 382


1- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 10 ، ح 1.

النكاح لكان يمنع عن التزويج بها.

فلا فرق بين أن يكون حصول العنوان المحرّم قبل التزويج ، أو بعده ، أو مقارنا له ، فلو تزوّج بصغيرة فأرضعتها أمّ ذلك الزوج ، يفسد نكاح الصغيرة ، لأنّها تصير أختا له ، إذ لا معنى للأخت إلاّ بنت الأبوين ، أو بنت أحدهما ، وها هنا زوجته الصغيرة بنتا لأمّه من جهة الرضاع كما أنّه لو أرضعتها جدة الزوج - أي أمّ أبيه - تصير عمّة له ، لأنّها تصير بواسطة إرضاع أمّ أبيه لها أختا لأبيه ، فتكون عمّة له ، لأنّه لا معنى للعمّة إلاّ كونها أختا لأبيه ، كما أنّه لو أرضعتها جدّته - أي أمّ أمّه - تصير خالته ، لأنّها بإرضاع أمّ أمّه لها تصير بنتا للجدّة ، فتكون أختا لأمّه ، وهذا معنى الخالة.

ومعلوم أنّه في جميع هذه الصور يفسد نكاح الصغيرة بواسطة الرضاع الطارئ واللاحق.

فهاهنا نذكر فروعا للرضاع اللاحق على العقد الذي صار سببا لفساد النكاح السابق :

منها : أنّه لو كان له زوجتان إحديهما صغيرة ، والأخرى كبيرة ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة تحرم الكبيرة ، لأنّها تصير أمّ زوجته ، وكذلك تحرم الصغيرة إن كان رضاعها من لبنه ، أو دخل بالكبيرة وإن لم يكن من لبنه ، لكونها بنتا له في الأوّل ، وربيبة - أي بنت زوجته المدخول بها - في الثاني.

وليس حرمة الكبيرة موقوفا على كون المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ ، يتوهّم أنّ ظرف حصول الأمومة ظرف سقوط الزوجيّة ، فلا يمكن حصول هذا العنوان إلاّ في ظرف سقوط الزوجيّة بواسطة الرضاع المحرّم ، فلا تجتمع الأمومة مع الزوجيّة في زمان كي يصدق عليها عنوان أمّ الزوجة ، إلاّ بناء على كون المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ.

ص: 383

وفيه : أنّ سقوط زوجية الصغيرة معلول لإتيان عنوانها المحرّم ، وهي البنتيّة على تقدير ، وكونها ربيبة دخل بأمّها على تقدير آخر ، وهذان العنوانان مع عنوان الأمومة للكبيرة من قبيل المتضايفين وفي رتبة واحدة ، وفي تلك الرتبة زوجيّة الصغيرة لم تسقط ، لما قلنا من أنّ سقوطها من ناحية البنتيّة وكونها ربيبة اللتان في عرض أمومة الكبيرة ، فانفساخ الزوجيّة متأخّر رتبة عن الأمومة ، وهذا المقدار يكفي في صدق عنوان أمّ الزوجة الذي هو موضوع حرمة النكاح.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المدار على حصول الأمومة في زمان كونها زوجة ، بمعنى أنّ « أمّ الزوجة » أو عنوان « أمّهات نسائكم » عند العرف عبارة عن أمّ المرأة التي تكون زوجة في زمان الذي هي أمّ لها وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لما قلنا من أنّ حصول نسبة الأمومة للمرضعة في زمان حصول نسبة البنتيّة - أو كونها ربيبة - للمرتضعة ، فزمان البنتيّة وكونها ربيبة متّحد مع زمان الأمومة ، فلو كانت الزوجيّة أيضا حاصلة في زمان حصول الأمومة يرجع إلى أن تكون بنتا أو ربيبة ، مع كونها زوجة في زمان واحد ، وهذا ممّا لا يمكن وواضح الفساد.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في التحريم عنوان أمّ من كانت زوجته ، غاية الأمر في باب النسب لا ينفكّ هذا العنوان عن اجتماع الأمومة مع الزوجيّة وإن كان زمان الاجتماع قليلا ، لأنّ الأمومة في النسب إذا كانت حاصلة في مورد تكون من أوّل وجود البنت إلى الأبد ، فلا محالة في أيّ زمان حصلت زوجيّتها تكون أمومة الأخرى أيضا موجودة ، ولكن في الأمومة الحاصلة من الرضاع ليس الأمر كذلك ، لأنّه من الممكن حصول الزوجيّة في زمان - مع عدم وجود أمومة المرضعة - ثمَّ تحصل الأمومة بواسطة الرضاع المحرّم ، مع عدم كونها زوجة في ذلك الزمان ، وإلاّ تكون حرمة المرضعة متوقّفة على كون المشتقّ حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ.

ومنها : أنّه لو كانت زوجة أحدهما كبيرة ، وزوجة الآخر صغيرة ، فطلّق كلّ واحد منهما زوجته وتزوّج بزوجة الآخر ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة ، فبناء على ما

ص: 384

قلنا من تحريم أمّ من كانت زوجته مثل تحريم أمّ الزوجة الفعلية ، فتحرم الكبيرة على الاثنين ، أمّا على زوجها الفعلي ، لأنّها بالرضاع المحرّم صارت أمّ من كانت زوجته ، أي قبل أن يطلّقها. وأمّا بالنسبة إلى زوجها السابق ، لأنّها أمّ من هي زوجته فعلا.

وإن كنّا أشكلنا على هذا في الفرع السابق بأنّ ظرف حصول الأمومة ظرف سقوط الزوجيّة ، والحقّ : أنّ في كليهما - أي : الزوج الفعلي والزوج السابق - منشأ التحريم هو أنّها - أي الكبيرة المرضعة - تصير أمّ من كانت زوجته قبل حصول الأمومة ، لأنّ حال حصولها حال سقوط الزوجيّة.

هذا بالنسبة إلى الكبيرة. وأمّا بالنسبة إلى الصغيرة ، فحرمتها على الزوج السابق واضح ، لأنّها تصير بنتا له بالرضاع إن كان اللبن لبنه ، وأمّا إن لم يكن اللبن لبنه ، فالحرمة جمعا أيضا واضح ، سواء دخل بزوجته الكبيرة المرضعة أم لا ، لأنّه لا يجوز الجمع بين الربيبة وأمّها وإن لم يدخل بأمّها.

وأمّا حرمتها - ولو في صورة الانفراد بها بأن يطلّق أمّها الرضاعيّة ، ويتزوّج بها - فمشروط بالدخول بها ، أي بالكبيرة المرضعة ، وإلاّ فلا.

وأمّا بالنسبة إلى زوجها الفعلي ، فإن كان اللبن لبنه فالحرمة من جهة أنّها تصير بنته الرضاعيّة. وأمّا إن لم يكن اللبن لبنه ، فمع الدخول سابقا بالكبيرة التي كانت زوجته أيضا ، تحرم الصغيرة ، لأنّها بنت زوجته المدخولة بها ، ومع عدم الدخول تحرم جمعا مع أمّها ، وأمّا انفرادا فلا.

ومنها : أنّه لو كانت له أمة موطوءة فأرضعت زوجته الصغيرة ، أمّا الأمة فتحرم عليه على كلّ حال ، لأنّها أمّ زوجته.

والإشكال بأنّها لا تصير أمّا للمرتضعة إلاّ بعد سقوط زوجيّتها بالرضاع المحرم - فلا يتحقّق عنوان أمّ الزوجة في الخارج - أجبنا عنه فلا نعيد.

وأمّا زوجته الصغيرة فهي أيضا تحرم ، لأنّها بواسطة هذا الرضاع المحرّم تصير إمّا

ص: 385

بنتا له - لو كان اللبن له - وإمّا ربيبته ، لأنّها بنت الرضاعي لامرأة دخل بها بوطي شرعي.

بقي الكلام في مسألة مهر هذه الزوجة الصغيرة التي سقطت زوجيّتها بواسطة الرضاع ، هل تستحقّ تمام المهر أو نصفها - بناء على أن يكون مثل الطلاق قبل الدخول ، لأنّ الصغيرة التي سقطت زوجيّتها بواسطة الرضاع غير مدخولة بها - أو لا تستحقّ شيئا منه؟ وجوه وأقوال :

والأظهر هو استحقاق تمام المهر ، لما هو المختار من صيرورة المهر ملكا لها بنفس العقد ، ولذلك قالوا : إنّ الطلاق قبل الدخول موجب لرجوع نصف المهر إلى الزوج بناقل جديد ، وهو الطلاق قبل الدخول ، فإذن استحقّت الصغيرة بنفس العقد تمام المهر ، وسقوطه كلاّ أو نصفا يحتاج إلى دليل حاكم على استصحاب بقاء ملكيّتها لها ، وليس شي ء في البين إلاّ استحسانات قياسيّة التي لا اعتبار بها.

مثل أن يقال : كما أنّ الطلاق قبل الدخول يوجب التنصيف فهاهنا أيضا ذلك الملاك موجود ، وهو سقوط الزوجيّة قبل أن يدخل بها وبعبارة أخرى : ذهاب الزوجيّة قبل أن ينتفع منها صار سببا للتنصيف ، وفيما نحن فيه يكون الأمر أيضا كذلك ، فإنّ الرضاع المحرّم صار سببا لذهاب الزوجيّة قبل أن ينتفع منها.

ولا شكّ في أنّ هذا قياس باطل في مذهبنا ، بل الدليل على التنصيف هي الآية الشريفة (1) والأخبار الشارحة لها (2) ، فالظاهر هو استحقاقها لتمام المهر ، لأنّ القول بالتنصيف قياسا على الطلاق قبل الدخول باطل.

وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر قدس سره من القول بسقوط المهر مستندا إلى المشهور (3) -

ص: 386


1- البقرة (2) : 237.
2- « البرهان في تفسير القرآن » ج 1 ، ص 228 ، الأحاديث 1 - 4.
3- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 325.

بل ربما يظهر من عبارته عدم وجدانه الخلاف صريحا إلاّ ما عن التذكرة بأنّ السقوط أقوى (1). قال : ولعلّه يؤذن باحتمال عدم السقوط - فعلى كلّ حال مستندهم في سقوط المهر هو أنّ انفساخ العقد - وانحلاله.

وان شئت قلت بطلانه - يقتضي رجوع كلّ ما انتقل منه إلى طرفه إليه ثانيا ، بمعنى : عوده إليه ، وذلك من جهة أنّ بقاء كلّ من العوضين على ملك من انتقل إليه موقوف على بقاء العقد واستمراره ، إذ أنّ بقاء الأثر تابع لبقاء مؤثرة وعلته ، وتبعية المعلول لعلّته حدوثا وبقاءا - كاد أن يكون من البديهيات ، ولذلك ترى أنّ كلّ عقد تعقبه الفسخ - بإقالة أو خيار - يرجع كلّ مال إلى صاحبه قبل العقد ، ففساد العقد من أيّ سبب كان نتيجته ارتفاع آثار العقد من حين البطلان والفساد.

ولا شكّ في أنّ ثبوت المهر من آثار صحّة عقد النكاح. نعم النماء الذي وجد للمهر إلى حين الفساد هي للمرتضعة ، لما قلنا إنّ ارتفاع آثار العقد من حين وقوع الفساد لا من أوّل الأمر ، فإذا ارتفع العقد وصار النكاح فاسدا وباطلا ، فقهرا يرتفع أثره الذي هو عبارة عن ثبوت المهر.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام.

ولكن أنت خبير بأنّ باب النكاح ليس من قبيل باب المعاوضات بالنسبة إلى الزوجيّة والمهر ، بحيث يكون التعهّد من طرف الزوج بأن يكون المهر الذي هو ملك الزوج يكون للزوجة على أن تكون زوجيّتها أو بضعها للزوج عوض المهر ، بحيث يكونان - أي : الزوج والزوجة - يتبادلان بين المهر والبضع أو الزوجيّة.

وذلك من جهة أنّ حقيقة عقد النكاح عبارة : عن تعهّد الزوجة بأن تكون زوجة للرجل ، فالمنشأ في عقد النكاح في الإيجاب هي زوجيّة المرأة لزوجها ، وحيث أنّها من الأمور الاعتباريّة قابلة للجعل والإنشاء ، وفي القبول يتعهّد الزوج قبول هذه

ص: 387


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 325.

الزوجيّة المنشأة من قبل الزوجة أو وكيلها أو وليّها ، والالتزام بلوازمها وأحكامها ، وليس معاوضة في البين أصلا.

ولو كان من قبيل المعاوضات كان لازمه سقوط مهر المسمّى بعد فساد النكاح بالرضاع المحرّم ، حتّى وإن كانت التي فسد نكاحها هي الكبيرة المدخولة. ولا يمكن القول به فيما لا يكون الفساد من قبلها ، بل بثبوت المهر في النكاح حكم شرعي ، فإن عيّنوا في العقد فهو ، وإلاّ فالشارع حكم بمهر المثل ، فليس مقتضى انفساخ العقد وبطلانه رجوع المهر إلى الزوج بعد ذهاب الزوجيّة ، وقياس فساد النكاح بباب فسخ المعاوضات وانفساخها - كما صدر عن صاحب الجواهر قدس سره (1) - ليس في محلّه.

فالأظهر - كما قلنا - أنّ المهر صار ملكا للزوجة بنفس العقد ، غاية الأمر ملكا متزلزلا لا مستقرّا ، واستقراره بأحد أربعة أشياء : إمّا الدخول ، وإمّا ارتداد الزوج ، أو موته أو موت الزوجة ، وهذا حكم الشارع في المهر ، وليس فساد النكاح وسقوط الزوجيّة من أسباب سقوط المهر. ولو شكّ في بقائه بعد فساد العقد وبطلان النكاح يستصحب ، إلاّ أن يأتي دليل حاكم على هذا الاستصحاب ، وليس في المقام شي ء من هذا القبيل.

نعم ها هنا فرع آخر ، بل فروع ذكرها صاحب الجواهر قدس سره وهو أنّ : المرتضعة لو ارتضعت من ثدي المرضعة من قبل نفسها بدون مداخلة المرضعة بل بدون التفاتها وشعورها بذلك ، كما أنّها لو كانت نائمة ، أو مثل النوم ممّا يوجب عدم الالتفات كالإغماء مثلا وسعت هي - أي : المرتضعة - وامتصّت ثديها ، فهل يكون لها مهر ، أم لا؟ بل يسقط حتّى على القول بعدم سقوط المهر لو لم يكن الارتضاع من قبل نفسه ، بل أرضعتها الكبيرة ، وذلك من جهة أنّها هي التي أفسدت النكاح من دون مدخليّة الكبيرة في ارتضاعها ، فهي التي فوتت منافع الزوجيّة على زوجها ، فلا تستحقّ المهر

ص: 388


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 325.

الذي هو في الحقيقة مقابل البضع (1).

ولكن أنت خبير بأنّه بناء على ما ذكرنا وتقدّم ، ليست الزوجيّة ولا البضع مالا كي يكون إتلافهما موجبا للضمان ، ولو كان من غير قصد وشعور ، ولا يقابلانه كي يكون إتلافهما موجبا لرجوع مقابلهما - أي المهر - إليه.

نعم يمكن أن يتمسّك في بعض الموارد بقاعدة لا ضرر ، بأن يقال مثلا - فما إذا أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة بقصد بطلان زوجية نفسها وزوجيّة الصغيرة ، فحكم الشارع ببقاء المهر ، وعدم سقوطه ضرر على الزوج ، لأنّ بقاء المهر إن كان مع بقاء الزوجيّة ، ففي نظر العرف ليس ضررا ، والعقلاء يقدمون على ذلك وإن لم يكن كذلك ، بمعنى أنّ المهر كان باقيا في عهدته ، أو كان متعيّنا في عين خارجي وكانت خارجة عن تحت ملكيّة الزوج مع عدم الزوجيّة وبطلانها ، فهي خسارة عندهم.

إن قلت : هذه الخسارة نشأت من إقدام الزوج ، والحديث (2) لا يشمل هذا الضرر ، بل التحقيق - كما بيّنّا في محلّه - أنّ حديث « لا ضرر » يرفع الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، وها هنا لم ينشأ الضرر من قبل حكم الشارع ببقاء المهر ، بل نشأ من إقدامه على جعل هذا المقدار من ماله مهرا وإخراجه عن ملكه.

قلت : إقدامه على إخراج هذا المقدار من ماله وصيرورته ملكا للزوجة مبنيّ على دوام الزوجيّة وعدم بطلانها ما دام حيّين ، ولم يقدم على إعطاء المهر لزوجيّة يوم بلا أيّ انتفاع في البين ، فحكمه ببقاء المهر في ظرف سقوط الزوجيّة ضرريّ ، ولا شكّ في أنّ هذا الضرر نشأ من قبل حكم الشارع ، لا من اقدام الزوج.

ولكن مع ذلك كلّه التمسّك بقاعدة لا ضرر لسقوط المهر لا يخلو من نظر وتأمّل ،

ص: 389


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 324 ، في أحكام الرضاع ، المسألة الرابعة.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 292 ، باب الضرار ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 364 ، أبواب الخيار ، باب 17 ، ح 3 - 4.

بل لا يخلو من غرابة ، وذلك من جهة أنّ الشارع لم يحكم ببقاء المهر في ظرف سقوط الزوجيّة وذهابها كي يكون هذا الحكم المجعول ضرريّا ، بل الشارع حكم بأنّ الزوجيّة بدون المهر لا يمكن ، وأيضا حكم أنّ مهر المسمّى به في العقد يدخل في ملك الزوجة ، وأيضا حكم ببقاء الملكيّة لمالكه ولا يخرج إلاّ بناقل شرعي ، فإذا جاء دليل وناقل شرعي على خروج المهر تماما ، أو بعضه عن ملك الزوجة ، فهو كما أنّه في الطلاق قبل الدخول جاء الدليل على خروج نصف المهر عن ملكها ورجوعه إلى الزوج ، وأيضا في ارتداد الزوجة برجوع الجميع ، فهذه الأحكام الثلاثة - أي : حكمه بلزوم المهر ، وحكمه بدخول المهر في ملك الزوجة بمحض العقد ، وحكمه ببقاء كلّ مال في ملك مالكه وعدم خروجه عنه إلاّ بناقل شرعي ، أو جاء دليل على سقوط ملكيّته - ليس واحد منها ضرريّا كي يرتفع بقاعدة لا ضرر.

وأمّا القول : بأنّ هذه الخسارة وقعت بفعلها - أي الكبيرة - لأنّها أرضعت ، أي إذا كان حصول الرضاع بفعل الكبيرة بغير أمر الزوج بل بدون رضاه ، أو بفعل الصغيرة كما إذا ارتضعت من قبل نفسها ، أي إذا كان حصول الرضاع بفعل الرضيعة من دون مدخليّة الكبيرة ، كما إذا كانت الكبيرة نائمة وهي سعت إليها وارتضعت ، فيجب أن تغرم للزوج الكبيرة أو الصغيرة. وبعبارة أخرى : التي سببت حصول الرضاع المحرّم ، سواء أكانت الغرامة مساوية للمهر أو أكثر أو انقص هي إحديهما.

ففيه أوّلا : أنّ هذا غير سقوط المهر وعدمه الذي هو الآن محلّ الكلام.

وثانيا : ليس كلّ إضرار يتدارك بالمال ، بل لا بدّ أن ينطبق عليه أحد أسباب الضمان من الإتلاف ، أو يد العادية ، أو غير ذلك من أسبابه. وفيما نحن فيه إرضاع الكبيرة أو ارتضاع الصغيرة - بدون مدخليّة الكبيرة - لا يوجب تلف مال كي يكون ضامنا لذلك التالف ، لأنّ الزوجيّة ليست من الأموال ، والبضع وإن كان في بعض الموارد يقابل بالمال ، ولكن مع ذلك ليس من الأموال كي يكون تفويته موجبا للضمان.

ص: 390

وممّا ذكرنا ظهر لك حال الفروع الأخر التي ذكروها في هذا المقام ، مثل ما ذكروا فيما إذا كانت مختارة في الإرضاع بدون ملزم شرعي ، كما إذا خافت على حياة الرضيعة إن لم ترضعها ، وكذا بدون إجبار أو إكراه وأمثال ذلك ممّا يخرجها عن الاختيار والاستقلال ، هل للزوج أن يرجع إليها فيما يغرمه من المهر للرضيعة أم لا ، بناء على عدم السقوط؟ ووجّهوا الرجوع إليها بأنّها سببت فوات زوجيّة الرضيعة والانتفاع بها.

وذلك لما عرفت من عدم كون الزوجيّة أو البضع مالا كي يكون إتلافهما موجبا للضمان.

وأيضا ما ذكروا من أنّ الرضيعة لو سعت إليها وامتصت ثديها وهي مكّنتها ولم تمنعها ، هل هذا التمكين بمنزلة فعلها وإرضاعها استقلالا ، فعليها غرامة جميع ما يؤدّي الزوج للصغيرة أو ينصف بينهما؟

بمعنى أنّ نصف المهر يسقط بواسطة سعي الصغيرة بنفسها إليها وارتضاعها من لبنها ، فسقوط الزوجيّة بفعلها ، فلا تستحقّ نصف المهر لشركتها مع الكبيرة في إسقاط الزوجيّة ، والنصف الآخر تغرمه الكبيرة لشركتها في إسقاط الزوجيّة بتمكينها الرضيعة من الامتصاص والارتضاع.

ولكن أنت خبير بأنّ جميع هذه الوجوه والكلمات ظنون استحسانيّة غير معتبرة لا ينطبق على قواعد باب الضمان ، وعرفت أنّه لا وجه لسقوط المهر.

هذا كلّه بالنسبة إلى المرتضعة الصغيرة ، وأمّا المرضعة الكبيرة التي سقطت زوجيّتها وبطل نكاحها بواسطة الرضاع المحرّم ، فإن كان الزوج دخل بها فلا مورد للشكّ في ثبوت مهرها وعدم سقوطه ، وأمّا إن لم تكن مدخولة وفسد نكاحها بالرضاع المحرّم - وكان إرضاعها باختيارها بدون ملزم شرعي ولا إجبار ولا إكراه - فربما يقال بسقوط مهرها ، لأنّها سببت سقوط زوجيّتها من دون إجبار ولا إكراه

ص: 391

ولا ملزم شرعي في البين ، فيكون حالها حال المرتدة قبل الدخول ، وقد أفتى بذلك سيّدنا الأستاذ قدس سره في كتابه وسيلة النجاة (1).

ولكن أنت خبير بأنّ إجراء حكم المرتدة قبل الدخول عليها قياس باطل اللّهمّ إلاّ أن يكون إجماع على السقوط في هذه الصورة ، وإلاّ قد عرفت أنّ مقتضي القواعد الأوليّة عدم السقوط مطلقا ، وعدم ضمان المرضعة مطلقا.

الجهة السابعة

في أنّه كما أنّ العناوين السبعة النسبيّة المعروفة المذكورة في الآية الشريفة - وهي الأمّ والبنت والأخت والعمّة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت - إن حصلت بالرضاع ، تكون موجبة للحرمة كذلك أربع عناوين أخر ، أي عنوان حليلة الابن ، وعنوان أمّ الزوجة ، وعنوان زوجة أبيه ، وعنوان الربيبة بشرط الدخول بأمّها ، لأنّ هذه العناوين الأربعة أيضا ممّا حرّم اللّه نكاحهنّ ، ومذكورات في الكتاب العزيز.

غاية الأمر : أنّ العناوين المحرّمة على قسمين : قسم منها تارة يحصل بالنسب وحدها ، وأخرى بالرضاع وحده - كعنوان الأمّ والبنت والأخت - وقسم منها لا يحصل بالرضاع وحده ، بل لا بدّ من انضمام نسب أو سبب إليه ، كالعناوين الأربعة المتقدّمة ، فإنّ هذه العناوين الأربعة لا تحصل بالرضاع وحده ، ولا بد في تحقّقها من وجود سبب في البين ، كما أنّها لا تحصل بالنسب وحده أيضا.

والحاصل : أنّ العنوان الذي جعل الشارع موضوعا لحرمة النكاح ، كما أنّه لو حصل بالنسب وحده ، أو به وبالنسب مركّبا منهما - كالعناوين الأربعة المتقدّمة - يكون محرّما ، كذلك لو حصل بالرضاع وحده ، أو به وبالسبب مركّبا منهما كالعناوين الأربعة المذكورة ، يكون محرّما ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب »

ص: 392


1- « وسيلة النجاة » ج 2 ، ص 373 ، كتاب النكاح ، القول في الرضاع ، مسألة : 14.

ولا يلزم أن يكون حصول العنوان بالرضاع وحده.

ولكن فليعلم أنّه في الموضوعات المركّبة من السبب والنسب إنّما يقوم الرضاع مقام ما هو دخيل في الموضوع باعتبار النسب ، لا باعتبار السبب ، مثلا في الموضوعات الأربعة المذكورة ، كحليلة الابن مثلا ، حيث أنّه مركّب من أمرين : أحدهما نسب وهو أنّ الزوج ابن له ، والآخر أنّ هذه المرأة حليلة وزوجته ، فالابن الرضاعي يقوم مقام ابن النسبي.

وأمّا كون هذه المرأة حليلته لا بدّ وأن يتحقّق بسببه ، ولا يمكن أن يحصل بالرضاع ، كما أنّه لا يحصل بالنسب أيضا.

والحاصل : أنّ معنى قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » أنّ كلّ ما تحرم بواسطة النسب - أي : العنوان الحاصل من النسب ، سواء أكان جزء للموضوع ، أو كان تمام الموضوع - يقوم مقامه ذلك العنوان إذا حصل من الرضاع ، فإن كان ذلك العنوان الحاصل من النسب تمام الموضوع ، يكون الحاصل عن الرضاع أيضا تمام الموضوع ، وإن كان جزءا فيكون هو أيضا كذلك ، ويحتاج في ترتيب حكمه إلى وجود جزئه الآخر بسببه.

ثمَّ إنّ الموضوع المركّب تارة يكون الجزء ان حاصلين من النسب ، كبنت الأخ والأخت ، فيقوم الرضاع مقام الاثنين ، فالأخ والأخت الرضاعيين إذا كان لكلّ واحد منهما بنت رضاعي ، تكون كالبنت النسبي للأخ والأخت النسبيين ، غاية الأمر برضاعين : رضاع لحصول الأخية أو الأختيّة ، ورضاع آخر لحصول البنتيّة. وأخرى : أحدهما من النسب والآخر من الرضاع ، كالبنت الرضاعي للأخ النسبي أو لأخت النسبي ، أو بالعكس كالبنت النسبي للأخ أو الأخت الرضاعيين.

والحاصل : أنّ الإضافة الحاصلة بين شخصين أو الأشخاص قد يحصل من النسب ، أي الولادة من أب وأمّ أو من أحدهما ، وقد يحصل من الرضاع ، أي من

ص: 393

الارتضاع من ثدي امرأة لبنها يكون من فحل بالشرائط المتقدّمة ، بمعنى أنّه تحصل إضافة بين المرتضع والمرضعة ، وبينه وبين صاحب اللبن ، وحيث أنّ الإضافة من الطرفين وليست متشابهة الأطراف ، كإضافة الأخ إلى الأخ أو الأخت إلى الأخت ، فإنّ الإضافة في الأوّل من الطرفين يعبّر عنها بالأخوّة ، وفي الثاني من الطرفين يعبّر عنها بالأختيّة ، فكلّ واحدة منهما أخت بالنسبة إلى الأخرى.

وتحصل إضافة بين المرتضع وبين أب المرضعة ، وبينه وبين أمّها ، وبينه وبين أخ المرضعة ، وبينه وبين أخت المرضعة ، وهكذا سائر أقارب المرضعة النسبيين لها أو الرضاعيين ، فالإضافة التي تحصل بين المرضعة وبينه تسمّى من طرفه ابنا إن كان المرتضع ذكرا ، أو بنتا إن كانت أنثى ، ومن طرف المرضعة تسمّى أمّا. وهذه الإضافة تسمّى متخالفة الأطراف.

والإضافة التي تحصل بينه وبين صاحب اللبن أيضا متخالفة الأطراف ، ومن طرفه تسمّى ابنا ، ومن طرف صاحب اللبن تسمّى أبا ، والإضافة التي تحصل بينه وبين أخوة صاحب اللبن من طرفهم تسمّى عمّة أو عمّا ، ومن طرف المرتضع تسمّى بابن الأخ أو ابنته ، كما أنّ الإضافة التي تحصل بينه وبين أب صاحب اللبن أو أمّه من طرفهما تسمّى بالجدّ والجدّة ، ومن طرفه تسمّى بالحفيد أو الحفيدة.

والإضافة التي تحصل بينه وبين أب المرضعة أو أمّها من طرفهما أيضا تسمّى بالجدّ أو الجدّة ، ومن طرفه بالسبط أو الحفيدة.

وهكذا بالنسبة إلى سائر الإضافات الحاصلة من النسب تحصل من الرضاع أيضا مثلها ، ويكون الاسم مثل ذلك الاسم.

والفرق أنّ العناوين الحاصلة من النسب ينسب إلى النسب ، والحاصلة من الرضاع ينسب إلى الرضاع ، ففي الأوّل يقال : الأب والأمّ والابن والبنت والأخ والأخت والعمّ والعمّة والخال والخالة والجدّ والجدّة النسبيون ، وفي الثاني يقال أيضا

ص: 394

بنفس تلك العناوين والأسماء ، ولكن بإضافة قيّد الرضاعيّون.

والحاصل : أنّ كلّ إضافة تحصل بين شخصين أو أشخاص بواسطة النسب - أي : الولادة من أب وأمّ ، أو الولادة من أحدهما - تحصل من الرضاع أيضا ، أي من الامتصاص من ثدي امرأة ذات لبن بالشرائط المتقدّمة ، فإذا كان ذلك العنوان الحاصل من النسب موضوعا للحرمة ، فمثل ذلك العنوان إذا حصل من الرضاع أيضا يكون موضوعا لحرمة النكاح ، وإذا كان ذلك العنوان النسبي الذي هو موضوع لحرمة النكاح مركّبا من جزئين ، كلاهما حاصلان من النسب ، فالرضاع يقوم مقام كلّ واحد منهما ، غاية الأمر برضاعين.

وأمّا إذا كان أحد الجزئين يحصل من النسب والآخر من السبب ، فالرضاع يقوم مقام الجزء الذي يحصل من النسب ، وأمّا الجزء الآخر الذي يحصل من السبب ، فلا بدّ من حصوله بسببه ، كي يتمّ الموضوع ، وذلك من جهة أن التنزيل في باب الرضاع باعتبار النسب ، كما تقدّم مفصّلا.

وأمّا العناوين التي لم تجعل موضوعا للحرمة - ولكنّها في النسب لا تنفكّ عن أحد العناوين المحرّمة ، وتستلزمها إذا حصلت من الرضاع ، كعنوان أخت البنت مثلا ، حيث أنّه في النسب لا تنفكّ عن كونها إمّا بنتا وإمّا ربيبة مدخولة بأمّها ، وكلاهما من العناوين المحرّمة - فلا توجب التحريم من جهة حصول هذا العنوان ، إلاّ أن يكون هناك دليل آخر على التحريم ، كما أنّه في المثل المذكور ورد : « لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن » (1).

ولكن جماعة قالوا : بأنّها أيضا توجب التحريم ، وهذا هو المعروف عندهم بعموم المنزلة.

ص: 395


1- تقدم راجع ص 361 ، هامش رقم (1).

ولنذكر فروعا يختلف الفتوى عند من يقول بعموم المنزلة وعند من لا يقول وينكر عموم المنزلة ، وإن تقدّم الكلام فيها مفصّلا.

الأوّل : ما تقدّم من المثال ، أعني زوجتك لو أرضعت بلبنك أختها ، فتصير تلك الأخت بنتك الرضاعيّة ، فتصير زوجتك أخت بنتك الرضاعيّة ، وأخت البنت في النسب تستلزم أحد العنوانين المحرّمين ، أي إمّا بنته أو ربيبته المدخولة بأمّها ، وكلاهما من العناوين المحرّمة ، فمن يقول بعموم المنزلة يقول بالتحريم ، ومن لا يقول بعموم المنزلة لا يقول بالتحريم ، وقد بيّنّا فيما تقدّم بطلان عموم المنزلة.

الثاني : لو أرضعت زوجتك بلبنك ابن أخيها أو بنت أخيها ، فذلك الابن أو البنت يصير ابنك أو بنتك ، فتصير زوجتك عمّة لولدك الرضاعي ، وعمّة الولد في النسب ملازمة مع العنوان المحرّم ، أي أخت الإنسان ، فلو قلنا بعموم المنزلة تصير زوجته حراما عليه ، وإلاّ فلا.

الثالث : لو أرضعت زوجتك بلبنك عمّها أو عمّتها أو خالها أو خالتها ، فتصير أمّ هؤلاء ، وعنوان أمّ عمّ الزوجة أو أمّ عمّتها في النسب ملازم مع كونها جدّة للزوجة من طرف الأب ، وهو عنوان محرّم ، وكذلك أمّ خال الزوجة وخالتها في النسب ملازم مع كونها جدّة الزوجة من طرف الأمّ ، وهو عنوان محرّم ، فإذا قلنا بعموم المنزلة تصير تلك الزوجة حراما على زوجها ، وإلاّ فلا.

الرابع : لو أرضعت زوجتك بلبنك أحد أولاد عمّها ، أو أحد أولاد خالها ، فتصير أبا لهم ، أي أبا لابن عمّها وأبا لابن خالها ، وفي النسب عنوان أب ابن عمّ الزوجة ملازم مع كونه عمّا لها ، وعنوان أب ابن خالها ملازم مع كونه خالا لها ، فتصير زوجها عمّا أو خالا لها ، وبناء على صحّة عموم المنزلة فإذا قلنا بصحّة عموم المنزلة تكون تلك الزوجة حراما على زوجها ، وإلاّ فلا.

الخامس : لو أرضعت زوجتك أخاك أو أختك لأبويك ، فتصير أمّا لهما ، أي أمّ

ص: 396

أخيك أو أمّ أختك لأبوين ، ولا شكّ في أنّ هذين العنوانين في النسب ملازمان مع كونها أمّا له ، فلو حصلا من الرضاع وقلنا بعموم المنزلة - تصير زوجته في المفروض حراما ، لصيرورتها بمنزلة أمّ النسبي. وأمّا إن لم نقل به فلا تحرم ، لأنّ عنوان أمّ الأخ الأبويني أو أمّ الأخت الأبويني لم يجعل في النسب موضوعا لحرمة النكاح ، وإن كان كلّ واحد منهما ملازم مع العنوان المحرّم ، أي عنوان الأمّ.

السادس : لو أرضعت زوجتك ابن ابنتك ، أو ابنة ابنتك ، فتصير أمّا لكلّ واحد منهما ، ولا شكّ أنّه في النسب هذان العنوانان ، أي عنوان أمّ ابن البنت ، أو عنوان أمّ بنت البنت ملازمان لكونها بنتا له ، ولكن نفس هذين العنوانين لم يجعلا موضوعا للحرمة.

فإن قلنا بعموم المنزلة تصير زوجتك حراما عليك ، لأنّها تصير بمنزلة ابنتك النسبي ، وإن لم نقل فلا تحرم ، لأنّ هذين العنوانين الحاصلين من الرضاع المفروض ، أي : عنوان أمّ ابن البنت ، أو عنوان أمّ بنت البنت ليسا من العناوين المحرّمة ، وإن كانا ملازمين في النسب للعنوان المحرّم ، أي البنتيّة.

السابع : لو أرضعت زوجتك ابن أختك أو بنتها ، فتصير أمّ ابن أختك أو أمّ ابنة أختك ، ومعلوم أنّه في النسب هذان العنوانان ملازمان للأختيّة التي هي من العناوين المحرّمة ، وإن لم يكونا بنفسهما من العناوين المحرّمة.

فإن قلنا بعموم المنزلة تصير زوجتك حراما عليك ، لأنّها تصير بمنزلة أختك للنسب ، وإن لم نقل - كما أوضحناه فيما تقدّم - فلا تحرم ، لأنّ العنوانين الحاصلين من الرضاع ليسا من العناوين المحرّمة.

الثامن : لو أرضعت زوجتك عمّك أو عمّتك أو خالك أو خالتك ، فتصير أمّا لهم من الرضاعة ، ولا شكّ في أنّ عنوان أمّ العمّ وعنوان أمّ العمّة في النسب ملازمان لكونها جدّة للإنسان من طرف أبيه ، إن كان العمّ والعمّة مع أبيه من أمّ واحدة ، وكذا

ص: 397

عنوان أمّ الخال وأمّ الخالة في النسب ملازمان لكونها جدّة من طرف أمّك ، إن كان الخال والخالة مع أمّك من أمّ واحدة.

فإن قلنا بعموم المنزلة فتصير زوجتك حراما عليك ، من جهة أنّها تصير بمنزلة جدّتك من طرف أبيك ، أو جدّتك من طرف أمّك ، وهما من العناوين المحرّمة ، أي يكونان من مصاديق عنوان الأمّهات. وأمّا إن لم نقل بعموم المنزلة فلا تحرم ، لأنّ عنوان أمّ العمّ والعمّة والخال والخالة ليس من العناوين المحرّمة ، وإن كانت ملازمة لعنوان المحرّم.

ولا يخفى أنّه جميع الأمثلة المذكورة الثمانية من قسم لحوق الفساد بواسطة الرضاع المحرّم للعقد الصحيح ، كما أنّه لو فرضنا أنّ المرضعة ليس امرأة للشخص المفروض ، بل أجنبيّة عنه ، ويجوز نكاحها ، فبعد الرضاعات المذكورة تصير محرّمة ، فيمنع الرضاع عن وقوع النكاح الصحيح.

الجهة الثامنة : في طريق إثبات الرضاع

اشارة

فتارة يكون دليل الإثبات هو الإقرار ، كأن يقول : هذه المرأة أختي أو بنتي من الرضاعة ، وهكذا في سائر العناوين المحرمة.

وأخرى : يكون هي البيّنة ، أي شهادة عدلين من الرجال.

وثالثة : شهادة النساء.

أمّا الأوّل - أي : في صورة الإقرار - فلا شكّ في لزوم الأخذ بما أقرّ إن كان على ضرره ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ » (1).

ص: 398


1- « التنقيح الرائع » ج 3 ، ص 485 ، « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 3 ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، الفصل التاسع؛ « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 133 ، أبواب الإقرار ، باب 3 ، ح 2.

وأماريّة الإقرار لإثبات ما أقرّ به إن كان على ضرره ربما كان أقوى من البيّنة على ثبوت ما أقرّ به ، لأنّ العاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه ، فلا بدّ وأن يكون الإقرار على نفسه للفرار عن المفاسد المترتّبة على مخالفة الواقع ، فإذا لم يعلم بكذبه - من جهة العلم بأنّ إقراره لدواعي أخر غير بيان الواقع والإخبار عنه - لا بدّ وأن يحمل على أنّه بصدد بيان الواقع.

وعلى كلّ حال حجّية الإقرار - وأنّه طريق إلى إثبات ما أقرّ به - أمر مفروغ عنه فيما إذا كان على ضرره ، وعليها بناء العقلاء في مقام القضاء ، حتّى إنّهم يرون الإقرار من نفس الجناة أقوى دليل على صدور الجناية منه.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ الإقرار بكون هذه المرأة المعلومة إحدى محارمي من أمّ أو أخت أو بنت أو غيرها تارة يلاحظ بالنسبة إلى عمل نفس المقرّ مع تلك المرأة ، فلا أثر لإقراره أصلا ، بل العمل تابع لما هو الواقع ، فإن أحرز بمحرز وجداني أو تعبّدي - وبعبارة أخرى : قام عنده حجّة على ثبوت ما أقرّ به - يعمل على طبقها ، وإلاّ يكون من قبيل الشكّ في الموضوع ، فيجري أصالة الحلّ ، إلاّ في مواضع المستثناة التي حكم الشرع فيها بالاحتياط ، كما هو المعروف في باب الفروج والدماء ، بل قد يقال في الأموال أيضا.

هذا فيما إذا لم يعلم بخلاف ما أقرّ به ، وإلاّ فواضح لزوم العمل على طبق علمه.

وعلى كلّ حال لا أثر لإقراره بالنسبة إلى عمل نفسه ، فإذا أقرّ بأنّ هذه المرأة التي تحته وزوجته إحدى محارمه أمّا رضاعيّا مثلا ، وهو يعلم بأنّه ليس كذلك ، أو قام عنده حجّة على أنّه ليس كذلك مع كونه شاكّا ، فيجب ترتيب آثار الزوجيّة من لزوم إعطاء مهرها ، ويجب عليه نفقتها وسائر الآثار المذكورة في محلّها.

ص: 399

نعم لو أقرّ عند الحاكم وحكم الحاكم بالانفصال ، فيدخل في المسألة المعروفة ، وهي أنّه هل يجب ترتيب الأثر على حكم الحاكم حتّى مع علم المحكوم عليه بالخلاف ، أو قيام الحجّة عنده على الخلاف ، أمّ لا؟

وأخرى : يلاحظ هذا الإقرار بالنسبة إلى عمل المرأة التي تحته ، فإن صدّقته في هذا الإقرار ، فيرجع إلى إقرارها بثبوت ما أقرّ به هذا الزوج.

وحال هذا الإقرار حال إقرار الزوج في جميع ما ذكرنا ، ولا يجوز لها أن تتزوّج بغير هذا الزوج إن كانت تعلم بكذب إقرار الزوج وتصديقها له ، ومع الشكّ وعدم قيام حجّة على الوجود ولا على العدم ترجع إلى الأصول العمليّة ، وعلى أيّ حال لا أثر لإقراره ، ولا لإقرارها لها.

وثالثة : يلاحظ هذا الإقرار بالنسبة إلى عمل غيرهما الذي لا يعلم كذبه فلا شكّ في أنّه لو أقرّ عند الحاكم يؤخذ بإقراره بالنسبة إلى فيما ضرره ، لا فيما نفعه ، ويكون حال الإقرار عند الحاكم بأنّ زوجته إحدى محارمه رضاعا ، حال الاعتراف بأنّه مديون لزيد مثلا بكذا ، ويثبت ما أقرّ به بالنسبة إلى الأحكام والآثار التي للمقرّ به ، إذا كانت تلك الآثار عليها ، وكذلك يثبت بإقراره بالنسبة إلى الآثار التي عليها ، لا لها لغير الحاكم أيضا إذا لم يعلم بكذبه.

والحاصل : أنّ الإقرار عند العقلاء نافذ بالنسبة إلى ما عليه ، لا بالنسبة إلى ماله ، وإلاّ فكل مدّع في مقام الدعوى مقرّ ومعترف بما يدّعيه ، والشارع أمضى ما سلكه العقلاء في إنفاذ الإقرار بما عليه.

نعم ها هنا كلام في إنكاره للرضاع المحرّم بعد ما أقرّ واعترف به ، وأنّه هل يسمع منه هذا الإنكار ، أم لا بل يعدّ من قبيل الإنكار بعد الإقرار في باب الدعاوي والمخاصمات ، فلا يسمع؟.

ص: 400

والتحقيق في هذا المقام : أنّه وجه عدم سماع الإنكار بعد الإقرار هو أنّه يرجع إلى الإقرار والاعتراف بماله ، لا بما عليه ، والعقلاء بناؤهم على سماع الإقرار إذا صدر عن عاقل ، ونفوذه إذا كان الإقرار عليه لا له ، والشارع أمضى ما هو بناء العقلاء عليه ، ففي الحقيقة يرجع الإنكار لما أقرّ به ممّا يكون عليه إلى دعوى عدم ثبوت ما أقرّ به مع وجود الأمارة على ثبوته ، أعني إقراره ، فيصير هذا الإنكار بعد إقراره مثل أنّ يدّعى شيئا تكون البيّنة على خلافه ، ومعلوم مثل هذه الدعوى لا يسمع.

هذا فيما إذا كان متعلّق إنكاره نفي ما أقرّ به ، وأمّا لو كان مرجع إنكاره إلى دعوى بطلان مدرك إقراره ، كما إذا ادّعى أنّ مدرك إقراري كان إخبار فلان ، مع اعتقادي أنّه صادق القول ، ثمَّ تبيّن لي أنّه كذّاب ، أو كان إخباره بذلك الغرض كذا ، فهذه دعوى جديدة يسمع منه ، بمعنى أنّه يطالب بالبيّنة بخلاف الصورة الأولى ، أي : فيما إذا كان متعلّق الإنكار نفس ما أقرّ به ، لأنّه لا أثر للبيّنة مع إقراره وثبوته به.

وأمّا الثاني أي إثبات الرضاع بالبيّنة - فبعد الفراغ عن حجّية البيّنة وإثباتها لجميع الموضوعات عند الشكّ فيها ، سواء أكان في مقام المخاصمة وعند الحاكم ، أم لا وإن لم يكن مخاصمة في البين ، بل حجّيتها مطلقة وعند أيّ شخص كان.

ومع ذلك كلّه ذكر جماعة من الأصحاب عدم قبول الشهادة على ثبوت الرضاع إلاّ مفصّلة ، بأن يشهد بوقوع الرضاع الذي هو عبارة عن كذا وكذا ، بأن يذكر حقيقته وماهيّته وجميع القيود المعتبرة فيه ، حتّى ولو شهد الشاهدان بوقوع الرضاع المحرّم لا يثبت بها ، فضلا عن أن يكون شهادتهما بالرضاع المطلق من دون قيد المحرّم.

وعلّلوا ذلك بأنّ الرضاع المحرّم يختلف عند الفقهاء من حيث اعتبار الشروط قلّة وكثرة ، فربما يكون ارتضاع خاصّ رضاعا محرّما عند فقيه ، من جهة عدم اعتبار ذلك الشرط المفقود عنده ، وهذا الارتضاع بعينه لا يكون محرّما عند فقيه آخر ، لأجل اعتبار ذلك الشرط المفقود عنده ، فمن الممكن أن يكون المشهود به رضاعا عند

ص: 401

الشاهدين اجتهادا أو تقليدا ، ولا يكون رضاعا عند الحاكم ، فلو حكم على طبق شهادتهما فقد حكم على خلاف معتقده واجتهاده.

وبطلان هذا معلوم ، لأنّ جعل الحاكم لأجل الحكم على طبق ما استنبطه من الأدلّة ، ولذلك قال علیه السلام : « انظروا إلى رجل منكم روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » إلى أن يقوله علیه السلام : « فإذا حكم بحكمنا فالرادّ عليه » كذا وكذا ، إلى آخره (1). فلا بدّ للحاكم أن يحرز بمحرز وجداني أو تعبّدي أنّ ما يحكم به يكون حكمهم علیهم السلام كي يكون الردّ عليه حراما ، والمفروض فيما نحن فيه أنّه ليس في المقام محرز وجداني ولا تعبّدي على أنّ المشهود به هو الرضاع المحرّم ، ولو صرّح بأنّه رضاع محرّم ، إذ الرضاع المحرّم مختلف عند الفقهاء من حيث الكميّة والكيفيّة.

ولا يمكن أن يدّعى أنّ لفظ الرضاع المطلق أو الرضاع المحرّم ظاهر في الرضاع الذي جعله الشارع موضوعا للحرمة ، فبعد الفراغ عن حجّية البيّنة وحجّية الظواهر كلام الشاهدين يكون محرزا تعبديا لموضوع الحرمة ، أعني ما جعله الشارع محرّما.

وذلك من جهة أنّ حجّية الظواهر من جهة بناء العقلاء على إرادة ما هو ظاهر اللفظ منه في مقام التفهيم والتفهّم. وهذا فيما إذا كان المعنى الذي هو ظاهر اللفظ معلوما عندهم. وأمّا لو كان معنى اللفظ مختلفا عند المتكلّم والمستمع ، ومعلوم أنّ الظاهر من اللفظ حينئذ أنّ المراد هو الذي يكون معنى اللفظ عنده ، أي المتكلّم ، فلو كان ما هو المعنى عنده - أي المتكلّم - معلوما فيحمل عليه.

وأمّا إذا لم يكن ما هو معنى اللفظ عنده معلوما ، كما فيما نحن فيه ، فيصير مجملا

ص: 402


1- « الكافي » ج 1 ، ص 54 ، باب : اختلاف الحديث ، ح 10 ، وج 7 ، ص 412 ، باب : كراهية الارتفاع الى قضاة الجور ، ح 5 ، « الاحتجاج » ص 355 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ، ح 514 ، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 99 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 1.

ومن قبيل استعمال اللفظ المشترك في بعض معانيه بدون قرينة معيّنة لذلك البعض ، فلا بدّ للشاهدين حينئذ من التفصيل وشرح ما هو مراده من لفظة الرضاع المطلق ، أو الرضاع المحرّم ، كي يفهم من يقوم عنده البيّنة مراد الشاهدين ، وأنّ المشهود به هو ما ذا.

نعم لو علم الحاكم من الخارج أنّ معنى الرضاع عند الشاهدين هو المعنى المختار عنده ، فلا يحتاج في حكمه بتحقيق الرضاع إلى الشرح والتفصيل ، وكذلك الأمر في صورة العلم بأنّ معنى الرضاع عند الشاهد اجتهادا أو تقليدا كذلك في غير الحاكم أيضا بالنسبة إلى ترتيب الأثر ، فإن علم بالموافقة أو المخالفة فالأمر واضح ، وإن لم يعلم فيحتاج في ترتيب الأثر مثل الحكم إلى التفصيل ، كي يعلم الموفقة أو المخالفة ، ويرتّب أثر كلّ واحد منهما عليه.

ثمَّ إنّ الذي ذكرنا - من لزوم تفصيل الشاهد مراده من الرضاع - يجري في كلّ ما هو من هذا القبيل ، أي ما كان معنى اللفظ مختلفا عند أهل المحاورة ، خصوصا عند المتكلّم والسامع وعند الشاهدين ومن تقوم عنده البيّنة ، كلفظ « الكرّ » مثلا ، فإنّ فيه اختلافا كثيرا بين الفقهاء من حيث الوزن والمساحة ، ولو شهد الشاهدان العادلان على كرّية ماء ، وكان ما هو معنى الكرّ عندهما معلوما عند من تقوم عنده البيّنة ، فلا إشكال ، لأنّه إن كان موافقا مع مختاره اجتهادا أو تقليدا يرتّب أثر الكرّية على ذلك الماء ، ويثبت كرّيته عنده ، وإلاّ فلا.

وأمّا إذا كان ما هو المعنى للفظ الكرّ - اجتهادا أو تقليدا - غير معلوم ، فبناء على ما ذكرنا من لزوم التفصيل في الشهادة على الرضاع ، يجب التفصيل ها هنا أيضا ، لكن ظاهر الأصحاب ها هنا قبول الشهادة مطلقا وترتيب آثار الكرّ الواقعي ، مع أنّه لا فارق في البين.

وأمّا الثالث - أي إثبات الرضاع بشهادة النساء - فالمسألة ذات قولين

ص: 403

فذهب جماعة منهم الشيخ (1) والعلاّمة قدس سره (2) في بعض كتبه إلى عدم قبول شهادتهن فيه.

وذهب جماعة أخرى إلى القبول ، منهم الشيخ الأجل المفيد (3) والمرتضى قدس سره .

لا شكّ في أنّ مقتضى القواعد الأوّليّة عدم ثبوت الرضاع إلاّ بالعلم الوجداني أو البيّنة ، هو مفاد قوله علیه السلام : « الأشياء كلّها على هذا حتّى يتبيّن لك أو تقوم به البيّنة ». (4)

والظاهر أنّ المراد بالبيّنة معناها المصطلح عند الفقهاء ، وهو شهادة رجلين عادلين ، فقبول قول النساء وشهادتهنّ في باب الرضاع يحتاج إلى دليل يدلّ عليه.

وما يمكن أن يكون أمران.

الأوّل : مرسلة ابن بكير عن الصادق علیه السلام في امرأة أرضعت غلاما وجارية؟ قال علیه السلام : « يعلم ذلك غيرها؟ » قلت : لا ، قال : فقال : « لا تصدّق إن لم يكن غيرها » (5).

فمفهوم قوله علیه السلام « لا تصدّق إن لم يكن غيرها » هو أنّها تصدّق إن كان غيرها ، وهذا بإطلاقه يشمل فيما إذا كان ذلك الغير امرأة أخرى ، فينتج أنّه لو كانت هناك امرأة أخرى مع المرضعة وشهدوا بوقوع الرضاع يقبل قولهما وتصدّقان.

وفيه : أنّ ظاهر قوله علیه السلام : « لا تصدّق إن لم يكن هناك حجّة أخرى » غير إخبارها ، فالمرسلة في مقام نفي حجّية إخبار المرضعة واحتياج إثبات الرضاع إلى حجّة أخرى ، وهي كالبيّنة مثلا ، لا أنّ قولها وحدها ليس بحجّة ، ومع انضمامها إلى

ص: 404


1- « النهاية » ص 462.
2- « تحرير الأحكام » ج 2 ، ص 11.
3- « المقنعة » ص 727.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.
5- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 323 ، ح 1330 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 304 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 12 ، ح 3.

امرأة أخرى حجّة ، ولا أقلّ من تكافؤ الاحتمالين.

هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات هذا الحكم المخالف للأصول والقواعد الأوّلية بمثل هذه المرسلة لا يخلو من إشكال.

الثاني : أنّه أي الرضاع - من الأمور التي لا يعلم في الأغلب إلاّ من قبلهنّ ، فلو لم يقبل شهادتهنّ يقع الناس كثيرا في مخالفة الواقع ، لأنّه إذا لم تصدّقن ولم تقبل شهادتهنّ ، فيكون المرجع عمومات الحلّ ، لجريان الأصل الموضوعي ، لعدم إمكان قيام البيّنة ، أي شهادة رجلين عدلين ، بحيث يشهدان بأنّ هذا الطفل ارتضع من ثدي هذه المرأة بالتفاهم الثدي والامتصاص منه ، من جهة أنّ مثل هذه الشهادة تحتاج إلى أن يكون هناك رجلين عدلين من محارم المرضعة ، ينظران إلى ثدييها ، وأنّ الطفل التقمه وامتصّ منه ، وهذا الأمر تكرّر خمسة عشر مرّة متوالية ، في كلّ مرّة رضعة كاملة.

ولكن أنت خبير بأنّ وقوع مثل هذا في غاية القلّة بل الندرة ، فلا بأس بأن يقال : بأنّ شهادتهنّ تقبل فيما لم يكن متّهمات ، كما أنّه ربما يستفاد من بعض الأخبار ، حيث أنّه علیه السلام علّل عدم تصديق المرضعة - التي هي أمّ ولده - بأنّها متّهمة. وفي دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد علیه السلام أنّ رجلا سأله عن جارية له ولدت عنده ، فأراد أن يطأها ، فقالت أمّ ولد له : إنّي قد أرضعتها؟ قال علیه السلام : « تجر إلى نفسها وتتّهم لا تصدّق » (1).

ثمَّ إنّ ها هنا أمور نذكرها تتميما للفائدة

[ الأمر ] الأوّل : لو ملك الرجل إحدى المحرّمات عليه نسبا ، كالأمّ والبنت

ص: 405


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 242 ، ح 908 ، فصل (10) ذكر الرضاع.

والأخت والعمّة والخالة وغيرهنّ ، فينعتقن عليه ، فهل إذا حصلت هذه العناوين من الرضاع وملكهنّ ينعتقن عليه ، أم لا؟

قال في الشرائع : فيه روايتان أشهرهما العتق ، انتهى (1).

وفي المسألة قولان ، أشهرهما من حيث الرواية والفتوى انعتاقهنّ ، بل قال في الجواهر : أنّه المشهور بين المتأخّرين ، وحكى عن بعضهم دعوى الإجماع عليه (2).

وهذا القول - أي اتّحاد حكم المحارم الرضاعيّة مع المحارم النسبيّة - في هذا الحكم - أي الانعتاق بعد حصول ملكيتهنّ - هو الأقوى ، وذلك لورود روايات خاصّة في هذا المقام :

منها : صحيح أبي بصير وابي العباس وعبيد بن زرارة كلّهم عن الصادق علیه السلام : « ولا يملك أمّه من الرضاعة ولا أخته ولا عمّته ولا خالته ، إذا ملكن عتقن » وقال : « ما يحرم من النسب فإنّه يحرم من الرضاع » وقال : « يملك الذكور ما خلا والدا أو ولدا ، ولا يملك من النساء ذات رحم محرم » وقلت : يجري في الرضاع مثل ذلك؟ قال : « نعم يجري في الرضاع مثل ذلك » (3).

وهناك أخبار أخر أيضا تدلّ على هذا المعنى لا حاجة إلى ذكرها (4).

هذا ، مضافا إلى إمكان ادّعاء شمول لفظة الأمّ وسائر العناوين الرضاعيّة مثل النسبيّة ، بدون عناية ورعاية علاقة.

وبعبارة أخرى : يكون المتفاهم العرفي من هذه الألفاظ معنى عامّ ، ينطبق على

ص: 406


1- « شرائع الإسلام » ج 3 : ص 113 ، كتاب العتق ، الفصل الثالث في : الملك.
2- « جواهر الكلام » ج 24 ، ص 142.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 113 ، ح 3435 ، باب العتق وأحكامه ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 877 ، في العتق وأحكامه ، ح 110 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 1.
4- « الكافي » ج 6 ، ص 178 ، باب ما لا يجوز ملكه من القرابات ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 878 ، في العتق وأحكام ، ح 111 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 3 - 4.

الإضافة الحاصلة من الرضاع ومن الولادة ، فإذا كان كذلك فالأخبار المطلقة - التي مفادها انعتاق الأمّ أو أحد العناوين الأخر من هذه العناوين من دون التقييد بالنسب أو الرضاع - أيضا تشمل المقام.

وأمّا الأخبار المعارضة لهذه الأخبار ، كصحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام في بيع الأمّ من الرضاع؟ قال علیه السلام : « لا بأس بذلك إذا احتاج » (1). فيتقدّم عليها تلك الأخبار المتقدّمة ، ويتعيّن الأخذ بها دون هذه الأخبار ، لإعراض المشهور عنها بناء على أن يكون القول بالانعتاق هو المشهور بين المتأخّرين ، كما ادّعاه صاحب الجواهر قدس سره (2).

ولكن الترجيح بمثل هذه الشهرة مشكل ، لما ذكرنا في الأصول من أنّ المدار في الجارية والكاسريّة هي الشهرة الفتوائيّة بين المتقدّمين ، وكذلك في الإعراض ، لا الشهرة أو الأعراض فيما بين المتأخّرين ، فالمتعيّن أن يقال بترجيح الأخبار التي تدلّ على الانعتاق ، لمخالفتها للعامّة ، وحمل تلك الأخبار المعارضة لها على التقيّة.

وفي هذا الفرع جهات من البحث ، والمقصود بالذكر ها هنا جهة وحدة حكم الرضاع مع النسب بالنسبة إلى هذا الحكم ، أي انعتاقهنّ لو ملكهنّ الذي بينه وبينهنّ إحدى هذه العلاقات. وأمّا البحث من الجهات الأخر ، ففي كتاب البيع في باب بيع الحيوان.

الأمر الثاني : في أنّه هل يقع الظهار بالعناوين الحاصلة من الرضاع - إذا كانت مثل تلك العناوين الحاصلة من النسب التي يقع بها الظهار ، كعنوان الأمّ والأخت أو إحدى المحرّمات الأخر ، بناء على عدم اختصاص وقوعه بخصوص الأمّ - أم لا؟

والأقوى عدم الوقوع ، لأنّ وقوع الظهار بها إمّا لأجل كون هذه العناوين حقيقة في ما إذا حصلت من الرضاع كما إذا حصلت من النسب ، فيكون الحكم المترتّب على

ص: 407


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 245 ، ح 886 ، في العتق وأحكامه ، ح 119.
2- « جواهر الكلام » ج 24 ، ص 142.

هذه العناوين - أعني حرمة الوطي قبل التكفير - مترتّبا عليها إذا حصلت من الرضاع أيضا.

وفيه : أنّ المتفاهم العرفي لا يساعد هذا المعنى.

وإمّا لأجل قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ».

ولكن أنت خبير بأنّ التنزيل بلحاظ حرمة النكاح من ناحية حصول هذه العناوين ، لا كلّ أثر مترتّب على هذه العناوين.

وإمّا من جهة قوله علیه السلام : « هو - أي الظهار - من كلّ ذي محرم ». ومعلوم أنّ ذي محرم عنوان عام يشمل المحارم الرضاعيّة.

وفيه : أنّ عنوان ذي مرحم بحسب المتفاهم العرفي ظاهر في المحارم النسبيّة ، وفي صحيحة زرارة سأل أبا جعفر علیه السلام من الظهار؟ فقال : « هو من كلّ ذي محرم أمّ أو أخت أو عمّة أو خالة ». إلخ (1) وظاهر التفسير هي المحارم النسبيّة.

الأمر الثالث : في أنّ كثيرا من الأحكام التي يترتّب على هذه العناوين إذا كانت حاصلة من النسب لا تترتّب عليها إن كانت حاصلة من الرضاع ، ومن جملتها التوارث ، فلا يرث الابن البنت الرضاعيين من أبيهما أو أمّهما الرضاعيين وهكذا الأمر في سائر العناوين الحاصلة من الرضاع ومن جملتها عدم وجوب نفقة الأقارب عليهم ، مثلا لا يجب نفقة الابن أو البنت الرضاعيين على أبيهما الرضاعي إن كانا فقيرين ، وكذلك بالعكس.

وكذلك الأمر في سائر العناوين الحاصلة من الرضاع ممّا يوجب إعطاء النفقة في مثلها إذا كانت حاصلة من النسب.

ص: 408


1- « الكافي » ج 6 ، ص 153 ، باب الظهار ، ح 3 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 526 ، ح 4828 ، باب الظهار ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 9 ، ح 26 ، باب حكم الظهار ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 511 ، أبواب الظهار ، باب 4 ، ح 1.

ومن جملتها : عدم قود الوالد بقتل ولده ، فإنّه في الولد نسبا لا يقتل الوالد إن قتل ولده ، وإن ثبت ذلك ببيّنة أو إقرار ، ولكن الأب الرضاعي لو قتل ابنه الرضاعي أو بنته يقتل بهما.

ومن جملتها : أنّ الوالد نسبا لا يقطع يده بسرقة مال ولده نسبا ، ولكنّ الأب الرضاعي لو سرق مال ولده الرضاعي يقطع.

ومن جملتها : عدم ولاية الأب الرضاعي على ابنه أو ابنته الرضاعيين ، بخلاف الأب النسبي ، فإنّه له الولاية عليهما وعلى مالهما ما دام كانا صغيرين.

وكذلك ليس للأمّ الرضاعيّة حقّ الحضانة ، لا للابن الرضاعي ولا لابنتها الرضاعية ، بخلاف الأمّ النسبي ، فإنّ لها حقّ حضانة ابنها سنتين ، وحقّ حضانة ابنتها ستّ سنين.

والسرّ في ذلك كلّه : أنّ الأدلّة الدالّة على هذه الأحكام رتّب فيها هذه الأحكام على نفس هذه العناوين ، وهذه العناوين إمّا حقيقة في خصوص ما إذا كانت حاصلة من النسب - واستعمالها في الإضافة الحاصلة من الرضاع يكون بالعناية وبرعاية مع المعنى الحقيقي ، فتكون الحاصلة من الرضاع خارجة عن تحت تلك المفاهيم ولا تشملها - أو تكون تلك المفاهيم منصرفه عن الحاصلة من الرضاع ، وإن قلنا بأنّها حقيقة فيها أيضا.

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (1) فالظاهر منه أنّ التنزيل بلحاظ حرمة النكاح فقط.

وفي ترتّب غير حرمة النكاح من آثار هذه العناوين إذا كانت حاصلة من

ص: 409


1- « الكافي » ج 5 ، ص 437 ، بابا الرضاع ، ح 2 ، « الفيه » ج 3 ، ص 475 ، ح 4665 ، باب الرضاع ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 291 ، ح 1223 ، باب من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرّم منهن في شرع الإسلام ، ح 59 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 280 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 1 ، ح 1 - 3 - 4.

النسب على الحاصلة من الرضاع يحتاج إلى وجود دليل خاصّ يدلّ عليه ، كما ادّعيناه في الانعتاق إذا ملكهنّ.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 410

فهرس الموضوعات

ص: 411

ص: 412

36 - قاعدة : الاحسان

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها وهو أمور :... 9

الأول : قوله تعالى ( ما على المحسنين من سبيل )... 9

الثاني : حكم العقل... 12

الثالث : الاجماع... 13

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة... 14

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 16

37 - قاعدة : الولد للفراش وللعاهر الحجر

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها... 23

الجهة الثانية : في بيان مدلولها... 25

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 31

في إمكان لحقوق الولد بصاحب الفراش شرعا ، ذكر الفقهاء شروط ثلاثة :... 32

الأول : الدخول... 32

الثاني : مضي ستة أشهر هلالية من زمان الوطىء... 34

الثالث : أن لا يكون الوضع في أكثر من أكثر مدة الحمل... 35

المدعي المقابل للفراش إذا كان أيضا صاحب الفراش ففيه صور أربع :... 44

ص: 413

تنبيه... 48

38 - قاعدة : وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة اليد... 53

الجهة الثانية : في مدركها... 54

في معنى الضمان عرفا... 58

في ضمان منافع العين بقسميها... 61

في بيان ضابط المثلي والقيمي... 65

ينبغي التنبيه على أمور :

الامر الأول : لو لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمنه... 70

الامر الثاني : لو تعذر المثل في المثلي... 72

الامر الثالث : المدار في تعيين القيمة هو قيمة يوم الغصب... 74

في دلالة صحيحة أبي ولاد... 77

في المناقشات التي استظهرت من الرواية... 82

الامر الرابع : الكلام في بدل الحيلولة... 84

أمور يجب التنبيه عليها :... 86

الأول : هل المدار في التعذر عدم إمكان رد العين؟... 86

الثاني : هل بدل الحيلولة يصير ملكا للمالك؟... 87

الثالث : بناء على ملكية المالك للبدل ، هل يكون دائما أو ما دام الرد متعذرا؟ 88

الرابع : هل للغاصب إلزام المالك بأخذ البدل؟... 92

الخامس : في أن العين المغصوبة باقية على ملك المالك حتى بعد

ص: 414

أخذ البدل... 94

السادس : في وجوب رد العين بعد دفع التعذر... 94

السابع : هل يصدق تعذر الرد إن كان موجبا لتلف مال محترم أو نفس محترمة أم لا؟ 95

الثامن : في تعاقب الأيادي... 97

نتيجة ما ذكرنا في مفاد قوله صلى اللّه عليه وسلم « وعلى اليد ... » أمور :... 102

الأول : جواز رجوع المالك إلى أي واحد من الغاصبين... 102

الثاني : لو استوفى حقه من أحدهم فليس له بعد ذلك الرجوع إلى الآخرين... 102

الثالث : جواز رجوع كل سابق إلى اللاحق... 103

الرابع : في أن جواز رجوع كل سابق إلى اللاحق بعد أداء السابق ما في ذمته 103

ها هنا تنبيهات :

الأول : لو أبرء المالك أحد الغاصبين يسقط عن الجميع... 103

الثاني : لو وهب المالك ما في ذمة أحدهم له ، فليس له الرجوع بعد ذلك إلى أحدهم 104

الثالث : لو أقر أحدهم بالغصبية دون الباقين وتلف المال ، فعليه الأداء دونهم 105

الرابع : لو رجع المال المغصوب من اللاحق إلى سابقه وأخذ منه البدل ، فلا يحق له الرجوع إليه بأخذ ما خسره للمالك... 106

39 - قاعدة : مشروعية عبادات الصبي

وفيها جهات من البحث :

ص: 415

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 109

الجهة الثانية : في مدركها... 112

الأول : شمول الأدلة العامة والمطلقات لهم... 112

الثاني : العمومات التي دلت على ترتب الثواب على من صلى أو صام أو حج 115

الثالث : حكم العقل... 115

الرابع : استبعاد أن لا يستحق الأجر والثواب القريب من البلوغ عند إتيانه بالواجبات 116

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 120

40 - قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان مفادها... 127

الجهة الثانية : في مدركها وهو أمور :... 128

الأول : إطلاق دليل المركب... 128

الثاني : الاستصحاب... 129

تقرير الاستصحاب من وجوه :... 129

الثالث : الاجماع... 135

الرابع : الروايات... 135

الاشكال على القاعدة... 137

عدم إمكان إرادة الكل والكي من الشئ وجوابه... 138

شمول القاعدة للمستحبات أيضا... 141

عدم إمكان إحراز موضوع قاعدة الميسور في الماهيات المخترعة

ص: 416

الشرعية... 143

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 146

عدم جريان القاعدة فيما إذا تعذر القيد... 147

41 - قاعدة ، حجية سوق المسلمين

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها وهو أمور :... 155

الأول : سيرة المسلمين... 155

الثاني : الاجماع... 156

الثالث : الاخبار... 156

الجهة الثانية : أنها أمارة التذكية فقط أو أوسع من هذا؟... 158

الجهة الثالثة : هل السوق أمارة في عرض اليد أم؟... 159

الجهة الرابعة : هل السوق أمارة أم أصل؟... 165

في الفرق بين الأصل والامارة... 165

الروايات الواردة في هذه القاعدة... 167

الجهة الخامسة : في نسبة هذه القاعدة مع غيرها من الأدلة في مقام التعارض... 168

الجهة السادسة : في موارد تطبيقها... 169

42 - قاعدة : عدم شرطية البلوغ في الأحكام الوضعية

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدلولها وهو أمور :... 173

الأول : الاجماع... 173

ص: 417

الثاني : سيرة المتدينين... 174

الثالث : الروايات والأدلة العامة... 174

في بيان حديث رفع القلم... 175

في بيان الأجوبة على الاشكالات الواردة في حديث رفع القلم... 178

الجهة الثانية : في بيان المراد منها... 180

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 181

43 - قاعدة : الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان الأقوال فيها... 189

الجهة الثانية : هل يستحب الوفاء بالشرط الفاسد؟... 190

الجهة الثالثة : في تعيين ما هو محل النزاع... 192

الدليل على القول المختار من وجوه :... 194

الأول : إطلاقات أدلة المعاملات والعقود... 194

الثاني : الاجماع... 194

الثالث : الاخبار... 195

الرابع : لزوم الدور... 200

في أدلة القائلين بالافساد :... 202

الأول : ان فساد الشرط يوجب سقوطه عن الاعتبار... 202

الثاني : ان رضاء المشروط له بهذا العقد منوط بوجود هذا الشرط... 204

في بيان الحل عن هذا المطلب... 205

الثالث : الاخبار... 209

أمور يجب أن تذكر :

ص: 418

الأول : لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد فهل يصح العقد أم لا؟... 215

الثاني : لو ذكر الشرط الفاسد قبل العقد ولم يذكره في متنه ، فهل يكون مفسدا أم لا؟ 217

عدم تأثير الشرط الفاسد في خارج العقد في إفساده... 218

الثالث : التفصيل بين أقسام الشروط الفاسدة في الافساد وعدمه... 219

الرابع : الموارد الخارجة عن هذه القاعدة بناء على عدم الافساد... 220

الخامس : في بيان موارد جريان هذه القاعدة... 223

السادس : هل يأتي هذا الخلاف في الايقاعات أم لا؟... 224

44 - قاعدة : الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها وهي الاخبار... 229

الجهة الثانية : في بيان المراد منها... 230

ولتوضيح المراد من القاعدة نبين أمور :

في بيان حقيقة الوقوف :... 231

المطلب الأول : في أن الوقف عقد يحتاج إلى القبول أو إلى الايقاع 234

في أن الوقف عبادة لا يقع بدون قصد القربة... 236

الأدلة على اعتبار قصد القربة فيه... 237

المطلب الثاني : في شرائط الوقف وهي أربعة 241

الشروط الأول : القبض شرط في صحته أو لزومه... 241

هاهنا فروع :

الأول : بطلان الوقف بموت الواقف قبل قبض الموقوف عليه... 243

الثاني : هل يشترط في تحقق القبض إذن الواقف أم لا؟... 245

ص: 419

الثالث : هل يشترط في القبض أن يكون فورا؟... 246

الرابع : هل قبض الطبقة الأولى كافية أم لا؟... 246

الخامس : لو كانت الطبقة الأولى صغارا أو الواقف هو وليهم فلا يحتاج إلى القبض 248

السادس : في الأوقاف العامة وعلى الجهات ، هل يحتاج إلى القبض أم لا؟... 249

الشرط الثاني : الدوام... 250

تحقيق المقام... 253

الشرط الثالث : التنجيز... 255

الشرط الرابع : إخراجه عن نفسه... 257

الوقف على من ينقرض غالبا... 261

على تقدير الانقراض هل يرجع إلى المالك أو ...؟... 263

لو شرط الواقف أداء دينه أو غيره ، فهل يكون وقفا على نفسه أم لا؟... 266

إذا استثنى مقدارا من المنافع لنفسه ، فهل وقف على النفس أم لا... 267

لو جعل نفسه متوليا وجعل مقدارا كبيرا من المنافع للمتولي ، فهل يكون وقفا على النفس أم لا؟ 267

إذا وقف وشرط عوده إليه إذا احتاج... 270

المطلب الثالث : في شرائط الموقوف : 275

الشرط الأول : أن يكون عينا... 275

الشرط الثاني : كونها مملوكة... 276

الشرط الثالث : يمكن الانتفاع بها مع بقائها... 276

الشرط الرابع : يكون لها البقاء مدة معتدة بها... 276

الشرط الخامس : للعين الموقوفة منفعة محلله... 276

ص: 420

الشرط السادس : أن لا يكون متعلقا لحق الغير المانع عن التصرف... 276

الشرط السابع : كونه مما يمكن اقباضه... 277

المطلب الرابع : في شرائط الواقف 277

جواز وقف الكافر... 280

المطلب الخامس : في شرائط الموقوف عليه : 281

الشرط الأول : أن يكون موجودا... 282

الشرط الثاني : أن يكون معينا... 283

الشرط الثالث : أن يكون ممن يصح تمليكه... 284

الشرط الرابع : أن لا يكون الوقف عليه محرما... 285

فرع : لو وقف مدرسة دينية أو مسجد فانهدما... 286

المطلب السادس : في اللواحق ، وفيه أمور : 288

الامر الأول : خروج الموقوف عن ملك الواقف بالوقف... 288

الامر الثاني : في الوقف على أولاده... 293

الامر الثالث : عدم بطلان الوقف بخرابه وانهدامه ، ولا يجوز بيعه... 295

المطلب السابع : في المتولى والناظر للعين الموقوفة ، وفيه أمور : 309

الامر الأول : جواز جعل الواقف نفسه متوليا... 310

الامر الثاني : لو لم يعين المتولي في ضمن العقد... 310

الامر الثالث : هل تعتبر العدالة في الناظر أم لا؟... 312

الامر الرابع : الجواز في أن يجعل الواقف شخصا ناظرا على المتوالي في ضمن عقد الوقف 313

الامر الخامس : لو جعل التولية لأكثر من واحد... 314

الامر السادس : فيما لو عين الواقف وظيفة المتولي في العقد فعليه العمل بما عين له 314

ص: 421

الجهة الثالثة : في تطبيقها على مواردها... 315

45 - قاعدة : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في شرح مفهوم القاعدة... 319

الجهة الثانية : في الدليل على القاعدة... 322

الأول : الآية الشريفة ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ... )... 322

الثاني : الاجماع... 323

الثالث : الاخبار... 323

الجهة الثالثة : فيما إذا شك في الرضاع من جهة الشبهة المفهومة أو المصداقية... 331

الجهة الرابعة : في شرائط تحقق الرضاع ، وهي أمور :... 337

الشرط الأول : أن يكون اللبن عن نكاح صحيح... 337

الشرط الثاني : كمية الرضاع... 343

في تقدير الرضاع طرق ثلاث... 346

اعتبروا في الرضاع المحرم من حيث العدد شروطا... 363

الشرط الأول : ان يكون كل رضعة من تلك الرضعات رضعة كامله... 363

الشرط الثاني : توالي الرضعات... 364

الشرط الثالث : أن تكون الرضعات من امرأة واحدة... 365

الشرط الرابع : أن تكون الرضعات من الثدي... 367

الشرط الخامس : أن تكون المرضعة حية... 368

الشرط السادس : أن يكون الرضاع في حولي الرضاعة... 370

الشرط السابع : أن يكون اللبن خالصا غير ممزوج بشئ... 375

ص: 422

الجهة الخامسة : في عموم المنزلة... 376

الجهة السادسة : الرضاع ينشر الحرمة قبل النكاح والتزويج وبعدهما... 381

الجهة السابعة : العناوين السبعة النسبية المعروفة موجبة للحرمة إن حصلت بالرضاع 392

الجهة الثامنة : طريق إثبات الرضاع :... 398

إثبات الرضاع بالاقرار... 398

إثبات الرضاع بالبينة... 401

إثبات الرضاع بشهادة النساء... 403

أمور لتتميم الفائدة :

الامر الأول : لو ملك الرجل إحدى المحرمات عليه من الرضاع تنعتق عليه... 405

الامر الثاني : هل يقع الظهار بالعناوين الحاصلة من الرضاع؟... 407

الامر الثالث : عدم ترتب كثير من الاحكام على الرضاع وترتبها على النسب كالإرث والنفقة وغيرها 408

ص: 423

المجلد 5

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الخامس

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 5

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

فهرس الإجمالي

46 - قاعدة : الصلح جائز بين المسلمين... 9

47 - قاعدة : التقية... 49

48 - قاعدة : لاربا إلّا فيما يكال أو يُوزون... 85

49 - قاعدة : أصاله اللزوم في العقود... 195

50 - قاعدة :حرمة إبطال الأعمال العبادية... 251

51 - قاعدة : بطلان كلّ عقد يتعذّدالوفاء بمضمونه... 265

52 - قاعدة : كل ما يصح إعارته يصح إجارته... 278

53 - قاعدة : حرمة إهانة المحترمات في الدين... 293

54 - قاعدة : كل مسكر مائع بالأصالة فهو نجس... 307

55 - قاعدة : كل كافر نجس كتاباً كان أو غيره... 329

ص: 5

ص: 6

46 - قاعدة الصلح جائز بين المسلمين

اشارة

ص: 7

ص: 8

قاعدة الصلح جائز بين المسلمين (1)

ومن القواعد المشهورة الفقهيّة قاعدة « الصلح جائز بين المسلمين أو النّاس » كما في بعض الروايات.

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة الأولى ] : في مدركها، وهو أمور

الأوّل : الآيات :

فمنها : قوله تعالى ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) ومنها : قوله تعالى ( فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (3) ومنها : قوله تعالى ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (4) ومنها : قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (5)

ص: 9


1- «عناوين الأصول» عنوان 41؛ «مناط الأحكام» ص 197.
2- النساء (4) : 128.
3- أنفال (8) : 1.
4- النساء (4) : 35.
5- الحجرات (49) : 10.

ومنها : قوله تعالى ( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) (1)

ومنها : قوله تعالى ( أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) (2)

وهذه الآيات صريحة في إمضاء الشارع الأقدس الصلح المتعارف بين أهل العرف والعقلاء ، وتدلّ على حسنه ومطلوبيّته عنده ، سواء كان إيقاعه بعقد الصلح ، أو كان بعمل ، أو قول ليس بعقد.

وبعبارة أخرى : حقيقة الصلح عبارة عن التراضي والتّسالم والموافقة على أمر ، سواء كان ذلك الأمر مالا من الأموال ، عروضا كان ذلك المال أو كان من النقود على أقسامها ، أو كان ذلك الأمر الذي اتّفقا فيه وتسالما وتراضيا عليه من الأعمال ، أو كان غير ذلك ، وسواء أنشأ ذلك التسالم بصيغة عقد الصلح أو بغير ذلك ، وسواء كان مسبوقا بالخصومة أو ملحوقا بها أو كان متوقّعا حصولها ؛ ففي جميع هذه الموارد المذكورة يصدق إطلاق « الصلح » عليها إطلاقا حقيقيّا ، لا عنائيّا مجازيّا. وسنذكر إن شاء اللّه عدم دخالة هذه الأمور في تحقّق الصلح وإطلاقه من ناحية هذه القيود.

إذا عرفت ما ذكرنا تعرف دلالة جميع الآيات المذكور على صحّة الصلح ، وإمضاء الشارع الأقدس لما عليه بناء العقلاء في باب الصلح من اختصاصه بصنف دون صنف وقسم دون قسم.

الثاني : من مداركها الروايات :

منها : النبوي الذي رواه العامّة والخاصّة : « الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ». (3)

ص: 10


1- الحجرات (49) : 9.
2- النساء (4) : 114.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 32 ، باب الصلح ، ح 3267 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 164 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 3 ، ح 2 ؛ « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 257 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 443 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 3 ، ح 2.

ومنها : ما روى حفص ابن البختري عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الصلح جائز بين الناس ». (1) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في باب الصلح وهي كثيرة.

وعقد في الوسائل بابا لفضله ، بل وفي استحبابه ، بل مفاد بعضها أنّه أفضل من عامة الصلاة والصيام. وروى ذلك في الوسائل عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ». (2)

الثالث : من مدارك هذه القاعدة ، هو الإجماع المحصّل من جميع طوائف المسلمين ، بل قيل : إنّه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك ، ولم ينكر أحد من الفقهاء شرعيّته بل حسنه واستحبابه.

الرابع : العقل. ولا شكّ في استقلال العقل بحسنه ؛ لأنّ الإصلاح والموافقة والتراضي والتسالم على أمر من تمليك عين أو منفعة أو إسقاط حقّ أو ثبوته أو غير ذلك بين شخصين أو أزيد قد يكون بالعقد أو بغير العقد ، مقابل الإفساد والاختلاف والسخط والتخاصم ، فكما أنّ العقل حاكم بقبح الأمور الأخيرة ، فكذلك حاكم بحسن المذكورات أوّلا التي تكون الصلح عين تلك الأمور ، فبقاعدة الملازمة يثبت مشروعيّته ومطلوبيّته وإن كانت استحبابيّة.

الجهة الثانية : في بيان مفادها وشرح حقيقتها

اشارة

أقول : إنّ الصلح - كما عرّفه جماعة من الفقهاء - عقد شرّع لقطع التجاذب والتنازع بين المتخاصمين. ولكن أنت عرفت وذكرنا أنّه ليس من شرط تحقّق الصلح

ص: 11


1- « الكافي » ج 5 ، ص 259 ، باب الصلح ، ح 5 ؛ « التهذيب » ج 6 ، ص 208 ، ح 479 ، باب الصلح بين الناس ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 164 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 3 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 163 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 1 ، ح 6 ؛ « ثواب الأعمال » ص 178 ، ح 1.

سبق خصومة وتنازع في البين ، بل ولا توقّع وجودهما فيما بعد ، وهكذا ليس منحصرا ومختصّا بما أنشأ بالعقد.

فهذا تعريف بالأخصّ للصلح لاختصاصه بما ينشأ بالعقد في مورد التخاصم والتنازع.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ جعل رفع التنازع وقطع التجاذب غاية لتشريعه ، يكون من باب حكمة التشريع لا علّته كي يكون شرعيّته دائرا مدار وجود هذه العلّة ، فإذا لم يكن تنازع وتخاصم بين المتسالمين على أمر مالي أو غير مالي لا يصدق عليه الصّلح ؛ وذلك من جهة الفرق بين حكمة التشريع وعلّته ، ففي الأوّل لا يكون الحكم وما شرّع وجوده دائرا مدار حكمة التشريع. وأمّا في الثاني - أي علّة التشريع - يكون وجود الحكم دائرا مدار وجودها ، فمثل استبراء الرحم حكمة لتشريع العدّة ، ولذلك لو كانت المرأة في سنّ من تحيض ولم يكن زوجها لا مسها منذ زمان طويل لمرض أو سفر أو غير ذلك يجب عليها الاعتداد ، مع أنّ الرحم لا يحتاج إلى الاستبراء ؛ وهكذا بالنسبة إلى تشريع وجوب القصر والإفطار في السفر ، حيث أنّ في تشريعهما حكمة هي المشقّة ، وفي كثير من الأسفار لا مشقّة ، خصوصا في هذه الأزمان والسفر مع الطيّارة ، ومع ذلك عند عدم وجود هذه الحكمة الحكم لا ينعدم.

فليكن فيما نحن فيه أيضا كذلك ، أي لا ينافي عدم وجود نزاع في البين ومع ذلك يكون الصلح موجودا ؛ فيكون التنازع حكمة تشريع الصلح ، لا علّة تشريعه.

ثمَّ إنّ ها هنا أمورا يجب أن نذكرها

[ الأمر ] الأوّل : أنّ الصلح معاملة مستقلّة ، وليس من فروع البيع تارة ، والإجارة أخرى ، والعارية ثالثة وهكذا كما توهّم.

وجه التوهّم : أنّ الصلح على عين متموّل بعوض مالي يفيد فائدة البيع ؛ لأنّ البيع

ص: 12

تمليك عين متموّل بعوض مالي ، والصلح على العين المتموّل بعوض مالي يكون عين ذلك الذي ذكرنا ، غاية الأمر بصيغة الصلح فهو بيع ، والاختلاف في اللفظ فقط.

وهكذا الصلح على منفعة معلومة بعوض معلوم يكون تمليك منعفة معلومة بعوض معلوم ، وهذا عين الإجارة غاية الأمر بلفظ الصّلح. وإن كان تمليك المنفعة بلا عوض يكون عارية بلفظ الصلح ؛ فليس الصلح عقدا برأسه ومعاملة مستقلّة ، بل في كلّ باب يكون من فروع ذلك الباب.

هذا غاية ما توهّموا.

ولكن أنت خبير بأنّه أوّلا : قد يوجد مورد للصلح حسب النصوص الواردة في باب الصلح لا ينطبق لا على البيع ، ولا على الإجارة ، ولا على العارية ، ولا على الهبة كما روى : إذا كان رجلان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : « لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما » (1). فهذا ليس ببيع ؛ لأنّ العوضين مجهولان من حيث المقدار ، ولا هبة ؛ لأنّه ليس إعطاء مجان بل لكلّ واحد منهما عوض ، ولا عارية وليس بإجارة ؛ لأنّه تمليك عين لا منفعة ، ولا ينطبق على أيّ واحد من عناوين المعاملات ؛ فلا بدّ وأن يكون عقدا مستقلاّ ، إذ لا يمكن أن يكون من فروع أيّ عقد آخر ومعاملة أخرى ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المنشأ في عقد الصلح عنوان التسالم والموافقة ، وفي سائر العقود عناوين أخر. وصرف الاشتراك في الأثر لا يخرج الشي ء عمّا وقع عليه ، وحيث أنّ المنشأ فيه مختلف مع المنشأ في سائر العقود والمعاملات ، فلا يصحّ إطلاق البيع أو الإجارة أو العارية أو الهبة عليه ؛ فالقول بأنّه في كلّ باب يعدّ من فروع ذلك الباب لا أساس له ،

ص: 13


1- « الكافي » ج 5 ، ص 258 ، باب الصلح ، ح 2 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 33 ، باب الصلح ، ح 3268 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 206 ، ح 470 ، باب الصلح بين الناس ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 165 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 5 ، ح 1.

وإن نسب في الجواهر هذا القول إلى الشيخ رحمة اللّه عليه. (1)

وثالثا : ثمرة هذا البحث تظهر في الآثار المترتّبة على هذه العناوين ، مثلا إذا قلنا بأنّ صلح الأعيان المتموّلة بعوض مالي بيع يثبت فيه خيار المجلس ، وإلاّ فلا بناء على اختصاص هذا الخيار بالبيع وعدم ثبوته في غيره من المعاملات.

ولكن يرد عليه : أنّ الأحكام الشرعيّة تلحق العناوين التي جعلت موضوعات لها في ألسنة أدلّتها ، فإذا قال الشارع : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، فهذا الحكم جعل موضوعه في لسان دليله عنوان البيّعين ، وعنوان البيّعين غير عنوان المتصالحين والمتسالمين أو المتوافقين وأمثالها ، فلا يترتّب على هذا البحث هذه الثمرة. فإذا كان الغرض من القول بأنّ الصلح في كلّ باب من فروع ذلك الباب ترتيب هذه الثمرة فلا سبيل إلى ذلك.

وخلاصه الكلام في هذا المقام : أنّ الآثار والأحكام المختصّة بكلّ عنوان لا يترتّب إلاّ على نفس ذلك العنوان ، لا على ما يفيد فائدته ، ولا شكّ في أنّ عنوان الصلح والبيع والإجارة والهبة والعارية مختلفات لا يلحق حكم أحدها للآخر ، وإن كانت نتيجة الاثنين وفائدتهما واحدة.

[ الأمر ] الثاني : أنّ الصلح يصحّ مع الإقرار والإنكار ، أي مع إقرار المدّعى عليه بما يدّعيه المدّعي ، وإنكاره لما يدّعيه.

أمّا مع إقراره فوجهه أوضح ؛ وذلك من جهة إقراره يثبت عليه ما يدّعي المدّعي ، فلا مانع من أن يصالح المدّعي عن حقّ ثابت بمال.

وأمّا مع إنكاره فإن كان كاذبا في إنكاره فيكون من حيث صحّة الصلح مثل إقراره ؛ لأنّه في الواقع عليه شي ء إمّا عينا أو دينا ، فيكون المصالحة على ذلك المال الذي عنده أو على ما في ذمّته ، والصلح صحيح واقعا.

ص: 14


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 212.

وأمّا إن كان صادقا في إنكاره ولم يكن عليه شي ء ، لا في ذمّته ولا عنده عين مال المدّعي ، فحيث لا يكون شي ء في البين يقع الصلح عليه ، فهذا الصلح صحّته يكون ظاهريّة ، ويجب ترتيب آثار الصحّة عليه ما لم ينكشف الحال وأنّ المدّعي دعوا كاذبة. كما هو الحال في جميع الأحكام الظاهريّة من مؤدّيات الأصول والأمارات ، حيث يجب ترتيب الآثار عليهما ما لم ينكشف الخلاف.

وعلى كلّ حال صحّة هذا الصلح مع الإقرار والإنكار إجماعيّ لا خلاف فيها عندنا ، غاية الأمر في الصورة الثانية أي صورة إنكار المدّعى عليه لا بدّ من القول بالتفصيل المتقدّم ، وأنّه إن كان صادقا في إنكاره فصحّة ذلك الصلح ظاهريّة لا واقعيّة ، ويجب على المدّعي ردّ ما أخذ بعنوان مال المصالحة ، ويكون ما أخذ من المقبوض بالعقد الفاسد ، فعليه الضمان ؛ لأنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصّلين إلاّ في الإثم إذا كان جاهلا بالفساد فإنّه حينئذ لا إثم له وهو معذور.

هذا ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري (1) عن ابن إدريس ، (2) وكلامه هذا حسن وصحيح. ولا فرق في عدم صحّة الصلح واقعا بين أن يكون المدّعي كاذبا في تمام ما يدّعيه أو في بعضه ، مثلا لو كان المدّعي يدّعي أنّ الدار التي في يدك تمامها لي ، وفي الواقع نصفها له ونصفها الآخر لنفس ذي اليد ، فأنكر المدّعى عليه كون تمام الدار له ، ولم يكن له طريق لردّ دعواه الكاذبة في النصف الذي لا يملكه ، فاضطرّ للصلح معه على تمام الدار ، فهذا الصلح أيضا فاسد واقعا ويكون صحّته ظاهريّة ومن باب أصالة الصحّة والجهل بالحال ؛ ولذلك متى انكشف الحال وعلم أنّه كاذب في دعواه وأنّ تمام الدار له ، لا يجب ترتيب آثار الصحّة على هذا الصلح.

ثمَّ إنّ هاهنا كلاما : وهو أنّه هل يجب على المدّعي الكاذب ردّ تمام ما أخذ بعنوان مال المصالحة لفساد هذا الصلح ، أو ردّ نصف ما أخذ لصحّة الصلح بالنسبة إلى

ص: 15


1- « المكاسب » ص 104.
2- « السرائر » ج 2 ، ص 326.

النصف الذي كان يملكه ، أو لا يجب ردّ شي ء ممّا أخذ لصحّة هذا الصلح وإن كانت صحّته باعتبار وقوعه مقابل ذلك النصف الذي يملكه لا مقابل تمام الدار؟ وجوه واحتمالات.

والحقّ بطلان هذا الصلح الواحد البسيط ، فيجب ردّ تمام ما أخذ بعنوان مال المصالحة ويرجع إليه نصف الدار الذي كان يملكه. ومرادنا بقولنا : يرجع إليه نصفه الذي يملكه ، أي بحسب الظاهر والحكم بصحّة ذلك الصلح ظاهرا ، وإلاّ فبحسب الواقع لم يخرج عن ملكه كي يرجع.

ولا يتوهم : أنّه يمكن تصحيحه في النصف الذي يملكه من باب تبعّض الصفقة ، والفقهاء يلتزمون بذلك في البيع ويقولون : لو باع تمام الدار فتبيّن أنّ نصفها ليس له ، فالبيع صحيح بالنسبة إلى النصف الذي يملكه ، غاية الأمر أنّه يكون للمشتري خيار تبعّض الصفقة. فليكن ها هنا أيضا كذلك ، فيكون الصلح صحيحا بالنسبة إلى النصف الذي يملكه ، غاية الأمر يكون الخيار للمصالح له ، فالنتيجة أن لا يكون الواجب على المدّعي الكاذب ردّ تمام مال المصالحة ، بل الواجب عليه ردّ النصف إلاّ أن يعمل المصالح خياره ويفسخ الصلح ، فيجب عليه ردّ تمام مال المصالحة ويرجع نصف الدار إليه بالمعنى الذي ذكرنا للرجوع.

ودفع هذا التوهم : بأنّ باب الصلح على الأعيان الخارجيّة غير باب بيعها ؛ وذلك لأنّ التسالم على كون عين خارجيّة ملكا لشخص وهو أحد المتسالمين لا يتبعّض ، ولم يقع التسالم والاتّفاق على كون كلّ جزء من هذه العين الخارجية ملكا للمصالح له بإزاء ما يساويه من مال المصالحة بحسب المقدار أو القيمة ، وهذا بخلاف باب البيع فإنّ حقيقة البيع جعل كلّ واحد من العوضين بدلا عن الآخر في مقام الملكيّة ، والبدليّة تسرى إلى كلّ جزء من العوضين ، فكلّ جزء منها مقابل الجزء الذي يساويه بحسب المقدار أو بنسبة إلى قيمة قيمة المجموع.

ص: 16

وهذا معنى الانحلال في باب تبعّض الصفقة. وأمّا هذا المعنى فلا يأتي في الصلح ؛ لأنّ المنشأ فيه التسالم ، وهو بسيط لا يتبعّض ، فبناء على هذا إذا وقع الصلح على عين يدّعيها المدّعي ، فكما أنّه لو لم يكن المدّعي صادقا في دعواه ولم يكن شي ء من تلك العين فصالح المدّعى عليه بمال عن تلك العين مع المدّعي يكون الصلح بحسب الواقع باطلا ، فكذلك الصلح يكون باطلا لو لم يكن بعضها له.

ولا وجه للقول بصحّة الصلح بالنسبة إلى البعض الذي يملكه ، وبطلانه بالنسبة إلى البعض الذي لا يملكه ، فيصير من باب تبعّض الصفقة ؛ لما ذكرنا من أنّ الصلح الواقع على عين خارجيّة لا يتبعّض بالنسبة إلى أجزائه أو كسورة كالنصف والثلث والربع وأمثالها ، فتأمّل.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الأصحّ من الاحتمالات الثلاث التي ذكرناها هو الاحتمال الأوّل ، وهو وجوب ردّ تمام ما أخذه المدّعي الكاذب في بعض ما ادّعاه ؛ وذلك لفساد الصلح. ولا فرق فيما ذكرنا من فساد الصلح لو تبيّن عدم كون تمام ما يصالح عنه له بين أن يكون الكاذب هو المدّعي أو المدّعى عليه.

ثمَّ إنّ هاهنا روايتين تدلاّن على عدم صحّة الصلح واقعا ، وعدم ذهاب الحقّ بالمرّة فيما إذا لم يقع الصلح بين ما هو الحقّ الواقعي وبين ما يعطيه المصالح مع خفاء المقدار الواقعي على صاحب المال الذي يريد أن يصالح معه من بيده المال.

إحديهما : ما رواه عليّ بن حمزة ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام : رجل يهوديّ أو نصرانيّ كانت له عندي أربعة آلاف درهم فمات إلى أن أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان؟ قال علیه السلام : « لا يجوز حتّى تخبرهم ». (1)

ص: 17


1- « الكافي » ج 5 ، ص 259 ، باب الصلح ، ح 6 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 33 ، باب الصلح ، 3269 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 206 ، ح 472 ، باب الصلح بين الناس ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 166 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 5 ، ح 2.

والأخرى : ما رواه عمر بن يزيد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « إذا كان لرجل على رجل دين فمطله حتّى مات ، ثمَّ صالح ورثته على شي ء ، فالذي أخذه الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة ، وفإن هو لم يصالحهم على شي ء حتّى مات ولم يقض عنه ، فهو كلّه للميّت يأخذه به ». (1)

فالرواية الأولى تدلّ على أنّ المصالحة على مال مع جهل صاحب المال بمقداره لا يجوز ولا أثر لها. والرواية الثانية تدلّ على أنّ المصالحة مع صاحب المال بأقلّ منه لا يوجب براءة ذمّته عن الجميع مع جهل صاحب المال ، بل تؤثّر في المقدار الذي أعطاه فقط والباقي باق في ذمّته ، وإن لم يصالح مع صاحب المال أصلا حتى مات ، ولا مع ورثته حتى هلكوا فجميع المال يبقى في ذمّته.

وهذا الأخير هو مقتضى القواعد الأوّلية أيضا ، أي ولو لم تكن هذه الرواية في البين كان الحكم هكذا وكما ذكرنا.

والمقصود من ذكر هاتين الروايتين أنّ صحّة هذا الصلح حكم ظاهريّ ، ولا يحلّ للمدّعي الكاذب التصرّف فيما أخذه بعنوان مال المصالحة ، إلاّ فيما إذا أحرز رضا من يعطي المال وطيب نفسه على كلّ حال ؛ لما ذكرنا وتقدّم من أنّ ما يأخذه بعنوان مال المصالحة يكون من المقبوض بالعقد الفاسد واقعا ، وإن كان بحسب الظاهر صحيحا.

[ الأمر ] الثالث : أنّ الصلح نافذ وجائز بين الناس فيما إذا لم يكن أحلّ حراما كاسترقاق الحرّ ، أو استباحة المحرّمات كبضع المحارم وشرب الخمر وغير ذلك من المحرّمات ، أو حرّم حلالا كما أنّه لو صالحا وتسالما على أن لا يطأ حليلته أو لا يأكل اللحم أو لا ينتفع بماله وأمثال ذلك ممّا أحلّه اللّه له.

والدليل على ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : « الصلح جائز بين الناس إلاّ صلحا أحلّ حراما أو

ص: 18


1- « الكافي » ج 5 ، ص 259 ، باب الصلح ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، 208 ، ح 480 ، باب الصلح بين الناس ، ح 11 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 166 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 5 ، ح 4.

حرّم حلالا » (1).

فالصلح الذي أحلّ حراما ، أي كان مفاده لزوم ارتكاب محرّم ، والصلح الذي حرّم حلالا ، أي كان مفاده لزوم ترك ما هو حلال ، وهذا هو معنى تحريم الحلال وتحليل الحرام ، وإلاّ فالحلال لا يصير محرّما واقعا إلاّ بتبديل الحكم من طرف الشارع ، فالمراد من تحليل الحرام وتحريم الحلال هو أن يكون مفاد الصلح هو أحد الأمرين : إمّا لزوم فعل محرّم وهذا هو تحليل الحرام ، أو لزوم ترك مباح أو ما هو راجح فعله وهذا تحريم الحلال ، فمفاد الاستثناء هو عدم نفوذ مثل هذا الصلح الذي يحرّم حلالا أو يحلّل حراما ، وأنّه ليس بجائز. وهذا واضح جدّا.

[ الأمر ] الرابع : في أنّ الصلح صحيح وجائز مع علم الطرفين ومع جهلهما بالمقدار الذي يقع الصلح عنه ، فإذا كان أحد الوارثين أو أحد الشريكين المقدار الذي يملكه من المال المشترك غير معلوم لنفسه ولا لشريكه ، فيجوز أن يصطلحا على حصّته من ذلك المشترك مع جهل الطرفين ، كما أنّه يجوز الصلح عن حصّته مع علمهما أيضا.

وهذا الحكم إجماعيّ ، ويدلّ عليه قبل الإجماع ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام أنّه علیه السلام قال في رجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي فقال : « لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما » (2).

فهذه الرواية صريحة في صحّة الصلح مع جهلهما بمقدار ما يصالحان عنه ويصطلحان عليه ؛ لأنّ مورد الحكم بعدم البأس هو عدم علم المصطلحين بمقدار ما يصطلحان عليه ؛ لأنّ المورد حسب تصريح الراوي وفرضه هو أنّه كلّ واحد منهما لا يدري كم له عند صاحبه.

ص: 19


1- تقدّم تخريجه في ص 10 ، رقم (3).
2- تقدّم تخريجه في ص 13.

هذا ، مضافا إلى شمول المطلقات مثل قوله تعالى ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (1) ومثل قوله صلی اللّه علیه و آله : « الصّلح جائز بين المسلمين » (2) - أو « النّاس » كما في رواية أخرى (3) - لكلتا حالتي علمهما وجهلهما ؛ لأنّ الصلح في كلتا الحالتين صلح ، وكلّ صلح خير بإطلاق الآية ، وهكذا كلّ صلح جائز ونافذ بإطلاق الحديث ، فعدم الصحّة في صورة جهلهما أو علمهما يحتاج إلى دليل مخصّص للعمومات أو مقيّد للإطلاقات.

ثمَّ إنّه كما أنّ جهلهما بالمقدار لا يضر بصحّة الصلح ، كذلك لا يضر جهلهما بجنس ما يصطلحان عليه ؛ للإجماع والإطلاقات.

[ الأمر ] الخامس : أنّ الصلح عقد لازم لا ينحلّ إلاّ بالإقالة من الطرفين ؛ وذلك لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (4) ولا شكّ في أنّ الصلح من العقود العهديّة ، وقد ذكرنا تفصيل شمول ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) للعقود العهديّة ودلالتها على اللزوم في قاعدة أصالة اللزوم في العقود ، وذكرنا سائر الأدلّة أيضا هناك من قبيل : « الناس مسلّطون على أموالهم » (5) وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا يحل مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (6) وقوله علیه السلام : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (7) واستصحاب بقاء أثر العقد بعد النسخ.

وأمّا انحلاله بالإقالة فلا ينافي لزومه ؛ وذلك من جهة أنّ اللزوم ها هنا حقّي ، بمعنى أنّ التزام كلّ واحد من الطرفين بالبقاء عند هذا العقد والعهد والوفاء بمضمونه الذي هو مدلول التزامي للعقد - ولذلك قلنا بعدم هذا الالتزام في المعاطاة ، لعدم كون

ص: 20


1- النساء (4) : 128.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 32 ، باب الصلح ، ج 3267 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 164 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 3 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 259 ، باب الصلح ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 164 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 3 ، ح 1.
4- المائدة (5) : 1.
5- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 222 ، ح 99 ؛ وص 457 ، ح 198 ؛ وج 2 ، ص 138 ، ح 383.
6- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 222 ، ح 98 ؛ وص 113 ، ح 309 ؛ وج 2 ، ص 240 ، ح 6.
7- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 473 ، ح 4.

الالتزام بالوفاء بمضمون المعاملة مدلولا التزاميّا للعمل وإنّما هو مدلول التزامي للعقد - ملك للطرف الآخر ومن حقوقه.

وهذا معنى اللزوم الحقي مقابل اللزوم الحكمي كما في باب النكاح ؛ وذلك لأنّ اللزوم الحكمي في النكاح عبارة عن حكم الشارع بأنّ هذا العقد لازم لا يقدر أحد على حلّه إلاّ الزوج بالطلاق ، وهو أيضا ليس فسخا أو انفساخا ، بل هو عبارة عن رفع العلاقة التي أوجدها بعقد النكاح ، فكما أنّ عقد النكاح سبب لوجودها يكون الطلاق سببا لارتفاعها ؛ ولذلك لا يأتي الخيار ولا الإقالة في النكاح ؛ لأنّ الحكم الشرعي لا يرتفع إلاّ برفع الشارع تخصيصا أو نسخا ، على إشكال في الأوّل من حيث التعبير بالرفع في التخصيص ؛ لأنّ التخصيص يدلّ على أنّ الحكم في مورد الخاصّ من أوّل الأمر لم يكن ، لا أنّه كان وارتفع بالتخصيص.

وعلى هذا المبنى قلنا في باب النكاح إنّ الخيار في الموارد السبعة ليس من الخيار بمعناه الحقيقي ، بل هو تخصيص في اللزوم الذي حكم الشارع به في باب النكاح.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ في كلّ مورد كان اللزوم حقّيا ، أي كان التزام كلّ واحد من الطرفين ملكا وحقّا للآخر يأتي الإقالة ؛ لأنّ حقيقة الإقالة رفع اليد عن حقّه وما ملكه بالعقد من التزام طرفه له ، فإذا رفع اليد عن حقّه لا يبقى محلّ لالتزام طرفه ؛ لأنّ هذا الالتزام كان رعاية لحقّه ولمراعاته ، لا أنّ الملتزم مجبور من طرف الشارع بالبقاء عند التزامه ، وإلاّ لو كان كذلك كان اللزوم حكميّا - أي بحكم الشارع - لا حقّيا ولمراعاة طرفه ؛ ففي اللزوم الحقّي إذا رفع كلاهما يدهما كلّ واحد عمّا التزم له صاحبه فلا يبقى مانع عن الفسخ.

وأمّا في اللزوم الحكمي فلا تأتي الإقالة ؛ لأنّ اللزوم حكم شرعي ليس مربوطا بالطرفين كي يقيل كلّ واحد منهما صاحبه ؛ ولذلك لا تأتي الإقالة في باب النكاح.

وبعد أن ثبت أنّ الصلح من العقود اللازمة العهديّة التي لزومه حقّي لا حكميّ ،

ص: 21

فلا مانع من ثبوت الإقالة فيه وتأثيرها في جواز فسخ كلّ واحد من المصطلحين له. وحيث ثبت أنّ الإقالة على مقتضى القواعد الأوّلية ، فثبوتها في كلّ معاملة بالخصوص لا يحتاج إلى دليل خاصّ في تلك المعاملة بالخصوص ، فكذلك في باب الصلح لا يحتاج إلى وجود دليل على صحّة الإقالة ، بل هي مقتضى القواعد الأوّليّة.

[ الأمر ] السّادس : صلح الشريكان قال في الشرائع : إذا اصطلح الشريكان على أن يكون الربح والخسران على أحدهما وللآخر رأس ماله صحّ. (1)

والدليل على صحّة هذا الصلح أوّلا شمول الإطلاقات له ، فإنّ قوله صلی اللّه علیه و آله « الصلح جائز بين المسلمين - أو الناس - إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا » يشمل مثل هذا ؛ لأنّ هذا صلح ولم يحرّم حلالا ولم يحلّل حراما ، فيكون من مصاديق الصلح الصحيح.

وثانيا : هو الإجماع.

وثالثا : روايات ، منها : ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه الصلاة والسلام في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ، وكان من المال دين وعليهما دين ، فقال أحدهما لصاحبه : أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى. فقال : « لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرط يخالف كتاب اللّه فهو ردّ إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ » (2).

وقد روي هذه الرواية بعدّة طرق آخر كما هو مذكور في الوسائل ، ودلالتها على ما نقلناه عن الشرائع واضح لا يحتاج إلى البيان.

ثمَّ إنّه هل مفاد هذه الرواية وغيرها من الروايات الواردة في خصوص المقام هو صحّة هذا الصلح بالنسبة إلى الربح والخسران المتقدّم كي يكون به انتهاء الشركة

ص: 22


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 99.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 258 ، باب الصلح ، ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 229 ، باب المضاربة ، ح 3848 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 207 ، ح 476 ، باب الصلح بين الناس ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 165 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 4 ، ح 1.

ويكون هذا الصلح في مقام التقسيم ، أو لا بل صحّته مطلقا ، سواء كان في أوّل الشركة أو في وسطها أو في آخرها؟

اختار المحقّق الثاني قدس سره الأوّل حيث يقول : هذا إذا انتهت الشركة وأريد به فسخا وكان بعض المال دينا لصحيحة أبي الصباح. (1) ثمَّ ذكر الرواية التي نقلناه عن الحلبي. وكذلك الشهيد الثاني في المسالك حمل الرواية على ما اختاره المحقّق الثاني. (2)

والإنصاف : أنّ صدر الرواية ظاهر في ما ذكراه ؛ لأنّ قوله علیه السلام : « لا بأس » ظاهر في نفي البأس عمّا سأل عنه الراوي وعن فرضه ، وفرضه في حصول ربح لهما بعد حصول الاشتراك ، فكأنّه قال بعد أن اشتركا في مال واتّجرا به فحصل ربح من كسبهما فيه : إنّ لي رأس مالي والباقي لك ، فصالح بهذه العبارة أنّه صالح جميع حقّه في هذا المال المشترك بمقدار رأس ماله ، وما سوى مقدار رأس ماله للآخر ، سواء كان زائد على رأس مال الآخر فيكون الرّبح له ، أو كان أقلّ منه فيكون التوى - أي الخسارة - عليه.

فيظهر من هذا الكلام أنّه إذا اصطلحا على أن يكون مقدار رأس مال أحدهما له ، والباقي أي مقدار كان للآخر ، سواء كان زائدا على رأس مال الآخر أو كان أقلّ أنّ بهذا الصلح ينتهي الشركة. وهذا شبه تقسيم بالمصالحة ورضا الطرفين ، ولكن حيث قيّد علیه السلام نفي البأس بقوله : « إذا اشترطا » فربما يخرج الصدر عن ظهوره في انتهاء الشركة ؛ لأنّ المراد بالاشتراط إمّا الاشتراط في عقد الشركة ، أي لا بأس بهذا الصلح إذا كانا اشترطا في عقد الشركة أن يكون رأس مال أحدهما له ، والباقي قليلا كان أم كثيرا للآخر.

فهذا الشرط في عقد الشركة إن كان مرجعه إلى أن لا يكون ربح المال له ولا

ص: 23


1- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 413.
2- « المسالك الافهام » ج 4 ، ص 265.

خسارته عليه ، بل يكون ربحه لشريكه وخسارته أيضا على شريكه يكون باطلا ؛ لأنّه خلاف مقتضى أصل العقد ، لا أنّه خلاف مقتضى إطلاق العقد كي يكون صحيحا ، فلا يمكن أن يكون تقييده علیه السلام عدم البأس بالاشتراط بهذا المعني ، أي بالاشتراط بالشرط الباطل.

وحيث قيّده به فلا بدّ وأن يكون بمعنى آخر يلائم مع هذا التقييد ، وهو أن يكون إنشاء هذا المعنى ، أي كون رأس ماله له والباقي لطرفه بعقد لازم كنفس الصلح ، أو يكون في ضمن عقد لازم آخر كي يكون لازما وواجب الوفاء ، لا وعدا ابتدائيّا أو صرف قول ومذاكرة من دون عقد وعهد كي لا يكون واجب الوفاء ، بل لا يصير ملكا للطرف لعدم خروج الربح عن ملكيّة صاحب المال الرابح بصرف هذا القول.

وكذلك الأمر في الخسارة تتبع المال ، وبصرف القول والمذاكرة لا يصير خسارة مال شخص على شخص آخر ، خصوصا مع فرض سكوت الطرف الآخر وعدم إظهار رضاء ، كما هو ظاهر الرواية.

فلا بدّ وأن نفرض المقام أنّ صاحب أحد المالين اللذين حصل الاشتراك بينهما إمّا بعقد الشركة أو بمزجهما أو بخلطهما - فيما يحصل الاشتراك بالخلط - صالح ماله للطرف الآخر بمقداره بدون زيادة ولا نقيصة في ذمّته. ونتيجة مثل هذا الصلح هي صيرورة تمام المال ملكا للطرف الآخر ، فقهرا يكون الربح له والخسارة عليه ، غاية الأمر تكون ذمّته مشغولة للمصالح المذكور ، فلو خسر تمام المال المشترك ولم يبق له شي ء ، يكون عليه تفريغ ذمّته بإعطاء جميع رأس المال الذي تعلّق بذمّته.

وأمّا الإشكال بأنّ الشرط والاشتراط لا يطلق على مثل هذا الصلح.

ففيه : ما ذكرنا تفصيله في أصالة اللزوم : أنّ الشرط والاشتراط يطلق على كلّ عقد لازم من العقود العهديّة.

إذا ظهر لك ما ذكرنا ، تعرف أنّ هذا المعنى - أي الصلح بالصّورة المذكورة - يمكن

ص: 24

أن يقع في ابتداء حصول الشركة وفي وسطه وفي انتهائه ، ولا يجب أن يكون عند القسمة ويكون عند انتهاء الشركة.

ولكن أنت خبير بأنّ لازم هذا الوجه في معنى الاشتراط أيضا انتهاء الشركة ، غاية الأمر يحصل الانتهاء بنفس الصلح المذكور ويبطل الشركة ؛ إذ لا يعقل بقاء الشركة مع تعلّق مال أحد الشريكين بذمّة الآخر وصيرورة تمام المال له ، نعم إحداث هذا الصلح يمكن أن يكون في ابتداء حصول الشركة ، ويمكن أن يكون في وسطها ، ويمكن أن يكون بعد انتهائها وفسخها ، وعلى كلّ حال به ينتهي الشركة. اللّهمّ إلاّ أنّ المراد من الاشتراط نفس الصلح - كما ذكرنا - بناء على صحّة إطلاقه على العقود العهديّة الضمنيّة ، والصلح في هذا المورد يكون على استحقاق أحدهما من المال المشترك مقدار رأس ماله ، والباقي أيّ مقدار كان للآخر ، ربح أو خسر.

وهذا المعنى ليس فيه إشكال ؛ لأنّ الصلح عبارة عن التسالم على أمر كما تقدّم ، ولا مانع من تسالمهما على مثل هذا الأمر ؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، وليس هذا التسالم موجبا لتحريم حلال أو تحليل حرام كي يكون موجبا لبطلانه كما هو مفاد النّص ، وليس من باب معاوضة حقّه بما يساوي مقدار رأس ماله في ذمّة الآخر كي يكون تمام مال المشترك للآخر ، فيكون بهذه المصالحة انتهاء الشركة.

وهذا المعنى بعد أن فرغنا عن صحّته وشمول إطلاقات الصلح له ، لا ينافي بقاء الشركة بعد هذا الصلح ؛ لأنّ المفروض أنّ مفاد كون حق المصالح في هذا المال المشترك مقدار رأس ماله وإن بقي الاشتراك بعد ذلك سنين ، فيجوز هذا الصلح في ابتداء الشركة وفي أوساطها وعند انتهائها ، وليس مختصا بحال القسمة ولا يحصل به الفسخ ، بل يمكن بقاء المال على الاشتراك ؛ لشمول الإطلاقات لمثل هذا الصلح ، بل لا يبعد أن يكون ظاهر الروايات الخاصّة أيضا هذا المعنى ، بناء على أن يكون المراد من قوله علیه السلام : « إذا اشترطا فلا بأس » هو نفس عقد الصلح ؛ لصحّة إطلاق الشرط والعهد على العقود اللازمة العهديّة.

ص: 25

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تقييد كلمة « صحّ » التي في المتون بقيد « هذا إذا انتهت : أي الشركة » كما في جامع المقاصد (1) و « عند انتهائها » كما في المسالك (2) ليس كما ينبغي. وكذلك ما أفاده الشهيد قدس سره في الدروس (3) بقوله : ولو جعلا ذلك - أي الصلح المذكور - في ابتداء الشركة فالأقرب المنع لمنافاته مع موضوعها ، أي الشركة وقبل هذه العبارة يحكم بصحّة هذا الصلح إذا كان عند إرادة الفسخ.

وأنت عرفت ما في كلامه هذا ، وما في كلام غيره ممّا يشابه هذا الكلام.

وخلاصة الكلام : أنّه إن كان المراد من قوله علیه السلام : « إذا اشترطا » أي في ضمن عقد الشركة ، فلا بدّ وأن نقول : على فرض صحّة السند وحجّية تلك الروايات الخاصّة أنّ هذا حكم تعبّديّ ؛ إذ لا يمكن تصحيحه بالقواعد المقرّرة ، بل مقتضى القواعد بطلان هذا الشرط ؛ لأنّه مناف لمقتضى ذات العقد لا لإطلاقه. وأمّا إذا كان المراد منه هو الصلح كما هو ظاهر عبارة المتون فلا إشكال في صحّة مثل هذا الصلح ، سواء كان في ابتداء الشركة أو في أوساطها أو في انتهائها.

[ الأمر ] السابع : لو ظهر وبان أنّ أحد العوضين ممّا وقع الصلح عليهما إمّا للغير أي ليس للطرف في عقد المصالحة ، وإمّا ممّا لا يملك كالخمر والخنزير.

والنتيجة في كلا الشقين أنّه لا يملكه الذي هو طرف المصالحة ؛ إمّا لأنّه ملك الغير ، أو لعدم ماليّته عرفا ، كالأشياء الخسيسة التي لا يعتبرها العقلاء كالخنفساء مثلا ؛ أو لإسقاط الشارع ماليّته العرفيّة ، كالخمر والخنزير وآلات الملاهي وأدوات القمار كأدوات النرد والشطرنج ؛ فيبطل الصلح قطعا.

وذلك من جهة أنّ حقيقة المعاوضة في أيّ عقد معاوضيّ كانت عبارة عن تبديل

ص: 26


1- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 413.
2- « مسالك الأفهام » ج 4 ، ص 265.
3- « الدروس » ج 3 ، ص 333.

المالين في عالم الاعتبار ، فقوام المعاوضة بهذا الأمر ، فلا بدّ وأن يكون كلّ واحد منهما مالا كي يكون قابلا للعوضيّة في عالم الاعتبار ، وأن يكون كلّ واحد من طرفي عقد المعاوضة - موجبا أو قابلا - له السلطنة على المعاوضة ، فهذان ركنان في كلّ معاوضة ، وبفقد أيّ واحد منهما لا يتحقّق المعاوضة.

فإن كان ممّا لا يملك ، أي أسقط الشارع ماليّته العرفية ، كالخمر والخنزير وأمثالهما ، أو لم يكن مالا حتّى عرفا لخسّته كالخنفساء ، فينتفي الركن الأوّل وإن كان مستحقّا للغير ، سواء كان ملك الغير أو كان متعلّقا لحقّ الغير ، فلا يكون طرف المعاوضة مسلّطا عليه ، فينتفي الركن الثاني. وعلى كلا التقديرين لا يبقى مجال للمعاوضة ، فيبطل الصلح لو بان أنّ أحد العوضين مستحقّ للغير أو ليس له ماليّة.

وهذا الحكم جار في جميع المعاوضات. ولا شبهة ولا خلاف فيما إذا كان جميع أحد العوضين كذلك. أمّا لو كان بعض أحد العوضين المعيّنين في الخارج ، أي كان بعض العين الخارجيّة التي وقعت عوضا في الصلح للغير ، أو كان ممّا لا يملك كالعبد الذي نصفه حرّ أو للغير ، فهل الصلح باطل في المجموع ، أو صحيح في المجموع ، أو يبعض وصحيح في النصف الذي له وباطل في النصف الآخر الذي ليس له ، أو يكون متعلّق حق الغير؟ وجوه.

قد تقدّم في الأمر الثاني أنّ الأرجح هو بطلان الصلح في المجموع ، حتّى في النصف الذي يملكه الطرف ، وذكرنا برهانه هناك فلا نعيد.

وربما يتوهّم الفرق بين العقود المعاوضيّة وبين الصلح ، بأنّ العقود المعاوضيّة كالبيع - مثلا - حيث أنّ المنشأ فيها هو المبادلة بين المالين ، فمع عدم ماليّة أحد العوضين أو عدم كونه له لا يتحقّق حقيقة المبادلة التي لا بدّ منها في تلك العقود.

وأمّا الصلح الذي عبارة عن التسالم والموافقة على أمر لم يؤخذ فيه كونه بعوض ، بل يمكن أن يقع بلا عوض ومجانا ، فإذا كان الأمر كذلك فكما يمكن أن يقع من أوّل

ص: 27

الأمر مجّانا وبلا عوض ، فلا يضرّ بصحّته صيرورته كذلك - أي مجانا - بعد ظهور أنّ العوض المذكور ليس بمال ، أو ليس له وإن كان مالا.

لكنّه توهّم عجيب ؛ لأنّ الصلح وإن لم يؤخذ في حقيقته كونه ذا عوض ويمكن أن يقع مجانا وبلا عوض ، ولكن إذا إنشاء التسالم والموافقة على أمر بعوض يصل إلى المصالح ، فإذا لم يصل إليه شي ء إمّا لأجل أنّه ليس بمال ، أو ليس له ، فقد تخلّف ما وقع عمّا هو مقصود الطرفين ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، والعقود تابعة للقصود.

فكما أنّ التمليك لم يؤخذ في حقيقته أن يكون بعوض ، ولذلك قد يكون بلا عوض كالهبة الغير المعوضة ، ولكن إذا أنشأ بعوض كالبيع مثلا ولم يكن العوض للطرف ، بعد العقد بان أنّه ليس له أو ظهر أنّه ليس بمال عرفا أو شرعا وإن كان مالا عند العرف لكن الشارع أسقط ماليّته ، فذلك العقد باطل.

فكذلك فيما نحن فيه - أي الصلح - وإن لم يؤخذ في حقيقته العوض ، لكن إذا أنشأ بعوض ، يكون العوض من أركان ذلك العقد ، ومع فقده يبطل ذلك العقد.

وأمّا النقض بالنكاح بأنّ المهر المعيّن في عقده إذا بان أنّه ملك للغير أو متعلّق حقّ الغير كأن يكون مرهونا مثلا فجعله مهرا بدون إذن المرتهن ، أو كان غير مال شرعا كالخمر والخنزير ، فلا يبطل العقد بل يرجع إلى بدله أو إلى مهر المثل أو غير ذلك ممّا قيل في تلك المسألة ، فلا ينبغي أن يتوهّم ؛ لأنّ المرأة ليست عوضا عن المهر ولا المهر عوض منها. وقوله علیه السلام : « إنّما يشتريها بأغلى الثمن » (1) من باب التشبيه بالبيع ، وإلاّ فذات المرأة حرّة لا أمة ليتقدّر بمال والبضع من منافعها ، وليست عينا كي يصحّ بيعه.

وبعبارة أخرى : النكاح ليس من العقود المعاوضيّة ، بل لزوم المهر فيه حكم

ص: 28


1- « الكافي » ج 5 ، ص 365 ، باب النظر لمن أراد التزويج ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 59 ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، باب 36 ، ح 1.

شرعي ، ولذلك لو عقد على امرأة ولم يذكر المهر أصلا لا يبطل العقد ، ولكن يرجع إلى مهر المثل تعبّدا ؛ لأنّ البضع لا تستباح مجّانا.

ففي رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا تزوّج الرجل المرأة فلا يحلّ له فرجها حتى يسوق إليها شيئا درهما فما فوقه » (1). وفيما رواه زرارة قال : « لا تحلّ الهبة إلاّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمّا غيره فلا يصلح له نكاح إلاّ بمهر » (2).

والروايات على لزوم المهر في النكاح كثيرة ، وما ذكرنا كلّه كان فيما إذا كان العوض عينا شخصيّا ، فإذا بان أنّه مستحقّ للغير أو ليس قابلا لأن يملك شرعا أو عرفا فالصلح باطل.

وأمّا لو كان في الذمّة فدفع ما كان كذلك ، فلا وجه للبطلان ، بل يجب عليه أن يدفع غيره من مصاديق ما في الذمّة ممّا يكون مالا عرفا ، ولا يكون متعلّقا لحقّ الغير ، ولا يكون للغير ، ولم يسقط الشارع ماليّته أيضا.

وأمّا إذا ظهر في عوض الصلح عيب ونقص فلا يوجب البطلان ولا الخيار.

أمّا عدم البطلان لأنّه ليس بلا عوض ، وتلك العين الشخصيّة التي جعلت عوضا للعقد موجودة ، ولذلك لا يوجب البطلان حتّى في البيع الذي هو الأصل في باب المعاوضات ، وحقيقته تبديل العين المتموّل بعوض.

وأمّا عدم إيجابه الخيار ، فلأنّ عمدة دليل الخيار إذا ظهر عيب ونقص في المبيع الشخصي أو الثمن الشخصي ، هو الشرط الضمني ، أي بناء البائع على بيع هذه العين الموجودة بما يساويها في القيمة ، أي هذا الثمن الموجود في الخارج. وكذلك الأمر في

ص: 29


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 357 ، ح 1452 ، باب المهور والأجور ... ، ح 15 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 220 ، ح 779 ، باب انّه يجوز الدخول بالمرأة ... ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 15. ص 12 ، أبواب المهور ، باب 7 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 364 ، ح 1478 ، باب المهور والأجور ... ، ح 41 ؛ « وسائل الشيعة » ج 15. ص 28 ، أبواب المهور ، باب 19 ، ح 1.

طرف المشتري ، أي يشتري هذه العين التي تساوي هذا الثمن بحسب القيمة بهذا الثمن.

وهذا الشرط من الطرفين - البائع والمشتري - ارتكازيّ لا يحتاج إلى الذكر أو البناء خارجا ؛ ولذلك لو أتى شخص غير المتبايعين وقال : هذا المبيع لا يساوي هذا الثمن يتأذّى البائع وربما يترك المشتري هذه المعاملة لو سمع هذه المقالة. وكذلك الأمر في طرف الثمن.

فمن هذا يعلم أنّ كليهما - أي البائع والمشتري - بنائهما على تساوي العوضين ، وأنّهما بلا عيب ونقص ، وبفقد الشرط الضمني الأوّل أي التساوي في القيمة يثبت خيار الغبن ، وبفقد الثاني أي السلامة عن العيب والنقص يأتي ويثبت خيار العيب.

هذا في البيع أو سائر المعاوضات التي بناء المتعاقدين فيها على تساوي العوضين.

وأمّا في الصلح فليس الأمر كذلك ، بل بناء المتعاقدين فيها على التسامح ؛ لأنّه شرّع في الأصل لقطع المنازعات ، وقطع المنازعات لا يمكن غالبا إلاّ بالتسامح ، وإلاّ لو كان بناؤهما على المداقّة ، فلا يحصل الصلح غالبا.

وهذا في خيار الغبن واضح ، وأمّا خيار العيب إذا وقعت المصالحة على عين خارجي ، فالإنصاف أنّ بناءهما على صحّتها وسلامتها ، فلا يبعد إتيان خيار العيب في الصلح إذا ظهر مال المصالحة معيبا ، ولكن بالنسبة إلى حقّ الفسخ لا أخذ الأرش ، وإنّما هو حكم تعبّدي في خصوص البيع للإجماع والروايات.

ولكن الروايات لا تدلّ على التخيير بين الردّ وأخذ الأرش ابتداء ، بل دلالتها على أخذ الأرش بعد عدم إمكان الرّد لوجود تغيّر في المعيب بعد تسلّمه من صاحب المبيع المعيب مثلا ، وعلى كلّ حال التخيير بين الردّ والأرش مختصّ بالبيع ؛ للإجماع والرواية ، وإلاّ فصرف تخلّف الشرط الضمني لا يوجب إلاّ الخيار ، فالخيار يثبت في الصلح إذا كان العوض معيبا ، وأمّا الأرش فلا.

[ الأمر ] الثامن : يصحّ الصلح على عين بعين أو منفعة ، وعلى منفعة بعين أو منفعة.

ص: 30

والدليل على صحّة المذكورات هي العمومات وإطلاقات أدلّة الصلح ، فقد تقدّم أنّ الصلح عبارة عن التسالم والموافقة على أمر بشي ء ، سواء كان ذلك الأمر عينا أو دينا أو منفعة أو حقّا على نقل هذا الأخير أو إسقاطه ، وحيث أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط حتّى عرّف بذلك مقابل الحكم ، فإنّه غير قابل للإسقاط ؛ فكلّ حقّ قابل لأن يقع الصلح عليه ، سواء كان على نقله أو على إسقاطه.

وعمومات الصلح وإطلاقاته كقوله ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « الصلح جائز بين الناس إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا » يشمل جميع ما يقع التسالم والتوافق عليه ، ولو كان إسقاط حقّ أو نقله فيما كان قابلا للنقل ؛ إذ بعض الحقوق غير قابل للنقل ، كحقّ البضع والمضاجعة وأمثالهما من الحقوق القائمة بشخص خاصّ.

هذا إذا علم أنّه قابل للنقل ، وأمّا إذا شكّ في أنّه قابل للنقل ، فهل يصحّ الصلح على نقله ، أو يحتاج إلى الإحراز؟

الظاهر عدم الصحّة ولزوم الإحراز ؛ وذلك من جهة أنّه لا بدّ من إحراز مشروعيّة متعلّقه ؛ وذلك للاستثناء الذي في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إلاّ صلحا أحلّ حراما » فبعد هذا الاستثناء يقيد موضوع ما هو جائز ونافذ بالصلح على أمر مشروع ، فإذا شككنا أنّ الحقّ الفلاني مشروع نقله أم لا ، فلا يجوز التمسّك لجوازه ونفوذه بإطلاقات أدلّة الصلح.

فلو شككنا في أنّ حقّ السبق في الوقف في الأوقاف العامّة - كما إذا سبق شخص إلى مكان في أحد المساجد ، أو في الحرم الشريف ، أو إلى مكان في خانات الوقف بين الطرق على المسافرين ، أو غير ذلك - هل قابل للنقل أم قائم بشخص السابق ، فالصلح على نقل مثل ذلك الحقّ مشكل ، ولا يشمله عمومات وإطلاقات أدلّة الصلح لمكان ذلك الاستثناء. نعم لا مانع من وقوع الصلح على إسقاط كلّ حقّ بناء على أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، فالإسقاط خاصّة شاملة للحقّ.

ص: 31

الجهة الثالثة : في بيان بعض فروع هذه القاعدة

اشارة

أي قاعدة « الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا » :

فمنها : أنّه لو كان هناك درهمان ورجلان ، فادّعى أحدهما الاثنين والآخر أحدهما ، قال في الشرائع : لمدّعي الاثنين درهم ونصف ، والباقي - أي نصف الدرهم - للآخر (1).

ولا بدّ فرض المسألة فيما إذا كان الدرهمان في يدهما جميعا ، أو كانا مطروحين في مكان مباح ليس له مالك ولم يكن لأحد يد عليه وإلاّ لو كانا في يد مدّعي الاثنين يحكم له بهما مع حلفه أو نكول الطرف المدعي لواحد ، كما أنّه لو كانا في يد مدّعي الواحد يعطى واحد لمدعي الاثنين ؛ لأنّه مدّع بلا معارض ، والدرهم الآخر يعطى لذي اليد مع يمينه أو نكول مدعي الاثنين.

ولا بدّ أن يحمل صحيح عبد اللّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجلين كان معهما درهمان ، فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الآخر : بيني وبينك ، قال : فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أمّا الذي قال هما بيني وبينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له فيه شي ء وأنّه لصاحبه ، ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين » (2) على ما قلنا من أنّ الدرهمين إمّا لا يد لأحد عليهما ، وإمّا في يد الاثنين جميعا ، كما أنّ ظاهر الرواية هو الأخير ؛ لفرض الراوي أنّ الدرهمين كان معهما أي في يد كليهما.

ففي هذه الصورة ما أجاب به الإمام علیه السلام هو مقتضى القواعد الأوّليّة أيضا ،

ص: 32


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 99.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 35 ، باب الصلح ، ح 3274 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 208 ، ح 481 ، باب الصلح بين الناس ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 169 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 9 ، ح 1.

وحكمه علیه السلام بتقسيم الدرهم الثاني بينهما الظاهر في التقسيم بالسويّة هو مقتضى قاعدة العدل والإنصاف التي استعملها الفقهاء في موارد كثيرة ، فيكون ما ذكره في الشرائع مطابقا لما هو مضمون الرواية ، وكون الدرهم ونصفه لمدّعي الاثنين أيضا مقتضى قاعدة الإقرار من مدّعي الواحد ، فإنّه نفى عن نفسه ، وقاعدة سماع قول المدّعي بلا معارض بدون تكليفه بالبيّنة.

وما ذكره جمع من الأساطين كالعلامة في التذكرة (1) ، والشهيد في الدروس (2) من حلف كلّ واحد منهما ، فيحلف مدّعي الاثنين لمدّعي الواحد بأنّ نصف الدرهم ممّا صار بيدي ليس لك ، ولو نكل يؤخذ منه ويعطى لمدّعي الواحد ، ويحلف مدّعي الواحد على الإشاعة لمدّعي الاثنين أنّ هذا النصف الذي صار بيدي ليس لك ، ولو نكل يعطى لمدعي الاثنين.

والسرّ في ذلك : أنّ كلّ واحد منهما مدّع ومنكر ، فمدّعي الواحد مدّع للنصف من الدرهم الذي صار في يد مدّعي الاثنين ، وهو منكر ؛ ومدّعي الاثنين مدّع للنصف الذي يعطى لمدعي الواحد على الإشاعة ، وهو منكر ؛ فيجب إجراء القاعدة المعروفة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » فهاهنا مدّعيان ومنكران ، وحيث أنّ المفروض عدم وجود بيّنة في المقام ، فيجب أن يحلف كلّ واحد منهما للآخر ، فلو لم يحلف أحدهما لا يعطى ذلك النصف المتنازع فيه ، كما أنّه لو ردّ كلّ واحد من المنكرين الحلف إلى الطرف الذي هو مدّع وهو نكل ، فلا يستحقّ ذلك النصف ، ولو حلفا جميعا أو نكلا جميعا أيضا ، يقسّم بينهما بالسوية ؛ لقاعدة العدل والإنصاف المذكورة.

وخلاصة الكلام : أنّ من بيده النصف مدّع للنصف الآخر ، ومن بيده الدّرهم والنصف منكر ، ومن بيده الدرهم والنصف مدّع للنصف الآخر الذي بيد طرفه ، وهو منكر ؛ فيكون الأمر كما ذكرنا.

ص: 33


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 191.
2- « الدروس » ج 2 ، ص 333.

هذا ما ذكره هؤلاء الأساطين مع اختلاف بين ما ذكروه ، وهو تخصيص الحلف بالثاني أي مدّعي الواحد إذا ادّعى مشاعا.

ولكن التحقيق أنّه لا فرق في صيرورة كلّ واحد منهما مدّعيا ومنكرا في المفروض ، أي فيما إذا كان لكليهما اليد على الدرهمين بين أن يكون دعوى المدّعي الواحد على الإشاعة أو على التعيين.

وتوضيح ذلك موقوف على بيان مقدّمة ، وهي أنّه لا شكّ في أنّ ذا اليد منكر لو ادّعى المال من ليس له يد على المال ، وليس له حجّة أخرى على أنّ المال له. وذلك الآخر الذي ليس له يد على المال يكون مدّعيا ، إن لم يكن له حجّة أخرى على أنّ المال المتنازع فيه له. فبناء على هذا يكون ذو اليد منكرا ومقابله يكون مدّعيا.

ثمَّ إنّ ذا اليد لو كان شخصا واحدا ، فالذي يدّعيه يكون مدّعيا ويكون ذو اليد منكرا. وأمّا لو كان ذو اليد متعدّدا كما إذا ادّعى أحد غير هؤلاء الذين لهم اليد على المال أيضا يكون مدّعيا ، وذوو الأيدي يكونون منكرين إن لم يصدّقوه.

وأمّا إن كان مدّعي لجميع ما في يدهم أحدهم ، فيكون مدّعيا بالنسبة إلى البعض ومنكرا بالنسبة إلى بعض آخر.

بيان ذلك : أن ذا اليد على مال واحد إن كان متعدّدا ، فلا يمكن أن تكون يد كلّ واحد منهم يدا تامّة مستقلّة ؛ وذلك لأنّ اليد التامّة المستقلّة كما أنّ لها التصرّفات المشروعة في المال ، كذلك له المنع عن تصرّف الغير. وفي الأيدي المتعدّدة ليس لها المنع عن تصرّفات سائر الأيادي ؛ ولذلك لا يحسبها العرف يدا مستقلّة ، بل يعتبرون اليد الناقصة المستقلّة على المجموع يدا مستقلة على البعض بنسبة عدد الأيادي.

مثلا لو كان شريكان ، لكلّ واحد منهما يد على مال ، فحيث أنّ يد كلّ واحد منهما غير تامّة ، فالعرف يعتبرونها تامّة بالنسبة إلى البعض بنسبة عدد الأيدي ، وحيث أنّ ذا اليد اثنين فيد كلّ واحد منهما الناقصة على جميع المال يعتبر يدا تامّة على نصف

ص: 34

المال ، وإن كان ذوو الأيدي والشركاء ثلاثة يعتبر يد كلّ واحد منهم الناقصة يدا تامّة على ثلث المال ، وهكذا.

إذا تبيّن ما ذكرنا ، فنقول :

إذا ادّعى أحدهما أنّ أحد هذين الدرهمين بالخصوص لي وعيّنه ولم يكن دعواه بنحو الإشاعة ، فهذا المدّعي بالنسبة إلى نصف هذا الواحد المعيّن مدّع ، وبالنسبة إلى نصفه الآخر منكر.

بيان ذلك : أنّ مفروض المسألة إن كليهما لهما اليد على هذا الدرهم الذي يدّعيه أحدهما ، وحيث أنّ يد كلّ واحد منهما على مجموع هذا الدرهم غير تامّة وناقصة ، وفي اعتبار العرفي وبنظرهم يد كلّ واحد منهما على المجموع حيث أنّها ناقصة تكون بمنزلة اليد التامّة على نصف ذلك الدرهم ، فتكون أمارة على ملكيّة نصف ذلك الدرهم.

وذلك لأنّ اليد التي هي أمارة الملك هي اليد التامّة المستقلّة غير الناقصة ، فإذا كان الأمر كذلك فالمدّعي لهذا الدرهم المعيّن يكون بالنسبة إلى النصف الذي تحت يد مدّعي الاثنين مدّع ، ومدّع الاثنين بالنسبة إلى هذا النصف الذي تحت يده منكر ، كما أنّ مدّعي الاثنين بالنسبة إلى النصف الذي تحت يد مدّعي الواحد المعين مدّع ، وهو أي مدعي الواحد منكر.

فكلّ واحد منهما مدّع ومنكر ، ويجري في حقّهما قاعدة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » وحيث أنّ المفروض عدم البيّنة في المقام ، فيجب حلف كلّ واحد منهما لردّ دعوى الآخر ، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا يسقط كلا الدعويين ، ويقسّم ذلك الواحد المعيّن بينهما بالسويّة ؛ لقاعدة العدل والإنصاف.

وأمّا إن حلف أحدهما دون الآخر ، فيكون الدرهم المتنازع فيه للذي حلف.

وكذلك الأمر في مدّعي الشركة مثل المدّعي للواحد المعيّن في وجوب الحلف على كلّ

ص: 35

واحد منهما.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ يد المدّعي للشركة تامّة بالنسبة إلى ما يدّعيه أي الشركة وملك النصف أي الدرهم الواحد مشاعا ، فالذي يدّعي الجميع يكون مدّعيا ، لأنّ يده على الجميع ليست تامّة كما ذكرنا. ومدّعي الشركة منكر ؛ لما ذكرنا من أنّ يده تامّة بالنسبة إلى ادّعائه الشركة ، فهو منكر ووظيفة المنكر هو الحلف ، فيختصّ الحلف بالثاني ، أي المدّعي الواحد إذا كان يدّعيه إشاعة أي الشركة بالمناصفة.

وهذا الحكم جار في كلّ من يدّعي الشركة في مال مقابل المدّعي لمجموع ذلك المال مع كون ذلك المال بيدهما جميعا ، كما ذهب إليه الشهيد في الدروس. (1) وقال في جامع المقاصد إنّه متّجه (2).

والإنصاف أنّ العرف مساعد لكون يد كلّ واحد من الشخصين اللذين لهما اليد على مال أمارة الشركة ، فيكون من يدّعي جميع الدرهمين بالنسبة إلى أحد الدرهمين من قبيل المدّعي بلا معارض ؛ لأنّ الآخر لا يدّعيه ، بل هو مقرّ بأنّه له. وأمّا بالنسبة إلى الدرهم الآخر يكون مدّعيا بلا حجّة ، في مقابل دعوى الشركة من الآخر ؛ لأنّ يده أمارة على الشركة ، لا على أنّ جميع المال له.

فقوله : إنّ جميع المال له ، مخالف للحجّة الفعليّة ، وهو يد من يدّعي الشركة. وقد حقّقنا في كتاب القضاء أنّ المدّعي هو من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر مقابله وهو من يكون قوله موافقا للحجّة الفعليّة ، وفي المقام حيث يكون قول من يدّعي الشركة موافقا للحجّة الفعليّة ، ومن يدّعي الجميع مخالفا لها ، فيكون الأوّل - أي من يدّعي الشركة - منكرا ، ومن يدّعي الجميع مدّعيا ، فيكون المدّعي للشركة وظيفته الحلف ، والآخر - أي مدّعي الجميع - وظيفته البيّنة. وهذا الحكم جار في جميع

ص: 36


1- « الدروس » ج 3 ، ص 333.
2- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 436.

موارد مدّعي الشركة مع مدّعي الجميع ، ولعلّ هذا ما أراده الشهيد قدس سره في الدروس.

وعلى كلّ حال ، الحكم في هذه المسألة ما أفتى به المشهور ، من كون أحد الدرهمين للذي يدّعيهما جميعا ، وتنصيف الآخر بينهما ، فيكون درهم ونصف لمن يدّعيهما ، ونصف درهم للذي ادّعى الواحد ، سواء كان دعوى الأخير على نحو الاشتراك ، أو كان يدّعي واحدا معيّنا ؛ وذلك للنصّ المتقدّم ، وهو صحيح عبد اللّه بن المغيرة المذكور آنفا. (1)

والتمسّك بهذه القواعد للاحتياج إلى الحلف والعمل بميزان القضاء ، يكون من قبيل الاجتهاد في مقابل النصّ ، وهذا ممّا يطعن به على المتمسّك مع أنّ هذا الحكم ليس مخالفا للقواعد المقرّرة في كتاب القضاء.

بيان ذلك : أنّه حيث أنّ مفروض المسألة فيما يكون لكلّ واحد من المدّعيين يد على المتنازع فيه ، أو مطروح في مكان ليس لأحدهما يد عليه ، ولا فرق بين الصورتين فيما هو المهمّ في المقام ، وهو أنّه ليس هاهنا مدّع ومنكر في البين ، بل هاهنا مدّعيان ليس لهما حجّة على ما يدّعيان إمّا من أوّل الأمر ، كما إذا كان مطروحا وليس لأحدهما يد عليه ، أو من جهة سقوط كلا المدركين بالتعارض ، وذلك فيما كان لكلّ واحد منهما يد على المال المتنازع فيه ، فتتعارض اليدان وتتساقطان. وعلى كلّ واحد من التقديرين دعويان بلا مستند لكلّ واحد منهما ، وليس المورد مورد المدّعي والمنكر والمال بينهما ، فلا بدّ من تنصيف محلّ النزاع ولو لم يكن تلك الصحيحة ؛ لقاعدة العدل والإنصاف التي يجريها الفقهاء في كلّ مورد يكون المال بينهما وليس لأحدهما مدرك وليس مدّع ومنكر في البين.

فلا يمكن قطع نزاعهما بموازين القضاء ، ولا بدّ من قطع الخصومة ، فيقطع بتطبيق هذه القاعدة بالتنصيف أو بالتثليث أو بالتربيع. وهكذا بنسبة عدد المدّعين ، فلو كان

ص: 37


1- سبق ذكره في ص 32 ، رقم (2).

عشرين كلّ واحد منهم يدّعي تمام المال الذي ليس لأحدهم يد عليه ، ولا لغير هم عليه يد ، وليس لأحد منهم مدرك آخر أنّ هذا المال له ، فلا بدّ وأن يقسّم بينهم بقاعدة العدل والإنصاف عشرين ، لكلّ واحد منهم واحد من ذلك العشرين.

ومما ذكرنا يظهر لك أنّ ما أفتى به المشهور من أنّه « لو وادعه إنسان درهمين وآخر درهما وامتزج الجميع ثمَّ تلف درهم ، يعطى لذي الدرهمين درهم من الدرهمين الباقيين ، وينصّف الدرهم الباقي » فتواهم على طبق القاعدة ، وهي قاعدة العدل والإنصاف ؛ لأنّ الاثنين لا يد لهما على الدرهم ، أمّا يد الودعي فليست أمارة الملكيّة ، وأمّا المدّعيان فلا يد لأحدهما على المتنازع فيه ، واليد السابقة على الإيداع متعلّقها غير معلوم ، وليس المقام مقام المدّعي والمنكر ، فلا يمكن العمل بموازين القضاء ، ولا يمكن قطع الخصومة إلاّ بتطبيق قاعدة العدل والإنصاف بتنصيف المنازع فيه ؛ لأنّهما اثنان ، ولو كان عدد المدّعين أكثر ، كان التقسيم بعددهم كما عرفت.

وهذا ربما يسمّى بالصلح القهري ، ووجه التسمية واضح ، ولعلّ هذه التسمية صارت سببا لذكر هذه الفروع في كتاب الصلح ، فهذا الحكم على طبق القواعد ، ويؤيّده ما رواه السكوني عن الصادق علیه السلام في رجل استودعه رجل دينارين واستودعه آخر دينارا ، فضاع دينار منها قال علیه السلام : « يعطى صاحب الدينارين دينارا ، ويقسّم الآخر بينهما نصفين » (1).

أقول : هذا أحد الاحتمالات في هذه المسألة وقد افتى به المشهور.

وهاهنا احتمالات أخر :

منها : أن يصير المال - أي الدراهم - مشتركة بينهما بواسطة الاختلاط والاجتماع في مكان واحد ، أو بواسطة عدم التمييز الحاصل عن الاختلاط والاجتماع في محلّ

ص: 38


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 37 ، باب الصلح ، ح 3278 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 171 ، أبواب كتاب الصلح ، باب 12 ، ح 1.

واحد ، خصوصا إذا كانت من الدراهم المسكوكة بسكّة واحدة وبوزن واحد وشكل واحد.

ومنها : أن يكون موردا للقرعة ؛ لأجل أنّ القرعة لكلّ أمر مجهول أو مشتبه ، وها هنا اشتبه الدرهم الضائع ، ولا يعلم أنّه لصاحب الدرهم الواحد كي يكون الدرهمان الباقيان لصاحب الدرهمين ، أو أنّه لصاحب الدرهمين كي يكون الباقي أحدهما لهذا والآخر لذاك.

ومنها : الصلح القهري ؛ حيث لا يمكن معرفة صاحب المال الموجود ، فلا بدّ للحاكم أن يجبرهما على الصلح لرفع الخصومة وقطع النزاع ، فلا بدّ للفقيه أن ينظر إلى هذه الوجوه ، ويرى أنّ أيّها أوجه وبالقواعد أوفق.

أقول : أمّا احتمال الاشتراك بواسطة الاختلاط وعدم الامتياز ، وإن أثره هو أن يكون من كلّ درهم ثلثه لصاحب الدرهم الواحد وثلثاه لصاحب الدرهمين ، فإذا ضاع واحد الثلاثة وبقي اثنان ، يكون لصاحب الدرهم الواحد ثلث من كلّ واحد من من الدرهمين الباقيين ، وثلثان من كلّ واحد منهما لصاحب الاثنين ؛ فمجموع حصّة صاحب الدرهم الواحد ثلثا درهم ، ومجموع حصّة صاحب الاثنين أربعة أثلاث ، أي درهم وثلث درهم.

فبناء على حصول الاشتراك يصير حصّة صاحب الدرهمين أقلّ ممّا في الرواية وأيضا ممّا أفتى به المشهور ، وهو درهم ونصف ؛ لأنّ حصّته بناء على ما في رواية السكوني وفي فتوى المشهور أربعة أثلاث ونصف ثلث ، بناء على الاشتراك أربعة أثلاث فقط من دون نصف ثلث ، ويصير حصّة صاحب الدرهم الواحد أزيد ممّا في الرواية وممّا أفتى به المشهور ؛ لأنّه بناء على الاشتراك يكون نصيب صاحب الدرهم الواحد نصفا ونصف ثلث ، وبناء على مفاد الرواية وفتوى المشهور يكون نصف درهم فقط من دون نصف الثلث.

ص: 39

فمرجوح جدّا أوّلا : من جهة أنّ وجود المناط في حصول الشركة القهريّة - التي لا بدّ أن يكون هو المراد في المقام في مثل الدراهم والدنانير - في غاية الإشكال.

وثانيا : الحكم بوقوع الشركة في المفروض مع وجود رواية عمل بها الأصحاب وصارت معتبرة ولو من هذه الجهة على خلافها لا يخلو من نظر وتأمّل.

وأمّا الاحتمال الثاني : أي كون المسألة موردا للقرعة من جهة قوله علیه السلام : « القرعة لكلّ أمر مشكل » وفي بعض الروايات : « لكلّ أمر مشتبه » وفي بعضها الآخر : « لكلّ أمر مجهول » (1) ، والمورد مشكل ومشتبه مجهول.

أمّا كونه مشكلا ؛ من جهة العلم بأنّ المتنازع فيه إمّا لصاحب الدرهم الواحد وإمّا لصاحب الاثنين ، ولا طريق إلى معرفة صاحبه كي يردّ إليه. وأمّا كونه مجهولا ؛ فصاحبه مجهول ، وأمّا كونه مشتبها ؛ فلأنّ مالكه مشتبه يحتمل أن يكون هذا ويحتمل أن يكون الآخر.

ففيه : أنّه أوضحنا في قاعدة القرعة أنّ الأخذ بعموم « كلّ أمر مجهول أو مشتبه » ممّا يقطع بخلافه.

وأمّا الأمر المشكل في الأحكام فهو أيضا ممّا يعلم بعدم اعتبار القرعة ، وقلنا إنّ المستفاد من أدلّة القرعة هو أن يكون المورد معلوما بالإجمال ، ويكون في الشبهة الموضوعيّة لا الحكميّة ، ولا يمكن الاحتياط أو يكون الاحتياط حرجيّا أو ضرريا.

فالأوّل كما إذا طلّق إحدى زوجاته فاشتبهت عليه المطلّقة. والثاني كما لو علم أنّه نذر زيارة الرضا علیه السلام أو زيارة الأئمّة المدفونون في البقيع علیهماالسلام . والثالث كما لو علم بأنّ في قطيع غنمه موطوءا ، فالاحتياط بالاجتناب عن جميع غنمه ضروريّ قطعا ،

ص: 40


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 92 ، باب الحكم بالقرعة ، ح 3389 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 240 ، ح 593 ، باب البينتين يتقابلان أو ... ، ح 24 ؛ « النهاية » ص 346 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1. ص 189 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 13 ، ح 11 و 18.

وفوق ذلك كلّه يكون قد عمل بها الأصحاب في ذلك المورد ، ومعلوم أنّه في هذا المورد لم يعمل بها الأصحاب ؛ لأنّ فتوى المشهور على التنصيف ، فلم يعملوا بها قطعا مضافا إلى أنّ مع وجود الرواية المعمول بها عند الأصحاب لا يبقى إشكال ولا جهل ولا اشتباه في حكم المورد ؛ فليس ما نحن فيه موردا للقرعة.

وأمّا الصلح القهريّ مع وجود تلك الرواية المعمول بها فلا وجه له ولا تصل النوبة إليه ، فالمتّجه هو الاحتمال الأوّل ، والعمل بالرواية والأخذ بفتوى المشهور.

ومنها : أي من فروع هذه القاعدة : لو أتلف على رجل ثوبا قيمته درهم مثلا ، فصالحه بأقلّ من قيمته أو بأزيد ، فهذا الصلح صحيح وإن قلنا بأنّ الربا المعامليّ يدخل في الصلح ، وليس مختصا بالبيع ، كما هو الصحيح عندنا ، وذكرنا وجهه في قاعدة « لا رباء إلاّ في المكيل والموزون » لأنّ الصلح وقع عن الثوب على أقلّ من قيمته أي درهم واحد ، أو على أزيد منه ، ولم يقع عن نفس القيمة على الأقلّ أو الأكثر منه كي يلزم الرباء.

وادّعى في الدروس أنّ صحّة هذه المعاملة على الوجه الذي ذكرنا هو المشهور.

وقد يقال إنّ صحّته وفساده دائر بين أن يكون التلف في القيميّات في اليد الغير المأذونة ، أو إذا أتلف كما هو المذكور في عنوان المسألة هل يوجب اشتغال الذمّة بقيمة التالف أو بمثله ، ويكون أداؤه بالقيمة ، أو التالف بنفسه بوجوده الاعتباريّ في الذمة ويكون أداؤه بالقيمة.

فإن قلنا بالأوّل ، أي حين التلف في اليد الغير المأذونة ، أو حين الإتلاف تشتغل الذمّة في القيميات بالقيمة ، فيكون واقعا عن القيمة على الأقلّ منه أو على الأكثر منها ، فيكون من الربا الباطل.

وأمّا إن قلنا إنّ الذمّة تشتغل بمثل التالف أو بنفسه بوجوده الاعتباريّ ، وإنّما يكون أداؤه بالقيمة ، أي الدرهم أو الدينار ، فالصلح صحيح ؛ لأنّ الصلح وقع عن

ص: 41

نفس التالف الذي ليس من المكيل والموزون كالثوب كما هو المفروض ، وإنّما أداؤه بالدرهم أو الدينار ، فلا رباء ، أو وقع من مثل التالف الذي اشتغلت ذمّته به ، وإنما أداؤه بالقيمة ؛ ففي هذا الفرض أيضا لا رباء ؛ ففي هذين الوجهين لا إشكال في صحّة الصلح.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فالظاهر أنّ ما يأتي في الذمّة بواسطة التلف في اليد الغير المأذونة ، أو بواسطة الإتلاف مطلقا في القيميّات هي القيمة ، كما حقّقناه في قاعدة اليد ، (1) فصحّة هذا الصلح إذا كان التالف من القيميّات في غاية الإشكال.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : على فرض القول في ضمان القيميّات أنّه تشتغل الذمّة من حين التلف أو الإتلاف بالقيمة لا بنفسه بوجوده الاعتباريّ ولا بمثله ، ولكن القيمة التي تشتغل الذمّة بها ليست خصوص النقدين المعروفين ، أي الدرهم والدينار ، بل المراد منها ماليّة التالف ، سواء قدر بالنقدين المعروفين أي الدرهم والدينار ، أو قدر بالأجناس الأخر التي لا يكال ولا يوزن ، كما إذا كانت من المعدودات ، أو ممّا يباع بالذراع والامتار ، أو كانت ممّا يباع بالمشاهدة كأنواع الحيوانات كالغنم والإبل وغيرهما.

فلو صالحه ، أي صالح الذي أتلف عليه عن متاعه الذي من القيميّات على مبلغ أزيد أو أقلّ من تلك القيمة الكلّية القابلة للانطباق على النقدين وعلى غيرهما ممّا لا يكال ولا يوزن ، فلا يكون من الربا الباطل ؛ لأنّ ذلك الكلّي ليس من الأجناس الربويّة ، لأنّه قابل للانطباق على الأجناس الغير الربويّة.

وخلاصة الكلام : أنّه بناء على هذا الذي ذكرنا كما أنّه لو كان التالف مثليّا الصلح عنه على الأقلّ أو الأزيد منه لا يكون من الربا الباطل ، كذلك لو كان من القيميّات ، وإن قلنا باشتغال ذمّته بالقيمة من حين التلف ، وذلك لأنّ المراد من القيمة ليس

ص: 42


1- راجع « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 131.

خصوص النقدين المعروفين ، بل المراد مطلق الماليّة.

ومنها : أنّه لو كانت دار مثلا في يد شخص ، وادّعاها اثنان بسبب مشترك بينهما كالإرث مثلا ، وقالا : ورثنا هذه الدار من أبينا ، فكلّ واحد يدّعي نصف تلك الدار وأنّه له بسبب مشترك وهو الإرث من أبيهما ، فصدّق المتشبث - أي ذو اليد - أحدهما دون الآخر ، بمعنى أنّه أقرّ لأحدهما المعيّن بأنّ نصف هذه الدار لك ، وصالحه عن ذلك النصف المقرّ به له على مال ، فتارة يجيز الآخر هذا الصلح بعد وقوعه أو يأذن قبله ؛ فهذا الصلح صحيح في تمام نصف الدار ، ويكون المال مشتركا بينهما ؛ لأنّ كلّ واحد من المدّعيين مقرّ بأنّ النصف الذي وقع الصلح عنه على ذلك المال مشاع بينهما ، فبعد الإذن أو إجازة الشريك الآخر وصحّة الصلح ، يكون العوض لهما على الإشاعة.

وأخرى : لا يمضى الآخر ولا يقبله ، فيكون الصلح في نصف ذلك النصف - أي الربع - صحيحا ، وفي الربع الذي للآخر فضوليّا وباطلا ؛ لردّه وعدم إمضائه.

هذا كلّه فيما إذا اتّفقا على وحدة سبب استحقاقهما ، وأمّا إذا لم يتّفقا في ذلك ، بل ادّعى أحدهما أنّ نصف هذه الدار مشاعا لي من جهة اشترائي من فلان ، والآخر أيضا ادّعى أنّ نصفها المشاع لي بسبب آخر ، كإرثه من أبيه ، أو اتّهابه من فلان ، أو اشترائه وأمثال ذلك من أسباب التمليك غير سبب ملكيّة الآخر ، فلو صالح أحدهما عن نصفه مثلا على مال يكون الصلح في تمام حصّته صحيحا ، ويكون تمام العوض له ، وهذا واضح جدّا.

وأمّا لو كان شراؤهما لتلك الدار معا ، بمعنى أنّ صاحب الدار قال لهما : بعتكما هذه الدار فقبلا دفعة ، أو قبل وكيلهما عنهما أو اتّهابها معا ، وكذلك قبضهما دفعة ومعا.

فهل هذا مثل كون ملكهما عن سبب واحد ، فإذا أقرّ ذو اليد لأحدهما بنصف الدار مثلا ، وصالح المقرّ له عن ذلك النصف على مال ، يكون نصف مال المصالحة لذلك الآخر الذي هو شريك مع هذا الذي صالحه إن أذن في الصلح قبلا ، أو أجاز بعد

ص: 43

وقوعه ، وإن لم يأذن ولم يجز ، فالصلح باطل في حصّته وصحيح في نصف ذلك النصف الذي وقع الصلح عنه ، أي في ربع الدار المفروض ويرجع نصف مال المصالحة إلى مالكه قبل وقوع الصلح أي المصالح المذكور ، أولا؟ بل يكون ملحقا بما إذا كان ملكيّة الشريكين من سببين متغايرين ، فيكون الصلح صحيحا في تمام حصّة المقرّ له ، ولا دخل للشريك الآخر في هذا الصلح ، وليس لإمضائه ولا لردّه أثر في صحّة هذا الصلح ، ولا في بطلانه؟

ربما يقال : بأنّ ذا اليد لو أقرّ بملكيّة أحدهما مرجعه إلى وقوع الاتّهاب أو الابتياع بالنسبة إليه ، ولا يمكن التفكيك بين وقوع الاتّهاب أو الابتياع بالنسبة إلى المقرّ له دون الآخر ؛ لأنّ المدّعيين متّفقان في وحدة سبب ملكيّتهما وهو الاتّهاب مع القبض منهما دفعة ، فيكون الآخر غير المقرّ له مقرّا ومعترفا بأنّ كلّ نصف من الإنصاف المتصوّرة في هذه الدار يكون له وللآخر ، فإذا كان ذو اليد يعلم فلازم إقراره لأحدهما إقراره لكليهما. نعم يمكن لذي اليد دعوى أنّ الاتّهاب والابتياع لم يقع إلاّ في نصف هذه الدار.

وأمّا الشريكان فالمفروض اتّفاقهما على أنّ هذه الدار جميعها - ابتياعا بصيغة واحدة ، أو اتّهابا بقبول واحد وقبض واحد - مشاع بينهما ، فإذا رفع الغاصب يده عن نصف الدار فقهرا يكون ذلك النصف لكليهما لا لأحدهما ، فيكون الصلح مع أحدهما عن نصف الدار فضوليّا بالنسبة إلى نصف ذلك النصف ، أي ربع تلك الدار موقوفا على إجازة المالك ، وهو الشريك الآخر غير المقرّ له.

ولكن التحقيق : أنّ الإقرار لأحد الشريكين إذا كان سببها - أي الشركة - واحدا لا ينصرف إلى حصّة المقرّ له وحده ، بل الغاصب لما رفع اليد عن نصف مال المغصوب من الشريكين يكون لهما ، ولا وجه لاختصاصه بأحد الشريكين وإن أقرّ بأنّه لأحدهما.

هذا في الإقرار وأمّا بالنسبة إلى البيع والصلح ، فإن باع أحد الشريكين النصف

ص: 44

المشاع من المال المشترك الذي يملكه ، فإن صرّح بأنّ المبيع هو نصف نفسه أو نصف شريكه يكون هو المبيع ؛ لأنّه عيّن المبيع ، وأمّا إن أطلق ، فالظاهر أنّه ينصرف إلى نصف نفسه ، وقد حقّقنا هذه المسألة في مسألة من باع نصف الدار وله ملك نصفها ينصرف إلى ما يملكه من نصفها المشاع.

وبعبارة أخرى : تارة يعيّن في مقام البيع حصّة شريكه ، أي يبيع نصف الدار لشريكه ، وأخرى : النصف المشاع الذي يملكه هو ، فيقع البيع عمّن قصده نفسه أو شريكه ، وثالثة يطلق ، لا يقصد بيع نصف نفسه ، ولا نصف شريكه.

ولعلّ هذه الصورة صارت محلّ البحث في مسألة من باع نصف الدار وله ملك نصفها ، فالمدّعى أنّ الظاهر في هذه الصورة انصراف البيع إلى ما يملكه ، لا أن يبيع مال غيره ، بدون ذكره والانتساب إليه.

هذا حال البيع ، وكذلك الصلح إذا وقع عن حصّة مشاعة بين من يصالح معه وبين غيره ، فالظاهر أنّه ينصرف إلى حصّة من يصالح معه ، فيكون الصلح بالنسبة إلى تمام ما يصالح عنه وهي الحصّة المشاعة التي لمن يصالحه صحيحا ، ويكون تمام المال المصالحة له ، ولا يستحقّ شريكه شيئا منه.

قال في جامع المقاصد (1) في مقام ترجيح صحّة الصلح المذكور في تمام ما صالح عنه ، ووقوعه عن تمام حصّة المصالح معه ، وبعبارة : كونه كالصلح عن مال غير مشاع مشخّص معيّن ، أو المشاع بسبب غير سبب الحصّة التي للشريك.

قال : ولقائل أن يقول : لا فرق بين تغاير السبب وكونه مقتضيا للتشريك في عدم الشركة ؛ لأنّ الصلح إنّما هو على استحقاق المقرّ له ، وهو أمر كلّي يمكن نقله عن مالكه إلى آخر ، ولهذا لو باع أحد الورثة حصّته من الإرث صحّ ولم يتوقّف على رضا الباقين.

ص: 45


1- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 434.

ثمَّ اعلم أنّ الفروع التي ذكرها الفقهاء في كتاب الصلح كثيرة ، ولكن البحث عنها غالبا يرجع إلى قواعد أخر غير قاعدة « الصلح جائز بين المسلمين » ولذلك تركنا ذكرها لكي يكون البحث عنها في كتاب الصلح كما هو ديدن الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 46

47 - قاعدة التقية

اشارة

ص: 47

ص: 48

قاعدة التقية (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة عند الإماميّة الاثنى عشريّة « قاعدة التقيّة » وهي قاعدة مشهورة معروفة.

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في المراد منها

اشارة

أقول : التقيّة اسم مصدر من تقى يتقي أو من اتّقى يتّقى ، وعلى كلّ تقدير سواء كان من الثلاثي أو من المزيد أصل المادة من اللفيف المفروق ، والحرف الأوّل واو ، والثالث ياء فقلبت الواو تاء كما في تجاه وتراث ، فبناء على هذا لا فرق من حيث المعنى بين التقيّة والاتّقاء إلاّ ما هو من الفرق بين المصدر واسمه.

هذا بناء على أن تكون التقيّة اسم المصدر ، وأمّا بناء على أن تكون هي المصدر الثاني لاتّقى فلا فرق بينهما أصلا.

وعلى أيّ واحد من التقديرين هي عبارة عن إظهار الموافقة مع الغير في قول أو فعل أو ترك فعل يجب عليه حذرا من شرّه الذي يحتمل صدوره بالنسبة إليه ، أو

ص: 49


1- 1 « القواعد والفوائد » ج 2 ، ص 155 - 157 ؛ « الأقطاب الفقهيّة » ص 98 ؛ « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص 317 ؛ « الرسائل الفقهيّة » ( الشيخ الأنصاري ) ص 71 ؛ « مناط الأحكام » ص 26 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 121 ؛ « القواعد » ص 93 ؛ « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 383 ؛ « ما وراء الفقه » ج 1 ، ص 108.

بالنسبة إلى من يحبّه مع ثبوت كون ذلك القول أو ذلك الفعل أو ذلك الترك مخالفا للحقّ عنده.

إذا تبيّن المراد من التقيّة ، فنقول :

تارة : نتكلّم في التقيّة من حيث الحكم التكليفي وأنّه يجوز أم لا يجوز.

وأخرى : من حيث ترتّب آثار ما هو الواقع والحقّ على هذا الفعل أو الترك بواسطة إذن الشارع في الإتيان أو الترك المخالفين للواقع.

وثالثة : في أنّه هل تترتّب على ذلك الفعل أو الترك المخالفين للحقّ الآثار الشرعيّة التي رتّبها الشارع عليهما لو صدرا عنه بالاختيار وبميله من دون تقيّة ، أو صدورها تقيّة يوجب رفع تلك الآثار.

فالتكلّم في التقيّة في مقامات ثلاث :
المقام الأوّل

في بيان حكمها التكليفي وأنّه يجوز أو لا يجوز

أقول : لا شكّ في جوازه ، بل وجوبه في بعض الأحيان. وجوازه من القطعيّات واليقينيّات إجماعا وكتابا وسنّة.

أمّا الإجماع ، فوجوده وعدم حجيّته معلوم ؛ لكون اعتمادهم على تلك المدارك القطعيّة ، فليس من الإجماع المصطلح.

وأمّا الكتاب ، فقوله تعالى ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ) (1) وقوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ

ص: 50


1- آل عمران (3) : 28.

وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (1).

أمّا الروايات ، ففوق حدّ الاستفاضة بل لا يبعد تواترها معنى ، وقد عقد في الوسائل أبوابا لها في كتاب الأمر بالمعروف نذكر بعضها :

منها : ما في الكافي عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إنّ قول اللّه عزّ وجل ( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) قال : بما صبروا على التقيّة ( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) (2) قال : الحسنة التقيّة والإساءة الإذاعة » (3).

وأيضا في الكافي أيضا عن هشام بن سالم ، عن أبي عمرو ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال لي أبو عبد اللّه علیه السلام : « يا أبا عمرو تسعة أعشار الدين التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له » (4).

أيضا عن الكافي عن معمّر بن خلاّد قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن القيام للولاة؟ فقال : قال أبو جعفر : « التقيّة من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقيّة له » (5).

أيضا عن الكافي عن محمّد بن مروان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « كان أبي علیه السلام يقول : وأيّ شي ء أقرّ لعيني من التقيّة ، إنّ التقيّة جنّة المؤمن » (6).

أيضا عن الكافي عن عبد اللّه بن أبي يعفور ، قال سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول :

ص: 51


1- النحل (16) : 106.
2- القصص (28) : 54.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 217 ، باب التقيّة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 459 ؛ أبواب الأمر والنهى ، باب 24 ، ح 1.
4- « الكافي » ج 2 ، ص 217 ، باب التقيّة ، ح 2 ؛ « المحاسن » ص 259 ، ح 309 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 460 ، أبواب الأمر والنهى ، باب 24 ، ح 3.
5- « الكافي » ج 2 ، ص 219 ، باب التقيّة ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 460 ، أبواب الأمر والنهى ، باب 24 ، ح 3.
6- « الكافي » ج 2 ، ص 220 ، باب التقيّة ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 460 ، أبواب الأمر والنهى ، باب 24 ، ح 4.

« التقيّة ترس المؤمن ، والتقيّة حذر المؤمن ، ولا إيمان لمن لا تقيّة له » (1).

أيضا عن الكافي عن عبد اللّه بن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « اتّقوا على دينكم واحجبوه بالتقيّة ، فإنّه لا إيمان لمن لا تقيّة له » (2).

أيضا عن الكافي عن حبيب بن بشير قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « سمعت أبي يقول : لا واللّه ما على وجه الأرض شي ء أحبّ إلى من التقيّة ، يا حبيب إنّه من كانت له تقيّة رفعه اللّه ، يا حبيب من لم تكن له تقيّة وضعه اللّه ، يا حبيب إنّ الناس إنّما هم في هدنة ، فلو قد كان ذلك كان هذا » (3).

أيضا عن الكافي عن حريز ، عمن أخبره ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) قال علیه السلام : « الحسنة التقيّة والإساءة الإذاعة » (4).

أيضا عن الكافي عن هشام بن سالم ، عن أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث أنّه قال : « يا أبا عمرو أبى اللّه إلاّ أن يعبد سرّا ، أبى اللّه عزّ وجلّ لنا ولكم في دينه إلاّ التقيّة » (5).

أيضا عن الكافي عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « كلّما تقارب هذا

ص: 52


1- « الكافي » ج 2 ، ص 221 ، باب التقيّة ، ح 23 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 461 ، أبواب الأمر والنهى ، باب 24 ، ح 6.
2- « الكافي » ج 2 ، ص 218 ، باب التقيّة ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 461 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 7.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 217 ، باب التقيّة ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 461 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 8.
4- « الكافي » ج 2 ، ص 218 ، باب التقيّة ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 461 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 9.
5- « الكافي » ج 2 ، ص 217 ، باب التقيّة ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 462 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 10.

الأمر كان أشدّ للتقيّة » (1).

أيضا عن الكافي عن ابن مسكان عن حريز عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « التقيّة ترس اللّه بينه وبين خلقه » (2).

ولا يحتاج دلالة هذه الأخبار على جواز التقيّة إلى البيان والشرح والإيضاح ؛ لكونه في غاية الوضوح.

نعم ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في رسالته المعمولة في التقيّة أنّها تنقسم إلى الأحكام الخمسة (3).

وخلاصة كلامه في تصوير انقسامها إلى الأحكام الخمسة : أنّ الواجب ما يكون لدفع ضرر متوجّه إليه من النفس أو العرض بحيث يكون دفعه واجبا ، ولا يدفع ذلك الضرر الواجب الدفع إلاّ بالتقيّة ، فتكون واجبة.

والمستحبّ ما كان موجبا للتحرّز عن كونه معرضا للضرر ، بمعنى أنّه من الممكن أن يكون تركها مفضيا إلى الضرر تدريجا ، كترك المداراة مع المخالفين ، وهجرهم في المعاشرة في بلادهم ، فإنّه ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة الموجبة للمعاداة التي تترتّب عليها الضرر غالبا ، فالحضور في جماعاتهم والعمل على طبق أعمالهم تقيّة مستحبّ لأجل هذه الغاية ، وإن لم يكن ضرر فعلا في تركها.

والمباح ما كان التحرّز عن الضرر بالتقيّة وتركه بعدم التقيّة متساويان في نظر الشارع ؛ لكون مصلحة التقيّة وتركها متساويتين ، كما قيل في إظهار كلمة الكفر حيث أنّ في فعل التقيّة مصلحة ، وفي تركها أيضا مصلحة إعلاء كلمة الإسلام ، وفرضنا أنّ

ص: 53


1- « الكافي » ج 2 ، ص 220 ، باب التقيّة ، ح 17 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 462 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 11.
2- « الكافي » ج 2 ، ص 220 ، باب التقيّة ، ح 19 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 462 ، أبواب الأمر والنهى ، باب 24 ، ح 12.
3- « المكاسب » ص 320.

مصلحة حفظ النفس التي في التقيّة مع مصلحة إعلاء كلمة الإسلام التي في تركها متساويتان.

والمحرّم كما في الدماء ، فقتل المؤمن في مورد لا يستحقّ القتل تقيّة حرام بلا كلام.

والمكروه ما يكون ضدّه أفضل.

هذا ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في انقسام التقيّة إلى الأحكام الخمسة.

وفي بعضها خصوصا الأخير تأمّل واضح ؛ لأنّ ترك المستحبّ ليس بمكروه ، مع أنّ نقيضه أفضل ، فلو كانت الحركة من بلد أفضل من الوقوف فيه ، فهذا لا يلازم كون الوقوف مكروها ، فالأولى التمثيل للمكروه بما ذكره الشهيد قدس سره وهو التقيّة بإتيان ما هو مستحبّ عندهم ، مع عدم خوف الضرر لا عاجلا ولا آجلا إذا كان ذلك الشي ء مكروها واقعا ، وإلاّ لو كان حراما فالتقيّة بإتيانه لموافقتهم حرام.

هذا ما ذكروه ، ولكن الذي يظهر من الأخبار المستفيضة بل المتواترة هو استحباب التقيّة بل وجوبها - بموافقتهم عملا بل فتوى - فيما إذا احتمل ترتّب ضرر على نفسه ، أو على إخوانه المؤمنين.

وهذا الذي قلنا من استحباب التقيّة أو وجوبها كان في الأزمنة السابقة في أيّام سلاطين الجور الذي ربما كان تركها ينجر إلى قتل الإمام علیه السلام أو إلى قتل جماعة من المؤمنين ، وأمّا في هذه الأزمنة بحمد اللّه حيث لا محذور في العمل بما هو الحقّ ومقتضى مذهبه في العبادات والمعاملات ، فلا يوجد موضوع للتقية.

نعم إذا تحقّق موضوع التقيّة في زمان أو مكان ، فالواجب منها لا يعارض بأدلّة الواجبات والمحرّمات ، وذلك لحكومة دليل وجوب التقيّة على تلك الأدلّة كما هو الشأن في سائر أدلّة العناوين الثانوية بالنسبة إلى أدلّة العناوين الأوّلية ، وذلك كأدلّة نفي العسر والحرج والضرر بالنسبة إلى الأدلّة الأوّلية حيث أنّها حاكمة على الأدلّة الأوّلية بالحكومة الواقعية ، إلاّ في حديث الرفع بالنسبة إلى خصوص ما لا يعلمون ،

ص: 54

فإنّ حكومته على الأدلة الأوّلية حكومة ظاهريّة.

المقام الثاني
اشارة

وهو المهمّ في المقام ، وهو أنّه هل تترتّب آثار الواقع والحقّ على هذا الفعل أو الترك المخالف للحقّ بواسطة إذن الشارع في ذلك الفعل الذي يفعله لأجل التقيّة أو إذنه في ترك أمر لأجلها ، أو لا تترتّب؟

ثمَّ التكلّم في ترتّب آثار الواقع وما هو الحقّ تارة بالنسبة إلى خصوص أثر القضاء والإعادة ، وأنّ ذلك الفعل المخالف للواقع والحقّ هل هو مجز ولا إعادة عليه لو ارتفعت التقيّة في الوقت ، ولا قضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت ، أم ليس بمجز بل تجب الإعادة بعد ارتفاع التقيّة في الوقت ، بحيث يمكن إتيان ما هو الواقع في الوقت ، ويجب القضاء لو ارتفعت التقيّة في خارج الوقت.

وأخرى : بالنسبة إلى سائر آثار الصحّة ، مثل أنّه لو توضّأ بالوضوء تقيّة من الأسفل إلى الأعلى في غسل اليدين أو غسل الرجلين بدل مسحهما ، فهل يترتّب عليه أثر الوضوء الصحيح والواقعي من رفع الحدث بحيث لو ارتفعت التقيّة لا يحتاج إلى الوضوء ثانيا على نهج الحقّ للصلوات الأخر ، أم لا؟

أمّا القسم الأوّل : أي ترتّب الأثر عليه من حيث الإجزاء وسقوط الإعادة والقضاء.

فالتحقيق فيه : أنّ كلّ فعل واجب من الواجبات إذا أتي به موافقا لمن يتّقيه وكان مخالفا للحقّ في بعض أجزائه وشرائطه ، بل وفي إيجاد بعض موانعه ، فإن كان مأذونا من قبل الشارع في إيجاد ذلك الواجب بعنوان أنّه واجب للتقيّة فهو مجز عن الواقع ، ولا يجب عليه الإعادة إذا ارتفع الاضطرار في الوقت ، ولا القضاء إذا ارتفع في خارج

ص: 55

الوقت ؛ وذلك لما حقّقنا في كتابنا « منتهى الأصول » (1) في مبحث الإجزاء أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الثانوي مجز عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ، سواء كان رفع الاضطرار في الوقت ، أو في خارج الوقت.

ولا فرق في كونه مأذونا بين أن يكون الرخصة والإذن بعنوان ذلك الواجب بخصوصه ، كما أنّه ورد الإذن في خصوص المسح على الخفّين في صحيح أبي الورد : قلت لأبي جعفر علیه السلام : إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه رأى عليا علیه السلام أنّه أراق الماء ثمَّ مسح على الخفيّن ، فقال علیه السلام : « كذب أبو ظبيان ، أما بلغك قول عليّ علیه السلام فيكم : سبق الكتاب المسح على الخفين؟ » فقلت : هل فيهما رخصة؟ فقال علیه السلام : « لا إلاّ من عدوّ تتّقيه ، أو ثلج تخاف على رجليك » (2).

أو كان بعنوان عامّ يشمل جميع الواجبات ، كقوله علیه السلام : « التقيّة من ديني ودين آبائي » (3) وكذلك قوله علیه السلام : « التقيّة في كلّ شي ء إلاّ في ثلاث : شرب النبيذ ، والمسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ » (4).

ودلالة هذه الروايات الكثيرة التي هي فوق حدّ الاستفاضة على الإذن والرخصة في امتثال الواجبات موافقة للمخالفين تقيّة منوطة بأن يكون المراد من التقيّة الواردة فيها هو العمل الذي يأتي به تقيّة ، أي ما يتّقى به.

وظهور لفظ « التقيّة » في هذا المعنى لا يخلو من نظر ؛ لأنّ التقيّة كما تقدّم مصدر أو

ص: 56


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 242.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 362 ، ح 1092 ، باب صفة الوضوء والفرض منه ، ح 22 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 76 ، ح 236 ، باب جواز التقية في المسح على الخفّين ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 322 ، أبواب الوضوء ، باب 38 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 219 ، باب التقيّة ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 460 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 32 ، باب مسح الخف ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ؛ ص 469 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 25 ، ح 5.

اسم مصدر وبمعنى الاتّقاء ، فكون الاتّقاء من الدين أي : يجب الاتّقاء.

وهكذا قوله علیه السلام : « لا دين لمن لا تقيّة له » (1) أي : لا دين لمن ترك التقيّة ويلقى نفسه في الهلكة ، وهذا غير أن يكون ما يتّقى به من العمل الموافق لهم المخالف للحقّ من الدين.

ويمكن أن يكون نظر المحقّق الثاني (2) قدس سره في التفصيل الذي ذكره - بين الإذن في إتيان واجب بخصوصه تقيّة ، أي موافقا مع من يخاف منه وإن كان مخالفا للحقّ في نظره ، فيكون مجزيا فلا إعادة عليه ولا القضاء بعد رفع الخوف ؛ وبين ما إذا كان الواجب الذي يأتي به تقيّة لم يرد في إتيانه بذلك الوجه المخالف للحقّ إذن ورخصة بالخصوص ، بل ليس في البين إلاّ تلك الأخبار العامّة الآمرة بلزوم التقيّة بقوله علیه السلام : « التقيّة من ديني ودين آبائي » (3) ، ورواية المعلّى بحذف « من » ، وهي رواية أخرى ، والرادعة عن تركها بقوله علیه السلام : « لا دين لمن لا تقيّة له » (4) - إلى هذا الذي ذكرنا من كون نظر الأخبار العامّة إلى لزوم الاتّقاء ووجوبه وحرمة تركه وإلقاء نفسه في الهلكة ، وإلاّ فأيّ فرق بين أن يكون الإذن والرخصة بصورة القضيّة الشخصيّة الخارجيّة ، بصورة القضيّة الكلّية الحقيقيّة.

والإنصاف : أنّه لا يمكن إسناد مثل هذا إلى مثل ذلك المحقّق الذي هو من أعاظم أساطين الفقه.

وعلى كلّ حال إذا صدر إذن من قبل الشارع بإتيان واجب بخصوصه أو الواجبات عموما بصورة عامّة موافقا معهم ، وإن كان مخالفا للحقّ من جهة الخوف

ص: 57


1- سبق ذكره في ص 51 ، رقم (4).
2- « رسائل المحقق الكركي » ج 2 ، ص 51.
3- سبق ذكره في ص 51 ، رقم (5).
4- « الكافي » ج 2 ، ص 223 ، باب الكتمان ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 485 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 32 ، ح 6.

على نفسه ، أو عرضه ، أو ماله ، أو الخوف على غيره كذلك ، يكون إتيانه مجزيا عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ثانيا لما ذكرنا.

هذا كلّه إذا صدر الإذن بامتثال الواجب الموسّع موافقا للمخالفين بمجرّد تحقّق التّقية ، وأمّا لو لم يصدر إذن من قبله بذلك ، فهل يشمل الأوامر المطلقة الأوّلية المتعلّقة بالواجبات لمثل هذا الفرد المخالف للحقّ والواقع ، بضميمة أوامر وجوب استعمال التقيّة في مقام الامتثال وحرمة تركها ، أم لا؟

فإن قلنا بالأوّل وشمولها لمثل ذلك الفرد ، فيكون أيضا مجزيا ، ولا يحتاج إلى القضاء والإعادة بعد ارتفاع الخوف والاضطرار ، ويكون حاله حال ما ورد الإذن بفعله موافقا لهم ، بل هو هو.

وأمّا إن قلنا بعدم شمولها له ، فما أتى به تقيّة ليس بمجز قطعا ؛ لأنّه لم يأت بما هو المأمور به ، وجواز التقيّة أو وجوبه لا أثر له في هذا المقام.

نعم لو ورد دليل خاصّ على أنّ هذا الفاقد للشرط أو الجزء ، أو هذا العمل وجه فيه المانع مجز عن الواقع فهو ، وإلاّ فصرف جواز الإتيان بواسطة الخوف لا يوجب سقوط الإعادة والقضاء إذ مقتضى إطلاق دليل ذلك الجزء ، أو ذلك الشرط ، أو ذلك المانع عدم اختصاصه بحال الاختيار ، بحيث إذا لم يتمكّن من إتيانه في الجزء أو الشرط أو من تركه في المانع يسقط التكليف لعدم القدرة شرعا على إتيان ما هو المأمور به واقعا.

نعم لو لم يكن لدليل ذلك الشرط أو الجزء أو ذلك المانع إطلاقا يثبت جزئيّته أو شرطيّته أو مانعيّته في ذلك الحال ، أو كان مفاد أدلّتها تقييدها بحال التمكّن ، وكان لدليل ذلك العمل المركّب إطلاق بالنسبة إلى حالتي وجود ذلك القيد وعدمه ، وتعذّره وعدمه ، فنفس دليل ذلك الواجب المركّب يوجب صحّة ذلك العمل الذي هو فاقد الجزء أو الشرط أو هو واجد للمانع.

ص: 58

ولا فرق بين أن يكون تعذّر القيد فعلا أو تركا من جهة التقيّة ، أو من جهة أخرى من أنواع الاضطرار إلى الفعل أو الترك ؛ لأنّ المناط في الجميع واحد ، وهو عدم القدرة على الإتيان بالمأمور به الواقعيّ. وقد حرّرنا المناط في كتابنا « منتهى الأصول » (1) إن شئت فراجع.

نعم سنتكلّم في أنّ أمر التعذّر من جهة التقيّة أوسع من التعذّر من الجهات الأخر ، وعمدة ذلك هو أنّ التقيّة شرّعت لأجل حفظ دماء المتّقين ، ولذلك لا يعتبر فيها عدم وجود المندوحة ، كما سنبيّن إن شاء اللّه تعالى.

وعلى كلّ حال الذي يسهل الخطب ويثبت إجزاء فاقد الشرط أو الجزء أو واجد المانع هو عمومات بعض أخبار التقيّة ، كقوله علیه السلام : « التقيّة ديني ودين آبائي » في رواية المعلّى أو : « من ديني ودين آبائي » كما في سائر الطرق ، بناء على أن يكون المراد من التقيّة هو العمل الموافق لهم المخالف للحقّ ، أي ما يتّقى به ، لا الاتّقاء كما هو ظاهر اللفظ.

وأمّا الاستدلال للإجزاء برواية مسعدة بن صدقة بقوله علیه السلام فيه : « فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد فإنّه جائز » (2) لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّ ظاهر قوله علیه السلام « فإنّه جائز » هو الجواز تكليفا ، وهذا لا ربط له بالإجزاء ، وإلاّ فهذا المعنى قطعيّ ولا كلام فيه من أحد ، نعم قيّد علیه السلام الجواز بما لا يؤدّي إلى الفساد ، وإلاّ لو أدّى إليه فلا يجوز حتّى تكليفا.

فالعمدة في دلالة روايات التقيّة على الإجزاء هو الذي قلنا من كون التقيّة دينا أنّه يرجع إلى أنّه حكم واقعي ثانوي ، وقد أثبتنا كونه مجزيا في مبحث الإجزاء في

ص: 59


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 244.
2- « الكافي » ج 2 ، ص 168 ، باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الإيمان وينقضه ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 469 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 25 ، ح 6.

الأصول (1) ، وقلنا إنّه متوقّف على أن يكون المراد من التقيّة هو العمل الذي يتقى به ، لا الاتّقاء بالعمل ، ولا يبعد ذلك ، فيكون كالوصيّة بمعنى ما أوصى به ، فكما أنّ الوصيّة اسم مصدر للإيصاء وقد يجي ء بمعنى الموصى به ، فلتكن التقيّة أيضا كذلك.

وخلاصة الكلام : أنّ الأخبار العامّة والخاصّة تدلّ على أنّ إتيان الواجبات موافقة للمخالفين وإن كانت مخالفة للحقّ قد أذن ورخّص فيه الشارع ، فلا ينبغي الشكّ في أنّها مجزية عن الواقع الأوّلي ، ولا يجب إعادتها ولا قضاؤها بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن.

ولكن هذا الذي قلنا - بأنّ الإتيان بالواجبات موافقة لمذهبهم مع كونها مخالفة للحقّ للتقيّة مجز عن الإتيان بما هو الحقّ بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن - يكون فيما إذا كانت المخالفة في المذهب ، بمعنى أنّ الاختلاف يكون بين المذهبين في أجزاء الواجبات ، أو شرائطها ، أو موانعها ، أو كيفيّة أدائها ، وإن شئت قلت : فيما إذا كان الاختلاف في نفس الحكم الشرعي ، لا فيما إذا كان الاختلاف فيما هو مصداق لموضوع الحكم الشرعي.

مثلا لا خلاف بينهما في وجوب الإفطار في يوم أوّل شوّال ، أي يوم عيد الفطر.

فإذا وقع الاختلاف في مصداق هذا اليوم فحكم حاكمهم بأنّ يوم الجمعة مثلا عيد استنادا إلى ثبوت رؤية الهلال ليلتها ، فإذا علمنا بعدم مطابقة هذا الحكم للواقع وخطأ الحاكم أو الشهود ، فلا تشمل أدلّة إجزاء التقيّة مثل هذا المورد.

فإذا قامت حجّة شرعيّة من علم أو علمي - وإن كان هو الاستصحاب - على أنّ هذا اليوم من شهر رمضان ، فالإفطار في ذلك اليوم وإن كان جائزا إذا كان لخوف الضرر على نفسه أو ماله أو عرضه ، أو كان في الصوم فيه حرج ، ولكن لا يكون مجزيا ، فيجب قضاء ذلك اليوم ، كما هو الظاهر من مرسلة رفاعة عن رجل عن أبي

ص: 60


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 249.

عبد اللّه علیه السلام قال : « دخلت على أبي العبّاس بالحيرة فقال : يا أبا عبد اللّه ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت : ذاك إلى الإمام. ان صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا ، فقال : يا غلام علىّ بالمائدة ، فأكلت معه وأنا أعلم واللّه أنّه يوم من شهر رمضان ؛ فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر علىّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد اللّه » (1). وبهذا المضمون أيضا أخبار أخر (2).

فعلى هذا يجب عليه القضاء وإن قلنا بالإجزاء في المأتيّ به تقيّة ، وذلك لما ذكرنا أنّ ظاهر أدلّة التقيّة هو أنّ إتيان الواجب على وفق مذهب من يتقى عنه يكون مجزيا ، وفي المورد ليس الإفطار موافقا لمذهبهم ؛ لأنّ مذهبهم أيضا أنّه لا يجوز الإفطار في نهار رمضان ، وإنّما هو خطأ في التطبيق ، ولا ربط له بأدلّة التقيّة.

هذا ، مضافا إلى أنّه في المورد لم يأت بالواجب تقيّة ، وإنّما تركه تقيّة ، وأدلّة التقيّة بناء على دلالتها على الإجزاء أتى يكون فيما إذا بالواجب موافقا لمذهبهم ، لا أنّه يترك إتيان الواجب رأسا لأجل التقيّة.

وكذلك لو حكم حاكمهم بأنّ يوم الجمعة مثلا هو اليوم التاسع من ذي الحجّة الذي يقال له يوم عرفة وهو يوم الوقوف في عرفات ، وعلم المكلّف بأنّه ليس اليوم التاسع ، أو قامت حجّة شرعيّة على أنّه اليوم الثامن مثلا ، وهو مضطرّ في الوقوف في اليوم الذي يعلم بأنّه ليس يوم عرفة ، لعلمه بتقدّمه على ذلك اليوم أو تأخّره عنه ، ولا يمكنه الوقوف في اليوم الذي قامت عنده الحجّة الشرعيّة على أنّه يوم عرفة ، ففات عنه الوقوف في يوم عرفة ، فلا يمكن القول بإجزاء ذلك الحجّ ؛ لفوت الوقوف في عرفات يوم عرفة ، وإن قلنا بأنّ إتيان الواجب موافقا لمذهبهم مجز ؛ لأنّ الوقوف في

ص: 61


1- « الكافي » ج 4 ، ص 83 ، باب اليوم الذي يشكّ فيه ... ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 7. ص 95 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب 57 ، ح 5.
2- راجع : « وسائل الشيعة » ج 7 ، ص 94 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب 57 : باب جواز الإفطار للتقيّة والخوف من القتل ونحوه.

يوم غير عرفة ليس موافقا لمذهبهم ، وإنّما هو خطأ في التطبيق.

نعم يمكن تصحيح مثل هذا الحجّ بوجه آخر ، وهو أنّ حاكمهم لو حكم بثبوت الهلال بشهادة من يكون شهادته معتبرة عندهم ، وليست معتبرة بحسب الواقع لفسقه أو لنصبه أو لجهة أخرى راجعة إلى الشبهة الحكميّة ، بحيث يكون الحكم في مذهب الحقّ عدم قبول تلك الشهادة ، وكان القبول في مذهب الحاكم ، فحينئذ يكون عدم العمل بحكمهم قدحا في مذهبهم ، فترك العمل يرجع إلى الاختلاف في المذهب.

فالعمل على وفق مذهبهم بالجري على طبق حكمهم للخوف من الضرر يكون كسائر موارد التقيّة التي أذن الشارع ورخّص فيها بعنوان ترخيص التقيّة ، فلا فرق بين أن يأتي بالصلاة الناقصة تقيّة ، أو يأتي بالحجّ الناقص تقيّة ، فكما أنّه في الأوّل يكون ذلك العمل مجزيا عن الإتيان بالواقع ثانيا بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن ، فكذلك الأمر في الثاني.

نعم يبقى الكلام في أنّه هل نفوذ حكم الحاكم عندهم ولزوم الجري على طبقه وعدم جواز مخالفته مخصوص بصورة الشكّ والجهل بمطابقته للواقع ، أو مطلق ويجب العمل على طبقه ولو كان مع العلم بمخالفته للواقع.

فبناء على الأوّل يكون إجزاؤه مختصّا بصورة الشكّ في ثبوت الهلال ، ولا تشمل صورة العلم بالخلاف ، وعلى الثاني يكون ذلك الحجّ الناقص مجزيا حتّى مع العلم بالخلاف.

وقد نسب إليهم نفوذ الحكم حتّى مع العلم بالخلاف والقول بالموضوعيّة التابعة للحكم ، ولكنّه ينبغي أن يعدّ في جملة المضحكات ، كما أنّه حكى أنّ أحد القضاة حكم بموت شخص كان غائبا مسافرا بشهادة الشهود ، فلمّا رجع عن سفره رفع أمره إلى ذلك القاضي فحكم أن يدفن ؛ لأنّه ثبت موته وميّت المسلم يجب دفنه. وأنت خبير بأنّ أمثال هذه الحكايات بالمزاح أشبه ، وكيف يمكن أن يتفوّه المسلم بهذا الكلام ، مع

ص: 62

أنّه صحّ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيّد ولد آدم وخير الخلائق أجمعين أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّما أنا بشر وأنّه يأتيني الخصم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ - وفي بعض طرق الحديث « ألحن » بدل « أبلغ » والمعنى واحد - من بعض فأحسب أنّه صادق فأقضي له ، فمن قضيت له بحقّ مسلم فإنّما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها » (1).

وخلاصة الكلام : أنّ القول بالموضوعيّة التامّة ووجوب نفوذ الحكم حتّى مع العلم بالخلاف لا ينبغي أن يسند إلى فقيه ، ولا بدّ وأن يؤوّل إذا كان هذا ظاهر كلامه.

وأمّا في صورة الشكّ ، فإن حكم الحاكم حجة عندنا وعندهم فإذا حكم حاكمهم بأنّ هذا اليوم مثلا يوم عرفة ، فالموافقة معهم بالوقوف في عرفات في ذلك اليوم من جهة الخوف عنهم يصدق عليه أنّه الجري على طبق الحجّة عندهم ، ولزوم الجري على طبق حكم حاكمهم هو من أحكام مذهبهم ، كما كذلك عندنا أيضا ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم ليس واجدا لشرائط النفوذ عندنا ، ولكن واجد لها عندهم ، فيكون كسائر موارد التقيّة في الحكم الشرعي.

وأمّا الإيراد عليه : بأنّ الروايات الواردة في لزوم القضاء في مسألة الإفطار تقيّة مع أنّه في مورد حكم الحكم بأنّه يوم العيد ينفى الإجزاء ، وذلك كمرسلة رفاعة عن الصادق علیه السلام قال : « دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال : يا أبا عبد اللّه ما تقول في الصيام؟ فقلت : ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا ، فقال : يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم واللّه أنّه يوم من شهر رمضان ، فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر من أن يضرب عنقي ولا يعبد اللّه » (2) وروى بطرق أخر أيضا.

ففيه : أنّ قوله علیه السلام : « وأنا أعلم بالإجزاء واللّه أنّه يوم من شهر رمضان » صريح

ص: 63


1- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، باب 2 ، ح 3 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 17 : ص 366 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 4 ، ص 83 ، باب اليوم الذي يشكّ فيه ... ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 7. ص 95 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب 57 ، ح 5.

أنّه في مورد العلم بالخلاف وعدم مطابقة الحكم للواقع ، وهذا الصورة بيّنّا أنّ الحكم ليست بحجّة عندهم أيضا ، فلا يشمل مورد كلامنا الذي هو الشكّ.

فالإنصاف : أنّ القول بالإجزاء في مورد الشكّ في مطابقة حكمهم للواقع لا يخلو عن قوّة ، وإن كان الاحتياط ما لم يبلغ إلى درجة الحرج الشديد والعسر الأكيد حسن على كلّ حال.

وممّا استدلّ به على الإجزاء في مورد الشكّ هي السيرة المستمرّة من زمان الأئمّة علیهم السلام إلى زماننا هذا في موافقة أصحابنا معهم في الوقوف في المشاعر العظام ، مع وجود الشكّ في أغلب السنين ، ولم يراجعوا إليهم علیهم السلام في هذه المسألة ، ولم يسألوا عن حكم الجري على طبق حكمهم ، ولم ينقل عنهم إعادة حجهم ، وهذا يدلّ على أنّ الإجزاء كان عندهم مفروغا عنه.

وأمّا ادّعاء أنّهم سألوا ولكن لم يصل إلينا فقول بلا دليل ، بل لو كان لبان كسائر القضايا والأحكام.

والقدر المتيقّن من هذه السيرة هو مورد الشكّ في مطابقة حكم الحاكم للواقع ، فلا يشمل مورد العلم بالخلاف.

ولكن في ثبوت هذه السيرة تأمّل.

وربما يستدلّ للإجزاء برواية أبي الجارود ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام أنّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى ، فلمّا دخلت على أبي جعفر علیه السلام وكان بعض أصحابنا يضحى فقال : « الفطر يوم يفطر الناس ، والأضحى يوم يضحى الناس ، والصوم يوم يصوم الناس » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أنّ قوله علیه السلام : « الأضحى يوم يضحى الناس »

ص: 64


1- « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 317 ، ح 966 ، باب الزيادات ، ح 34 ؛ « وسائل الشيعة » ج 7 ، ص 95 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب 57 ، ح 6.

لا يمكن أن يكون إخبارا ؛ لأنّ اليوم الذي يضحّى الناس قد يكون أضحى وقد لا يكون ، مضافا إلى أنّه جواب سؤال الراوي عن حكم يوم الشكّ ، فهو علیه السلام بصدد الجواب عن هذا السؤال ، فلا بدّ وأن يكون تنزيلا - من قبيل « الطواف بالبيت صلاة » (1) - فيكون مفاده أنّ يوم يضحى الناس يكون بمنزلة الأضحى الواقعي ، يترتّب عليه آثار الأضحى الواقعي ، فيكون إمضاء لحكمهم ، فيجب ترتيب آثار الواقع على ما حكموا به.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الرواية وإن كانت ظاهرة في هذا المعنى ، إلاّ أنّ سنده ضعيف ، فإنّ أبا الجارود زياد بن منذر زيدي ينسب إليه الجارودية ، وسمّى سرحوبا وسماّه بذلك أبو جعفر علیه السلام ، وسرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر ، وكان أبو الجارود مكفوفا أعمى القلب ، هكذا ذكر العلامة قدس سره في الخلاصة. (2) وقد قيل في حقّه : إنّه كان كذّابا كافرا ، فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية للخروج عن مقتضى القواعد الأوّلية.

وأمّا القسم الثاني : أي ترتيب آثار الصحّة غير الإجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء ، سواء كان في العبادات كالوضوء تقيّة - فهل يترتّب عليه رفع الحدث وحصول الطهارة الواقعيّة كي لا يحتاج إلى وضوء جديد بعد رفع الخوف وحصول الأمن - أو كان في المعاملات ، فإذا أوقع معاملة موافقة لهم ومخالفة للواقع تقيّة فهل يترتّب عليها آثار الصحّة بعد ارتفاع التقيّة ، أم لا؟

أقول : مقتضى القواعد الأوّليّة هو عدم ترتّب آثار الصحّة على تلك المعاملة أو ذلك الوضوء ؛ وذلك لأنّ موضوع الأثر شرعا هي العبادة أو المعاملة الصحيحتان ، والمفروض أنّهما ليستا صحيحتين ؛ إذ لا شكّ في أنّ الموضوع للطهارة الواقعيّة هو الوضوء الصحيح بحسب الواقع ، والوضوء تقيّة ليس وضوءا صحيحا بحسب الواقع ،

ص: 65


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 214 ، ح 70 ؛ وج 2 ، ص 167 ، ح 3.
2- « الخلاصة » ص 223.

وإنّما أذن الشارع في إتيانه لأجل دفع الضرر عن نفسه أو ماله أو عرضه أو عن غيره ممّن يخصّه ذلك ، فإذا ارتفع الخوف ولم يكن احتمال ضرر في البين ، فلا وجه لاحتمال وجود الأثر الذي هو للوضوء الواقعي على هذا الفعل المسمّى بالوضوء عندهم ، وهو ليس بالوضوء واقعا.

وكذلك لو أوقع نكاحا أو طلاقا على وفق مذهبهم تقيّة مع بطلانهما عندنا ، فمع ارتفاع التقيّة وحصول الأمن لا وجه لاحتمال وجود آثار النكاح أو الطلاق الصحيحين ، وهل الحكم بوجود أثرهما مع عدم صحّتهما إلاّ من قبيل وجود الأثر بدون المؤثّر. وإن شئت قلت : هل هذا إلاّ من قبيل وجود الحكم بدون الموضوع.

وأمّا جواز التقيّة بل لزومها في بعض الموارد على فرض أن يكون الفعل أتى به تقيّة مجزيا عن إتيان الواقع ثانيا بعد رفع التقيّة ، لا يثبت وجود موضوع ذلك الأثر.

نعم لو كان موضوع الأثر هو الأعمّ من الوضوء الواقعي الأوّلي والوضوء تقيّة مثلا ، فلا شبهة في ترتّب ذلك الأثر لوجود موضوعه. لكن هذا خلاف الفرض ، وكذلك لو كان الموضوع للأثر امتثال ذلك الأمر الثانوي.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا في القسم الأوّل من إجزاء ما أتى به تقية عن إتيان المأمور به بالأمر الواقعي ثانيا ، هل يشترط فيه عدم وجود المندوحة ، أم لا؟

الظاهر هو الثاني.

بيان ذلك : أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة : قول بعدم الاعتبار مطلقا ، وذهب إليه الشهيدان في البيان (1) والروض (2). وقول بالاعتبار مطلقا ، وذهب إليه صاحب المدارك. (3)

ص: 66


1- « البيان » ص 48.
2- « روض الجنان » ص 37.
3- « مدارك الأحكام » ج 1 ، ص 231.

وقول بالتفصيل بين ما إذا كان الفعل الذي يتقى به مأذونا بالخصوص ، كالصلاة معهم ، أو الوضوء مع المسح على الخفّين وأمثال ذلك فقال بعدم الاعتبار ، وبين ما لم يأذن الشارع فيه بالخصوص فقال بالاعتبار.

والمراد من المندوحة هو تمكّن المكلّف من الإتيان بالفرد التامّ الأجزاء والشرائط الفاقد للموانع ، وذلك بأن يأتي إمّا في زمان آخر من مجموع الوقت ، وذلك لا يكون إلاّ في الواجب الموسّع ، أو يأتي به في مكان آخر لا يخاف من عدوّ كي يتّقيه ، أو يوهم الإتيان بشكلهم مع أنّه واقعا يأتي بما هو الحقّ عنده.

فالأوّل يسمّى بالمندوحة الطوليّة ، والثاني والثالث بالمندوحة العرضيّة. والطوليّة والعرضيّة في المقام بحسب الزمان ، وقد عرفت أنّ هذا التقسيم لا يأتي إلاّ في الواجب الموسّع.

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا التفصيل الذي ذهب إليه المحقّق الثاني (1) قدس سره فقد تقدّم أنّه لا وجه له أصلا ؛ لأنّه أيّ فرق بين أن يكون إتيان الواجب موافقا لهم مأذونا بالخصوص ، أو كان مأذونا بعنوان عامّ ؛ لأنّ المناط في كلتا الصورتين صيرورته واقعيّا ثانويّا ، ولذلك قلنا بالإجزاء وعدم الاحتياج إلى إعادته بعد ارتفاع التقيّة وحصول الأمن ، فإن كان الإذن الخاصّ غير مشروط بعدم المندوحة ، فليكن الإذن بعنوان العامّ أيضا كذلك.

أمّا تعليله للفرق بأنّ الإذن في التقيّة من جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة.

ففيه : أنّ الإذن في العمل الذي يتّقى به إن كان أمرا بالامتثال بتلك الصورة فيكون فردا اضطراريّا لطبيعة المأمور به ، فيكون مجزيا عن الإعادة بعد رفع الاضطرار كما هو الشأن في الأوامر الواقعيّة الثانوية ، فلا فرق بين الإذن بالخصوص وبين الإذن بالعموم

ص: 67


1- « رسائل المحقق الكركي » ج 2 ، ص 51.

في ذلك.

وأمّا لو كان الإذن في العمل لأجل الفرار والخلاص من شرّهم فقط ، فالإذن الخاصّ أيضا لا يثبت به الإجزاء ، وعلى كلّ حال الفرق بين الإذن الخاصّ والعامّ لا أثر له في هذا المقام ، بل المناط كلّ المناط في المقام - بعد الفراغ عن أنّ الأمر بإتيان الواجب تقيّة مجز عن الإعادة والقضاء - هو أنّ هذا الأمر سواء كان بعنوان خاصّ أو عامّ هل هو مقيّد بعدم المندوحة وكونه مضطرّا إلى إيجاده تقيّة ، أم لا بل مطلق من هذه الجهة.

فإن كان هناك دليل على التقييد يؤخذ به ، وإلاّ فمقتضى عمومات التقيّة والإذن فيها - كقوله علیه السلام : « التقيّة ديني ودين آبائي » (1) وأمثالها ممّا تقدّم ذكرها ، بناء على ما ذكرنا من أنّ المراد من التقيّة هو الفعل الذي يأتي به تقيّة - هو عدم اعتبار عدم المندوحة.

نعم لا بدّ من صدق التقيّة في الأمر بها ، وهو أن يكون إتيان الواجب الواقعي الأوّلي مظنّة الضرر ، بحيث يخاف على نفسه أو ماله أو عرضه ؛ وذلك لعدم تحقّق موضوع الأمر بها بدونه.

ولذلك لا بأس بالقول بالتفصيل بين ما يمكن له إيجاد المأمور به الأوّلى ، بأنّ يوهمهم الموافقة من دونها ، وبين ما لا يمكن ذلك ، ففي الصورة الأولى يقال بالاعتبار دون الثانية. ولكن في الحقيقة هذا ليس تقييدا في التقيّة ، بل محقّق لموضوعها.

وعلى كلّ حال هذه المطلقات تدلّ على مشروعيّة التقيّة وإن كان يمكن له أن يأتي بالفرد التامّ بانتقاله إلى مكان آخر ، أو بتأجيل الإتيان به إلى زمان آخر ، فليس جواز التقيّة ولا إجزاؤها عن الإعادة والقضاء مشروطا بعدم المندوحة العرضيّة ، أي التمكّن من الإتيان بالفرد التامّ الأجزاء والشرائط الفاقد للموانع المأمور به بالأمر

ص: 68


1- تقدّمت في ص 51 ، رقم (5).

الواقعي الأوّلي في عرض التقيّة ، بأن ينتقل إلى مكان آخر لا خوف عليه ، كما إذا انتقل من السوق إلى داره التي ليس فيها أحد يخاف منه ، ولا مشروطا بعدم المندوحة الطوليّة ، أي التمكّن من الإتيان بالمأمور به الواقعي الأوّلي في الزمان المتأخّر يرتفع التقيّة فيه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ القول الأوّل وهو عدم اعتبار عدم المندوحة مطلقا الذي ذهب إليه الشهيدان في البيان (1) والروض (2) هو الصحيح وهو المشهور.

ويدلّ على عدم اعتبار عدم المندوحة في جواز التقيّة وإجزائها عن إتيان الواقع الأوّلي بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن ، بعض الروايات :

منها : ما رواه العيّاشي بسنده عن صفوان ، عن أبي الحسن علیه السلام في غسل اليدين ، قلت له يردّ الشعر؟ قال علیه السلام : « إن كان عنده آخر فعل ». (3) والمراد بالآخر من يتّقيه.

تقريب الاستدلال بهذه الرواية على عدم اعتبار عدم المندوحة هو تجويزه للتقيّة بصرف وجود شخص من هؤلاء الذين يخاف منهم ، وإن كان يمكن أن يتستّر عنه ، أو ينتقل إلى مكان آخر ليس هناك من يخاف منه ، أو يوهمه الإتيان بمثل مذهبهم مع الإتيان بما هو الحقّ ، أو يؤجّل العمل إلى زمان آخر لا موضوع للتقيّة فيه ، ولا شكّ في إطلاق الرواية من هذه الجهات ولا مقيّد له في البين ، فيجب الأخذ بإطلاقه.

ولا يخفى أنّ ردّ الشعر كناية عن الوضوء المنكوس ؛ لأنّ ردّ الشعر من لوازمه ، فالسؤال عن أنّ له ردّ الشعر ، معناه أنّ له الوضوء المنكوس؟ فيجيب علیه السلام بالجواز بدون أيّ تقييد. وأمّا قوله علیه السلام : « إن كان عنده آخر » هو محقّق موضوع التقيّة ، لا أنّه تقييد فيها.

ص: 69


1- « البيان » ص 48.
2- « روض الجنان » ص 37.
3- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 300 ، ح 54.

ومنها : ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث ، وفيه : « وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (1).

فقوله علیه السلام « فإنّه جائز » حكم بجواز كلّ شي ء يعمل لأجل التقيّة ، وهو مطلق غير مقيّد بعدم المندوحة ، بل ظاهره جواز كلّ شي ء يعمل لمكان التقيّة وإن كان الفرار والتخلّص منها ممكنا بأحد الوجوه المتقدّمة.

ومنها : ما ورد في الحثّ والترغيب في حضور جماعتهم في الروايات الكثيرة ، كرواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « من صلّى معهم في الصفّ الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الصفّ الأوّل » (2). وغيرها ممّا هو بهذا المضمون.

ولا شكّ في أنّ الروايات المطلقة الدالّة على جواز التقيّة وإجزاء ما يأتي به تقيّة عن الواجب الواقعي الأوّلي من دون تقييدها بعدم وجود المندوحة كثيرة ، فلا يحتاج إلى تطويل المقام بذكر تلك الأخبار والتكلّم فيها ، بل لا يمكن التقييد فيها بصورة عدم التمكّن من إيجاد صلاته في جميع وقتها إلاّ في مكان يجب فيه التقيّة.

فالإنصاف : أنّه ليست التقيّة من قبيل سائر الموارد التي ينقلب التكليف فيها بواسطة الاضطرار ، بل الأمر فيها أوسع ؛ للمصالح التي فيها من حفظ النفوس والأموال والأعراض لشخصه ولجميع الشيعة ، بل وللإمام علیه السلام ، ولعلّه لذلك أفردوها بالذكر عن سائر أقسام الاضطرار.

ص: 70


1- « الكافي » ج 2 ، ص 168 ، باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الإيمان وينقضه ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 469 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 25 ، ح 6.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 382 ، باب الجماعة وفضلها ، ح 1125 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 381 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 5 ، ح 1.

ولكن للأخبار المذكورة معارضات ظاهرها أنّ جواز التقيّة وإجزاءها عن الواقع الأوّلي منوط بعدم وجود المندوحة.

منها : رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر المعروف بالبزنطي ، عن إبراهيم بن شيبة قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني علیه السلام أسأله عن الصلاة خلف من تولّى أمير المؤمنين وهو يمسح على الخفّين؟ فكتب علیه السلام : « لا تصلّ خلف من يمسح على الخفيّن ، فإن جامعك وإيّاهم موضع لا تجد بدّا من الصلاة معهم ، فأذّن لنفسك وأقم ، فإن سبقك إلى القراءة فسبّح » (1).

ومنها : رواية معمّر بن يحيى : « كلّما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقيّة » (2).

ومنها : المرسل المحكى عن الفقه الرّضوي عن العالم : « لا تصلّ خلف أحد إلاّ خلف رجلين أحدهما من تثق به وبدينه وورعه ، والآخر من تتّقي سيفه وسوطه وشرّه وبوائقه وشنعته ، فصّل خلفه على سبيل التقيّة والمداراة » (3).

ومنها : ما عن دعائم الإسلام بسنده عن أبي جعفر علیه السلام : « لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامة إلاّ أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم ، فصلّوا في بيوتكم ، ثمَّ صلوا معهم ، واجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا » (4).

ودلالة هذه الروايات على أنّ جواز التقيّة وإجزاءها عن الإعادة والقضاء بعد

ص: 71


1- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 276 ، ح 807 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 127 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 427 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 33 ، ح 2.
2- « مستدرك الوسائل » ج 12 ، ص 258 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 2.
3- « فقه الرضا » ص 14 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 6 ، ص 457 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 5 ، ح 3.
4- « دعائم الإسلام » ج 1 ، ص 151 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 6 ، ص 458 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 6 ، ح 1.

رفع التقيّة وحصول الأمن مشروط بعدم المندوحة في كمال الوضوح.

ولكن مقتضى الجمع عرفا بين هذه الأخبار والأخبار المتقدّمة هو حمل هذه الأخبار على إمكان التخلّص في نفس وقت التقيّة ، بدون التأجيل وتأخير امتثال الواجب إلى زمان ارتفاع التقيّة ، أو بدون انتقاله إلى مكان آخر للفرار عن التقيّة ، بل يمكن في نفس المكان والزمان أن يأتي بالواقع الأوّلى ، ففي مثل هذا المورد لا يجوز أن يتّقى بإتيان الواجب موافقا لهم.

فاشتراط عدم المندوحة بهذا المعنى ممّا لا بدّ منه ، بل هو المشهور ، خصوصا إذا كان من الممكن إيهامهم أنّه يوافقهم ويأتي بالواجب على طبق مذهبهم ، مع أنّه لا يأتي إلاّ على طبق ما هو الحقّ عنده.

ويشير إلى هذا المعنى بعض الروايات ، كرواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : إنّي أدخل المسجد وقد صلّيت فأصلّي معهم فلا أحتسب بتلك الصلاة؟ قال : « لا بأس ، وأمّا أنا فأصلّي معهم وأريهم أنّي أسجد وما أسجد » (1).

وخلاصة الكلام : هو أنّ الشارع اهتمّ بأمر التقيّة كثيرا للمصالح المهمّة في نظره ، ولذلك أمر المؤمنين بمعاشرتهم ، والحضور في مجامعهم ، وعيادة مرضاهم كي لا يعرفوهم بالرفض فيؤذوهم ، وبيّن لهم ما يترتّب على فعلهم الذي هو موافق معهم من الأجر العظيم والثواب الجزيل كي يرغبوا في العمل موافقا لهم في الكمّ والكيف لأجل حفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم.

فوسّع عليهم في أمر التقيّة بما لم يوسّع في غيرها من أنواع الاضطرار ، بل أمرهم أن يحضروا مساجدهم ويصلّون معهم في الصفّ الأوّل ، وقال علیه السلام : « من حضر صلاتهم وصلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى مع رسول اللّه في الصفّ الأوّل ».

ص: 72


1- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 269 ، ح 774 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 94 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 385 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 6 ، ح 8.

فلا يمكن حمل الأخبار الظاهرة في اعتبار عدم المندوحة على ظاهرها ، بل لا بدّ من رفع اليد عن ظاهرها والتصرّف فيها بأحد التصرّفات ، مثل حمل « أذّن لنفسك وأقم » في رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، و « صلّوا في بيوتكم » فيما رواه دعائم الإسلام وأمثال ذلك على الاستحباب ، وإلاّ فالقول باعتبار عدم المندوحة مطلقا في جواز التقيّة ينافي ذلك الاهتمام الذي ظهر من طرف الشارع في أمر التقيّة.

ففي رواية زيد الشحّام : « صلّوا في مساجدهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذّنين فافعلوا » الحديث (1).

وفي رواية هشام الكنديّ عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال فيها : « صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم » الحديث (2).

نعم الذي يصحّ أن يقال هو أنّه لو كان متمكّنا حال الاشتغال بإيجاد الواجب موافقا لهم من تلبيس الأمر عليهم ، وإيهامهم أنّه يفعل بمثل فعلهم وإن كان لم يفعل كفعلهم بنحو لا يكون منافيا للتقيّة ولا يترتّب عليه ضرر ، لا عاجلا ولا آجلا ، لا على نفسه ولا على غيره من طائفته ، يجب عليه ذلك ، ولا يجوز له أن يأتي بما هو خلاف الواقع الأوّلي.

فعدم المندوحة بهذا المعنى معتبر في التقيّة. لكن تقدّم أنّ هذا محقّق موضوع التقيّة ، لا أنّه تقيّة أو تخصيص فيها ، فالحقّ أنّ عدم المندوحة ليس معتبرا وقيدا في موضوع التقيّة.

ص: 73


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 383 ، باب الجماعة وفضلها ، ح 1128 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 477 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 57 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 2 ، ص 219 ، باب التقيّة ، ح 11 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 471 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 26 ، ح 2.
المقام الثالث
اشارة

في أنّه هل تترتّب على ذلك الفعل أو الترك المخالفين للحقّ الآثار الشرعيّة التي رتّبها الشارع عليهما لو صدرا عنه بميله واختياره ، أم لا بل صدورهما من باب يوجب رفع تلك الآثار؟

مثلا بناء على أنّ الفقّاع خمر استصغره الناس ، وأنّ الخمر نجس ، يكون الفقّاع نجسا ، فإذا استعمله تقيّة ، أو توضأ به تقيّة بناء على جواز الوضوء بالمائع المضاف عندهم ، فهل استعماله يوجب رفع أثر تنجيسه ، فبعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن لا يجب غسل موضع ملاقاته للمشروط بالطهارة ، أم لا ؛ لأنّ التقيّة لا يرفع الأثر الوضعي المترتّب على هذا الفعل؟

الظاهر هو ترتّب أثره عليه وعدم ارتفاع أثر ذلك الفعل بواسطة التقيّة ، فينجّس ملاقي الفقّاع والنبيذ ، وإن كان شربهما يجوز للتقيّة.

نعم لو جوّزنا الوضوء به تقيّة ، فلا يجب إعادة الصلاة التي صلاّها بذلك الوضوء.

نعم لو شرب الفقّاع أو النبيذ تقيّة لا يحدّ ، وذلك من جهة أنّ هذا الأثر أخذ في موضوعه التعمّد والاختيار.

فالضابط الكلّي هو أنّه لو كان موضوع الأثر في الفعل الذي يتّقى به هو ذلك الفعل مطلقا ، سواء كان مختارا أو مضطرا ، فيترتّب عليه ذلك الأثر ، وإلاّ لو كان مخصوصا بحال الاختيار ، فلا يترتّب عليه إذا أتى به تقيّة ، فتعمّد الأكل والشرب في نهار رمضان موجب لبطلان صوم من وجب عليه الصوم وإن صدر منه تقية ؛ وذلك من جهة أنّ بطلان الصوم أثر تعمد الأكل والشرب ، سواء كان مختارا أو مضطرّا.

ثمَّ إنّ هاهنا أمورا يجب التنبّه عليها :

ص: 74

الأوّل : لا فرق في مشروعيّة التقيّة بين أن يكون من يتّقيه من المخالفين أو من غيرهم ؛ وذلك من جهة وحدة المناط والأدلّة فيهما ، لأنّ الدليل على مشروعيّة التقيّة إمّا قاعدة الضرر أو الحرج ، ومعلوم أنّ كون امتثال الواجب موجبا للضرر أو الحرج لا فرق بين أن يكون الضرر والحرج من ناحية المخالفين ، أو من ناحية غيرهم من الطوائف المسلمة ، أو من ناحية الكفّار ؛ لأنّ مفاد دليل نفي الضرر والحرج هو أنّ الحكم الذي يأتي من ناحيته الضرر أو الحرج منفيّ وغير مجعول في الإسلام.

وذلك لما حقّقنا في محلّه أنّ دليل نفي الضرر والحرج حاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة في جانب المحمول. والمسألة نقّحناها في قاعدتي اللاضرر واللاحرج مفصلا.

وأمّا الآيات كقوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1) ، وقوله تعالى ( إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (2) وأمثال ذلك ، فلا فرق بين كون من يتقى منه من الفرق المسلمة ، أو كان من الكفّار.

وأمّا مفاد الروايات فهو مطلق من يخاف من ضرره ؛ لأنّه قد تقدّم أن التقيّة هي الوقاية ، وأصلها « وقيّة » كالوصيّة ؛ فهو الاتّقاء ، سواء كان من يتّقى منه كافرا أو مسلما.

وأمّا حكم العقل بلزوم حفظ النفس عن الهلكة ، فمعلوم أنّه لا فرق بين أنّ يكون من يخاف منه على نفسه أو عرضه أو ماله في نظر العقل من الفرق المسلمة أو الكافرة.

نعم الآيات الواردة في حكم التقيّة غالبا تكون في مورد الكفّار ، كما أنّ الأخبار الواردة في هذا الموضوع غالبا تكون في مورد الخوف من السلاطين الجائرة أو ولا تهم ، ولكن العبرة بعموم الدليل ، وخصوصيّة المورد لا توجب تخصيص الدليل ، كما

ص: 75


1- آل عمران (3) : 28.
2- النحل (16) : 106.

هو المحقّق في الأصول ، وإن كان الأحوط تخصيصها بالمخالفين ؛ لاحتمال الانصراف.

الثاني : أنّ ما ذكرنا من أنّ إتيان الواجب تقيّة موافقا لهم مجز عن الإتيان به ثانيا موافقا لما هو الحقّ - كما إذا صلّى متكتّفا ، أو مع المسح على الخفّين ، أو مع غسل الرجل بدل مسحها ، بدون بسم اللّه في القراءة وأمثال ذلك - إنّما يكون فيما إذا أتى بالعمل الناقص موافقا لهم.

كما إذا صلّى بأحد الوجوه المذكورة ، أو صام وأفطر قبل ذهاب الحمرة المشرقيّة أو قبل انتشارها فوق الرأس ، أو حجّ ووقف في الموقفين موافقا لهم من دون استناده إلى أمارة شرعيّة أو عقليّة هلال ذي الحجّة في يوم كذا إذا كان شاكّا ، لا أن يكون قاطعا بعدم كون الوقوف في يوم عرفة كما ذكرنا مفصّلا.

وذلك لما ذكرنا أنّه أتى بما هو المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي ، وهو مجز ، كما حقّقنا المسألة في الأصول في مبحث الإجزاء.

وأمّا لو ترك الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ، ولم يكن إتيان المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي في البين ، بل صرف ترك للأوّل لأجل التقيّة ، فلا وجه للإجزاء ؛ لأنّه لم يأت بشي ء كي يكون مجزيا. وإفطار الإمام الصادق علیه السلام في الحيرة لأجل الخوف عن أبي العبّاس العباسي - الذي تقدّم ذكره - (1) الظاهر أنّه من هذا القبيل ، فلا معنى لأن يكون مجزيا ، ولعلّه لأجل ذلك قال علیه السلام : « لأن أفطر يوما من رمضان فأقضيه » فالقضاء في هذا المورد لا بدّ منه ، ولا يدلّ هذا على عدم كون التقيّة مجزيا.

الثالث : أنّه لا شكّ في ثبوت موضوع التقيّة مع الخوف الشخصي ، بمعنى أنّه يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله لو ترك الموافقة معهم ، إذ هذا هو القدر المتيقّن من أدلّة

ص: 76


1- تقدّم ذكره في ص 61 ، رقم (1).

التقيّة. وأمّا لو يعلم أنّ من تركه التقيّة والموافقة معهم لا يترتّب عليه ضرر على نفسه أو ماله أو عرضه ، ولكن يوجب فعله المخالف للتقيّة معرفة المخالفين مذهب الشيعة ، وأنّهم يطعنون بعد ذلك عليهم بأنّ مذهبهم كذا وكذا.

والظاهر أنّ هذا أيضا يجب فيه التقيّة ؛ لأنّ هذا ربما يكون موجبا لورود الضرر على نفس الإمام أو على الطائفة جميعا ، ولعلّ هذا هو المراد من الإذاعة في أخبار التقيّة ، فجعل علیه السلام الإذاعة مقابل التقيّة ، وقد تقدّم في ذيل رواية عبد اللّه بن أبي يعفور : « اتّقوا على دينكم واحجبوه بالتقيّة » (1). وكما في ذيل رواية حريز عن أبي عبد اللّه علیه السلام في تفسير قول اللّه عزّ وجلّ ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) (2) قال علیه السلام : « الحسنة التقيّة ، والإساءة الإذاعة » (3).

ويظهر من هذه الروايات أنّ حجبهم عن معرفة الأحكام المختصّة بالمذهب وسترها عنهم مطلوب. ولعلّه إلى هذا يشير قوله علیه السلام : « ليس منّا من لم يجعلها شعاره ودثاره » (4).

والحاصل أنّه يفهم من الأخبار الكثيرة أنّه ليس أمر التقيّة دائرا مدار الخوف الفعلي.

الرابع : إذا خالف التقيّة وأتى بالفعل المخالف معهم ، كما أنّه لو صلّى مرسلا من دون التكفير ، أو صلّى على التربة الحسينية ، أو غير ذلك ممّا ينكرونها فهل يكون ذلك العمل باطلا ؛ لأنّه خلاف التقيّة ومنهيّ عنه ، والنهي في العبادة يوجب الفساد ، أم لا ؛

ص: 77


1- « الكافي » ج 2 ، ص 218 ، باب التقيّة ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 461 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 7.
2- فصّلت (41) : 34.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 218 ، باب التقيّة ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 461 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 9.
4- « الأمالي » للطوسي ج 1 ، ص 299 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 466 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 24 ، ح 28.

لأنّه أتى بما هو المأمور به واقعا بقصد القربة ، فحصل الامتثال والإجزاء عقلي. وإن أثم بتركه للتقيّة ، ولكنّه خارج عن الصلاة ، فيكون من قبيل النظر إلى الأجنبيّة حال الصلاة ، حيث أنّه لا هو جزء للصلاة المأمور بها ، ولا مركّب معها تركيبا اتّحاديّا ، ولا انضماميّا ، فليس لا من باب النهي في العبادة ولا من باب الاجتماع.

والذي ينبغي أن يقال في المقام : هو أنّ ما يتحقّق به المخالفة للتقيّة ويكون مصداقا حقيقيّا للمخالفة معهم ، ليس على نسق واحد ، بل قد يكون جزءا للعبادة ، فيأتي بذلك الجزء المخالف معهم باعتبار أنّه جزء للمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ، فيكون النهي متعلّقا بذلك الجزء ، فتكون العبادة المشتملة على ذلك الجزء المنهي عنه فاسدة. والمسألة محرّرة في الأصول ، وقد أوضحنا وجهه في الجزء الأوّل من كتابنا « منتهى الأصول » (1) في مسألة النهي المتعلّق بالعبادة.

وقد لا يكون كذلك ، بل يكون من قبيل إدخال ما ليس من العبادة فيها ، ويكون من قبيل التشريع المحرّم بالأدلّة الأربعة ، فيكون النهي متعلّقا بأمر خارج عن العبادة ، فلا وجه لأن يكون ترك ذلك الشي ء موجبا للبطلان ؛ لما قلنا من أنّه أتى بالمأمور به على وجهه ، والإجزاء عقليّ ، نعم أثم بذلك الترك وتلك المخالفة ؛ لأنّه منهيّ.

فبناء على ما ذكرنا ترك التكتّف وقول « آمين » في مورد وجوبهما تقية لا يوجب بطلان الصلاة ، وإن كان آثما بذلك الترك.

تنبيه

هذا الذي ذكرنا وتقدّم كان في الإتيان بالواجبات بل المستحبّات تقيّة ، بأن يدخل فيها ما ليس بجزء أو شرط ، أو يترك ما هو جزء أو شرط ، أو يأتي بما هو

ص: 78


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 411.

مانع ، أو يأتي بكيفيّة خلافها واجب أو مستحب.

وأمّا التقيّة في مقام الإفتاء كأن يفتي المجتهد بحرمة ما ليس بحرام ، أو بوجوب ما ليس بواجب ، أو بالعكس فيهما ، أو بالنسبة إلى سائر الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة ، فالأمر فيها أعظم ، ولعلّ أغلب عمومات التقيّة وإطلاقاتها لا تشملها ، ومنصرفة عنها ، فلا يجوز له الإفتاء بمجرّد خوف الضرر ، كما كان له ذلك في مقام العمل ، خصوصا إذا كان المفتي ممّن يتّبعة العموم ، وخصوصا إذا كان طول حياته لا يمكن له الرجوع عن فتواه ، فيبقى هذا الحكم والفتوى الباطلة محلّ الاعتبار ، ومورد عمل العموم على مرّ الدّهور.

ففي مثل هذا يجب الفرار والتخلّص عن الإفتاء بأيّ وجه ممكن. وكذا إذا كان الفتوى موجبا لتلف النفوس ، أو هتك الأعراض ، ففي الأوّل لا يجوز له أن يفتي وإن كان ترك الفتوى موجبا لهلاكه وقتله.

وأمّا الأئمّة المعصومون وإن صدر منهم الفتوى بعض الأحيان على خلاف الحكم الواقعي الأوّلي ، ولكن كانوا ينبّهون الطرف بعد ذلك بأنّها كانت على خلاف الواقع إمّا لأجل حفظ نفسه علیه السلام أو لأجل حفظ نفس المستفتي. وقضيّة فتوى الإمام الكاظم علیه السلام لعليّ بن يقطين في مسألة تثليث غسلات الوضوء صريحة فيما ذكرناه (1).

والحاصل : أنّ الفتوى على خلاف ما أنزل اللّه للتقيّة أمره مشكل ، ويختلف كثيرا من حيث المفتي ومقبوليّة رأيه عند العموم وعدمها ، ومن حيث إمكان إخبار الناس التابعين له أنّ هذه الفتوى لم تكن حكما واقعيّا وإنّما صدرت تقيّة ، وعدم إمكانه ، ومن حيث أهميّة المفتي به ، ومن حيث كونه موجبا لهلاك الأنفس وعدمه.

ففي بعض صور المسألة لا يجوز له الإفتاء ، وإن كان يعلم أنّه يقتل لو ترك ولم

ص: 79


1- « الإرشاد » للمفيد ص 294 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 312 ، أبواب الوضوء ، باب 32 ، ح 3.

يفت ؛ ولذلك ترى في الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة إصرارهم علیهم السلام بأنّ « ما خالف كتاب اللّه » أو قولهم : « ما خالف قول ربّنا لم نقله ، أو زخرف ، أو باطل ، أو أطرحه على الجدار » (1) وأمثال ذلك ، أو قولهم في الخبرين المتعارضين : « خذ بما خالف العامّة » (2) كلّ ذلك لأجل أن لا يتوهّم أحد أنّ كلّ ما تضمنّه الأخبار الصادرة عنهم علیهم السلام بصدد بيان الأحكام الواقعيّة ، بل جملة كثيرة منها أعطيت من جراب النورة حسب اصطلاحهم ، وكان الرواة الفقهاء من أصحابهم علیهم السلام يعرفون أنّ هذا الذي قال علیه السلام لهذا الراوي هل هو حكم واقعيّ أوّلى ، أو صدر تقيّة ؛ ولذلك كانوا يقولون للراوي بعد ما يسمعون روايته : أعطيت من جراب النورة. هذا حال التقيّة في الفتوى.

وأمّا التقيّة في الحكم مثل أن يحكم على خلاف ما أنزل اللّه خوفا ، فهل يجوز أم لا؟

أمّا لو كان الحكم موجبا لقتل المسلم فلا يجوز قطعا ، ففي الكافي والتهذيب : « إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة » (3).

وأمّا فيما عداه ، فإن كان الضرر الذي يخاف منه هو أنّه يقتل لو لم يحكم ، فيكون حاله حال الفتوى بغير ما أنزل اللّه فيه.

وفيه صور كثيرة من حيث أهميّة ما يحكم به ، أو ترتّب الفساد عليه ، ففي بعضها أيضا لا يجوز قطعا ، وعلى كلّ حال المسألة مشكل جدّا ، أعاذنا اللّه منه ، وقد قال اللّه

ص: 80


1- راجع : « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 75 ، أبواب صفات القاضي ، باب 9 : باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفيّة العمل بها.
2- « الاحتجاج » ص 195.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 220 ، باب التقيّة ، ح 16 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 172 ، ح 335 ، باب النوادر ، ح 13 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 483 ، أبواب الأمر والنهي ، باب 31 ، ح 1 و 2.

عز وجل في كتابه العزيز ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (1) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (2) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (3).

وأمّا إن لم يكن الضرر الذي يخاف منه هو القتل ، فلا يجوز الحكم لعدم جواز دفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير. واللّه ولىّ التوفيق.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 81


1- المائدة (5) : 44.
2- المائدة (5) : 50.
3- المائدة (5) : 52.

ص: 82

48 - قاعدة لا ربا الا فيما يكال أو يوزن

اشارة

ص: 83

ص: 84

قاعدة لا ربا الا فيما يكال أو يوزن (1)

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو الإجماع والأخبار.

الأوّل : الإجماع وهو وإن كان ثبوته لا ينكر ، ولكن قد ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أنّ مثل هذه الإجماعات التي مداركها معلوم - وأنّه في المقام هي الأخبار الواردة في هذا الباب ، وقد عقد في الوسائل بابا بعنوان أنّ الربا لا يثبت إلاّ في المكيل والموزون (2) - فلا بدّ من مراجعة نفس المدرك ، وليس الإجماع من الذي يكون كاشفا عن رأي المعصوم علیه السلام من ناحية اتّفاق الأصحاب الذي بنينا على حجّيته في الأصول.

الثاني : الأخبار.

فمنها : ما رواه علىّ بن رئاب ، عن زرارة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (3).

ص: 85


1- «القواعد» ص 239.
2- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 434 ، أبواب الربا ، باب 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 19 ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح 81 ؛ « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 152 ، ح 504 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 434 ، أبواب الربا ، باب 6 ، ح 1.

ومنها : ما رواه عبيد بن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (1).

ومنها : ما رواه منصور ، قال : سألته عن الشاة بالشاتين والبيضة بالبيضتين؟ قال : « لا بأس ما لم يكن كيلا أو وزنا » (2).

ودلالة هذه الأخبار على هذه القاعدة واضحة وغنيّة عن البيان ، وذلك لأنّ مضمونها عين مضمون القاعدة.

الجهة الثانية : في شرح مضمون القاعدة

اشارة

فنقول أمّا « الربا » بالكسر ، فهي اسم مصدر بمعنى الزيادة والفضل على ما ذكره اللغويّون ، أو مصدر ثان من ربي يربو ربوا ورباء ، وعلى كلّ حال الذي يظهر من نقل كلام اللغويّين وموارد الاستعمال هو أنّ معناه الزيادة والنموّ ، وعند الفقهاء وفي اصطلاح الشرع عبارة عن أخذ الزائد ممّا يعطى للطرف في أبواب المعاوضات ، بل ربما يطلق على المعاملة المشتملة على هذه الزيادة.

والظاهر : أنّه من هذا القبيل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (3) إذ المراد منه ليس حرمة تلك الزيادة فقط ، بل المراد منه حرمة المعاملة المشتملة على تلك الزيادة بقرينة المقابلة للبيع.

ص: 86


1- « الكافي » ج 5 ، ص 146 ، باب الربا ، ح 10 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 275 ، باب الربا ، ح 3996 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 435 ، أبواب الربا ، باب 6 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 191 ، باب المعاوضة في الحيوان والثياب وغير ذلك ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 435 ، أبواب الربا ، باب 6 ، ح 5.
3- البقرة (2) : 275.

وذلك من جهة أنّ المشركين قاسوا وقالوا إنّ المعاملة الربويّة مشتركة مع البيع في طلب الزيادة ؛ لأنّ البائع في البيع الغير الربويّ أيضا يطلب الزيادة والربح ، مثل إن كان الثمن والمثمن من غير المتجانسين ، فإذا كان طلب الزيادة موجبا لحرمة المعاملة ، فلم لا يكون البيع أي المعاملة والمعاوضة في غير المتجانسين حراما ، فأنكر - اللّه تعالى قياسهم وأبطله بقوله ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) وذلك لعلّة مخفية عليكم ، فليس لكم الاعتراض. ولذلك قالوا إنّ هذه الآية تدلّ على حرمة القياس.

هذا ، مضافا إلى أنّ قياسهم باطل حتّى بناء على حجّية القياس ؛ وذلك من جهة أنّه في البيع بناء البائع والمشتري على مساواة الثمن والمثمن من حيث القيمة ، وإنّما فائدة البائع باختلاف الأسوق أو الأزمان ، فيشتري البائع من سوق أرخص أو في زمان أرخص ، ويبيع في سوق أغلى أو زمان أغلى ، وإلاّ ففي نفس ذلك السوق أو ذلك الزمان لا بدّ وأن لا يخسر أحدهما بما لا يتسامح فيه ، وإلاّ فيأتي خيار الغبن ؛ ولذلك لو قال أحد للبائع : إنّ متاعك لا يسوى بهذه القيمة يتأذّى ؛ فالقياس في غير محلّه.

وعلى كلّ حال الربا تارة يكون في البيع ، وأخرى في القرض.

فنتكلّم في مقامين :

الأوّل : الربا في البيع ، بل في جميع المعاوضات.

وهذا القسم هو مورد قاعدتنا هذه ، أي عدم إتيان الربا إلاّ فيما إذا كان العوضان في البيع أي الثمن والمثمن من المكيل أو الموزون.

وقبل ذلك نتكلّم في حكم الربا بكلا قسميه : أي سواء كان في البيع ، أو كان في القرض فنقول :

ويدلّ على حرمته الكتاب العزيز والأحاديث المستفيضة بل المتواترة ، فحرمته من القطعيّات ، بل من الضروريّات بحيث يكون منكرها كافرا مرتدا ، ولا ينافي ما قلنا من أنّ حرمته من الضروريات ، اختلافهم في بعض الفروع ؛ لأنّ ذلك إمّا من جهة

ص: 87

إنكار كونه من الربا موضوعا ، وإمّا من جهة التخصيص في الحكم كموارد قاعدتنا هذه.

أمّا الايات التي تدلّ على حرمة الربا : فمنها : قوله تعالى ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) إلى آخر الآية (1).

ومنها : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (2).

ومنها : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3).

وأمّا الروايات فكثيرة جدّا نذكر جملة منها :

فمنها : ما رواه في الكافي بإسناده عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال :

« درهم ربا عند اللّه أشدّ من سبعين زنيّة كلّها بذات محرم » (4).

ومنها : ما رواه سعد بن طريف ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « أخبث المكاسب كسب الربا » (5).

ومنها : رواية سماعة قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّي رأيت اللّه تعالى قد ذكر

ص: 88


1- البقرة (2) : 275.
2- البقرة (2) : 278 - 279.
3- آل عمران (3) : 130.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 144 ، باب الربا ، ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 274 ، باب الربا ، ح 3991 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 422 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 147 ، باب الربا ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 423 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 2.

الربا في غير آية وكرّره ، قال : « أو تدري لم ذاك؟ » قلت : لا ، قال : « لئلاّ يمتنع الناس من اصطناع المعروف » (1).

ومنها : ما رواه الشيخ ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « درهم من ربا أشدّ عند اللّه من ثلاثين زنيّة كلّها بذات محرم مثل عمّة وخالة » (2).

وما رواه سعيد بن يسار عن الصادق علیه السلام قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « درهم واحد ربا أعظم من عشرين زنيّة كلّها بذات محرم - رحم - » (3).

ومارواه زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّي سمعت اللّه يقول ( يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (4) وقد أرى من يأكل الربا يربو ماله؟ فقال علیه السلام : « أيّ محق أمحق من درهم ربا يمحق الدين ، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر » (5).

وما رواه هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن علّة تحريم الربا؟ فقال : « إنّه لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه ، فحرّم اللّه الربا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال وإلى التجارات من البيع والشراء ، فيبقى ذلك بينهم في القرض » (6).

وما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إنّما حرّم اللّه الربا كيلا يمتنعوا

ص: 89


1- « الكافي » ج 5 ، ص 146 ، باب الربا ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 423 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 3.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 274 ، باب الربا ، ح 3991 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 14 ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح 62 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 423 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 15 ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح 63 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 434 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 6.
4- البقرة (2) : 276.
5- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 15 ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح 65 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 424 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 7.
6- « الفقيه » ج 3 ، ص 567 ، باب معرفة الكبائر ، ح 4937 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 424 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 8.

من صنائع المعروف » (1).

وما رواه زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إنّما حرّم اللّه عزّ وجلّ الربا لئلاّ يذهب المعروف » (2).

وما رواه حمّاد بن عمر وأنس بن محمّد ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في وصيّته لعليّ علیه السلام قال : « يا علىّ الربا سبعون جزء أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمّه في بيت اللّه الحرام » (3).

وما رواه ابن بكير قال : بلغ أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسمّيه اللبأ ، فقال علیه السلام : « لئن أمكنني اللّه منه لأضربنّ عنقه » (4).

والروايات في هذا الباب كثيرة وشديدة.

ثمَّ إنّ الربا بالمعنى الذي ذكرنا له قد يكون في البيع ، وقد يكون في القرض ، ومورد هذه القاعدة هو الربا في البيع ، وأمّا الربا في القرض الذي سنتكلّم فيه ، فيثبت فيه مطلقا في أيّ جنس كان ، وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا ، بل وإن كان معدودا مثلا ، فلو أعطى قرضا بيضة ببيضتين ، أو جوزا بجوزين ، وكذلك في غيرهما يكون من الربا المحرّم.

أمّا القسم الأوّل ، أي الربا في البيع ، فهو أن يبيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة إذا كانا من المكيل أو الموزون.

ص: 90


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 566 ، باب معرفة الكبائر ، ح 4935 ؛ « علل الشّرائع » ص 482 ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 424 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 9.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 566 ؛ باب معرفة الكبائر ، ح 4936 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 425 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 10.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 367 ، باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ، في وصايا النبيّ لعليّ علیه السلام ، ح 5762 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 426 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 12.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 147 ، باب الربا ، ح 11 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 428 ، أبواب الربا ، باب 2 ، ح 1.

فثبوت الربا في البيع يشترط فيه أمران :

الأوّل : اتّحاد جنس الثمن والمثمن.

والثاني : كونهما من المكيل أو الموزون.

والدليل على الأوّل - مضافا إلى صعوبة تصوير الزيادة إذا كانا من جنسين - الإجماع والأخبار.

نعم يمكن أن يكون أحد العوضين في نظر العرف وأهل الأسواق أكثر قيمة وماليّة ، فيكون لصاحبه خيار الغبن إذا كانت التفاوت فاحشا لا يتسامح فيه ، ولم يكن عالما بهذا التفاوت حال البيع ، وإلاّ فليس له حتّى الخيار. نعم لو كانت التفاوت بحدّ تعدّ مثل هذه المعاملة سفهيّا ، فيكون أصل المعاملة باطلا.

أمّا الإجماع ؛ فلاتّفاقهم على جواز بيع المتخالفين في الجنس ، أيّ مقدار من أحدهما بأيّ مقدار من الآخر نقدا ، ما لم يبلغ إلى حدّ كون المعاملة سفهيّا ، نعم قلنا أنّه يثبت خيار الغبن مع تفاوت قيمتها وجهل صاحب ما هو أزيد قيمة بالزيادة إذا كان التفاوت لا يتسامح فيه.

وأمّا الاخبار

فلقوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (1) ؛ ولما رواه محمّد بن مسلم في حديث ، قال : « إذا اختلف الشيئان فلا بأس به مثلين بمثل يدا بيد » (2).

والمراد من قوله علیه السلام : « يدا بيد » أي : نقدا.

ولما رواه جماعة عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « ما كان من طعام مختلف أو متاع شي ء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد ، وأمّا نظرة

ص: 91


1- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 221 ، ح 86 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 341 ، أبواب الربا ، باب 12 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 95 ، ح 404 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 442 ، أبواب الربا ، باب 13 ، ح 1.

فلا يصلح » (1).

ومراده علیه السلام من الجملة الأخيرة هو ما قلنا بجواز بيع المختلفين في الجنس مثلين بمثل كيلا أو وزنا فيما إذا كانت المعاملة نقدا ، لا نظرة ونسيئة.

ولما رواه سماعة قال : سألته عن الطعام والتمر والزبيب ، فقال : « لا يصلح شي ء منه اثنان بواحد ، إلاّ أن يصرفه نوعا إلى نوع آخر ، فإذا صرّفته فلا بأس اثنين بواحد وأكثر من ذلك » (2).

ولما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « المختلف مثلان بمثل يدا بيد لا بأس » (3).

ولما رواه عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجل اشترى سمنا ففضل له فضل ، أيحلّ له أن يأخذ مكانه رطلا أو رطلين زيتا؟ قال علیه السلام : « إذا اختلفا وتراضيا فلا بأس » (4).

ولا شكّ في ظهور هذه الروايات بل نصوصيّتها في جواز بيع المتخالفين في النوع والجنس ، مع زيادة مقدار أحد العوضين عن الآخر في المقدار كيلا أو وزنا ، ولا فرق بين أن يكون الزيادة التي في أحدهما قليلة أو كثيرة ، لكن بشرط أن تكون المعاملة نقدا ويدا بيد ، لا نسيئة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الربا في البيع لا يثبت إلاّ بأمرين :

ص: 92


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 93 ، ح 396 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 442 ، أبواب الربا ، باب 13 ، ح 2.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 281 ، باب الربا ، ح 4014 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 95 ، ح 406 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 443 ، أبواب الربا ، باب 13 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 190 ، باب المعاوضة في الطعام ، ج 17 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 444 ؛ أبواب الربا ، باب 13 ، ح 9.
4- « قرب الإسناد » ص 114 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 445 ، أبواب الربا ، باب 13 ، ح 11.

أحدهما : اتّحاد الثمن والمثمن في الجنس وأن يكونا من نوع واحد.

الثاني : كونهما ممّا يعتبر في بيعهما الكيل أو الوزن.

فلا بدّ من توضيح هذين الأمرين ، وأنّه ما المراد من اتّحاد الجنس والنوع في الشرط الأوّل ، وأنّه ما المناط في كون الشي ء مكيلا أو موزونا في الشرط الثاني ، فنقول :

أمّا المراد من اتّحاد الجنس والنوع في الشرط الأوّل بعد الفراغ من أنّه ليس المراد به اتّحاد الجنس والنوع المنطقي أي تمام المشترك الذاتي بين الحقائق المختلفة المقول عليها ، ولا الكلّي المقول على الكثرة المتّفقة الحقيقة في جواب ما هم ؛ ، لعدم كون المناط في اتّحاد الجنس أو النوع هذا المعنى في باب الربا في البيع بالضرورة.

فقد يقال : إنّ المناط في اتّحاد الجنس والنوع هو كونهما بحسب الاسم متّحدين عند العرف ، بحيث لا يصح عندهم سلب الاسم الذي يطلق على أحدهما إطلاقا حقيقيّا عن الآخر.

ولا شكّ في أنّ هذا المعنى غير جار في أكثر موارد الربا ، فإنّ الشعير والحنطة مختلفان اسما ، ولا يصحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر إطلاقا حقيقيّا ، مع أنّهما يعدّان في الربا جنسا واحدا ، وكذلك السمسم مع الشيرج ، واللبن مع الأقط (1) أو الزبد ، وكذلك مع الجبن ، وكذلك الجبن معهما ، كما أنّه ربما يكون العوضان متّحدين في الاسم ومع ذلك لا يثبت الربا فيهما ، وذلك كلحم الغنم والبقر ، فكلاهما يطلق عليهما اللحم إطلاقا حقيقيّا ، ومع ذلك لا يجرى الربا فيهما فهذا الضابط غير تامّ لا كلية له : لا طردا ولا عكسا.

وربما يقال : بأنّ الضابط في اتّحاد جنس العوضين هو رجوعهما إلى أصل واحد ، وإن كانا فعلا بحسب الاسم مختلفين ، ولا يطلق اسم أحدهما على الآخر ، والأمثلة

ص: 93


1- الأقط : لبن يابس مستحجر يتّخذ من مخيض الغنم. « القاموس المحيط » ج 1. 362.

المذكورة التي قلنا يأتي فيها الربا مع عدم اتّحادهما في الاسم ، كلّها من هذا القبيل ، أي ترجع إلى أصل واحد.

إن قلت : إنّ ظاهر أدلّة حرمة الربا في المعاملات والمعاوضات هو بيع المثل بالمثل مع الاختلاف في المقدار ، ولا شكّ في أنّ الأقط والزبد ليسا مثلين للّبن ، وكذلك التمر والعنب مع الخلّ المصنوع من أحدهما.

قلنا : قد علّل الإمام علیه السلام إتيان الربا وجريانه في الشعير والحنطة بكونهما من أصل واحد :

ففي الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن الرجل يبيع الرجل الطعام الأكرار ، فلا يكون عنده ما يتمّ له ما باعه ، فيقول له خذ منّى مكان كلّ قفيز حنطة قفيزين من شعير حتّى تستوفي ما نقص من الكيل ، قال علیه السلام : « لا يصلح ، لأنّ أصل الشعير من الحنطة ، ولكن يردّ عليه الدراهم بحساب ما ينقص من الكيل » (1).

فقوله علیه السلام : « لأنّ أصل الشعير من الحنطة » تعليل لعدم جواز معاوضتهما بالزيادة ، وثبوت الربا ، فيؤخذ بعموم التعليل ، ويسري الحكم إلى كلّ مورد يكون انتهاء العوضين إلى أصل واحد ، وإن لم يكونا متّحدين في الاسم. وروى في الوسائل بهذا المعنى روايات كثيرة (2).

ولكن هذا أيضا لا يخلو عن نظر وتأمّل ، وذلك من جهة أنّ انتهاء الثمن والمثمن - مثلا - إلى أصل واحد ، لو كان هو الضابط في اتّحاد الجنس وثبوت الربا ، يلزم أن لا يجوز بيع الملح الذي استحيل اللحم إليه باللحم متفاضلا في الكيل أو الوزن ، ولا يكمن للفقيه الالتزام بذلك.

ص: 94


1- « الكافي » ج 5 ، ص 187 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 438 ، أبواب الربا ، باب 8 ، ح 1.
2- راجع « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 438 ، أبواب الربا ، باب 7 : إنّ الحنطة والشعير جنس واحد في الربا لا يجوز التفاضل فيهما ويجوز التساوي.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه ليس المراد هو صرف انتهائهما إلى أصل واحد وإن كانا متباينين في أغلب الجهات ، بل المراد أن يكونا بنظر العرف حقيقة واحدة ومن سنخ واحد ، بحيث يحكم العرف باتّحادهما وكونهما من جنس واحد ، وإن اختلفا في بعض الخواصّ والآثار ؛ فالدهن والزبد مثلا حقيقة واحدة ؛ لأنّ الدهن عبارة عن الزبد المذاب وإن كانا مختلفين في كثير من الخواصّ والآثار ، وكذلك الأقط واللبن.

وبعبارة أخرى : المشتقّات من حقيقة واحدة تعدّ في نظر العرف سنخا واحدا ، وإن كانت مختلفة في خواصّها وآثارها ، فالدبس والتمر مثلا عند العرف حقيقة واحدة.

نعم هذا الاتّحاد في بعض ما يرجع إلى أصل واحد أظهر ، وفي بعضها أخفى ، بل ربما يتخيّل العرف أنّهما حقيقتان مختلفان لو لا تنبيه الشارع بذلك وأنّهما من أصل واحد ، كما نبّه بذلك في اتّحاد جنس الشعير والحنطة فيما رواه الصدوق بإسناده أنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام سئل ممّا خلق اللّه الشعير؟ فقال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى أمر آدم أن ازرع ممّا اخترت لنفسك ، وجاءه جبرئيل علیه السلام بقبضة من الحنطة ، فقبض آدم علیه السلام على قبضة وقبضت حوّاء على أخرى ، فقال آدم علیه السلام لحوّاء : لا تزرعي أنت ، فلم تقبل من آدم فكلّما زرع آدم جاء حنطة ، وكلّما زرعت حوّاء جاء شعيرا » (1).

فما هو التحقيق في المقام هو أن يقال : إنّ المناط في كونهما من المتماثلين هو أن يكونا من نوع واحد بنظر العرف ، وإن كانا مختلفين بحسب الجودة والرداءة ، وكانا من صنفين ، أو كانا فرعين ومشتقّين من حقيقة واحدة ، كالدبس والخلّ ، حيث أنّهما مشتقّان من التمر أو العنب ، أو كانا فرعا مع أصله كالخبز مع الحنطة ، وهذا القسم الأخير يكون من المتماثلين فيما إذا لم يتبدّل الأصل إلى حقيقة أخرى بذهاب صورته النوعيّة واستحالته إلى نوع آخر كاللحم إذا تبدّل إلى الملح.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ الفرعين من الحقيقتين ربما يشتركان في الاسم ، بل ربما يكونان

ص: 95


1- « علل الشرائع » ج 2 ، ص 574 ، ح 2 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 344 ، أبواب الربا ، باب 17 ، ح 2.

بنظر العرف حقيقتهما واحدة كلحم البقر والغنم ، ولكن حيث أنّهما فرعان من حقيقتين مختلفتين لا يأتي فيهما الربا ، وإن كان أحدهما أزيد من الآخر بحسب المقدار كيلا أو وزنا ، بل المدار في التماثل والاختلاف هو الاتّحاد أو اختلاف حقيقتي أصليهما وبناء على هذا فزبد الغنم أو دهنه أو لبنه من المختلفين مع زبد البقرة أو دهنها أو لبنها وإن كانا بنظر العرف ربما يكونان من المتماثلين.

وأمّا خلّ التمر فيصحّ بيعه بخل العنب وإن كان أحدهما أزيد من الآخر بحسب الوزن أو الكيل ؛ لما ذكرنا من اختلاف أصليهما بحسب الحقيقة.

والدليل على ما ذكرنا من الضابط في تحقّق الربا هو الأخبار الواردة في هذا الباب ، والإجماعات المدّعاة في المقام. وقد تقدّم تعليل الإمام الصادق علیه السلام فيما رواه هشام بن سالم عنه علیه السلام عدم جواز بيع الشعير بالحنطة متفاضلا ، كأن يأخذ مشتري الحنطة من بائعها مكان كلّ قفيز من الحنطة قفيزين من شعير ، بأنّ أصل الشعير من الحنطة ، مشيرا بذلك إلى قصّة آدم وحوّاء وزرعهما الحنطة ، ومجي ء زرع حوّاء شعيرا. وقد تقدّم رواية الصدوق ذلك ، ولا شكّ في أنّ الأخذ بعموم هذا التعليل يوجب عدم جواز بيع كلّ فرع مع أصله مع التفاضل.

نعم خالف ابن إدريس قدس سره (1) في هذه المسألة ، وقال بجواز بيع الحنطة بالشعير متفاضلا ؛ لأنّهما جنسان ، وحكى الجواز عن ابن أبي عقيل أيضا ، واستدلّ على ذلك بقوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (2).

ويدلّ أيضا على ما قال من الجواز رواية سماعة ، وكذلك رواية عليّ بن جعفر علیه السلام المتقدّمتان.

ولكن أنت خيبر بأنّ عموم التعليل مخصّص لهذه العمومات ، فلا يبقى وجه

ص: 96


1- « السرائر » ج 2 ، ص 254.
2- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 221 ، ح 86 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 341 ، أبواب الربا ، باب 12 ، ح 4.

لخلاف ابن إدريس.

هذا ، مضافا إلى الإجماع وورود روايات متعدّدة في خصوص المقام أي بيع الحنطة بالشعير أو العكس متفاضلا ، وقد عقد في الوسائل بابا لذلك ، إن شئت فراجع.

وأمّا المراد من المكيل والموزون في الشرط الثاني

أقول : أمّا مفهوم المكيل والموزون أو ما يكال ويوزن ، فواضح لا خفاء فيهما ؛ وذلك من جهة أنّ وقوع المعاملة على متاع لا يصحّ إلاّ بتعيين ذلك المتاع ، كي لا يكون مجهولا وغرريّا. وارتفاع الغرر والجهل عند العرف والعقلاء يختلف بالنسبة إلى الأمتعة وما يقع عليه المعاوضة والمعاملة ، ففي بعضها بالمشاهدة ، وفي بعضها بالتوصيف وبيان الخصوصيات ، وفي بعضها بالذرع ، وفي بعضها بالعدد ، وفي بعضها بالكيل أو الوزن ، وكلامنا في هذا القسم الأخير ، أي فيما لا يصحّ المعاملة فيها إلاّ بالكيل أو الوزن ، وقد ذكرنا أنّ هذين المفهومين - أي الكيل والوزن - من المفاهيم الواضحة التي لا تحتاج إلى الشرح والإيضاح.

نعم حيث أنّ المكيليّة والموزونيّة عند العرف والعقلاء في باب المعاوضات والمعاملات تختلف بحسب الأزمنة والبلاد ، فربّ متاع يكون من المكيل أو الموزون في زمان ومن المعدود في زمان آخر ، وكذلك بالنسبة إلى البلاد فيكون من المعدود في بلد ومن الموزون في بلد آخر.

فبعد قيام الحجة على اشتراط ثبوت الربا في المعاملات - عدا القرض - بأن يكون العوضان من المكيل أو الموزون ، والمفروض اختلافهما باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فيبقى مجال للكلام في أنّه هل المدار على كونهما - أي العوضين - من المكيل والموزون في زمان الشارع ، أو في زمان وقوع المعاملة. وكذلك الأمر في اختلاف البلاد ، هل المدار هو عرف البلد الذي صدرت فيه هذه الروايات التي تدلّ على اعتبار

ص: 97

هذا الشرط في خصوص زمان الصدور ، أو مطلقا ، أو المدار على عرف البلد الذي تقع فيه هذه المعاملة؟

أقول : لا شكّ في أنّ تشخيص المراد وتعيينه من الألفاظ المستعملة في الروايات يكون بما يفهمه العرف منها ، بعد الفراغ عن أنّ الشارع لم يخترع طريقة خاصّة للتفهيم ، بل يلقى مراداته إلى المكلّفين على طريقة أهل المحاورة والعرف.

فبناء على هذا مقتضى القواعد الأوّليّة هو أن يكون المراد منهما ما هو المكيل والموزون في زمان الشارع وفي لسانه وعرف بلده ، ولعلّه لذلك ادّعى بعضهم الإجماع على أنّ ما كان موزونا أو مكيلا في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله يدخل فيه الربا وإن تغيّر فيما بعد وصار معدودا ، كما أنّ الخبز كان موزونا والآن في زماننا صار معدودا في بعض البلاد.

فبناء على هذا ، المدار في الكيل والوزن هو المكيليّة والموزونيّة في زمانه صلی اللّه علیه و آله في الأجناس التي كانت في زمانه وبلاده ، وأمّا الأجناس التي لم تكن في ذلك الزمان كالطماطة والبطاطة فيعتبر حالها بالنسبة إلى البلد التي يقع البيع في ذلك البلد ، فإن كانت مكيلة أو موزونة فيدخل فيه الربا ، وإلاّ فلا.

وقد ذكر العلاّمة قدس سره في التذكرة : أنّه قد أجمع المسلمون على ثبوت الربا في الأشياء الستّة ؛ لقول النبي صلی اللّه علیه و آله : « الذهب بالذهب مثلا بمثل ، والفضّة بالفضّة مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، والبرّ بالبرّ مثلا بمثل ، والملح بالملح مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، بيعوا الذهب بالفضّة كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البرّ بالتمر كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد » واختلف فيما سواها (1).

ثمَّ ذكر اختلاف الفقهاء في بعض الفروع ، ثمَّ قال بلزوم الأخذ بإطلاق قوله

ص: 98


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 476.

تعالى ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) في موارد الشكّ إلاّ أن يثبت التقييد.

والتحقيق : دخول الربا في هذه الأجناس الستّة التي صرّح صلی اللّه علیه و آله بدخول الربا فيها ، سواء كانت في الأزمنة المتأخّرة عنه صلی اللّه علیه و آله يباع بالكيل أو الوزن أم لا ؛ وذلك لجعله صلی اللّه علیه و آله موضوع الحكم نفس هذه العناوين من دون تعليقه على كونها مكيلة أو موزونة ، واحتمال أن يكون الحكم لأجل كونها من المكيل أو الموزون لا شاهد له.

وأمّا ما عداها ، فإن كان في عصره صلی اللّه علیه و آله من المكيل أو الموزون ، فيدخل فيه الربا مع اتّحاد الجنس ، أو كان العوضين فرعا للعوض الآخر كالدبس مع التمر مثلا ، أو كان العوضان فرعين لجنس واحد كما إذا باع الدبس بالخلّ ، إذا كان كلاهما من فروع التمر مثلا ، أو كان كلاهما متّخذين من العنب مثلا ؛ للإجماع.

وأمّا لو لم يكن في عصره صلی اللّه علیه و آله من المكيل والموزون ، فدخول الربا فيه مشروط بكونه من المكيل أو الموزون حال وقوع المعاملة.

وأمّا لو كان مختلفا بحسب البلاد ، بأن يكون في بلد من المكيل أو الموزون وفي بلد آخر من المعدود ، كما في الخيار والبرتقال في هذا الزمان ، فإنّهما في بعض البلاد يباع بالوزن ، وفي بعض البلاد يباع بالعدد ، فيلحقه في كلّ بلد حكم ما هو المتعارف في ذلك البلد.

ففي البلد الذي يباع بالكيل أو الوزن يدخل فيه الربا بشرط أن يكون العوضان من المتّحد في الجنس ، أو كان رجوعهما إلى جنس واحد ؛ وذلك من جهة أنّ مفاد قوله علیه السلام : « لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن » (2) هو أنّ دخول الربا في معاملة منوط بأن يكون العوضان المتّحدان في الجنس ممّا يكال أو يوزن.

ص: 99


1- البقرة (2) : 275.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 146 ، باب الربا ، ح 10 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 275 ، باب الربا ، ح 3996 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 17 ، ح 74 ؛ وص 19 ، ح 81 ؛ وص 94 ، ح 397 ؛ وص 118 ، ح 515 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 434 ، أبواب الربا ، باب 6 ، ح 1 و 3.

فهذا حكم كلّي مجعول بنحو القضيّة الحقيقيّة على الموضوع المقدّر وجوده ، فمتى وجد مصداق في الخارج لهذا الموضوع الكلّي المقدّر وجوده ، يصير حكمه فعليا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ، وقد أوضحنا في محلّه (1) أنّ جعل جميع الأحكام الشرعيّة يكون على نهج القضايا الحقيقيّة.

ومقتضى ما ذكرنا هو أنّه لو كان العوضان من المكيل والموزون في زمان الشارع ، ولم يكن منهما في هذا الزمان عدم دخول الربا في تلك المعاملة ؛ لأنّه من تبدّل موضوع الحكم. كما أنّه بالعكس لو كانا من المكيل أو الموزون في هذا الزمان ولم يكونا منهما في زمان الشارع ، يجب الحكم بدخول الربا ؛ لتحقّق الموضوع ، ومعلوم أنّ وجود الحكم وتحقّقه تابع لوجود موضوعه وتحقّقه.

ولكن تقدّم أنّه صلی اللّه علیه و آله رتّب الحكم في تلك الستّة المتقدّمة على نفس عناوينها ، أي عنوان البرّ والشعير والتمر والملح والفضّة والذهب ، فمتى وجدت هذه العناوين ، أي صار العوضان من أحدها ، يترتّب الحكم ، سواء كان من المكيل أو الموزون ، أو لم يكن.

وأمّا بالنسبة إلى غيرها ، فإن كان من المكيل أو الموزون في عصره فيدخل فيه الربا إلى يوم القيامة وإن تبدّل وصار من غيرهما في الأزمنة المتأخّرة ، مع أنّه خلاف ما ذكرنا من جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّة ؛ وذلك للإجماع الذي ادّعوه في المقام.

فإن ثبت الإجماع فهو ، وإلاّ فللكلام مجال بأن يقال : بأنّ صرف كونه من المكيل والموزون في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله مع عدم كونه منهما في زمان وقوع المعاملة لا يوجب دخول الربا فيه ، بل مقتضى القاعدة المتقدّمة ، وهو جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة ، هو كونه من المكيل أو الموزون في زمان وقوع المعاملة ، وإلاّ لا يدخل

ص: 100


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 157.

فيه الربا.

وخلاصة الكلام : أنّ قوله علیه السلام « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » مشتمل على عقدين : أحدهما إيجابيّ ، والآخر سلبيّ ، وكلّ واحد منهما متكفّل لبيان حكم على نحو القضيّة الحقيقيّة ، والعقد السلبي مفاده عدم تحقّق الربا في غير المكيل والموزون ، والعقد الإيجابيّ تحقّقه فيهما.

ففي كلّ عصر أو مصر كان متاع من المكيل أو الموزون ، فبيعه بما هو من جنسه أو بما هو من فروعه أو بما هو معه يرجعان إلى أصل واحد ، ويكونان فرعين من جنس واحد بزيادة أحدهما على الآخر في المقدار يكون من الربا المحرّم.

وأمّا العقد السلبي ، فمفاده هو أنّ كلّ متاع لم يكن منهما في أيّ عصر وفي أيّ مصر كان فلا يدخل فيه الربا ، فتحقّق الربا يدور مدار كون المتاع من المكيل أو الموزون في زمان وقوع المعاملة ، ولا أثر لكونه كذلك في زمان قبل وقوع المعاملة أو بعده ، كما أنّ عدم الربا كذلك يدور مدار عدم كونه منهما حال المعاملة ، ولا أثر للعدم قبله أو بعده.

فهذه قاعدة كلّية يجب العمل بها ، إلاّ أن يأتي دليل بالخصوص في مورد من إجماع أو غيره يكون مخصّصا لها.

ثمَّ إنّ الفقهاء - رضوان اللّه تعالى عليهم - ذكروا موارد لتخصيص هذه القاعدة.

منها : أنّه لا رباء بين الوالد وولده ، والزوج وزوجته ، والسيّد ومملوكه ، وبين المسلم والحربيّ ، بمعنى أخذ المسلم الفضل منه. وسنتكلّم في هذه الفروع تفصيلا إن شاء اللّه تعالى.

هذا كلّه فيما إذا علم أنّ الشي ء الفلاني كان من المكيل أو الموزون في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . فعلى تقدير ثبوت الإجماع المذكور نحكم بدخول الربا فيه إلى يوم القيامة ، وإن لم يكن منهما في الأزمنة المتأخّرة عنه صلی اللّه علیه و آله .

أما لو شكّ في كونه كذلك في زمنه صلی اللّه علیه و آله فدليل حرمة الربا وإن كان لا يشمله -

ص: 101

بناء على تقييده بما إذا كان مكيلا أو موزونا في زمن الرسول - فيما إذا لم يكن كذلك في الأزمنة المتأخّرة ، فيكون حرمة مثل تلك المعاملة مشكوكة ، ولا يمكن التمسّك للحرمة بإطلاقات أدّلة حرمة الربا ؛ لكونه من التمسّك بعموم العامّ في الشبهات المصداقيّة لنفس العام ، ومقتضى الأصل العملي هي البراءة بالنسبة إلى الحرمة ، ولكن بالنسبة إلى صحّة المعاملة وتأثيرها في النقل والانتقال ، فمقتضى الأصل عدم النقل والانتقال.

والذي يسهل الخطب أنّ ثبوت مثل هذا الإجماع غير معلوم ، فيكون مقتضى القواعد وجعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّة هو أنّ موضوع الحرمة والفساد هو كونه مكيلا أو موزونا في وقت وقوع المعاملة.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا من صحّة بيع المختلفين في الجنس وإن كانت في أحد العوضين زيادة وزنا أو كيلا أو عددا كمنّ من العدس مثلا بمنّين من الحنطة ، أو قفيز بقفيزين ، أو فرس ببقرين وأمثال ذلك فيما إذا كانت المعاملة نقدا. أمّا لو كانت نسيئة فربما يقال بعدم صحّته ؛ وذلك لقول الصادق علیه السلام : « ما كان من طعام مختلف ، أو متاع ، أو شي ء من الأشياء يتفاضل ، فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد ، فأمّا نظرة فلا يصلح » (1).

وصحيح زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « البعير بالبعيرين ، والدابّة بالدابّتين يدا بيد ليس به بأس » (2) ولغير ما ذكرنا من الأخبار الأخر التي تركنا ذكرها ، وذلك لأنّ سياق كلّها سياق ما ذكرنا.

وأنت خبير بأنّ دلالة هذه الأخبار على ثبوت البأس فيما إذا كانت نسيئة بمفهوم الوصف بل اللقب ، وقد أشكلنا في الأصول (3) في ثبوت المفهوم في أمثال المقام ، وعلى

ص: 102


1- « الكافي » ج 5 ، ص 191 ، باب المعاوضة في الحيوان والثياب ، ح 6 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 279 ، باب الربا ، ح 4006 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 93 ، ح 395 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 442 ، أبواب الربا ، باب 13 ، ح 2.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 279 ، باب الربا ، ح 4007 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 449 ، أبواب الربا ، باب 17 ، ح 1.
3- « منتهى الأصول » ج 1 ؛ ص 435.

تقدير ثبوت المفهوم لها تكون معارضة بما هو أقوى منها دلالة وجهة ، لموافقة هذه الأخبار لما هو المشهور عند العامّة.

نعم الخبر الأوّل وهو قوله علیه السلام : « فأمّا نظرة فلا يصلح » دلالته على عدم جواز النسيئة بالمنطوق ، ولكنّ الكلام في أنّ نفي الصلاح ليس صريحا ولا ظاهرا في الفساد ، بل له كمال المناسبة مع الكراهة فهو أعمّ من الفساد. فالأقوى ما ذهب إليه المشهور من الكراهة دون الفساد.

واستدلّ المشهور على الجواز بعدّة روايات :

منها : ما عن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (1).

ومنها : ما عن عبيد بن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (2).

ومنها : قوله عليه الصلاة والسّلام : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (3).

وروايات أخر (4) نترك ذكرها ؛ لأنّ سياق جميعها سياق ما ذكرنا.

ولكنّ الإنصاف أنّ الروايات المتقدّمة التي قلنا إنّ مفادها عدم ثبوت الربا في المختلفين فيما إذا كانت يدا بيد لا مطلقا ، يمكن أن تقيّد هذه المطلقات. إلاّ أن يقال بأنّ مطابقتها لفتوى المشهور من العامّة أسقطها عن الاعتبار ، وكذلك إعراض المشهور

ص: 103


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 19 ، باب فضل التجارة وآدابها وغير ذلك ، ح 81 ؛ « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 152 ، ح 504 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 434 ، أبواب الربا ، باب 6 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 146 ، باب الربا ، ح 10 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 275 ، باب الربا ، ح 3996 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 434 ، أبواب الربا ، باب 6 ، ح 3.
3- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 221 ، ح 86 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 341 ، أبواب الربا ، باب 12 ، ح 4.
4- راجع : « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 442 ، أبواب الربا ، باب 13.

عنها ، حيث أنّهم أفتوا بكراهة بيع المختلفين جنسا نسيئة مع الزيادة في أحدهما ، كالثوب بثوبين ، والفرس بفرسين ، ولا يقول بحرمته إلاّ الشيخ في النهاية (1) والمفيد (2) وابن أبي عقيل وابن الجنيد (3).

وحاصل الكلام : أنّه إمّا أن يجمع بين الطائفتين بحمل أخبار المانعة على الكراهة ، أو يرفع اليد عنها ؛ لموافقته للعامّة وإعراض المشهور عنها ، فتأمّل.

والأحسن هو الجمع بينهما بحمل أخبار المانعة على الكراهة ، فإنّه جمع عرفي في أمثال المقام.

وربما يؤيّد هذا الجمع ما في صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الثوبين الرديّين بالثوب المرتفع ، والبعير بالبعيرين ، والدابّة بالدابّتين؟ فقال علیه السلام : « كره ذلك عليّ علیه السلام فنحن نكرهه ، إلاّ أن يختلف الصنفان » (4) إلخ.

وهذا بناء على أن يكون الكراهة بمعناها المصطلح ، أي ما هو أحد الأحكام الخمسة ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من الكراهة ها هنا هو معناها اللغوي ، فلا ينافي الحرمة ، خصوصا بضميمة قوله علیه السلام : « ولم يكن علىّ علیه السلام يكره الحلال » (5).

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ مورد هذه الرواية ليس من المختلفين في الجنس الذي هو محل الكلام ، نعم ليس المورد من الربويّين ، وإن كانا متّحدين جنسا ؛ لأنّهما ليسا ممّا يكال أو يوزن.

ص: 104


1- « النهاية » ص 377.
2- « المقنعة » ص 603.
3- نقله عنهما في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 117.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 120 ، ح 521 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 127 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 101 ، ح 353 ، باب بيع ما لا يكال ولا يوزن ... ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 449 ، أبواب الربا ، باب 16 ، ح 7.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 188 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 96 ، ح 412 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 447 ، أبواب الربا ، باب 15 ، ح 1.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن العوضان ربويين.

وأمّا إذا كانا واجدين لشرائط الربا ، أي كانا متّحدي الجنس ، وكانا ممّا يكال أو يوزن ، فلا شكّ في جواز بيعهما مثلا بمثل بغير تفاضل نقدا ، ولكنّ الكلام في جواز بيعهما نسيئة ، وإن كان مثلا بمثل وزنا أو كيلا. والمشهور عدم جوازه ، بل ادّعى الإجماع على عدم الجواز.

وذلك كما إذا باع قفيزا من الحنطة الرديئة نقدا بقفيز من الحنطة الجيّدة نسيئة ، أو مطلق الحنطة بمطلقها وإن لم يكن بينهما اختلاف في الجودة والرداءة ، وذلك من جهة أنّ الأجل زيادة حكميّة.

ففي المفروض - وإن لم يكن زيادة عينيّة في البين ، ولكن الزيادة الحكميّة موجودة ؛ لأنّ للأجل قسطا من الثمن - لا يجوز ، للإجماع ، ولما رواه الصدوق قدس سره في الفقيه عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الفضّة بالفضّة مثل بمثل ، والذهب بالذهب مثل بمثل ليس فيه زيادة ولا نظرة ، الزائد والمستزيد في النار » (1).

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت معنى الربا ، وأنّه عبارة عن الزيادة في أحد العوضين إنّ كانا متّحدي الجنس ، وكانا ممّا يكال أو يوزن ، فاعلم :

أنّه وقع الخلاف في أنّه مختصّ بالبيع والقرض ، أم يأتي في سائر المعاوضات؟

قال الشهيد (2) والمحقّق (3) الثانيان بثبوته في جميع المعاوضات ، وكلام المحقّق والعلاّمة مختلف في كتبهما ، فالمحقّق في الشرائع (4) والعلاّمة في القواعد (5) والإرشاد (6) قالا

ص: 105


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 288 ، باب الصرف ووجوهه ، ح 4037 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 456 ، أبواب الصرف ، باب 1 ، ح 1.
2- « مسالك الأفهام » ج 3 ، ص 317.
3- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 266.
4- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 37.
5- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 140.
6- « إرشاد الأذهان » ج 1 ، ص 377.

باختصاصه بالبيع ، وقال المحقّق في كتاب الغصب (1) بثبوت الربا في كلّ معاوضة ، ونسب الأردبيلي (2) قدس سره هذا القول إلى الأكثر.

والعمدة هو ملاحظة أدّلة القولين واختيار ما هو الصواب والأحقّ :

فأما ما يقال : بأنّ الربا هو الزيادة في البيع والقرض فقط ، وأنّ الزيادة في سائر المعاوضات فلا يطلق عليه الربا.

فصرف ادّعاء من دون دليل ؛ وذلك لأنّ الربا في اللغة هي الزيادة ، وعند العرف الذي هو المناط في تشخيص معاني الألفاظ وتعيين مرادات المتكلّمين من ألفاظ كلامهم ، هو زيادة أحد العوضين من متحدي الجنس في المعاملات ، خصوصا إذا كانا من المكيل والموزون ، فمن أين جاء هذا التخصيص والتضييق.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ الشارع وضعه لخصوص الزيادة لأحد العوضين في خصوص باب البيع والقرض.

وأنت خبير بأنّ هذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل معنى الربا في أبواب المعاملات عرفا هو زيادة العوضين على الآخر وزنا أو كيلا إذا كانا متّحدي الجنسين ، فلو صالح منّا من الحنطة الجيّدة - مثلا - بمنّين من غير الجيّدة يكون من الربا المحرّم ، ويشمله عموم قوله تعالى ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) .

وأمّا ورود لفظ البيع أو القرض كثيرا ، خصوصا الأوّل منهما في الروايات الواردة في أبواب الربا ، فمن جهة أنّهما المعاملتان الشايعتان في الأسواق وعند الناس رباء.

هذا ، مضافا إلى المطلقات الواردة في طائفة من الروايات ، بحيث يشمل كلّ

ص: 106


1- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 189.
2- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 8 ، ص 452.

معاوضة تقع على متّحدي الجنسين بالزيادة :

منها : ما رواه محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « سألته عن الرجل يدفع إلى الطحّان الطعام فيقاطعه على أن يعطى لكلّ عشرة أرطال اثني عشر دقيقا قال : « لا ». قلت : فالرجل يدفع السمسم إلى العصّار يضمن له لكلّ صاع أرطالا مسمّاة ، قال : « لا » (1).

ومعلوم أنّ هذا ليس بيعا ، بل الأوّل صرف التزام ومقاطعة بأن يعطى بدل عشرة أرطال من الحنطة اثني عشر من الدقيق ، وفي الثاني ضمان وليس من باب البيع أو القرض.

ومنها : أيضا ما رواه محمّد بن مسلم وزرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « الحنطة بالدقيق مثلا بمثل ، والسويق بالسويق مثلا بمثل ، والشعير بالحنطة مثلا بمثل لا بأس » (2).

وبهذا المضمون روايات كثيرة (3) لا اختصاص لها بالبيع ، ولا ذكر منه فيها ، بل يشمل مطلق المبادلة والمعاوضة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّها منصرفة إلى خصوص البيع ؛ لأنّه هي المعاملة المتعارفة بين الناس والمتداولة فيما بينهم في أمثال المقام.

وأنت خبير بأنّ صرف كثرة الوجود لا يكون من أسباب الانصراف ، بل المبادلة والمعاوضة أعمّ من البيع ويشمل سائر المعاوضات أيضا.

وكذلك يدلّ على عدم اختصاصه بخصوص البيع والقرض الروايات الواردة في

ص: 107


1- « الكافي » ج 5 ، ص 189 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 11 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 440 ، أبواب الربا ، باب 9 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 189 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 440 ، أبواب الربا ، باب 9 ، ح 2.
3- راجع : « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 437 - 441 ، باب 8 ، 9 و 10.

حرمة الربا ، وهي كثيرة :

منها : ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « درهم ربا عند اللّه أشدّ من سبعين زنيّة كلّها بذات محرم » (1).

وأيضا يدلّ على التعميم لكل معاوضة الروايات الكثيرة (2) الواردة في حكمة تحريم الرباء ، وهي كثيرة :

منها : ما رواه سماعة قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام إنّي رأيت اللّه تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرّره؟ قال : « أو تدري لم ذاك » قلت : لا ، قال : « لئلاّ يمتنع الناس من اصطناع المعروف » (3).

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ دلالة هذه الروايات على التعميم منوط بكون الربا عبارة عن الزيادة في أحد العوضين المتجانسين في مطلق المعاوضات ، لا خصوص الزيادة في باب البيع أو القرض ، وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا مجال للتمسّك لعدم عمومه واختصاصه بالبيع وحده أو مع القرض فقط بأصالة الحلّ والإباحة ؛ وذلك لحكومة الإطلاقات عليهما.

وأمّا ما ذكره الطبرسي في تفسير آية ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) بقوله : أي أحلّ اللّه البيع الذي لا ربا فيه ، وحرّم البيع الذي فيه الربا (4).

فأوّلا : لا حجّية لتفسيره إنّ لم يكن مستندا إلى الرواية المعتبرة ، مع أنّه خلاف ظاهر الآية ؛ لأنّ ظاهرها الإطلاق وعدم اختصاصه بالبيع.

ص: 108


1- « الكافي » ج 5 ، ص 144 ، باب الربا ، ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 274 ، باب الربا ، ح 3992 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 422 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 1.
2- راجع : « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 422 ، أبواب الربا ، باب 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 146 ، باب الربا ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 423 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 3.
4- « مجمع البيان » ج 1 ، ص 389.

وثانيا : هو في مقام بيان مورد نزول الآية ردّا على ما كانوا يقولون بأنّ الربا مثل البيع ، والعبرة بعموم ألفاظ الآيات لا بخصوصيّة مواردها.

وثالثا : أنّ المطلقات والعمومات التي تدلّ على حرمة الربا في جميع المعاوضات كثيرة لا تنحصر في هذه الآية فقط.

وخلاصة الكلام : أنّ الروايات التي تدلّ على حرمة الربا مطلقا في أيّ معاوضة كانت كثيرة ، فلا بدّ من الحكم بدخوله في جميع المعاوضات التي تقع بين متّحدي الجنسين إذا كانا من المكيل أو الموزون ، إلاّ إذا جاء دليل على التخصيص في مورد.

وأمّا رواية إبراهيم بن عمر اليمانيّ عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « قال الربا رباءان : رباء يؤكل ، ورباء لا يؤكل. فأمّا الذي يؤكل فهديّتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها ، فذلك الربا الذي يؤكل ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ ( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ ) (1). وأمّا الذي لا يؤكل فهو الذي نهى اللّه عزّ وجلّ عنه وأوعد عليه النار » (2).

فإطلاق الربا على الثواب الذي يعطيه اللّه تبارك وتعالى عوضا عن الصدقة أو الهديّة إلى المؤمن ليس من الربا المعاملي الذي هو محلّ الكلام ، فعلى تقدير القول بالعموم ليس هو مخصّصا للعموم.

ثمَّ إنّ هاهنا فروعا بعضها راجع إلى الشرط الأوّل ، أي اشتراط ثبوت الربا بكون العوضين متّحدي الجنسين ، وبعضها راجع إلى الشرط الثاني ، أي كونهما من المكيل أو الموزون.

ص: 109


1- الروم (30) : 39.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 145 ، باب الربا ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 429 ، أبواب الربا ، باب 3 ، ح 1.
أما القسم الأول : فنذكره في ضمن مسائل
اشارة

[ المسألة ] الأولى : ذهب أكثر الأصحاب إلى أنّه لا يجوز بيع الحنطة بالشعير إلاّ مثلا بمثل ، بل هذا القول هو المشهور ، بل لم ينقل الخلاف إلاّ من ابن إدريس (1) ولذلك قال في الجواهر : بل كادت تكون إجماعا ، وحكى الإجماع عن الغنية (2) ومحكي خلاف الشيخ (3).

والأقوى هو القول المشهور.

وذلك أوّلا : لما تقدّم من رواية هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن الرجل يبيع الرجل الطعام الأكراد ، فلا يكون عنده ما يتمّ له ما باعه ، فيقول له : خذ منّي مكان كلّ قفيز من حنطة قفيزين من شعير ، حتّى تستوفى ما نقص من المكيل ، قال علیه السلام : « لا يصلح لأنّ أصل الشعير من الحنطة ، ولكن يردّ عليه الدراهم بحساب ما نقص من الكيل » (4).

وثانيا : لرواية أبي بصير وغيره عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الحنطة والشعير رأسا برأس لا يزاد واحد على الآخر » (5).

وأيضا لرواية الحلبيّ عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال علیه السلام : « لا يباع مختومان من

ص: 110


1- « السرائر » ج 2 ، ص 255.
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 588.
3- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 344.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 187 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 438 ، أبواب الربا ، باب 8 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 187 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 438 ، أبواب الربا ، باب 8 ، ح 3.

شعير بمختوم من حنطة ، ولا يباع إلاّ مثلا بمثل ، والتمر مثل ذلك » (1).

وروايات كثيرة بهذا المضمون ، أو ما قريب منه جمعها في الوسائل في الباب الثامن من أبواب الرباء ، (2) ، إنّ شئت فراجع.

وثالثا : لما ذكره العلاّمة في التذكرة : أنّ معمّر بن عبد اللّه بعث غلاما له ، ومعه صاع من قمح فقال : اشتر شعيرا ، فجاءه بصاع وبعض صاع ، فقال له : ردّه ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله نهى عن بيع الطعام بالطعام إلاّ مثلا بمثل ، وطعامنا يومئذ الشعير (3).

وأيضا تقدّم ما رواه الصدوق بإسناده عن عليّ علیه السلام قصّة زرع آدم وحوّاء وأنّ كلّ واحد منهما قبض قبضة من الحنطة التي جاء بها جبرئيل علیه السلام وقال آدم لحوّاء : لا تزرعي أنت ، فلم تقبل من آدم ، فكلّما زرع آدم من تلك الحنطة جاء حنطة ، وكلّما زرعت حوّاء جاء شعيرا (4).

والمقصود من نقل هذه الرواية أنّ أصل الحنطة والشعير واحد ، فيكونان فرعين من أصل واحد ، وكلّما كان هكذا فبيعه مع الفرع الآخر من متّحدي الجنس يدخل فيه الربا. وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّه علیه السلام علّل عدم جواز بيع الحنطة بالشعير إلاّ مثلا بمثل بأنّهما من أصل واحد ، وفي أغلب هذه الروايات هذا التعليل موجود ، وقلنا يلزم الأخذ بهذا التعليل في جميع الموارد والفروع التي من هذا القبيل.

فالاختلاف في الاسم والعنوان لا أثر له مع هذا التعليل ؛ ولذلك ترى أنّه في أغلب الفروع التي مرجعها إلى أصل واحد ، الأسماء والعناوين مختلفة ، ومع ذلك حكم الأصحاب بدخول الربا فيها.

ص: 111


1- « الكافي » ج 5 ، ص 187 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 3 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 94 ، ح 399 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1. ص 438 ، أبواب الربا ، باب 8 ، ح 4.
2- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 437.
3- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 477.
4- « علل الشرائع » ج 2 ، ص 574 ، ح 2 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 344 ، أبواب الربا ، باب 17 ، ح 2.

ألا ترى أنّ الأقط مع الدهن فيما إذا أخذا من حليب واحد اسمان وعنوانان مختلفان ، بل يمكن أن يقال هما نوعان ومهيّتان ، ومع ذلك كلّه عدّهما الأصحاب من جنس واحد لرجوعهما إلى أصل واحد ، فكلّ واحد منهما بعض من ذلك الحليب الذي أخذا منه.

فإذا أحطت بما ذكرنا تعرف ما في كلام ابن إدريس (1) - أنّه لا خلاف بين المسلمين العامّة والخاصّة ، ولا بين أهل اللغة واللسان في أنّهما مختلفان ، وأنّه لم يذهب إلى الاتّحاد غير شيخنا أبي جعفر والمفيد ومن قلّده في مقالته - من العجب والغرابة.

وأمّا استشهاده بفتاوى ابني بابويه - أي الصدوقين - والمرتضى أعلى اللّه مقامهم من عدم البأس ببيع الواحد بالاثنين إذا اختلف الجنس ، ففي غير محلّه ؛ من جهة أنّ الدعوى هاهنا أنّهما من جنس واحد باعتبار أنّهما من أصل واحد ، فقياسهما بمختلفي الجنس وإدراجهما فيه لا يجوز.

وأمّا ذهاب ابن أبي عقيل وابن الجنيد (2) إلى جواز بيعهما بأن يكونا العوضين مع التفاضل ، فلا يضرّ بما ذكرنا ؛ لوضوح الدليل فيما هو خلاف ما أفادا ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز بيع الحنطة بالشعير مع التفاضل في أحدهما ، بل لا بدّ وأن يكون مثلا بمثل وزنا أو كيلا.

[ المسألة ] الثانية : قال في الشرائع (3) : ثمرة النخل جنس واحد وإن اختلفت أصنافه ، فلا يجوز بيع منّ من الخستاويّ الذي هو من الصنف الجيّد مثلا بمنّين من الدقل الذي هو من الصنف الرديّ ، وهكذا الأمر في الزاهدي والبرنيّ والدقل ، فلا يجوز بيع مدّ من البرنيّ بمدّين من الدّقل.

ص: 112


1- « السرائر » ج 2 ، ص 254.
2- نقله عنهما في « السرائر » ج 2 ، ص 255.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 38.

و يدلّ على ذلك روايات :

منها : ما رواه سيف التّمار قال : قلت لأبي بصير : أحبّ أن تسأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل استبدل قوصرتين (1) فيهما بسر مطبوخ بقوصرّة فيها تمر مشقّق ، قال : فسأله أبو بصير عن ذلك فقال علیه السلام : « هذا مكروه ». فقال أبو بصير : ولم يكره؟ فقال علیه السلام : « إنّ علىّ بن أبي طالب علیه السلام كان يكره أنّ يستبدل وسقا من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر ؛ لأنّ تمر المدينة أجودهما - أدومهما خ ل - ولم يكن عليّ علیه السلام يكره الحلال » (2).

ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال علیه السلام : « لا يباع مختومان من شعير بمختوم من حنطة ، ولا يباع إلاّ مثلا بمثل ، والتمر مثل ذلك » (3).

ومنها : ما رواه سماعة ، قال : سألته عن الطعام والتمر والزبيب؟ فقال علیه السلام :

« لا يصلح شي ء منه اثنان بواحد ، إلاّ أن يصرفه نوعا إلى نوع آخر ، فإذا صرفته فلا بأس اثنان بواحد أو أكثر من ذلك. » (4)

ويظهر من هذه الروايات أنّه لا يجوز بيع التمر بالتمر إلاّ مثلا بمثل ، وإن كان العوضان مختلفين صنفا ، كما لو كان أحدهما جيّدا والآخر رديّا ، ثمَّ إنّ ثمرة الكرم أيضا مثل ما ذكرنا في ثمرة النخل ، جميعها جنس واحد ، فالعنب على كثرة أقسامه - حتّى قيل أنّ في بعض البلاد خمسة وعشرين قسما منها موجود ، وقد نظم الشيخ الجليل

ص: 113


1- « القوصرة : وعاء من قصب يعمل للتمر يشدّد ويخفّف. ولعل المراد بالمشقق ما أخرجت نواته ، أو اسم نوع منه. ويحتمل أن يكون تصحيف المشقّة ، قال في النهاية : نهى عن بيع التمر حتى يشقه ، وجاء تفسيره في الحديث الإشقاه أن يحمر أو يصفر. مرآة العقول.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 188 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 447 ، أبواب الربا ، باب 15 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 187 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 3 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 94 ، ح 399 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3. ص 438 ، أبواب الربا ، باب 8 ، ح 4.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 281 ، باب الربا ، ح 4014 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 95 ، ح 406 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 443 ، أبواب الربا ، باب 13 ، ح 5.

بهاء الدين العامليّ رحمه اللّه تعالى قصيدة في أقسام عنب بلدة هراة - فلا يجوز بيع أي قسم منها بلغ ما بلغ في الجودة بالتفاضل بأيّ قسم بلغ ما بلغ في الرداءة.

والذي يستفاد من الأخبار الصادرة عن الأئمّة الأطهار أنّ الشارع بعد ما حكم بدخول الربا في متّحدي الجنسين ، اعتبر في الاتّحاد كونهما من نوع واحد ومهيّة واحدة ، ولم يعتن بالمميّزات الصنفيّة ، نعم ألحق الشارع بمتّحدي الجنس كونهما فرعين لجنس واحد ، أو كون أحدهما فرعا والآخر أصلا كالسمن والأقط أو الحليب والزبد وهكذا. وهذا الحكم يجري في جميع أنواع الفواكه التي من المكيل أو الموزون ، ولا اختصاص له بالنخل والكرم.

مثلا المشمش له أصناف ، بعضها في غاية الجودة ، وبعضها الآخر في غاية الرداءة ، فلا يجوز استبدال منّ الجيدة بمنّين من الرديّ ، وكذلك التفّاح ، وكذلك المخضرات التي من المكيل والموزون ، فلا يجوز تبديل كيلو واحد من الباذنجان الطرحي العراقي بكيلوين من باذنجان الهندي ، ولا وقية واحد من اليقطين الصغير الطريّ الجديد بوقيتين من الكبار الغير الطريّ العتيق الذي يبس وذهب ماؤه.

وأيضا لا يجوز تبديل منّ من بطّيخ گرگاب أصفهان بمنين أو أكثر من البطّيخ العاديّ ، وكذلك الأمر سفرجل أصفهان مع السفرجل العاديّ ، وكذا الحال في سفرجل نطنز مع العادي منه الموجود في سائر البلاد.

وخلاصة الكلام : أنّ المناط في الجميع واحد ، وهو الاختلاف في الصنف والاتّحاد في النوع ، وإن كان أحدهما جيّدا والآخر رديّا ، وعلى هذه المذكورات فقس ما سواها.

المسألة الثالثة : الاختلاف والاتّحاد في الجنس في اللحوم تابع للاختلاف والاتحاد في أصولها ، بمعنى أنّه ينظر إلى الحيوان الذي هذا اللحم منه ، فإن كان في كلا العوضين حيوانا واحدا شخصا أو صنفا أو نوعا فيكون العوضان من متّحدي الجنس.

وأمّا إن كان أحدهما من نوع والآخر من نوع آخر ، مثل أن يكون أحدهما من

ص: 114

البقر والآخر من الغنم ، فلا يكونان من متّحدي الجنس ، ولا يثبت الربا فيهما ، ويجوز بيعهما متساويا ومتفاضلا ولا اعتبار بوحدة الاسم وإطلاق لفظ اللحم عليهما ؛ لأنّ لفظ اللحم مثل لفظ الحيوان موضوع للمعنى الجنسي لا النوعيّ ، واللحوم المندرجة تحت اسم اللحم حقائق مختلفة ، مثل الحيوانات المندرجة تحت مفهوم الحيوان.

وعلى كلّ حال هذه المسألة - أي كون الاختلاف في اللحوم بحسب اختلاف أصولها - إجماعيّ لا خلاف فيها.

نعم قد يكون الأصلان في العوضين مختلفين بحسب الاسم ، ولكن متّحدان بحسب الحقيقة ، كالبقر والجاموس في نوع الأبقار ، والعرابي والبخاتي في نوع الإبل ، والماعز والضأن في نوع الغنم ، وهكذا ، وهذه المذكورات ليست من اختلاف الأصول ، بل هي أصناف حقيقة واحدة ، ومثل هذا الاختلاف الاسمي دون الحقيقي في أغلب أصناف الأنواع موجود ، ومع ذلك يثبت الربا فيها إن كانت من المكيل والموزون.

إذا عرفت ما ذكرنا ، ففي هذه المسألة فروع يعرف حكمها مما ذكرنا :

منها : أنّ لحم الطيور يختلف باختلاف نفس الطيور ، وأنّها حقيقة واحدة أو مختلفة ، فإن كان اللحم في العوضين من الطيرين المختلفين بحسب الحقيقة فلا رباء ، وأمّا إن كان من واحد شخصا أو صنفا أو نوعا فيثبت فيه الرباء ، والذكورة والأنوثة في كلّ نوع ليس من الاختلاف في الحقيقة ، فلحم الديك والدجاجة ليسا من المختلفين.

نعم وقع الخلاف في بعض العناوين والأسماء في أنّ الأقسام المندرجة تحت ذلك الاسم أنواع وحقائق مختلفة ، أو أصناف وكلّها من أفراد حقيقة واحدة؟ وذلك كالحمام والغراب والعصفور ، فالعصفور بناء على أن يكون عبارة عن الطيور الصغار فلا شكّ في أنّها أنواع مختلفة ، وكذلك الحمام إذا كان عبارة عمّا هدر فأيضا أنواع

ص: 115

مختلفة ؛ لأنّ الفواخت غير القماري.

وخلاصة الكلام : أنّه إذا عرف وعلم أنّها حقيقة واحدة أو مختلفة فهو ، وإلاّ فلا بدّ من الإحالة إلى العرف ، وأنّهم هل يرونها حقيقة واحدة أو حقائق مختلفة ، فتأمّل.

ومنها : أنّ لحوم الأسماك هل هي مختلفة مع لحوم سائر الحيوانات أم لا؟

وممّا ذكرنا وتقدّم لا ينبغي أن يشكّ في اختلافها مع سائر اللحوم في ذلك ؛ لاختلاف الأصول ، إذ لا شكّ في اختلاف السمك - من أيّ قسم كان - مع البقر أو الغنم مثلا.

نعم يحتمل أن يكون لحوم أنواع الأسماك كالشبوط والقطان والبني من حقيقة واحدة ، وأن يكون هذه الأسماء عناوين الأصناف لا الأنواع ، ويحتمل أن يكون حقائق مختلفة.

والأشبه هو الأوّل ؛ وذلك لأنّ الاختلاف بين هذه الأقسام الثلاثة المذكورة ليس أشدّ من الاختلاف بين أصناف الغنم ، كالماعز والضأن ، فلا يجوز بيع البنّي بالقطّان مثلا مع التفاضل ، بناء على أنّهما من الموزون. وأمّا لو كان يباع جزافا ولم يكن من الموزون فهو خارج عن محلّ الكلام.

ومنها : أنّ الجراد مع سائر اللحوم مختلف ، وليس من متّحد الجنس مع كلّ واحد منها ، بل هو جنس بانفراده. وهذا واضح.

ومنها : أنّ الوحشيّ من كلّ نوع ليس من المتّحد في الجنس مع الأهلي منه ؛ وذلك من جهة أنّهما في الحقيقة ليسا من نوع وحقيقة واحدة. وإطلاق الاسم غالبا من جهة الشباهة في الشكل ، وهكذا البرّي والبحري منه. نعم قد يتّفق في بعض أنواعهما وحدة حقيقتهما ، كما أنّه يقال إنّ الجاموس الوحشي مع الأهلي كذلك ، وأيضا يقال في الثور الوحشي والأهلي إنّهما كذلك. والحاصل : أنّ المدار على وحدة الحقيقة.

ص: 116

نعم ما ذكرنا من الاختلاف ظاهر في الغنم الوحشي وهي الظّباء مع الغنم الأهلي ، وكذلك الحمر الوحشيّة مع الأهليّة. ولكن الظاهر من جماعة دعوى الإجماع على الاختلاف وعدم الاتّحاد في الجميع.

قال في الجواهر : ولو لا هذا الاتّفاق لأمكن المناقشة في ذلك ؛ أي في هذه الكلّية أي الاختلاف في الجميع (1). وما ذكره متين جدّا.

ومنها : أنّ أعضاء الحيوان ملحق بلحمه أم لا؟ بمعنى أنّ كبد حيوان مثلا أو كرشه أو قلبه أو كليته في حكم لحمه ، فلا يجوز تبديل ما ذكر مع لحم حيوان يكون من جنس ماله هذه المذكورات؟

الظاهر هو الأوّل ؛ لأنّها أجزاء الحيوان ، فإذا كان هذا الحيوان من المتّحد في الجنس مع الحيوان الآخر ، فأجزاؤه أيضا تكون كذلك ، فحال أعضائه حال لحمه.

المسألة الرابعة : قال في الشرائع : الألبان تتبع اللحمان في التجانس والاختلاف (2). وقال في الجواهر : بلا خلاف أجده فيه ، بل في التذكرة (3) الإجماع عليه ، فلبن الغنم مخالف للبن البقر ، كما أنّ لبن البقر مخالف للبن الإبل ، والغنم ما عزه وضأنه حيث أنّهما ولحمهما متّحدان ، فلبنهما أيضا كذلك ، وحيث أنّ البقر والجاموس جنس واحد فلبنهما أيضا من الجنس الواحد ، وبناء على أن يكون الوحشيّ من كلّ نوع مخالفا للأهلي منه ، فكذلك لبنهما أيضا (4).

وما تقدّم منّا من المناقشة في بعض أقسام الوحشي والأهلي ، والاحتمال بل ظهور الاتّحاد يأتي في ألبانهما أيضا ؛ لما تقدّم أنّ الألبان في حكم ذي اللبن.

والعمدة في هذا الحكم هو الإجماع المدّعى في المقام ، وإلاّ فالاستحسانات التي

ص: 117


1- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 357.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 39.
3- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 479.
4- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 357.

ذكروها لا اعتبار بها ، فإنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول.

وما يقال من أنّنا نرى بالوجدان اختلاف الألبان من حيث الآثار باختلاف ذوي الألبان ، وإن كان حقّا - حتّى أنّ الحيوان الشخصي يختلف ألبانه من حيث الآثار باختلاف الأغذية ؛ ولذلك كانت الأطبّاء يعطون الدواء للأمّ التي رضيعها كان مريضا فضلا عن ألبان الحيوانات المختلفة نوعا ومهيّة - ولكن مع ذلك لو لم يكن الحكم اتفاقيّا ومورد الإجماع لا يمكن إثباته بهذه الأمور ، مع حكم العرف بأنّ اللبن عن جميع الحيوانات حقيقة واحدة. اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّه عند العرف أيضا مختلف باختلاف ذي اللبن ، أو علمنا بالتجزية والتحليل أنّها حقائق مختلفة.

المسألة الخامسة : قال المحقّق في الشرائع : الأدهان تتبع ما تستخرج منه (1).

أقول : الأدهان إمّا تستخرج من حليب الحيوانات ، وإمّا من شحومها ولحومها أو سائر أعضائها ، وإمّا من النباتات أي من أثمارها ، كدهن اللوز والجوز والزيتون وأمثالها ؛ فهذه أقسام ثلاثة :

أمّا القسم الأوّل : فحالها حال الحليب الذي استخرج منه ، وقد تقدّم في المسألة السابقة أنّ الألبان تتبع اللحمان في التجانس والاختلاف ، فبناء على هذا الدهن المستخرج من حليب الغنم بأقسامه ، ما عزه وضأنه ، لا يجوز بيعه بالتفاضل مع دهن آخر من حليب الغنم ، وأمّا دهن حليب الغنم مع دهن حليب البقر أو الإبل ، أو غيرهما من نوع آخر غير الغنم فلا يأتي فيه الربا.

والحاصل : أنّ حال الدهن في التجانس والاختلاف حال اللبن الذي يستخرج منه.

وأمّا القسم الثاني : أي الدهن الذي يستخرج من بدن الحيوان ، فحاله حال بدن الحيوان ولحمه وأعضائه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك.

ص: 118


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 39.

وأمّا القسم الثالث : أي دهن النباتات ، فلا شكّ في أنّ دهن الزيتون - مثلا - غير دهن الجوز واللوز ، وليس من جنسهما ، بل هي حقيقة أخرى ، وكذلك دهن الزيت غير السمن بحسب الحقيقة.

وقد ورد في الروايات جواز بيع الزيت بالسمن اثنين بواحد ، كما في رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : وسئل عن الزيت بالسمن اثنين بواحد ، قال علیه السلام : « يدا بيد لا بأس به ». (1) فرتّب علیه السلام حكم المختلفين عليهما.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدهان كما أفاده المحقّق (2) قدس سره تتبع ما يستخرج منه في التجانس والاختلاف.

وأمّا الخلول فواضح أنّها في التجانس والاختلاف تتبع ما يعمل منه ؛ لأنّها في الحقيقة نفس ما يعمل منه مع تبدّل في الصفة ، فخلّ العنب ليس من جنس خلّ التمر ؛ لأنّ العنب ليس من جنس التمر ، فيجوز بيع خلّ العنب بخلّ التمر بالتفاضل يدا بيد ، أي نقدا.

وبعد ما ظهر ممّا تقدّم أنّ حكم الفرع حكم الأصل ، وأنّه لا يجوز بيع الأصل بالفرع مع التفاضل ، ولا أحد الفرعين من أصل واحد بالآخر مع التفاضل ، فلا يجوز بيع عصير العنب بخلّ العنب متفاضلا ، ولا عصير التمر بخلّ التمر متفاضلا ، ولا نفس العنب بخلّه كذلك ، ولا نفس التمر بخلّه كذلك.

المسألة السادسة : يجوز بيع المركّب من الجنسين أو المجموع من جنسين بأحدهما ، وبالمركّب منهما ، بالمجموع منهما ، وبغيرهما متساويا ومتفاضلا في الجميع ، ولكن فيما إذا كان بيع المجموع أو المركّب منهما بأحدهما ، يشترط في الثمن أن يكون فيه زيادة على مقابله المجانس له ، كي تكون تلك الزيادة عوضا عن ذلك الجزء الآخر

ص: 119


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 94 ، ح 399 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 443 ، أبواب الربا ، باب 13 ، ح 4.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 39.

الغير المجانس له ، وإلاّ يلزم أحد الأمرين : إمّا الربا ، وإمّا دخول ذلك الجزء الآخر الغير المجانس للثمن في ملك المشتري بلا عوض ومجّانا ، وكلاهما باطلان.

واشترط بعضهم في تلك الزيادة أن تكون بمقدار يكون قابلا لأن تقع ثمنا لذلك الجزء منفردا ، بل ومع الانضمام ، وادّعى في الجواهر (1) عدم وجدان الخلاف في ذلك ، بل الإجماع بقسميه. ولكن عرفت أنّ هذا الحكم مع الشرط المذكور مقتضي القواعد الأوليّة ، ولو لم يكن إجماع في البين.

نعم يجب تحصيل العلم بزيادة الثمن فيما إذا باع المجموع بأحدهما بمقدار يصلح للمقابلة مع الجزء الآخر الغير المجانس له ، وإلاّ لا يمكن الحكم بصحّة مثل هذه المعاملة ؛ لأنّ التمسّك بالعمومات والإطلاقات عند الشكّ هاهنا يكون من التمسّك بالعموم والإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمخصّص.

المسألة السابعة : يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه ، وذلك كأن يبيع لحم الغنم بشاة ، أو لحم الماعز بضأن ، أو لحم البقر ببقرة أو ثور وهكذا.

والعمدة في دليله قوله علیه السلام في رواية غياث بن إبراهيم ، عن جعفر بن محمّد صلی اللّه علیه و آله عن أبيه : « أنّ عليّا علیه السلام كره بيع اللحم بالحيوان » (2).

والاستدلال بهذه الرواية على الحرمة مبنىّ على ما روي في الروايات المعتبرة وتقدّم ذكرها « أنّ عليا علیه السلام كان لا يكره الحلال » (3) مؤيّدا بالنبوي صلی اللّه علیه و آله وإن كان عاميّا : « نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن بيع اللحم بالحيوان » (4).

ص: 120


1- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 354.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 278 ، باب الربا ، ح 4004 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 441 ، أبواب الربا ، باب 11 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 188 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 96 ، ح 412 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 447 ، أبواب الربا ، باب 15 ، ح 1.
4- « سنن البيهقي » ج 5 ، ص 296 ؛ « كنز العمال » ج 4 ، ص 77 ، ح 9605.

مضافا إلى الإجماع المدّعى في المقام وحكى في الجواهر (1) عن المختلف أنّه لم نقف فيه على مخالف منّا غير ابن إدريس فجوّز ، وقوله محدث لا يعوّل عليه ولا ينثلم به الإجماع. ونسب في الدروس قوله إلى الشذوذ ، وعلى كلّ حال رواية غياث في حدّ نفسها موثّقة ، وبضميمة الإجماع على مضمونه بعد ما كان المراد من الكراهة الحرمة بضميمة الروايات المعتبرة ، يكون اعتباره قويّا ، فتكون حجّة قويّة على الحرمة.

والظاهر من لفظ « الحيوان » في الحديث وفي رواية غياث هو الحيوان الحيّ ، وهو ليس من الموزون ؛ ولذلك يجوز بيع شاة بشاتين ؛ لأنّه لا ربا في غير المكيل والموزون ، فالحرمة ليست - من ناحية كونه رباء ، بل من ناحية ورود النهي والتعبّد.

فما ذكره العلاّمة قدس سره في التذكرة (2) من القول بالكراهة ونفي الحرمة من جهة عدم كونه رباء ؛ لفقد شرطه وهو كونه مكيلا أو موزونا ، فيكون الأصل سالما عن المعارض الحاكم عليه - لا يتم ؛ لما ذكرنا من أنّ عدم صحّته وحرمته ليس من جهة كونه ربا ، بل من جهة الأدلّة المذكورة.

ثمَّ إنّه بنا على ما ذكرنا من أنّ حرمة بيع اللحم بحيوان من جنسه ليس من جهة كونه رباء ، فهل يحرم بغير جنسه أيضا ، كما إذا باع لحم شاة ببقرة أم لا؟ مبنيّ على أنّ المراد من الحيوان في الرواية وفي الحديث خصوص الحيوان الذي من جنس اللحم ، أم مطلق الحيوان ، وكذلك معقد الإجماع خاصّ أو عام.

أقول : أمّا الأخير : أي معقد الإجماع ، فمن الواضح عدم شموله لبيع اللحم بغير جنسه ؛ لأنّ المشهور بين المتأخّرين بل ادّعى الإجماع بعضهم ، هو جواز البيع بغير جنسه ، مثل أن يبيع لحم الشاة بالبقر مثلا ، ومع ادّعاء هذا الإجماع والشهرة المحقّقة خصوصا بين المتأخّرين كيف يمكن القول بشمول إجماع المنع عن بيع اللحم بجنسه للبيع بغير جنسه.

ص: 121


1- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 355.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 478.

نعم لفظ « الحيوان » في رواية غياث وفي الحديث الذي رواه الجمهور عن سعيد بن المسيّب مطلق يشمل ما كان من جنس اللحم وما لم يكن ، وغاية ما يمكن ادّعاء الانصراف فيه هو كونه حيّا ، وأمّا كونه من جنس اللحم فلا موجب له أصلا. وقد تقدّم أنّ النهي ليس من جهة كونه ربا كي يقال بأنّه لا يأتي إلاّ في مورد اتّحاد جنس الحيوان مع اللحم ، فمقتضى الإطلاق لو لا الإجماع المدّعى في المقام ، هو المنع حتّى عن بيعه بغير جنسه ، وهو الموافق للاحتياط ، فلا يبعد حرمة بيعه حتّى بغير جنسه.

وأمّا ما استدلّ به العلاّمة قدس سره في التذكرة (1) بأنّه يجوز بيع لحم الحيوان بلحم غير جنسه فبيعه به حيّا أولى ، فهذا القياس على تقدير صحّته والقول به يأتي فيما إذا كان منشأ المنع هو حصول الرباء ، وأمّا لو كان منشأ المنع إطلاق الحديث والرواية كما ذكرنا ، فلا مورد له أصلا.

نعم بناء على هذا يجب الاقتصار على ما يصدق عليه اللحم ، فمثل الكرش والكبد والكلى والقلب وكلّ ما لم يصدق عليه اللحم ، خارج عن هذا الإطلاق.

ثمَّ إنّ ظاهر الحديثين هو وقوع اللحم مثمنا ؛ لأنّ هذا هو معنى بيع اللحم بالحيوان ، فالمبيع هو اللحم والثمن هو الحيوان ، ولكن ظاهر الفتاوى عدم الفرق في الحرمة بين كونه ثمنا أو مثمنا ، بل ظاهر معقد الإجماع هو شموله لكلا القسمين.

ثمَّ إنّ في هذه المسألة فروعا لا بأس بذكرها :

الأوّل : هل يجوز بيعه بالحيوان غير مأكول اللحم ، أم لا؟ ظاهر كلام العلاّمة في التذكرة (2) هو الإجماع على الجواز ؛ لتعبيره بأنّه يجوز عندنا ، وكلمة عندنا ظاهر في اتّفاق الطائفة ، وهو الإجماع.

ص: 122


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 478.
2- المصدر.

ولكن الدليل الذي يذكره للجواز قياس أوّلا ، وثانيا في غير محلّه ؛ لأنّ إتيانه مبنيّ على كون الحرمة والمنع لأجل كونه من الربا ، وقد بيّنّا فساد هذا التوهّم. وعمدة الدليل على الجواز قصور أدّلة المنع عن شمولها للحيوان غير مأكول اللحم ، آدميّا كان أو غيره كالسباع مثلا.

أمّا الإجماع ، فالقدر المتيقّن منه هو حيوان مأكول اللحم ، وأمّا الحديثان فلانصراف لفظ الحيوان عن الآدمي قطعا ، وعن السباع وأمثالها ظاهرا ؛ فالمنع لا دليل عليه ، فمقتضى الإطلاقات صحّة المعاملة ، ولو وصلت النوبة إلى الأصل فهي الصحّة والجواز.

الثاني : أنّه يجوز بيع اللحم بالسمكة الحيّة ، وبيع لحم السمك بالحيوان الحيّ ؛ وذلك لأنّ القدر المتيقّن من الإجماع ما عدا ذلك ، وانصراف الحديثين عن مثل هذه الموارد.

وقال العلاّمة (1) قدس سره في دليله لما تقدّم ، وجوابه ما تقدّم.

الثالث : قال في الشرائع (2) وفي التذكرة (3) أيضا : إنّه يجوز بيع دجاجة فيها بيضة بدجاجة خالية ، وزاد في الجواهر (4) : كما في التذكرة أيضا ، أو دجاجة فيها بيضة أو ببيضة فقط من دون كون دجاجة معها. والوجه في الجميع أنّ شمول الإطلاقات وأدلّة صحّة البيع لا مانع عنها ، إلاّ كون المعاملة ربويّة ، ولا رباء هاهنا ؛ لأنّ المورد ليس بمكيل ولا بموزون ، ولا رباء إلاّ فيما يكال أو يوزن ؛ ولذلك لا مانع من بيع البيضة الواحدة ببيضتين ، لأنّه أيضا ليس بمكيل ولا بموزون ، كما يجوز بيع شاة في بطنها ولد بشاة ليست كذلك ، كما أنّه يجوز بيع شاة بشاتين ، وبيع شاتين بشاة ، كلّ ذلك لأجل

ص: 123


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 478.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 41.
3- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 479.
4- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 389.

انتفاء شرط الرباء ، وهو عدم كونه من المكيل أو الموزون.

المسألة الثامنة : قال في التذكرة : كلّ ما له حالتا رطوبة وجفاف من الربويّات يجوز بيع بعضه ببعض مع تساوي الحالين إذا اتّفق الجنس ، وإن اختلف جاز مطلقا (1).

أقول : الأشياء التي لها حالتا رطوبة وجفاف ، كالعنب والتمر ، بل أغلب الفواكه والمخضرات ، كبادنجان وبانية مثلا ، ففي جميعها تارة تقع المعاملة بين متّفقي الجنس والحالة ، مثل أن يبيع العنب بالعنب ، أو الرطب بالرطب ، أو التمر بالتمر ، أو الزبيب بالزبيب ، وهكذا في سائر الموارد ، فمع الاختلاف كيلا في المكيل ووزنا في الموزون باطل ؛ لكونه من الربا المحرّم ، وأمّا مع التساوي فلا مانع في البين ؛ لعدم الربا ، وشمول الإطلاقات له.

وربما يقال بعدم صحّة الرطب بالرطب ؛ لعدم العلم بتساويهما بعد الجفاف وفي حال الادّخار ، مع أنّ الغرض والمقصود من المعاملة هو الادّخار.

وفيه : أوّلا : أنّ التفاوت بينهما غالبا يكون بمقدار يسير ، بحيث يتسامح العرف في ذلك المقدار ولا يعتني به ، وذلك كما إذا بيع الحنطة التي فيها شي ء يسير من التراب أو خليط آخر الذي لا يخلو الحنطة منه غالبا ، فبعد ما جفّا وإن كان من الممكن أن يكون الجفاف في أحدهما أكثر وأزيد ، فيختلف وزنهما بالدقّة ، ولكن الاختلاف قليل بحيث لا يعتنى به.

وثانيا : أنّ المعتبر في عدم تحقّق الربا تساويهما حال وقوع المعاملة وصدور العقد ، أي النقل والانتقال شرعا ، وأمّا خروجه عن المساواة بعد وقوع المعاملة فلا يوجب صيرورتها رباء.

وثالثا : ليس الغرض من المعاملة دائما هو الادّخار والإبقاء ، بل المقصود أكلها رطبا ، وإنّما يكون التبديل لأجل أغراض أخر.

ص: 124


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 482.

ورابعا : هناك بعض أقسام العنب والرطب ليس قابلا لأن يزيب أو يتمر ، وكذلك البطّيخ ، فلا تبقى أمثال هذه الأمور كي يقع التفاوت بين يابسهما فيستشكل بلزوم الربا. فالأقوى جواز بيع الرطب منها بالرطب ، واليابس باليابس ، فيجوز بيع الرطب بالرطب ، والتمر بالتمر ، والعنب بالعنب ، والزبيب بالزبيب ، والحنطة المبلولة بالحنطة المبلولة ، واليابسة منها باليابسة ، واللحم الطريّ بمثله ، القديد وبالقديد ، كلّ ذلك مع التساوي كيلا أو وزنا حال العقد.

هذا فيما إذا كان العوضان متّفقي الجنس والحالة ، وأمّا إذا كانا مختلفي الجنس فلا مانع ، ومقتضى العمومات والإطلاقات هي الصحّة ، وسواء كانا من المكيل أو الموزون أو لم يكونا كذلك ، وسواء كانا متّفقي الحالة أو كانا من مختلفيها ؛ وذلك لانتفاء شرط الربا وهو الاتّفاق في الجنس.

وأمّا إذا كانا من مختلفي الحالة ومتّفقي الجنس ، أي كان أحد العوضين المتجانسين رطبا والآخر يابسا ، مثل أن يبيع العنب بالزبيب ، أو الرطب بالتمر ، أو باع لحمانيّا بمقدّد ؛ أو بسرا برطب ، أو حنطة مبلولة بيابسة ، فهل يجوز بيع المذكورات وأمثالها متساويا ، أم لا؟

قال في الشرائع (1) : يجوز ؛ لتحقّق المماثلة ، وقيل بالمنع. ونسب في التذكرة (2) هذا القول - أي المنع - إلى المشهور عند علمائنا ، ولكن ظاهر الشرائع ترجيح القول الأوّل ، أي الجواز ؛ لإسناده القول بالمنع إلى القيل ، وإن كان قائله كثيرا. بل ادّعى العلاّمة في التذكرة أنّه المشهور عند علمائنا.

وقال في الشرائع : إنّ نظر المانعين إلى حصول النقصان عند الجفاف. وقد أجبنا عن ذلك بكفاية التساوي حال العقد ، وبه يثبت عدم كونه رباء ، ولا يلزم بقاؤه على هذه الصفة دائما.

ص: 125


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 46.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 482.
فالعمدة في دليل المنع الأخبار والحديث الوارد في المقام.

أمّا الحديث : فقد روى الجمهور أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله سئل عن بيع الرطب بالتمر ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « أينقص الرطب إذا يبس؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « فلا إذن » (1).

وأمّا الرواية فمن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبيّ في الصحيح عن الصادق علیه السلام قال علیه السلام : « لا يصلح التمر اليابس بالرطب ، من أجل أنّ اليابس يابس والرطب رطب ، فإذا يبس نقص » (2).

وما رواه داود بن سرحان : « لا يصلح التمر بالرطب ، إنّ الرطب رطب ، والتمر يابس ، فإذا يبس الرطب نقص » (3).

وما رواه داود الأبزاري ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : « لا يصلح التمر بالرطب ، إنّ التمر يابس والرطب رطب » (4).

وما رواه محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام في حديث : « أنّ أمير المؤمنين علیه السلام كره أن يباع التمر بالرطب عاجلا بمثل كيله إلى أجل ، من أجل أنّ التمر ييبس فينقص من كيله » (5).

ودلالة الخبر الأخير على المنع مبنيّ على ما تقدّم ذكره أنّ أمير المؤمنين علیه السلام كان

ص: 126


1- « سنن البيهقي » ج 5 ، ص 294.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 94 ، ح 398 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 4 ؛ « الاستبصار » ج 3. ص 93 ، ح 314 ، باب بيع الرطب بالتمر ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 445 ، أبواب الربا ، باب 14 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 90 ، ح 384 ، باب بيع الثمار ، ح 27 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 93 ، ح 315 ، باب بيع الرطب بالتمر ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 446 ، أبواب الربا ، باب 14 ، ح 6.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 90 ، ح 385 ، باب بيع الثمار ، ح 28.
5- « الفقيه » ج 3 ، ص 281 ، باب الربا ، ح 4015 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 95 ، ح 408 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5. ص 445 ، أبواب الربا ، باب 14 ، ح 2.

لا يكره الحلال (1) ، فكراهته كاشفة عن كونه حراما.

ولكن هاهنا أخبار أخر تدلّ على الجواز :

كرواية سماعة عن الصادق علیه السلام قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن العنب بالزبيب؟

قال : « لا يصلح ، إلاّ مثلا بمثل ، قال : والتمر والرطب بالرطب مثلا بمثل » (2).

ورواية ابن أبي الربيع قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : ما ترى في التمر والبسر الأحمر مثلا بمثل؟ قال : « لا بأس ». قلت : فالبختج والعنب مثلا بمثل؟ قال : « لا بأس » (3).

ولا يخفى : أنّ ظاهر هاتين الطائفتين من الأخبار هي المعارضة ؛ لأنّ الطائفة الأولى ظاهرة في عدم جواز بيع التمر بالرطب أو الرطب بالتمر ، بل كلّ رطب باليابس من جنسه ومثله ؛ لعموم التعليل ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « فلا إذن » لأنّ المراد من هذه الجملة حسب المتفاهم العرفي أنّه لا يجوز ؛ لأنّه ينقص. فكأنّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ كلّ ما ينقص بعد بيعه بمثله وجنسه متساويا كيلا أو وزنا ، فلا يجوز بيعه بمثله مثلا بمثل ، فيشمل كلّ فاكهة رطبة باليابس من جنسه ، بل وغير الفاكهة ، سواء كان رطوبته ذاتيّة كالفواكه الغضة وغيرها ، أو عرضيّة كالحنطة المبلولة وغيرها ممّا يرشّ عليه الماء ، وإن كان الرشّ لإصلاحه.

والطائفة الثانية ظاهرة في جواز بيع الرطب باليابس ، واليابس بالرطب ، نعم لا عموم لها بحيث يشمل كلّ رطب ويابس ، ولكن تدلّ على الجواز في نفس المورد الذي تدلّ الطائفة الأولى على عدم الجواز ، وهو بيع التمر بالرطب.

ص: 127


1- « الكافي » ج 5 ، ص 188 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 96 ، ح 412 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 447 ، أبواب الربا ، باب 15 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 97 ، ح 417 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 23 ؛ « الاستبصار » ج 12. ص 92 ، ح 313 ، باب بيع الرطب بالتمر ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 445 ، أبواب الربا ، باب 14 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 97 ، ح 418 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 24 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 446 ، أبواب الربا ، باب 14 ، ح 15.

فالمشهور على ما في التذكرة (1) ذهبوا إلى عدم الجواز مطلق ، أو في جميع صور المسألة بناء منهم على عدم قابليّة الطائفة الثانية للمعارضة مع الأولى ؛ لضعفها ، وإعراض المشهور عنها ، فلا جابر لها.

وهذا القول قويّ لو لم يكن جمع دلالي في البين. وذهب إليه جمع كثير من أساطين الفقه ، وهم : القديمان (2) ، والشيخ في المبسوط ، (3) وابن حمزة في الوسيلة ، (4) والعلاّمة في التذكرة ، (5) والتحرير (6) والإرشاد (7) والمختلف (8) والقواعد (9) ، وغيره في اللمعة (10) والمقتصر (11) والمهذّب (12) والتنقيح (13) وإيضاح النافع والميسية المسالك (14) والروضة (15) والدروس وقد تقدّم أنّ العلاّمة وهو الفقيه المحقّق المتتبع ادّعى الشهرة.

ومقابل هذا القول هو القول بالجواز مطلقا ، حتّى في بيع التمر بالرطب الذي هو مورد روايات المنع. وهذا القول هو المحكي عن الشيخ في الاستبصار (16) وموضع من

ص: 128


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 482.
2- نقله عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 124.
3- « المبسوط » ج 2 ، ص 90.
4- « الوسيلة » ص 253.
5- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 482.
6- « تحرير الأحكام » ج 1 ، ص 170.
7- « إرشاد الأذهان » ج 1 ، ص 379.
8- « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 125.
9- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 141.
10- « اللمعة الدمشقية » ج 3 ، ص 445.
11- « المقتصر » ص 178.
12- « المهذّب » ج 1 ، ص 362.
13- « تنقيح الرائع » ج 2 ، ص 93.
14- « المسالك الافهام » ج 3 ، ص 324.
15- « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 445.
16- « الاستبصار » ج 3 ، ص 93.

المبسوط ، وعن ابن إدريس (1) وصاحب الكفاية (2) وصاحب الحدائق (3).

ووجه هذا القول : هو الجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على الكراهة ، والثانية على الجواز بالمعنى الأعمّ الذي لا ينافي الكراهة ، بل أنكروا ظهور الطائفة الأولى في التحريم ؛ لأنّ المنع فيها إمّا بلفظ « لا يصلح » وهو ظاهر في الكراهة من أوّل الأمر ، وأمّا بلفظ « كره عليّ أن يباع التمر بالرطب » ولفظ الكراهة لا ظهور له في الحرمة ، وإن ورد أنّ عليّا كان لا يكره الحلال ، وفي بعض الروايات أنّه علیه السلام لا يكره إلاّ الحرام ، ومع ذلك كلّه لم يخرج لفظ الكراهة عن ظهوره في المعنى العرفي ، وهو مطلق المرجوحيّة.

وبناء على هذا لا تعارض ولا تنافي في البين كي يحتاج إلى الجمع الدلالي.

ثمَّ على تقدير ظهورها في الحرمة يرفع اليد عن ظهورها في الحرمة بنصّ الطائفة الثانية في الجواز ، وهذا جمع عرفيّ معمول به في المحاورات وعند الفقهاء ، ومعلوم أنّ الجمع الدلالي مقدّم على الترجيح السندي ، ومعه لا تصل النوبة إليه.

وفصّل بعض ، فقال بالمنع في خصوص بيع التمر والرطب أو بالعكس ، والجواز في غيره من الرطب واليابس ؛ وذلك لأجل النصّ في نفس هذا المورد ، واستظهار عدم العموم للعلّة ، بل تكون مختصّة بنفس المورد.

ولعلّه قال به المحقّق ؛ لأنّه يقول في الشرائع (4) وفي بيع الرطب بالتمر تردّد ، والأظهر اختصاصه بالمنع ؛ اعتمادا على أشهر الروايتين. ثمَّ يقول في الفرع الثاني : بيع العنب بالزبيب جائز ، وقيل لا ؛ اطّرادا للعلّة ، والأوّل أشبه. وكذا البحث في كلّ رطب مع يابسه.

فهذا القول من عقدين : عدم الجواز في الرطب والتمر ، والجواز في سائر موارد

ص: 129


1- « السرائر » ج 2 ، ص 258.
2- « كفاية الأحكام » ص 98.
3- « الحدائق الناضرة » ج 19 ، ص 246.
4- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 40.

الرطب واليابس. أمّا الأوّل للنصّ ، وأمّا الثاني فلعدم دليل على المنع ، وعدم عموم للعلّة ، وشمول إطلاقات أدلّة صحّة البيع له.

وهناك تفصيل آخر بعد الفراغ عن القول بالمنع في خصوص الرطب والتمر ، بين كون الرطوبة ذاتيّة كرطوبة الفواكه الغضّة ، وكونها عرضية كرطوبة الحنطة المبلولة مثلا ، فقالوا بالجواز في الأوّل ؛ لأنّ الرطوبة الذاتيّة التي في الجسم المرطوب تعدّ جزءا من ذلك الجسم المرطوب عرفا ، بل بالدّقة ، بخلاف الرطوبة العرضية فإنّها أجنبيّة عنه ، وأمر خارج عن حقيقة ذلك الجسم المرطوب حقيقة وعرفا ، ولا ماليّة لها كي يكون مجموع المالين بإزاء ذلك الآخر ، فيخرج عن كونه ربا ، بل يكون المبلول وحده من دون بلله عوضا عن الآخر ، والمفروض أنّه وحده متساو معه فيكون من البيع الربويّ.

وهذان التفصيلان في حد نفسهما وإن كانا لا يخلوان عن حسن ، ولكن لا تصل النوبة إليهما إلاّ بعد الفراغ عن عدم عموم للعلّة بالنسبة إلى التفصيل الأوّل ؛ إذ مع عموم التعليل لا يبقى فرق بين الرطب والتمر وبين سائر الفواكه الرطبة كلّ واحد منها مع اليابس من جنسه.

وأمّا التفصيل الثاني فمضافا إلى ما تقدّم ، لا يأتي إلاّ فيما إذا قلنا بأنّ المعتبر في التساوي وعدم تحقّق الربا هو أن يكون التساوي حال وقوع العقد لا بقاءه إلى الآخر ، وإلاّ لو قلنا بلزوم بقاء التساوي إلى الآخر ، فلا يبقى في كلا الشقّين ، فيبطل في كلتا الصورتين ، سواء كانت الرطوبة حال وقوع المعاملة ذاتيّة أو عرضيّة.

هذا ، مضافا إلى أنّ الفرق بينهما مبنيّ على كون الرطوبة الذاتيّة جزءا للمرطوب حقيقة أو عرفا دون الرطوبة العرضيّة كي تكون التساوي بين العوضين موجودا حال العقد في الأوّل دون الثاني ، وجميع هذه المباني والمقدّمات غير ثابت ، بل معلوم العدم.

والإنصاف : أنّ هذه الظنون لا يصحّ أن يبتني عليها الأحكام الشرعيّة ، ولا ينبغي

ص: 130

أن يعتنى بها ، فالعمدة في المسألة هو القول المشهور ، أي عدم الجواز مطلقا ، أو الجواز كذلك ؛ لدلالة الروايات المتقدّمة على المنع. وما ذكروه من أنّ مفادها الكراهة لا الحرمة غير تامّ. وإنكار اطّراد العلّة وعمومها لا وجه له وخلاف المتفاهم العرفيّ ، فالأحوط بل الظاهر هو القول المشهور ، أي المنع مطلقا ، واللّه العالم.

وخلاصة الكلام : أنّ التفاصيل التي ذكروها في المقام لا أساس لها ، وإن كان التفصيل الأوّل يستظهر من المحقّق شيخ الفقهاء في الشرائع ، (1) وتقدّم نقل عبارته ، فيدور بين القول بالمنع مطلقا أو الجواز مطلقا.

ولكن لا مجال للقول بالجواز مطلقا إلاّ بأحد أمرين ، وهما :

إمّا أن تكون الروايات المانعة غير ظاهرة في الحرمة ، بل تكون ظاهرة في الكراهة من جهة اشتمال بعضها على كلمة « لا يصلح » التي تكون ظاهرة في الكراهة ، أو كلمة « كره » كما في رواية محمّد بن قيس التي تقدّمت كذلك ؛ إذ بناء على هذا لا مانع من شمول الإطلاقات وعمومات الصحّة للمقام.

وإمّا من جهة الجمع الدلالي بينها وبين الطائفة الأخرى التي ظاهرها الجواز بحمل الأولى على الكراهة تحكيما للنصّ على الظاهر.

وأنت خبير بعدم صحّة كلا الأمرين.

أمّا الأوّل : فلأنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « فلا إذن » بعد السؤال عن صحّة مثل ذلك البيع أو عدم صحّته في غاية الظهور في عدم جوازه وفساده ، وكذلك قوله علیه السلام : « لا يصلح » في الروايات الثلاث ، حيث أنّه علیه السلام ينفي الصلاحيّة عن مثل هذا البيع معلّلا بأنّ ما هو الرطب ينقص لجفافه فيما بعد ، فيخرج عن التساوي مع مقابله ، وهو شرط في صحّة بيع المتجانسين ، فبفقده ينتفي الصحّة ، فيكون نفي الصلاح في مثل هذا المورد مع هذا التعليل ظاهرا في فساد المعاملة وعدم جوازها ، وإن كان في حدّ نفسه يلائم مع الحرمة

ص: 131


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 40.

والكراهة كليهما. نعم ظاهر هذه الروايات لزوم بقاء التساوي في العوضين المتجانسين.

وأمّا الثاني : فتقديم الجمع الدلالي على الترجيح السندي بعد الفراغ عن حجّيته ، بمعنى عدم خروجه عن موضوع الحجّية ، وأمّا إذا قلنا بأنّ موضوع الحجّة هو الموثوق الصدور ، وإعراض المشهور كان سببا لسلب الوثوق بصدوره وخروجه عمّا هو موضوع الحجّية ، فلا يبقى حجّة كي تصل النوبة إلى الجمع الدلالي.

فمورد هذا الكلام هو أنّه لو كان هناك خبران ، كلاهما ممّا يوثق بصدورهما ، ولم يعرض الأصحاب عن كلّ واحد منهما ، بل بعضهم عملوا بذاك وبعضهم عملوا بهذا ، وكان لأحدهما مرجّح سندي ولكن يمكن الجمع العرفي الدلاليّ بينهما ، ففي مثل هذا المورد يجب الجمع ، ولا يجوز الأخذ بذي المزيّة ، وطرح الآخر رأسا.

وهذا الذي ذكرنا جار في كثير من موارد الأخبار المتعارضة ، منها : الأخبار الواردة في نجاسة الكفّار ، مع الواردة في طهارتهم.

إذا تأمّلت فيما ذكرنا ، فنقول : إعراض المشهور عن الروايات التي لها ظهور في جواز مثل هذا البيع ، صار سببا لسلب الوثوق بصدورها ، فلا يبقى مجال للجمع الدلالي. هذا ، مضافا إلى التوجيهات التي ذكروها للروايات المجوّزة ، تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، مع ضعف كثير منها.

المسألة التاسعة : فيما إذا باع أحد المتجانسين الربويين ، وفيه خليط بالآخر الخالص ، مثل أن باع حنطة فيها خليط بالأخرى الخالصة التي ليس فيها خليط من غير جنسه ، فلا يخلو إمّا أن يكون الخليط قليلا بحيث يتسامح فيه ولا يعتنى به في مقام المعاملة ، فلا إشكال فيه ؛ لأنّ العوضين بناء على هذا لا يخرجان عن التساوي عرفا ، فلا رباء. وإمّا يكون ممّا لا يتسامح فيه ، فإن لم يكن له ماليّة فالمعاملة باطلة ؛ لأجل حصول الربا ، لأجل عدم التساوي بين العوضين ، مع أنّهما من جنس واحد ؛ إذ الخليط لا يقع عوضا لعدم ماليّته ، والمفروض أنّ ما فيه الخليط أقلّ من الآخر بدون الخليط ،

ص: 132

وبعد حذفه عنه.

وأمّا إن كان له ماليّة ، فالمعاملة صحيحة ولا رباء ، إذ الخليط يقع بإزاء الزيادة التي في الآخر قهرا ، وإن لم يكن مقصودا ، وذلك لقصد معاوضة المجموع بالمجموع ، فالخليط أيضا داخل في المجموع الذي قصد.

هذا إذا كان الخليط في أحدهما ، وأمّا إذا كان فيهما وليس له ماليّة ، فإذا كان العوضان المتجانسان متساويين مع قطع النظر عن الخليط ، فلا إشكال ولا رباء.

والوجه واضح. وأمّا إذا لم يكونا متساويين فرباء وباطل ، والوجه أيضا واضح.

وأمّا إذا كان لخليط كلّ واحد منهما ماليّة ، ففيما إذا لم يكن الخليط في كلّ واحد منهما من جنس المخلوط ، فالمعاملة صحيحة ، ولا إشكال لوقوع كلّ واحد من الخليطين مقابل العوض الآخر ولا رباء ، وعلى فرض أن يكون مقصود المتعاملين وقوع مجموع الخليط والمخلوط مقابل مجموع الآخر فلا إشكال ؛ لأنّ المجموع من كلّ واحد منهما ليس من جنس المجموع الآخر فيما إذا كان الخليط في كلّ واحد منهما من غير جنس الخليط الآخر.

ثمَّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الخليط إنّ كان فيهما ولم يكن له ماليّة ، وكان العوضان المتجانسان متساويين مع قطع النظر عن الخليط ، فلا إشكال أنّه يجب العلم بمقدار الخليط للزوم العلم بتساوي العوضين المتجانسين.

المسألة العاشرة : قال في الشرائع : يجوز بيع درهم ودينار بدينارين ودرهمين ، ويصرف كلّ واحد منهما إلى غير جنسه ، وكذا لو جعل بدل الدينار والدرهم شي ء من المتاع ، وكذا مدّ من تمر ودرهم بمدّين أو أمداد ودرهمين أو دراهم. (1)

وخلاصة ما ذكره قدس سره في هذه المسألة هو أنّه في بيع المتجانسين غير المتساويين إنّ ضمّ إلى الناقص شي ء آخر له ماليّة من غير جنسه ، كما إذا باع درهما ودينارا بدينارين

ص: 133


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 41.

أو باعهما بدرهمين ، فيجوز مثل هذا البيع ولا رباء ، إذ يرتفع الرباء بواسطة الضميمة.

ففي الفرض الأوّل يقع الدينار مقابل أحد الدينارين ، والدرهم مقابل الدينار الآخر ، وما قلنا من وقوع كلّ واحد من الدينار والدرهم في مقابل الزائد الذي من غير جنسه جار فيما إذا كانت الضميمة شي ء من المتاع ، كأن يبيع درهما ومدّا من تمر بمدّين أو أمداد ، ودرهمين أو دراهم.

وكلامنا في صحّة هذه المعاملة من ناحية رفع الرباء بواسطة تلك الضميمة ، وأمّا كونها فاسدة من جهة أخرى ككونها سفهيّة ، أو من ناحية فقد شرط ، أو وجود مانع فلسنا في مقام تصحيحها من تلك الجهات.

وأمّا ما يقال من أنّ مجموع المجانس من ذلك الآخر مع الضميمة ليس مجانسا معه ، فبواسطة الضميمة يخرج العوضان عن كونهما متجانسين ، ولا يحتاج إلى التكلّف.

بأنّ الزيادة في مقام الضميمة وما عدا الضميمة في مقابل المقدار المساوي معه كيلا أو وزنا من مجانسه.

وكذا لا يحتاج إلى القول بأنّه فيما إذا كان العوضان مركّبا من جنسين ، يكون كلّ جنس من كل واحد من العوضين مقابل ما يخالفه من العوض الآخر ، مثلا لو باع مدّا من تمر ودرهمين بمدّين ودرهمين ، فيقع المدّ مقابل درهمين ويقع الدرهمان مقابل مدّين.

ففيه : أنّ المجموع ليس له وجود غير وجود أجزائه ، فلو لم نقل بما ذكرنا لزم الربا في بعض صور المسألة لا محالة.

مثلا لو باع مدّا ودرهما بمدّين ودرهمين ، فلو لم يكن الدرهم مقابل المدّين والمدّ مقابل درهمين ، يكون نصف الدرهمين وهو درهم واحد ، ونصف المدين وهو مدّ واحد مقابل نصف المبيع ، وهو نصف الدرهم ونصف المدّ. ومرجع هذا إلى أنّ درهما واحدا تامّا وقع مقابل درهم ، ومدّا كاملا وقع مقابل نصف ، بل من أوّل الأمر درهم ومدّ

ص: 134

وقع مقابل درهم ومدّ ، ودرهم وقع مقابل مدّ فيما إذا كان قيمة المدّ والدرهم متساويين ، فكلّ واحد من جزئي المبيع وقع في مقابله ما يساويه من مماثله مع الزيادة من غير مماثله.

وأمّا ما يقال من أنّ ما قلتم من أنّ كلّ واحد من جزئي المبيع يقع في مقابل ما يخالفه في الجنس فلا رباء في البين ، هو ليس بمقصود للمتبايعين ، بل مقصودهم معاوضة المجموع بالمجموع ، والعقود تابعة للقصود.

فهذا كلام حقّ ، ولذلك نقول صحّة هذه المعاملة ليس بمقتضى القواعد ، بل من جهة الإجماع والنصّ.

أمّا الإجماع فادّعاه جمع ، وقال العلاّمة في التذكرة (1) في المفروض ، أي بيع الجنسين المختلفين بأحدهما : إذا زاد على ما في المجموع من جنسه بحيث تكون الزيادة في مقابلة المخالف ، يجوز عند علمائنا أجمع.

وقال في الجواهر في شرح ما نقلنا عن الشرائع : بلا خلاف بيننا (2).

والحاصل أنّ جواز مثل هذه المعاملة اتفاقي بين الإماميّة ، وحكى في التذكرة (3) عن أبي حنيفة أيضا جواز هذه المعاملة ، وقال حتّى أنّ أبا حنيفة يقول بجواز بيع دينار في خريطة بمائة دينار.

والظاهر : أنّ مراده أنّ الخريطة تكون في مقابل تسع وتسعين ، والدينار الذي فيها مقابل دينار ، فلا يكون رباء في البين.

ولكن الإشكال أنّ الخريطة ربما ليس فيها صلاحيّة أن تقع في مقابل ذلك المبلغ الكثير ، ولذلك نشترط في الزيادة أن تكون لها ماليّة بمقدار يصلح للعوضيّة.

ص: 135


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 483.
2- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 391.
3- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 483.
وأمّا النصوص الواردة في المقام :

فمنها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام وفيها : فقلت له : أشتري ألف درهم ودينارا بألفي درهم؟ فقال علیه السلام : « لا بأس بذلك ، إنّ أبي علیه السلام كان أجرى على أهل المدينة منّي ، وكان يقول هذا ، فيقولون : إنّما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار. وكان علیه السلام يقول لهم : نعم الشي ء الفرار من الحرام إلى الحلال » (1).

ومنها : أيضا عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « كان محمّد ابن المنكدر يقول لأبي علیه السلام : يا أبا جعفر رحمك اللّه واللّه إنّا لنعلم أنّك لو أخذت دينارا والصرف بثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته ، وما هذا إلاّ فرارا ، فكان أبي علیه السلام يقول : صدقت واللّه ، ولكنّه فرار من باطل إلى حقّ » (2).

ومنها : عنه أيضا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجل يأتي بالدراهم إلى الصيرفي : فيقول له : آخذ منك المائة بمائة وعشرين ، أو بمائة وخمسة حتّى يراوضه على الذي يريد ، فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو ذهبا ، ثمَّ قال : قد زادت البيع وإنّما أبايعك على هذا ، لأنّ الأوّل لا يصلح أو لم يقل ذلك ، وجعل ذهبا مكان الدراهم ، فقال : « إذا كان آخر البيع على الحلال فلا بأس بذلك ». قلت : فإن جعل مكان الذهب فلوسا ، قال : « ما أدري ما الفلوس » (3).

ومنها : ما عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا بأس بألف درهم ودرهم

ص: 136


1- « الكافي » ج 5 ، ص 246 ، باب الصروف ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 466 ، أبواب الصرف ، باب 6 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 247 ، باب الصرف ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 467 ، أبواب الصرف ، باب 6 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 105 ، ح 449 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 55 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 467 ، أبواب الصرف ، باب 6 ، ح 3.

بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقل أو أكثر فلا بأس » (1).

فهذه الروايات لها دلالات واضحة على صحّة هذه المعاملة وعدم الإشكال فيها ، فهذا حكم تعبّدي من قبل الشارع.

المسألة الحادية عشر : في أنّه لو خرجت الضميمة التي ذكرناها في المسألة السابقة عن ملك البائع بواسطة تلفها قبل قبض المشتري ، أو كانت ممّا لا يجوز للبائع التصرّف فيها لكونها ملكا للغير ، أو كانت متعلّقة لحقّ الغير ؛

فهاهنا فرعان :

الأوّل : كونها مستحقّة للغير.

الثاني : تلفها قبل القبض.

أمّا الأوّل : فإن أجز صاحب الحقّ فلا إشكال ، وأمّا إن لم يجز فلا شبهة في بطلان المعاملة بالنسبة إليها ، فإن حصل الربا في الباقي ، وذلك كما إذا باع مدّا من التمر ودرهما بمدّين منه ودرهمين ، فظهر أنّ درهما معيّنا منهما ملك لغير البائع أو مرهون عند غيره ولم يجز المالك أو صاحب الحقّ ، فيبطل المعاملة بالنسبة إلى ذلك الدرهم.

فإن قلنا أنّه يسقط من الثمن بمقدار ما يقابله واقعا وهو مثله - أي أحد الدرهمين - فيبقى درهم ومدّان مقابل مدّ واحد ، ولا شكّ في كون الباقي بناء على هذا معاملة ربوية.

وأمّا إذا قلنا إنّ الثمن يقسط بالنسبة ، وفرضنا أنّ قيمة المدّ درهم واحد ، فيكون مقابل الدرهم الذي ليس للبائع التصرّف فيه مدّ ودرهم ، ويبقى للمدّ الباقي من المبيع مدّ ودرهم ، فأيضا يحصل الربا ، وفي كلتا الصورتين تبطل المعاملة من أوّل الأمر ؛ لأنّه

ص: 137


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 106 ، ح 456 ، باب بيع الواحد بالاثنين. ح 62 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 468 ، أبواب الصرف ، باب 6 ، ح 4.

في الحقيقة من أوّل الأمر باع في المفروض مدّا من التمر إمّا بمدّين ودرهم ، وإمّا بمدّ ودرهم.

وأمّا إن لم بحصل الربا ، كما أنّه لو باع درهما ومدّا بمدّين ، فظهر أنّ الدرهم المبيع ملك الغير أو متعلّق حقّ الغير ، وفرضنا أنّ المدّ يساوي درهما ، فهاهنا بعد بطلان المعاملة وإسقاط ما يقابل الدرهم المبيع من الثمن ، أو إسقاط ما هو قيمته الواقعيّة لذلك الدرهم الذي ليس ملكا للبائع ، أو يكون متعلّقا لحقّ الغير يبقى مدّ أو درهم مقابل المدّ الباقي ، فلا رباء ولا بطلان للمعاملة. نعم يأتي خيار تبعّض الصفقة للمشتري.

هذا هو الظاهر ، ولكن يمكن تصحيح المعاملة في الفرض الأوّل بشكل لا يأتي فيها الربا ، بأن يقال بإسقاط نصف الدرهم من الثمن مقابل نصف الدرهم من الدرهم المبيع ، ومدّ ونصف مدّ من الثمن مقابل النصف الآخر من الدرهم المبيع ، فيبقى من الثمن درهم ونصف مع نصف مدّ مقابل مدّ من المبيع ، فيكون الدرهم ونصف الدرهم الباقي من الثمن مقابل نصف المدّ من المبيع ، ونصف المدّ الباقي من الثمن مقابل ما يساويه من المبيع.

ولكن فيه : أوّلا : أنّ هذه المعاملة من أوّل الأمر وقعت باطلة وربويّة ، فلا يبقى مجال لتصحيحها بما ذكر. وثانيا : هذا الترتيب الذي ذكرنا لخروجها عن كونها ربويّة أجنبيّ عمّا قصده المتبايعان ، والعقود تابعة للقصود ، ولا ضرورة توجب الالتزام بما ذكر على خلاف ما قصد.

وأمّا الثاني : أي تلف الضميمة قبل أن يقبضها المشتري ، وحيث أنّ المعاملة وقعت صحيحة من أوّل الأمر ، فيمكن أن يقال بعدم شمول أدلّة حرمة الربا لمثل هذا الرباء الحادث بعد وقوع المعاملة صحيحة وانصرافها عنه.

ويمكن أن يصحّح بما تقدّم في الفرع الأوّل. ولا يأتي الإشكال الذي تقدّم هاهنا ؛

ص: 138

لأنّ المعاملة هاهنا وقعت صحيحة ، فما ذكرنا يكون لإبقاء الصحّة.

ولكنّ الإنصاف : أنّ هذا القسم من التصحيح خلاف ما قصده المتعاملان ، وتقدّم في المسألة السابقة أنّ القول بالصحّة من جهة التعبّد للنصّ والإجماع ، وإلاّ فمقتضى القواعد هو البطلان ، فلا بدّ من القول بالبطلان إن قلنا بشمول أدلّة حرمة الربا للمقام.

وأمّا إن قلنا بالانصراف وعدم الشمول فالمعاملة صحيحة بلا كلام ، والقول بعدم شمول أدلّة حرمة الربا لمثل المورد لا يخلو عن قوّة.

هذه الفروع كلّها كانت راجعة إلى الشرط الأوّل ، أي اتّحاد الجنس في الثمن والمثمن.

وأمّا القسم الثاني
اشارة

أي الفروع الراجعة إلى الشرط الثاني أي كونهما مكيلا أو موزونا

فأيضا نذكرها في ضمن مسائل :

المسألة الأولى : إذا كان جنس قد يباع بالوزن وقد يباع بالعدّ ، أو في بلد أو في زمان بأحدهما وفي الآخر بالآخر ، فالظاهر أنّ حرمة التفاضل منوط بوقوع المعاملة بالوزن أو كيلا. وأمّا لو بيع عددا ، أو كان في بلد أو زمان يباع عددا ، فلا حرمة إن كان بيع عددا.

وذلك من جهة أنّ حكم الحرمة على عنوان ما يباع كيلا أو وزنا على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فكلّ وقت تحقّق هذا العنوان يتحقّق الحرمة ؛ لعدم تخلّف الحكم عن موضوعه. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ عنوان الموضوع في قوله علیه السلام « إلاّ فيما يكال أو يوزن » هو أن يكون نوع معاملاته بالوزن أو الكيل ، فوقوعه في بعض الأحيان أو في بعض البلدان أو الأزمان بالعدّ لا ينافي وجود موضوع الحرمة ؛ لأنّ هذا المقدار القليل

ص: 139

وقوعها بالعدّ لا يضرّ بكونه ممّا يكال أو يوزن عند العرف.

نعم لو كان في بلد أو في زمان نوع أهل ذلك البلد أو أهل ذلك الزمان يبيعونه بالعدّ ، فلا يصدق أنّه ممّا يكال أو يوزن عندهم ، فالمدار على نوعيّة بيعه بالوزن أو الكيل ويؤيد هذا المعنى بل يدلّ عليه مرسل عليّ بن إبراهيم : « لا ينظر فيما يكال أو يوزن إلاّ إلى العامّة ، ولا يؤخذ بالخاصّة » (1).

المسألة الثانية : إذا شكّ في صدق المكيل والموزون على جنس ، ولم يحرز أنّه منهما أو من غيرهما لعدم ضبط حدود مفهوميهما ، فمقتضى عمومات صحّة البيع وحلّيته عدم حرمة التفاضل في مثل ذلك الجنس ، إذا بيع بمثله ؛ لأنّ الخارج عن تحت العمومات هو المكيل والموزون ، فإذا شككنا في خروجه عنها نتمسّك بأصالة العموم ، لأنّ الشبهة مفهوميّة لا مصداقيّة. والمسألة محرّرة في الأصول.

وكذلك الأمر في صورة الشكّ في اتّحاد الجنس فيما لم يكن دليل وأمارة يثبت الاتّحاد حكما أو موضوعا.

وأمّا أصالة عدم ترتّب الأثر على مثل تلك المعاملة المعبّر عنها بأصالة الفساد ، فهو محكوم بالعمومات ، نعم لو كانت الشبهة مصداقيّة لا يمكن التمسّك بالعمومات ؛ لما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » (2).

المسألة الثالثة : قد ذكرنا في بعض المسائل السابقة أنّ فروع الأصل الواحد كلّ واحد مع الآخر ، وجميعها مع ذلك الأصل في حكم متّحدي الجنسين ، لا يجوز بيع بعضها ببعض مع التفاضل ، ولكن إذا اختلف الفرع مع الأصل بأن يكون أحدهما من

ص: 140


1- « الكافي » ج 5 ، ص 192 ، باب فيه جمل من المعاوضات ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 435 ، أبواب الربا ، باب 6 ، ح 6.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 449.

المكيل أو الموزون والآخر من غيرهما ، فيختلف حكمهما حسب اختلاف عناوينهما.

فيجوز بيع الجوز بمثله مع التفاضل ؛ لأنّه معدود ، ولا يجوز بيع دهنه بالتفاضل ؛ لأنّه موزون ؛ فيختلف حكم الفرع والأصل. وكذلك لا يجوز بيع القطن والغزل بمثلهما مع التفاضل ؛ لأنّهما من الموزون ، ولكن الثياب المنسوج منهما يجوز بيعها مع التفاضل ؛ لأنّها ليست من الموزون ؛ فاختلف حكم الأصل والفرع.

والسّر في ذلك : أنّ الفرع داخل تحت عنوان ، والأصل تحت عنوان آخر ، والعنوانان مختلفان في الحكم من حيث دخول الربا وعدم دخوله.

المسألة الرابعة : هل يجوز بيع المكيل موزونا وبالعكس ، أم لا؟ فيه خلاف.

والبحث في هذه المسألة تارة في جواز البيع من ناحية لزوم الغرر ، وأخرى من ناحية دخول الربا إذا كان العوضان من جنس واحد.

أمّا البحث من الجهة الأولى : أي من ناحية لزوم الغرر الذي يكون منهيّا ، ففيه أقوال :

قول بعدم الجواز مطلقا.

وقول بالجواز مطلقا.

وقول بالتفصيل ، أي جواز بيع المكيل موزونا دون العكس.

وذلك من جهة أنّ اعتبار الكيل في المكيل ، أو الوزن في الموزون لأجل ارتفاع الغرر والجهالة والعلم بمقدار العوضين ، وفي هذه الجهة ربما يكون الوزن أضبط ، وارتفاع الغرر والجهالة به أوضح وأجلى ، حتّى قيل : إنّ الأصل في تعيين العوضين

في أبواب المعاوضات التي من المكيل أو الموزون هو الوزن ، والكيل أمارة عليه.

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ اعتبار الكيل في المكيل ، والوزن في الموزون إن كان من جهة ارتفاع الغرر بهما وعدم كون البيع جزافا كما هو الظاهر ، فلا يبعد صحّة

ص: 141

بيع المكيل موزونا ؛ إذ ارتفاع الغرر بالوزن أوضح ، ومعرفة المقدار به أدقّ.

وأمّا ما يقال من أنّ الوزن يعيّن المقدار من حيث الثقل والخفّة ، والكيل من حيث الأبعاد فلا يقاس أحدهما بالآخر ، فإنّه وإن كان صحيحا ، لكن عمدة النظر في غالب أفراد المبيع - المكيل والموزون - عند العرف والعقلاء إلى معرفة مقدارها من حيث الوزن والثقل ، لا الأبعاد.

نعم إذا كان الغرض في مورد يتعلّق بالمبيع من حيث حجمه ، وأبعاده دون ثقله ، ففي ذلك السنخ من المبيع لا يبعد أن يكون المناط في رفع الغرر والجهالة هو الكيل دون الوزن إذا كان ممّا يكال ، كما أنّه إذا كان الكيل أمارة على الوزن فيرتفع الغرر بالكيل ، وإن كان موزونا فيكفي الكيل في صحّة المعاملة.

ويدلّ على ذلك أيضا رواية عبد الملك بن عمرو قلت : أشترى مائة راوية من زيت فاعترض راوية أو اثنتين فأتّزنها ثمَّ آخذ سائره على قدر ذلك؟ قال علیه السلام : « لا بأس » (1). ولكن هذا في الحقيقة يرجع إلى معرفة المقدار بالوزن لا الكيل.

والحاصل : أنّ تعيين المقدار ومعرفته بالوزن يكفي في صحّة البيع ، وإن لم يكن المبيع ممّا يوزن ؛ ولذلك ترى أنّ الحنطة والشعير مع أنّهما من المكيل في زمن الشارع إجماعا يجوز بيعهما بالوزن ، وفي الجواهر (2) الإجماع أيضا على صحّة بيعهما بالوزن.

وقال العلاّمة في التذكرة : إنّه لا يجوز بيع الموزون بجنسه جزافا ، وكذا لا يجوز بيعه مكيلا إلاّ إذا علم عدم التفاوت فيه ، وكذا المكيل لا يجوز بيعه جزافا ولا موزونا إلاّ مع العلم بعدم التفاوت. (3) وقد عرفت ما هو الحقّ في المقام.

هذا كلّه كان من ناحية الغرر.

ص: 142


1- « الكافي » ج 5 ، ص 194 ، باب بيع العدد والمجازفة والشي ء المبهم ، ح 7 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 226 ، باب البيوع ، ح 3836 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 255 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 5 ، ح 1.
2- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 373.
3- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 483.

و أمّا البحث من ناحية دخول الربا : فالعبارات الواردة في بيع المتجانسين وصحته وعدم كونه ربا على أقسام :

تارة بأن يكون مثلا بمثل ، كما في رواية محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : قلت له : ما تقول في البرّ بالسويق؟ فقال : « مثلا بمثل لا بأس » (1). وبهذا المضمون روايات كثيرة.

وأخرى : أن يكون رأسا برأس ، كما في رواية صفوان عن رجل من أصحابه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الحنطة والدقيق لا بأس به رأسا برأس » (2).

وثالثة : أن يكون العوضان سواء ، كما في رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الحنطة بالدقيق؟ فقال : « إذا كانا سواء فلا بأس » (3).

ففي صحّة بيع المتجانسين وعدم تحقّق الربا لا بدّ من صدق أحد هذه العناوين الثلاث عرفا ، فنقول :

العوضان اللذان من جنس واحد ، أو كانا في حكم الجنس الواحد - كفروع الأصل الواحد بعضها بالنسبة إلى البعض كالخبز بالنسبة إلى السويق ، أو جميعها بالنسبة إلى ذلك الأصل ، كالخبز بالنسبة إلى الحنطة مثلا ، أو الشيرج بالنسبة إلى التمر أو العنب مثلا - فإمّا أن يكون كلاهما من الموزون ، أو كلاهما من المكيل ، أو يكونان من المختلفين.

فالأوّل : كالحنطة والشعير مثلا ، والثاني : كالدقيق بالدقيق ، والثالث : كالحنطة

ص: 143


1- « الكافي » ج 5 ، ص 189 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 440 ، أبواب الربا ، باب 9 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 95 ، ح 403 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 440 ، أبواب الربا ، باب 9 ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 95 ، 407 ، باب بيع الواحد بالاثنين. ح 13 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12. ص 441 ، أبواب الربا ، باب 9 ، ح 6.

بالدقيق.

أمّا الأوّل : فلا شكّ في أنّه إذا باع منّا من الحنطة بمنّ منها ، يصدق العناوين الثلاثة ، أي « مثلا بمثل » ، وكذلك « رأسا برأس » وكذلك « كونهما سواء ».

وهناك في بعض روايات باب الصرف (1) علّق علیه السلام صحّة بيع الورق بالورق والذهب بالذهب بكونه وزنا بوزن ، وبأن لا يكون فيه زيادة ونقصان.

فإذا كان المراد من بيع الورق بالورق والذهب بالذهب بيع المتجانسين ، وذكر الذهب والورق من باب المثال ، فأيضا يصدق فيما ذكرنا من المثال أنّه بيع مثلا بمثل وبلا زيادة ولا نقصان أي من حيث الوزن ، ففيما إذا كان العوضان من الموزون لا شكّ في صحّة بيعهما موزونا ؛ لصدق جميع العناوين الخمسة.

وأمّا بيعهما بالكيل فلا يخلو من إشكال إذا كان بينهما تفاوت بحسب الوزن ، كما أنّه لو باع التمر بالدبس منه متساويا كيلا ، فالتمر والدبس منه كلاهما من الموزون ، فإذا بيع أحدهما بالآخر كيلا متساويا يكونان متفاوتين بحسب الوزن ؛ لأنّ الكيل من الدبس أثقل من نفس ذلك الكيل من التمر ، فلا يصدق على مثل ذلك البيع أنّ العوضين المتجانسين متساويان بلا زيادة ولا نقصان.

وذلك من جهة أنّ العرف يفهم من التساوي فيما يباع عندهم بالوزن التساوي في الوزن لا التساوي كيلا ، ومن قوله علیه السلام : « بلا زيادة ولا نقصان » عدمهما بحسب الوزن ، وهكذا قوله علیه السلام في الموزون « مثلا بمثل » يفهم المثليّة بحسب الوزن ، وكذلك قوله علیه السلام « رأسا برأس ». وأمّا قوله علیه السلام « وزنا بوزن » فصريح في ذلك.

نعم لو لم يكن بينهما تفاوت بحسب الوزن ، فلا يأتي هذا الإشكال ، كما أنّه إذا كان الكيل أمارة على الوزن فأيضا لا يأتي هذا الإشكال ، كما أنّه لو وزن كيلا ويعطى الباقي بذلك الحساب كما تقدّم في رواية عبد الملك بن عمرو.

ص: 144


1- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 456 ، أبواب الصرف ، باب 1 ، ح 3 و 4.

وأمّا الثاني : أي فيما إذا كانا من المكيل ، فلا شكّ في صحّة بيعهما كيلا ؛ لأنّ العرف لا يفهم من التساوي إلاّ التساوي بحسب الكيل. وكذلك الكلام في مثلا بمثل ورأسا برأس ، وأمّا قوله علیه السلام « وزنا بوزن » فهو في مورد الموزون ، فلا ربط له بمورد كون المبيع مكيلا أصلا.

إنّما الكلام في صحّة بيعهما بالوزن هل يجوز.

فقال جماعة : نعم ؛ لأنّ الوزن أضبط في معرفة التساوي وعدم الزيادة والنقصان الذي هو المناط في عدم تحقّق الربا ، وقد تقدّم أنّه علیه السلام فسّر المثليّة بقوله : « بلا زيادة ولا نقصان » وهو الصحيح. بل ربما يظهر من الشهيد في المسالك (1) دعوى الإجماع على صحّة بيع المكيل موزونا ، حيث قال كما في الجواهر حكاية عن المسالك : ونقل بعضهم الإجماع على جواز بيع الحنطة والشعير وزنا مع الإجماع على كونهما مكيلين في عهده صلی اللّه علیه و آله (2).

ولكن ظاهر هذا الإجماع على جواز بيع المكيل موزونا - على تقدير ثبوته - هو في خصوص ارتفاع الغرر بالوزن وخروج المعاملة عن كونها جزافا ، فلا ينافي عدم صحّة بيع المكيل موزونا مثلا بمثل من ناحية الربا ؛ لعدم صدق التساوي عرفا فيما إذا بيع العوضان من المكيل بالتساوي وزنا.

فالأوجه في وجه الصحّة ما ذكرنا من أنّ المراد بقوله علیه السلام « مثلا بمثل » أو « رأسا برأس » أو غيرهما من العناوين التي ذكرناها هو عدم زيادة أحد العوضين على الآخر ، حيث أنّ هذا هو المناط في باب الربا ثبوتا وعدما ، فبثبوتها يثبت الربا وبعدمها يرتفع. ولا شكّ في أنّ التساوي بحسب الوزن أدلّ على عدم تحقّق الزيادة والنقصان من التساوي بحسب الكيل حتّى فيما يكال عند العرف.

ص: 145


1- « مسالك الأفهام » ج 3 ، ص 317.
2- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 374.

وأمّا الثالث : أي فيما إذا كان أحد العوضين من المكيل والآخر من الموزون ، كالحنطة مع الدقيق ، بناء على أنّ الحنطة من الموزون والدقيق من المكيل ، فبناء على ما ذكرنا من صحّة بيع المكيل بالوزن جواز بيعهما متساويا بالوزن ؛ لما ذكرنا من أنّ الوزن أضبط وأدلّ في معرفة عدم الزيادة والنقصان الذي هو المناط في جواز بيع المتجانسين أحدهما بالآخر وزنا بوزن ومثلا بمثل ، وأمّا كيلا فلا يخلو من إشكال.

وأمّا قياس بيعهما من حيث لزوم الربا على بيعهما من حيث الغرر ، بأن يقال : إنّه كما يرتفع الغرر بكلّ واحد من الكيل والوزن ، فكذلك التساوي يحصل بكلّ واحد من الكيل والوزن.

ففي غير محلّه ؛ وذلك من جهة اختلاف الموضوع في المسألتين. فالموضوع في جواز البيع في باب الغرر هو ارتفاع الغرر والجهالة وعدم كونه جزافا ، والموضوع في باب الربا هو كون العوضين في متّحدي الجنسين أو ما كان في حكم متّحدي الجنسين متساويين بلا زيادة ولا نقصان ، فيمكن القول بارتفاع الغرر بكلّ واحد من الكيل والوزن. وأمّا التساوي وكونهما مثلا بمثل لا يتحقّق في الموزون إلاّ بالوزن ، وفي المكيل إلاّ بالكيل ، وفيما كان أحدهما مكيلا والآخر موزونا لا يحصل بكل واحد منهما.

فلا بدّ من علاج آخر لتصحيح بيعهما ، وهو أن يبيع كلّ واحد منهما بما هو من سنخه ، فالمكيل بالمكيل كيلا والموزون بالموزون وزنا ، أو يباع كلّ واحد منهما بغير جنسه كي يخرج عن موضوع الربا.

المسألة الخامسة : إذا كان البيع في شي ء مختلفا بحسب الحالات ، فيباع في حال بمشاهدة وفي حال بالوزن. وذلك كما في بيع الأثمار ، فما دام الثمر على الشجر يباع بالمشاهدة ، ولكن بعد الانفصال يباع وزنا أو كيلا مثل التمر والعنب وغيرهما ، فالظاهر أنّه في كلّ حال يلحقه حكم ذلك الحال ، فإذا بيع أو صولح عليه في حال كونه على الشجر لا يدخل فيه الربا ؛ لعدم كونه مكيلا أو موزونا. وأمّا بعد الانفصال يدخل فيه ؛

ص: 146

لتحقّق موضوعه ، وهو كونه مكيلا أو موزونا.

هذا فيما إذا كان الاختلاف بحسب الأحوال. أمّا فيما إذا كان الاختلاف بحسب نوع المعاملة ، فما إذا بيع لا يباع إلاّ مكيلا أو موزونا ، وأمّا الصلح فيقع عليه بالمشاهدة كما إذا قلنا بصحّة الصلح على صبرة من الحنطة أو الشعير من دون أن يكال أو يوزن ، فالظاهر دخول الربا حتّى في ذلك النوع الذي لا يكال ولا يوزن ، بل يكفي المشاهدة في صحّة وقوع الصلح عليه.

فلو أراد أن يصالح على صبرة من الحنطة أو الشعير أو غيرهما بصبرة أخرى من جنسه ، فلا بدّ وأن يكونا متساويين ، وإلاّ يكون من الربا المحرّم ؛ لتحقّق موضوعه ، وهو نقل أحد متّحدي الجنسين بعوض الآخر إلى الآخر ، مع أنّهما من المكيل أو الموزون بدون أن يكونا متساويين ومثلا بمثل.

المسألة السادسة : إذا كان شي ء يباع بكلّ من الوزن والعدّ ، فإذا كان باختلاف الأزمنة أو الأمكنة : مثلا يباع في بلد أو زمان بالوزن ، وفي بلد أو زمان آخر بالعدّ ، ففي كلّ زمان أو مكان يلحقه حكم ذلك الزمان أو ذلك المكان.

والوجه واضح.

وأمّا لو كان في زمان واحد أو مكان كذلك ، يختلف بحسب اشخاص المعاملات ، فقد يكون بيعه بالعدّ ، وقد يكون بالوزن ، فإن كان الغالب هو الوزن بحيث يصدق عند العرف أنّه موزون ، فيدخل فيه الربا ؛ لشمول الإطلاقات له ، للزوم حملها على المعنى العرفيّ ، وكذلك الأمر لو كان الغالب هو العدّ. وأمّا لو لم تكن غلبة في البين وصار موردا للشكّ ، فيمكن أن يقال إذا بيع بالوزن فيدخل فيه الربا ، وإن بيع بالعدّ فلا.

ولكن التحقيق : أنّ موضوع الحرمة وفساد المعاملة هو كون العوضين المتفاضلين المتّحدي الجنسين من المكيل أو الموزون ، فلا بدّ من إحراز الموضوع لإثبات هذا الحكم ، وإلاّ فمع الشكّ في كونه مكيلا أو موزونا فلا يثبت ، نعم التمسّك بإطلاقات أدلّة

ص: 147

صحّة البيع وغيره من المعاملات لصحّة مثل هذه المعاملة يكون من التمسّك بعموم العام أو إطلاق المطلق في الشبهات المصداقيّة ، فالأحوط مراعاة التساوي كيلا أو وزنا في مثل هذه المعاملة إذا كان العوضان من متّحدي الجنسين.

المسألة السابعة : الأوراق الماليّة المتعارفية الآن في الأسواق التي عليها مدار المعاملات من أيّ قسم كانت ، وبأيّ اسم سمّيت ، دينارا أو اسكناسا أو نوطا أو ريالا أو ليرة أو غير ذلك ، حيث أنّها ليست من المكيل ولا الموزون ، فلا يدخل فيها الربا ، وليست معرّفا وأمارة على مقدار من الذهب المسكوك أو الفضّة المسكوكة ، وإن كانت في بعض الأزمنة السابقة كذلك - بل هي بنفسها تكون أموالا بواسطة اعتبارها من الذين بيدهم الاعتبار - فلا يجرى عليها أحكام النقدين من لزوم القبض في المجلس إذا وقعت المعاملة بينها بعضها ببعض ، ولا زكاة فيها ، ولا يدخل فيها الربا.

المسألة الثامنة : إذا لم يكن الشي ء من المكيل ولا من الموزون ، فيجوز أن يبيع شاة بشاتين ، أو يبيع شاة ليس في بطنها شي ء بالشاة التي حامل وفي بطنها شي ء ، أو الشاة التي في ضرعها حليب بالتي ليس في ضرعها حليب ، كما أنّه يجوز بيعها بنفس الحليب ، والبعير بالبعيرين ، والثوب بالثوبين وإن كانا من جنس واحد.

وكذلك يجوز بيع دجاجة فيها بيضة بدجاجة كذلك أو خالية عنها ، كما يجوز بيعها بنفس البيضة ، ويجوز بيع نخلة فيها ثمرة بالتي ليست فيها ثمرة ، وأيضا بنفس الثمرة ، وكتاب بكتابين ، وفرش بفرشين ، وجميع ما ذكرناه وما لم نذكره من هذا القبيل من بيع واحد باثنين أو أكثر لا مانع فيه ؛ من أجل عدم كونه مكيلا أو موزونا كي يدخل فيه الربا.

المسألة التاسعة : لو كان جنس بعضه جيّد وبعضه ردي ء ، مثلا كان وزنة من الأرز نصفه من العنبر الغالي قيمته وهو لشخص ، ونصفه الآخر من صنف آخر رخيص ، وكان هذا النصف لشخص آخر ، فالمالكان باعا المجموع بوزنة من النصف

ص: 148

الجيّد ، فإن تبانيا على أن يكون عوض مالهما لكلّ واحد منهما بمقدار نفس ماله فلا إشكال ؛ إذ لا يكون رباء في البين. وأمّا لو تبانيا على أن يكون عوض مالهما لكلّ منهما بنسبة قيمة ماله إلى الثمن ، كما لو تباينا على أن يكون ثلثي الثمن لمالك النصف الجيّد ، والثلث الباقي لمالك النصف الرديّ فالمعاملة باطلة قطعا ؛ لكونها رباء.

وأمّا لو أطلقا ولم يكن تبان بينهما ، فربما يتولّد إشكال في البين ، وهو أنّ كلّ واحد من المالكين للمبيع يملك من الثمن بنسبة قيمة ماله ، لا بنسبة مقداره وكمّه ، فإذا كان قيمة النصف الجيّد ضعف قيمة النصف الرديّ ، فيملك مالك النصف الجيّد ثلثي الثمن ، ومالك النصف الرديّ ثلثا من تلك الوزنة التي هي ثمن للنصفين ، فتكون المعاملة باطلة ؛ لكونها رباء ، فيكون الإطلاق كالتصريح بأن يكون ثلثي الثمن لمالك النصف الجيّد الذي قلنا فيه ببطلان المعاملة ، لكونها رباء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ ظاهر بيع مجموع النصفين بالوزنة الجيّدة هو اشتراكهما في الثمن بالسويّة من حيث المقدار ، وبعبارة أخرى : حيث أنّ كلّ واحد منهما مالك لنصف المبيع ، فبواسطة البيع يصير مالكا لنصف الثمن.

ولكن فيه : أنّه لو فرضنا أنّ الثمن في نفس المفروض ليس من جنس المثمن ، فبناء المعاملات على أنّ كلّ واحد من المالكين لنصف مقدار المبيع يملك من الثمن بنسبة قيمة ما يملكه من المبيع ، لا بنسبة مقداره ؛ ولذلك ترى في باب تبعّض الصفقة لو باع شخص وزنتين من الحنطة إحداهما جيّدة وأخرى رديئة - وفرضنا أنّ قيمة الجيّدة ضعف الرديئة - بستّة دنانير ، فظهر أنّ الجيّدة ملك لغير البائع ، ولم يجز المعاملة صاحب الجيّدة ، فلا يملك مالك الرديئة إلاّ دينارين من الثمن ، ويستردّ الأربعة منه إنّ كان قبض الكلّ.

فالإنصاف : أنّ المعاملة المفروضة في هذه المسألة في صورة الإطلاق كالصورة التي يصرح مالك الجيّدة بأن يكون له من الثمن أزيد من النصف باطلة ؛ لكونها رباء ،

ص: 149

وذلك لأجل أنّ المعاملة في المفروض وفي أمثاله وفي باب تبعّض الصفقة تنحلّ إلى معاملتين ، وفي كلّ واحد منهما المبيع غير المبيع في الآخر ، فلكلّ واحد منهما من الثمن ما يقابل قيمته لا كمّيته.

هذا كلّه فيما إذا لم يحصل الاشتراك في المبيع بين النصفين بواسطة الاختلاط أو الامتزاج ، وإلاّ فإذا حصل الاشتراك في المبيع قبل البيع بواسطة الاختلاط ، فبناء على ما هو الصحيح من كون الاشتراك بنسبة ماليّة المختلفين لا بنسبة كمّيهما ، فلا يبقى إشكال في البين ، ولا يأتي الربا في البيع المذكور ؛ لأنّه بناء على هذا مالك النصف الجيّد من المبيع يملك ثلثي المبيع بواسطة اختلاط ماله الجيّد مع المال الرديّ الذي لشريكه ، فكون ثلثي الثمن له في المفروض يكون على القاعدة.

نعم يأتي كلام في نفس الاشتراك بنسبة ماليّة ماليهما لا كمّيهما ، وأنّه بناء على على أن يكون الاشتراك معاوضة ، وبناء على إتيان الربا في جميع المعاوضات حتّى المعاوضات القهريّة ، فيكون للاشتراك بالنحو المذكور ربا مردوعا من قبل الشارع ، فلا بدّ من القول بعدم كون نتيجة الاشتراك بين المالين الجيّد والرديّ إذا كانا من جنس واحد أو إذا كانا في حكم جنس واحد هو الاشتراك بنسبة ماليّة المالين وقيمتهما.

وعلى كلّ حال محلّ هذا البحث ليس هاهنا ، وموكول إلى كتاب الشركة.

المسألة العاشرة : الظاهر أنّ المعاملة الربويّة حرام وفاسدة بتمامها ، فلا يملك البائع - مثلا - شيئا من الثمن ، ولا المشتري شيئا من الثمن ؛ لا أنّ الحرمة أو الفساد مخصوص بالمقدار الزائد على أحد العوضين.

وذلك لوجوه :

الأوّل : أنّ ظاهر قوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) تقسيم المعاملات على قسمين في متّحدي الجنسين : أحدهما أن لا تكون لأحد العوضين زيادة على

ص: 150


1- البقرة (2) : 275.

الآخر وهو حلال وصحيح ، الثاني أن تكون المعاملة مشتملة على زيادة في أحدهما جزءا أو شرطا وهو حرام وباطل. ومعلوم أنّ المعاملة إذا كانت فاسدة فلا ينتقل شي ء من العوضين إلى صاحب العوض الآخر ، بل يبقى كلّ واحد منهما بتمامه في ملك من كان له قبل وقوع هذه المعاملة الفاسدة. وهكذا فسّر الآية الشريفة في مجمع البيان وقال : أي أحلّ اللّه البيع الذي لا رباء فيه ، وحرّم البيع الذي فيه الربا (1).

الثاني : ما قرّرنا وأثبتنا في إحدى قواعد هذا الكتاب أنّ العقود تابعة للقصود ، إذ لا شكّ في أنّ المتعاملين قصدا انتقال العوض المشتمل على الزيادة جزءا أو شرطا إلى الطرف المقابل بعوض ما ينتقل منه إليه ، فلو قيل : إنّ ما انتقل اليه هو العوض بدون تلك الزيادة ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، ويخالف هذا تبعيّة العقود للقصود.

ولا يأتي ها هنا ما يقال في باب تبعّض الصّفقة ، من جهة أنّه هناك يمكن القول - بل لا بدّ منه - بأنّ العقد الواحد ينحلّ إلى عقدين كلاهما مقصودان ، غاية الأمر أنّ شرائط الصحة في أحدهما موجودة دون الآخر ، وأمّا في المقام القول بالانحلال لا معنى له ؛ إذ ليس في مقابل الزيادة شي ء كي يقال إنّه عقد آخر.

الثالث : الأخبار ، فإنّ ظاهرها بطلان المعاملة الربويّة وفسادها ، لا عدم انتقال الزائد فقط إلى صاحب العوض الآخر.

منها : قوله علیه السلام : « لا يصلح التمر اليابس بالرطب ، من أجل أنّ التمر يابس والرطب رطب ، فإذا يبس نقص » (2).

وقوله علیه السلام وقد سئل عن العنب بالزبيب؟ قال : « لا يصلح إلاّ مثلا بمثل ». (3)

ص: 151


1- « مجمع البيان » ج 1 ، ص 389.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 189 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 12 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 94 ، ح 398 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 4 ؛ « الاستبصار » ج 3. ص 93 ، ح 314 ، باب بيع الرطب بالتمر ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 445 ، أبواب الربا ، باب 14 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 190 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 16 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 97 ، ح 417 ، بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 1 ؛ «الاستبصار» ج 3. ص92 ، ح 313 ، باب بيع الرطب بالتمر ، ح 1 «وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 445 ، أبواب الربا،باب 14 ح 3.

وبهذا المضمون أخبار كثيرة ، ولا شكّ أنّ ظاهر هذه الأخبار بطلان المعاملة المشتملة على تلك الزيادة للنقص الحاصل فيما بعد.

ومنها : ما قاله الصادق علیه السلام في رواية سيف التّمار : « إنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام كان يكره أن يستبدل وسقا من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر ، لأنّ تمر المدينة أدونهما ولم يكن عليّ يكره الحلال » (1).

ومعلوم أنّ ظاهر هذه الرواية أنّ نفس المعاملة ليست بحلال وفاسد ، لا الزيادة فقط.

ومنها : رواية سعد بن طريف عن أبي جعفر علیه السلام قال علیه السلام : « أخبث المكاسب كسب الربا » (2).

فجعل علیه السلام المعاملة المشتملة على الزيادة من أخبث المكاسب ، ومعلوم أنّ خبث الكسب ظاهر في فساده وحرمته ، أي نفس المعاملة لا خصوص الزيادة.

ومنها : قوله علیه السلام في رواية حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « الزائد والمستزيد في النار » (3).

وظاهر هذا الكلام أنّ كون الزائد والمستزيد - أي المتعاملين في النار يكون لأجل معاملتهم ، فتكون تكوّن المعاملة التي تكون سببا لدخول النار حراما وفاسدا.

وهناك روايات أخر كثيرة لا يشكّ المتأمّل فيها في دلالتها على حرمة المعاملة

ص: 152


1- « الكافي » ج 5 ، ص 188 ، باب المعاوضة في الطعام ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 447 ، أبواب الربا ، باب 15 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 147 ، باب الربا ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 423 ، أبواب الربا ، باب 1 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 98 ، ح 419 ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح 25 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 456 ، أبواب الصرف ، باب 1 ، ح 1.

الربويّة لا الزيادة فقط ، وبناء على هذا يكون أصل المعاملة فاسدة ، ويكون ما يقبضه البائع فيها من الثمن ، وكذلك المشتري من المثمن من قبيل المقبوض بالعقد الفاسد ، فيجب ردّه إلى مالكه مع بقائه ، ومع تلفه يضمن القابض. نعم مع علم المعطي بفساد المعاملة يمكن أن يقال هو الذي أقدم على إتلاف ماله وهتك احترامه ، فلا يضمن القابض.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا في وجوب ردّ ما قبض في المعاملة الربويّة هو فيما إذا كان القابض عالما بالحكم والموضوع ، وأمّا إذا كان جاهلا بهما أو بأحدهما فسيأتي الكلام فيها.

ولا فرق فيما ذكرنا من بطلان المعاملة الربويّة بين أن تكون الزيادة جزء أو شرطا.

وما توهّم من أنّها لو كانت شرطا فيكون البطلان مبتنيا على أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد ، وأمّا إذا لم نقل بأنّ الشرط الفاسد مفسد فلا وجه للقول ببطلان المعاملة.

لا أساس له ، أمّا لو كان مدرك البطلان هي الآية أو الأخبار ، فقد تقدّم أنّ مفادهما هو بطلان البيع الربوي أو مطلق المعاوضات الربويّة ، سواء كان منشأ كونها ربويّة هو زيادة الجزء أو الشرط.

وأمّا لو كان المنشأ هو قاعدة تبعيّة العقود للقصود ، فلا شكّ أنّ قصد المتعاملين متعلّق بالمبادلة بين العوضين أي متّحدي الجنسين مشروطا بذلك الشرط. وبعبارة أخرى : المبادلة بين العوضين مع الشرط من قبيل بشرط شي ء ، فالمبادلة بين نفس العوضين ليس مقصودا أصلا ؛ لأنّ النسبة بين العوضين من دون الشرط وبينهما مع الشرط نسبة المتباينين ؛ إذ هي من قبيل نسبة بشرط لا إلى بشرط شي ء ، وهما متباينان.

ولا يقاس ما نحن فيه بمسألة خيار تخلّف الشرط ؛ لأنّه هناك المبيع شخص خارجي قصد نقله إلى المشتري غاية ، إلاّ أنّه التزم بكونه متّصفا بصفة كذا ، وهذا

ص: 153

التزام آخر غير قصد كونه مبيعا ومنقولا إلى الغير ، فتخلّف الشرط أو الوصف هناك لا يوجب عدم قصد نقل ذلك الموجود الخارجي.

نعم لو كان المبيع أمرا كليّا موصوفا بوصف ، فذات ذلك الكلّي ليس مقصودا ووصفه مقصودا آخر. وبعبارة أخرى : ليس من قبيل الالتزام في الالتزام ، فلو تعذّر الوصف يمكن القول بعدم إتيان خيار تخلّف الوصف أو الشرط ، بل تنفسخ المعاملة ويكون من قبيل تعذّر نفس المبيع.

فبناء على هذا في صورة كون الزيادة شرطا ، يمكن أن يقال بأنّ ما قصد لم يقع للمنع الشرعي ، وما وقع - أي انتقال العوضين بدون الشرط - لم يكن مقصودا.

والفرق بين المقام وبين مورد خيار تخلّف الوصف والشرط ، هو أنّه حيث أنّ المعاملة وقعت هناك على العين الشخصيّة ، فالقصد تعلّق بنقلها على كلّ حال ، أي سواء وجد الوصف أو الشرط أو لم يوجد ؛ لأنّ العين الخارجيّة لا تتغيّر عمّا هي عليه بوجود الوصف والشرط وعدم وجودهما. وأمّا في المقام فالقصد تعلّق بمبادلة شي ء بمقداره من جنسه مشروطا بشرط ، فإذا لم يوجد الشرط فما هو المقصود لم يقع.

نعم ها هنا أيضا لو وقعت المعاوضة بين العينين الشخصيّتين المتّحدتين في الجنس والمقدار ، وكانت المعاوضة مشروطة بشرط غير جائز شرعا ولو من جهة كونه رباء ، فبطلان مثل هذه المعاملة لا بدّ وأن يكون مستندا إلى دليل آخر غير تبعية العقود للقصود ، وهو كما تقدّم الآية والأخبار.

المسألة الحادية عشر : في أنّه بعد الفراغ عن بطلان المعاملة الربوية وفسادها ، هل هو فيما إذا ارتكب متعمّدا مع العلم بالحكم والموضوع ، أم لا بل يكون مطلقا باطلا ، وإن كان جاهلا بالحكم أو الموضوع ، بل وبهما؟

والفرق بين القولين واضح ،

ففي الصورة الأولى لو أخذ الربا جهلا بالحكم أو الموضوع أو بكليهما ، فيكون

ص: 154

الزائد ما له ولا يجب ردّه بالخصوص أو جميع العوض المأخوذ إلى صاحبه ؛ لعدم علمه بأنّه رباء أو أنّه حرام وإن كان يعلم بأنّه رباء.

وهذا بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه يجب عليه الردّ مطلقا ، وإن كان جاهلا بأحدهما أو بكليهما.

وفي المسألة أقوال :

قول بعدم وجوب الردّ مطلقا أي سواء كان جاهلا بالحكم أو الموضوع أو بهما ، فلا يجب ردّ الزائد أو الجميع مطلقا وفي جميع الصور التي للجهل.

وهذا القول منقول عن الصدوق والشيخ (1) والشهيد (2) والأردبيلي (3) والحدائق (4) والرياض.

وقول بوجوب الردّ وبطلان المعاملة مطلقا ، وأنّه لا فرق بين صور الجهل حكما أو موضوعا مع العلم ، فحال الجاهل حال العالم.

وقول بالتفصيل بين كون ما أخذ رباء موجودا ومعلوما ، وصاحبه الذي أخذ منه أيضا كذلك موجودا ومعروفا ، وبين ما لا يكون كذلك بأن يكون ما أخذه رباء تالفا إن كان مخلوطا أو ممتزجا غير معلوم ، أو كان صاحبه الذي أخذ منه غير موجود أو غير معروف ومعلوم ، فيجب الردّ في الأوّل ، ولا يجب في الثاني.

والقول الأوّل أي عدم وجوب الردّ مطلقا إمّا لصحّة المعاملة الربويّة حال الجهل بالحكم أو الموضوع أو الجهل بكليهما ، كما هو ظاهر كلام القائلين بهذا القول ؛ وإمّا تعبدا للآية والرواية مع بطلان المعاملة وفسادها. وذهب إلى هذا القول صاحب

ص: 155


1- « النهاية » ص 376.
2- « الدروس » ج 3 ، ص 299.
3- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 8 ، ص 489.
4- « الحدائق الناضرة » ج 20 ، ص 220.

الحدائق (1) ، وهو عجيب.

وحكى احتمال التفصيل بين الجاهل بالحكم والجاهل بالموضوع ، وأيضا بين الجاهل بأصل الحكم وبين الجاهل بالخصوصيّات.

والأقوى من هذه الأقوال هو التفصيل بين ما كان المأخوذ رباء معزولا موجودا يعرفه من دون خلطه أو امتزاجه بسائر أمواله ، خصوصا إذا كان صاحبه موجودا ويعرفه ، فيجب ردّه عليه ، وبين ما ليس كذلك ، فلا يجب ردّه وحلال أكله.

ومدرك هذا التفصيل هو صحيح الحلبي وما رواه أبو الرّبيع الشامي ، وإلاّ فمقتضى القواعد الأوّلية وأدلّة حرمة الربا وبطلان المعاملة الربويّة وجوب ردّ جميع ما أخذه عوض ماله في المعاملة الربويّة ؛ لأنّه مقبوض بالعقد الباطل الفاسد ، ولم ينتقل إليه شي ء بذلك العقد.

فيده على ما قبض يد عادية يجب ردّه إلى مالكه إنّ لم يكن تالفا وكان موجودا وان تلف فهو ضامن ؛ لأنّ يده يد ضمان ، إلاّ أن يكون هو أقدم على إتلافه وهتك احترام ماله بواسطة علمه بالفساد. وإن لم يعرف المالك يكون من قبيل مجهول المالك ، يجب التصدّق عنه بإذن الحاكم.

وخلاصة الكلام : أنّ ما قبضه من الطرف في المعاملة الربويّة يكون من المقبوض بالعقد الفاسد ، وهو يجري مجرى الغصب ، فيكون القابض ضامنا. وادّعى الشيخ وفقيه عصره كاشف الغطاء - قدس سرّهما - الإجماع على ضمان القابض (2) وقال ابن إدريس : إنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب في الضمان (3).

هذا حسب القواعد ، وأمّا مقتضى الروايات الواردة في الباب هو التفصيل الذي

ص: 156


1- « الحدائق الناضرة » ج 20 ، ص 220.
2- « المكاسب » ص 101.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 326.

ذكرناه.

منها : ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل يأكل الربا وهو يرى أنّه له حلال؟ قال : « لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّدا ، فإذا أصابه فهو بالمنزل الذي قال اللّه عزّ وجل » (1).

ومنها : ما رواه الوشاء عن أبي المغراء قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثمَّ تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة. وقال : لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أنّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغير حلال كان حلالا طيبا فليأكله ، وإن عرف منه شيئا أنّه ربا فليأخذ رأس ماله وليردّ الربا ، وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الربا ، فجهل ذلك ثمَّ عرفه بعد ، فأراد أن ينزعه فما مضى فله ويدعه فيما يستأنف » (2).

ومنها : ما عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : أتى رجل أبي فقال : إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد عرف أنّ فيه ربا واستيقن ذلك وليس يطلب لي حلاله لحال علمي فيه ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا :

لا يحلّ أكله؟

فقال أبو جعفر علیه السلام : « إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطا فكله هنيئا فإنّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد وضع ما مضى من الربا وحرّم عليهم ما بقي ، فمن جهل وسع له جهله حتّى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه حرّم عليه ووجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب على من يأكل الربا » (3).

ص: 157


1- « الكافي » ج 5 ، ص 144 ، باب الربا ، ج 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 430 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 145 ، باب الربا ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 431 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 145 ، باب الربا ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 120 ، ص 431 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 3.

ومنها : ما رواه أبو الرّبيع الشامي قال سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أربى بجهالة ثمَّ أراد أن يتركه؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « أمّا ما مضى فله ، فليتركه فيما يستقبل. ثمَّ قال : إنّ رجلا أتى أبا جعفر صلی اللّه علیه و آله فقال : إنّي ورثت مالا » وذكر الحديث نحوه (1).

ومنها : ما رواه محمّد بن مسلم قال : دخل رجل على أبي جعفر علیه السلام من أهل خراسان قد عمل الربا حتّى كثر ماله ، ثمَّ إنّه سأل الفقهاء فقالوا : ليس يقبل منك شي ء إلاّ أن تردّه إلى أصحابه ، فجاء إلى أبي جعفر علیه السلام فقصّ عليه قصّته ، فقال له أبو جعفر علیه السلام : « مخرجك من كتاب اللّه ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ) (2) والموعظة التوبة » (3).

ومنها : ما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إنّ الوليد ابن المغيرة كان يربي في الجاهليّة وقد بقي له بقايا على ثقيف وأراد خالد بن الوليد المطالبة بعد أن أسلم فنزلت ( اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الآيات » (4).

ومنها : ما رواه عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى علیه السلام قال : سألته عن رجل أكل ربا لا يرى إلاّ أنّه حلال؟ قال علیه السلام : « لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّدا فهو ربا » (5).

ومنها : ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن أبيه قال : إنّ رجلا أربى دهرا من الدّهر فخرج قاصدا أبا جعفر الجواد علیه السلام فقال له : « مخرجك من كتاب اللّه يقول اللّه ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) والموعظة هي التوبة ، فجهله بتحريمه ثمَّ معرفته به. فما مضى فحلال وما بقي فليستحفظ » (6).

ص: 158


1- « الكافي » ج 5 ، ص 146 ، باب الربا ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 432 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 4.
2- البقرة (2) : 275.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 15 ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح 68 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 430 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 1.
4- « مجمع البيان » ج 1 ، ص 392 ، والآية في سورة البقرة (2) : 278.
5- « مسائل علي بن جعفر » ص 147 ، ح 180 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 433 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 9.
6- « نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى » ص 161 ، ح 413 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 433 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 10.

وأيضا : عن أبيه قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن ، ومن أكله جاهلا بتحريمه [ بتحريم اللّه ] لم يكن عليه شي ء » (1).

وبعد التأمّل في هذه الأخبار وردّ بعضها إلى بعض تكون ظاهرة فيما اخترنا من التفصيل.

بيان ذلك : إنّ بعض هذه الروايات وإن كانت تدلّ على العفو عمّا مضى وعدم وجوب غرامته عليه بعد التوبة مطلقا أو فيما إذا كان المرتكب حين ارتكابه جاهلا بتحريمه ، سواء كانت عين المال الربوي موجودة أو ليست بموجودة وكانت تالفة ، وسواء كان مشخصا معزولا أو كان مشاعا مخلوطا.

ولكن قوله علیه السلام في صحيحة الحلبي « إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطا فكله هنيئا فإنّ المال مالك » يقيّد المطلقات بما إذا كان المال الربوي موجودا معروفا معزولا وتعرف صاحبه ، ففي هذه الصورة ليس مشمولا لحكم المطلقات من حلّية أكله وعدم ضمان عليه ، بل يجب ردّه إلى صاحبه.

وهكذا في رواية أبي الربيع الشامي ، لأنّ سياقها عين سياق صحيحة الحلبي ؛ لأنّ فيها أيضا : « إن كنت تعرف شيئا معزولا وتعرف أهله وتعرف أنّه ربا فخذ رأس مالك ودع ما سواه » إلى آخر الحديث.

والحاصل : أنّ صحيحة الحلبي المنقولة بطرق متعدّدة فرّق بين كون المال الربوي معروفا معزولا ، وبين كونه مشاعا ومخلوطا ، ففي الأوّل حكم بوجوب الرّد وإن كان المرتكب حال ارتكابه جاهلا بالحكم أو الموضوع ، وفي الثاني حكم بجواز أكله وعدم

ص: 159


1- « نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى » ص 162 ، ح 414 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 433 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 11.

وجوب ردّه ، بل هناك قيد آخر ، وهو أن يعرف أهله أي من أخذ منه الربا ، أي صاحب الزيادة ومالكه. وكذلك الكلام في رواية أبي الربيع الشامي ، ولا وجه لما ذكروه من حمل الأمر على الاستحباب.

ولا شكّ في أنّ قوله علیه السلام - فيما إذا كانت عين الزيادة معلومة مشخّصة معزولة مع أنّها ملك الغير يقينا - « خذ رأس مالك ودع ما سواء » لا مجال لحمله على الاستحباب ؛ إذ وجوب ردّ المال المعيّن المشخّص للغير مع معلوميّة ذلك الغير أمر عقلي ، فمع كون الأمر من طرف الشارع بردّه والقول بكون الأمر ظاهرا في الوجوب حمل الأمر على الاستحباب لا يخلو من غرابة.

فالأقوى هو التفصيل الذي ذكرناه ، بل الأحوط معاملة مجهول المالك معه إذا لم يعرف صاحبه ، خصوصا إذا كان المال معلوما ومعزولا ولا يكون مختلطا ومشاعا.

هذا مفاد الأخبار في المقام.

وأمّا الآية أي قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (1).

فمع قطع النظر عن استشهاد الإمام علیه السلام بها وتطبيقها على موارد مذكورة في الروايات المتقدّمة ، ففيها احتمالات :

الأوّل : لو تاب المرتكب للربا عنه بعد ارتكابه مدّة من الزمن ، سواء كان عالما بتحريمه أم لا ، ثمَّ عرف فتاب بناء على أن تكون الموعظة بمعنى التوبة كما أنّها فسر بها في بعض الأخبار (2) فله ما سلف ، أي الأموال التي أخذها رباء قبل أن يتوب يكون له وحلال له ولا يجب ردّه إلى صاحبه ، وإن كان المال معلوما معزولا وصاحبه الذي

ص: 160


1- البقرة (2) : 275.
2- « مجمع البيان » ج 1 ، ص 392 ؛ « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 152 ، ح 156 ؛ « مسائل على بن جعفر » ص 147 ، ح 180 ؛ « نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى » ص 161 ، ح 413 و 414 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 433 ، أبواب الربا ، باب 5 ، ح 7 ، 10 و 12.

أخذ منه معروفا غير مجهول.

ولكن هذا المعنى والاحتمال مردود إجماعا ومخالف لقوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (1).

الثاني : أن يكون المراد من الموعظة التحريم والنهي من قبل الشارع ، فيكون معنى الآية أنّه لو ارتكب المعاملات الربويّة وأخذ الربا قبل ورود النهي وقبل مجي ء التحريم ، فلما ورد النهي من ربّه انتهى فله ما أخذ قبلا ، ولا يجب ردّ ما أخذ قبلا قبل ورود النهي والتحريم.

قال في مجمع البيان في تفسير هذه الجملة من الآية : فله ما أخذ وأكل من الربا قبل النهي لا يلزمه ردّه ، ثمَّ قال : « قال الباقر علیه السلام : من أدرك الإسلام وتاب ممّا كان عمله في الجاهليّة وضع اللّه عنه ما سلف » (2).

وبناء على هذين المعنيين لا ربط للآية بمحلّ كلامنا ؛ لأنّ محلّ كلامنا هو أنّه لو ارتكب الرباء جهلا بالحكم أو الموضوع بعد ورود النهي عن قبل الشارع ، فبعد ما التفت إلى أنّ في ماله ربا محرّم هل يجب ردّه إلى مالكه أم لا ، وهذا لا ربط له بأحد المعنيين.

نعم الآية بحسب الظاهر الأوّلي ظاهر في المعنى الأوّل ، ولكن لا بدّ من التصرّف فيه لمناقضته مع قوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) وبحسب شأن النزول والمورد في الآية التي بعدها يكون ظاهرا في المعنى الثاني ، وذلك من جهة أنّه روي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام : « أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية وقد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية ».

ص: 161


1- البقرة (2) : 279.
2- « مجمع البيان » ج 1 ، ص 390.

الثالث : أن يكون المراد منه أنّ الذي ارتكب الربا جهلا بالحكم أو الموضوع ثمَّ التفت إلى النهي فله ما سلف ، ولا يجب ردّ ما ليس بمعزول ولا معلوم أنّه ربا ، بل كان مخلوطا ومشاعا ، فيكون له حلال ويجوز أكله.

وهذا المعنى متعيّن لهذه الآية ؛ لاستشهاد الإمام علیه السلام بهذه الآية لحلّية أكل الربا المتقدّم الذي ارتكبه جهلا بالحكم أو الموضوع في الروايات المتعدّدة ، حيث قال علیه السلام : « مخرجك من كتاب اللّه » ثمَّ تلا هذه الآية.

ولا يرد على هذا المعنى ما أشكلنا على المعنى الأوّل من المناقضة مع قوله تعالى : ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) وذلك من جهة أنّ هذه الآية في مورد الجهل حكما أو موضوعا ، وأمّا قوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) في صورة التعمّد والعلم بالحكم والموضوع.

وخلاصة القول : أنّ هذه الآية - بضميمة استشهاد الإمام علیه السلام بها على حلّية أكل الربا فيما إذا كان ارتكابه في حال الجهل به حكما أو موضوعا فيما إذا لم يكن المأخوذ رباء معلوما ومعزولا ، بل كان مختلطا ومشاعا ، خصوصا إذا لم يعرف أهله ، أي صاحب تلك الزيادة - تدلّ على التفصيل الذي اخترناه ، فالآية الشريفة كالأخبار المتقدّمة دليل على هذا القول.

المسألة الثانية عشر : إذا تعاملا بين شيئين رطبين متّحدي الجنس ، كالعنب بالعنب ، أو الرطب بالرطب - مثلا - وكانت المعاملة صادرة من الفضول ، فأجاز الأصيل بعد مدّة يبس أحد العوضين ونقص عن وزن ما يقابله إن كانا من الموزون ، أو عن كيله إن كانا من المكيل ، فهل مثل هذه المعاملة صحيحة أو فاسدة؟

لا يبعد ابتناء المسألة على الكشف الحقيقي والنقل ، فإن قلنا بالأوّل فالمعاملة صحيحة ، وإن قلنا بالنقل تكون فاسدة ؛ لكونها من الربا المحرّم ، وأمّا الكشف الحكمي فلا أثر له في هذا المقام ؛ لأنّه في الحقيقة نقل لا كشف.

ص: 162

المسألة الثالثة عشر : إذا أراد الشريكان أو الشركاء تقسيم المال المشترك بينهما أو بينهم بحيث يكون نصيب كلّ واحد منهم من جنس نصيب الآخر ، وكان المال المشترك ممّا يكال أو يوزن ، وبعبارة أخرى : كان المال المشترك أبعاضه ربويّا ، أي واجدا لشرائط ثبوت الربا بحيث لو وقعت المعاملة والمعاوضة على تلك الأبعاض يجب أن يكون العوضان مثلا بمثل ، متساويين في المقدار ، فهل القسمة أيضا معاملة ومعاوضة كي يراعى فيها عدم ثبوت الربا ، أم لا؟ بل صرف تمييز حقّ بمعنى أنّ الحقّ بمقتضى الشركة مشاع ، إمّا نصف أو ثلث أو ربع أو غيرها من الكسور حسب كثرة الشركاء أو قلّتهم ، أو كثرة نصيب الشريك أو قلّته.

وعلى كلّ حال فبناء على الأوّل لا بدّ وأن تكون القسمة بالكيل أو الوزن كي لا يقع التفاضل بين حقّه وبين ما يأخذه بعنوان أنّه نصيبه ، ولا يجوز بالخرص والتخمين.

فلو كان الشريكان لكلّ واحد منهما النصف ، فإن كان من المكيل يجب أن يكال المال بكيلين متساويين ، وإن كان من الموزون يجب أن يوزن القسمان بوزنين متساويين لكي لا يزيد أحدهما على الآخر ، فيكون رباء محرّما.

وأمّا بناء على الثاني ، فحيث لا معاوضة ولا معاملة فلا رباء في البين ، فلا مانع من أن تكون السهام متفاوتة في المقدار ، وأن يكون أحدهما أزيد من الآخر ، فيما إذا كان لكلّ واحد من الشريكين النصف.

وهكذا الأمر لو كان الشركاء متعدّدا وكانوا أزيد من اثنين ، فسهم صاحب كلّ كسر لا مانع من أن يكون أزيد من ذلك الكسر أو أقلّ إذا كان التقسيم بوجه مشروع ، وأيضا لا مانع من أن يكون سهم أحدهما الرطب من ذلك الجنس المشترك مثل أنّ يكون رطبا أو عنبا ، وسهم الآخر اليابس منه مثل أن يكون تمرا أو زبيبا ، وإن كانا ينقصان إذا جفّا.

كلّ ذلك لأنّه بناء على هذا لا رباء في البين كي لا يجوز أمثال تلك المذكورات.

ص: 163

وما ذكرنا كان أثر كلّ واحد من التقديرين ، وأمّا في مقام الإثبات وأنّ أيّ واحد منهما هو الحقّ ، فيحتاج إلى شرح وبيان.

وخلاصة الكلام فيه هو أنّ مبنى هذه المسألة - أي كون القسمة إفراز حقّ وتمييزه ، أو معاوضة ومعاملة بين الشريكين أو الشّركاء - هو تحقيق معنى الشركة وبيان حقيقتها ، فنقول :

أمّا مفهوم الشركة ، فهو من المفاهيم الواضحة عند العرف ؛ ولذلك تعريفه يكون لفظيّا ربّما يكون هو أوضح من التعاريف التي عرّفوها بها.

فالعمدة هو بيان أنّ متعلّق حقّ الشركاء أيّ شي ء هو؟

وفي هذا المقام ذكروا وجوها :

الأوّل : هو أنّ كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء يملك كسرا مشاعا من المال المشترك ، كالنصف ، أو الثلث ، أو الربع ، وهكذا باقي الكسور ، ففي الحقيقة كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء مالك لعنوان كلّي قابل للانطباق على أفراد ومصاديق متعدّدة ، وكلّ واحد من تلك الأفراد مصداق حقيقي وفرد واقعي لذلك المفهوم الكلي.

فبناء على هذا حقيقة القسمة عبارة عن تطبيق ذلك الكلّي المملوك على مصداقه ، فتمام ذلك الفرد عين مملوكه وليس شي ء فيه لشريكه كي يقال بأنّه معاوضة ومعاملة مع شريكه بمعنى انتقال أجزاء من مال شريكه إليه بعوض ما ينتقل من ماله إلى شريكه ، بل بالقسمة يتعيّن ماله ويتميّز عن مال شريكه ، ويخرج عن الإشاعة.

وهذا هو المتّفق عليه بين أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ، بخلاف ما ذهب إليه الجمهور من أنّ القسمة مستلزمة للمبادلة والمعاوضة بين ماليهما ، كما أنّه لو حصلت الشركة بين ماليهما بواسطة الخلط ، كما في خلط الحنطة بالحنطة ، أو الشعير بالشعير ، أو في غيرهما ، أو بواسطة المزج كمزج لبن أحدهما بلبن الآخر ، أو الدهن المذاب لأحدهما بالدهن المذاب للآخر ، فبعد التقسيم لا محالة يوجد في كل

ص: 164

قسم مال الآخر ، فلا بدّ وأن نقول بالمعاوضة ، ولا يمكن أن يكون إفراز حقّ وتمييزه عن مال الآخر.

ولكن أنت خبير بأنّ في المثالين أو ما يشبههما يحصل الاشتراك في الرتبة السابقة على القسمة بنفس المزج أو الخلط ، فيكون لكلّ واحد منهما الكسر المشاع من النصف أو الثلث أو غيرهما ، فإذا كان مبادلة أو معاوضة فذلك في الرتبة السابقة على القسمة ، أي في نفس حصول الاشتراك.

الثاني : أن يكون مال كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء معلوما عند اللّه ، متميّزا في الواقع وفي مقام الثبوت ، ولكن في مقام الإثبات لا يعرف التميّز مثل موارد العلم الإجمالي ، فإنّ المعلوم بالإجمال معلوم ومتميّز عند اللّه وعند من يعرف الواقع ، ولكن غير معلوم عند الذي يعلم علما إجماليّا - مثلا - بنجاسة أحد الكأسين ، أو بزوجيّة إحدى المرأتين ، وهكذا في سائر موارد العلم الإجمالي.

ومرجع هذا الوجه هو أنّ الاشتراك في الحقيقة عبارة عن الالتباس والاشتباه في الظاهر ، ولازم هذا الوجه هو أن يكون التقسيم غالبا ملازما مع المبادلة والمعاوضة ، لبعد أن تردّ القسمة على نفس ماله بمعنى أن يكون سهمه دائما عين ما يملكه واقعا ، خصوصا في مورد المزج والخلط بل استحالته عادة.

فهذا الوجه يناسب ما ذهب إليه الجمهور في القسمة من أنّها مبادلة ومعاوضة.

ولكن خبير بأنّ أصل هذا المبنى باطل ، وأنّ الاشتباه والالتباس غير الاشتراك مفهوما ومصداقا ؛ لأنّه بناء على هذا المبنى ليس اشتراك في البين ، بل كلّ واحد منهما مالك لمال نفسه المتعيّن في الخارج ، غاية الأمر اشتبه بمال الآخر.

والإنصاف : أنّ القول بأنّ الاشتراك من هذا القبيل لا يخلو من غرابة ، وأمّا ما يتراءى في بادي النظر في مورد مزج المالين أو خلطهما ، بحيث لا يمكن فصلهما عرفا وعادة من كونه كذلك ، فقد بيّنّاه بأنّ المزج أو الخلط بتلك المثابة يكون سببا لحصول

ص: 165

الاشتراك بنحو الإشاعة ، وملكيّة كلّ واحد منهما أحد الكسور.

ولا شكّ في أنّ الكسر المشاع لا تعيّن ولا تميّز له في مقام الثبوت ، بل هو من قبيل الكليّ قابل للانطباق على الكثير ، وما لم ينطبق على الخارج لا تعيّن له ، نعم بعد الانطباق يتعيّن ويتميّز.

وحيث أنّ الخصوصيّة ليست ملكا للشريك أصلا ، كما إذا اشترى صاعا من صبرة بعنوانها الخاصّ ، بل يكون مالكا لإحدى الخصوصيتين أيضا بعنوان كلّي كما في باب الإرث ، فلا بدّ وأن يكون التطبيق إمّا برضائه الطرفين أو بحكم الشرع من قرعة أو غيرها.

وخلاصة الكلام : أنّ المفهوم من الشركة عرفا لا يلائم مع كونها من قبيل الالتباس وكونها متميّزا في الواقع وفي عالم الثبوت وغير معلوم في مقام الإثبات.

الثالث : أن يكون كلّ واحد من الشريكين إذا كانا اثنين مع التساوي في نصيبهما مالكا لنصف المال المشترك ، ولكن لا بنحو الكلّي ، بمعنى أن يكون مالكا لطبيعة النصف من ذلك المال ، فكلّ نصف فرض في ذلك المال يكون تمامه لكلّ واحد من الشريكين ، غاية الأمر على البدل لا في عرض مالكيّته لذلك النصف الآخر ، كي يلزم منه اجتماع مالكين في مال واحد ، وكذلك كي لا يلزم منه مالكيّة كلّ واحد منهما لتمام المال المشترك.

ومرجع هذا الوجه إلى أنّ كلّ جزء فرضته في ذلك المال يكون لكلّ واحد من الشريكين نصفه ، وحيث أنّ التحقيق عدم وجود الجزء الذي لا يتجزى واستحالته فكلّ جزء فرضته في ذلك المال قابل للقسمة إلى ما لا يتناهى ، ففي كلّ جزء يصحّ أن يقال نصفه لهذا الشريك ونصفه الآخر للآخر ، فهما شريكان في كلّ جزء من أجزاء ذلك المال المشترك ، وهذا المعنى هو المتفاهم العرفيّ من لفظ الشركة.

نعم لو قلنا بوجود الجزء الذي لا يتجزّى فيلزم من هذا الوجه محذور ، وهو

ص: 166

اجتماع مالكين على مال واحد ؛ لعدم إمكان أن يقال إنّ نصف هذا الجزء لهذا الشريك ونصفه الآخر للآخر ، لعدم تصوير النصف فيه.

فالذي يقول بإمكان الجزء الذي لا يتجزّى وأنّ كلّ جسم مركّب منه ، فلا بدّ له من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أنّ لكلّ جزء من تلك الأجزاء مالكين ، أو يلتزم بأنّ بعض تلك الأجزاء لأحدهما والبعض الآخر للآخر.

وحيث أنّ الثاني لا يلائم مع الإشاعة والشركة ؛ لأنّه بناء على الثاني مال كلّ واحد من الشريكين غير مال الآخر ، إلاّ أنّه غير متميّز خارجا ، فلا بدّ للقائل بالإشاعة والاشتراك من اختيار الوجه الأوّل ، وهو أن يكون لكلّ جزء مالكين ، وهو محال وباطل بالضرورة ، مضافا إلى أنّه لا يصدق عليه الشركة ولو التزم بذلك ؛ لأنّ مرجع هذا الوجه إلى أنّ تمام المال ملك لهذا الشريك وللآخر أيضا ، وهذا غير الشركة.

ولكن الذي يسهّل الخطب أنّ بطلان الجزء الذي لا يتجزّى في عصرنا هذا ينبغي أن يعدّ من البديهيّات.

ثمَّ إنّ الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل هو أنّه لو تلف مقدار من المال المشترك يكون التلف من كلّ واحد من الشريكين أو الشركاء ؛ وذلك لما قلنا من أنّ مرجع هذا الوجه إلى أنّه أيّ جزء فرضت في هذا المال يكون نصفه مثلا لهذا الشريك ، ونصفه الآخر للآخر ، وهكذا في سائر الكسور ، وفي سائر الفروض وإن كان الشركاء أزيد من اثنين ، فالتالف بعضه لهذا الشريك ، وبعضه الآخر للشريك الآخر أو الشركاء الآخرين ، فالتلف يكون من كيس جميع الشركاء.

ففي الحقيقة إذا قلنا إنّ نصف هذا المال لأحد الشريكين - مثلا - مرجعه إلى أنّ أنصاف جميع الأجزاء المفروضة فيه له ، فلو تلف جزء من تلك الأجزاء المفروضة فتلف نصف ذلك التالف من كلّ واحد منهما.

ص: 167

وأمّا في الأوّل فالنصف الكلّي لأحد الشريكين ، وكذلك النصف الآخر للآخر ، فلو تلف نصف هذا المال لا يبقى لأحد الكلّيين مصداق ، فلا بدّ وأن يعيّن التالفة بالقرعة ؛ وذلك من جهة أنّه في المفروض للمال المشترك نصفان : أحدهما النصف التالف ، وثانيهما النصف الباقي ، فيكون كلّ واحد من النصفين لأحد الشريكين بلا تعيين ، فلا مناص إلاّ التعيين بالقرعة التي عيّنها الشارع لكلّ أمر مشتبه.

وبعد ما عرفت ما ذكرنا تعلم أنّ الصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأخير ، أي الوجه الثالث ؛ إذ هو الذي يسلم عن النقوض والإشكالات ، وهو الذي يفهمه العرف من الشركة ، ومقتضاه كون القسمة إفراز الحقّ لا المعاوضة والمبادلة بين أموال الشركاء أو مالي الشريكين.

بيان ذلك : أنّ كلّ كسر من الكسور إذا أضيف إلى شي ء ، فيكون ما ينطبق عليه ذلك الكسر مصداقا حقيقيّا له ، مثلا إذا كان الكسر هو النصف مثلا ، فإذا أضيف إلى تمام المال ، فيكون كلّ نصف من أنصاف تمام ذلك المال مصداقا حقيقيّا لذلك الكسر ، وهكذا.

فإذا فرضنا أنّ هاهنا شريكين في مال ، فإذا قسمنا تمام ذلك المال نصفين ، فكلّ واحد من النصفين مصداق حقيقي لمفهوم ذلك الكسر المشاع الذي هو نصف المال ، وكذلك الأمر في جميع أجزاء ذلك المال إذا قسمناها بقسمين ، يكون كلّ قسم منها مصداقا حقيقيّا لذلك الكسر المشاع الذي يملكه كلّ واحد من الشريكين من ذلك المال.

ولا فرق فيما ذكرنا بين ورود التقسيم على الكلّ ، أو على أيّ جزء من أجزاء ذلك المال المشترك ، نعم كون هذا القسم بخصوصه لهذا الشريك والآخر للآخر يحتاج إلى معيّن من قرعة أو تراضيهما ، فليس في باب القسمة مبادلة ومعاوضة في البين ، كي

ص: 168

نتكلّم في أنّه إذا كان المال المشترك متّحد الجنس وكان من المكيل أو الموزون هل يأتي فيه الربا ، أم لا.

الجهة الثالثة : في موارد الاستثناء عن هذه القاعدة

اشارة

منها : بين الوالد وولده ، بمعنى أنّه يجوز أن يأخذ الفضل كلّ واحد منهما من الآخر ، وإن كان العوضان في المعاملة التي تقع بينهما متّحدي الجنس أو في حكمه ، وكانا من المكيل أو الموزون.

ومنها : بين المولى ومملوكه.

ومنها : بين الرجل وزوجته.

ومنها : بين المسلم والحربي ، بمعنى أنّه يجوز للسلم أن يأخذ الفضل من الحربي ، لا أن يعطيه ، وأمّا غير الحربي سواء كان ذميّا أو معاهدا ، ففيه كلام نتكلّم فيه إن شاء اللّه تعالى ، ونسب الخلاف في هذه المسألة إلى المرتضى (1) والأردبيلي (2) - قدس سرّهما - وقيل برجوع المرتضى عمّا قال ، وأنّه وافق المشهور.

وعلى كلّ حال المدرك في هذا الحكم هو الأخبار ، وأمّا الإجماعات المدّعاة من الأعاظم في هذا المقام فمخدوش صغرى وكبرى ؛ لما ذكرنا مرارا من أنّ الاتّفاق مع وجود الروايات ليس من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته ، وأمّا الصغرى فلوجود المخالف.

ص: 169


1- « الانتصار » ص 212 ؛ « رسائل الشريف المرتضى » جوابات الموصليّات الثانية ، ج 1 ، ص 182.
2- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 8 ، ص 489.

فالأولى أن نذكر أخبار الباب ونرى مفادها ومقدار دلالتها :

فمنها : رواية عمرو بن جميع ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : « ليس بين الرجل وولده ربا ، وليس بين السيّد وعبده ربا » (1).

وبهذا الإسناد قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا نأخذ منهم ألف ألف درهم بدرهم ، ونأخذ منهم ولا نعطيهم » (2) وروي هذه الرواية والتي قبلها بعدّة طرق في الجوامع العظام.

ومنها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بين أهله ربا ، إنّما الربا فيما بينك وبين ما تملك ». قلت : فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال : « نعم ». قلت : فإنّهم مماليك؟ فقال : « إنّك لست تملكهم ، إنّما تملكهم مع غيرك ، أنت وغيرك فيهم سواء ، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك ؛ لأنّ عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك » (3).

ومنها : ما رواه الصدوق مرسلا قال : قال الصادق علیه السلام : « ليس بين المسلم وبين الذمّي ربا ، ولا بين المرأة وبين زوجها ربا » (4).

ومنها : رواية عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر علیه السلام عن رجل أعطى عبده عشرة دراهم على أن يؤدّي العبد كلّ شهر عشرة دراهم ، أيحلّ ذلك؟ قال علیه السلام :

ص: 170


1- « الكافي » ج 5 ، ص 147 ، باب أنّه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا ، ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 277 ، باب الربا ، ح 4001 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 18 ، باب فضل التجارة ، ح 76 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 436 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 147 ، باب إنّه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا ، ح 2 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 277 ، باب الربا ، ح 4000 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 18 ، باب فضل التجارة ، ح 77 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 436 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 147 ، باب أنّه ليس بين الرجل وبين ولده وما يملكه ربا ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 436 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 3.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 278 ، باب الربا ، ح 4002 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 436 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 5.

« لا بأس » (1).

ومنها : ما في الفقه الرضوي علیه السلام : « ليس بين الوالد وولده ربا ، ولا بين الزوج والمرأة ، ولا بين المولى والعبد ، ولا بين المسلم والذّمي » (2).

وهذه الروايات وإن ضعّفها الأردبيلي (3) - وبعضها كذلك ، ولا يخلو من الضعف - ولكن حيث عمل بها الأصحاب قديما وحديثا ، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ما هو مضمونها ، حتّى أنّ صاحب الجواهر (4) يقول إجماعا محكيّا مستفيضا إن لم يكن متواترا صريحا ظاهرا ، بل يمكن تحصيله إذ لا خلاف فيه إلاّ من المرتضى (5). ثمَّ يقول : إنّه أيضا عدل عن خلافه ووافق الباقين من الأصحاب ، وينقل عبارته من الانتصار أنّه قال :

وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّه لا ربا بين الولد ووالده ، ولا بين الزوج وزوجته ، ولا بين الذمّي والمسلم ، ولا بين العبد ومولاه. وخالف باقي الفقهاء ثمَّ ينقل كلامه أنّه قال :

وقد كتبت قديما في جواب مسائل وردت عليّ من الموصل وتأوّلت الأخبار التي يرويها أصحابنا المتضمّنة لنفي الربا بين من ذكرنا - أي الولد والوالد والزوج والزوجة والمولى والعبد والذمي والمسلم - على أنّ المراد بذلك وإن كان بلفظ الخبر معنى الأمر كأنّه قال : يجب أن لا يقع بين من ذكرناه ربا كما قال تعالى ( مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (6) وكقوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (7) وكقوله صلی اللّه علیه و آله : « العارية مردودة والزّعيم غارم » ومعنى ذلك كلّه الأمر والنهي ، إلى أن قال :

ص: 171


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 281 ، باب الربا ، ح 4016 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 437 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 6.
2- « فقه الرضا علیه السلام » ص 258 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 339 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 1.
3- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 8 ، ص 489 - 491.
4- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 378.
5- « الانتصار » ص 212 ؛ « رسائل الشريف المرتضى » جوابات الموصليّات الثانية ، ج 1 ، ص 182.
6- آل عمران (3) : 97.
7- البقرة (2) : 194.

واعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن ، ثمَّ لمّا تأمّلت ذلك رجعت عن هذا المذهب ، لأنّي وجدت أصحابنا مجمعين على نفي الربا بين ما ذكرنا ، وغير مختلفين في وقت من الأوقات ، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة ، ويخصّ به ظاهر القرآن.

فانظر إلى كلام هذا الفقيه العظيم ، وأنّه رجع عن فتواه لمّا رأى من الإجماع والاتّفاق من الأصحاب على عدم ثبوت الربا في هذه الموارد الأربعة ، فمع اتّفاق الأصحاب على الفتوى بمضمون هذه الروايات لا يبقى مجال للشكّ في حجّيتها ؛ وذلك لحصول كمال الوثوق بصدورها واعتبارها لما ذكرنا في الأصول (1) أنّ موضوع الحجّة هو خبر الموثوق الصدور ، لا خصوص خبر الثقة أو الصحيح كما قيل.

فالعمدة في المقام هو بيان دلالتها ، فنقول :

لا شكّ في أنّ ظاهر هذه الروايات نفي الربا بين الطوائف الأربع : أي الوالد والولد ، والمالك ومملوكه ، والزوج وزوجته ، والمسلم والكافر إمّا مطلقا وإن كان ذمّيا ، أو خصوص الحربي.

وفي أمثال هذه التراكيب التي يكون مفادها رفع موضوع خارجي بلا النافية للجنس ، يدور الأمر بين أمور ثلاثة بعد معلوميّة عدم رفعها تكوينا :

أحدها : أن يكون النفي بمعنى النهي ، كقوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (2) ومن الواضح أنّ هذا خلاف ظاهر النفي ، ولا يصار إليه إلاّ بدليل ، ولا دليل في المقام ، فلا مانع من الأخذ بظاهرها ، كما سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

ثانيها : هو أن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، كما قال بهذا جمع من المحقّقين في حديث « لا ضرر » وما دلّ على نفي الحرج ، وهذا أيضا خلاف ظاهر

ص: 172


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 111.
2- البقرة (2) : 194.

الكلام ؛ وذلك لأنّ ظاهر الكلام هو أنّ المنفي والمرفوع نفس الموضوع ، لا حكمه تقديرا أو تجوّزا ؛ لعدم احتياج إلى التقدير ، وعدم قرينة على التجوّز ، بل عدم صحّة إرادة الحكم من الموضوع لعدم علاقة بينهما.

ويمكن أن يكون المرفوع هاهنا نفس الموضوع حقيقة ، غاية الأمر رفعا تشريعيّا لا رفعا تكوينيّا ، نعم نتيجة الرفع التشريعي هو ارتفاع الحكم ، وقد شرحنا هذا المطلب وأوضحناه في حديث الرفع في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وفي شرح قاعدة لا ضرر في كتابنا « القواعد الفقهية » (2).

وخلاصة الكلام : أنّ نفي الربا في عالم التشريع في الموارد المذكورة مرجعه إلى نفي تحريمه ، ولكن بلسان نفى موضوعه حقيقة ، لا ادّعاء في عالم الاعتبار التشريعيّ.

وبعبارة أخرى : المنفي هو نفس الربا في محلّ البحث ، ولكنّ النفي نفي تشريعيّ ، ومعنى النفي التشريعيّ كونه بمنزلة العدم في نظر الشارع ، أي عدم ترتّب أثر شرعي عليه.

وبعد ما ظهر لك اعتبار هذه الروايات وحجّيتها - أمّا عند القدماء لأجل صحّتها على ما هو المصطلح عندهم من صحّة جميع ما هو موجود في الكتب المعتبرة كالكتب الأربعة وغيرها ممّا هو معتبر عندهم ، وأمّا عند المتأخّرين فلأجل جبر ضعفها بالاتّفاق المذكور ، والإجماعات المنقولة عن أعاظم الفقهاء ، حتّى أنّ المرتضى (3) - قدس سره - عدل عن فتواه لأجل ذلك الإجماع ، وقد تقدّم ذكر هذا المطلب ، فلا يبقى مجال لما ذهب إليه ابن الجنيد (4) من حرمة الربا حتّى في هذه الموارد الأربعة المتقدّمة ، مستندا إلى عمومات الكتاب ؛ إذ بعد الفراغ عن جواز تخصيص عمومات الكتاب وتقييد مطلقاتها بالخبر الواحد الحجّة ، وبعد الفراغ عن حجيّة هذه الأخبار لما ذكرنا ، فالعمومات تخصّص ، والمطلقات تقيّد.

ص: 173


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 174.
2- راجع « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 211.
3- « الانتصار » ص 212.
4- نقله عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 110 و 112.

وأيضا لا يبقى مجال لما ذكره الأردبيلي (1) - قدس سره - وصاحب الكفاية (2) من المناقشات في حجّية هذه الأخبار ؛ إذ حجّيتها واضحة ، ودلالتها على عدم حرمة الربا في هذه الموارد أوضح ، فلا وجه للتشكيك في حجّيتها أو دلالتها ، أو كونها مخصّصة للعمومات ومقيّدة للمطلقات ؛ إذ جميع هذه الأمور ثابتة بالأدلّة والبراهين القاطعة ، وعلى اللّه التوكل وبه الاعتصام.

ثمَّ إنّ هاهنا فروعا

الأوّل : هو أنّه هل يشمل الولد في قوله علیه السلام « لا رباء بين الوالد والولد » للبنت أم لا؟

أقول : لا وجه لعدم الشمول إلاّ دعوى الانصراف ، وإلاّ فبحسب اللغة والعرف العامّ لا شكّ في أنّ الولد - ومادة التوليد مطلقا - أعم من الذكر والأنثى.

نعم في بعض الأقطار لا يطلقون الولد على الأنثى ، ولذلك في مثل الأقارير والوصايا يجب الأخذ بعرف المقرّ والموصي ؛ وذلك لأنّ الإقرار والوصيّة عبارة عن إنشاء أمر مع قصده لذلك الأمر ، وإلاّ فصرف الإنشاء بلا قصد لا أثر له. ولا ريب في أنّ اللفظ الذي يصدر عن المتكلّم ظاهر في إرادته لما هو المتعارف عنده وعند بلده قصدهم من ذلك اللفظ حين الاستعمال ، وأمّا الألفاظ المستعملة في لسان الشارع والأئمة علیهم السلام ، فظاهر فيما هو معنى اللفظ عند العرف العامّ ؛ وذلك لأنّ خطاباتهم ليست متوجّهة إلى شخص خاصّ ، أو بلد وقطر خاصّ ، أو أهل زمان خاصّ.

نعم لا بدّ وأن يكون المعنى المراد من اللفظ هو ما يفهمه العرف في زمان صدور الكلام ، وهذا أصل جار في جميع الموارد ، وحيث أنّ العرف العامّ في مادّة الولد كما تقدّم

ص: 174


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 8 ، ص 489.
2- « كفاية الأحكام » ص 98.

هو الأعمّ من الذكر والأنثى فلا وجه لاختصاصه بالذكر ، ودعوى الانصراف لا يخلو من مجازفة.

ثمَّ الظاهر أنّه لا فرق بين الولد أن يكون من صلبه وبلا واسطة ، وبين ولد الولد ، أي ولد الابن ، وذلك لعموم اللفظ وشموله لكليهما ، وإن كان العلاّمة (1) والمحقّق (2) والشهيد (3) الثانيان قالوا باختصاص الحكم بالولد بلا واسطة ، نعم يمكن أن يقال بانصرافه عن ولد البنت ، وإن كان اللفظ بحسب الوضع أعمّ من ولد الابن والبنت جميعا.

ولكنّ الإنصاف أنّ دعوى الانصراف هاهنا غير بعيد.

الثاني : هل يختصّ هذا الحكم بالولد الصلبي ، أو يشمل الولد الرضاعي؟

الظاهر عدم الشمول ؛ وذلك من جهة أنّ الولد الرضاعي ليس بولد للأب الرضاعيّ حقيقة ، إذ لم يلده ، وإنّما هو تنزيل من قبل الشارع ، فيحتاج إلى إثبات عموم المنزلة. وكون « الرضاع لحمة كلحمة النسب » (4) لا يثبت التنزيل من حيث جميع الآثار.

وأمّا شموله لولد الزنا فبحسب العرف واللغة فلا إشكال فيه ، وقوله صلی اللّه علیه و آله « الولد للفراش » (5) في مورد الشكّ ، وأمّا مع القطع بأنّه خلق من مائه فلا شك في أنّ هذه القاعدة لا تنفي النسب.

ص: 175


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 485.
2- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 280.
3- « مسالك الافهام » ج 3 ، ص 327.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 133 ، باب ولاء المعتق ، ح 3494 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 255 ، ح 926 ، باب المعتق وأحكامه ، ح 159 ؛ « الاستبصار » ج 4 ، ص 24 ، ح 78 ؛ باب أنّ ولاء المعتق لولد المعتق إذا مات ... ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 16. ص 55 ، أبواب كتاب العتق ، باب 42 ، ح 2 و 6. وفي جميع المصادر : « الولاء لحمة كلحمة النسب ». نعم ذكر الحديث بنصّه في « الميزان في تفسير القرآن » ج 4. ص 283.
5- « عوالي اللئالي » ، ج 2 ، ص 132 ، ح 359 ؛ وص 275 ، ح 41.

وأمّا ما ورد في باب إرثه وأنّه لا يرث ، فهذا حكم خاصّ لا ربط له بنفس النسبة مطلقا.

وأمّا دعوى انصراف الولد عن ولد الزنا في موضوعيّته لهذا الحكم ، فدعوى بلا دليل ، نعم الأحوط الاجتناب عن ارتكاب الربا بينهما ، فإنّه حسن على كلّ حال.

الثالث : بناء على شمول هذا الحكم للذكر والأنثى جميعا كما هو المختار ، وبناء على أنّ الخنثى ليس طبيعة ثالثة كما هو المختار ، بل هو إمّا ذكر أو أنثى وأمّا كونه مشكلا إنّما هو في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت ، يكون الخنثى أيضا مشمولا لهذا الحكم بلا إشكال.

وأمّا الأمّ فلا يكون بمنزلة الأب قطعا ؛ لعدم شمول الرواية لها ، وليس دليل آخر من إجماع أو غيره في البين ، فيجب الأخذ بالنسبة إليها بعمومات التحريم.

وأمّا ادّعاء أنّ قوله علیه السلام في ما حكيناه عن الفقه الرضوي : « ليس بين الوالد وولده ربا » (1) ، وأيضا ما قاله المرتضى - قدس سره - : « وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّه لا ربا بين الوالد وولده » (2) ، أنّ المراد من الوالد - وإن كان بصيغة المذكر - أعمّ من الأب والأمّ ، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ؛ لأنّ الوالد لفظ موضوع للأب ، ولا يطلق على الأمّ أصلا.

وأمّا رواية عمرو بن جميع ورواية زرارة (3) فصرّح فيهما بأنّه ليس بين الرجل وولده ربا ، وليس فيهما ما يتوهّم إمكان انطباقه على الأمّ.

وهذه الفروع التي ذكرناها كلّها كانت راجعة إلى المورد الأوّل من الموارد الأربعة.

ص: 176


1- « فقه الرضا علیه السلام » ص 258.
2- « الانتصار » ص 212.
3- سبق ذكرهما في ص 170 ، رقم ( 1 و 3 ).

وهاهنا فروع راجعة إلى المورد الثاني من تلك الموارد ، أي عدم الربا بين السيّد وعبده :

فالأوّل : أنّه هل فرق بين العبد المكاتب وبين غيره أم لا؟

وجه الفرق هو أنّ المكاتب يملك ما يحصّله بالكسب ، فيكون في حكم سائر الناس ، ويحرم عليه أخذ الربا والفضل منه ، وأمّا غير المكاتب فلا يملك وماله مال سيده ؛ فلذلك يجوز أخذ السيّد عنه لأنّ أدلّة حرمة الربا منصرفة إلى أخذ مال الغير لا مال نفسه.

وأمّا المكاتب حيث أنّه يملك ، فيشمله أدلّة حرمة الربا ، ولا يجوز أخذ الفضل منه ، ومن هذه الجهة يكون كسائر الناس. ولكن أنت خبير بأنّه بناء على أنّ العبد لا يملك ، لا يبقى محلّ للبحث في أنّه يجوز أخذ الفضل والربا عنه أم لا ، ولا يبقى مورد لقوله علیه السلام - : « لا ربا بين السيّد وعبده » (1) إلاّ المكاتب ، لا أنّه يجوز الأخذ عن غير المكاتب ولا يجوز عنه.

فالظاهر عدم الفرق بين أقسام العبد من القنّ والمدبّر والمكاتب ، وحتّى أمّ الولد ، بناء على عدم اختصاص هذا الحكم بالرجل وشموله للأمة ، كما هو الأظهر وإن كان الأحوط عدم الأخذ عنها ، كلّ ذلك لأجل إطلاق النصّ.

فقوله علیه السلام في رواية زرارة ومحمّد بن مسلم : « ليس بين الرجل وولده ، ولا بينه وبين مملوكه ربا » (2) وفي بعض النسخ : « وبين عبده » بدل « وبين مملوكه » وعلى كلّ واحد من الوجهين فيه إطلاق يشمل جميع أقسام العبد ، وهذا حكم تعبّدي.

ص: 177


1- قطعة من رواية عمر بن جميع التي تقدمت ذكرها في ص 170 ، رقم (1).
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 17 ، باب فضل التجارة وآدابها ، ج 75 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 71 ، ح 326 ؛ باب أنّه لا ربا بين المسلم وبين أهل الحرب ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 436 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 4.

والوجوه التي ذكروها تعليلا لهذا الحكم ليست إلاّ وجوها استحسانيّة لا اعتبار بها في إثبات الأحكام الشرعيّة.

الثاني : الظاهر عدم الفرق بين كون المولى رجلا أو امرأة ، وقوله علیه السلام في رواية زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمة : « ليس بين الرجل وولده ، ولا بينه وبين مملوكه » من باب الجري علي الغالب ، كما هو المتعارف في بيان أكثر الأحكام ، لا لخصوصيّة في الرجل ، وهذا واضح.

الثالث : إذا كان العبد مشتركا أو مبعّضا. أمّا المشترك بين مالكين أو أكثر ، فيصدق بالنسبة إلى كلّ واحد من المالكين أو الملاّك أنّه عبده ، خصوصا بالنسبة إلى حصّته منه ، فلو باع شيئا منه مع الفضل وفرضنا أنّ له نصف العبد فيملك نصف الفضل مع تمام الثمن إذا كان البائع هو وحده.

وذلك من جهة صدق أنّه باع هذا المقدار من عبده مع الفضل والربا ، ولا رباء بين السيّد وعبده ، بل يمكن أن يقال بأنّه يملك تمام الثمن وتمام الفضل ؛ لأنّه عبده ولا رباء بين السيّد وعبده.

ولكن هذا الاحتمال بعيد ؛ لأنّه ليس تمام العبد ملكه ، بل لا يملك إلاّ نصفه مثلا ولو كان المثمن لمالكين أحدهما مالك العبد بتمامه ، أو كان مالكا لنصفه ، فيمكن القول بصحّة المعاملة بالنسبة إلى النصف لصدق البيع من عبده مع الفضل بالنسبة إلى النصف ، والربا بالنسبة إليه لا يوجب البطلان ، نعم بالنسبة إلى النصف الآخر باطل ؛ لأنّه بيع ربويّ وداخل في المستثنى منه ، ولا استثناء بالنسبة إليه ؛ لأنّه ليس بسيّده.

نعم لو حصل الشكّ في شمول قوله علیه السلام : « لا رباء بين العبد وسيّده » لمثل هذا العبد المشترك أو المبعّض أو المكاتب أو المدبّر أو أمّ الولد ، ولم يكن إطلاق يرفع حكم الشكّ ، فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى عمومات أدلّة حرمة الربا ، كما هو الشأن في جميع موارد الشكّ في الشبهة المفهوميّة للمخصّص للعمومات كما في المقام.

ص: 178

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف فرض في المقام ؛ لوضوح مفهوم السيّد والعبد في المقام وعدم خفاء فيه ، فالمالك بالنسبة إلى حصّته سيّد في العبد المشترك أو المبعّض ، كما أنّ العبد المشترك أو المبعّض بالنسبة إلى تلك الحصّة مملوك له يقينا ، وقد كان في رواية زرارة ومحمّد بن مسلم عنوان « بين الرجل ومملوكه » كما تقدّم.

هذا في العبد المشترك ، والكلام في المبعّض عين الكلام في المشترك حرفا بحرف. نعم ربما يقال إنّ ذيل صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم نفي حلّية الربا في العبد المشترك ، وهو قوله علیه السلام : « نعم وإنّك لست تملكهم إنّما تملكهم مع غيرك ، أنت وغيرك فيهم سواء ، والذي بينك وبينهم ليس من ذلك ، لأنّ عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك ». وهذا الكلام منه علیه السلام بعد قول السائل : قلت : فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال علیه السلام : « نعم » قلت : فإنّهم مماليك؟ فأجاب علیه السلام بقوله : « نعم » إلى آخر ما ذكرنا.

ولا ريب في أنّ ظاهر كلامه علیه السلام « نعم » - في جواب قول السائل : فالمشركون بيني وبينهم - يدلّ على ثبوت الربا إذا كان المملوك مشتركا بينك وبين غيرك ، ولكن يمكن أن يقال إنّ هذا الذيل لم يعمل الأصحاب به ؛ لمعارضته مع صدر الرواية ؛ لأنّ مفاد صدر الرواية عدم ثبوت الربا بين المسلمين ، والحربي والمشركون منهم ، بل الحكم في الكافر غير الذمّي إجماعي ، ولا شكّ في أنّ المشركين ليسوا بذمّيين.

وجمع بعضهم بين ما مفاده عدم ثبوت الربا بين المسلم والكافر الحربي ، وهذا الذيل الذي يدلّ على الثبوت ، بحمل الطائفة الأولى على غير المعاهد من الحربي ، والثانية على المعاهد ؛ وذلك لأنّ المعاهد ماله محترم ، فيكون كالمسلم في ثبوت عدم جواز أخذ الزيادة.

وفيه : أنّ الاحترام لا ينافي جواز أخذ الفضل ؛ لأنّ معنى الاحترام أن لا يأخذ ماله بدون رضاه وغصبا عليه ، وأمّا مع رضاه ورغبته فلا ، ولا شكّ أنّ الأخذ في المفروض برضائه ، فلا ينافي احترام ماله.

فهذا الذيل - بعد إعراض الأصحاب عنه وحكمهم بعدم ثبوت الربا بين المسلم

ص: 179

والحربيّ سواء كان معاهدا أو غير معاهد - أي جواز الأخذ عنه لا إعطائه الفضل ساقط عن الاعتبار ، فلا يجوز الأخذ به ، والحكم بثبوت الربا في العبد المشترك والمبعّض.

نعم الأحوط عدم جواز الأخذ لا لهذه الرواية بل للشكّ في صدق عنوان عبده ؛ لأنّه من المحتمل أن يكون صدق هذا العنوان منوطا بكون تمام العبد مملوكا له ، لا أن يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أو مبعّضا يكون بعضه حرّا وبعضه ملكا له.

هذه الفروع كانت في مسألة عدم الربا بين السيّد وعبده.

وأمّا الاستثناء الثالث ، أي عدم ثبوت الربا بين الزوج وزوجته ففيه فروع أيضا :

الأوّل : هو أنّه هل هذا الحكم مختصّ بالزوجة الدائمة ، أم لا فرق بينها وبين كونها متعة وموقّتة؟

لا شكّ في أنّ الزوجة غير الدائمة - أي المنقطعة - زوجة حقيقة ، بل استظهرنا من الأدلّة أنّهما حقيقة واحدة ، وكونها موقّتة أو دائمة من المصنّفات لا من المنوّعات ، ولذلك حين العقد والإنشاء لو نسي ذكر الأجل ولم يذكر تقع دائمة ؛ لأنّ الدوام ينتزع من عدم التقييد بالأجل وإطلاق العقد.

فقوله علیه السلام : « ليس بين المرأة وزوجها ربا » (1) يصدق على المنقطعة حقيقة ، ولكنّ الكلام في أنّه هل ينصرف إلى الدائمة أم لا.

وفصّل بعض بين كون مدّة التمتع قليلة كساعة أو ساعتين ، وبين ما كانت كثيرة كسنة أو سنتين بل سنين عديدة. وكأنّ منشأ هذا التفصيل هو دعوى الانصراف في الأوّل دون الثاني ، فإذا كان زمان التمتع قليلا لا يراها العرف زوجة أو أهلا ، والشارع

ص: 180


1- سبق ذكره في ص 170 ، رقم (4).

جعل موضوع الحكم بعدم تحريم الربا بينهما أحد هذين العنوانين.

ولا بأس بهذا التفصيل ، ولعلّ المتفاهم العرفي يساعد على هذا التفصيل.

وأمّا التفصيل الآخر بالفرق بين ما إذا اتّخذها أهلا كالزوجة الدائمة وبين ما لم يكن كذلك ، فأيضا يرجع إلى ما ذكرنا.

الثاني : هل المطلّقة رجعيّة في حال بقاء عدّتها تكون بحكم الزوجة في هذا الحكم ، أم لا؟

قال في الجواهر : إنّ المطلّقة رجعيّة وإن كانت زوجة ، إلاّ أنّه قد يمنع صدق الأهل عليها (1).

وهذا الكلام منه مبني على ما يقول من أنّه بين مفهوم الزوجة ومفهوم الأهل عموم وخصوص من وجه ، فربّما تكون زوجة ولا يصدق عليها الأهل ، كالمتعة التي مدّتها قليلة جدّا ، كساعة مثلا ، فهي شرعا زوجة في تلك المدّة القليلة ، ولا يصدق عليها الأهل ، وربما تكون المرأة أهلا وليست بزوجة ، كبنته وأخته وغير ذلك من أقربائه ، ومورد الاجتماع واضح كالمرأة التي تزوّجها بالعقد الدائم ، وهي ربه الدار.

وفيما إذا كان موضوع الحكم عامّين من وجه ، كالعدم والعادل ، فلا بدّ من اجتماعهما في ثبوت الحكم ؛ ففي ما نحن فيه لا بدّ من اجتماع الزوجيّة والأهليّة لثبوت عدم حرمة الربا بينهما.

وفيه : أنّ الظاهر من الأهل - في صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم : « ليس بين الرجل وولده ، ولا بينه وبين مملوكه ، ولا بينه وبين أهله ربا » (2) - هي الزوجة ، وليس الأهل بالمعنى الأعمّ ، فهما مفهومان متساويان.

والعمدة في إشكال إلحاق المطلقة رجعة بالزوجة في هذا الحكم أنّه منوط بكون

ص: 181


1- « جواهر الكلام » ج 23 ، ص 382.
2- تقدّم تخريجه في ص 177 ، رقم (2).

التنزيل عامّا وبلحاظ جميع آثار الزوجيّة. وإثبات هذا لا يخلو من إشكال.

وأمّا الاستثناء الرابع ، أي عدم الربا بين المسلم والحربيّ ففيه أيضا فروع :

الأوّل : أنّه يجوز الأخذ منهم ولا يجوز إعطاء الفضل لهم ؛ وذلك لما رواه الصدوق مرسلا ، وفي الكافي مسندا عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا ، نأخذ منهم ألف ألف درهم بدرهم ، ونأخذ منهم ولا نعطيهم » (1).

ثمَّ إنّ هذه الرواية على تقدير تسليم ضعفها ، تكون منجبرة بعمل الأصحاب ، فلا مانع فيها من حيث حجّيتها. نعم يستفاد منها عدم حرمة أخذ الفضل على المسلم لا الحربيّ ، فلا تدلّ على صحّة المعاملة التي وقعت بينهما ؛ لأنّ جواز أخذ الفضل منهم لازم أعمّ بالنسبة إلى صحّة المعاملة ؛ إذ يمكن أن يكون من جهة عدم احترام ما لهم ، وإن كانت المعاملة باطلة على حسب العمومات والمطلقات الواردة في باب الربا.

الثاني : في أنّه هل يجوز الأخذ من الكافر غير الذمّي المعاهد أيّام المعاهدة ، أو ممّن أعطوا الأمان أيّام أمانهم ، أم لا؟

أقول : الدليل على جواز أخذ الفضل من الحربي إمّا الإجماع وإمّا الرواية. أمّا الإجماع على تقدير ثبوته وحصوله وحجّيته في المقام ، فالقدر المتيقّن منه هو ثبوته في غير المعاهد ومن أعطى له الأمان. وأمّا الرواية فالمناط هو إطلاق قوله علیه السلام « وبين أهل حربنا » عليهم وأن لا يكون منصرفا عن المعاهد ومن أعطى له الأمان ، فإن أطلق فيجوز الأخذ منهم.

هذا ، مضافا إلى أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « نأخذ منهم ولا نعطيهم » إشارة إلى أنهم ليسوا

ص: 182


1- « الكافي » ج 5 ، ص 147 ، باب أنّه ليس بين الرجل وبين ولده ... ، ح 2 ؛ « الفقيه » ج 3. ص 277 ، باب الربا ، ح 4000 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 18 ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح 77 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 436 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ح 2.

بمالكين ، وإنّما يكون أموالهم فيئا للمسلمين ، فلا احترام لأموالهم ولا لنفوسهم ، وأمّا المعاهد ومن أعطى له الأمان فلأموالهم ونفوسهم احترام ظاهريّ حسب المعاهدة وحسب الأمان ، وإلاّ لا يجعلهم مالكا حقيقيّا واقعيّا ، فإذا أخذ منهم برضاهم من دون أن يكون مخالفا للوفاء بالمعاهدة أو الأمان الذي أعطى لهم ، فلا يكون في الأخذ منهم إشكال.

الثالث : هل يجوز أخذ الفضل والربا من الذمّي أم لا؟

الأشهر بل المشهور عدم الجواز ، وهذا أيضا مقتضى القواعد والأدلّة الأوّلية الدالّة على تحريم مطلق الربا من أيّ شخص كان ، وأيضا مقتضى الأدلّة التي مفادها احترام مال الذمّي ونفسه وعرضه ما دام يعمل بشرائط الذمّة ، وعدم شمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا ».

فليس في المقام ما يدلّ على جواز الأخذ منهم إلاّ مرسل الفقيه : « ليس بين المسلم والذمّي ربا » وهو ضعيف في حدّ نفسه ، ولا جابر له مع إعراض المشهور عنه ؛ ولذلك حمله بعض الأصحاب على الذمّي الخارج عن الذمّة ؛ لعدم الوفاء بشرائطها ، كما قاله في الوسائل (1).

نعم هناك شي ء : وهو أنّ الذمّي بالمعنى المصطلح بين الفقهاء المتّخذ من الأخبار والأحاديث قليل الوجود أو عديمه ، والكفّار الموجودون في بلاد الإسلام في هذه الأزمان لا ينطبق عليهم أحكام الذمّة ؛ لعدم تحقّق الموضوع ، بل هم داخلون إمّا في المعاهدين كما هو الغالب ، أو فيمن أعطى له الأمان ، وعلى كلّ واحد من التقديرين أموالهم ونفوسهم وأعراضهم محترمة ، لا يجوز الأخذ منهم بالقهر وجبرا ، ولا بالسرقة. وأمّا برضاهم المعاملي فلا ينافي الاحترام.

فبناء على ما ذكرنا يجوز أخذ الفضل في المعاملة الربويّة من الكتابيّين

ص: 183


1- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 436 ، أبواب الربا ، باب 7 ، ذيل الحديث 3.

الموجودين في بلاد الإسلام في هذه الأزمان ، ولا يجوز إعطاؤهم.

الجهة الرابعة

في بيان الطرق التي يمكن التخلّص من الربا بأعمالها فرارا عن الحرام إلى الحلال ، ومن الباطل إلى الحقّ ، كما أنّه ورد في الصحيح عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام فقلت له :

أشترى ألف درهم ودينار بألفي درهم؟ فقال علیه السلام : « لا بأس بذلك إنّ أبي كان أجرء على أهل المدينة منّي ، وكان يقول هذا ، فيقولون : إنّما هذا الفرار لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم : نعم الشي ء الفرار من الحرام إلى الحلال » (1).

وهناك روايات أخر (2) بهذا المضمون من مدحهم علیهم السلام إعمال الحيل للفرار عن الحرام ، وعلى كلّ حال ذكر الفقهاء أمورا للفرار عن الربا :

منها : ما تقدّم من ضمّ ضميمة من غير جنس العوضين إلى أحدهما أو إلى كليهما كي تقع تلك الضميمة مقابل الفضل الذي يأخذ من ذلك الطرف كما كان في مورد السؤال في الصحيح المتقدّم ، وقدم شرحنا هذا الفرع مفصّلا فيما تقدّم فلا نعيد.

ومنها : أن يبيع سلعته من الآخر الذي هو طرفه في المعاملة الربويّة بغير جنس سلعته ، ثمَّ يشتري بذلك الجنس أيّ مقدار يريد من جنس سلعته زائدا كان على سلعته بحسب الكميّة ، أو ناقصا عنها ، أو مساويا لها ، فلا يكون رباء في البين ، لعدم اتّحاد جنس العوضين الذي هو الشرط الأساسي في تحقّق الربا.

مثلا لو أراد أن يبدّل جنسه الجيّد بالردي من ذلك الجنس مع الاختلاف في

ص: 184


1- « الكافي » ج 5 ، ص 246 ، باب الصروف ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 466 ، أبواب الصرف ، باب 6 ، ح 1.
2- راجع : « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 455 ، أبواب الربا ، باب 20.

الكمّية ، وذلك كما إذا أراد أن يبيع وزنة من الأرز العنبر الذي عنده بوزنتين من الأرز النعيمة لغرض عقلائي عنده.

فهذه المعاملة لو كانت بالصورة التي ذكرناها ، أي الوزنة من أحدهما الجيّد بوزنتين من ذلك الردي ء تكون ربويّة ، فله أن يحتال بأن يبيع الوزنة الجيّدة التي عنده من العنبر بوزنتين من الحنطة مثلا ، ثمَّ يبيع الوزنتين من الحنطة بوزنتين من النعيمة ، فلا يتحقّق رباء مع أنّه وصل مقصوده.

ويمكن أن يبيع تلك الوزنة التي عنده بالنقود ، مثل أن يبيعها بأربعة دنانير مثلا ، ثمَّ يشتري بتلك الأربعة دنانير وزنتين من النعيمة ، ولا يكون رباء في البين ، ويتخلّص منه بهذه الحيلة مع حصول مقصوده.

ولا فرق في صحّة ما ذكرنا بين أن يشترط على المشتري الأوّل البيع الثاني ، أو لا يشترط ؛ لصحّة الشرط وعدم وجود المانع عن نفوذه.

نعم حكى عن الشيخ قدس سره أنّ صحّة البيع الثاني بالشكل المذكور مشروط بأن لا يكون الثمن في البيع الثاني عين الثمن في البيع الأوّل ؛ وذلك لأنّ عوض العوض عوض ، فهذا العوض وإن لم يكن من جنس ما يأخذ مع الفضل ، ولكنّه حيث يكون عوضا عمّا يكون من جنسه فهو في حكمه ، فيتحقّق الربا.

ولكن أنت خبير : بأنّ هذا الكلام لا أساس له ، من جهة أنّ الرّبا لا يثبت إلاّ بأن يكون العوضان في المعاملة من جنس واحد ، وليس عوض المبيع في البيع الأوّل ، أي الثمن في البيع الأوّل الذي يجعل عوضا في البيع الثاني من جنس عوضه في هذا البيع ، فلا رباء لا في البيع الأوّل ؛ لأنّه باع ماله بغير جنسه ، ولا في البيع الثاني ؛ لأنّه أيضا ليس فيه العوضان من جنس واحد. وأمّا القول بأنّ عوض العوض عوض ، فهو كلام لا دليل عليه.

نعم هناك رواية يمكن أن يكون نظر الشيخ قدس سره ومن تبعه إلى تلك الرواية ، وهي

ص: 185

رواية عليّ بن جعفر عن أخيه علیه السلام قال : سألته عن رجل له على آخر تمر أو شعير أو حنطة ، أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال علیه السلام : « إذا قوّمها دراهم فسد ؛ لأنّ الأصل الذي يشتري به دراهم ، فلا يصلح دراهم بدراهم » (1).

فهذه الرواية تدلّ على عدم جواز بيع هذه الأمور الثلاثة بالدراهم ، معلّلا بأنّها عوض الدراهم ، لأنّه اشتراها بها ، فلو باعها بالدراهم فكأنّه باع الدراهم بالدراهم.

وهذا عين ما حكى عن الشيخ عدم جوازه.

وفيه : أنّ هذه الرواية أعرض عنها الأصحاب ولم يعملوا بها ، فلا يصحّ الاعتماد عليه ، مضافا إلى بعض المناقشات التي في دلالتها ومعارضتها ببعض الأخبار الأخر.

ومنها : أنّ صاحب أحد العوضين المتجانسين المتماثلين في الكميّة وزنا أو كيلا يقرض الآخر ، وكذلك صاحب الآخر ، ثمَّ يتباريان ويسقط كلّ واحد منهما ذمّة الآخر ، ولا يخفى أنّه يلزم أن يكون الإقراض من كلّ واحد من الطرفين بدون أن يشترط الإقراض على الآخر.

ومنها : أن يكون قصد الطرفين المعاوضة والمبادلة بين المثلين في الكمّية ، والطرف الذي يعطى الفضل والزيادة يقصد كونها هبة.

ومنها : أن يهب كلّ واحد منهما ماله للآخر من دون أن يشترط على صاحبه هبة ماله له ، كي يكون هبة بإزاء هبة ، وإلاّ يدخل في باب المعاوضات فيثبت الربا فيه ، بناء على ما هو الحقّ عندنا - وقد تقدّم بيانه - من عدم اختصاص الربا بالبيع فقط ، بل يدخل في جميع المعاوضات.

ومنها : أن يصالح صاحب الزيادة مقدار الفضل لصاحبه ، ويشترط عليه أن يبيع ماله منه مثلا بمثل.

ص: 186


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 30 ، ح 129 ، باب بيع المضمون ، ح 17 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 74 ، ح 246 ، باب من سلف في طعام أو غيره ... ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13. ص 71 ، أبواب السلف ، باب 11 ، ح 12.

الجهة الخامسة : في الربا في باب القرض

اشارة

أقول : القرض عبارة عن تمليك مال للآخر بالضمان ، وربما يقال بدل قولنا بالضمان : بعوضه الواقعي ، وعلى كلّ حال لسنا في مقام بيان حقيقة القرض ، وأنّه من العقود اللازمة أو الجائزة ، ويجري فيه المعاطاة أم لا ، وأنّ المعاطاة فيه يوجب ملكية المستقرض لما اقترضه أو لا يوجب إلاّ الإباحة وإنّما الملكيّة تحصل بالتصرّف ؛ لأنّ هذه المذكورات محلّ بحثها كتاب القرض

وإنّما المهمّ في المقام هو أنّ أخذ المقرض عن المستقرض الزيادة عمّا أعطاه الذي يسمّى بالربا مطلقا حرام ، أو حرمته مشروط بشرط؟ وأيضا أنّ القرض - أي المعاملة الكذائيّة - تكون فاسدة إذا اشترط الزيادة ، أو أخذ الزيادة فقط حرام ، وأمّا المال الذي أقرضه المقرض فهو حلال ولا بأس به؟ وأنّه هل حرمة الزيادة فيما إذا اشترط ذلك ، أو حرام وإن لم يشترط؟

فهذه أمور نريد أن نتعرّض لها في هذا المقام ، فنقول :

تحقيق الحقّ في هذه الأمور موقوف على ذكر الأخبار الواردة في هذا الباب كي نستظهر منها ما هو الصحيح :

فمنها : ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن جعفر بن غياث عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الربا رباءان : أحدهما رباء حلال ، والآخر حرام. فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده ويعوّضه بأكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند اللّه ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله عزّ وجل ( فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ ) (1) وأمّا الربا الحرام فهو الرجل

ص: 187


1- الروم (30) : 39.

يقرض قرضا ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه ، فهذا هو الحرام » (1).

وهذه الرواية صريح في جواز أخذ الفضل والزيادة إذا لم يشترط.

ومنها : رواية خالد بن الحجّاج ، قال : سألته عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عددا قضانيها مائة درهم وزنا؟ قال : « لا بأس ما لم يشترط. قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط إنّما يفسده الشرط » (2).

ومنها : رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا أقرضت الدراهم ثمَّ أتاك بخير منها ، فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط » (3).

وبهذا المضمون روايات كثيرة ، وقد عقد لها بابا في الوسائل (4). وكلّ هذه الروايات مرجعها إلى أنّ القابض يحلّ له قبض الفضل والزيادة أو ما هو الأجود إذا كان من غير شرط. وظاهر رواية خالد بن الحجّاج المتقدّم أنّ القرض الذي شرط فيه الزيادة أو ردّ الأجود ممّا أخذ تكون القرض والمعاملة فاسدة ؛ لقوله علیه السلام فيها : « إنّما يفسده الشرط ».

وأمّا الحديث النبويّ : « كل قرض يجرّ منفعة فهو حرام » (5) فلا إطلاق له يشمل صورة عدم الاشتراط ، بل ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله « يجر منفعة » هو الاشتراط في ضمن عقد

ص: 188


1- « تفسير القمّي » ج 2 ، ص 159. وفي « وسائل الشيعة » ج 12. ص 454 ، أبواب الربا ، باب 18 ، ح 10 عن حفص بن غياث ؛ بدل جعفر بن غياث.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 244 ، باب الصروف ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 112 ، ح 483 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 89 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 476 ، أبواب الصرف ، باب 12 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 254 ، باب الرجل يقرض الدراهم ويأخذ أجود منها ، ح 3 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 21 ، ح 449 ، باب القرض وأحكامه ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 477 ، أبواب الصرف ، باب 12 ، ح 3.
4- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 476 ، أبواب الصرف ، باب 12 : باب أنّه يجوز قضاء الدين من الدراهم والدنانير وغيرها بأجود منها وبأزيد وزنا وعددا.
5- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 161 ، ح 167 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 409 ، أبواب الدين والقرض ، باب 19 ، ح 2.

القرض وإلاّ لا يصدق جرّ القرض إن كان المقترض من عند نفسه يعطي شيئا زائدا ، أو أجود ممّا أخذ ، أو منفعة أخرى.

وخلاصة الكلام : أنّ المقترض إن أعطى أجود ممّا أخذ أو أزيد منه بدون الشرط فجائز ، ولا يكون موجبا لفساد القرض ، بل ظاهر بعض الأخبار استحباب ذلك ، فيستحب إعطاء الزيادة إذا كان من غير شرط ، ويحلّ للمقرض أخذه وقبضه.

ولعلّه إلى هذا يشير قول أبي جعفر علیه السلام في مرسلة محمّد بن مسلم : « خير القرض ما جرّ منفعة » (1).

ويدلّ على استحباب إعطاء الزيادة إنّ كان من غير شرط ، صحيحة عبد الرحمن ابن الحجّاج ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يستقرض من الرجل الدراهم فيردّ عليه المثقال ، أو يستقرض المثقال فيردّ عليه الدراهم ، فقال علیه السلام : « إذا لم يكن شرط فلا بأس ، وذلك هو الفضل إنّ أبي علیه السلام كان يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد الجلال ، فيقول : يا بنيّ ردّها على الذي استقرضتها منه ، فأقول : يا أبه إنّ دراهمه كانت فسولة وهذه أجود خير منها ؛ فيقول : يا بنيّ إنّ هذا هو الفضل فأعطه إيّاها » (2).

فقوله علیه السلام : « إنّ هذا هو الفضل فأعطه إيّاها » ظاهر في حسن هذا الفعل واستحبابه. وروايات أخر بهذا المضمون وأصرح منها مذكورة في الوسائل وغيره.

ثمَّ إنّ الزيادة قلنا إنّها حرام في القرض مع الشرط ، بل موجب لفساد القرض ، فإذا قبض المقترض المال الذي أقرضه المقرض يكون من المقبوض بالعقد الفاسد لا

ص: 189


1- « الكافي » ج 5 ، ص 255 ، باب القرض يجرّ المنفعة ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 201 ، ح 452 ، باب القرض وأحكامه ، ح 6 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 285 ، باب الربا ، ح 4029 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 104 ، أبواب الدين والقرض ، باب 19 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 254 ، باب الرجل يقرض الدراهم ويأخذ أجود منها ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 115 ، ح 500 ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح 106 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 284 ، باب الربا ، ح 4026 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 477 ، أبواب الصرف ، باب 12 ، ح 7.

فرق بين أن تكون تلك الزيادة عينيّة ، أو عملا من المقترض للمقرض ، أو انتفاعا بمال المقترض ، أو تكون صفة زائدة في عوضه ، كما إذا شرط المقرض على المقترض أن يعطى دراهم جديدة وصحيحة عوض ما يعطيه من الدراهم المكسورة ، فجميع هذه الأمور مع الشرط رباء محرّم ، وتكون موجبة لفساد القرض كما هو مفاد الأخبار الصحيحة الصريحة.

ثمَّ إنّه لا فرق في كون الزيادة في القرض حراما وموجبة لفساد القرض مع الشرط بين أن يكون الشرط صريحا ومذكورا في متن العقد ، أو وقع المعاملة مبنيّا عليه ؛ وذلك لشمول قوله صلی اللّه علیه و آله « كل قرض يجرّ المنفعة فهو حرام » لكلتا الصورتين ، والخارج عن هذا العموم هو ما لم يكن شرط في البين لا صريحا ولا بحيث يقع العقد مبنيّا عليه.

خاتمة

اعلم أنّ هذه القاعدة - أي قاعدة لا رباء إلاّ فيما يكال أو يوزن - لا تأتي في القرض ، بل شرط الزيادة مطلقا أيّ قسم كان من الزيادة عينيّة كانت أو صفة أو منفعة أو انتفاعا موجب لحرمة تلك الزيادة وفساد القرض ، وقد تقدّم جميع ذلك سواء كان المال الذي يقترضه من المكيل أو الموزون ، أو لم يكن منهما كالمعدود وما يباع مشاهدة أو مذروعا أو غير ذلك.

والدليل عليه أوّلا : الإجماع ، وثانيا : قوله صلی اللّه علیه و آله : « كلّ قرض يجرّ منفعة فهو حرام » ، وثالثا : الأخبار الكثيرة التي تقدّم بعضها أنّ الشرط يفسد القرض ، وفيها إطلاق يشمل المكيل والموزون وغيرهما.

وخلاصة الكلام : أنّ المراجعة إلى الروايات الواردة في باب القرض وأقوال الفقهاء والمحدّثين يوجب الاطمئنان بأنّ شرط الزيادة والنفع بالتفصيل المتقدّم موجب لحرمة تلك الزيادة وفساد القرض ، سواء كان المال الذي يقترضها المقترض من

ص: 190

الأجناس الربويّة ، أي من المكيل والموزون ، أو لم يكن كذلك. واللّه الهادي إلى الصواب.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 191

ص: 192

49 - قاعدة أصالة اللزوم في العقود

اشارة

ص: 193

ص: 194

قاعدة أصالة اللزوم في العقود (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « أصالة اللزوم » في العقود في أبواب المعاملات والمعاهدات عند الشكّ في لزوم معاملة أو معاهدة.

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في شرح معناها والمراد منها

فنقول : إنّ المراد من « الأصل » في قولهم أصالة اللزوم ، يحتمل أن يكون القاعدة الأوّلية المستفادة من بناء العقلاء في معاملاتهم ومعاهداتهم ، كما سيأتي تفصيله في الجهة الثانية التي رسمت لبيان الأدلّة الدالّة على إثبات هذه القاعدة واعتبارها عند الشكّ في لزوم معاملة أو معاهدة ، وبعبارة أخرى : في الشكّ في لزوم عقد من العقود.

ويحتمل أن يكون المراد منه ما هو مقتضى الأدلّة الشرعيّة التي تدلّ على لزوم جميع العقود والمعاهدات إلاّ ما خرج بالدليل تخصيصا ، كقوله تعالى : ( أَوْفُوا

ص: 195


1- 1 « القواعد والفوائد » ج 2 ، ص 242 ؛ « الحقّ المبين » ص 68 ؛ « خزائن الأحكام » ش 3 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 32 ؛ « مجموعة قواعد فقه » ص 174 ؛ « القواعد » ص 251 ؛ « قواعد فقه » ج 2 ، ص 136 ؛ « قواعد الفقه » ص 27 ؛ « قواعد فقهي » ص 273 ؛ « قواعد فقهيّة » ص 241 ؛ « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 319 ؛ « أصل صحت وأصل لزوم » احمد شهيدى ، ماجستير ، جامعة الشهيد بهشتي ، 1359.

بِالْعُقُودِ ) (1) وسائر الآيات والروايات الواردة في هذا الباب.

ويحتمل أن يكون المراد منها الاستصحاب. وسيأتي شرح جميع هذه الأمور مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.

والمراد من « اللزوم » هو عدم جواز حلّ العقد من أحد الطرفين بدون رضائه الطرف الآخر ، بل عدم إمكانه في عالم التشريع ، فكما أنّ بعض العقد في عالم التكوين لا يمكن حلّه لشدّة إبرامه وإحكامه ، كذلك العقود والعهود في عالم التشريع ليست قابلة للحلّ ؛ لاعتبار الشارع إبرامها وإتقانها بحيث لا يمكن حلّها من طرف واحد بدون رضائه الطرف الآخر ، بل وفي بعض العقود يكون اعتبار إبرامها وإتقانها بنحو لا يمكن حلّها وإن كان برضائه الطرفين ، كالنكاح ، وكلّ عقد لا يتطرّق فيه الإقالة شرعا. وسيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ثمَّ إنّ اللزوم على قسمين : لزوم حقّي ولزوم حكميّ ، واللزوم الحقّي عبارة عن ملكيّة أحدهما التزام الآخر ، أو كلّ واحد منهما التزام طرفه. وفي الأوّل يكون اللزوم من طرف واحد ، وفي الثاني يكون اللزوم من الطرفين. وكذلك الجواز حقّي وحكميّ.

والجواز الحقّي هو أن يكون مالكا لالتزام نفسه ، ولا يكون التزامه ملكا لطرفه.

فإذا كان كلّ واحد من المتعاقدين مالكا لالتزام نفسه ، فهذا جواز حقّي من الطرفين ، وإذا كان أحدهما فقط مالكا لالتزام نفسه دون الآخر ، فهذا يكون جوازا حقّيا من طرف واحد.

بيان ذلك : أنّ في باب العقود مدلول مطابقي للعقد وهو مضمونه ، أي الذي ينشأه المتعاقدان من تبديل مال بمال ، أو غير ذلك من المضامين الكثيرة التي تنشأ بالعقود ، ومدلول التزامي ، وهو التزام كلّ واحد منهما للآخر بما أنشأه ، بمعنى أنّه يتعهّد ويلتزم بالعمل على طبق ما أنشأ ، وأن لا يتخلّف وأن لا ينقض تعهّده.

ص: 196


1- المائدة (5) : 1.

وبهذا الاعتبار يطلقون على من تخلّف عن تعهّده في باب عقد البيعة مثلا بأنّه ناقض للبيعة ولعهده.

وهكذا يكون الأمر في جميع أبواب المعاملات والعهود والعقود العهديّة دون الإذنيّة ، وسيأتي الفرق بين العقود العهديّة والإذنيّة إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا دلالة العقود والعهود على هذه الدلالة الالتزاميّة فمن باب بناء العقلاء ؛ إذ بناؤهم على أنّه لو أنشأوا هذه المعاملة باللفظ المتعارف عندهم لإنشائها ، يكون لكلّ واحد من الطرفين - أي الموجب والقابل - التزام وتعهّد بالبقاء عند هذه المعاوضة ، أو أيّ شي ء آخر كان مضمون هذا العقد وعدم الرجوع عنه.

وهذا المعنى غير صرف الأخذ والإعطاء ، كما هو كذلك في باب المعاطاة ، ففي باب المعاطاة ليس في البين ما يدلّ على تعهّد والتزام من الطرفين ، بل مجرّد معاوضة بأن يعطى بدل ما يأخذ أو يأخذ عوض ما يعطى أو بدله.

وذلك من جهة أنّه ليس في المعاطاة غير الأخذ والعطاء الخارجيّ شي ء آخر يكون دالاّ على أنّهما ملتزمان بالبقاء والوفاء بهذه المبادلة ولا يرجعان عنها ؛ ولذلك قلنا إنّ المعاطاة ليس بعقد ، إذ العقد هو العهد المؤكّد لغة وعرفا ، وليس في المعاطاة في مقام الإثبات ما يدلّ على هذا المعنى ويكشف عنه ، وصرف الأخذ والإعطاء خارجا كلّ واحد عوضا وبدلا عن الآخر لا يدلّ على أزيد من نفس المبادلة والمعاوضة.

نعم قد يدلّ على هذا المعنى فعل من الأفعال غير اللفظ كوضع أحدهما يده في يد الآخر ، أو ضرب أحدهما يده على يد الآخر ، ومن هذه الجهة وبهذا الاعتبار يعبّرون عن البيع بصفقة اليمين ، وقد قال صلی اللّه علیه و آله في قضيّة عروة البارقيّ : « بارك اللّه لك في صفقة يمينك » (1).

ص: 197


1- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 205 ، ح 26 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 245 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 18 ، ح 1.

وقد يكون الخط والإمضاء دليلا على هذا ، كما أنّه يقال : إنّ العقود التي تقع بين الدول في معاملاتهم تتمّ بإمضاء من حوّل إليه الأمر من كلّ واحد من الطرفين ، وكذلك يقال : إنّ في عقد النكاح يكون وقوعه وإتمامه بإمضاء الطرفين.

وعلى كلّ حال ليس صرف العمل بمضمون العقد عقدا ، ما لم يكن دالاّ على هذا الالتزام ، من لفظ ينشأ به هذا المضمون ، أو فعل يدلّ على البقاء والالتزام بعد الرجوع عنه كوضع اليد في يد الآخر كما كان في باب البيعة ، أو ضرب اليد على يد الطرف الآخر كما في بعض أبواب المعاملات ، أو خطّ أو إمضاء كما ذكرناه.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّهم قسّموا العقود على قسمين : عقود إذنيّة ، وعقود عهديّة. وما ذكرنا من دلالة العقد بالدلالة الالتزاميّة على الالتزام بالوفاء بمضمون العقد والبقاء عنده وعدم الرجوع عنه في العقود العهديّة دون الإذنيّة ؛ إذ العقود العهديّة عبارة عن العهد المؤكّد ، وأمّا العقود الإذنيّة فهي عبارة عن مجرّد إذن أحدهما للآخر في أمر من الأمور ، كالوكالة والعارية وأمثالهما ، وإنّما عبّر عنها بالعقد ؛ لوقوع الإذن بصورة الإيجاب ، ورضا الطرف بهذا الأمر بصورة القبول ، فيكون عقدا شكليّا ، لا عقدا واقعيّا ؛ ولذلك يكون إطلاق العقد عليها إطلاقا مجازيّا لا حقيقيّا.

فليس التزام من أحدهما بالوفاء والبقاء عند هذه المعاوضة والمبادلة في البين وقوامها بالإذن فقط ، فإذا فسخ وارتفع الإذن فلا يبقى شي ء في البين كي يقال يجب الوفاء به والبقاء عنده ، فخروج هذه العقود من أصالة اللزوم أو من قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بالتخصّص ، لا بالتخصيص كي يقال بأنّه يلزم في الآية أو ذلك الأصل تخصيص الأكثر. وأمّا العقود العهديّة فيشملها أصالة اللزوم ، وكذلك ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل كلّها.

وفرّق شيخنا الأعظم قدس سره (1) في العقود العهديّة بين التعليقيّة والتنجيزيّة ، فاستشكل

ص: 198


1- « المكاسب » ص 85.

في اللزوم في مثل السبق والرّماية والجعالة بناء على أن يكون مدرك اللزوم هو استصحاب أثر العقد ، ففي العقود التعليقيّة لو فسخ الطرف قبل حصول المعلّق عليه ليس أثر كي يستصحب بعد فسخ من عليه أداء الجعل في الجعالة ، ومن عليه السبق في السبق والرماية بناء على ما زعم من أنّ قبل حصول السبق في السبق والرماية ، وكذلك قبل ردّ الضالّة في الجعالة لا يستحقّ السبق ولا الجعل ولا يملك شيئا ، فليس شي ء في البين كي يستصحبه بعد الفسخ.

وسنتكلم إن شاء اللّه في هذا الأمر حين تكلّمنا في أنّ أحد الأدلّة على قاعدة اللزوم وعدم تأثير الفسخ هو الاستصحاب ، ونبيّن ما هو الحقّ في هذا المقام.

وخلاصة الكلام كما سنذكره إن شاء اللّه تعالى أنّه لا فرق بين العقود العهديّة التنجيزيّة والتعليقيّة في أنّ مقتضى الأصل - وإن كان المراد من الأصل هو الاستصحاب - هو اللزوم وعدم تأثير الفسخ.

الجهة الثانية

اشارة

في بيان الأدلّة التي تدلّ على أنّ مقتضى الأصل الاوّلى في كلّ عقد هو اللزوم ،

وعدم نفوذ الفسخ من كلّ واحد من طرفي المتعاقدين ، فنقول :

الأوّل : هو بناء العقلاء في عهودهم وعقودهم على لزوم الوفاء والبقاء عند التزامه ، بحيث لو رفع اليد عمّا التزم من عقده وعهده يرونه ناقضا لالتزامه وتعهّده ، ويذمّونه على ذلك ، والشارع لم يردعهم عن هذه الطريقة ، بل ألزمهم بذلك ، كما سنذكره إن شاء اللّه.

والحاصل : أنّ مخالفة الالتزامات وعدم الاعتناء بعقده وعهده عندهم من أكبر المعايب وأخسّ الصفات وأرذلها ، إلاّ أن يجعل أحدهما لنفسه حق رفع اليد عن التزامه ، أو كلّ واحد منهما يجعل لنفسه من أوّل الأمر ذلك في ضمن العقد ، وهذا

ص: 199

يسمّى بخيار الشرط لأحد الطرفين أو كليهما. وهذا يرجع في الحقيقة إلى عدم التزامه المطلق وعلى كلّ حال ، بل التزام على تقدير دون تقدير.

وبعبارة أخرى : بعد ما عرفت أنّ العقود المنشأة بإنشاء لفظي لها دلالتان : إحداهما مطابقة ، والأخرى التزاما ، والثاني التزامه للآخر بالبقاء عند ما أنشأه بالمطابقة وعدم العدول عنه ، فالعدول والرجوع عمّا التزم به خلف ونقض ، وهذا قبيح.

وإن شئت قلت : إنّ التزامه لطرفه تمليك له ، فهذا الالتزام في اعتبار العقلاء يكون ملكا لطرفه وذلك بتمليكه إيّاه ، فكما لو وهب مالا لغيره ليس له الرجوع إليه عند العقلاء ، خصوصا بعد تصرّف الموهوب له فيه وإتلافه ، ليس له أن يضمّنه ويكون خارجا عن قاعدة الإتلاف تخصّصا لا تخصيصا ، فكذلك بعد ما التزم له بالوفاء العقلاء يعتبرون للملتزم له حقّ الإلزام له بالوفاء بما التزم به.

نعم الملتزم له لو رفع اليد عن حقّه بإسقاطه ، فلا يكون بعد ذلك ملزما بالعمل بالتزامه ، ويجوز له حلّ عقده وعهده ، وليس ذلك حينئذ خلف ونقض لعهده ، ومرجع الإقالة إلى هذا الذي ذكرنا.

فمعنى قول الملتزم للملتزم له « أقلني » أي ارفع اليد عن حقّك الذي كان عبارة عن أنّه كان لك إلزامي بالعمل بمقتضى هذا العقد ومضمونه ، فإذا كان اللزوم والإقالة من الطرفين فقهرا يرتفع اللزوم من البين ، فكأنّه بالنسبة إلى لزوم الوفاء لكلّ واحد منهما لم يكن عقد في البين ، ولعلّ هذا معنى انحلال العقد بالإقالة ، ولعلّ من هذه الجهة قالوا إنّ انحلال العقد بالإقالة وارتفاع اللزوم من البين يكون على القاعدة ، ولا يحتاج صحّة تأثيرها على وجود دليل في البين.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يمكن إنكار أنّ بناء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار على لزوم العمل بعقودهم وعهودهم ، وعدم قدرة الملتزم بمعاهدة وتعاقد - وإن كان التزامه بدلالة التزاميّة لألفاظ العقود والمعاهدات - على رفع اليد عن التزامه ، وحلّ

ص: 200

عقده وعهده.

وأمّا ما توهّم من أنّ العقد أمر وحداني وجوده قائم بطرفين ، ولا يمكن إيجاده من طرف شخص واحد ؛ لأنّ العقد عبارة عن العقدة الحاصلة بين حبلي عهد كلّ واحد من الطرفين ، فكأنّ تعهّد كلّ واحد من الطرفين بمضمون العقد حبل منه في عالم الاعتبار ، فهناك حبلان : أحدهما من طرف الموجب ، والآخر من طرف القابل ، والعقد عبارة عن تعقيد رأس الحبلين كلّ واحد بالآخر.

فالعقدة التي تحصل بين رأسي الحبلين في عالم الاعتبار هو المسمّى بالعقد ، وهذه العقدة وحداني ولكن قائم بالطرفين ، ولا يمكن أن يحصل بفعل واحد كما هو واضح ؛ لأنّها نتيجة فعلين ، فكذلك كلّ واحد منهما منفردا لا يقدر على حلّ تلك العقدة ؛ وذلك لأنّ هذه العقدة فعله وفعل غيره.

فكما أنّ في عالم الإيجاد لم يكن له إيجادها وحده ، فكذلك في عالم حلّ تلك العقدة ليس له وحده حلّها ، ومعلوم أنّ جواز رجوع كلّ واحد منهما عن التزامه مرجعه إلى حلّ تلك العقدة ، وإلاّ فما دام تلك العقدة موجودة ، فحبل عهده مشدود ويمنعه عن الرجوع. والقول بأنّ له وحده حلّ تلك العقدة مساوق مع كونه مسلّطا على فعل شخص آخر لم يجعل اللّه له تلك السلطنة.

ولا شكّ في أنّ هذا واضح البطلان ، وذلك من جهة أنّ هذه العقدة التي وجدت في عالم الاعتبار بعد ما فرضنا أنّ صرف المعاوضة والمبادلة لا يكون سببا لوجودها ، ولذلك قلنا بأنّ المعاطاة ليس بعقد ، إذ ليس هناك عقدة والتزام في البين ، بل صرف معاوضة ومبادلة بين المالين ، أو صرف إنشاء مضمون تلك المعاملة -

بل سبب وجودها التزام كلا الطرفين بعدم الرجوع عن مضمون هذه المعاملة ، فحصلت العقدة من هذين الالتزامين ، فهي من فعل الطرفين ، فرفع هذه العقدة التي هي فعل الطرفين من طرف أحدهما لا يمكن إلاّ بأن يكون له سلطان على رفع سببها ،

ص: 201

والمفروض أنّ السبب مركّب من فعلين والتزامين ، وهو ليس له سلطان إلاّ على فعل نفسه ، فله أن يرفع اليد عن التزام نفسه ، وأمّا رفع اليد عن التزام غيره الذي هو فعل الغير ، ليس له ذلك ، لعدم سلطنته على الغير.

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّ تلك العقدة وإن كانت تحصل من التزام الطرفين بالبقاء بمضمون هذا العقد ، ولكن ارتفاعها كما يكون برجوع كلا الطرفين عن التزامهما معا ، كذلك يمكن برجوع أحدهما وحده ؛ وذلك من جهة أنّ المعلول كما أنّه يرتفع بارتفاع جميع أجزاء علّته ، كذلك يرتفع بارتفاع بعض أجزائها ، وهذا واضح.

وإنّما الكلام في أنّه هل يجوز لكلّ واحد منهما رفع اليد عن التزامه منفردا ، أو يجوز لكليهما رفع اليد عن التزامهما معا ، أو لا يجوز مطلقا لا مجتمعا ولا منفردا ، أو يفصّل بأنّه لا يجوز منفردا ويجوز معا ومجتمعا ، وهذا الأخير هي الإقالة؟

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الحق هو التفصيل في اللزوم الحقّي ، بأنّه يجوز رفع اليد عن التزامهما جمعا وبرضائه الطرفين دون أحد الطرفين بدون رضائه الطرف الآخر ؛ وذلك لما بيّنّا أنّ التزام كلّ واحد منهما حيث يكون برعاية الطرف الآخر فيوجد عند العقلاء وفي اعتبارهم حقّ إلزامه بالوفاء بما التزم به رعاية له. وأمّا رفع اليد عن التزامه برضا الطرف ، فلا ينافي كون الطرف له حقّ إلزامه ، وعلى هذا الأساس بنينا صحّة الإقالة وجريانها على القاعدة في كلّ معاملة وعدم احتياجها إلى ورود دليل على صحّة جريانها.

وخلاصة الكلام : أنّ الدليل على أصالة اللزوم في العقود العهديّة - تنجيزيّة كانت ، كالبيع والإجارة والصلح وغيرها ، أو تعليقيّة كالجعالة - هو بناء العقلاء على وجوب العمل بالتزامه وتعهّده ، وقبح التخلّف ورفع اليد عن ذلك الالتزام ، وذكرنا أنّ نقض العهد يعدّ عندهم من أرذل الرذائل ، ومن منافيات الشرف والفضيلة ، والشارع الأقدس لم يردعهم من هذه الطريقة ، بل أمضاها بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) كما

ص: 202

سنذكر أدلّته إن شاء اللّه.

وبعبارة أخرى : يرى العرف والعقلاء أنّ من التزم لشخص بشي ء ، فقد جعل ذمّته مشغولة له بذلك ، إذا كان هذا الالتزام في ضمن عقد وعهد ، لا أن يكون التزاما بدويّة ، وإن كان منشأ بنفس مادّة الالتزام ، بأن يقول : التزمت لك بذلك ؛ لأنّ الالتزامات البدويّة التي ليست في ضمن عقد وعهد تحسب وعدا ابتدائيّا ، ولا شكّ في حسن الوفاء به ، وأمّا وجوبه ولزوم الوفاء به عند العقلاء أو الشرع ، فيحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، ولعلّه نتكلّم فيها إن شاء اللّه تعالى.

ولعلّ هذا مراد شيخنا الأستاذ قدس سره حيث يقول : كلّ واحد من الطرفين مالك لالتزام الآخر ، فإذا أسقط ملكيّته بمعنى حقّه ، فقهرا يكون من عليه الحقّ مخيّرا في البقاء وعدم الرجوع عمّا التزم به ، وفي عدم البقاء عند التزامه والرجوع عمّا التزم به ، فلا بدّ من أن يكون مراده من ملكيّة الطرف لالتزامه ثبوت هذا الحقّ له ، لا ثبوت الملكيّة الاعتباريّة الشرعيّة الذي هو حكم وضعيّ كالطهارة والنجاسة ، وإلاّ لم يكن قابلا للإسقاط ، فلا تكون الإقالة على القاعدة ، وتحتاج إلى دليل على صحّتها وجريانها ، إمّا عامّا وفي جميع العقود ، أو في مورد خاصّ. وقد تقدم أنّها على القاعدة ، وتجري في جميع العقود.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ لزوم العقد وعدم جواز حلّه من كلّ واحد من الطرفين منفردا منشأه بناء العقلاء على لزوم الوفاء وعدم نفوذ فسخه والرجوع عمّا التزم به وتعهّد ، والشارع الأقدس لم يردعهم عن ذلك ، بل أمضى هذه الطريقة بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وبسائر الأدلّة التي نذكرها إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا أنّ العقدة التي تحصل من تعهّد الطرفين الذي هو العقد ، حيث أنّها أمر وحداني وحاصلة من فعل الطرفين ، فليس لأحدهما إزالة تلك العقدة ؛ لأنّه لا سلطان له على فعل الغير وإزالته.

ص: 203

ففيه : ما ذكرنا أنّ سلطنته على إزالة فعل نفسه كاف في ارتفاع تلك العقدة ، لقيامها بكلا الفعلين وكلا الالتزامين ، فإذا رجع أحدهما عن التزامه يرتفع تلك العقدة وينتقض بنقض أحدهما ، ولذا يطلق على تخلّف المبايع عن بيعته نقض البيعة ، مع أنّ الرجوع عن عهده وميثاقه من طرفه فقط.

وأمّا القول بأنّ البيعة ليست بعقد ، فليس ممّا يصغى إليه. والسرّ في ذلك أنّ العقد إمّا عبارة عن نفس تعهّدين ، أو حاصل منهما وقائم بهما ، فكما أنّه يرتفع بارتفاعهما ، كذلك يرتفع بارتفاع أحدهما. ثمَّ إنّ بناء العقلاء على اللزوم أمر قابل للردع شرعا ، كما أنّه وقع في مورد خيار المجلس ، فالعقلاء والعرف وإن كان بناؤهم على اللزوم حتّى فيما إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد ولم يتفرّقا في عقد البيع ، ولكن الشارع الأقدس نفى اللزوم ما دام لم يتفرقا عن مجلس البيع بقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (1) - أو « لم يتفرّقا » على بعض النسخ أو الطرق - فبناء العرف والعقلاء في مورد خيار المجلس مردوع وليس بحجّة.

هذا إذا قلنا بأنّ بناء العقلاء على اللزوم مطلق من حيث التفرّق عن المجلس وعدمه ، وأمّا إن قلنا بعدم إطلاقه وعدم بناء منهم في صورة عدم التفرّق وبقاء المتعاقدين في المجلس - وإن كان هذا الاحتمال بعيدا ، خصوصا فيما إذا طال المجلس ، كما إذا كان المتعاقدان في سيّارة أو سفينة أو في طيّارة في مسافة طويلة ، بل هما ربما يكونان في طيّارة يطول مجلسهما إلى مئات فراسخ بل آلاف ، فالعرف في أمثال هذه الموارد بناؤه على اللزوم بلا ريب ، وإن أخذنا بإطلاق دليل خيار المجلس ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » - وقلنا بثبوت الخيار ، فلا ردع في البين ؛ لتوافق بنائهم مع الدليل الشرعي الذي مفاده ثبوت خيار المجلس ما لم يفترقا.

وأمّا في سائر الخيارات غير خيار المجلس ، كخيار الشرط والعيب ، فليس بناء

ص: 204


1- « الكافي » ج 5 ، ص 170 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 20 ، ح 85 ، باب عقود البيع ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 346 ، أبواب الخيار ، باب 1 ، ح 3.

للعقلاء في مواردها على اللزوم قطعا ؛ لأنّ كون المعيوب مردودا قضيّة ارتكازيّة عند العرف والعقلاء ، وما ورد في الشرع من الخيار إمضاء لذلك الأمر الارتكازي.

وأمّا خيار الشرط فلا شكّ في أنّ العقلاء أيضا يحكمون بلزوم الوفاء بالشرط ، فليس لهم بناء على اللزوم.

وأمّا تخلّف الشرط أو الوصف ، فأيضا لا بناء للعقلاء على اللزوم في مواردهما.

وأمّا خيار الغبن فبناء على ما هو الصحيح في مدركه من أنّه يرجع إلى تخلّف الشرط الضمني ، فيكون من صغريات خيار تخلّف الشرط. وقد عرفت أنّه لا بناء لهم في مورد تخلّف الشرط على اللزوم.

نعم في خيار الحيوان الظاهر أنّه حكم شرعي ، وليس عدم اللزوم إلاّ من جهة ورود دليل شرعي ، وهو قوله علیه السلام « صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيّام » (1) سواء كان المراد هو خصوص المشتري ، أو كان أعمّ من البائع والمشتري ، وإلاّ فمن ناحية بناء العقلاء على اللزوم لا فرق بين أن يكون المبيع أو الثمن حيوانا أو غير حيوان.

لا يقال : إنّ خيار الحيوان جعله الشارع من جهة الاختيار ، وأنّه هل فيه عيب ونقص أم لا. وهذا المعنى ممّا لا ينكره العرف والعقلاء ، فهم أيضا لا يبنون على اللزوم في زمان الاختبار. ذلك من جهة أنّ خيار العيب عندهم مغن عن هذا الخيار ، فخيار الحيوان لا بدّ وأن يكون حكما تعبّديا.

نعم جميع الأحكام الشرعية لا بدّ وأن يكون عن ملاك ملزم لذلك الحكم من مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ، فدليل خيار الحيوان أيضا مثل دليل خيار المجلس يكون رادعا عن بناء العقلاء على اللزوم في مورد خيار الحيوان ، أي فيما إذا كان المبيع

ص: 205


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 67 ، ح 287 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 349 ، أبواب الخيار ، باب 3 ، ح 2.

أو الثمن حيوانا.

وخلاصة الكلام : أنّ في كلّ مورد حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم ، فإن لم يكن بناء العقلاء أيضا على اللزوم فلا كلام ولا إشكال ، وأمّا إذا كان بناؤهم على اللزوم ، فالدليل الذي يدلّ على حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم يكون رادعا لبناء العقلاء.

هذا في العقود العهديّة التنجيزيّة كالبيع والإجارة والصلح وأمثالها واضح ، وأمّا العقود العهديّة التعليقيّة كالجعالة والسبق والرماية والوصيّة وأمثالها ، فأيضا لا شكّ في أنّ بناء العقلاء على لزومها بعد التلبّس بالعمل في الأوّلين ، وبعد الموت في الثالث بناء على كونها من العقود ، وأمّا لو قلنا بعدم احتياجها إلى القبول وأنّها إيقاعات ، فخارجة عن محلّ البحث موضوعا.

وأمّا العقود الإذنيّة التي لا تعهّد فيها وقوامها بالإذن فقط ، فقد تقدّم أنّها خارجة عن الموضوع تخصّصا لا تخصيصا ؛ لأنّه لا تعهّد ولا التزام فيها ، بل قلنا إنّ إطلاق العقد عليها ليس إلاّ من باب المشاكلة ، وإلاّ ليس فيها عهد وعقدة بين الطرفين ؛ ولذلك قالوا إنّها جائزة بالذات مقابل العقود اللازمة بالذات.

وخلاصة الكلام : أنّ بناء العرف والعقلاء على لزوم الوفاء بالتعهّدات والالتزامات ، فالعقود الإذنيّة - التي قوامها الإذن كالوكالة - لا التزام ولا تعهّد فيها خارجة عن دائرة هذا البناء ، وأمّا العقود العهديّة فداخلة بكلا قسميه ، سواء كانت تنجيزيّة أم تعليقيّة.

نعم في العقود التعليقيّة نزاع صغروي ، وهو أنّها هل تحتاج إلى القبول كالوصيّة والجعالة والسبق والرماية ، أم لا؟ فإن قلنا بعدم الاحتياج وأنّها إيقاعات ، فهي خارجة عن موضوع هذا البناء ، وإلاّ فحالها حال العقود التنجيزيّة.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فأقول :

ص: 206

التمسّك بهذه القاعدة وبناء العقلاء على لزوم معاملة كالوقف أو الجعالة مثلا عند الشكّ في لزومها بعد الفراغ عن كون تلك المعاملة من العقود ، وإلاّ لو علمنا بأنّها ليست من العقود ، فهي خارجة عن موضوع هذه القاعدة يقينا ، وكما أنّه لو شككنا أنّها عقد أم لا ، يكون التمسّك بها لإثبات لزومها من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لا يجوز قطعا ، وهو من الواضحات.

فبعد إحراز أنّها من العقود ، فتارة يكون منشأ الشكّ هي الشبهة الحكميّة ، وأخرى هي الشبهة الموضوعيّة.

فالأوّل : كما إذا شكّ في لزوم الوقف ، مثلا لو مات الواقف قبل أن يقبض العين الموقوفة ، فبناء على أنّه من العقود كما رجّحناه وقلنا إنّه يحتاج إلى القبول يحكم عليه باللزوم لأجل هذه القاعدة ، وكذا في باب المعاطاة لو قلنا بأنّه عقد ، وإن كان الصحيح عندنا خلافه.

وكذا في سائر موارد الشكّ في الحكم الشرعي بالجواز أو اللزوم بعد الفراغ عن كونه عقدا يصحّ التمسّك بهذه القاعدة لإثبات اللزوم ، ولا يصغى إلى ما يقال بأنّ البناء العملي لا عموم ولا إطلاق فيه مثل باب الألفاظ ، كي يتمسّك به لرفع الشكّ والحكم باللزوم.

وذلك من جهة أنّ هذا البناء بعد إمضاء الشارع له ولو من جهة عدم الردع يستكشف منه حكم الشارع بلزوم كلّ عقد ، فيكون كما إذا ورد عامّ لفظي يكون له عموم وإطلاق ، وبهذا البيان أثبتنا الإطلاق للإجماع إذا كان معقده عنوانا من العناوين.

وأمّا الثاني : أي إذا كان منشأ الشكّ الشبهة الموضوعيّة ، كما إذا شككنا أنّ المعاملة الواقعة هل هي صلح كي يكون لازما ، أو هبة لغير ذي الرحم كي يكون جائزا ، أو شكّ في أنّ الموهوب له ذي رحم أو أجنبيّ ، كي يكون لازما في الأوّل وجائزا في

ص: 207

الثاني؟ فيصحّ التمسّك بهذه القاعدة لإثبات لزومه.

الثاني : الأدلّة والعمومات والإطلاقات اللفظيّة من الآيات والروايات :

فمن الأوّل قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وتقريب دلالتها على لزوم جميع العقود هو أنّه لا شبهة في أنّ كلمة « العقود » بما أنّه جمع معرّف بالألف واللام يكون من ألفاظ العموم ودالاّ عليه ، فيكون معنى الآية : يجب الوفاء بجميع العقود.

وهذا العموم الأفرادي الذي هو ظاهر الآية ومدلول مطابقي لها ، يستتبع عموما أزمانيّا أيضا بدلالة الاقتضاء ، لأنّ الآية لو كانت مهملة من هذه الجهة يصدق امتثالها بالوفاء في آن من الآنات ، فيكون هذا الحكم لغوا لا فائدة فيه ، فصونا للكلام عن اللغويّة لا بدّ وأن نقول بأنّ المراد وجوب الوفاء في كلّ زمان. ولا شكّ في أنّ وجوب الوفاء في كلّ زمان يكون من لوازم اللزوم ، بل يكون عرفا مساوقا معه ويصحّ التعبير عن اللزوم به عرفا.

وأمّا توهم أنّ وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم العمل بمضمونه ما دام موجودا وباقيا ، ولا يدلّ على عدم جواز إزالته بالفسخ ؛ لأنّه لا تنافي بين جواز إزالته ووجوب الوفاء به ما دام موجودا ، فلو قال : أكرم زيدا في كلّ زمان ما دام موجودا في البلد ، فجواز إخراجه من البلد لا ينافي وجوب إكرامه في كلّ زمان ما دام موجودا في البلد.

وبعبارة أخرى : يكون من قبيل الأصل الحاكم مع الأصل المحكوم ، فوجوب العمل بالأصل المحكوم والجري بمقتضاه في كلّ زمان لا ينافي مع مقتضى دليل الأصل الحاكم ؛ لأنّ العمل بمقتضى أصل المحكوم معلّق عقلا على بقاء موضوعه ، أي كونه شاكّا ، فإذا ارتفع موضوعه بالأصل الحاكم ، لا يبقى تعارض في البين ؛ ولذلك قلنا في باب تعارض الأدلّة أنّه لا تعارض بين دليل الحاكم والمحكوم.

فهاهنا حلّ العقد وإفناؤه لا ينافي وجود العمل بمقتضاه دائما وفي كلّ زمان ؛ لأنّ

ص: 208

العمل بمقتضاه عقلا موقوف على بقائه ، فإذا ارتفع لا يبقى موضوع لهذا الحكم.

وفيه أوّلا : ما ذكرنا أنّ هذه العبارة ، أي وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان مساوق في المتفاهم العرفي مع القول بأنّ كلّ عقد لازم لا يمكن - أو لا يجوز - حلّه ونقضه.

وثانيا : الظاهر من قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ليس المراد به وجوب الوفاء بما عقد عليه وتعهّد به ، كي يكون معناه وجوب العمل بمقتضاه ، بل المراد به وجوب الوفاء بنفس عقوده وعهوده وأن لا ينقض عقده وعهده ، فابتداء الواجب التكليفي هو البقاء على عهده وعدم الرجوع عن التزامه ، لا وجوب العمل بما التزم به ، نعم وجوب العمل بما التزم به من آثار البقاء على عهده وحفظ تعهّده والتزامه.

فبناء على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) من انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي ، فينتزع اللزوم قهرا من هذا الوجوب التكليفيّ ، أي وجوب البقاء على تعهّده والتزامه وحرمة نقضه وحلّه.

وهذا الكلام ، أي انتزاع الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي وإن كان لا أساس له عندنا ، وأثبتنا فساده في الأصول ، وبيّنّا في كتابنا « منتهى الأصول » (2) أنّ بعض الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة والملكيّة والزوجيّة وأمثالها مستقلاّت في الجعل وليست منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، بل هي موضوعات لها ، فيكون الأمر بالعكس ، أي يكون الحكم التكليفيّ من آثار الحكم الوضعي ، فتكون حرمة الاستعمال فيما هو مشروط بالطهارة أو الشرب من آثار النجاسة ، وكذلك الأمر في الملكيّة والزوجيّة وغيرهما.

ولكن هاهنا لا نحتاج إلى الالتزام بأنّ وجوب الوفاء بالعقود حكم تكليفي ينتزع

ص: 209


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 601.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 395.

منه ، فإنّ هذا يشبه الأكل من القفا ، بل نقول من أوّل الأمر أنّ وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم البقاء عليه وعدم نقضه وحلّه ، وهذا عين اللزوم ، وإن شئت قلت : إنّ معنى العقد عرفا هو الالتزام والتعهّد بأمر ، فهذا المعنى بنفسه يقتضي عند العرف والعقلاء البقاء على تعهّده وعدم جواز حلّه ونقضه.

وبعبارة أخرى : يرونه في عالم اعتبارهم أمرا ثابتا غير ممكن النقض ؛ ولذلك يرون الخارج عن التزامه ناقضا لعهده ، وهذا عين اعتبار اللزوم عندهم في العقود والعهود ، والشارع أمضى هذا اللزوم الذي في اعتبارهم للعقود بقوله ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .

فمفاد هذه الآية تثبيت ما هو ثابت عندهم ، وتقرير أهل العرف في لزوم العقود في اعتبارهم.

فكأنّ هاهنا اعتبارين : أحدهما من قبل العرف وهو اعتبارهم اللزوم في عقودهم وعهودهم ، سواء كانت في أبواب المعاملات أو في غيرها. ثانيهما : من قبل الشرع ، وهو إمضاء ذلك الاعتبار العرفيّ وتثبيته في عالم الاعتبار الشرعي.

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين (1) من الوجوه الأربعة في المراد من العقود في الآية :

أحدها : أنّ المراد من هذه الكلمة هو عهود أهل الجاهليّة. ذكره جمع من المفسّرين وفيهم ابن عبّاس ، وهذا المعنى لا بدّ من توجيهه ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد.

ثانيها : هو العهود التي أخذ اللّه تعالى على عباده بأن لا يعبد والشيطان.

ثالثها : العقود والعهود التي بين الناس في معاملاتهم وغيرها.

رابعها : أنّ المراد به العهود والمواثيق التي أخذ من أهل الكتاب في التوراة من عدم إنكارهم لنبوّة نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله وتصديقهم لنبوّته ، وأنّ كلّ ما جاء به من الأحكام

ص: 210


1- انظر : « مجمع البيان » ج 2 ، ص 150.

فهو حقّ ومن عند اللّه.

فهذه المعاني وإن كانت في حدّ نفسها صحيحة وذكرها المفسرون ، ولكنّه من الواضح أنّ الاعتبار بعموم الألفاظ ، ولا يكون خصوصيّة المورد مخصّصا ، وكذلك تطبيق المفسّرين بل الأئمّة علیهم السلام على بعض موارد ذلك العامّ. ولا شكّ في أنّ لفظ « العقود » عامّ يشمل كلّ عقد صدر من المتعاقدين ، وكلّ واحد من هذه المعاني التي ذكروها مصداق من مصاديق العامّ ، وشموله له لا ينفى شموله للمصاديق الأخر.

فظاهر الآية بناء على ما ذكرنا في المراد منها هو لزوم كلّ ما يصدق عليه العقد ويحمل عليه حملا حقيقيّا لا تجوّزا.

ثمَّ إنّه استشكل على دلالة هذه الآية على اللزوم بلزوم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن ، فيسقط العموم عن الحجّية ولا يمكن التمسّك به ؛ لاستهجانه ولزوم تخصيص الأكثر من جهة خروج العقود الجائزة عن هذا العموم قطعا ، وكذلك المعاطاة بناء على تحقّق الإجماع على جوازه ، وهي كثيرة جدّا ، خصوصا المعاطاة ؛ وذلك لأنّ أغلب معاملات الأسواق والمعاوضات من البيوع والإجارات وغيرهما بالمعاطاة ، بل لا يبعد دعوى كون جميعها بالمعاطاة ، وكذلك العقود اللازمة في موارد الخيارات.

وفيه : أنّ العقود الجائزة بالذات لا بواسطة جعل الخيار من اللّه تعالى أو من قبل المتعاقدين قد تقدّم أنّها هي العقود المسمّاة بالإذنيّة ، مقابل العقود العهديّة ، وبيّنّا أنّ تلك العقود المسماة بالإذنيّة التي قوامها بالإذن في الحقيقة ، ليست بعقد ، كالوكالة أو العارية مثلا ، إذ ليس تعهّد في البين ، وقلنا إنّ إطلاق العقد عليها من باب المشاكلة ، ومن جهة أنّ الإذن فيها يصدر بشكل الإيجاب ، ورضا الطرف بالعمل على طبق ذلك الإذن يكون بصورة القبول وبشكله ، فخروج تلك العقود عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يكون بالتخصّص لا بالتخصيص ، وقد تقدّم كلّ ذلك.

وأمّا المعاطاة ، فقد بيّنّا في محلّه أنّه ليس بعقد ، بل هو صرف مبادلة بين العوضين

ص: 211

وليس تعهّد في البين. وإن شئت قلت : كما أنّه يمكن أن ينقل مالا من مكانه إلى مكان مال آخر ، وذلك المال الآخر ينقل من مكانه إلى مكان المال الأوّل ، فيبدّل مكان كلّ واحد من المالين إلى مكان الآخر ، كذلك في عالم الاعتبار يمكن إنشاء هذه المبادلة بين المالين بدون أن يكون التزام من المتعاملين أو أحدهما في البين ، ومن دون أن يكون تعهّد بالبقاء عند هذه المبادلة منهما أو من أحدهما. وهذا هو المسمّى بالمعاطاة ، فليس في المعاطاة عقد وعهد أصلا ، فيكون خروجه عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) خروجا موضوعيّا ، ويكون من باب التخصّص لا التخصيص.

وأمّا العقود اللازمة في موارد الخيارات ، فهي في الموارد التي يكون الخيار مجعولا من قبل المتعاقدين ، فلا يشمله هذه الآية ؛ لأنّ الآية معناها كما تقدّم لزوم الوفاء بالتزامه وتعهّده ، فإذا كان تعهّده والتزامه مشروطا بشرط ومقيّدا بأمر كما في مورد خيار الشرط والغبن ، بناء على رجوع الأخير إلى تخلّف الشرط الضمني ، وهو تساوي العوضين في الماليّة ، ففي مورد فقد الشرط والقيد لا التزام كي يكون الوفاء به واجبا ، فيكون خروج تلك الموارد عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) أيضا خروجا موضوعيّا لا من باب تخصيص هذه القاعدة.

نعم في الخيارات المجعولة من قبل الشارع مع كون الالتزام الذي قلنا إنّه مدلول التزامي للألفاظ التي تنشأ بها العقود مطلقا من الطرفين المتعاملين غير مقيّد بشي ء وغير مشروط بشرط ، كخيار المجلس ، وخيار الحيوان وما شابههما ، يكون تخصيصا للقاعدة.

وأنت خبير بأنّ هذا المقدار ليس من التخصيص المستهجن ، فإشكال لزوم تخصيص الأكثر في عموم هذه القاعدة لا أساس له.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال بأنّ موارد الخيارات المجعولة من قبل الشارع أيضا ليس من باب التخصيص ، بل يكون شبيها بالحكومة ، بأن يقال مثلا في خيار

ص: 212

المجلس أو خيار الحيوان : جعل الشارع التزامهما في تلك المدّة كلا التزام ، فكأنّهما لم يلتزما بالبقاء عند هذه المعاملة ما دام كونهما في المجلس ولم يفترقا بالنسبة إلى خيار المجلس ، وكذلك كأنّهما لم يلتزما في مدّة ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ، فيكون أيضا خروجهما وأمثالهما أيضا خروجا موضوعيّا ، غاية الأمر خروجا موضوعيّا تعبّديا لا تكوينيّا ، كما هو الشأن في جميع موارد الحكومة ، وأنّ التوسعة والتضييق فيها في جانب الموضوع أو المحمول تعبّدي ، لا تكويني ووجداني.

وبعبارة أخرى : التصرّف في باب الحكومة في جانب الموضوع أو المحمول في القضيّة الشرعيّة المتكفلة لبيان حكم من الأحكام ، ولا نظر في ذلك الباب إلى التضيّق في الحكم ، وإن كان التضيق في الموضوع أو المحمول ينتج ذلك أيضا.

فنقول فيما نحن فيه : إنّ الشارع الأقدس في مدّة بقاء المتبايعين في المجلس ، أو مدّة ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ، جعل التزامهما بهذه المعاملة كلا التزام ، لا أنّه مع فرض البناء على وجود الالتزام نفى الوفاء بذلك الالتزام ، كي يكون من باب التخصيص ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وفرضنا أنّ أكثر أفراد العلماء هم النحويّون مثلا ، فقال : النحوي ليس بعالم ، فليس هذا من باب تخصيص الأكثر ، بل من جهة أنّ الشارع أخرج النحوي عن موضوع حكمه خروجا تعبّديا ، فليس من باب التخصيص كي يكون مستهجنا إذا كان الخارج أكثر الأفراد.

ويمكن أيضا أن يقال : إنّ ما نحن فيه ليس من قبيل التخصيص كي يقال بأنّ الخارج أكثر فهو مستهجن ، بل من قبيل تقييد الإطلاق.

وذلك من جهة أنّ عموم لفظ « العقود » باعتبار الأفراد لا باعتبار الأزمان ، فالحكم ثبوته في جميع الأزمان ليس من ناحية صيغة العموم ، بل من جهة الإطلاق الأزماني الثابت بدلالة الاقتضاء ، صونا عن لغويّة جعل الخيار لو كان ثبوته في زمان ما فقط. وتقييد ذلك الإطلاق بالنسبة إلى قطعة من الزمان ، أي زمان بقاء المجلس

ص: 213

وعدم حصول الافتراق ، وكذلك ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ليس من باب تخصيص العموم ، كي يقال بأنّه مستهجن ، بل صرف تقييد إطلاق ، فلا يأتي هذا الكلام ولا مجال للإشكال به على التمسّك بهذا العموم.

وذلك من جهة أنّ الإطلاق وشمول الحكم لجميع الحالات والخصوصيّات الواردة على المطلق ليس بالوضع ، كما هو مذكور في محلّه ، وإنّما الشمول لدليل الحكمة وبمقدّماتها ، ففي كلّ مورد وبالنسبة إلى أيّ خصوصيّة جاء دليل على التقييد ، يبطل الإطلاق بالنسبة إلى تلك الخصوصيّة ويرتفع من البين ، فلو قيّد المطلق بحيث لا يبقى له إلاّ فرد واحد لا يكون مستهجنا.

بخلاف العامّ فإنّه موضوع للعموم ، فيكون ظاهره العموم ، خصوصا إذا كان المخصّص منفصلا ، فبعد تخصيص الأكثر إذا تبيّن أنّ مراده من هذا العموم ليس إلاّ أفراد قليلة ، فألقى طرفه أنّ مطلوبه العموم ، مع أنّه لم يرد إلاّ بعضه الأقلّ ، فيكون مثل هذا الكلام ركيكا ومستهجنا.

وخلاصة الكلام : أنّ العامّ كاشف عن إرادة العموم بالوضع ، وليس ظهوره معلّقا ، نعم إذا جاء المخصّص حيث أنّه أكشف ، يكون مقدّما على العموم. وأمّا ظهور المطلق في الإطلاق فمعلّق على عدم البيان ، فإذا جاء البيان لا يبقى موضوع للإطلاق.

فتقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ من باب حكومة أصالة الظهور في طرفه على أصالة الظهور في طرف العامّ ، وأمّا التقييد في باب الإطلاق فهو رافع لموضوع ظهور الإطلاق حقيقة وتكوينا ، فكأنّه من قبيل الورود.

وأيضا من الأوّل : - أي الآيات - قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (1).

ص: 214


1- النساء (4) : 29.

تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على لزوم العقود ، هو أنّ الظاهر من الأكل في المقام مطلق التصرّفات والانتفاعات بالأموال ، لا خصوص الازدراد ؛ إذ في جملة كثيرة من الأموال لا يمكن ذلك.

فظاهر الآية هو النهي وتحريم التصرّفات الباطلة ، أي على وجه لم يشرع في أموال الناس ؛ إذ لا شكّ في جواز جميع التصرفات في أموال نفسه إلاّ أن يكون ذلك السنخ من التصرّف حراما ، كالإسراف ، والتبذير وغيرهما من التصرّفات المحرّمة الكثيرة.

ولا يمكن أن يكون المراد من الباطل في الآية هذا القسم من التصرّفات ، أوّلا بقرينة « بينكم » لأنّ أمثال هذه التصرّفات محرّمة وإن لم يكن غيره في البين ، فهذه الكلمة خصوصا مع قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) تكون قرينة على أنّ المراد من الأكل بالباطل هو التصرّف في مال الغير من غير وجه شرعي وبغير استحقاق ، كالغصب والخيانة والسرقة والربا وبشهادة الزور ، أو باليمين الكاذبة ، أو بالرشوة ، أو بالبيوع الفاسدة كالبيع الغرري ، أو سائر المعاملات الفاسدة الباطلة في الشرع ، مثل أنواع القمار ، إلى غير ذلك من العقود والمعاملات الفاسدة ، كالمعاملات التي تقع عن إكراه الطرف.

فمعنى الآية بحسب الظاهر ، وما هو المتفاهم العرفيّ منها أنّ جميع هذه التصرّفات في أموال الناس حرام ، إلاّ أن يكون التصرّف في مال الغير بالوجه الشرعيّ ، وعبّر سبحانه وتعالى عن ذلك الوجه بقوله ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) أي عند العرف مع عدم ردع الشارع عن مثل ملك التجارة ، بل إمضائها ؛ وذلك من جهة أنّ قولهم بكفاية عدم الردع من قبل الشارع من باب أنّه كاشف عن الإمضاء ، وإلاّ فهو بنفسه لا أثر له ، فإذا كان معنى الآية ما عرفت ، فدلالتها على اللزوم واضحة.

بيان ذلك : أنّه بعد الفراغ عن حصول الملكيّة والنقل والانتقال بمحض وجود

ص: 215

العقد التامّ الواجد لجميع شرائط الصحّة من الطرفين ، ففسخ أحدهما من دون رضا الآخر يكون تصرّفا في مال الغير بدون أن يكون تجارة عن تراض منهما ، فيكون أكلا لمال الغير بالباطل ، أي بوجه غير شرعي.

فالفسخ الذي أثره إرجاع مال الغير إلى صاحبه الأوّلي من دون رضا من ملك بالعقد ، يكون داخلا في المستثنى منه ، فيكون منهيّا عنه ، فيكون باطلا وغير نافذ ، وهذا معنى مساوق للزوم.

وخلاصة الكلام : أنّ ظاهر الآية هو أنّ سبب جواز أكل أموال الناس منحصر في الانتقال إليه بالتجارة التي تكون عن تراض منهما ، كما هو مفاد الاستثناء عن العموم.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ عقد المستثنى منه وحده كاف في إثبات هذا الحكم ، أي أصالة اللزوم في العقود ، لو كان المراد من الأكل بالباطل هو الأكل من غير سبب شرعيّ.

لا يقال : إنّ الفسخ لو كان مؤثّرا يكون سببا شرعيّا ، ويخرج به كون الأكل أكلا لمال الغير بالباطل ، فيكون هذا الاستدلال دوريّا ، لأنّ عدم تأثير الفسخ موقوف على كون أكل المال به أكلا بالباطل ، وكونه كذلك موقوف على عدم تأثير الفسخ ، وألاّ يكون الأكل على وجه شرعيّ ، وليس من أكل المال بالباطل.

لأنّ الآية حصرت سبب جواز أكل مال الغير في التجارة عن تراض ، ومعلوم أنّ الفسخ من دون رضائه الطرف الآخر ليس من التجارة عن تراض.

إن قلت : أليس يجوز أكل مال الغير بإباحة مالكه ، وليست الإباحة تجارة عن تراض؟

قلنا أولا : إنّ المراد من الأكل هاهنا هو التملّك ، لا المعنى المعروف المقابل للشرب كما تقدّم ذكره ، والتملّك لا يحصل بالإباحة ، بل يحتاج إلى تمليك من قبل اللّه أو من قبل مالكه.

ص: 216

وثانيا : أنّ عقد المستثنى منه عامّ كسائر العمومات الشرعيّة قابل للتخصيص ، فمفاده وإن كان عدم جواز التصرّف في مال الغير مطلقا ، ولم يخرج في ظاهر الآية عن هذا العموم إلاّ كون الأكل من باب التجارة عن تراض ، ولكن يمكن تخصيصه بدليل آخر أيضا كسائر العمومات التي ترد عليها مخصّصات كثيرة ومتعدّدة ، ما لم تصل إلى حدّ تخصيص الأكثر ، فهاهنا أيضا خصّص العامّ بدليل جواز التصرّف بإباحة المالك.

وثالثا : ليس مورد إباحة المالك من الأكل بالباطل ، لا في نظر العرف وهو واضح ، ولا في نظر الشرع ؛ لأنّ الممنوع والمنهيّ في نظر الشرع هو أكل مال الغير من غير إذنه وبدون طيب نفسه ، وأمّا مع أحدهما فلا يرى الأكل باطلا ، ففي مورد الإباحة بل في كلّ مورد صدر الإذن من قبل الشارع بجواز التصرّف فيه ، ليس من الأكل بالباطل ، لا في نظره ولا في نظر العرف ، فلا يشمله هذا العامّ.

ورابعا : يظهر من الآية المقابلة بين الأكل بالباطل وكونه عن تجارة مع تراضى الطرفين بطور المنفصلة المانعة الخلوّ ، بمعنى أنّ الأكل لمال الغير لا يخلو من أحد هذين الأمرين : إمّا يكون بوجه غير شرعي وباطلا ، وإمّا أن يكون من باب التجارة عن تراض ، ولا ريب في أنّ موارد صدور الإذن من الشارع بجواز الأكل والتصرّف ، أو المالك كذلك ليس بوجه غير شرعيّ ، ولا يصدق عليها أيضا أنّها تجارة عن تراض.

فلا بدّ من حمل الآية على معنى يلتئم مع هذا الحصر ، وعدم خلوّ الأكل عن أحد هذين ، أي كونه إمّا باطلا أو يكون تجارة عن تراض ، وهو أن يقال :

إنّ المراد منها أنّ هذه المعاملات والمعاوضات والمبادلات التي تقع بينكم لا يخلو من أحد أمرين : إمّا باطل ويكون بوجه غير شرعيّ ، فهذا القسم حرام ، وليس لكم ارتكابه ويجب الاجتناب عنه ، وإمّا أن يكون تجارة عن تراض ، وهذا القسم لا مانع من ارتكابه بل ندب إليه الشرع. وأمّا الحرمة في القسم الأوّل فهل هي وضعي أم تكليفي؟ فبحث آخر ، وإن كان الظاهر منها الوضعيّ ، بقرينة كلمة الباطل

ص: 217

وإطلاقها عليها.

إذا عرفت ما ذكرنا في معنى الآية ، فلا يبقي إشكال في دلالتها على المطلوب ، أي اللزوم.

بيان ذلك : أنّ القضية المنفصلة المانعة الخلوّ رفع كلّ واحد من طرفيها يثبت وجود الطرف الآخر ، فإذا لم يكن المعاملة المشروعة من مصاديق التجارة عن تراض تكون باطلة ، وفيما نحن فيه من المعلوم أنّ الفسخ بدون رضائه الطرف الآخر ليس تجارة عن تراض ، فيكون باطلا غير نافذ ، وهذا من لوازم اللزوم.

وإن شئت قلت : إنّ مفاد الآية قضيتين كلّيتين ، إحداهما أنّ كلّ معاملة ليست بباطلة لا بدّ وأن تكون تجارة عن تراض ، والأخرى أنّ كلّ معاملة ليست تجارة عن تراض فلا محالة تكون باطلة ، وهذا معنى كون مفادها قضيّة منفصلة مانعة الخلوّ ، وباقي ما ذكرنا واضح لا يحتاج إلى الإيضاح.

وخلاصة الكلام : أنّ الآية حسب المتفاهم العرفي الذي هو معنى الظهور وهو الحجة ، هو أنّ ما ليس بتجارة عن تراض فهو باطل ، لا أنّ كلّ معاملة تكون من مصاديق عنوان تجارة عن تراض تكون صحيحة ؛ كي يرد عليه النقوض الكثيرة ، كالمعاملات غير المشروعة من جهة مبغوضيّة نفس عناوينها كالقمار والرباء ، أو من جهة خلل في العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين ، والأمثلة واضحة ، فإنّها باطلة مع كونها تجارة عن تراض يقينا.

إن قلت : إنّ الآية مركّبة من عقدين : عقد المستثنى ، وعقد المستثنى منه. والأوّل سلبيّ مفاده عدم جواز أكل المال بالباطل ، والثاني إيجابي مفاده جواز الأكل إن كانت المعاملة تجارة عن تراض ، فليس هاهنا ما يكون مفاده أنّ ما ليس بتجارة عن تراض يكون من الأكل بالباطل الذي هو مبنى هذا الاستدلال.

وذلك من جهة أنّ في العقد الأوّل موضوع الحكم بالحرمة هو أكل المال بالباطل ،

ص: 218

والحكم لا يثبت موضوعه. والمفروض أنّ الموضوع فيما نحن فيه مشكوك ؛ لأنّه بناء على اللزوم الفسخ لا يؤثّر ، فيكون أكل المال بالفسخ أكلا بالباطل ، وبناء على عدمه يؤثّر الفسخ ، فلا يكون الأكل به أكلا بالباطل.

وحيث أنّ اللزوم مشكوك فيكون موضوع الحرمة مشكوكا ، فيكون الاستدلال بهذا العموم لعدم تأثير الفسخ لكونه أكلا بالباطل من قبيل التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لا يقول به أحد ، ولا يمكن أن يقول به أحد.

وفي العقد الثاني موضوع الحكم الإيجابي أي جواز الأكل هو كون المعاملة تجارة عن تراض ، وهذا الحكم الإيجابي ، لا يدلّ على أنّ كلّ ما ليس بتجارة عن تراض فهو من الأكل بالباطل ، نعم انتفاء الجواز بانتفاء كونه تجارة عن تراض حكم عقلي ومن باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

قلنا : إنّ نفس جعل المقابلة بين أكل المال بالباطل ، وبين كونه عن تجارة عن تراض يدلّ على أنّ ما ليس من التجارة عن تراض فهو من أكل المال بالباطل ، وقد تقدّم تفصيل ذلك فلا نعيد ، ففي الحقيقة في مورد الشكّ في لزوم معاملة عقديّة يثبت الموضوع بعد أن فسخ المعاملة للعقد الأوّل - أي المستثنى منه - بالعقد الثاني - أي المستثنى - وقرينيّته.

فكلّ واحد من العقدين وحده وإن لم يدلّ على عدم تأثير الفسخ ، ولا على اللزوم ، إلاّ أنّه بانضمام أحدهما إلى الآخر والتعمّق في مجموع الآية تحصل هذه النتيجة ، أي يكون إرجاع المال بالفسخ مع عدم رضائه الطرف الآخر من أكل مال الغير بالباطل الذي هو موضوع الحرمة في عقد المستثنى منه ، فيكون الفسخ غير مؤثّر ، وهو من لوازم اللزوم.

ص: 219

وأمّا الثاني : أي الأخبار التي تدلّ على لزوم كلّ عقد مملّك :

فمنها : قوله علیه السلام : « لا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (1).

بيان ذلك : أنّه بعد الفراغ عن أنّ العقد سبب لانتقال كلّ واحد من العوضين إلى صاحب العوض الآخر ، وصيرورته ملكا ومالا له ، فلو كان إرجاع ذلك المال إلى صاحبه الأوّل بصرف الفسخ من دون طيب نفس الطرف ، أي من انتقل المال إليه بالعقد ، جائزا - الذي هو معنى عدم اللزوم - يلزم أن يكون أكل مال المسلم بدون طيب نفسه جائزا ، والحديث ينفيه : فالحديث يدلّ على عدم تأثير الفسخ وهو ملازم مع اللزوم.

وأمّا توهّم : أنّه بعد الفسخ يشكّ في أنّه مال الغير ؛ إذ على تقدير كون العقد أو المعاملة جائزة ، فبعد الفسخ يخرج عن كونه مال الغير قطعا ، وعلى تقدير كونه لازما يبقى بعده على كونه مال الغير ، وحيث أنّ كلا الأمرين غير معلوم ، فكونه مال الغير بعد الفسخ مشكوك ، فيكون التمسّك بالحديث من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، وهو واضح البطلان ؛ للزوم إحراز موضوع الحكم.

ففيه : أنّ عدم كونه مال الغير متوقّف على تأثير الفسخ في إرجاع المال إلى صاحبه الأوّل ، وإلاّ فمع عدم تأثيره وعدم

انحلال العقد لا وجه لخروجه عن ملك من انتقل إليه بالعقد ، بل باق على ملكه يقينا من دون احتياج إلى استصحاب بقائه على ذلك ، وتأثير الفسخ متوقف على عدم كونه مال الغير ، وإلاّ يلزم أن يكون التصرّف في مال الغير بإخراجه عن ملكه بدون طيب نفسه حلالا وجائزا ، والحديث ينفيه ، فلا يمكن إثبات جواز التأثير بالشكّ في كونه مال الغير ، ويكون دورا واضحا.

ص: 220


1- « الكافي » ج 7 ، ص 273 ، باب القتل ، ح 12 ؛ « الفقيه » ج 4 ، ص 92 ، باب تحريم الدماء والأموال بغير حقّها ... ، ح 5151 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3. ص 424 ، أبواب مكان المصلي ، باب 3 ، ح 1 ؛ وج 19 ، ص 3 ، أبواب القصاص في النفس ، باب 1 ، ح 3. والنص في جميع المصادر هكذا : « لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه ».

وإن شئت قلت : إنّ إرجاع المال إلى نفسه وإخراجه عن ملك طرفه بالفسخ متوقّف على عدم كونه ملكا لذلك الطرف حال الإخراج ، وعدم كونه ملكا له في ذلك الحال متوقّف على الإخراج بذلك الفسخ ، إذ ليس سبب آخر في البين على الفرض ، فالإخراج بذلك الفسخ متوقّف على نفسه ، نعم شمول هذا الحديث للفسخ في العقد المشكوك اللزوم منوط بالقول بحصول الملكيّة بعد تماميّة العقد ، كما هو الصحيح.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ دلالة هذا الحديث على اللزوم يشمل جميع المعاملات ، سواء كانت عقديّة أو بالمعاطاة ، بناء على حصول الملكيّة بالمعاطاة ، كما هو الصحيح. وأمّا بناء على أنّها مفيدة للإباحة من دون حصول ملكيّة في البين ، فلا ؛ لأنّه بناء على القول بالإباحة لا يكون المباح له ماله ، كي يقال بأنّه لا يمكن إرجاعه بدون طيب نفسه ، وكذلك لا يشمل المعاملات التي ليست مملّكة كالنكاح - مثلا - وإن كان عقدا ، وهو واضح.

وممّا تقدّم ذكره يظهر أنّ دلالة هذا الحديث على لزوم المعاملات المملّكة في غاية الوضوح ، ولا فرق بين وقوع تلك المعاملات بالعقد أو بالمعاطاة ؛ ولذلك قلنا في مبحث بيع المعاطاة أنّ مقتضى القاعدة المتّخذة من الروايات ، بل بناء العقلاء لزوم بيع المعاطاة ، ولكن الذي أخرجنا عن الالتزام بهذه القاعدة هو دعوى الإجماع من جمع من أعاظم الفقهاء.

ومنها : قوله علیه السلام : « الناس مسلّطون على أموالهم » (1).

بيان ذلك : أنّ السلطنة على المال التي أمضاها الشارع - لأنّ العرف والعقلاء أيضا يعتبرون المالك ذا سلطان على ماله - أعمّ من السلطنة على التصرّفات التكوينيّة - كالأكل والشرب واللبس والركوب والسكنى ، وهكذا في المأكولات

ص: 221


1- « سنن الكبرى » ج 6 ، ص 100 ؛ « سنن الدار قطني » ج 3 ، ص 26 ، ح 91 ؛ « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 489 ؛ « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 208 ، ح 49.

والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن ، وهكذا الأمر في غير المذكورات - ومن السلطنة على التصرّفات التشريعيّة ، كالبيع والهبة والوقف والصلح ، وأمثال تلك العناوين ممّا توجد بإنشاءاتها في عالم الاعتبار التشريعي.

وبعبارة أخرى : كما أنّ المالك في نظر العرف والعقلاء ذو سلطان على التصرّفات التكوينيّة ، كذلك في نظرهم له السلطنة بالنسبة إلى التصرّفات في عالم اعتبارهم ، كأنواع المعاملات والمبادلات الواقعة عليه عندهم ، وقد أمضى الشارع هذه السلطنة التي عند العرف تكوينا وتشريعا ، ولا شكّ في أنّ العرف والعقلاء كما أنّهم يرون جواز كلا القسمين من التكوينيّة والتشريعيّة للمالك عندهم ، كذلك يرون له حقّ منع الغير عن التصرّف بكلا قسميه ، أي يرون له - مثلا - حقّ المنع عن أكله وعن بيعه أو هبته.

فبناء على أن يكون مفاد هذا الحديث الشريف إمضاء ما عليه العرف ، كما هو الظاهر منه ، يكون مفاده أنّ للمالك بعد العقد حق المنع عن إرجاع المالك الأوّل هذا المال الذي خرج عن ملكه إلى نفسه ثانيا بواسطة الفسخ ، ومرجع هذا إلى عدم تأثير الفسخ ، وهذا هو اللزوم.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ربما يقال بأنّ موضوع هذه السلطنة ومتعلّقها هو أن يكون ماله ، وبعد الفسخ كونه ماله مشكوك ، لاحتمال عدم اللزوم وتأثير الفسخ.

وذلك من جهة أنّه بناء على ما ذكرنا ليس لغير المالك بدون إذنه ورضاه حقّ الفسخ ؛ لأنّ الفسخ أيضا من التصرّفات الاعتباريّة التي قلنا إنّ للمالك منعه عنها ، وهذا دليل على عدم تأثير الفسخ ، فيكون موضوع السلطنة الذي هو عنوان ماله موجودا ، فيشمله الحديث.

وخلاصة الكلام في هذا المقام هو أنّ المالك هل له السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله فقط ، غاية الأمر أعمّ من التكوينيّة والتشريعيّة ، أم لا ، بل له أيضا مضافا إلى ذلك حقّ منع الغير عن التصرّف في ماله ، وإن كان التصرّف اعتباريّا كإيقاع

ص: 222

المعاملات عليه ، بمعنى أنّ تصرّفات غير المالك بدون إذن المالك ورضاه إن كان تصرّفا خارجيّا في المال يكون حراما ؛ لقوله علیه السلام : « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه » وأمّا إن كان تصرفا اعتباريّا وفي عالم المعاملات والمبادلات الاعتباريّة ، فيكون تلك التصرّفات لغوا لا أثر لها ، كالتصرّفات التي تصدر من الفضولي ، وحيث أنّها بدون إجازة المالك وإذنه فلا أثر لها وإن لم يكن حراما.

فالتصرّفات التكوينيّة في مال الغير حرام ، سواء كان بإتلاف نفسه أو شي ء من أوصافه ، أو من منافعه ، أو باستيفاء منافعه ، أو بحبس تلك المنافع عن مالكه ، كلّ ذلك بقاعدة الإتلاف ، أو قاعدة على اليد ؛ ففي جميع ذلك يكون الأمران ، أي الحرمة التكليفيّة والضمان وضعا ؛ وذلك من جهة أنّ التصرّف التكوينيّ تنطبق عليه إحدى هاتين القاعدتين ، أي الإتلاف وعلى اليد غالبا.

وأمّا التصرّفات الاعتباريّة ، أي نقلها بالإنشاءات المعهودة من العقود والإيقاعات ، فمن حيث أنّها فعل غير المالك وأمر خارجي لا مساس لها بمال الغير ، ومن حيث منشآتها أمور اعتباريّة لا وجود لها في عالم الاعتبار ، ويحتاج وجودها في عالم الاعتبار الشريعيّ أيضا إلى إذن المالك أو إجازته ، والمفروض فيما نحن فيه - أي الفسخ - أنّه بدون إذن المالك وإجازته ، فلا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي فيكون لغوا لا أثر له ، فيبقى المال في ملك من ملك بالعقد ، وهذا دليل على البقاء من دون حاجة إلى الاستصحاب.

فموضوع السلطنة باق وموجود ، والنتيجة حيث أنّ الفسخ يتعلّق بمال الغير بدون إذنه ورضاه ، فلا أثر له.

إن قلت : إنّ ما ذكر صحيح إن كان الفسخ عبارة عن إرجاع المال واسترداد ما انتقل منه إلى طرفه ، فحينئذ يمكن ان يقال : حيث أنّ الطرف مسلّط على ماله ، فله المنع عن إرجاع ماله إلى صاحبه الأوّل بدون إذنه ورضاه ، وأمّا لو كان الفسخ عبارة عن

ص: 223

حلّ العقد ونقض العهد ، كما هو الصحيح وعليه بنى المحقّقون في مبحث الخيارات ، فليس للفسخ علاقة وتعلّق بالمال المنتقل إلى طرف الفاسخ كي يقال بأنّه بدون إذن مالكه يكون منافيا مع السلطنة المطلقة التي للمالك التي هي مفاد هذا الحديث الشريف.

قلنا : إنّ السلطنة المطلقة التامّة للمالك على ماله التي ثابتة له عند العرف والعقلاء ، ومفاد هذا الحديث وهو إمضاء ما عند العرف ، تنافي إمكان إرجاع ماله بدون إذنه وإجازته ، ولو كان بتوسط حلّ العقد ، فقاعدة تسلط الناس على أموالهم في نظر العرف والعقلاء تمنع عن انحلال العقد بفسخه ، وتبيّن عدم قدرته في عالم التشريع على حلّ العقد الذي يكون سببا لخروج ماله عن ملكه بدون رضاه وإجازته.

وإن شئت قلت : إنّ الفسخ بعنوانه الأوّلى حلّ العقد ، وبعنوانه الثانوي إرجاع كلّ واحد من العوضين إلى مالكه الأوّل ، فإذا كان الإرجاع والإخراج عن ملكه بدون إذنه منافيا لسلطنته ، فالسبب الذي يترتّب عليه هذا الأمر أيضا يكون منافيا لسلطنته ، فيكون منفيّا بهذا الحديث ، فهما ضدّان ، أي قدرته على حلّ العقد مع كون طرفه ذا السلطنة المطلقة التّامة ضدّان ، فلا يصحّ جعلهما ، وحيث أنّ السلطنة ثابتة بهذا الحديث ، فلا بدّ وأن نقول بعدم قدرته شرعا على حلّ العقد الذي هو مناف بهذه السلطنة.

نعم لو قلنا بأنّ المالك له السلطنة فقط على أنواع التصرّفات في ماله ، وأمّا منعه للغير فلا ، فحينئذ يمكن أن يقال بجواز حلّ العقد بالفسخ ، وإن كان أثره إرجاع كلّ واحد من العوضين إلى صاحبه الأوّلي على رغم المالك الفعلي بالعقد.

ولكنّك خبير بأنّ هذا الاحتمال بعيد عن الصواب ، والنتيجة أنّه ليس لكلّ واحد من الطرفين فسخ العقد وحلّه ، إلاّ أن يكون بجعل منهما ، أو بجعل من قبل الشارع كخيار المجلس ، أو كان العقد من العقود الجائزة بالذات كالعقود الإذنيّة التي قلنا

ص: 224

إطلاق العقد عليها إطلاق عنائي مسامحي ، ولو فسخ لا يؤثّر ، وهذا معنى اللزوم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تفصيل شيخنا الأستاذ قدس سره في المقام بين أن يكون الخيار ، أي ملك فسخ المعاملة وإقرارها متعلّقا بالعقد أو بالعين - فقال في الأوّل إنّ في مورد الشكّ لا يمكن التمسّك بهذه القاعدة لإثبات اللزوم ؛ لأنّ الفسخ لا يرجع إلى تصرّف غير المالك في العين المملوكة لغيره كي يكون منافيا مع سلطنة ذلك الغير على ماله ؛ وذلك لأنّ الخيار يبطل التبديل الواقع من المتعاقدين من دون إرجاعه للعين ، وإنّما يكون رجوعها يحصل قهرا بواسطة حلّ العقد. وأمّا في الثاني ، أي في صورة القول بأنّ الخيار متعلّق بالعين ، فيجوز التمسّك بهذه القاعدة في مورد الشكّ لإثبات اللزوم ، لمنافاة الخيار بناء على هذا مع سلطنة الطرف على منع الغير عن التصرّف في ماله ، وإن كان بإخراجه عن ملكه - ليس كما ينبغي.

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » (1).

ودلالة هذا الحديث الشريف على المطلوب مبنيّ على أمرين :

أحدهما : شمول الشرط للعقود الابتدائيّة ، بمعنى أن يكون المراد منه مطلق الإلزام والالتزام ، وإلاّ لو كان خصوص الإلزام أو الالتزام في ضمن العقود فلا يشمل العقود الابتدائيّة ، وذلك واضح.

ولا يخفى أنّ إثبات هذا المعنى ، أي كون المراد منه مطلق الإلزام والالتزام موقوف إمّا على كون هذا المعنى معنى حقيقيّا لهذه الكلمة ، وإمّا أن يكون في المقام قرينة على إرادة هذا المعنى مجازا. والثاني واضح عدمه ، وأمّا الأوّل فلا طريق له إلاّ انسباق هذا المعنى إلى أذهان أهل العرف في موارد الاستعمالات ، والظاهر أيضا عدمه بل الذي

ص: 225


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور و ... ، ح 66 ؛ « الاستبصار » ج 3. ص 232 ، ح 835 ، باب من تزوّج المرأة على حكمها في المهر ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 19 ، ح 4.

ينسبق إلى الذهن من هذه اللفظة في موارد الاستعمالات هو ما يكون له ارتباط وعلاقة بشي ء آخر وجودا أو عدما.

وأمّا ما ذكره في القاموس (1) من أنّه الإلزام والالتزام في ضمن البيع ، فهو تعريف بالأخصّ ببيان بعض مصاديقه ، وإطلاق الأصوليّين مفهوم الشرط في قولهم أنّ للقضيّة الشرطيّة مفهوم يرجع إلى هذا المعنى ، بمعنى أنّ وجود التالي مربوط ومعلول لوجود المقدّم ، فيلزم من عدمه العدم ، وكذا قول المنطقيّين في باب القضايا القضيّة الشرطيّة وتقسيمها إلى المتّصلة والمنفصلة ، وقول النحويّين أنّ كلمة « إن » و « متى » وأمثالهما أداة الشرط ، كلّها يرجع إلى ما قلنا من أنّه يطلق على ما فيه نحو ارتباط بغيره.

فالالتزامات الابتدائيّة وكذلك إلزاماتها التي لا ربط بينها وبين غيرها لا يطلق عليها الشرط إطلاقا حقيقيّا ، ولذلك قلنا إنّ الشروط الابتدائيّة التي ليست في ضمن عقد لازم لا يجب الوفاء بها ؛ لعدم شمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون - أو المسلمون - عند شروطهم » لتلك الشروط ؛ لعدم انطباق مفهوم الشرط بمعناه الحقيقي عليها ، لا أنّ عدم وجوب الوفاء بها لأجل وجود المخصّص ، وهو الإجماع على عدم لزوم الوفاء بها.

وخلاصة الكلام : أنّ القول بأنّ الإلزامات والالتزامات الابتدائيّة شروط بالمعنى الحقيقي ، ممّا لا يساعد عليه الوجدان وفهم العرف.

وأمّا إطلاق الشرط في بعض الأخبار على بعض الأحكام الشرعيّة ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « شرط اللّه قبل شرطكم » (2) أي : كون الولاء لمن أعتق ، أو قوله علیه السلام : « في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام » (3) وأمثالهما ، فالظاهر أنّ ليس المراد منهما الجعل الابتدائي من دون

ص: 226


1- « القاموس المحيط » ج 2 ، ص 381 ( شرط ).
2- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 240 ، ح 121 ؛ « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 31 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 6.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 201 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 3761 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 101 ، باب عقود البيع ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 349 ، أبواب الخيار ، باب 3 ، ح 1.

ملاحظة ارتباطه مع غيره كما توهّم ، إذ يمكن أن يكون المراد منهما هو الجعل الإلهي بملاحظة كون العمل بما ألزم فعله أو تركه ، وامتثاله بالإيجاد في الأوّل والترك في الثاني ، وترتيب الأثر في الوضعيّات شرطا لدخول الجنّة.

فكأنّ اللّه تبارك وتعالى جعل امتثال أحكامه والعمل بها مقدمة وشرطا لدخول الجنّة ، ولعلّ بهذا الاعتبار يقول جلّ جلاله ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) (1) وأيضا قوله تعالى ( تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ) (2) وأيضا قوله تعالى ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) (3).

وخلاصة الكلام : أنّه يظهر من الآيات والأخبار أنّ الأحكام الشرعيّة - وضعيّة وتكليفيّة - امتثالها والعمل على طبقها وترتيب الأثر عليها في الوضعيّات شروط في عالم العهد والميثاق الذي يعتبر عنه بعالم الذّر في الأخبار من قبل اللّه تعالى لدخول الجنّة التي وعد بها المتّقون.

والحاصل : أنّ القول بأنّ الشرط بحسب مفهومه العرفي وما هو معناه الحقيقي يشمل مطلق الجعل الابتدائي كي يكون جميع العقود الابتدائيّة من مصاديق ذلك المفهوم ، ممّا ينكره الوجدان وما هو المتفاهم العرفيّ من هذه الكلمة.

ثانيهما : أن تكون هذه الجملة دالّة على وجوب الوفاء بالشروط تكليفا أو وضعا ، فيكون معناها أنّه يجب الوفاء على المؤمنين بشروطهم ، فيكون مساقها مساق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بعد هاتين المقدّمتين ، أي كون الشروط عبارة عن مطلق الإلزامات والالتزامات ، وكون معنى الجملة وجوب الوفاء بتلك الإلزامات والالتزامات ، وقد تقدّم شرح دلالة ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على اللزوم.

ص: 227


1- التوبة (9) : 111.
2- التوبة (9) : 24.
3- يس (36) : 60.

والإنصاف أنّ هذه المقدمة الثانية لا إشكال فيها.

بيان ذلك : أنّ قوله « عند شروطهم » ظرف لغو متعلّق بأفعال العموم ، وهذا ظاهر الكلام لا يحتاج إلى الدليل ، كما بيّنّا ذلك في نظائره ، مثل قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (1).

فتقدير الكلام أنّ المؤمنين أو المسلمين ثابتون أو واقفون أو مستقرّون - وأمثال ذلك - عند شروطهم ، فهي إمّا من قبيل إنشاء الحكم بصورة الأخبار الذي هو آكد في الوجوب من الجملة الطلبيّة الإنشائيّة ، كما قرّرناه في الأصول ، فيكون المعنى : يجب الثبوت عند الشروط وعدم الخروج عمّا التزم به ، وهذا المعنى من لوازم اللزوم.

وإمّا مفاده يكون ابتداء هو الحكم الوضعي ، بأن يكون الحكم بالثبوت كناية عن اللزوم. ويدلّ عليه استشهاد أمير المؤمنين علیه السلام بهذه الجملة في قوله « من شرط لامرأته بشرط فليف لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا » (2) فتمسّك بهذا الحديث النبويّة لوجوب الوفاء.

وعلى كلّ تقدير يكون مفاد الجملة هو اللزوم على تقدير صحّة المقدّمتين.

لكن عرفت أنّ صحّة المقدّمة الأولى في غاية الإشكال ، بل مناف للوجدان ؛ فلا دلالة لهذا الحديث الشريف على وجوب الوفاء بكلّ عقد كي يكون مفاده لزومها.

نعم يدلّ على وجوب الوفاء بالشروط الضمنيّة التي تقع في ضمن العقود اللازمة.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في لزوم البيع بعد التفرّق عن مجلس المعاملة ، بقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » وإذا تفرّقا - أو « إذا افترقا » على اختلاف

ص: 228


1- « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 296 ، ح 3561 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، ح 2400 ؛ « مسند احمد » ج 5 ، ص 8 و 13 ؛ « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 95.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات وفقه النكاح ، ح 80 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.

طرق نقل الحديث الشريف - وجب البيع ولا خيار بعد الرضا » (1).

والمراد من الرضا في الحديث الشريف هو الرضا المعاملي ، أي اختيار المعاملة من غير كره ولا إجبار عليها ، لا طيب النفس ؛ وذلك لأنّ كثيرا من المعاملات ليست عن طيب نفس ، بل الحاجة والضرورة دعته إلى إيقاع المعاملة ، وعلى كلّ حال الذي لا يمكن إنكاره دلالة الحديث الشريف على لزوم البيع بعد انقضاء المجلس وحصول الافتراق بين المتبايعين ، وبناء على هذا إذا طرأ شكّ في لزوم البيع بعد حصول الافتراق لعروض حالة أوجبت الشكّ ، نتمسّك بهذه الأخبار للزومه وعدم الاعتناء بالشكّ.

وأمّا ما توهّم من أنّ الشارع جعل الافتراق غاية لهذا الخيار الخاصّ ، أي خيار المجلس ، ولا ينافي ذلك ثبوت الخيار من جهة أخرى إذا جاء الدليل عليه ، فليس أدلّة سائر الخيارات مخصّصا لهذا العموم ، وفي الحقيقة لا عموم في البين يدلّ على اللزوم مطلقا ، بل اللزوم يكون من ناحية خاصّة ، أي تماميّة خيار المجلس بحصول الافتراق فقط ، فلو احتملنا وجود خيار من ناحية أخرى ليس عموم يرفع الشكّ.

فعجيب من جهة أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله « إذا افترقا وجب البيع » بعد قوله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » ظاهره وجوب البيع ولزومه من جميع النواحي ، ولا وجه لتقييده بناحية هذا الخيار ، أي خيار المجلس ، وإلاّ لو فتح هذا الباب لانسدّ باب التمسّك بالإطلاقات في جميع الموارد ، خصوصا بملاحظة قوله صلی اللّه علیه و آله « ولا خيار بعد الرضا » الذي نفي فيه جنس الخيار بلا النافية للجنس ، فيكف يمكن أن يقال إنّ المنفي هو انتفاء هذا الخيار فقط ، ولا يدلّ على انتفاء مطلق الخيار بحصول التفرّق.

ص: 229


1- « الكافي » ج 5 ، ص 170 ، ح 4 - 6 ؛ « التهذيب » ج 7 ، ص 24 ، ح 100 وج 7 ، ص 20 ، ح 85 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 72 ، ح 24 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 345 ، أبواب الخيار ، باب 1 ، ح 1 - 3 ؛ « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 84 ؛ « سنن النسائي » ج 7 ، ص 248 ؛ « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 1163 ؛ « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 736 ، ح 2182 ؛ « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 547 ، ح 1245.

فالحقّ أنّ هذا الحديث يدلّ على اللزوم مطلقا ومن جميع النواحي ، لا من ناحية خيار المجلس فقط ، فأدلّة سائر الخيارات تكون من قبيل المخصّصات والمقيّدات لهذا العموم والإطلاق. نعم هذه الرواية أو الحديث لا تدلّ على اللزوم إلاّ في البيع ، وأمّا في سائر العقود والمعاملات فلا بدّ من التماس دليل آخر على اللزوم.

ثمَّ بعد ما عرفت ما ذكرنا تعرف أنّ مقتضى هذه العمومات والإطلاقات ، هو كون الأصل في أبواب العقود والمعاملات هو اللّزوم ، ولا يؤثّر الفسخ إلاّ بدليل خاصّ لأدلّة الخيارات ، فأصالة اللزوم حيث أنّها من باب أصالة الإطلاق أو أصالة العموم ، فهي قابلة للتقييد والتخصيص ، والمخصّصات هي أدلّة الخيارات.

ثمَّ إنّ مفاد الإطلاقات والعمومات المذكورة مختلفة من حيث السعة والضيق.

فالعموم الأوّل - أي بناء العقلاء - أوسع وأشمل من الجميع ؛ إذ يشمل جميع العقود والمعاهدات ، معاوضيّة كانت أو غير معاوضية ، مملّكة كانت أو غير مملّكة ، بل يشمل الإيقاعات أيضا.

وأمّا الثاني : أي قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل جميع العقود مطلقا ولا يشمل الإيقاعات ، وأمّا خروج العقود الإذنيّة عن مفادها ، فقد قلنا إنّها ليس من باب التخصيص ، بل يكون خروجها خروجا موضوعيّا وبالتخصّص ، لأنّها عقد صورة وليست في الحقيقة بعقد. وأمّا العقود العهديّة فيشملها ، سواء كانت معاوضيّة ومملكة أو لم تكن كذلك ، حتّى يشمل مثل عقد البيعة الشرعيّة الصحيحة ، بل المعاهدات التي تقع بين المسلمين وغيرهم إن كانت جائزة وكانت على طبق المقرّرات الشرعيّة.

وأمّا الثالث : أي قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (1) فبناء على ما تقدّم في وجه دلالته على اللزوم وعدم تأثير الفسخ يكون مختصّا بالعقود المملّكة ، وفي أبواب المعاوضات التي يصير كلّ واحد من

ص: 230


1- النساء (4) : 29.

العوضين ملكا لصاحب العوض الآخر ، فكون الفسخ مؤثّرا وموجبا لحلّ العقد ورجوع كلّ واحد إلى ملك مالكه الأوّلي بدون رضائه من ملكه بالعقد أو بالمعاطاة يكون من أكل مال الغير بالباطل.

وأمّا الرابع : أي قوله علیه السلام « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه » (1) فمساقه مساق الآية المتقدّمة ، أي يكون دلالته على اللزوم في خصوص المعاملات المملّكة ، سواء كانت بالمعاطاة أو بالعقد.

وأمّا الخامس : أي حديث السلطنة فأيضا مثل سابقيه يدلّ على لزوم كلّ معاملة مملّكة ، سواء كانت بالعقد أو كانت بالمعاطاة.

وأمّا السادس : أي حديث « المؤمنون - أو المسلمون - عند شروطهم » (2) فيدلّ على لزوم كلّ ما يسمّى شرطا. وقد بيّنّا في وجه اللزوم - بعد صدق الشرط - قول أمير المؤمنين علیه السلام : « من شرط لامرأته شرطا فليف لها به » (3) ومفاد هذه الرواية كما تقدّم وجوب الوفاء بشرطه الذي شرط على نفسه والتزم به ، فمفاد هذا الحديث الشريف الذي رواه الفريقان - ومن هذه الجهة ربما يطمئنّ الإنسان بصدوره عنه صلی اللّه علیه و آله بل يقطع - هو الوقوف والثبوت عند التزاماته مطلقا ، سواء كانت تلك الالتزامات بدويّة ، أو كانت في ضمن العقود اللازمة. وقد تقدّم أنّ هذا المعنى مساوق للزوم.

وهذا الدليل يشمل جميع الالتزامات التي التزم بها المؤمن ، سواء كانت في أبواب المعاملات والمعاوضات ، أو كانت في غيرها ، فيمكن أن يقال : إنّ هذا الدليل أشمل من الأدلّة السابقة ؛ إذ له إطلاق من أغلب الجهات.

وأمّا السابع : أي الأخبار الواردة في لزوم البيع بعد الافتراق ، فلا شكّ في أنّها

ص: 231


1- تقدّم تخريجه في ص 220.
2- تقدّم تخريجه في ص 225.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات وفقه النكاح ، ح 80 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.

تدلّ على لزوم خصوص البيع بعد انقضاء المجلس وحصول التفرّق.

ثمَّ إنّه لو فرضنا عدم دلالة الأدلّة السابقة على لزوم العقود ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فنقول :

لا شكّ في أنّه لو كان للحكم الشرعي ، أو الموضوع الذي له أثر شرعي حالة سابقة متيقّنة ، وشكّ في بقاء تلك الحالة يستصحب ، إن كان لبقاء تلك الحالة أثر شرعي في حال الاستصحاب ، فنرى هل هاهنا يمكن استصحاب نفس اللزوم أو ما يكون لازما أو ملزوما أو ملازما له ، فيثبت بها اللزوم ، أم لا يمكن شي ء من ذلك؟

أقول : أما استصحاب نفس اللزوم - وإن قلنا بأنّه حكم وضعي قابل للجعل ابتداء ، بلا توسيط جعل آخر كي يكون منشأ لانتزاعه أو اعتباره - فلا مجال له هاهنا ، أي في مورد الشكّ في لزوم معاملة أو عقد ابتداء ؛ لأنّه متى كان لازما كي يستصحب؟

نعم لو كان عقدا ومعاملة لازما ابتداء ، وشككنا في طروّ الجواز عليها لاحتمال وجود خيار لم يكن دليل على وجوده ولا على عدمه ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فلا مانع من استصحاب نفس اللزوم ، وإلاّ ففي غير هذه الصورة فاستصحاب نفس اللزوم لا معنى له.

وأمّا استصحاب الملكيّة السابقة على الفسخ الذي ينتج اللزوم ، ففيه تفصيل ، إجماله أنّ هذا الاستصحاب المدّعى في المقام تارة يدّعى أنّه من قبيل استصحاب الكلّي ، وأخرى أنّه استصحاب شخص الملكيّة المنشأة بالعقد أو بالمعاطاة ، والفعل من طرف واحد أو الفعل الصادر من الطرفين.

أمّا الثاني : أي استصحاب شخص الملكيّة ، ففيه : أنّه من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، فلا يجري أوّلا على ما هو التحقيق وسنبيّن وجهه. وثانيا : على فرض الجريان يكون مثبتا ، أمّا عدم جريان الفرد المردّد ؛ لأنّ شخص هذه الملكيّة التي وجدت

ص: 232

بإنشاء المتعاملين المردّدة بين أن يكون مستقرّة لا تزول بالفسخ ، وغير الثابتة التي تزول بالفسخ ليست قابلة للبقاء ؛ لأنّه بعد الفسخ إن كانت متزلزلة غير مستقرّة فقد زالت وانعدمت بالفسخ ، وإن كانت مستقرّة غير متزلزلة فهي وإن كانت باقية بعد الفسخ ، ولكن ليست فردا مردّدا فالفرد المردّد بوصف أنّه مردّد غير قابل للبقاء ، فلا يمكن استصحابه ، والفرد المعيّن وإن كان قابلا للبقاء ، لكنّه ليست معلومة ومتيقّنة في وقت من الأوقات ، فما هو متيقّن - أي الفرد المردّد - ليس قابلا للبقاء ، وما هو قابل للبقاء - أي الفرد المعيّن - لم يكن متيقّنا.

فعلى كلّ واحد من التقديرين يختلّ أحد أركان الاستصحاب ، أي إمّا لا يكون اليقين السابق ، أو لا يكون الشكّ في البقاء لاحقا.

فاختلال الركن الأوّل إذا فرضنا المستصحب فردا معيّنا ، واختلاف الركن الثاني - أي الشكّ في البقاء - إذا كان المستصحب فردا مردّدا ، فاستصحاب الفرد والشخص لا مجرى له.

وأمّا الأوّل : أي استصحاب الكلّي ، أي الجامع بين الملك المستقرّ الثابت وبين المتزلزل كي يكون من قبيل استصحاب القسم الثاني من أقسام الكلي ، كاستصحاب كلّي الحدث الجامع بين الحدث الأصغر والأكبر ، بأن يقال : هذا الجامع وجد بمحض وجود العقد تامّ الأجزاء والشرائط ، أو وجود معاملة المعاطاة مثلا ، فإن كان وجوده في ضمن الملك المتزلزل غير المستقرّ ، انعدم بالفسخ ، وإن وجد في ضمن الملك المستقرّ فبعد الفسخ لا ينعدم مثل انعدامه في القسم الأوّل ، بل باق ، وهذا الترديد في الانعدام والبقاء يرجع إلى الشكّ في البقاء ، فيتمّ أركان الاستصحاب من اليقين بوجوده المستصحب سابقا ، والشكّ في بقائه لاحقا.

واعترض على هذا الاستصحاب من وجوه :

منها : أنّ هذا الاستصحاب مثبت ، من جهة أنّ بقاء قدر المشترك لا يثبت

ص: 233

عنوان اللزوم.

ولكن جواب هذا الإشكال سهل ، وهو أنّ المراد والمقصود من النزاع في اللزوم وعدمه هو المعاملة أو العقد ينحلّ بالرجوع والفسخ ، أم لا ويبقى أثره ، فإثبات بقاء الأثر وعدم الانحلال بالرجوع أو الفسخ كاف في إثبات هذا المقصود ، ولا نحتاج إلى إثبات عنوان اللزوم كي يقال بأنّه مثبت.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : أنّ عنوان اللزوم عنوان ومفهوم انتزاعيّ ، ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد بعد فسخ أحدهما بدون رضا الآخر ، أو يقال : بأنّه وإن كان من الأحكام الشرعيّة الوضعيّة ولكنّه ينتزع من الأحكام التكليفيّة ، كما أنّه نسب ذلك إلى الشيخ الأنصاري قدس سره (1) فأيضا ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد الثابت بالاستصحاب.

ومنها : ما اعترض به صاحب الكفاية في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم الأنصاري (2) بأنّ هذا الاستصحاب من الشكّ في المقتضي ، فمن يقول بعدم جريانه في الشكّ في المقتضي ليس له أن يستند في إثبات اللزوم بهذا الاستصحاب.

وفيه : أنّ المراد من الشكّ في المقتضي - الذي لا نقول بجريان الاستصحاب فيه - هو أن يكون الشكّ في استعداد بقائه في عمود الزمان ، بحيث يحتمل تماميّة قابليّة بقائه وفناء عمره وارتفاعه من عند نفسه ، من دون وجود مزيل ورافع له. وما نحن فيه ليس هكذا ، بل قابل للبقاء ما دام موضوعه موجودا كما هو شأن كلّ حكم شرعي ، فما لم يأت الفسخ لا يشكّ في بقائه ، وإنّما الشكّ في البقاء يحصل بعد وجود محتمل الرافعيّة ، وقد دافعنا عن أمثال هذه الشبهات تفصيلا في الأصول في بيان معنى الشكّ في المقتضي ، وأنّ أغلب الشبهات من جهة عدم الوصول إلى معنى الشكّ في المقتضي.

ص: 234


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 601.
2- « حاشية كتاب المكاسب » ص 13.

ومنها : معارضته مع الاستصحاب الحاكم عليه ، وهو استصحاب بقاء علقة المالك الأوّل من جهة الشكّ في أنّ المالك الأوّل بعد وقوع المعاملة التي يشكّ في لزومها انقطعت علاقته عن هذا المال بالمرّة ، أو بقيت حيث يقدر - بسبب ذلك المقدار الباقي من تلك العلاقة - على إرجاع ذلك المال إلى نفسه.

وبعبارة أخرى : هذه المعاملة التي وقع الشكّ في لزومها هل صارت سببا لخروج المال عن يد المالك الأوّل بحيث صار المالك الأوّل مثل الأجنبي ، وصار كأنّه لم يكن مالكا؟ أو بقي له حقّ الإرجاع بتوسّط الفسخ؟ فبقاء ذلك المقدار الذي قد يعبّر عنه بملك أن يملك ، مشكوك فيستصحب. ولا شكّ في حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني ؛ لأنّه رافع في عالم التشريع لموضوع استصحاب الأخير ؛ إذ بقاء علاقة المالك الأوّل وقدرته على إرجاع المال إلى نفسه بالفسخ موجب للعلم بعدم بقاء ملكيّة المالك الثاني في عالم التعبّد والتشريع ، فلا يبقى شكّ في البين كي يستصحب.

وفيه : أنّه لا شكّ في ارتفاع الإضافة التي كانت بين المالك الأوّل وهذا المال بنفس العقد التامّ الأجزاء والشرائط ، وهذا هو معنى انتقال المال بالبيع مثلا من البائع إلى المشتري بالنسبة إلى المثمن ، وبالعكس بالنسبة إلى الثمن ، فلا يبقى إضافة بين المال والمالك الأوّل ؛ لأنّ الإضافة اعتباريّة ، ولا تتقطّع كي يقال قطعة ارتفعت بالبيع وبقي قطعة منها ، فلو كان علاقة وإضافة بين المالك الأوّل والمال ، لا بدّ وأن يكون حادثا بسبب الفسخ ، فليس شي ء يحتمل بقاؤه كي يستصحب.

وبعبارة أخرى : العقد المشكوك اللزوم ليس أمره أعظم من الموارد المعلوم جوازها بسبب الخيار ، وفي العقد الخياري يحدث علاقة بسبب الخيار ، وإلاّ فالعلاقة التي كانت بين الملك والمالك زالت بالمرّة بالعقد ، والخيار المجعول من قبل المتعاقدين أو من قبل اللّه تعالى يوجب حدوث علاقة جديدة بين ذي الخيار والمال الذي انتقل منه إلى طرفه المسمّى بحقّ الإرجاع ، أو كونه مالكا لأن يملك.

ص: 235

وأمّا بناء على قول من يقول إنّ ملكيّة المشتري مثلا للثمن متوقّفة على انقضاء زمن الخيار ، وإلاّ فقبل انقضاء زمن الخيار لا تحصل ملكيّة بنفس العقد ، فلا تحصل علاقة جديدة بالفسخ ، بل الملكيّة من الأوّل موجودة لذي الخيار ، وعلى هذا أيضا لا وجه للاستصحاب ؛ لبقاء الملكيّة قطعا.

ولكن مثل هذا الكلام على تقدير صحّته في العقود الخياريّة ، لا يمكن القول به في مطلق العقود الجائزة ؛ لأنّه لو لم تحصل الملكيّة بنفس العقد فلا تحصل أصلا ؛ لأنّه ليس هناك خيار كي يقال بحصول الملكيّة بعد انقضاء زمان الخيار.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ علاقة المالك تزول بمحض وجود العقد الناقل ، ولا يبقى منها شي ء قطعا ويقينا ، فليس شي ء يشكّ في بقائه كي يستصحب.

وأما احتمال : أن يكون الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، بأن يقال : إنّ الملكيّة مثل السواد والبياض من الطبائع المقولة بالتشكيك ، فلها مراتب مختلفة بالشدّة والضعف ، فإذا جاء الفسخ فمن الممكن أن يذهب ببعض مراتبها ويبقى البعض الآخر ، فإذا شكّ في بقاء البعض يستصحب بقاؤه بعد الفسخ ، فيبقى بعد الفسخ على ملك المالك الثاني ، وهذا عبارة أخرى عن اللزوم ، لأنّه بالفسخ لم ترتفع الملكيّة بتمامها ، بل بقي مرتبة منها ، والمعاملة الجائزة أو العقد الجائز هو أن يرجع المال بالفسخ إلى صاحبه الأوّل ، ولا يبقى للمالك الثاني شي ء منه.

هذا ، ولكن فيه أنّ الأمور الاعتباريّة وإن كان من الممكن اعتبارها شديدا أو ضعيفا ، كما اعتبر ذلك في النجاسة والحدث ، فالحدث الأكبر أشدّ من الحدث الأصغر ، فقد عبّر في الرواية في مقام السؤال عن المرأة الجنب إذا حاضت أنّه جاءها ما هو أعظم ، أي الحيض أعظم من الجنابة ، أو نجاسة البول أشدّ من نجاسة الدّم مثلا ، فلا ينبغي أن يشكّ في أنّ الأمور الاعتباريّة أيضا مثل الأمور التكوينيّة يمكن أن يكون لبعض أنواعها مراتب مختلفة بالشدّة والضعف مقولة بالتشكيك ، وذلك باعتبار بعض

ص: 236

أفراد نوع من أنواعها أشدّ من الفرد الآخر ، فيعتبر في نجس من أنواع النجاسات نجاسة شديدة ، وفي نجس آخر منها نجاسة ضعيفة ، ففي النجاسة الحاصلة من ملاقاة جسم للبول يمكن أن يعتبر نجاسة شديدة بحيث إذا غسل مرّة تزول مرتبة وتبقى مرتبة منها ، فيحتاج إلى غسلة ثانية لزوال المرتبة الباقية.

ولكن الملكيّة في الاعتبار العرفي ليست هكذا ، بل هي أمر بسيط يدور أمرها بين الوجود والعدم ، ولا يمكن في نظر العرف والعقلاء أن تنعدم مرتبة منها وتبقى مرتبة أخرى ، فيدور أمرها بين أن تبقى بتمامها أو تزول بتمامها ، فبناء على هذا لا يمكن استصحاب بقاء مرتبة ضعيفة عن الملكيّة للمالك الثاني بعد فسخ المالك الأوّل ، كي ينتج نتيجة اللزوم.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ استصحاب الملك الكلّي الجامع بين الملكيّة المستقرّة الثابتة التي لا تزول بالفسخ ، وبين الملكيّة المتزلزلة التي تزول بالفسخ لا مانع منه ، ونتيجته لزوم المعاملة التي شكّ في لزومها.

وأمّا الإشكال على هذا الاستصحاب بأنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن حدوث الفرد الباقي ، والأصل عدمه ، فلا يبقى موضوع لهذا الاستصحاب.

ففيه أوّلا : أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس مسببا عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث الذي لو كان حادثا لكان الكلّي باقيا ، أعني الفرد الباقي ، بل من لوازم كون الحادث ذلك الفرد الذي ارتفع يقينا ، أو الذي بقي يقينا.

وبعبارة أوضح : الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن أنّ الحادث أيّ واحد من هذين الفردين بمفاد كان الناقصة. وليس في البين ما يعيّن أنّ الحادث أيّ واحد من الفردين ؛ وذلك لأنّ الشكّ في بقاء الكلّي لا يرتفع إلاّ بارتفاع منشئه.

وثانيا : في حكومة الأصل الجاري في السبب على الأصل المسبّبي لا بدّ أن يكون الترتّب والسببيّة بينهما شرعيّا ، وتفصيل المسألة في الأصول ذكرناه في كتابنا

ص: 237

« منتهى الأصول » (1).

وخلاصة الكلام : أنّ العدم النعتي ، أي عدم كون الحادث الذي وجد هو الفرد الباقي ليس له حالة سابقة ، والعدم المعمولي أي عدم حدوث الفرد الباقي مثبت ؛ لأنّ لازمه عقلا هو حدوث الفرد الزائل الذي لازمه القطع بارتفاع الكلّي فافهم.

وثالثا : أصالة عدم حدوث الفرد الباقي معارض بأصالة عدم حدوث الفرد الزائل.

نعم أنكر شيخنا الأستاذ قدس سره (2) كون الاستصحاب هاهنا من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ؛ لأنّ اختلاف الملك بكونه مستقرّا ومتزلزلا ليس لعروض خصوصيتين على الملك يكون بإحداهما مستقرّا وبالأخرى يسمّى متزلزلا ، بل الاختلاف يكون بنفس الارتفاع والبقاء ، من جهة أنّ تنوّعه بنوعين ليس باختلاف سبب الملك ، ولا باختلاف حقيقته وماهيّته ، من غير جهة أنّ أحدهما يرتفع بالفسخ والآخر لا يرتفع.

فإذا كان الأمر كذلك وكان تنوّعه بنفس اللزوم والجواز ، فينتفي أحد ركني الاستصحاب على أيّ حال ، لأنّ أحد النوعين أي الجائز مقطوع الارتفاع ، والآخر أي اللازم مشكوك الحدوث من أوّل الأمر.

وبعبارة أخرى : بناء على ما ذكر ليس في البين إلاّ ملكيّة واحدة مردّدة بين أنّ الشارع حكم بلزومها ، أو حكم بجوازها بواسطة اختلاف أسبابها ، فمع قطع النظر عن حكم الشارع باللزوم والجواز لا تعدّد ولا تنوّع كي يقال بأنّ الجامع كان متيقّن الوجود فصار مشكوك البقاء ، بل ملكيّة واحدة لم يعلم أنّ الشارع حكم عليه باللزوم أو الجواز.

ص: 238


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 540 - 541.
2- « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 165.

فليس الجامع هاهنا من قبيل الكلّي الذي له وجود بوجود هذا الفرد وله وجود آخر بوجود الفرد الآخر ، كما هو الشأن في الكلّي الطبيعي في الموارد الأخر ، بل ها هنا يشبه الفرد الشخصي المردّد بين كونه كذا وبين كونه كذا.

فالشكّ في البقاء فيه يرجع إلى أنّ هذا الكلّي الذي حكم عليه الشارع بالبقاء أو بالزوال هل هو باق أم لا؟ ومعلوم أنّ هذا الكلّي الذي إمّا باق أو زائل على كلّ واحد من التقديرين ليس قابلا للإبقاء ؛ لأنّه على تقدير الزوال ممتنع البقاء ، وعلى تقدير البقاء يكون إبقاؤه تعبّدا من قبيل تحصيل الحاصل بل أسوء منه ؛ لأنّه يكون من تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد ، ولا يقاس بالكلّي الذي له فردان : باعتبار إضافة خصوصية إلى الطبيعة يحصل فرد منها ، وبإضافة خصوصيّة أخرى بدل الأولى يحصل فرد آخر ؛ لأنّه هناك للطبيعة وجودان : وجود منضمّ إلى هذه الخصوصية ، ووجود آخر منضمّ إلى خصوصية أخرى.

فالشكّ في أنّ الخصوصية المنضمّة إلى الطبيعة أيّة واحدة من الخصوصيّتين موجب للشكّ في بقاء الطبيعة ؛ لأنّ مرجع الشكّ الأوّل إلى أنّه هل الجامع بين الوجودين وجد في ضمن وجود الفرد الزائل كي يكون زائلا ، أو وجد في ضمن وجود الفرد الباقي كي يكون باقيا ، فيكون شكّا في بقاء ذلك الجامع الذي نسمّيه بالكلّي.

وفيما نحن فيه ليس للملكيّة وجودان ، أحدهما في ضمن الذي حكم عليه الشارع بالبقاء ، والآخر في ضمن الذي حكم عليه بالزوال ، بل وجود واحد إمّا حكم عليه بالبقاء أو بالزوال ، فالاستصحاب مرجعه إلى أنّ هذا الوجود الباقي باق ، أو هذا الوجود الزائل باق ، وكلاهما محالان ، كما بيّنّا وجهه ، وعبّر عن هذا المعنى شيخنا الأستاذ قدس سره (1) بأنّه يلزم منه إدخال عقد الجمل في عقد الوضع ، فافهم فإنّه دقيق

ص: 239


1- « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 174.

وبالتأمّل حقيق.

وهذا الكلام ، أي كون الملكيّة مستقرّة أو متزلزلة ليس باعتبار اختلاف في حقيقة الملك ، بل إنّما هو باعتبار حكم الشارع في بعض المقامات عليه بالزوال برجوع المالك ، وفي بعض المقامات الأخر بعدم الزوال بالرجوع ، ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك ، لا اختلاف حقيقة الملك.

فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعيّة للسبب ، لا من الخصوصيّات المأخوذة في المسبّب ، وقد أخذه شيخنا الأستاذ قدس سره من الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ولكن الشيخ الأعظم (1) علّل بهذا صحّة جريان الاستصحاب ، وشيخنا الأستاذ (2) علل به عدم صحّة جريانه. والتوفيق بين الكلامين أنّ شيخنا الأستاذ أراد به عدم جريان استصحاب الكلّي ، والشيخ الأعظم أراد صحّة استصحاب الشخصيّ وأنّه ليس من الكلّي ولا من الفرد المردّد ، وكلا القولين في غاية القوّة والمتانة.

أمّا الأوّل : أي عدم جريان استصحاب الكلّي ، فقد بيّنّا وجهه فلا نعيد.

وأمّا القول الثاني : كون هذا الاستصحاب شخصيّا وأنّه ليس من الفرد المردّد فلا مانع من جريانه ؛ فلأنّ الملكيّة الحاصلة من العقد أو من المعاملة الخارجيّة شخصي لا تعدّد فيها على الفرض ؛ لأنّ المفروض أنّ اللزوم أو الجواز من الأحكام الشرعيّة للسبب لا من خصوصيّات المسبّب.

فالمسبّب باق على النحو الذي أنشأ ووجد في عالم الاعتبار ، أي على تشخّصه وتفرّده ، فبواسطة الشكّ في أنّ الشارع حكم باللزوم وعدم الرجوع أو الجواز ورجوع المال إلى مالكه الأوّلى يشكّ في بقائه فيستصحب ؛ لتماميّة أركانه من اليقين بوجود الملكيّة الشخصيّة ، والشكّ في ارتفاعها بواسطة الشكّ في حكم الشارع باللزوم

ص: 240


1- « المكاسب » ص 85.
2- « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 174.

أو الجواز.

نعم يبقى شي ء وهو دليل أنّ الملكيّة المنشأة واحدة لا تعدّد فيه.

أقول : بعد أن فرضنا أنّ الجواز واللزوم ليسا من خصوصيات الملك المسبّب ، بل من الأحكام الشرعيّة للسبب المملّك ، وأيضا بعد أنّ المفروض أنّ المنشئ أنشأ بإنشاء واحد ملكيّة شي ء واحد ، كلّيا كان ذلك الشي ء أو كان جزئيّا خارجيّا ممتنع الصدق على كثيرين. فبإنشاء واحد على متعلّق واحد لا يمكن جعل ملكيّتين ، بل لا يمكن ذلك ولو كان بإنشاءات متعدّدة ؛ إذ باعتبارات متعدّدة لو اعتبر حرّية شخص أو رقّيته أو ملكيّة مال ، لا يحصل إلاّ حرّية أو رقية أو ملكيّة واحدة ؛ وذلك من جهة أنّ اعتبارها ثانيا بعد حصولها لغو بل محال ؛ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فإذا باع المالك ماله مثلا وأنشأ ملكيّة لزيد مثلا فلا أثر لإنشاء ملكيّة له ثانيا ، بل لا يمكن.

وخلاصة الكلام : أنّ البائع مثلا أنشأ شخصا من الملكيّة يكون تشخّصها بتشخّص متعلّقها وموضوعها ، فيكون إنشاء طبيعة في عالم الاعتبار كإيجادها في عالم التكوين ، وحيث أنّ متعلّق ذلك الأمر الاعتباري شخص واحد ، فقهرا يتشخّص بتشخّصه كالعرض بموضوعه. وكونها مردّدة بين اللزوم والجواز تقدّم أنّه ليس من الخصوصيّات اللاحقة لها ، فثبت أنّ الملكيّة المنشأة شخص واحد لا تعدّد فيه ، فلا مانع من استصحاب ذلك الشخص بعد حصول الشكّ في بقائه من ناحية الشكّ في الحكم الشرعيّ ببقائه أو لزومه.

فخلاصة الكلام في المقام : أنّه إن قلنا بأنّ اللزوم والجواز من الخصوصيّات اللاحقة للملكيّة المنوّعة أو المصنّفة لها ، أو لحقوقهما لها كلّ واحد منهما لخصوصيّة فيها غير الخصوصيّة الأخرى ، فيجري فيها استصحاب الكلّي الجامع بينهما كسائر الاستصحابات التي من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلّي على ما هو الصحيح من صحّة جريانها. وأمّا إن قلنا بأنّهما ليسا من الخصوصيّات المنوّعة أو

ص: 241

المصنّفة للملكيّة ، بل هما حكمان شرعيّان لها باعتبار اختلاف أسبابها ، فيجري فيها الاستصحاب الشخصي كما تقدّم.

ثمَّ إنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) أنّه لو شكّ في أنّ اللزوم والجواز من خصوصيّات الملك ، أو حكمان شرعيّان يتعلّقان بالملك باعتبار اختلاف أسبابه أيضا يجري الاستصحاب.

وما ذكره قدس سره واضح على ما ذكرنا ؛ لأنّه بناء على كونهما من خصوصيّات الملك يكون الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، ويكون من قبيل الحدث المردّد بين الأصغر والأكبر فتوضّأ ، فإن كان الأصغر ارتفع ، وإن كان الأكبر فباق ، فيستصحب الجامع بينهما.

وفيما نحن فيه بناء على أن يكونا - أي اللزوم والجواز - من خصوصيّات الملك ، فيعد الفسخ إن كان جائزا فقد ارتفع ، وإن كان لازما فالملك باق ، فيستصحب الملك الكلّي الجامع بين الخصوصيّتين.

وأمّا بناء على كونهما حكمان شرعيّان يردّان على الملك باعتبار اختلاف أسبابه ، فيستصحب شخص الملكيّة المنشأة من جهة الشكّ في ارتفاعها بعد ثبوتها يقينا ، فلا إشكال على كلّ واحد من التقديرين في جريان الاستصحاب وتماميّة أركانه ، غاية الأمر في أحد الفرضين يكون الاستصحاب كلّيا ، وفي الآخر يكون شخصيّا.

ولا يتوهّم : أنّه بناء على ما ذكرنا وتقدّم في أوّل بحث جريان الاستصحاب أنّ استصحاب الشخص لا يجري ؛ لأنّ مرجعه إلى استصحاب الفرد المردّد ، وهو لا يجوز فقولكم إنّه يجرى على كلا الفرضين مناقض لما تقدّم.

وذلك من جهة أن قولنا بعدم جريان الاستصحاب الشخصي وأنّه من استصحاب الفرد المردّد كان مبنيّا على أنّ يكون اللزوم والجواز من الخصوصيّات

ص: 242


1- « المكاسب » ص 85.

المنوّعة للملك ، وأمّا إذا كانا من الأحكام الشرعيّة التي جعلهما باعتبار اختلاف الأسباب كما هو المفروض في محلّ الكلام ، فلا مانع من جريان الاستصحاب الشخصي ، فلا مناقضة بين الكلامين.

خاتمة البحث في هذه القاعدة

وهو أنّه وعدنا في صدر المسألة بيان جريان الاستصحاب في العقود التمليكيّة التعليقيّة وإثبات لزومها به عند الشكّ. والمراد من العقود التعليقيّة هو أن يكون التمليك معلّقا على أمر غير حاصل.

ويظهر ممّا أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عدم جريان استصحاب الملكيّة في تلك العقود قبل حصول ذلك الأمر المعلّق عليه لو شكّ في لزومها. مثلا لو شكّ في لزوم الجعالة قبل حصول ما جعل على تحصيله الجعل ، أو شكّ في لزوم عقد المسابقة قبل حصول السبق ، فلا يصحّ إثبات لزومهما باستصحاب ملكيّة الجعل في الجعالة ، أو السبق في عقد المسابقة ؛ وذلك من جهة عدم حصول ملكيّة الجعل والسبق كي يستصحب ، والمستصحب قبل وجود المعلّق عليه لا وجود له ولا عين ولا أثر له ، فأيّ شي ء يستصحبه ، وكيف يستصحب؟

وفيه : أنّ الشارع في هذه العقود التعليقيّة يمضي ما أنشأه العاقد ، كما أنّه في العقود التنجيزيّة أيضا يمضي ما أنشأه العاقد ، وليس فرق بين إمضاء الشارع في النوعين التعليقيّة والتنجيزيّة ، وإنّما الفرق بينهما في المنشأ ، فإنّ المنشأ في العقود التنجزيّة الملكيّة المنجّزة ، وفي العقود التعليقيّة الملكيّة المعلّقة.

فالعاقد في العقود التعليقيّة مثل الجعالة والسبق والرماية ينشأ ملك الجعل على تقدير ردّ الضالّة ، وملكيّة السبق في عقد السبق والرماية على تقدير حصول السبق وإصابة الرمي ، وهذا الإنشاء يشبه جعل الشارع الأحكام الكليّة على موضوعاتها

ص: 243

على نحو القضية الحقيقيّة ، أى على الموضوعات المقدّرة وجودها.

فالحكم الكلّي المجعول على موضوع سواء كان ذلك الموضوع مقيّدا بوصف أو كان مشروطا بشرط يكون الموضوع ذلك المركّب المفروض الوجود ، فإذا قال الشارع : يجب الحجّ على العاقل البالغ المستطيع الحرّ ، أو قال بصورة القضيّة الشرطية : من كان عاقلا بالغا حرّا مستطيعا يجب عليه الحجّ ، فالموضوع عبارة عن الإنسان الواجد لهذه الصفات ، فكلّما وجد في الخارج إنسان جامع لهذه الصفات يتحقّق الموضوع ويوجد وينطبق ما هو الموضوع عليه ، فإن أتى بذلك المركّب يكون ممتثلا ، وإن لم يأت يعدّ عاصيا متمرّدا ، وفي أيّ وقت رفع الشارع هذا الحكم عن ذلك الموضوع بدون أيّ تغيير في جانب الموضوع ، من فقد شرط أو جزء أو وجود مانع ، يعدّ هذا نسخا ، فلو شكّ في بقاء هذا الحكم على هذا الموضوع المفروض الوجود ، بدون أيّ تغيير ، يستصحب بقاؤه لتماميّة أركانه ، ويسمّى باستصحاب عدم النسخ ، ولا كلام ولا إشكال ولا خلاف في جريانه ، والاستصحاب في العقود التعليقيّة من هذا القبيل.

ففي قضيّة فقد صواع الملك في قضيّة يوسف الصدّيق مع إخوته ، جعل حمل بعير لمن جاء بصواع الملك ، أي : الجام الذي يشرب فيه أو منه ، وردّ هذه الضالّة أي جام الملك ، فيشبه هذا الجعل ، أي جعل ملكيّة حمل بعير لمن يأتي بصواع الملك جعل حكم كلّى على الموضوع المقدّر وجوده.

فهاهنا أيضا الموضوع المقدّر وجوده كلّ إنسان جاء بجام الملك ، غاية الأمر هناك ، أي في القضايا المتكفّلة لجعل الأحكام الشرعيّة الجعل ابتداء من قبل الشارع ، وها هنا أي في باب العقود التعليقيّة الجعل ابتداء من المالك ، والإمضاء من الشارع ، فكما أنّ استصحاب عدم النسخ في الأحكام الكلّية لا إشكال فيه لتماميّة أركانه ، فكذلك هاهنا استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة من قبل المالك لا إشكال فيه.

ص: 244

والعجب من شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره (1) أنّه قال بصحّة الاستصحاب التعليقي مع أنّه غير صحيح ، وأنكر جريان الاستصحاب هاهنا ، وقد عرفت أنّ صحّة الاستصحاب هاهنا وجريانه لا إشكال فيه.

وأمّا عدم صحّة الاستصحاب التعليقيّ وأنّه لا يجري ، فبيانه وإيضاحه موقوف على بيان مقدّمة :

وهي أنّ استصحاب التعليقي عبارة عن أن يكون موضوع الحكم الشرعي مركّبا من جزئين ، سواء كان أحد الجزئين قيدا ووصفا للآخر ، أو كان شرطا له ، فالأوّل كالعنب المغلي ، والثاني كالعنب إذا غلى ، فتغيّر أحد الجزئين قبل وجود الجزء الآخر.

مثلا جفّ العنب قبل أن يغلي وصار زبيبا ، فشكّ في أنه إذا انضمّ إلى الجزء الآخر بعد حدوث هذا التغيّر هل يبقى الحكم السابق أم لا؟ فإذا غلى الزبيب هل يكون شربه حراما ويكون نجسا ، كما أنّه لو كان يغلي في حال عدم الجفاف والعنبية كان له هذا الحكم يقينا.

وبعد وجود هذا الشكّ هل يصحّ استصحاب الحكم السابق فيقال : إنّ هذا الزبيب حين ما كان عنبا كان شربه حراما على تقدير الغليان ، والآن بعد ما صار زبيبا أيضا كذلك ، أي يكون شربه حراما على تقدير الغليان ، وهذا يسمّى بالاستصحاب التعليقيّ ؛ لأنّه عبارة عن إبقاء الحكم المعلّق لا المنجّز.

وفي صحّته وجريانه خلاف.

والأصحّ عندي عدم صحّته ؛ وذلك من جهة أنّ العنب لم يكن له حكم كي بعد جفافه والشكّ في بقاء ذلك الحكم يستصحب ؛ وذلك من جهة أنّ العنب كان جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو الغليان ، وقبل وجود الموضوع بتمام أجزائه محال أن يوجد الحكم ؛ لأنّ وجود الحكم قبل ذلك خلف ، أي يلزم منه أن يكون ما فرضته موضوعا

ص: 245


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 653.

لا يكون موضوعا ، ويكون من هذه الجهة حال الموضوع المركّب حال العلّة المركّبة ، أي كما لا يمكن وجود المعلول قبل وجود علّته بتمام أجزائها ، كذلك لا يمكن وجود الحكم قبل وجود الموضوع بتمامه ، والبرهان في الموردين هو لزوم الخلف.

فبناء على هذا لم يكن للعنب قبل أن يجفّ ما لم يغل حكم كي يبقى بالاستصحاب إلى حال الجفاف.

وأمّا القول بأنّ الحرمة والنجاسة الفعليّة وإن لم تكونا للعنب قبل الغليان لعدم موضوعهما قبل الغليان ، ولكنّ الحرمة والنجاسة التقديريّتان كانتا له ، بمعنى أنّه كان يصحّ أن يقال قبل الغليان : إنّ العنب يتّصف بالحرمة والنجاسة على تقدير غليانه ، وهذا نحو وجود للحكم ، ولا بأس بأن نسمّيه بالحكم التقديري.

وقد اختار هذا القول في الكفاية (1) ، وأصرّ في وجود الحكم التقديري قبل وجود ما علّق عليه ، أي الجزء الآخر ، وقال : فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجودا فعلا ، لا أنّه لا يكون موجودا أصلا ولو بنحو التعليق.

ولكن أنت خبير بفساد هذا القول العجيب ؛ إذ لا شكّ في أنّ بداهة العقل يحكم بوجود كلّ معلول عند وجود علّته ، فهل يصحّ عند عدم وجود علّة شي ء أن يقال بالوجود التقديري لذلك المعلول في ظرف عدم علّته ، مثلا لا شكّ في أنّ غروب الشمس علّة لوجود الليل ، أفيصحّ أن يقول في وقت الظهر وارتفاع الشمس أنّ الليل موجود بالوجود التقديريّ؟ نعم الموجود هي الملازمة بين وجود العلّة والمعلول ، والحكم والموضوع ، والملازمة حكم عقلي لا دخل ولا ربط لها بالأحكام ، وقد يتحقّق بين الممتنعين كتعدّد الآلهة وفساد السماوات والأرضين ، ووجود الملازمة بين شيئين لا يدلّ على وجود طرفي الملازمة ، بل تثبت وتصدق كما ذكرنا بين الممتنعين.

ص: 246


1- « كفاية الأصول » ص 411.

وأعجب من هذا ما نسب إلى شيخنا الأعظم الأنصاري (1) - قدّس اللّه روحه - من تصحيح الاستصحاب التعليقيّ بإرجاعه إلى استصحاب الملازمة.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ الملازمة بين الشيئين حكم عقليّ أزلي ، ليس قابلا للجعل الشرعي ، وهو قدس سره اعترف بذلك وقال بأنّ الملازمة وكذلك السببيّة لا يمكن أن يكونا مجعولين بالجعل الشرعي ، فالقول باستصحاب الملازمة مناقض مع ذكره في الأحكام الوضعيّة من عدم إمكان جعل الملازمة والسببيّة.

وذلك من جهة أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون إمّا من المجعولات الشرعيّة بنفسه ، أو يكون له أثر مجعول كي يكون قابلا للتعبّد ببقائه ، والسرّ في أنّ الملازمة ليست قابلة للجعل الشرعي أمّا في المقام ، فمن جهة أنّ فرض عدم الملازمة بين الحكم وموضوعه يرجع إلى جواز الانفكاك بينهما ، وهذا خلف ، أي يكون خلاف فرض كونهما موضوعا وحكما ، وهذا مناقضة ومحال.

فالعقل ينتزع الملازمة من كون الانفكاك بين شيئين محالا ، سواء كان بين العلّة والمعلول ، أو الحكم والموضوع ، أو بين معلولي علّة واحدة المسمّى بالمتلازمين ، فإذا كان الأمر كذلك ، فلا يبقى مجال للجعل الشرعي ، بل لا يمكن ؛ لأنّ انتزاعه قهريّ ، ويكون من لوازم الذات التي لا يتطرّق الجعل إليها مطلقا ، لا تكوينا ولا تشريعا ، كالإمكان بالنسبة إلى الممكنات ، والشيئيّة بالنسبة إلى الأشياء.

وثانيا : على فرض أن تكون الملازمة من المجعولات الشرعيّة ، تكون بين تمام الموضوع وحكمه ، فإنّها لا ينفكّان. وأمّا جزء الموضوع مع جزئه الآخر مع الحكم فليسا بمتلازمين ، بل لا بدّ من الانفكاك بينهما ، وإلاّ يلزم الخلف ، أي يلزم ما فرضته جزء الموضوع أن يكون تمام الموضوع.

ففي المثال المفروض الملازمة بين العنب المغلي مع الحرمة والنجاسة ، وأمّا العنب

ص: 247


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 654.

مع عدم الغليان فلا ملازمة بينه وبين الحرمة والنجاسة ، فلا ملازمة كي يستصحب بقاؤها في ظرف الشكّ في البقاء بواسطة جفافه وصيرورته زبيبا.

وها هنا إشكالات وأنظار من القائلين بصحّة الاستصحاب التعليقي ، ولكن نحن لسنا بصدد تحرير هذه المسألة من جميع النواحي والجهات ، وقد حقّقناها ودفعنا جميع ما أوردوا عليها في كتابنا « منتهى الأصول » ومن أراد فليراجع إليها.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً باطناً.

ص: 248

50 - قاعدة حرمة إبطال الأعمال العبادية

اشارة

ص: 249

ص: 250

قاعدة حرمة إبطال الأعمال العبادية (1)

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « حرمة إبطال الأعمال العبادية إلاّ ما خرج بالدليل ».

فنقول : البحث من جهات :

الجهة الأولى : في بيان مفاد هذه القاعدة وأنّه ما المراد منها

أقول : المراد منها هو أنّ العمل العبادي المركّب التدريجي الوجود لا يجوز إبطاله في الأثناء ، بمعنى رفع اليد عن إتيانها تماما في الأثناء ، أو يأتي بشي ء لا يصحّ معه الإتمام ويخرج عن قابليّة التحاق الأجزاء اللاحقة بسابقتها كي يتمّ العمل ويوجد صحيحا.

فلو شرع في الصلاة فليس له أن يرفع اليد عنها في الأثناء ، أو يأتي بأحد قواطع الصلاة كي تخرج عن قابلية الإتمام ووقوعها صحيحا ، أو شرع في الإحرام لعمرة التمتّع كي يتمتّع بها إلى الحجّ ، فرفع اليد عن إتمام العمرة أو الحجّ أو أتى بمانع لا يقع معه الحجّ صحيحا ، مثل أن جامع عمدا وإن كان مع زوجته فيفسد حجّه ، ولا يمكن أن يتمّه صحيحا ، فهذا معنى حرمة الإبطال المراد من هذه القاعدة.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الواجبات المضيقة لا يجوز إبطالها قطعا ، ولكن ليس لأجل

ص: 251


1- 1 « عوائد الأيّام » ص 151 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 24 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 125.

هذه القاعدة ، بل لو لم تثبت هذه القاعدة ولم يوجد عليها دليل ، أيضا لا يجوز قطع تلك الواجبات ؛ لأنّ مرجع قطعها وإبطالها بالمعنى الذي ذكرنا للإبطال تفويت تلك الواجبات وتركها في وقتها مع أنّها مضيّقة ، فهذا شي ء معلوم. فعمدة الكلام في الواجبات الموسّعة والمستحبّات.

وكذلك جواز قطعها لعذر دلّ الدليل عليه لا ينافي مع هذه القاعدة ، وذلك من جهة أنّ مفاد هذه القاعدة عدم جواز القطع بعنوانه الأوّلي ، فلا ينافي الجواز لطروّ عناوين أخر كطروّ ضرر أو حرج وأمثالها من الحالات الطارئة.

الجهة الثانية : في أنّه ما الدليل على هذه القاعدة؟ أي حرمة إبطال الأعمال العباديّة.

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع ، وادّعاه جمع في خصوص الصلاة ، وتعبيراتهم وإن كانت مختلفة ولكن مفاد كلّها واحد ، وهو الاتّفاق وعدم الخلاف في عدم جواز قطع الصلاة اختيارا ولغير عذر ، بل ادّعى في شرح المفاتيح أنّه من بديهيّات الدين.

وفيه : أنّ الإجماع على فرض وجوده لا يثبت كلّية هذه القاعدة ، نعم على تقدير ثبوته يكون دليلا على تحريم قطع الصلاة فقط.

الثاني : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (1).

والاستدلال بهذه الآية - على حرمة رفع اليد عن المركّبات العباديّة في أثناء العمل ، أو الإتيان بمانع أو قاطع يمنع عن إتمام العمل صحيحا - مبنيّ على أن يكون

ص: 252


1- محمّد (47) : 33.

المراد من الإبطال فيها هو المعنى الذي ذكرنا له ، من ترك العمل ورفع اليد عنه بعد الشروع فيه وفي أثنائه ، أو إيجاد مانع أو قاطع في أثنائه كي يسقط عن صلاحيّة إتمامه صحيحا.

ولكن ظهور لفظ الإبطال وكلمة « لا تبطلوا » في هذا المعنى لا يخلو عن مناقشة ؛ إذ من المحتمل القريب أن يكون المراد منه النهي عن إبطال العمل بالرياء أو الشرك أو العجب أو ارتكاب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار ، لا بمعنى الحبط الذي لا نقول به نحن الإماميّة الاثنى عشريّة وننكره ، بل بمعنى أنّه لا توجب تلك الأعمال دخول الجنّة بعد ارتكاب الكبائر العظيمة ، كقتل النفوس المحترمة ، والزنا بذات البعل وأمثالهما من الجرائم الكبيرة.

ويؤيّد هذا الاحتمال ما رواه الصدوق قدس سره في ثواب الأعمال عن أبي جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من قال : « سبحان اللّه » غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : « الحمد لله » غرس اللّه له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : « لا إله إلاّ اللّه » غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ». فقال رجل من قريش : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّ شجرنا في الجنة لكثير ، قال صلی اللّه علیه و آله : « نعم ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أنّ اللّه تعالى يقول ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (1).

فاستشهاد الإمام علیه السلام بهذه الآية على أنّ الشرك والكفر والمعاصي الكبيرة يذهب بأثر تلك الكلمات ويحرق الأشجار التي كانت آثار تلك الكلمات ، مؤيّد بل دليل على أنّ المراد من إبطال الأعمال في الآية الشريفة هو ما يوجب ذهاب أثر تلك الأعمال ، لا أنّ المراد من إبطال الأعمال رفع اليد عنها وتركها في الأثناء ، أو إتيان مانع أو قاطع يمنع عن إتمامها صحيحا.

ص: 253


1- « ثواب الأعمال » ص 32 ، ح 3.

فمع وجود هذا الاحتمال القريب المؤيّد بما ذكرنا من الرواية التي رواها في ثواب الأعمال ، كيف يمكن دعوى ظهور هذه الجملة في مفاد هذه القاعدة ، فلا أقلّ من الإجمال وعدم ظهورها في كلّ واحد من هذين المعنيين.

هذا ، مضافا إلى أنّ حملها على مفاد القاعدة يوجب تخصيص الأكثر المستهجن ؛ وذلك لأنّ إرادة بعض أفراد العامّ من العموم الأفرادي ، أو إرادة بعض الأصناف من العموم الأصنافيّ مستهجن خلاف دأب أهل المحاورة وديدنهم في محاوراتهم ، ودليل المخصّص وظهوره يقدّم على دليل العامّ وظهوره فيما إذا لا يبلغ إلى حدّ الاستهجان.

وفيما نحن فيه لا ريب أنّ « أعمالكم » جمع مضاف ، وهو من صيغ العموم ، فيشمل جميع الأعمال المركّبة التي يمكن رفع اليد عنها في الأثناء على تقدير كون الإبطال بهذا المعنى الذي يدّعيه المستدلّ بهذه الآية على هذه القاعدة ، سواء كانت تلك الأعمال تعبّديا أو كانت توصّليا ، مع أنّ أغلب الأعمال يجوز إبطالها في الأثناء برفع اليد عنها أو بإتيان ما يوجب بطلانها ، وعدم إمكان إتمامها صحيحا.

بل الذي قالوا بعدم جواز قطعه في الأثناء هو فريضة الصلاة والحجّ مطلقا ، واجبا كان أو مندوبا ، مع كلام فيهما أيضا ، فكيف يجوز التعبير عن هذين العملين بهذا العموم الواسع ، وهل هذا إلاّ حصر المراد من العموم فيما هو مستهجن جدّا ، لا يليق مثل هذا بكلام السوقة ، فضلا عن كلام اللّه تعالى شأنه.

وأمّا ما يقال من أنّ لفظة « الأعمال » وإن كانت بحسب ظاهر الكلام تشمل جميع الأعمال ، عباديّة كانت أو غير عباديّة ، لكن سوق الآية في مقام بيان الأعمال العباديّة ، فبقرينة السياق ينقلب الظهور ويكون ظاهرا في خصوص العبادات.

ففيه : أنّ سياق الآية أنّ أوامرها إرشاديّة ، وأنّ النهي إرشاد إلى أنّ إبطال العمل وعدم إتيانه على الوجه الذي أمر به ليست بإطاعة ، فكما أنّ الأمر المتعلّق بإطاعة اللّه وإطاعة الرسول إرشادي ولا يمكن أن يكون مولويّا لما تقرّر في محلّه ، فكذلك النهي

ص: 254

المتعلّق بالإبطال لوحدة السياق.

وحاصله : أنّ مفاد الآية صدرا وذيلا هو أنّ وظيفة العبد هي الإطاعة وعدم التمرّد بترك الأعمال الواجبة ، أو إبطال أثرها بالعجب والكبر وارتكاب الكبائر ، أو إبطال نفسه بالرياء ، وهذا أجنبي عن عدم جواز رفع اليد عن الواجب الموسّع ثمَّ الإتيان بفرد آخر منه ، أو القول بأنّ سياق الآية يدلّ على أنّ المراد بأعمالكم فيها هو خصوص الأعمال العبادية لا عموم الأعمال.

فالإنصاف أنّ القول بظهور « أعمالكم » في الآية في خصوص العبادات لا دليل عليه ، مضافا إلى أنّ اختصاصها بالعبادات وظهورها فيها لا يرتفع به تخصيص الأكثر المستهجن ؛ وذلك لكثرة المستحبّات العباديّة التي لا إشكال في جواز قطعها إلاّ في الحجّ المندوب.

هذا ، مضافا إلى أنّ كثيرا من الواجبات التعبديّة يجوز قطعها إذا كانت موسّعة مثل الطهارات الثلاث ، فيجوز رفع اليد عنها في الأثناء والإتيان بفرد آخر ، حتّى أنّه في الصلاة حكى قول بجواز قطعها اختيارا وإن كان خلاف المختار ؛ لما ذكرنا من ادّعاء الإجماع من صاحب المدارك (1) وكشف اللثام (2) وغيرهما ، بل قال في شرح المفاتيح أنّه من بديهيّات الدين.

نعم قلنا إنّ الواجبات المضيّقة لا يجوز قطعها ؛ لأجل أنّ قطعها وإبطالها بهذا المعنى يوجب تفويتها وعصيانها بالمرّة ، فلا ربط لها بهذه القاعدة. وأمّا الواجبات الموسّعة كالنذر الموسّع مثلا ، وكالطهارات الثلاث كما ذكرنا يجوز قطعها ورفع اليد عن الفرد الذي اشتغل بها والإتيان بفرد آخر.

وأمّا الاستدلال بوجوب الإتمام بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (3) بأن

ص: 255


1- « مدارك الأحكام » ج 3 ، ص 477.
2- « كشف اللثام » ج 1 ، ص 241.
3- البقرة (2) ، 40.

يقال : نيّة العبادة عهد مع اللّه تعالى بأن يأتي بها تماما ، والأمر في ( أَوْفُوا بِعَهْدِي ) ظاهر في الوجوب ، فيكون المعنى بناء على هذا أنّه يجب عليكم الوفاء بالعهد الذي عاهدتم معي بإتيان العبادة المنويّة تماما ، فيكون قطعه حراما ؛ لأنّه ترك الواجب.

ففيه : أنّه بالخطابة أشبه من البرهان ، وخلاصة الكلام : أنّه ليس دليل على إثبات هذه القاعدة على نحو الكلّية ، بحيث إذا شككنا في جواز قطع عمل من الأعمال نرجع إليها ونحكم بعدم جواز قطعه لأجل هذه الكلّية ، إلى أن يأتي دليل على الجواز وتخصّص هذه القاعدة.

نعم في خصوص الصلاة الواجبة تمسّكوا بأدلّة على عدم جواز قطعها :

ومنها : هذه الآية ، وقد عرفت الحال فيها.

ومنها : الإجماع ، ولا بأس به.

منها : قوله علیه السلام : « تحريمها التكبير وتحليلها التسليم » (1). وتقريب دلالته على حرمة قطع الصلاة أنّ ظاهره حرمة إيجاد المنافيات من الموانع والقواطع بوقوع التكبير - أي بمحض الشروع في الصلاة - لأنّ المصلّي بالتكبير يشرع فيها ، ولا شكّ في أنّ إيجاد الموانع والقواطع ملزوم قطع الصلاة ، بل في نظر العرف هو عين قطعها ، فيكون مفاد الرواية عرفا هو حرمة قطع الصلاة ، ولا يجوز إيجادها إلاّ بالتسليم ، لأنّه مخرج ، فإذا خرج بالتسليم يحلّل به كلّ ما كان حراما عليه ؛ لأنّه خرج عن الصلاة.

واستشكلوا على هذا الدليل بأنّ التحريم في المقام ظاهر في الحرمة الشرطيّة من قبيل تعلّق النهي ببعض الموانع ، كقوله علیه السلام : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » (2). فيكون مثل هذا النهي منشأ اعتبار مانعيّة وجود النهي ، أو شرطيّة وجوده ، أو كليهما على اختلاف

ص: 256


1- « الكافي » ج 3 ، ص 69 ، باب النوادر ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1003 ، أبواب التسليم ، باب 1 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 397 ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه ... ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 209 ، ح 818 ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ... ، ح 26 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3. ص 250 ، أبواب لباس المصلّى ، باب 2 ، ح 1 ، مع تفاوت في النصّ.

المباني في المقام ، ولا أقلّ من الإجمال ، فلا يصحّ استظهار الحرمة التكليفيّة التي هي المدّعاة في المقام.

وقال بعض الأعاظم قدس سره في مقام الردّ على هذا الإشكال : إنّه لو كان المراد من التحريم الحرمة الشرطيّة لا التكليفيّة ، فكان هناك مركّبات أخر شرعيّة من العبادات ، كالوضوء والغسل ونحوهما ممّا لها منافيات ، فكان يقتضي ذكر هذه العبارة وإطلاقها عليها ، مع أنّه لم يعهد في لسان الشرع هذا الإطلاق ، إلاّ في باب الصلاة والإحرام ، وهذا يدلّ على تمحّض النظر فيه إلى حيث الحرمة التكليفيّة ، سواء اجتمعت مع الوضعيّة كما في قواطع الصلاة ، أم لا كما في بعض المحرّمات حال الإحرام.

وفيه : أوّلا : أنّ عدم إطلاق مثل هذه الجملة في غير الصلاة والإحرام لا يوجب ارتفاع ظهورها في الحرمة الشرطيّة أو إجماله واحتمالها لكلا الأمرين.

وثانيا : ذكرها في الصلاة وبل في الإحرام لأهمّيتهما ، وكثرة المنافيات من الموانع والقواطع فيهما ، فالإنصاف أنّ إثبات حرمة القطع بمثل هذه الجملة - التي من المحتمل القريب أن يكون المراد منها أنّه بعد أن شرع في الصلاة وكبّر بتكبيرة الإحرام يحرم عليه إيجاد المنافيات حرمة شرطيّة ، أي صحّتها موقوفة على عدم إيجاد تلك المنافيات - بعيد عن الصواب.

ومنها : النواهي المتعلّقة بإيجاد المنافيات من الموانع والقواطع ، كقوله علیه السلام : « استقبل القبلة بوجهك فلا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك » (1). وكقوله علیه السلام : « الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلّم » (2) وغيرهما.

ص: 257


1- « الكافي » ج 3 ، ص 300 ، باب الخشوع في الصلاة وكراهيّة العبث ، ح 6 ؛ « الفقيه » ج 1 ، ص 278 ، باب القبلة ، ح 856 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 199 ، ح 782 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 83 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 227 ، أبواب القبلة ، باب 9 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 305 ، باب بدء الأذان والإقامة وفضلهما وثوابهما ، ح 20 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 54 ، ح 185 ، باب الأذان والإقامة ، ح 25 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 630 ، أبواب الأذان والإقامة ، باب 10 ، ح 12.

وفيه : أنّ ظاهر هذه النواهي إنّها لبيان شرطيّة ما تعلّق النهي بعدمه ، كقوله علیه السلام : « فلا تقلّب وجهك عن القبلة » فهذا النهي مفاده شرطيّة الاستقبال بتمام البدن حتّى الوجه ، ولبيان مانعيّة ما تعلّق النهي بوجوده ، كقوله علیه السلام في خبر أبي هارون : « فإذا أقمت فلا تتكلّم » وسياقها سياق قوله علیه السلام في موثّقة ابن بكير : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه فإنّ الصلاة في صوفه وشعره ووبره وبوله وروثه وكلّ شي ء منه فاسدة لا يقبل اللّه تلك الصلاة » (1). وظهور هذا النهي في الحرمة الوضعيّة ممّا لا ينكر.

ومنها : تعليق جواز القطع وجوبا أو إباحة على الخوف من ضياع مال ، كشرود دابّته ، أو إباق عبده ، أو الخوف على تلف نفسه من جهة مثلا ، وأمثال ذلك ، كفرار غريم لك عليه مال ، كما في صحيحة حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال « إذا كنت في صلاة الفريضة فرأيت غلامك قد أتى ، أو غريما لك عليه مال ، أو حيّة تتخوّفها على نفسك فاقطع الصلاة وابتغ غلامك أو غريمك واقتل الحيّة » (2). فلو كان قطع الصلاة جائزا ابتداء وبمحض الميل والاشتهاء ، فلا يبقى وجه لهذا التعليق.

لا يقال : إنّ الأمر بالقطع ظاهر في وجوبه ، فما هو المعلّق هو وجوب القطع ، ولا ينافي ذلك جوازه بمعنى الإباحة مطلقا وبدون تعليق.

لأنّه لا يمكن أن يكون الأمر بالقطع ها هنا لخصوص الوجوب ؛ إذ لا يجب عليه طلب الغريم أو عبده الآبق ، ويجوز له أن يصرف النظر عن ماله ، فلا معنى لوجوب القطع إلاّ أن يكون صرف تعبّد وأن يكون مقدّمة لطلب غريمه أو عبده ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

فقد ظهر أنّه لا دليل على حرمة قطع الصلاة إلاّ الإجماع المدّعى في المقام ومفهوم الرواية الأخيرة. ولكن في وجود المفهوم لها تأمّل.

ص: 258


1- تقدم تخريجه في ص 256 ، رقم (2).
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 369 ، باب المصلي تعرض له السباع والهوام فيقتلها ، ح 1073 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1271 ، أبواب قواطع الصلاة ، باب 21 ، ح 1.

وعلى كلّ حال يجوز قطعها لأمور :

منها : إذا توقّف حفظ نفس محترمة على القطع ، فيجب لوجوب ذي المقدّمة.

ومنها : جواز قطعها لحفظ مال محترم ، وقد يجب إذا كان حفظ ذلك المال عن التلف واجبا ، كما إذا كان أمانة مالكيّة أو شرعيّة عنده ، وصور وجوب حفظ المال كثيرة ، وملاك وجوب القطع في جميع موارد وجوب حفظ المال واحد ، وهو كونه مقدّمة لواجب ؛ فتطويل الكلام في هذا المقام لا أثر له.

ومنها : إذا تزاحم الصلاة مع واجب أهمّ ، ولو كان أهميّته من جهة كونه مضيّقا وكون الصلاة موسّعا ، كما هو كذلك في المثل المعروف ، أي وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة في الوقت الموسّع ، فحيث أنّ أحد المرجّحات الخمسة المعروفة في باب التزاحم هو ضيق أحد الواجبين المتزاحمين بالنسبة إلى الآخر ، فيجوز قطع الصلاة إذا كان وقتها موسّعا بالنسبة إلى الإزالة.

هذا فيما إذا علم بالنجاسة ووجوب إزالتها قبل الصلاة فعصى ودخل في الصلاة ، فحيث أنّ الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وحرّرنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (1) فالصلاة صحيحة ، إمّا بالأمر الترتّبي ، وإمّا بالملاك. والتفصيل في محلّه.

ولكن الأمر بالصلاة كما أنّه حدوثا كان طوليّا بالنسبة إلى الأمر بالإزالة ، فكذلك يكون بقاء ، لأنّه ما لم يحصل العصيان ولم يسقط الأمر بالإزالة لا يكون الأمر بالصلاة في عرض الأمر بالإزالة ومطلقا ، بل يكون مشروطا بعصيان الإزالة. وعليه بنينا صحّة الترتّب ، وإلاّ يكون من المحالات الواضحة البيّنة.

ومثل هذا الأمر الطولي - المشروط بعدم الاشتغال بالإزالة في المفروض - لا يمكن أن يكون مانعا عن قطعها والاشتغال بالإزالة ، فلا يمكن أن يكون قطع الصلاة في

ص: 259


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 303.

هذا الفرض والتقدير حراما ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على أنّ قطع الصلاة حتّى في فرض وجود المزاحم الأهمّ والالتفات إليه قبل الصلاة حرام ، ولكن مرجع هذا يكون إلى سقوط أمر الأهمّ ، وهو خلاف الفرض.

وأما إذا لم يعلم بالنجاسة إلاّ بعد الدخول في الصلاة ، فلا يجوز له قطع الصلاة ؛ وذلك لأنّ ما يمنع عن التكليف بالمهمّ مطلقا ومن غير الاشتراط بعصيان الأهمّ هو فعليّة الأهمّ وتنجّزه ، وإلاّ لو لم يكن منجّزا فصرف وجود التكليف واقعا لا يؤثّر في سقوط أمر المهمّ مطلقا بناء على عدم إمكان الترتّب ، أو إطلاقه بناء على إمكانه ووقوعه.

وذلك لأنّ الملاك في كلا المتزاحمين موجود ، وسقوط أصل خطاب المهمّ أو إطلاقه لأجل عدم القدرة على الجمع ، وإلاّ كان يجب أن يأتي بهما جميعا ، والذي يسلب القدرة شرعا عن المهمّ هو تنجّز الأهمّ ، وإلاّ فصرف وجوده وفعليّته من دون تنجّزه لا يكون موجبا لسلب القدرة عن المهمّ ؛ لأنّ سلب القدرة عن المهمّ يكون بصرف القدرة في الأهمّ ، فإذا لم يكن منجّزا فلا يحكم العقل بصرف القدرة في الأهمّ ، فتبقى قدرته للمهمّ بدون مزاحم ، فيكون وجوبه مطلقا غير مشروط بترك الأهمّ إن كان المهمّ هي الصلاة أيضا مطلقا ، فيقع التزاحم بين حرمة القطع الذي حرمته مطلق ، وبين وجوب الإزالة الذي هو مطلق أيضا بعد الالتفات إلى نجاسة المسجد ووجوب إزالتها عنه.

فشاغليّة وجوب الإزالة في هذا الظرف عن الأمر بالمهمّ متوقّف على تنجّزه ، وتنجّزه متوقّف على ارتفاع النهي عن الإبطال ، وارتفاعه متوقّف على شاغليّة وجوب الإزالة ، أي الأمر بالأهمّ عن الأمر بالمهمّ ، وهذا دور واضح.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره (1) وفيه تأمّل واضح ، لأنّ تنجّزه ليس متوقّفا على

ص: 260


1- « فوائد الأصول » ج 2 ، ص 378.

ارتفاع النهي ، بل تنجّزه موقوف على العلم به والالتفات إليه ، وبعد العلم به والالتفات إليه تطير حرمة الإبطال في ظرف الاشتغال بالإزالة كما كان في الأوّل ، لأنّه لا فرق من هذه الجهة بين الحدوث والبقاء ، فبقاء الأمر بالمهمّ أيضا مشروط بترك الأهمّ وعصيانه.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.

ص: 261

ص: 262

51 - قاعدة بطلان كلّ عقد بتعذّر الوفاء بمضمونه

اشارة

ص: 263

ص: 264

قاعدة بطلان كلّ عقد بتعذّر الوفاء بمضمونه (1)

ومن جملة القواعد الفقهية : « بطلان كلّ عقد بتعذّر الوفاء بمضمونه ».

والبحث فيها من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها وما هو مفادها

فنقول : المراد منها أنّ المتعاقدين والمتعاملين إذا تعاقدا وتعاهدا والتزما مثلا في باب البيع بأن تكون هذه العين التي لأحدهما ملكا للآخر بعوض ثمن المسمّى من الآخر لصاحب تلك العين ومالكه ، فالوفاء بهذه المعاهدة عبارة عن أنّ صاحب العين يسلم تلك العين إلى مالك الثمن ، وكذلك الأمر من طرف مالك الثمن.

فوفاؤه بهذه المعاملة معناه تسليم الثمن إلى مالك تلك العين وتسلّم العين منه ، فإذا تعذّر الوفاء بالمعنى المذكور تعذّرا دائميّا ، يكون مثل هذه المعاهدة لغوا باطلا عند العقلاء ، ولا فرق بين أن يكون تعذّر الوفاء من طرف واحد أو من طرفين ، وفي كلتا الصورتين تكون المعاملة باطلة ؛ لأنّ المعاهدة من الطرفين والعقد قائم بكلا المتعاقدين ، فعجز أحدهما في بطلان تلك المعاملة مثل عجز الطرفين.

وهذا الأمر يجري في جميع العقود والمعاملات ، ففي باب الإجارة مثلا لو آجر دارا أو دكّانا أو خانا أو دابّة أو سيّارة أو طيارة أو غير ذلك ممّا يصحّ تمليك منفعته

ص: 265


1- 1 « قواعد فقه » ج 2 ، ص 112.

بعوض معلوم ، والتزم كلّ واحد من الموجر والمستأجر وتعاقدا وتعاهدا على ذلك ، فلو تعذّر وفاء كليهما أو أحدهما بهذه المعاوضة ، يكون مثل هذه الإجارة فاسدة وباطلة ، سواء كان تعذّر الوفاء بالتزامه لأجل تلف أحد العوضين ، أو كليهما ، أو كان لجهة أخرى.

وكذلك الحال في سائر العقود والمعاملات ، حتّى في مثل الوكالة التي هي من العقود الإذنيّة ، لو تلف المال الذي وكله في بيعه أو شرائه أو في سائر التصرّفات فيه تبطل الوكالة ، وكذلك في العارية والصلح والهبة والرهن وغيرها من المعاوضات ، وكذلك في الوديعة لو عجز الودعي عن حفظ ما أودع عنده يبطل عقد الوديعة ، ويجب عليه ردّه إلى صاحبه. والضابط الكلّي في هذا المقام هو ما ذكرنا في عنوان القاعدة ، وهو تعذّر الوفاء بمضمون المعاملة تعذّرا دائميّا من المتعاقدين ، أو من أحدهما.

الجهة الثانية : في بيان مدرك هذه القاعدة

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع : وقد عرفت مرارا أنّ دعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل التي لها مدرك أو مدارك أخر لا تفيد شيئا يركن إليه.

الثاني : وهو الدليل الذي يمكن أن يعتمد عليه ، هو أنّ صحّة العقد وفساده أمران متقابلان ، فإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة كما هو الصحيح - لأنّ المراد بالصحّة والفساد التماميّة وعدم تمامية المعاملة من حيث الأجزاء والشرائط وعدم الموانع. وتعريفهما بما يترتّب الأثر المقصود من ذلك العقد وعدم ترتّبه تعريف باللازم - والمتقابلان بالعدم والملكة في الموضوع القابل في حكم النقيضين ، لا يمكن ارتفاعهما ،

ص: 266

فإذا ارتفع أحدهما لا بدّ وأن يكون الآخر موجودا.

وفيما نحن فيه بعد ما كان التعذّر من أحدهما أو كليهما دائميّا ، فالوفاء بهذه المعاملة لا يمكن ، فلا يشملها ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لأنّه تكليف بالمحال وقبيح ، فترتفع الصحّة ، لأنّ الأثر الظاهر للصحّة هو وجوب الوفاء بالعقد وترتيب آثار الصحّة ، فعدم إمكانه دليل على عدم الصحّة ، فإذا لم يكن صحيحا لا بدّ وأن يكون فاسدا وباطلا ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

إن قلت : يمكن القول بالصحّة ، ويكون أثرها ضمان التالف ثمنا كان أو مثمنا أو أيّ متعلّق في أيّ عقد من هذه العقود المتداولة بين العقلاء ، وليس بقاء نفس العوضين أو أحدهما من أركان المعاملة ، بل يمكن الالتزام ببقاء اللزوم وأخذ المثل أو القيمة من صاحب المال التالف.

قلنا : أوّلا : إنّ بعض العقود ليس المتعذّر ممّا يدخل فيه الضمان ، مثلا لو تعاقدا على المسابقة على فرس خاصّ فمات الفرس قبل الشروع في المسابقة ، أو تعاقدا على المراماة بقوس خاصّ فانكسر قبل الشروع في المراماة ، فلا وجه للضمان في مثل هذه الموارد ، بل تبقى المسابقة في الفرض الأوّل ، والمراماة في الفرض الثاني بلا موضوع ؛ لأنّ موضوع المسابقة في المثال الأوّل كان هو السبق مع الفرس المخصوص ، وموضوع المراماة في المثل الثاني هو الرمي بقوس خاصّ وانكسر ، فيبقى المراماة بلا موضوع ، ويكون حال تلف القوس حال شلل أحد المتراميين ، وحال تلف الفرس حال شلل أحد المتسابقين.

وحاصل الكلام : أنّ إمكان القول بضمان المثل في المثلي والقيمة في القيمي فيما إذا كان التالف مالا منتقلا إلى أحد المتعاقدين فوقع عليه التلف قبل قبض من انتقل إليه ، فيمكن أن يقال بضمان من وقع في يده التلف ، مع أنّهم لم يقولوا بذلك ، بل قالوا بأنّ تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري من مال البائع بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف. وقد

ص: 267

شرحنا هذه القاعدة - أي قاعدة كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه - في الجزء الثاني من هذا الكتاب (1) مفصّلا ، وإن شئت فراجع.

وثانيا : أنّ الضمان إمّا عقدي ، وهو أن يضمن ما في ذمّة شخص فينتقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، ويسمّى بالضمان العقدي ؛ لأنّه عقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، فالإيجاب من الضامن ، والقبول من المضمون له ، فالضامن يقول مثلا : أنا ضامن لما في ذمّة زيد لك ، أو يقول : أتعهّد بما في ذمّة زيد لك ، والمخاطب المضمون له ، فيقول المضمون له : قبلت ، أو ما يفيد الرضا بذلك. وأمّا المضمون عنه فأجنبيّ عن هذه المعاملة ، حتّى أنّ رضاه بهذه المعاملة ليس بشرط.

وإمّا يكون من قبيل ضمان المعاوضي في باب المعاوضات والمعاملات ، وهو المسمّى بضمان المسمّى ، وهو الذي يسمّيه المتعاقدان ويجعلونه عوضا لما ينتقل إليه من طرفه ، فكلّ واحد من العوضين في باب المعاوضات يسمّى بضمان المسمّى ، فالمبيع ضمان المسمّى للثمن كما أنّ الثمن أيضا ضمان المسمّى للمبيع. وقد عبّر علیه السلام في رواية عقبة بن خالد عن المسمّى بالضمان حيث قال علیه السلام : « فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه » (2).

وإمّا يكون ضمانا واقعيّا. والمراد به المثل في المثلي والقيمة في القيمي ، والضمان الواقعي عبارة عن كون الشي ء بوجود الاعتباري في ذمّة الشخص ، وإن شئت قلت : عبارة عن اعتبار وجود الشي ء في ذمّة الشخص ؛ وذلك لأنّ الأمر الاعتباري لا وجود له في الخارج ، وإلاّ لكان داخلا تحت إحدى المقولات العشر ، والخارج ليس وعاء لوجوده ، بل وعاء لاعتباره ، ولا يخرج عن عهدة هذا الأمر الاعتباري ولا تفرغ ذمّته إلاّ بأدائه إلى من هو له ، وأداؤه بعد انعدام نفسه في الخارج في الدرجة

ص: 268


1- راجع « القواعد الفقهية » ج 2 ، ص 77.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 171 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 12 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 358 ، أبواب الخيار ، باب 10 ، ح 1.

الأولى بالمثل ، فإن تعذّر أو تعسّر فبالقيمة. وقد شرحنا هذه المسألة في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ». (1)

وسبب هذا الضمان قد يكون العقد كما في عقد الدين ، فإنّ حقيقة الدين هو تمليك شي ء بضمانه الواقعيّ. وقد يكون اليد غير المأذونة وقد يكون الإتلاف ، وشرحنا كلّ واحدة من القاعدتين ، وإن شئت فراجع.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا تعذّر الوفاء بمضمون العقد من باب تلف أحد العوضين الشخصيّين أو لجهة أخرى ، فليس هناك ما يوجب الضمان لا اليد غير المأذونة ، ولا الإتلاف ، ولا عقد كان مفاده الضمان ، كلّ ذلك لم يكن.

وإن قلت : إنّ المسمى استقرّ في ذمّته ، فإذا تعذّر يجب عليه تفريغ ذمّته بإعطاء مثله أو قيمته.

قلنا : أمّا في المعاملات الواقعة على أشخاص الأموال الخارجيّة لا يشتغل ذمّته بشي ء ، وإنّما المالك لتلك العين يخرجها عن ملكه ويدخلها في ملك طرفه ، فلم يستقرّ في ذمّته شي ء ، وإنّما يجب عليه أداؤه إلى صاحبه الجديد تكليفا ، فإذا تعذّر يسقط هذا التكليف ، وليس شي ء في البين يوجب الضمان.

وأمّا المعاملات الواقعة على الكلّيات فليس التعذّر فيها بمعنى تلف العين ، لأنّ العين لم تكن موردا للمعاملة قط ، بل المراد التعذّر من جهات أخر.

مثلا لو باع كميّة من الحنطة فتعذّر عليه الأداء لأنّه صار معدما فقيرا لا يقدر حتّى على أداء قيمته ، فمثل هذه المعاملة تنحلّ قهرا - لما ذكرنا من تقابل العدم والملكة - بين الصحّة والفساد ، وهما في الموضوع القابل بحكم النقيضين لا يمكن ارتفاعهما ، ولا يمكن أن تكون صحيحة لعدم إمكان الوفاء بها ، فقهرا تكون باطلة.

الثالث : بناء العقلاء ، فإنّهم يرون مثل هذا العقد الذي يتعذّر الوفاء به من

ص: 269


1- راجع « القواعد الفقهية » ج 4 ، ص 53.

الطرفين ، أو من طرف واحد لغوا وباطلا.

وذلك لما بيّنّا وشرحنا في قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه » (1) من أنّ العقلاء في باب العقود المعاوضيّة وإن كانوا ينشأون المبادلة بين المالين والعوضين في عالم الاعتبار التشريعي ، وهذا المعنى يقع في عالم التشريع إذا كان العقد الواقع جامعا لشرائط العقد والمتعاقدين والعوضين ، وليس متوقّفا على النقل والانتقال الخارجي ، ولكنّهم يرون هذه المبادلة مقدّمة لوصول كلّ واحد من العوضين إلى الآخر بدل العوض الذي يعطيه للآخر ، بحيث لو لم يتحقّق النقل والانتقال الخارجي تكون تلك المبادلة لغوا ، وتكون المعاملة كالمعاملات السفهيّة باطلة عندهم.

فكما أنّه لو علموا من أوّل الأمر بعدم قدرة كلا المتعاقدين أو أحدهما على الوفاء بهذا العقد ، يكون ذلك العقد لغوا عندهم ولا يرتّبون أثر الصحة عليه ، فكذلك لو طرأ العجز وتعذّر الوفاء به بعد الوقوع قبل القبض والإقباض ، يكون بقاء العقد والمعاهدة لغوا ؛ لما قلنا إنّ هذه المعاقدة والمعاهدة تكون مقدّمة للأخذ والإعطاء ؛ إذ الذي يدور عليه نظام معاش العباد وبه قوام معيشتهم ، هو التبادل والأخذ والإعطاء خارجا ، وتكون المعاملات والمبادلات الاعتباريّة لأجل تلك الانتقالات الخارجيّة ، وإلاّ فنفس تملّك الناس في عالم الاعتبار التشريعي المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب من دون حصول وجوداتها الخارجيّة لهم لا أثر له ، فإنّ الناس يحتاجون إلى هذه الأشياء خارجا. وقوله علیه السلام في مقام بيان حجّية بعض الأمارات : « وإلاّ لما قام للمسلمين سوق » (2) المراد من السوق هو السوق الخارجي ، لا المبادلات الاعتباريّة من دون أخذ وعطاء في البين.

ص: 270


1- راجع « القواعد الفقهية » ج 2 ، ص 77.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 387 ، باب بدون العنوان ، ( من كتاب الشهادات ) ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 51 ، باب من يجب ردّ شهادته ومن يجب قبول شهادته ، ح 3281 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 261 ، ح 695 ، باب البيّنات ، ح 100 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، باب 5 ، ح 2. ونصّه : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».

وأيضا من الواضح المعلوم أنّ ما هو موجب لاختلال النظام هو عدم المبادلات الخارجيّة لا الاعتباريّة ، ولكذلك ترى أنّ الأسواق دائرة بنفس المبادلات الخارجيّة والأخذ والإعطاء معاطاة من دون عقد في البين.

ولا يأتي هاهنا الإشكال الذي أشكلنا في مسألة تلف المبيع قبل قبض المشتري ، وهو الانفساخ قبل التلف آنا مّا.

وذلك من جهة أنّ الالتزام بالانفساخ قبل التلف آنا مّا كان من جهة الرواية التي كان مفادها أنّ تلف المبيع قبل قبض المشتري يكون من مال البائع ، أي التلف وقع على مال البائع ، مع أنّه بنفس العقد صار مالا للمشتري ، فكون التلف في مال البائع لا يعقل إلاّ بالانفساخ آنا مّا قبل التلف ، ولا حاجة إلى هذا التقدير فيما نحن فيه ؛ لعدم كونه من موارد تلك الرواية دائما ؛ لأنّ تعذّر الوفاء ليس منشأه دائما تلف المبيع قبل أن يقبض ، بل له أنحاء.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول :

منها : ما لو استأجر مرضعة لإرضاع ولده ، فمات الولد أو المرضعة أو كلاهما قبل أن ترضعه أو يبس لبنها فتبطل الإجارة ؛ لتعذّر الوفاء بذلك العقد من طرف واحد. وقد يكون التعذّر من الطرفين ، كما إذا استأجر الحمّال لحمل متاع معيّن ، فتلف المتاع وعجز الحمّال عن الحمل لمرض أو جهة أخرى ، كلّ ذلك قبل الشروع في العمل. أو استأجر الصائغ لصنع ذهب خاصّ مثلا آلة من أدوات الزينة ، فعجز الصائغ عن العمل وتلف الذهب قبل أن يشتغل بالصنع.

وأمثلة هذا الفرع كثيرة في باب الأجراء ، سواء كان التعذّر من طرف واحد أو

ص: 271

من الطرفين.

ومن هذا القبيل عجز النائب الأجير عن أداء ما استوجر عليه من العبادات كالحجّ والصلاة والصوم ، وزيارات المعصومين ، أو قراءة القرآن وأمثال ذلك إذا اشترط المستأجر على الأجير مباشرة نفسه ، كلّ ذلك لأجل تعذّر الوفاء من طرف الأجير » ، هذا في باب استيجار الأجراء.

وكذلك الأمر في إجارة الأعيان ، كما إذا آجر دارا أو خانا أو دكّانا فانهدمت ووقعت في الجادّة العموميّة بحيث لا يمكن بناؤها عادة أو في مدّة الإجارة ، أو صارت غير قابلة للانتفاع بها أصلا ولو قليلا ، كما إذا استأجر دابّة لركوبه في سفر أو لحمل متاع عليها ، فتلفت قبل الركوب أو قبل الحمل عليها ، فيكون ذلك العقد باطلا.

والضابط الكلّي في باب إجارة الأعيان هو تلف العين المستأجرة ، أو سقوطها عن الانتفاع بالمرّة ، ففي مثل ذلك تبطل الإجارة ، لأنّ عقد الإجارة مفاده تمليك منفعة العين بذلك العوض المعلوم ، فالوفاء بهذا العقد بالنسبة إلى الموجر أن يسلّم إلى المستأجر عينا ذات منفعة معلومة ، فإذا تلفت تلك العين التي وقعت عليها الإجارة ، أو سقطت عن تلك المنفعة المعلومة ، فلا يقدر أن يسلّم إلى المستأجر مثل تلك العين التي آجرها. والضابط في التعذّر في باب استيجار الأجراء هو عجز الأجير عن الإتيان بما آجر نفسه له.

هذا في عقد الإجارة.

وكذلك الأمر في سائر العقود المعاوضيّة ، ففي البيع إن باع عينا شخصيّا فوقع عليها التلف ، أو كانت حيوانا غير أهلي فشرد بحيث لا يمكن أخذه وإرجاعه عادة ، سواء كان من الطيور أو من غيرها كالغزال وغيره ، فالبائع لا يقدر على الوفاء بهذا العقد فيبطل.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى المشتري والثمن الشخصي ، فإذا تعذّر له الوفاء بهذا

ص: 272

العقد فيبطل العقد ، ولا يبطل بموت أحد المتبايعين لقيام الوارث لكلّ واحد منهما مقام مورثه.

وكذلك الأمر في العارية فهو مثل الإجارة. والفرق بينهما أنّ تمليك المنفعة في الإجارة يكون بعوض ، وفي العارية تمليك المنفعة أو الانتفاع يكون مجّانا وبلا عوض ، فهما كالبيع وهبة الأعيان غير المعوّضة ، حيث أنّ البيع تمليك عين متموّلة بعوض مالي ، وهبة الأعيان أيضا تمليك عين لكن مجّانا ، وبدون عوض ، إذا كانت الهبة غير معوّضة.

وكذلك الأمر في الصلح ، فإذا لم يقدر المصالح على أداء مال المصالحة وتعذّر الوفاء بالعقد ، يكون الصلح باطلا. وكذلك الأمر في الرهن ، فلو لم يقدر الراهن على تسليم العين المرهونة إلى المرتهن ، أو إلى من رضيا بأن تكون عنده ، فيكون عقد الرهن باطلا ، وكذلك لو تلفت العين المرهونة قبل أن يقبضها المرتهن يبطل الرهن.

فلو رهن نخيلا فيبست ، أو دارا أو دكّانا أو خانا فانهدمت ، يبطل عقد الرهن ؛ أو ثوبا فأحرقت ، أو متاعا ففسدت بحيث لا يشتريه أحد ولا يبذل بإزائه المال.

وكذلك الحال في عقد الكفالة ، فلو تعذّر للكفيل الوفاء بذلك العقد كما لو مات المكفول ، يبطل عقد الكفالة ويبرأ الكفيل عند المشهور.

وكذلك الأمر في عقد المضاربة ، فلو عجز العامل عن العمل لمرض أو لجهة أخرى ولم يقدر على الوفاء بعقدها ، فيبطل عقد المضاربة.

وكذلك الأمر لو مات العامل. وكذلك الأمر في المقارض - بكسر الرّاء - أي ربّ والمال ، فإذا لم يقدر على إعطاء المال والوفاء بعقد المضاربة ، يكون العقد باطلا.

وكذلك الأمر في العارية ، وهي عبارة عن تمليك المنفعة أو تمليك الانتفاع ، فلو عقدا على كون شي ء له منفعة عارية عند المستعير ، بأن يقول المعير : أعرتك إيّاه ، وصدر القبول من المستعير ، فقبل أن يعطى للمستعير تلف ذلك الشي ء ، أو سقط عن

ص: 273

الانتفاع ، أو مات المعير أو جنّ ، فيبطل عقد العارية ؛ وذلك لتعذّر الوفاء بذلك العقد في جميع الموارد المذكورة. وكذلك لو باعه أو وهبه يبطل العقد ؛ لأنّ ذلك الشي ء بعد بيعه أو هبته لشخص آخر يخرج أمره من يد المعير ، ويصير ملكا لغيره ، فلا يبقى موضوعا لإعارة المعير. وليس لتمليك المنفعة أو الانتفاع أو لإذنه في التصرّف فيه أثر بقاء ، أي بعد خروجه من يده ، بل يكون الأثر لتمليك المالك الثاني أو إذنه.

وكذلك الأمر في المزارعة والمساقاة ، فإذا وقع عقد المزارعة والمساقاة ، فيجب الوفاء على كلا الطرفين. فلو عجز عن العمل ولم يقدر على الوفاء بالعقد ، أو مات فيما إذا اشترط المالك عليه المباشرة بنفسه ، يبطل العقد.

وكذلك الأمر في الوديعة ، فلو عجز عن الحفظ ولم يقدر على الوفاء بالعقد ، يبطل عقد الوديعة ، ويجب عليه ردّه ، كما أنّه يبطل بموت الودعي.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه القاعدة تجري في جميع العقود المعاوضيّة ، فلا نطول الكلام.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 274

ص: 275

52 - قاعدة كلّ ما يصحّ إعارته يصحّ إجارته

اشارة

ص: 276

ص: 277

قاعدة كلّ ما يصحّ إعارته يصحّ إجارته (1)

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة هي قاعدة « كلّ ما صحّ إعارته صح إجارته ».

والبحث فيها من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها

فنقول : إنّ مفاد هذه القاعدة أنّ كلّ شي ء يصحّ إعارته من جهة أنّه عين يصحّ الانتفاع بها مع بقاء نفسها ، يصحّ إجارته ، فمثل الأطعمة والأشربة ممّا ينتفع بها ، ولكن الانتفاع بها بإتلافها وإعدامها لا مع بقاء عينها ، لا يصحّ إعارتها ، وذلك لأنّ حقيقة العارية عبارة عن تمليك منفعة شي ء أو الانتفاع به مع بقاء ذلك الشي ء في ملك المعير.

وقد يقال : بأنّها عبارة عن تسليط المستعير على الانتفاع به مع بقاء العين في ملكه.

وهذا أحسن وأجود من التعريف الأوّل. أمّا كونه أجود من تمليك المنفعة ؛ فلأنّه ليس له أن ينقلها إلى شخص آخر ، وأيضا لا ترثها الورثة ، ولو كانت العارية تمليك المنفعة لجاز النقل إلى غيره ، وكانت ترثها الورثة. وأمّا كونها تمليك الانتفاع ففرع قابلية الانتفاع لكونه ملكا.

وهذا مشكل ؛ لأنّ الملكيّة اعتبار عقلائي أمضاها الشارع في موارد وأسقطها في

ص: 278


1- 1 « الحق المبين » ص 72.

موارد أخر ، وموضوع هذا الاعتبار عند العقلاء إمّا الأعيان التي تحتاج إليها الناس للأغراض التي عندهم ، أو منافع تلك الأعيان. وأمّا الانتفاع بتلك المنافع فجوازه وعدم جوازه من آثار ملكيّتها وعدم ملكيّتها ، وإلاّ فنفس الانتفاع ليس قابلا لاعتبار الملكيّة فيه ، فلا يصحّ أن يقال بأنّها تمليك الانتفاع بالشي ء الذي يعطيه.

اللّهمّ إلاّ أن يراد بالتمليك التسليط ، لا ذلك الأمر الاعتباري المذكور ، فيكون المراد به هو التعريف الثاني ، أي التسليط على الانتفاع.

وقد ورد التمليك بهذا المعنى في الكتاب العزيز في قوله تعالى ( لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي ) (1). وعلى كلّ حال تعريفها بأنّه عقد ثمرته التبرّع بالمنفعة - كما عن المحقّق في الشرائع (2) ، وغيره في غيره - لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّه أوّلا المتعارف والمتداول بين الناس في باب العارية هو إعطاء شي ء يصحّ الانتفاع به لغيره أنّ ينتفع به ، من دون عقد وتعهّد بينهما ، فليس عقد في البين. وأمّا إعطاؤه بعد العقد بإيجاب من قبل المعير وقبول من طرف المستعير يكاد أن لا يوجد ، لأنّ المتعارف بين العقلاء غير هذا المعنى.

فهو التسليط مجانا وبلا عوض على العين التي لها منفعة لكي ينتفع بها مع بقاء نفسها ، فلا يصدق العارية على المأكولات والمشروبات التي يكون الانتفاع بها بإتلافها ، أي أكلها وشربها.

نعم لو كانت لها منفعة غير الأكل والشرب كما قد يتّفق ، بل المتعارف في بعض البلاد يزينون مجالسهم التي تنعقد لأجل عقد القرآن بين الزوجين بأنواع الفواكه والحلويّات والشرابت من دون أكلها وشربها ، فلا بأس حينئذ بإعارتها كما أنّه لا بأس بإجارتها كذلك.

ثمَّ إنّه لا بدّ وأن يكون الانتفاع بمنافع العين المعارة محلّلة ، فإن كان كلّ منافعه

ص: 279


1- المائدة (5) : 25.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 135.

محرّمة فلا يجوز لا إعارته ولا إجارته ، كأدوات اللّهو والأغاني ، وأواني الذهب والفضّة بناء على عموم حرمة الانتفاع بها ، لا خصوص الأكل والشرب.

وأمّا إن كان بعض منافعه محلّلة وبعضها محرّمة ، كأواني الذهب والفضّة بناء على عدم عموم حرمة الانتفاع بها واستعمالها ، بل يكون الحرام خصوص الأكل والشرب فيها ، وكالجارية التي يحرم بعض المنافع منها كوطيها ، لأنّه لا يحلّ إلاّ بالتزويج أو الملك أو التحليل ، ويحلّ بعض منافعها الأخر كاستخدامها في البيت ؛ فلا يجوز إعارته إلاّ باعتبار منافعه المحلّلة.

فمفاد القاعدة هو أنّ كلّ عين يصحّ إعارتها باعتبار أنّ لها منفعة محلّلة يمكن الانتفاع بها مع بقاء نفسها ، تصحّ إجارتها. وأمّا ما ليس لها منفعة محلّلة ، فليس لنفس المالك أن ينتفع بها باعتبار منافعها المحرّمة ، فكيف له أن يسلّط غيره عليه باعتبار تلك المنافع أو يملكها لغيره أو يملك انتفاع الغير بها.

فيجوز إعارة كلّ ما له منفعة محلّلة باعتبار تلك المنافع المحلّلة مع بقاء عينه ، كالأراضي والبساتين والدوّاب والثياب والمساكن والدكاكين ، وأنواع الفرش والألبسة والأمتعة ، وأثاث البيت والكتب التي لا يوجب الإضلال ، وأدوات الطبخ ، وأقسام الحلي ، وكلب الصيد المحلّل ، وحراسة الدار والمراكب والسيّارات والطيّارات ، وأدوات الزراعة والفلاحة والمكائن بجميع أقسامها وأنواعها ، وغيرها ممّا لم نذكرها ، وكان مصداقا لعنوان ما له منفعة محلّلة ويمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ، فهذه الأمور جميعا كما يجوز إعارتها كذلك يجوز إجارتها ، وهذا هو مفاد هذه القاعدة.

نعم ربما يستشكل على هذه الكلّية بأنّ إعارة الشاة المنحة يجوز للانتفاع بلبنها ، ولا يجوز إجارتها لذلك ، وكذلك يجوز إعارة جاريته المرضعة للانتفاع بلبنها بأن يشرب الطفل من ذلك اللبن أو للانتفاع بإرضاعها للطفل ، وكذلك يجوز إعارة البئر للاستقاء منها ولا يجوز إجارتها لذلك ، وكذلك يجوز إعارة البستان للانتفاع بأثمار أشجارها ولا يجوز إجارته لذلك. وفي بعض هذه المذكورات قيل بالعكس.

ص: 280

ويظهر من كلام صاحب الجواهر (1) أنّ إجارة المرضعة للرضاع جائزة ، ولا يجوز إعارتها لذلك. وهذه عين عبارته : ولا يقدح في هذا الضابط جواز عارية المنحة للحلب دون الإجارة له ، عكس المرأة للرضاع بعد أن كان ذلك بالدليل.

وعلى كلّ حال هذه النقوض غير واردة على هذه الكلّية. أمّا جواز عارية الشاة المنحة فأوّلا يمكن أن يقال بأنّه ليس من باب العارية ، بل يكون إباحة للبنها من طرف المالك لمن يعطيها بيده.

وثانيا : يمكن أن يكون هذا لدليل خاصّ ورد في المقام ، فيكون مخصّصا لهذه القاعدة وهو الإجماع كما حكاه في الجواهر (2) عن بعض متأخري المتأخّرين ، أو ما رواه الحلبي عن الصادق علیه السلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كلّ شاة كذا وكذا ، قال علیه السلام : « لا بأس بالدراهم ولست أحبّ بالسمن » (3).

أو صحيح ابن سنان ، سأله أيضا عن رجل دفع إلى رجل غنمه بسمن ودراهم معلومة لكلّ شاة كذا وكذا في كلّ شهر ، قال : « لا بأس بالدراهم ، وأمّا السمن فلا أحبّ ذلك إلاّ أن تكون حوالب » (4).

وقرّب في الجواهر (5) الاستدلال بهاتين الروايتين على جواز عارية الشاة المنحة (6)

ص: 281


1- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 173.
2- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 172.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 223 ، باب الغنم تعطى بالضريبة ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 127 ، ح 554 ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح 25 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 103 ، ح 359 ، باب إعطاء الغنم بالضريبة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 260 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 9 ، ح 1.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 224 ، باب الغنم تعطى بالضريبة ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 127 ، ح 556 ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح 27 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 103 ، ح 362 ، باب إعطاء الغنم بالضريبة ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 260 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 9 ، ح 4.
5- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 173.
6- المنحة - بالكسر - في الأصل الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها ثمَّ يردّها إذا انقطع اللبن. «المصباح المنير» ص 580.

للانتفاع بلبنها بأنّ مفاد هاتين الروايتين جواز إعطاء الشاة بعوض وبضريبة للانتفاع بلبنها ، فتدلاّن على جواز الإعطاء مجّانا بطريق أولى أي بالفحوى ، وإعطاء الشاة بضريبة لا بدّ وأن يكون للانتفاع بلبنها أو بصوفها أو بكليهما ، فإذا دلّتا بالفحوى على جواز الإعطاء للانتفاع بهاتين المنفعتين مجّانا فيكون هذا عين العارية.

وفيه : على فرض تسليم أنّ الرواية تدلّ على جواز إعطاء الشاة المنحة مجانا لهاتين المنفعتين ، لا تدلّ على أنّ جواز الإعطاء من باب العارية ، بل من الممكن أن يكون من باب الإباحة أو الصلح المجّاني.

واستدلّ في التذكرة على جواز عارية الشاة المنحة بما عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضيّ - والزعيم - والغريم غارم » (1).

ولكن الإنصاف أنّ هذا الحديث الشريف - على فرض تسليم صدوره عنه صلی اللّه علیه و آله - على خلاف المطلوب ، وأنّ المنحة ليست بعارية أدلّ ، لما جعله صلی اللّه علیه و آله مقابلا وعدلا للعارية.

نعم يدلّ على أنّ ردّ المنحة واجب ، كما أنّ تأدية العارية وقضاء الدين لازم ، والغريم غارم أي المديون يجب عليه أن يؤدّى دينه.

هذا بناء على نقل التذكرة ، وأمّا بناء على ما في سنن أبي داود وصحيح الترمذي : « الزعيم غارم » (2) فمعناه أنّ الكفيل يجب عليه أداء الغرامة ، إذ الزعيم بمعنى الكفيل ، كما في قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (3).

ص: 282


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 206. وانظر : « عوالي اللئالي » ج 1. ص 252 ، ح 8.
2- « سنن ابي داود » ج 3 ، ص 295 ، كتاب البيوع ، ح 3565 ؛ « سنن ترمذى » ج 3 ، ص 565 ، كتاب البيوع ، باب 39 ، ح 1265 ؛ « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 257 ، ح 3 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 435 ، أبواب كتاب الضمان ، باب 1 ، ح 2.
3- يوسف (12) : 72.

فالمستفاد من الحديث الشريف أنّ الشاة المنحة التي أعطاها المالك لشخص وأباح له لبنها يجب على ذلك الشخص ردّه ، وهذا لا ربط له بالعارية. هذا مع أنّ التحقيق أنّه كما يجوز إعارة الشاة المنحة إجماعا يجوز إجارتها أيضا.

وأمّا الإشكال عليه بأنّ الإجارة تمليك المنفعة مع بقاء العين ، وأمّا تمليك الأعيان فليس بإجارة ، بل إمّا بيع إذا كان بعوض مالي ، أو هبة إن كان مجّانا وبلا عوض ، أو صلح إذا وقع التسالم عليه أو غير ذلك.

فجوابه : أنّ متعلّق الإجارة في المفروض هي الشاة باعتبار تمليك منافعها ، غاية الأمر أنّ المنفعة قد تكون من الأعراض القائمة بعين في الخارج ، كسكنى الدار وركوب الدابّة والتفرّج في بستان ، وقد تكون من الأمور الاعتباريّة ، كما أنّهم يستأجرون الحلويّات الكثيرة ، وكذا الفواكه لأجل مجلس عقد القرآن بين الزوجين ، لا لأكلها بل لإظهار الجلالة والعظمة. وأمثلة هذا القسم كثيرة.

وقد تكون من الأعيان الخارجيّة ومن الجواهر التي لها وجود تبعي قبل الانفصال عن متبوعه ، ووجود استقلالي بعد الانفصال كاللبن بالنسبة إلى الشاة المنحة والمرأة المرضعة ، وكالأثمار بالنسبة إلى الأشجار ، وكالمياه بالنسبة إلى الآبار. وفي هذا القسم إذا ورد التمليك على هذه الأشياء باعتبار وجودها الاستقلالي ، أو كان بعد انفصالها عن متبوعها ، فلا شبهة في أنّ مثل هذا التمليك لا يمكن أن يكون إجارة ؛ لأنّ حقيقة الإجارة تمليك المنفعة ، وهذه تمليك عين لا تمليك منفعة. وهذا واضح جدّا.

وأمّا إذا ورد التمليك عليها باعتبار وجودها قبل الانفصال ، أي باعتبار كونها من توابع متبوعاتها وصفات موضوعاتها ، ولذلك يقولون شاة منحة وامرأة مرضعة وشجرة مثمرة إلى غير ذلك من الأمثلة ، فهذا يعدّ من تمليك المنافع بهذا الاعتبار عند العرف.

فإذا قال : آجرتك هذه الشاة بكذا ، لا يفهم منه العرف إلاّ تمليك منافع هذه الشاة

ص: 283

التي بنظرهم عبارة عن صوفه ولبنه ، ولم يقم دليل عقلي ولا نقلي على أنّ منفعة عين لا يمكن أن تكون عين أخرى ، فهل يشكّ أحد في أنّ منفعة شجر الكرم هو العنب ، أو في أنّ منفعة النخيل هي التمور.

فإذا كان المتفاهم العرفي في باب العارية والإجارة هو إعطاء العين الخارجيّة ، وإن شئت قلت : هو تسليط على العين باعتبار كون منافعها ملكا له مدّة معلومة ، فإن كان هذا التسليط والتمليك مجّانا وبلا عوض يسمّى عارية ، وإن كان بعوض يسمّى إجارة.

فبناء على هذا التسليط على الشاة المنحة مع تمليك أصوافها وألبانها وسائر منافعها المتّصلة بها لا بعد انفصالها عنها يكون إجارة - حسب المتفاهم العرفي من هذا اللفظ الذي هو معنى ظهور اللفظ في معنى - إن كان بعوض ، وإن لم يكن بعوض يكون عارية.

ولا فرق في المتفاهم العرفي بين أن تكون تلك المنافع من الأعراض الخارجيّة ، أو كانت من الاعتباريّات ، أو تكون من الأعيان الخارجيّة بشرط عدم انفصال هذا الأخير عن موصوفه ومتبوعه.

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشاة المنحة والمرأة المرضعة والشجرة المثمرة والبئر التي لها ماء بالنسبة إلى الاستقاء منها ، ففي جميع ذلك تصحّ إجارتها وأيضا إعارتها ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ من إجماع أو رواية معتبرة على عدم صحّة كليهما أو أحدهما ، فلا يرد نقض على هذه القاعدة بهذه الأمور.

وأمّا ما يقال أو يتوهّم بأنّهم متّفقون على أنّ الإجارة تمليك منافع العين التي يوجرها الموجر ، ويذكرون أنّ المنفعة مقابل العين ، ونقل الأعيان مقابل نقل المنفعة فلا يجتمعان.

فقد عرفت ما فيه : وأنّ هذه الأعيان ما دامت متّصلة بالعين المتعلّقة للإجارة

ص: 284

تعدّ منفعة ، ومفهوم المنفعة لا بدّ وأن يؤخذ من العرف كسائر المفاهيم ، فإذا كانت هذه المنافع المذكورة التي من الأعيان الخارجيّة منفعة للعين ما دامت متّصلة بها ، فتشمل الإطلاقات أدلّة الإجارة والعارية أيضا مثل هذه الموارد ، أي التسليط على الشاة المنحة والجارية المرضعة والشجرة المثمرة ، والبئر التي لها ماء وغير هذه الأمور ممّا يشبهها مع إنشاء تمليك المنافع المذكورة لهذه الأمور.

ولا يخفى أنّه ليس مرادنا من إنشاء تمليك منافع هذه الأمور أن يكون بإنشاء مستقلّ ، وإلاّ يخرج عن كونه إجارة ، بل مرادنا من تمليك منافع هذه الأمور هو إنشاء تمليكها بلفظ الإجارة المتعلّقة بنفس هذه الأمور باعتبار تلك المنافع.

وأمّا الإشكال والنقض على ما ذكرنا - بأنّه لا يجوز إجارة الشاة بلحاظ سخلها ، ولا الجارية بلحاظ ولدها ، ولا البذر بلحاظ الزرع - فغير تامّ ؛ وذلك لأنّ السخل والولد موجودان منفصلان عن الشاة والجارية ، ورحم الشاة والجارية وعاء نمائهما وتربيتهما.

مع أنّ هذه المفاهيم تختلف بنظر العرف ، فلو قال : أجرتك هذه الشاة - مثلا - يفهم العرف من هذه العبارة تمليك صوفها ولبنها ، ولا يفهم منها تمليك سخلها التي في بطنها ، وقلنا : إنّ المدار في تشخيص المفاهيم وتعيين مداليل الألفاظ والجمل هو الفهم العرفي.

مضافا إلى أنّ السخل والولد إن كانا من منافع الشاة والجارية في المتفاهم العرفي نقول بصحّة إجارتها وإعارتها ، إلاّ أن يأتي دليل من إجماع أو رواية على عدم صحّتها أو عدم صحّة أحدهما ، وأمّا البذر والزرع والبيض والدجاج والنواة والنخلة وأمثالها فالزرع والدجاج والنخلة هي عين البذر والبيض والنواة ، لا أنّها من منافعها.

وأمّا ما أفاده سيّدنا الأستاذ قدس سره في حاشية العروة بقوله : نعم ربما يشكل في إجارة الأشجار للثمار بأنّ الانتفاع الحاصل فيها يعدّ في العرف انتفاعا بالثمر لا بالشجر.

ص: 285

فكلام عجيب ؛ لأنّه بعد قبوله المبنى الذي ذكرنا وأنّه من الممكن أن تكون منفعة الشي ء من الأعيان الخارجيّة ، فأيّ فرق بين الشاة المنحة والانتفاع بلبنها ، وبين النخلة مثلا والانتفاع بثمرها ، بل كون ثمار الأشجار منفعة لها أبين من كون الماء الموجود في البئر منفعة لها ، وأيضا أبين من كون اللبن من منافع الشاة أو المرضعة.

وشيخنا الأستاذ قدس سره حيث أنّه لم يختر هذا المبنى ذهب إلى عدم صحّة إجارة هذه الأمور ، وقال في إجارة الشجر لأثماره - في مقام إنكار صحّة إجارة هذه الأمور - في حاشيته على العروة : خصوصا في إجارة الأشجار للانتفاع بأثمارها. فكأنّه قدس سره يرى القول بإجارة الأشجار بلحاظ الانتفاع بأثمارها أبعد عن الصحّة من إجارة الشاة المنحة بلحاظ لبنها ، والمرأة المرضعة بلحاظ إرضاعها أو لبنها ، والبئر بلحاظ الانتفاع بمائها ، ونحن لم نفهم فيها خصوصيّة أوجب ذلك.

الجهة الثانية : في بيان الدليل على هذه القاعدة

وهو أمران :

[ الأمر ] الأوّل : الإجماع فهذا صاحب الجواهر قدس سره يقول في مقام شرح هذه العبارة التي في الشرائع وهي : « كلّما صحّ إعارته صحّ إجارته » (1) : بلا خلاف أجده نقلا وتحصيلا ، بل إجماعا كذلك (2).

ومثل هذه العبارة من هذا الفقيه المحقّق المتتبّع لها قيمتها ، وإن كان قد تقدّم منّا مرارا الإشكال على أمثال هذه الإجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اتّفاقهم مستندا إلى مدرك يعتمدون عليه ، من دون أن يكون سبب اتّفاقهم تلقّيهم عن

ص: 286


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 140.
2- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 213.

الإمام علیه السلام فلا بدّ من الرجوع إلى نفس المدرك المحتمل إن كان معلوما ، وأنّه هل يصحّ الاعتماد عليه أم لا؟ كما أنّه في المقام من المحتمل القريب أن يكون مدركهم هذا الأمر الثاني الذي نبيّنه إن شاء اللّه تعالى.

الأمر الثاني : هو أنّ الإعارة والإجارة لا تختلفان في الحقيقة ، وكلاهما عبارتان عن تسليط المالك المستعير والمستأجر على عين ماله لتمليك منفعته إيّاهما ، ولا فرق بينهما إلاّ بأنّ تمليك المنفعة أو الانتفاع بتلك العين في العارية مجّاني وبلا عوض ، وفي الإجارة يكون بعوض وليس مجانا.

فمورد الإجارة والإعارة واحد ، وهو العين التي لها منفعة محلّلة يمكن الانتفاع بها ، فيسلط الطرف عليه ويملكه منفعتها أو الانتفاع بها فينتفع بها. وأمّا كون الانتفاع بها بلا عوض أو مع العوض لا يغيّر المورد ، فالمورد في كليهما واحد ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ من إجماع أو رواية معتبرة على صحّة إحديها دون الأخرى ، وإلاّ فمقتضى الأصل الأوّلي هو أنّه لو صحّ أحدهما صحّ الآخر.

ومقتضى هذا الدليل أنّ الكلّية من الطرفين ، أي كما أنّ كلّما صحّ إعارته صحّ إجارته ، كذلك كلّما صحّ إجارته صحّ إعارته. وهو كذلك إلاّ أنّهم ذكروا الكلّية الأولى دون الثانية ، ولعلّه لأنّ الإجارة عقد لازم لا يمكن حلّه إلاّ بأحد موجبات الفسخ ، بخلاف العارية فإنّ العارية قابلة للاسترداد والرّد في أيّ وقت أراد كلّ واحد من الطرفين. فالإجارة تحتاج إلى دليل الإثبات وصحّة عقده كي يحكم عليها باللزوم ، وأمّا العارية في الحقيقة هو إذن في التصرّفات ، ولا أثر لكونها صحيحة أو فاسدة ؛ لأنّ فاسدها أيضا لا ضمان فيها ، لقاعدة « كلّما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » فلا أثر مهمّ لمعرفة أنّها صحيحة أو فاسدة ، ولذلك أهملوا ذكر الكليّة الثانية.

أو لأنّ السيرة العمليّة بالنسبة إلى موارد العارية أوسع ، فإنّ الناس يستعيرون

ص: 287

أغلب الأشياء لقضاء حوائجهم ، من الظروف والفرش ، وأدوات الطبخ من القدور والمكائن التي يطبخون عليها ، والبسط والابر وأدوات شرب الچاى من السماور والكتلى والقوري والاستكان والمواعين على أنواعها وأقسامها ، والكتب العلميّة في مختلف العلوم ، وكتب الأدعية والزيارة وغير ذلك ممّا يطول إحصاؤها.

وخلاصة الكلام : ما من شي ء له منفعة ويقضى الحاجة في مدّة قليلة إلاّ وقد يقع موردا للاستعارة ، بخلاف الإجارة ، فإنّ السيرة العمليّة لم تنعقد إلاّ في المهمّات من الحوائج وفيما لم يكن الاحتياج إليها في المدّة القليلة ، بل يكون الاحتياج إليها في مدّة معتدّة بها ، فيمكن أن تكون في بعض الموارد صحّة الإجارة مشكوكة لعدم قيام سيرة عمليّة عليها ، ولكن صحّة العارية تكون معلومة لقيام السيرة عليه ، فيستدلّ بها على صحّة الإجارة لأجل هذه القاعدة.

ولكن ليس هناك مورد تكون صحّة الإجارة معلومة وصحّة العارية ، مشكوكة في ذلك المورد كي يستدلّ بالكليّة الأخرى على صحّة تلك العارية ؛ فلذلك ذكروا الكلّية الأولى وأهملوا ذكر الثانية.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول أوّلا : أنّ هذه القاعدة تجري في إجارة الأعيان بلحاظ منافعها ، وأمّا في باب الأجراء الأحرار فلا تجري الكلّية الثانية ؛ لأنّه يجوز استئجارهم ولا يجوز إعارتهم ؛ لأنّهم وإن كانوا أعيانا ولهم منافع محلّلة ، ولكن لا يدخلون تحت يد أحد ولا يملكهم أحد ، وهم وإن كانوا يملكون أعمالهم ولكن لا ينطبق على أعمالهم عنوان العارية ؛ لأنّ العارية كما قلنا عبارة عن تسليط الغير على عين من أعيان ما يملكه لأجل أن ينتفع بها وفي الإجراء الأحرار لا يمكن ذلك لا من قبل أنفسهم ولا من

ص: 288

قبل غيرهم.

نعم لو كان الأجير من العبيد فكما تصحّ إجارته كذلك تصحّ إعارته.

وثانيا : إنّ مورد تطبيق هذه القاعدة جميع الموارد التي قامت السيرة على صحّة إعارتها ، فمفاد هذه القاعدة صحّة إجارتها.

فما ذكرنا من الموارد الكثيرة التي بناء العقلاء على صحّة إعارتها ، وقامت السيرة على ذلك حتى المحقّرات ، كما إذا استعار إبرة لخياطة خرق في ثوبه - مثلا - فإجارته لذلك أيضا صحيحة ، اللّهمّ إلاّ أن يكون منفعته قليلة بحدّ أنّ العقلاء لا يبذلون بإزائه المال ، فيمكن أن يقال حينئذ بالتفكيك بينهما بأنّ إعارته في ذلك المورد جائزة ، إذ لا مانع من إعطاء ذلك الشي ء بيد الطرف للانتفاع بتلك المنفعة القليلة مجّانا وبلا عوض ، ولكن لا يجوز إجارته لأنّ الإجارة لا يمكن بدون العوض ، والمفروض أنّ العقلاء لا يبذلون بإزاء تلك المنفعة القليلة مالا ، فيمكن أن يكون هذا نقضا على هذه الكلّية لجواز الإعارة دون الإجارة ، فتدبّر.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطنا.

ص: 289

ص: 290

53 - قاعدة حرمة إهانة المحترمات في الدين

اشارة

ص: 291

ص: 292

قاعدة حرمة إهانة المحترمات في الدين

ومن جملة القواعد الفقهيّة « حرمة إهانة حرمات اللّه والاستخفاف بها ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد من هذه القاعدة

فنقول : أمّا « الحرمة » فمعلومة عند كلّ أحد ، وأنّها أحد الأحكام الخمسة التكليفيّة ، وهو طلب ترك الشي ء وعدم رضاه بفعله بحيث يلزم عليه الترك ولو فعل كان عاصيا يستحقّ العقاب عليه.

وأمّا « الإهانة » فهي مصدر باب الإفعال ، والفعل : أهان يهين ، والمراد به الاستخفاف والاستحقار ، فأهانه أي : استخفّ به وحقّره وعدّه ذليلا.

وأمّا « الحرمات » فقال في القاموس : إنّ الحرمة بضمّتين وكهمزة : ما لا يحلّ انتهاكه (1). وذكر الزمخشريّ أيضا كذلك في الكشّاف (2) قوله تعالى ( حُرُماتِ اللّهِ ) (3).

والمراد هاهنا في هذه القاعدة مطلق ما هو محترم في الدين وله شأن عند اللّه على اختلاف مراتبها ، كالكعبة المعظّمة ، ومسجد الحرام وسائر المساجد ، والقرآن ،

ص: 293


1- « القاموس المحيط » ج 4 ، ص 96 ( حرم ).
2- « الكشّاف » ج 3 ، ص 154.
3- الحجّ (22) : 30.

والنبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة المعصومين ، والضرائح المقدّسة ، وقبور الشهداء والصالحين والعلماء والفقهاء العاملين أحياء وأمواتا ، وكتب الأحاديث النبويّة المرويّة من طرق أهل البيت أو من طرق غيرهم من الصحابة الأخيار ، إلى غير ذلك من ذوي الشؤون في الدين وشريعة سيّد المرسلين. ومن هذا القبيل التربة الحسينيّة وكتب الأدعية والمنابر في المساجد الموضوعة للوعظ أو للخطبة لصلاة الجمعة.

والحاصل : أنّ مفاد هذه القاعدة والمراد منها أنّ كلّ ما هو من حرمات اللّه وله شأن في الدين لا يجوز هتكه ، ويحرم استحقاره وإهانته.

[ الجهة ] الثانية : في الدليل على هذه القاعدة

فنقول : الدليل عليه من وجوه :

الأوّل : الإجماع على حرمة هتك ما هو من حرمات اللّه وشعائر الدين ، فإنّهم ادّعوا الإجماع على حرمة تنجيس المساجد ، وإدخال النجاسة المسرية فيها معلّلا بأنّها مستلزم لهتكها ، فكأنّهم جعلوا حرمة الهتك أمرا مفروغا عنه ، وأيضا قالوا بجواز إدخال النجاسة غير المسرية فيها ما لم يستلزم هتكها فكأنّ حرمة ما يستلزم الهتك أمر مسلّم عندهم ، ومن المعلوم أنّ اتّفاقهم على حرمة الهتك ليس لخصوصيّة في المساجد ، بل تكون لأجل أنّها من حرمات الدين وشعائره ؛ وذلك لأنّ ما هو من حرمات اللّه وشعائره تعالى هتكه يؤول إلى هتك حرمة اللّه عزّ وجلّ ، وهذا شي ء ينكره العقل ويقبّحه ، كما سنذكره في الدليل العقلي إن شاء اللّه.

وأمّا كون شعائر اللّه عبارة عن مناسك الحجّ ، أو خصوص الهدى ، أو خصوص البدن ، وهكذا بالنسبة إلى حرمات اللّه كونها عبارة عن خصوص مناسك الحجّ فواضح البطلان ؛ لأنّ إطلاقها في القرآن الكريم على تلك الأمور من باب إطلاق

ص: 294

الكلّي على بعض المصاديق وليس من المجاز ، لما تحقّق في محلّه أنّه من باب تعدّد الدالّ والمدلول ؛ لأنّ الخصوصيّة تستفاد من دالّ آخر ، وما ذكره اللغويّون وبعض المفسّرين لهذين اللفظين - « حرمات اللّه ، شعائر اللّه » - فهو من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.

فكلّ ما هو محترم عند اللّه ومن علائم الدين فهو من حرمات اللّه ومن شعائره عزّ وجلّ.

ويؤيّد ما ذكرنا ما قاله الزمخشري في تفسير ( حُرُماتِ اللّهِ ) أنّها ما لا يحلّ هتكه ، فلوضوح ثبوت هذا الأثر لها عرّفوها به ، وكذلك اتّفقوا على أنّ هتك المؤمن حرام حيّا وميّتا ، وكذلك اتّفقوا على حرمة هتك المشاهد المشرّفة والضرائح المقدّسة.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يمكن إنكار وجود الإجماع والاتّفاق على عدم جواز هتك ما هو من المحترمات في الدين ، بل ربما عدّ بعضهم هذا من ضروريات الدين ، والفقيه المتتبّع يجد هذا الاتّفاق في موارد كثيرة من صغريات هذه القاعدة من غير نكير من أحد ، نعم اختلفوا في وجوب تعظيم هذه الأمور ، وسنذكره إن شاء اللّه تعالى.

الثاني : ارتكاز ذهن المتشرّعة قاطبة - حتّى النساء والصبيان - على عدم جواز هتك حرمة هذه الأمور وإهانتها واستحقارها ، ويعترضون على من يهينها ويستحقرها وينكرونها أشدّ الإنكار ، وإن كان بعضهم يفرّطون في هذا الأمر ، ولا شكّ في أنّه لو شرب أحد سيكارة أو شطبا في حرم أحد أولاد الأئمّة علیهم السلام ينكرون عليه أشدّ الإنكار ، أو يدخل في حرمهم لابسا حذائه يصيحون عليه ، وأمثال ذلك.

فالإنصاف أنّه لا يمكن أن ينكر ثبوت مثل هذا الارتكاز في أذهان المتشرّعة ، ولا يمكن أيضا إنكار أنّ هذا الارتكاز كاشف عن ثبوت هذا الحكم في الشريعة.

نعم تختلف مراتب إنكارهم بالنسبة إلى هذه الأمور ؛ فلو أهان شخص - العياذ باللّه - بالكعبة المعظّمة ، أو ضريح الرسول صلی اللّه علیه و آله ، أو القرآن الكريم ، فإنكارهم ربما

ص: 295

ينجرّ إلى قتله ، كما هو كذلك الحكم الوارد في الشرع بالنسبة إلى تلويث الكعبة المعظّمة ، بل القرآن الكريم وضريح الرسول صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه كاشف قطعيّ عن كفره أو ارتداده إن كان مسلما. أمّا لو أهان نعمة من نعم اللّه ، كما لو سحق الخبز برجله متعمّدا من غير عذر ولا ضرورة ، ينكرون بالصيحة في وجهه لا أزيد من ذلك.

والحاصل : أنّ أصل الإنكار بالنسبة إلى إهانة المحترمات في الدين من مرتكزاتهم ، وإن كانت مراتبه مختلفة بالنسبة إلى مراتب المحترمات ، نعم العوام كثيرا ما يشتبهون في تشخيص مراتب المحترمات كما هو شأنهم في كثير من الأمور.

الثالث : حكم العقل بقبح إهانة ما هو محترم عند المولى ، واستحقار ما هو معظّم عنده ، ويرجع استحقار ما هو محترم عنده ومعظّم لديه إلى الاستخفاف بالمولى ، فيستحقّ الذمّ والعقاب ، واستحقاق الذمّ والعقاب من اللوازم التي لا ينفكّ عن فعل الحرام أو ترك الواجب الذي هو أيضا حرام ، فكلّ فعل كان موجبا لاستحقاق العقاب فلا محالة يستكشف منه أنّه حرام ، وذلك ببرهان الإنّ ، أي استكشاف العلّة من وجود المعلول والملزوم عن اللازم ، وإن شئت قلت : إذا حكم العقل بقبح شي ء فيستكشف عنه حرمة ذلك الشي ء بقاعدة الملازمة.

ثمَّ إنّ الإهانة واستحقار المحترمات والحرمات والشعائر والمشاعر تارة لا يتحقّق إلاّ بالقصد ، فهي في هذا القسم من العناوين القصديّة ، كالتعظيم الذي هو ضدّه ، فكما أنّ القيام لا يكون تعظيما ومن مصاديقه إلاّ بذلك القصد ، وإلاّ لو كان لجهة أخرى أو للاستهزاء بمن يقوم له لا يصدق عليه أنّه تعظيم ، فكذلك الأمر في الإهانة والاستحقار لا يصدق على الفعل القابل لذلك كمدّ الرجل إلى أحد هذه الأمور المحترمة ، أو وضعها عليه ، أو حرقها ، أو سحقها إلاّ أن يكون بقصد الإهانة والاستحقار. وأخرى تكون بنفسه إهانة ولو لم يقصد ، كما أنّ في التعظيم أيضا يمكن أن يقال : إنّ السجود لشخص أيضا تعظيم له قصده أو لم يقصد.

ص: 296

نعم هذا فيما لا يكون قصد آخر منافيا للتعظيم ، مثل أن يكون قاصدا لاستهزائه بذلك السجود ، فكذلك الأمر في الإهانة ، فربما يكون نفس الفعل إهانة ، قصدها أو لم يقصد.

نعم لا بدّ وأن لا يقصد عنوانا آخر منافيا للإهانة ، كما أنّه حكى أنّ بعضهم أدخل عورته في بعض الضرائح المقدّسة استشفاء وطلبا للولادة ، فإنّ هذا الفعل القبيح إهانة لو لم يقصد شي ء أصلا ، لا الإهانة ولا غيرها ، وأمّا لو كان طلبا للأولاد وكان صادرا عن العوام ، فهذا القصد مناف لكونه إهانة ، نعم لو لم يقصد شي ء أصلا كان إهانة بنفسه من دون الاحتياج إلى قصدها.

وربما يكون بعض الأفعال إهانة وإن قصد ما ينافيها بنظره ، بمعنى أنّ كونه إهانة لا تنفكّ عنه ، مثل الإيلام الذي لا ينفكّ عن الضرب الشديد بأيّ قصد كان ذلك الضرب.

الرابع : الآيات والأخبار.

أمّا الآيات :

منها : ما نزلت في تعظيم حرمات اللّه كقوله تعالى ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) . (1)

ومنها : ما نزلت في تعظيم شعائر اللّه كقوله تعالى ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2).

وتقريب الاستدلال بهذه الآيات - بعد البناء على أنّ المراد من حرمات اللّه وشعائر اللّه مطلق ما هو محترم في الدين ، وتطبيقها على مناسك الحجّ ومشاعره من باب تطبيق الكلّي على بعض مصاديقه كما أشرنا إلى ذلك - هو أنّه إذا كان مفاد هذه

ص: 297


1- الحجّ (22) 30.
2- الحجّ (22) 32.

الآيات وجوب تعظيم المحترمات في الدين فتدلّ على حرمة إهانتها بالأولويّة.

وذلك من جهة أنّ الأمر بالشي ء بناء على أنّه يدلّ على النهي عن ضدّه العامّ كما هو المشهور - وإن كان لنا فيه كلام ذكرناه في كتابنا « منتهي الأصول » (1) في مبحث الضدّ - فيكون ترك التعظيم حراما.

فإن قلنا : إنّ التقابل بين الإهانة والتعظيم تقابل العدم والملكة ، والإهانة عبارة من عدم التعظيم فتكون حراما وذلك واضح ، وأمّا إن قلنا إنّهما ضدّان لأنّ الإهانة أيضا أمر وجوديّ كالتعظيم ، فإن قلنا أنّه لا ثالث لهما فتكون أيضا لا تنفكّ عمّا هو حرام ، وهو ترك التعظيم لما فرضنا أنّهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما. وأمّا إن قلنا بوجود الواسطة بينهما ، فربما يقال بأنّه بناء على هذا لا ملازمة بين ترك التعظيم وتحقيق الإهانة ؛ إذ بناء على هذا يمكن أن لا يكون تعظيم ولا إهانة في البين.

ولكن فيه : أنّه على تقدير القول بوجود الواسطة - كما هو الصحيح - يكون ترك التعظيم أعمّ ؛ إذ يمكن تحقّق ترك التعظيم بدون تحقّق الإهانة ، ولا يمكن تحقّق الإهانة بدون ترك التعظيم ، وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين وارتفاع النقيضين ، وكلاهما محال ، فدائما تكون الإهانة مقرونة مع ترك التعظيم الذي هو حرام.

والجواب الصحيح عن هذا الدليل : أنّ هذه الآيات لا ظهور لها في وجوب التعظيم ، وأمّا قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ ) (2) إلى آخر الآية وإن كان النهي ظاهرا في التحريم كما قرّر في الأصول ، ولكن ليس المراد من إحلال شعائر اللّه هو إهانة ما هو محترم في الدين كي يكون دليلا على حرمة مطلق إهانة المحترمات ، بل الظاهر منها بقرينة فقرات البعد هي حرمة ترك فرائض الحجّ ومناسكه ، وأيضا حرمة عدم الاعتناء بالشهر الحرام أو

ص: 298


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 301.
2- المائدة (5) : 2.

القتال فيه إلى آخر الفقرات.

قال الأردبيلي قدس سره في آيات أحكامه في مقام شرح هذه الآية : أي : لا تجعلوا محرّمات اللّه حلالا ومباحا ، ولا بالعكس يعنى لا تتعدّوا حدود اللّه (1).

ومورد نزول الآية أيضا يدلّ على أنّ المراد بإحلال الشعائر القتال والنهب والغارة في الشهر الحرام ، وهو أنّ الحطم بن هند البكري أحد بنى ربيعة أتى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وحده ، وخلف خيله خارج المدينة ، فقال : إلى ما تدعو؟ وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأصحابه : « يدخل عليكم اليوم رجل من بنى ربيعة يتكلّم بلسان شيطان » فلمّا أجابه النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : أنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره ، فخرج من عنده فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر » فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به ويرتجز إلى آخر رجزه.

ثمَّ أقبل من عام قابل حاجّا قلّد هديا ، فأراد رسول اللّه أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية ومنع اللّه تعالى رسوله عن القتال ، وأخذ الهدي ، وهذا قول عكرمة وابن جريح في بيان شأن نزول الآية.

وقال ابن زيد : نزلت يوم الفتح في ناس يؤمّون البيت من المشركين يهلّون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول اللّه إنّ هؤلاء مشركون مثل هؤلاء ، دعنا نغير عليهم ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، أي منعهم عن الإغارة عليهم. (2)

وعلى كلّ حال يكون المورد أيضا قرينة أخرى على أنّ المراد بالشعائر في هذه الآية مناسك الحجّ ، لا مطلق المحترمات في الدين ، فلا دلالة في هذه الآية على حرمة إهانة مطلق ما هو محترم في الدين.

وأمّا الأخبار : فما وجدنا رواية معتبرة تدلّ على حرمة إهانة ما هو محترم في

ص: 299


1- « زبدة البيان في أحكام القرآن » ص 295.
2- « مجمع البيان » ج 2 ، ص 153.

الدين بهذا العنوان العامّ ، نعم وردت روايات كثيرة تدلّ على حرمة إهانة بعض صغريات هذه القاعدة ، كما أنّه في خصوص إهانة المؤمن وردت روايات تدلّ على حرمة إهانته حرمة مؤكّدة ، ففي التهذيب : « من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة » (1) وأيضا « من أهان لي وليّا فقد أرصدني لمحاربتي » (2).

نعم في الكافي عن ابن عمّار قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إذا رميت الجمرة فاشتر هديك إنّ كان من البدن أو من البقرة ، وإلاّ فاجعل كبشا سمينا فحلا ، وإن لم تجد فما وجد من الضأن ، فان لم تجد فما تيسّر عليك ، وعظّم شعائر اللّه » (3) ، فإنّ الأمر بالتعظيم ظاهر في وجوبه ، فإذا كان واجبا يكون تركه حراما ؛ لما ذكرنا أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ. وقد بيّنّا أنّ الإهانة لا تنفكّ عن ترك التعظيم ، فتكون ملازما مع ما هو حرام.

وفيه : أوّلا : على فرض كونها لا تنفكّ عن الحرام لا يلزم أن تكون حراما ؛ لأنّه لا يلزم أن يكون المتلازمان في الوجود متّحدين في الحكم ، نعم لا يمكن أن يكون أحدهما واجبا والآخر حراما على تفصيل مذكور في محلّه.

وثانيا : أنّ الأمر بالتعظيم هاهنا ظاهر في الاستحباب لا في الوجوب ؛ وذلك من جهة أنّه لو كان المراد من الشعائر هي المحترمات في الدين ، فمن المعلوم عدم وجوب التعظيم في كثير منها. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المراد بالتعظيم هي المعاملة اللائقة بها معها وعدم إزالتها عن مقامها ، وبهذا المعنى يمكن الالتزام بوجوبها في جميع الموارد وبعدم

ص: 300


1- وجدناه في « الكافي » ج 1 ، ص 144 ، باب النوادر من كتاب التوحيد ، ح 6 ؛ وج 2 ، ص 352 ، باب من أذى المسلمين واحتقرهم ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 588 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 146 ، ح 1.
2- وجدناه في « الكافي » ج 2 ، ص 351 ، باب من أذى المسلمين واحتقرهم ، ح 3 ، 5 و 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 588 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 146 ، ح 2. ونص الحديث هكذا : « من أهان لي وليّا فقد أرصد لمحاربتي ».
3- « الكافي » ج 4 ، ص 491 ، باب ما يستحب من الهدى وما يجوزونه وما لا يجوز ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 10 ، ص 98 ، أبواب الذبح ، باب 8 ، ح 4.

ورود التخصيص عليها.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

وهي كثيرة منتشرة في أبواب الفقه.

فمنها : إهانة الكعبة المعظّمة زادها اللّه شرفا بتلويثها - العياذ باللّه - بإحدى النجاسات العينيّة عمدا عن اختيار بلا كره ولا إجبار ولا مرض ولا اضطرار ، ولا يبعد أن يكون هذا العمل كفرا وإنكارا لله الواحد القهّار.

وقد ورد عنهم علیهم السلام أنّه يقتل كما في رواية أبي الصباح الكناني قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أيّهما أفضل الإيمان أو الإسلام؟ إلى أن قال : فقال : « الإيمان ». قال : قلت : فأوجدني ذلك ، قال : « ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمّدا؟ » قال : قلت : يضرب ضربا شديدا ، قال : « أصبت » قال علیه السلام : « فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمّدا؟ » قلت : يقتل. قال : أصبت ألا ترى أنّ الكعبة أفضل من المسجد » الحديث. (1)

ومنها : إهانة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو القرآن ، كما ورد أنّ من شتم النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقتل فيما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن شتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال علیه السلام : « يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام » (2).

ومنها : قوله بما لا يليق وسوء الأدب مع اللّه تعالى جلّ جلاله ، وأن يسأل بوجه اللّه. ففي رواية عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « جاء رجل إلى

ص: 301


1- « الكافي » ج 2 ، ص 26 ، باب ان الايمان يشرك الإسلام ... ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 579 ، أبواب بقيّة الحدود والتعزيرات ، باب 6 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 259 ، باب حدّ المرتد ، ح 21 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 141 ، ح 560 ، باب حدّ المرتد والمرتدّة ، ح 21 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 554 ، أبواب حدّ المرتدّ ، باب 7 ، ح 1.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّي سألت رجلا بوجه اللّه فضربني خمسة أسواط ، فضربه النبيّ صلی اللّه علیه و آله خمسة أسواط أخرى وقال صلی اللّه علیه و آله : « سل بوجهك اللئيم » (1).

ومنها : إهانة المسجد بأن يجعله القاصّ محلاّ لبيان قصّته ، ففي رواية هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إنّ أمير المؤمنين علیه السلام رأى قاصّا في المسجد ، فضربه بالدّرة وطرده » (2).

ومنها : الإهانة بأموات المؤمنين ، ففي رواية صفوان. قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أبي اللّه أن يظنّ بالمؤمن إلاّ خيرا ، وكسرك عظامه حيّا وميّتا سواء » (3).

وأيضا عنه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، عن رجل كسر عظم ميّت ، فقال : « حرمته ميّتا أعظم من حرمته وهو حيّ » (4).

وروايات أخر ذكرها في الوسائل التي بهذا المضمون في نفس هذا الباب الذي عقده لاحترام ميّت المؤمن ، وأنّ حرمة حيّه وميّته سواء.

ومنها : إهانة مكّة المكرّمة قولا أو فعلا. وروى الكليني قدس سره رواية مفصّلة قال : وروي أنّ معد بن عدنان خاف أن يدرس الحرم فوضع أنصابه ، وكان أوّل من وضعها ثمَّ غلبت جرهم على ولاية البيت ، فكان يلي منهم كابر عن كابر حتّى بغت

ص: 302


1- « الكافي » ج 7 ، ص 263 ، باب النوادر من كتاب الحدود ، ح 18 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 149 ، ح 594 ، باب من الزيادات ، ح 25 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 577 ، أبواب بقيّة الحدود والتعزيرات ، باب 2 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 263 ، باب النوادر من كتاب الحدود ، ح 20 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 578 ، أبواب بقيّة الحدود والتعزيرات ، باب 4 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 272 ، ح 1067 ، باب دية الأعور ولسان الأخرس ... ، ح 12 ؛ « الاستبصار » ج 4. ص 297 ، ح 1115 ، باب دية من قطع رأس الميّت ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 251 ، أبواب ديات الأعضاء ، باب 25 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 272 ، ح 1068 ، باب دية الأعور ولسان الأخرس ... ، ح 13 ؛ « الاستبصار » ج 4. ص 297 ، ح 1116 ، باب دية من قطع رأس الميّت ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 251 ، أبواب ديات الأعضاء ، باب 25 ، ح 5.

جرهم بمكّة واستحلّوا حرمتها ، وأكلوا مال الكعبة ، وظلموا من دخل مكّة وعتوا وبغوا ، وكانت مكّة في الجاهليّة لا يظلم ولا يبقى فيها ولا يستحلّ حرمتها ملك إلاّ هلك مكانه ، الحديث. (1)

وخلاصة الكلام : أنّ من راجع الأخبار الواردة في حرمة إهانة المؤمن والاستخفاف به وكذلك الأخبار الواردة في عدم جواز الاستخفاف بالقرآن والكعبة والمسجد الحرام ومسجد النبيّ وضريحه المقدس وذاته الأقدس والمشاعر العظام المذكورة في كتاب الحجّ ، والأخبار الواردة في التربة الحسينيّة وغيرها من المحترمات ، يقطع بأنّ إهانة ما هو محترم وله مرتبة وشرف في الدين حرام ، بل تعظيمها بمعنى حفظ مرتبتها واجب.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 303


1- « الكافي » ج 4 ، ص 211 ، باب حجّ إبراهيم وإسماعيل وبنائهما البيت ، ح 18.

ص: 304

54 - قاعدة كلّ مسكر مائع بالأصالة فهو نجس

اشارة

ص: 305

ص: 306

قاعدة كلّ مسكر مائع بالأصالة فهو نجس (1)

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « كلّ مسكر مائع بالأصالة نجس وحرام شربه ».

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها

فنقول : أما « المسكر » فقد اختلف كلمات الفقهاء واللغويّين في شرح مفهومه ، فقال في القاموس : سكر كفرح ، ثمَّ يذكر مصادر هذا الفعل ، ثمَّ يفسّره بأنّه نقيض صحى (2) ، ثمَّ يأتي في مادة الصحو ويقول الصحو : ذهاب الغيم والسكر (3) ، وهو عجيب ؛ لأنّه يحيل معرفة كلّ واحد منهما إلى معرفة الآخر ، وهذا دور إن كان مراده من هذا التفسير لهما تعريفهما ، ومثل هذا الأمر في كلام اللغويين كثير.

وقال في لسان العرب : السكران خلاف الصاحي ، والسكر نقيض الصحو ، والسكر ثلاثة : سكر الشاب ، وسكر المال ، وسكر السلطان (4) .

وفي قوله تعالى : ( وَتَرَى النّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللّهِ

ص: 307


1- «مستقصی مدارك القواعد» ص 100.
2- « القاموس المحيط » ج 2 ، ص 45 ( سكر )
3- « القاموس المحيط » 4 ، ص 507 ( صحر )
4- « لسان العرب » ج 4 ، ص 372 ( سكر )

شَدِيدٌ ) (1) سكارى بالضمّ جمع سكران ، فإنّ فعلان يجمع على فعالي بالضم ، وسكرهم عبارة عن دهشهم من هول العذاب ، فعقولهم ذاهبة من خوف العذاب ، فعرض عليهم حالة كحالة السكران واضطرابه.

وقال بعض الفقهاء : هو ما يحصل معه اختلال الكلام المنظوم وظهور السّر المكتوم ، وقيل : هو ما يغيّر العقل ويحصل معه نشو النفس.

وقيل في الفرق بينه وبين الإغماء : إنّ السكر حالة توجب اختلالا في العقل بالاستقلال ، والإغماء يوجبه بالتبع لضعف القلب واليد وقيل : إنّ السكر حالة توجب ضعف العقل وقوة القلب ، والإغماء حالة توجب ضعفهما.

هذا ما ذكروه ، والذي يظهر من مجموع المعاني الذي ذكروه أنّ السكر هو وجود حالة في النفس توجب اضطرابا في الفكر ، وزوال مرتبة من العقل بحيث لو كانت هذه الحالة فيه دائمة من غير شرب المسكر لكانت فيه مرتبة من الجنون ؛ وذلك لأنّ تلك الحالة ربما توجب ارتكاب بعض القبائح والجرائم التي لا يصدر من العاقل.

نعم لا شكّ في أنّ هذه الحالة المذكورة تختلف بالنسبة إلى أشخاص شاربي المسكرات ، وأنواع نفس المسكرات ، وبالنسبة إلى القلّة وكثرة ما يشرب ، وبعض الجهات الأخر شدّة وضعفا.

والظاهر : أنّ مفهوم السكر مثل مفهوم الجنون والعقل من المفاهيم الواضحة عند كلّ أحد ، فلا يحتاج إلى التعريف ، بل هو أجلى من التعاريف التي ذكروها.

وإذا تبيّن معنى السكر ، فالمسكر هو الذي يكون شربه أو أكله سببا لوجود السكر ، فالمسكر من المشتقّات التي يكون مبدء الاشتقاق قائما بموضوعه قياما صدوريّا ، لا حلوليّا كالكاتب مثلا.

ص: 308


1- الحجّ (22) : 2.

وأمّا المراد من المائع بالأصالة ، فهو أنّ الشي ء الذي يوجب وجود هذه الحالة على اختلاف مراتبها على قسمين : مائع ، وجامد ، فالمائع كأقسام الخمور والفقّاع وما يسمّونه العرق ، وغير ذلك ممّا ينطبق عليه هذا التعريف ، وكان في أصله مائعا ، لا أنّه صار مائعا بواسطة مزجه بالماء ، والجامد كالحشيش أو شي ء آخر إذا كان هناك شي ء آخر جامد بالأصل يوجب وجود هذه الحالة.

وإنّما خصّصنا الموضوع في هذه القاعدة وقيّدناه بكونه مائعا بالأصالة لأنّ ما ليس من المسكرات كذلك وإن صار مائعا بواسطة مزجه بالماء كالحشيش ليس بنجس إجماعا ، وأدلّة نجاسة المسكرات أيضا منصرفة عن المسكر الجامد بالأصالة ، كما سننبّه على هذا فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثانية : في بيان الدليل على هذه القاعدة

اشارة

وقبل ذلك نذكر الأقوال فيها ، فنقول :

المشهور عند الفقهاء قديما وحديثا هو نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة ، وخالف المشهور جماعة من القدماء والمتأخّرين من أصحابنا الإماميّة وغيرهم.

أمّا من الإماميّة : حكى عن العمّاني حسن وهو المشهور بابن أبي عقيل (1) وعن الصدوقين عليّ بن بابويه وابنه محمّد بن على ابن بابويه (2) - قدس سرّهما - ، ومن متأخّريهم المقدّس الأردبيلي (3) ، وصاحب المدارك (4) ، وصاحب الذخيرة السبزواريّ ، (5)

ص: 309


1- نقله عنه في « المعتبر » ج 1 ، ص 422.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 74 ، باب ما ينجّس الثوب والجسد ، ذيل ح 167 ؛ « علل الشرائع » ص 357.
3- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 1 ، ص 309.
4- « مدارك الأحكام » ج 2 ، ص 292.
5- « ذخيرة المعاد » ص 153.

ومشارق الشموس في شرح الدروس الخوانساري قدس سره (1).

وأمّا من غير الإماميّة : فظاهر عبارة الفقه على المذاهب الأربعة (2) نجاسة المسكر المائع بالأصالة من غير نقل خلاف ، ويستدلّ على ذلك بأنّ كلّ مسكر خمر ، وكل خمر نجس.

أمّا إنّ كلّ مسكر خمر ؛ لقوله صلی اللّه علیه و آله على ما رواه في صحيح مسلم عنه صلی اللّه علیه و آله : « كل مسكر خمر ، وكلّ خمر حرام » (3).

وأمّا إنّ كلّ خمر نجس ؛ لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ) (4) فحمل الرجس على الخمر ، والمراد من الرجس هو النجس ؛ لأنّه معناه عند العرف.

وحكي القول بطهارة الخمر من ربيعة الرأي ، (5) وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ فتوى أكثر فقهاء الإسلام على النجاسة ، بل المخالف أي القائل بالطهارة منّا ومن غيرنا في غاية القلّة ، على كلام في النسبة إلى بعضهم.

ثمَّ بعد ما ظهر لك من الأقوال في المسألة ،

الأوّل : الإجماع نقلا وتحصيلا ، فهذا صاحب الجواهر الفقيه المتتبّع يقول : المشهور نقلا وتحصيلا ، قديما وحديثا ، بيننا وبين غيرنا شهرة كادت تكون إجماعا ، بل هي

ص: 310


1- « مشارق الشموس » ص 326.
2- « الفقه على المذاهب الأربعة » ج 1 ، ص 15.
3- « صحيح مسلم » ج 4 ، ص 245 ، باب بيان أنّ كلّ مسكر خمر ... ، ح 2003.
4- « المائدة (5) : 90.
5- « انظر : « المجموع » ج 2 ، ص 563 ؛ « فتح العزيز » ج 1 ، ص 156 ؛ « تفسير القرطبي » ج 6 ، ص 288 ؛ « مغني المحتاج » ج 1 ، ص 77 ؛ « الميزان » ج 1 ، ص 105.

كذلك النجاسة (1).

وعن البهائي في حبل المتين : أطبق علماء الخاصّة والعامّة على نجاسة الخمر ، إلاّ شر ذمّة منّا ومنهم لم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم. (2)

وفي السرائر بعد أن نفى الخلاف عن نجاسة الخمر حكى عن ابن بابويه في كتاب له أنّ الصلاة تجوز في ثبوت أصابته الخمر ، قال : وهو مخالف لإجماع المسلمين. (3)

وقال الشهيد في الذكرى : إنّ الصدوق وابن أبي عقيل والجعفيّ - أي القائلين بالطهارة - تمسّكوا بأحاديث لا تعارض القطعيّ. (4)

وقال الشيخ في المبسوط : والخمر نجسة بلا خلاف ، وكلّ مسكر عندنا حكمه حكم الخمر ، وألحق أصحابنا الفقّاع بذلك. (5)

وقال ابن زهرة في الغنية : والخمر نجسة بلا خلاف ممّن يعتد به ، وقوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ) يدلّ على نجاستها ، وكلّ شراب مسكر نجس ، والفقّاع نجس بالإجماع ، (6) انتهى.

ثمَّ إنّ دعوانا الإجماع تحصيلا مبنيّ على عدم الاعتداد بهؤلاء المخالفين للقول بنجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة القائلين بالطهارة ، مع أنّ في أصل النسبة إليهم إشكالا كما ذكره في الجواهر. (7)

والسرّ في عدم الاعتناء بمخالفة هؤلاء - إن صحّت المخالفة - أنّنا نقول بحجّيّة

ص: 311


1- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 2.
2- « الحبل المتين » ص 102.
3- « السرائر » ج 1 ، ص 178.
4- « ذكري الشيعة » ص 14.
5- « المبسوط » ج 1 ، ص 36.
6- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 550.
7- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 3.

الإجماع من باب أنّ اتّفاق هذا العدد الكثير من الفقهاء على حكم مع اختلاف أعصارهم وبلدانهم وسلائقهم ، وتعبّد جمع كثير منهم بالعمل بالأخبار المرويّة عن المعصومين وعدم اعتنائهم بالاستحسانات والظنون وعمل جمع آخر على طبق تلك الأمور ، وعدم مدرك من آية أو رواية يدلّ على ثبوت هذا الحكم الذي اتّفقوا عليه.

فيستكشف من مثل هذا الاتّفاق تلقّيهم هذا الحكم من المعصوم علیه السلام ، أو وجود دليل معتبر عند الكلّ كخبر قطعيّ الصدور وقطعيّ الدلالة ولكن نحن لم نجده لضياعه بطول الزمان.

وأنت خبير بأنّ مثل هذا المعنى لا يضرّ به مخالفة عدّة قليلة ، خصوصا إذا علمنا بأنّ اعتمادهم على أخبار ضعيفة معرضة عنها.

نعم هاهنا إشكال آخر على هذا الإجماع ذكرناه مرارا في هذا الكتاب في أمثال المقام ، وهو أنّ الاتّفاق الذي من المحتمل القريب أن يكون اعتمادهم على الآية الموجودة في المقام ، أو الروايات الموجودة كذلك ، بل صرّح بعضهم بذلك كما أنّ ما نقلناه عن ابن زهرة في الغنية من استدلاله بالآية على نجاسة الخمر بعد ادّعائه عدم الخلاف ممّن يعتدّ به ، فمثل هذه الإجماعات لا اعتبار لها ، ولا بدّ من مراجعة مداركها.

الثاني : قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) . (1)

ولا يخفى أنّ الاستدلال بهذه الآية على نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة على تقدير دلالتها على نجاسة الخمر منوط بأحد هذه الأمور :

إمّا أن يكون كلّ مسكر خمرا حقيقة وموضوعا ، كما حكينا عن صحيح مسلم عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ « كلّ مسكر خمر ». (2)

ص: 312


1- المائدة (5) : 90.
2- « صحيح مسلم » ج 4 ، ص 245 ، باب بيان أنّ كلّ مسكر خمر ... ، ح 2003.

وإمّا يكون خمرا تنزيلا بلحاظ جميع الآثار من الحرمة والنجاسة وغيرهما ، أو بلحاظ خصوص هذا الأثر.

ولا يبعد احتمال الأوّل ؛ لأنّ الخمر بمعنى الستر ، ومنه خمار المرأة ، لأنّه يسترها ، ولا شكّ في أنّ كلّ مسكر يستر العقل على اختلاف مراتب الستر شدّة وضعفا ، حتّى أن في بعض أقسامها ربما يتخيّل من يراه - من ارتكاب القبائح - بأنّه مجنون ، ولا فرق في هذا المعنى بين ما يسمّونه خمرا حقيقة وبين سائر أقسام المسكرات على تقدير أنّ لا تكون خمرا في لغتهم ومحاوراتهم.

وأيضا على فرض أن لا تكون خمرا حقيقة لا شكّ في أنّ ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله « كلّ مسكر خمر » عموم المنزلة أي في جميع الآثار ، وعلى فرض أن لا يكون ظاهرا في عموم المنزلة وكان التنزيل بلحاظ الأثر الظاهر ، لا شكّ في أنّ الأثر الظاهر للخمر عند المسلمين ليس خصوص الحرمة ، بل يكون هي الحرمة والنجاسة كلتاهما.

وإمّا أن يكون دليل على إلحاقه بالخمر حكما من إجماع أو غيره كعموم التعليل مثلا لو كان في رواية أنّ الخمر نجسة لأنّه مسكر ، فهذا يكون بمنزلة كبرى كلّية تدلّ على نجاسة كلّ مسكر ، فحينئذ لا بدّ وأن نقول بأنّ خروج المسكرات الجامدة بالأصل عن تحت هذا العموم بالإجماع أو بالانصراف.

وخلاصة الكلام : أنّ الآية أو الروايات على تقدير دلالتها على نجاسة الخمر تدلّ على نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة بأحد الوجوه المذكورة ، والمسكر الجامد بالأصالة خارج بما ذكرنا.

وأمّا الأخبار الواردة من طريق أهل البيت علیهم السلام بأنّ كلّ مسكر خمر ، فكثيرة.

فمنها : رواية عطاء بن يسار عن أبي جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « كلّ مسكر حرام وكلّ مسكر خمر » (1).

ص: 313


1- « الكافي » ج 6 ، ص 408 ، باب أنّ رسول اللّه - صلی اللّه علیه و آله - حرّم كلّ مسكر. ح 3 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9. ص 111 ، ح 482 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 217 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 260 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 15 ، ح 5.

ومنها : ما عن مجمع البيان في تفسير قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ) إلى آخره قال : يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر (1).

ومنها : ما عن تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسير الآية المذكورة عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر علیه السلام : « أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره فقليله حرام » (2).

ومنها : خبر عليّ بن يقطين ، عن أبي الحسن الماضي علیه السلام قال : « إنّ اللّه سبحانه لم يحرم الخمر لاسمها ، ولكن حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » (3).

ولكن ظاهر هذه الرواية هو التنزيل في الحرمة ، لا أنّه خمر حقيقة.

وبعد ما ظهر لك ما قلناه فتقريب دلالة الآية على نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة هو أنّ الرجس بمعنى النجس فتدلّ الآية على أنّ الخمر نجس ، وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ كلّ مسكر إمّا خمر حقيقة كما أنّه لم نستبعده ، أو حكما ، فيكون بمنزلة الخمر ؛ لقوله صلی اللّه علیه و آله « كلّ مسكر خمر » أو لأنّ علّة نجاسة الخمر إسكارها ، وهذه العلة موجودة في كلّ مسكر.

فالعمدة إثبات أنّ الرجس بمعنى النجاسة العينيّة في متفاهم العرف ، وإثبات هذا الأمر خصوصا في هذه الآية مشكل ، أمّا أوّلا فلانّ الرجس كما يطلق على النجس كذلك يطلق على معان أخر :

ص: 314


1- « مجمع البيان » ج 2 ، ص 239.
2- « تفسير القمّي » ج 1 ، ص 180 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 222 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 1 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 6 ، ص 412 ، باب أنّ الخمر انما حرمت لفعلها ... ، ح 2 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9. ص 112 ، ح 486 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 221 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 273 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 19 ، ح 1.

قال في النهاية : الرجس القدر ، وقد يعبّر به عن الحرام ، والفعل القبيح ، والعذاب ، واللعنة ، والكفر.

وقال في القاموس : والرجس - بالكسر - القذر ، والمأثم ، وكلّ ما استقذر من العمل المؤدّي إلى العذاب ، والشكّ والعقاب والغضب. (1)

فاستظهار هذا المعنى - أي كونه بمعنى النجاسة العينيّة - يحتاج إلى قرينة معيّنة لها من بين المعاني المذكورة ، وليس شي ء في البين ، بل القرينة على خلافه ، وهي وحدة السياق.

وذلك لأنّ ظاهر الآية هو أنّ الرجس خبر إنّما في جميع الفقرات ، لا أنّه خبر لخصوص الخمر ، ولا شكّ في أنّ الميسر والأنصاب والأزلام لا يمكن أن يكون رجسا بهذا المعنى ، فلا بد وأن يكون بمعنى قابلا للحمل على الجميع ، وهذا هو المراد بوحدة السياق. والظاهر أنّ ذلك المعنى الذي هو قابل للحمل على الجميع هو المأثم الذي ذكره في القاموس ، أو الحرام الذي ذكره في النهاية ، والظاهر أنّهما واحد ، وعلى كلّ حال فلا تكون الآية مربوطة بمحلّ الكلام.

وأيضا قوله تعالى ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) لا يناسب هذا المعنى ، لأنّ نجاسة الخمر كنجاسة سائر النجاسات العينيّة من الأحكام الشرعيّة وليست عملا للشيطان ، نعم شربه رجس ، أي حرام ومن عمل الشيطان.

فالإنصاف : أنّ الاستدلال بهذه الآية على نجاسة الخمر لا مجال له ، وإن استدلّ بها بعض القدماء كابن زهرة في الغنية ، (2) وقد تقدّم عبارته.

الثالث : الأخبار المرويّة عن أهل البيت علیه السلام : وهي العمدة في المقام ، وهي على طائفتين :

ص: 315


1- « القاموس المحيط » ج 2 ، ص 227 ( رجس ).
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 550.

إحداهما تدلّ على النجاسة.

والأخرى على الطهارة.

أمّا الطائفة الأولى :

فمنها : صحيحة عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل لحم الجري أو يشرب الخمر فيردّه أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟

قال علیه السلام : « لا يصلّى فيه حتّى يغسله » (1).

ومنها : ما رواه خيران الخادم قال : كتبت إلى الرجل علیه السلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه ، أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم :

صلّ فيه فإنّ اللّه إنما حرّم شربها ، وقال بعضهم : لا تصلّ فيه؟ فكتب علیه السلام : « لا تصل فيه فإنّه رجس » (2).

ومنها : ما عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن بعض من رواه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك » (3).

ومنها : رواية هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفقّاع؟ فقال :

ص: 316


1- « الكافي » ج 3 ، ص 405 ، باب الرجل يصلّي في الثوب ... ، ح 2 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 20. ص 361 ، ح 1494 ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان ، ح 26 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 393 ، ح 1498 ، باب الصلاة في الثوب الذي يعار لمن يشرب الخمر ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1054 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 405 ، باب الرجل يصلّي في الثوب ... ، ح 5 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 279 ، ح 819 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 106 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1055 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 4.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 405 ، باب الرجل يصلّي في الثوب ... ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 278 ، ح 818 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 105 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 189 ، ح 661 ، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1055 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 3.

« لا تشربه فإنّه خمر مجهول ، فإذا أصاب ثوبك فاغسله » (1).

ومنها : رواية أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث النبيذ قال : « ما يبل الميل ينجس حبّا من ماء يقولها ثلاثا » (2).

ومنها : رواية عمّار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا تصلّ في بيت فيه خمر ولا مسكر لأنّ الملائكة لا تدخله ، ولا تصلّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله » (3).

وهذه الرواية صريحة في أنّ النجاسة ليست مختصّة بالخمر على فرض أن يكون الخمر اسما لمسكر خاصّ ، ولا يشمل سائر المسكرات ، وذلك لعطفه علیه السلام كلمة مسكر على الخمر بأو.

ولا شكّ في أنّ الأمر بالغسل في جميع هذه الروايات ظاهر في الوجوب ، وأيضا لا شكّ في أنّ وجوب الغسل من اللوازم الشرعيّة للنجاسة ، فيكون دليلا على نجاسة الخمر.

فهذه الروايات كلّها تدلّ على نجاسة الخمر ، بل على نجاسة كلّ مسكر ، خصوصا رواية عمّار كما عرفت.

ومنها : رواية زكريّا بن آدم ، فقال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير؟ قال علیه السلام : « يهراق المرق أو يطعمه

ص: 317


1- « الكافي » ج 6 ، ص 423 ، باب الفقاع ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1056 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 5.
2- « الكافي » ج 6 ، ص 413 ، باب اضطر إلى الخمر للدواء ... ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2. ص 1056 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 278 ، ح 817 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 104 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1056 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 7.

أهل الذمّة أو الكلب واللحم اغسله وكله » إلى آخر الحديث (1).

والروايات التي تدلّ على نجاسة الخمر وكلّ مسكر كثير ، وعدّها بعضهم وأنهاها عشرين ، ولو كانت هذه الروايات هي وحدها لم يكن شكّ في نجاسة الخمر بل كلّ مسكر بالأصالة.

ولكن هناك روايات أخر أيضا كثيرة تدلّ على طهارتها :

منها : رواية أبي بكر الحضرمي قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أصاب ثوبي نبيذ أصلّي فيه؟ قال : « نعم ». قلت : قطرة من نبيذ قطر في حب أشرب منه؟ قال : « نعم ، إنّ أصل النبيذ حلال وإنّ أصل الخمر حرام » (2).

قال في الوسائل : حمله الشيخ رحمه اللّه على النبيذ الذي لا يسكر. أقول : الإنصاف أنّه حسن لا بأس به. (3)

ومنها : صحيحة ابن أبي سارة قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّ أصاب ثوبي شي ء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال علیه السلام : « لا بأس ، إنّ الثوب لا يسكر » (4).

ومنها : موثّقة ابن بكير ، قال : سأل رجل أبا عبد اللّه وأنا عنده عن المسكر

ص: 318


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 279 ، ح 820 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 107 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1056 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 8.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 279 ، ح 821 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 108 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 189 ، ح 663 ، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1056 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 9.
3- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1057 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ذيل ح 9.
4- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 280 ، ح 822 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 109 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 189 ، ح 664 ، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1057 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 10.

والنبيذ يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (1).

ومنها : صحيحة عليّ بن رئاب المرويّة عن قرب الإسناد ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي أغسله أو أصلّي فيه؟ قال علیه السلام :

« صلّ فيه ، إلاّ أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر ، إنّ اللّه تبارك وتعالى إنّما حرّم شربها » (2).

ومنها : رواية الحسين بن موسى الحنّاط قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يشرب الخمر ثمَّ يمجّه من فيه فيصيب ثوبي؟ قال علیه السلام : « لا بأس ». (3)

ومنها : رواية حسن بن أبي سارة قال : قلت لأبي عبد اللّه : إنّا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون ، فيمرّ ساقيهم ويصبّ على ثيابي الخمر؟ فقال : « لا بأس به ، إلاّ أن تشتهي أن تغسله لأثره » (4).

ومنها : رواية حفص الأعور قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : الدنّ يكون فيه الخمر ثمَّ يجفّف ويجعل فيه الخلّ؟ قال : « نعم » (5).

ومنها : مرسلة الصدوق ، قال : سئل أبو جعفر وأبو عبد اللّه علیهماالسلام فقيل لهما : إنّا نشتري ثيابا يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها ، أفنصلّي فيها قبل أن نغسلها؟

ص: 319


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 280 ، ح 823 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 110 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 190 ، ح 665 ، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1057 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 11.
2- « قرب الإسناد » ص 76 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1058 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 14.
3- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 280 ، ح 825 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 112 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 190 ، ح 667 ، باب الخمر يصيب الثوب والنبيذ المسكر ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1059 ، أبواب النجاسات ، باب 39 ، ح 2.
4- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 280 ، ح 824 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 111 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1057 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 12.
5- « الكافي » ج 6 ، ص 428 ، باب الخمر تجعل خلاّ ، ح 2 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 117 ، ح 503 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 238 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1074 ، أبواب النجاسات ، باب 51 ، ح 2.

فقالا : « نعم لا بأس ، إنّ اللّه حرّم أكله وشربه ولم يحرم لبسه ولمسه والصلاة فيه » (1).

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى علیه السلام أنّه سئل عن الرجل يمرّ في ماء المطر وقد صبّ فيه خمر فأصاب ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أن يغسل ثوبه؟ قال :

« لا يغسل ثوبه ولا رجله ، ويصلّي فيه ولا بأس ». (2)

ومنها : رواية عليّ الواسطي قال : دخلت الجويرية - وكانت تحت موسى بن عيسى - على أبي عبد اللّه علیه السلام وكانت صالحة ، فقالت : إنّي أتطيّب لزوجي فنجعل في المشطة التي أتمشط بها الخمر وأجعله في رأسي ، قال : « لا بأس » (3).

ولا شكّ في أنّ بين هاتين الطائفتين من الروايات تعارض مستقرّ مستحكم ، ولا يمكن الجمع بينهما عرفا ، وإن كان من الممكن الخدشة في دلالة بعض روايات هذه الطائفة الأخيرة الدالّة على الطهارة تركنا ذكرها لعدم خفائها على المتضلّع الخبير ، ولأنّه ذكر أغلبها الآخرون.

ولكن مع ذلك كلّه لا يمكن إنكار دلالة مجموعها على الطهارة ، ولا إنكار حجيتها ، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض.

ورجّح البعض أخبار النجاسة ؛ لمخالفتها مع فتوى ربيعة الرأي (4) الذي كان في زمان الصادق علیه السلام وذلك لحمل أخبار الطهارة على التقيّة لموافقتها مع فتوى ربيعة الذي كان يؤيّده سلطان الوقت ، وذلك لأنّ الفتوى المخالف لفتوى ربيعة من الإمام

ص: 320


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 248 ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب ، ح 751 ؛ « علل الشرائع » ص 357 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1057 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 13.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 8 ، باب المياه وطهرها ونجاستها ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 418 ، ح 1321 ، باب المياه وأحكامها ، ح 40 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 108 ، أبواب الماء المطلق ، باب 6 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 123 ، ح 530 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 265 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 304 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 37 ، ح 2.
4- انظر : « المجموع » ج 2 ، ص 563 ؛ « فتح العزيز » ج 1 ، ص 156 ؛ « تفسير القرطبي » ج 6 ، ص 288 ؛ « مغني المحتاج » ج 1 ، ص 77.

الصادق علیه السلام كان بعنوان أنّه إمام ومذهب مقابل سائر مذاهب المسلمين.

وهذا هو الذي كان يضرّ بسلاطين الوقت ، وكان الإمام الصادق علیه السلام كثيرا ما يأمر بإخفاء أمرهم ، وكان علیه السلام يخاف من ظهوره ؛ ولذلك ترى الأئمّة علیهم السلام كانوا يفتون طبق فتوى مفتي عصرهم وزمانهم لأجل هذه الجهة ، وإن كان رأي أغلب المخالفين لنا مخالفا للفقيه المعاصر معهم ، فحمل أخبار الطهارة على التقيّة مع أنّ أغلب المخالفين يفتون بالنجاسة ليس بعيدا عن الصواب كثيرا.

ولكن مع ذلك رفع اليد عن هذه الأخبار الكثيرة التي يطمئن الإنسان بصدورها إجماعا عن الإمام علیه السلام مع أنّ الطائفة الأخرى المعارضة لها موافقة مع أغلب المخالفين لنا لأجل الاحتمال المذكور ممّا لم تركن النفس إليه ، ولا تطمئن به.

ورجّح البعض أخبار النجاسة ؛ لأجل موافقتها مع المشهور الشهرة التي كادت أن تكون إجماعا.

وفيه : أنّ الشهرة التي من المرجّحات هي على الظاهر الشهرة الروائيّة ، وهي أن يكون نقل الرواية مشهورا بين أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه عليهم.

وأمّا الشهرة العمليّة الفتوائيّة تكون موجبة لجبر ضعف السند ، كما أنّ إعراض الأصحاب عنها يكون سببا لوهنه ، بل كلّما ازداد صحّة ازداد وهنا. وفيما نحن فيه كلتا الطائفتين مشهورتان من حيث الرواية ، ورواهما أصحاب الكتب المعتبرة وأرباب الجوامع العظام.

وأمّا مسألة الإعراض والفتوى على خلافها ، فلعلّه ليس من جهة عدم الاعتماد على سندها ، بل للتصرّفات في دلالتها ، أو لحملها على التقيّة كما تقدّم بيانه ، فمثل هذا الإعراض لا يوجب وهنها.

نعم هاهنا روايتان وردتا في مقام علاج التعارض بين هاتين الطائفتين ، وبأية واحدة يأخذ ويجب العمل بها

ص: 321

إحداهما رواية خيران الخادم التي تقدّم ذكرها (1) ، وهي أنّه قال : كتبت إلى الرجل علیه السلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه ، أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم صلّ فيه فإنّ اللّه حرّم شربها ، وقال بعضهم لا تصلّ فيه فكتب : « لا تصلّ فيه فإنّه رجس ».

ففي مقام الجواب عن السؤال عن العلاج بين الطائفتين المتعارضتين رجّح علیه السلام الطائفة الدالّة على النجاسة. ولا يمكن أن يقال إنّ هذه الرواية أيضا داخلة في الطائفة المتعارضة الدالّة على النجاسة ، لأنّ ورود هذه الرواية في العلاج بين الطائفتين بعد فرض وجودهما ، فتكون في الرتبة المتأخّرة عن وجودهما ، فلا يمكن أن تكون داخلة في إحداهما.

وكذلك صحيح علىّ بن مهزيار قال : قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن علیه السلام : جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر علیه السلام وأبي عبد اللّه علیه السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل أنّهما قالا : لا بأس بأن تصلّي فيه إنّما حرّم شربها ، وروى غير زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك ، فأعلمني ما آخذ به؟ فوقّع علیه السلام بخطّه وقرأته : « خذ بقول أبي عبد اللّه علیه السلام ». (2)

وهذه الرواية أيضا كالأولى صريحة في تقديم إحدى الطائفتين ، وهي الطائفة الدالّة على النجاسة ، على الأخرى فبملاحظة هاتين الروايتين يتعيّن الأخذ بأخبار النجاسة ، وترك الطائفة الأخرى وردّ علمها إلى أهلها ، أو حملها على التقيّة بما ذكرنا. والإنصاف أنّ مع هذا الاتّفاق من فقهاء الإسلام قاطبة إلاّ الشّاذ ممّن لا يعتدّ بخلافهم وهذه الروايات التي ذكرناها وأنّها صحاح واضح الدلالة على النجاسة ، وهاتين

ص: 322


1- تقدّم في ص 316 ، رقم (2).
2- « الكافي » ج 3 ، ص 407 ، باب الرجل يصلّي في الثوب ... ، ح 14. « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1055 ، أبواب النجاسات ، باب 38 ، ح 2.

الروايتين في مقام علاج التعارض بين الطائفتين ، لا يبقى شكّ للفقيه في نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة.

تتميم

وهو أنّه هذا المطهّر الطّبي ، أي المائع المعروف باسبرتو هل هو نجس - بعد الفراغ عن نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة - أم لا؟ فالبحث يكون فيه صغرويا وأنّه هل هو نوع من أنواع المسكر المائع بالأصالة أم لا؟

فبناء على هذا ليست هذه المسألة من المسائل الفقهيّة ، وليس معرفتها من وظيفة الفقيه بما هو فقيه ، بل لا بدّ وأن يرجع فيها إلى أهل الخبرة في هذا الفن.

نعم حكم الشكّ في أنّه هل هو من المائع المسكر بالأصالة أو ليس منه راجع إلى الفقيه ، ولا شكّ في أنّ في الشبهة الموضوعيّة لما هو النجس المرجع هو أصل الطهارة إن لم يكن دليل حاكم في البين ، وكذلك في الشبهة الحكميّة إذا كان منشأ الشكّ هو إجمال المفهوم الذي جعل موضوعا للنجاسة من جهة الشكّ في سعته وضيقه.

فإذا شككنا في هذا المائع المعروف والمطهّر الطبي المسمّى باسبرتو هل يطلق عليه المسكر المائع بالأصالة إطلاقا حقيقيّا بحيث لا يصح سلب هذا العنوان عنه ، وكان منشأ الشكّ عدم الإحاطة بحدود مفهوم المسكر المائع بالأصالة ، أي لم نتحقّق المفهوم العرفيّ من هذا العنوان أنّه هل هو خصوص ما يكون صالحا للشرب فعلا من دون احتياجه إلى علاج ، وإن كان ذلك العلاج مزجه بالماء ، فلا يطلق على هذا المائع المعروف إطلاقا حقيقيّا ، أو أعمّ منه وممّا يصير صالحا للشرب والإسكار ، وإن كان صلاحيّته للأمرين - أي الشرب والإسكار - يحتاج إلى العلاج ، وإن كان بمزجه بالماء. فإذا حصل مثل هذا الشكّ ، ولم يقم دليل على أحد الطرفين ، فالمرجع هي أصالة الطهارة. وحيث أنّ ظاهر أدلّة نجاسة المسكر المائع بالأصالة هو كون المائع بالفعل

ص: 323

صالحا للشرب وموجبا للإسكار من دون الاحتياج إلى علاج ولو بمزجه بالماء ، فيكون مقتضى ظاهر الأدلّة عدم نجاسته من هذه الجهة ، وقد عرفت أنّه لو شككنا أيضا مقتضى الأصل هي الطهارة.

وأمّا إنكار إجمال المفهوم وأنّه عبارة عمّا يكون صالحا للشرب والإسكار ، وإن كان بعلاج ، فالإنصاف أنّه مكابرة ، وقد حكى لي بعض الثقات من أهل الفنّ أنّ هذا المائع الذي يسمّى الآن بأسبرتو ويستعمله الأطبّاء لتطهير الإبر وأدوات وآلات تطعيم الأدوية وتزريقها في بدن المرضي ، ليس ممّا يشرب ، وإنّما هو يعدّ من جملة السموم الخفيفة.

نعم فيه قوّة الإسكار بالمرتبة الشديدة ، وبمزجه بالماء تخفّ عاديته ، وربما يكون صالحا لشرب بعض مدمني الخمور ولكن بعد مزجه بالماء ، وقبل المزج ليس صالحا للشرب لأيّ شخص كان.

وأنت خبير بأنّ مدمني الخمور والمكثرين لشرب ألكل لمدّة طويلة بالأخرة يتسمّم بدنهم ، فعدم تأثيره فيهم من هذه الجهة ، لا أنّه يصير من المشروبات العادية كسائر المسكرات التي يشربها شاربوا الخمر والمسكرات.

وقد حكى لي أيضا أنّ بعض المفرطين في شرب الأفيون وبلعها بالأخرة انجرّ أمره إلى أن حبس حيّة سامّة في جعبة وكان يعرض نفسه للدغها كي ينوب عن سمّ الأفيون الذي تعوّد بشربه ، وكان لم يجده لعوز المال ، فمثل هذه الموارد الشاذّة لا توجب صدق المسكر على هذا المائع المعروف باسبرتو.

مضافا إلى أنّه لو كان من مصاديق المسكر حقيقة تكون الأدلّة منصرفة عنه ، لأنّ الظاهر والمتفاهم العرفيّ من قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1) هو المسكر المعروف الذي كان المتعارف شربه

ص: 324


1- المائدة (5) : 90.

بين شرّاب الخمور ، وأمّا مثل هذا المائع الذي لا يشربه أحد إذ ليس صالحا للشرب عندهم ، فلفظ الخمر منصرف عنه ، وإن قلنا بأنّ الخمر اسم لكلّ مسكر.

وأمّا عموم التعليل بأنّ حرمة الخمر ليست لاسمها ، بل لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر ، فالظاهر أنّه تعليل للحرمة وتنزيل لما كان عاقبته الخمر منزلة الخمر في خصوص الحرمة ، لا في جميع الآثار حتّى النجاسة.

هذا مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ هذا التعليل راجع إلى المائعات التي يتعارف شربها بين شرّاب المسكرات ، وأمّا المائع الذي لا يشربه أحد فخارج عن موضوع الكلام ، فهو علیه السلام بصدد بيان أنّ اسم الخمر لا خصوصيّة له في هذا الحكم ، بل كلّ مائع من هذه الأشربة التي يشربونها إذا كان مسكرا يكون مثل الخمر حراما ، وإن لم يسمّ بالخمر ، فمثل الفقّاع والنبيذ المسكرين يكونان بحكم الخمر ، وإن لم يطلق عليهما لفظ الخمر.

وخلاصة الكلام : أنّ الفقيه المتأمّل ربما يقطع بخروج مثل هذا المائع عن موضوع أدلّة نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة ، ولا أقلّ من الشكّ ، فلا تشمله الإطلاقات والعمومات التي تدلّ على نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة ، فيكون مجرى لأصالة الطهارة. واللّه هو العالم بحقائق الأحكام وجميع الأمور. عصمنا اللّه عن الخطاء والزلل.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 325

ص: 326

55 - قاعدة كلّ كافر نجس كتابيّا كان أو غيره

اشارة

ص: 327

ص: 328

قاعدة كلّ كافر نجس كتابيّا كان أو غيره

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « كلّ كافر نجس ».

فيها جهات من البحث.

الجهة الأولى : في بيان المراد منها

أقول : الكافر على أقسام ، ويجمعها عدم التصديق بنبوّة نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله أو إنكار شي ء ضروريّ الثبوت في دينه من العقائد الحقّة أو الأحكام الشرعيّة ، فمن أنكر وجوب الصلاة ، أو وجوب الزكاة ، أو وجوب الحجّ بعد اجتماع شرائط وجوب هذه الأمور فهو كافر.

فالقسم الأوّل : من الكافر هو الذي ينكر وجود صانع وخالق للعالم ، ويعتقد بأنّ مادّة هذا العالم المادّي قديم بالذات ، وليس وجودها مسبوقا بالعدم الواقعي المقابل للوجود ، فليست حادثة كي يحتاج إلى العلّة التي توجدها.

وهؤلاء هم الطبيعيّون الذين يزعمون أنّ الأنواع والأشخاص الموجودة من هذا العالم المادّي من اختلاط الموادّ الأصليّة والذرّات القديمة بعضها ببعض وأفاعليها وانفعالاتها ، وهؤلاءهم أكفر الكفّار.

القسم الثاني : المنكرون للتوحيد ، وهم المشركون وهم أقسام كثيرة :

فمنهم من ينكر توحيد الذات الأحد القديم ويقول بأصلين قديمين بالذات أو

ص: 329

أكثر ، وربما ينسب هذه العقيدة إلى المجوس القائلين بمبدئين قديمين : النور والظلمة ، أو بقولهم يزدان وأهرمن ، ولكن الظاهر أنّهم لا يقولون بمبدئين قديمين بالذات ، وإنّما ينكرون التوحيد في مقام الفاعليّة لا في مقام الذات ، ولتفصيل المسألة مقام آخر.

ومنهم من ينكر التوحيد في مقام الفاعليّة ، ويرون المؤثّر في الحوادث والموجودات غير اللّه أيضا. وهذا القسم من المشركين كثيرون ، وهؤلاء عبدة الأصنام التي ينحتونها هم أنفسهم أو يصنعونها من أحد الفلزّات ، أو عبدة الأجرام السماويّة كالشمس والقمر وغيرهما ، أو غير ذلك من النباتات والجمادات.

وكان مشركو العرب وأهل مكة من هذا القسم الذين ابتلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهم ، بل غالب الأنبياء العظام سلام اللّه عليهم كموسى وإبراهيم وغيرهما ابتلوا بهذا القسم من المشركين ، وليس مقامنا مقام شرح الأديان وتفصيل المذاهب.

القسم الثالث : الذين ينكرون الرسالة ، إمّا جميع الأنبياء حيث يقولون بكفاية العقل الذي خلقه اللّه لعباده وجعله رسولا باطنيّا ، وهو يكفي في لزوم الاجتناب عن ارتكاب القبائح وما فيها من المفاسد ، ولزوم الارتكاب لما فيها المحاسن والمصالح ، وإمّا ينكرون نبوّة بعض الأنبياء الذين هم أولوا العزم ، بل كلّ نبيّ في عصره دون بعض ، وذلك كالكتابيّين بعد ظهور نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وبعثته.

القسم الرابع : هم الذين ينكرون ضروريّا من ضروريات الدين ، سواء كان ضروريّا في جميع الأديان الحقّة كالمعاد الجسماني ، أو كان ضروريّا في خصوص دين الإسلام كوجوب الصلاة والزكاة ، وحرمة شرب الخمر والزنا واللواط والسرقة ، وغيرها من الضروريات.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه من أوضح مصاديق منكر الضروريّ من يقول بوجود نبيّ بعد نبيّنا خاتم النبيّين محمد صلی اللّه علیه و آله فلا شكّ في كفر من يدّعي النبوّة ، أو يعتقد نبوة شخص بعد بعثة خاتم الأنبياء صلی اللّه علیه و آله فهذه الفرقة الضالّة الذين يدّعون مثل هذه المقالة في عصرنا لا شكّ في كفرهم.

ص: 330

وأمّا المجسّمة والغلاة والخوارج والنواصب سنتكلّم عنهم إن شاء اللّه في خاتمة هذه القاعدة.

وأمّا الكتابي فهو الذي يعتقد ويؤمن بكتاب منزل من السماء على نبيّ من الأنبياء ممّا عدا القرآن الكريم ، لأنّ المعتقد والمؤمن بالقرآن ، وأنّه منزّل من السماء على رسول اللّه محمّد صلی اللّه علیه و آله ليس بكافر ، إلاّ أن ينكر ضروريّا من ضروريّات الدين.

وإذا تبيّن ما ذكرنا فالمراد من هذه القاعدة نجاسة كلّ قسم من الأقسام الأربعة المذكورة.

الجهة الثانية : في بيان أقوال الفقهاء في هذه المسألة والقاعدة

فنقول : المشهور عند الإماميّة هو القول بنجاسة الكفّار مطلقا ، ذميّا كانوا أو حربيّا ، كتابيّا أو غير كتابي ، بل ادّعى الإجماع عليها جمع من الفقهاء المتقدّمين ، كما في الغنية. (1) والناصريّات (2) والانتصار (3) والسرائر (4) وغيرهم ، بل ادّعى الشيخ في التهذيب (5) إجماع الفقهاء قاطبة من الإماميّة ومن مخالفيهم.

ولكن الظاهر أنّ المشهور بين المخالفين هو القول بطهارتهم حتّى أنّه في الفقه على المذاهب الأربعة (6) يدّعي طهارتهم حيّا وميّتا ، ويستدلّ على ذلك بقوله تعالى ( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) (7) ومن تكريمهم طهارة أبدانهم حيّا وميّتا. ولم ينقل قولا بالنجاسة من

ص: 331


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 551.
2- « الناصريات » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 180.
3- « الانتصار » ص 10.
4- « السرائر » ج 1 ، ص 73.
5- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 223.
6- « الفقه على المذاهب الأربعة » ح 1 ، ص 6.
7- الإسراء (17) : 70.

أحد المذاهب الأربعة.

ومقابل المشهور أو المجمع عليه قول شاذّ من بعض الإماميّة بطهارة خصوص الكتابيّ منهم. ونسب هذا القول من القدماء إلى ابن الجنيد (1) في مختصره ، وأنكر صاحب الجواهر (2) صراحة كلامه في ذلك ، ومع ذلك طعن عليه بأنّه قائل بالعمل بالقياس ، وأنّ أقواله مرفوضة عند الفقهاء لذلك.

وعلى كلّ حال المتتبّع في الفقه يحصل عنده الشهرة المحقّقة من أصحابنا الإماميّة على نجاسة الكفّار مطلقا وإن كان كتابيّا ، كما أنّ المشهور بين المخالفين خلاف ذلك.

الجهة الثالثة : في بيان الأدلّة الدالّة على هذه القاعدة ، وشرحها وكيفيّة دلالتها

اشارة

الأوّل : الإجماع. وقد ادّعاه جمع كثير ، وقد تقدّم ذكر بعضهم ، والعبارة المنقولة عن الوحيد البهبهاني قدس سره (3) أنّ الحكم بنجاسة الكفّار وإن كان كتابيّا من ضروريّات المذهب وشعار الشيعة يعرفه المخالفون لهم عنهم ، رجالهم ونسائهم بل صبيانهم.

قال في الجواهر بعد أن حكى كلام القديمين ابن الجنيد وابن عقيل ، وأنكر ظهور كلامهما في طهارة أهل الكتاب : فلا خلاف حينئذ يعتدّ به بيننا في الحكم المزبور ، بل لعلّه من ضروريّات مذهبنا. ولقد أجاد الأستاذ الأكبر بقوله : إنّ ذلك شعار الشيعة يعرفه منهم علماء العامّة وعوامهم ونسائهم وصبيانهم ، بل وأهل الكتاب (4).

والإنصاف : أنّ اتّفاق فقهاء الشيعة الإماميّة الاثنى عشريّة على هذا الحكم ممّا لا يمكن أن ينكر ، ومخالفة شاذّ من المتأخّرين منهم لا يضرّ بهذا الإجماع والاتّفاق. اللّهمّ

ص: 332


1- نقله عنه في « كشف اللثام » ج 1 ، ص 46.
2- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 42.
3- نقله عنه في « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 42.
4- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 42.

إلاّ أن يقال : إنّ اعتماد المتّفقين في هذا الحكم على المدارك الآتية فليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي نقول بحجيته.

الثاني : قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة على نجاسة الكفّار وتقريره : أمّا بالنسبة إلى المشركين ، أي عبدة الأصنام والثنويّة فواضح لا يحتاج إلى البيان.

وأمّا بالنسبة إلى المنكرين لأصل الألوهيّة الذين لا يقولون بوجود خالق للعالم فبالأولويّة القطعيّة ، لأنّ منشأ هذه النجاسة هو خبث النفس ودناءتها ، ولا شكّ أنّ مثال هذا المعنى في المادّيين المنكرين لوجود الصانع الحكيم ثبوته بنحو أشدّ ، لأنّ الخباثة والذّناءة في نفوسهم أزيد وآكد.

وأمّا بالنسبة إلى أهل الكتاب : أمّا المجوس على القول بأنّهم منه فواضح ، لأنّهم الثنويّة القائلون بمبدئين ، ويعبّرون تارة بالنور والظلمة ، وأخرى بيزدان الذي هو مبدء الخيرات عندهم ، وأهرمن الذي هو مبدء الشرور باعتقادهم.

وأمّا بالنسبة إلى اليهود والنصارى فلإطلاق المشرك عليهم في الكتاب العزيز في قوله تعالى ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) إلى قوله تعالى شأنه ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (2) فنسب اليهود والنصارى إلى الشرك بقوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) .

وأشكل على الاستدلال بهذه الآية بوجوه :

الأوّل : أنّ النجس - بفتح الجيم - مصدر ، ولا يحمل المصدر على الذات إلاّ بتقدير ذو ، فيكون معنى الآية بناء على هذا أنّ المشركين ذوو نجاسة. ومن هذا لا يستفاد أنّها

ص: 333


1- التوبة (9) : 28.
2- التوبة (9) : 30 - 31.

نجاسات ذاتيّة ، بل يصدق عليهم هذا العنوان ، وإن كانت نجاستهم عرضيّة.

وفيه : أنّ حمل المصدر على الذات باعتبار المبالغة وادّعاء أنّه من مصاديقه أظهر من التقدير حسب المتفاهم العرفي من أمثال هذه التراكيب.

وقد يقال في الجواب عن هذا الإشكال بأنّ النجس - بفتح الجيم - كما يصحّ أن يكون مصدرا ، كذلك يصحّ أن يكون صفة ، لأنّ الصفة المشبّهة كما أنّها من الثلاثي اللازم على وزن فعل - بكسر العين - كذلك تأتي على وزن فعل - بفتح العين - كحسن ، وصرّح في القاموس بذلك في هذه المادّة ، وقال : النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد : ضدّ الطاهر (1).

وفيه : أنّ النجس - بفتح الجيم - وإن كان يأتي صفة كما أنّه يصحّ مصدرا فيكون مشتركا بين المصدر والصفة ، ولكن لا يمكن أن يكون هاهنا صفة ، لعدم مطابقة الخبر مع المبتدا في الإفراد والجمع ، مع أنّ الخبر صفة.

وهذا الإشكال لا يرد إن كان مصدرا لأنّ المطابقة في الإفراد والجمع ليس شرطا إذا كان الخبر مصدرا ، فيقال : شهود عدل ، ولا يصحّ أن يقال : شهود عادل.

ولا يخفى أنّه لو كان النجس مصدرا وكان حمله على المشركين من باب المبالغة ، فلا يناسب النجاسة العرضيّة ويكون ظاهرا في الذاتيّة ، فالحقّ ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (2) في هذا المقام ، وهو أنّ النجس إمّا مصدر وإمّا صفة ، وأيّاما كان يكون ظاهرا في نجاستهم الذاتيّة.

الثاني : أنّ الدليل على فرض تماميّته أخصّ من المدّعى ، لأنّ المدّعى نجاسة كلّ كافر ، والدليل لا يثبت إلاّ نجاسة خصوص المشرك منهم.

وفيه : أنّه قد تقدّم شمول الآية للمنكرين لأصل الألوهيّة بالأولويّة ، ولأهل

ص: 334


1- « القاموس المحيط » ج 20 ، ص 262 ( نجس )
2- « كتاب الطهارة » ص 308.

الكتاب أي اليهود والنصارى والمجوس أيضا - بناء على أنّهم أيضا من أهل الكتاب - بالعموم والشمول لإطلاق المشرك على اليهود والنصارى في الكتاب العزيز.

وأمّا المجوس فهم المشركون حقيقة من دون عناية وتجوّز في البين ، وأمّا في غيرهم كالمنكرين للضروريّات مثلا فبعدم القول بالفصل ، لعدم الخلاف في نجاسة الكفّار إلاّ في الكتابيّ. وسنتكلّم عنهم إن شاء اللّه في خاتمة هذا المبحث.

الثالث : أنّ المراد بالنجس ليس هو المعنى المصطلح بين الفقهاء الذي هو أحد الأحكام الشرعيّة الوضعيّة ، وهو مقابل الطهارة الشرعيّة التي هي أيضا أحد الأحكام الوضعيّة ، بل المراد هو المعنى الذي يفهمه العرف من هذه اللفظة ، إذ الخطابات الشرعيّة على طريقة المحاورات العرفيّة ، إذ لم يخترع طريقا خاصّا لتفهيم المكلّفين ، فإن كان في مورد إرادته من لفظ غير ما يفهمه العرف فعليه البيان ، ولا شكّ أنّ معنى العرفي للفظ النجس هي القذارة ، فلا بدّ وأن يحمل على قذارة النفس وخباثتها لا قذارة البدن ، لأنّه ليس في أبدانهم قذارة أزيد ممّا في أبدان المسلمين ، بل حالهم من هذه الجهة مع المسلمين سواء ، فيكون أجنبيّا عن مورد البحث.

وفيه : أنّ هذا البيان يجري في ما ورد في سائر النجاسات كالكلب والخمر والميتة وغيرها ، ومع ذلك لم يتردّد أحد من الفقهاء في حمل هذه الكلمة على المعنى الشرعيّ ، فقوله علیه السلام : « الكلب رجس نجس » (1) لم يحمله أحد إلاّ على النجاسة الشرعيّة الاعتباريّة.

والسرّ في ذلك أنّ الشارع في مقام بيان أحكامه ، ولا شغل له بالقذارات العرفيّة إلاّ يكون موضوعا لحكم شرعيّ ، فإذا كانت النجاسة عنده أمر اعتبره في عالم التشريع ، فلا بدّ وأن يحمل اللفظ عليه إلاّ مع بيان على عدمه.

ص: 335


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 225 ، ح 646 ، باب المياه وأحكامها ، ح 29 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 19 ، ح 40 ، باب حكم الماء إذا ولغ فيه الكلب ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1015 ، أبواب النجاسات ، باب 12 ، ح 2.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ وقت نزول هذه الآية لم يشرّع الطهارة والنجاسة بعد.

ولكن هذا الاحتمال لا مجال له ، لأنّ هذه الآية في سورة البراءة بعد هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وكان ذلك الوقت الطهارة والنجاسة الشرعيين معروفتان عند المسلمين.

الرابع : أنّ المراد بالمشركين هم المشركون في ذلك الوقت ، أي مكّة وسائر القبائل العربيّة الذين يأتون إلى الحجّ ويدخلون المسجد الحرام للطواف حول الكعبة ، وأولئك كلّهم كانوا عبدة الأصنام ، والكتابيّون لا يحجّون في ذلك الوقت وإلى الآن هم كذلك ، فعلى تقدير كون النجاسة في الآية بالمعنى الشرعي لا يشمل غيرهم من سائر فرق الكفّار.

وفيه : أنّ العبرة بعموم الكلام لا بخصوصيّة المورد ، فإذا كان « المشركون » له العموم من جهة ظهور الجمع المعرف باللاّم في العموم لجميع الأفراد التي يصلح للانطباق عليها ، فورودها في مورد قسم خاصّ من المشركين لا يضرّ بالاستدلال بعمومها.

فالإنصاف : أنّ هذه الإشكالات لا يرد شي ء منها على الاستدلال بالآية الشريفة ، فالآية تدلّ على نجاسة المشركين مطلقا ، كتابيّا كانوا أم غيرهم ، وعلى غيرهم بعدم القول بالفصل ، غاية الأمر نجاسة ما عدا المشركين ليس مدلولا للآية ، وإنّما يثبت بأمر خارج عن الآية وهو القول بعدم الفصل.

والعجب من المحقّق الفقيه الهمداني أنّه قال في مصباح الفقيه : إنّ المتبادر من الآية بشهادة سياقها مشركو أهل مكّة التي أنزلت البراءة من اللّه ورسوله منهم ومنعوا من قرب المسجد الحرام (1).

مع أنّ الآية في مشركي خارج مكّة ، لقوله تعالى بعد هذه الجملة : ( وَإِنْ خِفْتُمْ

ص: 336


1- « مصباح الفقيه » ج 1 ، ص 558.

عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) أي : خفتم للفقر والنقص في معاشكم من ناحية عدم إتيانهم إلى الحجّ وإلى مكّة ، وعدم انتفاعكم بما يأتون به من الأجناس والأموال التي كانت معهم للبيع والشراء معكم ، وكان أهل مكّة خافوا انقطاع المتاجر عنهم بمنع المشركين عن دخول الحرم ، فوعدهم اللّه تعالى بأنّه جلّ شأنه سوف يغنيهم من فضله ، وهو تبارك وتعالى وفى بوعده ، وكان يحمل الميرة إليهم من أنحاء العالم.

وخلاصة الكلام في هذا المقام : أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ اللّه تبارك وتعالى منع المشركين عن دخول المسجد الحرام لأنّهم أنجاس ، وحيث أنّ كلمة « المشركون » جمع معرّف باللاّم فهو عامّ يشمل كلّ من ينطبق عليه هذا العنوان ، فالآية ظاهرة في أنّ كلّ مشرك نجس ، الموجودون في ذلك الزمان أو من يوجد فيما بعده إلى قيام القيامة وبقاء هذا الدين.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : أنّ قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (2) من قبيل القضايا الخارجيّة والحكم فيها يكون على الأفراد الموجودة في ذلك العصر وفي ذلك القطر ، فلا يشمل غيرهم.

ولكن ما أظنّ أحدا يرتضي بهذه المقالة.

ولا شكّ أنّ ظاهر هذه الجملة - أي قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) - كبرى كلّية يعلّل بها عدم جواز دخول مشركي القبائل في الحرم ، ووجوب منعهم ، فالتعليل عامّ يشمل المشركين الذين كانوا موجودين في ذلك الزمان ، ومن لم يكن ذلك الوقت موجودا ، والذين كانوا يحجّون كمشركي العرب في ذلك الزمان ، أو لا يحجّون كسائر المشركين وكاليهود والنصارى.

فالعمدة هو شمول لفظ « المشرك » لليهود والنصارى ، وعدم شموله. وقد تقدّم أنّه

ص: 337


1- التوبة (9) : 28.
2- التوبة (9) : 28.

أطلق المشرك في الكتاب العزيز على اليهود والنصارى في بعض الآيات ، وظاهر قوله تعالى ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ ) (1) أنّ النصارى مشركون حقيقة ، لأنّهم كانوا يعتقدون بألوهيّة عيسى وأمّه ، وكانوا يعبدون عيسى.

والشاهد على ذلك أنّه لمّا نزل قوله تعالى ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) (2) قال عبد اللّه ابن الزبعري : أما واللّه لو وجدت محمّدا لخصمته ، سلوا محمّدا أكلّ من عبد من دون اللّه في جهنّم مع من عده ، ونحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيزا ، والنصارى تعبد عيسى بن مريم. فلمّا وصل هذا الكلام إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ما أجهله بلسان قومه ، فإنّ « ما » لغير ذوي العقول ، فلا يشمل هؤلاء » (3).

وأجيب عن إشكالهم بوجه آخر ، لسنا في مقام الجواب عن هذا الإيراد وجوابه ، بل مقصودنا أنّ هؤلاء مشركون حقيقة في العبادة ، بل في الخلق والفاعلية. فاليهود والنصارى الذين نسمّيهم بأهل الكتاب شركهم من سنخ شرك مشركي أهل مكّة ، كما كان يظهر من كلام ابن الزبعري. وأمّا المجوس فكونهم من المشركين أوضح حتّى يعرفون بالثنويّة القائلين بإله الخير ويسمّونه يزدان ، وإله الشرّ ويسمونه بأهرمن.

وأمّا النصارى ، فإلى اليوم يقولون بألوهيّة المسيح ابن مريم علیهماالسلام ، فهذا كتاب « المنجد في اللغة » تأليف معلوف أحد الآباء العيسويين يقول في كلمة المسيح : « الإله المتجسّد » (4) فلا ينبغي أن يشكّ في شرك الطوائف الثلاث : اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ولا في دلالة قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) على نجاستهم.

ص: 338


1- المائدة (5) : 116.
2- الأنبياء (21) : 98.
3- انظر : « الكشّاف » ج 3 ، ص 136 ، « أسباب النزول » للواحدي ، ص 175 ، « الدّر المنثور » ج 5 ، ص 679.
4- « المنجد في الإعلام » ص 750 ( يسوع ).

الثالث : من الأدلّة الدالّة على نجاستهم الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار علیه السلام :

منها : موثّقة سعيد الأعرج أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن سؤر اليهودي والنصراني : أيؤكل أو يشرب؟ قال علیه السلام : « لا » (1).

منها : ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر علیه السلام في مصافحة المسلم لليهودي والنصراني؟ قال علیه السلام : « من وراء الثياب ، فإن صافحك بيده فاغسل يدك » (2).

منها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن آنية أهل الذمّة والمجوس؟ فقال : « لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر » (3).

منها : رواية الكاهلي قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي يدعونه إلى طعامهم؟ فقال : « أمّا أنا فلا أو أكل المجوسي ، وأكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم » (4).

منها : ما عن عليّ بن جعفر عن أخيه علیه السلام قال : سألته عن مؤاكلة المجوس في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد وأصافحه؟ فقال : « لا ». (5)

ص: 339


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 347 ، باب الذبائح والمآكل ، ح 4220 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 384 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 4 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 2 ، ص 650 ، باب التسليم على أهل الملل ، ح 10 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 262 ، ح 764 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 51 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 262 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 6 ، ص 264 ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 88 ، ح 372 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 107 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1018 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 1 ، وج 16 ، ص 475 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 54 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 6 ، ص 263 ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1018 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 2.
5- « الكافي » ج 6 ، ص 264 ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1019 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 6.

منها : صحيحة على بن جعفر علیه السلام عن أخيه موسى علیه السلام قال : سألته عن فراش اليهودي والنصراني أينام عليه؟ قال علیه السلام « لا بأس ، ولا يصلّى في ثيابهما ».

وقال علیه السلام : « لا يأكل المسلم مع المجوسيّ في قصعة واحدة ، ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ، ولا يصافحه » (1).

قال : وسألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق ليس يدري لمن كان ، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال علیه السلام : « إن اشتراه من مسلم فليغسل ثمَّ يصلّي فيه ، وإن اشتراه من نصرانيّ فلا يصلّي فيه حتّى يغسله ».

أقول : هذه الرّوايات ظاهرة في نجاسة أهل الكتاب.

أمّا الأولى - أي موثّقة سعيد الأعرج - فلأنّ ظاهر السؤال والجواب عن سؤر اليهودي والنصراني جواز أكله وشربه ، وعدم جوازه من حيث نجاسة ذلك السؤر وعدم نجاسته ، إذ ليس هناك جهة أخرى توجب الشكّ في الجواز كي يسأل عنه.

إن قلت : إنّهم حيث يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، فمن الممكن أن تكون جهة السؤال هو احتمال أن يكون ذلك

السؤر عن بقيّة لحم الخنزير في المأكول ، ومن بقيّة الخمر في المشروب.

نقول أوّلا : إنّ هذه شبهة موضوعيّة تجري فيها أصالة الحلّ ، ولم يدّع أحد معارضة هذه الرواية لقاعدة الحلّ.

وثانيا : جوابه علیه السلام ب- « لا » مطلق وينفي جواز أكل سؤرهم وكذلك شربه مطلقا ، سواء كان في مورد ذلك الاحتمال أو لا يكون.

وثالثا : كون السؤال والجواب في مورد هذا الاحتمال خلاف الظاهر ، إذ منشأ هذه الشبهة أمور خارجيّة بعد معلوميّة حكم لحم الخنزير ، وحكم الخمر ، ومعلوميّة حكم

ص: 340


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 263 ، ح 766 ، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1020 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 10.

الشبهة الموضوعيّة التحريميّة.

وأمّا كون جهة السؤال احتمال تنجّسهم بالنجاسات الخارجيّة لعدم اجتنابهم عنها وكثرة استعمالهم لحم الخنزير والخمر وسائر المسكرات المائعة بالأصالة.

ففيه : أنّ هذا الاحتمال لا يكون مختصا بهم ، بل يأتي في حقّ كلّ من لا يجتنب عن النجاسات جميعا أو بعضها ، سواء كان عدم اجتنابه عنها عن قلّة المبالاة في الدين ، أو من جهة عدم القول بنجاسته في مذهبه ، وذلك لاختلاف الفتاوى في المذاهب في بعض النجاسات.

هذا ، مضافا إلى أنّ ظاهر الرواية هو السؤال عن سؤرهما من حيث كونهما يهوديّا ونصرانيّا ، والجواب أيضا كذلك ، فلا طريق ولا مجال لإنكار ظهور الرواية في نجاسة الكتابي.

وأمّا الرواية الثانية ، فقوله علیه السلام : « فإن صافحك بيده فاغسل يدك ، فلا ينبغي أن يشكّ في ظهورها في نجاستهم ».

وأمّا احتمال أن يكون الأمر بالغسل من جهة النجاسة العرضيّة ، فقد رفعناه من أنّ الظاهر وجوب الغسل - بعد الفراغ من أنّه في صورة رطوبة إحدى اليدين أو كلتيهما من جهة ارتكاز اعتبار الرطوبة في أذهان العرف في مقام تأثير النجس أو تأثّر المتنجّس - كاشف عن تنجّسه بواسطة المصافحة بيده المرطوبة أو يدك المرطوبة ، فيدلّ على نجاسة الكافر ولم تكن نجاسة عرضيّة في البين.

وأمّا الرواية الثالثة - أي صحيحة محمّد بن مسلم - فظاهرها أنّ كلّ واحدة من الجمل الثلاث التي ذكرها جملة مستقلّة في قبال الآخر ، فقوله علیه السلام : « لا تأكلوا في آنيتهم » مطلق ، بل المراد هو الذي لا يشرب فيه الخمر ، وأيضا ليس من طعامهم الذي يطبخونه ، فليس نجاسته بواسطة شرب الخمر أو وجود لحم الخنزير فيه ، بل المنع من جهة نجاستهم التي سرت إلى الكأس والآنية التي لهم ويستعملونها.

ص: 341

وأمّا الرواية الرابعة - أي رواية الكاهلي - فقوله علیه السلام : « أمّا أنا فلا أواكل المجوسيّ » وإن كان من الممكن أن يكون تنزيها منه علیه السلام لا من جهة حرمته فلا يدلّ على حرمة المؤاكلة معهم كي يستكشف منها نجاستهم ، لكن قوله علیه السلام فيما بعد ذلك « وأكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم » فيه إشعار بأنّ الحكم الواقعي وإن كان هي الحرمة ، ولكن أنا أكره إظهاره لأجل إنّكم تصنعون خلافه في بلادكم ، فيشير بهذه العبارة إلى عدم التحريم ، وكراهته لأجل الخوف والتقيّة ، وعلى كلّ حال إن لم تكن ظاهرة في ما قلنا ليست ظاهرة في طهارتهم كما توهّم.

وأمّا الخامسة - أي صحيحة عليّ بن جعفر - فقوله علیه السلام : « لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة » فلها كمال الظهور في نجاسة المجوسي ، ولكن الاستدلال بها موقوف على عدم القول بالفصل بين المجوسي وبين اليهودي والنصراني ، وعلى هذا النمط سياق روايته الأخرى.

ثمَّ إنّ بعضهم استدلّ على نجاسة أهل الكتاب بقوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (1) باعتبار أنّ المراد من الرجس هي النجاسة ، ولا شكّ أنّ المراد من الذين لا يؤمنون في الكتاب العزيز هم مطلق الكفّار الذين لم يؤمنوا بالنبي وأنكروا رسالته ونبوّته ، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم ، فظاهر الآية أنّ اللّه تبارك وتعالى جعل النجاسة على الكفّار ، فهم نجسون.

ولكن يظهر من تفسير الآية - كما ذكره المفسرون - أنّ المراد من الرجس هنا العذاب والعقاب ، وعلى كلّ حال إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، لانهدام الظهور.

هذا ، مضافا إلى عدم ظهور لفظة الرجس في حدّ نفسها في النجاسة الخبثيّة.

ثمَّ إنّه قد استدلّ لنجاستهم بروايات أخر كثيرة متفرّقة في أبواب الفقه ، كصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى علیه السلام قال : سألته عن النصراني يغتسل مع المسلم في

ص: 342


1- الأنعام (6) : 125.

الحمّام فقال : « إذا علم أنّه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمام ، إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمَّ يغتسل » وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال علیه السلام : « لا ، إلاّ أن يضطرّ إليه ». (1)

وحمل الشيخ (2) الاضطرار هاهنا على التقيّة ، لأن لا يقال : إنّ الاضطرار لا يوجب جواز الوضوء بالماء النجس ، بل ينتقل إلى التيمّم ، ولا شكّ في أنّ ظاهر هذه الرواية نجاسة أهل الكتاب.

وكمفهوم رواية سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن طعام أهل الكتاب ما يحلّ منه؟ قال علیه السلام : « الحبوب » (3) وأمثال ذلك ممّا يدلّ على لزوم التجنّب عنهم ، وعدم الأكل من طعامهم ، والركون إليهم من الأخبار الكثيرة المتفرّقة في أبواب الفقه ، فلا يحتاج إلى التطويل وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

وخلاصة الكلام : أنّ الأخبار المذكورة وإن كان من الممكن المناقشة في ظهور بعضها في نجاستهم ، ولكن لا يمكن إنكار ظهور بعضها الآخر.

نعم هناك أخبار أخر ظاهرة في عدم نجاستهم وجواز الأكل من طعامهم وفي آنيتهم ربما تكون أظهر دلالة من الأخبار المتقدّمة ، وأكثر عددا منها. وبعبارة أخرى : هي على الطهارة أدلّ من دلالة ما تقدّم على النّجاسة.

منها : صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال : « لا تأكله » ثمَّ سكت هنيئة ثمَّ قال : « لا تأكله » ، ثمَّ سكت هنيئة

ص: 343


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 223 ، ح 640 ، باب المياه وأحكامها ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1020 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 9.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 223 ، ذيل ح 640.
3- « الكافي » ج 6 ، ص 263 ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 88 ، ح 375 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 110 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 381 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 51 ، ح 2.

ثمَّ قال : « لا تأكله ولا تتركه تقول إنّه حرام ، ولكن تتركه تنزّها عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير » (1). ودلالة هذه الرواية على عدم النجاسة وجواز مؤاكلتهم واضحة بل صريحة ، وأنّ نهيه علیه السلام تنزيهي لا تحريمي.

وقال الفقيه النبيه الهمداني قدس سره في مصباح الفقيه (2) إنّ هذه الرواية تصلح قرينة بمدلولها اللفظي على صرف الأخبار الظاهرة في الحرمة أو النجاسة عن ظاهرها.

ومراده أنّ النواهي الموجودة في تلك الأخبار تكون أيضا تنزيهيّة ، وأشار شيخنا الأعظم قدس سره (3) في طهارته إلى ظهورها في التقيّة.

أقول : ما ذكره قدس سره في غاية المتانة ، لأنّ آثار التقيّة بادية عليها ، فإنّه علیه السلام بعد ما بيّن الحكم الواقعي للسائل سكت هنيئة وتأمّل في طريق التخلّص عن شرّ مخالفتهم في هذه الفتوى ، فعلّل علیه السلام نهيه بذلك التعليل تقيّة ، فينبغي أن نعدّ هذه الرواية من أدلّة النجاسة ، لا الطهارة.

منها : صحيح العيص ، سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن مؤاكلة اليهود والنصارى والمجوس؟

فقال علیه السلام : « إن كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس » (4).

ويمكن أن يقال في توجيه هذه الرواية أنّ المؤاكلة أعمّ من المساورة بل غيرها ، لأنّ معنى المؤاكلة أن يكون معه مائدة واحدة وإن كان يأكل في ظرف مستقلّ ومختصّ به فلا تدلّ على طهارتهم. أمّا التقييد بالتوضّؤ فيمكن أن يكون لأجل النظافة

ص: 344


1- « الكافي » ج 6 ، ص 264 ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 87 ، ح 368 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 103 ، « المحاسن » ص 454 ، ح 377 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 385 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 54 ، ح 4.
2- « مصباح الفقيه » ج 1 ، ص 560.
3- « كتاب الطهارة » ص 309.
4- « الكافي » ج 6 ، ص 263 ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 383 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 53 ، ح 1.

لكي يرغب الجلوس معه على مائدة واحدة.

ولكن الإنصاف أنّ هذا التوجيه خلاف ظاهر الرواية ، وأمّا التقييد والاشتراط بكونه من طعامه فلا ينافي طهارتهم ، لأنّ المراد منه أن لا يكون الطعام ممّا حرّم اللّه أكله كلحم الخنزير مثلا.

منها : صحيح إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرّضا علیه السلام : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنّها نصرانيّة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال علیه السلام : « لا بأس ، تغسل يديها » (1).

منها : صحيحه الآخر قال : قلت للرضا علیه السلام : الخيّاط أو القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ، ما تقول في عمله؟ قال علیه السلام : « لا بأس » (2).

ويمكن المناقشة في دلالة هاتين الصحيحتين على طهارتهم.

أمّا في الأولى : فلأنّها قضيّة خارجيّة وجهها غير معلوم ، فلعلّ تلك الجارية مأمورة بالخدمة من طرف سلطان الجور من دون إذنه ، بل وبدون رضاه علیه السلام ، ومن الممكن أن يكون الإمام علیه السلام يجتنب عمّا يلاقي بدنها مع الرطوبة ، ومن الممكن أنّها كانت تخدمه علیه السلام في غير المطاعم والمشارب والملابس ، كلّ ذلك مع احتمال أنّ الإمام علیه السلام كان مضطرّا في معاشرتها ، فليس كونها كذلك دليلا على إمضائه علیه السلام طهارتها وتقريره علیه السلام لها.

وأمّا قوله علیه السلام « لا بأس تغسل يديها » فلأجل أنّ المحذور في نظر الراوي كان عدم اغتسالها عن الجنابة وعدم التوضّأ عن النجاسات - أي الاستنجاء - فأجابه علیه السلام بذلك الجواب بأنّ ذلك المحذور يرتفع بأن تغسل يديها.

ص: 345


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 399 ، ح 1245 ، باب الحيض والاستحاضة والنفاس ، ح 68 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1020 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 11.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 385 ، ح 1142 ، باب المكاسب ، ح 263 ، « الوافي » ج 6 ، ص 209 ، ح 4128 ، باب التطهير من مسّ الحيوانات ، ح 25.

وأمّا في الثانية : فلأنّ السؤال في الحقيقة عن حكم الشكّ خصوصا في الخيّاط ، لأنّه في الخيّاط من الممكن بل هو الغالب عدم ملاقاة الثوب مع بدن الخياط مع رطوبة أحدهما.

وأمّا القصّار وإن كان يلاقي بدنه الثوب لا محالة ، لكن السؤال عن تنجّسه بواسطة عدم التوضّأ عن بوله ، فكأنّه عدم نجاسته الذاتيّة كان مفروغا عند السائل ويسأل عن تنجّس الثوب الذي يغسله بواسطة وصول النجاسة العرضيّة من طرف بوله وعدم التوضّأ إلى ذلك الثوب ، ومعلوم أنّ وصول تلك النجاسة العرضيّة إلى الثوب الذي يغسله مشكوك ، ولذلك لو كان القصّار مسلما لا يتوضّأ عن بوله لا نحكم بنجاسة الثوب الذي يغسله وإن كان غسله بالماء القليل.

نعم يأتي إشكال آخر ، وهو أنّه علیه السلام لما ذا لم يردعه عن اعتقاده بطهارة الكتابي ، بل قرّره على ذلك بقوله علیه السلام « لا بأس ».

ويمكن أن يجاب عنه : بأنّ تقريره علیه السلام له لعلّه من جهة التقيّة ، وذلك من جهة أنّ تلك الأعصار كانت أعصار تقيّة لغلبة سلاطين الجور ، فكان الحكم الواقعي يخفى على أغلب الرواة ، ومع ذلك لا يردعهم الإمام علیه السلام إمّا خوفا على نفسه ، وإمّا خوفا عليهم ، ولذلك ترى أنّ إبراهيم بن أبي محمود يسأل عن النجاسة العرضيّة لجهله بالنجاسة الذاتيّة ، والإمام علیه السلام لا يردعه عن ذلك خوفا عليه أو لجهة أخرى.

منها : حسنة الكاهلي قال : سئل الصادق علیه السلام وأنا عنده عن قوم مسلمين وحضرهم رجل مجوسي ، أيدعونه إلى طعامهم؟ قال : « أما أنا فلا أدعوه ولا أؤاكله ، وإنّي لأكره أن أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم » (1).

وقد تقدّم الكلام في هذه الرواية وأنّها أظهر في نجاستهم من ظهورها في الطهارة ، وأنّ عدم بيان الحكم الواقعي لهم من جهة الخوف عليهم لكثرة البانين على طهارتهم

ص: 346


1- « الكافي » ج 6 ، ص 263 ، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1018 ، أبواب النجاسات ، باب 14 ، ح 2.

في بلادهم.

منها : صحيح معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس وهم أخباث ، وهم يشربون الخمر ، ونسائهم على تلك الحال ألبسها ولا أغسلها وأصلّي فيها؟ قال : « نعم ». قال معاوية : فقطعت له قميصا وخططته وفتلت أزرارا ورداء من السابري ، ثمَّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار ، فكأنّه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة (1).

والخدشة في هذه الصحيحة بنفس ما حدّثنا به صحيحة إبراهيم بن أبي محمود الثانية ، فلا نعيد فالسؤال عن النجاسة العرضيّة وهي مشكوكة ، بل هاهنا تنجّسه من قبل النجاسة أيضا مشكوكة ، فلا تقرير في البين.

منها : صحيح ابن سنان قال : سأل أبي أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر : أنّي أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فاغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (2).

وهذه الصحيحة أيضا كما ترى سؤال عن النجاسة العرضيّة في مورد الشكّ ، فلا دلالة لها في ما هو محلّ البحث. نعم هذا التعليل يكون دليلا على حجّية الاستصحاب وأجنبيّ عن محل بحثنا.

منها : رواية زكريّا بن إبراهيم قال : دخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام فقلت : إنّي رجل

ص: 347


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 362 ، ح 1497 ، باب ما يجوز الصلاة فيه ... ، ح 29. «وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1093 ، أبواب النجاسات ، باب 73 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 361 ، ح 1495 ، باب ما يجوز الصلاة فيه ... ، ح 2. « الاستبصار » ج 1 ، ص 392 ، ح 1497 ، باب الصلاة في الثوب الذي يعار ... ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1095 ، أبواب النجاسات ، باب 74 ، ح 1.

من أهل الكتاب وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانيّة وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم ، فآكل من طعامهم؟ فقال علیه السلام لي : « يأكلون لحم الخنزير؟ » فقلت : لا ، ولكنّهم يشربون الخمر ، فقال لي : « كل معهم واشرب » (1).

وأنت خبير بأنّ قوله علیه السلام « كل معهم واشرب » مع اعتراف السائل بأنّهم يشربون الخمر ظاهر في التقيّة ، لأنّ الخمر طاهر عندهم بخلاف لحم الخنزير ، ولذلك سئل علیه السلام عن أكلهم لحم الخنزير ، فلو كان جوابه أنّهم يأكلون ، لم يكن مورد التقيّة.

ولكن السائل حيث نفى ذلك واعترف بأنّهم يشربون الخمر والخمر عندهم طاهر حكم بجواز الأكل والشرب معهم تقيّة ، إذ المنع عن الأكل والشرب معهم لا بدّ وأن يكون لأحد أمرين : إمّا لنجاستهم ذاتا ، أو لكون الخمر نجسا ، فإذا شربوا يتنجّسون. وكلاهما مخالفان للتقيّة ، لأنهم لا يقولون بنجاسة أهل الكتاب ولا بنجاسة الخمر ، فلو كان علیه السلام بصدد بيان الحكم الواقعي فلا بدّ له من الحكم بعدم جواز الأكل والشرب معهم ، لا الجواز ، فمعلوم أنّ حكمه بجواز الأكل والشرب معهم ليس حكما واقعيّا ، فلا يستكشف من حكمه هذا طهارتهم.

منها : موثّق عمّار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنّه يهوديّ؟ فقال : « نعم ». فقلت : من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال علیه السلام : « نعم » (2).

ولكن يمكن أن يقال : لعلّ حكمه علیه السلام بجواز التوضي عن ذلك الماء الذي شرب منه اليهودي مبني على عدم انفعال ماء القليل بملاقاة النجاسة ، فيكون سياق هذه

ص: 348


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 87 ، ح 369 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 104 ، « المحاسن » ص 453 ، ح 373 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 385 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 54 ، ح 5.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 223 ، ح 641 ، باب المياه وأحكامها ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 18 ، ح 38 ، باب استعمال أسئار الكفّار ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 165 ، أبواب الأسئار ، باب 3 ، ح 3.

الموثقة سياق الروايات التي تدلّ على عدم انفعال ماء القليل بملاقاة النجس أو النجاسة.

وأمّا الرواية الواردة (1) في تغسيل النصراني للرجل المسلم إذا لم يكن مماثلا للميّت المسلم أو ذات محرم مسلمة ، وكذلك تغسيل النصرانيّة للمرأة المسلمة إن لم يكن مماثلة مسلمة أو محرم عن الرجال.

ففيها أوّلا : يمكن أن تكون هذه الرواية أيضا من الروايات التي تدلّ على عدم انفعال ماء القليل بملاقاة النجاسة.

وثانيا : أنّه يمكن تغسيله بصبّ الماء من إبريق - مثلا - من دون ملاقاة بدنه لبدن الميّت.

وثالثا : يمكن أن يكون تغسيله بالماء الكثير.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الروايات جميعها لا يخلو من المناقشات في دلالتها على طهارة أهل الكتاب ، ولو سلّمنا ظهور بعضها أو جميعها في ذلك وخلوها عن المناقشات فأيضا لا يصحّ الاستدلال بها ، بل لا بدّ من طرحها وعدم الاعتناء بها.

بيان ذلك : أنّ عمدة الدليل على حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء ، والأخبار التي تدلّ على ذلك يكون مفادها هو إمضاء ذلك البناء. وذكرنا المسألة مشروحا مفصّلا في كتابنا « منتهى الأصول ». (2) ولا شكّ في أنّ بناء العقلاء على حجّية خبر موثوق الصدور ، وأمّا إذا لم يثقوا بصدوره فلا يرون حجيّته ، وإن كان الراوي إماميّا ثقة عدلا.

نعم أحد أسباب الوثوق بالصدور كون الراوي ثقة إن لم يعارضه جهة أخرى ،

ص: 349


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 340 ، ح 997 ، باب تلقين المحتضرين وتوجيههم عند الوفاة ، ح 165 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 704 ، أبواب غسل الميّت ، باب 19 ، ح 1.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 113.

ولا شكّ في أنّ إعراض قدماء الأصحاب عن رواية وعدم العمل بها مع كونها بمرأى منهم ومضبوطة في كتبهم ، ووصلت إلينا بواسطتهم ، ومع تعبّدهم بالعمل بالأخبار وعدم الاعتناء بالاستحسانات والظنون التي ليس على حجّيتها دليل عقلي أو نقلي.

حتّى أنّ جماعة منهم - رضوان اللّه تعالى عليهم - كانت فتاويهم بعين ألفاظ الرواية حذرا من أن يكون ظاهر لفظ فتواه غير ما هو ظاهر ألفاظ الرواية ، ولذا اشتهر عنهم أنّ عند إعواز النصوص يرجع إلى فتاوى عليّ بن بابويه قدس سره وذلك لأنّ فتاواه كانت بعين ألفاظ الرواية.

فمع هذا التعبّد الشديد بالعمل بالروايات الموثوق صدورها إن أعرضوا عن العمل برواية مع عدم إجمالها وظهورها وصحّة سندها ، فيستكشف من إعراضهم وعدم عملهم بها أنّهم رأوا خللا في صدورها ، أو جهة صدورها ، فيوجب إعراضهم عنها عدم حصول الوثوق بصدورها أو جهة صدورها.

وهذا بعد تماميّة ظهورها وعدم إجمالها فتسقط عن الحجيّة التي موضوعها الوثوق بصدورها ، وجهة صدورها ، بعد تماميّة ظهور الرواية ، لأنّ الحجّية متوقّفة على هذه الأمور الثلاثة : الوثوق بصدورها ، والوثوق بجهة صدورها ، وعدم خلل في ظهورها.

وإلى هذا يرجع ما اشتهر في ألسنتهم في مورد إعراض الأصحاب عن خبر أنّه « كلّما ازداد صحّة ازداد وهنا » وهذا معنى أنّ الإعراض كاسر للسند القوي ، وأنّ عمل الأصحاب جابر للسند الضعيف.

إذا عرفت ذلك ، فنقول :

إنّ إجماع علماء الإماميّة وفقهائهم - رضوان اللّه تعالى عليهم - إلاّ الشاذّ ممّن لا يعتنى بخلافهم ، كابن الجنيد (1) من الصدر الأوّل إلى زماننا هذا على نجاسة أهل الكتاب ، حتّى

ص: 350


1- نقله عنه في « كشف اللثام » ج 1 ، ص 46.

أنّها صارت شعارا للإماميّة - رضوان اللّه تعالى عليهم - ويعرفها نساؤهم وصبيانهم ، بل هم - أي أهل الكتاب - يعرفون هذه الفتوى منهم.

فمع هذا الإعراض لا يبقى وثوق بصدور هذه الروايات ، أو وإن كانت صادرة فليست لبيان حكم اللّه الواقعي ، بل صدرت تقيّة وخوفا من اشتهارهم بمذهب خاصّ وطريقة مخصوصة على خلاف سائر الفقهاء ، ولخوف الأئمّة علیهم السلام من أن يكون لهم ولأصحابهم مسلك خاصّ في الفقه وفتاوى مخصوصة بهم علیهم السلام ولذلك كانوا يلقون الخلاف بين أصحابهم كي لا يتميّزون ولا يعدّون طائفة خاصّة منسوبين إليهم علیهم السلام .

والسرّ في ذلك : عدم خوف الفقهاء من التفرّد في الفتوى ، لأنّ سلاطين الوقت قد علموا بأنّهم لا يدّعون الإمامة والخلافة ، ولم يكونوا في معرض هذا الأمر ، ومراجعة الناس إليهم كان صرف تقليد لهم في المسائل الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، بخلاف الأئمّة علیهم السلام فإنّهم كانوا في معرض هذا الأمر ، ورجوع الناس إليهم لم يكن بعنوان تعلّم الحكم الشرعي والمسألة الفقهيّة فقط ، بل كان بعنوان أنّهم أئمّة معصومون مفترضوا الطاعة ، ولذلك كانوا يخافون من التفرّد في الفتوى ، والتميّز عن فتاوى سائر الفقهاء.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : في كلّ مورد كان أصحابنا القدماء متّفقين على فتوى مخالفا لفتاوي سائر الفقهاء ، وصدرت عنهم علیهم السلام أخبار موافقة لفتاوي سائر الفقهاء ، فليست تلك الأخبار حجّة وإن كانت معلوم الصدور ، فضلا عمّا لا يكون كذلك ، لأنّ أصالة جهة الصدور أصل عقلائي ، والدليل على حجّيتها بناء العقلاء ، إذ بناء العقلاء على أنّ كلّ متكلّم إذا تكلّم بكلام يكون بصدد بيان مراده ومقصوده ، وتشخيص مراده من كلامه يكون بأصل عقلائي آخر ، وهو أصالة الظهور.

ولكن في مثل المقام لا تجري ذلك الأصل العقلائي ، أي : أصالة جهة الصدور ، وذلك من جهة أنّه بعد ما علم أنّ المتكلّم يخاف من التفرّد والتميّز ، فلو تكلّم بكلام

ص: 351

موافق لهم مع أنّ أصحابه كلّهم يفتون بخلافهم ، فلا تجري أصالة جهة الصدور ، لعدم بناء العقلاء في مثل هذا المورد.

بل يحصل القطع غالبا بعدم كونه لبيان حكم اللّه الواقعي وإن لم يحصل القطع لشخص ، فأصالة جهة الصدور لا تجري قطعا ، وبدون جريانها لا حجّية لتلك الروايات قطعا ، لما ذكرنا أنّ حجّية الأخبار غير القطعيّة متوقّفة على جريان هذه الأصول العقلائيّة الثلاثة : أصالة الصدور ، وأصالة الظهور ، وأصالة جهة الصدور.

وليس المقام من ترجيح أحد المتعارضين بمخالفة العامّة كي يقال بأنّ هذا الترجيح بعد ثبوت التعارض واستقراره ، وثبوت التعارض واستقراره بعد فقد الجمع الدلالي - أي العرفي - وعدم إمكانه.

وفيما نحن فيه الجمع الدلالي العرفي ممكن بحمل الأخبار التي مفادها نجاستهم والنهي عن مؤاكلتهم وأكل طعامهم وشرب سؤرهم وغير ذلك على الكراهة ، وأخبار الطهارة على الجواز ، فيرتفع التعارض من البين.

وذلك لما قلنا من سقوط أخبار الطهارة عن الحجّية ، وإن لم تكن أخبار النجاسة في البين أصلا ، بل كان الصادر منهم علیهم السلام أخبار الطهارة فقط ، لعدم جريان أصالة جهة الصدور في نفسه ، وإن لم يكن معارض في البين.

وبعبارة أخرى : إنّ الخبر تارة يكون بنفسه ظاهرا في التّقية وإن لم يكن له معارض ، وذلك من جهة ظهور أمارات التقيّة عليه ، وأخرى لا يكون كذلك ، بل ليس في البين شي ء إلاّ صرف مطابقة مضمونه لفتاويهم ، وهذا الأخير هو الذي يكون من المرجّحات عند التعارض ، وإعمال المرجّحات والترجيح بها وجوبا أو استحبابا كما ادّعاه بعضهم بعد فقد الجمع الدلالي العرفي ، ومع إمكانه ووجوده لا يبقى تعارض في البين كي يحتاج إلى إعمال المرجّحات ، بل ينعدم موضوع الترجيح.

وأمّا الأوّل فموجب لسقوط الحجّية. وإن لم يكن معارض له أصلا ، وذلك لما قلنا إنّ الحجّية متوقّفة على الأصول العقلائيّة الثلاثة التي منها أصالة جهة الصدور ، ومع

ص: 352

تلك القرائن على كون صدوره تقيّة لا يجري ذلك الأصل العقلائي.

ولا نقول إنّ تلك الأمارات والظنون حجج شرعيّة على أنّ هذا الخبر صدر تقيّة كي تقول بأنّ تلك الأمارات والظنون المدّعاة في المقام ليست إلاّ ظنون غير معتبرة ، فلا يثبت بها صدوره تقيّة ، بل نقول مع وجود تلك الأمارات التي عمدتها اتّفاق الأصحاب على الإفتاء بخلافها والإعراض عنها وعدم العمل بها مع صحّة سند بعضها وظهورها في الطهارة ، لا يبقى مجال لجريان أصالة جهة الصدور ، وأنّها لبيان حكم اللّه الواقعي لأنّها أصل عقلائي ولا بناء للعقلاء في مثل المورد ، وإن كان إعراضهم عن الخبر في حدّ نفسه ليس حجّة شرعيّة على صدوره تقيّة.

فما ذكره الفقيه النبيه الهمداني قدس سره (1) في هذا المقام وقال : فإعراض الأصحاب عنه بالنسبة إليه أمارة ظنيّة لا دليل على اعتبارها ، واضح البطلان ، ثمَّ هو يعترف بأنّه إن أثرت وهنا في الرّواية من حيث السند - إلى آخر ما أفاد - سقطت عن الحجيّة ولكن لا يؤثّر فيما هو موضوع أصالة الصدور ، لأنّه ليس موضوعه الظنّ الشخصي بالصدور ، بل يكفي وثاقة الراوي.

وهذا الكلام عنه وإن كان في حدّ نفسه لا يخلو عن مناقشة ، ولكن الإشكال عليه من جهة أخرى ، وهو أنّ كلامنا الآن في عدم جريان أصالة جهة الصدور مع وجود أمارة التقيّة والظنّ بذلك ، وإن كانت تلك الأمارة وذلك الظنّ غير معتبر في حدّ نفسها.

ولا نقول أيضا بأنّها نقطع بعدم صدور هذه الأخبار لبيان حكم اللّه الواقعي كي تقول بأنّ القطع حجّة في حقّ نفس القاطع لا غيره ، بل نقول بعدم جريان ذلك الأصل العقلائي والحجيّة متوقّفة عليه.

وأمّا ما أفاده أخيراً بعد كلام طويل وقال : فالحقّ أنّ المسألة في غاية الإشكال. ولو قيل بنجاستهم بالذات ، والعفو عنها عند عموم الابتلاء أو شدّة الحاجة إلى

ص: 353


1- « مصباح الفقيه » ج 1 ، ص 561.

معاشرتهم ومساورتهم ، أو معاشرة من يعاشرهم ، لمكان الحرج والضرورة كما يؤيّده أدلّة نفي الحرج ، لم يكن بعيدا إلى آخر ما قال وأفاد قدس سره .

ففيه أوّلا : ما عرفت أنّ المسألة لا إشكال فيها. وأمّا قوله بالعفو لأدلّة الحرج فقد بيّنّا في قاعدة الحرج من هذا الكتاب أنّ لقاعدة الحرج والضرر حكومة واقعيّة على أدلّة الأحكام الواقعيّة ، بمعنى رفع الحكم الحرجي والضرري واقعا ، فالدليل يدلّ على ثبوت حكم واقعي لموضوع من الموضوعات ، بعمومه أو إطلاقه يشمل أيّ حكم كان ، حرجيا أو غير حرجي ، ولكن القاعدة مفادها ارتفاع ذلك الحكم عن صفحة التشريع إن كان حرجيّا بالنسبة إلى أيّ شخص من الأشخاص.

مثلا مفاد قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) (1) هو وجوب الوضوء على كلّ واحد من أفراد المؤمنين ، سواء كان حرجيّا في حقّ شخص أو لم يكن ، ولكن قاعدة الحرج توجب رفع الوجوب الحرجيّ عن كلّ شخص كان الوجوب حرجيّا في حقّه ، ولكن النفي بلسان نفي المحمول ، والمحمول على الوضوء هو الوجوب ، فالنتيجة أنّ الوجوب الحرجيّ لم يجعل في الدين ، ولكن الحرج حرج شخصيّ.

وبعبارة أخرى : مفاد القاعدة أنّ الحكم الحرجي في حقّ أي شخص كان ليس بمجعول في الدين ، فلا بدّ وأن يكون شخص ذلك الحكم المرفوع حرجيّا ، فيمكن أن يكون حرجيّا في حقّ شخص دون شخص آخر ، وفي وقت دون وقت آخر ، فليس كونه حرجيّا نوعا موجبا لارتفاعه عن كلّ شخص ، وإن لم يكن حرجيّا في حقّه.

نعم قد يكون الحرج منشأ لجعل حكم ، ولكن ذلك لا يثبت بدليل الحرج ، بل يحتاج إلى دليل آخر.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان ترك المؤاكلة أو المساورة معهم حرجيّا بالنسبة

ص: 354


1- المائدة (5) : 6.

إلى شخص ، فيرتفع حرمتهما عن ذلك الشخص دون الآخرين الذين ليس تركهما لهم حرجيّا ، وهذا ليس تفصيلا في المسألة ، بل هذه القاعدة تجري في جميع الأحكام الشرعيّة إلاّ في الأحكام التي يكون موضوعها حرجيّا دائما ، مثل الجهاد مثلا.

وأمّا إنّ أراد بارتفاع الحرمة وعدم لزوم الاجتناب عنهم ارتفاعها مطلقا ، ولو لم يكن بالنسبة إليه حرجيّا للحرج النوعي ، فيحتاج إلى دليل يدلّ على ذلك ، وليس شي ء هاهنا ومن هذا القبيل ، بل يجب الاجتناب عمّا لاقى بدنهم بالرطوبة إلاّ أن يكون الاجتناب بالنسبة إلى خصوص شخص حرجيّا ، وهذا لا اختصاص له بالكافر ، بل إذا كان الاجتناب عن أيّ نجس بالنسبة إلى أيّ شخص حرجيّا بالخصوص فلا يجب الاجتناب ، بناء على جريان القاعدة في المحرّمات أيضا مثل الواجبات ، على إشكال في ذلك خصوصا في الكبائر.

فالتمسّك بقاعدة الحرج لإثبات طهارتهم ، أو العفو عن لزوم ترتيب آثار النجاسة مع ملاقاتهم بالرطوبة ، أو استعمال ما لاقاهم بالرطوبة فيما يشترط فيه الطهارة كالأكل والشرب إذا كان الملاقي لهم من المأكولات والمشروبات ، أو الصلاة فيه إذا كان من الثياب مثلا لا وجه له أصلا ، وقاعدة الحرج أجنبيّة عن هذا المقام.

وأمّا الاستدلال لطهارة أهل الكتاب بآية ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (1) بأن يقال : قوله تعالى ( طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) مطلق يشمل ما باشروه بالرطوبة وما لم يباشروه ، فإذا كان ما باشروه مع الرطوبة حلالا فلا بدّ من القول بطهارتهم ، وإلاّ لو كانوا نجسين فما باشروه مع الرطوبة يصير نجسا فيكون أكله حراما لحرمة أكل النجس ، فحلّيته مطلقا تكون ملازمة مع طهارتهم.

ص: 355


1- « المائدة (5) : 5.
وفي هذا الاستدلال جهات من الإشكال :

الأوّل : أنّ الطعام حسب نقل أهل اللغة إمّا خصوص البرّ ، أو مع الشعير ، أو الحبوب جميعا ، أو بإضافة البقول ، فهذه الكلمة وإن كانت في أصل اللغة تستعمل في كلّ ما يطعم به ، ولكن عند العرف تستعمل في المذكورات ، فتكون من قبيل المنقول العرفي كلفظ الدابة والغائط ، والمناط في باب تشخيص الظهورات هو الفهم العرفي ، والمعاني المذكورة أجنبيّة عن الاستدلال ، إذ مبناه على كون الطعام يشمل مطلق ما يطعم به من المطبوخ وغير المطبوخ كي يكون شاملا لما يباشره الكتابي مع الرطوبة في مقام الأكل أو الطبخ.

الثاني : تفسيره بالحبوب المروي عن الأئمّة المعصومين علیهم السلام في أخبار كثيرة (1).

الثالث : أنّ المراد بالحلّية هي أن طعامهم من حيث انتسابه إليهم وكونه ملكا لهم ليس محرّما عليكم ، فالآية في مقام دفع توهّم الحظر ، كما أنّ قوله تعالى ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) (2) أيضا في المقام دفع توهّم الحظر ، فكأنّهم كانوا يحتملون حرمة المبايعة والمعاملة معهم ، وأنّ أجناسهم من حيث الانتساب إليهم حرام عليهم مع أنّها من الطّيبات ، فلا ينافي هذا المعنى كونها محرّمة من جهة حرمتها في نفسه كلحم الخنزير مثلا ، أو من جهة نجاستها لملاقاتها لبدنهم مع الرطوبة ، أو لملاقاتها لنجاسة أخرى. ومن هنا نعرف فائدة ذكر حلّية طعام أهل الكتاب مع أنّه من الطيبات.

وأمّا الاستدلال لطهارتهم بأصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة ، فهو مع هذا الإجماع القوي والاتّفاق الذي قلّما يتّفق في موارد الشبهات الحكميّة مثله ، وتلك الأخبار التي مرّت عليك والآية الشريف ، ة ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (3) لا يخلو عن غرابة.

ص: 356


1- انظر : « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 283 ، أبواب الذبائح ، باب 26 ، ح 1 و 6 ، وص 291 ، باب 27 ، ح 46.
2- المائدة (5) : 5.
3- التوبة (9) : 28.

ثمَّ إنّه بعد الفراغ عن دلالة الأدلّة المتقدّمة على نجاستهم ، فالظاهر شمول هذا الحكم لجميع أجزاء بدنهم ، سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لم تكن ، كالكلب والخنزير.

وذلك من جهة أنّ الدليل إذا دلّ على نجاسة الكتابي أو بعناوين اليهود والنصارى والمجوس أو المشرك ، فظاهره أنّ بدن هؤلاء نجس ، لأنّ النجاسة الخبثيّة من عوارض الجسم ، ولو كان معروضها خصوص عضو ، أو كان بعض الأجزاء أو الأعضاء خارجا عنه. ولم يكن معروضا للنجاسة لكان عليه البيان ، وإذ ليس فاللفظ يشمل البدن بجميع أعضائه وأجزائه ، سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لم تكن.

هذا ، مضافا إلى إطلاق معقد الإجماع على نجاستهم وعدم تفريقهم بين القسمين.

وأمّا ما يقال من مخالفة السيّد لهذا الإجماع المدّعى في المقام ، لأنّه يقول هناك بعدم نجاسة شعر الخنزير.

ففيه أوّلاً : لا ملازمة بين المقامين ، لأنّه من الممكن أن يكون شعر الخنزير طاهرا ويكون شعر الكافر نجسا ، كما أنّ شعر الكلب نجس.

وثانياً : قوله بطهارة شعر الخنزير لوجود رواية على جواز جعله حبلا والاستقاء به ، وهو مخصوص بمورده ، مع أنّ هذا الاستنباط لا يخلو عن إشكال ، إذ لا ملازمة لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا بين جواز جعله حبلا مع طهارته.

وثالثاً : مخالفته لا يضرّ بتحقّق الإجماع.

وأمّا استشكال صاحب المعالم (1) في نجاسة ما لا تحلّه الحياة من أجزاء بدن الكافر وأعضائه ، بأنّ قياس الكافر على الكلب والخنزير ليس في محلّه ، لأنّ الحكم في الكلب والخنزير على المسمّى وعلى هذين العنوانين ، فيشمل جميع أجزائهما. وأمّا في الكافر فليس الأمر كذلك ، لأنّ دلالة الآية ضعيفة ، والأخبار لا تدلّ على نجاسة هذا العنوان ، فلا دليل على نجاسة أجزائه التي لا تحلّها الحياة ، والإجماع دليل لبّي لا إطلاق له.

ص: 357


1- « المعالم » ص 299.

ولكن قد عرفت دلالة الآية والأخبار على العناوين المذكورة ، مضافا إلى إطلاق معقد الإجماع.

وأمّا أولاد الكفّار غير البالغين فبناء الأصحاب على نجاستهم ، ويظهر عن كلام جماعة أنّهم ادّعوا الإجماع عليه.

واستدلّوا على ذلك بأمور :

الأوّل : الإجماع.

الثاني : السيرة المستمرّة من المتديّنين الملتزمين بالعمل بأحكام الدين على معاملة آبائهم.

والإنصاف أنّ هذه السيرة ممّا لا يمكن أن ينكر وجودها وتحقّقها ، بل البحث عن نجاستهم وعدم نجاستهم مخصوص بالكتب العلميّة ، وإلاّ فالمرتكز في أذهان المسلمين أنّ حالهم حال آبائهم في النجاسة وعدمها ، ولا يخطر ببالهم خلاف هذا.

الثالث : التبعيّة في النجاسة والطهارة.

وفيه : أنّ التبعيّة في الحكم يحتاج إلى دليل ، وإلاّ لا وجه لإسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر بناء على عدم صدق عنوان الكافر على أولادهم ، وإلاّ لو صدق لا تصل النوبة إلى الاستدلال بالتبعيّة ، بل يشملهم أدلّة نجاسة الكفّار مثل شمولها لآبائهم ، من دون احتياج إلى التبعيّة.

وأمّا التمسّك على تبعيّتهم لآبائهم بالسيرة ، فهذا عدول عن هذا الدليل إلى دليل آخر.

الرابع : أنّهم كفّار فيشملهم أدلّة نجاسة الكفّار من الآيات والروايات والإجماع والسيرة.

وتوضيح هذا المطلب يحتاج إلى بيان معنى الكافر ، والمشرك ، واليهود ،

ص: 358

والنصارى ، والمجوس ، أي العناوين الواردة في الآيات والروايات ومعاقد الإجماعات ، فنقول :

إن كان الكفر بمعنى صرف عدم الاعتقاد بنبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وما جاء به ، وبعبارة أخرى : عدم الاعتقاد بأصول دين الإسلام ، كي يكون التقابل بينه وبين الإسلام تقابل السلب والإيجاب ، فأولاد الكفّار كافرون لأنّهم لا يعتقدون بالعقائد الإسلاميّة ، مميّزهم وغير مميّزهم.

وأمّا إن كان بمعنى عدم الاعتقاد في الموضوع القابل ، كي يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة - وهو الصحيح - فلا يمكن أن يقال بكفر الطفل غير المميّز ، لعدم قابليّته لهذا الاعتقاد.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بصحّة إطلاقه على الطفل المميّز القابل لهذا الاعتقاد ، وثبوت الحكم في سائر الأطفال بعدم القول بالفصل.

الخامس : استصحاب نجاسته حينما كان في بطن أمّه ، خصوصا قبل ولوج الروح فيه ، لأنّه قبل ولوج الروح هو يعدّ جزء أجزاء أمّه كسائر ما في احشائها من أعضائها الباطنيّة.

وفيه : أوّلا : كونه جزءا منها بحيث يكون نجسا كسائر أعضائها الباطنيّة مشكل ، وعلى تقدير كونه كذلك فاستصحاب بقائها أيضا لا يخلو من إشكال ، للشكّ في بقاء الموضوع بعد الولادة والانفصال.

السّادس : الروايات :

منها : صحيحة ابن سنان ، سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث؟ قال علیه السلام : « كفّار ، واللّه أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم » (1). فصرّح علیه السلام بأنّهم كفّار.

ص: 359


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 491 ، باب حال من يموت من أطفال المشركين والكفّار ، ح 4740.

وأمّا الإشكال على دلالة هذه الرّواية بأنّها واردة في مقام بيان حالهم بعد الموت ، وأنّهم يعاقبون أم لا؟ فلا دخل لها بنجاستهم في حال الحياة.

فعجيب ، لأنّ جهة الاستدلال بهذه الرواية ليست باعتبار أنّهم يعاقبون بعد الموت أم لا كي يرد هذا الإشكال ، بل جهة الاستدلال بها هي حكمه علیه السلام بأنّهم كفّار ، ولا شكّ في أنّ كفرهم ليس باعتبار كونهم بعد الموت كذلك ، وذلك لوضوح أنّ من ليس بكافر حال الحياة لا يصير كافرا بعد الموت.

فالإنصاف : أنّ الرواية تدلّ على أنّهم كفّار في حال الحياة ، فقهرا يترتّب على هذا العنوان حكمه ، أي النجاسة. فظاهر الرواية أنّ كونهم كافرين حكم ظاهري ، لعدم العلم بحالهم واللّه يعلم بما كانوا يعملون بعد بلوغهم ، وظاهر حالهم أنّهم يدخلون مداخل آبائهم في اعتقاداتهم ، كما هو المعهود من أغلب الطوائف والأمم.

منها : خبر حفص بن غياث ، سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب ، فظهر عليه المسلمون بعد ذلك؟ فقال علیه السلام : « إسلامه إسلام لنفسه ولولده الصغار ، وهم أحرار وولده ومتاعه ورقيقه له ، فأمّا الولد الكبار فهم في ء للمسلمين ، إلاّ أن يكونوا أسلموا قبل ذلك » (1).

وهذه الرواية وإن دلّت على تبعيّة ولد الصغار لآبائهم في الإسلام ، ولكن إسراء تبعيّتهم في الإسلام إلى تبعيّتهم في الكفر يكون قياسا رديئا ، لأنّ من الممكن أن يكون الإسلام لشرافته يؤثّر في إسلام أولاده الصغار ، وأمّا الكفر حيث ليس له شرافة يقف على نفسه ولا يستتبع أولاده كما أن ولادة الطفل لو صار في حال إسلام أحد أبويه يستتبعه في الطهارة ، فهذه الرواية أجنبيّة عن محلّ بحثنا.

وأمّا استدلال الإيضاح (2) في محكي مفتاح الكرامة لكفرهم بقوله تعالى : ( وَلا

ص: 360


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 151 ، ح 262 ، باب المشرك يسلم في دار الحرب ... ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 89 ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، باب 43 ، ح 1.
2- « إيضاح الفوائد » ج 1 ، ص 364.

يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً ) (1) فلا وجه له أصلا ، لأنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ نوحا علیه السلام بعد تلك الدعوة الطويلة وعدم إجابتهم يأس من قبولهم الإيمان ، أو يلدوا من يقبل الإيمان بعد بلوغه ، أو أخبره اللّه تعالى بأنّهم لا يلدون من يقبل الإيمان بعد بلوغهم ، كما احتمله في تفسير مجمع البيان ، (2) ولذلك دعا عليهم وقال هذا الكلام.

وقال في مجمع البيان : والمعنى لا يلدوا إلاّ من يكون عند بلوغه كافرا. وربما يؤيّد هذا المعنى ذكر فاجرا قبل ذكر كفرهم ، بناء على أن يكون الفجور هاهنا بمعنى الزنا ، كما هو أحد معانيه المشهورة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا دليل على نجاسة أولاد الكفّار غير البالغين إلاّ السيرة التي تقدّم ذكرها ، والحكم بأنّهم كفّار في صحيحة ابن سنان.

وأمّا خبر وهب بن وهب عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « أولاد المشركين مع آبائهم في النار ، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة » (3).

وكذلك الخبر الآخر : « فإمّا أطفال المؤمنين ، فإنّهم يلحقون بآبائهم ، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (4). فدلالتهما على نجاسة أولاد الكفّار لا يخلو من نظر وتأمّل.

هذا حال أولاد الكفّار الذين هم غير بالغين المعلوم أنّهم أولاد الكفّار.

وأمّا اللقيط الذي لا يعلم أنّه من أولاد المسلمين أو الكفّار ، فإن وجدت حجّة وأمارة شرعيّة على أنّه من أولاد إحدى الطائفتين يلحقه حكمها ، وإلاّ فمقتضى الأصل

ص: 361


1- نوح (71) : 27.
2- « مجمع البيان » ج 5 ، ص 365.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 491 ، باب حال من يموت من أطفال المشركين والكفّار ، ح 4739.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 248 ، باب الأطفال ، ح 2 ، والآية في سورة الطور (52) : 21.

هي الطهارة.

وأمّا بالنسبة إلى غيرها من سائر الأحكام ، فكلّ حكم كان الإسلام تمام موضوعه أو جزئه أو شرطه فلا يترتّب عليه ، للزوم إحراز الموضوع. وليس ما يحرزه في المقام إلاّ ما توهّم من كونه في بلد أو مكان يغلب عليه المسلمون ، أو التمسّك بقوله صلی اللّه علیه و آله : « كلّ مولود يولد على الفطرة » (1).

أمّا الأوّل : أي كون الغالب فيه المسلمون ، وإن ورد ما يدلّ على أنّه أمارة التذكية ، ولكن إثبات أماريّته مطلقا بحيث يثبت به إسلامه أشبه بالقياس ، إذ لا دليل عليه بالخصوص ، وإسراء أماريّته على التذكية بكونه أمارة على الإسلام مرجعه إلى القياس الذي لا نقول بحجيّته.

وأمّا الثاني : فمعناه أنّ المولود بحسب خلقته الأصليّة وما فطره اللّه عليه يولد غير مائل عن الحقّ ، وغير مائل عن الطريق المستقيم ، وغير معاند للحقّ خاليا عن التعصّب وعن الأخلاق الرذيلة ، وإنّما أبواه يحدثان فيه هذه الأمور ، فحبّ أخذ طريقة الآباء أمر عارضي فيهم حدث من تربية أبويه ، فلا يدلّ أنّ الولد مسلم حتّى يثبت خلافه. وبعبارة أخرى : لا يدلّ على أنّ في مورد الشكّ في إسلامه يحكم بإسلامه حتّى يثبت خلافه.

هذا ، مضافا إلى أنّ الولد في ابتداء تولّده ليس قابلا لأن يكون مسلما بالمعنى الحقيقي ، لأنّه عبارة بذلك المعنى من اعتقادات مخصوصة ، والولد غير قابل لذلك ، فهو ليس بمسلم حقيقة ، وإنّما الكلام في أنّه بحكم الإسلام أم لا ، وهذه الرواية أجنبيّة عن هذا المعنى.

وأمّا ما تمسّك به الشيخ قدس سره لإسلام الطفل المشكوك بقوله صلی اللّه علیه و آله « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » (2).

ص: 362


1- « الكافي » ج 2 ، ص 13 ، باب قطرة الخلق على التوحيد ، 3 ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 35 ، ح 18.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5719 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 376 ، أبواب موانع الإرث ، باب 1 ، ح 11 ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 226 ، ح 118 ، وج 3 ، ص 496 ، ح 15.

ففيه : أنّ ظاهر هذه الجملة إن كانت إنشاء وفي مقام التشريع كما هو الظاهر هو أنّه بعد الفراغ عن إسلام شخص وأنّه مسلم يعلو على غير المسلم في عالم التشريع ولا يعلو غير المسلم عليه ، مثلا لا مانع من أن يكون هو مالكا أو زوجا لغير المسلم ، ولكن لا يمكن أن يكون غير المسلم زوجا أو مالكا له ، إلاّ أن يأتي دليل مخصّص لهذا العموم في القضيتين : أي جملة « الإسلام يعلو » وجملة « الإسلام لا يعلى عليه » ، وأنت خبير أنّ مثل هذا المعنى حكم بعد الفراغ عن ثبوت الموضوع ، فلا يمكن إثبات الموضوع - أي الإسلام - حكما أو موضوعا به.

وأمّا إن كانت إخبارا كما هو خلاف الظاهر ، فلا بدّ وأن تحمل إمّا على الآخرة ، أي في الآخرة يعلو الإسلام على الكفر ، لأنّ الكفّار في الآخرة يصيرون أذلاّء صاغرين ، أو تحمل على الدليل والبرهان ، أي الإسلام في مقام الدليل والبرهان يغلب على سائر الأديان الباطلة الحقّة المنسوخة إن تحمل على آخر الزمان بعد ظهور المهديّ عجل اللّه تعالى فرجه ، كلّ ذلك لأجل أن لا يلزم الكذب في كلامه صلی اللّه علیه و آله حاشاه.

وعلى كلّ واحد من التقديرين لا ربط له بمسألة كون اللقيط المشكوك محكوما بالإسلام موضوعا أو حكما.

وأمّا أولادهم الصغار المسبيّون الذين سباهم المسلمون ، فلا يخلو الحال إمّا هم مع أبويهم أو أحدهما ، وإمّا هم وحدهم. فإن كانوا مع أبويهم أو مع أحدهما ، فالظاهر هو إلحاقهم بهما على إشكال فيما إذا كانوا مع أمّهم وحدها ، وذلك لشمول السيرة المدّعاة على إلحاقه بالسابي لمثل هذا المورد أيضا. وأمّا إذا كانوا وحدهم ، فالظاهر هو اتّفاق الأصحاب وتسالمهم على إلحاقه بالسابي وطهارته ، لعدم شمول إطلاقات أدلّة نجاسة الكفّار لمثل المقام ، ولا أدلّة تبعيّة الصغار لآبائهم الكفّار له ، فيكون المرجع هي

ص: 363

أصالة الطهارة بعد ما لم يكن دليل على نجاستهم.

اللّهمّ إلاّ أن يقال باستصحاب نجاستهم قبل السبي ، بناء على عدم تغيّر الموضوع وأن لا يكون موضوع الإلحاق بآبائهم مقيّدا بما إذا كانوا معهم ، ولكن على فرض جريان هذا الاستصحاب وصحّته تكون السيرة المدّعاة على تبعيّته للسابي حاكمة على هذا الاستصحاب ، فالعمدة في هذا المقام هو تحقّق هذه السيرة وعدمه.

وأمّا أولاد الكفّار الذين بلغوا وهم مجانين :

فربما يتوهّم طهارتهم لأجل ارتفاع التبعيّة بالبلوغ ، وعدم صدق الكافر عليهم ، وإن كان الكفر على ما هو الحقّ عندي عبارة عن عدم الاعتقاد بالمبدإ والمعاد ونبوة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وحقّية ما جاء به ، فهو معنى عدمي ، ولكن ذلك العدم لا بدّ وأن يكون في موضوع قابل ، ولذلك لا يقال للجمادات والنباتات والحيوانات كفرة مع عدم اعتقادها بما ذكرنا قطعا.

وفيه : أنّ ما ذكر وإن كان حقّا ، ولكن هنا وجه آخر لعدم جريان أصالة الطهارة في حقّهم ، وهو أحد الأمور الثلاثة :

إمّا شمول إطلاقات أدلّة نجاسة الكفّار لهم عرفا ، لأنّهم عندهم كفّار ، لا من باب خطائهم في التطبيق كي يقال ليس التطبيق بيد العرف ، فإذا كان تطبيقهم على غير ما هو مصداق حقيقي للمفهوم ، فلا أثر ، بل من جهة أنّ المفهوم عندهم معنى أوسع ، فينطبق على من بلغ مجنونا حقيقة.

ولكن في هذا الوجه تأمّل واضح.

وإمّا قيام السيرة المستمرّة من المتديّنين على الاجتناب عنهم ومعاملة النجاسة معهم. ولكن وجود مثل هذه السيرة المتّصلة بزمانهم علیهم السلام غير معلوم.

وإمّا محكومة بالاستصحاب. ولا شكّ في عدم تغيير موضوع النجاسة عند

ص: 364

العرف بدقائق قليلة بعد البلوغ مع ما قبله ، فلا مجال لجريان أصالة الطهارة أصلا.

هذا فيما إذا كان الجنون متّصلا بالصغر وعدم البلوغ ، وأمّا لو جنّ بعد ما بلغ عاقلا ولو بمدّة قليلة ، فلا ينبغي أن يشكّ في نجاسته وعدم جريان أصالة الطهارة في حقّه ، لصدق الكافر عليه في ذلك الزمان الذي كان عاقلا ، وإن كان ذلك الزمان قليلا.

وأنت خبير بأنّه لا فرق بين أن يكون الكافر عشرين سنة عاقلا فيصير مجنونا ، أو كان ساعة عاقلا وصار بعدها مجنونا ، لأنّ المناط فيهما واحد.

نعم لو كان جنونه بعد مدّة الفسحة للنظر بعد أن صار بالغا بدون فاصل ، فبناء على طهارته أيّام الفسحة للنظر والاجتهاد كما هو الصحيح فالظاهر طهارته ، لأنّه بناء على هذا صار طاهرا بعد أن كان نجسا ، فطرأ جنونه على الإنسان الطاهر.

وذلك لأنّ تبعيّته ارتفعت بالبلوغ ، فارتفعت النجاسة التبعية التي كانت فيه بارتفاع علّتها ، أو موضوعها بناء على ما هو الصحيح. والمفروض أنّه في مدّة الفسحة أي النظر والاجتهاد لتشخيص ما هو الحقّ من العقائد والأديان يكون طاهرا وبحكم المسلم ، ثمَّ جنّ بلا فصل فيكون كمسلم جنّ ، لا من باب القياس بل من باب عدم شمول إطلاقات أدلّة نجاسة الكافر له ، فيكون المرجع أصالة الطهارة ، بل لا مانع من جريان استصحاب طهارة زمان الفسحة.

وأمّا أولاد الكفّار من الزنا فأيضا يتبعون آبائهم في النجاسة ، وذلك لأنّ نفي الولديّة عنهم باعتبار الإرث لا مطلقا. وقد بيّنّا (1) في قاعدة الولد للفراش أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب عن ولد ولد على فراش أبيها زمعة لكثرة شبهها بالزاني (2).

ص: 365


1- « القواعد الفقهيّة » ج 4 ، ص.
2- « صحيح بخاري » ج 2 ، ص 3 و 4 ، كتاب البيوع ، باب تفسير المشتبهات ، « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 256 ، كتاب الرضاع ، باب 10 ، ح 36 و 37.

والحاصل : كون الولد المخلوق من ماء رجل ومن بطن امرأة ولدا لها أمر تكويني ، بمعنى أنّ الانتساب بينه وبينها ليس أمرا اعتباريّا ، بل عرض خارجي وله حظّ من الوجود في الخارج ، ولا يرتفع بالرفع التشريعي.

نعم يمكن أن يرفعه الشارع باعتبار آثاره الشرعي ، أي يجعل في عالم الاعتبار التشريعي وجوده كالعدم. ولكن ليس في ولد الزنا دليل ينفي الولديّة باعتبار جميع آثارها ، فيجب ترتيب آثار الولديّة ما عدا الذي يكون النفي باعتباره.

ولذلك لا يجوز للزاني تزوّج بنته من الزنا ، ولا أمّه ولا أخته إذا كانت هذه النسبة حاصلة من الزنا ، فإذا جاء دليل على إلحاق أولاد الكفّار بآبائهم في النجاسة وتبعيّتهم لهم ، فيشمل الولد الذي حصل له من الزنا كما يشمل من لم يكن من الزنا. ولا فرق بين أن يكون الزنا من طرف واحد أو من الطرفين واتضح وجه ذلك.

هذا إذا كان الأبوان كلاهما كافرين ، وأمّا لو كان أحدهما مسلما لا يلحقه هذا الحكم ، لأنّ الولد ملحق بأشرف الأبوين وهو المسلم منهما. هذا معلوم إذا كان الولد شرعيّا ، كما إذا كان الأب مسلما في النكاح الصحيح ، أو كان الوطي من طرف الأمّ المسلمة وطي شبهة. وأمّا إذا كان المسلم الأب ، فالمسلمة التي تكون إمّا زان أو زانية فهل يلحق الولد بالطرف المسلم أيضا ، أم لا؟ الظاهر هو الإلحاق أيضا ، لما تقدّم أنّ النفي ليس إلاّ بلحاظ بعض الآثار لا جميعها.

اللّهمّ إلاّ أن يقال النسبة الحاصلة من الزنا ليست لها شرافة كي تكون موجبة للإلحاق بالزاني المسلم ، أو الزاني المسلمة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الحكم بالطهارة في المفروض ليس من جهة الإلحاق بالمسلم ، بل من جهة أنّ القدر المتيقّن من الإجماع على إلحاق ولد الصغير الكافر به في النجاسة فيما إذا كان الأبوان كافرين ، وأمّا إذا كان أحدهما مسلما فليس إجماع في البين ، وليس دليل لفظي على التبعية كي يؤخذ بإطلاقه ، فيكون المرجع هي أصالة الطهارة ، لا الإلحاق بالمسلم.

ص: 366

هذا ، مضافا إلى إطلاق معاقد الإجماعات فيما إذا كان أحد أبويه مسلما في الحكم بإلحاقه بالطرف المسلم وإن كانت النسبة من الزنا ، فعلى كلّ حال لا ينبغي الشكّ في أنّ الولد إذا كان أحد أبويه مسلما وإن كان من الزنا لا يلحق بالكافر. نعم حكى عن كاشف الغطاء خلاف ذلك ، فقال بإلحاق الولد بالكافر إذا كان الحل من طرفه وكان الزنا من طرف المسلم. وهو محجوج بما ذكرناه ، فلا نعيد.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ الكافر بجميع أقسامه محكوم بالنجاسة ، يقع الكلام في عناوين أخر وأنّها هل داخلة في عنوان الكافر موضوعا ، أو حكما أو لا هذا ولا ذاك؟

فنختم هذه المسألة ببيان أمور لتوضيح هذا المطلب

فنقول :

الأمر الأوّل : في منكر الضروري ، وهو من جحد ما ثبت أنّه من الدين ضرورة.

والمراد بثبوته من الدين أنّه لا يحتاج إثبات أنّه من الدين إلى نظر واستدلال ، بل يعرف كونه من الدين كل أحد ، إلاّ أن يكون جديد الإسلام بحيث لا علم ولا اطّلاع له على أحكام الإسلام ولا على عقائده ، أو عاش في بلد بعيد عن بلاد الإسلام ولا تردّد له إلى بلاد المسلمين ، ولا معاشرة له معهم.

ثمَّ إنّه وقع خلاف عظيم بين الفقهاء في أنّ كفر منكر الضروري هل هو لأنّه سبب مستقلّ له تعبّدا ولو لم يكن موجبا لإنكار النبوّة والرسالة ، أو من جهة رجوعه إلى ذلك؟

والمشهور - بل ادّعى في مفتاح الكرامة (1) أنّه ظاهر الأصحاب ، وهذه العبارة مشعر بالإجماع - هو أنّه سبب مستقلّ.

ص: 367


1- « مفتاح الكرامة » ج 1 ، ص 143.

وقال جماعة أخرى منهم المحقّق الخونساري ، وابنه آغا جمال ، (1) والأردبيلي ، وكاشف اللّثام ، وصاحب الذخيرة (2) ، والمحقق القمّي قدس سره أنّ جحود الضروري ليس بكفر في نفسه ، إلاّ إذا كشف عن إنكار النبوّة.

واستدلّ للقول الأوّل بالإجماع والأخبار التي منها صحيحة الكناني - وهي عمدتها - عن أبي جعفر علیه السلام قال : قيل لأمير المؤمنين علیه السلام : من شهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان مؤمنا؟ قال علیه السلام : « فأين فرائض اللّه؟ ». قال : وسمعته يقول : كان عليّ علیه السلام يقول : « لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام ». قال : وقلت لأبي جعفر علیه السلام : إنّ عندنا قوما يقولون إذا شهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهو مؤمن؟ قال علیه السلام : « فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق اللّه عزّ وجلّ خلقا أكرم على اللّه عزّ وجل من مؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وإنّ جوار اللّه للمؤمنين ، وإنّ الجنّة للمؤمنين ، وإنّ الحور للمؤمنين ثمَّ قال علیه السلام : فما بال من جحد الفرائض كان كافرا » (3).

وموضع الاستدلال لقولهم بأنّ إنكار الضروري موجب للكفر وإن لم يكن موجبا لتكذيب النبوّة هي الجملة الأخيرة من هذه الرواية ، فكأنّه علیه السلام جعل كفر من يجحد الفرائض من المسلّمات ومفروغا عنه ، فيقول علیه السلام : لو كان صرف قول الشهادتين كافيا في تحقيق الإسلام فلما ذا يكون جاحد الفرائض كافرا؟ فالنتيجة أنّ جاحد الفرائض كافر مع إقراره بالشهادتين ، فمنكر الضروري الجاحد للفرائض ليس كفره من جهة تكذيبه للنبوّة ، بل كافر مع إقراره بالتوحيد والنبوّة.

وفيه : أنّ الجحد هو الإنكار مع العلم. قال في القاموس : جحد حقّه : أنكره مع

ص: 368


1- « التعليقات على شرح اللمعة الدمشقية » ص 24.
2- « ذخيرة المعاد » ص 152.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 33 ، باب بدون العنوان من كتاب الايمان والكفر ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 23 ، أبواب مقدمة العبادات ، باب 2 ، ح 13.

علمه (1). فلا محالة يكون جاحد الفرائض التي من الضروريّات مكذّبا للنبوّة ، فلا يتمّ الاستدلال. فجحده للفرائض ينقض إقراره ، فيكون كافرا من جهة أنّ إنكار وجوب الفرائض يرجع إلى تكذيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتكذيب أنّ كلّ ما جاء به هو من عند اللّه.

ومنها : صحيح عبد اللّه بن سنان : « من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذّب أشدّ العذاب ، وإن كان معترفا أنّه ذنب ومات عليها أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام ، وكان عذابه أهون من عذاب الأوّل » (2).

والاستدلال بهذه الصحيحة على أنّ إنكار الضروري كفر بنفسه من دون كونه موجبا لتكذيب النبوّة ، قوله علیه السلام : « فزعم أنّها حلال » فإن زعم حلّية شرب الخمر مثلا التي هي إحدى الكبائر للضروري ، لأنّ حرمته من الضروريّات ، وهذا الإنكار والزعم سبب لخروجه عن الإسلام ، مع عدم إنكاره للنبوّة.

وفيه : أنّ حرمة الكبائر معلومة لنوع المسلمين ، ولا يجهله إلاّ من هو جديد العهد بالإسلام ، أو كان في بلاد بعيدة عن بلاد الإسلام ، مع عدم معاشرته مع المسلمين ، وإلاّ فزعم حلّية الكبيرة غالبا ملازم مع تكذيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهذا هو ظاهر الرواية ، فلا تدلّ على أنّ إنكار الضروري بنفسه سبب مستقلّ للكفر الذي هو مدّعاهم.

وهنا روايات أخر ذكروها لمدّعاهم تركنا ذكرها لوضوح عدم دلالتها ، فقد عرفت عدم دلالة هذه الأخبار على أنّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر.

وأمّا الإجماع : الذي ادّعوه في المقام ، فلا صغرى له ولا كبرى. أمّا الصغرى فلكثرة القائلين بالخلاف من الذين هم العظماء من الفقهاء. وأمّا الكبرى فلأنّ إجماعهم ليس من الإجماع المصطلح الذي نقول بحجّية الذي كاشف قطعي عن رأي

ص: 369


1- « القاموس المحيط » ج 1 ، ص 290 ( جحد ).
2- « الكافي » ج 2 ، ص 285 ، باب الكبائر ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 22 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 2 ، ح 10.

المعصوم علیه السلام لاحتمال أنّهم - بل المظنون - اعتمادهم واتّكائهم على أمثال هذه الروايات.

فبناء على هذا لو أنكر ضروريّا من الضروريّات لشبهة علميّة حصلت من دون تكذيبه للنبي صلی اللّه علیه و آله بل مع كمال إخلاصه والتصديق بنبوّته صلی اللّه علیه و آله لا يحكم بكفره ، كما أنّه ربما حصل مثل هذه الشبهة لبعض المحقّقين في الحكمة الإلهيّة في المعاد الجسمانيّ ، فإنّه بعد ما يبنى على تركّب الجسم من المادّة والصورة يقول بأنّ المعاد هي الصورة الجسميّة من دون مادّة ، وجسميّة الجسم بصورته لا بمادّته ، وذلك بناء منهم على أنّ شيئيّة الشي ء بصورته لا بمادّته ، فالمعاد في يوم النشور هو عين البدن الموجود في دار الغرور ولكن العينيّة بالصورة لا بالمادّة.

وأنت خبير بأنّ هذا القول مخالف للضروري لما هو الثابت في الدين الإسلاميّ بالضرورة أنّ المعاد في يوم القيامة عين البدن الدنيوي صورة ومادة ، لا صورة فقط ، وأمثال ذلك ممّا أنكروه بشبهة علميّة حصلت لهم ، فلا يوجب أمثال ذلك الكفر بناء على قول من يقول بأنّ صرف إنكار الضروري لا يوجب الكفر ما لم يكن تكذيبا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

إن قلت : إنّ الخوارج والنواصب الذين يبغضون أمير المؤمنين علیه السلام وأولاده المعصومين وسيّدة نساء العالمين ويسبونهم ويقتلونهم لا يكذّبون النبي صلی اللّه علیه و آله ومع ذلك يعتقدون بأمثال هذه الآراء الباطلة ، فلما ذا يفتون بنجاستهم؟

قلنا : إنّ الحكم بنجاستهم ليس من جهة إنكارهم الضروري ، بل لأجل أدلّة خاصّة وردت فيهم ، وسنتكلّم عنها إن شاء اللّه تعالى. ويمكن أن يكون من جهة أنّ جهلهم بلزوم مودّة هؤلاء المكرمون عند اللّه وعند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّ بغضهم بغض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يكون عن تقصير ، وإلاّ لو كانوا يفحصون ويلقون حبّ طريقة الآباء والعصبيّة يهديهم اللّه إلى طريق الحقّ والصواب ، قال اللّه تبارك وتعالى ( وَالَّذِينَ

ص: 370

جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (1) والجاهل المقصّر ليس معذورا.

فكما أنّ الجاهل المقصّر في الأحكام الفرعيّة الإلزاميّة لو خالف جهلا لا يعذر ويكون معاقبا مثل العالم ، كذلك في الأمور الاعتقاديّة لو لم يعتقد بما يلزم الاعتقاد به كالمعاد الجسمانيّ ، أو اعتقد الخلاف لا يكون معذورا.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يظهر من الأدلّة إلاّ أنّ إنكار الضروري موجب للكفر لكونه موجبا لتكذيب النبي صلی اللّه علیه و آله لا أنّه سبب مستقلّ للكفر.

الأمر الثاني : الخوارج والنواصب. فالأوّل هم الذين يستحلّون قتل أمير المؤمنين علیه السلام ، والثاني هم الذين يبغضونه أو يبغضون أهل البيت الذين أمر اللّه بمودّتهم ، فالظاهر هو الاتّفاق على نجاستهم ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة تدلّ على نجاستهم.

وفي بعض تلك الأخبار المرويّ عن العمل في الموثّق : « أنّ اللّه لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وأنّ النّاصب لنا أهل البيت أنجس منه » (2). وكلّ ما يدل على نجاسة النواصب يدلّ على نجاسة الخوارج بطريق أولى ، لأنّهم أشدّ نصبا منهم.

الأمر الثالث : الغلاة. وهم الذين يألهون عليّا أمير المؤمنين أو أحد الأئمّة المعصومين علیهم السلام ، فيقولون بربوبيّتهم أو حلوله تعالى - العياذ باللّه - فيهم كافرون أنجاس ، ولا فرق بينهم وبين سائر المشركين. وقد ورد اللّعن عليهم من الأئمّة المعصومين.

الأمر الرابع : المجبّرة والمفوّضة. والمراد بالأوّل هو أنّ العباد مجبورون في أفعالهم ، مسخّرون في إرادتهم بحيث لا يقدر العاصي على ترك العصيان ، ولا المطيع على ترك الإطاعة ، وذلك لانتهاء إرادتهم إلى إرادة اللّه تعالى شأنه الأزليّة القديمة بنحو ترتّب

ص: 371


1- العنكبوت (29) : 69.
2- « علل الشرائع » ص 292 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 159 ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، باب 11 ، ح 5.

المعاليل على عللها ، كما هو الظاهر من آراء الأشاعرة.

ومقابلهم المعتزلة القائلين بالتفويض ، وقد نسب إليهم أنّه لو جاز العدم - العياذ باللّه - على إله العالم لما ضرّ عدمه بالعالم ، وأنّ العباد مستقلّون في أفعالهم.

ولازم القول الأوّل صدور القبيح - العياذ باللّه - من اللّه تعالى ، لأنّ العقاب على الفعل غير الاختياري قبيح ، خصوصا إذا كان سلب القدرة منه تعالى بإرادته تعالى ، وإسناد القبيح - العياذ باللّه - إلى اللّه إنكار للضروري ، وهو أنّه تعالى لا يفعل القبيح.

وأمّا الثاني : أي المفوّضة ، فيرجع كلامهم إلى استغناء العالم - العياذ باللّه - وأنّ إرادة اللّه - العياذ باللّه - ليست محيطة بالأفعال والأشياء. وهذا أسوأ من الأوّل ، ولذا قال الأئمّة المعصومون : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » (1).

ولكن هذه أبحاث كلاميّة لا ربط لهما بعقائد المسلمين ، يصيب فيها بعض ويخطئ بعض ، ولذلك لو سئلت عن أيّ واحد من المسلمين هل أنت مجبور على فعل كذا؟

يقول : لا ، حسب ارتكازه ، وأيضا لو يسأل عنه أنّه هل اللّه تبارك وتعالى يفعل القبيح؟ يقول : لا ، وكذلك لو سئل أنّ هذا الفعل الذي تريد أن تفعل تقدر أن تفعل ولو لم يرد اللّه ذلك؟ يقول : لا ، بل بإرادة اللّه ، ولذلك في أمر يقول : أفعل إن شاء اللّه ، ويعلّقه على مشيّة اللّه جلّ جلاله ، فلوازم هذه الآراء الباطلة لا يلتزم بها أحد من المسلمين ، وإنّما هي صرف أبحاث علميّة التي يقع فيها الخطأ كثيرا من كثير من الباحثين.

الأمر الخامس : المجسّمة والمشبّهة. والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، وذلك من جهة أن تجسيمه تعالى نوع وقسم من التشبيه ، ودائرة التشبيه أعمّ ، إذ يمكن تشبيهه بغير الأجسام من الممكنات والمخلوقات ، مثل أن يقال : مثل اللّه تبارك وتعالى إلى المخلوقات والعالم نسبة النفس الناطقة المجرّدة إلى أبدان الآدميّين. وعلى كلّ حال

ص: 372


1- « التوحيد » ص 360 ، ح 3.

من الضروري أنّه تعالى ليس بجسم ولا شبيه بخلقه في كونه محلاّ للعوارض والطواري.

فالقول بأنّه جسم أو شبيه بالمخلوقات إنكار للضروري ، فإن قلنا بأنّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر وإن لم يكن موجبا لتكذيب النبي صلی اللّه علیه و آله فحالهم معلوم.

وأمّا إن قلنا بأنّه ليس سببا مستقلا ، فإن كان ملتفتا إلى لوازم ما يقول من أنّ التجسّم واحتياجه إلى المكان والحيّز ينافي القدم ووجوب الوجود فهو كفر ، لأنّه في الحقيقة بناء على هذا لم يذعن بوجود صانع قديم ، فليس مقرّا باللّه خالق السماوات والأرضين.

وأمّا القول بأنّ التجسيم والتشبيه بالنسبة إليه تعالى ليس إنكارا للضروري ، لأنّ ظاهر بعض الآيات وبعض الأخبار يوهم ذلك ، فلا يخلو من غرابة ، وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ التجسيم كفر باللّه العظيم ، إلاّ أن يكون ضعيف العقل قاصرا عن فهم لوازم كلامه.

الأمر السادس : القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة ، بمعنى أنّه ليس في عالم الوجود إلاّ وجود وهو اللّه تعالى ، فيدّعون أنّ وجود جميع الموجودات ليس أمرا مباينا مع وجود اللّه جلّ جلاله ، بل هي عينه تعالى.

وخلاصة الكلام والأقوال في هذه المسألة هو أنّه بناء على أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة ، فالوجودات المنسوبات إلى الأشياء المحمولات على موضوعاتها إمّا حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة ، كما يقول به المشّاؤون ، وهذا القول والرأي لا اشكال فيه شرعا ولا يخلّ بالاعتقادات ، وإن أشكل عليه أيضا بعض بأنّه لا يمكن إثبات وحدانيّته تعالى مع اتّخاذ هذا الرأي ، ولا يمكن دفع شبهة الثنويّة المنسوبة إلى ابن كمونة ، (1) ولكن على فرض صحّة هذا الكلام هذا من اللوازم البعيدة المغفول عنها

ص: 373


1- انظر : « الأسفار » ج 6 ، ص 58 ، « لمعات إلهيّة » ص 151 ، « شرح المنظومة » ج 3 ، ص 514.

لغالب أهل البرهان والتحقيق ، فضلا عن العوام ، فلا يوجب كفرا قطعا.

وإمّا حقيقة واحدة ، ولكن لها مراتب متفاوتة بالكمال والنقص ، والشدّة والضعف ، فوجود كلّ شي ء من الأشياء غير وجودات الآخر ، ولكن الجميع سنخ واحد ، والاختلاف بينها باختلاف المراتب ، غاية الأمر أنّ وجود الواجب تعالى المرتبة غير المتناهية غير المحدودة بحدّ مطلقا حتّى الحدّ الذهني والعقلي ، لأنّ « كلّ ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق لكم مردود إليكم » (1) وليس هو الواجب.

فالقول بالوحدة السنخيّة مع تعدّد الوجودات واقعا وخارجا لا إشكال فيه من ناحية العقائد الدينيّة ، فإن كان فيه إشكال فهو من حيث البراهين والأدلّة العقليّة ، وأنّ التشكيك في الذاتيّات هل يمكن ، أولا يمكن.

وبناء على هذا القول في عين الكثرة العدديّة والفرديّة وحدة ، وهي المعبّر عنها بالوحدة السنخيّة ، وفي عين الوحدة كثرة فرديّة ، وهي المعبّر عنها بالكثرة العدديّة أو الفرديّة.

وإمّا حقيقة واحدة ووجود واحد وموجود واحد لا تعدّد في الوجود أصلا ، ويظهر ذلك الوجود الواحد في المظاهر والمجالي المتعدّدة ، وكلّ واحد من هذه المظاهر والمجالي وجوده نفس ذلك الوجود الواحد وليس شي ء غيره ، فيصحّ أن يقول ذلك المظهر والمجلى باعتبار وجوده أنا هو.

وحيث أنّ ذلك الوجود الواحد هو اللّه ، والمظاهر والمجالي هي الممكنات والمخلوقات قاطبة ، فكلّ واحد من الممكنات بالنظر إلى وجوده هو اللّه جلّ جلاله ، العياذ باللّه من هذه الأباطيل التي ينكرها العقل والنقل ، وجميع الشرائع والأديان الحقّة.

ص: 374


1- « بحار الأنوار » ج 66 ، ص 293 ، باب صفات خيار العباد وأولياء اللّه ، ذيل ح 23 ، وفيه « كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ».

وأمّا إن كانوا يقولون بأنّ ذلك الوجود الواحد هو اللّه ، والممكنات لا وجود لها ، وليست إلاّ صرف خيال وأوهام. وبعبارة أخرى : ينفون الوجود عمّا سوى اللّه ، ولا يدّعون أنّ للممكنات وجودا ووجودها عين وجود اللّه جلّ جلاله.

فهذا القول وإن لم يكن كفرا ، لكنّه إنكار للبديهي وخلاف ما يدركه العقل السليم عن شوائب الأوهام ، وكيف يمكن أن يدّعى أنّ هذه السماوات مع أنجمها والأرض مع جبالها وأنهارها وأشجارها وأبحرها ومعادنها ونباتاتها وحيواناتها على اختلاف مراتبها وآثارها لا وجود لها ، وجميعها أوهام وخيالات ، فبطلان هذا القول أوضح من أن يحتاج إلى بيان أو برهان.

ولكن الذي يسهل الخطب أنّ كثيرا من الشعراء الذين يذكرون أمثال هذه الخرافات والأباطيل في أشعارهم أو أقوالهم ليس إلاّ صرف لقلقة لسان من دون تدبّر وتفكّر في معاني هذه الجمل والكلمات ، ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير ففيه عصره في كتابه عروة الوثقى بقوله : وأمّا المجسّمة والمجبّرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد (1).

الأمر السابع : ولد الزنا طاهر إن كان من المسلمين ، بل وإن كان أحد أبويه مسلما ، خصوصا إذا لم يكن الطرف الآخر - أي الكافر أو الكافرة - غير زان.

وبعبارة أخرى : تارة يكون الزنا من الطرفين ، ففي هذه الصورة لو كان أحد أبويه مسلما يكون الولد تابعا له. وأخرى : يكون من طرف واحد ، وفي هذه الصّورة إن كان الزنا من طرف من ليس بمسلم ، فلا شكّ في إلحاقه بالطرف الذي هو مسلم.

وأمّا إن كان الزنا من طرف المسلم ، فربما يستشكل في إلحاقه بالمسلم ، لأنّ الطرف الآخر الذي هو غير المسلم ينسب إليه الولد ، ولا يعارضه انتسابه التكوينيّ

ص: 375


1- « العروة الوثقى » ج 1 ، ص 54.

إلى المسلم ، لأنّ المفروض أنّه زان والشارع لم يعتبر الانتساب الذي يكون سببه الزنا وألقاه وجعله كالعدم.

وفيه : أنّ الشارع لم يلقه بالمرّة وإلاّ كان تزويج بنته من الزنا جائزا ، وأيضا لو كان الأبوان كلاهما مسلمين زانيين أيضا لا يلحق بهما ، والحديث الشريف : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (1) في مورد الشك ، والمورد المفروض في مورد اليقين بالانتساب إليهما فلا يشمله الحديث ، فهذا الإشكال أو التوهّم في غير محلّه ، وإن صدر عن بعض أعاظم أساتيذنا.

ثمَّ إنّ الحكم بطهارته يكون بمقتضى الأصل مع عدم دليل يوجب الخروج عن مقتضاه ، والمسألة ذات قولين ، والمشهور على الطهارة ، وحكى عن الصدوق (2) وعن السيّد (3) والحلّي (4) نجاسته ، ونسب صاحب الجواهر إلى الكليني أيضا احتمالا وهذه عبارته : بل ربما قيل إنّه ظاهر الكليني أيضا (5). وحكى صاحب الجواهر عن الحلّي في سرائره (6) أنّ ولد الزنا قد ثبت كفره بالأدلّة بلا خلاف بيننا.

ثمَّ إنّ الكلام في ولد الزنا تارة من حيث كفره ، وأخرى من حيث طهارته ونجاسته.

فالأوّل : أي كفره ، فالظاهر أنّ هذه الدعوى كما يقول صاحب الجواهر ضروري البطلان ، لأنّه كيف يمكن أن يقال للمؤمن الموحّد المعترف بنبوة محمّد والمعتقد بالمعاد والمصدّق لما جاء به النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأنّ كلّ ما جاء به حقّ ومن عند اللّه والمقرّ والمعترف

ص: 376


1- « صحيح البخاري » ج 2 ، ص 3 و 4 ، كتاب البيوع ، باب تفسير المشتبهات ، « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 256 ، كتاب الرضاع ، باب 10 ، ح 36 و 37 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 132 ، ح 359 ، وص 275 ، ح 41.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 9 ، باب المياه وطهرها ونجاستها ، ذيل ح 11 ، « الهداية » ص 14.
3- « الانتصار » ص 273.
4- « السرائر » ج 1 ، ص 357.
5- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 68.
6- « السرائر » ج 2 ، ص 122 ، وج 1 ، ص 357.

بولاية الأئمّة الطّاهرين أنّه كافر ، وهل هذا إلاّ مثل أن يقال للحارّ : بارد ، وللأبيض :

أسود.

وأمّا الثاني : أي نجاسته ، فعمدة مستند القائلين بها هي الأخبار الواردة فيهم وإلاّ فاستدلال الحلّي على نجاستهم بعدم الخلاف مع ذهاب المشهور إلى طهارتهم غريب.

وأمّا الأخبار :

فمنها : مرسلة الوشّاء عمّن ذكره ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّ من خالف الإسلام ، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب. (1)

والاستدلال بهذه المرسلة باعتبار كراهته علیه السلام من سؤر ولد الزنا ، وجعله في رديف اليهودي والنصراني والمشرك الذين أثبتنا أنّهم أنجاس.

وفيه : أنّ كراهته السؤر أعمّ من نجاسة ما بقي من شربة السؤر ، لأنّه من الممكن أن تكون لجهات أخر. وكون الجهة في الأنجاس نجاستهم لا يوجب أن تكون الجهة في ولد الزنا أيضا تلك الجهة.

وذلك لأنّه لا مانع من أن يكون الحكم الواحد على الأفراد أو الأنواع المتعدّدة بملاكات متعدّدة ، بأن يكون في كلّ واحد منها ملاك يخصّه ، مع أنّه من الممكن أن يكون الملاك في الجميع واحدا في المرسلة أيضا وهي الخباثة المعنوية الموجودة في الجميع.

ومنها : رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها

ص: 377


1- « الكافي » ج 3 ، ص 11 ، باب الوضوء من سؤر الحائض والجنب ... ، ح 6. « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 223 ، ح 639 ، باب المياه وأحكامها ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 18 ، ح 37 ، باب استعمال أسئار الكفّار ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 165 ، أبواب الأسئار ، باب 3 ، ح 2.

غسالة الناصب » الحديث (1).

وجه الاستدلال بها واضح ، خصوصا مع تعليل النهي عن الاغتسال فيها بعدم طهارة ولد الزنا إلى سبعة آباء.

وفيه : أنّ نفس هذا التعليل دليل على أنّه ليس المراد بقوله علیه السلام : « وهو لا يطهر إلى سبعة آباء » هي الطهارة عن الخبث ، لأنّ هذا شي ء مستنكر لم يقل به أحد إنّ الولد الشرعي لولد الزنا نجس ، خصوصا إذا كان ولدا سابقا له ، والمراد هي الخباثة المعنويّة التي ربما ترثه الأولاد من الآباء ، ومن الممكن بقاء هذه القذارة إلى سبعة آباء.

ومنها : رواية حمزة بن أحمد ، عن أبي الحسن الأوّل علیه السلام في حديث قال فيه : « ولا يغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (2).

وفيه : أنّ سياقها استدلالا وجوابا سياق رواية ابن أبي يعفور.

ومنها : مرفوعة سليمان الديلمي إلى الصادق علیه السلام قال : « يقول ولد الزنا : يا ربّ فما ذنبي فما كان لي في أمري صنع؟ فيناديه مناد ويقول له : أنت شرّ الثلاثة أذنب والداك فنشأت عليهما ، وأنت رجس ولن يدخل الجنّة إلاّ طاهر » (3).

وفيها : أنّ المراد بالرجس في هذه المرفوعة هي القذارة والخباثة المعنويّة بقرينة قوله « فنشأت عليهما » أي : نشأتك نشأة الطغيان والتمرّد اللذين كانا في أبويك ، وإلاّ لم يكن أبواه نجسين ، لأنّ المسلم والمسلمة لا ينجسان بصدور الزنا منهما كي يكون نشأته في النجاسة نشأتهما.

ص: 378


1- « الكافي » ج 3 ، ص 14 ، باب ماء الحمام والماء الذي تسخنه الشمس ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 159 ، أبواب الماء المضاف وغيره ، باب 11 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 373 ، ح 1143 ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 158 ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، باب 11 ، ح 1.
3- « علل الشرائع » ص 188.

وأمّا الصفات النفسانيّة والحالات والملكات ، سواء كانت فضائل ورذائل ترثه الأبناء في الأغلب عن الآباء ، فتفسير الرواية أنّ شقائك من قبل أبويك ، فليس في المرفوعة ما يكون دليلا على نجاسة بدن ولد الزنا.

ومنها : ما ورد من أنّ نوحا لم يحمل معه ولد الزنا في السفينة ، مع أنّه حمل الكلب والخنزير ، فيستكشف من هذا أنّه أنجس من الكلب والخنزير (1).

وفيه : أنّه لا دلالة فيه أصلا ، بل ولا تأييد من قبله لهذا المطلب أي نجاسة ولد الزنا ، وذلك من جهة بناء السفينة وصنعها لأجل خلاص المؤمنين عن الغرق وهلاك الكافرين ، ولم يكن في المؤمنين ولد الزنا ، ولأجل ذلك لم يحمل ، لا أنّه كان في المؤمنين وتركه لأجل نجاسته.

هذا أوّلا ، وثانيا : على فرض أن يقال بوجوده ومع ذلك لم يحمله ، وإن كان في كمال الاستبعاد ، ويمكن أن يكون ترك حمله لأجل شقاوته وشؤمه ، فربما يوجب حمله ضررا على السفينة.

ومنها : موثّق زرارة ، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام : « لا خير في ولد الزنا وبشره ولا في شعره ولا في لحمه » (2).

وفيه : أنّه أجنبيّ عن محلّ البحث.

ومنها : حسنة ابن مسلم ، عن الإمام الباقر علیه السلام : « لبن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا » (3).

وفيه : أيضا أنّه أجنبي عن محلّ البحث ، من جهة أنّ اللبن غذاء ينمو به الجسم ،

ص: 379


1- « عقاب الأعمال » ص 252.
2- « المحاسن » ص 108.
3- « الكافي » ج 6 ، ص 43 ، باب من يكره لبنه ومن لا يكره ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 109 ، ح 371 ، باب الحكم في أولاد المطلّقات ، ح 20 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 322 ، ح 1147 ، باب كراهيّة لبن ولد الزنا ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 184 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 75 ، ح 2 ، وباب 76 ، ح 2.

ولا شكّ في أنّ الغذاء يؤثّر في الجسم أوّلا وبالذات ، وفي الروح أيضا بتوسّط تأثيره في الجسم ، وربما يكون أثر السوء كحصول الأخلاق الذميمة والملكات الرذيلة في نفس الولد من لبن ولد الزنا أزيد من لبن الكفّار ، ولذلك قال علیه السلام : « إنّ لبن الكفّار الثلاثة أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا ، فلا ربط لهذه الرواية بمسألة نجاسة بدن ولد الزنا ».

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الأخبار وغيرها ممّا وردت في ذمّ ولد الزنا ، يستفاد منها أنّ المولود الذي يتولّد من الزنا فيه اقتضاء الشقاوة والفساد والضلالة والميل إلى الجور والباطل والخروج عن جادة الحقّ والطريق المستقيم ، ولكن لا بحيث يسلب عنه الاختيار كي يكون عقابه ومؤاخذته قبيحا وظلما عليه ، بل يرتكب القبائح بسوء اختياره ، فيعاقب على قبائح أعماله وأفعاله.

فمعنى قوله علیه السلام : « إنّه رجس » أو « شرّ » أو « لا خير فيه » أو « لا يطهر إلى سبعة آباء » أو « إنّه لا يحب أمير المؤمنين علیه السلام » وأمثال ذلك من العبارات التي وردت في الازدراء به ، هو ما صرّح به علیه السلام في مرفوعة سليمان الديلمي بقوله علیه السلام : « أنت شرّ الثلاثة أذنب والداك فنشأت عليهما وأنت رجس » (1) أي : أنت نتيجة فسادهما وعملهما القبيح ، فورثت الخباثة والتمرّد والطغيان من ذلك الطاغي والمتمرّد ، وتلك الطاغية والمتمرّدة ، ومعلوم أنّ من كان جوهر ذاته ناشئة من عمل القبيح يكون فيه اقتضاء جميع الشرور. ولكن لا بحدّ يسلب الاختيار كي يكون عقابه قبيحا كما ذكرنا.

وبما ذكرنا يرتفع الإشكالات المتوهّمة بالنسبة إلى ما ورد في حقّ ولد الزنا من أنّه لا يدخل الجنّة وإن أطاع ولم يعص أبدا. فيقال : بأنّ هذا ظلم في حقّ ولد الزنا ، وأيّ ذنب كي يكون مستحقّا لمثل هذا الطرد وعدم شمول رحمة اللّه له ، مع أنّه تعالى يقول في كتابه العزيز ( جَزاءً وِفاقاً ) (2) وأيضا قوله تعالى : ( جَزاءً بِما كانُوا

ص: 380


1- « علل الشرائع » ص 188.
2- النباء (78) : 26.

يَكْسِبُونَ ) (1) وأيضا قوله تعالى ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (2) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

والحاصل : أنّ كلّ رواية كان في هذا المقام مخالفا للعدل الإلهي فلا بدّ وأن يؤوّل ، وإن لم يمكن تأويله فلا بدّ وأن يطرح.

الأمر الثامن : في سائر الفرق من الشيعة غير الاثنى عشرية ، فإنّهم أيضا طاهرون كسائر المسلمين ما لم يكونوا ناصبين وسابّين لبعض الأئمّة الاثنى عشر. وأمّا إن كانوا ناصبين أي مبغضين لغير من يعتقدون بإمامته وسابّين له ، فيدخلون في جملة الناصبين ، وقد تقدّم حكم الناصب. ولا فرق في الناصب بين أن يكون معتقدا بإمامة بعض الأئمّة أو لم يكن معتقدا بالإمامة أصلا ، لأنّ المناط في كونه ناصبا هو بغضه وسبّه لأمير المؤمنين علیه السلام أو لأحد أولاده الطاهرين الذين هم مطهّرون بنصّ القرآن الكريم.

وخلاصة الكلام : أنّه فرق بين عدم الاعتقاد بإمامة بعض الأئمّة أو جميعهم - وصرف هذا لا ينافي طهارتهم وجريان أحكام الإسلام في حقّهم ، فإنّ أغلب المسلمين لا يقولون بإمامة الأئمّة بالمعنى الأخصّ الذي يعتقدون به الإماميّة الاثنى عشريّة ، وأحكام الإسلام جارية في حقّهم من طهارة أبدانهم ، وجواز المناكحة معهم ، وحلّية ذبائحهم ، ووجوب دفن موتاهم ، وسائر أحكام الأموات ، واحترام أموالهم ونفوسهم إلى غير ذلك من أحكام الإسلام - وبين بغضهم وعداوتهم وسبّهم ، والثاني هو الناصب ويكون مشمولا لحكمه ، وقد تقدّم حكمه.

والدليل على أنّهم ما لم يبغضوا ولم يسبّوا يكونون بحكم الإسلام ويجرى عليهم أحكامه من طهارة أبدانهم إلى آخر ما ذكرنا ، هو شمول إطلاقات أدلّة أحكام

ص: 381


1- التوبة (9) : 82 و 95.
2- النساء (4) : 79.

الإسلام لهم ، لأنّ موضوع تلك الأحكام هو الإسلام ، وفسرّ الإسلام في الروايات (1).

بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فالاعتراف بوجوب الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان لمن لا يكون معذورا وحجّ بيت اللّه الحرام ، كما في رواية سفيان بن السّمط عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصيام شهر رمضان ، فهذا الإسلام » (2) وغيرها من الروايات الكثيرة الواردة في بيان معنى الإسلام وما هو الموضوع لتلك الأحكام ، ولا شكّ في أنّ سائر فرق الشيعة غير الإماميّة الاثنى عشريّة معترفون بهذه الأمور.

والدليل على أنّهم أبغضوا بعض الأئمّة أو سبّوا يكونون من النصّاب ويلحقهم حكمهم مضافا إلى إطلاقات أدلّة نجاسة الناصبي - فإنّه لا فرق في شمول تلك الأدلّة بين أن يكون الناصب معترفا بإمامة بعض الأئمّة أو كان منكرا لإمامة جميعهم - هو الروايات الواردة في هذا المقام ، وهي كثيرة.

منها : ما رواه ابن المغيرة قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام : إنّي ابتليت برجلين أحدهما ناصب والآخر زيدي ولا بد من معاشرتها فمن أعاشر؟ فقال علیه السلام : « هما سيّان من كذب بآية من آيات اللّه فقد نبذ الإسلام وراء ظهره ، وهو المكذّب لجميع القرآن والأنبياء والمرسلين. ثمَّ قال : هذا نصب لك وهذا الزيدي نصب لنا » (3). فتأمّل.

الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 382


1- انظر : « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 7 ، أبواب مقدمة العبادات ، باب 1 و 2.
2- « الكافي » ج 2 ، ص 20 ، باب أنّ الإسلام يحقن به الدم ... ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 11 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 1 ، ح 13.
3- « الكافي » ج 8 ، ص 235 ، ح 314.

فهرس الموضوعات

ص: 383

ص: 384

46 - قاعدة : الصلح جائز بين المسلمين

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها وهو أمور... 9

الأول : الآيات... 9

الثاني : الروايات... 10

الثالث : الاجماع... 11

الرابع : العقل... 11

الجهة الثانية : بيان مفادها :... 11

الأمور المذكورة في المقام... 12

الامر الأول : أن الصلح معاملة مستقلة... 12

الامر الثاني : صحة الصلح مع إقرار المدعى عليه بما يدعيه المدعي وإنكاره... 14

الامر الثالث : نفوذ الصلح مشروط بما إذا لم يكن أحل حراما... 18

الامر الرابع : صحة الصلح مع علم الطرفين وجهلهما... 19

الامر الخامس : أن الصلح عقد لازم لا ينحل إلا بالإقالة من الطرفين... 20

الامر السادس : صحة الصلح بين الشريكين على أن يكون الربح والخسران على أحدهما وللآخر رأس ماله 22

الامر السابع : لو ظهر أحد العوضين إما للغير واما مما لا يملك... 26

الامر الثامن : يصح الصلح على عين بعين أو منفعة وعلى منفعة بعين أو منفعة 30

ص: 385

الجهة الثالثة : بيان فروع هذه القاعدة... 32

47 - قاعدة : التقية

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في المراد منها... 49

التكلم في التقية في مقامات ثلاث :... 50

المقام الأول : بيان حكمها التكليفي... 50

المقام الثاني : هل تترتب آثار الواقع والحق على الفعل الذي يأتي به لأجل التقية أو لا؟... 55

المقام الثالث : هل تترتب الآثار الشرعية على الفعل أو الترك المخالفين للحق لو صدرا عنه بميله واختياره أم لا؟ بل صدورهما من باب التقية يوجب رفع تلك الآثار... 74

التبيه على أمور :

الأول : عدم الفرق في مشروعية التقية بين أن يكون من يتقيه من المخالفين أو من غيرهم 75

الثاني : إجزاء المأتي به لأجل التقية إذا كان موافقا لهم... 76

الثالث : هل تثبت موضوع التقية مع عدم الخوف الشخصي... 76

الرابع : لو خالف التقية فهل يحكم بصحة العمل أم لا؟... 77

تنبيه : التقية في مقام الافتاء... 78

48 - قاعدة : لا ربا إلا فيما يكال أو يوزن

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها... 85

ص: 386

الأولى والثاني : الاجماع والاخبار... 85

الجهة الثانية : شرح مضمون القاعدة... 86

حرمة الربا مطلقا بيعا كان أو قرضا بحسب الآيات والروايات... 87

القسم الأول : الربا في البيع ويشترط في ثبوته أمران... 90

المراد من اتحاد الجنس والنوع في الشرط الأول... 93

المراد من المكيل والموزون في الشرط الثاني... 97

الفروع الراجعة إلى إشتراط كون العوضين متحدي الجنس... 110

الأول : عدم جواز بيع الحنطة بالشعير إلا مثلا بمثل... 110

الثاني : ثمر النخل جنس واحد وان اختلفت أصنافه... 112

الثالث : الاتحاد والاختلاف في اللحوم تابع للاتحاد والاختلاف في أصولها... 114

الرابع : الألبان تتبع اللحمان في التجانس والاختلاف... 117

الخامس : الادهان تتبع ما يستخرج منه... 118

السادس : جواز بيع المركب من الجنسين أو المجموع من جنسين بأحدهما... 119

السابع : جواز بيع لحم حيوان من جنسه... 120

الثامن : كل ماله حالتا رطوبة وجفاف من الربويات... 124

التاسع : إذا باع أحد المتجانسين الربويين وفيه خليط بالآخر الخالص... 132

العاشر : جواز بيع درهم ودينار بدرهمين ودينارين... 133

الحادي عشر : لو خرجت الضميمة عن ملك البايع... 137

الفروع الراجعة إلى اشتراط كونهما مكيلا أو موزونا... 139

المسألة الأولى : إذا كان جنس قد يباع بالوزن وقد يباع بالعد... 139

ص: 387

المسألة الثانية : إذا شك في صدق المكيل أو الموزون على الجنس... 140

المسألة الثالثة : فروع الأصل الواحد مع ذلك الأصل في حكم متحدي الجنسين 140

المسألة الرابعة : هل يجوز بيع المكيل موزونا أو بالعكس؟... 141

المسألة الخامسة : إذا كان البيع في شئ مختلفا بحسب الحالات... 146

المسألة السادسة : إذا كان شئ يباع بكل من الوزن والعد... 147

المسألة السابعة : الأوراق المالية لا يجري عليها أحكام النقدين... 148

المسألة الثامنة : إذا لم يكن شئ من المكيل والموزون... 148

المسألة التاسعة : لو كان جنس بعضه جيد وبعضه رديء... 148

المسألة العاشرة : المعاملة الربوية حرام وفاسدة بتمامها... 150

المسألة الحادية عشر : فساط المعاملة الربوية هل هو فيما إذا ارتكب مع العلم بالحكم والموضوع أم يكون مطلقا باطلا؟... 154

المسألة الثانية عشر : إذا تعاملا بين شيئين رطبين متحدي الجنس فضوليا فأجاز الأصيل بعد يبس أحد العوضين 162

المسألة الثالثة عشر : إذا قسم الشريكان المال المشترك وكان المال مما يكال أو يوزن 163

الجهة الثالثة : موارد الاستثناء عن هذه القاعدة... 169

الجهة الرابعة : بيان الطرق التي يمكن التخلص من الربا بإعمالها... 184

الجهة الخامسة : في الربا في باب القرض... 187

خاتمة : عدم تأتي هذه القاعدة في باب القرض... 190

49 - قاعدة : أصالة اللزوم في العقود

وفيها جهات من البحث :

ص: 388

الجهة الأولى : في شرح معناها والمراد منها... 195

الجهة الثانية : في الأدلة الدالة عليها :... 199

الأول : بناء العقلاء... 199

الثاني : العمومات والاطلاقات اللفظية من الآيات والروايات... 208

الأدلة من الآيات... 208

الأدلة من الاخبار... 220

لو فرض عدم دلالة الأدلة على لزوم العقود وصلت النوبة إلى حكم الشك... 232

خاتمة البحث : عدم جريان الاستصحاب في العقود التعليقية التكميلية عند الشك 243

50 - قاعدة : حرمة إبطال الأعمال العبادية

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : بيان مفاد القاعدة والمراد منها... 251

الجهة الثانية : الدليل على هذه القاعدة... 252

الأول : الاجماع... 252

الثاني : الآية الكريمة... 252

الأدلة التي تمسكوا بها على عدم جواز قطع الصلاة الواجبة... 256

الموارد التي يجوز فيها قطع الصلاة... 259

51 - قاعدة : بطلان كل عقد يتعذر الوفاء بمضمونة

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها وما هو مفادها... 265

ص: 389

الجهة الثانية : مدرك هذه القاعدة... 266

الأول : الاجماع... 266

الثاني : أن الصحة والفساد أمران متقابلان... 266

الثالث : بناء العقلاء... 269

الجهة الثالثة : بيان موارد تطبيق القاعدة... 271

52 - قاعدة : كل ما يصح إعارته يصح اجارته

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 278

الجهة الثانية : في بيان الدليل عليها... 286

الأول : الاجماع... 286

الثاني : أن الإعارة والإجارة لا تختلفان في الحقيقة... 287

الجهة الثالثة : موارد تطبيق القاعدة... 288

53 - قاعدة : حرمة إهانة المحترمات في الدين

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 293

الجهة الثانية : في الدليل عليها :... 294

الأول : الاجماع... 294

الثاني : ارتكاز ذهن المتشرعة... 295

الثالث : حكم العقل بقبح إهانة ما هو مخترم عند المولى... 296

الرابع : الآيات والاخبار... 297

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق القاعدة... 301

ص: 390

54 - قاعدة : كل مسكر مايع بالأصالة فهو نجس

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 307

الجهة الثانية : في بيان الدليل عليها :... 309

الأولى : الاجماع... 310

الثاني : قوله تعالى ( إنما الخبر والميسر ... ) ... 312

الثالث : الاخبار... 315

تتميم : في مطهرية الاسپرتو... 323

55 - كل كافر نجس كتابيا كان أو غيره

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 329

الجهة الثانية : أقوال الفقهاء في المسألة... 331

الجهة الثالثة : بيان الأدلة الدالة على هذه القاعدة :... 332

الأول : الاجماع... 332

الثاني : قوله تعالى : ( إنما المشركون نجس ... ) ... 333

الثالث : الاخبار المروية عن الأئمة الأطهار علیهم السلام ... 339

أولاد الكفار غير البالغين... 358

اللقيط... 361

أولاد الكفار الصغار المسبيون... 363

أولاد الكفار الذين بلغوا وهم مجانين... 364

أولاد الكفار من الزنا... 365

ص: 391

منكر الضروري... 367

الخوارج والنواصب... 371

الغلاة... 371

المجبرة والمفوضة... 371

المجسمة والمشبهة... 372

القائلون بوحدة الوجود من الصوفية... 373

ولد الزنا طاهر إن كان من المسلمين... 375

سائر الفرق من الشيعة غير الاثني عشرية... 381

ص: 392

المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء السادس

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 6

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين

إنا لله وإنا إليه راجعون

لقد فاجأنا عند طبع هذا المجلد - المجلد السادس - من كتاب « القواعد الفقهية » القضاء الحاتم بمصيبة الدنيا والدين ، والكارثة الملمة بجامعة المسلمين ، وفات فقيد الأمة الإسلامية المؤلف قدس سره ونسأل اللّه تعالى ان يعوض الأمة الإسلامية عن هذه الخسارة الكبرى بأفضل العوض. ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، لا راد لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، رضى برضاه ، وتسليما لأمره وقضائه.

أبيات في تاريخ وفات الإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد البجنوردي قدس سره تفضل بها من النجف الأشرف سماحة الحجة السيد موسى آل بحر العلوم دامت بركاته :

قواعد الفقه بقت قائمة *** آثارها على مرور الزمن

لم يبلها الدهر لأنها على *** أساس منتهى الأصول تبتنى

قد أصبحت بعد أبي مهديها *** موارد العقول ورد الألسن

فقلت لما أن قضى مؤرخا *** راح وتبقى حسنات الحسن

1395 ه - ق

ص: 5

فهرس الإجمالى

56 - قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضاً ... 9

57 - قاعدة الزعيم غارم ... 97

58 - قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء ... 177

59 - قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم ... 221

ص: 6

56 - قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضا

اشارة

ص: 7

ص: 8

قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضا (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « لا رهن إلاّ مقبوضا ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (2).

الثاني : رواية محمّد بن قيس عن ابي جعفر علیه السلام قال : « لا رهن إلاّ مقبوضا ». (3)

وما رواه العيّاشي في تفسيره ، عن محمّد بن عيسى ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « لا رهن إلاّ مقبوضا » (4).

ص: 9


1- (*) « ترجمه وتحقيق قاعدة فقهي لا رهن إلاّ مقبوضا » ، بررسى راشدي فرد ، ( ماجستير ) ، كلّية الهيات ، جامعة طهران ، 1373.
2- البقرة (2) : آية 283.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 176 ، ح 779 ، باب الرهن ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 123 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 1.
4- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 156 ، ح 525 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 124 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 2.

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

اشارة

ظاهر هذه الجملة في الرواية نفي حقيقة الرهن بدون القبض ، كما هو شأن لا النافية للجنس ، فبناء على ذلك يكون القبض من مقوّمات حقيقة الرهن ، وبدونه لا يتحقّق الرهن.

ولا بدّ في توضيح المرام من بيان أمور :

الأوّل : بيان حقيقة الرهن عرفا وشرعا.

فنقول : قد عرّفه بعض بأنّه وثيقة لدين المرتهن (1). وهذا التعريف له مأخوذ من المعنى اللغوي ، إذ هو في اللغة عبارة عن وضع شي ء عند شخص ليكون نائبا عمّا أخذ منه ، وهذا عبارة أخرى عمّا ذكر في القاموس في معنى الرهن ، قال فيه : الرهن ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك (2).

وأنت خبير بأنّ مرجع هذا إلى التعريف المذكور ، وينطبق على أخذ المرتهن الوثيقة من المديون لدينه.

وأيضا يقول في القاموس : وكلّ ما احتبس به شي ء فرهينة. (3) وهذا أيضا يرجع إلى ذلك التعريف.

والى ما ذكرنا يرجع ما ذكروه من الحبس ، والدوام ، والثبات في سائر كتب اللغة (4).

ص: 10


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 75 ، « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 94. ونسبه في « مجمع البحرين » ج 6 ، ص 258 إلى عرف الفقهاء
2- « القاموس المحيط » ج 4 ، ص 327 ( رهن )
3- المصدر
4- انظر : « المصباح المنير » ص 242 ، « الصحاح » ج 5 ، ص 2129 ( رهن ).

وهذا المعنى اللغوي الذي ذكرناه هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة أيضا ، فمن موارد اتّفاق العرف واللغة بل الشرع أيضا.

وخلاصة الكلام : أنّ الرهن شرعا وعرفا ولغة عبارة عمّا يستوثق به المرتهن الدائن من ماله ، وقد ورد هذا المعنى في باب جواز الارتهان والاستيثاق من ماله في عدة روايات :

منها : رواية عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن السلم في الحيوان والطعام ويرتهن الرجل بماله رهنا ، قال : « نعم استوثق من مالك » (1).

ومثله رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه (2).

ومنها : رواية سماعة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن الرهن يرهنه الرجل في سلم إذا أسلم في طعام أو متاع أو حيوان : فقال علیه السلام : « لا بأس بأن تستوثق من مالك » (3). وروايات أخر بهذا المضمون (4).

فمنها : ما عن دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يكون الرهن إلاّ مقبوضا » (5).

وقال علیه السلام أيضا في رواية أخرى : « ولا بأس برهن الحلي والطعام والأموال كلّها

ص: 11


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 259 ، باب السلف في الطعام والحيوان وغيرهما ، ح 3936 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 1.
2- لم نعثر على رواية من داود بن سرحان بهذا المعنى ، ولعلّ سها قلمه الشريف حيث جاء في الوسائل بعد نقل رواية محمد بن مسلم : « وبإسناده عن داود بن سرحان. مثله ». أنظر : « وسائل الشيعة » ج 13. ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ذيل ج 2.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 261 ، باب السلف في الطعام والحيوان وغيرهما ، ح 3942 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 42 ، ح 179 ، باب بيع المضمون ، ح 67 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 4.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1.
5- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 82 ، ح 244 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 419 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 1.

إذا قبضت وإن لم تقبض فليس برهن » (1).

وعرّفه بعض بأنّه عبارة عن دفع العين للاستيثاق على الدين (2). وقيل بأنّه عقد شرع للاستيثاق على الدين.

وكلّ هذه التعاريف يرجع إلى معنى واحد ، وهو أنّه بالمعنى الاسم المصدري هو المعنى الأوّل ، وسائر التعاريف إمّا لبيان المعنى المصدري ، أو لبيان ما ينشئ به هذا المعنى. ولا يهمّنا بيانها وشرحها والنقض والإبرام فيها بعد وضوح المقصود منها.

وأمّا « القبض » وأنّه ما المراد منه؟ وإن بسطوا الكلام فيه في الكتب المفصّلة ، ولكنّ الظاهر أنّه لا يحتاج إلى هذا التطويل.

لأنّ الظاهر من هذه الكلمة التي جعلها الشارع موضوعا لأحكام - من قبيل كون تلف المبيع قبل تحقّقه للمشتري من مال بائعه ، أو قالوا بشرطيته في صحّة السلم والسلف ، أو بشرطيّته في صحّة الهبة وأمثال ذلك - هو كون المقبوض تحت سيطرة القابض ، بحيث أن يكون له منع كلّ أحد من التصرّف فيه.

فمعنى قوله علیه السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » عدم تحقّق الرهن شرعا قبل أن يكون مقبوضا للمرتهن ، أي لا يترتّب عليه آثار الرهن الصحيح وأحكامه إلاّ بعد أن يقبض المرتهن العين المرهونة عن الراهن ، ويخرج عن تحت سلطنة الراهن ويدخل تحت سيطرة المرتهن.

ثمَّ إنّه وقع الكلام في أنّ القبض على تقدير اشتراط الرهن به هل دخيل في ماهيّته وحقيقته ، أو شرط شرعي لصحّته من دون دخله في تحقّق حقيقته وماهيّته ، أو شرط للزومه؟

ص: 12


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 82 ، ح 245 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 419 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 2.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 11.

فبناء على الأوّل لا يتحقّق مسمّى الرهن لغة وعرفا إلاّ بعد حصول القبض من طرف المرتهن.

وبناء على الثاني يحصل المسمّى بدونه ، ولكن شرعا لا يترتّب آثار الشرعيّة عليه إلاّ بعد حصول القبض.

وبناء على الثالث - هو عدم اشتراط الرهن بالقبض أصلا لا مسمّاه ولا صحّته بل لزومه فقط - فالرهن قبل القبض صحيح وتترتب عليه آثاره إلاّ أنّه جائز لكلّ واحد من الراهن والمرتهن ولا يحصل اللزوم إلاّ بالقبض.

وهناك قول آخر وهو عدم دخل القبض لا في صحّته ولا في لزومه ، وهو المحكي عن جماعة من أعاظم الفقهاء منهم الشيخ قدس سره في أحد قوليه (1) ، والعلاّمة (2) ، وولده (3) ، وابن إدريس (4) ، والمحقّق (5) والشهيد (6) الثانيان ، وجماعة أخرى (7) ، بل نسبه في السرائر إلى أكثر المحصّلين (8) ، وفي كنز العرفان إلى المحقّقين (9).

أمّا القول الأوّل أي كون القبض داخلا في ماهية الرهن وحقيقته ومسمّاه ، فيوجّه بأنّ حقيقة الرهن هو كون الشي ء وثيقة عنده لحفظ ماله ، بحيث لو لم يؤدّ المديون يستوفي دينه منه ، فلا يذهب ماله من البين.

وأنت خبير بأنّ هذا المعنى لا يتحقّق إلاّ بالقبض الخارجي لا باستحقاق القبض

ص: 13


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 223 ، المسألة : 5.
2- « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 417.
3- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 25.
4- « السرائر » ج 2 ، ص 417.
5- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 94.
6- « المسالك » ج 1 ، ص 225.
7- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 99.
8- « السرائر » ج 12 ، ص 417.
9- كنز العرفان ، ج 2 ، ص 60.

لانّه ليس بأزيد من استحقاق الدين على المديون.

وبعبارة أخرى : كونه وثيقة عنده مناف مع عدم كونه مقبوضا له وكونه خارجا عن تحت يده وسلطانه.

وفيه : أنّ الرهن من العقود العهديّة ، وهو عبارة عن التعاهد بينهما أي الدائن والمديون أن يكون الشي ء الفلاني وثيقة دينه ، والقبض من طرف المرتهن وإقباض الراهن خارجا من آثار ذلك العقد والتعاهد ، وأحكامه كسائر العقود والمعاملات.

مثلا البيع عبارة عن التعاهد بين مالك المبيع والمشتري بأن تكون العين الفلاني ملكا للمشتري بإزاء ما يعطى للبائع من الثمن ، وأمّا قبض المشتري للمبيع أو قبض البائع للثمن فمن آثار تلك المعاملة ، بمعنى أنّه يجب على كلّ واحد من المتعاملين إقباض ما ملكه للآخر له ، لا أنّ القبض والإقباض جزء حقيقة البيع.

وهكذا الأمر في سائر العقود المملكة وغيرها كالنكاح مثلا ، فإنّ تمكين الزوجة للبضع ليس داخلا في حقيقة النكاح بل هو من آثاره وأحكامه ، فحقيقة الرهن وماهيته تحصل بنفس العقد الجامع لشرائطه التي نذكرها عمّا قريب إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا القول الأخير ، أي عدم اشتراط صحّة الرهن بالقبض بل بعد وقوع العقد صحيحا ومن أحكامه وجوب اقباض الراهن العين المرهونة للمرتهن من دون توقّف صحّته على القبض.

فيردّه الأخبار المتقدّمة ، وعمدتها قوله علیه السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » في رواية محمّد بن قيس (1).

وقوله علیه السلام فيما رواه في دعائم الإسلام : « وإن لم يقبض فليس برهن » (2).

ص: 14


1- تقدّم في ص 9 ، رقم (2).
2- تقدّم في ص 12 ، رقم (1).

ويمكن أيضا الاستدلال بظاهر قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1).

لأنّه إن لم يكن القبض دخيلا في صحّة الرهن يلزم ان يكون القيد مستدركا ، وكون القيد للإرشاد إلى أنّ كمال التوثّق لا تحصل بدونه خلاف ظاهر التقييد ، بل ظاهره أنّ الرهن المشروع هو أن تكون العين المرهونة مقبوضا.

وأيضا يدلّ على اشتراط صحّة الرهن بالقبض ما رواه العيّاشي في تفسيره عن محمّد بن عيسى ، وقد تقدّم.

ويؤيّد ما ذكرنا حكاية الجواهر عن الطبرسي الإجماع على الاشتراط (2).

فبناء على ما ذكرنا يكون أصحّ الأقوال هو القول الثاني ، أي كونه شرطا لصحة الرهن.

فيتفرع على هذا فروع.

منها : أنّه لو قبضه من غير إذن الراهن لا يصحّ الرهن ، لكونه بدون إذنه يكون قبضا غير مشروع ، ويكون وجوده كالعدم.

وذلك من جهة أنّ القبض بناء على هذا يكون كالقبض في الصرف من متمّمات العقد ، وبه يكون العقد صحيحا ومؤثّرا ، وقبله لا أثر له ولا استحقاق للمرتهن ، فيكون قبضه وأخذه قبل ذلك تصرّفا في مال الغير بدون إذنه وطيب نفسه ، فيكون حراما ، فلا يترتّب عليه الأثر.

وكذلك لو أذن في قبضه لكن رجع عن إذنه قبل أن يقبض المرتهن ، أي قبض المرتهن بعد رجوع الراهن عن إذنه يكون كالعدم ، لأنّه بعد رجوعه ينعدم الإذن

ص: 15


1- البقرة (2) : 283.
2- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 99.

فيكون من قبيل القبض بدون الإذن.

نعم لو كان الرجوع عن إذنه بعد قبض المرتهن فلا أثر لرجوعه ، لأنّ رجوعه يكون بعد تماميّة العقد وصيرورة المرتهن ذا حقّ ، لوقوع العقد صحيحا بعد الإذن ووجود آثاره التي منها صيرورة المرتهن ذا حقّ على العين المرهونة ، ورجوعه بعد ذلك ليس من أسباب سقوط حقّه.

ومنها : أنّه لو مات الراهن ، أو جنّ ، أو أغمي عليه قبل القبض وبعد وقوع العقد ، فلو قلنا بأنّ القبض شرط صحّة العقد - كما اخترناه - فلا يصحّ العقد ، بل يبطل ولا يكون له أثر.

أمّا بناء على أن يكون شرط اللزوم لا الصحّة ، فهل يبطل بوقوع أحد هذه الأمور ، لأنّه بناء على هذا يكون من قبيل العقود الجائزة التي تبطل بخروج أحد المتعاقدين عن صلاحيّة كونه طرفا للمعاملة بأحد هذه الأمور أو بغيرها.

والسرّ في ذلك : أنّ العقود الجائزة متقوّمة بالإذن ، ولذلك قد يعبّر عنها بالعقود الإذنيّة ، فإذا خرج عن صلاحيّة الإذن بموت أو جنون أو إغماء أو غير ذلك ، فلا يبقى إذن فيكون باطلا قهرا ، أو لا يبطل ويرجع أمره إلى وليّه أو وارثه ، فإن أقبض أو أذن في القبض يكون صحيحا ، وإلاّ يكون باطلا؟

والظاهر هو الثاني ، لأنّ المفروض أنّ عقد الرهن وقع صحيحا وترتّب عليه آثاره ، أي صارت عين المرهونة وثيقة عند المرتهن ، ولا تخرج عن كونها وثيقة إلاّ بفسخ الراهن ، أو من يقوم مقامه عن وليّه أو وارثه ، فالبطلان لا وجه له.

وقياسه على العقود الجائزة بالذات ، كالوكالة والعارية والوديعة لا وجه له ، لما ذكرنا من أنّها متقوّمة بالإذن وإذا خرج عن صلاحيّة الإذن فبقاء يبقى بلا إذن ، ولا يمكن بقاؤه بدون الإذن.

وما نحن فيه ليس كذلك ، بل بناء على أن يكون القبض شرط اللزوم لا الصحّة

ص: 16

فالرهن صحيح ولكن ليس بلازم ، فيكون كالمعاملة اللازمة التي فيها الخيار ، فيجوز للوارث أو الولي فسخه ، وهذا غير بطلانه بنفسه من دون الفسخ.

وأمّا التفصيل بين موت الراهن والمرتهن ببطلانه في الأوّل ، وانتقال حقّ القبض إلى الورثة في الثاني ، بأن يقال : إنّ العين المرهونة وثيقة الدين ، والدين باق ، فلورثة المرتهن حقّ استيفاء الرهن للاستيثاق من مالهم فهذا حقّ ينتقل إليهم. وأمّا الراهن إذا مات فينتقل المال إلى ورثته وليس للمرتهن حقّ عليهم ، والمفروض أنّ الرهن غير لازم ، لأنّ القبض شرط اللزوم ولم يحصل فقهرا يبطل الرهن.

ففيه : أنّ هذا المال ، أي العين المرهونة وقع متعلّقا لحقّ المرتهن لصحّة الرهن على الفرض ، فله حقّ الإبقاء ما لم يفسخ ورثة الراهن ، ولا يبطل من عند نفسه. وجواز فسخهم لأجل أنّ المفروض أنّ القبض شرط اللزوم وهو لم يحصل ، وإلاّ مقتضى كون الرهينة متعلّقة لحقّ المرتهن عدم جواز استرجاعهم لها ، لأنّه تصرف ينافي حقّ الغير وإتلاف له ، فلا فرق بين موت الراهن والمرتهن.

فرع : لو قبض المرتهن الرهن ثمَّ أخذه الراهن بإذن من المرتهن أو بدون إذنه ، أو صار في يد غيرهما بإذن منهما أو بدون الإذن ، لا يبطل الرهن وإن قلنا بأنّ القبض شرط في صحّة الرهن.

وذلك لأنّ الشرط حصول القبض لا استدامته وقد حصل. وكذلك لو قلنا بأنّه شرط للزومه لا لصحّته ، فاللزوم يحصل أيضا بتحقّق القبض ولا يعتبر دوامه.

وادّعى في الجواهر عدم وجدانه الخلاف في هذا الحكم ، وقال بعد ذلك : بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعلّ المحكي منهما مستفيض أو متواتر (1). نعم للمرتهن استحقاق مطالبته ممّن كان بيده ، لأنّه متعلّق حقّه ولا يسقط حقّه بصيرورته في يد

ص: 17


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 108.

غيره ، سواء كان بإذنه أو بدون إذنه.

وعلى كلّ حال ليس استدامة القبض شرطا للصحّة ، وإن قلنا بأنّ أصل القبض شرطا لها ، للأدلّة المقدّمة من الآية والروايات والإجماعات.

وذلك لما ذكرنا من تحقّق الإجماع على عدم شرطيّة الاستدامة ، بل يكفي في تحقّق الصحّة أصل وجود القبض ، فلو عاد الرهن إلى الراهن أو تصرّف فيه تصرّفا لا ينافي كونه رهنا لم يخرج عن حقّ الرهانة ، لعدم ما هو مسقط لهذا الحقّ بمثل هذه الأمور.

فرع : ولو رهن ما هو في يد المرتهن وتحت استيلائه ، ولو كانت يده واستيلاؤه غصبا لزم الرهن ، سواء قلنا بأنّ القبض شرط للصحّة أو شرط للزوم ، وذلك لحصول الشرط أي القبض ، فأخذه من المرتهن وإقباضه له ثانيا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

ولا ينافي ذلك ما تقدّم مت عدم صحّة الرهن لو كان القبض بدون إذن الراهن ، لأن القبض بدون الإذن بمنزلة العدم ، خصوصا على تقدير كونه في يد المرتهن غصبا ، أي غصبه بعد عقد الرهن لا ما غصبه قبل الرهن ، لأنّه في الأخير إذا ورد الرهن على ما هو المغصوب يخرج عن كونه غصبا للزومه مع الرضا بالبقاء ، وذلك لملازمة إرهان ما في يد المرتهن سواء كان غصبا أو وديعة أو عارية مع الإذن والرضا بكونه في يده بقاء أي من حين وقوع الرهن ، فلا يحتاج إلى الأخذ وإقباضه من جديد ، لما ذكرنا من كونه من قبيل تحصيل الحاصل.

وإلاّ لو لم يكن كما ذكرنا ، وكان الرضا والإذن بقاء أيضا بمنزلة العدم ، فلا يفيد في تصحيح الرهن ما ذكره صاحب الجواهر قدس سره من عدم تناول دليل شرطية القبض لمثل المقام (1).

ص: 18


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 109.

لأنّه بعد أن فرضنا أنّ مثل هذا القبض بمنزلة العدم في نظر الشارع مع أنّ القبض شرط شرعي لصحّة الرهن ، فكيف يمكن القول بعدم تناول دليل الشرطيّة لمثل المقام ، وهل هذا إلاّ التناقض؟!

فرع : لو رهن مالا غائبا عن مجلس الرهن ، وقال مثلا أرهنتك المال الفلاني الموجود في بلد آخر غير البلد الذي هما فيه ، فلا يتحقّق الرهن شرعا إلاّ بإقباض نفسه ذلك المال للمرتهن ، أو بإقباض وكيله إن قلنا بأنّ القبض شرط الصحّة ، ولا يصير لازما إلاّ بإقباضه كذلك هو ، أو وكيله إن قلنا بأنّه شرط اللزوم.

وذلك من جهة أنّ القبض الذي قلنا أنّه شرط الصحّة أو اللزوم عبارة عن استيلاء القابض ووقوعه تحت يده وسيطرته ، فما دام الرهن يكون غائبا كيف يستولي عليه كي يحصل القبض.

نعم لو كان للمرتهن وكيل في بلد المال ويأمره قبض المال هناك خصوصا إذا كان للراهن أيضا وكيل يقبضه إيّاه ، فلا شكّ في حصول القبض. ولكن هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام.

وأيضا لو كان هذا المال قبل إيقاع عقد الرهن في قبض المرتهن فأوقعا الرهن فلا يحتاج إلى قبض جديد ، وإن كان فعلا حال وقوع الرهن غائبا. ولكن هذا أيضا خارج عن محلّ الكلام.

وذلك لما تقدّم أنّ هذا من قبيل استدامة قبض الحاصل ، فيكون تجديده من قبيل تحصيل الحاصل ، فحيث أنّه مع غياب الرهن عن مجلس عقد الرهن لا يمكن تحقّق القبض المعتبر في صحّته أو لزومه ، إلاّ في الموارد التي ذكرنا خروجها عن محلّ البحث ، فلا يصحّ أو لا يكون لازما على القولين في اعتباره فيه.

ص: 19

فرع : لو كان ما جعله رهنا مشاعا فلا يجوز تسليمه إلى المرتهن إلاّ برضاء شريكه ، لأنّه تصرّف في مال الغير فلا يجوز بدون رضاه ، نعم لو كان المرتهن هو نفس الشريك فلا يأتي هذا ، وهو واضح.

ثمَّ إنّ الراهن لو سلّمه إلى المرتهن ، فهل يحصل القبض بذلك وإن أثم بتسليم حصّة الغير بدون إذنه ورضاه ، أم لا؟ لا يبعد كفاية ذلك في حصول القبض المعتبر في الصحّة أو اللزوم ، للصدق العرفي وحصول الاستيثاق ، غاية الأمر لا يجوز للمرتهن التصرّف فيه بدون إذن شريك الراهن ، كما أنّه كان لا يجوز له التصرّف فيه بدون إذن الراهن أيضا وإن كان له وحدة.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون مال المشاع المذكور منقولا أو غير منقول ، وأمّا كون التسليم ممنوعا شرعا والمانع الشرعي كالمانع العقلي فكأنّه لم يسلم.

ففيه : أنّ الممنوع شرعا هو تسليم حصّة الشريك ، وهذا منهي عنه وحرام ، فمتعلّق الحرمة والجواز في الحقيقة شيئان وإن كانا يوجدان بفعل واحد ، ولذلك لو باع هذا المال المشاع يصحّ في حصّة نفسه ، ويكون فضوليّا بالنسبة إلى حصّة الآخر ، فلا مانع من وقوع القبض الصحيح وإن صدر منه حرام أيضا. نعم لو كان الإقباض عبادة لما يقع لانضمامه مع المحرّم ، فلا يمكن فيه قصد القربة مع الالتفات إلى انضمامه على ما هو محرّم ، لأنّه من قبيل باب اجتماع الأمر والنهي بناء على كون التركيب بين متعلّقيهما انضماميّا.

وما ذكرنا بناء على دلالة النهي في المعاملات على الفساد ، وأمّا بناء على العدم فالقبض وإن كان منهيّا عنه لكنّه صحيح ، فيترتّب عليه أثره وهو اللزوم أو الصحة بناء على القولين في المسألة.

هذا كلّه لو كان القابض هو نفس المرتهن الذي هو غير الشريك ، أمّا لو وكّل الشريك في القبض ، أو كان المرتهن هو نفس الشريك فلا مانع ويحل القبض الصحيح

ص: 20

قطعا ، والسرّ فيه واضح لا يحتاج إلى البيان والإيضاح.

فرع : لا إشكال في صحّة رهن الأعيان المملوكة التي يصحّ بيعها ويمكن قبضها ، سواء كانت مشاعة أو منفردة.

أمّا لو رهن دينا فهل ينعقد ، أم لا؟

فيه خلاف ، والمشهور قائلون بعدم الصحّة ، بل ادّعى عليه الإجماع في السرائر (1) ، والغنية (2).

وعمدة ما ذكروا في وجه عدم صحة جعل الدين رهنا بعد الإجماع انصراف أدلّة اعتبار القبض في صحة الرهن أو لزومه عن مثل التديّن قبل قبضه ، فقوله علیه السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » وكذلك قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) لا يشمل رهن الدين قبل قبضه.

وأمّا بناء على عدم اعتبار القبض لا في الصحّة ولا في اللزوم ، فالعمدة فيه أنّ الرهن بعد ما كان الغرض من تشريعه الاستيثاق من ماله ودينه - كما هو وارد في أدلّة تشريعه من الروايات المتعدّدة أنّه علیه السلام يقول : « لا بأس به استوثق من مالك » (3) - فلا بدّ وأن يكون فيما يمكن قبضه قبضا حسّيا ، وإن لم يكن القبض فعلا شرطا في صحّته أو لزومه ، ولذلك ترى أنّ القائلين بعدم اعتبار القبض لا في صحّته ولا في لزومه يقولون مع ذلك باشتراط كونه عينا ، وهم كثيرون.

وإذا كان الأمر كذلك وانصرف عقد الرهن إلى ما يمكن قبضه قبضا حسّيا - إذ لا شكّ في أنّ الغرض من الرهن الذي هو الاستيثاق من دين المرتهن يحصل من العين

ص: 21


1- « السرائر » ج 2 ، ص 417.
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 592.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 1 و 4 و 9.

لا من الدين إلاّ قليلا - فدليل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) لا يشمل غير مورد ما يمكن قبضه قبضا حسّيا.

ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا وجوها للزوم كون المرهون عينا خارجيّا ، كلّها غير خال عن الخلل ولذلك تركنا ذكرها.

فرع : لا يجوز رهن ما لا يملك كالخمر والخنزير لعدم حصول الغرض عن الرهن به ، إذ الغرض من الرهن استيفاء المرتهن دينه من العين المرهونة عند عدم إمكان الوصول إلى الراهن ، وهذا لا يمكن فيما لا يملك. وكذلك فيما لا يملكه الراهن بدون اجازة مالكه ، لعين ما ذكرنا من عدم استيفاء دينه منه بدون إجازة مالكه. وكذا لا يجوز رهن الحرّ لعين الدليل ، أي لعدم جواز بيعه. وكذا لا يجوز رهن الوقف لعدم جواز بيعه. وكذا لا يجوز رهن الأراضي الخراجيّة لعدم جواز بيعها.

نعم لو كانت فيها آثار من الأبنية والأشجار ، وقلنا بجواز بيعها تبعا للآثار ، فلا مانع من الإرهان بها أو جعل نفس الآثار الموجودة فيها رهنا دون الأراضي المشغولة بها ، فلا مانع.

وخلاصة الكلام : أنّ الغرض من تشريع الرهن هو أنّه لو امتنع الاستيفاء من الراهن لفلس أو لغيره يستوفي المرتهن دينه من العين المرهونة ، فلا بدّ وأن يكون قابلا للبيع كي يستوفي منه ، فكلّ ما لا يصحّ بيعه لأحد الأسباب المذكورة أو لغيرها فلا يصحّ رهنه.

فرع : ولو رهن ما هو المشاع بينه وبين غيره في عقد واحد نفذ في حصّته ، ويقف في حصّة الغير على إجازته ، ويكون حال ما لو رهن مال لمنفرد مع مال آخر لآخر في عقد واحد.

ص: 22


1- المائدة (5) : 1.

والإشكال عليه - بأنّ العقد واحد ، فلا يمكن أن يكون بالنسبة إلى بعض العين المرهونة أو بالنسبة إلى إحدى العينين صحيحا ، وبالنسبة إلى البعض الآخر أو العين الأخرى باطلا أو موقوفا على إجازة المالك - ليس إلاّ الإشكال المعروف في تبعّض الصفقة في البيع ، والجواب في كلا المقامين واحد ، وهو انحلال العقد بالنسبة إلى كلّ من المبيع والمرهون.

فرع : الظاهر عدم جواز رهن المصحف أو العبد المسلم عند الكافر. لقوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1) في رهن العبد.

وأمّا المصحف فإنّه وإن لم يرد فيه نصّ في المقام ولا في باب البيع إلاّ أنّ الأصحاب تمسّكوا لعدم جواز بيعه من الكافر وكذلك رهنه بالأولويّة القطعيّة.

والإنصاف أنّه كذلك ، لأنّ تسلّط الكافر على القرآن أعظم وهنا للإسلام من تسلّطه على العبد المسلم ، بل يمكن أن يقال بعدم جواز بيع كتب الأحاديث المرويّة عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو عن أحد الأئمّة المعصومين ، وكتب الأدعية والزيارات ككتاب الصحيفة السجادية وأمثالها.

وأمّا ما ذكره بعض أعاظم الفقهاء والأساطين كالشيخ (2) ، والمحقّق (3) ، والعلاّمة (4) ، والشهيدين (5) من أنّه يصحّ رهن ما ذكر ، ويوضع على يد مسلم فرارا من تسلّط الكافر عليه ، لأنّ استيفاء الكافر دينه ببيع المسلم أي المالك أو من يأمره المالك بذلك ، ومثل هذا لا يعدّ من تسلّط الكافر على المذكورات ، وليس سبيلا منه عليها.

ص: 23


1- النساء (4) : 141.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 232.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 77.
4- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 158.
5- الشهيد الأوّل في « الدروس » ج 3 ، ص 390 ، والشهيد الثاني في « المسالك » ج 1 ، ص 227.

فيه : أنّه لا شبهة في أنّ الرهن يوجب ثبوت حقّ للمرتهن على المرهون المسمّى بحقّ الرهانة ، وهو الذي يكون سببا لمنع المالك عن التصرّفات في العين المرهونة. ويمكن أن يقال ثبوت مثل هذا الحقّ للكافر على العبد المسلم سبيل عليه ، كما أنّ ثبوته على المصحف يكون أيضا كذلك ، سواء كانت العين المرهونة في يد مسلم ، أو كانت في يد نفس الكافر.

فرع : لو رهن ما يسرع إليه الفساد - أي قبل حلول الدين - فتارة يمكن منع تطرّق الفساد إليه ، وأخرى لا يمكن. أمّا في الصورة الأولى فالرهن صحيح ، غاية الأمر يجب على الراهن إصلاحه والمنع عن تطرّق الفساد إليه ، وذلك لأنّ مئونة حفظ ماله عليه. وأمّا في الصورة الثانية فإن اشترط على الراهن جواز بيعه عند ما أحسّ بأنّه لو بقي يتطرّق إليه الفساد ويستوفي دينه عن الثمن ، أو يجعل ثمنه رهنا عنده ، فلا مانع أيضا لحصول الاستيثاق بذلك ، كما أنّه لو شرط الراهن عدم بيعه فباطل.

وأمّا لو لم يكن شرط في البين من الطرفين ، لا من المرتهن على البيع ، ولا من الراهن على عدم البيع ، فالظاهر هي الصحة وذلك لإمكان أن يقال بأن يجبره الحاكم على البيع إن لم يكن هو نفسه مقدّما على البيع ، جمعا بين الحقين ، أي حقّ الراهن والمرتهن.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الحال معلوما قبل الرهن ، أو طرأ بعد الرهن ما يقتضي فساد العين المرهونة ، لأنّه على جميع التقادير يجب بيع الراهن وجعل ثمنه رهنا ، جمعا وحفظا للحقّين ، سواء كان سبب طروّ الفساد قبل حلول أجل الدين معلوما ، أو حصل السبب بعد الرهن.

نعم في صورة شرط عدم البيع في الصورة الأولى - أي فيما إذا كان سبب إسراع الفساد معلوما من أوّل الأمر - فالأظهر هو البطلان ، لأنّ ذلك الشرط خلاف ما هو

ص: 24

المقصود والغرض من الرهن ، وهو استيثاق المرتهن من ماله ، فيكون الرهن باطلا من أوّل الأمر.

وأمّا في الصورة الثانية - أي فيما حصل سبب إسراع الفساد إلى العين المرهونة بعد الرهن - فلم يكن الشرط خلاف مقتضى عقد الرهن ووقع صحيحا ، والاستيثاق بقاء يحصل بإجبار الراهن على البيع وجعل بدله رهنا.

كلّ ذلك فيما إذا كان الإسراع إلى الفساد معلوما ، إمّا وجدانا أو ثبت بأمارة شرعيّة وظنّ معتبر. وأمّا الظنّ غير المعتبر فهو في حكم الشكّ ، بل هو هو إلاّ أن يكون بمرتبة ينافي الاستيثاق ، فللمرتهن رفع أمره إلى الحاكم وإجباره على البيع وجعل ثمنه رهنا ، أو المرتهن يأخذه ويبدله برهن آخر.

نعم لو شرط عدم البيع في هذه الصورة الثانية حتّى على تقدير الفساد فأيضا يكون الرهن باطلا ، لأنّ هذا الشرط خلاف مقتضى عقد الرهن يقينا ، فالشرط فاسد قطعا. وأمّا فساد العقد مبنى على كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد أم لا. ولا بدّ من القول بفساد العقد في مثل هذا المقام ، لأنّ هذا الشرط مناف مع ما هو مضمون العقد ، فمرجع هذا الشرط إلى عدم قصد مضمون العقد.

فرع : يجوز أن لا يكون الرهن ملكا للراهن ، بل له أن يرهن مال الغير بإجازة مالكه ، فيبيعه المرتهن بعد حلول أجل الدين إن لم يؤدّه الراهن المديون عصيانا أو لعدم تمكّنه من الأداء.

ثمَّ إنّه هل لمالكه الرجوع عن إذنه بعد وقوع الرهن بإذنه قبل حلول الأجل ، أو بعده ، أم لا؟ وجهان ، بل قولان (1).

ص: 25


1- انظر : « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 125 - 126.

وجه الأوّل : هو أنّ المالك مسلّط على ماله ، وليس ما يوجب قصر سلطنته وعدم تمكّن رجوعه كما في موارد العارية ، له أن يستردّ ماله متى شاء ، وليس ملزما ببقائه وإبقائه بملزم شرعي أو عقلي.

ووجه الثاني : هو أنّ الإذن في الشي ء إذن في لوازمه ، فإذنه في كونه رهنا ملازم عرفا مع التزامه بكونه عند المرتهن وثيقة لدينه الى حلول الأجل ، فإذا لم يؤدّ المديون دينه - عصيانا أو لعدم تمكّنه وتعذّر الأداء لفلس أو لغيره - فله أن يبيع الرهن ويستوفي دينه منه ، فمثل هذا الالتزام من لوازم الإذن في رهن ماله عرفا. ولا بدّ في حصول الغرض من الرهن من القول بلزوم هذا الالتزام وعدم جواز الرجوع عنه ، وإلاّ يكون الإذن وجعله رهنا لغوا وبلا فائدة ، وبناء العرف والعقلاء على لزوم هذا الالتزام الضمني.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الوجه الثاني.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه كلّها وجوه استحسانيّة لا يمكن رفع اليد بها عن سلطنة المالك ، وإجباره على عدم التصرّف في ماله ببيع أو هبة أو ردّه إلى ما كان من محلّ استعمالاته في حوائجه. نعم لو لم يرجع عن إذنه إلى أن باعه المرتهن لاستيفاء دينه ، فله الرجوع إلى الراهن المديون مخيّرا بين أخذ قيمته التي باعه المرتهن بتلك القيمة ، وبين أخذ قيمته الواقعيّة.

فلو كان الثمن الذي به باع الرهن أقلّ من قيمته الواقعيّة ، فله الرجوع إلى الراهن بقيمته الواقعيّة ، كما أنّه لو كان الثمن أزيد من قيمته الواقعيّة له أخذ الثمن ، والوجه في جميع الصور معلوم.

فرع : لو رهن عصيرا فصار خمرا عند المرتهن فلا شكّ في زوال ملكيّة الراهن ، لأنّ الشارع أسقط ماليّة الخمر وملكيّته ولكن حقّ الاختصاص باق ، فله تخليله

ص: 26

ومنع غيره عنه ، فإن كان لهذا الحقّ اعتبار عند العقلاء بحيث يمكن أن يكون وثيقة لدين المرتهن فلا يبطل الرهن ويبقى وثيقة عنده ، وأمّا إذا لم يكن قابلا للاستيثاق به فبقاؤه هنا لا معنى له ويكون لغوا ، فهل للمرتهن مطالبة عوضه كي يكون رهنا عنده أم لا؟

الظاهر أنّه ليس له مطالبة ذلك ، لأنّ الذي وقع عليه الرهن صار تالفا أو بمنزلة التالف ، ولم يشترط المرتهن أن يعوّضه شيئا آخر يكون رهنا عند تلف الأوّل بدلا له ، فليس في البين شي ء آخر يلزم الراهن بذلك.

نعم لو انقلب إلى الخلّ بعد ما صار خمرا فهل يبقى على كونه رهنا ، أو يعود رهنا بعد ما خرج ، أو كونه رهنا يحتاج إلى عقد جديد لبطلان العقد الأوّل لعدم بقاء موضوعه وهو ملكيّة العين المرهونة والزائل لا يعود؟ وجهان.

وجه بقائه رهنا هو أن الملكيّة وإن زالت لإسقاط الشارع ماليّة الخمر ، ولكن حقّ الأولويّة باق ، ولذا لو أخذه بدون رضاء المالك يكون غصبا ، فإن رجع إلى كونه مالا يرجع إلى كونه ملكا لمن زال ملكيّته ، فكذلك بالنسبة إلى كونه رهنا أنّها تعود إلى حالتها الأولى ، وكونها رهنا بعد زوال تلك الحالة بواسطة إسقاط الشارع ماليّتها.

وبعبارة أخرى نقول : فكما أنّ الأولويّة باعتبار الملك باقية وإن خرجت عن الملك ، فيعود إلى كونها ملكا له بعد عودها إلى الملكيّة بواسطة صيرورتها مالا ، فكذلك باقية باعتبار كونها وثيقة ورهنا وإن خرجت عن كونها وثيقة ورهنا بواسطة سقوطها عن الملكيّة ، فتعود بعودها إلى الملكيّة.

وفيه : أنّ هذا قياس مع الفارق ، والفرق هو أنّ الملكيّة ، لا تزول بجميع مراتبها ، بل تبقى مرتبة ضعيفة منها تسمّى بالأولويّة ، ولذلك لو أخذه غيره منه بدون إذنه أو رضائه يكون غصبا ، ولذلك لو عاد ماليّته يصير ما كان مملوكا له بالمرتبة الضعيفة ملكا تامّا قابلا لجميع التصرّفات الجائزة تكوينا وتشريعا ، بخلاف الوثاقة والرهانة

ص: 27

فإنّها تزول بجميع مراتبها ولا يبقى منها شي ء ، فلا بدّ لرجوعها من سبب جديد.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التوثّق أيضا لا يزول بجميع مراتبه ، بل تبقى مرتبة ضعيفة منه وهي إمكان تحصيل ماله ودينه منها ولو بتخليلها ، وهذا عند العرف والعقلاء مرتبة من الاستيثاق من ماله ، فإذا رجع إلى كونه ملكا يرجع إلى كونه رهنا ووثيقة تامّة. هذا وجه بقائه.

وأمّا وجه عدم بقائه هو زوال الملكيّة ، فقهرا يزول كونها رهنا ووثيقة. وممّا ذكرنا يظهر لك ما هو الحقّ في المقام ، وهو بقاء مرتبة من الاستيثاق بعد أن صار العصير المرهون خمرا ، بل المعروف هو أنّ كلّ عصير أرادوا أن يجعلوه خلاّ صار أوّلا خمرا ثمَّ يصير خلاّ ، فلو قلنا إنّ الرهانة تزول بصيرورة العصير خمرا ولا تعود بصيرورته خلاّ ، يلزم منه عدم صحة جعل العصير - الذي بناؤهم على جعله خلاّ - رهنا من أوّل الأمر ، لكونه لغوا لأنّه تزول ولا تعود ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

فرع : لو رهن على دينه مالا ، ثمَّ استدان من ذلك المرتهن دينا آخر ، جاز جعل ذلك الرهن رهنا على الدين الثاني أيضا ، فيكون رهنا على الاثنين. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين الثاني مساويا مع الدين الأوّل في القدر والجنس ، أو مخالفا معه في الاثنين ، أو في أحدهما.

وذلك من جهة أنّه كان له من أوّل الأمر أن يجعله رهنا على دينين في ذمّته لشخص ، فكذلك لا مانع من جعله رهنا عليهما بالتقديم والتأخير بأن يجعله على أحدهما ثمَّ يجعله على الآخر فيما بعد. ولا فرق أيضا بين أن يكون الدينان كلاهما موجودين في زمان الرهن الأوّل ، أو وجد الثاني بعد الرهن الأوّل كما هو المفروض والمذكور في المقام ، وجميع ذلك لعدم التنافي بين كونه رهنا أوّلا ، وبين جعله رهنا ثانيا على الدين الثاني.

ص: 28

إن قلت : إذا امتنع الراهن من أداء دينه الأوّل مثلا ، أو أفلس ، فحيث يجوز بيع الرهن لاستيفاء حقه فلو لم يزد قيمة الرهن على الدين الأوّل فلا يبقى محلّ للاستيثاق من الدين الثاني.

قلنا : أوّلا أنّه ينقض عليه بأنّه لو تلف الرهن قبل حلول الأجل أيضا لا يبقى محلّ للاستيثاق ، ولا شكّ في صحّة الرهن وإن تلف فيما بعد ، ولا يشترط في صحّة بقاء العين المرهونة إلى زمان حلول الأجل وإمكان استيفاء الدين ببيعها.

وثانيا : بأنّه يجوز جعلها رهنا على الاثنين من أوّل الأمر بعقد واحد يقينا وبلا خلاف ، مع أنّه لا فرق في ورود هذا الإشكال بينهما ، لأنّه فيما إذا كان الرهن لدينين بعقد واحد إذا حلّ أجل أحد الدينين قبل الآخر ولم يؤدّ الراهن لفلس أو غيره ، فللمرتهن بيعه واستيفاء دينه منه ، فلا يبقى موضوع للاستيثاق من دينه الآخر.

وثالثا : حيث أنّ المفروض أنّ الدين الأوّل والثاني من شخص واحد ، فإذا كانت العين المرهونة قيمتها وافية بكلا الدينين فيستوفي الاثنين ، وإن كانت أقلّ فيكون حاله حال الرهن الذي يكون قيمته أقلّ من الدين ، ولا إشكال في صحّته إجماعا ، لأنّه يستوثق بذلك الرهن شطرا من ماله.

فرع : الرهن لازم من طرف الراهن وجائز من طرف المرتهن ، وادّعى في التذكرة الإجماع على ذلك (1) وقال في الجواهر : بلا خلاف أجده فيه (2).

والدليل على ذلك - مضافا إلى الإجماع - أصالة اللزوم في جميع العقود العهديّة التي منها الرهن. وحيث التزم الراهن يكون ماله رهنا عند الدائن ووثيقة لماله ، فالتزامه بذلك يكون برعاية حفظ مال الدائن فيكون له حقّا على المديون ، فيجب

ص: 29


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 12.
2- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 221.

على المديون الوفاء بهذا الإلزام والوقوف عند ما التزم به ، فليس له التصرّف في العين المرهونة إلاّ بإذن المرتهن ولا إتلافها ولا نقلها بالنواقل الشرعيّة المنافية لحقّ المرتهن ، كلّ ذلك لأجل أنّ للمرتهن حقّ الاستيثاق من ماله بعد وقوع هذا العقد. وهذا معنى اللزوم من طرف الراهن.

وأمّا الجواز من طرف المرتهن من جهة أنّ لكلّ ذي حقّ إسقاط حقّه فللمرتهن أن يسقط حقّه - أي حقّ استيفاء دينه من الرهن - وله أن يبرئه فيسقط ما في ذمّته من الدين ، فلا يبقى محلّ وموضوع للرهن.

والحاصل : أنّ الراهن حيث التزم للمرتهن بإعطاء الوثيقة لدينه ، فأخذه من المرتهن أو التصرّفات المنافية لكونه وثيقة - من إتلافه أو نقله إلى الغير - لا يجوز بدون إذن المرتهن ، وإذنه في بعض الأحيان في مثل تلك التصرّفات المذكورة يكون كاشفا عن إسقاط حقّه ، أو إبرائه.

ثمَّ إنّه لو أبرأه عن بعض الدين الذي وقع الرهن عليه ، فهل يبطل الرهن بتمامه ، أو يبقى بتمامه ، أو يقسط بالنسبة إلى المقدار الباقي من الدين فيبقى ، والمقدار الساقط بالإبراء فيسقط؟ وجوه ، بل أقوال.

وكذلك تأتي هذه الاحتمالات أو الوجوه فيما لو أدّى بعض الورثة نصيبه من دين مورّثه ، فعلى التقسيط يلزم القول بفكّ نصيبه من العين المرهونة ، وعلى القول بعدم التقسيط وبقائه رهنا على الباقي من الدين لا ينفكّ شي ء من الرهن.

وأمّا احتمال فكّ الرهن بتمامه بأداء بعض الدين أو إبراء البعض ، فبعيد إلى الغاية ، لأنّ الغاية من الرهن هو الاستيثاق من جميع ماله ، لا من بعض دينه.

أقول : الظاهر هو التقسيط فيبطل الرهن بالنسبة إلى المقدار الذي أدّى من الدين ، أو أبرأه الدائن من ذلك المقدار ، وذلك من جهة أنّ ظاهر عقد الرهانة أنّ كلّ جزء من أجزاء هذه العين المرهونة مقابل لما يماثله من أجزاء الدين المشاعة ، فنصفه مقابل

ص: 30

الثلث وهكذا ، بمعنى أنّ المرتهن له أن يستوفي تمام دينه من تمام هذه العين المرهونة ، ونصفه من نصفه وهكذا ، فإذا استوفى نصفه أو ابرأ المديون عن نصف دينه ، فقهرا يبطل الرهن بالنسبة إلى ذلك المقدار ، لأنّ المفروض أنّه لم يبق لذلك المقدار موضوع كي يستوفي المرتهن حقّه من الرهن فينفكّ من العين المرهونة ما هو مقابل ذلك المقدار.

وأمّا احتمال كون مجموع الرهن مقابلا لكلّ جزء من أجزاء الدين ، بأن يكون كلّ جزء من أجزاء الرهن متعلّقا للدين ، فهذا احتمال غير مفهوم.

لأنّه إن أريد منه تعلّق تمام الدين بكلّ جزء من أجزاء العين المرهونة فهذا غير معقول ، لعدم إمكان استيفاء تمام الدين من كلّ جزء من أجزاء الرهن. وإن أريد منه أنّ تمام الدين تعلّق بالرهن بنحو الانبساط فهذا يرجع إلى ما قلنا من أنّ كلّ جزء مشاع من الدين مقابل لمثله من الأجزاء المشاعة للعين المرهونة ، وهذا هو عين التقسيط. وما ذكرنا فيما إذا كان كلّ واحد من الراهن والمرتهن واحدا.

وأمّا فيما إذا تعدّدا ، فتارة يكون الراهن متعدّدا دون المرتهن ، وأخرى بالعكس ، وتارة كلاهما متعدّدان. والأوّل قد يكون التعدّد من أوّل الأمر ، وتارة يحصل بعد وقوع عقد الرهن وتماميّته.

أمّا الأوّل : أي فيما إذا كان الراهن متعدّدا من أوّل الأمر ، كما إذا كان شريكان رهنا مالا لهما في دين عليهما ، فالظاهر أنّ إطلاق الراهن ينصرف إلى كون نصيب كلّ واحد منهما رهنا لدين نفسه ، فلو كان ذلك المال الذي رهناه بينهما بالسوية مثلا ، أي لكلّ واحد منهما نصفه ، فلو أدّى أحدهما ما عليه من الدين يفتكّ نصف ذلك الرهن. ولا ينافي ذلك كون الرهن مشاعا بينهما ، لأنّ الذي يفتكّ أيضا نصفه المشاع الذي كان يملكه وجعله رهنا على دينه ، فإذا أدّى دينه يخرج عن كونه رهنا قهرا.

وأمّا إذا حصل التعدّد بعد وقوع الرهن ، كما إذا رهن المورّث ماله على دينه ثمَّ مات وانتقل الرهن إلى ورثته ، فالمال يبقى رهنا ما لم يؤدّ الورثة دين الميّت ، فيصير

ص: 31

الراهن متعدّدا حسب تعدّد الورثة.

فلو أدّى بعض الورثة نصيبه من الدين فهل يفتكّ نصيبه من المال ، أم لا؟

يمكن أن يقال بعدم فكّ شي ء من الرهن في هذا الفرض ، وذلك لأنّ المورّث جعل مجموع المال رهنا لمجموع الدين ، فما دام شي ء من الدين باقيا ولو كان جزء يسيرا لا يفتكّ شي ء من الرهن ، لتعلّق حقّ الدائن بمجموع العين المرهونة ، وله أن يستوفي جميع دينه من هذه العين ، فما لم يؤدّ الدين تماما وكان باقيا شيئا منه - وإن كان مقدارا قليلا - لا يسقط حقّه المتعلّق بالمجموع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حقّ الدائن وإن تعلّق بالمجموع ولكن بمعنى أنّ كلّ جزء من الرهن بإزاء ما يساويه من الدين ، فيكون كلّ جزء من الرهن مقابل مثله من الدين من الكسور ، فنصف الرهن مقابل نصف الدين وهكذا ، كما تقدّم في بيان تقسيط الدين على الرهن أو بالعكس.

وأمّا لو كان المرتهن متعدّدا دون الراهن ، كما إذا رهن عند شخص فمات المرتهن وانتقل الدين إلى ورثته ، فلكلّ واحد من الورثة حقّ استيفاء حصّته من الدين من مجموع الرهن كما كان لمورّثهم ، فما دام لم يؤدّ الراهن حقّ جميع الورثة لا يفتكّ شي ء من الرهن ، إلاّ على القول بالتقسيط من أوّل الأمر ، أي بالنسبة إلى نفس المورّث.

فبناء على القول بالتقسيط لو أدّى حقّ بعض الورثة يفتكّ من الرهن بتلك النسبة. هذا إذا كان التعدّد حاصلا بعد وقوع الرهن كما في المثل المذكور.

وأمّا إذا كان تعدّد المرتهن من الأوّل ، كما إذا استدان من اثنين فجعل مالا رهنا على كلا الدينين ، فلا شبهة في تعلّق حقّ كلّ واحد من الدائنين - أي المرتهنين - بذلك المال بنسبة دينه إلى مجموع الدينين ، فإن كان الدينان متساويين في المقدار من جنس واحد أو القيمة وإن كان من جنسين ، فلكلّ واحد من المرتهنين حقّ استيفاء دينه من نصف الرهن. وإن كانا مختلفين بحسب القيمة فيستحقّ كلّ واحد منهما من الرهن

ص: 32

بنسبة قيمة ماله إلى مجموع القيمتين ، فلو كان دين أحدهما عشرة مثلا والآخر عشرين ، فصاحب العشرة يستحقّ ثلث الرهن. وهكذا في جميع صور الاختلاف ، والوجه واضح.

فرع : الرهن أمانة مالكيّة عند المرتهن ، فيد المرتهن عليه يد أمانة لا يد ضمان ، فلو تلف الرهن في يد المرتهن وبدون تعدّ ولا تفريط لا يضمن ، لأنّ سبب الضمان في المفروض هي يد غير المأذونة. وفي المقام ليس كذلك إذ هو أمانة مالكيّة ، أي يكون عند المرتهن بإذن المالك ، فيكون من قبيل العين المستأجرة التي سلمها المالك إلى المستأجر لاستيفاء المنفعة منها ، والمفروض أنّه ليس تعدّ ولا تفريط في البين كي يقال بخروج اليد عن كونها أمانة وصيرورتها عادية.

فلا تكون يد المرتهن على الرهن مشمولة لقاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤديها » ، لأنّ المراد باليد في تلك القاعدة هي اليد غير المأذونة ، أو إذا كانت مأذونة ولكن صدر من ذي اليد تعدّ أو تفريط ، والمفروض في المقام أنّ اليد مأذونة وليس تعدّ ولا تفريط في البين ، وليس من موجبات الضمان ما هاهنا سبب وموجب آخر من إتلاف ، أو تعدّ ، أو تفريط ، أو عقد ، أو غير ذلك.

وقد حكى الإجماع من جماعة على عدم ضمان المرتهن فيما إذا تلف الرهن عنده.

قال في الجواهر - في شرح عبارة الشرائع « [ الرهن ] أمانة في يده لا يضمنه لو تلف منه بغير تفريط » - ، بلا خلاف أجده فيه بيننا (1).

ولكن أنت خبير بأنّ عدم الخلاف - وإن تحقّق وحصل - لا يكون من الإجماع المصطلح الأصولي الذي أثبتنا حجيّته مع وجود هذه المدارك ، أي كون عدم ضمانه مفاد القاعدة الأوّليّة ، وهو عدم وجود سبب للضمان في البين ، ووجود أخبار صحيحة

ص: 33


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 174.

صريحة دالّة على عدم الضمان. وبعض الأخبار التي تدلّ على الضمان ليست قابلة لأن تعارض الطائفة الأولى ، لخروجها مخرج التقيّة لموافقتها للعامّة.

الطائفة الأولى ، أي الأخبار الدالّة على عدم ضمان المرتهن لو تلف الرهن عنده بدون تعدّ ولا تفريط :

منها : ما رواه جميل بن درّاج ، عن الصادق علیه السلام قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام في رجل رهن عند رجل رهنا فضاع الرهن ، قال : « هو من مال الراهن ، ويرجع المرتهن عليه بماله » (1).

ومنها : ما رواه أبان بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال في الرهن : « إذا ضاع من عند المرتهن من غير أن يستهلكه رجع بحقه على الراهن فأخذه وان استهلكه ترادّا الفضل بينهما » (2).

وروى هذه الرواية بطرق آخر ، كما هو مذكور في الوسائل (3).

ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الرجل يرهن عند الرجل الرهن فيصيبه توى أو ضياع قال : « يرجع بماله عليه » (4).

ومنها : ما رواه إسحاق بن عمّار ، عن أبي إبراهيم علیه السلام قال : قلت : الرجل يرتهن العبد فيصيبه عور ، أو ينقص من جسده شي ء على من يكون نقصان ذلك؟ قال : « على مولاه ». قلت : إنّ الناس يقولون : إن رهنت العبد فمرض أو انفقأت عينه فأصابه

ص: 34


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 305 ، باب الرهن ، ح 4094 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4102 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 172 ، ح 765 ، باب في الرهون ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 120 ، ح 427 ، باب الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 2.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5. ذيل ح 2.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 310 ، باب الرهن ، ح 4110 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 3.

نقصان من جسده ينقص من مال الرجل بقدر ما ينقص من العبد ، قال : « أرأيت لو أنّ العبد قتل قتيلا على من يكون جنايته؟ » قال : جنايته في عنقه (1).

ومنها : ما رواه الحلبي أيضا ، في الرجل يرهن عند الرجل رهنا فيصيبه شي ء أو ضاع قال : « يرجع بماله عليه » (2).

ومنها : ما رواه إسحاق بن عمّار أيضا ، قال : قلت لأبي إبراهيم علیه السلام الرجل يرهن الغلام أو الدار فتصيبه الآفة ، على من يكون؟ قال : « على مولاه - ثمَّ قال : - أرأيت لو قتل قتيلا على من يكون؟ » قلت : هو في عنق العبد قال : « ألا ترى فلم يذهب مال هذا - ثمَّ قال : - أرأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد وبلغ مأتي دينار لمن كان يكون؟ » قلت : لمولاه قال : « كذلك يكون عليه ما يكون له » (3).

وأخبار آخر ذكرها في الوسائل (4) تدلّ أو تؤيّد ما ذكرنا ، من عدم ضمان المرتهن لو تلف الرهن عنده من دون تعدّ منه ولا تفريط ومن غير أن يستهلكه.

الطائفة الثانية : ما ادّعى أنّ ظاهرها ضمان المرتهن وان لم يكن تعدّ أو تفريط :

فمنها : ما رواه أبي حمزة ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول على علیه السلام « يترادّان الفضل » فقال علیه السلام « كان على علیه السلام يقول ذلك » قلت : كيف يترادّان؟ فقال : « إن كان الرهن أفضل ممّا رهن به ثمَّ عطب ردّ المرتهن الفضل على صاحبه ، وإن كان لا يسوى

ص: 35


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 306 ، باب الرهن ، ح 4096 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ج 11 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 170 ، ح 757 ، باب في الرهون ، ح 14 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 118 ، ح 421 ، باب الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 234 ، باب الرهن ، ح 10 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 172 ، ح 764 ، باب في الرهون ، ح 21 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 121 ، ح 430 ، باب في الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 6.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5.

ردّ الراهن ما نقص من حقّ المرتهن قال : وكذلك كان قول على علیه السلام في الحيوان وغير ذلك » (1).

ومنها : ما رواه ابن بكير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام في الرهن؟ فقال : « إن كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدّى الفضل إلى صاحب الرهن ، وإن كان أقلّ من ماله فهلك الرهن أدّى إليه صاحبه فضل ماله ، وإن كان الرهن سواء فليس عليه شي ء » (2).

ومنها : ما رواه محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في الرهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك ، أن يؤدّى الفضل إلى صاحب الرهن. وإن كان الرهن أقل من ماله فهلك الرهن ، أدّى إلى صاحبه فضل ماله. وإن كان الرهن يسوى ما رهنه ، فليس عليه شي ء (3).

ومنها : ما رواه عبد اللّه بن حكم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل رهن عند رجل رهنا على ألف درهم والرهن يساوي ألفين وضاع ، قال : « يرجع عليه بفضل ما رهنه ، وإن كان أنقص ممّا رهنه عليه رجع على الراهن بالفضل ، وإن كان الرهن يسوى ما رهنه عليه فالرهن بما فيه » (4).

ولا شكّ في أنّ لهذه الطائفة ظهور إطلاقي في ضمان المرتهن وإن لم يكن من طرفه استهلاك أو تعدّ أو تفريط ، ولكن يقيّد هذا الإطلاق بالطائفة الأولى بحمل الثانية على

ص: 36


1- « الكافي » ج 5 ، ص 234 ، باب الرهن ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 171 ، ح 761 ، باب في الرهون ، ح 18 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 119 ، ح 426 ، باب في الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 129 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 234 ، باب الرهن ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 171 ، ح 760 ، باب في الرهون ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 119 ، ح 425 ، باب في الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 129 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 3.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 4115 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 129 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 4.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4101 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 130 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 5.

مورد التفريط ، كما حملها الصدوق (1) والشيخ (2) وغيرهما على ذلك ، فلا تعارض في البين. وهذا جمع عرفي يرفع التعارض.

مضافا إلى إعراض الأصحاب جميعا عن هذه الطائفة الثانية فتسقط عن الحجيّة كما هو المقرّر في الأصول ، وأنّ إعراض الأصحاب كاسر كما أنّ عملهم برواية جابر لضعف سندها.

مضافا إلى أنّها موافقة للعامّة وهذا أيضا موجب لسقوط حجّيتها ، مع وجود المعارض المخالف فلا ينبغي أن يشكّ في هذا الحكم ، أى عدم ضمان المرتهن لو تلف الرهن عنده من غير تعدّ ولا تفريط.

فرع : يجوز للمرتهن اشتراء الرهن من الراهن بما رهن عليه ، أو بغيره بلا إشكال. ولا كلام سواء كان البائع هو نفس الراهن أو من يقوم مقامه ، كما إذا كان وكيله أو وليّه.

نعم ربما يقال بعدم جواز ابتياعه من نفسه لو كان هو الوكيل عن قبل المالك الراهن ، وذلك لأحد وجهين :

الأوّل : اتّحاد البائع والمشتري. وهو واضح البطلان ، لأنّهما مختلفان باعتبار الأصالة والوكالة.

الثاني : انصراف الوكالة إلى البيع من غيره لا من نفسه. وهذا دعوى بلا برهان ، فإنّ الإطلاق يشمله كما يشمل غيره ، وعدم خصوصيّته فيه تكون مانعة من شمول الإطلاق له ، خصوصا فيما إذا كان الفرض من توكيل الراهن إيّاه بيعه بثمنه من أيّ مشتر كان ، كما هو المراد غالبا في أمثال هذه الموارد.

ص: 37


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4101.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 171 ، ذيل ح 761 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 119.

فإذا أعطى متاعه للدلاّل لأن يبيعه ليس نظره إلى أن يبيعه من شخص خاصّ بل من أيّ مشتر كان ، بل المراد أخذ ثمنه ، ولذلك لو اشتراه الدلاّل لنفسه بقيمته الواقعيّة من دون غبن ولا خسارة يكون البيع صحيحا ، ولا وجه للإشكال فيه.

ودعوى الانصراف إلى البيع من غيره لا أساس لها. نعم لو صرّح بذلك وقيّد الوكالة بأن يكون وكيلا في بيعه من غير نفسه فله ذلك ، وحينئذ لا يجوز بيعه من نفسه. وهذه مسألة لا اختصاص لها بباب الرهن ووكالة المرتهن من قبل الراهن ، بل تأتي في مطلق الوكلاء في مطلق المعاملات ، في البيوع والإجارات وغيرهما ، بل تأتي في كونه وكيلا في إيصال الحقوق إلى مستحقّيها ، كالزكوات ، والأخماس ، والصدقات الواجبة غير الزكاة ، وردّ المظالم ، والصدقات المستحبّة وغير ذلك.

فرع : لو تصرّف المرتهن في الرهن بدون إذن الراهن خرجت يده عن كونها يد أمانة وصارت يد ضمان ، وذلك من جهة صيرورتها يد تعدّ وغير مأذونه ، فتكون مشمولة لعموم « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤديها » (1).

فلو كان تصرّفه فيه باستيفاء منفعة منه ، كركوب الدابّة أو سكنى الدار مثلا ، فعليه أجرة المثل ، ولو كان بأكل الثمرة وكلّ نماء منفصل فيكون ضامنا لتلك المنفعة المنفصلة.

وذلك النماء المنفصل - كثمرة الشجرة وطيب الماشية وصوف الأغنام وأمثال ذلك - فإن كان مثليّا فضمانه بالمثل ، وإن كان قيميّا فبالقيمة على قواعد باب الغصب.

وأمّا بالنسبة إلى نفس العين المرهونة فتكون مضمونة عنده ، فلو بقيت سالمة عنده بدون أيّ نقص فيها فيردّها ، وإن تلفت أو تلف شي ء من صفاتها أو بعضها

ص: 38


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 224 ، ح 106 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 88 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 4 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، باب العارية ، ح 2400 ، « تفسير أبو الفتوح الرازي » ج 5 ، ص 407.

يكون ضامنا للتالف على قواعد باب الغصب ، من كونه ضامنا لمثله في المثليّات ، ولقيمته في القيميّات من قيمة يوم التلف ، أو وقت التعدّي ، أو وقت المطالبة ، أو وقت الأداء على اختلاف الأقوال في ضمان المغصوب القيمي ، فكلّ على مبناه.

وخلاصة الكلام : أنّ العين المرهونة بعد ما كانت أمانة في يد المرتهن إذا كانت في يده بإذن الراهن ، لو تصرّف المرتهن فيها بدون إذن الراهن تخرج عن كونها أمانة ويجرى عليها أحكام الغصب.

وما ذكرنا كان مقتضى القواعد الأوّلية في باب الغصب والأمانات ، وقد وردت أيضا مطابقا لما ذكرنا من كون منافع العين المرهونة للمالك الراهن روايات :

منها : ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في كلّ رهن له غلّته أنّ غلّته تحسب لصاحب الأرض مما عليه » (1).

ومنها : ما رواه محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام : « إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : في الأرض البور يرتهنها الرجل ليس فيها ثمرة فزرعها وأنفق عليها ماله أنّه يحتسب له نفقته وعمله خالصا ، ثمَّ ينظر نصيب الأرض فيحسبه من ماله الذي ارتهن به الأرض حتّى يستوفي ماله ، فإذا استوفى ماله فليدفع الأرض إلى صاحبها » (2).

وروايات أخر ذكرها صاحب الوسائل في الباب العاشر من أبواب أحكام الرهن (3).

فرع : لا يجوز للمرتهن التصرّف في الرهن بدون إذن الراهن كما تقدّم في الفرع

ص: 39


1- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ح 13 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 169 ، ح 750 ، باب في الرهون ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 132 ، أبواب الرهن ، باب 10 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ح 14 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 169 ، ح 751 ، باب في الرهون ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 132 ، أبواب الرهن ، باب 10 ، ح 2.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 131 ، أبواب الرهن ، باب 10.

السابق ، ولكن قد يقال بأنّه لو كان للرهن مئونة فأنفق المرتهن عليه ، مثل أن كان الرهن دابّة مثلا فعلفها فله أن يركبها ، أو كان شاة فله أن يشرب حليبها ، أو بستانا ونخيلا فسقاها فله أن يأكل من ثمرها.

وبعبارة أخرى : له أن ينتفع بالرهن عوض النفقة التي يبذلها له.

والكلام في هذا المقام تارة باعتبار القواعد الأوليّة فيما إذا كان مال الغير تحت يده بإذن صاحبه أو لحقّ له في ذلك ، وأخرى باعتبار النصوص الواردة في هذه المسألة.

فنقول : أمّا بالاعتبار الأوّل : فلا شكّ في أنّ نفقة المال على صاحبه ، وتسمّى بنفقة الملك ، فإن تصدّى غيره إمّا بإذن منه ، أو لوجوبه عليه من جهة لزوم حفظ حيوان المحترم فيما لم يكن هناك من ينفق عليه ولم يقصد كونه مجانا ، فيكون ما أنفق في ذمة المالك. فحينئذ لو استوفى منفعة ذلك المال الذي جعل رهنا ، سواء كانت من النماءات المنفصلة أو المتّصلة أو لم يكن شي ء منهما بل كان صرف انتفاع له مالية عند العقلاء والشرع ، فإن كانت تلك المنفعة مساوية مع ما بذله يتهاتران قهرا ، وعند العدم يردّ الزائد على الراهن فيما إذا كانت المنفعة زائدة ، ويأخذ منه إن كانت النفقة أزيد ، وهذا أمر مسلّم.

وأمّا بالاعتبار الثاني : أي النصوص الواردة في المقام ، فظاهرها جواز الانتفاع بالرهن لو أنفق عليه ، سواء كان الإنفاق مساويا مع الانتفاع بحسب القيمة ، أو كانا متفاضلين.

فمنها : رواية أبي ولاّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يأخذ الدابّة والبعير رهنا بماله له أن يركبه؟ قال : فقال علیه السلام : « إن كان يعلفه فله أن يركبه ، وإن كان الذي رهنه عنده يعلفه فليس له أن يركبه » (1).

ص: 40


1- « الكافي » ج 5 ، ص 236 ، باب الرهن ، ح 16 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 307 ، باب الرهن ، ح 4098 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 176 ، ح 778 ، باب في الرهون ، ح 35 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 134 ، أبواب الرهن ، باب 12 ، ح 1.

ومنها : رواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن على علیهم السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الظهر يركب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركبه نفقته ، والدّر يشرب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يشرب نفقته » (1).

والروايتان مطلقتان تشملان صورة تساوى النفقة مع المنفعة المستوفاة وعدم تساويهما ، وأيضا مطلقتان بالنسبة إلى صورة إذن الراهن في التصرّف وعدمه.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكن الأخذ بهذين الإطلاقين ، مع إعراض جلّ الأصحاب عنهما ، ومخالفتهما للقواعد المقرّرة في باب استيفاء منافع مال الغير بدون إذنه ، أو مع إذنه ولكن لم يقصد المالك كونه مجانا.

فالأحسن حمل الروايتين على صورة تساوى النفقة مع المنفعة المستوفاة وكون المرتهن مأذونا عن قبل الراهن ، بقرينة أنّه رهنه ولم ينفق عليه ، حيث أنّ بناء العرف والعادة أنّهم إذا رهنوا حيوانا ولم ينفقوا عليه على أنّ للمرتهن التصرّف والانتفاع به عوض إنفاقه عليه.

فرع : يجوز للمرتهن استيفاء دينه ممّا في يده من الرهن إن مات الراهن وخاف جحود الورثة للدين أو الرهانة ، لو اعترف بأنّ ما في يده رهن من قبل الميّت على دين في ذمّته ، وليست له بيّنة مقبولة بحيث يكون قادرا على إثبات دينه وأنّ ما في يده رهن عليه ، وذلك لحفظ ماله وعدم تضييعه. وقد تقدّم أنّ أصل تشريع الرهن لأجل هذه الجهة.

وأما الإشكال على هذا - بأنّ الرهن بعد موت الراهن انتقل إلى الورثة ، وليس

ص: 41


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 306 ، باب الرهن ، ح 4095 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 134 ، أبواب الرهن ، باب 12 ، ح 2.

للمرتهن استيفاء دينه من مال غير المديون ، لأنّ المديون هو الميّت لا الورثة - فليس بشي ء لأنّ الرهن ينتقل إلى الورثة بما هو متعلّق لحقّ الغير ، فإنّ ملكيّة الوارث ليس بأشدّ من ملكيّة المورث لأنّه فرعه ، وما كان له ينتقل إلى وارثه لا ما ليس له.

فكما أنّه لو كان حيّا وكان استيفاء الدين منه متعذّرا لفلس ، أو كان متعسّرا لمطل كان للمرتهن استيفاء دينه من ذلك الرهن ولو كان بدون رضاء المالك الراهن وإذنه ، فكذلك الأمر بعد انتقاله إلى الورثة.

هذا ، مضافا إلى ادّعاء الإجمال على هذا الحكم (1) نعم لو أقرّ واعترف بأنّ ما عنده مال الميّت وهو رهن عنده على دين له في ذمّة الميّت ، فيؤخذ بإقراره وللورثة انتزاع ما في يده ، وعليه إثبات أنّه رهن على دين له في ذمّة الميّت على قواعد باب القضاء.

وقد وردت رواية أيضا في كلا الأمرين. فالأوّل أي جواز استيفاء دينه ممّا في يده إن لم تكن له بيّنة ، أي : ليس قادرا على الإثبات. والأمر الثاني أي لو اعترف وأقرّ بأنّ ما في يده للميّت يؤخذ منه ويكلّف بالبيّنة على قواعد باب القضاء.

وهي مكاتبة سليمان بن حفص المروزي ، أو عبيد بن سليمان كتب إلى أبي الحسن علیه السلام في رجل مات وله ورثة ، فجاء رجل فادّعى عليه مالا وأنّ عنده رهنا ، فكتب علیه السلام : « إن كان له على الميّت مال ولا بيّنة عليه ، فليأخذ ماله بما في يده ، وليردّ الباقي على ورثته. ومتى أقرّ بما عنده أخذ به وطولب بالبينة على دعواه وأوفى حقّه بعد اليمين ، ومتى لم يقم البيّنة والورثة ينكرون ، فله عليهم يمين علم يحلفون باللّه ما يعلمون أنّ له على ميّتهم حقّا » (2).

ص: 42


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 182.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 310 ، باب الرهن ، ح 4111 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 178 ، ح 784 ، باب في الرهون ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 140 ، أبواب الرهن ، باب 20 ، ح 1.

وظاهر هذه الرواية جواز استيفاء المرتهن دينه من الرهن من غير تقييده بالعلم أو الظنّ بجحود الورثة أو خوف الجحود ، بل جعل موضوع جواز الاستيفاء فيها هو أن يكون له على الميّت مال ولم تكن له بيّنة على أنّ الميّت مديون له وهذا الذي عنده رهن على دينه.

ولكن تعليق الحكم على أن يكون له مال في ذمّة الميّت مع عدم البيّنة ، له ظهور عرفي في أن يكون ماله بواسطة عدم البيّنة في معرض الإتلاف ، وهذا هو المراد من خوف جحود الورثة ، فلا يحتاج إلى العلم بجحودهم ، بل بصرف الاحتمال العقلائي بحيث يكون موجبا لسلب الاطمئنان يجوز بيعه واستيفاء دينه منه. وعلى هذا أيضا ادّعى الإجماع في مجمع البرهان (1) وشرح الإرشاد (2) والقول بأنّ الرواية مطلقة من ناحية الخوف لا أساس له.

فرع : لو مات المرتهن ولم يعلم بوجود الرهن في تركته ولم يعلم تلفه في يده بتفريط منه ، فلا يحكم بكونه في ذمّته ، وذلك لعدم الدليل على ضمانه لأصالة برأيه ذمّته. وبصرف أنّه كان عنده لا يثبت ضمانه ، لاحتمال تلفه من دون تعدّ وتفريط من قبله ، فيكون تمام تركته لوارثه إذا لم يعلم أنّ فيها من الرهن شي ء.

وخلاصة الكلام : أنّ يد المرتهن حيث أنّها أمانيّة مالكيّة فلا تشمله قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤديها ». وقاعدة الإتلاف لا تأتي ، للشكّ في موضوعها وأنّ المرتهن أتلفه ، فلا موجب للضمان.

نعم لو ثبت وجدانا أو تعبّدا وجوده في التركة ، يجب على الورثة ردّه إلى الراهن أو ورثته مع تميّزه أو يكون شريكا مع الورثة مع المزج أو الخلط الذي لا يمكن فصله

ص: 43


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 9 ، ص 161.
2- حكاه عن شرح الإرشاد في « الرياض » ج 1 ، ص 558 ، و « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 183.

عنها ويكون الفصل متعذّرا بل وإن كان ممكنا ولكن كان متعسرا.

ولذلك قال بعض أساتيذنا في هذا المقام : نعم لو علم أنّه قد كان موجودا في أمواله الباقية إلى بعد موته ، ولم يعلم أنّه بعد باق فيها أم لا ، كما إذا كان سابقا في صندوقه داخلا في الأموال التي كانت فيه وبقيت إلى زمان موته ، ولم يعلم أنّه قد أخرجه وأوصله إلى مالكه أو باعه واستوفى ثمنه أو تلف بغير تفريط منه أم لا ، لم يبعد أن يحكم ببقائه فيها ، فيكون بحكم معلوم البقاء.

وحاصل هذا الكلام : أنّه بواسطة جريان استصحاب البقاء في التركة الموجودة يحكم بوجوب إخراجه إلى الراهن ، وكونه شريكا مع الورثة فيما إذا لم يتميّز ولم نقل بإخراجه بالقرعة.

ولا يتوهّم أنّه دائما يكون الأمر من هذا القبيل ، لأنّه دائما بعد أخذ الرهن وقبضه من طرف المرتهن يدخل في جملة أمواله التي تكون تحت يده ، غاية الأمر تكون يده على الرهن أمانيّة ، وعلى أمواله مالكيّة. وهذا لا يوجب فرقا في المقام ، لأنّه لا شغل لنا بكون اليد من أيّ القسمين ، بل المقصود هو وجود الرهن في التركة وبقاؤه إلى ما بعد وفاته ، وهذا المعنى يثبت بالاستصحاب في جميع الموارد.

وذلك من جهة أنّ الاستصحاب في غير الصورة المفروضة يكون مثبتا ، لأنّ بقاءه في التركة في غير هذه الصورة المذكورة من لوازم بقاء العين المرهونة عقلا ، وإلاّ فبقاؤه في التركة الموجودة ليس عين بقائه ولا من لوازمه الشرعيّة ، وذلك لإمكان أن يكون باقيا ولم يتلف ، ولكن أودعه عند شخص أمين ، أو أخفاه ، أو دفنه في مكان لحفظه ، وكتب اسم ذلك الشخص أو ذلك المكان ولكن ضاع الكتاب بعد موته ، ولم يطلع الورثة على ذلك الكتاب كي لا يقال أنّه صار ضامنا لتفريطه بواسطة عدم الكتابة.

وعلى كلّ حال بصرف وصوله إلى يد المرتهن لا يمكن إثبات أنّه في التركة

ص: 44

الموجودة باستصحاب بقائه وعدم تلفه ، وأيضا لا يمكن إثبات كونه في ذمّة المرتهن لكي يؤدّي من تركته ، لأصالة عدم تلفه أو عدم تفريطه وإن تلف.

ولا شكّ في أنّ مع وجوده وعدم تلفه ، أو عدم تفريطه وإن تلف ، لا يكون المرتهن ضامنا ، لكون يده يد أماني لا ضماني فيها ، إلاّ مع التعدّي والتفريط ، وهما منفيّان بالأصل ، فيكون جميع التركة للورثة ظاهرا حسب الأصول الجارية في المسألة ، وإن كان في الواقع بعضها للراهن ، كما هو الحال في جميع صور خطاء الأصول والأمارات ، بناء على ما هو الحقّ عندنا من عدم صحّة جعل المؤدّي في الأصول والأمارات وبطلان القول بالتصويب.

وقد ذكر في الجواهر لهذا الفرع ستة صور :

الأولى : هي العلم بوجود العين المرهونة في التركة.

وحكمها واضح ، وهو أنّه لو عرف متميّزا عن غيره من دون اشتباه مع غيره ومن دون خلط ولا مزج ، فيجب على الورثة ردّه إلى الراهن المالك له. وأمّا مع الخلط المتعسّر فصله أو المزج ، فيكون شريكا مع صاحب الآخر المخلوط أو الممزوج ، ومع الاشتباه فالقرعة أو التصالح.

الثانية : أن يعلم أنّه كان عند الميّت ولم يعلم كونه في التركة أو تلف بغير تفريط أو لا.

وحكمها أصالة براءة ذمّة الميّت ، لاحتمال تلفه بغير تفريط ، فلا ضمان. وأيضا لاحتمال كونه في التركة مع عدم تقصير الميّت في الوصية به والإشهاد عليه ، كي لا يكون ضامنا من هذه ، إذ ترك الوصيّة والإشهاد بمنزلة الإتلاف يوجب الضمان.

وأمّا التركة فحيث ليس أمارة أو أصل يثبت كونه فيها ، لاحتمال تلفه بغير تفريط فيحكم بظاهر الحال أنّ جميعها للورثة ، وأصالة عدم تلفه وبقائه مثبت بالنسبة إلى

ص: 45

كونه في التركة ، فمقتضى عمومات الإرث كون جميع ما صدق عليه عنوان « ما تركه الميّت » لورثته.

ولا يتوهّم أنّ كون جميع المال من مصاديق « ما ترك » مشكوك ، فلا يمكن التمسّك بمثل هذا العموم ، لأنّها من الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ.

وذلك لأنّ يد الميّت عليها أمارة الملكيّة ، فيصدق عنوان « ما ترك » على الجميع. نعم لو علمنا أنّه كان فيما ترك إلى زمان الموت ، ولكن احتملنا تلفه بغير تفريط بعد ذلك وصدق ما ترك على الجميع مشكوك ذلك العلم.

الثالثة : أن يعلم كونه عنده كذلك ، ولكن ليس في التركة قطعا.

وحكمها عدم ضمان الميّت ، لاحتمال أن يكون تلف بغير تفريط ، فالضمان مشكوك ومورد جريان البراءة. وأمّا التركة فالمفروض أنّه ليس فيها قطعا ، وأيضا من المحتمل أنّه قبل موته رده إلى صاحبه ، أو باعه واستوفى دينه منه.

الرابعة : أن يعلم تلفه في يده ، ولكن لم يعلم أنّه بتفريط أو لا.

فحكمها أيضا عدم الضمان ، لأنّ الضمان في هذه الصورة متوقّف على التفريط ، والأصل عدمه.

الخامسة : أن يعلم أنّه كان عنده إلى أن مات وأنّه لم يتلف منه ، إلاّ أنّه لم يوجد في التركة.

وحكمها مع عدم تقصير من قبل الميّت بترك الوصية والإشهاد براءة ذمّة الميّت وكون جميع التركة للورثة. نعم لو ادّعى الراهن على الورثة أو على غيرهم كونه في يدهم أو أنّهم أتلفوا ، فيرجع المسألة إلى باب القضاء ، ويجرى فيها أحكام القضاء من كون المدّعى عليه البيّنة ، والمنكر عليه اليمين.

السادسة : مثل الصورة الخامسة عينا إلاّ أنّه يحتمل التلف بعد الموت.

ص: 46

وحكمها مثل الصورة السابقة عينا إلاّ أن يدّعى الراهن تقصير الميّت في الوصيّة أو في ترك الإشهاد ، فيرجع المسألة إلى القضاء ، ويجرى فيها موازينها. أو يدّعى إتلاف الورثة أو غيرهم ، فأيضا يرجع إلى باب القضاء ، ويجرى فيها موازينها.

هذا كلّه فيما إذا علم بأصل الرهن وأنّ لهذا الدين كان رهنا (1).

وأمّا إذا شكّ في أنّه هل كان لهذا الدين رهن أم لا ، فلا شكّ في أماريّة اليد وأنّ جميع المال للميّت وانتقل منه إلى الورثة ، والأصل عدم تحقّق رهن في البين.

فرع : لو صار مفلسا وحجر عليه ، أو مات وما يملكه في الأولى لا يفي بديونه كما هو المفروض ، وفي الصورة الثانية تركته لا تفي بديونه - وقد لا يكون له مال أو تركة غير ما رهن عند بعض الديان - فهل المرتهن مقدّم على سائر الديّان في استيفاء دينه من العين المرهونة عنده؟ فإن فضل شي ء فالفاضل لسائر الغرماء ، أو كلّهم شركاء فيها تتوزّع بينهم بنسبة حصص ديونهم ، أو يفصّل بين أن يكون الراهن حيّا وقد حجر عليه لفلس أو غيره فالأوّل ، وبين أن يكون ميّتا فالثاني؟

أقول : أمّا فيما إذا كان الراهن حيّا ، فالظاهر عدم الخلاف في أنّ المرتهن أحقّ من سائر الغرماء باستيفاء دينه منها ومقدّم عليهم ، مضافا إلى أنّ هذا هو علّة تشريع الرهن ، لقولهم علیهم السلام في أكثر أخبار الباب : « لا بأس به استوثق من مالك » (2) ومعلوم أنّ الاستيثاق لا يحصل إلاّ بتقديمه على سائر الغرماء ، بل لفظ « الرهن » يفيد هذا المعنى.

وأمّا فيما إذا كان ميّتا ، فالمشهور قائلون أيضا بتقديم المرتهن على سائر الغرماء ، ولكن هناك روايتان ظاهرتان في عدم تقديم المرتهن على سائر الغرماء ، بل كلّهم شركاء في العين المرهونة بنسبة ديونهم :

ص: 47


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 171 - 172.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 1 ، 4 ، 6 و 9.

إحديها : رواية عبد اللّه بن الحكم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أفلس وعليه دين لقوم ، وعند بعضهم رهون وليس عند بعضهم ، فمات ولا يحيط ماله بما عليه من الدين ، قال علیه السلام : « يقسّم جميع ما خلف من الرهون وغيرها على أرباب الدين بالحصص » (1).

الثانية : رواية سليمان بن حفص المروزي قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام في رجل مات وعليه دين ولم يخلف شيئا إلاّ رهنا في يد بعضهم ، فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال المرتهن ، أيأخذ بماله أو هو وسائر الديّان فيه شركاء؟ فكتب علیه السلام : « جميع الديّان في ذلك سواء ، يتوزّعونه بينهم بالحصص » (2).

ولا شكّ في ظهور هاتين الروايتين في عدم أحقّية المرتهن في استيفاء دينه من العين المرهونة وتقديمه على سائر الغرماء ، ولكنّهما حيث أعرض المشهور عن العمل بهما - مع أنّهما مخالفان لحقيقة الرهن والغرض منه وعلّة تشريعه ، للأخبار الكثيرة الواردة في أنّ تشريعه لاستيثاق الدائن من مال (3). هذا ، مضافا إلى ضعف سند مكاتبة سليمان بن حفص المروزي - فلا مجال للعمل بهما والأخذ بمضمونهما ، فلا بدّ إمّا من حملهما على ما لا ينافي تقديم المرتهن على سائر الغرماء وإن كان الراهن ميّتا ، أو طرحهما.

نعم لو أعوز الرهن ولم يكن وافيا وقصر عن الدين وزاد الدين ، فيكون المرتهن شريكا مع سائر الغرماء بالنسبة إلى الزائد.

ص: 48


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 307 ، باب الرهن ، ح 4100 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 177 ، ح 783 ، باب في الرهون ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 139 ، أبواب الرهن ، باب 19 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 310 ، باب الرهن ، ح 4111 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 178 ، ح 784 ، باب في الرهن ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 139 ، أبواب الرهن ، باب 19 ، ح 2.
3- « الوسائل » ج 13 ، ص 121 ، كتاب الرهن ، باب 1 ، باب جواز الارتهان على الحق الثابت.

فرع : لو أذن المرتهن بيع العين المرهونة فباعها المالك ، فهل يكون عوضه رهنا وإن لم يشترط ذلك ، أم لا؟

أقول : لا إشكال في أنّ حقّ الرهانة متعلّق بنفس العين المرهونة ومتقوّم به ، ولذلك لو تلف لا يبقى محلّ لذلك الحقّ ، فلو باع وصار ملكا لشخص فإن كان مع ذلك متعلّقا لحقّ المرتهن ، فلم ينتقل إلى المشتري ملكا طلقا ، وهو خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّه بعد إذن المرتهن يرتفع المانع من صحة البيع ، وينتقل الرهن إلى المشتري ملكا تامّا لا علاقة للمرتهن به أصلا.

وأمّا كون عوضه متعلّقا لحقّ المرتهن فيحتاج إلى سبب جديد ، لأنّ الحقّ الأوّل انعدم بانضمام متعلّقه عقلا ، ولا يعقل بقاؤه بدون المتعلّق ، والعوض موضوع آخر ، فكونه متعلّقا لحقّ الرهانة حقّ جديد ، ويحتاج إلى جعل وسبب جديد.

ولذلك لو أذن وشرط في ضمن عقد لازم كون عوضه رهنا ، يكون رهنا بسبب الشرط ، ولا مجال لجريان استصحاب بقاء الحقّ بالنسبة إلى عوض الرهن بعد بيع نفسه ، لأنّ الحقّ كان متعلّقا بعين الرهن ، وبنقله إلى الغير انعدم ذلك الحقّ ، وحدوث الحقّ بالنسبة إلى عوضه فردا آخر من الحقّ مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه ، على فرض تسليم الشكّ في حدوثه.

وأمّا استصحاب الجامع بين الفردين ، فهو من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي لا نقول بصحّته ، والمسألة محرزة في الأصول ، وقد نقّحناه في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

نعم ربما يكون الشرط شرطا ضمنيّا حسب متفاهم العرف من الكلام ، أو يكون الإذن في البيع مبنيّا عليه حسب ما بينهما من القرائن المحتفّة بالكلام.

وعلى كلّ حال سقوط حقّه بوقوع البيع لا بالإذن فيه ، لأنّه لم يسقط حقّه ، وإنّما

ص: 49


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 448.

نقول بسقوطه من جهة انعدام متعلّقه وعدم معقوليّة بقائه ، ولا ينعدم إلاّ بنفس البيع خارجا لا بالإذن فيه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ للمرتهن الرجوع عن إذنه قبل البيع ، لأنّه قبله حقّه باق لم يسقط ، فله أن يرجع عن إذنه إذ الإذن ليس من العقود اللازمة كي يجب الوفاء به والبقاء عنده. نعم لو قيل بسقوط حقّه بصرف الإذن فيصير أجنبيا عن الرهن ، ويصير كما لم يكن رهن من أوّل الأمر ، فلا وجه يبقى للرجوع.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا فيما لو كان إذن المرتهن قبل حلول الأجل ، وأمّا لو كان بعد حلول الأجل فحيث أنّ المرتهن كان له أن يستوفي دينه من ثمنه بأن يبيعه هو بنفسه ، أو يوكل غيره في بيعه ، أو يبيعه المالك بإذنه ، فإذنه بالبيع لا ينافي حقّ الاستيفاء من ثمنه ، فبإذنه لا يسقط مثل هذا الحقّ. وهذا ليس من حقّ الرهانة كي يقال بعدم معقوليّة بقائه بعد البيع ، بل من آثار حقّ الرهانة الذي كان له قبل البيع ، وهذا واضح جدّا.

فرع : لو أذن الراهن للمرتهن في بيع الرهن ، فتارة يكون بيعه قبل حلول الأجل ، وأخرى بعده.

أمّا الأوّل : فليس للمرتهن التصرّف في الثمن بدون إذن الراهن ، لدخوله بعد البيع في ملك الراهن بمقتضى المعاوضة ، والمفروض أنّه قبل حلول الأجل فلا يستحقّ فعلا على الراهن شيئا من قبل دينه ، فيكون حال ثمن الراهن حال سائر أحوال الراهن ، ليس للمرتهن إليها سبيل.

وأما بقاؤه رهنا عند المرتهن مثل معوّضه ، فقد تقدّم في الفرع السابق أنّه يحتاج إلى جعل وإرهان جديد ، لعدم معقوليّة بقاء الحقّ المتعلّق بمعوّضة بعد نقله ملكا طلقا إلى المشتري ، والمفروض أنّه ليس هناك سببا وجعلا جديدا في البين.

نعم لو اشترط شرطا جديدا على الراهن - بأن يكون العوض بعد البيع رهنا

ص: 50

عنده وقلنا بلزوم الوفاء بالشرط مطلقا أو كان الشرط على الراهن في ضمن عقد لازم ، فيجب على الراهن جعله رهنا مثل معوّضة ، أو كان بنحو شرط النتيجة بأن يكون العوض رهنا ، وبنينا على تأثير الشرط في حصول مثل هذه النتيجة - يكون رهنا بمحض هذا الشرط ، ولا يحتاج إلى جعل جديد من قبل الراهن.

وأمّا الثاني : أي إذا كان البيع بعد حلول الأجل ولم يكن شرط في البين ، فإن كان الراهن ممتنعا عن أداء دينه بمال آخر أو بهذا الثمن ، فللمرتهن بيعه واستيفاء دينه من هذا الثمن ، فإن زاد عن دينه يسلم الفاضل إلى الراهن المالك ، وإن نقص يطالبه بالنقيصة.

ولكن هذا مع فقد الحاكم أو عدم اقتداره وان كان لعدم بسط يده ، وأمّا إن كان وكان مبسوط اليد فيجب الرجوع إلى الحاكم لإلزامه بالبيع والإذن فيه للمرتهن أو لغيره ، لقوله علیه السلام : « مجاري الأمور بيد العلماء » ولأدلّة أخرى تدلّ على أنّ الحاكم هو ولي الممتنع ، ولأنّ من عدم مراجعة الحاكم وبيعه بنفسه - من دون إذن المالك أو الحاكم الذي له الولاية على الجهات العامّة - ربما يلزم منه الهرج والمرج.

وأمّا إذا لم يكن الراهن ممتنعا عن أداء دينه وأراد إعطاء ذلك من مال آخر ، فليس للمرتهن إلزامه باستيفاء دينه من خصوص ثمن الرهن ، وهو واضح.

فرع : لو شرط المرتهن على الراهن في عقد الرهن أن يكون الرهن مبيعا بالدين الذي وقع عليه الرهن إن لم يؤدّ الدين إلى وقت كذا ، فهل هذا الشرط صحيح ويؤثّر في صيرورته مبيعا وملكا للمرتهن عوض دينه الذي يطلب من الراهن ، أو فاسد لا أثر له؟ وعلى الأخير وكون هذا الشرط فاسدا هل يوجب فساد عقد الرهن الذي وقع هذا الشرط في ضمنه أم لا؟ أقوال :

أمّا الأوّل - أي كون هذا الشرط فاسدا - فالظاهر أنّه إجماعيّ. وقال في الجواهر

ص: 51

لم يصحّ قولا واحدا (1).

وجه الفساد والبطلان هو كون الرهن علّق على عدم أداء الدين في وقت كذا ، والتعليق موجب لبطلان البيع إجماعا ، فيكون هذا الشرط فاسدا لا اثر له شرعا.

مضافا إلى أنّ هذا من قبيل شرط النتيجة ، أي كون الرهن مبيعا ، ولم يثبت أنّ هذا الشرط يكون من أسباب وقوع الرهن مبيعا ، بل الظاهر أنّ للبيع أسبابا خاصّة لا يصحّ إلاّ بها ، فوقوعه بالشرط ولو لم يكن معلّقا لا يخلو من الإشكال.

وأمّا الثاني - أي فساد عقد الرهن - وجهه أنّه لو قلنا بأنّ فساد الشرط موجب لفساد العقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه - وبعبارة أخرى إنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد الذي وقع في ضمنه - فواضح ، لأنّ المفروض أنّ هذا الشرط ، أي صيرورة الرهن مبيعا فاسد ، فالرهن الذي وقع هذا الشرط في ضمنه فاسد.

وأمّا لو لم نقل بأنّ فساد الشرط يسري إلى العقد ، والشرط الفاسد ليس بمفسد كما هو المختار عندنا ، فيكون فساد الرهن لكونه موقّتا ، أي يكون انتهاء زمانه تعذر الأداء أو عدمه. وإن لم يكن متعذّرا بل كان ميسورا ولكن الراهن يماطل في الأداء والتوقيت في الرهن بغير الأداء مبطل إجماعا ، ولأنّ التوقيت بغير الأداء والوفاء مناف للاستيثاق الذي هو علّة تشريع الرهن ، وذلك لأنّه لو خرج الرهن عن ملك الراهن حال تعذّر الأداء أو حال عدمه وإن لم يكن متعذّرا أو متعسّرا عليه ، فلا يمكن استيفاء الدين به ويخرج عن كونه رهنا.

ولكن الإنصاف أنّه لو لم يكن الشرط الفاسد مفسدا للعقد - كما هو الصحيح عندنا - ولم يكن إجماع في المسألة لكان هذا التعليل لا يخلو عن المناقشة ، لأنّ الرهن مع مثل هذا الشرط يكون موجبا للاستيثاق قطعا ، لأنّ الراهن إمّا يؤدّي أو يكون هذا الرهن ملكا للمرتهن عوض دينه ، وعلى كلا التقديرين يكون ماله محفوظا إمّا

ص: 52


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 226.

بالأداء وإمّا بعوضه وهو نفس الرهن.

ثمَّ إنّه لو تلف مثل هذا الرهن في يد المرتهن ، فإن كان التلف قبل صيرورته بيعا فاسدا فلا ضمان ، لأنّ « ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده ». ومعلوم أنّ الرهن إذا تلف في يد المرتهن في العقد الصحيح لا ضمان له لأنّه أمانة مالكيّة ، ففي الفاسد كذلك.

وأمّا لو تلف بعد تعذّر الأداء وصيرورته بيعا فاسدا ، فيكون المرتهن ضامنا ، لقاعدة « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » ومعلوم أنّ البيع يضمن بصحيحه بضمان المسمّى فيضمن بفاسده.

والدليل على صحّة هاتين القاعدتين وتماميّتهما ذكرنا في بعض مجلّدات هذا الكتاب. وأمّا تطبيقهما على هذا المورد ففي غاية الوضوح ، ولا يحتاج إلى أزيد ممّا بيّنّا.

فرع : منافع العين المرهونة وكلّ ما يحصل منها من الفوائد تكون لمالك الرهن ، سواء كانت تلك المنافع والفوائد متّصلة أو منفصلة ، وسواء كانت بالاكتساب أو بغيره. وما كانت بالاكتساب كحيازة العبد المرهون ، أو غزل الجارية المرهونة مثلا ، وهذا واضح ، لأنّ كون منافع الملك للمالك ينبغي أن يعدّ من الضروريّات ، وليس محلاّ للإشكال والخلاف.

وإنّما الكلام وقع في أمر آخر ، وهو أنّ المنافع التي للعين المرهونة مطلقا من أيّ قسم كانت - أي متّصلة كانت أو منفصلة كانت ، موجودة حال وقوع عقد الرهن عليها أو تجدّدت وحصلت بعد الرهن ، شرط المرتهن أو لم يشترط - كلّها داخلة في الرهن ، أو لا يدخل كلّها مطلقا إلاّ إذا اشترط أو يفصّل بينهما والتفصيل أيضا أقسام؟

أقول : لا ينبغي أن يشكّ في دخول المنافع المتّصلة التي ليس لها وجود مستقلّ في قبال ذوات المنفعة ، بل تعدّ من أوصافها وأعراضها في الرهن. والعمدة في دليل ذلك هو شمول اللفظ لها ، فإذا قال الراهن : رهنتك هذا الغنم على الدين الفلاني. فسمنه أو

ص: 53

كمّيته الموجودة فعلا ، أو ما يتجدّد بعد العقد من وزنه وطوله وعرضه كلّها مشمولة لهذه اللفظة ، ويدلّ عليها بالدلالة التضّمنيّة فوقع العقد عليها.

وأمّا ما عدا ذلك فلا بدّ أن ينظر أنّ اللفظ يدلّ عليها في متفاهم العرف بحيث وقع إنشاء الرهن بتوسيط تلك اللفظة عليهما فداخل ، وإلاّ فخارج. وهذا هو الضابط الكلّي الذي يجب رعايته ولا يجوز التعدّي عنه إلاّ لأحد أمرين : إمّا الإجماع على دخول شي ء في الرهن وإن لم يكن مشمولا للفظ أو على خروج شي ء يكون مشمولا له ، وإمّا الاشتراط من الطرفين الراهن والمرتهن بدخوله أو خروجه.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما ذكره في الشرائع من دخول الحمل المتجدّد بعد الارتهان في رهن الأمّ (1) ليس كما ينبغي ، إلاّ أن يشترط أو يكون إجماع عليه ، وكذلك الثمر في النخل والشجر.

فلو رهن بستانا ، العين المرهونة هي الأرض مع ما فيها من النخيل والأشجار ، وأمّا أثمار تلك النخيل والأشجار فهي خارجة عن الرهن ، وكلّ ذلك لأجل خروجها عن مفهوم اللفظ عرفا ، فلم يقع إنشاء الرهن عليها ، فلا بدّ من دخولها في الرهن إمّا الاشتراط أو الإجماع.

وكذلك اللبن في الضرع خارج عن رهن الشاة أو البقرة مثلا ، لخروجه عن مفهوم الشاة عرفا ، مضافا إلى أنّ كون الحليب رهنا - خصوصا فيما إذا كان أجل الدين طويلا - لا يخلو عن إشكال.

نعم مثل الصوف والوبر والشعر المتّصلة بالحيوان المرهون والأوراق والأغصان حتّى اليابسة منها والسعف في النخيل ، الظاهر دخولها فيه ، لأنّها تعدّ عرفا من أجزاء العين المرهونة.

فإذا أنشأ الراهن المالك رهانة حيوان أو رهانة نخل أو شجر فالإنشاء يقع على

ص: 54


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 83.

مجموع ذلك الحيوان أو ذلك الشجر ، فجميع أجزاء ذلك الحيوان أو ذلك الشجر يدخل تحت إنشاء الرهن.

وأمّا الشي ء الخارج عن المرهون فلا يقع تحت الإنشاء ولا يكون رهنا ، إلاّ بالاشتراط أو الإجماع كما تقدّم ، فما يكتسب العبد المرهون بالحيازة أو بغيرها حيث يكون خارجا عن مسمّى العبد فلا يقع تحت إنشاء الرهن.

وقوله علیه السلام في رواية إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سأله عن رجل ارتهن دارا لها غلّة لمن الغلّة؟ قال : « لصاحب الدار » (1) أجنبي عن المقام ، وروايات أخر بهذا المضمون أيضا (2) ولكن كلّها في مقام رفع توهّم أنّ المرتهن يستحقّ منافع العين المرهونة ، فلا ربط لها بالمقام وهو دخولها في الرهن أو عدم دخولها فيه.

قال في الشرائع : من أنّه لو حملت الشجرة أو الدابّة أو المملوكة بعد الارتهان كان الحمل رهنا كالأصل على الأظهر (3) لا أظهريّة فيه ، وإن كان هو الأشهر بين المتقدّمين. وأمّا رأس الجدار ومغرس الأشجار إن أريد بالأوّل موضع الجدار من الأرض الذي بنى الجدار عليه ، وأريد بالثاني موضع غرس الشجر من الأرض ، فالظاهر خروجها عن رهن الجدار والشجر.

وخلاصة الكلام موارد الشكّ كثيرة ، ولا بدّ من مراعاة ذلك الضابط الذي ذكرنا ، فإذا بقي الشكّ ولم يحصل اليقين بانطباق ذلك الضابط في مورد فمقتضى الأصل عدم دخوله في الرهن ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

ص: 55


1- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ح 12 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 4117 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 173 ، ح 767 ، باب في الرهون ، ح 24 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 132 ، أبواب الرهن ، باب 10 ، ح 3.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 131 ، أبواب الرهن ، باب 10.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 83.

فرع : لو رهن لقطة ممّا يلقط كالخيار والباذنجان وما يشبههما من المخضّرات والفواكه التي لها لقطات وقد يمتزج بعضها ببعض ، فإن كان حلول الدين والحقّ قبل تجدّد اللقطة التالية فلا إشكال في صحته ، لاجتماع شرائط الصحّة ، لأنّها عين خارجيّة متموّلة يمكن بيعها عند حلول الدين واستيفاء الحقّ منها إن لم يؤدّ الراهن الدين من جهة تعذّره أو تعسّره أو من جهة مماطلته ، فالمقتضي للصحّة موجود والمانع مفقود.

وأمّا إن كان بعد تجدّد التالية فربما يختلط الأولى التي صارت رهنا بالثانية ، فإن كانتا متميّزتين فأيضا لا إشكال في صحّته ، لعين ما ذكرنا من وجود المقتضي وفقد المانع في الصورة السابقة.

وأمّا إن لم تكونا متميّزتين بحيث صار الاختلاط سببا للاشتباه بين كونها من اللقطة التي جعلت رهنا أو من التي لم تجعل ، فربما يتوهّم بل قيل بالبطلان. ونسب إلى الشيخ قدس سره (1) لتعذّر الاستيفاء لعدم جواز بيعه عند حلول الأجل لكونه مجهولا. ولكن الأصحّ الصحّة وفاقا لجمع من أساطين الفقه كالعلاّمة (2) والشهيدين (3) وجامع المقاصد (4) وغيرهم (5) وذلك لأنّ استيفاء الحقّ ليس طريقه منحصرا بالبيع ، بل يمكن بالصلح ولو قهرا بعد القسمة تعيّنه أي ما هو المرهون ، فيجوز بيعه لارتفاع الجهل حكما ، بل يمكن من أوّل الأمر أن يصالح المرتهن مع شريكه صاحب اللقطة التالية بمال ، وهذا المقدار من الجهل لا يضرّ بصحّة الصلح.

هذا ، مضافا إلى أنّ اعتبار وجود هذه الشرائط واجتماعها يكون في حال إيقاع الرهن بمعنى حال إنشاء عقد الرهن يجب أن تكون العين المرهونة معيّنة معلومة قابلة

ص: 56


1- حكاه عن الشيخ في « المسالك » ج 1 ، ص 234. وهو في « المبسوط » ج 2. ص 242.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 165.
3- الشهيد الأوّل في « الدروس » ج 3 ، ص 396 ، والشهيد الثاني في « المسالك » ج 1 ، ص 234.
4- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 134.
5- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 38.

لأن تباع.

وأمّا الجهل العارض المتجدّد لا يضرّ بصحّة الرهن ، مثلا لو رهن عينا معلومة متموّلة على دين ثمَّ اختلطت تلك العين أو امتزجت بمال آخر متجانس أو غير متجانس بحيث لا يمكن تميّزهما وانفصالهما ، لا يكون ذلك موجبا لبطلان الرهن ، بل يجري على الرهن حكم الشركة ، فيقتسمان المرتهن أو الراهن أو كليهما مع صاحب المال الآخر ، ويتصالحان في اختصاص كلّ واحد من الشريكين بأحد القسمين ، فيبيع المرتهن بإذن الراهن حصّته عن المال المختلط أو الممتزج ، ويستوفي حقّه منه ، ولا يبقى إشكال في البين.

فرع : إذا كان الرهن من مستثنيات الدين كدار سكناه ودابّة ركوبه جاز بيعه واستيفاء دينه منه ، وأدلّة الاستثناء ناظرة إلى عدم جواز أخذها بعنوان أنّه مطلوب ومديون ، وأمّا إذا هو أخرجه من تحت يده وسلطانه بعنوان أن يكون وثيقة عند الدائن فلا تشمل مثل هذا المقام.

وبعبارة أخرى : استثناء المستثنيات في الدين لأجل الإرفاق على المديون وعدم التضييق عليه ، وقال اللّه تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) وأمّا إذا هو بنفسه ضيق على نفسه وباع داره السكنى وظلّ رأسه لأجل أداء دينه فلا مانع منه ، بل ربما يعدّ من كرائم الأخلاق وعلوّ الهمّة وكمال الورع.

وما رواه إبراهيم بن هاشم - أنّ محمد بن أبي عمير كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر ، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم ، فباع دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم وحمل المال إلى بابه فخرج إليه محمد بن أبي عمير فقال : ما هذا؟ فقال : هذا مالك الذي لك علىّ. قال : ورثته؟ قال : لا ، قال : وهب لك؟ قال : لا ، فقال : هو من ثمن ضيعة بعتها؟ فقال : لا ، فقال : ما هو؟ فقال : بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني. فقال

ص: 57

محمد بن أبي عمير حدثني ذريح المحاربي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين » ارفعها فلا حاجة لي فيها ، واللّه وإنّي لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم واحد (1) - لا يدلّ على أنّ المديون لو باع داره السكنى لوفاء دينه لا يجوز ، أو يكون بيعه باطلا.

وإنّما ظاهر كلام الصادق علیه السلام أنّه لا يلزم المديون ببيع داره لأجل وفاء دينه ، لأنّه نهى عن إخراجه بالدين ، ولا تعرّض في الرواية لما إذا باع المديون داره السكنى من عند نفسه عن غير إلزام الدائن إيّاه ، وأمّا عدم قبول ابن أبي عمير ثمن الدار فهو من علوّ نفسه ، وشدّة ورعه وتقواه ، ومواساته مع إخوانه المؤمنين.

فرع : لو وفى بيع بعض الرهن بالدين فلا يجوز بيع الزائد ، بل يقتصر على بيع المقدار الذي يفي بالدين ، وذلك من جهة أنّ الغرض من الرهن هو استيفاء المرتهن دينه منه ، فإذا حصل هذا الغرض ببيع البعض فتصرّف المرتهن في البعض الآخر وإجبار المالك على بيعه وسلب سلطنته على ماله منه يكون بلا وجه وبلا دليل ، فيقدر المالك على منعه من ذلك.

نعم لو لم يمكن التبعيض ، كما إذا كان درّة لا يرغب أحد في شراء بعضها ، أو يكون ضررا على المالك ، فيباع الكلّ ويعطى الفاضل للمالك.

فرع : لا تبطل الرهانة بموت الراهن ولا بموت المرتهن ، بل ينتقل الرهن إلى ورثة الراهن ولكن مشغولا بحقّ المرتهن ، وذلك من جهة أنّ ما تركه الميّت ينتقل إلى

ص: 58


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 190 ، باب الدين والقرض ، ح 3715 ، « علل الشرائع » ص 529 ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 198 ، ح 441 ، باب في الديون وأحكامها ، ح 66 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 95 ، أبواب الدين باب 11 ، ح 5.

ورثته ، فإن كان ما تركه ملكا طلقا ليس متعلّقا لحقّ أحد كذلك ينتقل إلى الورثة طلقا ، وإن كان متعلّقا لحقّ الغير أيضا كذلك ينتقل ، وكذلك ينتقل ما تركه المرتهن من حقّ أو مال إلى ورثته.

وفي المقام ما تركه الميّت هو حقّ الرهانة ، فنسبة ورثة الراهن إلى الرهن نسبة نفس الراهن أي المالكيّة ، ونسبة ورثة المرتهن أيضا كذلك نسبة نفس المرتهن ، أي يكون لهم حقّ الرهانة.

نعم يمكن هاهنا أن لا يشاء منهم الراهن على كون الرهن بيدهم ، فله أخذه من يدهم وإعطائه لأمين إن اتّفق الورثة عليه ، وإلاّ يرجع الأمر إلى الحاكم ويكون الأمر بيده ، فيسلّمه إلى من يرتضيه ويكون من صلاح الطرفين. وإن فقد الحاكم تصل النوبة إلى عدول المؤمنين.

فرع : إذا ظهر للمرتهن أمارات الموت ، يجب عليه الوصيّة بالرهن وتعيين الراهن والعين المرهونة والإشهاد كسائر الودائع ، لأنّ الرهن أمانة مالكيّة عند المرتهن ، فيجب عليه حفظها وإن أفرط يضمن ، كما هو الحال في سائر الأمانات.

وواضح أنّ ترك الوصيّة بل الإشهاد وعدم تعيين الراهن والمرهون كثيرا ما يوجب تلف الرهن وضياعه وعدم الوصول الى مالكه وهو الراهن ، فمن مقدّمات حفظه وعدم ضياعه في الفرض الإشهاد وتعيين الرهن والراهن ، فلو ترك المذكورات يكون مفرطا وضامنا.

فرع : لو استدان من شخص دينارا برهن ، وأيضا استدان من ذلك الشخص دينارا آخر بلا رهن ، فأعطى لذلك الشخص دينارا واحدا ، فقال الدافع الراهن : إنّ الدفع كان لأجل ذي الرهن. وقال القابض : كان وفاء للآخر الفاقد الرهن.

ص: 59

فتارة : يدّعي الدافع تعيين نيّة أحدهما المعيّن عن ذي الرهن أو فاقده ، فلا شكّ في قبول قوله ، لأنّه أبصر بما نوى. ولا يعلم نيّته إلاّ من قبله ، وقد حقّقنا في أبواب الدعاوي أنّ دعوى المدّعي الذي لا يعلم دعواه إلاّ من قبله يسمع ، ولا يكلّف بالبيّنة بل يوجّه إليه اليمين.

وأخرى : يدّعي بأنّي نويت وفاء ديني فقط ، من دون النظر إلى خصوص كلّ واحدة من الخصوصيّتين ، أي كون الدينار ذي الرهن أو فاقده ، فهاهنا وجوه واحتمالات :

الأوّل : التوزيع بمعنى أنّ الدينار يوزّع على الدينارين ، فيكون أداء نصف كلّ واحد منهما ، فلو أعطى نصف دينار بقصد ذي الرهن يفتكّ الرهن ، لأنّه بإعطائه النصف بقصد ذي الرهن أدّى ذي الرهن تماما.

وقد اختار هذا الوجه في جامع المقاصد (1) ، ووجّهه بأنّ عدم برء الذمّة من شي ء منهما محال ، لأنّه قبض هذا المقدار من دينه قبضا صحيحا قطعا ، وتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ وأن نقول بالتوزيع.

والثاني : بقاء التخيير الذي كان له من الأوّل ، لأنّه لم يعيّن فله أن يصرفه الآن بعد الأداء إلى ما شاء منهما بنيّة جديدة.

والثالث : القرعة لتعيين أنّ الأداء كان لأيّ واحد منهما. والقول بالقرعة مضافا إلى أنّ جريانها موقوف في كلّ مورد على عمل الأصحاب بها في ذلك المورد ، من المحتمل القريب أن يكون مورد جريانها فيما إذا كان له واقع غير معلوم وصار مشتبها ، فلا يشمل مثل المقام الذي في عالم الثبوت مجهول أنّه أداء لأيّ واحد من الدينارين ، هل لذي الرهن أو لفاقده ، وقد حقّقنا هذا المطلب في قاعدة القرعة (2).

ص: 60


1- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 157.
2- « القواعد الفقهية » ج ، ص.

وأمّا القول الثاني ، أي بقاء التخيير الذي كان له قبل الإعطاء إلى ما بعد الإعطاء ، فله أن يصرفه إلى ما شاء منهما. فاختاره فخر المحقّقين في الإيضاح قائلا إنّه تصرّف اختياري له من غير توقّف على اختيار أحد له ، وهو غير موقوف على غير الاختيار والدفع فيفعله متى شاء (1).

وهو غريب ، لأنّه وإن كان غير موقوف على غير الاختيار والدفع أي على شي ء آخر غير هذين ، وهو موقوف على هذين فقط.

ولكن أنت خبير بأنّ توقّفه على الاختيار ليس على مطلق الاختيار في أيّ وقت كان ، بل يكون موقوفا على الاختيار حال الدفع ، وإلاّ بعد ما دفع يقع الدفع على ما هو عليه ، ولا يتغيّر الشي ء بعد وقوعه عمّا هو عليه وقع.

والأصحّ هو الوجه الأوّل أي التوزيع ، لأنّه مديون لذلك الشخص بدينارين ، وكون أحدهما ذي رهن والآخر فاقده لا دخل له بعالم المديونيّة. فإذا أعطاه في المفروض دينارا فقد أدّى نصف ما عليه من دون ملاحظة خصوصية أخرى ، فقد برئت ذمّته من نصف ما عليه.

وحيث أنّ ذمّته كانت مشغولة بدينار ودينار المتميزان بعنوان آخر غير عنوان الدينيّة ، فبرئت ذمّته من نصف كلّ واحد منهما ، لأنّ كلّ واحد منهما ممّا عليه ، والمفروض أنّ ذمّته برئت من نصف ما عليه ، وهذا عين التوزيع.

وقد ذكر العلاّمة قدس سره في القواعد موارد كلّها من هذا القبيل (2) ، أي يكون من قبيل التوزيع ، أو بعد الوقوع يصرفه إلى ما شاء.

مثلا من جملة ما ذكره في القواعد : لو كان لزيد عليه مائة ولعمرو مثلها ووكّلا شخصا يقبض لهما ودفع المديون لزيد أو لعمر وفذاك ، وإلاّ فالوجهان : أي لو أعطى

ص: 61


1- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 44.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 166 - 167.

المديون مائة بقصد أداء دين زيد ، أو بقصد أداء دين عمرو فهو ، أي يتعيّن بالقصد ، وإلاّ أي لم يقصد أحدهما فيأتي الوجهان ، أي التوزيع أو يصرفه بعد الأداء إلى ما شاء منهما.

وأيضا من جملة ما ذكره من نظائر المقام قوله : لو تبايع المشركان درهما بدرهمين وسلم مشتري الدرهم درهما ، ثمَّ أسلما فإن قصد المشتري الذي أدّى درهما أداء الأصل فلا شي ء عليه ، لأنّه أدّى ما عليه والدرهم الزائد رباء ، وبعد أن أسلما لا يجوز للبائع أخذه ولا للمشتري ، لحرمة الربا أخذا وعطاء في الإسلام. وأمّا لو قصد المشتري أداء الفضل ولا الأصل ، فالأصل ليس رباء يجب عليه أدائه ، وما أعطى بعنوان الفضل حيث كان في زمان كفرهما وشركهما نافذ لا مانع. وإن لم يقصد شيئا منهما لا الأصل ولا الفضل ، فيأتي الوجهان أي التوزيع أو صرفه إلى واحد منهما شاء ، والنتائج معلومة.

وقد ذكر نظيرا آخر في المقام ، وكذلك صاحب الجواهر ذكر بعض نظائر المقام (1) ، ولكن الفقيه المتدبّر يفهم الفرق بين بعض ما ذكراه ومورد البحث ، فلا نطول الكلام.

فرع : لا إشكال في تحقّق الرهن بالعقد والمعاطاة. أمّا وقوعه بالعقد فربما يكون من القطعيّات ، بل من ضروريّات الفقه.

وإذا كان بالعقد فيحتاج إلى الإيجاب والقبول اللفظيين ، والإيجاب من الراهن ، وهو كلّ لفظ أفاد هذا المعنى أي جعل عين متموّل وثيقة لدينه ، بحيث لو تعذّر أو تعسّر أداء دينه ، أو ماطل من دون تعذّر أو تعسّر يستوفي الدائن حقّه من تلك العين التي عنده وثيقة ماله.

ص: 62


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 275.

فلو قال : رهنتك ، أو قال : أرهنتك - من باب الإفعال بناء على أنّها لغة مستعملة ، لا شاذّة مهجورة بلغ شذوذها حدّ المنع من استعمالها في مقام إنشاء المعاملات - أو قال : هذا رهن عندك ، أو قال : هذا وثيقة عندك على الدين الفلاني أو على مالك الذي في ذمّتي ، أو غيرها ممّا يفيد هذا المضمون يكفي في تحقّق الإيجاب.

ولا يعتبر فيه العربيّة بل يصحّ إنشاؤه بكلّ لغة ، لشمول العمومات له ، ولم يدّع أحد الإجماع على لزوم كونه بالعربيّة كما ادّعى في عقد النكاح كي يكون مخصّصا للعمومات ومقيّدا للإطلاقات.

وأمّا القبول : فهو عبارة عن كلّ لفظ دالّ على مطاوعة المرتهن ذلك الإيجاب الصادر من الراهن.

وأمّا وقوعه بالمعاطاة ، فلما ذكرنا في وجه عدم اعتبار العربيّة من شمول الإطلاقات لها ، وليس إجماع مخصّص أو مقيّد للإطلاقات. هذا ، مضافا إلى وجود السيرة العمليّة بين المسلمين في رهونهم بالمعاطاة ، كما أنّه جار في الأسواق ومعاملاتهم.

فرع : لو اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين ، فقال الراهن : إنّ هذه العين رهن على المائة مثلا ، وقال المرتهن : إنّها رهن على الألف مثلا ، فالقول قول الراهن حسب قواعد باب القضاء ، لأنّ المرتهن يدّعي الزيادة ، والأصل عدم اشتغال ذمّة الراهن بأزيد ممّا يقرّ ويعترف بوقوع الرهن عليه ، فيكون قول الراهن مطابقا للحجّة الفعليّة ، فهو المنكر والمرتهن هو المدّعي ، فالبيّنة عليه ، وعلى الراهن اليمين.

وحكى عن الإسكافي تقديم قول المرتهن ما لم تزد دعواه عن قيمة الرهن (1). ولكن المشهور على الأوّل ، وهو الأقوى لوجوه :

ص: 63


1- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 420.

الأوّل : ما ذكرنا أنّه مقتضى قواعد باب القضاء وقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (1).

الثاني : دعوى ابن زهرة (2) وابن إدريس (3) الإجماع على تقديم قول الراهن :

الثالث : دلالة روايات معتبرة عليه ، وقد عقد في الوسائل بابا في تقديم قول الراهن عند الاختلاف فيما على الرهن (4).

منها : صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام في رجل يرهن عند صاحبه رهنا لا بيّنة بينهما فيه ، فادّعى الذي عنده الرهن أنّه بألف ، فقال صاحب الرهن : أنّه بمائة ، قال علیه السلام : « البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بألف ، وإن لم يكن له بيّنة فعلى الراهن اليمين » (5).

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال إذا اختلفا في الرهن فقال أحدهما : رهنته بألف ، وقال الآخر : بمائة درهم ، فقال : يسأل صاحب الألف البيّنة ، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب المائة (6).

ص: 64


1- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، مع تفاوت ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 244 ، ح 172 ، ج 3 ، ص 523 ، ح 22 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، ح 4.
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 593.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 421.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 17 : انّهما إذا اختلفا فيما على الرهن ولا بيّنه فالقول قول الراهن مع يمينه.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 237 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 769 ، باب في الرهون ، ح 26 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 121 ، ح 432 ، باب أنّه إذا اختلف الرهن والمرتهن. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 1.
6- « الكافي » ج 5 ، ص 237 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 1 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 4116 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 771 ، باب في الرهون ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ح 434 ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 2.

ومنها : رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بيّنة بينهما ، فادّعى الذي عنده الرهن أنّه بألف ، وقال صاحب الرهن : هو بمائة ، فقال علیه السلام : « البينة على الذي عنده الرهن أنّه بألف ، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين أنّه بمائة » (1).

وأنت خبير بأنّ هذه الروايات ظاهرة بل صريحة في أنّ القول هو قول الراهن الذي يقول بأنّ الدين أقلّ ، وأمّا المرتهن الذي يقول بأنّ الدين أزيد وهو الألف مثلا هو المدّعي ، وعليه البيّنة.

نعم هنا رواية أخرى ، وهي ما رواه السكوني عن جعفر علیه السلام عن أبيه علیه السلام عن عليّ علیه السلام في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن ، فقال الراهن : هو بكذا وكذا ، وقال المرتهن : هو بأكثر ، قال على علیه السلام : « يصدق المرتهن حتّى يحيط بالثمن ، لأنّه أمينه » (2).

وظاهر هذه الرواية مخالف لما يقوله المشهور ، ومطابق لفتوى الإسكافي ، وذلك لأنّ ظاهر الرواية وجوب تصديق المرتهن ما لم تزد دعواه على ثمن الرهن - كما هو تعبير جامع المقاصد (3) - أو ما لم يستغرق ما يدّعيه ثمن الرهن كما هو عبارة الشرائع (4).

والفرق بين العبارتين أنّه بناء على التعبير الأوّل إذا كان دعوى المرتهن بمقدار ثمن الرهن لا أقلّ ولا أكثر تقبل ، لأنّها لم تزد على ثمن الرهن. وبناء على التعبير الثاني لا تقبل ، لأنّها تستغرق ثمن الرهن ، وظهور الرواية بل صريحه الثاني ، لقوله علیه السلام :

ص: 65


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 770 ، باب في الرهون ، ح 27 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 121 ، ح 433 ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 138 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 3.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4102 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 175 ، ح 774 ، باب في الرهون ، ح 31 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ح 435 ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 138 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 4.
3- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 159.
4- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 85.

« يصدّق المرتهن حتّى يحيط بالثمن » فبناء على خروج الغاية عن المغيّى حكما - كما هو الظاهر - فإذا أحاطت بالثمن ، لا تقبل وإن لم تزد عليه فعبارة الشرائع أوفق مع الرواية.

وعلى كلّ الظاهر أنّ مستند الإسكافي في فتواه هذه الرواية.

ولكن هذه الرواية لا يمكن الاستناد والاعتماد عليها لوجوه :

الأوّل : ضعف سندها كما هو معلوم.

الثاني : معارضتها بما هو أقوى سندا وأصرح دلالة.

الثالث : موافقتها لفتوى المخالفين.

الرابع : إعراض المشهور عنها.

ولذلك حملها الشيخ قدس سره على أن الأولى للراهن أن يصدّق المرتهن (1). لكنّه عجيب ، لأنّ الراهن حيث يدري بكذب دعوى المرتهن كيف يكون الأولى أن يصدّق المرتهن ، بل ربما يقع من تصديقه في ضيق شديد ، وذلك فيما إذا كان ما يدّعيه من الزيادة كثيرا بحيث يكون أداؤه على الراهن في غاية الصعوبة.

فالأولى الإعراض عنها وعدم الاعتناء بها ، كما صنع المشهور ، ويكون مقتضى القواعد المقرّرة في الأصول في باب تعارض الروايات.

فرع : قال في الشرائع : لو اختلفا في متاع فقال أحدهما - أي المالك - : هو وديعة ، وقال القابض : هو رهن ، أنّ القول قول المالك ، وقيل : قول الممسك ، والأوّل أشبه (2) ، انتهى. لأنّه مطابق مع الأصل ، أي : أصالة عدم كونه رهنا ، وذلك لأنّه يحتاج إلى جعل وإنشاء من قبل المالك وقبول من قبل المرتهن ، أي وقوع عقد الرهانة. وهذا

ص: 66


1- « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ذيل ح 435.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 85.

أمر غير معلوم الصدور منهما ، فيستصحب عدمه ، فقول المالك الذي ينكر الرهانة ويقول وديعة مطابق للحجّة الفعليّة ، فهو المنكر ، إذ هذا هو الميزان في تشخيص المدّعي والمنكر.

لا يقال : كما أنّ الأصل عدم كونه رهنا كذلك مقتضى الأصل عدم كونه وديعة فيتعارضان.

لأنّ عدم الوديعة في المقام لا أثر له ، لأنّ الطرفين - أي المالك والقابض - معترفان بأنّه ملك لزيد مثلا الذي يدّعي أنّه وديعة ، وأيضا الطرفان معترفان بعدم ضمان اليد لو وقع التلف عليه.

فاستصحاب عدم كونه وديعة لا يثبت شيئا ، بخلاف أصالة عدم كونه رهنا - بعد الفراغ عن كونه مال مدّعي كونه وديعة - يثبت طلقيّته عن قيد الرهانة ، ويأخذه عن مدّعي الرهينة متى شاء.

هذا ، مضافا إلى صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام في رجل رهن عند صاحبه رهنا ، فقال الذي عنده الرهن : أرهنته عندي بكذا وكذا ، وقال الآخر : إنّما هو عندك وديعة ، فقال : « البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا وكذا ، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين » (1).

ودلالة هذا الصحيح على مقالة المشهور ، أي قبول قول من ينكر الرهن الذي هو المالك واضحة. وبعبارة أخرى : يدلّ على أنّ القابض الممسك للمتاع مدّع وعليه البيّنة ، والمالك المدّعي أنّه وديعة منكر للرهن فعليه اليمين أنّه ليس برهن إن لم تكن بيّنة للقابض على أنّه رهن.

ص: 67


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 729 ، باب في الرهون ، ح 26 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 123 ، ح 438 ، باب في أنّه إذا اختلف نفسان في متاع. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 136 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ح 1.

ولكن في الوسائل بعد ما ذكر الصحيح قال : وحمله الشيخ على أنّ عليه البيّنة في مقدار ما على الرهن ، لا على أنّه رهن ، لما يأتي (1).

ومقصوده ممّا يأتي رواية ابن أبي يعفور ، ورواية عبّاد بن صهيب اللتان سنذكر هما إن شاء اللّه تعالى.

وبناء على ما حمل عليه الشيخ تكون الصحيحة أجنبيّة عن فتوى المشهور ، ولا تكون معارضة لرواية عبّاد بن صهيب ، ولا لرواية ابن أبي يعفور.

أمّا الأوّل ، أي رواية عبّاد بن صهيب ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام من متاع في يد رجلين أحدهما يقول : استودعتكه ، والآخر يقول : هو رهن ، قال : فقال علیه السلام : « القول قول الذي يقول هو أنّه رهن إلاّ أن يأتي الذي ادّعى أنّه أودعه بشهود » (2).

وأمّا الثاني ، أي رواية ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « فإن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر أو اختلفا فقال أحدهما : هو رهن وقال الآخر : هو وديعة قال : على صاحب الوديعة البيّنة ، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب الرهن » (3).

وهاتان الروايتان ظاهرتان في تقديم قول مدّعي الرهن وأنّ عليه اليمين إن لم يأت المالك بالبيّنة على أنّه وديعة ، فلو قلنا بمقالة الشيخ في صحيحة محمّد بن مسلم فلا تعارض بينهما وبين الصحيحة ، فيجب الأخذ بهما والقول بخلاف القول المشهور ، أي تقديم قول القابض على المالك ، كما هو مفاد هاتين الروايتين.

ص: 68


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 136 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ذيل ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 238 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 4 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 306 ، باب الرهن ، ح 4097 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 176 ، ح 776 ، باب في الرهون ، ح 33 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ح 436 ، باب في أنّه إذا اختلف نفسان. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ح 3.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 238 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 1 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 411 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 771 ، باب في الرهون ، ح 28 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 136 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ح 2.

ولكن حيث أنّ حمل الشيخ خلاف ظاهر الصحيحة ، فيقع التعارض بين الصحيحة وبينهما ، ويجب تقديم الصحيحة وترك العمل بهما ، لإعراض المشهور عن العمل بهما.

بل ربما يدّعي الإجماع على ترك العمل بهما ، فيوجب خروجهما عن الحجيّة بل ربما يقال بموافقتهما للتقيّة. وهذا على تقدير صحته وجه آخر وجيه ، لعدم حجيّتهما ولزوم طرحهما.

فما ذهب إليه الشيخ في الاستبصار (1) ، والصدوق في المقنع (2) على ما حكى عنها مستندا إلى هاتين الروايتين من تقديم قول القابض - أي من يدّعي الرهن - بأنّ الحلف وظيفته ، وعلى من يدّعي أنّه وديعة - أي المالك - البيّنة في غاية الضعف.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ التفصيل الّذي حكى عن أبي حمزة من أنّ المالك الراهن إن اعترف للقابض بالدين فالقول قول القابض ، وأمّا إن أنكر أصل الدين وقال : إنّي وضعت متاعي عنده أمانة فالقول قول المالك الراهن (3) ، لأنّ إنكاره لأصل الدين على فرض تسليم أنّه موجب للظنّ بأنّه ليس برهن ، وكذلك إقراره بأصل الدين على فرض أن يكون موجبا للظنّ بأنّه رهن لا وديعة لا يوجب عدم جريان الأصول الشرعيّة كأصالة عدم كونه رهنا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إقراره بالدين أمارة شرعا على أنّ ما بيد الدائن من مال المديون رهنا. ولكن هذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، مضافا إلى أنّ ظهور الصحيحة يردّ هذا الاحتمال.

وكذلك التفضيل الذي نسب إلى ابن الجنيد الإسكافي (4) من الفرق بين صورتي

ص: 69


1- « الاستبصار » ج 3 ، ص 123 ، ذيل ح 3.
2- « المقنع » ص 129.
3- « الوسيلة » ص 266.
4- حكى في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 421.

اعتراف القابض للمالك بكونه أمانة في يده ثمَّ صارت رهنا ، وصورة ادّعائه أنّه من أوّل الأمر أعطاه بعنوان الرهن.

ففي الصورة الأولى : القول قول المالك. وفي الثانية : القول قول القابض ، وذلك من جهة جريان أصالة عدم كونه رهنا حتّى في الصورة الثانية ، مضافا إلى إطلاق الصحيحة وشمولها لكلتا الصورتين لو فرضنا عدم صحّة حمل الشيخ ، كما هو المفروض.

فرع : لو أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ورجع واختلفا ، فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن : رجعت بعد البيع ، فالمشهور على أنّ القول قول المرتهن.

ووجّه في الشرائع قول المشهور وفتواهم بقوله : إذ الدعويان متكافئان (1) ، أي دعوى عدم تقديم الرجوع على البيع من طرف الراهن ، مع دعوى عدم تقدّم البيع على الرجوع من طرف المرتهن متكافئان ، أي استصحاب عدم وجود الرجوع إلى زمان وجود البيع الذي مفاده ثبوت موضوع الصحّة مع استصحاب عدم وجود البيع إلى زمان الرجوع الذي مفاده فساد البيع متكافئان متعارضان ، فيتساقطان ويجري استصحاب بقاء الرهانة.

وهذه المسألة من حيث الشكّ في تقدّم الرجوع على البيع أو تقدّم البيع على الرجوع من صغريات المسألة المعروفة : أصالة تأخّر الحادث فيما إذا علم بوجود حادثين وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما ، ولها صور كثيرة.

لأنّ الحادثان إمّا متضادّان لا يمكن اجتماعهما كالحدث والطهارة ، فلا بدّ وأن يكونا متعاقبين. وإمّا يمكن اجتماعهما ، أي يكون وجود كلّ واحد منهما في زمان وجود الآخر

ص: 70


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 85.

كموت متوارثين. ومورد بحثنا حيث يمكن أن يكون زمان رجوع المرتهن متّحدا مع زمان وقوع البيع.

وعلى كلّ واحد من الفرضين إمّا أن يكون كلاهما مجهولي التاريخ أو لا ، بل يكون أحدهما معلوم التاريخ. أمّا كون كلاهما معلوم التاريخ فخارج عن الفرض ، لأنّه لو كان كذلك لا يبقى شكّ في البين.

ونحن حقّقنا هذه المسألة بشقوقها في كتابنا « منتهى الأصول » في تنبيهات الاستصحاب (1) ، وقد رجّحنا جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ في كليهما ، فيتساقطان بالتعارض.

وفيما نحن فيه إذا فرضنا أنّ الرجوع والبيع كلاهما مجهولا التاريخ فالاستصحابان يتعارضان ، فإذا تساقطا تصل النوبة إلى الأصول الآخر ، كأصالة الصحّة في البيع ، أو أصالة بقاء الرهانة في طرف من يدّعي فساد البيع بالرجوع وهو المرتهن ، فيقع التعارض بين هذين الأصلين ، فإذا تساقطا لعدم ترجيح أحدهما على الآخر يكون المرجع هو عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » لأنّ كونه مال الراهن معلوم ولا شكّ في كونه ملكا له.

ولكن ربما يقال بتقديم أصالة بقاء الرهانة على أصالة صحّة البيع الواقع في الخارج ، وذلك من جهة أنّ صحّة البيع الواقع في الخارج مشروط شرعا بسبق الإذن من المرتهن ، لأنّ تصرّف الراهن في الرهن ممنوع شرعا وإن كان ملكه إلاّ بإذن المرتهن فنفوذ ، تصرّفاته بالبيع أو بغيره مشروط بهذا الشرط - أي سبقه بالإذن - والأصل عدمه ، بخلاف أصالة بقاء الرهانة فإنّ هذا الأصل غير مشروط بشي ء إلاّ اليقين بحصول الرهن والشكّ ، وهذا اليقين والشكّ حاصل بالوجدان ، فموضوع هذا الاستصحاب حاصل ، وليس مشروطا بشرط آخر ، فلا يجري في عوض استصحاب

ص: 71


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 495.

بقاء حقّ الرهانة أصالة صحّة البيع كي يتعارضان.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ جريان أصل العدم في سبق الإذن مبني على تقدّم الرجوع على البيع ، كي يرتفع الإذن الصادر من المرتهن ، وإلاّ لو كان الرجوع متأخّرا عن البيع لا يبقى محلّ لجريان أصالة عدم سبق الإذن. والمفروض أنّ أصالة عدم تقدّم الرجوع على البيع يجري ، ولكن يسقط بالمعارضة مع أصالة عدم تقدّم البيع على الرجوع.

ففي الحقيقة أصالة عدم سبق الإذن يسقط بمعارضتها مع أصالة عدم تقدّم الرجوع على البيع ، إذ مفاد أصالة عدم سبق الإذن على البيع هو تقدّم الرجوع عليه ، فيتعارضان ويتساقطان ، فلا تجري أصالة عدم سبق الإذن كي تكون مانعة عن جريان أصالة الصحّة.

وأفاد في المسالك (1) - في وجه ترجيح أصالة بقاء الرهانة على أصالة الصحّة في جانب البيع الصادر يقينا - بأنّ الرهانة سابقا قبل وجود البيع كانت معلوم الوجود ، لوقوعها سابقا جامعة لجميع الشرائط ، وإنّما حصل الشكّ في طروّ المبطل ، وأمّا صحّة البيع الواقع في الخارج فمشكوكة من أوّل وجوبه ، ولم يكن البيع معلوم الصحّة في زمان ، فتكون أصالة بقاء الرهانة أقوى من هذه الجهة من أصالة الصحّة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الفرق كان فارقا وصحيحا لو كان مدرك أصالة الصحّة هو استصحاب الصحّة ، لأنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين بوجود شي ء سابقا والشكّ في بقائه ، وهذا المعنى في حقّ الرهانة في مورد البحث موجود ، وليس في صحّة البيع موجودا.

وأمّا لو لم يكن مدرك أصالة الصحّة وموضوعها هو القطع بوجود شي ء والشكّ في بقائه ، بل كان المدرك لها هو بناء العقلاء على أنّ العمل المركّب الذي صدر عن

ص: 72


1- « المسالك » ج 1 ، ص 236.

المكلّف - وشكّ في أنّه هل وجد صحيحا وجامعا للأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع أم لا بل فيه اختلال - على أنّه وجد صحيحا وتامّا ليس فيه اختلال.

فهذا الفرق الذي ذكره في المسالك لا أثر له ولا يثمر فائدة في المقام ، بل لو شكّ في صحّة العقد والبيع الموجود في الخارج من جهة اختلال فيه ، لاحتمال فقد جزء أو شرط أو وجود مانع ، فالعقلاء لا يعتنون بهذه الاحتمالات ويبنون على الصحّة ، فهذا الكلام من المسالك لا يخلو عن غرابة.

نعم يمكن أن يقال : إنّه في هذا المورد وجد أمران يقينا فنشكّ في بقائهما ، أحدهما : الرهن فإنّه وجد جامع للشرائط يقينا ، وبعد وجود البيع نشكّ في بقائه ، لأنّه إن كان البيع الواقع عن إذن المرتهن ووقع صحيحا فزال الرهن قطعا ، وإلاّ إن لم يقع صحيحا فباق قطعا.

وذلك من جهة أنّ مزيل الرهن هو البيع الصحيح ، لا الإذن بالبيع ، وحيث نشكّ في وقوع البيع صحيحا فنشكّ في بقاء الرهن ، فيكون موردا للاستصحاب.

ثانيهما : الإذن ، فإنّه وجد وصدر عن المرتهن يقينا ، ونشكّ في بقائه إلى آخر زمان وقوع البيع ، لاحتمال كون الرجوع المعلوم الوقوع قبل البيع ، فنشكّ في بقاء الإذن إلى آخر زمان البيع ، فيكون موردا للاستصحاب. وهذان الاستصحابان متعارضان لا يجتمعان فيتساقطان ، فيبقى المجال لجريان أصالة عدم سبق العقد بالإذن ، ومع جريان هذا الأصل لا يبقى مجال لجريان أصالة الصحّة ، لاشتراط الصحّة بسبق الإذن ، وفرضنا أنّ الأصل عدمه.

نعم لو لم يجر هذا الأصل فلا مانع من جريان أصالة الصحّة ، لأنّ احتمال كون البيع عن غير إذن المرتهن وبدونه لا يضرّ بجريان أصالة الصحّة ، بل يكون مورد جريانها هو فيما إذا احتمل فقد جزء أو شرط أو وجود مانع.

نعم يمكن أن يقال : إنّ جريان أصالة الصحّة في البيع لا ينافي بقاء الرهانة وعدم

ص: 73

تأثير البيع في النقل والانتقال ، لعدم حصول شرطه وهو إذن المالك ، فالصحّة هاهنا عبارة عن أنّ العقد وقع تامّ الأجزاء والشرائط ، ولكن تأثيره في النقل موقوف على إذن المالك ، مثل الصحّة التي قالوا بها في باب الفضولي ، ومثل هذه الصحّة لا ينافي استصحاب بقاء الرهانة ولا تعارض بينهما ، خصوصا مع ملاحظة جريان أصالة عدم وقوع البيع في حال الإذن.

وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان كلاهما - أي الإذن والرجوع - مجهولي التاريخ.

وأمّا إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، فإن قلنا بعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، لأنّه لا شكّ هناك ، لأنّه قبل زمان حدوثه الذي هو زمان معيّن معلوم ومقطوع العدم ، وبعد زمان حدوثه معلوم الوجود ، فلا يبقى مورد للاستصحاب ، فيكون استصحاب مجهول التاريخ بلا معارض ، ويجري ويترتّب عليه آثاره.

وإن قلنا بجريانه بالنسبة إلى زمان مجهول التاريخ لتماميّة أركانه ، فيكون حاله حال الصورة الأولى. والمسألة مفصّلة ومشروحة مذكورة في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

فرع : الظاهر أنّه ليس للمرتهن إلزام الراهن بالوفاء بعين الرهن ، وذلك لأنّ ذمّته مشغولة بالدين وهو كلّي له أن يطبّق على أيّ فرد من تلك الطبيعة التي في ذمّته.

فلو كان مثلا دينه الذي في ذمّته عشرة دنانير ، فأرهن عنده ورقة ماليّة هي من الأوراق التي تسمّى ورقة عشرة دنانير ، فليس للمرتهن أن يلزم الراهن بإعطاء هذه الورقة التي عنده ، إذ الذي يطلبه المرتهن هي عشرة دنانير الكلّي الذي له مصاديق متعدّدة ، منها عشرة أوراق كلّ واحدة منها دينار واحد ، ومنها ورقتين كلّ واحدة منها خمسة دنانير ، ومنها ورقة واحدة هي عشرة ، وخصوصيات هذه الأوراق ملك

ص: 74


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 494.

للراهن ، فله أن يطبق الكلّي على ما أراد من تلك المصاديق.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الرهن من الجنس الموافق للدين كما في المثال الذي ذكرناه ، أو من الجنس المخالف له ، وذلك كلّه من جهة أنّ الدين كلّي ، فلا بدّ في مقام الأداء أن يرفع المديون اليد عن الخصوصيّة التي يملكها ، كي يكون قابلا للدفع والأداء.

وحيث أنّ جميع الخصوصيّات ملكا للمديون فهو مخيّر عقلا في رفع اليد عن أيّة واحدة من تلك الخصوصيّات وتطبيق الكلّي على ذلك الفرد ، كما أنّه للمرتهن الدائن عدم القبول إذا كان الرهن من جنس الدين ، بل ليس له عدم القبول إذا كان ما يعطيه الراهن في مقام الأداء من جنس الدين ، ومصداقا حقيقيا للدين وإن كان غير الرهن ، لأنّه إذا كان من جنس الدين فهو مصداق حقيقي ويصدق عليه أنّه هو فكيف لا يقبل ، فليس حينئذ له إلزام الراهن بالبيع وإعطاء ثمنه له وفاء لدينه.

وأمّا إذا كان الرهن من غير جنس الدين واتّفقا - أي الراهن والمرتهن - في بيعه بما هو من جنس الحقّ أو من غير جنس الحق ، أو دفعه بنفسه عنه ، فبعد الاتّفاق لا إشكال في جميع ذلك ، وذلك لأنّ الأمر بينهما ، فإذا رضيا فلا بأس.

وأمّا بناء على اتّفاقهما على البيع إذا اختلفا فيما يباع به بعد البناء منهما على البيع بالنقد ، ولكن الاختلاف من جهة أنّ كلّ واحد منهما يريد نقدا غير ما يريد الآخر ، مثلا أحدهما أراد بيعه بالدرهم والآخر أراد بالدينار ، أو أحدهما يريد بيعه بالدنانير من الذهب والآخر يريد بالدنانير من الأوراق ، ففي مثل هذا الاختلاف وقع الخلاف في أنّه هل يقدّم قول الراهن المالك أو قول المرتهن ، أو لا هذا ولا ذاك بل لا بدّ وأن يباع بالنقد الغالب بالبلد والظاهر من البلد بلد البيع؟

وجه الأوّل : هو أنّ الرهن مال الراهن ، فهو الذي يكون يعيّن بدل ماله ، والمعاوضة والمبادلة يقع بينه وبين المشتري بتبديل ماليهما ، وإنّما المرتهن له حقّ

ص: 75

استيفاء دينه من هذا المال الذي هو المسمّى بالرهن ، نعم لا بدّ وأن يكون البيع بشي ء لا يتضرّر المرتهن به.

وجه الثاني : أنّ البيع يكون من جهة مراعاة حقّ المرتهن وصلاحه واستيفاء حقّه ، فإذا اختار شيئا ورأى صلاحه في بيع الرهن به يجب مراعاته.

وجه الثالث ولعلّه القول المشهور : هو أنّ إطلاق قوله علیه السلام : « يبيعه » في رواية إسحاق بن عمّار (1) ينصرف إلى نقد الغالب في البلد وذلك من جهة أنّ العرف بينهم من قول الشخص لعبده أو لوكيله بع الشي ء الفلاني أنّه يجب عليه ان يبدله بالنقد الغالب في البلد.

نعم هنا كلام وهو أنّه هل يجوز أن يبيعه الراهن أو المرتهن بدون المراجعة إلى الحاكم ، أو يجب رجوعهما إليه فهو يباشر بيعه ، أو يوكّل شخصا آخر ، أو يأذن أحدهما في بيعه؟

الظاهر أنّهما في صورة اختلافهما يجب أن يراجعا إلى الحاكم ، لأنّ بيده الأمر عند التشاحّ وهو وليّ الممتنع ، فيجبرهما على البيع بالنقد الغالب في البلد ، لأنّه المنصرف من لفظ « يبيعه ».

وقال في الدروس : ولو اختلفا فيما يباع به بيع بنقد البلد بثمن المثل حالاّ سواء كان موافقا للدين أو اختيار أحدهما أم لا ، ولو كان فيه نقد أن بيع بأغلبهما ، فإن تساويا فبمناسب الحقّ فإن بايناه عيّن الحاكم إن امتنعا عن التعيين ، ولو كان أحد المتباينين أسهل صرفا إلى الحقّ تعيّن (2).

وقوله : « فإن بايناه » أي باين النقدان الحقّ ولا يناسبه كلّ واحد من النقدين ، مثلا

ص: 76


1- « الكافي » ج 5 ، ص 233 ، باب الرهن ، ح 4 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 309 ، باب الرهن ، ح 4105 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 168 ، ح 747 ، باب في الرهون ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 124 ، أبواب الرهن ، باب 4 ، ح 2.
2- « الدروس » ج 3 ، ص 400.

أحد النقدين هو الدرهم والنقد الآخر هو الدينار والحقّ هو الريال مثلا ، وكلّ واحد من النقدين لا يناسب الحقّ أي الدين ، فإذا امتنع كلّ واحد من الراهن والمرتهن من التعيين عيّن الحاكم أحد النقدين المتساويين في البلد من حيث الرواج في معاملاتهم.

وقال في القواعد أيضا مثل ما قال الشهيد في الدروس : ولو عيّنا ثمنا لم يجز له التعدّي ، فإن اختلفا لم يلتفت إليهما ، إذ للراهن ملكيّة الثمن وللمرتهن حقّ الوثيقة ، فيبيعه بأمر الحاكم بنقد البلد ، وافق الحقّ قول أحدهما أو لا ، وإن تعدّد فبالأغلب ، فإن تساويا فبمساوي الحقّ ، وإن باينهما عيّن له الحاكم (1).

وقال في التذكرة : لو اختلف المتراهنان فقال أحدهما : بع بدنانير ، وقال الآخر : بع بدراهم ، لم يبع بواحد منهما ، لاختلافهما في الإذن ولكلّ منهما حقّ في بيعه ، فللمرتهن حقّ الوثيقة في الثمن واستيفاء حقّه منه ، وللبائع الراهن ملك الثمن ، فإذا اختلفا رفعا ذلك إلى الحاكم فيأذن له أن يبيعه بنقد البلد ، سواء كان من جنس حقّ المرتهن أو لم يكن ، وسواء وافق ذلك قول أحدهما أو خالفه ، لأنّ الحظّ في البيع يكون بنقد البلد. ولو كان النقدان جميعا نقد البلد باعه بأعلاهما ، وإن كانا متساويين في ذلك فباع بأوفرهما حظّا ، فإن استويا في ذلك باع بما هو من جنس الحقّ منهما ، فإن كان الحقّ من غير جنسهما باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الحقّ وأقرب إليه ، فإن استويا في ذلك عيّن الحاكم أحدهما فباع به وصرف نقد البلد إليه (2).

وهذه العبارات متّفقة في لزوم الرجوع إلى الحاكم في مورد الاختلاف وتقديم نقد البلد على سائر الأثمان ، وإن كان في بعض شقوق المسألة وصورها اختلاف يسير.

ولكن الأوجه في المقام أن يقال : إن وكّل الراهن المرتهن في ضمن عقد لازم في بيع الرهن بحيث لا يجوز له عزله إذا حلّ الدين ولم يعطه الراهن لإعساره أو لمماطلته

ص: 77


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 163.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 36.

أو بسبب آخر ، فالأمر بيد المرتهن ولا يلزم الرجوع إلى الحاكم ، نعم يلزم على المرتهن مراعاة مصلحة الراهن أيضا من حيث اختيار ما كان من الثمن أنفع بحاله وأعود عليه مضافا إلى مصلحة نفسه ، كما هو الحال في كلّ وكيل حيث يجب أن يكون فعله ذا مصلحة لوكيله.

نعم له أن يستوفي دينه أيضا بحيث لا يتضرّر ولا يكون في استيفائه نقصان. فلا مجال للكلام في أنّهما إذا اختلفا في تعيين الثمن وما يباع به بل أمر بيد الوكيل.

وأمّا إذا لم تكن وكالة في البين فإن أدّى الراهن دينه فهو ويفتكّ الرهن ، وإن لم يؤدّ لإعسار أو لجهة أخرى فيراجعه المرتهن بالوفاء ولو ببيع الرهن أو يوكله في بيعه ، فإن لم يفعل ذلك - أي لم يبع ولم يوكله أيضا - يرفع المرتهن أمره إلى الحاكم ليلزمه بالوفاء أو البيع ، فإن فقد الحاكم أو لم يكن مقتدرا على إلزامه على ما ذكر لعدم بسط يده ، فللمرتهن أن يبيعه بإذن الحاكم ويستوفي حقّه من ثمنه أو أيّ مقدار ممكن منه.

نعم يلزم في هذا الفرض أن يراعى المرتهن البائع مصلحة الراهن المالك أيضا كما يراعي مصلحة نفسه في استيفاء دينه منه.

وهذا الذي ذكرناه هو مقتضى القواعد الأوّلية إذا لم يكن إجماع أو نصّ في البين.

فرع : إذا ادّعى المرتهن رهانة شي ء معيّن وأنكرها الراهن وادّعى أنّ الرهن هو الشي ء المعيّن الفلاني ، وليس هناك بيّنة لا على ما يدّعي المرتهن رهانته ولا على ما يدّعي الراهن رهانته ، وكلّ واحد منهما ينكر ما يدّعيه الآخر فكلّ واحد من الراهن والمرتهن مدّع بالنسبة إلى شي ء ومنكر بالنسبة إلى شي ء آخر ، فهل يكون من باب التداعي فإذا لم تكن بيّنة في البين من الطرفين فيتحالفان كما هو المقرّر في باب التداعي ، أو الحلف وظيفة الراهن فقط وأمّا المرتهن فإنكاره لما يدّعي الراهن رهنه كاف لبطلان رهانته؟

ص: 78

أقول : الظاهر أنّه ليس من باب التداعي والتحالف ، لأنّه لا حلف على المرتهن في إنكاره ما يدّعيه الراهن ، إذ عقد الرهن جائز من طرف المرتهن ولازم من طرف الراهن - كما تقدّم في بعض الفروع المتقدّمة - فإنكار المرتهن رهنيّته بمنزلة الفسخ ، فاحتياجه إلى الحلف في نفي آثار الرهن عمّا يدعيه الراهن لا وجه له ، مع حصول هذا الأمر بنفس رفع اليد عن التزامه وتعهّده بكونه رهنا.

وإن شئت قلت : إنّ إنكاره معناه عدم الرضا بكونه رهنا وعدم التزامه بذلك ، فعلى تقدير كونه رهنا واقعا يرجع إنكاره إلى إعدام التزامه وتعهّده بقاء ، وهذا هو عين الفسخ ، والمفروض أنّ العقد جائز من طرفه وله أن يفسخ في أيّ وقت شاء.

وأمّا ما ربما يتوهّم من أعمّية الإنكار من الفسخ ، وبوجود الأعمّ لا يثبت الأخص.

ففيه : أنّه وإن كان الأمر كذلك وثبوت الأعمّ لا يستلزم ثبوت الأخصّ ، ولكن فيما نحن فيه يمكن ادّعاء ملازمة عرفيّة بينهما ، كما إذا أنكر الموكّل وكالة شخص في أمر ، فالعرف يفهم من هذا الإنكار أنّه على تقدير إن كان وكيلا فبالنسبة إلى الزمان الآتي ليس بوكيل ، وهذا الإنكار فسخه من حينه.

هذا ، مضافا إلى الاتّفاق والإجماع من الأصحاب أنّ بإنكار المرتهن رهانة شي ء تبطل رهانته. هذا بالنسبة إلى المرتهن.

وأمّا الراهن حيث أنّ العقد لازم بالنسبة إليه فيكون منكرا لما يدّعيه المرتهن ، لأنّ قوله مطابق مع أصالة عدم رهانة ما يدّعي المرتهن رهانته ، فيكون عليه الحلف ، فظهر أنّه ليس من باب التداعي والتحالف.

والذي ذكرنا من أنّ هذا الفرع ليس من باب التداعي والتحالف فيما إذا لم يكن الرهن المتنازع فيه مشروطا ، أمّا لو كان كذلك أي كان الرهن المتنازع فيه شرطا في بيع - مثلا لو باع بستانه بألف دينار نسيئة إلى سنة ، وشرط على المشتري أن يرهنه

ص: 79

الشي ء الفلاني المعيّن ، وبعد وقوع البيع تنازعوا فقال البائع المرتهن : إنّ الشرط كان رهن دارك ، وقال المشتري الراهن : إنّ الشرط كان رهن دكّاني الفلاني ، وأنكر البائع ذلك - فكلّ واحد منهما يدّعي رهانة شي ء معيّن وينكر ما يدّعيه الآخر.

ولكنّ في المفروض ليس إنكار المرتهن لرهنيّة ذلك الدكّان إبطالا لرهنيّته ، لأنّ الرهن من طرفه عقد جائز ويكون إنكار رهانته فسخا كما ذكرنا ، وذلك الشرط في الحقيقة يرجع إلى كيفيّة الثمن وعن مكمّلاته ، وبه تحصل زيادة أو نقيصة في الثمن ، فكأنّه جزء للثمن ، فيكون حال اختلاف الشرط حال اختلاف نفس الثمن.

فكما أنّه لو قال البائع في المثل المذكور : بعتك بستاني بدارك ، وأنكره المشتري وادّعى أنّه بعت البستان بدكّاني ، فيكون هذه الدعوى من باب التداعي ، وكلّ واحد منهما مدّع بالنسبة إلى ثمن ، ومنكر بالنسبة إلى الثمن الذي يدّعيه الآخر ، فإذا لم تكن لكلّ واحد منهما بيّنة لما يدّعيه ، فعليه الحلف للآخر لنفي دعواه فيتحالفان.

فكذلك في المقام ، لأنّه في الحقيقة من باب الاختلاف في الثمن ، لأنّ الثمن المشروط بشرط كذا غير نفس ذلك الثمن إذا كان مشروطا بشرط آخر ، فإنكار المرتهن لا يمكن أن يكون فسخا ، لأنّه على تقدير أن يكون المتنازع فيه هو الشرط فيجب على المرتهن الوفاء به وقبوله رهنا ، لأنّه هو ألزم على نفسه ذلك.

فقول الراهن ، إنّه هو الشرط إلزام له بقبوله رهنا ، ويكون دعوى عليه ، فإذا لم تكن بيّنة على ما يدّعيه تصل النّوبة إلى حلف المنكر ، كما هو الشأن في باب الدعاوي. فإذا حلف المرتهن على عدم كونه شرطا ، وذلك الآخر - أي الراهن - أيضا حيث ينكر كون ما يدّعيه المرتهن شرطا ، وإذا لم تكن للمرتهن بيّنة على ما يدّعيه ، يتوجّه الحلف إلى الراهن ، لأنّه منكر لأصالة عدم كونه رهنا وشرطا ، وإذا حلفا فالبيع ينفسخ بفسخ كلّ واحد منهما بخيار تخلّف الشرط.

وأمّا جريان أصالة عدم كون كلّ واحد منهما رهنا أو شرطا مع العلم إجمالا

ص: 80

بشرطيّة أحدهما فلا مانع فيها من هذه ، لأنّ كلّ واحد من الأصلين يجري في حقّ أحدهما ، ولا يجري كلاهما في حقّ شخص واحد كي يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريانهما ، وذلك واضح.

وقال في القواعد : أمّا لو ادّعى البائع اشتراط رهن العبد على الثمن ، فقال المشتري :

بل الجارية ، احتمل تقديم قول الراهن - وهو الأقوى - والتحالف ، وفسخ البيع (1).

ففي مورد كون رهن المتنازع فيه شرطا في البيع الذي قلنا بالتحالف ذكر وجهين : أحدهما التحالف كما بيّنّا ، ولعلّه هو المشهور في نظائره ممّا كان الثمن متنازعا فيه ، فيما إذا ادّعى كلّ واحد من البائع والمشتري ثمنا غير ما يدّعيه الآخر. والثاني : تقديم قول الراهن ، وقوّاه.

وقد ذكر في الإيضاح في وجه كلام والده - أي في وجه تقديم قول الراهن - بقوله : وجه القوّة خروج الجارية بإنكار المرتهن وبقاء التداعي في العبد ، والقول قول منكر الرهن ، إلى آخر ما قال (2) وذكر في وجه التحالف أنّ الثمن يختلف باختلاف الشرط ، فكان كالاختلاف فيه. ثمَّ قال : والأصح الأوّل ، أي تقديم قول الراهن ، أي كون الحلف على الراهن فقط.

ولكن أنت خبير بأنّ قوله في وجه قوة الأوّل وكونه أصحّ بنظره : « خروج الجارية بإنكار المرتهن » صحيح لو لم يكن شرطا في البيع ، لما ذكرنا أنّ إنكاره فسخ ، لأنّ عقد الرهن من طرفه جائز ، فعلى تقدير صحّة قول الراهن وأنّ الرهن هي الجارية واقعا حيث أنّ عقد الرهن جائز ، فتخرج الجارية عن كونها رهنا بإنكاره وإن كانت.

وأمّا على تقدير كون رهنها شرطا في ضمن البيع ، فيجب الوفاء بالشرط وإن

ص: 81


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 166.
2- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 43.

يعمل على وفق التزامه ، فلا يخرج بصرف إنكاره عن الرهنيّة بل يحتاج إلى الحلف ردا لدعوى الطرف. ولا شكّ في أنّ الشرط الواقع في ضمن العقد اللازم يجب الوفاء به ، وبإنكار المشروط عليه لا يرتفع ، فإذا ادّعى أحد مثل هذا الشرط على شخص يكون مثل سائر الدعاوي المتعلّقة بالحقوق أو الأموال ، فإذا لم تكن للمدّعي بيّنة وأنكر المدّعى عليه يكون عليه الحلف ، وبصرف الإنكار لا يخلّى سبيله.

نعم أيّد هذا الاحتمال - أي تقديم قول الراهن - تبعا للعلاّمة صاحب الجواهر (1) قدس سره وقوّاه ، وأفاد في وجهه : أنّ قول الراهن « إنّ الرهن هي الجارية » وإن أنكره المرتهن موافق للحجّة الفعليّة وهي أصالة اللزوم ، بخلاف قول المرتهن فإنّه مخالف لأصالة لزوم العقد ، لأنّ نتيجة إنكاره هو جواز الفسخ وعدم اللزوم ، وأيضا جواز الفسخ في صورة ثبوت عدم الوفاء بالشرط عن المشروط عليه كي يأتي خيار تخلّف الشرط.

وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون الشرط هو ما يدّعيه الراهن ، فالمرتهن بإنكاره هو الذي يفوّت الشرط على نفسه ، والخيار يأتي فيما إذا لم يف المشروط عليه بالشرط ، لا فيما إذا فات بواسطة عدم قبول المشروط له ، فإذا لم يكن للمرتهن الفسخ لما ذكرنا فلا يمين عليه ، لعدم أثر له ، فيكون اليمين مختصّا بالراهن فلا تحالف في البين ، ونتيجة حلف الراهن على عدم كون الرهن هو العبد - في المثال الذي ذكره في القواعد (2) وهو أنّه لو ادّعى البائع اشتراط رهن العبد على الثمن ، فقال المشتري : بل الجارية. المراد من البائع في المثال هو المرتهن ، والمراد من المشتري هو الراهن مع إنكار المرتهن رهن الجارية - هو بقاء البيع بلا شرط ، مع العلم الإجمالي بوجود أحد الشرطين المذكورين في المثال ، وهما شرطيّة رهن العبد أو الجارية.

ويجيب صاحب الجواهر عن هذا الإشكال بأنّه لا غرابة فيه بعد الجريان

ص: 82


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 273.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 166.

على الضوابط (1).

وفيه : أنّه بعد العلم بشرطيّة أحدهما وارتفاع أحدهما بإنكار المرتهن والآخر بحلف الراهن وعدم العمل بكليهما ، علمنا تفصيلا بتخلّف الشرط ، غاية الأمر الترديد في سبب التخلّف وأنّه هل عدم العمل بما يدّعيه المرتهن ، أو بما يدّعيه الراهن ، لا في أصل التخلّف.

اللّهمّ إلاّ أن يقال - كما أشرنا إليه - : إنّ هذا التخلّف القطعي من المحتمل أن يكون من ناحية تفويت المشروط له ، وهو لا يوجب الخيار ، وما يوجبه هو التخلّف والتفويت من ناحية المشروط عليه ، وهو غير معلوم بل محتمل ومشكوك.

فرع : لو اختلفا في ردّ الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه ، لأنّ قوله مطابق مع أصالة عدم الردّ ، فقول المرتهن مخالف للأصل وقول الراهن موافق للأصل ، وقلنا في باب تشخيص المدّعي والمنكر إنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من كان قوله موافقا للحجّة الفعليّة.

فإذا كان الراهن منكرا فوظيفته اليمين إن لم يكن للمدّعي - أي المرتهن - بيّنة على الردّ.

وأمّا مسألة أنّ المرتهن أمين والأمين لا يغرم.

ففيه : أنّه وإن كان أمينا بالأمانة المالكيّة ولكن الأمانة المالكيّة على قسمين : فتارة يكون المال تحت يده من قبل المالك وبإذنه ، ولكن لمصلحة نفسه لا لمصلحة المالك. وأخرى لمصلحة المالك ويكون محسنا كالوديعة.

وفي القسم الأخير لا يحلف ، لأنّه محسن ولا سبيل عليه.

ص: 83


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 274.

أمّا القسم الأوّل فحيث أنّ المال تحت يده لمصلحة نفسه وإن كان بإذن المالك لا يعدّ محسنا ، فقاعدة ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (1) لا تشمله ، فتجري فيه قواعد باب القضاء.

ففي المستأجر والمستعير والمقارض والوكيل بجعل وأمثال ذلك ممّا يكون تحت يده بإذن المالك لمصلحة نفسه إذا ادّعى الردّ لا تقبل قوله إلاّ بالبيّنة ، وتجري قواعد باب القضاء من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

فرع : إذا رهن مالا مشاعا كنصف دار أو دكّان مثلا ، وأذن للمرتهن في قبضه وكونه في يده ، ووقع النزاع بين المرتهن وشريك الراهن في إمساكه ، فادعى كلّ واحد منهما أن يكون ذلك المال في يده ولم يرض الآخر بذلك ، فرفعا الأمر إلى الحاكم ، ينتزعه الحاكم ويقبضه لهما بنفسه ، أو ينصب عدلا بأن يكون في يده لهما.

ولا فرق في صحّة فعل الحاكم من قبض نفسه لهما أو نصب عدل بأن يقبض لهما بين أن يكون القبض لأجل أنّه شرط لصحّة الرهن ، أو يكون للاستئمان. فإذا انتزعه الحاكم وقبضه بنفسه لهما أو قبض العدل لهما ، يحصل القبض الذي هو شرط الصحّة ، من جهة أنّه بعد ما كان قبض كلّ واحد منهما غير ممكن لوجود التشاحّ والتنازع ، فيكون قبض الحاكم أو قبض من نصبه لذلك بمنزلة قبضهما ، لأنّ الشارع جعل له مثل هذه الولاية بقوله علیه السلام : « فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » (2).

فالحاكم منصوب لأجل قطع المنازعة والخصومة ، وحيث أنّ قطع الخصومة والمنازعة في المقام لا يمكن إلاّ بأحد أمرين : إمّا مباشرته بنفسه في قبضه لأجل صحّة

ص: 84


1- التوبة (9) : 91.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 413 ، باب كراهيّة الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ، ح 514 ، باب من إليه الحكم. ، ح 6. وص 301 ، ح 845 ، باب في الزيادات في القضاء والأحكام ، ح 25 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 98 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 1.

الرهن أو لأجل الاستئمان عليه إلى أن يحلّ الأجل ، أو نصب عدل لأجل أحد هذين الأمرين. فبأحدهما يقطع النزاع ، فله - أي للحاكم - ذلك ، لأنّه المرجع في هذه الأمور ، وإلاّ يلزم أن يكون جعله حاكما لغوا لا أثر له.

ثمَّ إن كان ذلك المال ذا أجرة آجره الحاكم بنفسه أو من نصبه مدّة لا تزيد على أجل الدين لأنّه بعد حلول الأجل إمّا أن يأخذ المرتهن دينه فيجب عليه ردّ الرهن إلى صاحبه وليس له حقّ بعد ذلك فيه ، فإذا كان الأمر بيد الحاكم أو من نصبه فهو أو من نصبه يردّ عليه وأمّا لا يؤدّي لفلس أو لغيره فيباع لاستيفاء دينه ، فعلى كلّ حال لا يبقى مجال لأن يوجره الحاكم بعد حلول الدين.

فلو آجره أزيد من أجل الدين يكون باطلا ، إلاّ أن يمضي الراهن والشركاء بالنسبة إلى تلك المدّة ، وإلاّ كان تصرّف من غير ذي الحقّ.

وأمّا الأجرة في الزمان الذي تصح الإجارة فيقسّم على الملاّك بالنسبة إلى حصصهم ، إلاّ أن يقال بأنّ النماء المتجدّد - وإن كان من قبيل المنافع الخارجة عن ذات العين المرهونة - أيضا يدخل في الرهن ، فتكون حصّة الراهن من المنافع - أي : الأجرة في المفروض - داخلة في الرهن ، وتبقى مثل نفس الرهن محفوظة في يد الحاكم أو في يد من نصبه إلى حلول أجل الدين ، فيكون حالها حال نفس الرهن ، أي إمّا أن يستوفي منها الدين أو يرد إلى صاحبه.

ثمَّ إنّ الإجارة لا بدّ وأن تكون بإذن الراهن ، لأنّ الرهن لا يقتضي أزيد من أن يكون نفس المال محفوظا كي يستوفي الدين منه عند حلول الأجل إن لم يؤدّ المديون. نعم لو وقع النزاع بين الشركاء فغير الراهن منهم أراد وأن يؤجروا وامتنع الراهن فأيضا يكون المرجع هو الحاكم ، لأنّه وليّ الممتنع فيؤجر ويصنع بالإجارة ، كما تقدّم.

ثمَّ إنّه لو وقع عقد الإجارة على أزيد من زمان أجل الدين - وقد عرفت أنّها باطلة بالنسبة إلى الزائد على الأجل - فلو كان المستأجر جاهلا بهذا الأمر يكون له

ص: 85

الخيار في قبول الإجارة بمقدار مدّة أجل الدين وفسخها ، لأنّه يكون من قبيل تبعّض الصفقة بالنسبة إلى مدّة الإجارة.

فرع : لو أرهن بيضة على دين فأحضنها المرتهن فصارت فرخا ، أو أرهن حبّا فزرعه فصار شجرا ، قال في الشرائع : يكون الملك والرهن باقيين (1).

وقال في الجواهر في مقام شرح العبارة : بلا إشكال في كل منهما أمّا في مسألة بقاء الملك فلأنّ هذه الأشياء نتيجة ماله ومادّتها له ، فلم تخرج عن ملكه بالتغيّر. والاستحالات المتجدّدة صفات حاصلة في البيضة والحب بسبب استعدادهما لتكوّنات متعاقبة خلق اللّه تعالى فيها ووهبها لهما ، والأرض والماء والإحضان ونحوها من المعدّات التي لا تخرج المادّة عن ملك صاحبها (2) ، انتهى ما أفاده قدس سره .

وهذه العبارات التي ذكرها أخذها من المسالك بعين ألفاظها ، وإن شئت فراجعها.

وذكر في المسالك (3) خلاف الشيخ وجماعة من العامّة أنّها تصير ملكا للقابض - أي : للمرتهن - فأجروا عليها حكم التلف.

وحاصل كلامه قدس سره : أنّ التغيّرات التي تقع في الجسم المملوك لشخص إذا كانت من قبل اللّه تعالى ومن مواهبه تعالى بواسطة استعداده ووجود معدّات لتلك الإفاضات من المبدء الفيّاض ، لا توجب زوال الملكيّة. وهذا ينبغي أن يعدّ من البديهيّات ، إذ لا شكّ في أنّ النباتات مثل الأشجار وغيرها والحيوانات كلّها في سيرها الكمالي تتغيّر من الصغر إلى الكبر ، وكذلك بحسب سائر الصفات والحالات ، فمن غرس أشجارا ليس لها ثمرة بل لا قابليّة لها فعلا لأن يكون ذا ثمرة ، ولكن صار بعد

ص: 86


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 84.
2- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 255.
3- « المسالك » ج 1 ، ص 235.

ذلك أشجارا مثمرة ، وصار بستانا فيه من أنواع الفواكه والأثمار ، فهل يمكن أن يتجرّء أحد ويقول بأنّه بواسطة هذه التغيّرات خرج عن ملك مالكه؟! أو من كانت له سخال فكبر وصارت أغنام تخرج عن ملكه بصيرورتها شياه وأغنام؟! هذا ما ذكره قدس سره .

ولكن من المعلوم أنّ محلّ الكلام ليس من هذا القبيل ، بل الكلام في الموارد التي زال عنها الصورة النوعيّة وتلبّست بصورة أخرى ، كالحيوان الذي مات ووقع في المملحة وصار ملحا ، فهل يبقى هذا على ملك مالكه ، أو يقال بأنّه صار تالفا؟

وفي باب المطهّرات ذكروا أنّ أحدها الاستحالة ، وهي زوال الصورة النوعيّة وتبدّلها إلى صورة أخرى ، مع أنّ معروض النجاسة وموضوعها هناك أيضا مثل المقام هو الجسم المتصوّر بصورة كذا ، ويقولون هناك بذهاب النجاسة بزوال صورة الجسم النجس واستحالته إلى نوع آخر ، فهل الملكيّة أيضا من قبيل النجاسة تزول بزوال الصورة النوعيّة من الجسم المملوك؟

والفرق بين المقامين هو أنّ أدلة النجاسات ظاهرة في أنّ لصورها النوعيّة مدخليّة في نجاسة الجسم المتصوّر بتلك الصور وإن كان المعروض هو نفس الجسم ، بخلاف أدلّة الملكيّة فإنّها ظاهرة في أنّ الموادّ مملوك في عرض صورها النوعيّة ، فكما أنّ صور النوعيّة للذات المصنوعة من الحديد كالسيف وسائر ما يصنع منها مملوك لصاحبها ، كذلك الحديد الذي صنع هذه الأدوات منها مملوك له في عرض تلك الصور ، فهناك مملوكان كلّ واحد منهما في عرض الآخر. فلو زال أحدهما وانعدم فموضوع الآخر موجود ولم يزل ، فحكمه أيضا موجود.

أمّا في باب النجاسات : فالشارع وإن حكم بنجاسة موادّ النجاسات ولكن الموادّ التوأمة مع صورها ، فإذا زالت تلك الصور فلا يبقى موضوع النجاسة في البين - أي المادّة التوأمة مع صورتها النوعيّة - فقهرا تزول النجاسة وتذهب بذهاب موضوعها.

وأمّا بقاء رهانتها فلأنّه جعل هذا المال الخارجي رهنا لأجل استيثاق المرتهن

ص: 87

من دينه ، وأنّه يستوفي دينه منه إن لم يؤدّ الراهن المديون لفلس أو لغيره ، فما دام يكون هو موجودا ولم يسقط عن الماليّة ويمكن استيفاء دينه منه فلا وجه لسقوط رهانته لما تقدّم وقلنا إنّ الرهن من طرف الراهن عقد لازم.

وأمّا ما ربما يتوهّم : من أنّ شيئيّة الشي ء بصورته لا بمادّته ، فإذا انعدمت الصورة ينعدم الشي ء بانعدامها ، فليس ذلك الشي ء باقيا كي تكون رهانته باقية.

ففيه : أنّ هذا الكلام وإن كان حقّا في محلّه ولكن لا ربط له بمقامنا ، لأنّه لا ندّعي بقاء تلك المهيّة لزوالها بزوال صورتها النوعيّة قطعا ، بل نقول موضوع الملكيّة نفس المادّة ، كانت مع الصورة النوعيّة أو لم تكن.

مثلا لو فرضنا أنّ الخشب صورته النوعيّة غير صورة الفحم ، ويكون سلب الخشبيّة من الفحم صحيحا لأنّه مهيّة أخرى غير مهيّة الخشب ، لكن معروض الملكيّة لمن يملك خشبا ليس مهيّة الخشب بصورتها النوعيّة ، بل المعروض مادّة الخشب ، فلو فرضنا أنّه احترق ذلك الخشب وصار فحما لا يخرج عن ملكه ، بل انقلب ملكه عن عنوان إلى عنوان آخر ، لأنّ المادّة الباقية في الحالين ملك في عرض الصور النوعيّة.

وحيث أنّ الرهن تعلّق بما هو ملك الراهن لأجل فرض استيثاق المرتهن ، فما هو الملك حيث كان باقية فرهانته أيضا باقية ، فالبيضة والحبّ حيث أنّ مادّتهما ملك وهي باقية بعد زوال صورتها وتبدّلها إلى صورة أخرى فرهانتهما أيضا باقية.

فظهر أنّ الملك والرهن كلاهما باقيين وإن تبدّلت صورتاهما. وتفصيل هذه المسألة مذكورة في كتاب الغصب في ضمان اليد.

فرع : لو رهن المستعير ما استعاره بدون إذن مالكه ، فحيث أنّ هذا التصرّف لا يجوز له فتخرج يد المستعير عن كونها يد أمانة ، فيضمن لو تلف وإن كان تلفه بدون تعدّ وتفريط بل ولو تلف سماوي ، لأنّ ضمان اليد غير مقيّد بكون التلف بتفريط ذي

ص: 88

اليد ، لأنّ اليد غير المأذونة مكلّف بردّ ما أخذت ، ولا يفرّغ ذمّته إلاّ بأداء ما وقعت تحت يده.

وأمّا لو كان رهن المستعير بإذن مالكه ، فالظاهر أنّ الراهن أيضا يضمن الرهن للمالك بقيمته إن كان قيميّا وبمثله إن كان مثليا يوم تلفه ، لأنّه قبل ذلك لا ضمان له حيث أنّ رهنه بإذن مالكه ، فليس لا يد الراهن ولا يد المرتهن يد ضمان ما دامت عين المستعارة موجودة.

نعم لو تلفت في يد المرتهن فالراهن ضامن بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا إذا لم يكن التلف عن تفريط المرتهن ، وإلاّ يكون المرتهن ضامنا ، لأنّ يده بالتفريط خرجت عن كونها أمانة.

وأمّا ضمان الراهن دون المرتهن فيما إذا لم يفرط المرتهن لاحترام مال المعير فإنّه لم يهبه للمستعير بل يكون إذنه في جعله رهنا بمعنى أنّه يصحّ بيعه واستيفاء المرتهن دينه منه ، ولكن بعوضه على ذمّة الراهن لا مجانا ، لأنّه يقع بدلا عمّا في ذمّة الراهن ، فيفرغ ذمّته عن الدين ، ولكن تشتغل بمثله إن كان مثليا وبقيمته إن كان قيميّا.

ومن هذه الجهة يشبه الضمان ، حيث أنّه بقوله « أنا ضامن » يفرغ ذمّة المضمون له عن دينه ، ولكن يشتغل ذمّته للضامن.

وأمّا المرتهن فلا شي ء عليه ، لأنّه استوفى دينه منه بإذن مالكه ، ولم يفرط كي تكون يده يد ضمان ، فلا وجه لضمانه أصلا. نعم لو فرط يكون ضامنا ، لخروج يده عن الأمانة.

ثمَّ إنّه لا يجوز للمعير أن يرجع عن إذنه ، لأنّ الرهن لازم من طرف الراهن ، فبإذنه كأنّه أخرج ماله عن تحت اختياره ، كما لو أذن في بيعه بإسقاط الخيار ، فباع وأسقط جميع الخيارات ، أو لم يكن له خيار بعد انقضاء خيار المجلس ، فليس للمالك إذن الرجوع عن إذنه. وهذا واضح جدّا ، ولا إشكال فيه.

ص: 89

وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الفرع - مضافا إلى أنّ كلّها مقتضى القواعد العامّة في أبواب الضمانات - إجماعيّ لم يخالف فيها أحد من أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين.

هذا كلّه قبل حلول أجل الدين ، وأمّا بعد حلول الأجل فله مطالبة مال ، فإن ردّه الراهن تامّا وبلا نقصان فلا شي ء عليه ، وأمّا لو طرء عليه نقصان أو تلف فالراهن ضامن ، ولا يضمن المرتهن إلاّ مع التفريط ، وإن تعذّر ردّه بدون تلف أو نقصان فعلى الراهن بدل الحيلولة إلى حصول الردّ.

ثمَّ إنّ للمعير الرجوع عن إذنه قبل تحقّق عقد الرهن ، بل وبعده قبل القبض إن قلنا بأنّ القبض شرط صحّة الرهن. بل يمكن أن يقال بجواز الرجوع وإن كان شرطا في اللزوم لا الصحّة ، لأنّ قبله عقد جائز فالرجوع بمنزلة الفسخ.

ثمَّ إنّ إجازة المالك تارة صريحة في أن يرهن المال المستعار كيف شاء ، وأخرى مقيّدة بقيد خاصّ ، وثالثة مطلقة.

في الصورة الأولى يجوز له أن يرهن عن أيّ شخص كان ، وعلى أيّ مقدار كان ، وبأيّ مدّة كانت.

وأمّا في الصورة الثانية فلا يجوز له التعدّي عمّا عيّن.

وإنّما الكلام في الثالث وأنّه هل يجوز له العمل والأخذ بالإطلاق كي يكون مثل الصورة الأولى فيرهن ممّن يشاء ، وعلى أيّ مقدار يشاء ، وبأيّ مدّة يشاء ، أم لا بل لا بدّ له أن يأخذ بالقدر المتيقّن أو المتعارف ممّا هو الظاهر؟ ويراد من الكلام غالبا عند العرف لا يبعد الثاني ، لأنّ الأخذ بالإطلاق غالبا يوجب الضرر وخسارة الآذن ، ومن حيث كثرة الاختلاف في آجال الديون واختلاف المرتهنين في حفظ الرهن وسلامته ربما يوجب إضرارا للمعير المجيز.

ص: 90

فالأولى هو التعيين حين إذنه من حيث أجل الرهن وأنّه على أيّ مقدار من الدين ، وأنّ المرتهن من أيّ قسم وسنخ من الأشخاص ، إذ لا شكّ في تفاوت وصول الرهن وحصوله سالما بيد مالكه - أي المعير - باختلاف الحالات بالنسبة إلى المذكورات.

فإذا عيّن على حسب ما ذكرنا من مقدار الدين والأجل وحالات المرتهن ، فرهن على خلاف ما عيّن ، يكون رهنه فضوليّا يحتاج إلى إجازة المالك ، وإلاّ يكون باطلا إن ردّ ولم يجز.

ثمَّ إنّه بناء على ما قلنا « إنّ بيعه جائز للمرتهن » إن لم يؤدّ الراهن دينه عصيانا أو لعذر من فلس أو لجهة أخرى ، بأن كان وكيلا من قبل المالك عند عدم أداء الراهن دينه ، أو بإجازة جديدة من طرف المالك ، أو برجوعه إلى الحاكم وهو أمره بالبيع ، فباع بأكثر من ثمن المثل ، فمجموع الثمن الذي وقع عوض الرهن في بيعه للمعير المالك.

ووجهه واضح ، لأنّه ثمن ماله فيكون له ، ولا يخرج الرهن عن ملك مالكه بحكم الشرع بجواز البيع ، بل يخرج بوقوعه خارجا كما هو الشأن في جميع الأملاك التي تباع ، فالبيع يقع في ملك مالك الرهن ، فيكون تمام ما هو الثمن في بيعه لمالك الرهن. وهذا واضح ما كان ينبغي أن يذكره الأساطين.

ولكنّهم أرادوا بذكره دفع ما ربما يتوهّم ، وهو أنّ العارية وإن لم تكن مضمونة إلاّ إذا اشترط الضمان أو كانت ذهبا أو فضة - كما هو مذكور في محلّه مفصّلا - ولكن هذه العارية التي سمّوها استعارة للرهن مضمونة بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا اتّفاقا وإجماعا ، فكأنّه أخرج عن ملك مالكه مقدّرا بهذا المقدار من الماليّة ، غاية الأمر تقدير الشارع ماليّته بهذا المقدار على تقدير تلفه وعدم إمكان وصول نفسه إليه.

فالمتوهّم ربما يتوهّم أنّ البيع لأجل استيفاء الدين أيضا مثل التلف ، بل هو تلف تشريعي ، فيكون الراهن ضامنا لثمن مثله لا الزائد عليه ، فإذا وجد راغب اشتراه

ص: 91

بأزيد من ثمن المثل فالزائد ليس للمالك بل للراهن ، لأنّ الشارع قدّر ماليّته بثمن المثل.

ولكن رفع هذا التوهّم بما ذكرنا : أنّ البيع وقع في ملك مالك الرهن - أي المعير في المفروض - ومجموع الثمن عوض ملكه ، فمجموعه يكون ملك مالك المعير ، ويكون له حقّ المطالبة بالزائد ، كما له حقّ المطالبة بمقدار ثمن المثل.

فرع : إذا انفكّ الرهن بواسطة أداء الدين ، أو إبراء المرتهن ذمّة الراهن أو غير ذلك ، فهل يجب على المرتهن إيصال الرهن إلى مالكه ، أم يبقى أمانة مالكيّة عند المرتهن فإن طالبه المالك به يجب ردّه إليه وأمّا ابتداء وبدون مطالبة فلا؟ وهو - أي الردّ ابتداء - يجب في الأمانة الشرعيّة أو إعلامه بأنّ مالك عندي بصورة خاصّة ، كما إذا علم أنّ هذه اللقطة التي وجدها والتقطها لزيد مثلا ، فيعلم زيدا أنّ مالك الفلاني عندي ، أو بصورة عامّة كما إذا التقط شيئا ولا يعرف صاحبه فيعرّف بصورة عامّة ويقول : من ضاع عنه الشي ء الفلاني يأتي ويأخذه منّي.

والسرّ في ذلك : أنّ الأمانة الشرعيّة يجب إيصالها إلى صاحبها ، دون الأمانة المالكية بل يجب إعطاؤها إن طالبها لا مطلقا ، هو أنّ الأمانة المالكيّة بإذن المالك ، فإن رجع المالك عن إذنه لا بدّ وأن يعلمه ، والمطالبة يدلّ على عدم إذنه في البقاء عنده ورجوعه عن إذنه حين المطالبة. وأمّا الأمانة الشرعيّة فليست في يده بإذن المالك ، بل ربما لا اطّلاع للمالك أنّه عنده والشارع أذن له أن يكون عنده إلى أن يوصل إلى صاحبه.

ومعلوم أنّ كون مال الغير تحت يده لا بدّ وأن يكون بإذن مالكه ، وإذن الشارع وإن كان كافيا لأنّ اللّه ورسوله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، إلاّ أنّ إذن الشارع ليس مطلقا ، بل يكون لضبطه وحفظه إلى أن يوصل إلى صاحبه في أوّل أزمنة إمكانه ، فلا يجوز انتظاره إلى أن يطالبه ، بل غالبا في اللقطة وأمثالها من الأمانات الشرعية

ص: 92

لا اطّلاع للمالك كي يطالبه.

وفي ما نحن فيه حيث أنّ الرهن أمانة مالكيّة لا يجب على المرتهن ردّه إلاّ بعد مطالبة المالك. وبناء على هذا فكما أنّ المرتهن لا يضمن الرهن ما لم يفرّط قبل أداء الراهن الدين لأنّ يده يد أمانة ، كذلك لا يضمن بعين ذلك الدليل بعد أداء الدين ما لم يطالب ، بل وما دام لم ينقض زمان يمكن أدائه عرفا وإيصاله إلى صاحبه.

فرع : وهو أنّه هل يقع الرهن بالمعاطاة ، أم لا بد من إنشائها باللفظ؟ الظاهر هو الأوّل ، وذلك لشمول الإطلاقات له ، فقوله علیه السلام في رواية سماعة ، في جواب السؤال عن صحّة الرهن ، قال : « لا بأس بأن تستوثق من مالك » (1) يشمل ما إذا استوثق بالمعاطاة بأن يعطى مالا للدائن لأن يكون رهنا ووثيقة عنده ليستوثق من ماله ، فهو علیه السلام أمضى صحّة مثل هذه المعاملة ، مضافا إلى السيرة بقوله : لا بأس يستوثق من ماله.

وبقوله علیه السلام في رواية يعقوب بن شعيب قال : سألته عن الرجل يكون له على الرجل تمر أو حنطة أو رمّان وله أرض فيها شي ء من ذلك ، فيرتهنها حتّى يستوفي الذي له ، قال علیه السلام : « يستوثق من ماله » (2).

وفي رواية عبد اللّه بن سنان ، قال علیه السلام : « نعم استوثق من مالك » (3) وأمثال هذه

ص: 93


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 261 ، باب السلف في الطعام والحيوان ، ح 3942 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 42 ، ح 179 ، باب بيع المضمون ، ح 67 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 175 ، ح 772 ، باب في الرهون ، ح 29 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 122 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 6.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 259 ، باب السلف في الطعام والحيوان ، ح 3936 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 1.

المطلقات كثيرة (1) ، وليس إجماع على عدم وقوعه بالمعاطاة.

الحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 94


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1.

57 - قاعدة الزعيم غارم

اشارة

ص: 95

ص: 96

قاعدة الزعيم غارم (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « الزّعيم غارم ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (2) ولا شكّ في أنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ الزعيم والمتعهّد بمال ، عليه أن يعطى ذلك المال للذي تعهّد له.

وأيضا قوله تعالى ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (3) فإنّ ظاهر الآية هو الخطاب إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالسؤال عنهم أنّ أيّهم زعيم بإثبات ما يدّعون من تساوي حال المشركين مع المسلمين في الدنيا والآخرة ، فإنّهم كانوا يدّعون أنّه على فرض صحّة ما يدّعي محمّد صلی اللّه علیه و آله من أنّا نبعث ، لم يكن حالنا وحالهم إلاّ مثل ما هي في الدنيا ، أي أنّا أعزّاء وهم أذلاّء ، فردّهم اللّه تعالى بقوله مخاطبا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) أي كفيل بإثبات صحّة ذلك ، أي ادّعائهم ادّعاء باطل لا يقدر أحد منهم إثبات

ص: 97


1- (*) « الحق المبين » ص 85. « خزائن الاحكام » ش 17 ، « قواعد فقه » ( شهابى ) ص 93 ، « القواعد » ص 137 ، « قواعد فقه » ( محقق داماد ) ج 2 ، ص 155 ، « قواعد فقهي » ص 67.
2- يوسف (12) : 72.
3- القلم (68) : 40.

ذلك ، فتدلّ الآية بالالتزام على أنّ الزعيم والكفيل أن يخرج من عهدة ما تعهّد به ويفي به ، فتأمّل.

الثاني : قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » في خطبته يوم فتح مكّة حيث قال : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضي ، والزعيم غارم » (1).

ولا ينافي ذلك ما رواه حسين بن خالد عن أبي الحسن موسى علیه السلام قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام جعلت فداك قول الناس : الضامن غارم ، قال فقال علیه السلام : « ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال » (2).

وذلك لأنّ المراد منه أنّ الخسارة الواقعيّة بالأخرة على من أكل المال والضمان ينتهي إليه ، لأنّ الضامن وإن كان ذمّته تشتغل بالمال للمضمون له ، ولكن ليس اشتغال ذمّته بلا عوض ومجّانا ، بل يكون بعوض اشتغال ذمّة المضمون عنه له بذلك المقدار ، فالغرم والخسارة الواقعيّة يكون على المضمون عنه ومن هو المديون واقعا وعبّر عنه علیه السلام بمن أكل المال.

الثالث : الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت علیهم السلام ، وهي كثيرة :

منها : ما رواه فضيل وعبيد عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لمّا حضر محمّد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم ، فقال لهم : قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعليّ دين فأحبّ أن تقضوه عنّى. فقال على بن الحسين علیه السلام : ثلث دينك عليّ. ثمَّ سكت وسكتوا ، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : عليّ دينك كلّه. ثمَّ قال على بن الحسين علیه السلام : « أمّا

ص: 98


1- « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 368 ، باب 39 ، ح 1285 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 297 ، باب تضمين العارية ، ح 3565 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، باب العارية ، ح 2398 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 435 ، أبواب الضمان ، باب 1 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 140 ، باب اللقطة والضالّة ، ح 5 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 96 ، باب الكفالة ، ح 3402 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 209 ، ح 485 ، باب الكفالات والضمانات ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 149 ، أبواب الضمان ، باب 1 ، ح 1.

أنّه لم يمنعني أن أضمنه أوّلا إلاّ كراهة أن يقولوا : سبقنا » (1) إلى غير ذلك من الأخبار التي سنذكر بعضها في القسم الأوّل من أقسام الضمان بالمعنى الأعمّ ، وهو الضمان بالمعنى الأخصّ إن شاء اللّه تعالى.

الرابع : الإجماع على أنّ من تعهّد بمال أو بنفس يجب عليه الوفاء بما تعهّد ، وقد تكرّر في هذا الكتاب ذكر الإجماع والإشكال عليه ، فلا نعيد.

الخامس : ما ذكرنا في قاعدة وجوب الوفاء بما التزم به ، وأنّ بناء العقلاء على لؤم من يخالف التزامه وتوبيخ من لم يعمل بما تعهّد ، والشارع أيضا ألزم في عالم التشريع لزوم العمل ووجوب الوفاء بالتزاماته ، وقد أقمنا على ذلك البرهان من الأدلّة الشرعيّة.

ولا شكّ في أنّ الزعامة والكفالة لا تحصل إلاّ بالتعهّد والالتزام بمال أو نفس ، فإذا حصل مثل هذا التعهّد والالتزام يكون مشمولا لأدلّة وجوب الوفاء ، فالشرع والعقل يحكمان بلزوم العمل على طبق تعهّده والتزامه ، غاية الأمر مع مراعاة ما اعتبره الشارع في كلّ مورد في صحّة ما التزم به وتعهّد عليه ، وأن لا يكون من الالتزامات الباطلة ، كالالتزام بفعل حرام أو ترك واجب. وقد تقدّم كلّ ذلك في بعض القواعد.

الجهة الثانية : في شرح مفادها وبيان المراد منها

اشارة

أقول : ظاهر هذه الجملة - أي جملة « الزعيم غارم » التي في الحديث الشريف - هو أنّه يجب على الزعيم - أي الكفيل والمتعهّد ، سواء كان متعهّدا بالمال ، أو كان متعهّدا بالنفس والبدن - أداء ما تعهّد به فإن كان مالا يؤدّيه وإن كان نفسا يسلمه ، أو

ص: 99


1- « الكافي » ج 8 ، ص 332 ، ح 514 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 151 ، أبواب الضمان ، باب 3 ، ح 1.

يغرم ما عليه من مال أو حقّ ، على تفصيل سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

وذلك من جهة أنّ الجملة وإن كانت بظاهرها جملة خبريّة ، ولكن حيث انّه صلی اللّه علیه و آله في مقام إنشاء الحكم فاستعمل الجملة الخبريّ في الإنشاء. وقد بيّنّا في الأصول أنّ الجملة الخبريّة التي استعملت في مقام الإنشاء إن كانت موجبة تكون آكد في الوجوب من الجملة الطلبية الإنشائية ، وإن كانت نافية تكون آكد في التحريم.

فقوله صلی اللّه علیه و آله في الجمل الأربع التي في الحديث الشريف وهي : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضي » وهذه الجملة ، أي جملة « الزعيم غارم » وإن كان كلّ واحد منها بصورة الجملة الخبريّة ، ولكن حيث أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام الحكم فكلّها دالّة على الوجوب.

فالحديث يدلّ على وجوب أداء الزعيم ما تعهّد به ، وذلك من جهة أنّ الزعيم بمعنى الكفيل والغارم هو الضامن ، كما ذكره في نهاية ابن أثير (1).

والضمان بالمعنى الأعمّ كون ذمّة الشخص مشغولة لآخر بمال أو نفس ، وهو ثلاثة أقسام :

الأوّل : الضمان بالمعنى الأخصّ. وهو عند الفقهاء عبارة عن التعهّد بمال ممّن ليست ذمّته مشغولة لذلك الضامن بمثله.

الثاني : الحوالة. وهي عبارة عن التعهّد بمال ممّن ذمّته مشغولة له بمثل ما يتعهّد. وهذا بناء على عدم صحّة الحوالة على البري ء ، وإلاّ يكون هذا التعريف أخصّ منها كما هو واضح.

الثالث : الكفالة. وهي عبارة عن التعهّد بنفس للآخر.

فالبحث في هذه القاعدة يكون في ثلاث مقامات :

ص: 100


1- « النهاية » ج 3 ، ص 363 ( غرم ).
المقام الأوّل : في الضمان بالمعنى الأخصّ

وهو التعهّد بمال في ذمّة الغير من ذلك الغير من دون أن يكون له في ذمّته مثله ، وإلاّ لو كان في ذمّة المضمون عنه للضامن مثل ما ضمنه يكون حوالة لا ضمانا في مصطلح الفقهاء ، فيسمّى المتعهّد لذلك المال الذي في ذمّة غيره ضامنا ، وذلك الغير الذي على ذمّته مال - أي المديون - مضمونا عنه ، كما أنّه يسمّى الدائن مضمونا له.

وقد أثبتنا شرعيّته بالأدلّة المتقدّمة التي كانت تشمل هذا الضمان بالمعنى الأخصّ وقسميه أي الحوالة والكفالة ، فلا يحتاج إلى الإعادة.

والضمان بهذا المعنى عندنا ناقل ، أي ينقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فيبرأ المضمون عنه ويسقط ما في ذمّته وتشغل ذمّة الضامن بالدين.

وأمّا مخالفونا فيقولون بأنّه لا تبرأ ذمّة المضمون عنه بل تكون ذمّته وذمّة الضامن كلاهما مشغولتان ، فيكون المضمون له مخيّرا في مطالبة أيّ واحد منهما ، لاشتغال ذمّة كليهما له ، ولذلك قالوا باشتقاق الضمان من الضمّ.

ويردّهم - مضافا إلى صعوبة تصوير ضمانين لمال واحد بأن يكون كلّ واحد من الضامنين ضامنا لذلك المال في عرض ضمان الآخر ، ولا يتوهّم انتقاض ذلك بالقول بتعدّد الضمان في باب تعاقب الأيادي ، فإنّه ضمان طولي لا عرضي ، ولذلك قرار الضمان على من بيده التلف. والتفصيل ذكرناه في بعض القواعد المتقدّمة من هذا الكتاب - ضمان أمير المؤمنين علیه السلام وأبي قتادة عن الميّت الذي كان مديونا بدرهمين ، فلم يصلّ عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : « صلّوا على صاحبكم » فقال علىّ علیه السلام « هما عليّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن » فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فصلّى عليه ، ثمَّ أقبل صلی اللّه علیه و آله على علىّ علیه السلام ،

ص: 101

فقال صلی اللّه علیه و آله : « جزاك اللّه عن الإسلام خيرا وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك » (1).

وأمّا ضمان أبي قتادة : فعن جابر بن عبد اللّه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان لا يصلّي على رجل عليه دين ، فأتي بجنازة فقال صلی اللّه علیه و آله : « هل على صاحبكم دين؟ » فقالوا : نعم ديناران. فقال صلی اللّه علیه و آله : « صلّوا على صاحبكم » فقال أبو قتادة : هما عليّ يا رسول اللّه ، قال : فصلّى عليه (2).

فقوله صلی اللّه علیه و آله لأمير المؤمنين بعد أن ضمن عن الميّت بدينه « فكّ رهانك كما فككت رهان أخيك » دليل قاطع على أنّ الضمان يوجب براءة ذمّة المضمون عنه وسقوط الدين عن ذمّته ، وكذا صلاته صلی اللّه علیه و آله بعد ضمان أبي قتادة يدلّ على براءة ذمّة ذلك الميّت ، وإلاّ فأيّ فرق بين قبل ضمانه فيمتنع صلی اللّه علیه و آله عن الصلاة عليه ، وبين بعد ضمانه فيصلّى عليه مع اشتغال ذمّة الميّت في كلتا الحالتين.

وأمّا حديث كون الضمان اشتقاقه من الضمّ - بتشديد الميم - فكلام شعري لا يليق بالذكر والإشكال عليه.

فالحقّ هو أنّ ذمّة المضمون عنه تبرأ بواسطة الضمان ، وينتقل الدين إلى ذمّة الضامن ، وهذا معنى كون الضمان ناقلا فالقول بأنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة بحيث يكون الدائن مخيّرا بين الرجوع إلى الضامن وبين الرجوع إلى المديون لا أساس له.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الضمان بهذا المعنى لا بدّ وأن يكون بإنشاء الضامن تعهّده ، ولذلك عرّفوه كما في الشرائع (3) والقواعد (4) وغيرهما بأنّه عقد شرّع للتعهّد بمال ، إلى آخره.

فالمراد بهذا التعريف أنّ الضمان الذي هو عبارة عن التعهّد المذكور يحصل بهذا

ص: 102


1- « الخلاف » ج 2 ، ص 79 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 151 ، أبواب الضمان ، باب 3 ، ح 2.
2- « الخلاف » ج 2 ، ص 80 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 151 ، أبواب الضمان ، باب 3 ، ح 3.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 107.
4- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 77.

ومسبّب عنه ، لا أنّه نفس العقد أي الإيجاب والقبول ، كما هو الحال في سائر عناوين المعاملات حيث أنّها عبارة عن المسبّبات بتلك الأسباب.

فالبيع مثلا عبارة عن النقل والانتقال الحاصل من قول البائع « بعت » وعن قول المشترى « اشتريت » أو قوله « قبلت ». وعلى كلّ حال يحتاج إلى صيغة ينشأ بها ذلك التعهّد ، ويلزم أن يكون اللفظ صريحا في إفادته ذلك التعهّد. وهكذا الأمر في سائر العقود بالنسبة إلى سائر العناوين ، مثل « أنا ضامن » أو « ضمنت لك » أو « مالك فلان عليّ ما في ذمّته ».

وقد ذكر في التذكرة ألفاظا كثيرة لإنشاء الضمان ، مثل « تكفّلت » أو « تحمّلت » أو « تقلّدت ما على فلان » أو « التزمت بما على فلان » وأمثال ذلك (1).

ولا يقع بألفاظ غير الصريحة كما هو الحال في سائر العقود ، كما إذا قيل للدائن « أنا أعطي أو أؤدّي ما على فلان » فهذا بالوعد أشبه ، وليس صريحا في إنشاء تعهّده بكونه - أي المال - في ذمّته ، وأيضا لا يكفي في حصول الضمان الكتابة لعدم صراحته في ذلك ، وكذلك الإشارة من القادر على النطق.

وخلاصة الكلام : أنّه ليس للضمان خصوصيّة من هذه الجهة ، بل حاله حال سائر العقود وقال في التذكرة : لو قيل له : « ضمنت عن فلان أو تحمّلت عنه دينه »؟ فقال : « نعم » كفى في الإيجاب ، لأنّ « نعم » في تقدير إعادة المسؤول عنه (2) وهو حسن.

إذا عرفت أنّ الضمان بالمعنى الأخصّ عقد يحتاج إلى صيغة كما شرحناه فهاهنا أبحاث.

[ البحث ] الأوّل : في الضامن. ويشترط فيه أن يكون مكلّفا ، أي بالغا ، عاقلا ،

ص: 103


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 85.
2- المصدر.

رشيدا ، جائز التصرّف ، مختارا.

أمّا الأوّلان لأنّه لا يجوز أمر الصبي حتّى يحتلم ، وأمر المجنون حتّى يفيق.

وأمّا الثالث فلأنّ السفيه ممنوع عن التصرّفات الماليّة ومحجور عليه.

وأمّا الرابع فلأنّه لو لم يكن جائزا التصرّف لفلس أو غير ذلك لم تنفذ معاملاته شرعا.

وأمّا الخامس فلأنّ من شروط صحّة المعاملات أن يكون مختارا ولا يكون مكرها.

وممّا ذكر ظهر أنّه لا يصحّ ضمان العبد إلاّ بإذن مولاه ، وذلك من جهة أنّه ممنوع عن مثل هذه التصرّفات بدون إذن مولاه ، لقوله تعالى ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (1).

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا عدم صحّة ضمان كلّ من ليس أهلا للتبرّع ، كالساهي والغافل والسكران إن كان سكره غالبا على عقله ، وكذلك الهاذل الذي لا يمكن تشخيص مراده من ظهور كلامه.

وهذه الأمور التي ذكرناها كلّها يرجع إلى أحد أمور ثلاثة : إمّا إلى عدم حجّية ظهور كلامه في تشخيص مراده ، وإمّا إلى ممنوعيّته عن التصرّف شرعا ، أو إلى عدم نفوذ تصرّفاته كالمكره.

ويشترط في الضامن الملاءة بالمال الذي ضمنه وقت الضمان ، وإلاّ لو كان معسرا ذلك الوقت ولم يعلم المضمون له بذلك فله الخيار ، لنفي الضرر لأنّ الالتزام بمثل هذه المعاملة ضرريّ.

نعم لو كان عالما بإعساره حال الضمان ورضي مع ذلك بضمانه ، فليس له الخيار

ص: 104


1- النحل (16) : 75.

ولزمه الضمان ، لأنّ شرط الإيسار حال الضمان لرعاية حال المضمون له كي لا يقع في الضرر ولا يتلف ماله ، فإذا رضي هو بضمانه حتّى مع الإعسار حال الضمان فلا مانع من صحّته ، لأنّه هو بنفسه أقدم على الإتلاف المحتمل أو المظنون ، كما أنّه لو كان عالما حين الضمان بأنّه مماطل كان الأمر أيضا كذلك ، لأنّ رضاءه بضمانه مع علمه بأنّه مماطل أيضا إقدام منه على الإتلاف المحتمل أو المظنون لماله ، فليس له الخيار ويلزمه الضمان في الصورتين.

ولو تجدّد على الضامن الإعسار بعد ما كان موسرا حال الضمان ، فكذلك أيضا ليس للمضمون له أن يفسخ ، وذلك من جهة أنّ الضمان عقد لازم وقع عن رضائه بل وعن قبوله ، فرضاء المضمون له وقبوله وان كان شرطا في صحّة العقد وتماميّته إلاّ أنّهما حصلا على الفرض ، فوقع العقد صحيحا ، ولا دليل على أنّ تجدّد الإعسار من موجبات الفسخ.

وإطلاقات أدلّة اللزوم كافية في إثبات اللزوم فيما نحن فيه ، وعلى فرض وصول النوبة إلى الأصول العمليّة فاستصحاب اللزوم يجري ولا مانع منه.

ولو كان حال الضمان معسرا ولم يعلم المضمون له بذلك فثبت له الخيار - كما تقدّم شرحه - ثمَّ أيسر بعد ذلك لا يرتفع الخيار ، لعدم الدليل على أنّ تجدّد الإيسار بعد ما كان معسرا حال الضمان من موجبات سقوط الخيار وأسبابه.

مضافا إلى عدم مانع من جريان استصحاب بقاء الخيار لو وصل النوبة إليه.

ثمَّ إنّه يجوز اشتراط الخيار في عقد الضمان لكلّ واحد من الطرفين ، أي الضامن والمضمون له ، وذلك لأنّ لزوم الضمان ليس حكميّا مثل النكاح كي لا يجوز اشتراط الخيار ، فيشمله قوله صلی اللّه علیه و آله « كلّ شرط جائز إلاّ ما خالف كتاب اللّه » (1) فيشمله عموم

ص: 105


1- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 6.

« المؤمنون عند شروطهم » (1) فيجب الوفاء به.

فرع : هل يجوز ضمان الزوجة بدون إذن زوجها أم لا؟ ربما يقال بعدم الجواز ، لمزاحمته مع حقّ الزوج في بعض الأحيان ، كما لو أفضى ضمانها إلى حبسها لمطل أو جهة أخرى.

ولكن لو قلنا بأنّ أمثال هذه الاحتمالات يكون مانعا عن ضمانها فتمنع عن جميع المعاوضات ، لتطرّق هذه الاحتمالات ووجود هذا المحذور في جميعها ، ولا يمكن القول به.

ثمَّ لا يخفى أنّ المنع في العبد وفي الزوجة - لو قيل به - يرتفع بإذن السيّد والزوج ، بخلاف الصبي والمجنون فلا يرتفع المنع فيهما بإذن الولي. والفرق بين هذين وذين في كمال الوضوح ، فإنّ المنع في العبد والزوجة من جهة حقّ الغير ، وإلاّ فهما قابلان لذلك التعهّد الذي نسمّيه بالضمان ، بخلاف الطفل والمجنون فإنّ المحلّ فيهما غير قابل ، لأنّهما مسلوبا العبارة بحكم الشرع ، وعلى كلّ حال صحّة ضمان الزوجة وإن كان بدون إذن الزوج إجماعيّ عندنا.

ثمَّ إنّ هاهنا فروع كثيرة ذكرها الفقهاء في ضمان العبد بدون إذن سيّده أو مع إذنه ، وصور وشقوق تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، بل عدم وجود موضوع لها في هذه الأزمان.

البحث الثاني : في شرائط صحّة الضمان :

فمنها : التنجيز وعدم تعليقه على أمر. فإن قال : أنا ضامن لما على فلان إن لم يؤدّه هو ، أو إن رضي بذلك ، أو إن فعل كذا وأمثال ذلك ، كما أنّ المتعارف عند الناس الآن -

ص: 106


1- « الكافي » ج 5 ، ص 404 ، باب الشرط في النكاح وما يجوز منه وما لا يجوز منه ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور و. ، ح 66. « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب من عقد على امرأة وشرط لها. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 4.

أعطه نسيئة وأنا ضامن إن لم يف هو إلى زمان كذا ، أو إن لم يف أصلا من غير تقييده بزمان - فجميع هذه الصور باطلة ، وليس الضامن فيها ملزما بأداء الدين.

وذلك للإجماع على بطلان التعليق في العقود ، مضافا إلى أنّ الضمان موجب لنقل الدين من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن إجماعا عندنا ، بل هو حقيقة الضمان. وهذا المعنى لا يمكن حصوله مع التعليق ، ولأنّه من الممكن عدم حصول المعلّق عليه أصلا فلا يحصل ذلك النقل أصلا ، وهذا مناف لحقيقة الضمان.

وبهذا الوجه نقول بعدم جواز التعليق في الإبراء أيضا.

ومنها : أن يكون الدين الذي يضمنه ثابتا في ذمّة المضمون عنه ، سواء كان مستقرّا أو متزلزلا ، لأنّه في كلتا الصورتين ثابت على ذمّة المضمون عنه شي ء قابل لأن ينتقل بالضمان إلى ذمّة الضامن. وأمّا لو لم يكن حال الضمان شي ء ثابت على ذمّة المضمون عنه فالضمان غير معقول. وهذا هو المراد من قولهم : ضمان ما لم يجب - أي ضمان ما لم يثبت - على ذمّة المضمون عنه باطل ، لأنّه غير معقول ، ويكون من نقل المعدوم الذي هو محال.

ومنها : تميّز الدين ، والمضمون له ، والمضمون عنه. فلو كان لشخص دينان فقال أنا ضامن لأحد دينيك لا يصحّ ، أو كان لشخصين لكلّ واحد منهما دين فقال أنا ضامن لدين أحدكما لا يصحّ أيضا ، وكذلك لو كان المديون مردّدا بين الشخصين فيقول أنا ضامن لدين المديون منكما ، كلّ ذلك من جهة عدم تحقّق حقيقة الضمان مع الإبهام والترديد في نفس الدين ، أو المضمون له ، أو المضمون عنه.

نعم لو كان الدين معيّنا في الواقع ولم يعلم الضامن جنسه وأنّه من النقود أو من العروض مثلا ، أو لم يعلم مقداره وأنّه دينار أو ديناران مثلا ويضمن أنّه على ما لزيد على عمرو مثلا ، فهذا الضمان صحيح من جهة أنّه ينقل في عالم الاعتبار ما على ذمّة عمرو لزيد إلى ذمّته والمفروض أنّ له واقع معلوم عند زيد وعمرو أو عند أحدهما أو

ص: 107

مكتوب في الدفتر ، فلا بأس بمثل هذا الضمان ، لتماميّة أركانه وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم له ». هذا بالنسبة إلى نفس الدين.

وأمّا تميّز المضمون له فمن جهة كونه طرف العقد بناء على أنّ الضمان من العقود ، ويحتاج بعد وقوع الإيجاب من طرف الضامن إلى القبول من طرف المضمون له كما تقدّم ، ومع الترديد والإبهام لا يمكن ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان المضمون له معيّنا في الواقع ، وحاضرا في المجلس وإن كان لا يعرفه الضامن ، فيقول الضامن : دين هذا الرجل سواء كان حيّا أو ميّتا عليّ ، فيقول المضمون له : قبلت ، كان هذا الضمان صحيحا ولا إشكال فيه ، من جهة تماميّة أركانه ، وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم له ».

فرع : وهو أنّ الضمان المؤجّل للدين الحالّ جائز إجماعا وبلا خلاف ، كما ادّعاه صاحب الجواهر (1) ، وحكى الإجماع على ذلك عن المسالك (2) ، ومحكي التنقيح (3) ، وإيضاح النافع (4) وغيرها. وقال في جامع المقاصد في هذا الفرع أي ضمان المؤجّل للدين الحالّ : ظاهرهم أنّ صحّة هذا بالإجماع (5).

وصور هذه المسألة :

إحديها : هذه المذكورة ، أي ضمان الدين الحالّ مؤجّلا ، وهو أن يقول الضامن : أنا ضامن لما في ذمّة زيد الذي حلّ أجله بشرط أن أعطيه بعد شهر مثلا.

الثانية : عكس هذا ، وهو أن يضمن الدين المؤجّل حالاّ بأن يقول للمضمون له :

ص: 108


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 129.
2- « المسالك » ج 1 ، ص 253.
3- « تنقيح الرائع » ج 2 ، ص 188.
4- حكى عنه في « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 129.
5- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 310.

أنا ضامن لمالك في ذمّة زيد أن يعطى بعد شهر بأن أعطيك الآن وحالاّ.

الثالثة : أن يضمن الدين المؤجّل مؤجّلا بأزيد من أجله أو بأنقص من أجله. أمّا ضمان دين المؤجّل مؤجّلا بأجل ، أو ضمان الدين الحالّ حالاّ فصحّتهما واضحة وليس محلّ الكلام كي يبحث عنها.

نعم ادّعى بعض بأنّه لا بدّ في الضمان من الأجل ، سواء كان الدين حالاّ أو مؤجّلا ، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك.

ولكن هذا قول بلا دليل.

أمّا الصورة الأولى من الصور الثلاث التي يمكن البحث عنها ، فمضافا إلى أنّ صحّتها إجماعيّ ، يدلّ عليها عموم أدلّة الضمان كقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » إذ لا شكّ في صدق الزعيم على مثل هذا الشخص الذي يضمن الدين الحالّ مؤجّلا.

ولا يتوهّم أنّه تعليق في الضمان ، لأنّ الضمان فعليّ وبتيّ بدون قيد وشرط ، وإنّما المقيّد أداء المضمون بأجل.

وأمّا الصورة الثانية : أي ضمان الدين المؤجّل حالاّ ، فأيضا يشملها إطلاقات أدلّة الضمان كقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم ».

ولا إشكال فيه إلاّ ما تخيّل بعض من اشتراط الضمان بكونه مؤجّلا وأنّ الضمان الحالّ لا معنى له ، وادّعى بعضهم الإجماع على لزوم كون الضمان مؤجّلا بأجل معلوم وإن كان الأجل قليلا.

ولكن عرفت أنّه قول بلا دليل.

وأمّا الصورة الثالثة : أي ضمان الدين المؤجّل مؤجّلا بأجله أو أنقص ، أو أزيد من أجله ، فلا وجه لعدم جوازه. وادّعى في الجواهر عدم الإشكال والخلاف فيه (1).

ص: 109


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 133.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ حقيقة الضمان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن بجميع خصوصيّاته ومن دون تغيير فيه ، فلو كان في ذمّة المضمون حالاّ يأتي إلى ذمّة الضامن حالاّ ، وإن كان مؤجّلا يأتي مؤجّلا كما هو ، من دون زيادة أو نقيصة في أجله.

ففيه : أنّ حقيقة الضمان هو التعهّد بالمال الذي على عهدة المضمون عنه ، وأمّا تقييد أدائه بكونه حالاّ أو مؤجّلا بنفس أجل الدين الذي كان على عهدة المديون أي المضمون عنه أو بالأزيد أو بالأنقص منه ، فهذا خارج عن حقيقة الضمان. وهذه القيود تابعة للشروط الواقعة في عقد الضمان برضائه الطرفين ، والمؤمنون عند شروطهم.

وليس هذه الشروط تعليق في الضمان كي يكون باطلا ، كما تقدّم بيانه.

وفي جميع هذه الصور تبرأ ذمّة المضمون عنه ، وليس للدائن المطالبة عنه ، لفراغ ذمّته بعد تحقّق الضمان صحيحا تامّ الأركان واجدا للشرائط ، وينتقل المال إلى ذمّة الضامن ، ويكون عليه الأداء ولو كان الضامن ضمنه مؤجّلا ، سواء كان الدين حالاّ أم مؤجّلا ليس للمضمون له مطالبة الضامن قبل حلول الأجل الذي رضيا به.

نعم لو مات الضامن حيث أنّ الدين المؤجّل يحلّ بموت المديون وإن كان موته قبل حلول أجل الدين ويتعلّق بتركته ، يؤخذ من تركة الضامن ، ويرجع ورثة الضامن على المضمون عنه بما أخذ من تركة مورّثهم.

فرع : يجوز رجوع الضامن على المضمون عنه فيما أدّاه إذا كان الضمان بإذنه أو بطلبه ، وأمّا إذا لم يكن بإذنه أو بطلبه ، بل تبرّع بالضمان من غير طلبه أو إذنه فلا رجوع.

إن قلت : قاعدة « احترام مال المسلم كاحترام دمه » تدلّ على أنّ الضامن يستحقّ على المضمون عنه مثل استحقاق المضمون له عليه.

ص: 110

قلنا : هو الذي أتلف ماله إمّا لغرض دنيوي أو عوض أخروي بإقدامه ، وقاعدة الإقدام حاكمة على قاعدة الاحترام ، وإلاّ ينسدّ باب الهبات والعطايا والإباحات.

والمناط في جواز الرجوع وعدمه هو كون الضمان بإذنه أو بطلبه ، وأمّا الأداء فلا تأثير له في الرجوع ، سواء كان بإذنه أو لم يكن بإذنه. فإذا كان بإذنه الضمان فيستحقّ الضامن على المضمون عنه ، وإن لم يكن الأداء بإذنه بل وإن منع عن الأداء ، لأنّه بالضمان بإذنه اشتغلت ذمّة الضامن فيجب عليه تفريغ ذمّته ، فلا تأثير لمنع المضمون عنه عن الأداء.

وأمّا إن لم يكن الضمان بإذنه فلا موجب لاشتغال ذمّته وإن قال المديون أدّ ديني ، إلاّ أن يصرّح المضمون عنه بأنّه أدّ ديني عنّي وارجع به علىّ ، لجريان قاعدة الاحترام من دون وجود حاكم عليه ، لأنّه يقدم على الأداء بقصد الرجوع وأمر الطرف بالرجوع عليه.

هذا ، مضافا إلى عدم خلاف من الأصحاب فيما ذكرنا ، بل دعوى الإجماع من صاحب الجواهر قدس سره بقسميه في الصورتين (1) ، أي الرجوع مع الإذن في الضمان وإن كان أداؤه بغير إذن المضمون عنه بل ومع منعه عن الأداء ، وعدم جواز الرجوع وإن كان الأداء بإذنه ، إلاّ فيما استثناه من الأمر بالأداء مع التصريح بالرجوع من طرف المضمون عنه.

ثمَّ إن ما قلنا من جواز رجوع الضامن على المضمون عنه هو فيما إذا حلّ أجل دينه ، وإلاّ لو استعجل الضامن وأدّى الدين قبل حلول أجله لا يستحقّ على المضمون عنه قبل حلول أجل دينه ، إلاّ بتصريح من قبل المضمون عنه بأن يقول : أدّ ديني حالاّ قبل حلول الأجل وارجع به عليّ ، فهذا كأنّه قرار ومواضعة جديدة بين الضامن والمضمون عنه.

ص: 111


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 133 - 134.

هذا فيما إذا كان الدين مؤجّلا والضامن ضمنه حالاّ ، أو أسرع في الأداء قبل حلول أجل الدين.

وأمّا لو كان الدين حالاّ وضمنه مؤجّلا ، فادّى الضامن قبل حلول أجل الذي ضمنه ، فله الرجوع على المضمون عنه ، لأنّ هذا التأجيل جاء من قبل الضمان ، وإلاّ فالمضمون له كان يستحقّ على المضمون عنه من وقت الضمان على الفرض. والتأجيل في الضمان لا يحدث حقّا للمضمون عنه ، ولا يسقط حقّ المضمون عنه ، ولا يسقط حقّ المضمون له ، وهو كون دينه حالاّ غاية الأمر بالنسبة إلى الضمان وقع تأجيل ، لا أنّ الدين تغيّر عن كونه حالاّ وصار مؤجّلا.

وإن شئت قلت : إنّ التأجيل ليس للدين وإنّما الأجل للضمان ، وإلاّ فالدين باق على ما كان ، فالمديون - أي المضمون عنه - يلزمه أداء الدين من أوّل وقت وقوع الضمان ، فلو أدّى الضامن قبل حلول أجل ضمانه وكان الضمان بإذن المضمون عنه يستحقّ الضامن عليه من حين الأداء ، لأنّه يكون بمنزلة المضمون له ، فيجوز له مطالبة المضمون عنه من ذلك الحين.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدين المؤجّل لو ضمنه بأكثر من أجله ، فلو أدّى الضامن بعد حلول أجل الدين ولكن قبل الوصول إلى آخر الأجل الذي ضمنه بذلك ، فله المطالبة عن المضمون عنه بعين البيان المتقدّم ، فإنّ هذا الأجل الزائد عن أجل الدين لا يغيّر الدين عمّا هو عليه ، بل إنّما هو أجل الضمان لا أجل الدين.

وكذلك الأمر لو مات الضامن من قبل انقضاء الأجل وحلّ الدين وأدّاه ورثة الضامن من تركته ، فلهم الرجوع على المضمون عنه ، لأنّ المفروض أنّ الدين كان حالاّ وإنّما التأجيل جاء من قبل الضمان ، حيث أنّ الضامن ضمن الدين الحالّ مؤجّلا ، وإلاّ فالدين في نفسه ليس مؤجّلا ، فإذا مات الضامن وصار الدين بالنسبة إليه حالاّ وأخذ من تركته فالورثة لم يذهب ما لهم مجّانا ، بل يستحقّون العوض في نفس ذلك

ص: 112

الوقت ، فلهم الرجوع على المضمون عنه.

وأمّا لو كان الدين مؤجّلا وضمن بإذن المضمون له ذلك الدين المؤجّل مؤجّلا ومات قبل انقضاء أجل الدين وحلّ ما عليه وأخذ المضمون له من تركته ، ليس لورثة الضامن الرجوع إلى المضمون عنه إلاّ بعد حلول أجل الدين الذي كان عليه قبل الضمان.

والسرّ في ذلك : أنّ الدين الذي كان على المضمون عنه كان مؤجّلا ، وبموت الضامن لا يحلّ الدين بالنسبة إلى المضمون عنه ، وإنّما يحلّ بالنسبة إلى الضامن. وهذا بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ أصل الدين كان حالاّ وإنّما التأجيل جاء من قبل الضامن وذهب بموته ، ولذلك لورثته الرجوع على المضمون عنه.

فرع : يجوز ضمان مال الجعالة المسمّى بالجعل قبل فعل ما جعل عليه الجعل ، وكذا ضمان مال السبق والرماية وهو المسمّى بالسبق - بفتح السين والباء - قبل حصول الغلبة على من يسابقه أو يراميه.

وقد يقال : إنّ هذا من قبيل ضمان ما لم يجب ، لأنّه قبل العمل في كلا البابين لا يثبت في ذمّة المضمون عنه شي ء كي ينقله إلى ذمّة نفسه ، فلا وجه لصحّة ضمانه بناء على أنّ الضمان عبارة عن التعهّد بما في ذمّة الغير ونقله إلى ذمّة نفسه.

ولكن يمكن أنّ يقال : إن الجاعل جعل الجعل في ذمّته لعنوان من يردّ ضالّته عليه ، فيثبت في ذمّة الجاعل ذلك الجعل بنفس العقد وان لم يعمل بالشرط بعد. وكذلك الأمر في باب السبق والرماية بنفس العقد يثبت في ذمّة الشارط السبق - بفتحتين - قبل العمل وحصول السبق.

غاية الأمر قبل العمل له أن يفسخ العقد فيكون كالبيع الخياري بعد قبض المبيع ، فإنّه يثبت الثمن في ذمّة المشتري بعد قبض المبيع وأنّ له الفسخ. ومعلوم أنّه بالفسخ

ص: 113

يرجع المبيع إلى البائع وتبرأ ذمّة المشتري ، ومع ذلك قبل الفسخ يصحّ الضمان عن المشتري بلا شكّ وارتياب.

وأيضا يمكن أنّ يقال : إنّ العمل في البابين شرط كاشف عن ثبوت المال في ذمّة الجاعل بنفس العقد ، وردّ الضالة خارجا يكون على حدّ الإجازة من طرف المالك في بيع الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، فبوجود العمل خارجا يستكشف ثبوت المال في ذمّة الجاعل من حين العقد ، كما أنّ بعدمه يستكشف عدمه.

ولكن كلا الوجهين لا يصحّ الركون إليهما والموافقة عليهما :

أمّا الأوّل : فلأنّ الجاعل وإن جعل في ذمّته الجعل لذلك العنوان ، ولكن نتيجة مثل هذا الجعل أنّه بعد وجود مصداق هذا العنوان في الخارج تشتغل ذمّة الجاعل بذلك الجعل له ، وإلاّ قبل وجوده ليس من يملك في ذمّته. فلو قلنا باشتغال ذمّته يلزم أن يكون الملك بلا مالك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك العنوان الكلّي يملك قبل أن يوجد في الخارج ، وهذا غريب.

وأمّا الثاني : فلأنّ الملكيّة مجعولة لمن كان مصداقا لهذا العنوان بالحمل الشائع ، فلا يمكن أن يكون العمل شرطا كاشفا عن ثبوتها بنفس العقد قبل العمل.

وذلك من جهة جعل الجاعل الجعل لعنوان من ردّ الضالّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فكلّ من كان مصداقا لذلك العنوان يملكه ، فحيث أنّه قبل العمل لا مصداق لذلك العنوان ، فلا مالك في البين ، فلا معنى لاشتغال ذمّته بناء على أن يكون حقيقة الضمان عبارة عن التعهّد بمال ثابت في ذمّة شخص غيره. ونتيجته نقل ما ثبت في ذمّة الغير الى ذمّته.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : يصحّ تمليك العناوين العامّة قبل أن يوجد لها مصداق ، كالوقف على الأولاد والذريّة قبل وجودهم.

ص: 114

وأمّا الإشكال على ثبوت المال في ذمّة الجاعل قبل العمل بأنّ العقد جزء السبب ، والجزء الآخر هو العمل ، ولا يمكن وجود المسبّب عند وجود أحد جزئي السبب دون الجزء الآخر كما هو المفروض في المقام.

ففيه : أنّ ما نحن فيه ليس من باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة ، بل من باب الحكم والموضوع فيمكن جعل الحكم على الموضوع الكلّي قبل أن يوجد له مصداق في الخارج ، كما قلنا في الوقف على الأولاد قبل وجودهم بناء على أنّ الوقف تمليك ، غاية الأمر ليست الملكيّة طلقا بل مقيّدة بأن لا تباع ولا تورث.

وما قلنا بناء على أن يكون جعل الجعل في الجعالة أو السبق في السبق والرماية على نحو القضية الحقيقيّة ، وأمّا لو كان على نحو القضايا الخارجيّة فلا سبيل إلى ثبوت الملكيّة قبل العمل ، وحيث أنّ الظاهر أنّ الجعل على نحو القضيّة الحقيقيّة وعلى هذا الأساس بنينا جريان الاستصحاب فيما إذا شكّ بعد الفسخ في لزومها ، فلا مانع من ضمان مال الجعل حتّى قبل الشروع في العمل ، فضلا عن صحّته بعد الشروع قبل إتمام العمل.

ولا يتوهم أنّ ما أشكلنا - من أنّه لو كان الجعل بنحو القضيّة الحقيقيّة فمفادها أنّه إذا وجد في الخارج فرد وكان مصداقا لذلك الكلّي يكون محكوما بحكم ذلك الكلّي - يأتي هاهنا ، وفي الوقف على الأولاد والذريّة الأمر كذلك ، فما لم يوجد مصداق للأولاد والذريّة لا يتّصف بالمالكيّة ، فهاهنا أيضا ما لم يوجد شخص يردّ الضالّة لا تشتغل ذمّة الجاعل بشي ء.

وذلك من جهة أنّ عنوان رادّ الضالّة ، أو عنوان من يردّ الضالّ صار مالكا ، ولكن أفراد هذا العنوان لا يثبت لهم الملكيّة إلاّ بعد وجودهم وصيرورتهم مصداقا خارجيّا لذلك العنوان ، وهذا لا ينافي اشتغال ذمّة الجاعل للعنوان ، فيصحّ أن ينقل الضامن عن الجاعل ما على ذمّة الجاعل إلى ذمّته.

ص: 115

غاية الأمر إنّ العنوان الكلّي ما لم ينطبق على الخارج لا يمكن أن يطالب الضامن ، بل إذا وجد فردّ ومصداق بالحمل الشائع يأتي ويطالب الضامن ، كما أنّه لو لم يكن ضامن في البين يطالب الجاعل.

ففي المقام يثبت بنفس عقد الجعالة حقّ للعنوان في ذمّة الجاعل الذي هو المضمون عنه ، فالضامن ينقل ما يثبت في ذمّة الجاعل إلى ذمّة نفسه ، فتبرأ ذمّة المضمون عنه الذي هو الجاعل ، وتشتغل ذمّة الضامن للعنوان الذي هو المضمون له.

فهذا هو المقام الأوّل الذي يشتغل ذمّة الضامن وتبرأ ذمّة المضمون عنه الذي هو الجاعل.

والمقام الثاني هو مقام أداء حقّ المضمون له الذي هو العنوان. وفي هذا المقام تكون القضيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، أي يجب على الضامن أن يؤدّي ما على ذمّته إلى مصاديق ذلك العنوان. وهذا يستقيم فيما إذا كان جعل الضمان بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وإلاّ فإن كان بنحو القضيّة الخارجيّة من أوّل الأمر يكون المضمون له هم الأفراد. فتأمّل فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

فرع : يجوز ضمان نفقة الزوجة عن الزوج في المورد الذي ثبت في ذمّته. وذلك بالنسبة إلى النفقة الماضية واضح ، لأنّها كسائر ديون الزوج ، لأنّ الزوجة إذا لم تكن ناشزة وكانت ممكّنة زوجها من نفسها متى شاء ، فهي تستحقّ على زوجها نفقتها ، فإن لم يعطها تبقى دينا في ذمّته ، فلا مانع من أن يضمن عنه شخص آخر.

وهذا في النفقة الماضية لا إشكال فيه ، كما أنّه لا إشكال في عدم صحّته بالنسبة إلى النفقة المستقبلة ، لعدم ثبوت شي ء في ذمّة الزوج كي يضمن عنه شخص آخر ، فيكون الضمان بالنسبة إلى النفقة المستقبلة من قبيل ضمان ما لم يجب ، الذي قلنا إنّه باطل بل غير معقول.

ص: 116

وإنّما الكلام في ضمان نفقة الحاضرة ، كنفقة ذلك اليوم الذي يقع فيه الضمان.

والحقّ فيه جواز الضمان كالنفقة الماضية.

بيان ذلك : أنّه بعد البناء على أنّ الزوجة تملك في صبيحة كلّ يوم نفقة ذلك اليوم على ذمّة الزوج إذا لم تكن ناشزة ، ففي نفس ذلك اليوم يصحّ ضمان نفقة ذلك اليوم المسمّاة بالنفقة الحاضرة.

وأمّا الإشكال على هذا - بأنّها يمكن أن تصير ناشزة في أثناء النهار ، فتسقط نفقتها - لا يردّ ، لأنّ السقوط بعد الثبوت لا ينافي مع صحّة الضمان قبل السقوط.

فرع : هل يصحّ ضمان الأعيان المضمونة أم لا ، كالأعيان المغصوبة ، أو المقبوضة بالعقد الفاسد ، أو العارية المضمونة ، أو الأمانة مع التعدّي؟

فقال العلاّمة في التذكرة : وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة إشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كلّ من الضامن والمضمون عنه (1).

وقال المحقّق في الشرائع : ففي ضمان الأعيان المضمونة كالغصب والمقبوضة بالبيع الفاسد تردّد ، والأشبه الجواز (2).

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ حقيقة الضمان إن كان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن وبراءة ذمّة المضمون عنه ، فلا يجوز الضمان في هذه المذكورات ، لعدم براءة المضمون عنه بالضمان إجماعا ، بل يجوز للمضمون له مطالبته بلا خلاف.

ولذلك قال العلاّمة في عبارته المتقدّمة : « إشكال أقربه عندي جواز مطالبة كلّ

ص: 117


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 92.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 109.

من الضامن والمضمون عنه ». وما ذكره أمر ممكن في حدّ نفسه ، ولكنّه مخالف لما عليه إجماع الطائفة ، على أنّ الضمان نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، وبراءة ذمّة المضمون عنه بمحض وقوع الضمان الصحيح.

وأمّا القول بأنّ الضمان هاهنا عبارة عن التعهّد بردّ العين المضمونة أو قيمتها أو مثلها.

ففيه : أنّه خروج عمّا هو حقيقة الضمان عندنا والالتزام بمعنى آخر ، والمعنى العرفي للضمان هو الذي ذكرنا أي التعهّد بمال ثابت في ذمّة غيره ، بمعنى انتقاله إلى ذمّة الضامن وبرأه ذمّة المضمون عنه التي كانت مشغولة بذلك المال قبل الضمان.

وبناء على أن يكون هذا معنى الضمان عرفا فلا تشمل العمومات حتّى مثل « الزعيم غارم » لمثل هذا المعنى ، أي الالتزام بردّ الأعيان المضمونة أو قيمتها أو ردّ مثلها ، فلا دليل على شرعيّة مثل هذا الضمان بهذا المعنى.

وأمّا قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) فالظاهر منه هو وجوب الوفاء بمضمون كلّ عقد ، ومضمون عقد الضمان - بقوله : أنا ضامن لما على فلان - عبارة عن نقل ما في ذمّته إلى ذمّة نفسه ، وليس الالتزام بردّ ما هو مضمون عنده ، أو أداء قيمته ، أو ردّ مثله مضمون عقد الضمان كي يكون مشمولا لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) . بل لو كان هذا المعنى ضمانا صحيحا شرعيّا فيكون مفاده أنّه يجب على الضامن والمضمون عنه كلاهما ردّ العين ما دام باقية ، وأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة. وهذا مرجعه إلى كون حقيقة الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة. وهذا المعنى ممّا انعقد الإجماع على خلافه.

فالضمان بمعناه العرفي - أي التعهّد بمال ثابت في ذمة المضمون عنه - لا يصحّ في الأعيان المضمونة ، وإن قال بصحّته وجوازه أساطين الفقه ، كالشيخ في المبسوط (2) ،

ص: 118


1- المائدة (5) : 1.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 326.

والمحقّق في الشرائع (1) ، والعلاّمة في التذكرة (2) والقواعد (3).

وأمّا ما وجّهه العلاّمة - أي ضمان الأعيان المضمونة - في التذكرة بوجهين : أحدهما : أنّ المراد من ضمانها الالتزام بردّ نفس أعيانها. الثاني : أن يضمن قيمتها على تقدير التلف (4).

ففيه بطلان كلا الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فقد عرفت الحال فيه مفصّلا ، وأنّه خروج عن الضمان المصطلح عندنا ، وأنّ مرجعه إلى كونه عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة الذي لا نقول به ، والإجماع على خلافه.

وأمّا الوجه الثاني : فمرجعه إلى التعليق في الضمان ، وأيضا يكون ضمان ما لم يجب.

وهذا أيضا ممّا انعقد الإجماع على خلافه. هذا ما ذكروه.

والتحقيق في هذا المقام : هو أنّه يمكن تصوير كون الأعيان المضمونة في الذمّة بوجودها الاعتباري ، لا الوجود الحقيقي الخارجي ، فإنّه غير معقول البتة. وقد حقّقنا ذلك في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » مفصّلا (5) ، وإجماله : أنّ معنى ضمان العين هو أنّ العين الخارجيّة تعتبر في الذمّة بوجودها الاعتباري ، إذ الذم ظرف الاعتبار وليست ظرفا للموجودات الخارجيّة. وقد يعبرون عن الذمّة بالعهدة أو الرقبة ، وكلّها بمعنى واحد.

وقلنا هناك : إنّ معنى الحديث الشريف « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أنّ كلّ مال - سواء كان عينا أو منفعة - تسلّط عليه الشخص ولم يكن تسلّطه من حيث أنّه

ص: 119


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 109.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 90.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 178.
4- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 90.
5- « القواعد الفقهيّة » ج ، ص.

ملكه أو بإذن المالك أو بإذن اللّه تعالى - ويعبّر عن هذين الأخيرين بالأمانة ، وأوّلها أمانة مالكيّة ، وثانيهما أمانة شرعيّة - فيعتبر ذلك المال في ذمّته ، ولا يفرغ ذمّته بل تكون مشغولة به إلى أن يؤدّيه ، ففراغ ذمّته يكون بأداء ما اعتبر في ذمّته.

فبناء على هذا ، ضمان العين عبارة عن اعتبار تلك العين في ذمّة الضامن وعدته ، وأسباب ضمان العين مثل أسباب ضمان المال متعدّدة ، ومن جملتها عقد الضمان بأن يقول أنا ضامن للعين الفلانيّة ، فيعتبر تلك العين في عهدته وذمّته ، ولا يرتفع ولا تبرأ ذمّته إلاّ بأداء ما في ذمّته بردّها إن كانت تلك العين موجودة ، وبأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة ، فضمان العين لا إشكال فيه في حدّ نفسه.

ولكنّ الإشكال هاهنا في شي ء آخر ، وهو أنّ الأعيان المضمونة - سواء كانت من جهة غصبها ، أو من جهة كونها مقبوضة بالعقد الفاسد - لا تبرأ ذمّة الضامن إلاّ بأداء عينها أو مثلها أو قيمتها ، كلّ واحد في محلّها.

فلو ضمنها شخص فإن كان ضمانة لها بعد أداء الضامن الأوّل لها بأحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة فضمانها غير معقول ، لأنّه لم يبق في ذمّته شي ء كي يضمنه أحد.

وإن كان قبل أدائها فبالضمان لا تبرأ ذمّته ، بل الفراغ يكون مغيّى في الحديث الشريف بالأداء بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة ، فيجب الأداء على كلّ واحد منهما ، مثل مورد تعاقب الأيادي ، ويصحّ لصاحب العين المطالبة من كلّ واحد منهما.

وهذا خلاف إجماع الطائفة في معنى الضمان ، ويكون موافقا لأصول غيرنا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ضمان الأعيان المضمونة - سواء كانت مقبوضة بالعقد الفاسد أو مغصوبة بالمعنى المصطلح في الضمان - غير ممكن ولا يصحّ.

فرع : يجوز الترامي في الضمان ، وهو أن يضمن شخص عمّا في ذمّة الآخر فيأتي شخص آخر ويضمن عمّا في ذمّة الضامن الأوّل ، وهكذا أي يأتي ثالث ويضمن عمّا في

ص: 120

ذمّة الضامن الثاني ، وهكذا يأتي رابع ويضمن عمّا في ذمّة الضامن الثالث ، إلى أيّ عدد بلغ.

والسرّ في ذلك : أنّ الضامن المتقدّم تشتغل ذمّته بما كان في ذمّة المضمون عنه وتبرأ ذمّة المضمون عنه ، فيكون حاله بالنسبة إلى الضامن الذي يتلوه بدون انفصال حال المضمون عنه بالنسبة إليه ، ويتمّ أركان الضمان وتشمله الإطلاقات بلغ ما بلغ عدد الضامنين.

فإذا كان ضمان كلّ لاحق بإذن المضمون عنه السابق عليه الذي يضمن عنه ، فإذا أدّى الأخير ما ضمنه للمضمون له فلكلّ لاحق الرجوع إلى سابقة ، إلى أن يصل إلى المضمون عنه الأوّل الذي كان هو المديون الأوّل.

وأمّا إن لم يكن إذن من أحدهم بالنسبة إلى ضمان من يضمن عنه ، فلا رجوع لكلّ واحد منهم ، وذلك من جهة أنّ ضمان المضمون عنه للضامن مشروط بأن يكون الضمان بإذنه ، لأنّ اشتغال ذمّته للضامن بدون إذنه أو طلبه الضمان عنه يكون بلا سبب وموجب.

وأمّا إن أذن بعضهم دون بعض فالضامن الذي كان مأذونا من قبل من يضمن عنه يرجع إليه ، وأمّا المضمون عنه الذي لم يأذن فلا رجوع إليه. وهذا ضابط كلّي في باب الضمان ، سواء كان الضامن واحدا أو كان متعدّدا عن الأشخاص المتعدّدة. وهذا الأخير هو المسمّى بترامي الضمان.

فرع : لو ضمن اثنان أو أكثر ما في ذمّة زيد مثلا ، فإن صرّح كلّ واحد بالمقدار الذي من ذلك الدين ، فيكون ذلك المقدار في ذمّته ، وتترتّب عليه آثار ضمان ذلك المقدار ، ويكون كالضامن المنفرد بالنسبة إلى ذلك المقدار.

وأمّا إن أطلقا ولم يصرّحا بالمقدار وقالا أو قالوا : نحن ضامنون لهذا المال الذي

ص: 121

في عهدة فلان ، فالظاهر أنّه يقسّط بينهم على حسب عددهم ، فإن كانا اثنين ينتقل إلى ذمّة كلّ واحد منهما نصف الدين ، وإن كانوا ثلاثة فالثلث وهكذا ، لبناء العقلاء على هذا في موارد الاشتراك ، مع عدم دليل على تعيين حصّة كلّ واحد منهم.

وأمّا لو استقلّ كلّ واحد بالضمان لتمام ذلك المال عن المديون وقبل المضمون له ، فربما يقال بصحّة مثل هذا الضمان ، وتخيير المضمون له بعد قبوله بين مطالبته من أيّهما شاء بتمام المال ، أو يطالب بالبعض من أحدهما والبعض الآخر من الآخر ، ولا فرق بين أن يكون البعضان متساويين في المقدار أو مختلفين.

ولكن الظاهر بطلان مثل هذا الضمان ، وذلك من جهة أنّ هذين الضمانين لو كانا طوليّين بحسب الزمان فالضمان الأوّل لا يبقى محلاّ للضمان الثاني ، لأنّ الضمان الأوّل فرغ ذمّة المديون ولم يبق شي ء في ذمّته كي يضمنه الضامن الثاني.

وإن كانا في عرض واحد فبناء على ما هو الحقّ عندنا من أنّ الضمان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فلا يمكن نقل تمام ما في ذمّة المديون إلى ذمّة كلّ واحد منهما ، لأنّ كلّ واحد من النقلين يرفع موضوع النقل الآخر.

وقياس المقام بباب تعاقب الأيادي واضح البطلان ، فإنّ الضمان هناك طولي وهاهنا عرضي. ولا يبعد أن تكون العبارة - وقولهم بعد محاليّة هذا القسم - ظاهرة في الاشتراك ، وهذا الحمل لكلامهم من جهة الصون عن اللغوية وإلاّ فمقتضى القاعدة بطلان مثل هذا الضمان.

فرع : إذا كان على الدين الذي في ذمّته رهن ، فكما أنّه لو أدّاه ينفكّ ذلك الرهن ، فهل ينفكّ بالضمان أم لا؟ وجهان ، بل قولان :

من أنّ الرهن لأجل حفظ الدين وعدم ذهابه من البين لو صار المديون معسرا بل معدما ، فإذا أدّاه لا يبقى شي ء في ذمّته كي يحفظ بالرهن ، ولذلك بمحض الأداء

ص: 122

يفتكّ الرهن ، فيقال إنّ الضامن بعد أن ضمن ما في ذمّة المديون لا يبقى في ذمّة المديون شي ء كي يحفظ بواسطة الرهن ، فيرجع الرهن أمره إلى المديون.

ومن أنّ الدائن بعد وقوع عقد الرهن يحصل له أمران : أحدهما نفس المال وهو الذي في ذمّة المديون. والثاني : ما يوجب الوثوق بعدم تلف ماله أي ما في ذمّة المديون. فالأوّل يسقط عن ذمّة المديون بالضمان ، وأمّا الثاني بعد أن استحقّه بعقد الرهن لا وجه لسقوطه بنقل ما في ذمّة المديون. نعم لو اشترط الضامن مع المضمون له انفكاكه ينفكّ ، لأنّه شرط غير مخالف للكتاب والسنّة ، وكلّ شرط جائز إلاّ ما خالف كتاب اللّه.

والأظهر هو الثاني ، أي عدم انفكاك الرهن بالضمان.

فرع : لو قال لمن يدّعي مالا في ذمّة شخص آخر : عليّ ما عليه - بنحو البتّ لا بأن يعلّق على كونه مديونا بأن يقول للمدّعي : إن كان لك في ذمّته مال فهو عليّ - فهذا الضمان صحيح ، فيسقط الدعوى عن المضمون عنه ، لأنّه تبرأ ذمّته على كلّ حال ، سواء لم يكن مديونا في الواقع أو كان.

إذ بناء على الأوّل لم تكن ذمّته مشغولة من أوّل الأمر على الفرض ، وبناء على الثاني انتقل إلى ذمّة الضامن وبرئت ذمّته ، فمع القطع بفراغ ذمّته لا يبقى مجال لكونه طرف الدعوى. نعم يصير الضامن طرف الدعوى فإن ثبت كون المضمون عنه مديونا قبل وقوع هذا الضمان ببيّنة أو إقرار يلزم الضامن ويؤخذ منه.

المقام الثاني : في الحوالة

وهي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة شخص آخر. فلا بدّ في الحوالة من

ص: 123

وجود ثلاثة أشخاص : المحتال وهو ربّ الدين ، والمحيل وهو المديون ، والمحال عليه وهو الذي ينتقل ما في ذمّة المحيل إلى ذمّته بعد قبوله بناء على اعتبار قبوله.

وهي عقد يقع بين المحيل والمحتال بإيجاب من المحيل ، وقبول من المحتال. وأمّا المحال عليه فهو أجنبيّ عن كونه طرف العقد وإن قلنا باعتبار قبوله في صحّة الحوالة.

فهذا العقد كسائر العقود العهديّة اللازمة من حيث الشرائط والأركان ، لإطلاق أدلّتها بالنسبة إلى جميعها ، فيعتبر فيها التنجيز وأن لا يكون معلّقا على أمر كسائر العقود العهديّة ، وبلوغ المتعاقدين ، واختيارهما ، ورشدهما ، وعقلهما.

ويحتاج إلى إيجاب من المحيل وقبول من المحتال ، كما هو الشأن في كلّ عقد. ويكفي في تحقّقه وإنشائه كلّ لفظ يدلّ دلالة صريحة على أنشأ مضمون هذا العقد من الطرفين ، أي الموجب والقابل.

والدليل على كلّ ذلك هو الدليل على اعتبار هذه الأمور في جميع العقود ، فلو قال المحيل : أحلتك أو حوّلتك بمالك في ذمّتي على زيد مثلا ، وقال المحتال : قبلت أو رضيت أو نحو ذلك تتحقّق الحوالة ويتمّ عقدها.

فرع : يعتبر في صحّة الحوالة أن يكون المال الذي يحيله المحيل على المحال عليه ثابتا في ذمّة المحيل ، إذ لو لم تكن ذمّته مشغولة للمحتال فلا يعقل تحقّق حقيقة الحوالة التي هي عبارة عن نقل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره.

فعلى هذا لا يصحّ حوالة دين الذي يأتي في ذمّته بواسطة هذه المعاملة التي سيعاملها فيما بعد ، قبل تماميّة تلك المعاملة ، لعدم اشتغال ذمّته بذلك الدين قبل ذلك.

بل وإن كان وجد سبب ذلك الدين ولكن معلّقا على أمر لم يحصل بعد ، كما في باب الجعالة فلا تصحّ حوالة الجعل قبل عمل العامل ، وإن كان سبب اشتغال ذمّة الجاعل بالجعل وجد بواسطة عقد الجعالة ، ولكن حيث أنّ العامل لا يستحقّ الجعل

ص: 124

بعد العمل فذمّة الجاعل ليست مشغولة قبل عمله ، فلا يمكن تحقّق الحوالة بالمعنى المذكور.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الأجرة قبل عملهم بناء على عدم استحقاق الأجير على المستأجر قبل اتجار عمله وإتمامه.

والسرّ في ذلك كلّه أنّ تحويل المعدوم غير معقول ، وهذا واضح جدّا.

فرع : يعتبر في صحّة الحوالة رضى المحال عليه أيضا وإن كان خارجا عن طرفي العقد ، لأنّ العقد واقع بين المحيل والمحتال ، ولكن اشتغال ذمّته لشخص آخر غير الدائن رغما على أنفه وبدون رضاه لا وجه له ولازم اشتغال ذمّته للدائن وجوب تفريغه عند طلبه لا اشتغال ذمّته لشخص آخر ، خصوصا فيما إذا كان اشتغال ذمّته لشخص آخر والتبديل به موجبا لضيق عليه.

وهذا فيما إذا كانت ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما يحال عليه ، وإلاّ ففي الحوالة على البري ء على تقدير صحّته - كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى - فالأمر واضح ، إذ من الواضح البيّن عدم صحّة اشتغال ذمّته لشخص بلا سبب وبدون رضاه.

فرع : هل الحوالة على البري ء صحيحة ، أو يشترط في صحّتها أن تكون ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما يحال عليه ولو من حيث القيمة؟

الأقوى عدم الاشتراط ، وذلك لأنّ حقيقة الحوالة عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة الغير ، وهذا المعنى يمكن حصوله بقبول المحال عليه وإن لم تكن ذمّته مشغولة بمثله للمحيل ، فكأنّ المحال عليه صار ضامنا للمحيل بما كان في ذمّته فانتقل ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم ».

ص: 125

وبناء على هذا لا يبقى فرق بين الضمان وهذا القسم من الحوالة إلاّ أنّ الضمان يمكن أن يتحقّق من غير تحويل المديون بل ولا بالتماسه أو إذنه وفي هذا القسم من الحوالة أيضا كسائر الحوالات يحتاج إلى تحويل من طرف المديون ، وإلاّ يكون ضمانا لا حوالة ، فيحتاج على عقد الضمان بأن يقول مثلا : أنا ضامن.

فرع : هل الحوالة بيع بمعنى أن المحتال يبيع ما يملكه في ذمّة المحيل بما يملكه المحيل في ذمّة المحال عليه ، أم لا بل صرف استيفاء لما في ذمّة المحيل؟ والاستيفاء قد يكون بأخذ ما يطلب منه من نفسه ، وقد يكون بأخذه من المحال عليه بعد قبوله ورضاه.

الظاهر هو الثاني ، وذلك من جهة أنّ الدائن بصدد استيفاء دينه ، سواء كان المديون يعطيه بنفسه أو يحوّله على غيره. وهذا ما هو المتعارف بين الناس في الأسواق وفي معاملاتهم لا أنّ الدائن بصدد معاملة جديدة.

وتظهر الثمرة بين القولين في أنّه بناء على الأوّل لا تصحّ الحوالة إلاّ فيما إذا كانت ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما في ذمّته للمحتال ، وإلاّ يكون البيع بلا عوض. وأمّا بناء على الثاني فيحصل الاستيفاء بضمان المحال عليه ورضائه وقبوله ، وهو واضح.

فرع : لا فرق في صحّة الحوالة بين أن يكون المال الذي في ذمّة المحيل عينا سواء كانت مثليّا كالحنطة والشعير ، أو قيميّا كالحيوانات والأثواب بعد تعيينها بذكر أوصافها التي تخرجها عن الجهالة ، أو منفعة كسكناه في دار موصوفة بصفات ترفع بها الجهالة ، أو كان عملا لم يشترط فيه مباشرته بنفسه ، ففي جميع ذلك تصحّ الحوالة ، لتماميّة أركانها.

وذلك لأنّه بناء على ما اخترناه من أنّ الحوالة استيفاء لا أنّها بيع ، فالمحتال

ص: 126

يستوفي ماله من المحال عليه ، سواء كان عينا أو منفعة أو مالا ، فكما يصحّ أن يحول من في ذمّته شعيرا أو حنطة أو غنما أو فرسا أو درهما أو دينارا على غيره سواء كان له على ذمّة ذلك الغير مثل ذلك أو كان بريئا ، كذلك يجوز ويصحّ أن يحيل - من في ذمّته خياطة ثوب مثلا أو بناء حائط أو قضاء صلاة أو صوم أو حجّ أو غيرها من العبادات أو من غير العبادات التي صار أجيرا ليأتي بها - شخصا آخرا ، بشرط أن لا يشترط عليه المباشرة.

وكذلك الأمر لو كانت في ذمّته منفعة ، كسكنى دار مثلا ، أو تمر نخلة ، أو فاكهة شجرة أو حليب شاة ، أو صوفها في ذكر أوصاف المذكورات لكي يرتفع الجهالة ، فيصحّ في جميع المذكورات وما يشبهها إحالته على شخص آخر ، وذلك من جهة قابليّة هذه الأمور لنقلها أو تحويلها من ذمّة إلى ذمّة أخرى مع قبول المحال عليه ورضائه.

كل ذلك لإطلاق قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » وقد بيّنّا أنّه لا فرق فيما ذكر وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » بين أن تكون ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ذلك أو لا يكون.

فرع : إذا تحقّقت الحوالة تامّة الأركان فهل تبرأ ذمّة المحيل عن الدين بمحض وجود الحوالة ، أو يكون موقوفا على أخذ المحتال عن المحال عليه واستيفائه منه؟

لا ينبغي أن يشكّ في أنّ مقتضى تعريف الحوالة بأنّها عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره هو الأوّل ، لأنّه بعد التحويل وقبول المحتال ورضاء المحال عليه وإمضاء الشارع الأقدس هذا التحويل بقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » لا يبقى شي ء في ذمّته قهرا ، وهذا عين براءة ذمّته.

نعم يبقى الكلام في حال المحال عليه مع المحيل.

أقول : إن كان المحال عليه مديونا للمحيل بمثل ما أحال عليه ، فبعد الحوالة عليه

ص: 127

وقبوله تبرأ ذمّته بالنسبة إلى المحيل بنفس الحوالة وقبولها ، لأنّ الدائن استوفى دينه بنفس الحوالة مع قبول المديون ، وتشتغل ذمّة المديون للمحتال إلى أن يؤدّى دينه له.

وأمّا لو لم يكن المحال عليه مديونا للمحيل أصلا ، أي لم تكن ذمّته مشغولة بشي ء فتشتغل ذمّة المحيل له بمثل ما أحال إن لم يكن تحويله عليه بشرط أن يعطى للمحتال مجّانا وبلا عوض ، وإلاّ فلا تشتغل ذمّته له بشي ء.

وأمّا لو كان مديونا للمحيل بغير جنس ما أحال عليه ، مثلا أحال عليه بدينار وكان مديونا له بدرهم ، فهل تبرأ ذمّته عن دينه له بمقدار قيمة ما أحال ، أم لا تبرأ عمّا في ذمّته شي ء ويبقى على ما كان ، نعم تشتغل ذمّة المحيل له أيضا بمقدار ما أحال عليه من نفس جنس ما أحال أو من قيمته ، فذمّة كلّ واحد منهما مشغولة للآخر؟ وجهان.

والحقّ في المقام هو التفصيل بين أنحاء الحوالة ، بأنّ المحيل إذا أحال عليه بغير جنس ما يطلب منه ، كما قلنا إنّه يطلب من المحال عليه من جنس الدراهم ويحول عليه بجنس الدينار وأراد تبديل ما في ذمّته من الدراهم بالدينار أوّلا ثمَّ يعطى الدينار للمحتال وهو قبل هذا المعنى ، ورضى به فيسقط عن ذمّته من الدراهم بمقدار ما أحال عليه من الدنانير. وفي الحقيقة في المفروض معاملتان :

أحدهما : تبديل الدرهم بالدينار ، أي اشتغال ذمّة المحال عليه بالدينار عوض الدراهم التي كانت في ذمّته.

وثانيهما : اشتغال ذمّته للمحتال بالدراهم التي حوّلها عليه.

ولا يخفى أنّ المعاملة الأولى - أي التبديل في ضمن الثانية - ليست معاملة مستقلّة.

وأمّا إن لم يرد التبديل ، فتكون الحوالة كالحوالة على البري ء ، بل هو هو ، لأنّ المحال عليه بالنسبة إلى ما حوّل عليه وإن كان مديونا بشي ء آخر فيبقى دينه للمحيل على ما كان ، وتشتغل ذمّة المحيل له بمثل ما أحال ، فكلّ واحد من المحيل والمحال عليه مديون للآخر.

ص: 128

فرع : لو كان المحتال جاهلا بإعسار المحال عليه ، ثمَّ ظهر له أنّه كان معسرا حال الحوالة ، كان الفسخ والرجوع إلى المحيل ، لما رواه منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه؟ قال علیه السلام : « لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك » (1).

ولما رواه الصدوق بإسناده عن أبي أيّوب أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحيل الرجل بالمال أيرجع عليه؟ قال : « لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك » (2).

ولقاعدة الضرر ، وللإجماع وعدم الخلاف.

قال صاحب الجواهر : بلا خلاف أجد فيه (3) ، كما عن الغنية الاعتراف (4) به بل في محكي التذكرة نسبته إلى علمائنا (5) ، والسرائر إلى أصحابنا (6) ، بل عن الخلاف الإجماع عليه (7).

وأمّا لو كان موسرا حال الحوالة ثمَّ بعد ذلك تجدّد الفقر والإعسار عليه بعد قبوله حال يساره ، فليس له الرجوع على المحيل ، لبراءة ذمّة المحيل عن دينه بعد ما أحال بحوالة صحيحة تامّة الأركان ، وعود الاشتغال يحتاج إلى سبب مفقود في المقام.

ص: 129


1- « الكافي » ج 5 ، ص 104 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 212 ، ح 498 ، باب في الحوالات ، ح 3 ، وص 232 ، ح 569 ، باب في كيفية الحكم ، ح 20 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 158 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 3.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 28 ، باب الحجر والإفلاس ، ح 3259 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 158 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 1.
3- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 167.
4- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 595.
5- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 105.
6- « السرائر » ج 2 ، ص 79.
7- « الخلاف » ج 3 ، ص 307 ، المسألة : 6.

ولرواية عقبة بن جعفر عن أبي الحسن علیه السلام قال : سألته عن الرجل يحيل الرجل بالمال على الصيرفي ثمَّ يتغيّر حال الصيرفي ، أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضى؟ قال علیه السلام : « لا » (1).

وأمّا عكس هذا ، أي لو كان المحال عليه معسرا حال الحوالة مع جهل المحتاج بالحال ، فتجدّد له اليسار فهل للمحتال الخيار أم لا؟

الظاهر بقاء الخيار الثابت له قبل تجدّد اليسار ، إذ لا شكّ في ثبوت الخيار له بواسطة إعساره حال الحوالة وإن كان لا يعلم بهذا الثبوت.

وذلك لأنّ ثبوت الخيار تابع لموضوعه الواقعي ، ولا تأثير للعلم به في ثبوته ، فالحكم بعدم هذا الخيار وسقوطه لا بدّ وأن يكون مستندا إلى سبب للسقوط ، وليس ما يحتمل أن يكون سببا إلاّ تجدّد اليسار ، وهو لا يمكن أن يكون ، لأنّ موضوع هذا الخيار هو الإعسار حال العقد لا الإعسار الدائم ، وتجدّد اليسار لا يرفع الإعسار حال العقد ، فالموضوع باق فكذلك حكمه ، مع أنّه على فرض حصول الشكّ في بقائه يكون مجرى للاستصحاب.

وأمّا القول بأنّ ملاك حكم الشارع بالخيار هو عدم تضرّر المحتال بلزوم العقد بواسطة عدم إمكان استيفاء المحتال لحقّه ، فإذا ارتفع بواسطة تجدّد اليسار فلا خيار ، فاستحسان لا يجوز استكشاف حكم الشرعي به.

ثمَّ إنّ المراد بالإعسار هو أن لا يكون عنده ما يوفى به دينه زائدا على مستثنيات الدين.

فرع : البري ء المحال عليه هل يجوز له أن يرجع إلى المحيل بالمال الذي أحاله

ص: 130


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 212 ، ح 510 ، باب في الحوالات ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 159 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 4.

عليه بصرف القبول ولو كان قبل أدائه إلى المحتال ، أم لا يجوز إلاّ بعد أدائه له؟

مقتضى القواعد جواز رجوعه إليه ولو قبل أدائه ، وذلك من جهة ما قلنا إنّ مقتضى صحّة الحوالة على البري ء هو انتقال المال الذي كان في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، ولكن بعوض مثله في ذمّة المحيل. ونتيجة مثل هذه الحوالة اشتغال ذمّة المحال عليه للمحتال واشتغال ذمّة المحيل للمحال عليه ، وهذا الاشتغالان يحصلان بمحض قبول المحال عليه البري ء ولو لم يؤدّ المحال عليه بعد ، ولازم ذلك صحّة رجوعه إلى المحيل قبل الأداء ، لأنّ المحيل مديون له بعد قبوله.

ولذلك ليس للمحتال الرجوع إلى المحيل بعد أن أحاله على شخص برضاه وقبول ذلك الشخص ، إلاّ أن يظهر كونه معسرا حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك. وقد تقدّم في الفرع السابق الأمر لو كان كذلك - أي كان معسرا حال الحوالة - فللمحتال فسخ العقد ، فلو فسخ بعد علمه بإعسار المحال عليه لا يبقى في ذمّة المحيل شي ء كي يرجع المحال عليه إليه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اشتغال ذمّة المحيل للمحال عليه بعد أدائه لا بعد قبوله للحوالة.

ولكن أنت خبير بأنّ لازم هذا الكلام أحد أمرين ، كلاهما باطلان :

أحدهما : عدم اشتغال ذمّة المحال عليه بصرف قبوله وتماميّة أركان عقد الحوالة.

وهذا خلاف مقتضى عقد الحوالة.

أو يقال بأنّ اشتغال ذمّة المحال عليه يكون بلا عوض. وهذا أيضا مناف لما هو المفروض والمتسالم عليه في باب عقد الحوالة ، من أنّ انتقال الحقّ من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ليس مجّانا وبلا عوض.

فلا بدّ وأن يقال بأنّ ذمّة المحيل تبرأ عن حقّ المحتال بالحوالة بعد قبول المحال عليه فيما إذا كانت الحوالة برضاء المحتال الذي هو طرف عقد الحوالة وهو القابل بعد

ص: 131

إيجاب المحيل ، وتشتغل للمحال عليه بصرف قبوله وإن لم يؤدّ بعد.

فرع : تقدّم أنّ الحوالة عقد لازم ، فلا يجوز للمحتال ولا للمحيل ولا للمحال عليه فسخها وحلّها إلاّ في صورة إعسار المحال عليه حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك ، فإذا علم بذلك فله حلّ ذلك العقد وإن تجدّد للمحال عليه اليسار بعد وقوع الحوالة. وقد تقدّم بيان هذا الحكم وذكرنا دليله.

فرع : حال المحيل بعد أن أحال دينه على شخص وكانت الحوالة صحيحة واجدة للشرائط وكانت تامّ الأركان حال الأجنبي بالنسبة إلى ذلك الدين ، ووجهه واضح من جهة أنّ ذمّته برئت بنفس الحوالة الصحيحة ، فانتقل ما في ذمّته إلى ذمّة المحال عليه ، فإن أعطى الدين قبل أن يؤدّي المحال عليه فتبرأ ذمّة المحال عليه على كلّ حال ، لعدم بقاء موضوع لاشتغال ذمّته بعد أداء المحيل لذلك الدين.

نعم يبقى الكلام في أنّه هل للمحيل الرجوع إلى المحال عليه أم لا؟

والصحيح في هذا المقام هو أنّه لو كان أداء المحيل بقصد التبرّع فلا رجوع ، وأمّا لو كان بمسألة المحال عليه فله أن يرجع إليه فيما لم تكن الحوالة على البري ء ، وأمّا إذا كانت على البري ء فحيث أنّ ذمّته اشتغلت له بمثل ما أحال عليه فيسقط ما في ذمّته ، ولا يبقى موضوع للرجوع.

فرع : لا يجب على المحتال قبول الحوالة وان كانت على ملي ء وفي غير مماطل ، لعدم دليل على الوجوب ، وما هو الواجب على الدائن هو قبول دينه الحالّ إذا أراد المديون أن يوفيه ، وأمّا كونه مجبورا في قبول انتقاله إلى ذمّة شخص آخر فلا ، والأصل هي البراءة.

ص: 132

فرع : تبرأ ذمّة المحيل عن حقّ المحتال بمحض وقوع الحوالة الصحيحة تامّ الأركان ، وليست موقوفة على أن يبرأه المحتال.

وذلك من جهة أنّ مقتضى صحة الحوالة بناء على تقدّم انتقال الدين عن ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، فإذا انتقل لا يحتاج إلى تبرئة المحتال بل يكون محالا بمعناها الحقيقي ، لأنّها من تحصيل الحاصل.

والتمسّك لاحتياجها إلى التبرية بقوله علیه السلام في رواية زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام في الرجل يحيل الرجل بمال كان له على رجل آخر ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، فقال علیه السلام : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله » (1) لا أساس له ، لأنّه مخالف للقواعد المأخوذة عن الآيات والروايات ، بل الإجماع على أنّ الحوالة الصحيحة موجبة لنقل المال من ذمّة المديون المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، فإبراء المحتال له من قبيل تحصيل الحاصل.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات تدلّ على انقطاع المحتال عن المحيل ، وعدم جواز رجوعه إليه بعد تماميّة الحوالة. وهذا من لوازم فراغ ذمّته بعد تماميّة الحوالة ، من دون حاجة إلى إبراء المحتال.

وقد تقدّم رواية منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه؟ قال : « لا يرجع إليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك » (2).

وقد تقدّم رواية أبي أيّوب عن أبي عبد اللّه علیه السلام بهذا المضمون التي رواها

ص: 133


1- « الكافي » ج 5 ، ص 104 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 211 ، ح 496 ، باب في الحوالات ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 158 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 2.
2- تقدّم في ص 129 ، رقم (1).

الصدوق قدّس سره عنه (1).

فلا بدّ إمّا طرح هذه الرواية ، لعدم عمل الأصحاب بها وإعراض المشهور عنها. أو توجيهها وتنزيلها على ما إذا ظهر إعساره حال الحوالة الذي كان مورد استثناء في رواية منصور بن حازم ورواية أبي أيّوب ، وحملها بعض على أنّ المراد من الإبراء فيها قبول الحوالة ، ومن عدمه عدمه.

وخلاصة الكلام : أنّ ذمّة المحيل بعد الحوالة تبرأ من دون توقّفه على إبراء المحتال ، إلاّ أنّه لو ظهر فيما بعد أنّ المحال عليه كان معسرا حال الحوالة فللمحتال الخيار وحقّ حلّ العقد وفسخه.

فرع : يجوز ترامى الحوالات ، وهو عبارة عن إحالة المحال عليه المال الذي اشتغلت ذمّته به بواسطة الحوالة إلى رجل آخر ، وهكذا الحال في المحال عليه الثاني يجوز أن يحيل ما في ذمّته بواسطة الحوالة الثانية إلى ثالث ، وهكذا غير واقف إلى حدّ بحيث أن يقال لا يجوز إحالة المحال عليه على غيره.

ووجه ذلك : أنّ المحال عليه يصير مديونا للمحتال ، ولكلّ مديون أن يحيل دينه إلى شخص آخر ، خصوصا فيما إذا كان ذلك الآخر مديونا له بمثل دينه جنسا وقدرا ، فتشمله إطلاقات أدلّة تشريع الحوالة ، فلا معنى لوقوفه عند حدّ.

ثمَّ إنّ ترامى الحوالات قد يكون مع وحدة المحال عليه وتعدّد المحتال ، وقد يكون بالعكس.

فالأوّل : كما إذا أحال المديون لعمرو دينه على زيد مثلا ، فيصير زيدا مديونا لعمرو ، فلو كان عمرو مديونا لشخص بمثل ماله على زيد ، فيجوز أن يحيل ذلك الرجل

ص: 134


1- تقدّم في ص 129 ، رقم (2).

على زيد ، وذلك الرجل أيضا لو كان مديونا لشخص بمثل ماله على زيد يجوز أن يحيل ذلك الشخص على زيد ، وهكذا إلى ألف ، بل لا يقف عند حدّ.

والثاني : أي تعدّد المحال عليه مع وحدة المحتال ، ففي المثل المذكور عمرو هو المحتال وزيد هو المحال عليه ، فعمرو المحتال لو كان عليه دين يحيله على زيد البري ء بعوض اشتغال ذمّته لزيد بمثل ما أحال عليه ، فيكون مديونا لزيد فيحيله على بكر البري ء ، فكذلك تشتغل ذمّته لبكر بمثل ما أحال عليه فيحيله على خالد ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

وفي الفرض الثاني ، أي وحدة المحتال مع تعدّد المحال عليه يمكن أن يمثّل بإحالة المديون زيدا مثلا على عمرو ، فيكون المحتال زيدا والمحال عليه عمروا ، ويصير عمروا مديونا لزيد بواسطة هذه الحوالة ، فيحيله عمر على بكر ، وبكر يحيله على خالد ، وهكذا.

هذا ترامى الحوالات بكلي قسميه ، أي وحدة كلّ واحد من المحال عليه والمحتال وتعدّد الآخر.

وكما يمكن تراميها يمكن دورها ، وذلك في المثال المذكور أخيرا بأن يحيل خالد زيدا على المديون الأوّل وهو المحيل الأوّل إن كان مديونا لخالد بمثل ما يحيل عليه ، أو قلنا بجواز الحوالة على البري ء.

والدليل على صحّة هذه الحوالات هو عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وإطلاقات أدلّة الحوالة ، وإطلاق « الزعيم غارم ».

فرع : لو أحال البائع من له عليه دين على المشتري بالثمن وقبل المشتري. فانفسخ البيع بخيار أو ظهر فساد البيع لفقد شرط أو وجود مانع ، فذهب المشهور إلى بطلان الحوالة في الثاني ، وعدمه في الأوّل.

ص: 135

ووجهه إمّا البطلان في الثاني ، لأنّ المحيل أحال بالثمن على من له دين عليه ، ولا ثمن في البين لفساد البيع ، فلا موضوع لهذه الحوالة.

وأمّا الصحّة في الأوّل فمن جهة أنّ البيع وقع صحيحا وصار الثمن ملكا للبائع إمّا دينا في ذمّة المشتري وإمّا عينا في يده. وعلى كلّ حال تقع الحوالة وهي تامّ الأركان ، خصوصا بناء على ما هو الحقّ من أنّ الفسخ حلّ العقد من حين وقوعه لا من الأوّل ، وبعد انحلال العقد بالفسخ بأحد الخيارات وإن كان يرجع الثمن إلى ملك المشتري وكذلك المثمن إلى ملك البائع ولكن رجوع العينين إليهما منوط بعدم تعلّق حقّ الغير بهما. وأمّا إذا كان تعلّق حقّ الغير بهما أو بأحدهما فلا بدّ من الرجوع إلى بدلهما من مثل أو قيمة ، لأنّ رجوع العين غير ممكن شرعا ، فيكون كالتالف فيرجع إلى بدله.

ففي المفروض الانحلال الطاري بواسطة الفسخ أو الإقالة يوجب رجوع المشتري إلى بدل الثمن ، لتعلّق حقّ المحتال بنفس الثمن. وكذلك الأمر في طرف المشتري لو أحال البائع بالثمن على شخص في الصورتين ، أي تبطل الحوالة إذا ظهر فساد البيع وتكون صحيحة وباقية لو انحلّ البيع بالفسخ أو الإقالة.

فرع : لو أحال من له عليه دين على وكيله بمثل ما عليه ، وكان ما عند وكيله عينا خارجيّة وقبل الوكيل ، فيجب على ذلك الوكيل أن يدفعها إلى المحتال ، وإن لم يدفع يرجع إلى المحيل ويأخذ دينه ، مثلا لو كان دينه لزيد وزنة من الحنطة أو كان دينارين أو غيرهما من سائر الأجناس ، وكان مثل المذكورات له عند عمرو فأحال الدائن على عمرو بمثل ما له عليه ، يجب على عمرو أن يدفعه إلى زيد الدائن ، وإن لم يدفع عصيانا أو لجهة أخرى فيرجع الدائن إلى المحيل ويستوفي الدين منه.

وذلك من جهة الفرق بين المفروض وبين ما إذا كان المحال عليه مديونا أو بريئا ، ففي الأخيرين ينتقل ما في ذمّة المحيل للمحتال إلى ذمّة المحال عليه ، فذمّة المحيل تفرغ

ص: 136

ولا يبقى فيها شي ء كي يرجع إليه الدائن بعد مماطلة المحال عليه واليأس عن الأخذ عنه.

وأمّا في المفروض فليس انتقال ذمّة في البين وإنّما هو مجرّد الأمر لوكيله بإعطاء مثل ما عليه من ماله المعيّن الخارجي ، فإذا لم يعط وإن كان بعد قبوله يرجع الدائن إلى المحيل المديون ، لبقاء اشتغال ذمّته وعدم تغيّرها عمّا كانت عليه.

والفرق بين أمره لوكيله بإعطاء العين الخارجي وبين إحالة ما في ذمّته إلى غيره بأن ينتقل ما في ذمته إلى ذمّة ذلك الغير في كمال الوضوح ، بل تسمية الأوّل بالحوالة لا يخلو عن نظر وإشكال.

فرع : وهو أنّه قال الشيخ في المبسوط : لا تصحّ الحوالة إلاّ بشرطين : اتّفاق الحقّين في الجنس والنوع والصفة ، وكون الحقّ ممّا يصح فيه أخذ البدل قبل قبضه (1).

وحاصل ما ذكره اشتراط صحّة الحوالة بشرطين آخرين غير ما ذكرنا وتقدّم.

أحدهما : أن يكون الحقّان - أي حقّ المحتال على المحيل مع حقّ المحيل على المحال عليه - من جنس ونوع واحد ، وكذلك في الصفات. مثلا لو كان دين زيد على عمرو من الأرز العنبر المتّصف بصفة كذا فيحيله زيد على خالد لحقّ له عليه ، لا بدّ أن يكون حقّه على خالد أيضا كذلك من حيث الجنس ، أي يكون أرزا مثلا لا حنطة ، ومن حيث النوع أي يكون ما له على خالد من الأرز العنبر لا من قسم آخر من أقسام الأرز ، وأن يكون صفاته أيضا مثل صفاته. هذا هو الشرط الأوّل.

وما ذكر في وجه هذا الشرط هو أنّه لو لم نراع اتّفاق الحقّين أدّى إلى أن يلزم المحال عليه أداء الحقّ من غير الجنس الذي عليه ، ومن غير نوعه ، وعلى غير صفته ،

ص: 137


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 313.

وذلك لا يجوز.

والمقصود من هذه العبارة أنّ المحال عليه بعد قبوله وانتقال ما في ذمة المحيل إلى ذمّته يلزم بأداء ما في ذمّة المحيل من أي جنس ونوع كان ، وبأيّ صفة كان. والمفروض أنّ ما في ذمّة المحال عليه للمحيل لم يكن من هذا الجنس ، ولا من هذا النوع ، ولا بهذه الصفة فبأيّ وجه يكون ملزما بأداء ما ليس عليه.

وفيه : أنّ هذا وجه عجيب ، إذ إلزامه بأدائه من جنس ما للمحتال على المحيل ومن نوعه وبصفته ليس من ناحية دينه للمحيل - كي نقول لا يجوز ، إذ لا يجوز إلزام المديون بأداء غير ما عليه جنسا أو نوعا أو صفة ، إذ الدين تمليك الشي ء بعوضه الواقعي ، فإن كان مثليّا فبمثله في الجنس والنوع والصفة وإن كان قيميّا فبقيمته الواقعية - بل من ناحية قبوله.

إذ بعد ما أحال المحيل ما في ذمّته عليه من جنس كذا ، أو من نوع كذا ، أو بصفة كذا وقبل هو ، ينتقل إلى ذمّته عين ما في ذمّة المحيل ذي الجهات المذكورة ، من الجنس والنوع والصفة.

وحيث أنّ قبوله ليس مجّانا بل بعوض ما في ذمّته للمحيل ، فقهرا تقع معاوضة بين ما في ذمّته وما في ذمّة المحيل ، ولا إشكال فيه إذا كان بتراضى الطرفين وإن كان العوضين من جنسين ونوعين وبصفتين ، بل غالب أبواب المعاوضات كذلك ، أي من جنسين ومن نوعين وبصفتين.

ثانيهما : أنّه يشترط في صحّة الحوالة كون الحقّ مما يصحّ فيه أخذ البدل قبل قبضه ، فالحوالة على المسل م إليه بالمسلم فيه لا يجوز ، وذلك لعدم جواز أخذ البدل عن المسلم فيه قبل قبضه ، إذ الحوالة في الحقيقة ضرب عن المعاوضة ، أي تقع المعاوضة بين دين المحتال في ذمّة المحيل وبين ذمّة المحيل في ذمة المحال عليه. وحيث أنّ ما في ذمّة المحال عليه في المورد المفروض هو المسلّم فيه وقد ثبت في محلّه أنّه لا تجوز المعاوضة

ص: 138

على المسلم فيه خصوصا إذا كان من المكيل أو الموزون ، فلا تصحّ الحوالة بالمسلم فيه قبل قبضه على المسلم إليه ، ولا بدّ في الحوالة على المسلم إليه بالمسلم فيه أن يكون قبل القبض ، إذ بعد القبض لا يبقى حقّ على المسلم إليه كي يمكن الحوالة عليه.

هذا حاصل ما يستفاد ممّا أفاده الشيخ في المبسوط (1) وجها للشرط الثاني.

ولكن أنت خبير بضعف هذا الوجه ، إذا الحوالة استيفاء الدين من المحتال ومن المحيل أيضا ، فالمحتال يستوفي دينه من المحيل بتوسّط الحوالة على المحال عليه ، والمحيل أيضا يستوفي دينه من المحال عليه ، واستيفاء الدين بغير جنسه جائز إذا كان مع التراضي ، فلا معاوضة في البين ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المعاوضة على المسلّم فيه قبل القبض لو كان فيه إشكالا يكون مختصّا بما إذا كان من المكيل أو الموزون.

وثالثا : المشهور قائلون بكراهة بيع المسلّم فيه لا الحرمة ، وإن قال به بعض القدماء مثل ابن البراج (2) وابن حمزة (3).

ورابعا : القائلون بالحرمة يقولون في خصوص البيع لا مطلق المعاوضة.

فقد ظهر ممّا ذكرنا هاهنا وفيما تقدّم عدم اشتراط صحّة الحوالة بهذين الشرطين اللذين ذكرها شيخ الطائفة قدس سره .

ثمَّ قال الشيخ قدس سره : ويقوّى في نفسي أنّ الحوالة ليست بيعا ، بل هي عقد منفرد ويجوز جميع ذلك إلاّ زيادة أحد النقدين على صاحبه ، لأنّه رباء (4).

ص: 139


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 313.
2- حكي عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 495.
3- « الوسيلة » ص 282.
4- « المبسوط » ج 2 ، ص 317.

فرع : هل يجوز الحوالة بما لا مثل له أم لا؟

والمراد بما لا مثل له هو القيمي.

الظاهر هو الأوّل ، أي جواز الحوالة بما لا مثل له ، وذلك من جهة أنّ المراد من الحوالة استيفاء المحتال ، دينه من المحيل وكذلك استيفاء المحيل دينه من المحال عليه إذا لم تكن الحوالة على البري ء وقد تقدّم أنّ استيفاء الدين كما يمكن بنفس ما في ذمّته كذلك يمكن بمثله أو قيمته.

فلو أحال عليه ثوبا أو حيوانا كان في ذمّته ، يمكن أن يستوفي المحتال دينه الذي كان على المحيل بقيمته والحوالة صحيحة وإن لم يكن له مثل ، ويحصل الغرض من الحوالة الذي هو عبارة عن استيفاء دينه.

خلافا للشيخ (1) وابن حمزة ، (2) فقد نسب في الجواهر إلى الشيخ في أحد قوليه وإلى ابن حمزة أنّهما منعا عن الحوالة بالقيميّات للجهالة فيها. (3) وفيه أنّ رفع الجهالة فيها ممكن بالتوصيف ولذلك بنائهم على صحة بيع المسلم فيها باعتبار انضباطها بالتوصيف.

ولا شكّ في أنّ اعتبار المعلوميّة في المال المحال به ليس أشدّ وآكد من اعتبار المعلوميّة في المسلم فيه فلا يبقى وجه لإشكالها في صحّة الحوالة بالقيميّات ، مثل الأثواب والحيوانات ممّا تتعلّق بالعهدة بحسب أحد أسباب الضمان.

فالعمدة في المال المحال به هو أن يكون ثابتا حال الحوالة في ذمّة المحال عليه ، ولا فرق بين أن يكون من المثليّات أو من القيميّات. نعم لا بأس بالحوالة على البري ء وقد تقدّم تفصيل ذلك.

ص: 140


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 312.
2- « الوسيلة » ص 282.
3- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 169.

فرع : قال في الشرائع : إذا قال أحلتك عليه فقبض ، فقال المحيل : قصدت الوكالة ، وقال المحتال : إنّما أحلتني بما عليك ، فالقول قول المحيل ، لأنّه أعرف بلفظه وفيه تردّد (1).

في المسألة صور :

إحديها : ما حكيناها عن الشرائع. وحاصل هذه الصورة هو أنّه لو كان لرجل دين على رجل ، فقال لدائنه : أحلتك عليه ، فقبض الدائن من ذلك الرجل ، فوقع النزاع بين المحيل وذلك الدائن ، وادّعى المحيل أنّي قصدت الوكالة من قولي : أحلتك عليه ، وادّعى الدائن الحوالة كما هو ظاهر اللفظ.

وثمرة هذا النزاع هو أنّه لو كان ادّعاء المالك المحيل صحيحا فالمال المأخوذ من ذلك الرجل ليس ملكا للدائن ، بل ملك للمحيل ، فلو كان له نماء أو ارتفاع قيمة فكلّها للمحيل. وأمّا لو كان قول المحتال صحيحا فيكون المال المأخوذ ملكا له والنماء له.

وهناك ثمرات أخر لا تخفى على الفقيه.

فقد يقال - كما في الشرائع في العبارة السابقة - القول قول المحيل ، وإن أظهر التردّد فيه بعد هذه العبارة. وكما في القواعد حيث قال : والأقرب تقديم قول المحيل. (2)

وما ذكراه في وجه تقديم قول المحيل وجهان :

الأوّل : أنّ المحيل أعرف بلفظه وقصده ، والمراد من كونه أعرف بلفظه ، أي بأنّه استعمل لفظ « أحلت » استعمالا حقيقيّا أو أراد منه الوكالة مجازا ، وكذلك أعرف بما قصده من هذا اللفظ وأنّه هل أراد المعنى الحقيقي من لفظ « أحلت » أو قصد الوكالة ، بل

ص: 141


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 181.

لا يعرف ما أراد إلاّ من قبله ، فيسمع قوله إذا قال : أردت من لفظ أحلت الوكالة مجازا.

ثمَّ إنّ المراد من سماع قوله أنّ في مقام تشخيص المدّعي والمنكر بناء على ما هو الحقّ وأنّ المنكر هو الذي يكون قوله موافقا للحجّة الفعليّة ، فيكون المنكر هو المحيل ، بناء على أن يكون كونه أعرف بلفظه وقصده حجّة في مقام الإثبات ، فيكلّف المحتال بالبيّنة ، فإن لم يأت يتوجّه الحلف إلى المحيل. وهذا هو المراد من أنّ القول قوله. وأيضا الفرض في هذه الصورة هو كون النزاع بعد قبض المحتال المحال به.

والوجه الثاني : هو استصحاب بقاء حقّ المحتال على المحيل ، وبقاء حقّ المحيل على المحال عليه.

وفي كلا الوجهين نظر واضح :

أمّا الأوّل : أي كون المحيل أعرف بلفظه وقصده ، فهذا إن كان له فهو فيما إذا كان اللفظ مجملا ولم يكن له ظهور ، وأمّا اللفظ الظاهر في معنى يؤخذ بظاهره في كشف مراده ، والظهور حجّة في كشف مراد المتكلم حتّى فيما عليه ، ولذلك يؤخذ بأقاريره ، وإقراره حجّة عليه يلزم به ، وليس له أن يقول : ما أردت هذا المعنى بل أردت المعنى الفلاني من باب المجاز ، واستعمال اللفظ في غير ما وضع له أو بحذف أو إضمار أو تقدير أو غير ذلك ، كذلك في سائر أبواب المعاملات.

فإذا أوقع معاملة من المعاملات ثمَّ أنكر قصد تلك المعاملة التي يكون اللفظ ظاهرا فيها لا يسمع منه. والسرّ في ذلك أنّ بناء العقلاء على حجّية الظهورات وأنّها كاشفة عن مراد المتكلّم ، والشارع أمضى هذه الطريقة ومشى عليها ، وأصالة الحقيقة أصل عقلائي.

فإذا شككنا في وجود قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي أو على إرادة المعنى المجازي الفلاني ، فأصالة عدم القرينة هي المرجع ، وإن شئت قلت : أصالة الحقيقة. وفيما

ص: 142

نحن فيه الكلام في صورة عدم وجود قرينة أو الشكّ فيها ، ولو تنازعا في صورة الشكّ في وجود القرينة فالأصل عدمها.

وبناء على ما ذكرنا لا يبقى وجه للوجه الثاني ، لحكومة الأمارات على الأصول العمليّة وإن كانت تنزيليّة ، كالاستصحاب المدّعى في المقام.

ثمَّ إنّه لا يقال : إنّ استصحاب بقاء حقّ المحيل على المحال عليه لا يجري على كلا التقديرين ، سواء كان المراد من لفظ « أحلت » الذي قاله للمحتال هي الحوالة أو الوكالة. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّه وكيلا في قبض حقّ المحيل ، والمفروض أنّه قبضه فلا يبقى شكّ في بقاء حقّ المحيل على المحال عليه كي يستصحب ، لأنّه على تقدير الوكالة ليس وكيلا في قبض حقّ المحيل ، بل وكيل في قبض مقدار من المال ، فيمكن بقاء الحقّ في عهدته ، ويكون ما يأخذه الوكيل دينا في ذمّة الموكّل.

نعم إذا كان حقّ المحيل الموكّل على المحال عليه مع دينه منه بتوسط الوكيل مساويا في الجنس والنوع والصفة والمقدار ، فيتهاتران قهرا.

الصورة الثانية : أن يكون هذا النزاع بينهما قبل القبض.

وفي هذه الصورة لم يتردّد في الشرائع مثل الصورة الأولى بل قال : أمّا لو لم يقبض واختلفا فالقول قول المحيل قطعا (1).

ولعلّ وجه الفرق بين الصورتين هو أنّه في الأولى على تقدير كونه حوالة يكون ما أخذه المحتال ملكا له ، فيكون دعوى المحيل على ذي اليد الذي يدّعي ملكيّة ما في يده واليد أمارة الملكيّة ، فيكون المحيل مدّعيا والمحتال منكرا ، للضابط الذي ذكرناه لتشخيص المدّعي والمنكر. وقد ذكرنا أنّ كون القول قوله هو أن يكون منكرا.

فيمكن أن يدّعى أحد أنّه إن كان النزاع بعد القبض ، فليس القول قول المحيل لما

ص: 143


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.

ذكرنا ، بل هو مدّع ، لأنّ الحجّة الفعليّة مع المحتال وهي اليد ، وأمّا لو كان قبل القبض فلا يد للمحتال على المال ، فيرجع النزاع إلى مفاد قوله « أحلت » ، وقد سبق أنّه أعرف بمفاد لفظه وقصده ، فيكون القول قول المحيل قطعا.

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّ ظهور قوله « أحلت » في الحوالة حجّة وأمارة على أنّ المنشأ حوالة ، فمدّعى الحوالة هو الذي قوله موافق للحجة الفعليّة ولا فرق في ذلك بين أن يكون دعواه قبل القبض أو بعده ، فلا تصل النوبة إلى أنّه مالك من جهة يده عليه ، واليد أمارة الملكيّة ، فتكون قول المحيل من قبيل دعوى الأجنبي على المالك ذي اليد الذي هو المحتال هاهنا ، فيكون القول قول المحتال.

وثانيا : محطّ الدعوى ومصبّها هو أنّ المنشأ حوالة أم وكالة ، والقبض وعدمه أجنبي عن هذا المقام ، وفيه لا بدّ من إتيان الدليل على أنّ أيّ واحد منهما هو المنشأ ، ومعلوم أنّ ظهور لفظ يعيّن أنّ المنشأ هي الحوالة لا الوكالة.

الصورة الثالثة : عكس هذا الفرض ، وهو أن يدّعى المحيل الحوالة ويدّعى المحتال الوكالة.

وقال في الشرائع : القول قول المحتال (1).

ولكن يرد عليه : أنّه بناء على ما اختاره في الفرض الأوّل أنّه أعرف بلفظه وقصده وقال : إنّ القول قول المحيل ، مع أنّ المحيل هناك ادّعى إرادة الوكالة عن لفظ الحوالة وهاهنا يدّعى إرادة الحوالة من لفظ الحوالة ، فإذا صدق هناك لأنّه أعرف بما أراد فهاهنا لا بدّ أن يصدق بطريق أولى ، لأنّه هناك يدّعى إرادة خلاف الظاهر وهاهنا يدّعى إرادة ما هو ظاهر اللفظ ، ودعواه هاهنا على طريقة العرف والعقلاء وهناك على خلاف طريقتهم.

ص: 144


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.

ولكن مع ذلك كلّه يمكن توجيه ما ذكره في الشرائع بأنّ لفظ « أحلت » يحتمل فيه أن يكون بمعنى الحوالة التي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره ، ويحتمل أن يكون المراد منه تحويل حقّ المطالبة عمّن هو مديون له إلى آخر ، فيكون نائبا عنه في المطالبة فقط ، لا أنّ ذمّة المديون تشتغل للمحتال ، فإذا كان اللفظ متحمّلا لمعنيين ، فتعيّن أحدهما يحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام ، فيكون مجملا ، فالمرجع هي الأصول العمليّة ، ومقتضاها هو سماع قول المحتال ، لأصالة بقاء الحقّين ، أي حقّ المحيل على المحال عليه ، وحقّ المحتال على المحيل.

ويمكن أيضا أن يقال : بأنّ الحوالة الشرعيّة متضمّنة لمعنى الوكالة ، أي أذن المالك المحيل في القبض والأخذ عن المحال عليه ، غاية الأمر لها خصوصيّة زائدة وهي أنّ ماله أخذه عن المحال عليه عبارة عن استيفاء حقّه الذي انتقل من ذمّة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فالقدر المتيقّن الذي لا نزاع فيه إنشاء المعنى الأوّل ، أي تحويل حقّ المطالبة. وأمّا الخصوصيّة الزائدة ، أي انتقال ما في ذمّة المحيل إلى المحال عليه فغير معلوم ، وتكون مجرى أصالة العدم.

ولكنّك خبير بأنّ أمثال هذه التوجيهات خلاف ظاهر لفظ « أحلت » ، وهذه اللفظة ظاهرة عرفا وشرعا في الحوالة الشرعيّة التي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره وقد ذكرنا أنّ الظاهر حجّة وأمارة ، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.

نعم لو لم يكن لفظ « أحلت » في البين ، وكان النزاع بينهما بأن يقول الدائن للذي هو مديون له : وكّلتني في أخذ مبلغ كذا من زيد الذي هو مديون لك وينكر كون ما ذكره المحيل حوالة ، والمحيل المديون لهذا المحتال يدّعي أنّي حوّلتك بمالك عليّ على زيد بمالي عليه ، فحينئذ لا بأس بأن يقال في مقام تشخيص المدّعي والمنكر إنّ القول قول المحتال ، لموافقته للحجّة الفعليّة التي هي المناط في كونه منكرا ، وفي سماع قوله ، إذ

ص: 145

قوله موافق لأصالة بقاء الحقّين ، أي حقّ المحيل والمحتال ، وقد تقدّم بيانه.

ولا يجوز للمحتال الذي ينكر الحوالة ويدّعي الوكالة مع إنكار المحيل الوكالة أخذ ما يدّعي الوكالة فيه ، لأنّ إنكار المحيل المديون لوكالة المحتال بمنزلة عزله ، لأنّ الوكالة من العقود الجائزة في أيّ وقت شاء له أن يعزله ، فإذا قال : أنت لست بوكيلي لا يخلو من أحد أمرين : إمّا ليس بوكيل واقعا فليس له أن يقبض ما يدّعي الوكالة فيه ، وإمّا وكيل واقعا والمحتال صادق في دعواه فينعزل بهذه العبارة ، فلا يجوز له القبض على كلّ حال.

فرع : إذا كان له على اثنين ألف درهم مثلا بالسويّة ، أي كان على كلّ واحد خمسمائة مثلا ، وكان كلّ واحد منهما كفيلا أي ضامنا لصاحبه ، وكان لرجل آخر عليه ألف درهم فأحاله عليهما ، صحّ هذا الحوالة ، لتماميّة أركانها ، وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » وسائر الإطلاقات لها.

قال في الشرائع : وإن حصل الرفق في المطالبة (1).

ولعلّ مراده أنّه بناء على أنّ مقتضى هذه الحوالة هو جواز مراجعة المحتال إلى كلّ واحد من المحال عليهما ومطالبته بالألف ، وذلك من جهة أنّ كلّ واحد منهما عليه خمسمائة من ناحية الدين وخمسمائة من ناحية ضمانه لصاحبه.

فقوله في الشرائع « وإن حصل الرفق » دفع توهّم ، وهو أنّ الحوالة لا تقتضي أزيد من اشتغال ذمّة المحال عليه بنفس ما هو في ذمّة المحيل بلا زيادة ولا نقيصة ، وهاهنا توجب الحوالة زيادة وهو الارتفاق ، وذلك لأنّ المحتال قبل هذه الحوالة كان يستحقّ استيفاء دينه من شخص واحد وهو المحيل ، وبعد الحوالة له أن يستوفي من كلّ واحد

ص: 146


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.

منهما ، وهذا نحو إرفاق حصل من ناحية الحوالة.

وجوابه ، أنّ حصول مثل هذه الإرفاقات لا تضرّ بصحّة الحوالة إذا كانت واجدة لشرائط الصحّة التي تقدّم ذكرها ، لشمول أدلّة تشريعها لها.

ألا ترى أنّه يجوز الإحالة على من هو إملاء وأوفى من المحيل ، وإذا كان المحيل صعب الوصول إليه فيحيل دائنه إلى طرف له محلّ شغل في السوق والوصول إليه في كمال السهولة ، وتحصيل الدين أسهل منه بكثير عن المحيل.

نعم لو كانت الزيادة في نفس ما أحال به وهو الذي كان في ذمّة المحيل ، فهو محلّ الإشكال ، لما بيّنّا أنّ حقيقة الحوالة عندنا تحويل ما في الذمّة إلى ذمّة شخص آخر بالشرائط المتقدّمة بلا زيادة. وأمّا اختلاف الأحوال في ناحية المحيل والمحتال والمحال عليه فلا بأس به إن كانت واجدة لشرائط الصحّة.

نعم هاهنا إشكال آخر أورده في المختلف (1) على ما قاله الشيخ قدس سره في المبسوط ، فإنّه أوّل من ذكر هذا الفرع بهذه الصورة في المبسوط على حسب اطّلاعنا.

وخلاصته : أنّ رجوع المحتال إلى كلّ واحد منهما بتمام الألف في المثل المفروض إنّما يستقيم على مذهب من يقول بأنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة. وأمّا بناء على ما هو المختار عند الطائفة من أنّه عبارة عن نقل ما هو في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فليس له مطالبة كلّ واحد منهما بتمام الألف ، وذلك من جهة أنّ بضمان كلّ واحد منهما لصاحبه ينتقل ما في ذمّة صاحبه من الدين الأصلي إلى ذمّة ذلك الضامن ، وهو في المثال المفروض خمسمائة درهم.

فالنتيجة أنّ ما في ذمّة كلّ واحد منهما يتبدّل بما في ذمّة الآخر وهو خمسمائة درهم في المثال المذكور ، فبعد الضمان أيضا ليس في ذمّة كلّ واحد منهما إلاّ خمسمائة

ص: 147


1- « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 497.

مثل قبل الضمان.

إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ قبل الضمان كانت الخمسمائة التي في ذمّة كلّ واحد منهما هي التي كانت من ناحية الدين الأصلي ، والتي بعد الضمان هي التي كانت في ذمّة صاحبه بالدين الأصلي وانتقل إلى ذمّته بواسطة الضمان ، وإلاّ على كلّ حال ليس في ذمّة كلّ واحد منهما إلاّ نفس ذلك المقدار الأوّل ، فليس له من كلّ واحد منهما مطالبة الألف على كلّ حال ، إلاّ على القول بأنّ حقيقة الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة أخرى.

لأنّه لو كان كذلك فالدين الأصلي لكلّ واحد منهما لم ينتقل عن مكانه ، وذمّة كلّ واحد منهما مشغولة به كما كانت ، وبواسطة الضمان وضمّ ذمّته إلى صاحبه المديون أيضا بخمسمائة يستحقّ المحتال مطالبته به أيضا ، فيستحقّ مطالبة الألف من كلّ واحد منهما ، خمسمائة بواسطة الدين الأصلي ، وخمسمائة بواسطة ضمانه الذي يقتضي ضمّ ذمّته إلى ذمّة المديون.

والشيخ قدس سره في المبسوط يصرّح بهذا أم لا يمكن يستند إليه مثل هذا القول الذي قد صرح بأنّه خلاف ما عليه الطائفة وهو قول مخالفينا.

ولذلك وجّه كلامه في الجواهر بأنّ مراده من قوله : « وكلّ واحد منهما ضامن لصاحبه » أي : كفيل (1) ومن المعلوم أنّ الكفالة - وهو الالتزام بإحضار من عليه الحقّ - لا يوجب انتقال ما في ذمّة من عليه الحقّ إلى ذمّة الكفيل ، فلا يبقى مجال لإشكال المختلف.

ولكن الإنصاف أنّ عبارة المبسوط لا تلائم مع هذا التوجيه ، لأنّه صرّح في المفروض والمثل المذكور بعد قوله « إذا كان له على رجلين ألف درهم على كلّ واحد خمسمائة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه » بقوله : فإنّ للمضمون له أن يطالب أيّهما

ص: 148


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 181.

شاء بالألف (1).

وأنت خبير بأنّ هذه العبارة لا تلائم مع الكفالة التي في قبال الضمان وقسم آخر من كونه زعيما وهو الالتزام بإحضار الغريم مؤجّلا أو معجّلا ، بل لو كان كفيلا بذلك المعنى ، له أن يطالب في المثل المذكور بخمسمائة التي هي دينه وإحضار الغريم الآخر ، لا أن يطالب بالألف.

نعم لو هو أعطى الألف من عند نفسه أو باستدعاء صاحبه الغريم الآخر تبرأ ذمّتهما بلا كلام ، إذ لا يبقى بعد ذلك حقّ للدائن كي تكون ذمّة الرجلين الغريمين أو أحدهما مشغولة بشي ء له.

ولهذا الفرع شقوق وصور باعتبار احالة الدائن إلى كليهما أو إلى جميعهم إذا كانوا أكثر من اثنين ، أو إلى بعضهم ، وباعتبار إبراء الدائن جميعهم أو بعضهم ، وباعتبار أداء بعضهم أو جميعهم بعض ما عليهم أو جميعه. ذكر أغلبها الشيخ في المبسوط (2) وإن شئت فراجع إليه ، وتركنا ذكر هذه الصور لوضوح حكمها بعد معرفة المباني من أنّ حقيقة الحوالة تحويل ما في الذمّة إلى ذمّة الغير وأنّ إبراء الأصل أي الدين الأوّل يوجب إبراء الضمانات المتعاقبة والمترتّبة على الدين الأوّل ، وأنّ الوكالة يمكن أن تقع بلفظ الحوالة أو لا يمكن ، فلا يحتاج إلى ذكرها والنقص والإبرام فيها.

فرع : هل يجوز شرط الأجل في الحوالة أم لا ، بمعنى أنّه يحيل دينه من زيد على عمرو ويشترط عليه أن لا يقبض ذلك الدين من عمرو إلاّ بعد مضيّ مدّة معيّنة ، كانت تلك المدّة طويلة أم قصيرة؟

الظاهر أنّه لا بأس بهذا الاشتراط ، وأنّه لا ينافي مقتضى عقد الحوالة ، لأنّ عقد

ص: 149


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 329.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 317.

الحوالة يقتضي انتقال ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه وأن تكون ذمّة المحال عليه مشغولة للمحتال بدل ذمّة المحيل ، وأمّا جواز المطالبة فورا فليس من مقتضيات عقد الحوالة ، وإنّما هو من آثار نفس الدين لو لم يكن مؤجّلا أو مشروطا بعدم المطالبة والقبض إلاّ بعد مضيّ مدّة.

فلو شرط المحيل على المحتال عدم القبض إلاّ بعد مضيّ مدّة فلا مانع من نفوذ هذا الشرط ، لأنّه شرط جائز لأنّه لا يحتمل عدم جوازه إلاّ من ناحية كونه مخالفا لمقتضى العقد ، وقد عرفت عدم كونه مخالفا لمقتضى عقد الحوالة ، فيشمله عموم « المؤمنون عند شروطهم ».

وهذا أمر متعارف في الأسواق عند التّجار ، خصوصا إذا كان مبلغ المحال به كثيرا والمحيل في بلد والمحال عليه في بلد آخر ، فيجعلون في ورقة الحوالة مدّة كي لا يقع المحال عليه في ضيق وحرج من ناحية تلك الحوالة ، ويتمكّن من تهيئة المبلغ في تلك المدّة ، فكانوا يكتبون في الورقة : سلّم إلى فلان - أي المحتال - مبلغ كذا بعد مضيّ ثلاثة أيّام من رؤية هذه الورقة.

المقام الثالث : في الكفالة

وهي في اصطلاح الفقهاء عبارة عن التعهّد والالتزام لشخص بإحضار من له حقّ عليه مؤجّلا أو معجّلا ، أو بإحضار شي ء آخر كالأعيان المضمونة.

وقال في القواعد : وهي عقد شرّع للتعهّد بالنفس (1).

ص: 150


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 182.

وكذلك قال في الجواهر : والمعروف في تعريفها أنّها عقد شرّع للتعهّد بالنفس (1).

والظاهر أنّ الكفالة عبارة عن نفس التعهّد والالتزام بإحضار شخص أو عين ، كما ذكرنا.

والعقد الذي ذكروه في مقام التعريف إن كان المراد به ألفاظ الإيجاب والقبول ، فهو سبب وآلة لإنشاء الكفالة لا أنّها عين الكفالة ، والحال في الإيجاب والقبول فيها كحالهما في سائر عناوين المعاملات من البيع والصلح والرهن والإجارة وغيرها ، من أنّهما أسباب لها لا أنّها عين المسبّبات وتلك العناوين.

وعلى كلّ فالأمر فيها سهل بعد وضوح المقصود ، وما هو المهمّ في المقام ، أي معنى الكفالة التي هي موضوعة للأحكام.

فرع : يشترط في صحّة الكفالة أمور :

منها : رضا الكفيل والمكفول له ، ووجهه واضح ، إذ الكفالة عقد واقع بين الكفيل والمكفول له ، وصحّة كلّ عقد منوطة برضاء المتعاقدين بما هو مضمون العقد ، إذ لا تتحقّق إنشاء المعاملة حقيقة من المتعاقدين إلاّ باستعمالهما لفظ الإيجاب والقبول في معناهما بإرادة جدّية ، وهذا ملازم مع رضا كلّ واحد منهما بما هو مضمون ، فلو لم يكونا راضيين أو أحدهما لم يتحقّق الإنشاء الحقيقي ، فلا عقد ولا عهد بينهما كي يكون موضوعا للصحّة ، وهذا واضح جدّا.

ولكن المراد من الرضاء الرضا المعاملي لا طيب النفس ، وقد حقق المسألة في شرائط عقد البيع. وقد تكلّم شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في مكاسبه مفصّلا في اعتبار الرضا في عقد البيع (2).

ص: 151


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 185.
2- « المكاسب » ص 118.

مضافا إلى ادّعاء الإجماع من صاحب الجواهر قدس سره بقسميه ، وقال : لا إشكال بل ولا خلاف في أنّه يعتبر رضاهما أي الكفيل والمكفول له ، بل الإجماع بقسميه (1).

هذا بالنسبة إلى الكفيل والمكفول له.

وأمّا بالنسبة إلى المكفول فهل يعتبر رضاه أم لا؟

المشهور بل في التذكرة قال : عند علمائنا عدم الاعتبار (2) ، وقال الشيخ في المبسوط باعتبار رضاه ، وقال ابن إدريس أيضا : الكفالة صحيحة إذا كان بإذن من تكفّل عنه (3) ، ونسب في الجواهر إلى القاضي وابن حمزة أيضا اعتباره ، وقد حكى عن العلاّمة أنّه قال : وفيه أي في اعتبار الرضا في المكفول قوّة (4).

وقال في الجواهر : لا استبعاد في تركيب عقد الكفالة من إيجاب من الكفيل وقبولين : أحدهما من المكفول له ، والآخر من المكفول (5).

وإلى هذا مال سيّدنا الأستاذ فقيه عصره السيّد الأصفهاني قدس سره في وسيلته وقال : والأحوط اعتباره ، بل الأحوط كونه طرفا للعقد ، بأن يكون عقدها مركّبا من إيجاب وقبولين من المكفول له والمكفول (6).

ولا شكّ في أنّه لو كان الأمر كذلك لكان اعتباره من الواضحات ، لما ذكرنا من أنّ إنشاء الإيجاب لا بدّ وأن يكون عن إرادة جدّية بمضمونهما ، فبناء على كون المكفول أحد القابلين لا مناص عن القول باعتبار الرضا في المكفول أيضا مثل المكفول له.

ولكنّ الشأن في صحّة هذا الأمر وأنّه من أركان عقد الكفالة كما توهّم أم لا

ص: 152


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 186.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 100.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 77.
4- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 187.
5- المصدر.
6- « وسيلة النجاة » ج 2 ، ص 214.

والعقد واقع بين الكفيل والمكفول له والمكفول أجنبي عن هذا الأمر ، وذلك من جهة أنّ المقصود من عقد الكفالة هو وثوق المكفول له واطمينانه بعدم ذهاب حقّه ، وهذا أمر راجع إلى الكفيل والمكفول له والمكفول ، لا شأن له في هذا المقام ، ويكون حاله في باب الكفالة مثل حال المضمون عنه في باب الضمان. فكما أنّ المضمون عنه خارج عن أطراف العقد - والعقد واقع بين الضامن والمضمون له - فكذلك المكفول.

وبناء على صحّة كفالة الأعيان المضمونة حال المكفول إذا كان إنسانا حال المكفول إذا كان من الأعيان المضمونة فكما لا يمكن ادّعاء اعتبار الرضا فيها ولا يعقل ، فكذلك إذا كان إنسانا.

وبعبارة أخرى : التعاقد والتعاهد بين الكفيل والمكفول له ، لأنّ الكفيل يتعهّد للمكفول له بإحضار ذلك مؤجّلا بأجل معيّن أو معجّلا ، وهذا العقد والتعاهد لا ربط له بالمكفول أصلا. وحال المكفول إذا كان من ذوي العقول حاله إذا كان من غير ذوي العقول ، مثل أن يكون حيوانا أو متاعا.

وأمّا ما ذكروا في وجه اعتبار رضاه أنّ وجهه إمكان إحضاره فإنّه متى لم يرض لم يلزمه الحضور معه ، فعجيب ، لأنّ طريق إحضاره ليس منحصرا بكونه راضيا بهذه الكفالة ، بل وإن لم يكن راضيا ولا يرى نفسه ملزما بالحضور ولكن الكفيل قادر على إحضاره بالطرق العادية ، وهذا المقدار يكفي في تحقّق الكفالة وشمول الإطلاقات له.

ومنها : تعيين المكفول. قال في القواعد : فلو قال : كفلت أحدهما ، أو قال : كفلت زيدا فإن لم آت به فبعمرو ، أو بزيد أو عمرو بطلت (1). وذلك لما قلنا من أنّ حقيقة الكفالة هو التعهّد بإحضار شخص ، ومع الترديد أو كونه مجهولا كيف يتعهّد بإحضاره.

ولكن الإنصاف أنّه لو قال : كفلت أحد هذين ، أي أتعهّد بإحضار أحد هذين تتحقّق الكفالة عرفا وتشمله الإطلاقات ، إلاّ أن يرد دليل خاصّ على بطلان مثل هذا

ص: 153


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 182.

التعهّد ، وعدم تحقّق الكفالة شرعا من إجماع أو غيره.

ومنها : التنجيز وعدم تعليقه على أمر ، سواء كان مشكوك الوقوع أو معلوم. والعمدة في دليل بطلان التعليق في جميع العقود التي منها الكفالة هو الإجماع ، وإلاّ فلا مانع عقلا.

نعم تعليق الإنشاء عقلا لا يمكن ، وذلك لأنّ الإنشاء في التشريعيّات مثل الإيجاد في التكوينيّات ، وكما أنّ الثاني لا يمكن التعليق فيه بل أمره دائر بين الوجود والعدم كذلك الحال في الأوّل ، لأنّ الإنشاء أيضا إيجاد في عالم التشريع.

وأمّا القضايا الشرطيّة في لسان الشرع ، فالإنشاء منجّز على الموضوع المقيّد ، فقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) ليس الإنشاء معلقّا ، بل المعلّق هو المنشأ. وبعبارة أخرى : موضوع الحكم مقيّد ، فكأنّه تعالى قال : المستطيع يجب عليه ، فإنشاء الحكم منجّزا على هذا الموضوع المقيّد. وكذا قوله تعالى في باب الجعالة ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (2).

قال العلاّمة قدس سره في القواعد : لو قال : إن جئت فأنا كفيل به ، لم يصحّ على إشكال (3).

ولعلّ غرضه من الإشكال هو ورود رواية على الصحّة ، وهي رواية أبي العبّاس البقباق قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل كفل لرجل بنفس رجل وقال : إن جئت به وإلاّ فعليّ خمسمائة درهم ، قال : « عليه نفسه ولا شي ء عليه من الدراهم ». فإن قال : عليّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه ، قال : « تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه » (4).

ص: 154


1- آل عمران (3) : 97.
2- يوسف (12) : 72.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 182.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 104 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 210 ، ح 493 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 157 ، أبواب الضمان ، باب 10 ، ح 1.

قال فخر المحقّقين قدس سره في الإيضاح (1) في تقريب دلالة الرواية على صحّة الكفالة مع التعليق بأنّ ظاهرها هو أنّ لزوم دفع الخمسمائة درهم معلّق على عدم الإتيان به ، وهذا ملازم مع كون لزوم الإتيان به وإحضاره معلّقا على عدم الدفع ، فيكون وجوب إحضاره الذي هو عبارة أخرى عن الكفالة معلّقا على عدم الدفع ، وقد حكم الإمام علیه السلام بصحّة مثل هذه الكفالة وأفاد أنّ حكم الإمام علیه السلام في جواب سؤال الراوي بنحو قضيّة المانعة الخلوّ ، أي لا يخلو وظيفته وما يجب عليه من أحد أمرين : إمّا دفع الخمسمائة ، وإمّا الإتيان بذلك الرجل الذي كفل بإحضاره والإتيان به.

وهذا كلام عجيب ، لأنّ الرواية ظاهرة في أنّ لزوم الدفع معلّق على عدم الإتيان به ، وأمّا لزوم الإتيان فليس معلّقا على عدم الدفع ، بل هو لازم على كلّ حال ، دفع أو لم يدفع. نعم هو التزم بالدفع معلّقا على عدم الإتيان به ، وهذا تعليق في التزامه وليس تعليقا لا في الكفالة ولا في الضمان المصطلح ، بل تعليق في ما التزم به ، فالرواية أجنبيّة عن المقام. ولو كانت دالّة على تعليق الكفالة يجب طرحها ، للإجماع على خلافها.

وقد ذكروا هاهنا لبطلان التعليق وجوها تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها مضافا إلى عدم صحّتها في نفسها.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ الشرائط العامّة التي ذكروها لصحّة العقود تأتي كلّها في عقد الكفالة أيضا ، من البلوغ والعقل والرشد والاختيار بالنسبة إلى المتعاقدين ، أي الكفيل والمكفول له إن كان قابلا لأن يقع طرفا في العقد ، وإلاّ ففي وليّه.

وبعبارة أخرى : هذه الشروط لمطلق المتعاقدين ، ولا اختصاص لها بعقد خاصّ ، فلا يجب ذكرها وتكرارها في كلّ عقد بعد أن كان دأب الفقهاء وديدنهم ذكرها في أوّل أبواب المعاملات أعني البيع. وإنّما ذكروا خصوص التنجيز لأجل الرواية التي ذكرناها واستظهار بعضهم عدم اعتبار التنجيز فيها. وقد عرفت الحال فيها وأنّه لا دلالة لها

ص: 155


1- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 98.

على ذلك.

فرع : تصحّ الكفالة حالّة ومؤجّلة ، وذلك من جهة أنّ الكفالة كما تقدّم عبارة عن التزام لشخص بإحضار شخص آخر لحق للأوّل - أي المكفول له - على الثاني المسمّى بالمكفول لاستيفاء حقّه منه.

وللملتزم أن يلتزم بإحضاره مطلقا من قيد التعجيل والتأجيل ، أو يقيّد الملتزم به - أي الإحضار - بالتعجيل أي حالاّ ، أو يقيّد بالتأجيل فيسمّى بالكفالة المؤجّلة.

والكفيل مختار في جعل التزامه على كلّ واحد من هذه الأوجه الثلاث ، والإنسان مختار في معاهداته والتزاماته ، إلاّ أن يكون ما التزم به حراما.

وأمّا دليل نفوذ هذه الالتزامات على الأوجه الثلاث ، فهي إطلاقات باب الكفالة.

أمّا صحّتها مؤجّلة ، فقد ادّعى في الروضة أنّه موضع وفاق ، وادّعى في الجواهر عدم الخلاف فيها (1).

وأمّا صحّتها حالّة ومعجّلة ، فقد حكى الخلاف فيها عن المفيد في المقنعة (2) ، وعن الشيخ في النهاية (3) ، وعن ابن حمزة (4) ، وسلاّر (5) ، والقاضي في أحد قوليه (6) ، ولم يأتوا بدليل يركن إليه في تقييد الإطلاقات.

وأمّا ما ذكر في وجه عدم صحّتها من لغويّتها لو كانت حالّة لأنّ المكفول له أن

ص: 156


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 188.
2- « المقنعة » ص 815.
3- « النهاية » ص 315.
4- « الوسيلة » ص 281.
5- « المراسم » ص 200.
6- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 499.

يطالبه في نفس وقت إيقاع الكفالة ومع حضور المديون ، وهذا يكون عبثا.

ففيه : أنّ مورد تعجيل الكفالة وكونها حالّة ليس منحصرا بهذا المورد المذكور كي يكون لغوا وعبثا ، بل يمكن أن يكون المكفول في نفس الوقت غائبا عن مجلس الكفالة بل غائبا عن البلد ، ولكن الكفيل متمكّن من إحضاره فورا ولو بتوسّط البرقية أو التلفون.

هذا ، مضافا إلى أنّ المراد من كونها حالّة ليس بمعناه الدقي ، بل بمعناه العرفي ولو بأن يكون زمان حضوره تميد إلى ساعات لا ينافي صدق كونها معجّلة وحالّة.

ثمَّ إنّه بعد الفراغ عن صحّة كونها مؤجّلة لا بدّ من تعيين مدّتها ، وذلك للإجماع أوّلا ، ولبطلان المعاملة الغرريّة بناء على صحّة رواية « نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن الغرر » (1) أو للإجماع على بطلان المعاملة الغرريّة.

والحاصل : أنّ الإجماع انعقد على أنّ العقد اللازم يجب أن لا يكون غرريّا وأنّه موجب لبطلانها.

هذا ، مضافا إلى أنّ العقلاء في العقود اللازمة يبنون على عدم صحّة المعاملة الغررية ، وهذا لا ينافي مسامحتهم في بعض مراتب الغرر ، وكأنّه لا يرونه غررا.

فرع : لا شبهة في أنّ للمكفول له مطالبة الكفيل بإحضار المكفول عاجلا في صورتين من الصور الثلاث المتقدّمة ، وهما إذا كانت الكفالة حالّة أو مطلقة. وأمّا إن كانت مؤجّلة فلا يستحقّ المطالبة إلاّ بعد حلول أجلها.

ص: 157


1- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 2 ، ص 45 ، ح 168 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 330 ، أبواب آداب التجارة ، باب 40 ، ح 3 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 283 ، أبواب آداب التجارة ، باب 33 ، ح 1 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 254 ، في بيع الغرر ، ح 3376 ، « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 349 ، باب 17 ، ح 1248 ، « كنز العمّال » ج 4 ، ص 74 ، الفرع السابع في بيع الغرر ، ح 9585 - 9586.

ووجه ما ذكرنا هو التزام الكفيل بذلك ، فالمكفول له حسب التزام الكفيل يصير مستحقّا على الكفيل ما التزام به ، فما التزمه عاجلا يستحقّ عليه عاجلا ، ولو كانت مطلقة أيضا كذلك ، لأنّ الإطلاق يقتضي وجود أثر العقد بمحض وجوده من دون حالة منتظرة ، كما أنّه في باب البيع أو الإجارة مثلا تتحقّق ملكيّة العين في الأوّل ، والمنفعة في الثاني بمحض وجود عقديهما تامّين جامعين للأجزاء والشرائط مع فقد موانعهما ، فكذلك هاهنا بمحض وجود عقد الكفالة يوجد حقّ المطالبة بالإحضار للمكفول له الذي هو أثر هذا العقد.

وأمّا لو كان ما التزم به إحضاره بعد مضيّ زمان ومدّة معيّنة ، فلا يستحقّ إلاّ بعد مضيّ ذلك الزمان وحلول الأجل ، فإن أحضره حسب ما التزم به في الصور المذكورة حسب التزامه فهو ، وإلاّ يحبس حتّى يأتي به أو يؤدّى حقّ المكفول له على المكفول.

أمّا حبسه فمن جهة أنّ كلّ ممتنع عن أداء حقّ الغير ، للحاكم حبسه إلى أن يؤدّيه إن كان متمكّنا من الأداء وأمّا لو أدّى حقّ المكفول له فلا يحبس إن كان الأداء قبلا ويطلق لو كان الأداء في أثناء الحبس ، لأنّ بعد الأداء لا يبقى له حقّ كي يحبس الكفيل لأجله.

وهاهنا أخبار ذكرها في الكافي والفقيه والتهذيب تدلّ على حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول.

منها : ما نقل عن الكافي ، عن عمّار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « أتي أمير المؤمنين برجل قد تكفّل بنفس رجل ، فحبسه وقال : اطلب صاحبك » (1).

ومنها : رواية أصبغ بن نباتة قال : قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل تكفّل بنفس

ص: 158


1- « الكافي » ج 5 ، ص 105 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 156 ، أبواب الضمان ، باب 9 ، ح 1.

رجل أن يحبس وقال له : « اطلب صاحبك » (1).

ومنها : رواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أنّ عليّا علیه السلام أتي برجل كفل برجل بعينه ، فأخذ بالكفيل فقال : « احبسوه حتّى يأتي بصاحبه » (2).

ومنها : رواية عامر بن مروان ، عن جعفر ، عن أبيه علیهماالسلام عن على علیه السلام : « أنّه أتي برجل قد كفل بنفس رجل ، فحبسه فقال : اطلب صاحبك » (3).

ولكن مفاد هذه الأخبار هو حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول ، وليس فيها التخيير بين أن يحضر المكفول أو يؤدّى حقّ المكفول له ، فلا بد من التماس دليل آخر لهذا التخيير. وقد عرفت أنّه مع أداء الحقّ لا يبقى شي ء يوجب الحبس أو الإحضار.

ويمكن أن يقال : إنّ ظاهر هذه الروايات وإن كان كما ذكر ، ولكن يمكن أن يكون الحكم بالحبس - إلى أن يحضر المكفول - في مورد امتناع الكفيل عن أداء حقّ المكفول له ، وإلاّ فالإحضار ليس له موضوعيّة وإنّما هو مقدّمة لاستيفاء الحقّ منه.

وما ذكره في الجواهر في وجه إلزامه بالإحضار وعدم قبول الأداء من قوله : إذ ربما يكون غرض المكفول له يتعلّق بالأداء من الغريم لا من غيره (4).

فيه أوّلا : أنّ هذه الفروض النادرة لا يمكن أن تكون منشأ لجعل حكم كلّي وهو عدم قبول الأداء من الكفيل وإلزامه بإحضار المكفول مطلقا.

وثانيا : ليس للمكفول له حقّ إلاّ استيفاء حقّه وعدم ضياع ماله ، وهو يحصل

ص: 159


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 95 ، باب الكفالة ، ح 3400 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 156 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 209 ، ح 486 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 156 ، أبواب الضمان ، باب 9 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 209 ، ح 487 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 165 ، أبواب الضمان باب 9 ، ح 4.
4- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 190.

بأداء الكفيل ، ووجوب الإحضار على الكفيل وجوب مقدّمي لاستيفاء الحقّ ، فإذا كان يصل حقّه إليه من دون الإحضار فلا معنى لوجوب الإحضار وجوبا تعيينيّا.

وبناء العقلاء في باب الكفالة هو هذا أيضا من الأوّل ، أي على أنّ الكفيل يلزم بأحد أمرين : إمّا إحضار المكفول ، وإمّا أداء حقّ المكفول له ، ولذلك لو امتنع إحضاره بجهة من الجهات يجب على الكفيل الغرامة.

ولعلّ إلى هذا يشير قوله علیه السلام - في وجه مرجوحيّة الكفالة ، وكراهة ارتكابها وحسن اجتنابها - : « الكفالة خسارة غرامة ندامة » (1). وخبر داود الرقي قال : « مكتوب في التوراة : كفالة ندامة غرامة » (2) وغيرهما من الأخبار الأخر.

فرع : من أطلق غريما عن يد صاحب الحقّ قهرا وإجبارا ، ضمن إحضاره أو أداء ما عليه. وكذلك لو أطلق قاتلا عمدا عن يد وليّ الدم قهرا وإجبارا يلزم عليه إحضاره ، وإن تعذّر عليه إحضاره لموت القاتل أو لجهة أخرى يجب عليه دفع دية المقتول.

أمّا الأوّل : أي إطلاق الغريم عن يد صاحب الحقّ يوجب أحد الأمرين ، فقد ذكروا له وجوها.

منها : الاتّفاق وعدم الخلاف كما عن الرياض (3) ، والإجماع كما حكى في الجواهر عن الصيمري (4).

ص: 160


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 97 ، باب الكفالة ، ح 3405 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 154 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 210 ، ح 492 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 155 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 5.
3- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 599.
4- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 198.

ومنها : التمسّك بقاعدة « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

وفي الإجماع ما عرفت مرارا في هذا الكتاب أنّه ليس من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته ، لأنّه من المحتمل القريب اعتماد المجمعين - على فرض تسليم وجوده - على هذه الوجوه المذكورة ، وهو كما ترى.

وأمّا في التمسّك بقاعدة لا ضرر فلما بيّنّا في محلّه أنّ مفاد القاعدة هو رفع الحكم الضرري ، لا إثبات حكم يرتفع به الضرر.

ومنها : فحوى ما سنبيّنه في القاتل من حكمه علیه السلام بحبس من أطلق القاتل العمدي عن يد أولياء المقتول حتّى يأتي بالقاتل. ولعلّ مراد من تمسّك بهذا الوجه هو أنّ المطلق في إطلاق القاتل لم يتلف مال أولياء المقتول ، وإنّما صار سببا لضياع حقّهم وعدم إمكان استيفائهم ، فإذا كان ذلك موجبا لجواز حبسه حتّى يأتي بالقاتل ، ففي مورد إتلاف مال الغير أولى.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لا فحوى ولا أولويّة في البين ، من جهة أنّه لا شكّ في اهتمام الشارع بأمر الدماء أزيد من الأموال ، فيمكن أن يحكم بحبس الذي يطلق القاتل العمدي حتّى يأتي به ويقتصّ الولي منه كي لا يتجرّأ الأشقياء على قتل الناس برجاء أنّ أقرباءهم أو أصدقاءهم يخلصونهم عن أيدي الأولياء ، فلا يكون محذور لهم ولا لأقربائهم أو أصدقائهم.

وأمّا عدم إمكان استيفاء ماله وتأخيره ، فليس بهذه المثابة والأهمّية.

هذا ، مضافا إلى أنّ الأولويّة الظنيّة لا يخرج ما ذكر عن كونه قياسا. وأمّا ادّعاء القطع بأنّ مناط الحكم بالحبس هو تفويت الحقّ ، فأمر غير مبيّن ولا دليل عليه.

ومنها : أنّ إطلاق الغريم إتلاف لمال الغير عرفا ، ومن أتلف مال الغير فهو له ضامن. وتدارك هذه الخسارة التي أوردها على الدائن بأحد أمرين : إمّا إحضار الغريم ، وإمّا أداء ذلك المال الذي كان على عهدة الغريم. وقد ذكرنا عدّة فروع من هذا القبيل

ص: 161

في قاعدة الإتلاف ، وإن شئت فراجعها.

ومنها : أنّ المطلق غصب يد المستولية المستحقّة من صاحبها ، فكان عليه إعادتها بإحضار الغريم وجعله تحت يده ، أو أداء الحقّ الذي بسببه تثبت اليد عليه. وهذا ما قاله جامع المقاصد (1).

وفيه : أنّه لم يفهم معنى لغصب اليد ، وأمّا غصب المال الذي في عهدة الغريم فلا بدّ وأن يكون إمّا باليد الغاصبة ، ولا يد للمطلق عليه ، فلا تشمله قاعدة « وعلى اليد ». وإمّا بالإتلاف ، وهو ما تقدّم ذكره من أنّه هل يصدق الإتلاف عرفا في المقام أم لا؟

وخلاصة الكلام : إن أغمضنا عن الإشكال الذي ذكرنا في الإجماع أو قلنا بالقطع بأنّ المناط في حكمه علیه السلام - بحبس المطلق للقاتل عمدا من أيدي أولياء الدم حتّى يحضر القاتل - هو تفويت حقّ أولياء الدم ، أو قلنا بصدق إتلاف مال الدائن فهو ، وإلاّ فالحكم بحبس المطلق للغريم لا يخلو من إشكال.

وأمّا الثاني : أي إطلاق القاتل عمدا عن يد أولياء الدم ، فيأتي فيه بعض الوجوه المتقدّمة في الأوّل ، خصوصا الإجماع المذكور عن الصيمري ، فإنّه ادّعى الإجماع في هذا المورد أيضا على ما حكى عنه صاحب الجواهر (2) قدس سره وهو نفسه أيضا ادّعى عدم وجدان الخلاف في هذا الحكم ، أي لزوم إحضار المطلق للقاتل عمدا إيّاه أو دفعه الدية.

ولكنّ العمدة فيه صحيح حريز ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : سألته عن رجل قتل رجلا عمدا ، فرفع إلى الوالي ، فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه ، فوثب عليهم قوم فخلّصوا القاتل من أيدي الأولياء ، قال : « أرى أن يحبس الذين خلّصوا القاتل من أيدي الأولياء حتّى يأتوا بالقاتل ». قيل : فإن مات القاتل وهم في السجن؟ قال علیه السلام :

ص: 162


1- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 394.
2- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 199.

« وإن مات فعليهم الدية ، يؤدّونها جميعها إلى أولياء المقتول » (1).

والإنصاف أنّ الصحيحة صريحة الدلالة على المقصود ، وصحيح السند ، ومعمول بها حتّى ادّعى على مفادها الإجماع ، فهي حجّة في المقام وكفى.

ولكن أنت خبير بأنّه ليس التخيير من أوّل الأمر بين الأمرين إحضار القاتل ، أو أداء دية المقتول ، بل أداء الدية بعد موته وهم في السجن وعدم إمكان إحضاره للاقتصاص منه لموته ، فلو كان مستند هذا الحكم هو هذه الصحيحة لا بدّ وأن يكون مرادهم هذا ، أي يجب عليه الإحضار وإن تعذّر لموت القاتل فعليه أو عليهم دفع دية المقتول ، كما ذكرنا نحن كذلك.

وذكروا هاهنا بعض فروع في هذه المسألة تركنا ذكرها لكونها أجنبية عن باب الكفالة التي محلّ كلامنا ، كما أنّ أصل هذه المسألة أيضا ليست من باب الكفالة ، ولكنّ الفقهاء نزّلوها منزلة الكفالة من جهة وحدة الأثر ، أي لزوم الإحضار أو الغرامة.

وعنوان الباب الذي ذكر هذه في الوسائل في ذلك الباب هو : باب أنّ من أطلق القاتل من يد الولي قهرا صار كفيلا يلزمه إحضاره ، يحبس حتّى يردّه أو يؤدّي الدية (2).

فرع : لا كفالة في الحدّ ، لأنّه مضافا إلى أنّ الحدّ إجراءه واجب فوري بعد إثباته - وهذا ينافي الكفالة ، فإنّها توجب التأخير الكفالة فيه توجب تعطيل الحدّ وعدم إمكان إجرائه في كثير من الموارد ، وهي في مثل الرجم والحرق والقطع ، ففي هذه الموارد إذا أطلق المحارب ، أو الزاني المحصن ، أو اللائط ، أو السارق يخفى نفسه

ص: 163


1- « الكافي » ج 7 ، ص 286 ، باب الرجل يخلص من يجب عليه القود ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 160 ، أبواب الضمان ، باب 15 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 160 ، أبواب الضمان ، باب 15.

ويهرب ويختفى إلى الأبد ، لأنّ كلّ شخص ونفس يهرب من الموت ، فيلزم تعطيل الحدود - ورد روايات في عدم جواز الكفالة في الحدّ.

منها : ما رواه السكوني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا كفالة في حدّ » (1).

ومنها : ما رواه الصدوق بإسناده قال : قضى أمير المؤمنين علیه السلام أنّه لا كفالة في حدّ (2).

ومنها : ما رواه في الفقيه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ادرؤا الحدود بالشبهات ، ولا شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حدّ » (3).

فرع : عقد الكفالة لازم ، فلا يجوز فسخه إلاّ بالإقالة ، أو باشتراط الخيار للكفيل ، أو المكفول له. أمّا كونه لازما ، فلأنّه مقتضى أصالة اللزوم في كلّ عقد إلاّ في العقود الإذنيّة ، أو خرج عن تحت أصالة اللزوم بوجود الدليل على الجواز.

هذا ، مضافا إلى أنّ الغرض من الكفالة هو الاستيثاق من عدم ضياع ماله والتمكّن عن تحصيل الغريم ، وبالكفالة يحصل كلا الأمرين ، لأنّ الكفيل يجب عليه إمّا إحضار الغريم المكفول ، وإمّا أداء المال ، وهذا الغرض لا يحصل إلاّ بلزوم عقد الكفالة ، وإلاّ لو كان جائزا ، فبعد ما سافر الغريم أو أخفى نفسه وفسخ الكفيل عقد الكفالة ، فلا يحصل الغرض المذكور.

ص: 164


1- « الكافي » ج 7 ، ص 255 ، باب أنّه لا كفالة في حدّ ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 161 ، أبواب الضمان ، باب 16 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 95 ، باب الكفالة ، ح 3400 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 161 ، أبواب الضمان ، باب 16 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 74 ، باب نوادر الحدود ، ح 5146 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 336 ، أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامّة ، باب 24 ، ح 4.

والحاصل : أنّ بناء العقلاء في عقد الكفالة على اللزوم ، والشارع أمضى ما هو عندهم وبناءهم عليه.

وأمّا فسخه بالإقالة أو باشتراط الخيار ، فالإقالة من جهة أنّها على القاعدة في العقود اللازمة ، إلاّ أن يأتي دليل تعبّدي على عدم تطرّق الإقالة فيه كما في باب النكاح ، وذلك لما ذكرنا في محلّه أنّ التزام كلّ واحد من المتعاقدين بالوفاء بالعقد ملك للطرف الآخر وبرعايته ، فإذا رفع اليد فلا يبقى التزام في البين.

وأمّا جواز اشتراط الخيار لكلّ واحد من الكفيل والمكفول له ، فمن أنّه شرط جائز ليس له مانع عقلي ولا شرعي ، فيشمله عموم « المؤمنون عند شروطهم ».

فرع : إذا أحضر الكفيل الغريم قبل الأجل ، هل يجب على المكفول له تسلّمه ، أو لا؟ قيل : يجب.

وكذلك الكلام بالنسبة إلى المكان الذي عيّنا إحضاره في ذلك المكان لو أحضره في غير ذلك المكان هل يجب قبوله ، أو لا يجب وإن لم يكن ضرر عليه تسلّمه في ذلك المكان أو في ذلك الزمان؟

الظاهر عدم وجوب تسلّمه في غير المكان أو الزمان الذي عيّنا إحضاره في ذلك الزمان أو في ذلك المكان ، أمّا مع الضرر فمعلوم ، وأمّا مع عدمه فأيضا لا دليل على لزوم تسلّمه ، لأنّ المفروض أنّه خلاف ما التزما به في عقد الكفالة ، والأغراض تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة وإن لم يكن ضرر في البين ولا ملزم له على تسلّمه وقبوله.

نعم لو لم يعيّنا زمانا أو مكانا ، لعلّه كان واجبا إذا لم يكن ضرر عليه ، إلاّ أن يكون الإحضار في زمان أو مكان منصرفا عنه الإطلاق.

ص: 165

فرع : قال في الشرائع : ولو سلّمه وكان المكفول له ممنوعا من تسلّمه بيد قاهرة لم يبرأ الكفيل (1).

والمقصود من هذه العبارة أنّ الكفيل وإن أحضر المكفول - أي الغريم - وسلّمه إلى المكفول له ، لكن مثل هذا التسليم - الذي هو لا يقدر على تسلّمه لوجود يد قاهرة مانعة عن السلم وأخذ الحقّ منه - في حكم العدم ، لعدم ترتّب الغرض عليه وهو استيفاء الدين عن الغريم ، ولعلّ إطلاق الأدلّة منصرفة عن مثل هذا التسليم.

أمّا لو كان الغريم المكفول محبوسا ، فإمّا أن يكون محبوسا في حبس الحاكم الشرعي ، فلا مانع من تسلّمه واستيفاء الحقّ منه. وأمّا لو كان في حبس الظالم وليس مانعا عن تسلّمه عن الكفيل واستيفاء الحقّ منه لأنّه ربما يقدر الكفيل على ذلك ، فلا وجه لإطلاق القول بعدم إمكانه ، بل لا بدّ وأن يقيّد الحكم بقدرة الكفيل على تسليمه وإمكان استيفاء الدين منه ، والحكم بالعدم بعدم قدرته على ذلك.

فرع : إذا كان المكفول غائبا ، فإمّا أن يعلم مكانه وليست أخباره منقطعة عن الكفيل ، وكانت الكفالة حالّة ، أو حال أجلها وإن كانت مؤجّلة ، فطلب المكفول له إحضار المكفول وهو قادر على إحضاره ، يجب عليه إحضاره ، لأنّ هذا مقتضى عقد الكفالة ووجوب الوفاء به. ويجب أن يمهل بمقدار ذهابه وجلبه والإتيان به بنحو المتعارف ، فإذا أتى به وسلّمه تسليما تامّا تبرأ ذمّته ، وإن تماطل يجوز للمكفول له حبسه بأمر الحاكم حتّى يأتي به أو يؤدّي ما عليه ، كما تقدّم.

وأمّا إن كان مكانه مجهولا وأخباره منقطعة ، فلا يكلّف الكفيل بإحضاره ، لعدم قدرته على ذلك. ولكن هل يلزم الكفيل بأداء ما عليه أم لا؟

ربما يقال بعدم جواز إلزامه بذلك ، لأنّه تكفل إحضار نفسه وهو أمر غير مقدور ،

ص: 166


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 116.

والتكليف بأمر غير مقدور قبيح ، ولم يضمن المال فلا وجه لإلزامه بالمال.

ولكن الأولى أن يفصّل بين ما كان عدم التمكّن من إحضاره بتفريط من الكفيل ، بأن طالبه المكفول له وكان الكفيل متمكّنا من إحضاره في ذلك الوقت ولكنّه مستأهل حتّى هرب إلى مكان مجهول أو أخفى نفسه فيغرم ، وبين ما لم تكن كذلك إمّا بأن لم يطالبه المكفول له إلى هذا الوقت ، أو كان طلبه في وقت لم يكن متمكّنا من إحضاره فلا غرم. والوجه في كلتا الصورتين واضح.

فرع : قد يقال إن لم يعيّنا - أى الكفيل والمكفول له - مكان التسليم ، فينصرف إلى بلد العقد.

وفيه أنّه ليس كذلك مطلقا ، لأنّه لو وقع العقد بينهما في بلد غربة يفارقانه بسرعة وربما لا يمرّان به بعد ذلك أصلا ، فلا انصراف في مثل هذا المورد إلى بلد العقد قطعا ، بل يكون منصرفا عنه يقينا.

والظاهر أنّه ينصرف إلى البلد الذي استقرار المكفول له فيه ، ويكون محلّ عمله وكسبه وتجارته ، ويكون استيفاء دينه كسائر إشغاله من مصلحته في ذلك البلد. هذا إذا أطلقا التسليم.

وأمّا إذا عيّنا بلدا معيّنا أو مكانا كذلك ، يجب التسليم في ذلك البلد أو في ذلك المكان ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » وقد تقدّم الكلام في مثل ذلك إذا عيّنا زمانا معيّنا. وبناء على ما ذكرنا لو سلّمه إلى المكفول له في غير ذلك المكان لم تبرأ ذمّته ، لعدم التسليم التامّ حسب التزامه.

فرع : لو اتّفق الكفيل والمكفول له على وقوع الكفالة ، ولكن قال الكفيل للمكفول له : لا حقّ لك الآن لأداء المكفول ، أو لإبرائك إيّاه مثلا ، فالقول قول المكفول

ص: 167

له ، وذلك لموافقة قوله مع الحجّة الفعليّة التي هي المناط في باب تشخيص المدّعي والمنكر ، وهو عبارة عن أصالة عدم الأداء والإبراء ، أو أصالة بقائه بعد ثبوته يقينا.

نعم على المكفول له اليمين ، فإن حلف يؤخذ الحقّ من الكفيل إن لم يحضر المكفول فيما إذا كان إحضاره واجبا عليه ، وإن ردّ على الكفيل ولم يحلف ونكل فأيضا يؤخذ الحقّ منه على التفصيل المتقدّم ، بمعنى أنّه يحبس حتّى يأتي به أو يؤدّي الحقّ. وأمّا إن حلف الكفيل فيبرأ عن الكفالة ، ولكن لم يبرأ المكفول من المال إلاّ إذا ادّعى أيضا الأداء أو الإبراء ولم يحلف المكفول له وردّ على المكفول فحلف على الأداء أو الإبراء.

ولو ادّعى الكفيل عدم الحقّ حال الكفالة وأنّ الكفالة كانت باطلة وأنكر المكفول له ، فيكون القول أيضا قوله بيمينه ، فإن حلف يؤخذ الحقّ عن المكفول ، وإن ردّ ونكل المكفول ولم يحلف فأيضا يؤخذ الحقّ منه ، وإن حلف تبرأ ذمّته عن الحقّ وقهرا تبرأ ذمّة الكفيل أيضا عن الكفالة ، لأنّها تابعة لوجود الحقّ وثبوته ، فإذا سقط شرعا بواسطة حلف المكفول فتسقط الكفالة أيضا قهرا.

فرع : إذا تكفّل رجلان برجل واحد ثمَّ سلّمه أحدهما ثمَّ هرب المكفول ، فهل تبرأ ذمّة الآخر بتسليم الأوّل ، أم للمكفول له الرجوع إلى الكفيل الآخر وطلب إحضاره منه؟

حكى عن الشيخ (1) ، والقاضي (2) ، وابن حمزة (3) قدس سره عدم براءة الآخر ، وأنّه للمكفول له الرجوع إليه وطلب إحضاره منه.

ص: 168


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 339.
2- « جواهر الفقه » ص 71 - 72 ، المسألة 269.
3- « الوسيلة » ص 281.

ولكن قال في الشرائع : ولو قيل بالبراءة كان حسنا (1).

ووجه حسنه أنّ المقصود من الكفالة هو تسلّمه من الكفيل والتمكّن والقدرة على استيفاء دينه منه ، وهذا المعنى قد حصل. ولذلك تقدّم أنّه لو سلّم نفسه تبرأ ذمّة الكفيل كما أنّه أيضا تبرأ ذمّته بتسليم الأجنبي ، وليس تسليم أحد الكفيلين المكفول للمكفول له أقلّ فائدة في حصول الغرض من تسليم الأجنبي ، فالأظهر ما قاله المحقّق من أنّ القول بالبراءة حسن.

فرع : ولو تكفّل لرجلين برجل فسلّمه إلى أحدهما لم يبرأ عن الآخر ، وهذا واضح جدّا. نعم لو كان دين الرجلين على المكفول مشاعا بينهما ، وصار كفيلا لكلّ واحد منهما بذلك الرجل المديون ، فسلّمه إلى أحدهما وهما شريكان في ذلك الدين وكان الدين لهما بالإشاعة ، فإذا استوفى أحدهما تمام الدين المشاع بينهما فلا يبقى مجال لبقاء الكفالة بالنسبة إلى الآخر ، لأنّ بقاء الكفالة تابع لبقاء الحقّ في ذمّة المكفول ، فتسقط الكفالة باستيفاء تمام الحقّ عن الآخر أيضا.

ولكن ظاهر الفرض أن يكون كفيلا لكلّ واحد من الرجلين برجل واحد في دين مستقلّ لكلّ واحد منهما ، وفي الفرض لا تبرأ ذمّة الكفيل عن الكفالة للآخر بتسليم المكفول إلى أحدهما يقينا.

فرع : إذا مات المكفول برئ الكفيل عن الكفالة ، وكذلك الأمر لو مات الكفيل.

أمّا الأوّل : فمن جهة أنّ الغرض من الكفالة إحضار الكفيل المكفول لأنّ يستوفي المكفول له حقّه منه ، فإذا مات لا يمكن إحضاره ولا استيفاء الحقّ منه ، بل حقيقة

ص: 169


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 117.

الكفالة هو الالتزام بإحضار المديون ، والعمل بهذا الالتزام متعذّر للكفيل ، فالعقد من أوّل الأمر لا يشمل مثل هذه الصورة ، لأنّه التزام بفعل لا يقدر عليه. ونحن بيّنّا في هذا الكتاب أنّ كلّ عقد لا يقدر المتعاقدان أو أحدهما العمل بمضمونه يكون مثل هذا العقد والتعهّد والالتزام باطلا ، فإذا بلغ إلى هذا الحدّ يخرج عن كونه كفيلا وتبرأ ذمّته.

هذا ، مضافا إلى ادّعاء صاحب الرياض قدس سره نفي الخلاف في هذا الحكم ، أي براءة ذمّة الكفيل بموت المكفول (1) وفي التذكرة قال : إذا مات المكفول به بطلت الكفالة ، ولم يلزم الكفيل شي ء عند علمائنا (2) وأنت ترى أنّ هذه العبارة مساوقة لادّعاء الإجماع ، فلا ينبغي التشكيك في براءة ذمّة الكفيل بموت المكفول.

وأمّا الثاني : أي موت الكفيل ، فبطلان الكفالة بموته وعدم قيام الوارث مقامه فمن جهة كون ذمّة الميّت مشغولة بإحضار المكفول به غير ممكن ، لعدم إمكان الإحضار في حقّه ، فاعتبارها في حقّه لغو في نظر الشرع والعقلاء ، وليس مالا كي ينتقل إلى ورثته. وأمّا كون حقّا فإن كان كذلك ، لكنّه حقّ المكفول له عليه ، لا حقّه على غيره كي يرثه الوارثون ، فقهرا بموت الكفيل ينتفي الكفالة ، لعدم بقاء موضوعها وهو شخص الكفيل.

نعم بموت المكفول له لا تبطل الكفالة ولا تبرأ ذمّة الكفيل ، لأنّ الكفالة كانت حقّا للمكفول له على ذمّة الكفيل ، فيرثه الوارثون بموت مورّثهم ويقومون مقامه. فكما أنّ الدين باق في ذمّة المديون ، الكفالة أيضا باقية في ذمّة الكفيل ، وكلاهما ينتقلان إلى الورثة ، فللورثة طلب إحضار الغريم من الكفيل ، فإن أحضر يستوفون دينهم الذي انتقل إليهم من مورثّهم منه ، وإلاّ يحبس حتّى يحضره أو يؤدّي الدين هو على التفصيل الذي تقدّم ، ويكون حالهم مع الكفيل حال مورّثهم معه.

ص: 170


1- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 599.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 102.

فرع : لو انتقل الحقّ بأحد النواقل الشرعيّة غير الإرث ، كما في بيع أو صلح أو هبة أو مهر أو عوض خلع أو غير ذلك ، فهل يبرأ الكفيل أم لا؟

الظاهر أنّه يبرأ من جهة أنّه كفل لهذا المالك كي يتمكّن من استيفاء دينه من المكفول ، فإذا انتقل دينه إلى غيره فلا معنى لكونه كفيلا له. وأمّا كونه كفيلا للمالك الجديد الذي انتقل إليه الحقّ فشي ء لم يلتزم به ولم يقع عقد ومعاهدة عليه ، فيبرأ ذمّته قهرا.

واحتمال انتقال حقّ الكفالة إلى المالك الجديد لا وجه له ، لأنّ المالك الجديد ليس وارثا للمكفول له ، ولذلك قيّدنا عنوان المسألة بأن لا يكون الانتقال بالإرث وقد تقدّم في الفرع السابق أنّ الكفالة لا تبطل بموت المكفول له ، بل ينتقل حقّ الكفالة والمال كلاهما إلى ورثته.

فرع : يصحّ ترامي الكفالات ، كما قلنا بصحّته في الضمان وفي الحوالة. وهو عبارة عن تكفّل شخص بإحضار رجل عليه دين لدائنه ، ثمَّ يكفّل ثان بإحضار ذلك الكفيل الأوّل ، ثمَّ يكفّل ثالث بإحضار الكفيل الثاني ، وهكذا إلى ما لا يقف على عدد والوجه في صحّته ولزومه.

أمّا صحّته فلشمول إطلاقات أدلّة صحّة الكفالة مثل هذا المورد ، أي مورد ترامي الكفالات. ومن تلك الأدلّة قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » لأنّ كلّ واحد من أفراد هذه السلسلة يصدق عليه أنّه زعيم ، أى متعهّد بإحضار من تعهّد إحضاره ، فعليه إحضاره أو أداء الحقّ ، بالتفصيل المتقدّم.

وأمّا لزومه : فلقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ولسائر أدلّة التي ذكرناها في قاعدة أصالة اللزوم في العقود العهديّة.

ص: 171

ثمَّ إنّه من آثار وأحكام هذا القسم من الكفالة أنّه لو أحضر أحدهم من عليه الحقّ يبرأ هو ويبرأ الآخرون أيضا. والوجه واضح ، لأنّ الغرض من الكفالة ولو كانوا ألفا هو إحضار من عليه الحقّ ، فإذا حصل هذا المعنى من أحدهم فقهرا يبرأ ذمّة الباقين.

أمّا لو أحضر أحد الكفلاء من تعهّد بإحضاره - أي الشخص الذي كفل به - فإن كان هو الكفيل الأوّل فبرئ ذمّة الجميع ، لأنّ من كفل به الكفيل الأوّل هو نفس من عليه الحقّ ، وبيّنّا آنفا أنّ بإحضاره تبرأ ذمّته الجميع. وأمّا إن كان هو الكفيل الثاني فتبرأ ذمّته وجميع من تأخّر عنه في السلسلة ، وأمّا ذمّة الكفيل الأوّل فلا تبرأ ، لأنّه متعهّد بإحضار من عليه الحقّ ولم يحضره.

وخلاصة الكلام : أنّ كلّ كفيل في هذه السلسلة - عددها أيّ مقدار كان - إذا أحضر من تكفّل ، لا تبرأ إلاّ ذمّة نفسه وذمّة من تأخّر عنه من الكفلاء ، وأمّا ذمّة من تقدّم عليه فلا. وأمّا لو كان المحضر هو الكفيل الأوّل حيث أنّ جميع الكفلاء متأخّرون وليس كفيل متقدّم عليه فتبرأ ذمّة الجميع بإحضاره من تكفّل عنه ، وهو من عليه الحقّ.

فرع : يكره التعرّض للكفالات ، لروايات تدلّ على الكراهة :

منها : ما عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري قال : أبطأت عن الحجّ فقال لي أبو عبد اللّه علیه السلام : « ما أبطأ بك عن الحجّ؟ » فقلت : جعلت فداك تكفّلت برجل فخفر بي فقال : « مالك والكفالات ، أما علمت أنّها أهلكت القرون الأولى. ثمَّ قال : إنّ قوما أذنبوا ذنوبا كثيرة فأشفقوا منها وخافوا خوفا شديدا ، فجاء آخرون فقالوا : ذنوبكم علينا فأنزل اللّه عزّ وجلّ عليهم العذاب ، ثمَّ قال اللّه تبارك وتعالى خافوني

ص: 172

واجترأتم عليّ » (1).

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : « الكفالة خسارة غرامة ندامة » (2).

ومنها : ما عن داود الرقي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « مكتوب في التوراة كفالة ندامة غرامة » (3).

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 173


1- « الكافي » ج 5 ، ص 103 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 154 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 1.
2- تقدّم تخريجه في ص 161 ، رقم (1).
3- تقدّم تخريجه في ص 161 ، رقم (2).

ص: 174

58 - قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء

اشارة

ص: 175

ص: 176

قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « الشفعة جائزة في كل شي ء من حيوان أو أرض أو متاع ». وفيها جهات من البحث.

الجهة الأولى : في شرح ألفاظ هذه القاعدة ، وبيان المراد منها

فنقول : الشفعة لغة جاءت بمعنيين :

أحدهما : الزيادة. قال في القاموس (1) : ومنه قوله تعالى ( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً ) (2) أي من يزد عملا إلى عمله.

والثاني : هي الزوجية مقابل الفرديّة والوتر. وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد.

وعند الفقهاء حقّ تملّك أحد الشريكين حصّة الآخر بعد أن باع ذلك الآخر بنفس الثمن الذي وقع عليه عقد البيع قهرا على المشتري. والشفيع هو الذي له هذا الحقّ.

قال ابن الأثير في النهاية : يقال له الشفيع لأنّه يضمّ المبيع إلى ملكه ، فيشفعه به

ص: 177


1- « القاموس المحيط » ج 3 ، ص 65 ( شفع ).
2- النساء (4) : 85.

كأنّه كان واحدا وترا فصار زوجا شفعا أي من حصّة نفسه وحصّة شريكه الذي أخذها بذلك الحقّ الذي جعله الشارع له (1).

وأمّا كونها جائزة ، أي : نافذة تترتّب آثار الملكيّة على ما أخذه الشفيع بالشفعة. وأمّا باقي ألفاظ القاعدة فمعلومة لا يحتاج إلى الشرح والإيضاح.

وقال في تعريفها في الشرائع : وهي استحقاق أحد الشريكين حصّة شريكه بسبب انتقالها بالبيع (2).

وقال في القواعد : وهي استحقاق الشريك انتزاع حصّة شريكه المنتقلة عنه بالبيع (3).

وقال في الدروس : حقّ ملك قهري يثبت بالبيع لشريكه (4).

وأنت خبير أنّ هذه التعاريف كلّها مئالها ومرجعها إلى معنى واحد ، وليس الاختلاف إلاّ في التعابير ، والمراد والمقصود من الجميع واحد.

الجهة الثانية : في مدركها وبيان الدليل عليها

فنقول :

الأوّل : الإجماع. قال المرتضى قدس سره : وممّا انفردت الإماميّة إثباتهم حقّ الشفعة في كلّ شي ء من المبيعات من عقار وضيعة ومتاع وعروض وحيوان كلّ ذلك ممّا يحتمل القسمة أو لا يحتملها. ثمَّ قال قدس سره : دليلنا على صحّة مذهبنا إجماع الإماميّة على

ص: 178


1- « النهاية » ج 2 ، ص 485.
2- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 253.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 208.
4- « الدروس » ج 3 ، ص 355.

ذلك ، فإنّهم لا يختلفون فيه (1).

ومن تتبّع كلمات فقهاء الطائفة وأقوالهم لا يبقى له ريب في حصول مثل هذا الإجماع ، وإن كان بينهم خلاف في بعض فروع المسألة وبعض قيودها وشروطها.

الثاني : السنة. فأمّا من طريق الجمهور فما رووه عنه صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة في كل شي ء » (2).

وأيضا قال صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة فيما لم يقسم » (3).

وأمّا عن طريق أهل البيت علیهم السلام ما رواه يونس ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « الشفعة جائزة في كلّ شي ء ، من حيوان أو أرض أو متاع » (4).

وما رواه عقبة بن خالد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا أرّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة » (5).

الثالث : عموم التعليل في قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار ». فهذا التعليل لقضائه بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن عامّ يأتي في جميع أو أكثر الأشياء المشتركة بين الشخصين ، سواء كانت من الأراضي أو المساكن أو كانت من الحيوان أو الأمتعة أو غيرها. وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى في الموارد التي وقع البحث في الاستثناء

ص: 179


1- « الانتصار » ص 215.
2- « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 835 ، كتاب الشفعة ، ح 2497 و 2499 ، « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 475 ، ح 2 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 98 ، أبواب كتاب الشفعة ، باب 3 ، ح 7.
3- « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 413 ، ح 1383.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 8 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 79 ، باب الشفعة ، ح 3377 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 319 ، أبواب الشفعة ، باب 5 ، ح 3.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 727 ، باب الشفعة ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 319 ، أبواب الشفعة ، باب 5 ، ح 1.

عن هذه القاعدة الكليّة.

الجهة الثالثة : في شروط هذه القاعدة ، والموارد التي وقع البحث في ثبوت حقّ الشفعة فيها

فممّا وقع البحث في شرطيّته كون المال المشترك قابلا للقسمة ، فما لا تقبل القسمة لا يأتي فيه حقّ الشفعة.

وما لا يمكن تقسيمه إمّا من جهة تلفه بالمرّة ، كالعبد والأمّة ، وكلّ حيوان ليس بعد موته له ماليّة من ناحية لحمه وجلده وسائر أجزائه - وإن كان قابلا للتذكية وذكّي كالهرّة مثلا بناء على كونها ملكا - وكالأدوات والأمتعة التي بعد كسرها وتقطيعها للتقسيم لا تبقى لها ماليّة أصلا ، كالأواني المصوغة من الخزف أو البلور أو الشيشة أو الفرفوري وأمثال ذلك.

أو لا يمكن تقسيمها لنقص في ماليّتها ، كالأحجار الكريمة مثل ألماس والياقوت أو الفيروزج وأمثالها ممّا يصغر بالتقسيم ، فتنقص ماليّتها إلى حدّ كبير. مثلا كان المشاع حجرا كريما كالياقوت أو ألماس ربما يكون قيمته قبل التقسيم آلاف من الدنانير ، ولكن بعد التقسيم تنزل إلى العشرات ، وهكذا في سائر الموارد ، إذ المراد من التقسيم أن يكون قابلا للتقسيم الخارجي بحيث تكون حصّة كلّ واحد مفصلة من الآخر.

وعلى كلّ حال يقال للمذكورات وأمثالها إنّها ليست قابلة للقسمة ، فلا تأتي فيها الشفعة إن قلنا باعتبار هذا الشرط.

والكلام في اعتبار هذا الشرط والدليل عليه :

فقد يقال بأنّ الشفعة خلاف الأصل ، لأنّها عبارة عن ثبوت حقّ في مال الغير

ص: 180

ينقله إلى نفسه ، والأصل عدمه ، فإذا شكّ في أنّه هل للشفيع مثل هذا الحقّ في المال المشترك الذي ليس قابلا للقسمة ، فمقتضى الأصل عدمه.

وفيه : أنّه لا مجال لجريان هذا الأصل مع إطلاقات أدلّة الشفعة - كما تقدّم - في ما رواه يونس ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « الشفعة جائزة في كلّ شي ء ، من حيوان أو أرض أو متاع » الحديث. وإطلاقات آخر قريب بهذا المضمون من طرق العامّة والخاصّة. وقد تقدم بعضها في بيان مدرك هذه القاعدة من قوله صلی اللّه علیه و آله فيما رواه الجمهور عنه صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة في كلّ شي ء ».

وخلاصة الكلام : أنّه مع وجود هذه العمومات والإطلاقات ، لا يبقى مجال للاستدلال بأصالة عدم ثبوت هذا الحقّ.

وأمّا التمسّك لهذا الشرط برواية السكوني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا شفعة في سفينة ، ولا في نهر ، ولا في طريق - وزاد الصدوق : - ولا في رحى ، ولا في حمام » (1). وببعض الروايات الأخر في نفي الشفعة (2).

ففيه : مضافا إلى معارضتها في الحيوان - بوجود رواية بثبوتها فيه وفي النهر والطريق ، أيضا لم يأخذ بها جمع كثير وقالوا بثبوتها فيهما ، خصوصا فيما إذا كانا قابلين للقسمة. ومع إمكان التقسيم في بعض المذكورات - أنّه لا يصحّ إثبات شرطيّة قابليّة المال المشترك للتقسيم لثبوت الشفعة بنفي الشفعة في بعض مصاديق ما ليس بقابل للتقسيم ، لأنّه يكون من إثبات حكم كلّى ، لعنوان عامّ بثبوته في بعض مصاديقه ، وهذا من أردء أقسام الاستدلال بالاستقراء ، لأنّه ثبت في محلّه عدم حجيّة استقراء التامّ فضلا عن مثل هذا الاستقراء الناقص.

ص: 181


1- « الكافي » ج 5 ، ص 282 ، باب الشفعة ، ح 11 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3374 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 738 ، باب الشفعة ، ح 15 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 118 ، ح 420 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 8 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 8.

وما ذكره في جامع المقاصد (1) من عدم القول بالفصل لا يفيد في تخصيص العمومات وتقييد المطلقات ، كما هو ظاهر.

وأمّا ما ذكره بعض من التعدّي من نفيها في هذه المذكورات إلى نفيها عن جميع ما هو ليس بقابل للقسمة.

ففيه : أنّه لا بدّ وأن يكون هذا التعدّي لوحدة المناط والملاك في الجميع ، وأنّى للمدّعي بإثبات ذلك. فهذا التعدّي عن المذكورات في الرواية إلى غيرها ممّا يماثلها في عدم قابليّتها للقسمة تعدّ عن الحقّ.

فظهر أنّه لا دليل على هذا الشرط.

ثمَّ إنّه قلنا إنّ في الحيوان روايتان متعارضتان ، جواز الشفعة في إحديهما وعدمها في الأخرى ، فيتساقطان ولا يمكن تخصيص العمومات والإطلاقات به. وكذلك في سائر ما ورد الجواز والنفي فيه كما أنّه ورد في الطريق ذلك النفي والإثبات (2).

هذا ، مضافا إلى ما ورد (3) من جواز الشفعة في العبد المملوك إذا بيع الذي هو مساو من هذه الجهة مع سائر الحيوانات ، أي عدم كونه قابلا للقسمة ، مضافا إلى أنّه مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين - في الحيوان المثبت والنافي فيه - حمل النافي على الكراهة في إعمال هذا الحقّ فيه ، فيرتفع التعارض من البين. وبعد هذا الحمل لا يبقى مجال لتخصيص العمومات به.

وممّا قيل باشتراطه في ثبوت الشفعة أن لا يكون المال المشاع من المنقولات وإن كان قابلا للقسمة ، كما لو كان مثلا صندوقا من الشاي مشتركا بين اثنين ، فباع

ص: 182


1- « جامع المقاصد » ج 6 ، ص 344.
2- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 8.
3- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 320 ، أبواب الشفعة ، باب 7.

أحدهما حصّته من شخص آخر غير شريكه ، فلا شفعة لشريكه على المشتري ، لأنّه من المنقول وإن كان قابلا للقسمة.

ولو كان هذا الشرط صحيحا يضيّق دائرة الشفعة في كثير من الأمتعة وأثاث البيت ، فإنّ كثيرا منها من المنقول.

وعلى كلّ قال جماعة من القدماء كالشيخين في المقنعة (1) ، والنهاية (2) ، والصدوقين (3) ، والمرتضى (4) ، بعدم الاشتراط وثبوت الشفعة في المنقول وغير المنقول.

ومستندهم في ذلك العمومات والإطلاقات الواردة في المقام أنّها جائزة في كلّ شي ء من أرض أو حيوان أو متاع ، ولا دليل يخصّص هذه العمومات أو يقيّد هذه الإطلاقات.

ولا نسمع دعوى ضعف السند في العمومات وأنّه ليس هناك رواية تدلّ على أنّها في كلّ شي ء إلاّ رواية يونس ، وهي مرسلة ولا يصحّ بها إثبات حكم مخالف للأصول ، لأنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت حقّ الغير على مال المالك والانتزاع منه قهرا ، لأنّ الشفعة في الحقيقة غصب جائز من قبل الشارع ، فهي خلاف الأصل. وقد قال صاحب الجواهر في أوّل كتاب الشفعة أنّ المصنف وسائر الفقهاء ذكروا الشفعة متّصلا بكتاب الغصب تنبيها على أنّها كالمستثنى من حرمة أخذ مال الغير قهرا للسنّة المتواترة (5) وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّها خلاف الأصل.

والجواب عن جميع ما ذكر : هو أنّه أوّلا ليست العمومات والإطلاقات منحصرة برواية يونس المرسلة ، بل رواها الجمهور أيضا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وثانيا يونس

ص: 183


1- « المقنعة » ص 618.
2- « النهاية » ص 423.
3- « المقنع » ص 135 ، « الفقهية » وحكاه عن والد الصدوق في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 348.
4- « الانتصار » ص 215.
5- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 237.

وثّقوه ، ومثل هذا الشخص لا ينقل ولا يروي إلاّ عن الثقات ، خصوصا إذا كانت الواسطة بينه وبين الإمام علیه السلام بعض رجاله بإضافة الرجال إلى نفسه.

وعلى كلّ حال عمل القدماء وشيوخ الطائفة كالشيخين والصدوقين والمرتضى - قدّس اللّه أسرارهم - ممّا يوجب الوثوق بل الاطمئنان بصحّة الرواية.

وأمّا قضيّة أنّ الشفعة خلاف الأصل وإن كانت صحيحة ، لكنّها محكومة بالعمومات والإطلاقات ، فلا يبقى مجال لجريانه معها.

ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا فروعا كثيرة ، وبحثوا فيها عن ثبوت حقّ الشفعة فيها أم لا ، كالدولاب والناعورة إذا بيعت مع الأرض التي هي فيها. وأمّا لو بيعت منفردة فلا كلام عندهم في عدم ثبوت الشفعة فيها ، لأنّها من المنقولات.

قال في الشرائع : أمّا الشجر والنخل والأبنية فتثبت فيه الشفعة تبعا للأرض. ولو أفرد بالبيع نزل على القولين (1) ، أي جواز البيع في المنقول وعدم جوازه.

ولكن قد عرفت أنّ هذه الأبحاث لا وجه لها بعد ما بيّنّا من ثبوت الشفعة في المنقول وغير المنقول ، وما يقبل القسمة وما لا يقبل.

وممّا وقع البحث والكلام فيه اشتراط ثبوت حقّ الشفعة لأحد الشريكين بأن يكون انتقال حصّة الآخر إلى غيره بالبيع ، فلو وهب الشريك حصّته لشخص ، أو صالحها مع شخص ، أو جعلها مهرا أو عوض الخلع ، أو بغير ذلك من النواقل الشرعيّة غير البيع ، فلا شفعة لشريكه.

والدليل على هذا الشرط هو الإجماع أوّلا. ولا ينافيه مخالفة ابن الجنيد (2). وقال في المبسوط (3) في وجه اشتراط ثبوت الشفعة بهذا الشرط : إنّ عليه إجماع الطائفة

ص: 184


1- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 253.
2- حكاه عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 359.
3- « المبسوط » ج 3 ، ص 111.

وأخبارهم. وقال بعدم ثبوته في الصداق لأجل ذلك.

وذكر في الجواهر (1) قول الصادق علیه السلام : « الشفعة في البيوع » (2) فتدلّ هذه الرواية على انحصار ثبوت الشفعة في البيوع ، بناء على صحّة قاعدتهم المقررة من أنّ المبتدأ المعرّف بالألف واللام محصور في الخبر ، كقولهم : الكرم في العرب ، والحكمة في اليونان. فمفهوم الحصر في هذه الرواية يدلّ على عدم ثبوت الشفعة في غير البيع.

وكذلك تدلّ صحيحة أبي بصير ، عن الصادق علیه السلام أيضا في خصوص الصداق سألته عن رجل تزوّج امرأة على بيت في دار ، وله في تلك الدار شركاء؟ قال : « جائز له ولها ، ولا شفعة لأحد من الشركاء عليها » (3).

ولكن يمكن أن يكون نفي الشفعة هاهنا من جهة تعدّد الشركاء ، لا من جهة عدم كونها في البيع بل الانتقال في الصداق.

وكذلك يمكن التمسّك لاشتراط كون الانتقال من الشريك بالبيع لا بالنواقل الآخر بما قاله علیه السلام في رواية يونس المتقدّمة « فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحقّ به من غيره » فرتّب علیه السلام أحقّية الشريك على بيع شريكه ، فيدلّ على أنّ أحقّية الشريك في صورة كون الانتقال بالبيع ، لا بناقل آخر.

ولكن أنت خبير بأنّ ذكر البيع من باب أحد النواقل ، واختصاص الذكر به لأنّه هو الغالب في النواقل عند أهل العرف. واحتمال هذا المعنى يكفي في عدم ظهوره في اختصاص كون الناقل هو البيع في ثبوت هذا الحقّ.

فالعمدة في إثبات هذا الشرط هو الإجماع وقوله علیه السلام : « الشفعة في البيوع ».

ص: 185


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 226.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 728 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 2 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 83 ، باب الشفعة ، ح 3380 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 742 ، باب الشفعة ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 325 ، أبواب الشفعة ، باب 11 ، ح 2.

ومن شرائط ثبوت هذا الحقّ للشريك : أن يكون المبيع مشاعا مع الشفيع حال البيع.

والوجه في هذا الشرط واضح للروايات المتقدّمة في أنّه « لا شفعة إلاّ للشريكين ما لم يتقاسما » (1).

وفي رواية أخرى : « لا شفعة إلاّ لشريك غير مقاسم » (2).

وفي رواية أخرى : « الشفعة لكلّ شريك لم يقاسم » (3).

وفي رواية أخرى وهي رواية أبي العبّاس ورواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، جميعا قالا : سمعنا أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « الشفعة لا تكون إلاّ لشريك لم يقاسم » (4). فهذه الروايات تدل دلالة واضحة على أنّ ثبوت حقّ الشفعة مشروط بأن يكون المبيع مشاعا مع الشفيع حال البيع.

نعم وردت روايات في ثبوت هذا الحقّ وإن لم يكن المبيع مشاعا مع الشفيع ، وكان بعد القسمة إذا بقيت الشركة في الطريق إلى المبيع وبيع معه فكانت الشركة والإشاعة باقية في بعض المبيع وهو الطريق إليه.

منها : رواية منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : عن دار فيها دور وطريقهم واحد في عرصة الدار ، فباع بعضهم منزله من رجل ، هل لشركائه في الطريق

ص: 186


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 729 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3372 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 737 ، باب الشفعة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 1 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 317 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 282 ، باب الشفعة ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 317 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 6.

أن يأخذوا بالشفعة؟ فقال علیه السلام : « إن كان باع الدار وحول بابها إلى طريق غير ذلك فلا شفعة لهم ، وإن باع الطريق مع الدار فلهم الشفعة » (1).

منها : أيضا ما رواه منصور بن حازم قال : قلنا لأبي عبد اللّه علیه السلام : دار بين قوم اقتسموها ، فأخذ كلّ واحد منهم قطعة وبناها ، وتركوا بينهم ساحة فيها ممرّهم ، فجاء رجل فاشترى نصيب بعضهم إله ذلك؟ قال : « نعم ولكن يسدّ بابه ويفتح بابا إلى الطريق أو ينزل من فوق البيت ويسدّ بابه فإن أراد صاحب الطريق بيعه فإنّهم أحقّ به ، وإلاّ فهو طريقه يجي ء حتّى يجلس ذلك الباب » (2).

ولكن ظاهر هاتين الروايتين ثبوت حقّ الشفعة مع تعدّد الشركاء ، وسيأتي أنّه لا يثبت إلاّ مع وحدة الشريك ، ولذا حمله الشيخ (3) في رواية الكاهلي التي هي مثل رواية منصور بن حازم - إلاّ أنّه قال : « أو ينزل من فوق البيت ، فإن أراد شريكهم أن يبيع منقل قدميه فهم أحقّ به ، وإن أراد يجي ء حتّى يقعد على الباب المسدود الذي باعه لم يكن لهم يمنعوه » (4) - على التقيّة ، لأنّهم يقولون بثبوت حقّ الشفعة حتّى مع تعدّد الشركاء وهو حمل حسن.

ثمَّ إنّ مورد هذه الروايات هي الشركة في خصوص طريق الدار ، ولكنّ الأصحاب - قدّس اللّه أسرارهم - أسرّوا لحكم من الاشتراك في الطريق إلى الاشتراك في النهر أو الساقية ، ومن الدار إلى البستان والأراضي ، مع أنّ هذا الحقّ مخالف - كما تقدّم

ص: 187


1- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 165 ، ح 731 ، باب الشفعة ، ح 8 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ح 417 ، باب العدد الذين تثبت بينهم. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 318 ، أبواب الشفعة ، باب 4 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 165 ، ح 732 ، باب الشفعة ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ح 418 ، باب العدد الذين تثبت بينهم. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 318 ، أبواب الشفعة ، باب 4 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 743 ، باب الشفعة ، ح 20 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ح 418 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 319 ، أبواب الشفعة ، باب 4 ، ح 3.
4- « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ذيل ح 418.

- للأصول ، فيحتاج ثبوته في كلّ مورد إلى الدليل خصوصا ، أو شمول العمومات والإطلاقات له.

ففيما نحن فيه إن كان إجماع بثبوته حتّى مع الاشتراك في النهر أو الساقية وحتّى في البساتين والأراضي فهو ، وإلاّ تسرية الحكم من الطريق إلى النهر والساقية ، ومن الدور إلى البساتين والأراضي ، يكون من القياس الباطل.

ومن شرائط ثبوت هذا الحقّ وحدة الشريك ، بمعنى أن لا يكون الشركاء أزيد من الاثنين ، فإذا باع أحدهما فللآخر أن يأخذ المبيع بنفس الثمن الذي بيع به بحقّ الشفعة.

والظاهر أنّ هذا الشرط ممّا انفردت به الإماميّة الاثنى عشريّة ، وأمّا باقي الفقهاء خالفوا في ذلك وقالوا بثبوته حتّى مع تعدّد الشركاء.

قال السيّد المرتضى قدس سره في الانتصار : وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّ الشفعة تجب إذا كانت الشركة بين اثنين ، وإذا زاد العدد على الاثنين فلا شفعة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوجبوا الشفعة بين الشركاء قلّ أو كثر عددهم (1).

فالدليل على هذا الشرط ومدركه هي الأخبار الكثيرة المستفيضة التي تدلّ على اشتراط ثبوت هذا الحقّ بأن تكون الشركة بين اثنين :

منها : رواية عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا تكون الشفعة إلاّ لشريكين ما لم يقاسما ، فإذا صاروا ثلاثة فليس لواحد منهم شفعة » (2).

ومنها : رواية يونس عن بعض رجاله ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن

ص: 188


1- « الانتصار » ، ص 216.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 729 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 116 ، ح 412 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 320 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 1.

الشفعة لمن هي ، وفي أيّ شي ء هي ، ولمن تصلح ، وهل تكون في الحيوان شفعة وكيف هي؟ فقال علیه السلام : « الشفعة جائزة في كلّ شي ء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشي ء بين شريكين لا غيرهما ، فباع أحدهما نصيبه ، فشريكه أحقّ به من غيره. وإن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحد منهم » (1).

ومنها : رواية الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال في المملوك يكون بين شركاء ، فيبيع أحدهم نصيبه فيقول صاحبه : أنا أحقّ به ، إله ذلك؟ قال : « نعم إذا كان واحدا » قيل له : في الحيوان شفعة؟ قال : « لا » (2).

ومنها : رواية صفوان ، عن عبد اللّه بن سنان قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : « المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه ، فقال أحدهم : أنا أحقّ به ، إله ذلك؟ قال : « نعم إذا كان واحدا » (3).

ومنها : رواية عبد اللّه بن سنان أنّه سأله عن مملوك بين شركاء أراد أحدهم بيع نصيبه ، قال : « يبيعه ». قلت : فإنّهما كانا اثنين فأراد أحدهما بيع نصيبه ، فلمّا أقدم على البيع قال له شريكه : أعطني؟ قال : « هو أحقّ به ». ثمَّ قال علیه السلام : « لا شفعة في الحيوان إلاّ أن يكون الشريك فيه رقبة واحدة » (4).

وهذه الأخبار صريحة في عدم ثبوت حقّ الشفعة للشركاء إذا كانوا أزيد

ص: 189


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 8 ، « الفقهية » ج 3 ، ص 79 ، باب الشفعة ، ح 3377 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 730 ، باب الشفعة ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 116 ، ح 413 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 321 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 210 ، باب الشراء الرقيق ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 735 ، باب الشفعة ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 116 ، ح 415 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 321 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 165 ، ح 734 ، باب الشفعة ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 321 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 4.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 80 ، باب الشفعة ، ح 3378 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 7.

من الاثنين.

واستدلّ بعضهم على اشتراط ثبوت هذا الحقّ بأن لا يكون الشركاء أزيد من الاثنين بالإجماع.

وأنت خبير بأنّه مع وجود هذه الأخبار الصحيحة الصريحة ، لا يبقى مجال للتمسّك بالإجماع ، ولا حجّية لمثل هذا الإجماع.

ومن شروط ثبوت هذا الحقّ مطالبة الشفيع به فورا ، لما روى عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « الشفعة لمن واثبها ». (1) أي : طفر وانقضّ عليها ، ولا شكّ في أنّ الوثوب إلى الشي ء يستفاد منه التعجيل أكثر من الإسراع إليه ، فهذه عبارة أخرى عن الطلب والأخذ به فورا. ومفهوم هذا الكلام عدمها لمن لا يثبت إليها.

ولأنّ الشفعة خلاف الأصل ، لأنّها عبارة عن السلطنة على مال الغير ، والقدر المتيقّن ممّا دلّ الدليل على ثبوته هي المطالبة على الفور. وأمّا إذا تأخّر الأخذ والطلب فثبوته خلاف الأصل ، فيحتاج إلى دليل يدلّ على التراخي مفقود في المقام.

بل يستفاد من رواية عليّ بن مهزيار قال : سألت أبا جعفر الثاني علیه السلام عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها ، أيبيعها أو ينتظر مجي ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال ، وإلاّ فليبع وبطلت شفعته في الأرض. وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر ، فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه وإلاّ فلا شفعة له » (2).

ص: 190


1- « نيل الأوطار » ج 6 ، ص 87 ، فائدة من الأحاديث الواردة في الشفعة.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 739 ، باب الشفعة ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 324 ، أبواب الشفعة ، باب 10 ، ح 1.

فإنّه علیه السلام حكم ببطلان الشفعة بعد مضيّ ثلاثة أيّام أخّرها للعذر ، فلو كان حقّ الشفعة لا على الفور لما كان يبطل بالتأخير أزيد من مقدار الفور عذرا.

وقد روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أيضا : « الشفعة كحلّ العقال » (1). وإن صحّ الخبر دلّ على جواز التراخي بكناية لطيفة ، وهي أنّه كما أنّ حلّ العقال ملزوم وسبب عادي للحركة بعد ما لم يكن قادرا عليها ، كذلك الشفيع لو لم تكن الشفعة لم يكن قادرا في عالم التشريع على التصرّف في حصّة شريكه ، والشفعة صارت سببا لقدرته على ذلك فورا عرفيا ، فيستظهر منه عدم جواز تأخير إعمال هذا الحقّ ، بل يجب الأخذ به من غير تراخ زائدا على المتعارف في المشي إلى حاجاته المتعارفة.

نعم لا يجب عليه رفع اليد عن جميع حوائجه والاشتغال بأخذ المشاع من المشتري والتصرّف فيه ، كلّ ذلك لأجل حجّية ظواهر الكلام والفهم العرفي منه ، الذي هو المناط عند العقلاء في تشخيص مراد المتكلّم من كلامه.

فبعض التفاصيل في الكتب الفقهيّة المفصّلة من عدم لزوم الفوريّة الدقيّة لا يحتاج إليه ، بل يحال إلى العرف. كما أنّ الأمر كذلك في جميع موارد اعتبار الفوريّة ، مثلا إن قلنا بأنّ خيار الغبن فوريّ ، ففوريّة إعماله يكون بنظر العرف وما يفهمون منه ، لا بالدقّة العقليّة.

ثمَّ إنّه بناء على الفوريّة ، فهل يعتبر في صدق الأخذ حضور الشفيع عند المشتري ومواجهته وإخباره عن تملّكه ما اشتراه من شريكه ، بل ومضافا إلى هذا إعطاء الثمن له ، أم يكفي إنشاء التملك عند نفسه ، غاية الأمر للإثبات يشهد عدلين على أنّه تملّك ، وإلاّ لو صدّقه المشتري في أنّه تملّك عند نفسه لا يحتاج إلى أيّ شي ء؟

ص: 191


1- « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 108 ، كتاب الشفعة ، باب رواية ألفاظ منكرة... ، « سنن ابن ماجه » ج 1. ص 835 ، باب طلب الشفعة ، ح 2500 ، « كنز العمال » ج 7 ، ص 4 ، كتاب الشفعة ، ح 6 1768.

الظاهر أنّ الأخذ في عالم الثبوت عبارة عن نفس إنشاء التملّك قولا أو فعلا ، نعم لا بد وأن يكون بنحو لا يوجب ضررا على المشتري ، فيجب إخباره فورا كي لا يحدث في المشاع الذي اشتراه ما يوجب ضرره لو أخذ بالشفعة ، من بناء أو زرع أو غرس أو غير ذلك.

ومن جملة شرائط ثبوت الشفعة أن يكون الشفيع قادرا على أداء الثمن الذي أعطاه المشترى لصاحب الشقص المبيع. والوجه فيه واضح ، لأنّه مضافا إلى الإجماع لو لم يكن قادرا على أداء الثمن يلزم تضرّر المشتري والشفعة شرّعت لدفع الضرر عن الشفيع ، فكيف يمكن أن يكون سببا لضرر شخص آخر ، وهل هذا إلاّ من الكرّ إلى ما فرّ منه.

ثمَّ إنّ المراد من القدرة وعدم العجز عن أداء الثمن عند الأخذ بالشفعة ليس هي القدرة الفعليّة وبدون تأخير في البين أصلا ، بحيث يكون الشفيع في نفس زمان الأخذ كان الثمن حاضرا عنده في المجلس ، لأنّه لو كان المراد هذا يلزم بطلان هذا الحقّ في كثير من الموارد لعدم قدرة أغلب من يأخذ بحقّ الشفعة بمثل ذلك ، ويكون الثمن حاضرا أو في كيسه موجودا.

هذا ، مضافا إلى رواية عليّ بن مهزيار المتقدّمة (1) التي كان فيها إمهال ثلاثة أيّام إن كان في المصر الذي يكون المشتري فيه ، وإمهال مدّة المسافرة ذهابا وإيابا لو ادّعى وجوده في بلد آخر ، وإمهال ثلاثة أيّام فوق مدّة المسافرة أيضا.

فالظاهر من هذه الرواية أنّ المعتبر هي القدرة العرفيّة التي لا تنافي العجز الفعلي ، فالتي تكون شرطا هي القدرة في الجملة وعدم العجز المطلق ، لا عدم العجز مطلقا.

وقد يقال : إنّ من جملة شرائط ثبوت هذا الحقّ أن لا يكون الشفيع ما بيده

ص: 192


1- تقدّمت في ص 190 ، رقم (2).

وحصّته وقفا ، فلو باع صاحب الشقص المطلق ليس بصاحب الوقف المالك له - أي الموقوف عليه - الأخذ بالشفعة ، وذلك لانصراف أدلّة الشفعة عن مثل هذا الملك وإن قلنا بملكيّة الوقف للموقوف عليه فإنّ ظاهرها كون ملك الشفيعين على نهج واحد ، لا أن يكون أحدهما ملكا طلقا يجوز لمالكه جميع التصرّفات الناقلة وغيرها ، والآخر ممنوع عن تلك التصرّفات.

وادّعى الشيخ قدس سره (1) نفي الخلاف عن عدم جواز الأخذ بالشفعة لمالك الوقف. وعلّل في الشرائع (2) عدم الجواز بأنّه ليس مالكا له على الخصوص وإن كان واحدا حال البيع ، ضرورة قصد الواقف تمليك الموقوف عليهم في سائر الطبقات أيضا ، ولذا يتلقّون جميع الطبقات عن الواقف ، لا أنّ اللاحقة تتلقّى من السابقة.

والشفيع الذي له حقّ الأخذ بالشفعة في أدلّة جواز الأخذ منصرف عن هذا القسم من المالك ، وظاهر في كونه مالكا غير محدود ملكيّته بحال حياته ، ولذا لا يجوز له الانتفاع بأزيد من حال حياته ، فمنافع الوقف في الأزمنة المتأخّرة عن حياة الموقوف عليه لا يكون ملكا له. بل وكذلك لو باع - مالك الحصّة التي هي وقف - بأحد مجوّزات بيع الوقف لا شفعة لصاحب الطلق الذي شريك مع الوقف ، لأنّ ظاهر أدلّة الشفعة أنّ هذا الحقّ مجعول للشفيع الذي ملكه طلق إذا باع الآخر الذي أيضا ملكه طلق ، وحيث أنّ الشفعة خلاف الأصل - كما تقدّم - فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن ، إذ ليس في الأدلّة إطلاق من هذه الجهة كي نأخذ به ويرفع به الشكّ.

فما ذكره بعض من التفصيل بين الصورتين - بعدم هذا الحقّ لو كان الموقوف عليه هو الشفيع ، وثبوته له لو كان الشفيع هو صاحب الملك المطلق - لا أساس له ، لاتّحاد الدليل في كلتاهما ، وهو انصراف أدلّة الشفعة.

ص: 193


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 145.
2- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 254.

وأمّا دعوى الإجماع على ثبوت مطلقا ، أو في ما إذا كان الشفيع هو المالك المطلق ، فلا وجه له مع مخالفة كثير من الأعاظم 5.

ومن شرائط ثبوت هذا الحقّ أن لا يكون الشفيع الأخذ بالحقّ ذمّيا إذا كان المشتري ومن عليه الحقّ مسلما ، لأنّه سبيل للذمّي على المشتري المسلم ، ولن يجعل اللّه للكافرين على المسلمين سبيلا.

والمناقشات في هذا الأمر وإن كانت كثيرة ، ولكن الإنصاف أنّها ليست بشي ء.

نعم لو كان المشتري هو الذمّي والآخذ بالشفعة كان مسلما أو ذمّيا ، فالحقّ ثابت بلا إشكال. نعم على المسلم الأخذ بتمام حصّة الذمّي بتمام الثمن الذي اشترى به ، فليس له الأخذ ببعض ما اشترى ببعض الثمن بدون رضاء ذلك الذمّي ، لكونه ضررا ، وعموم لا ضرر أو إطلاقه ينفيه.

وقد تقدّم أنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت هذا الحقّ إلاّ بالقدر الذي جاء الدليل على ثبوته ، وما هو مفاد الأدلّة أنّ الشفيع أحقّ بما بيع من المشتري الأجنبي ، وأمّا التبعيض في الأخذ بهذا الحقّ فهو شي ء آخر يحتاج إلى دليل آخر ولا إطلاق لتلك الأدلّة يشمل صورة التبعيض في الأخذ ، لأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

وأمّا القول بأنّ حقّ التبعيض من آثار نفس السلطنة على الأخذ.

ففيه : أنّه أيضا من آثار إطلاق هذه السلطنة كي يشمل جميع الأخذ تماما أو بعضا بتمام الثمن ، أو بعضه ببعضه ، وليست الأدلّة في مقام البيان من هذه الجهة.

مضافا إلى أنّ حقّ الشفعة عند العرف عبارة عن أنّ الشفيع أحقّ من المشتري الأجنبي بهذه المعاملة الواقعة في الخارج ، ومعلوم أنّ المعاملة الواقعة انتقال تمام المال المشترك إلى المشتري بتمام الثمن ، فالتبعيض أمر زائد ثبوته يحتاج إلى دليل ، وليس هاهنا دليل آخر في البين. فظهر ممّا ذكرنا أنّ الشفيع مطلقا ، مسلما كان أو كافرا ، ليس

ص: 194

له حقّ التبعيض في الأخذ إلاّ برضا المشتري.

فرع : بعد ما كان الشفيع واجدا لشرائط ثبوت هذا الحقّ وثبت له ، لو ادّعى غيبة الثمن أجّل ثلاثة أيام إن كان المال في مصره.

وذلك لما في رواية عليّ بن مهزيار قال : سألت أبا جعفر الثاني علیه السلام عن رجل طلب شفعة أرض فذهب عنّي أن يحضر المال فلم ينص ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها ، أيبيعها أو ينتظر مجي ء ، شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال وإلاّ فليبع وبطلت شفعة في الأرض. وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر ، فينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف ، وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه وإلاّ فلا شفعة له » (1).

وظاهر هذه الرواية أنّ المهلة في إحضار الثمن للمشتري ثلاثة أيّام ، وكأنّه هذا المقدار من التأخير في الأخذ بالشفعة يسامح فيه ، ولا ينافي لزوم فوريّة الأخذ بإعطاء الثمن للمشتري وتمليك المبيع من المشتري ، ولذلك قال علیه السلام فيما إذا كان المال في بلد آخر : « فينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ».

فهذه الثلاثة أيّام هي الإمهال في باب إعطاء الشفيع الثمن للمشتري ، وأمّا مقدار المسافرة إلى بلد المال وجلب المال إلى بلد الذي محلّ المشتري ليس إلاّ لتحصيل المال لا الإمهال. وبناء على هذا لو كان المال حاضرا عنده ومع ذلك أخّر الإعطاء ثلاثة أيّام يكون له ذلك ، فلا بدّ وأن يكون حكما تعبّديا من الشرع.

ومن الممكن أن تكون ثلاثة أيّام في المصر لأجل التحصيل أيضا ، ويكون

ص: 195


1- تقدّم تخريجه في ص 190 ، رقم (2).

التحصيل إذا كان المال في بلد آخر فوق ثلاثة أيّام ممّا يحتاج إلى المسافرة والذهاب والإياب ، وعليه فلو كان المال حاضرا عنده لا يجوز التأخير أصلا ولا إمهال في البين ، وهذا مقتضى مراعاة الحقّين : حقّ الشفيع ، وحقّ المشتري بالمطالبة بماله.

ولكن فيه : أنّ ظاهر الرواية جواز تأخيره الإعطاء بعد ما قدم ثلاثة أيّام ، فلا يمكن أن يكون إمهالا للتحصيل.

إلاّ أن يقال : إنّ هذه الثلاثة أيّام بعد القدوم من السفر أيضا لأجل تنظيم أموره ، فإنّ المسافر ربما تختلّ بعض أموره ، فلذلك أوجب عليه الوفاء بعد ثلاثة أيّام ، وإلاّ فلا إمهال في البين إن كان المال حاضرا عنده ولا يحتاج إلى التحصيل وإلى المسافرة ، ويجب الموافاة فورا.

نعم المراد من الفور هي الفوريّة العرفيّة بدون مماطلة.

ثمَّ إنّ شمول إطلاق المسافرة لما إذا طالت لبعد ذلك البلد أو لجهة أخرى ، بحيث يتضرّر المشتري بهذا التأخير ، مشكل جدّا ، بل الظاهر سقوط حقّه. وادّعى في الغنية إجماع الطائفة على سقوط هذا الحقّ في تلك الصورة.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّم من أنّ ثبوت هذا الحقّ مخالف للأصل وعمومات سلطنة المالك على ماله ، مع عدم كون عمومات الشفعة في مقام البيان من هذه الجهات ، فليس لها إطلاق يرفع الشك.

فرع : ويثبت هذا الحقّ للغائب كما يثبت للحاضر في بلد البيع. وادّعى الإجماع على ذلك في الخلاف (1) والتذكرة (2). ويظهر من الغنية أيضا نفي الخلاف من

ص: 196


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 431 ، المسألة : 5.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 595.

ثبوته للمسافر إذا قدم من غيبته (1).

ويدلّ عليه مضافا إلى عمومات الشفعة ، ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام : وصيّ اليتيم بمنزلة أبيه ، يأخذ له الشفعة إذا كان له رغبة ، وقال : للغائب شفعة » (2).

وضعف سند الرواية منجبر بهذه الإجماعات التي حكيناها.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه ينافي الفوريّة التي اعتبرناها في مطالبة هذا الحقّ وإلاّ يسقط.

ففيه : أنّ اشتراط الفوريّة في مطالبة هذا الحقّ فيما إذا لم يكن له عذر في التأخير ، وأمّا فيما إذا كان معذورا لغياب أو حبس أو لجهة أخرى فلا إشكال في التأخير.

والنبويّان المتقدّمان - أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة لمن واثبها ». وقوله صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة كحل العقال » - لا إطلاق لهما بحيث يشملان حال الغياب وعدم الاطّلاع ، بل منصرفان عن مثل حال السفر والحبس وغير ذلك من حالات العجز عن الأخذ بهذا الحقّ.

وأمّا الإشكال عليه بلزوم الضرر على المشتري ، خصوصا إذا طال الغياب ، كالمسجون لمدّة طويلة ، أو المسافر الذي يطول سفره كذلك ، أو غيرهما.

ففيه : أنّ المال في هذه المدّة الطويلة المفروضة قبل الأخذ ماله وتحت تصرّفه ويقلّبه كيف ما يشاء ، فأيّ ضرر يتوجّه عليه.

نعم لو قلنا بأنّ الغائب في حال غيابه لو اطّلع على بيع شريكه حصّته من

ص: 197


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 591.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3375 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 737 ، باب الشفعة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 320 ، أبواب الشفعة ، باب 6 ، ح 2.

شخص ، يجوز له الأخذ بالشفعة بإنشائه تملّك حصّة شريكه من دون حضور نفسه ، ومع ذلك طال غيابه فلم يعط في هذه المدّة الطويلة الثمن لذلك المشتري ، فالمشتري يده فارغة عن كليهما جميعا ، أي عمّا اشتراه وعن ثمنه ، فيتضرّر لأنّه ربما يترتّب على خلوّ يده عن الاثنين إضرار ، كما هو واضح.

لكن هذا المعنى غير صحيح ، لعدم جواز الأخذ ما لم يحضر بصرف إنشاء تملّكه للمبيع. وقد تقدّم أنّ الأخذ فوريّ ، وإلاّ فيسقط هذا الحقّ بالتأخير إلاّ بالمقدار الذي أذن الشارع أي ثلاثة أيّام إن كان الثمن في نفس المصر الذي يأخذ الشفيع بحقّ الشفعة ، وإن كان في بلد آخر فبالمقدار الذي يسافر إليه وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ هذا الحقّ يثبت للغائب مثل الحاضر ، غاية الأمر حيث أنّ الأخذ به فوريّ وإلاّ فيسقط ، فإن لم يأخذ الغائب بحقّه زائدا على المقدار الذي أذن له في التأخير يسقط ذلك الحقّ ، لا أنّه ليس له الحقّ أصلا ، بل لو كان قادرا على الأخذ بنفسه أو بتوسّط وكيله وأخّر ولم يأخذ يسقط حقّه.

وأمّا إذا لم يكن قادرا إمّا من جهة غيبته وعدم علمه ، وإمّا من جهة عدم الوسيلة لإبلاغ المشتري بأخذه الشفعة ، أو غير ذلك من الجهات ، فهل يسقط حقّه بالتأخير أم لا؟ الظاهر عدم سقوطه في هذه الصورة ، لأنّه جعله اللّه له ولا يقدر على إعماله ، ومثل هذا لا يوجب سقوط الحقّ.

وأمّا القول بأنّ ثبوت هذا الحقّ على مال الغير مدّة طويلة ضرر عليه ، فقد أجبنا عنه ، فلا يبقى وجه للسقوط.

وقال في الغنية : فيستحقّ الشفعة من علم بالبيع بعد السنين المتطاولة بلا خلاف وإن كان حاضرا في البلد ، وكذلك حكم المسافر إذا قدم من غيبته. (1)

ويظهر من عبارته دعوى الإجماع على ثبوت الشفعة للغائب ولو علم بالبيع بعد

ص: 198


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 591.

السنين المتطاولة.

فرع : الشفيع يأخذ المال المشاع بعد تحقّق البيع بنفس الثمن الذي وقع عليه العقد ، فإن كان مثليّا فبمثله ، وإن كان قيميّا فيجب عليه الوفاء بقيمته ، وليس له المطالبة بأقل من قيمته أوّلا ، لرواية الغنوي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الشفعة في الدور أشي ء واجب للشريك ويعرض على الجار فهو أحقّ بها من غيره؟ فقال علیه السلام : « الشفعة في البيوع إذا كان شريكا فهو أحقّ بها بالثمن » (1).

وظاهر الرواية أنّ أحقّيته من غيره فيما إذا كان أخذه بالثمن ، وظاهر هذا الكلام هو أنّ أخذه يكون بإعطاء مصداق من طبيعة الثمن ، وذلك من جهة أنّ الغالب في أبواب البيوع بل وفي غيرها كون العوض كلّيّا ، غاية الأمر في البيع يسمّى ثمنا ، وفي الإجارة أجرة ، وفي الجعالة جعلا ، وهكذا.

فإن كان الثمن مثليّا فلا إشكال ، لأنّه يأخذ بمثل ما جعل المشتري بإعطاء مصداق من الكلّي بل بنفس الكلّي ، لأنّه في الخارج في مقام الأداء والوفاء لا بدّ أن يتشخّص ، وإلاّ فهو هو.

وأمّا إذا كان الثمن من القيميّات فأخذه بنفس الثمن لا يمكن ، فلا بدّ وأن يكون بقيمته. ولعلّه لذلك منع جماعة ثبوت الشفعة إذا كان الثمن من القيميّات ، لأنّه لا يمكن أخذها بالثمن.

وربما يؤيّد هذا القول ما رواه على بن رئاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل اشترى دارا برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال علیه السلام : « ليس لأحد فيها شفعة » (2).

ص: 199


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 728 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 2 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 80 ، باب الشفعة ، ح 3379 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 740 ، باب الشفعة ، ح 17 ، « قرب الاسناد » ص 77 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 324 ، أبواب الشفعة ، باب 11 ، ح 1.

وما رواه أبو بصير ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجل تزوّج امرأة على بيت في دار له ، وله في تلك الدار شركاء ، قال علیه السلام : « جائز له ولها ، ولا شفعة لأحد من الشركاء عليها » (1).

فرواية على بن رئاب ظاهرة في أنّ الثمن إذا كان ممّا ذكر وهي من القيميّات فلا شفعة ، فتدلّ على عدم الشفعة في القيميّات ولكن مع إلقاء الخصوصيّات في المذكورات وحملها على المثال. ولا يخلو من تأمّل.

وأمّا رواية أبو بصير فدلالتها على عدم الشفعة في القيميّات غير ظاهرة ، لأنّه من المحتمل القريب أن يكون نفي الشفعة فيها من جهة تعدّد الشركاء وكونهم أكثر من اثنين ، بل ظاهرها بل صريحها أنّ له في تلك الدار شركاء ، فمع نفسه لا بدّ وأن يكونوا أكثر من اثنين ، وقدم تقدّم اشتراط ثبوت الشفعة بأن لا يكون الشركاء أزيد من الاثنين.

فالإنصاف شمول عمومات الشفعة لما إذا كان الثمن من القيميّات أيضا ، غاية الأمر إذا كان من القيميّات يجب عليه دفع قيمته للمشتري.

وأمّا تعيين القيمة فالأمر كما هو في سائر القيميّات من تعيين أهل الخبرة ، فلا إشكال في البين.

وأمّا كون الثمن من باب المعاملات - خصوصا في البيوع الذي هو الآن محلّ الكلام - غالبا بالنقدين وهما من المثليّات ، فلا بدّ من القول بأنّ حقّ الشفعة لا يثبت إلاّ في المثليّات.

ففيه : أنّ كون الثمن غالبا من المثليّات لا يخرج اللفظ عن الظهور في معناه الحقيقي الذي هو أوسع من المثليّات ، لأنّ لفظ « الثمن » ظاهر في باب البيع فيما يجعل عوضا عن

ص: 200


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 83 ، باب الشفعة ، ح 3380 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 742 ، باب الشفعة ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 325 ، أبواب الشفعة ، باب 11 ، ح 2.

المبيع ، سواء كان من المثليّات أو كان من القيميّات ، فالإنصاف ثبوت الشفعة مطلقا فيما اجتمع شرائطها ، سواء كان الثمن من المثليّات أو القيميّات.

فرع : ومن الواضح أنّ مورد حقّ الشفعة هو الأخذ به من المشتري بعد وقوع البيع وصحّته وانتقال حصّة البائع إلى المشتري ، فالشفيع يتلقّى المال من المشتري ، ولذلك ينتقل الثمن من الشفيع إلى المشتري لا إلى البائع.

وإن شئت قلت : إنّ البيع الأوّل ثمَّ وصار المال المشاع ملكا للمشتري ، ومنه ينتقل بجعل إلهي إلى الشفيع ، ولكن لا مجّانا بل بإزاء مثل الثمن الذي أعطاه للبائع ، أو قيمته إن كان الثمن الذي أعطاه قيميّا ، فيكون دركه على المشتري ، لأنّ النقل والانتقال وقع بين المشتري والبائع ، وليس الأخذ بالشفعة من قبيل فسخ العقد الواقع بين البائع والمشتري كي يرجع المال المشاع إلى صاحبه الأوّل الذي كان شريكا مع البائع ، فيكون إعمال حقّ الشفعة بمنزلة وقوع بيع جديد بين الشفيع والبائع الذي كان شريكا معه قبل البيع الأوّل.

نعم الأخذ بالشفعة ليس بيعا جديدا بين الشفيع والمشتري ، ولذلك قلنا إنّه بمنزلة بيع جديد في حصول النقل والانتقال بينهما ، ولذلك لا يترتّب عليه أحكام البيع الجديد ، فلو تلف قبل قبض الشفيع وبعد الأخذ بالشفعة كانهدام الدار بسيل جارف أو موت الحيوان بآفة سماويّة أو غير ذلك ، فليس تلفه من مال المشتري من باب قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه » فلا يضمن المشتري شيئا منه.

أمّا عدم جريان القاعدة في حقّ المشتري فلأنّه ليس بائعا على الفرض. وأمّا ضمان اليد فلا يأتي ، لأنّ يده ليست يد ضمان بل أمانة ، إلاّ أن يطالبه الشفيع وهو لا يعطيه فتكون يده يد ضمان أو يكون بإتلافه وتفريطه ، فتخرج بذلك عن كونها أمانيّة فيضمن.

ص: 201

نعم لو بقيت عند المشتري بتفريطه منه ، كان ضامنا لنقصها بقواعد باب الضمان وقاعدة الإتلاف ، لأنّ المال بعد الأخذ بالشفعة يكون ملكا للشفيع ، والمشتري أورد عليه النقص فيكون ضامنا لذلك النقص ، فللشفيع الأرش. ولو كان بيعا وكان البائع هو المشتري لكان تلفا قبل القبض وكان مجرى قاعدة التلف قبل القبض ، وكان الشفيع مستحقّا لتمام الثمن على تقدير انفساخ البيع أو بعضه إن كان الانفساخ في مقدار التلف ، وعلى كلا التقديرين لم يكن أرش في البين.

وأمّا لو ظهر أنّ المال مستحقّ للغير فيرجع الشفيع إلى المشتري بأخذ الثمن منه ، لأنّه أخذ ما لا يستحقّ. فلو ظهر بعد الأخذ بالشفعة أنّ المالك الذي كان شريكا للشفيع وهب هذا المال لشخص بالهبة اللازمة ، ثمَّ باعها من شخص آخر عمدا أو جهلا والشفيع أخذ بالشفعة وأعطى الثمن لهذا المشتري ثمَّ ظهر أنّ البيع باطل والمال للموهوب له ، فمن الواضح المعلوم أنّ الشفيع يرجع إلى المشتري ويستردّ ما أعطاه.

فمعنى درك المال على المشتري ، أي كلّ نقص أو تلف بتفريط حصل في المال يكون ضمانه على المشتري لا على البائع. وإن شئت قلت : إنّ معنى درك هذا الشي ء على فلان ، أي تدارك ما نقص منه عليه ، وعليه أن يغرم.

فرع : لو تلف بعض المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة فهل يسقط حقّ الشفيع بالمرّة ، أم له الأخذ بالباقي بتمام الثمن أو ببعضه بنسبة الباقي إلى تمام المبيع فلو كان الباقي نصف المبيع مثلا فبنصف الثمن وهكذا؟ وجوه وأقوال.

والأقوى هو الأخير بحسب القواعد ، لتعلّق الحقّ بالمال المشاع المبيع بتمام الثمن ، فكلّ جزء من المبيع بإزاء جزء ما يقابله من الثمن ، فكما أنّ في باب تبعّض الصفقة ينحلّ العقد إلى عقود متعدّدة باعتبار كلّ جزء من المبيع بما يقابله من الثمن ، فيقال بصحّة المعاملة بالنسبة إلى المقدار الذي يملكه من المبيع أو المقدار الذي قابل للملكيّة

ص: 202

والبطلان فيما عداه ، فكذلك هاهنا يقال للشفيع الأخذ بالمقدار الباقي من المبيع بما يقابله من الثمن.

فلا وجه لأن يقال له الأخذ بتمام الثمن ، لأنّ تمام الثمن كان عوض تمام المال المبيع ، لا عوض بعضه. ولا شكّ في أنّ الأخذ بالشفعة وإن لم يكن بيعا عرفا وشرعا ولكن هو بمنزلة البيع ومن المعاوضات ، والمعاوضة فيه تقع بين تمام المال وتمام الثمن وهي متضمّنة لوقوع كلّ جزء من المبيع بإزاء جزء من الثمن إن لم يكن بين الأجزاء امتياز ، وإلاّ يقسّط الثمن على الأجزاء بنسبة قيمة كلّ جزء إلى قيمة المجموع ، لا بنسبة مقداره إلى المقدار المجموع.

فلو بقي الحقّ بعد تلف بعض المبيع كما هو المفروض مع أنّه من المعاوضات ، فلا مناص إلاّ أن يقال بأنّ له حقّ الأخذ بالباقي بما يقابله من الثمن لا بتمام الثمن ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون تلف بعض المبيع بفعل المشتري أو بآفة سماويّة.

نعم لو كان التلف بفعل المشتري وكان بعد المطالبة التي هي الأخذ ، فيجب على الشفيع إعطاء جميع الثمن لأنّه بنفس الأخذ صار ملكا للشفيع بإزاء تمام الثمن ، ويستحقّ الشفيع على المشتري بدل التالف من مثله أو قيمته على قواعد باب الضمان ، ولكن هذه الصورة خارجة عن الفروض ومحلّ الكلام.

وأمّا القول بسقوط الحقّ بالمرّة ، فغاية ما يمكن أن يقال في وجهه أنّ الحقّ تعلّق بمجموع المبيع الشخصي ، والمفروض أنّه لم يبق لتلف بعضه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام ظاهري ، إذ الحقّ وإن تعلّق بمجموع هذا المال الشخصي ولكن كلّ جزء منه صار متعلّقا لهذا الحقّ في ضمن صيرورة تمامه متعلّقا له ، فإذا تلف بعض أجزائه يبقى الباقي تحت تعلّقه ، لعدم الدليل على سقوطه في سائر الأجزاء.

وهذا الأمر الاعتباري الذي نسمّيه بالحقّ نظير الأعراض الخارجيّة ، فإنّه إذا

ص: 203

كان هناك ثوب أبيض فتلفت قطعة منه ، فبانعدام تلك القطعة قهرا ينعدم البياض الذي كان حالاّ فيها لعدم بقاء معروضه ، وأمّا بياض سائر القطعات الباقية فلا وجه لانعدامه لعدم فناء موضوعه ، ومع الشكّ في سقوط هذا الحقّ عن الباقي كان الحكم هو البقاء بمقتضى الاستصحاب. وقد فصّلنا صحّة جريان هذا الاستصحاب في نظائر المقام في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

ولكن ذهب المشهور إلى تخييره بين أخذ الباقي بتمام الثمن أو تركه فيما إذا كان التلف بآفة سماويّة ، أو كان قبل المطالبة بالشفعة وإن كان بفعل المشتري ، بل ادّعى في الغنية الإجماع على ذلك. (2) وما ذكرنا كان ما تقتضيه القواعد.

ولكن عقد في الوسائل (3) بابا لتلف بعض المبيع قبل أن يأخذ بالشفعة ، ولم يذكر فيه إلاّ ما رواه عليّ بن محبوب عن رجل قال : كتبت إلى الفقيه علیه السلام في رجل اشترى من رجل نصف دار مشاع غير مقسوم ، وكان شريكه الذي له النصف الآخر غائبا ، فلمّا قبضها وتحوّل عنها تهدّمت الدار وجاء سيل جارف فهدمها وذهب بها ، فجاء شريكه الغائب فطلب الشفعة من هذا فأعطاه الشفعة على أن يعطيه ماله كملا الذي نقد في ثمنها ، فقال له : ضع عنّي قيمة البناء فإنّ البناء قد تهدّم وذهب به السيل ، ما الذي يجب في ذلك؟ فوقّع علیه السلام : « ليس له إلاّ الشراء والبيع الأوّل إن شاء اللّه » (4).

وظاهر هذه الرواية سقوط حقّ الشفعة في مورد تلف بعض المبيع بآفة سماويّة لقوله علیه السلام « ليس له إلاّ الشراء » أي ليس للشفيع إلاّ الشراء كسائر الأجانب ، لا الأخذ بالشفعة ، والبيع هو الأوّل أي بيع المالك للنصف المشاع لذلك المشتري الأجنبي ، أي

ص: 204


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 452.
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 591.
3- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 323 ، أبواب الشفعة ، باب 9.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 192 ، ح 850 ، باب في الشركة والمضاربة ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 323 ، أبواب الشفعة ، باب 9 ، ح 1.

يجب ترتيب آثار البيع على ذلك البيع الأوّل ، ومعنى هذا سقوط حقّ الشفيع وعدم جواز أخذه بالشفعة.

فرع : لو باع الشفيع الذي له الأخذ بالشفعة سهمه بعد البيع ، أي بعد تحقّق موضوع هذا الحقّ إذ موضوعه بيع أحد الشريكين سهمه المشاع في مال لشخص ثالث أجنبي من هذا المال بثمن ، فشريك البائع أحقّ بالمبيع بنفس ذلك الثمن من ذلك المشتري الأجنبي عن هذا المال ، فله الأخذ بالشفعة.

فالكلام في هذا الفرع هو أنّ هذا الشريك لو باع حصّته بعد أن باع صاحبه سهمه وتحقّق موضوع الأخذ بالشفعة له ، فلم يأخذ وباع سهمه ، فهل بيعه هذا موجب لسقوط حقّه مطلقا سواء كان عالما بالبيع وأنّ له حقّ الأخذ أو لم يكن ، أم لا يكون موجبا للسقوط مطلقا ، أو التفصيل بين العلم والجهل بالقول بالسقوط في الأوّل - لأنّ إقدامه بالبيع مع علمه بأنّ له هذا الحقّ كاشف عن عدم اعتنائه بهذا الحقّ وإعراضه وإسقاطه - والثبوت في الثاني لأنّ هذا حقّ جعل الشارع له ، ولمّا كان ذو الحقّ جاهلا به لم يعلمه فلا وجه لسقوطه ، فهو باق إلى ما بعد بيعه ، فله الأخذ. وإن شكّ في بقائه يحكم ببقائه ، للاستصحاب؟

والإنصاف أنّ الحقّ عدم سقوط مطلقا ، لأنّ سقوط الحقّ بعد ثبوته يحتاج إلى مسقط في مقام الثبوت ودليل عليه في مقام الإثبات ، وأقصى ما يمكن أن يقال هو ما ذكرنا في مقام الدليل على التفصيل أنّ العالم بوجود هذا الحقّ لو باع سهمه يكون دليلا على إعراضه عن هذا الحقّ وإسقاطه وعدم اعتنائه بهذا المال.

ولكن أنت خبير بعدم تماميّة هذا الوجه ، إذ أغراض العقلاء تختلف لوجوه عندهم ، مثلا ربما يكون بيعه من ذلك الشخص لحبّه أن يكون شريكا معه لأغراض عقلائيّة ، فيبيع حصّته منه ويأخذ النصف الآخر مثلا بالشفعة فيكون شريكا معه ،

ص: 205

فليس بيعه لإعراضه عن هذا المال وعدم اعتنائه به كي يكون ظاهرا في إسقاط حقّه كما توهّم.

واستدلّ لسقوطه مطلقا بأمرين :

أحدهما : أنّ هذا الحقّ جعل لأجل رفع الضرر عن الشريك ، وفي المقام لا مورد له ، لأنّ المفروض أنّه باع حصّته فلا شركة حال الأخذ بالشفعة كي يكون الأخذ دافعا للضرر.

وفيه : أنّ ما ذكر من كون جعلها لأجل دفع الضرر ليس من قبيل العلّة كي يكون الحكم دائرا مداره ، بل على تقدير تسليمه يكون من قبيل الحكمة غير المطّردة.

الثاني : ظهور قوله علیه السلام : « لا شفعة إلاّ لشريك غير مقاسم » (1) في كونه شريكا غير مقاسم حال الأخذ ، وفي المقام ليس شريكا حال الأخذ ، وكونه شريكا حال البيع الصادر من شريكه لذلك المشتري الأجنبي لا يكفي.

وفيه : أنّ الظاهر من أدلّة الشفعة كفاية كونه شريكا حال المبيع الأوّل الصادر من شريكه ، ولا يلزم بقاء شركته إلى زمان الأخذ بالشفعة ، وذلك لأنّ أدلّة الشفعة في مقام بيان ثبوت هذا الحقّ ، أي حقّ الأخذ لا الأخذ خارجا ، ولا شكّ في أنّ في المقام في حال ثبوت حقّ الأخذ كان الشفيع شريكا والبيع وقع بعد ذلك.

فرع : وقع الخلاف في أنّ حقّ الشفعة هل يورث أم لا؟

فقال المفيد والمرتضى أنّها تورث (2). ووافقهما جميع كثير من الأساطين ، منهم

ص: 206


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3372 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 737 ، باب الشفعة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 2.
2- « المقنعة » ص 619 ، « الانتصار » ص 217.

العلاّمة (1) ، وجامع المقاصد (2) ، والشهيدان ، وابن إدريس (3) قدس سره بل ادّعى الإجماع على ذلك بعض الأعاظم. وقال الشيخ قدس سره في النهاية (4) وتبعه جمع : أنّها لا تورث.

والمختار هو الأوّل ، لعموم المرسلة المرويّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ما تركه الميّت من حقّ فهو لوارثه » ، ولا شكّ في أنّ الشفعة من الحقوق ، فتشملها عمومات أدلّة الإرث.

وما ذكره الشيخ من أنّها لا تورث مستند إلى ما رواه طلحة بن زيد ، عن جعفر ، عن أبيه علیهماالسلام ، عن عليّ علیه السلام قال : « لا شفعة لشريك غير مقاسم ». وقال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا يشفع في الحدود ». وقال صلی اللّه علیه و آله : « لا تورث الشفعة » (5).

لكن هذه الرواية حيث أنّ راويها طلحة بن زيد وهو عاميّ لا يعتمد عليه ، فليس مثل هذه الرواية قابلة لتخصيص عمومات الإرث بعد ما ثبت كونها من الحقوق لأنّها قابلة للإسقاط وقبول الإسقاط من أظهر خواصّ الحقّ ، فإذا ثبت أنّ الشفعة حقّ ، وثبت أنّ كلّ حقّ مثل المال فهو لوارث الميّت ويشملها عمومات الإرث ، فالإنصاف أنّ تخصيص تلك العمومات بمثل هذه الرواية الضعيفة خارج عن الجمع العرفي.

نعم الذي ينبغي أن يقال : إنّ طلحة بن زيد وإن كان عاميّا - كما ذكره أصحاب الرجال في كتبهم (6) - إلاّ أنّهم وثّقوه ، فلا مانع من تخصيص عمومات الإرث بها. ولكن العمدة في وجه عدم صلاحيّتها لتخصيص العمومات بها إعراض الأصحاب عنها وعدم العمل بها ، فعلى تقدير حجّيتها في نفسها تسقط حجّيتها بواسطة إعراض

ص: 207


1- « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 367.
2- « جامع المقاصد » ج 6 ، ص 447.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 392.
4- « النهاية » ص 425.
5- « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3373 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 741 ، باب الشفعة ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 325 ، أبواب الشفعة ، باب 12 ، ح 1.
6- « النجاشي » ص 207 ، رقم 550 ، « الفهرست » ص 86 ، رقم 362.

الأصحاب عنها وعدم العمل بها.

هذا إذا قلنا بأنّ راويها ثقة كما اعترف بذلك جمع من أرباب الكتب الرجالية (1) وأمّا إن قلنا بضعف الرواية في حدّ نفسها فالأمر أوضح ، لعدم جبر ضعفها بعمل الأصحاب ، لأنّ الأكثر أعرضوا عنها ولم يعملوا بها ، حتّى أنّ الشيخ نفسه الذي عمل بها في النهاية عدل عنها في الخلاف (2) وعلى كلّ حال لا تصلح لتخصيص العمومات بها.

ثمَّ إنّه بعد الفراغ عن أنّها تورث تكون كالأموال ، تقسّط على الورثة بنسبة نصيب كلّ واحد منهم لا على الرؤوس ، فللذكر مثل حظّ الاثنين ، وللزوجة الثمن أو الربع ، ولأبويه لكلّ واحد منهما السدس ، على التفصيل المذكور في باب المواريث.

ثمَّ إنّ البحث الذي يأتي في باب إرث الخيار - من أنّ لكلّ واحد من الورثة خيار مستقل ، أو خيار واحد قائم بالمجموع ، أو يقسّط عليهم الخيار بنسبة نصيبهم من العوضين - يأتي هاهنا لأنّهما من واد واحد وهو أنّه هل الحقّ الواحد قائم بالمجموع ، أم لكلّ وأحد من الورثة حقّ تمام مستقلّ ، لأنّ الحقّ بسيط لا يتبعّض ، أم يتبعّض بينهم بنسبة نصيب كلّ واحد منهم من الإرث. وحيث أنّ المسألة مفصّلة ذكرناها في باب الإرث تبعا للشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (3) فنترك هاهنا ، ومن أراد فليراجع إلى هناك.

فرع : لا تبطل الشفعة بتقايل المتبايعين ، لأنّه بمحض تحقّق البيع يثبت هذا الحقّ ، فسقوطه يحتاج إلى مسقط ، وليست الإقالة من مسقطات هذا الحقّ.

ص: 208


1- « جامع الرواة » ج 1 ، ص 421.
2- « الخلاف » ج 3 ، ص 436 ، المسألة : 12.
3- « المكاسب » ص 290.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ معنى الشفعة أنّ الشفيع يتلقّى الملك من المشتري ، أي ينقل الملك من المشتري إلى الشفيع بالأخذ ، وهاهنا بعد الإقالة يرجع المال إلى البائع ، فلا بدّ بناء على عدم البطلان من تلقّي الملك من البائع.

وفيه : أنّه بناء على عدم سقوط حقّ الشفعة بتقايل المتبايعين كما ذكرنا ، فللشفيع فسخ الإقالة وردّها ، كما أنّ المشتري لو باع المال أو وقفه أو وهبه لذي الرحم أو جعله مسجدا فللشفيع إزالة جميع ذلك ، لتعلّق حقّه بالمال بمحض بيع شريكه ، فتصرّفات المشتري تكون في ملكه المتعلّق لحقّ الغير وهو شفيع البائع ، فإن رضي الشفيع بهذه التصرّفات تكون نافذة ويسقط الحقّ ، وإلاّ له فسخ التصرّفات التي منها الإقالة ، فلا يبقى إشكال في البين.

فرع : إذا كان المال المشاع الذي تعلّقت به الشفعة عينا واحدة ، فليس للشفيع التبعيض في الأخذ بأن يأخذ مثلا نصفه بالشفعة أو كسرا آخر من كسورة ، لعدم إطلاق أدلّة الشفعة تشمل هذا النحو من الأخذ ، ومقتضى الأصل عدم ثبوت هذا القسم من الأخذ والتسلّط على مال الغير. والقدر المسلّم الخارج عن هذا الأصل بدليل الشفعة هو أخذ تمام المبيع من المشتري بتمام الثمن ، فقوله علیه السلام : « فهو أحقّ بها بالثمن » (1) ظاهر في الأخذ بتمامها بالثمن الذي أعطاه أو أنشأ البيع به ، وليس في مقام بيان أنحاء الأخذ كي يتمسّك بإطلاقه.

نعم لو كان المال المشاع المبيع عينان أو أزيد ولو في صفقة واحدة ، فيجوز له أخذ البعض والعفو عن البعض ، لتعلّق حقّه بكلّ واحد منها ، فله إعماله في البعض دون البعض.

ولو ظهر الثمن مستحقّا للغير ، فإن كان ذلك الثمن عينا بطل البيع ، فلا بيع فلا

ص: 209


1- تقدّم ذكره في رواية الغنوي ، ص 199 ، رقم (2).

شفعة. وأمّا لو كان كليّا فالبيع صحيح والحقّ ثابت ، غاية الأمر ذمّة المشتري مشغولة بالثمن فيجب عليه الأداء.

وأمّا إن كان الثمن الذي أعطاه الشفيع للمشتري مستحقّا للغير ، فأخذه يكون كالعدم ، لأنّه ليس له الأخذ إلاّ بالثمن الذي له ، لا أن يكون للغير لكن حقّه لا يبطل وهو باق ، فله أن يعطى ثمنا مملوكا له فيكون أخذه صحيحا شرعا ويملك المأخوذ ، إلاّ أن يطول إعطاؤه للثمن المملوك ، فينافي فوريّة الأخذ فيسقط حقّه.

ولو ظهر في المبيع عيب بعد أخذه فلا يستحقّ الشفيع إلاّ أخذه بنفس الثمن الذي اشتراه بذلك الثمن ، وأمّا أرش العيب فلا حتّى أنّ الأرش الذي أخذه المشتري من البائع لا يستحقّه الشفيع ما تقدّم من أنّ الأخذ بالشفعة ليس ببيع أخذ الأرش من أحكام المبيع إذا كان معيبا. وظاهر أدلّة الشفعة أنّ له أخذ المبيع بالثمن الذي وقع العقد عليه سواء كان المبيع صحيحا أو معيبا ، نعم لو كان جاهلا بالعيب فله الخيار من باب لا ضرر ، وليس له شي ء آخر.

ولو كانت الأرض التي صارت متعلّقة لحقّ الشفعة مشغولة بزرع بوجه شرعي ، وكان لصاحب الزرع استحقاق بقاء زرعه إلى مدّة مثلا إلى وقت حصاده ، فالظاهر أنّ الشفيع مخيّر بين الأخذ في الحال غاية الأمر مشغولة بذلك الزرع إلى أمده مجّانا وبلا عوض ، وبين أن يصبر إلى وقت حصاده وبعد الحصاد يأخذ.

والإشكال بأنّه ينافي الفوريّة المعتبرة في الأخذ بالشفعة ، فلا يصحّ الصبر والتأخير.

فيه : أنّ تأخير الأخذ إن كان لعذر فلا ينافي الفوريّة ، والظاهر أنّ مشغوليّة الأرض بزرع الغير عذر موجّه ، مضافا إلى أنّ الأصل عدم سقوط هذا الحقّ بمثل هذا التأخير.

ص: 210

فرع : لو اشترى المال المشاع بثمن مؤجّلا فأراد الشفيع الأخذ بالشفعة ، فهل عليه أن يأخذه بذلك الثمن معجّلا ، أم به مؤجّلا مثل المشتري غاية الأمر إذا خاف عدم تمكّنه عن الإيفاء حين الأجل يلزم بكفيل ، أم مخيّر بين أخذه كذلك في الحال وبين التأخير بأخذه إلى وقت الأجل؟ وجوه وأقوال.

والظاهر أنّ الشفيع له أن يأخذ بالثمن معجّلا ، لأنّه في كلّ دين مؤجّل للمديون أن يعجّل في أدائه ، ويصدق عليه في المقام أنّه - أي الشفيع - أحقّ به بالثمن ، لأنّ كونه معجّلا أو مؤجّلا لا يغيّران حقيقة الثمن ، ولكن ليس ملزما بذلك ، فهو مخيّر بين أن يأخذه كذلك أو يصبر إلى الأجل فيعطي الثمن ويأخذ إن لم ينافي التأخير فوريّة الأخذ المعتبرة في الأخذ بالشفعة بواسطة كونه معذورا من جهة استنكافه عن الكفيل لمنافاته لشرفه واعتباره. وأمّا لو كان منافيا مع الفوريّة المعتبرة في الأخذ بالشفعة ، فلا بدّ له من أحد أمرين : إمّا أن يعطى الثمن معجّلا أو يأخذ بالثمن المؤجّل ، ولكن مع الكفيل إن لم يكن مليا وخاف المشتري ذهاب ثمن الذي أعطاه للبائع.

فرع : لو باع الشريك سهمه المشاع الذي لم يقاسم في مرض موته محاباة - أي بأقلّ من قيمته - عمدا مع العلم بأنّه يساوي أكثر ، خصوصا إذا كان الفرق كثيرا كأن باع ما يساوي ألف دينار بمائة درهم ، فبناء على نفوذ تصرّفات المريض في ذلك المرض من الأصل إذا كان من المنجزات فلا إشكال. وأمّا بناء على عدم نفوذها في الأزيد من الثلث وإن كان من المنجّزات ، فإذا لم يكن أزيد من الثلث فأيضا لا إشكال ، وأمّا إن كان أزيد فالبيع في الزائد ليس صحيحا ، فلا شفعة ، لأنّ هذا الحقّ متفرّع على صحّته.

فرع : ربما يقال باعتبار علم الشفيع بمقدار الثمن قبل الأخذ بالشفعة ، لأجل

ص: 211

لزوم رفع الغرر في المعاملات والمعاوضات وبطلان المعاملة الغررية لأنّه صلی اللّه علیه و آله نهى عن الغرر.

وفيه : أنّ المسلّم هو نهيه صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر (1) ، وأمّا النهي عن مطلق الغرر سواء كان في البيع أو في غيره من المعاملات والمعاوضات فلم يثبت ، ومعلوم أنّ الشفعة عنوان آخر وحقّ من الحقوق وليست ببيع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : قد تقدّم أنّ الشفعة خلاف الأصل ، وليس في أدلّتها إطلاق يثبت ثبوت هذا الحقّ في موارد الشكّ في ثبوته ، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهات ، فالأصل عدم ثبوته عند الشكّ ، والقدر المتيقّن ثبوته في صورة علم الشفيع بمقدار الثمن ، ففي صورة الجهل تجري أصالة عدم الثبوت.

وأمّا الاستدلال بلزوم علم الشفيع بمقدار الثمن حين الأخذ بقوله علیه السلام : « فإنّه - أي الشفيع - أحقّ به بالثمن » فلا وجه له ، لأنّه من الممكن أنّه يحصل العلم بالثمن بعد الأخذ في وقت أداء الثمن ، ولا يلزم من هذه العبارة اشتراط صحّة الأخذ بالعلم بمقدار الثمن كما هو المدّعي في المقام ، فالعمدة في المقام هو وجود إطلاق ينفي اعتبار العلم بالثمن ، أو إجماع على ذلك ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدم ثبوت هذا الحقّ إلاّ فيما إذا علم الشفيع بالثمن مقدارا.

فرع : لو تصرّف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة ، وتصرّف المشتري تارة يكون بنقله إلى الغير بالنواقل الشرعيّة من بيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك ، وأخرى بإحداث حدث فيه بغرس أو عمارة أو غير ذلك.

ص: 212


1- « عيون اخبار الرضا علیه السلام » ج 2 ، ص 45 ، ح 168 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 330 ، أبواب آداب التجارة ، باب 40 ، ح 3 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 283 ، أبواب آداب التجارة ، باب 33 ، ح 1 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 254 ، باب في بيع الغرر ، ح 3376 ، « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 349 ، باب 17 ، ح 1248 ، « كنز العمّال » ج 4 ، ص 74 ، ح 9585 و 9586.

أمّا الأوّل : فإن كان النقل بالبيع ، فللشفيع الأخذ عن أيّ واحد منهما ، أو أيّ واحد منهم إذا تعاقبت البيوع عليه ، وله أيضا فسخ البيع الثاني كي يرجع المال إلى البائع الأوّل فيأخذ بحقّه منه.

والوجه في ذلك هو أنّ حقّه أسبق من البيع الثاني والثالث وهكذا ، ومتأخّر عن الأوّل فقط ، لأنّه موضوعه ومتوقّف عليه ، فهذه البيوع كلّها وقع فيما له حقّ الأخذ ، فلزومها وعدم إمكان الأخذ من أيّ واحد منهم أو عدم جواز فسخه وحلّه ينافي حقّ الشفيع ، فهو مخيّر بين فسخها إلى أن يرجع إلى البائع الأوّل فيأخذ منه ، وبين أن يأخذ من أيّ واحد منهم ويستوفي حقّه من هذا المال مع إعطائه الثمن لمن يأخذ منه ، كما هو المنصوص.

وأمّا لو كان النقل بغير البيع ، فليس له الأخذ من المنقول إليه ، لما تقدّم أنّ الشفيع يتلقّى الملك من المشتري لا الموهوب له أو المصالح له أو من أعطى له جعلا أو أجرة دار أو عمله أو غير ذلك ، فإذا أراد الأخذ تعيّن عليه فسخ هذه النواقل كي يرجع المال إلى المشتري الأوّل فيأخذ منه. وأمّا قدرته على فسخ هذه المعاملات ، فلأنّ كلّها صدر عمّن ليس له التصرّف بنحو لا يكون قابلا للفسخ من طرف الشفيع لتنافيها مع الحقّ الموجود للشفيع.

وببيان آخر : للمشتري الأوّل - المالك ملكا طلقا - إيجاد هذه العناوين ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، غاية الأمر للشفيع حقّ الفسخ لعدم ضياع حقّه. وهذا مقتضى الجمع بين الحقوق وحفظ الجميع.

وبعبارة أخرى : مقتضى لا ضرر هو أن يكون للشفيع حقّ الفسخ. وأمّا الأخذ بالشفعة من نفس الموهوب له وسائر هؤلاء فمخالف لما عليه الأصحاب والأدلّة من أنّ الشفيع يتلقّى الملك من نفس المشتري ، لا من البائع أو غيره.

نعم لا فرق في المشتري بين أن يكون هو المشتري الأوّل أو الثاني أو الثالث

ص: 213

وهكذا بصدق المشتري - لما تعلّق به هذا الحقّ - في الجميع ، وشمول قوله علیه السلام : « فإنّه أحقّ به بالثمن » (1) ، للجميع ، فلو ترامى على هذا المال المشاع العقود يكون الشفيع أحقّ به من كلّ مشتر في كلّ واحد من هذه العقود ، ولذلك يجوز له الأخذ من كلّ واحد منهم كما تقدّم.

هذا كلّه فيما إذا كان التصرّف فيه بالنقل ، وأمّا إذا كان التصرّف بإحداث شي ء فيه من غرس أو زرع أو عمارة أو غير ذلك ، وعلى كلّ واحد من التقادير حيث كان تصرّف المشتري في ملكه فكان تصرّفه بحقّ ولم يكن غاصبا وظالما ، فلما أحدث فيه - من عمارة أو غرس أو زرع - احترام لأنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

فيمكن أن يقال : بأنّ هذا من باب تزاحم الحقوق ، لأنّ الشفيع بعد الأخذ بالشفعة وصيرورة الأرض ملكا له حقّ تفريغ أرضه ، وصاحب الغرس مثلا أو الزرع والعمارة له حقّ حفظ ماله عن التلف أو عن ورود نقص وضرر عليه ، فيتزاحم حقّ كلّ واحد من صاحب الأرض وصاحب الغرس مع الآخر. ومقتضى الجمع بين الحقّين هو إمّا بقاء إشغال الأرض بإجارة لا مجّانا ، أو إزالة هذه الأمور لكن مع تدارك ضرر صاحبها من طرف مالك الأرض ، أو اشتراء الأرض من مالكها من طرف صاحب هذه الأمور ، أو اشتراء هذه الأمور من طرف مالك الأرض بالأخذ بالشفعة.

وليس إحداث هذه الأمور من طرف مالك الأرض قبل الأخذ بالشفعة الذي هو المشتري من قبيل الغصب كي يشمله قوله علیه السلام : « ليس لعرق ظالم حقّ » (2) بل هو تصرّف المالك في ملكه بحقّ ، فلا يسقط احترامه بالأخذ بالشفعة في الأرض. نعم ليس لصاحب هذه الأمور إبقائها مجّانا وبلا عوض ، لأنّه إشغال مال الغير ولا يجوز إلاّ برضاه وطيب نفسه ، فيدور الأمر بين أحد ما ذكرناه.

ص: 214


1- تقدّم ذكره في رواية الغنوي ص 199 ، رقم (2).
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 294 ، ح 819 ، باب في الزيادات في القضايا ، ح 26 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 311 ، أبواب الغصب ، باب 3 ، ح 1.

فرع : في التنازع :

[ الفرع ] الأوّل : لو اختلفا في قدر الثمن فقال المشتري : اشتريته بألف ، وقال الشفيع : بخمسمائة مثلا. نسب إلى المشهور أنّ القول قول المشتري ، لأنّ الأصل عدم استحقاق الشفيع للمبيع بأقلّ ممّا يعيّن المشتري من كميّة الثمن.

وذلك من جهة أنّ استحقاق الشفيع للمبيع بنفس الثمن الواقعي ، لقوله علیه السلام « هو - أي الشفيع - أحقّ بالثمن » (1) فإذا شككنا في أنّ الثمن الواقعي ، أي الذي اشتراه المشتري به أيّ مقدار ، فهذا الشكّ يصير سببا للشكّ في استحقاق الشفيع وانتقال المال إليه بأقلّ ممّا يعترف به المشتري ، فالأصل عدم الانتقال وعدم الاستحقاق إلاّ بما يعترف به المشتري.

نعم على المشتري اليمين على نفى الأقلّ من ذلك المقدار على قواعد باب القضاء ، وقد تقدّم في الجزء الثالث من هذا الكتاب قاعدة « كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين » (2).

وبعبارة أخرى : إنّ المشتري ينكر دعوى الشفيع انتقال المال إليه بأقلّ ممّا يعيّن المشتري من الثمن ، وقوله مطابق مع الأصل ، وهذا هو الميزان في باب تشخيص المدّعي والمنكر.

مضافا إلى انطباق الموازين الآخر المذكورة أيضا للمدّعي والمنكر على كون المدّعي في المقام هو الشفيع ، والمنكر هو المشتري. وقد ذكر كلّها في الجواهر (3) في شرح قول المحقّق : « لأنّه الذي ينتزع الشي ء من يده » وشرح هذه الموازين ينجرّ إلى

ص: 215


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 728 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 2 ، ح 1.
2- « القواعد الفقهيّة » ج 3 ، ص 111.
3- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 444.

بحث طويل محلّها كتاب القضاء.

الفرع الثاني : لو كانت لكلّ واحد منهما - أي الشفيع والمشتري - بيّنة على ما يدّعيه من المقدار ، قال الشيخ : يتعارض البيّنتان ويتساقطان ، فيكون المرجع القرعة ، لأنّها لكلّ أمر مشتبه (1).

وفيه : بعد ما عرفت ما ذكرنا من أنّ الأصل يقتضي أن يكون الشفيع مدّعيا والمشتري منكرا ، وبعبارة أخرى : بعد تشخيص المدّعي والمنكر وقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (2) لا يبقى محلّ للتعارض ، لأنّ وظيفة كلّ واحد منهما غير وظيفة الآخر ، فالبيّنة في المقام وظيفة الشفيع ، ووظيفة المشتري ليس إلاّ اليمين ، لأنّ التفصيل قاطع للشركة ، فبيّنة المشتري لا أثر لها لأنّ بيّنته بيّنة الداخل فلا تعارض في البين ، بل إذا كان للشفيع بيّنة على ما يدّعيه من مقدار الثمن يكون القول قوله ولا يمين عليه.

الفرع الثالث : لو ادّعى كلّ واحد من الشريكين الشفعة على الآخر ، بمعنى أنّه يدّعي سبق شرائه على الآخر بعد فرض أنّه ليس غيرهما شريك آخر في هذا المال ، فبناء على هذا يكون للمشتري السابق حقّ الأخذ بالشفعة على اللاحق وأخذ شقصه منه ، فيكون مالكا للتمام.

فقال المحقّق (3) في هذا المقام : الحكم هو التحالف ، لأنّ كلّ واحد منهما مدّع لسبق شرائه ، ومنكر لما يدّعيه الآخر من سبق شرائه ، فيكون الحكم حلف كلّ واحد منهما على نفي ما يدّعيه الآخر إن لم تكن بيّنة لذلك الآخر ، وأمّا إن كانت له بيّنة فيثبت

ص: 216


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 129.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 244 ، ح 172 ، وج 3 ، ص 523 ، ح 22 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، ص 4. وفي « وسائل الشيعة » ج 2. ص 170 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 مع تفاوت يسير.
3- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 268.

دعواه بالبيّنة ، وحينئذ إذا كان للآخر أيضا بيّنة فيكون من تعارض البيّنتين ، ويتساقطان إن لم يكن مرجّح في البين ، فتصل النوبة إلى التحالف وسقوط الدعويين بعد أن حلفا.

الفرع الرابع : لو ادّعى الشفيع على شريكه بانتقال حصّته إليه بالبيع عن شريكه السابق بعد كون الشفيع مالكا للشقص الآخر كي يكون له الأخذ بالشفعة ، وأنكر الشريك ذلك وادّعى انتقاله إليه بسبب آخر غير البيع من إرث أو بعقد آخر غير البيع ، كي لا يكون للشفيع حقّ الشفعة بناء على ما تقدّم من اختصاص حقّ الأخذ بالشفعة بالبيع ، فالقول قول الشريك المنكر انتقاله إليه بالبيع ، لأنّ الأثر مترتب على نفس عدم انتقاله بالبيع ولا يحتاج إلى إثبات انتقاله بالإرث أو بعقد الفلاني الذي هو غير البيع كي يقع التعارض بين الأصول النافية ، فيكون الشفيع مدّعيا والشريك منكرا ، ووظيفة كلّ واحد منهما معلومة على قواعد باب القضاء.

الفرع الخامس : لو صالح الشفيع مع المشتري على سقوط حقّه بعوض كذا ، فلا شكّ في صحّة هذا الصلح وسقوط هذا الحقّ.

ففي مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه. والصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا » (1).

وقوله تعالى في كتابه الكريم ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) ولا شكّ في أنّ الصلح على سقوط حقّ الشفعة ليس ممّا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، ولا شكّ في أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، ولم يجعل الشارع لإسقاط حقّ الشفعة أسبابا خاصّة ، فإذا صالح على إسقاطه يسقط.

الفرع السادس : من حيل ترك الشفيع لهذا الحقّ وعدم أخذه ، هو إيقاع البيع

ص: 217


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 32 ، باب الصلح ، ح 3267 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 171 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، ح 5.
2- النساء (4) : 127.

بأزيد من قيمة مال المشاع الذي للبائع بكثير ، وشرط في متن عقد البيع أن يبذل البائع شيئا من مال للمشتري مجّانا وبدون أن يكون بإزائه شي ء ، وحيث أنّه على الشفيع إعطاء تمام الثمن في مقام الأخذ فيصرفه كثرة الثمن عن الأخذ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 218

59 - قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم

اشارة

ص: 219

ص: 220

قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « الوصيّة حقّ على كلّ مسلم ». وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدرك هذه القاعدة

الأوّل : قوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (1). إلى آخر الآيات.

الثاني : الأخبار الواردة فيها ، فنقول :

منها : ما رواه محمّد بن مسلم قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « الوصيّة حقّ ، وقد أوصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فينبغي للمسلم أن يوصى » (2).

ومنها : ما رواه أبو الصباح الكناني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الوصية؟ فقال : « هي حقّ على كلّ مسلم » (3).

ومنها : أيضا عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما علیهماالسلام أنّه قال : « الوصيّة حقّ على

ص: 221


1- البقرة (2) : 177.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 3 ، باب الوصيّة وما أمر بها ، ح 5 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 181 ، باب في الوصيّة أنّها حقّ على كلّ مسلم ، ح 5412 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 351 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 3 ، باب الوصية وما أمر بها ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 181 ، باب في الوصيّة أنّها حقّ على كل مسلم ، ح 5411 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 172 ، ح 702 ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 351 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 2.

كلّ مسلم » (1).

ومنها : عن زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الوصيّة؟ فقال : « هي حقّ على كلّ مسلم » (2).

ومنها : عن المفيد قدس سره في المقنعة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الوصيّة حقّ على كلّ مسلم » (3) قال : وقال علیه السلام : « من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة » (4) قال : وقال علیه السلام : « ما ينبغي لامرء مسلم أن يبيت ليلة إلاّ ووصيّته تحت رأسه » (5).

قال في الوسائل : والأحاديث الواردة في أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوصى ، وأنّ الأئمّة علیهم السلام أوصوا كثيرة متواترة من طرف العامّة والخاصّة (6).

الجهة الثانية : في شرح ألفاظ هذه القاعدة ، وبيان المراد منها

اشارة

فنقول : الوصية اسم من الإيصاء ، وربما يطلق على الموصى به كما في الكتاب العزيز ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (7) فيقال : هذه وصيّته ، أي ما أوصى به كعتق عبد أو بناء مسجد أو قنطرة أو رباط أو غير ذلك من الخيرات والمبرّات ، وأنواع العبادات من الواجبات والمستحبّات.

ص: 222


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 172 ، ح 701 ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 172 ، ح 703 ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 4.
3- « المقنعة » ص 666 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 6.
4- « المقنعة » ص 666 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 8.
5- « المقنعة » ص 666 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 7.
6- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 8.
7- النساء (4) : 11.

وعرّفها في الشرائع (1) بأنّها تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة. وقريب من هذا التعريف ما ذكره غير واحد من أصحابنا رضوان اللّه تعالى عليهم.

وقال في تعريفه في القواعد : الوصيّة تمليك عين أو منفعة بعد الموت (2). وهكذا غيرهما ، ولكن الوصيّة قسمان : تمليكيّة وعهديّة.

وهذا التعريف ينبغي أن يكون للتمليكيّة ، فأمّا الوصيّة العهديّة فهي عبارة عن أن يعهد إلى شخص أو أشخاص بفعل أمر يجوز له فعله مباشرة أو تسبيبا ، سواء كان ذلك الفعل راجحا أو مباحا بلا رجحان عليهما ، أي على الموصي والوصي ، ويسمّى ذلك الشخص أو الأشخاص بالوصيّ أو الأوصياء.

وإن كانت أركان الوصيّة التمليكيّة أربعة : الوصيّة ، والموصي ، والموصى به ، والموصى له ، وأمّا الوصيّة العهديّة فأركانها ثلاثة : الموصي ، والموصى به ، والوصيّ.

فهاهنا أمور :

الأمر الأوّل : في الوصيّة التمليكيّة

وقد عرفت أنّ أركانها أربعة :

الأوّل : الوصيّة. وقد ذكرنا أنّها اسم من الإيصاء ، وأيضا ذكرنا تعريفه. ويفتقر إلى إيجاب وقبول ، أي هو عقد وكلّ عقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، وإن كان قبولا فعليّا لا قوليّا.

والحاصل : أنّ عقد الوصيّة حالها حال سائر العقود العهديّة من حيث الاحتياج

ص: 223


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 290.

إلى الإيجاب والقبول ، ولا فرق بينه وبين عقد الهبة إلاّ أنّ الهبة تمليك مال أو حقّ لشخص في حال حياته ، وعقد الوصيّة تمليك مال أو حقّ لشخص بعد الموت. هذا ما قاله أكثر الأساطين.

ولكن التحقيق : أنّ الوصيّة العهديّة لا تحتاج إلى القبول ، لأنّه فيها تعهّد إلى إيجاد فعل متعلّق ببدنه كان يدفن في موضع كذا مثلا ، أو بماله مثل أن يحجّ عنه بماله أو يقضى عنه صلواته وصومه الفائتة أو يوقف داره الفلانيّة أو ضيعته أو يبنى مسجدا بماله وأمثال ذلك من الأعمال الراجحة.

نعم لو عيّن شخصا لتنفيذ ما عهد إليه الذي يسمّى بالوصي أو الموصى إليه يمكن أن يقال بالاحتياج إلى قبول ذلك الشخص إن اطّلع على الوصيّة في حال حياة الموصي كي يلزم عليه العمل بما أوصى إليه ، ولكن هذا لو قلنا به يكون من قبول الوصاية لا الوصيّة.

مضافا إلى أنّ الأظهر عدم لزوم قبول الوصي في حال حياة الموصي ، بل يكفي في لزوم عمله وتنفيذه الوصيّة عدم ردّه في حال حياة الموصي وإن لم يقبل ، فبالردّ تبطل لا أنّ القبول شرط.

وأمّا الوصيّة التمليكيّة : فإن كانت تمليكا للنوع ، كالوصيّة للأقارب أو العلماء والسادات والفقراء ، فهي أيضا لا يعتبر فيها القبول كالعهديّة ، والقول بلزوم قبول الحاكم عن قبلهم لا دليل عليه. وأمّا إن كانت تمليكا لشخص أو أشخاص معيّنين ، فالظاهر أنّ حصول الملكيّة لهم موقوف على قبولهم ، لوجوه :

الأوّل : الإجماع والاتّفاق من غير خلاف على أنّه من العقود ، ولا شكّ في أنّ كلّ عقد مركّب من الإيجاب والقبول ، لأنّ المعاقدة والمعاهدة بين شخصين ، فأحدهما يعاهد مع الآخر بتمليك ماله ، غاية الأمر إنّ هذا التمليك والتملّك إذا لم يكن بعوض يدخل في باب العطايا والهبات ، وقد نبّهنا أنّ الوصيّة مثل الهبة ، والفرق بينهما هو أنّ

ص: 224

الهبة تمليك في حال الحياة والوصيّة تمليك بعد الوفاة. وإن كان بعوض يدخل في باب المعاوضات كالبيع والإجارة وغيرهما ، فكما لا ينكر أحد كون تلك المعاوضات والهبات من العقود فليكن الأمر في الوصيّة أيضا كذلك.

الثاني : أصالة عدم انتقال الموصى به إلى الموصى له مع احتمال أن يكون للقبول دخل فيه ، وأمّا ادّعاء القطع بعدم الدخل فمكابرة مع ذهاب المشهور إلى شرطيّته.

الثالث : أنّ حصول الملك القهري خلاف الأصل ، وأسبابه تعبّدا كالإرث مثلا محصورة ليس منها إيقاع الوصيّة من دون قبول الموصى له.

وأمّا ادّعاء أنّ إطلاقات الوصيّة تكفي لذلك.

ففيه : أنّ إطلاقات الوصيّة ليست بأعظم من إطلاقات سائر المعاملات ، فكما أنّ تلك الإطلاقات لا تمنع عن الاحتياج إلى القبول في تحقّق عناوين تلك المعاملات ، فكذلك الأمر في الوصيّة.

والحاصل : أنّ ادّعاء شمول إطلاقات الوصيّة - لإنشاء الوصيّة من قبل الموصى بدون صدور القبول من طرف الموصى له فحصول الملكية للموصى له لا يتوقّف على قبوله - لا أساس له ، بل هو عقد مركّب من الإيجاب والقبول لا تحصل الوصيّة بالمعنى الاسم المصدري إلاّ بعد وجود كلا ركنية ، كما أنّ البيع بالمعنى الاسم المصدري لا يوجد إلاّ بعد وجود الإيجاب والقبول جميعا.

فبناء على هذا ردّ الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل لو قلنا أنّه يبطل الوصيّة - كما هو الأظهر بل المتّفق عليه - ليس من قبيل الفسخ بحيث يكون حلاّ للعقد من حينه كما هو التحقيق في باب الفسخ ، بل يكون مانعا عن تحقّقه لفقدان أحد ركنية ، أي القبول.

فرع : وهو أنّه بعد الفراغ من أنّه عقد ويفتقر إلى الإيجاب والقبول ، فالإيجاب

ص: 225

يصحّ بكلّ لفظ من أيّ لغة دلّ دلالة صريحة واضحة على إنشاء ذلك المعنى عن قصد وإرادة ، أي تمليك مال عينا كان أو منفعة بعد الوفاة لشخص أو أشخاص ، أو لعنوان من العناوين كالعلماء والسادات والفقراء والطلاّب.

وذلك من جهة أنّ الإنشاء بدون القصد ، أو القصد بدون الإنشاء لا أثر له ، فلو قال : أعطوا فلانا بعد وفاتي كذا مقدار من مالي ، أو قال : لفلان كذا مقدار من مالي بعد وفاتي فلا إشكال في صحّة مثل هذه الوصيّة في صورة وجود الشرائط المقرّرة عند الشرع للموصي من البلوغ والعقل ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا لو قال : أوصيت لفلان بكذا ، بدون ذكر « بعد وفاتي » فهل يكون صريحة في الوصيّة باعتبار ظهور لفظ الوصيّة في هذا المعنى أم لا ، بل يحتاج إلى ذلك التقييد في إفادة التمليك بعد الوفاة الذي هو حقيقة الوصيّة؟

الظاهر عدم احتياجه إلى ذلك التقييد ، من جهة أنّ المناط في باب الإفادة والاستفادة وإلقاء المرادات في المحاورات هو الظهور العرفي ، لا كون المستعمل فيه معنى حقيقيّا أو مجازيّا. وهذه أمور تقرّر في الأصول في باب حجّية الظهورات.

ولا شكّ في أنّ لفظ « الوصيّة » في اللغة وإن كان بمعنى مطلق الإيصاء ، سواء كان إيصاءه بإعطاء مال أو شي ء آخر ، لشخص أو أشخاص آخرين أو لعنوان من العناوين ، في حال حياته أو بعد وفاته ، من ماله أو من مال من أوصى إليه أو غيرهما.

ولكن عند العرف - خصوصا في هذه الأزمان التي مرّ عليها مئات من السنين عن زمان تشريعها في الكتاب العزيز بقوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (1) - لها ظهور في هذا المعنى المذكور الذي عرّفوها به ، أي تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة ، فإذا كان كذلك فلا ينبغي المناقشة في صحّة الإيجاب ووقوعه بلفظ « أوصيت لفلان

ص: 226


1- البقرة (2) : 177.

بكذا » بدون قيد « بعد وفاتي » هذا بالنسبة إلى الإيجاب.

وأمّا القبول : فالظاهر - بناء على اعتباره كما رجّحناه - وقوعه بكلّ لفظ دالّ على الرضا بما أنشأ وأوجب ، بل بكلّ فعل دلّ على هذا المعنى مثل أن يتصرّف فيه نحو تصرّف الملاّك في أملاكهم.

ثمَّ إنّه تقدّم أنّ الوصيّة التمليكيّة ، تارة تتعلّق بشخص معيّن أو أشخاص معيّنين ، وأخرى تتعلّق بعنوان من العناوين. وعرفت أنّ القسم الثاني منها لا يشترط صحّتها وترتيب الأثر عليها بالقبول ، ولكن لا من جهة انعقاد الإجماع على عدم اشتراطها بالقبول ، ولا من جهة تعذّر قبول جميعهم وأنّ لزوم قبول البعض دون آخرين ترجيح بلا مرجّح ، بل من جهة أنّه لو قلنا بلزوم القبول يلزم أن يكون القبول من طرف الحاكم ولاية عليهم ، ولا دليل يلزمنا بذلك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقد لا يتم بدون القبول ، وفي المورد حيث أنّ القبول من الجميع لا يمكن ومن البعض ترجيح بلا مرجّح ، فإن أرادوا تتميم العقد فلا بدّ من أحد أمرين :

إمّا أن يقبل أحدهم بعنوان أنّه مصداق للطبيعة ، لا بعنوان شخصه كي يلزم الترجيح بلا مرجّح ، بل أيّ فرد من الطبيعة قبل يكفي ولكن بعنوان أنّه مصداق الطبيعة.

وإمّا الحاكم بعنوان الولاية يقبل عن قبلهم ، وإلاّ لا يقع العقد فيكون الإيجاب لغوا وبلا ثمر ، فإذا أراد أن لا يكون الإيجاب لغوا لا بدّ من مداخلة الحاكم وقبوله من طرف الطبيعة الموصى لها.

وقد شرحنا هذه المسألة في قاعدة « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (1) في مورد الوقف على العناوين العامّة بناء على احتياج الوقف إلى قبول الموقوف عليه.

ص: 227


1- « القواعد الفقهية » ج 4 ، ص 229.

فرع : لا شكّ في أنّ انتقال الموصى به إلى الموصى له بعد صدور الإيجاب عن الموصي وبعد موته ، وذلك لأنّ موضوع ملكيّة الموصى له كونه مصداقا لما أنشأ ، ولا يكون مصداقا إلاّ بهذين الأمرين ، أي صدور الإيجاب عن الموصي وموته ، لأنّه لو لم يصدر الإيجاب منه فلا وصيّة في البين ، ولو لم يمت فلا موضوع في البين ، لأنّ الموصى له حسب إنشاء الموصي مالك بعد وفاته ، فتوقّف ملكيّة الموصى له على هذين الأمرين ينبغي أن يعدّ من البديهيّات.

إنّما الكلام في أنّه يملك بعد قبوله أو يملك بصرف الموت وإن لم يقبل بعد؟

قال في الشرائع : وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي وقبول الموصى له ، ولا ينتقل بالموت منفردا عن القبول على الأظهر (1).

وما ذكره هو الصحيح بناء على ما ذكرنا من أنّ عقد الوصيّة التمليكيّة فيما إذا كان المنشأ هو التمليك للأفراد الخاصّة والأشخاص المعيّنة يحتاج إلى القبول ، وبدون القبول لا يتمّ العقد ، ولا شكّ في أنّ سبب التمليك والتملّك هو العقد التامّ ، فإذا فرضنا أنّ القبول جزء لما هو السبب فبدونه لا يتمّ السبب فلا يوجد المسبب ، أي ملكيّة الموصى له ، فيتوقّف على القبول لأنّه جزء السبب.

وأمّا توهّم كون القبول جزء السبب بنحو الشرط المتأخّر ، بمعنى أنّ حصول الملكيّة للموصى له حين موت الموصي مشروط بالقبول وإن كان متأخّرا عن الموت بزمان.

ففيه : ما حقّقنا في الأصول (2) من عدم صحّة الشرط المتأخّر وأنّه محال ، للزوم تأخّر الموضوع عن حكمه. وهو محاليّته أوضح من محاليّة تأخّر العلّة عن معلولها ،

ص: 228


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 285.

وذلك من جهة رجوع شروط الحكم إلى قيود موضوعه ، فإذا كان وجوب الحجّ مشروطا بالاستطاعة ، أو كان نجاسة العصير مشروطا بالغليان معناه أنّ موضوع وجوب الحجّ هو المكلّف المستطيع ، وموضوع النجاسة هو العصير المغلي.

وفيما نحن فيه موضوع ملكيّة الموصى له هو إنشاء الموصي المالك الجائز التصرّف له الملكيّة مع قبوله ، فقبوله من أجزاء موضوع الملكيّة ، فلا يعقل وجودها قبل وجود موضوعه بتمامه ، فلو لم يوجد جزءا وشرطا يسيرا منه محال أن يوجد حكمه ، وإلاّ يلزم الخلف.

وأمّا ما يقال : من أنّ ظاهر أدلّة الواردة في باب الوصيّة هو صيرورة الموصى به ملكا للموصى له بعد الموت بلا فصل ومن دون انتظار قبول الموصى له. والثمرة تظهر فيما إذا كانت للموصى به منفعة بعد الموت وقبل القبول فبناء على عدم دخل القبول تكون تلك المنفعة ملكا للموصى له ، وبناء على دخله لا بدّ وأن تكون في حكم مال الميّت بناء على عدم إمكان كون المال بلا مالك.

ففيه : أوّلا : أنّه لم تجد في الأخبار الصادرة عن الأئمّة الأطهار علیهم السلام في باب الوصايا ما يدلّ على انتقال الموصى به إلى الموصى له قبل قبوله وبمحض الموت ، وعلى فرض إن كان لا بدّ بالتزام أحد أمرين : إمّا تأويله وصرفه عن ظاهره ، وإمّا القول بعدم احتياج عقد الوصيّة إلى القبول مطلقا ، سواء كانت الملكيّة المنشأة متعلّقة بالعناوين العامّة ، أو كانت متعلّقة بالأفراد والأشخاص المعيّنة.

أو نقول بأنّ شرطيّة القبول من قبيل الشرط المتأخّر ، فيكون ملكيّة الموصى له للموصى به بمحض الموت ولكن مراعى بوجود القبول فيما بعد.

وما عدا الأوّل محلّ تأمّل بل نظر وإشكال.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّم من أنّ حصول الملك القهري خلاف الأصل ، وله أسباب خاصّة ليس صرف إنشاء الموصي مع موته من أسبابها ، ولم يرد دليل على ذلك من

ص: 229

ناحية الشرع وربما ادّعى الإجماع في مسألتنا على العدم.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ كلام صاحب الجواهر قدس سره في هذا المقام بقوله : « لكن الإنصاف أنّه لو لا دعوى الإجماع على خلافه لكان لا يخلو من قوّة » (1) ليس كما ينبغي وخال عن القوّة ، إذ عمدة مستندة في قوة هذا القول ، أي الانتقال إلى الموصى له بمحض الموت من دون الاحتياج إلى القبول ظهور أدلّة الوصيّة في ملك الموصى به للموصى له بمجرّد موت الموصي من دون الاحتياج إلى قبول الموصى له. وقد عرفت أنّه ليس هناك دليل يكون ظاهرا في هذا المعنى ، وعلى تقدير إن كان لا بدّ من تأويله ، أو الالتزام بما لا يجوز الالتزام به.

وأمّا توهّم أن يكون القبول هاهنا مثل الإجازة في باب الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، حيث أنّ الإجازة المتأخّرة ولو كانت بعد سنة تكشف عن الملكيّة السابقة حين العقد ، فالقبول المتأخّر عن الموت ولو كان بعد سنة يكشف عن الملكيّة السابقة أي بعد الموت بلا فصل.

ففيه : أوّلا : أنّ ما ذكر في باب الإجازة من الكشف الحقيقي هو باطل ومحال ، وقد حقّقنا المسألة في محلّها.

وثانيا : فرق واضح بين ما نحن فيه وما ذكروا هناك ، ففي هذا المقام بعد الفراغ عن لزوم القبول في عقد الوصيّة ، وأنّه بدونه غير تامّ ، وأنّه من أركان العقد مثل الإيجاب فلا يحصل الأثر قبل تماميّة الأثر ، وقع الكلام في أنّه هل تحصل ملكيّة الموصى به للموصى له بصرف الموت ، أو لا تحصل بمحض الموت منفردا بل لا بدّ من صدور القبول من الموصى له؟ وإلاّ لو قلنا بأنّ عقد الوصيّة يتمّ بصرف الإيجاب ولا يحتاج إلى القبول ، أو قلنا إنّها من الإيقاعات وليست من العقود ، فلا يبقى نزاع في البين بل تحصل بمجرّد الموت.

ص: 230


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 250.

وأمّا في مسألة الفضولي ، فالكلام في أنّه بعد وجود العقد بجميع أركانه من الإيجاب والقبول وكونه واجدا لجميع شرائط العقد ، غاية الأمر إنّ هذا العقد صادر عن غير من هو أهل لذلك ، أي لا مالك ولا وكيل من قبله ولا ولي عليه ، فلا يشمل المالك خطاب ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) من جهة عدم انتساب العقد إليه وعدم اتصافه به ، فإذا أجاز يحصل هذا الانتساب والالتصاق ، فيتوهّم المتوهّم أنّ العقد الواقع سابقا الذي كان سببا تامّا للنقل والانتقال ولم يكن فيه نقص إلاّ الانتساب ، فإذا حصل الانتساب بواسطة الإجازة المتأخّرة يؤثّر العقد من زمان وجوده.

وهذا الكلام وإن كان باطلا ولكن في بادئ النظر يمكن أن ينخدع السامع أو الناظر ويقول بإمكانه بخلاف المقام ، فإنّ كلام من يقول بحصول الملكيّة بمجرّد الموت صريح في جواز وجود المسبّب قبل وجود السبب بتمام أجزاءه ، وهذا ممّا ينكره العقل السليم ، فالقياس ليس في محلّه وإن كان المدّعى في المقيس عليه أيضا باطل.

وخلاصة الكلام : أنّه بناء على تركّب عقد الوصيّة من الإيجاب والقبول لا يبقى مجال للقول بحصول الملكيّة بمحض موت الموصي قبل أن يقبل الموصى له.

ثمَّ إنّه بناء على ما ذكرنا من عدم انتقال الموصى به إلى الموصى له قبل الفوت بصرف موت الموصي ، فيأتي سؤال وهو أنّ ما أوصى به لمن يكون في الزمان الفاصل بين الموت والقبول؟ وأنّه هل يبقى بلا مالك أم يبقى في حكم مال الميّت هو ومنافعه؟ أم ينتقل إلى الوارث موقّتا متزلزلا ومراعى إلى أن يقبل أو يردّ ، فإن قبل ينتقل إليه ، وإن ردّ يستقرّ الملك للورثة ويخرج عن كونه وصيّة؟

ولكلّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاث وجه.

أمّا وجه الأوّل : فلعدم صحّة الاحتمالات الآخر ، فلا يبقى إلاّ احتمال الأوّل. أمّا عدم صحّة بقائه في حكم مال الميّت لأجل عدم قابليّة الميّت لأن يكون مالكا. وأمّا

ص: 231

عدم صحّة انتقاله إلى الورثة لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).

وأمّا وجه الثاني : أي بقاء المال في حكم مال الميّت هو عدم إمكان بقاء المال بلا مالك لما سيجي ء ، وعدم انتقاله إلى الورثة لما ذكرنا من الآية الشريفة ، فقهرا يبقى في حكم مال الميّت.

وأمّا وجه الثالث : - أي الانتقال إلى الورثة موقّتا متزلزلا ومراعى إلى أن يقبل فينتقل إلى الموصى له ، أو يردّ فيستقرّ في ملك الورثة - هو عدم صحّة الوجه الأوّل والثاني كما عرفت.

والأظهر من هذه الاحتمالات - بناء على كون قبول الموصى له جزءا للعقد والسبب - هو أن يبقى على حكم مال الميّت ، فإن قبل الموصى له فيما بعد ينتقل إليه حسب الوصيّة ، وإن ردّ ينتقل إلى الورثة.

وذلك من جهة أنّ انتقاله إلى الورثة وإن كان مراعى وموقّتا إلى أن يقبل خلاف أدلّة الوصيّة وخلاف الآية الشريفة ، أي قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) وكونه بلا مالك معناه أن يكون لكلّ أحد التصرّف فيه ، لأنّ المفروض عدم مالك في البين كي يكون التصرّف بدون إذنه وطيب نفسه ممنوعا ، ويكون كالمباحات الأصليّة ، فلا بدّ من القول ببقائه على حكم مال الميّت.

وله نظائر : منها : شبكة الصيد الذي ينصبه الميّت في حال حياته ، فيقع فيه الصيد بعد موته.

ومنها : الدية في الجنايات التي تردّ على الميّت.

ومنها : مئونة تجهيزه ، ومنها ما يقضي به دينه من التركة.

ص: 232


1- النساء (4) : 105.

فرع : وقع الكلام في أنّه لا بدّ وأن يكون القبول بعد الوفاة ، أو يصحّ أن يكون في حال حياة الموصي ويتمّ به العقد؟ بعد الفراغ عن لزوم القبول في عقد الوصيّة - وأنّه أحد ركني العقد إلاّ فيما إذا كانت الوصيّة تمليك عنوان عامّ كالعلماء والسادات أو كانت في مصلحة المسجد أو قنطرة أو رباط ينزل فيه المسافرين والحجاج والزوّار - وقع الكلام في أنّه لا بدّ وأن يكون القبول بعد الوفاة ، أو يصحّ أن يكون في حال حياة الموصي ويتمّ به العقد؟

قال في الشرائع : ولو قبل قبل الوفاة وبعد الوفاة آكد وإن تأخّر القبول عن الوفاة ما لم يرد (1).

وقال في القواعد ، بعد قوله : ويفتقر إلى إيجاب وقبول بعد الموت ولا أثر له لو تقدّم (2).

وقال في جامع المقاصد في توجيه كلام العلاّمة قدس سره لأنّ الإيجاب في الوصيّة إنّما تعلّق بما بعد الوفاة لأنّها تمليك بعد الموت ، فلو قبل قبل الموت لم يطابق القبول الإيجاب (3).

ولكن أنت خبير بضعف هذا التوجيه ، لأنّ القابل يقبل ما أنشأه الموجب ، فيقبل في المفروض ملكيّته بعد الموت التي أنشأها الموصي ، فزمان إنشاء القبول وإن كان في زمان حياة الموصي ولكن المنشأ بهذا القبول هو التملّك بعد الموت ، والمناط في مطابقة القبول والإيجاب هو أن يكون القبول هو قبول نفس ما أنشأه الموجب من غير زيادة ولا نقيصة.

مثلا لو أنشأ الموجب تمليك الغنم الأبيض والقابل أنشأ قبول الغنم الأسود ، فلا تطابق بين القبول والإيجاب ، لأنّه أنشأ شيئا والقابل قبل شيئا آخر ، واتّحاد زماني الإيجاب والقبول ليس شرطا في العقود ، بل دائما يكون القبول متأخّرا عن الإيجاب ،

ص: 233


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 290.
3- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 10.

بل لا يصدق المطاوعة والقبول إلاّ بعد تحقّق الإيجاب.

ثمَّ قاس المقام بأن يبيع ما سيملكه في عدم جوازه.

أنت خبير بأنّ المقام ليس من ذلك القبيل.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقيس عليه يمكن أن يكون باطلا من جهة النهي عن بيع ما ليس عنده ، ولا شكّ في أنّ الذي سيملكه مضافا إلى أنّه يمكن أن لا يملكه لحادث من الحوادث حال البيع لا يملكه فيصدق عليه أنّه من بيع ما ليس عنده ، بخلاف المقام فإنّه يملكه وله السلطنة على ماله ، فيملّكه بحيث ينتقل إلى الموصى له بعد وفاته ، وهذا ليس مانع شرعي ولا عقلي.

وثانيا : ليس له السلطنة على مال الغير كي يبيعه ، لأنّه لا مالك حال البيع ، ولا وكيل من قبل المالك ، ولا ولي عليه فهو أجنبي عن هذا المال.

وثالثا : حقيقة البيع هو تبديل ماله بمال الغير ، وهذا هو معنى المعاوضة عند العرف ، والذي سيملكه ليس له مال فعلا قبل أن يملكه كي يبدّل بمال الغير ، فهذا القياس ليس في محلّه.

وأمّا ما قاله من أنّ القبول إمّا كاشف أو ناقل وجزء السبب ، وكلاهما منتفيان هنا.

أمّا أنّه ليس بكاشف ، لأنّ معنى الكاشف هو تحقّق الملكيّة في مقام الثبوت قبل القبول كي يكون القبول كاشفا عنها ، وفي المقام لا يمكن ذلك من جهة أنّ الملكيّة التي أنشأها الموصي هي بعد الموت ، ففي حال الحياة لا يمكن وجودها وثبوتها ، فلا يمكن أن يكون القبول كاشفا.

وأمّا أنّه ليس بناقل ، لأنّ معنى الناقل هو أن يكون بوجوده ينتقل الملك إلى الموصى له ، وهاهنا لا يمكن انتقال المال إلى الموصى له في زمان القبول الذي هو في حال الحياة ، لأنّ الملكيّة المنشأة بعد الوفاة لا يمكن أن توجد قبلها.

ص: 234

ففيه : أنّ القبول جزء السبب ، والسبب عبارة عن الإيجاب والقبول ، ولكن تأثير هذا السبب مشروط بشرط وهو الموت ، بل مفاد هذا السبب هي الملكيّة بعد الموت ، فتأخّر وجود المسبّب عن السبب ليس لتخلّفه عنه ، بل مفاد السبب هي الملكيّة المتأخّرة.

وذلك كما أنّ الإجارة يصحّ أن يكون فيها زمان ملكيّة المنفعة متأخّرا عن زمان عقدها إجماعا - أي من زمان إيجابها وقبولها - فليكن في الوصيّة أيضا كذلك ، فظهر أنّه لا مانع من تأثير القبول حال الحياة في تماميّة العقد وصحّته ، وإن كان المنشأ بالعقد لا يوجد إلاّ بعد الوفاة.

ثمَّ إنّه استشكل جامع المقاصد (1) أيضا على تأثير القبول حال حياة الموصي بأنّه لو كان القبول قبل الوفاة مؤثّرا لكان ردّه أيضا مؤثّرا ، والمشهور ذهبوا إلى عدم تأثير الردّ في حال الحياة.

وفيه : أنّ تأثير القبول في حال الحياة من جهة وقوعه بعد الإيجاب وهما ركنا العقد ، فإذا وجد الركن الأوّل في محلّه وصحيحا فتصل النوبة إلى الركن الثاني أي القبول ، ويقع في محله من جهة أنّه مطاوعة ذاك الإيجاب.

وأمّا عدم تأثير الردّ من جهة أنّ الوصيّة تمليك مال أو منفعة بعد الوفاة ، فالمناط في ردّه هو الردّ في ظرف وقوع التمليك ، فإذا لم يكن تمليك في البين فلا أثر للرّد مع قبوله في ظرف التمليك.

نعم لو ردّ في حال الحياة وبقي رادّا مستمرّا إلى ما بعد الوفاة يؤثّر الردّ. والحاصل : أنّه لا ملازمة بين تأثير القبول وتأثير الردّ.

وأمّا ما أورد على تأثير القبول في حال حياة الموصي بأنّه لو كان كذلك لما كان يعتبر قبول الوارث ولا ردّه لو مات الموصى له قبل موت الموصي وقد قبل أي الموصى

ص: 235


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 10.

له وذلك لأنّه لو كان الموصى له قبل الوصيّة في حال حياة الموصي وكان قبوله مؤثّرا فتصير الوصيّة ملكا للموصى له بمحض موت الموصي ، لحصول أركان العقد من الإيجاب والقبول ، والشرط - أي موت الموصي - أيضا حصل على الفرض ، فلا يحتاج الى قبول الوارث ويلزم أن لا يؤثر ردّه ، لأنّ سبب ملكيّة الوصيّة مع الشرط حصل ، فلا يحتاج إلى شي ء آخر.

وفيه : أنّ هذا كلام عجيب ، لأنّ الشرط حصل في وقت ليس الموصى له قابلا لأن يملك الموصى به ، لأنّ المفروض أنّه ميّت حال حصول الشرط وليس قابلا لأن يملك فينتقل إلى ورثته ، فلا يحتاج إلى قبولهم.

ومقتضى القواعد الأوّليّة هو أنّه لو قلنا بأنّ الميّت يملك ، فلو مات الموصى له في حال حياة الموصي وقد قبل فيملك الموصى به وينتقل إلى ورثته ، ولا يحتاج إلى قبولهم. وإن قلنا بأنّه لا يملك فيرجع المال بعد موت الموصي إلى ورثته لا إلى ورثة الموصي له ، سواء قبلوا أو لم يقبلوا.

لكن وردت روايات أنّ الموصى له لو مات في حياة الموصي يعطى المال ورثة الموصي بدون اشتراط قبول من طرفهم في البين ، وقد عقد بابا في الوسائل بعنوان أنّ الموصى له إذا مات قبل الموصي ولم يرجع في الوصيّة فهي لوارث الموصى له ، وفيه روايات :

منها : رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب ، فتوفّي الموصى له الذي أوصى له قبل الموصي ، قال علیه السلام : الوصيّة لوارث الذي أوصى له. قال : ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا فتوفّي الموصى له قبل الموصي فالوصيّة لوارث الذي أوصى له إلاّ أن يرجع في وصيّته قبل موته » (1)

ص: 236


1- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح 1. « الفقيه » ج 4 ، ص 210 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح 5489. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 230 ، ح 903 ، باب الموصى له بشي ء يموت قبل الموصي ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 137 ، ح 515 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 409 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 30 ، ح 1.

ومنها : رواية عبّاس بن عامر قال : سألته عن رجل أوصى له بوصيّة ، فمات قبل أن يقبضها ولم يترك عقبا ، قال : « اطلب له وارثا أو مولى فادفعها إليه » قلت : فإن لم أعلم له وليّا؟ قال : « اجهد على أن تقدر له على وليّ ، فإن لم تجد وعلم اللّه منك الجدّ فتصدق بها » (1).

ومنها : رواية محمّد بن عمر الباهلي الساباطي قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجل أوصى إليّ وأمرني أن أعطى عمّاله في كلّ سنة شيئا فمات العمّ ، فكتب : « أعط ورثته » (2).

وهذه الروايات لها إطلاق من ناحية قبول الموصى له في حياة الموصي وعدم قبوله ، بل ربما يستظهر من رواية محمّد بن قيس عدم قبول الموصى له في حال حياة الموصي لفرض المسألة فيما إذا أوصى لرجل وهو - أي الموصى له - غائب ، ففي مثل هذا المورد قضى علیه السلام بأنّ الوصيّة لوارث الموصى له إن مات هو في حياة الموصي ، وذيل الرواية مطلق من ناحية قبول الموصى له وعدم قبوله. وعلى أيّ حال مقتضى القاعدة ما ذكرنا.

ص: 237


1- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 211 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح 5490. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 231 ، ح 905 ، باب الموصى له بشي ء يموت قبل الموصي ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 138 ، ح 517 ، باب الموصى له يموت قبل الموصى ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 409 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 30 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 210 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح 5488. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 231 ، ح 904 ، باب الموصى له بشي ء يموت قبل الموصي ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 138 ، ح 516 ، باب الموصى له يموت قبل الموصى ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 410 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 30 ، ح 3.

فرع : لو مات الموصى له قبل أن يقبل ، فتارة يكون موته في حياة الموصي ، وأخرى بعد موته. فإن كان بعد موته ، فلا شكّ في أنّ وارثه يقوم مقامه في أنّ له القبول والردّ ، لأنّ هذا حقّ له ، وما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه ، فيكون للوارث حقّ القبول والردّ. وإنكار كون قبول الوصيّة وردّها حقّا للموصى له مكابرة ، إذ الحقّ عبارة عمّا هو مجعول شرعا رعاية لذي الحقّ ، بحيث يكون له إسقاطه أو أعماله أو عدم إعماله.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القابلية للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ بحيث عرّف به فيقال : الحقّ هو ما كان قابلا للإسقاط ، وهاهنا كون القبول للموصى له ليس قابلا للإسقاط ، فلو قال الموصى له : أسقط حقّ هذا ، لا يسقط. فليس مالا ولا حقّا كي يرثه الوارث. فإذا مات الموصى له يكون حال الوارث بالنسبة إلى هذه الوصيّة حال الأجانب ، وبناء على هذا يكون القبول وعدمه من الأفعال التكوينيّة التي مباح للموصى له ، وقد يعرض عليه سائر الأحكام الخمسة التكليفيّة. هذا ممّا يمكن أن يقال.

ولكن فيه نظر واضح ، لأنّ كون القبول حقّا شرعيّا أمر واضح ، فإن لم يكن قابلا للإسقاط فليست الخاصّة شاملة بحيث تشمل جميع أفراد الحقّ ، وعلى كلّ حال يقوم الوارث مقام مورّثه في إعمال هذا الحقّ فتكون الوصيّة له.

وأمّا إن كان موت الموصى له في حال حياة الموصي ، فإن قلنا إنّ حقّ القبول والردّ ثابت للموصى له حتّى في حال حياة الموصي ، فيكون الحكم مثل الصورة السابقة ، لأنّه ينقل هذا الحقّ بعد موت الموصى له إلى وارثه. وأمّا إن قلنا بأنّ قبول الموصى له في حال حياة الموصي وكذلك ردّه لا أثر له ، فيكون لغوا ، أي لا حقّ له ، فليس للإرث موضوع فيكون الوارث أجنبيا ، ولا مجال للقول بأنّه يقوم مقامه في القبول والردّ.

ص: 238

نعم مقتضى إطلاق رواية محمّد بن قيس المتقدّمة في الفرع السابق وروايات أخر أنّ الوصيّة للوارث ، سواء قبل الموصى له في حياته أو لم يقبل.

ثمَّ إنّ مقتضى إطلاق تلك الروايات أنّ الوصيّة تعطي للوارث من دون الاحتياج إلى قبوله ، اللّهم إلاّ أن يدّعى الإجماع على لزوم القبول من الوارث ، كما يظهر من بعض عباراتهم. وحكى في الجواهر (1) عن كشف الرموز (2) ما يقرب من ذلك.

فرع : لو ردّ الموصى له في حياة الموصي فهل تبطل الوصيّة كما لو ردّها بعد موت الموصي ، أم لا فيجوز له القبول بعد الردّ كما هو المشهور؟

والعمدة في دليلهم هو أنّ محلّ القبول والردّ بعد وفاة الموصي ، لأنّ الوصيّة عبارة عن إنشاء ملكيّة مال أو منفعة للموصى له بعد وفاته ، فالإنشاء في حال حياة الموصي ولكن ظرف تحقّق المنشأ على حسب الإيجاب هو بعد وفاة الموصي ، وأمّا في حال حياته فلم يجعل له شي ء فلا موضوع لا للردّ ولا للقبول ، فلو ردّ في حال حياة الموصي لا يؤثّر في شي ء بل القبول هو الذي يقع في ظرف هو ظرف الردّ والقبول.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد المحقّق قدس سره حيث قال في الشرائع : فإن ردّ في حياة الموصي جاز أن يقبل بعد وفاته ، إذ لا حكم لذلك الرّد (3). هذا إذا كان الردّ في حال حياة الموصي ، وأمّا إن كان ردّه بعد موت الموصي وكان ردّه هذا قبل أن يقبل ، فتبطل الوصيّة ولا يبقى موضوع للقبول فيما بعد. وهذا الحكم إجماعي لا خلاف فيه من أحد.

والسرّ في عدم تأثير القبول بعد الردّ هو أنّ العقد والمعاهدة بين شخصين لا يمكن إلاّ بتعهّد الموجب والتزامه بما أوجب في قبال تعهّد الآخر بشي ء أو أمر ، وإلاّ لا يقع

ص: 239


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 259.
2- « كشف الرموز » ج 2 ، ص 77.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.

العقد. وهذا إذا لم يكن ردّ ولا قبول ، وأمّا إذا ردّ فلا يحتمل إبقاء العقد والعهد بينهما إلاّ إذا وقع إنشاء وإيجاب جديد كي يكون القبول قبول ذلك الإيجاب الجديد.

وأمّا إن كان ردّه بعد وفاة الموصي وبعد أن قبل بعد الوفاة الموصي وبعد قبض الوصيّة أيضا ، فمثل هذا الردّ لا أثر له ، لأنّه بالقبول والقبض بعد موت الموصي يستقرّ الملك للموصى له ، ولا يخرج إلاّ بالأسباب المخرجة شرعا كبيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك من المخرجات.

نعم وقع الكلام فيما إذ ردّ بعد القبول بعد موت الموصي ولكن كان ردّه قبل أن يقبض الوصيّة ، بمعنى أنّ الموصى له بعد موت الموصي قبل ، ثمَّ ردّ قبل أن يقبض ، فقيل : تبطل الوصيّة ، وقيل : لا تبطل ، وهو الأظهر ، لوجوه :

أوّلا : لكونه مشهورا بين الطائفة ، بل قيل كاد أن يكون إجماعا.

وثانيا : إنّ العقد بكلا ركنية وجد وتمَّ ، ولم يكن شرط في البين غير موجود ، فالنتيجة وهو استقرار الملك للموصى له حصلت ، فلا وجه للبطلان.

وثالثا : لم يدلّ دليل من آية أو رواية أو إجماع على أنّ القبض شرط في صحّة الوصيّة.

فرع : لو ردّ الموصى له بعضا وقبل بعضا ممّا أوصى له صحّ فيما قبله وتبطل فيما ردّه ، خصوصا فيما إذا كان كلّ واحد ممّا يقبل ويردّ له وجود مستقلّ غير مربوط بالآخر ، مثلا لو أوصى بداره وبستانه لشخص ، فبعد وفاته واطّلاع الموصى له قبل الدار وردّ البستان أو بالعكس ، صحّ فيما قبل وبطل فيما يردّ إعطاء لكلّ واحد منهما حقّه.

وقال في جامع المقاصد : وليست الوصيّة كالبيع ونحوه يجب فيها مطابقة القبول

ص: 240

للإيجاب ، لأنّها تبرّع محض ، فلا يتفاوت الحال فيها بين قبول الكلّ والبعض (1).

وحاصل كلامه : أنّها ليست من المعاوضات - كي يقال بأنّه قصد تبديل الكلّ بعوض كذا ، وأمّا تبديل مقدار منه جزءا أو كسرا مشاعا مثل نصفه أو ثلثه بمقدار من العوض فليس بمقصود أصلا - بل قصد تمليكه لهذا المجموع بلا عوض ، وحيث أنّ التملك قهرا وبدون قبوله ورضاه لا يمكن إلاّ بأسباب خاصّة وفي موارد مخصوصة كالإرث وغيره ، فيحتاج إلى القبول ، فأيّ مقدار منها قبل يصير ملكه ، وأيّ مقدار لم يقبل يبقى على ملك الموصي ، سواء كان ذلك المقدار الذي يقبله موجودا مستقلا غير مربوط بالآخر الذي لم يقبله ، أو كان جزءا للوصيّة أو كسرا مشاعا لها.

فلو قال : كتبي لزيد مثلا بعد وفاتي ، فقبل بعضا معيّنا منها أو كسرا مشاعا مثل النصف أو الثلث أو الربع منها ، صحّ في الكل. هذا ما ذكروه.

حتّى أنّه ذكر في جامع المقاصد في هذا المقام بعد قوله « بأنّ الوصيّة صحّ فيما قبل وبطل فيما ردّ » : ولم ينظر إلى التضرّر بالشركة لو كان الموصى به شيئا واحدا (2) فحكمهم بالصحّة فيما قبل والبطلان فيما يردّ مطلق شامل لجميع الأفراد ، سواء كان الموصى به متعدّدا أو كان شيئا واحدا ، كان قابلا للقسمة أو لم يكن كفصّ من عقيق أو من ياقوت أو من غيرهما.

ولكن الإنصاف أنّه لو كان الموصى به مركّبا من أجزاء أو من جزئين ، بحيث يكون بعض أجزائه أو أحد جزئية لو انفصل لم يبق قيمة معتدّ للباقي منها أو منهما ، مثل ما لو أوصى بساعة فقبل الموصى له بعض أجزائها التي من أركانها وردّ الباقي في الفرض الأوّل ، أو أوصى حذاء لشخص فقبل النعل الذي للرجل الأيمن مثلا وردّ الآخر في الفرض الثاني ، فالقول بصحّتها فيما قبل وبطلانها فيما ردّ لا يخلو من تأمّل بل

ص: 241


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 257.
2- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 14.

من إشكال.

فرع : لا تصحّ الوصيّة في معصية بأن يصرف المال الموصى به في الملاهي أو شرب الخمر مثلا ، أو يصرفه الوصي في سائر المحرّمات مثل تأييد ظالم ومساعدته في ظلمة وكتابة كتب الضلال طبعها ونشرها ، مثل ما يسمّى الآن توراة وإنجيل ، لأنّهما حرّفا وغيرا وفيهما أشياء توجب الضلال ، وكتب البابيّة والبهائيّة ، وبعض كتب العرفاء والصوفيّة المشتملة على العقائد الفاسدة والمطالب الباطلة ، مثل ادّعاء الحلول أو الاتّحاد مع اللّه تعالى جلّ جلاله ، تعالى اللّه عمّا يدّعون ويصفون.

وخلاصة الكلام : أنّه لا تصحّ الوصيّة بفعل محرّم أو صرف ماله في أمر محرّم لوجوه :

الأوّل : الإجماع.

الثاني : أنّ تنفيذ مثل هذه الوصيّة غير مقدور ، لأنّ الممتنع شرعا مثل الممتنع عقلا ، لنهي الشارع عن العمل بمثل هذه الوصيّة.

الثالث : أنّها إعانة على الإثم ، بل هي بنفسها إثم. أمّا إنّها إعانة على الإثم لأنّ الإعانة على الإثم عبارة ، عن إيجاد مقدّمة من مقدّمات الحرام الصادر عن الغير بقصد ترتّب ذلك الحرام عليها ، ولا شكّ في أنّ هذه الوصيّة من مصاديق هذا العنوان ، إذ مقصوده منها وجود ذلك الحرام. أمّا كونها بنفسها إثما فلأنّه لا شكّ في أنّ بذل المال في الحرام حرام وإثم وإن لم يكن بمباشرته.

الرابع : قوله تعالى ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) ودلالة الآية على المراد في المقام مبنى على أن يكون

ص: 242


1- البقرة (2) : 181.

المقصود من قوله تعالى ( أَوْ إِثْماً ) الوصيّة بالمعصية ، ويكون استثناء عن حرمة التبديل والتغيير ، أي لا يجوز تبديل الوصيّة وتغييرها إلاّ إذا كانت وصيّة بالمعصية ، فتكون الآية بناء على هذا ظاهرة في عدم جواز الوصيّة بالمعصية وفي عدم صحّتها.

ويدلّ على أنّ المراد من الآية هذا المعنى ما ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية قال عليّ بن إبراهيم : قال الصادق علیه السلام : « إذا أوصى الرجل بوصيّة فلا يحلّ للوصي أن يغيّر وصية يوصى بها ، بل يمضيها على ما أوصى إلاّ أن يوصى بغير ما أمر اللّه فيعصي في الوصيّة ويظلم ، فالموصى إليه جائز له أن يردّه إلى الحقّ مثل رجل يكون له ورثة فيجعل ماله كلّه لبعض ورثته ويحرم بعضا ، فالوصي جائز له أن يردّه إلى الحقّ وهو قوله تعالى ( جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) فالجنف الميل إلى بعض ورثتك دون بعض ، والإثم أن تأمر بعمارة بيوت النيران واتّخاذ المسكر ، فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشي ء من ذلك » (1).

فرع : عقد الوصيّة جائز من طرف الموصي ، سواء كانت الوصيّة بمال أو كانت عهديّة مثل أن يجعل شخصا وليّا وقيّما على صغاره ، أو يوصي بدفنه في مكان كذا وأمثال ذلك من الوصايا ، فللموصي الرجوع في وصيّته متى شاء وما دام حيّا. والدليل عليه : أنّ الموصي ما دام حيّا لا ينتقل المال إلى الموصى إليه وإن قلنا بجواز القبول في حال حياة الموصي وقد تقدّم هذه المسألة ، فالمال ماله ولم يخرج عن تحت سلطنته والناس مسلّطون على أموالهم.

وأصالة اللزوم في العقود لا تشمله ، إمّا لأنّ محلّ القبول بعد موت الموصي وقبله لا قبول فلا عقد ، وإمّا لأنّه وإن كان عقدا ويصحّ من الموصى له القبول ولكن هو خارج عن تحت تلك القاعدة بالإجماع ، أو بورود روايات تدلّ على جواز رجوع

ص: 243


1- « تفسير القميّ » ج 1 ، ص 65 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 420 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 37 ، ح 4.

الموصي في وصيته ما دام فيه الروح ، في صحّة كان أو مرض.

منها : رواية ابن مسكان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام أنّ المدبّر من الثلث ، وأنّ للرجل أن ينقض وصيّته فيزيد فيها وينقص منها ما لم يمت » (1).

ومنها : رواية يونس عن بعض أصحابه قال : قال عليّ بن الحسين علیه السلام : « للرجل أن يغيّر وصيّته فيعتق من كان أمر بملكه ويملك من كان أمر بعتقه ، ويعطي من كان حرمه ، ويحرم من كان أعطاه ما لم يمت » (2).

وفي الوسائل أنّ الصدوق روى هذه الرواية إلاّ أنّه زاد في آخره : « ما لم يكن رجع عنه » (3).

منها : رواية عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « للموصي أن يرجع في وصيّة إن كان في صحّة أو مرض (4) وروايات أخر (5).

وبعد الفراغ عن أنّها عقد جائز من طرف الموصي وله أن يرجع فيه ما دام حيّا ، يتحقّق الرجوع بالقول وبالفعل.

فالأوّل : أمّا قول الصريح في الرجوع كقوله :

ص: 244


1- « الكافي » ج 7 ، ص 12 ، باب الرجل يوصي بوصيّة ثمَّ يرجع عنها ، ح 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 199 ، باب الرجوع عن الوصيّة ، ح 5459 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 190 ، ح 762 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 385 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب الرجل يوصي بوصيّة ثمَّ يرجع عنها ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 199 ، باب الرجوع عن الوصيّة ، ح 5460 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 190 ، ح 763 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 385 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 2.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 386 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 2.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 12 ، باب الرجل يوصى بوصيّة ثمَّ يرجع عنها ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 199 ، باب الرجوع عن الوصيّة ، ح 5458 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 189 ، ح 860 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 386 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 3.
5- انظر : « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 385 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18.

رجعت في الوصيّة الفلانيّة أو نقضتها أو فسختها ، أو يقول : لا تعطوا فلانا ما أوصيت له به ، إلى غير ذلك من الألفاظ التي صريحة في نقض وصيّته وفسخها. وإمّا ما يكون له ظهور عرفي في الرجوع ولو بتوسّط القرينة مثل أن يقول للدلاّل : اجعله في معرض البيع.

والثاني : إمّا بفعل ما يخرجه عن ملكه إمّا شرعا ، كنقله بأحد النواقل الشرعيّة إلى الغير ، مثل أن يبيع العين الموصى بها أو يهبها أو يصالح عليها أو يقرضها أو يخرجها عن ملكه بأن يعتقها أو يوقفها ، ففي جميع ذلك لا يبقى محلّ ومجال لكونها وصيّة ، لأنّ الوصيّة عبارة عن كون المال الموصى به باقيا تحت سلطنته وفي ملكه إلى زمان الموت ، ثمَّ بالموت منضمّا إلى قبول الموصى له يصير ملكا له فلو نقل إلى غيره شرعا أو وقع عليه التلف بإتلاف أو تلف سماوي لا يمكن بقاؤه وصية.

وخلاصة الكلام : أنّ عقد الوصيّة جائز من طرفه ، فله الرجوع ما دام فيه الروح ، سواء كان بالقول أو بالفعل. وإذا كان بالقول لا بدّ وأن يكون له ظهور عرفي في الرجوع وإن كان بواسطة القرينة ، وذلك لحجّية الظهورات في الكشف عن المراد.

وأمّا إن كان بالفعل ، فتارة بإعدام الموضوع حقيقة وهو إمّا بإتلاف تكوينا أو بنقله بأحد النواقل شرعا إلى غيره ، وأخرى جعله في معرض البيع وإن لم يبع فعلا ولكن وضعه في السوق في دكّانه كسائر الأجناس التي في معرض البيع ، وثالثة يكتب إعلان ويعلق أنّ الدار الفلانيّة في معرض البيع وقد كان أوصى بها لشخص.

ثمَّ إنّ الرجوع تارة يكون في أصل الوصيّة ، وأخرى في بعض جهاتها وكيفيّاتها ومتعلّقاتها ، فله تبديل الموصى به كلاّ أم بعضا مثل إن كانت وصيّته أن يعطى داره لولده الأكبر مثلا ، فغيّر الموصى به وجعله بستانه أو دكّانه مثلا ، هذا في تبديل الكلّ.

وأمّا تبديل البعض بأن كانت وصيته إعطاء كتبه لولده الفلاني مطبوعا ومخطوطا ، ثمَّ يغيّر ويستثنى المخطوط ويجعل بدله ألبسته أو فراشه.

ص: 245

وأمّا التبديل في الموصى له فهو أن يجعل أوّلا ولده الأكبر مثلا ، ثمَّ لجهة من الجهات يبدّله بولده الآخر أو شخصا أجنبيا.

وأمّا التبديل في الوصي ، مثل أن جعل زيدا وصيّة ثمَّ يبدو له ويجعله عمروا ، أو يشرك عمرا معه بعد إن كان مستقلا ومنفردا. وكلّ ذلك جائز له ، لأنّها عقد جائز من طرفه وله السلطنة على ماله.

وأمّا التبديل في وليّ أطفاله وصغاره ، مثل أن يجعل أوّلا زيدا وليّا عليهم ، ثمَّ يبدو له ويبدّل ويجعله عمروا ، أو يشركه مع زيد في الولاية.

والحاصل : أنّ الموصي إلى آخر لحظة من حياته له السلطنة التامّة على وصيّته ، من حيث ما اوصى به ، ومن أوصى له ، ومن أوصى إليه ، فله التغيير والتبديل في جميع ذلك أصلا أو زيادة أو نقيصة.

بقي شي ء : وهو أنّه في بعض الموارد صار محلا للشكّ في أنّه رجوع أم لا؟

أمّا حكم الشكّ لو استقرّ ولم يوجد دليل على أنّه رجوع أو ليس برجوع فاستصحاب عدم تحقّق الرجوع وبقاء الوصيّة.

وأمّا موارد الشكّ ، فمنها : لو تصرّف في الموصى به تصرّفا أخرجه عن مسمّاه ، كما لو أوصى بطعام لزيد فطحنه ، أو بدقيق فعجنه أو خبزه ، فربما يقال ببطلان الوصيّة وصدق الرجوع عليه ، لأنّه من قبيل إعدام الموضوع ولم يبق موضوع لما أوصى به.

ولكن يمكن أن يقال : إذا تعلّقت بالطعام الخارجي والدقيق كذلك ، فالموضوع لما أوصى هذا الجسم الخارجي من حيث أنّه غذاء للموصى له ولعياله ، فطحنه ربما يكون أفيد بالنسبة إلى هذه النتيجة والغرض ، فكأنّه إحسان آخر إلى الموصى له ، وتغيّر الاسم من كونه حنطة إلى كونه دقيقا وكذلك من كونه دقيقا إلى كونه عجينا أو خبزا لا يضرّ بكونه وصيّة.

نعم لو كان هناك قرينة على رجوعه بهذا الفعل عن وصيّة ، فلا بأس بالقول به ، لما

ص: 246

قلنا من حجّية الظهورات والمتفاهم العرفي ولو كان بتوسّط القرائن الحاليّة أو المقاليّة. مثلا لو كان الموصي خبّازا ومرض ، فأوصى بإعطاء الحنطة الموجودة عنده لولده أو لأخيه ، فبرء وطحنه ثمَّ قبل أن يخبزه مات فجأة ، فالإنصاف أنّ فعله في هذا الفرض ظاهر في الرجوع ، كما أنّه لو قال : اطحنوه ولكن هناك قرائن على أنّه يريد بذلك الفعل مساعدة أخيه الضعيف لكي يسهل عليه الأمر ، فيدلّ هذا على بقاء الوصيّة وعدم الرجوع.

الأمر الثاني : في الموصي

فرع : يعتبر في الموصي البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، والرشد ، والحرّية ، لاعتبار هذه الأمور في جميع المعاملات إجماعا ، مضافا إلى أدلّة أخرى مذكورة في كتاب البيع.

أمّا البلوغ : فلأنّ الصبي غير البالغ مسلوب العبارة ، فلا اعتبار بإنشائه كسائر معاملاته ، سواء كانت من المعاوضات أو كانت من الهبات والعطايا.

نعم وردت روايات في صحّة وصيّة الصبي إذا بلغ عشرا وإن لم يحتلم ، وفي بعضها صحّة وصيّته وإن لم يدرك ومطلق من حيث مقدار السنّ ، وفي بعضها صحّة وصيّته إن بلغ سبع سنين ، ولكن أكثر الروايات الواردة في هذا الباب تقيّد صحّة وصية الغلام ببلوغه عشر سنين.

فمنها : رواية محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « إنّ الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك جازت وصيّته لذوي الأرحام ، ولم يجز للغرباء » (1).

ص: 247


1- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب وصيّة الغلام والجارية. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيته ، ح 5453 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 728 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 428 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 1.

وهذه الرواية تدلّ على صحّة وصيّة غير البالغ مطلقا ، سواء بلغ عشرا أو لم يبلغ ، ولكن مقيّد من حيث الموصى له بأن يكون لذوي الأرحام ولا يكون للغرباء.

ومنها : رواية أبي بصير - يعني المرادي - عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إذا بلغ الغلام عشر سنين وأوصى بثلث ماله في حقّ جازت وصيّته ، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حقّ جازت وصيّته » (1). وهذه الرواية قيّد صحّة وصيته بأمور : بلوغه عشرا ، وكون وصيّته في حقّ ، أي لا يكون في الباطل والمحرّمات ، وأيضا يكون وصيته بثلث ماله لا أزيد.

ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيّته » (2).

ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنّه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز » (3).

ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا بلغ الصبي خمسة أشبار أكلت ذبيحته ، وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيّته » (4).

ومنها : رواية أبي بصير وأبي أيّوب عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الغلام ابن عشر سنين

ص: 248


1- « الكافي » ج 7 ، ص 29 ، باب وصيّة الغلام والجارية. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيّته ، ح 5452 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 732 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 428 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب وصيّته الغلام والجارية. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 196 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيّته ، ح 5450 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 429 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 3.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب وصيّته الغلام والجارية. ، ح 1. « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيّته ، ح 5452 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 729 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 429 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 726 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 428 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 5.

يوصى؟ قال : « إذا أصاب موضع الوصيّة جازت » (1).

ومنها : رواية حسن بن راشد عن مولانا العسكري علیه السلام : « إذا بلغ الغلام ثماني سنين ، فجائز أمره في ماله وقد وجب عليه الفرائض والحدود ، وإذا تمَّ للجارية سبع سنين فكذلك » (2).

والرواية الأخيرة ظاهرة في حصول البلوغ للذكر بثمانية وللأنثى بسبعة بالنسبة إلى جميع الأمور ، سواء كانت في المعاملات والمعاوضات أو من العبادات بل مطلق الفرائض ، أو كانت من الحدود فتجري في حقّهما.

ولا شكّ في أنّ بلوغ الذكر بثمانية والأنثى بسبعة بالنسبة إلى جميع الأحكام الشرعيّة في المعاملات والفرائض والحدود مخالف لإجماع المسلمين بل لضرورة من الدين ، فهذه الرواية شاذّة لم يعمل بها أحد فيجب أن يطرح. وكذلك ذيل رواية أبي بصير المتقدّم « وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حقّ جازت وصيّته » لم يعمل به ، فهو مطروح.

وأمّا سائر الروايات الواردة في هذا الباب وان كان بعضها مطلقة ، كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام في ذيله : « وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيّته » ولكن لا بدّ من تقييدها بما إذا كانت وصيّته في وجوه المعروف والبرّ ، ولعلّ هذا هو المراد من قوله علیه السلام : « أو أوصى على حدّ معروف وحقّ ».

وكذلك لا بدّ من تقييدها بما إذا كان عاقلا بصيرا ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله علیه السلام في رواية أبي بصير وأبي أيّوب : « إذا أصاب موضع الوصيّة جازت ».

فالمتحصل من مجموع هذه الروايات بعد إرجاع مطلقاتها إلى مقيّداتها هو صحّة

ص: 249


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 727 ، باب وصيّته الصبي والمحجور عليه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 429 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 6.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 183 ، باب وصيّته الصبي والمحجور عليه ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، أبواب أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 4.

وصيّة الصبي إذا بلغ عشرا في وجوه البرّ والمعروف إذا كان عاقلا وبصيرا ، وهذا المعنى بعد طرح رواية حسن بن راشد ، لإعراض الأصحاب بل المسلمين عنها ، مضافا إلى ضعف سندها ومخالفتها للأخبار الصحيحة الصريحة ، وبعد طرح رواية أبي بصير التي تقدّمت وكان مفادها جواز وصيّة ابن سبع سنين إذا كان أوصى بالمال اليسير في حقّ ، لشذوذها ومخالفتها للإجماع.

وقال في المسالك : وابن إدريس رحمه اللّه سدّ الباب واشتراط في جواز الوصيّة البلوغ كغيرها (1) ، ونسبه الشهيد في الدروس إلى التفرّد بذلك ، ثمَّ قال : ولا ريب أنّ قوله هو الأنسب ، لأنّ هذه الروايات التي دلّت على الحكم وإن كان بعضها صحيحة إلاّ أنّها مختلفة بحيث لا يمكن الجمع بينها ، فإثبات الحكم المخالف للأصل بها مشكل (2).

ولكن الإنصاف أنّ إنكار مثل هذا الحكم الذي هو مشهور بين الأصحاب - بل في الغنية (3) دعوى الإجماع عليه مع وجود هذه الروايات الكثيرة الصحيحة الصريحة - وعدم الاعتناء بهذه الأخبار والأقوال أشكل.

مضافا إلى ما تقدّم منّا من إمكان الجمع العرفي بسهولة.

وقال في جامع المقاصد بعد إقراره بأنّ الروايات الدالّة على جواز وصيّة الصبي إذا بلغ عشرا كثيرة : والمناسب لأصول المذهب وطريقة الاحتياط القول بعدم الجواز (4).

ويردّه ما تقدّم ذكره ، واللّه العالم.

ص: 250


1- « المسالك » ج 1 ، ص 392. وهو في « السرائر » ج 3. ص 206.
2- « الدروس » ج 2 ، ص 298.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 604.
4- « جوامع المقاصد » ج 10 ، ص 34.

فرع : لو جرح الموصي نفسه عمدا بما فيه هلاكها ، أي نوى قتل نفسه فأوجد السبب ، سواء كان بالجرح بآلة قتّالة أو بشرب السمّ أو غير ذلك ، لم تصحّ وصيّته إذا كانت في ماله. وأمّا إذا كانت في غير ماله كتجهيزه ودفنه في موضع كذا ، فالظاهر صحّته ، لصحيحة أبي ولاّد قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « من قتل نفسه متعمّدا فهو في نار جهنّم خالدا فيها ». قلت له : أرأيت إن كان أوصى بوصيّة ثمَّ قتل نفسه من ساعته تنفذ وصيّته؟ قال : فقال علیه السلام : « إن كان أوصى قبل أن يحدث حدثا في نفسه من جراحة أو قتل أجيزت وصيّته في ثلثه ، وإن كان أوصى بوصية بعد ما أحدث في نفسه من جراحة أو قتل لعلّه يموت لم تجز وصيته » (1).

فهذه الصحيحة لها دلالة واضحة على من أوجد سبب قتله متعمّدا لأجل أن يموت ، ويسمّى في عرف هذا العصر بالانتحار ، ثمَّ بعد ذلك أوصى وصيّة بشي ء من ماله لم تقبل وصيّته.

وأمّا لو أوصى أوّلا ثمَّ أوجد سبب قتله ، تجاز وصيّته في ثلثه. وهذه الكلمة الأخيرة - أي ثلث ماله - تدلّ أنّ محلّ النفي والإثبات هو المال لا أمور الأخر.

وأيضا استدلّ بعضهم على عدم نفوذ وصيّة من قتل نفسه في الماليّات بأنّه سفيه ، والسفيه محجور لا يجوز له أن يتصرّف في أمواله.

أمّا أنّه سفيه ، فلأنّ إتلاف المال بلا مصلحة يكشف عن السفه ، وإتلاف النفس عصيانا - لا فيما إذا كان راجحا كما في باب الجهاد - أولى بأن يكشف عنه السفه.

وأمّا أنّ السفه يوجب المنع من تصرّفات السفيه في أمواله ومحجور ممنوع ، فهذا دليله وتحقيقه في كتاب الحجر مذكور مفّصلا.

ص: 251


1- « الكافي » ج 7 ، ص 45 ، باب من لا تجوز وصيته من البالغين ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 202 ، باب وصيّة من قتل نفسه متعمّدا ، ح 5470 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 207 ، ح 820 ، باب وصيّة من قتل نفسه. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 441 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 52 ، ح 1.

هذا هو المشهور بين الأصحاب وجوّز ابن إدريس (1) وصيّته إذا كان عقله ثابتا ، واحتجّ بأنّه عاقل رشيد فينفذ وصيّته كغيره ، وبعموم النهي عن تبديل الوصيّة.

وقال العلاّمة في المختلف : لا بأس بالذهاب إلى قول ابن إدريس حيث قال : ولو قيل بالقبول مع تيقّن رشده كان وجها وأجاب عن الاحتجاج بالرواية بحملها على عدم استقرار الحياة ، بمعنى أنّ عدم القبول في الرواية فيما إذا كانت حياته بواسطة الجرح أو شرب السمّ أو نحوهما غير مستقرّة. (2)

وأنت خبير بأن لازمه أنّ المريض إن صارت حياته غير مستقرّة فلا تنفذ وصيّته ، ولا يمكن القول بذلك مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ هذا الكلام غير صحيح في حدّ نفسه ، لأنّ هذا الجريح غير المستقرّ حياته عاقل بالغ رشيد ، فتكون وصيّته مشمولة للأدلّة الدالّة على وجوب تنفيذ الوصيّة التي منها قوله تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (3) ولم يفرق بين مستقرّ الحياة وغيره ، وتخصيص هذا العامّ يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

وربما يقال : إنّ غير مستقرّ الحياة في حكم الميّت ، فلا يجري في حقّه الأحكام الجارية على الأحياء ، ويقاس بعدم ورود التذكية على الحيوان غير مستقرّ الحياة.

وفيه : أنّ كون الحيّ في حكم الميّت يحتاج إلى دليل ، وفي المقام لا دليل عليه.

والحاصل : أنّ كلمات هؤلاء الأساطين - مع وجود رواية صحيحة صريحة في عدم جواز وصيّة من قتل نفسه إذا كان متعمّدا في إيجاد سبب موته لكي يموت ، وكان إيجاد سبب موته قبل أن يوصى - اجتهادات في مقابل النصّ الصحيح الصريح المعمول به عند الأصحاب والمشهور بل ادّعى بعضهم عليه الإجماع. ومثل هذا مخالف

ص: 252


1- « السرائر » ج 3 ، ص 197.
2- « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 328.
3- البقرة (2) : 181.

لأصولنا التي يجب العمل عليها.

فرع : لا تجوز الوصيّة لغير الأب والجدّ من طرف الأب بأن يجعل القيّم والوليّ على الأطفال بعد موته. أمّا الأب والجدّ من قبله فيجوز لهما ذلك ، وذلك من جهة ثبوت ولايتهما عليهم حال حياتهما بنحو يشمل جميع التصرّفات التي لها مدخليّة في إصلاح شؤونهم من الماليّات وغيرها حال حياتهما وحال مماتهما.

وإن شئت قلت : إنّ المستفاد من الأخبار المستفيضة وسائر الأدلّة أنّ لهما التصرّف في جميع شؤونهما الصالحة لهم ، سواء كانت تلك الأمور صالحة لهم في حال حياة الأب والجدّ أو في حال مماتهما.

ولا شكّ في أنّ نصب القيّم الثقة لإصلاح أمورهم وتدبير شؤونهم بعد موتهما من التصرّفات الصالحة لهم ، فلذلك يصحّ للأب والجدّ من طرف الأب الوصيّة بذلك وتكون نافذة.

فقوله صلی اللّه علیه و آله : « أنت ومالك لأبيك » (1) وأمثال ذلك من الروايات والأحاديث تدلّ على أنّ للأب والجدّ من طرف الأب الولاية والسلطنة على صغارهم وأطفالهم ، فلهما نصب القيّم الواحد أو الأكثر بالاستقلال أو بالاشتراك على صغارهما بعد موتهما ، ويجوز أيضا لهما جعل الناظر على ذلك القيّم الذي جعلاه ، كلّ ذلك لأجل الولاية التي لهما عليهم ، وهذا الحكم إجماعي لا خلاف فيه من أحد.

وأمّا الأمّ فلا تصحّ الوصيّة منها بالولاية عليهم بأن تجعل قيّما على أولادها الصغار ، لأنّه لا ولاية لها عليهم لعدم الدليل على ذلك ، إذ لا شكّ أنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم ولاية أحد على مال غيره وكذلك على نفس غيره ، والخروج عن هذا الأصل ليس إلاّ بالدليل ، ولا دليل على ولايتها عليهم ، بل الدليل على خلافه.

ص: 253


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 261 ، باب 78 ، ح 22479.

وأمّا الحاكم الشرعي وإن كان له الولاية على مطلق القاصرين الذين ليس لهم وليّ من الأب والجدّ من طرف الأب لأنّه وليّ من لا وليّ له من باب الحسبيّات - أي الأمور التي لا يرضى الشارع بتركها - وليس عن قبل الشارع من عيّن لتصدّيها ، فمثل هذه الأمور هو القدر المتيقّن أنّ تصدّيها وظيفة الحكّام والفقهاء ، بحيث لو لم يكن مجتهد مطلق عادل في البين تصل النوبة إلى عدول المؤمنين.

لكن كلّ ذلك من وظائفه حال حياته ، وأمّا بعد مماته يكون وظيفة سائر مصاديق هذه الطبيعة ، أي طبيعة مجتهد المطلق العادل.

فبناء على هذا ليست له الوصيّة بالولاية بأن يقول : اجعلوا فلانا قيّما على أطفال فلان بعد مماتي ، لعدم ولايته عليهم بعد مماته ، لرجوع أمرهم بعد موته إلى غيره من المجتهدين والحكّام.

وأيضا ما قلنا من أنّ للأب والجدّ من قبله الوصيّة بالولاية على صغارهما ، هذا يكون لكلّ واحد منهما مع فقد الآخر ، وإلاّ فمع وجود الآخر لا تصحّ ، لأنّه مع وجود الآخر يكون هو الوليّ منفردا أو بالاستقلال ، ولا يجوز مزاحمته من قبل أحد.

نعم الولاية المطلقة على الأموال والأنفس بحيث ينفذ حكمه على كلّ أحد هو للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وأولاده الطاهرين المعصومين. وما قلنا من أنّ مقتضى الأصل عدم ولاية أحد على مال الغير أو نفسه وإن كان صحيحا ، ولكن خرج من تحت هذا الأصل بالأدلّة القطعيّة تصرّفات النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

قال اللّه تعالى ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (2)

ص: 254


1- الأحزاب (33) : 6.
2- الأحزاب (33) : 36.

( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1) وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما في رواية أيّوب بن عطيّة : « أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ».

وقال صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خم : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟ » قالوا : بلى ، قال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » (2).

وقال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بعد ما ذكر الأدلّة على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة المعصومون لهم الولاية المطلقة على جميع الأموال والأنفس وفي جميع الأمور. والمقصود من جميع ذلك دفع ما يتوهّم من أنّ وجوب إطاعته صلی اللّه علیه و آله وإطاعة الإمام علیه السلام مختصّ بالأوامر الشرعيّة ، وأنّه لا دليل على وجوب طاعته في أوامره العرفيّة وسلطنته على الأموال والأنفس. وبالجملة فالمستفاد من الأدلّة الأربعة بعد التتبّع والتأمّل أنّ للإمام سلطنة مطلقة على الرعيّة من قبل اللّه تعالى وأنّ تصرّفهم نافذ على الرعيّة ماض مطلقا (3).

وما أفاده قدس سره كلام صحيح لا غبار عليه ، فبناء عليه للإمام علیه السلام التصرّفات في أموال الصغار وفي أنفسهم مع وجود الأب والجدّ من قبل الأب.

وفي تحقيق مسألة الولاية وأقسامها ، من التكوينيّة والتشريعيّة ، والمطلقة والمقيّدة ، والكليّة والجزئيّة محلّ آخر حققناها فيه ، واللّه هو العالم بحقائق الأمور.

الأمر الثالث : في الموصى به
اشارة

وهو إمّا عين أو منفعة ، وعلى كلّ واحد من التقديرين يعتبر في الوصيّة التمليكيّة

ص: 255


1- النور (24) : 63.
2- انظر : « الغدير » ج 1 ، ص 18.
3- « المكاسب » ص 153.

أن يكون مملوكا ، إذ عرّفنا الوصيّة بأنّها تمليك عين أو مال أو منفعة بعد الوفاة ، وإذا لم يكن ملكا لا يمكن تمليكه أو يكون حقّا قابلا للانتقال كحقّ التحجير ونحوه ، لا مثل حقّ القذف ونحوه مما لا يقبل الانتقال. ولا فرق في المال بين كونه عينا أو منفعة أو دينا في ذمّة الغير ، وفي العين بين كونها موجودة فعلا أو ممّا سيوجد ويكون متوقّع الوجود ، كالوصيّة بما تحمله الدابّة والجارية ، أو تمر الشجرة في المستقبل.

فرع : لا بدّ أن تكون العين الموصى بها ذات منفعة محلّلة مقصودة كي تكون مالا شرعا ، فلا تصحّ الوصيّة بالخمر إلاّ أن تكون قابلة للتحليل ، أو ينتفع بها في غير الشرب ، ولا بالخنزير ولا بآلات اللّهو والقمار إلاّ إذا كان ينتفع بها إذا كسرت ، ولا بالحشرات ولا بكلب الهراش. وأمّا منافع المحرّمة أو المحلّلة غير المقصودة للعقلاء فلا اعتبار بهما ، وهي في حكم العدم.

فرع : يشترط في الوصيّة العهديّة أن يكون ما أوصى به عملا سائغا ، فلا تصحّ الوصيّة بمعونة الظالمين ، وقطّاع الطريق ، وعمارة الكنائس ، ونسخ كتب الضلال وطبعها ونشرها. وخلاصة الكلام أنّ الوصيّة العهديّة لا بدّ وأن تكون بفعل غير محرّم ، وأن لا يكون صرف المال فيه عبثا وسفاهة. أمّا ما يكون محرّما ومبغوضا عند الشارع فوجهه واضح ، لأنّ الشارع لا يحثّ على أمر يغضبه ، فأدلّة الوصيّة منصرفة عنه. وأمّا ما هو عبث وسفاهة فأيضا منفور عنده.

فرع : يشترط في الوصيّة أن لا يكون الموصى به زائدا على ثلث التركة ، فإن كان زائدا بطلت إلاّ إذا أجاز الوارث ، وإذا أجاز بعض الورثة ولم يجز البعض نفذت في حصّة البعض المجيز دون البعض الذي لم يجز ، وإذا أجازوا في بعض الموصى به دون

ص: 256

البعض صحّ فيما أجازوا وبطلت في البعض الآخر بلا خلاف بينهم ، بل الحكم إجماعي.

والنصوص الدالّة على هذا مستفيضة أو متواترة :

منها : مكاتبة أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن علیه السلام : إنّ درّة بنت مقاتل توفّيت وتركت ضيعة أشقاصا في مواضع ، وأوصت لسيّدنا في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث ، ونحن أوصياؤها وأحببنا إنهاء ذلك إلى سيّدنا ، فإن أمرنا بإمضاء الوصيّة على وجهها أمضيناها وإن أمرنا بغير ذلك انتهينا إلى أمره في جميع ما يأمر به إن شاء اللّه؟ قال : فكتب علیه السلام بخطّه : « ليس يجب لها في تركتها إلاّ الثلث ، وإن تفضّلتم وكنتم الورثة كان جائزا لكم إن شاء اللّه ». (1)

ومنها : عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجل حضره الموت فأعتق غلامه وأوصى بوصيّته وكان أكثر من الثلث؟ قال علیه السلام : « يمضى عتق الغلام ويكون النقصان فيما بقي » (2).

ومنها : ما رواه عليّ بن عقبة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه؟ قال : « ما يعتق منه إلاّ ثلث وسائر ذلك الورثة أحقّ بذلك ولهم ما بقي » (3).

ومنها : ما عن الحسين بن محمّد الرازي قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام : الرجل

ص: 257


1- « الكافي » ج 7 ، ص 10 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 187 ، باب من يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5429. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 772 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 364 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 194 ، ح 780 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 454 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 194 ، ح 781 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 455 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 4.

يموت فيوصي بماله كلّه في أبواب البرّ ، وبأكثر من الثلث ، هل يجوز له ذلك وكيف يصنع الوصي؟ فكتب علیه السلام : « تجاز وصيّته ما لم يتعدّ الثلث » (1).

ومنها : ما عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إن أعتق رجل عند موته خادما له ثمَّ أوصى بوصية أخرى ألقيت الوصيّة وأعتقت الجارية من ثلثه ، إلاّ أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصيّة » (2).

ومنها : ما رواه عبّاس بن معروف قال : كان لمحمّد بن الحسن بن أبي خالد غلام لم يكن به بأس عارف يقال له « ميمون » فحضره الموت ، فأوصى إلى أبي العبّاس الفضل بن معروف بجميع ميراثه وتركته أن أجعله دراهم وابعث بها إلى أبي جعفر الثاني علیه السلام وترك أهلا حاملا وإخوة قد دخلوا في الإسلام وأمّا مجوسيّة قال : ففعلت ما أوصى به وجمعت الدراهم ودفعتها إلى محمّد بن الحسن. إلى أن قال : وأوصلتها إليه علیه السلام ، فأمره أن يعزل منها الثلث فدفعها إليه ويردّ الباقي إلى وصيّه يردّها على ورثته (3).

والأخبار بهذا المضمون كثيرة ذكرنا شطرا منها ، وظهورها في أنّ الوصيّة لا تنفذ في أزيد من ثلث تركته إلاّ بإجازة الورثة غنيّ عن البيان.

ونسب الخلاف في هذه المسألة إلى عليّ بن بابويه (4) قدس سره وأنّ الوصيّة تنفذ مطلقا وإن أوصى بجميع ماله ، أجاز الوارث أم لم يجز ، مستندا إلى ما رواه عمّار بن موسى

ص: 258


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 195 ، ح 784 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 16 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 458 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 5.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 197 ، ح 786 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 198 ، ح 790 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 125 ، ح 473 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 366 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 7.
4- حكاه عن علي بن بابويه في « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 350.

الساباطي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الرجل أحقّ بماله ما دام فيه الروح إذا أوصى به كلّه فهو جائز » (1).

ولكن هذه الرواية وما يقرب منها من حيث المضمون لا تقاوم الروايات المتقدّمة التي يمكن ادّعاء التواتر فيها.

مضافا إلى عمل الأصحاب بها وإعراضهم من هذه الطائفة حتّى ادّعى بعضهم الإجماع بقسميه على ما هو ظاهر الطائفة الأولى ، أي عدم نفوذ الوصيّة في الزائد على الثلث إلاّ بإجازة الوارث.

ووجّهوا كلام عليّ بن بابويه قدس سره بما لا ينافي المشهور بل المجمع عليه ، فلا يكون مخالف في المسألة أصلا.

والتوجيه المذكور في الجواهر (2) عبارة عن أنّ مراده وجوب صرف المال الموصى به بجميعه على حسب ما أوصى ، من حيث وجوب العمل بالوصيّة ، وحرمة تبديلها بنصّ الكتاب والسنّة حتّى يعلم فسادها وبطلانها ولو بالجور على الوارث وإرادة حرمانه من التركة الذي هو أحد أسباب بطلان الوصيّة.

ففي كلّ مورد احتملنا صحّة الوصيّة وإن كان لاحتمال أن يكون لموصى إليه دين عليه ، يجب على الوصي إنفاذ تلك الوصيّة وإن كانت بجميع ماله ، عملا بإطلاقات أدلّة نفوذ الوصيّة كتابا وسنّة حتّى يعلم أنّها وقعت تبرّعا فيكون مقدار الزائد على الثلث موقوفا على إجازة الوارث.

وحكى في الجواهر عن صاحب الرياض قدس سره أنّ هذا التوجيه وإن لم يكن ظاهرا من عبارة عليّ بن بابويه فلا أقلّ من مساواة احتماله لما فهموه من كلامه ، فنسبة

ص: 259


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 187 ، ح 753 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 459 ، باب انّه لا تجوز الوصيّة بأكثر. ، ح 9. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 370 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 19.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 282.

الخلاف إليه ليس في محلّه (1).

وعلى كلّ حال ، سواء كانت هذه التوجيهات لكلام ابن بابويه قدس سره صحيحة أو غير صحيحة ، لا يضرّ مخالفته بالحكم المجمع عليه الذي كان مفاد الروايات المتواترة.

كما أنّ ورود بعض الروايات الأخر - كرواية عمّار بن موسى الساباطي المتقدّمة ، ورواية محمّد بن عبدوس قال : أوصى رجل بتركته متاع وغير ذلك لأبي محمّد علیه السلام ، فكتبت إليه : رجل أوصى إليّ بجميع ما خلف لك ، وخلف ابنتي أخت له فرأيك في ذلك؟ فكتب إليّ : « بع ما خلف وابعث به إليّ » فبعت وبعثت به إليه ، فكتب إليّ : « قد وصل » (2) وبعض الروايات الأخر - لا تقاوم ما ذكرناه من الروايات الكثيرة المجمع عليها ، مع إعراض الأصحاب عن هذه الطائفة.

فرع : لو أجاز الوارث في حال حياة الموصي فيما زاد على الثلث هل تؤثّر تلك الإجازة ، أو لا بدّ وأن تكون بعد الوفاة؟

المشهور أنّ إجازة الوارث في حال الحياة موجبة لنفوذ ما زاد على الثلث ، ولا يجوز للوارث ردّه بعد وفاة الموصي ويكون ملزما بتلك الإجازة.

والدليل عليه :

أوّلا : الأخبار الواردة في هذا الباب المعمول بها عند الأصحاب المؤيّدة بعمومات وإطلاقات أدلّة نفوذ الوصيّة وعدم جواز تبديلها ، والقدر المتيقّن الخارج عن تحت تلك الإطلاقات هو في الوصيّة الزائدة على الثلث مع عدم صدور الإجازة من الوارث

ص: 260


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 282.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 195 ، ح 785 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 123 ، ح 468 ، باب انّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 369 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 16.

مطلقا ، لا في حال حياة الموصي ولا في ما بعد وفاته. أمّا في غير هذا فيشملها العمومات والإطلاقات.

ومن تلك الأخبار ما رواه محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل أوصى بوصيّة وورثته شهود فأجازوا ذلك ، فلمّا مات الرجل نقضوا الوصيّة هل لهم أن يردّوا ما أقرّوا به؟ فقال علیه السلام : « ليس لهم ذلك والوصيّة جائزة عليهم إذا أقرّوا بها في حياته » (1) وعن جماعة من أفاضل المحدثين بطرق مختلفة مثله (2).

ومنها : ما رواه منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أوصى بوصيّة أكثر من الثلث وورثته شهود فأجازوا ذلك له ، قال : « جائز » (3).

وثانيا : تعليق النفوذ - إذا كانت الوصيّة زائدة على الثلث - على إجازة الورثة إنّما هو لمراعاة حقّ الورثة ، ولا فرق في سقوط حقّهم بالإجازة بين أن تكون الإجازة في حال حياة الموصي أو بعد مماته.

وفيه : أنّ الفرق بينهما في كمال الوضوح ، فإنّه في حياة الموصي الورثة ليس لهم علاقة بما أوصى من التركة وهم والأجانب في ذلك سواء إلاّ في صدق قضيّة شرطيّة وهي أنّه على تقدير موته هم يرثون ، وأمّا بعد موته فالتركة ملك لهم ولذلك لو اعترفوا بعد وفاة الموصي أنّ هذا المال لزيد مثلا يعطى لزيد ، وأمّا في حال الحياة هذا الاعتراف لا يسمع منهم ولا يؤثّر في شي ء.

ص: 261


1- « الكافي » ج 7 ، ص 12 ، باب بدون عنوان ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 200 ، باب فيمن أوصى بأكثر من الثلث. ، ح 5461. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 193 ، ح 775 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 122 ، ح 464 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر. ، ح 14. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 371 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 13 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 371 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 13 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 193 ، ح 778 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 123 ، ح 467 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر. ، ح 17. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 372 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 13 ، ح 2.

وثالثا : بأنّ الموصى به إمّا يكون للموصي لو برأ ، وإمّا للورثة لو مات. فإن كان للموصي فقد أعطاه للموصى له بالوصيّة ، وإن كان للورثة فقد أعطوه بالإجازة.

وفيه : أنّه لا شكّ في أنّ المال للموصي ما دام روحه في جسده ولم يخرج ، فالكلام في أنّ إجازة الورثة قبل أن يملكوا لها أثر أم لا؟

والظاهر أنّه لو لا هذه الأخبار كان مقتضى القواعد الأوّلية عدم تأثير إجازتهم في حال حياة الموصي ، لعدم ارتباط المال بهم في ذلك الوقت إلاّ بنحو القضيّة الشرطيّة التي لم يوجد شرطه ، مثل أن يقول : لو عقد على فلانة - مع اجتماع الشرائط المقرّرة في كتاب النكاح لصحّة العقد ولترتّب الأثر عليه - كانت تلك زوجة له ، ومن المعلوم أنّه مع عدم العقد لا ارتباط شرعا بينهما.

ورابعا : أنّ التعليق على الموت في الوصيّة ليس في الإنشاء ، بل الإنشاء حاصل حال الوصيّة فعلا والمعلّق هي الملكيّة المنشأة بهذا الإنشاء ، فإنشاء الوصيّة قابل للقبول ولو قبل موته.

فكما أنّ القبول في العقود قبل حصول المنشأ بالإيجاب - إذ الملكيّة في البيع لا تحصل إلاّ بالقبول واجتماع الشرائط المعتبرة في الموجب والقابل والعوضين ، والزوجيّة كذلك لا تحصل إلاّ بعد قبول الزوج ، ولا ينافي ذلك قابليّة الإيجاب للقبول ، بل لا يعقل غير ذلك وإلاّ لا يحتاج إلى القبول أصلا - فكذلك في المقام وإن كان قبل موت الموصي لا تحصل ملكيّة الموصى به لا للموصى له ولا للورثة ، ولكن إنشاء الملكيّة للموصى له وجد ، وكذلك المنشأ بذلك الإنشاء.

غاية الأمر المنشأ هي الملكيّة المتأخّرة ، أي بعد وفاته ، فهذه الملكيّة المتأخّرة عن موته حيث أنّه أوجدها الموصي في عالم الاعتبار ، والإنشاء قابلة للإجازة والردّ فإن قلنا بأنّ ردّها لا أثر له فلدليل شرعي لا لعدم إمكانه ، فمقتضى القاعدة تأثير الإجازة لو لا دليل على عدم تأثيره ، وحيث لا دليل على عدم تأثيره فتؤثّر ، فلو لم تكن هذه

ص: 262

الروايات لكنّا نقول أيضا بأنّه ليس لهم الردّ بعد الإجازة في حال الحياة ، لعدم الفرق بين الإجازة في حال الحياة وبعد الوفاة فيما هو المناط.

وفيه : أنّ الفرق هو أنّ الإجازة بعد الوفاة تكون في حال لو لم تكن وصيّة في البين لكان ملكا لهم ، فإجازتهم في ذلك الوقت تشبه إجازة المالك لمعاملة الفضولي ، ولذلك مقتضى القاعدة هو النقل لا الكشف ، فكان إجازة الوارث هي متمّم عقد الوصيّة ، مثل إجازة المرتهن للراهن بيع العين المرهونة ، إذ له حقّ المنع وحقّ الإمضاء ، وكذلك الوارث له حقّ الردّ وحقّ الإجازة.

هذا إذا كان بعد الوفاة ، وأمّا في حال الحياة فالملك طلق للمورث ، ولا حقّ للوارث فيه أصلا كي يجيز ، فإجازته في ذلك الوقت كإجازة الأجنبي لا أثر له ، وليس البحث في أنّ إجازة الوارث هل لها متعلّق في حال الحياة أم لا كي تأتي هذه الكلمات.

فالإنصاف أنّه لو لم يكن ما ذكرنا من الروايات لكان مقتضى القاعدة عدم تأثير الإجازة في حال الحياة خصوصا فيما إذا ردّ أوّل زمان الموت ، لكنّ الروايات صحيحة صريحة وقد عمل بها الأصحاب ، فلا يبقى مجال للشكّ في الحكم أي في أنّ الإجازة في حال الحياة تؤثّر وليس للوارث الردّ بعد ذلك. ولا فرق في هذا الحكم بين وقوع الوصيّة في حال مرض الموصي وحال صحّته ، ولا بين كون الوارث غنيا أو فقيرا ، كما قال بعض ، وذلك لإطلاق الروايات.

فرع : وهو أنّه هل إجازة الوارث بعد الوفاة هبة للموصى له أو تنفيذ للوصية؟ وبعبارة أخرى : الموصى له يتلقّى الملك من الموصي أو من الوارث؟ إذ لا يمكن أن بكون هبة إلاّ بأن يقال : إنّ الموصى به ينتقل بسبب الإرث إلى الوارث ثمَّ بالإجازة ينتقل إلى الموصى له ، فيكون نقل الملك من الوارث إلى الموصى له مجّانا وبلا عوض ، وهذا معناه أنّه هبة من الوارث إلى الموصى له ، فلا بدّ وأن يجري فيها أحكام الهبة

ص: 263

من اشتراط صحّتها إلى قبض الموصى له ، وسائر أحكام الهبة من جواز رجوع الوارث الواهب إلى عين الموهوبة لو لم يكن الموصى له من ذوي الأرحام ، وغير ذلك من الأحكام.

والتحقيق في هذا الفرع موقوف على أنّ المقدار الزائد على الثلث هل ينتقل بالموت إلى الوارث ، ثمَّ منه بواسطة الإجازة ينتقل إلى الموصى له ، فيكون ابتداء هبة يقينا ، أم لا ينتقل إلى الوارث أصلا بل ينتقل إلى الموصى له ، غاية الأمر للإجازة دخل في هذا الانتقال وبدونها لا ينتقل ، لأنّه للوارث حقّ الإجازة والردّ؟

وبعبارة أخرى : يتلقّى الموصى له الملك عن الموصي ، والإجازة من قبيل إذن المرتهن في بيع الرهن إعمال حقّ من قبل المرتهن ، وإلاّ فالمشتري يتلقّى الملك من نفس البائع الراهن ، فبناء على هذا ليست بهبة يقينا ، لأنّ الموصى به ينتقل من الموصي إلى الموصى له ، والإجازة تكون تنفيذا لفعل الموصي ، لا أنّها ابتداء هبة وعطيّة من المجيز.

ثمَّ بعد وضوح هذه المقدمة ، فالظاهر من أدلّة الوصيّة كتابا وسنّة أنّ مقدار الوصيّة لا تنتقل إلى الوارث ، غاية الأمر إذا كانت زائدة على ثلث التركة انتقال الزائد إلى الموصى له مشروط بإجازة الوارث ، وللوارث حقّ الإجازة والردّ ، فإذا أجاز تكون إجازته تنفيذا لفعل الموصي ، لا انّ إجازته ابتداء هبة وعطيّة من قبله كما توهّمه بعض المخالفين ، وإلاّ فالحكم عندنا إجماعيّ ولم يخالفه أحد منّا فيه.

وها هنا تكلّموا كثيرا في أنّ المستفاد من أدلّة الوصيّة وأدلّة الإرث - أيّ واحد من الأمرين - هل هو انتقال المال إلى الورثة بعد الموت أوّلا ثمَّ بالإجازة تنتقل إلى الموصى له ، أو ابتداء ينتقل إلى الموصى له بشرط الإجازة؟

والأدلّة من الطرفين لكلّ واحد من القولين لا يخلو من نظر وإشكال ، ولكنّ الظاهر تخصيص أدلّة الإرث بأدلّة الوصيّة كما تقدّم منّا.

وأيضا تكلّموا كثيرا في الثمرات التي تترتّب على كلّ واحد من القولين ، مثلا لو

ص: 264

قلنا بأنّ الإجازة تنفيذ لفعل الموصي ، فالنماء بعد الموت وقبل الإجازة للموصى له. وأمّا إن قلنا بأنّ الإجازة هبة وعطيّة من الوارث ، فالنماء فيما بين الإجازة وموت الموصي للوارث ، لأنّ المال ملكه فيكون له منفعته ونماؤه.

فلو أوصى له شاة ومات وفرضنا أنّه زائد على الثلث ، فحليبها وصوفها فيما بين موت الموصي وإجازة الوارث للوارث ، وهكذا في سائر الموارد. وكذلك الأمر في النفقة إذا كان الموصى به حيوانا ، فبناء على الأوّل - أي كون الإجازة تنفيذا لما فعله الموصي - فالنفقة بعد الموت إلى زمان الإجازة على الموصى له ، وبناء على القول الثاني - أي كون الإجازة هبة - فالنفقة على الوارث.

فرع : ويعتبر الثلث - الذي إذا كانت الوصيّة أزيد منه يفتقر إلى إجازة الوارث أن يكون بذلك المقدار ولا يكون أزيد منه - حال الوفاة لا حال الوصيّة ، فلو كانت وصيّته في زمان الوصيّة أقلّ من الثلث أو مساويا معه ولكن في زمان الوفاة صار أزيد فالاعتبار بحال الوفاة ، ويحتاج إلى إجازة الوارث في مقدار الزيادة. وبالعكس لو كان ما أوصى به حال الوصاية أزيد من الثلث ولكن صار فيما بعد حال الوفاة أقلّ من الثلث بواسطة زيادة ثروته لكثرة أرباحه في معاملاته فلا يحتاج إلى الإجازة ، فالمدار في كون الموصى به لا يزيد على الثلث وإلاّ يفتقر إلى الإجازة هو الثلث حال الوفاة ، لا حال الإيصاء.

ووجهه : أنّ مفاد الروايات التي قدّر الوصيّة التي لا يحتاج إلى الإجازة بأن لا يكون أزيد عن الثلث هو أن لا يكون أزيد من ثلث ما ترك ، وهذا العنوان لا يصدق إلاّ على الثلث حال الوفاة.

فقوله علیه السلام في رواية أحمد بن إسحاق المتقدّم « ليس يجب لها في تركتها إلاّ

ص: 265

الثلث » (1) أي الثلث من تركتها ، ولا يصدق الثلث من التركة إلاّ على الثلث حال الوفاة ، لا على ثلث ماله في أيّ وقت من الأوقات.

وأيضا لأنّ حال الوفاة وقت تعلّق الوصيّة بالمال واستقرار الملك للوارث والموصى له ، لا حال الوصيّة ، ولذلك لو عاش الموصي زمانا طويلا بعد الوصيّة يكون جميع المال ملكا طلقا له لا يستحقّ الوارث شيئا منه ولا الموصى له ، فزمان استحقاقهما هو بعد الوفاة ، فلا بدّ وأن يكون التقدير بذلك اللحاظ وباعتبار زمان الاستحقاق وهو زمان الوفاة.

واستشكل في المسالك تبعا لجامع المقاصد على إطلاق هذه العبارة وقال : وهو يتمّ على إطلاقه مع كون الموصى به قدرا معيّنا كعين أو مائة درهم مثلا أو بجزء من التركة مع كونه حالة الموت أقلّ من زمان الوصيّة أو مساويا ، لأنّ تبرّعه بالحصّة المذكورة زائدة يقتضي رضاه بها ناقصة بطريق أولى ، أمّا لو انعكس أشكل اعتبار وقت الوفاة للشكّ في قصد الزائد وربما دلّت القرائن على عدم إرادته على تقدير زيادته كثيرا حيث لا يكون الزيادة متوقّعة غالبا (2).

وفيه : أنّ ظهور الألفاظ حجّة في تشخيص المراد واستكشافه حتّى وإن ظنّ بالخلاف ، نعم لو علم بأنّ الظاهر ليس بمراد فيسقط عن الحجيّة ، لأنّ حجّية كلّ أمارة مقيّدة بعدم العلم بالخلاف ، بل ومع العلم بمؤدّاه ، لأنّ حجّية العلم ذاتيّة ، فلا يبقى محلّ لجعل الحجيّة مع العلم بمؤداه.

ولزوم القصد إلى التمليك في مقام التمليك وإن كان من المعلوم ، ولكن ظهور لفظه في أنّ مراده ما يكون اللفظ ظاهرا فيه يكون أمارة على أنّ مراده ومقصوده هو ما يكون اللفظ ظاهرا فيه. واحتمال أن لا يكون مراده ما هو ظاهر اللفظ ملغى في نظر

ص: 266


1- تقدّم في ص 257 ، رقم (1).
2- « المسالك » ج 1 ، ص 393.

الشارع ولا يعتنى به.

نعم لو حصل العلم ولو كان بتوسّط القرائن بأنّ ما هو ظاهر اللفظ ليس بمراد ، فالظاهر ليس بحجّة. وأمّا الشكّ في أنّه هل قصد تمليك الزيادة المتجدّدة أم لا ، لا يضرّ بلزوم الأخذ بما هو ظاهر اللفظ واستكشاف القصد من ذلك الظاهر.

فهذا الإشكال الذي أورده المحقّقان في جامع المقاصد (1) والمسالك على إطلاق عبارة الشرائع (2) والقواعد (3) يمكن الجواب عنه بما ذكرناه.

وفي المسالك أشار إلى ما ذكرنا بقوله : ووجه إطلاق المصنّف وغيره اعتبار حال الوفاة الشامل لذلك النظر إطلاق اللفظ الشامل ذلك (4).

فرع : لو أوصى لرجل بثلث ماله أو بربعه أو بكسر آخر ثمَّ قتله قاتل خطأ أو جرحه جارح كذلك ، فوصيّته ماضية من ماله منضمّا إليه دينه وأرش جراحته. والمقصود أنّ دية المقتول خطاء أو عمدا إن صالحوا مع القاتل بالدية تكون جزء المال في مقام إخراج الثلث أو الربع أو غير ذلك ، ولا يكون مخرج الثلث أو الربع أو غيرهما من الكسور الذي أوصى بها المال الذي كان يملكه قبل وقوع الجناية فقط ، بل المال الذي يملكه بعد الوصيّة من دية قتله أو أرش جراحته أيضا داخل في مجموع الكسر الذي أوصى به ، فيخرج الثلث من المجموع.

مثلا لو كان ماله قبل ورود الجناية عليه ثلاثة آلاف دينار ، وبعد أن قتل خطأ زاد عليه ألف دينار من قبل ديته ، وهو أوصى بربع ماله ، فيخرج الربع من مجموع ماله وديته ، أي من أربعة آلاف دينارا ، فيعطى للموصى له ألف دينار.

ص: 267


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 116.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 246.
3- « قواعد الأحكام » ج 2 ، ص 297.
4- « المسالك » ج 1 ، ص 394.

والدليل عليه الأخبار :

منها : رواية محمّد بن قيس قال : قلت له : رجل أوصى لرجل بوصيّة من ماله ثلث أو ربع ، فيقتل الرجل خطأ يعنى الموصي؟ فقال : « يجاز لهذا الوصيّة من ماله ومن ديته » (1).

ومنها : رواية السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين : من أوصى بثلثه ثمَّ قتل خطأ ، فإنّ ثلث ديته داخل في وصيّته » (2).

ومنها : أيضا رواية أخرى عن محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أوصى لرجل بوصيّة مقطوعة غير مسماّة من ماله ثلثا أو ربعا أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، ثمَّ قتل بعد ذلك الموصي فودي ، فقضى في وصيّته أنّها تنفذ من ماله ومن ديته كما أوصى ».

وهذه الروايات صريحة في دلالتها على أنّ ما يملكه بعد الموت داخل في ما أوصى به. وبعبارة أخرى : يحسب الثلث أو الربع أو ما هو أقلّ أو أكثر من ذلك من مجموع ما كان يملكه قبل الموت وما يملكه بعد الموت بواسطة ديته أو غير ذلك.

ولا فرق بين ما يملكه الموصي بعد الموت بواسطة دية قتل الخطأ ، أو بواسطة قتل العمد بعد صلح الورثة مع القاتل بأخذ الدية ، وإن كان الحكم أوّلا أنّ للورثة حقّ القصاص ، ولكن بعد ما صالحوا مع القاتل بالدية تكون الدية عوضا عن نفس المجني عليه فهو أحقّ بها ، فإذا كان الإنسان يملك عوض ماله فهو أولى بأن يملك عوض

ص: 268


1- « الكافي » ج 7 ، ص 63 ، باب النوادر ، ح 21 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 227 ، باب الرجل يوصى من ماله بشي ء. ، ح 5536. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 207 ، ح 822 ، باب وصيّة من قتل نفسه أو قتله غيره ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 372 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 14 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 7. « الفقيه » ج 4 ، ص 227 ، باب الرجل يوصى من ماله بشي ء. ، ح 5537. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 193 ، ح 774 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 372 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 14 ، ح 2.

نفسه ، بأن يكون في حكم ماله يصرف في ما هو من شؤونه ، من أداء ديونه والعمل بوصاياه.

هذا بناء على أنّ اعتبار الملكيّة للميّت لا معنى له لعدم مساعدة العرف والعقلاء ، وأمّا لو قلنا بأنّه يملك حقيقة فلا إشكال وتكون كسائر أمواله.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه يملك الدية بعد الوفاة والموت ، لأنّ الموت علّة أو موضوع لها ، فتكون ملكيّته لها أو كونها في حكم ماله متأخّرة عن الوفاة ، فلا تشملها أدلّة أنّ الوفاء بالوصيّة من الثلث عند الوفاة ، والدية ليست من ملكه عند الوفاة ومقارنة لها بل بعدها.

فليس بشي ء لأنّ هذا التأخّر رتبيّ لا زماني ، بل لا يمكن أن يكون ، وإلاّ يلزم إمّا انفكاك المعلول عن العلّة زمانا ، وإمّا انفكاك الحكم عن الموضوع ، وكلاهما محالان.

هذا ، مضافا إلى النصوص الواردة في المقام من عدم الفرق بين دية الخطأ ودية العمد بإطلاقها أو بالتصريح.

منها : رواية يحيى الأزرق ، عن أبي الحسن علیه السلام في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدية من قاتله ، عليهم أن يقضوا دينه؟ قال : « نعم ». قلت : هو لم يترك شيئا ، قال : « إنّما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه » (1).

ومنها : خبر عبد الحميد : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن رجل قتل وعليه دين ، وأخذ أهله الدية من قاتله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : « نعم ». قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : « إنّما إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا الدين » (2).

ص: 269


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 225 ، باب قضاء الدين من الدية ، ح 5532 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 245 ، ح 952 ، باب في الزيادات ، ح 45 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 411 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 31 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 225 ، باب قضاء الدين من الدية ، ح 5532 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 192 ، ح 416 ، باب الديون وأحكامها ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 111 ، أبواب الدين والقرض ، باب 24 ، ح 1.

وهاتان الروايتان ظاهر في عدم الفرق بين دية العمد والخطاء بالإطلاق.

وأمّا ما يدلّ على الصراحة فهو خبر عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام قال : قلت : فإنّه قتل عمدا وصالح أوليائه قاتله على الدية ، فعلى من الدين على أوليائه من الدية أو على إمام المسلمين؟ فقال : « بل يؤدّوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه ، فإنّه أحقّ بديته من غيره » (1).

فهذا الخبر نصّ في أنّ دية قتل العمد أيضا تصرّف في أداء ديونه والعمل بوصاياه.

وأمّا القول بأنّ المجعول ابتداء في قتل العمد هو حقّ القصاص للوارث ، غاية الأمر أنّه للوارث أن يصالح حقّه هذا مع القاتل بمقدار الدية أو أقلّ أو أكثر لا أنّ المجعول هي الدية أو حقّ الاقتصاص كي لو اختار الدية يكون ما يأخذ دية ويكون عوض نفس المجني عليه ، فيدخل في ملك الميّت أو يكون بحكم ماله فيؤدّي منها ديونه.

فمن قبيل الاجتهاد مقابل النصّ الصريح الصحيح المعمول به عند الأصحاب ، فلا ينبغي الاعتناء إلى أمثال هذه الكلمات ، ولذلك ادّعى بعضهم الإجماع على عدم الفرق بين الدية في قتل الخطاء أو في قتل العمد بعد مصالحة الورثة حقّ اقتصاصهم بمقدار الدية وأخذهم الدية عن القاتل ، خصوصا مع تعبيره علیه السلام « بأنّه أحقّ بديته من غيره ».

فرع : لو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صحّ ، وربما يشترط كونه قدر الثلث أو أقلّ. هذا هو فتوى المشهور من أصحابنا.

ص: 270


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 112 ، باب القود ومبلغ الدية ، ح 5220 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 92 ، أبواب القصاص في النفس ، ح 2.

والأصل فيه رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم ، وأذن له عند الوصيّة أن يعمل بالمال وأن يكون الربح بينه وبينهم؟ فقال علیه السلام : « لا بأس به من أجل أنّ أباه قد أذن له في ذلك وهو حيّ » (1).

وأيضا رواية محمّد بن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن خالد بن بكير الطويل قال : دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال : يا بنيّ اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به وخذ نصف الربح وأعطهم النصف وليس عليك ضمان ، فقدّمتني أمّ ولد أبي بعد وفاة أبي إلى ابن أبي ليلى فقالت : إنّ هذا يأكل أموال ولدي. قال : فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي فقال لي ابن أبي ليلى إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه ثمَّ أشهد عليّ بن أبي ليلى أنّ أنا حرّكته فأنا له ضامن فدخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام فقصصت عليه قصّتي ثمَّ قلت له : ما ترى؟ فقال علیه السلام : « أمّا قول ابن أبي ليلى فلا استطيع ردّه ، وأمّا فيما بينك وبين اللّه عزّ وجلّ فليس عليك ضمان » (2).

ثمَّ إنّ ظاهر هاتين الروايتين الحكم بصحّة الوصيّة بالمضاربة وعدم الضمان للعامل لو خسرت المعاملة ، وأيضا مقتضى الظاهر في كلتا الروايتين كون الأولاد صغارا.

أمّا رواية محمّد بن مسلم فظهورها في كون الأولاد صغارا فمن أجل قول محمّد بن مسلم أنّه سأل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم ، فإنّ الوصيّة بولده إلى رجل لا يصحّ إلاّ أن يكونوا صغارا ، وظاهر الرواية أنّها وصية صحيحة.

وأمّا رواية خالد بن بكير فصرّح فيها بذلك في قول أبيه له « يا بنيّ اقبض مال

ص: 271


1- « الكافي » ج 7 ، ص 62 ، باب النوادر ، ح 19 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 227 ، باب الرجل يوصى إلى رجل بولده. ، ح 5538. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 236 ، ح 921 ، باب الزيادات الوصايا ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 478 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 92 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 61 ، باب النوادر ، ح 61 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 228 ، باب الرجل يوصى إلى رجل بولده. ، ح 5539. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 236 ، ح 919 ، باب الإقرار في المرض ، ح 37 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 478 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 92 ، ح 2.

إخوتك الصغار واعمل به » ومعلوم أنّ للأب جعل القيّم لولده الصغار بعد موته كي يدبّر أمورهم وشؤونهم ، وأيضا له أن يجعل أجرة له بإزاء عمله بما يرى من صلاحهم ، فإذا رأى من صلاحهم أن يجعل من يعمل في أموالهم بالمضاربة فله أن يوصى بذلك إلى رجل أمين عنده ويعيّن حصّته من الربح أجر عمله ، ولا إشكال في ذلك وفي فتوى المشهور بصحّة مثل هذه الوصيّة. وهذا إذا كان فتواهم في مورد الروايتين أو الوصية بالمضاربة في مال أولاده الصغار.

وأمّا الظاهر من بعض العبائر هو صحّة الوصيّة بالمضاربة على ورثته مطلقا ، كانوا بالغين أم صغارا ، كالعنوان الذي ذكرنا في أوّل هذا الفرع تبعا للشرائع (1) وهو قولنا : لو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صحّ.

ولا شكّ في أنّ إطلاق الورثة يشمل الصغير والكبير ، وأيضا يشمل ما إذا كان ما عيّنه عن حصّة العامل ، أي نصف الربح أزيد من الثلث ، أو أقلّ ، أو المساوي.

ثمَّ إنّه ربما يأتي إشكال : وهو أنّه لو كانت الورثة كبارا فليس للموصي أن يوصي بالمضاربة في أموالهم ، خصوصا إذا كانت مدّة المضاربة كثيرة ، مثل خمسين سنة والربح الذي يعود إليهم قليل ، فيرجع المضاربة حينئذ إلى منعهم عن التصرّف في ملكهم مدّة طويلة إذا أوصى بتلك المدّة وقلنا بوجوب إنفاذ تلك الوصيّة لقوله تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (2).

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال : بأن الوصيّة يمكن أن تكون صحيحة وتكون مشروطة بإجازة المالك إن كانت الورثة كبارا ، فإذا أجازوا فلا يأتي كلا الإشكالين ، لأنّها بإذنهم ، غاية الأمر في صورة بلوغ الوارث تكون الوصيّة مثل سائر

ص: 272


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 246.
2- البقرة (2) : 181.

المعاملات الفضوليّة ، فيحتاج إلى إجازة المالك.

وأمّا إذا كانوا صغارا ، فله الولاية عليهم وجعل القيّم عليهم ، وأن يفعل كذا وكذا.

وأمّا الإشكال على إطلاق العبارة بأنّها تشمل ما إذا كانت حصّة العامل أزيد من الثلث فتكون الوصيّة باطلة فيما زاد ، إلاّ أن تكون بإجازة الوارث.

ففيه : أوّلا : أنّ الربح ليس ممّا ترك ، بل هو نتيجة سعي العامل ، وإلاّ فالمال الذي تركه الميّت باق إمّا عينا أو ما يقابله من ثمنه ، ولم يتلف منه شي ء مع وجود الربح ، وإلاّ يكون فرض الخسران لا الربح. وأمّا مع عدم وجود الربح فلا يأتي هذا الإشكال أصلا ، لأنّه حينئذ لا حصّة للعامل كي يقال حصّته أزيد من الثلث ، فلا يرد إشكال على كلا التقديرين ، سواء كان هناك ربح أو لم يكن ، وسواء كان على تقدير وجوده أزيد من الثلث أو لم يكن.

وثانيا : أنّ الربح يحدث على ملك العامل ، بمعنى أنّه على فرض صحّة المضاربة حصّة العامل من أوّل حدوثه يكون حدوثه على ملك العامل ، لا أنّه يحدث على ملك الموصي المورث ، أو يحدث على ملك الورثة ثمَّ تنتقل إلى العامل ، فليست من تركة الميت كي لا تنفذ في أزيد من الثلث.

وقال في جامع المقاصد (1) ما مفاده : أنّه يلزم من فساد هذه المضاربة عدم فسادها ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال. وبيّن هذا المطلب : أنّ فسادها على تقدير ثبوته إنّما يكون لتفويت ما زاد على الثلث من التركة تبرّعا ، وذلك إنّما يكون على تقدير أن يكون حصّة العامل أزيد من أجرة المثل بزيادة على الثلث ، وأن تكون ذلك من نماء مال التركة إذا صحّت المضاربة ليكون الشراء نافذا ، فإذا فسدت المضاربة لم ينفذ الشراء فلم يتحقّق الربح ، فانتفى التصرّف في الزائد على الثلث ، فانتفى المقتضي للفساد ، فوجب الحكم بالصحّة. ومتى أدّى فرض الفساد إلى عدمه كان

ص: 273


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 118.

فرضه محالا.

وقال ابن إدريس (1) ببطلان هذه الوصيّة لأنّه وصيّة بالباطل ، ووافق ابن أبي ليلى حيث قال لخالد بن بكير الطويل بعد ما سمع منه ما أوصاه أبوه من المضاربة والعمل في مال إخوته الصغار وأخذ نصف الربح لنفسه وإعطاء النصف الآخر لإخوته : إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه.

ووجه البطلان بأنّ الوصيّة لا تنفذ إلاّ في ثلث المال قبل موته ، والربح تجدد بعد موته ولم يكن له وجود قبل موته ، فكيف تنفذ وصيّة دخوله فيه.

وفيه : أنّ منافع ما يملكه الميّت قبل موته تصحّ الوصيّة فيها مع أنّها توجد بعد موته ، فلا يعتبر في صحّة الوصيّة وجود الموصى به قبل الموت ، بل الوصيّة تنفذ في ثلث ما يملكه الميّت ، سواء كان وجوده قبل موت الموصي أو كان من منافع ما يملكه وإن كان وجود تلك المنافع بعد موته ، فهي باعتبار أنّها تابعة لما كان يملكه قبل موته يصحّ الوصيّة فيها وإن كان حدوثها في ملك الوارث إذا وجدت بعد موت المورث.

وبعبارة أخرى : حينما كانت الأعيان في ملك الموصي وكان حيّا كانت تلك المنافع متوقّعة الوجود ، فلذلك تحسب من أمواله وتدخل في ثلثه ، خصوصا إذا كانت من قبيل الأثمار للأشجار أو الحمل للدابّة.

ولذلك لم يشكل أحد في جواز الوصيّة بهما وأمثالهما فكلام ابن إدريس وابن أبي ليلى لا أساس لهما ، فالروايتان ليستا مخالفتان للقواعد الأوّليّة في باب الوصيّة وقد عمل بهما الأصحاب ، فلا إشكال في حجّيتهما ولزوم العمل بهما ، أي في مورد الوصيّة بالمضاربة في أموال أولاده الصغار.

وأمّا إذا كانت الورثة كبارا وبالغين ، أيضا لا مانع من صحّة الوصيّة. نعم تكون من قبيل المعاملة الفضوليّة فتكون موقوفا على الإجازة ، من جهة أنّ المال بعد الموت

ص: 274


1- « السرائر » ج 3 ، ص 192.

ملك للورثة البالغين ، وليست للمورّث الموصي ولاية عليهم.

إن قلت : إنّ له الوصيّة والتصرّف بمقدار الثلث من ماله وإن كانت ورثته من الكبار والبالغين ، وفي الزائد موقوف نفوذها على الإجازة.

قلنا : أوّلا أنّ المورد ليس عن ذلك القبيل بأن يملّك مقدارا من ماله للموصى له وصيّة تمليكيّة كي تكون نافذة في مقدار الثلث وفي الزائد تكون موقوفا على الإجازة ، بل إيصاء للوصي أن يضارب بهذه الكيفيّة ، وإن كانت الورثة صغارا لا يحتاج إلى إجازتهم ، لأنّ وليّهم أذن وأجاز.

وأمّا إن كانوا كبارا فليس لأحد التصرّف والتجارة في أموالهم إلاّ بإذنهم وإجازتهم ، فليست وصيّته للعامل المضارب كي تكون نافذة في مقدار الثلث ، بل يكون أذن في التجارة والعمل بإزاء نصف الربح.

وثانيا : تقدّم أنّ الربح ليس من أموال الميّت كي يكون بمقدار الثلث نافذا غير محتاج إلى الإجازة ، فإن لم يكن أذن الأب بالتجارة في أموال أولاده وصيّة بمقدار من ماله فلا مجال لأن يقال بالنفوذ في مقدار الثلث أو أقلّ ، سواء كانوا صغارا أو كبارا بل إذا كانوا صغارا يؤثّر إذنه مطلقا ، وإذا كانوا كبارا لا أثر لإذنه ويكون من قبيل الفضولي ليس للوصي التصرّف مطلقا إلاّ بإجازتهم.

فرع : لو أوصى بواجب وغيره ، فإن وسع الثلث عمل بالجميع ، وإن قصر ولم يجز الورثة بدأ بالواجب من الأصل وكان الباقي من الثلث ، ويبدأ بالأوّل فالأوّل ، ولو كان الكلّ غير واجب بدأ بالأوّل فالأوّل حتّى يستوفي الثلث.

أقول : الواجب قسمان : ماليّ وبدنيّ. والواجب المالي تارة مالي محض كالزكاة والخمس والكفارات الماليّة ، لا مثل الصوم شهرين متتابعين في بعض الكفارات أو عشرة أيّام أو ثلاثة أيّام أو غير ذلك في البعض الآخر. والكفّارات الماليّة كعتق رقبة

ص: 275

أو الطعام ستّين مسكينا أو إعطاء مدّ من الطعام وأمثال ذلك. وأخرى : ماليّ مشوب بالبدن كالحجّ الواجب.

وأمّا الواجب البدني فهو مثل الصلاة والصوم وغيرهما ممّا ليس المطلوب فيها صرف المال ، بل المطلوب فيها الأعمال البدنيّة.

أمّا القسم الأوّل لو أوصى به يخرج من أصل المال ، بل يخرج من أصل المال وإن لم يوص به ، لأنّها في الحقيقة ديون تعلّقت بماله في حياته ويجب أداؤها والإرث فيما سواها وبعد أدائها.

وأمّا القسم الثاني فلا يخرج من أصل المال بل يخرج من الثلث ، لعدم وجوب إخراجها من تركة الميّت إلاّ إذا أوصى بها ، فتكون كالوصايا التبرعيّة لا تنفذ بدون إجازة الورثة إلاّ في الثلث.

فبناء على هذا لو كان الواجب الذي ذكرنا في العنوان واجبا ماليّا وأوصى به مع ما ليس بواجب أصلا ، فمقتضى القواعد الأوّليّة وإطلاقات أدلّة وجوب العمل بالوصيّة وإنفاذها في الثلث فقط إلاّ مع إجازة الورثة أنّه يجب العمل بالجميع إن وسّع الثلث لذلك. وأمّا إن قصّر ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، فيبدأ بالواجب من الأصل وغير الواجب من الثلث ، الأوّل فالأوّل.

مثلا لو كانت تركته تسعمائة دينار وأوصى بحجّ واجب وإعطاء مصارف الزواج لزيد مثلا مائتي دينار ، ومصارف الزواج لعمرو أيضا مائتي دينار ، وأجرة الحجّ يفرض أنّها ثلاثمائة دينار ، فالحج الواجب أوّلا يخرج من أصل التركة ثلاثمائة دينار ، فيبقى التركة ستمائة دينار بعد إخراج ثلاثمائة للحجّ الواجب وثلث الباقي مائتان.

فبناء على إنفاذ الوصيّة في غير الواجب المالي على الترتيب - أي الأوّل فالأوّل لا يبقى لزواج عمرو مال ، لأنّ الوارث لم يجز والثلث لا يسع للجميع ، فإذا بنينا على إنفاذ الوصيّة في غير الواجب المذكور الأوّل فالأوّل ، فلا يبقى محلّ للوصيّة الثالثة - أي

ص: 276

زواج عمرو - فتبطل بالنسبة إليه.

وذلك لأنّ الشارع لم يمض تصرّفات الموصي المتبرّعة في أمواله بتمليكه بعد موته لغيره في أزيد من ثلث ما يملكه إلاّ بإجازة الورثة ، ولا شكّ في أنّ الوصيّة في غير الواجبات من التبرّعات ، بل وحتّى في الواجبات غير المالي ، فلا بدّ من إخراجها من الثلث فيما إذا لم يجز الورثة كما هو المفروض.

وأمّا كونها أوّلا فأوّلا فإمّا من جهة تصريح الموصي بذلك بأن قال : خذوا نائبا لي في الحجّ الذي كان واجبا عليّ وما أديته ، وأعطوا زيدا مائتي دينار لزواجه ، ثمَّ أعطوا لعمرو كذلك مائتي دينار لزواجه ، أو فأعطوا لعمرو أو أعطوا عمروا بعد زواج زيد أو بعد إعطائكم زيدا.

والحاصل : أنّ الترتيب قد يستفاد من تصريح الموصي بذلك ، وقد يستفاد من ظواهر الألفاظ ، وقد يستفاد من القرائن الحاليّة والمقاليّة ، ولو كانت تلك القرينة هو الترتيب الذكري.

هذا كلّه فيما إذا كانت الوصيّة مركبة من الواجب المالي وغيره ، وأمّا إذا كان كلّها واجبا غير مالي ، أو كان كلّها غير واجب أصلا بل كان من التبرّعات ، أو كان مركّبا من الواجب غير المالي وغير الواجب أصلا ، فالحقّ أنّها تخرج من الثلث. وإن قيل بأنّ الواجبات غير الماليّة كالصلاة والصوم أيضا تخرج من الأصل ، ولكنّ الحقّ خلافه ، لما أشرنا إليه وهو أنّها أيضا من التبرّعات ، وكذلك بعد الفراغ من أنّها من الثلث لا من الأصل يكون إخراجها أوّلا فأوّلا إن لم يسع الثلث للجميع.

أمّا إخراج جميع هذه الأقسام الثلاثة - أي فيما إذا كان جميع ما أوصى بها غير واجب أصلا ، أو كان جميعها واجبا غير مالي ، أو كان مركّبا منهما - من الثلث لا من الأصل ، فلأنّها ليست مثل الديون بحيث يجب إخراجها ، ولو لم تكن وصيّة في البين بل وصيّة تبرعيّة بها ، فلا تنفذ إلاّ في الثلث إلاّ بإجازة الورثة.

ص: 277

وأمّا كونها أوّلا فأوّلا فيما إذا لا يسع الثلث للجميع ، فمثل ما ذكرنا وتقدّم من استفادة الترتيب إمّا من تصريح الموصي بذلك ، أو من الظهور اللفظي ككونها عقيب الفاء أو ثمَّ ، أو من القرائن الحاليّة أو المقاليّة ولو كانت هي الترتيب في الذكر كما تقدّم.

وأمّا لو لم يستفد الترتيب من تصريحه أو ظهور لفظه بما ذكرنا ، أو صرّح بعدم الترتيب في مقام الوصيّة كأن قال : لا تقدّموا بعض هذه على بعض ، فإن لم يسع الثلث للجميع ولم يجز الورثة فيما زاد ، فيقسّط النقص على الجميع بنسبة نقص الثلث عن مجموع الوصايا.

مثلا لو أوصى وصيّة تبرعية لأحدهم بمائتين وللآخرين كلّ واحد منهما بمائة فالمجموع يصير أربعمائة يفرض أنّ الثلث ثلاثمائة فالثلث ينقص عن الوصيّة بالربع أي يكون الثلث ثلاثة أرباع الوصيّة ، فينقص عن نصيب كلّ واحد منهم ربع ما أوصى له ، فمن صاحب المائتين يسقط خمسين ، ومن الآخرين من كلّ واحد منهما خمسة وعشرين ، وبعد إسقاط ما ذكرنا يبقى مجموع الوصيّة ثلاثمائة وهو مساو للثلث. وهكذا الأمر في جميع موارد نقص الثلث عن مجموع الوصيّة فيما إذا لم يفهم ترتيب أو فهم عدمه.

ثمَّ إنّه لو اشتبه الأمر ولم يكن دليل على الترتيب ولا على عدمه ، كما أنّه لو عدّد أشياء ثمَّ أوصى بمجموعها وكان الثلث أقلّ ، فهل يقسّط النقص على الجميع أو يقرع؟ وجهان ، والأظهر هو الأوّل.

هذا فيما إذا عيّن مقدار الموصى به لكلّ واحد منهم ، وأمّا إذا لم يعيّن فيقسّم بينهم بالسويّة ، كما إذا قال : أعطوا ثلث مالي بعد وفاتي زيدا وعمروا وبكرا ، أو قال : ملّكت ثلث أموالي هؤلاء وعددّهم.

وها هنا رواية تدلّ على نفوذ الوصيّة أوّلا فأوّلا فيما إذا يفي الثلث بالجميع ، بمعنى أنّه يبدأ بإنفاذ الوصيّة بما أوصى أوّلا ، ثمَّ بما بعدها ، وهكذا حتّى يتمّ الثلث ، وبطل

ص: 278

الزائد مع عدم إجازة الوارث.

وهي ما رواه حمران عن أبي جعفر علیه السلام في رجل أوصى عند موته وقال : أعتق فلانا وفلانا وفلانا حتّى ذكر خمسة ، فنظر في ثلثه فلم يبلغ ثلثه أثمان قيمة المماليك الخمسة الذين أمر بعتقهم قال علیه السلام : « ينظر إلى الذين سمّاهم وبدأ بعتقهم فيقوّمون وينظر إلى ثلثه ، فيعتق منه أوّل شي ء ذكر ، ثمَّ الثاني ، ثمَّ الثالث ، ثمَّ الرابع ، ثمَّ الخامس فإن عجز الثلث كان في الذين سمى أخيرا ، لأنّه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك ، فلا يجوز له ذلك » (1).

وهذه الرواية تدلّ على أنّ الترتيب الذكري كاشف وأمارة على الترتيب الواقعي ، خصوصا بملاحظة التعليل الذي ذكره علیه السلام لحكمه بإنفاذ الوصيّة الأوّل فالأوّل.

فتحصّل ممّا ذكرنا في هذا الفرع أنّه إذا أوصى بوصايا متعدّدة ، فإن كان كلّها أو بعضها واجبا ماليّا ، يخرج ذلك الواجب المالي من الأصل ، سواء زاد على الثلث أم لم يزد. وأمّا إن لم يكن فيها واجب مالي ، سواء كان فيها واجب بدني أو لا ، أي سواء كان كلّها من واجبات بدنيّة أو بعضها أو لم يكن فيها واجب أصلا ، فيكون كلّها من الثلث ولا يكون في أزيد منه إلاّ بإجازة الوارث.

هذا فيما إذا كان الثلث وافيا بالجميع ، وأمّا إن لم يف بالجميع فقيل بتقديم الواجب على غيره ويخرج من الثلث ابتداء ثمَّ تصل النوبة إلى التبرّعات. ولكن عرفت أنّ الواجب البدني في عرض سائر المتبرّعات ، ولا تقدّم له عليها.

ثمَّ إنّه إن استفدنا الترتيب من تصريح الموصي أو من ظهور ألفاظه وضعا أو بتوسّط القرائن الحاليّة أو المقاليّة فيؤخذ به. وأمّا إن لم نستفد شيئا من هذا القبيل ،

ص: 279


1- « الكافي » ج 7 ، ص 19 ، باب من أوصى بعتق أو صدقة أو حجّ ، ح 15 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 212 ، باب الوصيّة بالعتق والصدقة والحجّ ، ح 5493 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 197 ، ح 778 ، باب الوصيّة بالثلث وأقل منه وأكثر ، ح 20 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 457 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 66 ، ح 1.

أو فهمنا من كلامه عدم الترتيب لتصريحه أو من القرائن ، فمقتضى القاعدة هو التقسيط وورود النقص على الجميع ، فينقص عن كلّ وصية من تلك الوصايا بنسبة نقص الثلث إلى مجموع الوصايا كما تقدّم ، لا القرعة كما توهّم.

نعم مقتضى رواية حمران المتقدّم هو الأخذ بالأوّل فالأوّل ، لكن بيّنّا أنّه بواسطة كون الترتيب الذكري أمارة على الترتيب الواقعي كما يظهر من تعليله علیه السلام بذلك حكمه بالإنفاذ أوّلا فأوّلا إلى أنّ يتمّ الثلث. وأمّا لو علم أنّه لم يرد الترتيب الواقعي ، بل أراد أن يكون الثلث لجميعهم ، فلا يبقى محلّ للأخذ بالأوّل فالأوّل.

فرع : لو أوصى لشخص بثلث ما يملك ، ولآخر بربعه ، ولثالث بسدسه ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، فبناء على استفادة الترتيب من هذه الوصيّة ، إمّا من ترتيب الذكري ، أو من القرائن المقاميّة أو الحاليّة أو المقاليّة ، أو من الظهور الوضعي كما إذا عقب الوصيّة الأولى بالفاء أو بثمّ في الثانية والثالثة وهكذا ، أو من جهة كون الترتيب الذكري أمارة على الترتيب الواقعي كما أشرنا إليه في بيان رواية حمران ، فيكون الثلث للشخص الأوّل وبطلت الوصيّة لمن عداه.

وأمّا بناء على عدم استفادة الترتيب ، أو استفادة عدمه من القرائن المقاميّة ، أو تصريحه كما لو قال : لا تقدّموا أحدا على أحد في هذه الوصية بل يكون ثلثي لكلّهم ، فمقتضى القاعدة هو تقسيط الثلث على كلّهم ، أو القرعة إذا كان المورد واجدا لشرائط الاستخراج بالقرعة.

ولكن الظاهر أنّ مورد القرعة ما يكون له واقع وصار مجهولا في الظاهر. وما نحن فيه ليس كذلك ، فإنّ الوصايا المتعدّدة مقدار ما أوصى به في كلّ واحد منها معلوم ظاهرا وواقعا ، غاية الأمر لا يمكن العمل بها ، لأنّ العمل بمجموعها يوجب إخراج أزيد من الثلث ، وهو لا يجوز إلاّ بإجازة الورثة ، والمفروض أنّهم لم يجيزوا فيردّ عليهم

ص: 280

نقص بنسبة نقص الثلث عن المجموع.

مثلا لو كان مجموع الوصايا يبلغ الألف ، والثلث خمسمائة ، فالنسبة بين الثلث ومجموع الوصايا هي النصف ، فيسقط من كلّ وصية نصف ما أوصى به. فإذا أوصى لزيد مثلا بستمائة ، ولعمرو مثلا بثلاثمائة ، ولبكر بمائة فمجموع الوصايا يبلغ الألف ، والمفروض أنّ الثلث خمسمائة والنسبة هي النصف ، فيسقط من زيد ثلاثمائة ، ومن عمرو مائة وخمسين ، ومن بكر خمسين ، والمجموع خمسمائة فيبقى خمسمائة وهي مساو للثلث. وهكذا في جميع الموارد وطريقه تقسيم الثلث على الوصايا.

فإطلاق كلام القوم « إنّه إذا أوصى لشخص بثلث ولشخص آخر بربع وللآخر بسدس ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، يكون الثلث للشخص الأوّل وتبطل الوصيّة في الثاني والثالث » ليس كما ينبغي ، بل لا بدّ وأن يفصّل كما فصّلناه.

فرع : ولو أوصى بثلثه لواحد وبثلثه للآخر ، كان ذلك رجوعا عن الأوّل إلى الثاني ، وذلك من جهة أنّ الوصيّة سواء كانت عقدا أو إيقاعا يجوز للموصي الرجوع عنها ما دام فيه الروح ، ولا ينفذ تصرّفاته في ماله بعد الموت بدون إجازة الورثة إلاّ في الثلث.

وهذا هو المراد من قولهم : « أنّ الميّت لا يملك من ماله إلاّ الثلث » وإلاّ فالميّت لا يملك شيئا وبمحض الموت المال ينتقل إلى الورثة والموصى له بعد قبوله إن كانت وصيّة في البين. وأيضا هذا هو المراد ممّا في بعض الروايات « للميّت ثلث ماله » فإذا أضاف الثلث إلى نفسه فليس له إلاّ ثلث واحد ، لأنّه لا ينفذ تصرّفاته باعتبار ما بعد الموت ، أي بعنوان الوصيّة في أزيد من ثلث واحد من أمواله ، فكأنّه لا يملك أزيد من هذا.

فلو أوصى عهديّا أو تمليكيّا في ثلثه المضاف إلى نفسه لشخص ، فلا يملك بعد ذلك

ص: 281

من ماله شيئا ، فوصيّته ثانيا بثلث المضاف إلى نفسه لشخص آخر تكون مضادّة لوصيته الأولى ، فلا بدّ بأن يقال : الوصية الثانية إمّا لغو وكلام باطل ، أو رجوع عن وصيته الأولى. ولكن ظاهر الكلام أنّه رجوع مع إمكانه وعدم محذور. وحمله على اللغويّة ولقلقة اللسان خلاف طريقة العقلاء وسيرتهم.

وبعبارة أخرى : حال الثلث المضاف إلى نفسه حال العين الخارجيّة المعيّنة من حيث عدم التعدّدية فيه ، فكما أنّه لو أوصى بمعيّن في الخارج ، كدار أو دكّان له لزيد مثلا ، ثمَّ أوصى ذلك العين الخارجي ثانيا لعمرو مثلا ، يكون رجوعا عن الوصيّة الأولى بلا خلاف. فليكن ما نحن فيه أيضا كذلك ، لأنّ الجهة فيهما واحدة ، وهي عدم لزوم اللغويّة في الثاني.

نعم لو لم يضف الثلث إلى نفسه بأن قال : أعطوا فلانا ثلثا من أموالي ، أو يقول في الوصيّة التمليكية : ملّكت فلانا ثلثا من أموالي ، بدون إضافة الثلث إلى نفسه يمكن أن يقال : إنّ متعلّق الوصيّة في الثاني غير ما هو متعلّق الوصيّة في الأولى ، لأنّ أحواله مشتملة على ثلاث أثلاث ، فيمكن أن يكون الثلث الذي هو متعلّق الوصيّة الأولى غير الثلث الذي يكون متعلّق الوصيّة الثانية ، وليس دليل يدلّ على اتّحاد المتعلّقين في البين.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهر كلامه أنّه في مقام إنشاء وصيّة ماله أن يتصرّف فيه وهو ثلث نفسه ، وإلاّ فالثلثان الآخران خارجان عن تحت سلطنته وليس له أن يتصرّف فيهما ، فلو لم تكن إضافة في اللفظ فأيضا لا بدّ وأن يكون هو المراد ، فالثلث المجرّد عن الإضافة أيضا مثل المضاف ، فيكون أيضا رجوعا عن الأولى.

وفيه : أنّ هذا القياس ، أي قياس ثلث المجرّد عن الإضافة بالثلث المضاف في غير محلّه ، لأنّ المضاف ليس له فردان ، وأمّا غير المضاف فله أفراد ، فيمكن أن يكون المراد من الثلث في الوصيّة الثانية غير ما هو المراد في الوصيّة الأولى.

ص: 282

وأمّا ما يقال : ليس له التصرّف إلاّ في ثلث واحد وهو في مقام إنشاء الوصيّة - في الوصية التمليكيّة أو العهديّة - يريد التصرّف فيما يوصى به ، فلا بدّ من ورود الوصيّتين على نفس ذلك الثلث الذي له أن يتصرّف فيه ، وهو واحد لا تعدّد فيه ، فيعود المحذور.

وفيه : أنّه ما دام حيّا وفيه الروح له أن يتصرّف في أيّ ثلث من أثلاث أملاكه ، بل له أن يتصرّف في مجموع أمواله ، وتصرّفاته في جميع أمواله ممضاة لو كانت منجّزة ولا تحتاج إلى إجازة الورثة. نعم لو كانت غير منجّزة وكانت بعنوان الوصيّة يحتاج فيما زاد على الثلث إلى إجازة الورثة ، فله أن يريد من الثلث في الوصيّة الثانية غير ما أراد منه في الوصيّة الأولى ، غاية الأمر يحتاج نفوذه إلى إجازة الوارث. ففي هذا الفرض ليست الوصيّة الثانية ناسخة للأولى ، لعدم ورودهما على محلّ واحد كي يكون كذلك.

نعم للورثة أن لا ينفذوها ، وهذا لا يوجب انصراف لفظ الثلث إلى ثلثه المختصّ به الذي لا يحتاج إلى الإجازة وعدم إرادة أثلاث الآخر ، كي تكون الوصيّة الثانية مضادّة للأولى وتكون ناسخة لها.

فالحقّ في المقام هو الفرق بين الثلث المضاف إلى نفسه والثلث المجرّد عن الإضافة ، ففي الأوّل تكون الوصيّة الثانية رجوعا عن الوصيّة الأولى وناسخة لها ، وفي الثاني تكون وصية أخرى صحيحة لكن نفوذها موقوف على إجازة الورثة ، مثل ما لو كانت الوصيّة زائدة على الثلث يكون نفوذ مقدار الزائد موقوفا على إجازة الورثة.

ثمَّ إنّه في الصورة الأولى - أي فيما إذا أوصى بثلثه المضاف إلى نفسه تارة لزيد مثلا ومرّة أخرى لعمرو فبناء على أنّه رجوع عن الأولى يجب أن يعطى الثلث لعمرو ولا يستحقّ زيد شيئا منها. وبناء على أنّه يجب أن يعطى لزيد لأنّه في وقت الوصية لم يكن مانع عن نفوذها فوقعت صحيحة ، ولم يبق مجال للوصيّة الثانية ، فتكون الوصيّة الثانية لغوا وباطلا وإن أشكلنا على هذا الاحتمال ورجّحنا أن تكون الوصيّة الثانية رجوعا عن الأولى - لو اشتبه الأولى ولم يعلم أنّ الوصيّة الأولى لزيد أو لعمرو كي

ص: 283

نرتّب الأثر على كلّ واحد من القولين بأن يعطى له لو لم يكن الثاني رجوعا ، ولم يعط له لو كان ، فإنّه يستخرج بالقرعة.

وذلك من أنّه للأولى واقع معيّن معلوم عند العالم بها ، غاية الأمر اختفى واشتبه في مقام الظاهر والإثبات ، والاحتياط لا يمكن في الماليّات أو لا يجب ، ومثل هذه الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي مورد القرعة ، فإذا خرج بالقرعة أنّه زيد مثلا يرتّب عليه أثره.

وطريق القرعة هو أن يكتب في رقعة اسم أحدهما مع كلمة الأولى والسابق ، وفي رقعة أخرى اسم الآخر أيضا مع كلمة الأولى أو السابق ، فيخلطان فيخرج أحدهما فينظر فيه ، فأيّ واحد من الاسمين كان يكون هو السابق والأولى. وللقرعة طريق آخر أيضا لا حاجة إلى ذكرها.

فرع : ولو أوصى بشي ء واحد لاثنين كداره مثلا لهما وهو يزيد عن الثلث ولم تجز الورثة ، كان لهما ما يحتمله الثلث. مثلا لو كانت قيمة تلك الدار ألفين والثلث ألف ، فالألف الزائد يحتاج نفوذه إلى إجازة الورثة ، فإذا لم يجيزوا تبطل الوصيّة بالنسبة إليه. وأمّا ما يحتمله الثلث ، أي الألف الآخر يكون لهما بالمناصفة ، أي كلّ واحد منهما خمسمائة. والوجه في الجميع واضح.

هذا إذا كانت الوصيّة واحدة ، وأمّا إذا كانت متعدّدة متعاقبة كما إذا قال : لزيد نصف داري الفلانيّة ولعمرو نصفها الآخر ، وكان مجموع الوصيّتين زائدا على الثلث ولم تكن الوصيّة الأولى وحدها زائدة على الثلث ولم تجز الورثة ، فالوصيّة الأولى تنفذ بلا نقص ، وكان النقص واردا على الثانية من الوصيّتين وقد تقدّم الوجه في ذلك.

فرع : ولو أوصى بنصف ماله مثلا فأجاز الورثة ثمَّ قالوا : ظننا أنّه قليل ، قضى

ص: 284

عليهم بما ظنّوه وأحلفوا على الزائد قال المحقّق قدس سره : وفيه تردّد. (1)

أقول : أمّا وجه الحكم على الورثة بما ظنّوه لأنّهم أقرّوا واعترفوا بإجازة هذا المقدار ، وأمّا إحلافهم على عدم إجازة الزائد فلأجل أنّهم منكرون إجازة الزائد ، والموصى له يكون مدّعيا لإجازة الزائد ، والأصل مع الورثة ، أي أصالة عدم صدور الإجازة بالنسبة إلى الزائد ، أو أصالة عدم العلم بالزائد.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذه الدعوى ممّا لا يعلم إلاّ من قبلهم ، لأنّ ما يدّعون من كونهم ظانّين بالقلّة أمر مخفي على غيرهم ، فلا يطلبون بالبيّنة ، لعدم إمكان إقامتها على مثل تلك الدعوى غالبا ، لعدم اطّلاع الغير على الضمائر وما في النفس إلاّ من إخبار وإظهار صاحب الضمير ، وفي مثل هذه الدعوى لا يكلّف المدّعي بالبيّنة ، فلا يبقى ميزانا للقضاء إلاّ الحلف ، ولذلك يحلف.

وأمّا وجه تردّد المحقق قدس سره لأنّ المسألة ذات وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا من أنّ الورثة يقضى عليهم بما ظنّوه ، لأنّهم أقرّوا واعترفوا بإجازة ذلك المقدار ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز (2). وسماع قولهم بالنسبة إلى الزائد عمّا ظنّوه ، لمطابقة دعواهم للأصل ، فيكونون منكرين على حسب موازين باب القضاء ، وعليهم الحلف لا البيّنة.

والوجه الثاني : هو أنّ اعترافهم بأنّهم أجازوا النصف مثلا أو ما هو زائد على الثلث حجّة عليهم ، فقولهم : « ظنّنا أنّه قليل » من قبيل الإنكار بعد الإقرار فلا يسمع ، وذلك لأنّ ظواهر الألفاظ وما هو المتفاهم منها عند العرف حجّة.

ولذلك في باب الأقارير لو أقرّ بلفظ وكان ذلك اللفظ ظاهرا في معنى ، فأنكر

ص: 285


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 247.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، ج 2 ، ص 257 ، ح 3 ، ج 3 ، ص 442 ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 33 ، أبواب الإقرار ، باب 3 ، ح 2.

كون ذلك المعنى الظاهر مراده وقال : إنّ مرادي كان شي ء آخر ، لا يسمع منه بل يؤخذ بإقراره ، أي بما هو ظاهر كلامه ويحسب دعوى إرادة خلاف ما هو ظاهر الكلام من الإنكار بعد الإقرار الذي لا يسمع.

وحيث لم يظهر عنده ترجيح أحد هذين الوجهين لذا أظهر التردّد في الوجه الأوّل الذي ذكرناه.

ولكن أنت خبير بأنّ ظواهر الألفاظ حجّة على المتكلّم ما لم يعلم أنّه أراد خلاف الظاهر ، واحتملنا أنّه أراد ما هو ظاهر اللفظ ولذلك في مقام الإقرار يثبت عليه ويلزم بما هو ظاهر لفظه ، إلاّ أن يعلم إرادة خلافه. وهذا ليس مخصوصا بظواهر الألفاظ بل حجّية كلّ أمارة موقوفة على عدم العلم بالخلاف ، ومع عدم العلم بعدم إرادته ما هو ظاهر اللفظ يستكشف المراد من ظاهر اللفظ.

فلو اعترف بأنّه أجاز النصف ، فادّعاؤه بعد ذلك بعدم إرادة النصف الواقعي بل إرادة ما ظنّ أنّه هو النصف لا يسمع ، إلاّ مع العلم بعدم إرادة النصف الواقعي ، ولا دليل على إثبات عدم إرادته النصف الواقعي وأنّه أراد ما هو مظنونه ، لاحتمال أن يكون دعواه دعوى كاذبة وأنّه أراد ما هو واقع نصف المال ، لا ما هو مظنونة.

مثلا لو كان النصف الواقع للمال ألف دينار ، وهو يدّعي الظنّ بأنّه ألف درهم فيدّعي أنّ إجازتي تعلّقت بألف درهم لا بألف دينار ، فحيث أنّ إجازته حسب اعترافه تعلّق بعنوان نصف المال ، ونصف الواقعي هو ألف دينار لا ألف درهم ، فيكون اللفظ كاشفا عن أنّه أجاز ألف دينار لا ألف درهم ، إلاّ أن يعلم بعدم إرادة النصف الواقعي ، وليس في البين علم بذلك ، فالتحقيق عدم قبول قول الورثة لاحتمال كذبهم فيما يدّعون.

هذا كلّه فيما إذا كانت الوصيّة بجزء مشاع كالنصف وثلثين وأمثالهما. وأمّا لو أوصى بعين معيّنة خارجيّة ، كداره المعيّنة ، أو بستانه المعيّن المعلوم ، فأجازوا هذه

ص: 286

الوصيّة ثمَّ ادّعوا أنّهم ظنّوا أنّها ليست أزيد من الثلث ، أو يكون أزيد بيسير على تقدير الزيادة ، لم يلتفت إلى دعويهم ولا يسمع ، لأنّ الإجازة في هذا الفرض تعلّقت بعين خارجيّة معيّنة معلومة ، لا إجمال لها ولا إبهام فيها.

فالفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة هو ما ذكرنا من عدم الإجمال والإبهام في هذه الصورة لأنّ الموصى به فيها معيّن معلوم وشخص خارجي يمتنع صدقه على المتعدّد ، بخلاف الصورة السابقة فإنّ الموصى به فيها حيث أنّه كسر مشاع يمكن أن يشتبه فيه من حيث القلّة والكثرة ، ولذلك هنا لا تسمع دعوى الورثة ، لعدم تطرّق الجهل والاشتباه بخلاف هناك ولذلك تسمع دعواهم.

ولكن التحقيق عدم الفرق بين الصورتين ، لوحدة المناط فيهما ، وهو كما ذكرنا حجّية الظهورات وما هو المتفاهم عرفا من الكلام ، ولذلك عند العرف يؤخذ المتكلّم بما هو ظاهر كلامه. وقد صرّح الفقهاء قدس سره بذلك في باب الوصايا والأقارير والإجازات في المعاملات والعقود التي تقع فضولة. ولا فرق بين أن يكون متعلّق الإجازة هو الكسر المشاع أو شخص خارجي معيّن معلوم في الظهور العرفي. وكشفه عن مراد المتكلّم وحجّيته في ذلك ما لم يعلم أنّ مراده خلاف هذا الظهور ، فالحقّ في المقامين عدم سماع دعوى الورثة.

الكلام في الوصايا المبهمة

فرع : لو أوصى بجزء من ماله وردت روايات مفادها حمل الجزء من المال على العشر منه ، مستدلا بقوله تعالى ( قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) (1) وكانت الجبال عشرة ، فعبّر اللّه تعالى عن كلّ عشر بالجزء ، فيحمل الجزء من الشي ء على عشرة تبعا لاستعماله في الكتاب العزيز

ص: 287


1- البقرة (2) : 262.

بهذا المعنى ، والإمام علیه السلام استدلّ بهذه الآية على أنّ المراد من جزء الشي ء هو عشرة في روايات :

منها : رواية أبان بن تغلب قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « الجزء واحد من عشرة ، لأنّ الجبال عشرة والطيور أربعة ». (1)

ومنها : رواية عبد اللّه بن سنان ، عن عبد الرحمن بن سيابة قال : إنّ امرأة أوصت إلىّ وقالت : ثلثي يقضى به ديني وجزء منه لفلانة ، فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى فقال : ما أرى لها شيئا ، ما أدرى ما الجزء. فسألت عنه أبا عبد اللّه علیه السلام بعد ذلك وخبرته كيف قالت المرأة وبما قال ابن أبي ليلى ، فقال علیه السلام : « كذب ابن أبي ليلى ، لها عشر الثلث إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر إبراهيم علیه السلام فقال ( اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال يومئذ عشرة ، فالجزء هو العشر من الشي ء » (2).

وروى الشيخ هذه الرواية بإسناده عن عبد اللّه بن سنان بدون واسطة عبد الرحمن بن سيابة فتكون صحيحة. ورواها معاوية بن عمّار أيضا كذلك. (3)

ومنها : رواية أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر علیه السلام في الرجل يوصي بجزء من ماله ، قال علیه السلام : « إنّ الجزء واحد من عشرة ، لأنّ اللّه يقول ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال عشرة والطير أربعة ، فجعل على كلّ جبل منهن جزءا » (4).

ص: 288


1- « الكافي » ج 7 ، ص 40 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 209 ، ح 826 ، باب الوصية المبهمة ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 496 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 442 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 39 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 208 ، ح 824 ، باب الوصية المبهمة ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 131 ، ح 494 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 442 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 40 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 205 ، باب الوصيّة بالشي ء من المال. ، ح 5476. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 208 ، ح 825 ، باب الوصية المبهمة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 443 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 3.
4- « معاني الأخبار » ص 217 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 443 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 4.

ومنها : ما في تفسير العيّاشي عن عبد الصمد بن بشير ، عن جعفر بن محمّد علیه السلام في حديث أنّه سئل عن رجل أوصى بجزء من ماله فقال : هذا في كتاب اللّه بيّن ، إنّ اللّه يقول ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الطير أربعة والجبال عشرة ، يخرج الرجل من كلّ عشرة أجزاء جزءا واحدا » (1).

ومنها : رواية أبي جعفر بن سليمان الخراساني ، عن رجل من أهل خراسان في حديث : أنّ رجلا مات وأوصى إليه بمائة ألف درهم ، وأمره أن يعطي أبا حنيفة منها جزءا ، فسأل عنها جعفر بن محمّد علیه السلام وأبو حنيفة حاضر ، فقال له جعفر بن محمّد علیه السلام : « ما تقول فيها يا أبا حنيفة؟ » فقال : الربع. فقال لا بن أبي ليلى؟ فقال : الربع. فقال جعفر بن محمّد علیه السلام : « ومن أين قلتم الربع؟ » فقالوا : لقول اللّه عزّ وجلّ ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « هذا قد علمت الطير أربعة فكم كانت الجبال؟ إنّما الأجزاء للجبال ليس للطير ». فقالوا : ظنّنا أنّها أربعة. فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لا ولكنّ الجبال عشرة » (2).

ومنها : رواية عليّ بن أسباط ، عن الرضا علیه السلام في حديث قال : « والجزء واحد من عشرة » (3).

ومنها : رواية أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل أوصى بجزء من ماله ، قال : « جزء من عشرة ، وقال : كانت الجبال عشرة » (4).

ص: 289


1- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 145 ، ح 476 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 444 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 8.
2- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 145 ، ح 476 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 445 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 9.
3- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 143 ، ح 472 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 446 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 10.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 827 ، باب الوصية المبهمة ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 497 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 446 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 11.

وفي قبال هذه الروايات وردت روايات أخر مفادها تفسير الجزء بواحد من سبعة ، فإذا أوصى بجزء من ثلث ماله فيكون الموصى به سبع الثلث ، وإذا أوصى بجزء من ماله فيكون الموصى به سبع جميع ماله :

منها : رواية أحمد بن أبي نصر البزنطي قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله؟ فقال علیه السلام : « واحد من سبعة ، إنّ اللّه تعالى يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (1) » (2).

ومنها : رواية إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا علیه السلام في الرجل أوصى بجزء من ماله قال : « الجزء من سبعة إن اللّه تعالى يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) » (3).

ومنها : رواية حسين بن خالد ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : سألته عن رجل أوصى بجزء من ماله؟ قال : « سبع ثلثه » (4).

والمراد أنّ الميّت ليس له إلاّ ثلث ماله ، فإذا كان جزء الشي ء سبعة وماله ثلثه فإذا أوصى بجزء من ماله يكون سبع ثلثه.

ولا شكّ في تعارض هذه الطائفة مع الطائفة الأولى. وقد جمع الشيخ قدس سره بينهما بحمل الطائفة الأولى على الوجوب بمعنى أنّه يجب على الوصي أو الورثة إنفاذ الوصيّة

ص: 290


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 828 ، باب الوصية المبهمة ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 499 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 446 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 12.
2- الحجر (15) : 44.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 829 ، باب الوصية المبهمة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 499 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 447 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 13.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 831 ، باب الوصية المبهمة ، ح 8 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ح 501 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 447 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 14.

بالجزء بواحد من العشرة ، أي لا يجوز إعطاء الأقلّ من هذا ، والطائفة الثانية على الاستحباب ، بمعنى أنّه يستحبّ على الورثة إنفاذها بواحد من السبعة (1).

والتحقيق في باب الوصايا المبهمة التي هي محلّ بحثنا هو أنّه لو كان الإبهام من ناحية اللفظ وإجماله ، فإن كان تفسير من قبل الشارع في كلام ثبتت حجّيته من حيث الصدور ودلالته من حيث الظهور ، فيجب الأخذ به تعبّدا لا من باب دلالة ذلك الكلام المجمل وكشفه عن مراد المتكلّم.

ففي باب الوصايا والأقارير لو كان مثل هذا الكلام مثل ما نحن فيه لو أوصى بجزء من ماله لشخص ، والشارع الأقدس فسّر الجزء بالعشر أو السبع على اختلاف الروايات في هذه المسألة ، فلا يمكن أن يقال : إنّ مراد المتكلّم هو العشر أو السبع ، لعدم ظهور كلامه في هذا المعنى حسب طريقة أهل المحاورة ، بل حكم تعبّدي يجب الأخذ به تعبّدا والعمل به ، وذلك لولاية الشارع على أنفس المؤمنين وعلى أموالهم بطريق أولى ، ولقوله تعالى ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (2).

فمقتضى القواعد الأوّلية في المقام هو أنّه لو كان الكلام مجملا ولم يكن له ظهور يكون وجوده كالعدم ، فإذا لم يكن دليل آخر على الحكم لا بدّ وأن يرجع إلى العمومات والإطلاقات الأوّلية وفي المقام هي أدلّة الإرث. ولا مجال للرجوع إلى إطلاقات أدلّة الوصيّة ، لأنّ المفروض أنّ وصيّته مجملة لا يفهم منها شي ء.

نعم إذا ثبت أنّ الشارع فسّر الكلام يجب الأخذ به تعبّدا ، وفي المقام أخبار التفسير كما عرفت متعارضة ، فإذا كان من الممكن جمع عرفي فهو ، وإلاّ وجب العمل بقواعد باب التعارض من الترجيح مع وجود المرجّح والتخيير مع فقده.

وها هنا الترجيح من حيث السند مع روايات السبع ، وذلك من جهة أنّ رواية

ص: 291


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 210 ، ذيل ح 831 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ذيل ح 501.
2- الأحزاب (33) : 6.

أحمد بن أبي نصر البزنطي صحيحة بلا إشكال ، وأمّا رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام إن كانت بدون وساطة عبد الرحمن بن سيابة فصحيحة بلا إشكال ، ولكن الظاهر أنّها بواسطة عبد الرحمن بن سيابة ، لأنّه من المستبعد جدّا أن يسأل عبد اللّه بن سنان الفقيه الجليل الإمامي عن ابن أبي ليلى ، فهذه قرينة على أنّ السائل غيره وهو عبد الرحمن بن سيابة الذي واسطة بينه وبين الإمام علیه السلام .

فالإنصاف أنّ روايات تفسير الجزء بالسبع أصحّ سندا ، وإن كانت روايات العشر أكثر عددا ، ومعلوم أنّ الترجيح من حيث السند مقدّم على كثرة العدد. ولكن قولنا إنّ روايات السبع أصحّ سندا مبنيّ على أن تكون رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام بواسطة عبد الرحمن سيابة ، وإلاّ لو كانت بدون واسطة فليست روايات السبع أصحّ سندا.

هذا ، مضافا إلى أنّ الجمع الذي ذكره الشيخ بين الطائفتين بحمل روايات السبع على الاستحباب على الورثة أن يعطوا للموصى له سبع المال ، لو كان جمعا عرفيّا كما هو كذلك فلا تعارض كي تصل النوبة إلى الترجيح بالسند. ولا ينافي ذلك ما ذكرنا من استبعاد أن يكون السائل عن أبي ليلى هو عبد اللّه بن سنان ، لأنّ ذلك غاية ما يدلّ هو أنّ الراوي عن الإمام علیه السلام ليس عبد اللّه بن سنان بلا واسطة ، بل هو عبد الرحمن سيابة والرواية ضعيفة سندا.

ولكن بعد ما قلنا بالجمع العرفي فلا تصل النوبة إلى الترجيح كي يقال إنّ رواية أحمد بن أبي نصر البزنطي أصحّ سندا ، فالترجيح معها.

فالأولى والأحسن هو ما ذهب إليه الشيخ قدس سره وجمع آخر من الأساطين إلى أنّ المستحبّ على الوارث إعطاء السبع وإن كان ليس ملزما إلاّ بالعشر.

فرع : لو أوصى له بسهم من ماله كان للموصى له ثمنه ، ولو أوصى له بشي ء

ص: 292

كان له السدس.

أمّا الأوّل فلصحيحة البزنطي قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى بسهم من ماله ، فقال علیه السلام : « السهم واحد من ثمانية ، ثمَّ قرأ ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) (1) » إلى آخر الآية (2).

ورواية صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر قالا : سألنا الرضا علیه السلام عن رجل أوصى لك بسهم من ماله ولا ندري السهم أيّ شي ء هو؟ فقال علیه السلام : « ليس عندكم فيما بلغكم عن جعفر ولا عن أبي جعفر علیه السلام فيها شي ء؟ » فقلنا له : ما سمعنا أصحابنا يذكرون شيئا من هذا عن آبائك علیهم السلام قال : فقال : « السهم واحد من ثمانية إلى أن قال : قول اللّه عزّ وجلّ ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ثمَّ عقد بيده ثمانية قال : وكذلك قسّمها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ثمانية أسهم ، فالسهم واحد من ثمانية » (3).

ورواية محمد بن محمد المفيد في الإرشاد قال : قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أوصى عند الموت بسهم من ماله ولم يبيّنه فاختلف الورثة في معناه ، فقضى عليهم بإخراج الثمن من ماله وتلي عليهم ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) إلى آخره ، وهم ثمانية أصناف ، لكلّ صنف منهم سهم من الصدقات. (4) وروايات أخر بهذا المضمون. (5)

ص: 293


1- التوبة (9) : 60.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 828 ، باب الوصايا المبهمة ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ح 501 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 448 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 41 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 2 ، « معاني الأخبار » ص 216 ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 210 ، ح 833 ، باب الوصية المبهمة ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ح 503 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 448 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 2.
4- « الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 221 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 450 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 7.
5- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 448 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55.

نعم هناك روايتان أخريان :

إحديهما : رواية طلحة بن زيد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام قال : « من أوصى بسهم من ماله فهو سهم من عشرة » (1).

الثانية : رواية محمّد بن عليّ بن الحسين قال : « وقد روى أنّ السهم واحد من ستّة » (2).

أقول : أمّا رواية العشر فمن الشواذّ التي لا يعلم بها قائل ، ونسبه الشيخ (3) إلى وهم الراوي وأنّه سمعه فيمن أوصى بجزء من ماله فظنّه السهم ، أو أنّه ظنّ أنّ السهم والجزء واحد ، وعلى كلّ فالرواية متروكة لم يعمل بها أحد.

وأمّا مرسلة الصدوق وما روى عن ابن مسعود أنّ رجلا أوصى لرجل بسهم من المال فأعطاه النبيّ صلی اللّه علیه و آله السدس ، فأعرض عنها المشهور ، فلا تقاوم الروايات الكثيرة التي بعضها صحيحة ، وإن عمل بهما الشيخ في أحد قوليه. (4) وأمّا ما قيل : إنّ السهم في كلام العرب هو السدس ، فلم يثبت ولا أساس له.

فرع : لو أوصى بشي ء من ماله لرجل فله السدس إجماعا ، لرواية أبان عن عليّ بن الحسين علیهماالسلام أنّه سئل عن رجل أوصى بشي ء من ماله فقال : « الشي ء في كتاب عليّ واحد من ستّة » (5) والقول بأنّه العشر شاذّ.

ص: 294


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ح 834 ، باب الوصية المبهمة ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 134 ، ح 504 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 449 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 4.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 204 ، باب الوصيّة بالشي ء من المال والسهم. ، ح 5475. « معاني الأخبار » ص 216 ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 449 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ذيل ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 134.
4- « المبسوط » ج 4 ، ص 8.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 40 ، باب من أوصى بشي ء من ماله ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 204 ، باب الوصيّة بالشي ء من المال. ، ح 5473. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ح 835 ، باب الوصية المبهمة ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 450 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 56 ، ح 1.

فرع : لو أوصى بوجوه فنسي الموصي وجها منها ، جعله الوصي في وجوه البرّ.

هذا أحد القولين في المسألة ، وإليه ذهب المشهور.

والقول الآخر : أنّه يرجع ميراثا. والقائل به ابن إدريس (1) ، ونسب إلى الشيخ أيضا في بعض فتاواه (2) ، ولكن في كتبه وافق المشهور بأن يجعله الوصي في وجوه البرّ.

والأقوى هو قول المشهور ، وذلك أوّلا لرواية محمّد بن ريّان قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام أسأله عن إنسان أوصى بوصيّة فلم يحفظ الوصي إلاّ بابا واحدا منها كيف يصنع في الباقي؟ فوقّع : « الأبواب الباقية اجعلها في البرّ » (3) ، وروى هذه الرواية بعدّة طرق.

وثانيا : أنّه بعد ما خرج عن ملك الموصي والورثة بعد موت الموصي ، فيكون من قبيل مال المجهول المالك ، وبعد نسيان مصرفه فيصرفه في وجوه البرّ ، لأنّه في الغالب أقرب إلى ما يريد الموصي ، بل يمكن أن يقال إنّ صرفه في وجوه البرّ حيث أنّه يرجع إلى الجهات العامّة للمسلمين يكون من الصدقة التي هي مصرف مجهول المالك.

وثالثا : على هذا فتوى المشهور ، وهو ممّا يؤيّده قوّة حجّية رواية محمّد بن ريّان.

ورابعا : حكمهم علیهم السلام بالصرف في وجوه البرّ في نظائر المقام ، كما إذا أوصى بمال أن يحجّ عنه مع عدم كفاية ذلك المال للحجّ عنه ، وذلك في رواية علي بن

ص: 295


1- . « السرائر » ج 1. ص 209.
2- « النهاية » ص 613.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 58 ، باب النوادر ، ح 7 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 218 ، باب الرجل يوصى بوصيّة فينساها. ، ح 5513. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 214 ، ح 844 ، باب الوصيّة المبهمة ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 453 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 61 ، ح 1.

مزيد صاحب السابري قال : أوصى إلى رجل بتركته وأمرني أن أحجّ بها عنه فنظرت في ذلك ، فإذا هي شي ء يسير لا يكفي للحجّ إلى أن قال : فسألت أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : « ما صنعت بها »؟ قلت : تصدّقت بها قال علیه السلام : « ضمنت إلاّ أن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة ، فإن كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكّة فليس عليك ضمان ، وإن كان يبلغ ما يحجّ به من مكّة فأنت ضامن » (1).

فقد حكم علیه السلام بعدم الضمان وصحّة الصدقة فيما إذا لم يبلغ المال قدر ما يحجّ به عنه من مكّة.

نعم نبّه الإمام علیه السلام الوصي على أمر ، وهو أنّ المراد من عدم بلوغ المال قدر ما يكفي الحجّ هو عدم بلوغه حتّى من مكّة ، بأن يكون حجّ إفراد ، أو من أقرب المواقيت مثلا لو كان المال يكفي للإحرام من الحديبية بل من أوّل الحرم ، فهذا ليس من عدم البلوغ.

وأمّا القول الآخر - أي رجوعه ميراثا الذي قال به ابن إدريس ونقله عن الشيخ - فمستنده أنّ الوصيّة بعد عدم إمكان العمل بها تبطل ، فيرجع المال إلى صاحبه وهو الوارث.

وفيه : أنّ العجز عن العمل بها لا يوجب بطلانها ، لأنّه غالبا يكون من قبيل تعدّد المطلوب. مثلا لو أوصى بعمارة مسجد أو مدرسة تكون مساحة كلّ واحد منهما ألف متر ولا يوجد المكان الذي يسع هذا المقدار ، بل في ذلك المكان المعيّن الذي عيّنه الموصي للمسجد أو للمدرسة توجد أرض بسعة تسعمائة مترا ، والمال الذي عيّن لبناء المدرسة ذات طبقتين لا يفي بذلك ، ولكن يمكن عمارة مدرسة ذات طبقة واحدة ، فلا شكّ في أنّ القسم الأوّل هو مطلوبه الكامل ، لا أنّ المطلوب منحصر به فلو بنى

ص: 296


1- « الكافي » ج 7 ، ص 21 ، باب أنّ الوصي إذا كانت الوصيّة في حقّ. ، ح 1. « الفقيه » ج 4 ، ص 207 ، باب ضمان الوصي لما يغيّره. ، ح 5482. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 228 ، ح 896 ، باب وصية الإنسان لعبده وعتقه له ، ح 46 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 419 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 37 ، ح 2.

مسجدا سعة تسعمائة متر ليس لمطلوبه أصلا وكذلك مدرسة ذات طبقة واحدة ليس بمطلوبه أصلا ، فلا شكّ في مطلوبيّة هذا القسم عند تعذّر القسم الأوّل ، نعم هو المطلوب الأكمل وهذا أيضا له مرتبة من المطلوبيّة. ولعلّ هذا هو المناط في قاعدة الميسور وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

هذا إذا كان العجز من أوّل الأمر. وأمّا العجز الطاري عن بعض مراتب الوصيّة فلا يوجب بطلانها يقينا ، كما أنّه في الوقف الذي طرأ العجز عن العمل به تماما كما أراد الواقف فالمشهور على أنّه لا يبطل الوقف ولا يرجع إلى ملك الواقف فيرثه الوارث ، بل يصرف فيما هو أقرب إلى الجهة التي وقف عليها ، لأنّ الرجوع إلى ملك الوارث يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

مضافا إلى أنّ الرجوع إلى ملك الوارث لا معنى له في المقام ، لأنّه كان ملكا للموصي وهو ملّك الموصى له أو أخرج عن ملكه لعنوان من العناوين كالعلماء والسادات ، أو لجهة من الجهات كالصرف في عزاء سيّد الشهداء علیه السلام أو جهة أخرى من شعائر الدين ولم ينتقل إلى الوارث أصلا.

وأمّا الرجوع إلى ملك الموصي فإن كانت الوصيّة انعقدت صحيحة وخرجت عن ملكه بعد موته فطرأ النسيان ولذلك تعذّر صرفها في مصرفها الذي عيّن الموصي لها ، فحال الموصي مع سائر الناس بالنسبة إليها سواء ، فلا بدّ وأن يقال إمّا أن يصير كالمباحات الأصليّة فلكلّ أحد أن يتصرّف فيها. وهذا ممّا لا يمكن أن يلتزم به فقيه ، فالأقوى - بل المتعيّن - صرفها في وجوه البرّ ، فإنّها بعض مطلوب الموصي ، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

فرع : ولو أوصى بإخراج بعض ولده من تركته بأنّه لا يرث من تركته ، فهل تقع هذه الوصيّة صحيحة أم لا؟ فيها خلاف بين الأصحاب ، والمشهور عدم الصحّة ،

ص: 297

لأنّها مخالف للكتاب والسنّة.

أمّا مخالفتها للكتاب فلقوله تعالى ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) (1) إلى آخر.

ولقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (2).

وأيضا لقوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (3).

وأمّا السنّة فروايات :

منها : رواية السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه علیهم السلام قال : قال عليّ علیه السلام : « ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال » (4).

ومنها : أيضا عن السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه علیهم السلام قال : قال عليّ علیه السلام : « من أوصى ولم يحف ولم يضارّ كان كمن تصدّق به في حياته » (5).

ومنها : رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام : « قال قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل توفّى وأوصى بماله كلّه أو أكثره ، فقال له : الوصيّة تردّ إلى المعروف غير المنكر ، فمن ظلم نفسه وأتى في وصيّته المنكر والحيف فإنّها تردّ إلى المعروف ويترك لأهل الميراث ميراثهم » الحديث (6) وروي هذه الرواية بعدة طرق ذكرها في الوسائل.

ص: 298


1- البقرة (2) : 181.
2- النساء (4) : 10.
3- الأحزاب (33) : 6.
4- « الفقيه » ج 4 ، ص 183 ، باب ما جاء في الإضرار بالورثة ، ح 5418 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 174 ، ح 710 ، باب في الوصيّة ووجوبها ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 5 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 62 ، باب النوادر ، ح 18 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 182 ، باب ثواب من أوصى فلم يحف ولم يضارّ ، ح 5414 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 174 ، ح 709 ، باب في الوصيّة ووجوبها ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 5 ، ح 2.
6- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 186 ، باب ما يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5425. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 773 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 358 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 8 ، ح 1.

ومنها : رواية محمّد بن سوقة قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول اللّه تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (1) قال علیه السلام : « نسختها الآية التي بعدها قوله عزّ وجلّ ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) قال : يعنى الموصي إليه إن خاف جنفا من الموصي فيما أوصى به إليه ممّا لا يرضى اللّه عزّ ذكره من خلاف الحقّ فلا إثم عليه ، أي على الموصى إليه أن يردّه إلى الحقّ وإلى ما يرضى اللّه عزّ وجلّ فيه من سبيل الخير » (2).

ومنها : رواية عليّ بن إبراهيم عن رجاله قال : قال : إنّ اللّه أطلق للموصى إليه أن يغيّر الوصيّة إذا لم تكن بالمعروف وكان فيها حيف ، ويردّها إلى المعروف ، لقوله عزّ وجلّ ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) إلى آخر (3). والحيف هو الجور على الورثة.

ومنها : رواية عليّ بن إبراهيم في تفسيره قال : قال الصادق علیه السلام : « إذا أوصى الرجل بوصيّة فلا يحلّ للوصي أن يغيّر وصيّة يوصى بها بل يمضيها ، إلاّ أن يوصى غير ما أمر اللّه فيعصي في الوصيّة ويظلم ، فالموصى إليه جائز له أن يردّه إلى الحقّ مثل رجل يكون له ورثة فيجعل ماله كلّه لبعض ورثته ويحرم بعضا ، فالوصي جائز له أن يردّه إلى الحقّ وهو قوله تعالى ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) فالجنف هو الميل إلى بعض ورثتك دون بعض ، والإثم أن تأمر بعمارة بيوت النيران واتّخاذ المسكر فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشي ء من ذلك » (4).

ص: 299


1- البقرة (2) : 181.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 21 ، باب إنّ من حاف في الوصية. ، ح 2. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 186 ، ح 747 ، باب الرجوع في الوصية ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 421 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 38 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 20 ، باب أنّ من حاف في الوصية. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 422 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 38 ، ح 2.
4- « تفسير القمّي » ج 1 ، ص 65 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 420 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 37 ، ح 4.

ومنها : رواية سعد بن سعد قال : سألته - يعني أبا الحسن الرضا علیه السلام - عن رجل كان ابن يدّعيه فنفاه وأخرجه من الميراث وأنا وصيّه فكيف أصنع؟ فقال علیه السلام : « لزمه الولد لإقراره بالمشهد لا يدفعه الوصي عن شي ء قد علمه » (1).

وهذه الروايات كما ترى تدلّ على عدم جواز الجور والخروج عن الجادة في الوصيّة بأن يضرّ ببعض الورثة ويخرجه عن تركته وميراثه ، وإن اثم وفعل فلا يجوز إمضاؤه فيما صنع من الحيف والجور ، بل يجب ردّه ممّا صنع وتحويله إلى الحقّ.

هذا ، مضافا إلى أنّ إخراجه عن تركته إمّا بنفي كونه ولدا له ، وهذا بعد إقراره به لا مجال له ولا يسمع ، لأنّه من الإنكار بعد الإقرار. وإمّا ينفي كونه وارثا مع الإقرار بأنّه ولد ، وهذا يرجع إلى إنكار الحكم الشرعي الثابت بالأدلّة القطعيّة ، وهو واضح البطلان. وإمّا بمنعه عن حقّه بواسطة الوصيّة ، وهذا هو الجنف والحيف المنهي عنه.

نعم وردت رواية في إنفاذ مثل هذه الوصيّة في حقّ الولد الذي وقع على أمّ ولد أبيه ، وهي ما رواه محمّد بن يحيى عن وصي عليّ بن السري قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام : إنّ علي بن السري توفّي وأوصى إليّ فقال رحمه اللّه فقلت وإنّ ابنه جعفر وقع على أمّ ولد له فأمرني أن أخرجه من الميراث ، فقال لي : أخرجه إن كنت صادقا فسيصيبه خبل قال : فرجعت فقدّمني إلى أبي يوسف القاضي فقال له : أصلحك اللّه أنا جعفر بن على بن السري وهذا وصي أبي فمره فليدفع إلي ميراثي من أبي فقال لي : ما تقول؟ فقلت : نعم هذا جعفر بن على بن السري وأنا وصيّ علي بن السري قال : فادفع إليه ما له. قلت : أصلحك اللّه أريد أن أكلّمك. قال : فادن فدنوت حيث لا يسمع أحد كلامي فقلت هذا وقع على أمّ ولد لأبيه فأمرني أبوه وأوصى إليّ أن أخرجه من الميراث

ص: 300


1- « الكافي » ج 7 ، ص 64 ، باب النوادر ، ح 26 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 220 ، باب إخراج الرجل ابنه من الميراث. ، ح 5516. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 235 ، ح 918 ، باب في الزيادات الوصايا ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 139 ، ح 520 ، باب أن من كان له ولد. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 476 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 90 ، ح 1.

ولا أورثه شيئا ، فأتيت موسى بن جعفر علیه السلام بالمدينة فأخبرته وسألته ، فأمرني أن أخرجه من الميراث ولا أورثه شيئا ، فقال : إنّ أبا الحسن علیه السلام أمرك؟ قلت : نعم فاستحلفني ثلاثا ثمَّ قال : أنفذ ما أمرك فالقول قوله قال الوصي فأصابه الخبل بعد ذلك (1).

ولكن هذه الرواية على تقدير عدم كونها مهجورة متروكة وعدم إعراض الأصحاب عنها ليس مفادها جواز إخراج بعض الورثة عن التركة مطلقا ، بل موردها مورد خاصّ وهو فيما إذا كان المأمور بالإخراج عن التركة هو الولد الذي وقع على أمّ ولد أبيه ، ولا مانع من الالتزام بها في مورده.

وبعبارة أخرى : هذا حكم تأديبي صدر عن الإمام علیه السلام في مورد ذلك الشخص أو يكون حكم كلّ من فعل مثل هذا الفعل وارتكب مثل هذه الجريمة جواز إخراجه عن الميراث؟

وحكى في الوسائل (2) عن الصدوق أنّه قال : ومتى أوصى الرجل بإخراج ابنه من الميراث ولم يكن أحدث هذا الحدث لم يجز للوصي إنفاذ وصيّته في ذلك (3) ونسب إلى الشيخ أنّه قال : هذا الحكم مقصور على هذه القضيّة لا يتعدّى إلى غيرها ، لأنّه لا يجوز أن يخرج الرجل من الميراث المستحقّ بنسب شائع بقول الموصي وأمره أن يخرج من الميراث إذا كان نسبه ثابتا (4) ، ولنعم ما قال.

ص: 301


1- « الكافي » ج 7 ، ص 61 ، باب النوادر ، ح 15 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 219 ، باب إخراج الرجل ابنه من الميراث. ، ح 5515. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 235 ، ح 917 ، باب في الزيادات الوصايا ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 139 ، ح 521 ، باب ان من كان له ولد. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 476 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 90 ، ح 2.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 477 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 90 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 220 ، باب إخراج الرجل ابنه من الميراث. ، ذيل ح 5515.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 235 ، باب في الزيادات الوصايا ، ذيل ح 917. ولا يخفى أنّ كلام الشيخ أخصّ من كلام الصدوق ويحتمل اتّحاد مرادهما قدّس اللّه اسرارهما.

ثمَّ إنّه قد يحتمل أن يكون مراد الأب من إخراج هذا الولد من التركة إخراجه عن الثلث الذي يملكه هو فكأنّه وصيّته لغيره بالثلث. وأفرض أنّه له ولدين ، أحدهما صغير ولا يقدر على إعاشة نفسه من الكسب ، والآخر كبير يقدر على ذلك ، فهو مراعاة للولد الصغير يخصّ الثلث بالصغير ، وباقي المال - أي الثلثان - يكون بينهما. وهذا على حسب مقتضى القواعد الأوّليّة لا محذور فيه أصلا.

أقول : هذا الاحتمال في حدّ نفسه صحيح لا مانع منه ، ولكن الفرض والرواية ليسا ظاهرين في هذا المعنى أصلا.

فرع : لو أوصى لغيره بسيف وكان في جفن وعليه حلية ، كان السيف له بما عليه وفيه ، وذلك من جهة الظهور العرفي لهذا الكلام. وكذلك لو أقرّ به لشخص.

وقد روى أبو جميلة عن الرضا علیه السلام قال : سألته عن رجل أوصى لرجل بسيف وكان في جفن وعليه حلية؟ فقال له الورثة إنّما لك النصل وليس لك السيف ، فقال علیه السلام : « لا ، بل السيف بما فيه له » الحديث (1).

وروى أيضا أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، عن أبي جميلة المفضّل بن صالح قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام أسأله عن رجل أوصى لرجل بسيف فقال الورثة : إنّما لك الحديد وليس لك الحلية ليس لك غير الحديد؟ فكتب علیه السلام إلىّ : « السيف له وحليته » (2).

وأيضا لو أوصى بصندوق لغيره وكان فيه مال ، كان الصندوق بما فيه من المال

ص: 302


1- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 217 ، باب الرجل يوصى لرجل بسيف. ، ح 5509. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ح 837 ، باب الوصية المبهمة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 451 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 57 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 212 ، ح 839 ، باب الوصية المبهمة ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 451 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 57 ، ح 2.

للموصى له. وفيه أيضا رواية عن عليّ بن عقبة ، عن أبيه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أوصى لرجل بصندوق وكان في الصندوق مال ، فقال الورثة : إنّما لك الصندوق وليس لك ما فيه ، فقال : « الصندوق بما فيه له » (1).

وأيضا لو أوصى لشخص بسفينة وفيها طعام ، فهي وما فيها من الطعام للموصى له. وأيضا فيها رواية عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجل قال هذه السفينة لفلان ولم يسمّ ما فيها وفيها طعام أيعطيها الرجل وما فيها؟ قال علیه السلام : « هي للذي أوصى له بها إلاّ أن يكون صاحبها متّهما وليس للورثة شي ء » (2).

وروى الصدوق هذه الرواية إلاّ أنّه قال في آخرها : « إلاّ أن يكون صاحبها استثنى ممّا فيها » (3).

وقد تقدّم أنّه في باب الوصايا والأقارير يلزم الأخذ بما هو ظاهر الكلام حسب المتفاهم العرفي ، وقد خصّ الفقهاء قدس سره هذه الموارد بالذكر لوجود الروايات المتقدّمة ، وإلاّ فلا خصوصية لها كما هو واضح.

فرع : لو أوصى بلفظ مجمل لم يفسّره الشرع ، رجع في تفسيره إلى الوارث ، كقوله : أعطوا فلانا حظّا من مالي أو قسطا أو نصيبا أو قليلا أو يسيرا أو جليلا أو جزيلا وأمثال ممّا ليس له حدّ معيّن ومفهوم مبيّن عند العرف وأهل المحاورة.

ص: 303


1- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 212 ، ح 840 ، باب الوصية المبهمة ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 452 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 57 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 212 ، ح 838 ، باب الوصية المبهمة ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 452 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 59 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 217 ، باب الرجل يوصى لرجل بسيف. ، ح 5510. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 452 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 59 ، ح 1.

هذا ما قاله في الشرائع (1) ، ولكن لم نفهم وجها للرجوع إلى الوارث في تفسير هذه الألفاظ ، بل المعتبر في تشخيص مراد الموصي هي الظهورات عند أهل المحاورة ، وحال الوارث مع غيره في ذلك سواء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الوارث خصوصا إذا كان من الأقرباء الأقربين كأولاده المعاشرين معه عارف بالمعنى الذي يريد من هذه الألفاظ ، فيكون التبادر إلى أذهانهم - بواسطة الأنس باستعمالاته - دليلا على أنّ مراده من هذه الألفاظ هو هذا المعنى الذي تبادر إلى أذهانهم ، وإلاّ فلا وجه للرجوع إليهم أصلا ، بل الصحيح هو أنّه لو استعمل الألفاظ المجملة في وصيته أو إقراره يكون كلامه غير حجّة وكأنّه لم يكن ، فالمرجع هي الأصول العمليّة.

ويمكن أن يكون المراد من الرجوع في تفسير هذه الألفاظ إلى الوارث من جهة أنّ التركة بين الموصى له والوارث ، فأيّ مقدار عيّن للفظ إمّا واقعا للموصى له فيعطيه ما هو حقّه وملكه ، وإمّا تمامه أو بعضه ملك للوارث ، فهو باختياره يعيّنه للموصى له وله ذلك ، لأنّ الناس مسلطون على أموالهم.

ولكن يظهر من عبارة الشيخ قدس سره في المبسوط أنّ هذه الألفاظ حيث أنّ إجمالها بواسطة صدقها على القليل والكثير ، فالوارث مخيّر بين تطبيقها على القليل والكثير ، بل وعلى أيّ مرتبة من مراتب مصاديق هذه الألفاظ فله حقّ التفسير والتطبيق ، لذلك يرجع إليه في التفسير.

وأمّا احتمال أن يكون تفسيره وتطبيقه على أقلّ ممّا يستحقّه الموصى له فليس له هذا الحقّ ، مدفوع بأصالة عدم استحقاقه للزائد. ولعل هذا أحسن الوجوه لهذا الحكم ، أي للرجوع إلى الوارث في تفسيرها.

قال في المبسوط : إذا قال لفلان : حظّ من مالي أو نصيب أو قليل ، فإنّه يرجع

ص: 304


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 249.

إلى الورثة (1).

ولو تعذّر الرجوع إلى الوارث لغيبته ، أو لامتناعه عن التفسير ، أو لصغره وعدم الاعتبار بكلامه ، أو لجنونه قال في المسالك : أعطي أقلّ ما يصدق عليه الاسم ، أي اسم ذلك اللفظ المجمل ، لأنّه القدر المتيقّن. (2)

وفيه نظر واضح ، لتعارض الحقّين ، أي حقّ الموصى له وحقّ الوارث.

ومن هذه الألفاظ المجملة لفظ « كثير » فلو أوصى وقال : أعطوا الفلان مالا كثيرا من تركتي ، فقال جماعة : إنّه يعطى له ثمانين من أيّ شي ء كان متعلّق الوصيّة درهما أو دينارا أو غيرهما. وذلك للرواية التي وردت في باب النذر أنّه لو نذر أن يعطى درهما أو دينارا كثيرا أو غيرهما ، فعليه أن يعطى ثمانين ممّا نذر. واستدلّ الإمام علیه السلام لهذا التفسير بقوله تعالى ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (3) وكانت تلك المواطن بعد إحصائها ثمانين.

ولكن أنت خبير بأنّ استعمال اللفظ في مورد في بعض مصاديقه لا يوجب كون المراد من اللفظ دائما ذلك المعنى ، ففي نفس مورد الرواية المعتبرة يجب العمل بها مع الإمكان ، وفيما سوى ذلك لا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأوّلية أو الأصول العمليّة.

فرع : يستحبّ أن تكون الوصيّة بخمس ماله ، ودونه في الفضل الربع ، ودونه الثلث. وأمّا بالأزيد من الثلث فلا ينفذ إلاّ بإجازة الورثة. والمستند رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول لأن أوصي بخمس مالي أحبّ إليّ من أن أوصى بالربع ، ولأن أوصى بالربع أحبّ إليّ من أن أوصى

ص: 305


1- « المبسوط » ج 4 ، ص 23.
2- « المسالك » ج 1 ، ص 401.
3- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 222 ، أبواب النذر والعهد ، باب 3 ، ح 1 - 4. والآية في سورة التوبة 3. : 25.

بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك وقد بلغ الغاية ( وقد بالغ ) » (1).

ورواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من أوصى بالثلث فقد أضرّ بالورثة ، والوصيّة بالربع والخمس أفضل من الوصيّة بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك » (2).

ورواية السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه علیهم السلام قال : « قال عليّ علیه السلام الوصيّة بالخمس ، لأنّ اللّه عز وجل قد رضى لنفسه بالخمس ، وقال : الخمس اقتصاد ، والربع جهد ، والثلث حيف » (3).

ورواية مسعدة بن صدقة ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ علیه السلام قال : « لئن أوصي بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصى بالربع ، ولأن أوصى بالربع أحبّ إليّ من أن أوصى بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئا » (4).

في أحكام الوصيّة

فرع : لو أوصى بمنافع أعيان ما يملك ، بعضها أو جميعها ، لكلّ ما يملك أو لبعضه ،

ص: 306


1- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5423 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 773 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 453 ، باب أنّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 360 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 5. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5424 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 769 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 451 ، باب أنّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 360 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5421 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 362 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 3.
4- « قرب الإسناد » ص 31 ، « علل الشرائع » ص 567 ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 361 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 4.

على التأييد أو مدّة معيّنة صحّ بلا خلاف. ولا فرق في تلك المنافع الموصى بها بين أن تكون من الأعيان التي لها وجود مستقلّ بعد الانفصال عن ذيها كالحمل في الدابّة ، والثمرة في الشجر ، واللبن والصوف في الأغنام وغير ذلك ، وبين أن لا يكون كذلك كسكنى الدار ، والكسب في الدكان ، وركاب الدابّة وأقسام المراكب ، لشمول عمومات وإطلاقات أدلّة الوصيّة.

وأمّا الإشكال بأنّ تلك المنافع ليست من تركة الميّت ولا من أمواله كي يملكها لغيره.

ففيه : أنّ الموصي يملكها حال حياته بتبع العين ، بمعنى أنّ حالها بالنسبة إلى الموصي حال نفس العين ، له السلطنة عليها كسلطنته على نفس العين ، ولذلك يجوز أن يؤجر العين سنين متعدّدة ثمَّ يبيعها ، فتنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدّة الإجارة ، وهذا دليل قطعي على أنّ مالك العين مالك لمنافعها ، لأنّ الإجارة عبارة عن تمليك منافع العين بعوض مالي معلوم ، وما لم يكن مالكا كيف يملك الغير وليس صرف التبعيّة للعين ، لأنّ المفروض أنّه باع العين ، فالمنافع ملك لشخص والعين ملك لشخص آخر. وكذلك الأمر في الوصيّة التمليكيّة بالنسبة إلى المنافع تكون العين ملكا للورثة بعد موت الموصي بالإرث والمنافع ملكا للموصى له بالوصية.

نعم لا بدّ وأن تقوّم تلك المنافع التي أوصى بها ، وتلاحظ مع مجموع المال المركّب منها وما سواها من الأعيان والمنافع بكلا قسميها.

ثمَّ إنّه لو أوصى لزيد مثلا بركوب دابّته سنة أو أكثر ، فنفقة الدابّة على مالكها لا على الموصى له ، لأنّ المفروض أنّ النفقة نفقة الملك ، والدابّة ملك للوارث لا الموصى له وإنّما الموصى له مالك المنفعة فقط.

ولكن هذا الذي قلنا من كون النفقة على الوارث لا الموصى له مسلّم فيما إذا كانت الوصيّة بالمنافع موقّتة ، وأمّا لو كان الإيصاء بالمنفعة مؤبّدة ففيه إشكال ينشأ من أنّه

ص: 307

من حيث أنّ الحيوان ملك للوارث والنفقة نفقة الملك فتجب عليه لأنّه مالك ، ومن أنّه ملك مسلوب المنفعة فإلزام المالك بالنفقة ووجوبها عليه ضرر عليه بدون تدارك ، ومثل هذا الحكم منتفي في الشريعة الإسلاميّة بقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (1) وأيضا بأنّ « من كان له الغنم فعليه الغرم ».

ومن أجل هذا الإشكال قيل بأنّ نفقته من بيت المال ، لأنّ المفروض أنّ منافعه للموصى له ، فلا بدّ وأن يكون نفقته إمّا على المالك أو على الموصى له أو من بيت المال فإذا نفينا الأوّلين لما ذكرنا في وجه نفيهما فلا يبقى وجه إلاّ كونها من بيت المال.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الاستحسانات - مضافا إلى أنّها مخدوشة في نفسها ومنقوضة بموارد كثيرة ولا دليل على اعتبارها وذهاب الأكثر إلى أنّ النفقة على الوارث لا على الموصى له بالمنفعة وإن كانت مؤبّدة - لا تعارض إطلاق أدلّة وجوب نفقة الملك على المالك إن كان حيوانا ، إنسانا كان أو غير إنسان بل وإن كان غير حيوان كالبستان الذي أوصى المالك كون أثماره ومنافعه لشخص ، فسقيه وحرثه وتسميده إن كان محتاجا إليها بحيث تموت الأشجار وتتلف على الوارث المالك.

وإن كان لا يخلو من الإشكال ، وذلك لعدم الدليل على وجوب نفقة البستان على مالكه كي يؤخذ بإطلاقه. وقياسه بنفقة الحيوان أوّلا قياس باطل ، وثانيا مع الفارق.

فإذا ظهر أنّ الوصيّة بالمنافع التي لعين من أعيان ماله صحيحة موقتة ومؤبدة ، فلكلّ واحد من الوارث والموصى له التصرّف فيما يخصّه ، فللموصى له التصرّف في المنافع على وجه لا يضرّ بالعين أزيد ممّا هو متعارف في باب الإجارات ، بمعنى جواز التصرّفات التي يتوقّف الانتفاع بها حسب المتعارف في باب الانتفاع فيما إذا ملك الانتفاع بالإجازة لصيرورة المنافع ملكا له ، وللوارث التصرّف في العين ولكن التصرّفات التي لا يضرّ بمنافعها أو الانتفاع بها بلا خلاف ولا إشكال.

ص: 308


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5718.

وذلك لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ولا شكّ في أنّ الإضرار بالغير غير جائز ، ونتيجة الجمع بين هذه الأدلّة هو جواز تصرّف كلّ واحد منهما في ماله من دون احتياج إلى الإذن من الآخر ولكن مع عدم الإضرار بالآخر.

وليس ما نحن فيه من قبيل الشريكين كي يكون التصرّف من كلّ واحد محتاجا إلى إذن الآخر ، وذلك لأنّ الشراكة بناء على الإشاعة كلّ جزء جزء من المال المشترك يكون بينهما بأحد الكسور إمّا بالمناصفة أو بالمثالثة وهكذا ، فتصرّف كلّ واحد منهما في أيّ جزء مستلزم للتصرّف في مال الآخر ، ولذلك يحتاج إلى الإذن.

وأمّا فيما نحن فيه فالمالان متميّزان ، ومتعلّق الملكيّة في أحدهما العين وفي الآخر المنفعة ، فلكلّ واحد منهما التصرّف في ماله من دون الاحتياج إلى إذن. وأمّا المقدار الذي يلزم من التصرّف في ماله التصرّف في مال الغير ، فهو من لوازم جعل ملكيّة المنافع للموصى له مثلا ، وإلاّ يلزم أن يكون جعل الملكيّة له لغوا.

ولذلك في باب الإجازة التي هي عبارة عن جعل ملكيّة سكنى الدار مثلا لزيد مدّة معيّنة بعوض مالي معلوم ، بعد وقوع هذا الجعل من طرف المالك وتماميّة العقد لا مانع من تصرّف زيد في تلك الدار ، ولا يحتاج إلى الاستيذان من المالك في التصرّف فيها لأجل الانتفاع ، لأنّ ملكيّة منفعة الدار مثلا ملازم مع جواز التصرّف فيها وإلاّ يكون جعل ملكيّة المنفعة له لغوا.

وعلى كلّ حال من الواضح المعلوم أنّ كون المنفعة للموصى له والعين للوارث ليس من باب الشركة ، لتميّز الملكين كلّ واحد عن الآخر. ويتفرّع عليه فروع.

الكلام في إثبات الوصية

وتثبت الوصيّة التي عرفت جملة من أحكامها بالبيّنة ، وهي عبارة عن شهادة عدلين كسائر الموضوعات التي لها آثار شرعيّة ، وذلك لعموم حجّيتها بالنسبة إلى

ص: 309

جميع الموضوعات التي لها آثار شرعيّة. وقد تقدّم في هذا الكتاب (1) الكلام في عموم حجّيتها وعدم اختصاصها بباب القضاء.

فرع : هل تثبت الوصيّة بشهادة أهل الذمّة عند فقد البيّنة ، أي عدم عدلين مسلمين أم لا؟

لا إشكال في إثبات الوصيّة وقبول شهادة الذمّي عند فقد عدول المسلمين في الجملة ، للآية والرواية.

أمّا الآية : فقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (2).

المراد ( بالآخران من غيركم ) هو أن يكونا من أهل الذمّة من الكفّار ، لا مطلق الكفّار سواء كانوا حربيين أم ذمّيين ، وذلك لورود الرواية على قبول شهادة أهل الذمّة ، في ما رواه سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شهادة أهل الذمّة؟ فقال : « لا تجوز إلاّ على أهل ملّتهم ، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة ، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد » (3).

ويستفاد من هذه الرواية تقييد قبول شهادتهم بأمرين : أحدهما عدم العدول من أهل الإسلام ، الثاني انحصار قبول شهادتهم بخصوص الوصيّة. نعم لو أخذنا بعموم التعليل وهو عدم صلاح ذهاب حقّ أحد فتصير دائرة القبول أوسع.

ولكن أنت خبير بأنّ مفاد الرواية ليس انحصار من تقبل شهادته بخصوص أهل

ص: 310


1- « القواعد الفقهية » ج 3 ، ص 9.
2- المائدة (5) : 106.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 398 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 252 ، ح 652 ، باب البيّنات ، ح 57 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 5.

الذمّة ، لأنّ ثبوت حكم لموضوع لا يوجب نفيه عن غيره ، إلاّ أن يكون للكلام مفهوما ، أي يكون للكلام قيد يدلّ على ثبوت الحكم عند وجود ذلك القيد وعدمه عند عدمه ، سواء كان ذلك القيد بصورة الشرط أو الوصف أو غيرهما ممّا يكون له مفهوم.

نعم ها هنا رواية أخرى عن يحيى بن محمّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال : اللذان منكم مسلمان ، واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سنّ فيهم سنّة أهل الكتاب في الجزية ، وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يوجد مسلمان أشهد رجلين من أهل الكتاب ، يحبسان بعد صلاة العصر فيقسمان باللّه لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذا لمن الآثمين ، قال :

وذلك إذا ارتاب وليّ الميّت في شهادتهما ، فإن عثر على أنّهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما ، حتّى يجئ شاهدان يقومان مقام الشاهدين الأوّلين ( فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) » إلى آخر (1).

فترى في هذه الرواية أنّه علیه السلام فسرّ قوله تعالى ( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) بأهل الكتاب ، غاية الأمر إنّه علیه السلام ألحق المجوس أيضا بأهل الكتاب لما ذكره. والروايات المطلقة وإن كانت كثيرة لكنّها تقيّة بهاتين الروايتين بخصوص أهل الكتاب ، والمجوس أيضا لإلحاقه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهم في الجزية وفيما إذا لم يوجد شاهد مسلم.

وأمّا المطلقات فكثيرة ، وقد عقد لها بابا في الوسائل ، أي باب العشرين في

ص: 311


1- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 192 ، باب الإشهاد على الوصيّة ، ح 5436 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 178 ، ح 715 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 1 ، وص 179 ، ح 716 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 6.

أحكام الوصايا (1).

وأمّا تفسير الآية وإن كان فيه بعض الاختلاف ، ولكن نحن ننقل ما في الكافي قال بإسناده : خرج تميم الداري وابن بندي وابن أبي مارية في سفر ، وكان تميم الداري مسلما وابن بندي وابن أبي مارية نصرانيين ، وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع وآنية منقوش بالذهب وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع ، فاعتلّ تميم الداري علّة شديدة ، فلمّا حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي وابن أبي مارية ، وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته ، فقدما إلى المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته فافتقد القوم الآنية والقلادة ، فقالوا لهما : هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرا؟ قالا : لا ، ما مرض إلاّ أيّاما قلائل : قالوا : فهل سرق منه شي ء في سفره هذا؟ قالا : لا. قالوا فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا : لا. قالوا : فقد افتقدنا أفضل شي ء كان معه ، آنية منقوشة بالذهب مكلّلة بالجوهر ، وقلادة. فقالا : ما دفع إلينا فأدّيناه إليكم ، فقدّموهما إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأوجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليهما اليمين فحلفا فخلا عنهما ، ثمَّ ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما ، فجاء أولياء تميم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما ادّعيناه عليهما ، فانتظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحكم من اللّه في ذلك ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) فأطلق اللّه شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين إلى آخر. (2)

أمّا الرواية فكثيرة.

ص: 312


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 390 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 : باب ثبوت الوصية بشهادة مسلمين عدلين و.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 5 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 7 ، « تفسير القميّ » ج 1 ، ص 189 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 394 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 21 ، ح 1.

منها : رواية ضريس الكناسي قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن شهادة أهل الملل هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملّتهم؟ فقال : « لا ، إلاّ أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم ، وإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصيّة ، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرء مسلم ولا تبطل وصيّة » (1).

ومنها : رواية هشام بن سالم ( الحكم ) عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قوله عزّ وجلّ : ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال : « إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة » (2).

وهذه الرواية رويت بطريق آخر بدل قوله : في بلد ليس فيه مسلم أو « في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم » (3).

ورواية حمزة بن حمران ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ ( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال : فقال : « اللذان منكم مسلمان ، واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فقال : إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّته فلم يجد مسلمين ، فليشهد على وصيّته رجلين ذمّيين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما » (4).

والمتحصّل من هذه الأخبار ومن الآية الشريفة بعد تقييد مطلقاتها بمقيّداتها هو

ص: 313


1- « الكافي » ج 7 ، ص 399 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 253 ، ح 654 ، باب البيّنات ، ح 59 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 390 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 3 ، وص 398 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ص 725 ، باب الاشهاد على الوصية ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 4.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 399 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 179 ، ح 718 ، باب الاشهاد على الوصية ، ح 4 ، وج 6 ، ص 253 ، ح 655 ، باب البيّنات ، ح 60 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 392 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 7.

أنّه لو أشرف على الموت أو أحسّ أنّه قريب منه أراد أن يوصى وأن يشهد على وصيّة ولم يجد شاهدين عدلين مسلمين ، فله أن يشهد شاهدين من أهل الكتاب ، وشهادتهما في تلك الحال نافذة إن كان المشهود به هو المال.

وهاهنا أمور يجب التنبيه عليه

الأوّل : هو أنّ نفوذ شهادتهما هل موقوف على أن تكون الوصيّة في حال السفر ، أم لا فرق بين أن تكون في السفر أو الحضر ، بل المناط فيه عدم تمكّن الموصي من إشهاد مسلمين عادلين ، سواء كان متمكّنا من إشهاد غير العدول من المسلمين أو من إشهاد المؤمنات العادلات ، أو لم يكن متمكّنا من ذلك أيضا ، بل وسواء كان متمكّنا من إشهاد عدل واحد من المسلمين فيكون حجّة مع ضمّ اليمين في بعض الموارد؟

الظاهر أنّه لا فرق بين أن تكون في حال السفر وبين أن تكون الوصيّة حال الحضر ، ولا بين أن يكون متمكّنا من الشقوق التي ذكرناها أو لم يكن فيما إذا لم يكن متمكّنا من إشهاد عدلين مسلمين ، لأنّه علیه السلام جعل موضوع نفوذ شهادة ذمّيين عدم وجدان مسلمين عادلين ، فجميع تلك الشقوق داخل في ذلك الموضوع ولا فرق بين وجودها وعدمها.

وأمّا مسألة كونها في حال السفر لا الحضر وإن كان ظاهر الآية هو ذلك ، لقوله تعالى ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) (1) ولكنّ الظاهر هو أنّ الشرطية سيقت لبيان تحقّق الموضوع غالبا ، حيث أنّه في الغالب عدم وجدان المسلم يكون في السفر ، وأمّا في الحضر فغالبا يوجد المسلم العدل اثنان وأكثر. وكذلك في رواية هشام « إذا كان الرجل في أرض غربة » أيضا سيقت لبيان تحقّق الموضوع ، لما ذكرنا.

الثاني : هو أنّ المراد من قوله تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) هما خصوص أن

ص: 314


1- المائدة (5) : 106.

يكونا من أهل الكتاب أو مطلق من ليس بمسلم ، سواء كان ذمّيا أو لم يكن ، وعلى تقدير كون المراد أن يكونا من أهل الكتاب وذمّيين هل يكون المجوس منهم ، أو ملحق بهم حكما ، أو لا منهم ولا ملحق بهم؟

الظاهر أنّ المراد هو خصوص الذمّيين وأهل الكتاب لا مطلق الكفّار ، أوّلا لأنّ مورد الآية هما الذمّيان ، أي ابن بندي وابن أبي مارية نصرانيّان وقد تقدّم وكانا تحت حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهما ذمّيان. وثانيا : إنّ هذا - أي قبول شهادتهما - خلاف القواعد الأوّليّة ، لأنّ الأشياء كلّها على ذلك حتّى ذلك يستبين أو تقوم به البيّنة ، ومعلوم أنّ البيّنة عبارة عن شهادة مسلمين عدلين ، فيجب الوقوف على مورد اليقين والنصّ وهو لم يكونا ذمّيين. وثالثا : تفسيره في رواية حمزة بن حمران بأهل الكتاب وقد تقدّم. ورابعا : إجماع الفقهاء على ذلك.

نعم تقدّم إلحاق المجوسي بأهل الكتاب في رواية يحيى بن محمّد في ما نقل عن أبي عبد اللّه علیه السلام قوله علیه السلام : « فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوسي ، لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سنّ فيهم سنّة أهل الكتاب في الجزية ». هذا مع احتمال أن يكونوا من أهل الكتاب فإنّ الفقهاء قالوا لهم شبهة كتاب.

الثالث : إذا لم يوجد مسلم عادل ووصلت النوبة إلى إشهاد أهل الكتاب ، هل يجب أن يكون ذلك الكتابي عادلا في دينه أم لا ، بل يجوز أن يشهد على وصيّته رجلا ذمّيا ولو كان فاسقا في دينه ، بمعنى أنّه لا تجتنب عمّا هو حرام في دينه أي يرتكب المحرّمات مثل الكذب والبهتان وأكل أموال اليتامى ظلما وشهادة الزور وأمثال ذلك من القبائح العقليّة والمحرّمات في كلّ دين مع وجود فسّاق المسلمين؟

ظاهر المقابلة في الآية بين ( اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) وبين أو ( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) هو أنّ مع فقدان الأوّل تصل النوبة إلى الثاني ، فإذا لم يوجد اثنان ذوا عدل منكم تصل النوبة إلى آخران من غيركم وإن لم يكونا عادلين في دينهم ، وأيضا وإن

ص: 315

كان يوجد الفسّاق من المسلمين.

لا يقال : إذا كان شهادة الفاسق يجوز الاعتماد عليه ، فالمسلم الفاسق أولى من الكافر الفاسق.

لأنّه استحسان ولا يجوز أن يكون مدركا للحكم الشرعي ، فإنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول.

ولكن هناك أمر يدلّ على اعتبار العدالة في دينه في إشهاد الذمّي ، وهو قوله علیه السلام في رواية حمزة بن حمران : « فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيّته رجلين ذمّيين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما » ومعلوم أنّ المراد من هذه العبارة الأخيرة هو أن يكونا عادلين في دينهما كي يكونا مرضيين عند أصحابهما ، لأنّ الكذّاب المغتاب مثلا ليس بمرضي عند من يقول بحرمة الكذب والغيبة ، وهكذا الأمر في سائر المعاصي التي حرام في كلّ مذهب ودين.

فرع : ولو أوصى بلفظ وكان كليّا متواطئا ، مثل أن يقول : أعطوا فلانا غنما مثلا من أغنامي ، فللورثة الخيار في تطبيقه على أيّ فرد أرادوا ، لصدق الوفاء وإنفاذ الوصيّة على الجميع.

فرع : لا خلاف ولا إشكال في ثبوت الوصيّة بالمال بشهادة العدل الواحد مع اليمين إجماعا ، وكذلك لا خلاف في ثبوتها بشهادة عدل واحد مع شهادة امرأتين ثقتين ، لإطلاق الأدلة في أبواب الحقوق الماليّة وعدم اختصاصها بمورد دون مورد ، كما هو مذكور مشروحا في كتاب القضاء والشهادات.

وكذلك تقبل شهادة امرأة واحدة في ربع ما شهدت به ، وتقبل شهادة اثنين في نصفه ، وشهادة ثلاث في ثلاثة أرباع ممّا شهدن به ، وشهادة أربع في الجميع ، كلّ ذلك

ص: 316

إذا كانت شهادتين في الماليّات.

والمدرك في هذا الحكم رواية الربعي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصى ليس معها رجل ، فقال علیه السلام : « يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها » (1).

ورواية أبان عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال في وصيّة لم يشهدها إلاّ امرأة ، فأجاز شهادتها في الربع من الوصيّة بحساب شهادتها (2).

ورواية محمّد بن قيس قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في وصيّة لم يشهدها إلاّ امرأة أن تجوز شهادة المرأة في ربع الوصيّة إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها » (3).

ودلالة هذه الروايات على ما ذكرنا في أوّل الفرع من أنّ بشهادة الواحدة الربع ، وبالاثنتان النصف ، وبالثلاث ثلاثة أرباع ، وبالأربع الجميع واضحة لا يحتاج إلى البيان.

وأمّا ما توهّم أنّه لا تثبت بشهادة المرأة إلاّ الربع سواء كانت واحدة أم كنّ متعدّدات ، فخلاف ما يفهم من ظاهر الكلام. وليس من باب القياس كما كان كذلك في دية قطع أصابع المرأة ، لوجود الدليل هناك وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا زاد يكون ديتها نصف دية الرجل » بل الظهور العرفي يقتضي أن يكون لشهادة كلّ امرأة ربع ما شهد بها غير الربع الذي يثبت بشهادة الأخرى إلى أن

ص: 317


1- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 192 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 5435 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 719 باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 395 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 722 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 396 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 723 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 396 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 3.

يستوفي بشهاداتهنّ تمام ما شهدن به ، فلا يبقى محلّ وموضوع لشهادة الخامسة.

هذا ، مضافا إلى أنّ الأصل عدم التداخل.

ثمَّ إنّ ها هنا روايات أخر ظاهرها عدم قبول شهادة المرأة في الوصيّة مطلقا ، كرواية عبد الرحمن (1) ، ورواية عبد اللّه بن سنان (2) ، ومكاتبة أحمد بن هلال (3) ، ولكن لا بدّ من تأويلها كما في الوسائل ، أو طرحها لإعراض المشهور عنها بل الإجماع على خلافها.

فرع : لا تثبت الوصيّة بالولاية إلاّ بشاهدين عدلين ، أي البيّنة الشرعيّة كسائر الموضوعات ، وذلك لعموم قوله علیه السلام في رواية مسعدة : « الأشياء كلّها على ذلك حتّى يستبين غيره أو تقوم به البيّنة » (4) وليست الوصيّة بالولاية من موارد الاستثناء عن تحت هذه القاعدة ، فلا تثبت برجل وامرأتين ولا بعدل واحد مع اليمين ولا بشهادة أربع من النساء منفردات ، وجميع ذلك لأجل عدم الدليل وشمول إطلاقات وعموماته لها وعدم دليل على حجّيتها كي تكون مخصصة لها أو حاكمة عليها.

فرع : لا تثبت بشهادة الوصيّ ما هو وصي فيه ولا ما يجرّ به نفعا أو يستفيد منه ولاية ، والأصل في ذلك ما ذكروه في كتاب الشهادة أنّه من شروط صحّة الشهادة

ص: 318


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 722 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 396 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 6.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 270 ، ح 728 ، باب البيّنات ، ح 133 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 30 ، ح 100 ، باب فيما يجوز فيه شهادة النساء ، ح 32 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 397 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 7.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 268 ، ح 219 ، باب البيّنات ، ح 124 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 28 ، ح 90 ، باب فيما يجوز فيه شهادة النساء ، ح 22 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 397 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 8.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب الزيادات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

وقبولها أن لا يكون الشاهد منهما يجلبه نفع إليه من شهادته ، أو من جهة عداوة دنيويّة للمشهود عليه ، وأمّا العداوة الدينيّة فلا تمنع من قبول الشهادة. وتفصيل المسألة في كتاب الشهادات.

وعلى كلّ حال ذهب المشهور إلى عدم قبول شهادة الوصي فيما هو وصيّ فيه ، ولا فيما يجرّ نفعا إليه ، أو يستفيد منه ولاية ، فالعمدة في ذلك هو أنّ الشاهد في هذه الموارد يكون مدّعيا لنفسه شيئا وله نصيب وحظّ من المشهود به ، ولا شكّ في أنّ المدّعى عليه أن يأتي بالشهود لما يدّعيه ، ولا يمكن أن يكون هو المدّعي وهو الشاهد.

وأيضا يدلّ على عدم قبول شهادة المذكورات ما روى عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه نهى أن تجاز شهادة الخصم والظنين والجارّ إلى نفسه منفعة.

وأيضا ما ورد في باب شهادة الشريك لشريكه من أنّها لا تقبل.

منها : رواية أبان قال سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه؟ قال : « تجوز شهادته إلاّ في شي ء له فيه نصيب » (1). وروايات أخر بهذا المضمون (2).

وأيضا ورد روايات في عدم قبول شهادة الوصي فيما هو وصيّ فيه.

منها : ما رواه محمّد بن الحسن الصفّار ، عن أبي محمّد كتب هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين ».

وهذا ظاهر في عدم قبول قول الوصيّ وشهادته ، وإلاّ لم يكن محتاجا إلى اليمين لوجود البيّنة.

ص: 319


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 44 ، باب من يجب ردّ شهادته و. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 246 ، ح 623 ، باب البيّنات ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 15 ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 272 ، أبواب الشهادات ، باب 27 ، ح 3.
2- انظر : « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 271 - 272 ، أبواب الشهادات ، باب 27 و 28.

وأيضا ممّا يدلّ على هذا الحكم مضمرة سماعة قال : سألته عمّا يردّ من الشهود؟ قال : « المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتّهم ، كلّ هؤلاء تردّ شهاداتهم » (1).

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّه لو كان وصيّا في إخراج مال معيّن ، فشهد للميّت بمال على رجل يوجب كون إخراج ذلك المال المعيّن جميعه من الثلث لا تقبل.

مثلا لو كان وصيّا في إخراج ألف دينار وصرفه في الميراث وجميع التركة ألفان ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، فشهد الوصيّ بألف دينار للميّت على رجل لا تكون الوصيّة زائدا على الثلث لو قبلت شهادته ، ولو لم تقبل ينقص عن الألف المقدار الزائد على الثلث ويمنع الوصي عن التصرّف في ذلك المقدار ، فشهادته لو قبلت توجب توسعة تصرّفه فلذا لا تقبل.

وذلك كما أنّه لو وقع الخلاف بين الورثة والوصيّ في مقدار الوصيّة وادّعى الوصيّ أنّها الثلث ، وقال الوارث إنّها الربع أو الخمس مثلا ، فشهادة الوصيّ أنّها الثلث لا تقبل ، فكذلك الأمر فيما نحن فيه.

وحاصل الكلام أنّه كلّما كان موجبا لنفع الوصي ، وراجعا إلى توسعة تصرّفه فشهادته لا تقبل فيه ، لأنّه يكون مدّعيا ، وشهادة المدّعي لا تقبل فيما يدّعيه.

الأمر الرابع : في الموصى له

ويشترط فيه أن يكون موجودا حال الوصيّة وأن يكون قابلا للتملّك في الوصيّة

ص: 320


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 242 ، ح 599 ، باب البيّنات ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 14 ، ح 38 ، باب شهادة الشريك ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 278 ، أبواب الشهادات ، باب 32 ، ح 3.

التمليكيّة ، فإذا كان موجودا ولكن لا يكون قابلا للتمليك فلا يجوز أن يوصى له كي يكون هو الموصى له ، مثل أن يوصى لغير الإنسان من الجمادات أو النباتات أو الحيوانات غير الإنسان.

وذلك لأنّ الوصيّة التمليكيّة عبارة عن تمليك مال للموصى له ، فلا بدّ وأن يكون الموصى له قابلا للتملّك وإلاّ لا يتحقّق التمليك.

وأمّا اشتراط كونه موجودا فلأنّ المعدوم ليس قابلا لأنّ يتملّك ، والوصيّة التمليكيّة عبارة عن إنشاء ملكيّة مال لشخص ، غاية الأمر أنّ إنشاء الموصي يتعلّق بملكيّة ذلك المال لذلك الشخص الذي نسمّيه بالموصى له بعد موت الموصي ، فكونها بعد الموت من قيود المنشأ لا الإنشاء ، فلا يمكن إنشاء مثل هذه الملكيّة المقيّدة لما هو معدوم حال الإنشاء.

وذلك من جهة أنّ الملكيّة وإن كانت أمرا اعتباريّا ، ولكن لها إضافتين : إضافة إلى الشي ء الذي يعتبر ملكيّته وبهذه الإضافة يسمّى ملك أو مملوك ، وإضافة إلى من يملك ذلك الشي ء وبهذا الاعتبار يسمّى بالمالك ، فلا تتحقّق الملكيّة في عالم الاعتبار بدون هذين الاعتبارين. وذلك مثل الزوجيّة الاعتباريّة التي لا يمكن تحقّقها إلاّ بوجود امرأة تكون معروضا لعنوان أنّها زوجة ، وشخص يكون اعتبار زوجيّتها له الذي نسمّيها بالزوج ، فكما لا معنى لاعتبار زوجية امرأة بالفعل للزوج المعدوم ، كذلك لا معنى لاعتبار ملكيّة مال للمالك المعدوم.

وأشكلوا على هذا بصحّة اعتبار الملكيّة للمالك المعدوم فعلا حال اعتبار الملك له ، كما في الوقف على البطون المتأخّرة وجودهم من حال الوقف بناء على أنّ الوقف تمليكا لهم ، غاية الأمر ملكا غير طلق بل ملكا محبوسا بحيث لا يباع ولا يورث ولا يرهن.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّه في باب الوقف على البطون الطبقة الأولى موجودة

ص: 321

حال الوقف والواقف يملّكهم ، ثمَّ بعد انقراضهم يعتبر ملكيّة طبقة البعد مثل باب الإرث ، فإنّ الشارع اعتبر ملكيّة المورث الموجود حال الاعتبار بأسبابها ، من الحيازة أو العطايا أو الهبات أو بالمعاملات والانتقال إليه بأحد النواقل الشرعيّة ، وأيضا اعتبر بعد موته ملكيّة ورثته حال وجودهم. وقد جاء الدليل على هذا المعنى بقوله علیه السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه ». وهذا أمر ممكن معقول ، وقد جاء الدليل عليه في مقام الإثبات ، وهذا ليس من تمليك المعدوم.

لا يقال : لا فرق في عدم إمكان التمليك بين عدم الموصى له وبين عدم الموصى به ، وذلك لما بيّنّا من أنّ الملكيّة لها إضافتان : إحديهما إلى الشي ء الذي يتّصف بالملكيّة وأنّه مملوك ، وأخرى إلى الشخص الذي يتّصف بأنّ الملك له. ويعبّر عن الأوّل بالمملوكيّة ، وعن الثاني بالمالكيّة. والموصى به هو الأوّل ، والموصى له هو الثاني. فلو قلنا بأنّ الموصى له لا يمكن أن يكون معدوما ، فالموصى به أيضا كذلك ، لوحدة المناط فيهما ، مع أنّه من المسلّمات جواز الوصيّة بالأعيان المعدومة حال الوصيّة فعلا ، وكذلك بالمنافع المعدومة حالها كما إذا أوصى بكون ثمرة هذا البستان لفلان عشر سنين مثلا ، بل ينبغي أن يعدّ جواز الثاني من الضروريّات.

وفيه : أنّ هذا ليس من باب تمليك ما هو المعدوم حال التمليك للموصى له ، بل من باب تمليك شي ء في ظرف وجوده لشخص معيّن ، أو لعنوان من العناوين ، أو لطبيعة كلّية ، ولا مانع عقلا من هذا الأمر.

والذي قلنا إنّه غير ممكن هو أن لا يكون التمليك بلحاظ حال وجوده ، وإلاّ لا شكّ في أنّ الأحكام الوضعيّة تتعلّق بموضوعاتها ومتعلّقاتها باعتبار وجود صفة وحالة في تلك الموضوعات ، أو بلحاظ ظرف وجود نفس تلك الموضوعات ، وإن كان الجعل في حال عدم تلك الموضوعات أو عدم تلك الصفات ولكن اعتبار المجعول بلحاظ ظرف وجود تلك الموضوعات أو تلك الصفات.

ص: 322

نعم يحتاج إلى وجود دليل على صحّة العقد الفلاني والتمليك بهذا اللحاظ ، كما ورد في باب الوقف على البطون من الأخبار والإجماع ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ إطلاقات أدلّة الوصيّة يظهر منها أنّ الموصي في حال الإيصاء ينشئ ملكيّة المقيّدة بما بعد الموت للشخص الفلاني ، فلا بدّ من وجوده في تلك الحال لما بيّنّا وتقدّم.

فما أفاده في جامع المقاصد بقوله : واعلم أنّه قد سبق القول في الوقف جوازه على المعدوم إذا كان تابعا ، كما لو وقف على أولاد فلان ومن سيولد له ، فأيّ مانع من صحّة الوصيّة كذلك ، فإذا أوصى بثمرة بستانه مثلا خمسين سنة لأولاد فلان ومن سيولد له ، فلا مانع من الصحّة ، بل تجويز ذلك في الوقف يقتضي التجويز هنا بطريق أولى ، لأنّه أضيق مجالا من الوصية (1).

ففيه : أنّ الفرق بين المقامين جليّ ، وهو أنّ في الوقف أتى دليل من الأخبار والإجماع على صحّة الوقف على البطون وإن وجد بعضهم مئات من السنين بعد إنشاء الواقف أو بعد موته كذلك. وأمّا في الوصيّة فالإجماع على عدم صحّة الوصيّة للمعدوم حين الوصيّة أو حين موت الموصي.

نعم تقدّم في بعض الفروع السابقة بالنسبة إلى الموصى به أنّه يجوز الوصيّة بالمنافع غير الموجودة حال الوصيّة أو حال موت الموصي ، كالمثل الذي ذكره في جامع المقاصد من وصيّته بثمرة بستانه خمسين سنة لأولاد فلان الموجودين أو الذين سيولدون ويوجدون ، فهذا المثل بالنسبة إلى المنافع الموصى بها فلا إشكال فيها ، بل ادّعى الإجماع على صحّتها. وأمّا بالنسبة إلى الموصى لهم فإن كان كلّهم موجودين فلا إشكال أيضا في صحّتها وإن كان كلّهم معدومين فالإجماع على عدم صحّتها. وأمّا إذا كان بعض ولده موجودين وبعض آخر لم يولد بعد ، فهذا لا يخلو من إشكال بالنسبة إلى ذلك البعض الذي لم يوجد بعد.

ص: 323


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 41.

فرع : لا خلاف بين الإماميّة في صحّة الوصيّة إذا كانت واجدة لشرائط الصحّة للوارث والأجنبي ، وبعض الروايات الواردة في عدم جواز الوصيّة للوارث يجب طرحها أو تأويلها لإعراض الأصحاب عنها ، وورود روايات مستفيضة في جوازها له ، وقد عقد في الوسائل بابا في جواز الوصيّة للوارث تركنا ذكرها لوضوح المسألة وانعقاد الإجماع على الجواز. وقد ذكر في الوسائل إحدى عشر رواية تدلّ على الجواز (1).

فرع : تصحّ الوصيّة للذميّ مطلقا ، سواء كان أجنبيا أو كان من ذوي الأرحام. وقال في الشرائع : وقيل لا يجوز مطلقا ، ومنهم من خصّ الجواز بذوي الأرحام. والأوّل أشبه (2). أي القول بالجواز مطلقا أشبه بالقواعد والأدلّة من الإطلاقات والعمومات الواردة في الباب. أمّا من الكتاب العزيز فقوله تعالى ( لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (3) ولا شكّ في أنّ الوصيّة لهم من البرّ.

وأمّا الروايات فقد عقد في الوسائل بابا لذلك (4).

منها : ما عن ريّان بن شبيب قال : أوصت مارية لقوم نصارى فراشين بوصيّة ، فقال أصحابنا : اقسم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك ، فسألت الرضا علیه السلام فقلت : إنّ أختي أوصت بوصيّة لقوم نصارى ، وأردت أن أصرف ذلك إلى قوم من أصحابنا مسلمين ، فقال : « امض الوصيّة على ما أوصت به ، قال اللّه تعالى : ( فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى

ص: 324


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 373 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 15.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 253.
3- الممتحنة (60) : 8.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 415 ، باب جواز الوصيّة من المسلم والذمي بمال.

الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (1) (2) ».

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل اللّه؟ قال : « أعطه لمن أوصى له وإن كان يهوديّا أو نصرانيّا ، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) » (3).

ومنها : ما رواه حسين بن سعيد في حديث آخر عن الصادق علیه السلام قال : قال علیه السلام : « لو أنّ رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهوديّ أو نصرانيّ لوضعت فيهم ، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) » (4).

ولا شكّ في دلالة الآية هذه الروايات على جواز الوصيّة للذميّ مطلقا ، سواء كانوا من ذوي الأرحام أو لم يكونوا منهم.

هذا كلّه مع نفي الخلاف فيه في الخلاف (5) ، فيكون عليه الإجماع.

وأمّا القول بعدم الجواز مطلقا ، فمستنده يمكن أن يكون بعض الروايات التي ذكرها في الوسائل ، كمكاتبة أحمد بن هلال إلى أبي الحسن علیه السلام (6) ومكاتبة عليّ بن

ص: 325


1- البقرة (2) : 181.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 16 ، باب آخر منه ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 202 ، ح 806 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 129 ، ح 486 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 415 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 14 ، باب إنفاذ الوصية على جهتها ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 200 ، باب وجوب إنفاذ الوصيّة والنهي عن تبديلها ، ح 5462 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 808 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 129 ، ح 488 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 417 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 5.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب آخر منه ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 810 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 131 ، ح 493 ، باب من أوصى بشي ء في سبيل اللّه. ، « وسائل الشيعة » ج 13. ص 417 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 6.
5- « الخلاف » ج 4 ، ص 153 ، المسألة : 26.
6- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 204 ، ح 812 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 129 ، ح 489 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 416 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 2.

بلال أو الهلال (1) ، وكلاهما لا ظهور لهما في عدم صحّة الوصيّة للذمّي ، مضافا إلى إعراض المشهور عنهما.

وأمّا القول بالتفصيل بين ذوي الأرحام منهم فيجوز ، وغيرهم فلا يجوز ، فلم تجد لهذا القول مدركا يمكن الاعتماد عليه والاستناد إليه.

هذا كلّه في الوصيّة للذمّي.

وأمّا الحربي فالظاهر عدم الجواز له ، لقوله تعالى ( إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (2).

ولكنّ الإنصاف أنّ هذه الآية أخصّ من المدّعى ، ولا تشمل إلاّ قسم خاصّ من الحربي لا كلّهم.

ولقوله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ ) (3).

ولا شكّ في أنّ الوصيّة لهم من المودّة المنهيّ عنها ، فتكون الوصيّة لهم منهيّ عنها ، والنهي في المعاملات بالمعنى الاسم المصدري يدلّ على الفساد كما قررناه في الأصول.

ولكن هذه الآية أيضا أخصّ من المدّعي ، إذ ليس كلّ حربي محادّ اللّه ولرسوله ، مع أنّ النهي ها هنا على تقدير تسليمه ليس متعلّقا بنفس المعاملة ، بل تعلّق بعنوان ملازم للمعاملة أو ملزوم لها ، ومثل هذا النهي دلالته على البطلان غير معلوم.

ص: 326


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 336 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5726 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 416 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 3.
2- الممتحنة (60) : 9.
3- المجادلة (58) : 22.

والدليل الثالث على عدم صحّة الوصيّة للكافر الحربي هو عدم إمكان العمل بهذه الوصيّة شرعا ، وهذا يدلّ على فسادها ، إذ لا معنى للفساد في أبواب المعاملات إلاّ عدم لزوم ترتيب الأثر عليها وجواز عدم الاعتناء بها. أمّا عدم وجوب العمل بهذه الوصيّة بل عدم جوازه هو أنّ الحربي لا احترام لماله ولا لنفسه ، فلا يجوز أو لا يجب إعطاء ما أوصى له إليه.

وإن شئت قلت : لو جازت الوصيّة للحربي فإمّا يجب على الوصي الدفع إليه ، وهو ممنوع ، لجواز أخذه وتملّكه ، أو لا يجب. وهو أي عدم وجوب الدفع إليه عليه من لوازم الفساد.

وخلاصة الكلام أنّ الأظهر والأحوط عدم الجواز ، كما ذهب إليه المحقّق ، قال في الشرائع : وفي الحربي تردّد ، أظهره المنع (1). والعلاّمة في القواعد قال : والأقرب صحّة الوصيّة للذمّي وإن كان أجنبيّا ، والبطلان للحربي (2). وقال في الإيضاح : والصحيح ما اختاره المصنّف ، وهو جوازها للذمّي مطلقا والبطلان للحربي والمرتدّ. (3) والشيخ في الخلاف قال بجواز الوصيّة للذمّي دون الحربي (4). ويستفاد من جامع المقاصد أيضا أنّه قائل بعدم الجواز للحربي. (5)

فرع : إطلاق الوصيّة يقتضي التسوية بين من أوصى لهم ، فلو أوصى لأولاده تشملهم بالسويّة فإذا كانوا ذكورا وإناثا فنصيب الإناث مثل نصيب الذكور ، لوحدة السبب لأنّ السبب لاستحقاق الموصى به هي الوصيّة ، وفي ذلك كلّهم سواء ، لأنّ

ص: 327


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 253.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 293.
3- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 487.
4- « الخلاف » ج 4 ، ص 153 ، المسألة : 26.
5- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 52.

الموصي لم يفرّق على الفرض بين الذكور والإناث ، ولا بين العالم والجاهل ، ولا بين العادل والفاسق ، وهكذا الأمر في سائر الطواري والخصوصيّات الواردة على عنوان الموصى له ، والمفروض أنّ كلّهم من مصاديق ذلك ومتساوي الإقدام في انطباق العنوان عليها ، وحيث لم يفرّق الموصي بين هذه الطواري وأطلق العنوان ولم يقيّده بأحد هذه القيود وجودا وعدما فالإطلاق يقتضي التسوية.

وكذلك الأمر لو قال الموصي : المال الفلاني لأخوالي أو لخالاتي أو لأعمامي أو لعمّاتي بعد وفاتي ، فيشملهم بالسويّة ولا يقسّم بينهم بترتيب الإرث ، لأنّه في الإرث جاء الدليل على أنّ تركة الميّت ليس بينهم بالسويّة ، بل لكلّ صنف منهم نصيب غير نصيب الصنف الآخر ، فللذكر منهم ضعف الإناث وإلاّ هناك أيضا يقسّم بينهم بالسويّة ، فلو كان دليل الإرث فقط قوله علیه السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » (1) كان يقسّم المال بالسويّة ، وهذا واضح.

نعم لو صرّح بالتفصيل فلا يبقى مورد للأخذ بالإطلاق ، بل يجب العمل على طبق تفصيله. وها هنا رواية تدلّ على التفصيل ، ولكن الأصحاب لم يعملوا بها فصارت مهجورة متروكة ، وهي صحيحة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام في رجل أوصى بثلث ماله في أعمامه وأخواله ، فقال علیه السلام : « لأعمامه الثلثان ، ولأخواله الثلث » (2) وروى هذه الرواية في الكافي بطريق آخر عن ابن محبوب ، ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسن بن محبوب ، ولكنّها لعدم العمل بها وإعراض الأصحاب عنها مطروحة ، أو يحمل على أنّ الموصي أوصى لهما على كتاب اللّه ، أي طريقة الإرث التي في كتاب اللّه وأنّ ( لِلذَّكَرِ ) مثلَ ( حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

ص: 328


1- تقدّم ذكره في ص 322.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 45 ، باب من أوصى لقراباته ومواليه. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 208 ، باب الوصيّة للأقرباء والموالي ، ح 5483 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 214 ، ح 845 ، باب الوصية المبهمة ، ح 22 ، وص 325 ، ح 1169 ، باب ميراث الأعمام والعمّات. ، ح 8. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 454 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 62 ، ح 1.

فرع : قال في الشرائع : إذا أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبة (1).

أقول : كالهاشمي لأفراد الهاشميّين ، وكذلك الطالبين والعلويين بالنسبة إلى أفراد هذين العنوانين.

ولكن الإنصاف أنّ العناوين العامّة التي تطلق على الأشخاص مختلفة جدّا من حيث كثرة المصاديق وقلّتها ، ومن جهة اتّصالهم في أب قريب أو بعيد. والقرب والبعد أيضا قد يكون بحسب الزمان ، وقد يكون بحسب كثرة عدد الفواصل ، وقد يكون بحسب الاثنين ، ولا شكّ في أنّ ذلك اللفظ قد يكون منصرفا عن بعض أفراده بل عن أغلب أفراده ، فعنوان الهاشمي أو العلوي أو الحسيني أو الموسوي يطلق على الملايين ، ولا شكّ في أنّ كلّهم أقرباء بمعنى اشتراكهم واتّصالهم في النسب ، ولكن مع ذلك لفظ « الأقرباء » منصرف عن أغلب أفراد هذه العناوين المذكورة.

فالأحسن بل المتعيّن إحالة المعنى وتشخيص المراد إلى الظهور العرفي ، - أي ما يفهمه العرف من هذا اللفظ - فلا يمكن أن يكون ما ذكره في الشرائع هو المناط في تشخيص المراد من اللفظ.

فلو أوصى لذوي قرابته أو أقربائه ، فلا يمكن أن يكون كلّ من هو معروف بنسبة الهاشمي أو العلوي أو العبّاسي مثلا أو الموسوي أو الفاطمي وأمثالها من أقربائه ، لأنّ اللفظ منصرف عن أغلب الأفراد قطعا ، فالمناط هي الإحالة إلى العرف.

وفي المفاهيم العرفيّة أيضا قد يكون معلوم الانطباق ، وقد يكون عدم انطباقه معلوم. وحال هذين معلوم في شمول الوصيّة وعدم شمولها له. وقد يكون مشكوك الانطباق ، فالإطلاق لا يشمله أيضا وخارج عن الحكم ، إلاّ أن يكون أصل موضوعي في البين ، وإلاّ فالمرجع هي الأصول العمليّة.

ص: 329


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 254.

وما ذكرناه من لزوم الإحالة إلى العرف في لفظ « ذوي القرابة » جار في مطلق الألفاظ التي تقع متعلّقا للوصية ويكون الوصيّة لهم ، من لفظ « القوم » و « العشيرة » و « الجيران » وأمثالها ، فلا بدّ وأن يؤخذ بما يفهمه العرف منها إلاّ أن يأتي دليل من قبل الشارع على التوسعة أو التضييق ، مثل الطواف بالبيت صلاة أو المطلّقة الرجعيّة زوجة ، فلا نطيل الكلام وإن أطالوا في معنى بعض هذه الألفاظ كلفظ « أهل البيت » وغيره.

فرع : وتصحّ الوصيّة للحمل الموجود حال الوصيّة وإن لم يكن ولجه الروح ، لشمول عمومات الوصيّة وإطلاقاتها له ، ولأنّه اجتمع فيه الشرطان اللذان للموصى له ، وهما وجوده وقابليته للتملّك ، فلا وجه لعدم صحّته ، ولكن استقرار الصحّة بوضعه حيّا وإن وضعته ميتا يكشف عن بطلانها من أوّل الأمر وإن كان حيّا حين الوصيّة ، فهو مثل الإرث أي كما أنّه يرث إن ولد حيّا أمّا لو ولد ميّتا لا يرث وإن كان حال موت مورّثه حيّا في بطن أمّه ، وذلك لأنّ صلاحيّته للتملّك بالإرث أو بالوصيّة موقوفة على تولّده حيّا ولو آنا مّا ، فلو لم يولد حيّا فيستكشف أنّه لم يملك أصلا ، فالنماء المتخلّل بين حال الوصيّة والولادة ، وبين موت المورث وحال الولادة للطفل إن ولد حيّا ، وللورثة إن لم يولد حيّا. والحال أنّ النماء تابع للعين في كلا المقامين.

ثمَّ إنّ من الواضحات أنّه لو ولد حيّا ثمَّ مات تكون الوصيّة لورثة الولد من باب الإرث كسائر موارد الإرث ، كما أنّه لو ولد حيّا ثمَّ مات بالنسبة إلى المال الذي ورثه وهو في بطن أمّه أيضا كذلك يكون لوارثه.

وأمّا بناء على لزوم قبول الموصى له في صيرورة الوصيّة ملكا له فهل يحتاج إلى قبول وارث الطفل الذي ولد حيّا ومات ، أو قبول من هو وليّ عليه ، أم لا؟ الظاهر عدم الاحتياج ، لأنّه بالولادة حيّا صار ملكا للولد ، فالوارث يملك الوصيّة بالإرث لا

ص: 330

بالوصيّة ، فلا يحتاج إلى القبول.

نعم يمكن أن يقال - كما هو الظاهر من المسالك (1) - : إنّ الولد حال الولادة كان قبوله أو قبول وليّه شرطا في تأثير الوصيّة ، وحيث أنّه لم يكن قبول من كلّ واحد منهما كما هو المفروض في المقام ، فيجب القبول من الوارث أو وليّه إن كان صغيرا أو وكيله إن كان كبيرا ، وإلاّ لا يتمّ الوصيّة. وهو كلام حسن قويّ جدّا.

ولكن صاحب الجواهر (2) أشكل عليه بأنّ ظاهر الفتاوى استقرار الوصيّة بانفصاله حيّا.

وهذا الكلام منه إن كان ادّعاء الإجماع على استقرار الوصيّة بالانفصال حيّا وإن لم يحصل القبول فهو شي ء. وبعبارة أخرى : يكون من نقل الإجماع ، وإلاّ لا يسمن ولا يغني من جوع.

فرع : لو أوصى في سبيل اللّه ، قيل : يختصّ بالغزاة ، وقيل : يصرف في وجوه البرّ وفيما فيه أجر وثواب. والاختصاص بالأوّل لا وجه له ، نعم هو أحد طرق سبيل اللّه والثاني أقرب إلى ما هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة.

وقد تقدّم منّا أنّ في جميع هذه الموارد لا بدّ من مراجعة العرف في فهم ألفاظ المستعملة في الموصى به والموصى له كالفقراء والعلماء والقرّاء أو الأرامل أو لورثة فلان أو لعصبة فلان أو لبني فلان أو للشيوخ أو للكهول أو للشبّان أو للعرائس أو للعذارى أو للعجائز ، وأمثال هذه الألفاظ من العناوين.

وكذلك الأمر في الموصى به ، مثل أن يقول : أعطوا فلانا قوسي أو عودي أو عصاي أو سيفي أو فروتي أو ثيابي أو قرآني أو كتب ادعيتي ، ففي فهم جميع تلك

ص: 331


1- « المسالك » ج 1 ، ص 410.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 388.

الألفاظ فهم العرفي هو المتّبع ، إذ هو المناط في تشخيص الظاهر من غيره ، وهو الحجّة في تعيين ما أراد المتكلّم.

وأمّا في بيان « سبيل اللّه » وأنّه ما المراد منه إذا أوصى بصرفه في سبيل اللّه ، فقد ورد فيه روايات عقد له بابا في الوسائل ، ونحن نذكر جملة منها :

منها : ما رواه حسن بن راشد قال : سألت أبا الحسن العسكري علیه السلام ( بالمدينة ) عن رجل أوصى بمال له في سبيل اللّه؟ قال علیه السلام : « سبيل اللّه شيعتنا » (1).

ومنها : حسين بن عمر قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : « إنّ رجلا أوصى إليّ بمال في السبيل ، فقال لي : « اصرفه في الحجّ ، فإنّي لا أعلم سبيلا من سبله أفضل من الحج » (2).

ومنها : ما رواه حجّاج الخشّاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن امرأة أوصت إليّ بمال أن يجعل في سبيل اللّه ، فقيل لها : يحجّ به ، فقالت : اجعله في سبيل اللّه. فقالوا لها : فنعطيه آل محمد صلی اللّه علیه و آله قال : اجعله في سبيل اللّه. فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « اجعله في سبيل اللّه كما أمرت ». قلت : مرني كيف أجعله؟ قال : « اجعله كما أمرتك ، إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (3) أرأيتك لو أمرتك أن تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا؟ ». قال : فمكثت بعد ذلك ثلاث سنين ، ثمَّ دخلت عليه فقلت له مثل الذي قلت أوّل مرّة ،

ص: 332


1- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب آخر منه ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 206 ، باب الرجل يوصى بمال في سبيل اللّه ، ح 5478 ، « معاني الأخبار » ص 167 ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 204 ، ح 811 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 412 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح 5 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 206 ، باب الرجل يوصى بمال في سبيل اللّه ، ح 5479 ، « معاني الأخبار » ص 167 ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 809 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 130 ، ح 491 ، باب من أوصى بشي ء وفي سبيل اللّه تعالى ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 412 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 2.
3- البقرة (2) : 181.

فسكت هنيئة ، ثمَّ قال : هاتها ، قلت : من أعطيها؟ قال : « عيسى شلقان » (1).

ومنها : ما عن يونس بن يعقوب أنّ رجلا كان بهمدان ذكر أنّ أباه مات وكان لا يعرف هذا الأمر ، فأوصى بوصيّة عند الموت وأوصى أن يعطى شي ء في سبيل اللّه فسأل عنه أبو عبد اللّه علیه السلام كيف نفعل وأخبرناه أنّه كان لا يعرف هذا الأمر فقال علیه السلام : « لو أنّ رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهوديّ أو نصرانيّ لوضعته فيهما ، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) فانظروا إلى من يخرج إلى هذا الأمر - يعني بعض الثغور - فابعثوا به إليه » (2).

وبعد التأمّل التامّ يطمئن الناظر فيها أنّ ما ذكر في كلّ رواية من هذه الروايات ليس إلاّ مصداقا من مصاديق سبيل اللّه ، فالإعطاء إلى الشيعة أو للحجّ عنه أو لأهل الجهاد والحافظين للثغور كلّهم من مصاديق سبيل اللّه ولا تنافي بينها.

الأمر الخامس : في الأوصياء
اشارة

جمع مفرده : الوصي ، مأخوذ من الوصاية. وهي في عرف المتشرعة عبارة عن التعهّد إلى شخص بالتصرّفات المتعلّقة بأمواله وأولاده القصر أو أحفاده كذلك بعد موته ، فتحصل لذلك الشخص ولاية على هذه التصرّفات من قبل الموصي ، فذلك

ص: 333


1- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب آخر من إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 810 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 131 ، ح 493 ، باب من أوصى بشي ء في سبيل اللّه ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 413 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 14 ، باب إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 200 ، باب وجوب إنفاذ الوصيّة والنهي عن تبديلها ، ح 5463 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 202 ، ح 805 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 128 ، ح 485 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 414 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 4.

الشخص يسمّى بالوصي ، وهو من المفاهيم الواضحة عند العرف ، فلا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

وإنّما الكلام في الشروط والأوصاف التي يلزم أن يكون متّصفا بها كي يصلح لجعله وصيّا ، ويترتّب الصحّة على التصرّفات التي تصدر منه.

فمنها : العقل والبلوغ ، واعتبار هذين معلوم ، لأنّ المالك الأصيل محجور عن التصرّفات في أمواله مع فقدهما أو أحدهما ، فكيف يمكن إعطاء مثل هذه الولاية لفاقدهما أو فاقد أحدهما.

ومنها : الإسلام. واشتراط صحّة الوصاية بكون الوصي مسلما إجماعي لا خلاف فيه. وقد يستدلّ بأدلّة أخرى ولكن لا تخلو من مناقشة ، من قبيل الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، ووصاية الكافر على أموال المسلم - وخصوصا على أولاده القصر وأحفاده كذلك المسلمين - علوّ عليهم ، وأيّ علوّ أعلى من كونه وليّا عليهم وقوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (1) إلى آخر والكافر ظالم لنفسه ولغيره. وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ المراد من قوله تعالى ( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) في هذه الآية هم الكفّار ، والركون هو الميل اليسير وهو مقابل النفوذ ، ولا شك في أنّ جعله وليّا على أمواله وأولاده ركون إليه وأيّ ركون.

نعم يبقى كلام في هذا المقام وفي مقامات أخر ، وهو أنّه هل النهي يدلّ على الفساد ، أم لا ، لأنّه ليس بعبادة كي يكون محتاجا إلى قصد القربة ، ولا يمكن قصدها مع كونه منهيّا عنه. وقد حقّقنا في الأصول في كتابنا « منتهى الأصول » (2) أنّ النهي في أبواب المعاملات إذا تعلّق بالمعنى الاسم المصدري من تلك المعاملة فيدلّ على الفساد ، وها هنا كذلك ، لأنّ ما هو المبغوض عند الشارع وغير راض به هو ولاية الكافر على

ص: 334


1- هود (11) : 113.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 420.

أموال المسلمين وأنفسهم ، لا جهة إصدار هذا الجعل فقط. وهذا واضح جدا.

ثمَّ إنّ هذه الأدلّة على تقدير دلالتها على اعتبار الإسلام في الوصي ، هو فيما إذا كان الموصي مسلما. وأمّا إذا كان كافرا وأوصى إلى واحد من أهل ملّته فلا إجماع في البين.

ومنها : العدالة ، وفي اعتبارها خلاف. قال في الشرائع : وهل يعتبر العدالة؟ قيل : نعم ، لانّ الفاسق لا أمانة له. وقيل : لا ، لأنّ المسلم محلّ للأمانة. (1)

وكلا القولين المستندين إلى هذين الدليلين غير خال عن الخلل.

أمّا الأوّل : فمن جهة أنّه ربما يحصل الوثوق والاطمئنان من الفاسق أزيد من غيره ، خصوصا إذا كان من أقربائه الأقربين ، كابنه الذي هو أخ لأولاده ، وأحفاده القصر خصوصا إذا كان شقيقا لهم ، فلا شكّ في أنّه أعطف وأرأف إلى إخوته - وإن كان فاسقا - من الأجانب وإن كانوا عدولا.

وأمّا الثاني : فلأنّ المسلمين مختلفون من حيث الأمانة ، لأنّه بين المسلم والأمين عموم وخصوص من وجه ، فربّ شخص يكون أمينا وليس بمسلم ، وكذلك العكس.

وما ورد في أمانة المسلم أو في خيانة الكافر غالبي ليس بطور الكلّيّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : اعتبار الوثوق أو الاطمئنان والأمانة فيما إذا كان أوصى إليه في أداء حقوق الواجبة ، كما إذا أوصى إلى شخص أن يحجّ عنه حجّة الإسلام أو حجّ واجب من جهة أخرى ، أو يقضي ما فات من فرائضه التي هو مأمور بقضائها ، أو جعله وصيّا وقيّما على أولاده وأحفاده القصر كي يدبّر في إدارة أموالهم أو سائر شؤونهم.

وإلاّ لو جعله وصيّا في صرف ثلثه في الخيرات والمبرات ، فلا دليل على لزوم وثوقه بالوصي فضلا عن لزوم كونه عادلا.

ص: 335


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 255.

وذلك من جهة أنّ اعتبار الوثوق أو الأمانة من جهة عدم تلف أمواله ، وأن يصرف في ما يريد أو في ما له الأجر والثواب ، لا أن لا يصرف في الخيرات بل لعلّه في بعض الأحيان يصرف في المحرّمات والجرائم الكبيرة ، بل وحتّى في مورد يحتمل أن يصرف الوصي بعض ماله في المحرّمات لا مانع من جعله وصيّا ، لأنّه مسلّط على ثلث ماله ، يفعل به كيف ما يشاء.

إلاّ أن يكون المنع من باب أن لا يكون إعانة على الإثم. ولكن هذا الاحتمال أيضا لا أثر له ، لأنّ الإعانة على الإثم لا تتحقق بدون قصد ترتّب الإثم على فعله ، والمفروض في المقام أنّ قصد الموصي ها هنا هو أن يصرف الوصي في الخيرات والمبرّات ، لا في المحرّمات.

وأمّا ما يقال من أنّ المال يخرج عن ملكه بعد الموت ، فيكون من قبيل تعيين الولي في أن يتصرّف في مال الغير ، فلا بدّ أن يكون موثوقا وأمينا كي لا يتلف عن طرف جعله ونصبه ذلك الشخص أموال القصر ، أو فيما أوصى للجهات العامّة حقوق الجميع.

مثلا إذا أوصى للمصرف في قنطرة فلان ، فبتلف ذلك المال الذي عيّنه لعمارة القنطرة يضيع حقوق جميع العابرين. وهكذا الأمر فيما أوصى لجميع الخيرات والجهات العامّة.

وأمّا جعل الوصي في تقسيم وتدبير ما أوصى بالوصيّة التمليكيّة للعناوين العامّة ، فلو خان الوصي يكون تلفا في ملكهم ، لأنّه بعد الموت يصير الموصى به ملكهم ، فإتلاف الوصي يقع في ملكهم لا في ملك الموصي ، لأنّ الموصى به خرج بالموت عن ملك الموصي ، فإتلاف الوصي وخيانته لا محالة تقع إمّا في ملك الموصى لهم أو في حقوقهم ، وليس له السلطنة على هذا الإتلاف ، فلا بدّ وأن يكون الوصي عادلا كي يأتمنه على مال الغير أو على حقّه ، ولا يؤتمن الفاسق ، كما ورد في بعض الروايات ،

ص: 336

ولصريح آية النبإ التي أمر اللّه تعالى فيها بالتثبّت والتبيّن عمّا أخبره ، وعدم قبول قوله.

ففيه : أنّ الموصي ما دام حيّا والروح في بدنه ، له أن يتصرّف في ماله كيفما شاء ، ولذلك له أن يتصرّف فيه في مقدار الثلث بأيّ نحو أراد ، ما لم يكن التصرّف في المحرّمات من التصرّفات التي لا يجوز له حال الحياة.

وأمّا أنّ تصرّفه بلحاظ ما بعد الموت تصرّف في ملك الغير أو في حقّه فمغالطة واضحة ، لأنّه لا ينتقل إلى الورثة المال الذي لم يتصرّف فيه كي يكون تصرّفه في ملك الورثة ، بل انتقل إليهم المال الذي وقع فيه التصرّف بهذا القيد.

وذلك نظير أنّ المالك آجر ماله واستوفى المنفعة التي لسنين ثمَّ بعد ذلك باعه ، فينتقل إلى المشتري مال مسلوب منفعة وإن كان زمان حصول المنفعة بعد زمان انتقاله إلى المشتري ، وذلك من جهة أنّه قبل البيع له السلطنة على ماله عينا ومنفعة إلى الأبد ، ولذلك يجوز له التصرّفات المعيّنة للعين أو المنفعة إلى الأبد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المحقق أجاد في مقام تعليل عدم اعتبار العدالة بقوله : ولأنّها ولاية تابعة لاختيار الموصي فتحقّق بتعيينه. (1) كما أنّ للمالك أن يوكل من يريد ويستودع عنه من يريد ، عادلا كان أم لا.

وهناك قول ثالث اختاره في المسالك (2) وهو أنّ العدالة ليست بشرط ولكن ظهور الفسق مانع ، فلو كان ظاهر الفسق ومعلوم الحال أنّه فاسق لا يجوز جعله وصيّا ، وأمّا لو كان مجهول الحال ولا يعلم فسقه بحيث أنّ من نسب إليه الفسق وقال إنّه فاسق يعزّر ، فيجوز أن يوصى إليه ويجعله وصيّا.

ومن المحتمل أن يكون مراده من ظهور الفسق عليه أن يكون متجاهرا بالفسق ، ففرّق بين الفاسق الواقعي والمتجاهر بالفسق ، فجوّز جعله وصيّا في الأوّل ، ومنع

ص: 337


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 255.
2- « المسالك » ج 1 ، ص 411.

في الثانية.

ولكن ظاهر عبارته بعيد عن هذا المعنى ، وإن كان هو في نفسه لا بأس به.

فالأقوال في المسألة ثلاثة : اعتبار العدالة ، وعدم اعتبارها مطلقا سواء ظهر عليها الفسق أم لا ، وعدم اعتبار العدالة وعدم ظهور الفسق.

ثمَّ ظهر مما ذكرنا أنّ الأرجح هو القول الثاني.

نعم لا بأس بالقول باعتبار كونه ثقة مأمونا عن الخيانة ، كما هو بناء العقلاء في مقام الوصيّة ، فلا يوصون إلاّ إلى من يثقون به وأنّه لا يخون ولا يتلف بل يضع كلّ ما أوصى إليه في موضعه. وأمّا العدالة بالمعنى المعلوم عند الفقهاء فمن كلّ مائة من الأوصياء لا تجد واحدا فيهم ، ولا تعرّض في الأخبار من هذه الجهة أصلا مع كثرة سؤال الأوصياء عنهم علیهم السلام عن وظائفهم فيما أوصى إليهم. ولعلّ بعد التأمّل في جميع ما ذكرنا يحصل الاطمئنان بعدم اعتبار العدالة في الوصي ، وكفاية الوثوق بأمانته.

فرع : لو أوصى إلى عدل ففسق بعد موت الموصي فهل تبطل وصيّته مطلقا ، أو على تقدير القول باشتراط صحّة الوصاية بعدالة الوصي ، أو لم تبطل مطلقا؟

وجه الأوّل الذي اختاره الأكثر ، بل ادّعى جماعة الإجماع عليه : أنّ الموصي لم ينصبه مطلقا وعاريا عن القيد ، بل نصب هذا الشخص بما أنّه عادل لا يخون ، فإذا زال الوصف يزول الموضوع ، كما أنّه إذا نصب المجتهد العادل قاضيا ففسق يزول عنه منصب القضاء لانعدام موضوعه ، فكذلك هنا جعل هذا الشخص العادل بما أنّه عادل وصيّا ، فموضوع الوصاية ليس ذات هذا الشخص بل بوصف أنّه عادل وإن لم تكن العدالة شرطا للوصاية ولكن الموصي أعطى هذا المنصب باعتبار أنّه عادل ، فعند

ص: 338

فسقه انعدم الموضوع فانعدم الحكم.

وجه الثاني : أنّ ظاهر اشتراط عدالة الوصي في صحّة الوصاية هو أنّها شرط حدوثا وبقاء ، لا حدوثا فقط ، وذلك لوحدة المناط حدوثا وبقاء ، لأنّ مناط الاشتراط هو عدم تلف أموال أولاده وأحفاده أو مال سائر الناس أو حقّهم. وهذا المعنى كما أنّه يوجب اشتراط العدالة في إعطاء الموصي الولاية في أوّل الأمر ، كذلك يوجب اشتراطها بقاء كي لا يوجد خلل من تلف مال أو حقّ بقاء.

وإذا قلنا بعدم اشتراط العدالة في أوّل الأمر حدوثا فلا وجه لاشتراطها بقاء ، فكما أنّ الفسق من أوّل الأمر ليس بمانع عروضه ، فيما بعد أيضا ليس بمانع.

وجه الثالث : هو أنّه بعد ما تحقّق الوصيّة صحيحا وصار الموصى إليه وصيّا واعطى هذا المنصب ، فبزواله يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، بل إذا شككنا فمقتضى الاستصحاب بقاء كونه وصيّا.

ولكن أنت عرفت ممّا ذكرنا في بيان وجه الأوّل أنّ الدليل على الزوال موجود وهو فقد وصف الموضوع أي العدالة ، والوجه الأوّل هو الصحيح ، أي القول بالبطلان مطلقا.

أمّا على تقدير اشتراط الصحّة بعدالة الوصي فالأمر واضح ، لما ذكرنا من عدم الفرق بين الحدوث والبقاء. وأمّا على تقدير عدم الاشتراط فأيضا لما ذكرنا من تقييد المتعلّق بوصف العدالة ، فبعد زوال الوصف لم يجعل له هذا المنصب ، وليس شكّ في البين كي يستصحب ، لأنّ المفروض أنّ الموضوع ها هنا مركّب وبزوال الوصف يحصل القطع بارتفاع الموضوع.

نعم لو كان ذات الوصي موضوعا للوصاية ، وكان وصف العدالة من قبيل الداعي للجعل فلا يرتفع الوصاية ، لأنّ تخلّف الداعي للجعل لا يوجب ارتفاع المجعول ، لأنّ ما هو العلّة في الجعل هي الصورة الذهنيّة لما هو الداعي ، وعدم مطابقة

ص: 339

تلك الصورة مع الخارج لا تأثير له في الجعل ، ولا في وجود المجعول.

ولكن هذا فيما نحن فيه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّه جعل فلانا مثلا وصيّا بما هو عادل ، لا أنّه جعله وصيّا والداعي لهذا الجعل عدالته ، فالحقّ هو بطلان وصيّته بعد صيرورته فاسقا وانعزاله قهرا.

ثمَّ إنّه على تقدير عود العدالة هل تعود الوصيّة أم لا؟

الظاهر أنّه لا ، لأنّ عودها يحتاج إلى جعل جديد ، نعم كان له من أوّل الأمر أن يجعله هكذا ، أي العود بعودها.

فرع : وحيث أنّ من جملة شرائط الوصي أن يكون بالغا - لأنّ الصبي ممنوع عن التصرّف في ماله بنفسه ومباشرته ، ومحجور عن المعاملات ، ومسلوب عبادته ، ولا يعتني بقوله ولا بفعله - فلا تصحّ الوصيّة إلى الصبيّ منفردا لعدم قابليّته للتصرّفات شرعا ، ولمّا جعله منضمّا إلى الكبير بحيث يكون شريكا مع غيره المنضمّ إليه عند بلوغه ، فلا مانع منه عقلا ولا شرعا. وورود الدليل على ذلك أيضا مع أنّ جميع ذلك مطابق للقواعد الأوّليّة وإن لم يكن نصّ في البين ، فالكبير متفرّد في التصرّفات إلى أن يبلغ الكبير ، فإذا بلغ فليس له التفرّد لوجود الشريك ، كما أنّه ليس للصغير بعد بلوغه نفوذ شي ء ممّا أبرمه الكبير قبل بلوغ هذا الصغير.

وأمّا النصّ الوارد في المقام فروايات :

منها : ما عن محمد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمد علیه السلام رجل أوصى إلى ولده ، وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار ، أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيّته ويقضوا دينه لمن صحّ على الميّت بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقّع علیه السلام

ص: 340

« نعم ، على الأكابر من الولد أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك » (1).

ومنها : ما عن عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى إلى امرأة وشرك في الوصيّة معها صبيّا؟ فقال علیه السلام : « يجوز ذلك وتمضي المرأة الوصيّة ، ولا تنتظر بلوغ الصبي ، فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى ، إلاّ ما كان من تبديل أو تغيير ، فإنّ له أن يردّه إلى ما أوصى به الميّت » (2).

فرع : بعد الفراغ عن جواز الوصيّة إلى الصغير منضمّا إلى الكبير وعدم جواز تصرّفه قبل البلوغ وكونه شريكا مع الوصي الكبير بعد البلوغ وعدم جواز تفرّد الكبير في التصرّفات بعد بلوغ الوصي الصغير ، فلو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل فهل ينفرد الكبير بالتصرّف ويصير كأنّه لم يكن غيره وصيّ في البين ، أم لا بدّ من مراجعة الحاكم ومداخلته بالإذن له بذلك ، أو يجعل شريكا له في التصرّفات عوضا عن الشريك الذي مات أو صار كالعدم؟

الظاهر عدم لزوم المراجعة إلى الحاكم بل عدم جواز مداخلته ، لأنّ مداخلة الحاكم مورده فيما إذا لم يداخل يتعطّل الأمر ، وليس هناك من يجب مباشرته ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له ، فإذا كان للأمر وليّ يجب عليه الدخل والتصرّف ، كما في مثل المقام حيث أنّ الوصي الكبير كان له التصرّفات قبل موت الصغير أو جنونه وفساد عقله ، فالآن كما كان ، فمع وجود ذلك الكبير الذي له ولاية على ما أوصى به لا تصل

ص: 341


1- « الكافي » ج 7 ، ص 46 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك منه الصغير ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 209 ، باب الوصيّة إلى مدرك وغير مدرك ، ح 5487 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 185 ، ح 744 ، باب الأوصياء ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 438 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 50 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 46 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 209 ، باب الوصيّة إلى مدرك وغير مدرك ، ح 5486 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 184 ، ح 743 ، باب الأوصياء ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 140 ، ح 522 ، باب أنّه يجوز أن يوصى إلى امرأة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 439 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 50 ، ح 2.

النوبة إلى الحاكم ومداخلته.

فرع : لا يشترط الذكورة في الوصيّ فيجوز أن يوصى إلى امرأة موثوقة غير عاجزة عن التصرّفات التي أوصى إليها ، وذلك لأنّ الأصل عدم اعتبار الذكورة مع شمول إطلاقات الوصيّة لما إذا كان الوصيّ امرأة ، مضافا إلى الإجماع وعدم وجود المخالف ودلالة رواية عليّ بن يقطين المتقدّمة أنّه قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى امرأة وشرك في الوصيّة معها صبيّا؟ فقال علیه السلام : « يجوز ذلك وتمضى المرأة الوصيّة » إلى آخر.

فرع : ولو أوصى إلى اثنين أو أكثر ، فلهذه المسألة صور :

الأولى : أن يطلق ولم يقيّد وصايتهما وولايتهما أو تصرّفهما بالإجماع أو بالانفراد.

الثانية : أن يقيّد بالاجتماع ، سواء كان الاجتماع قيد الولاية والوصاية ، أو كان قيد التصرّف.

الثالثة : أن يصرّح بجواز تصرّف كلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا أو ولاية كلّ واحد منهما كذلك.

أمّا الصورة الثانية والثالثة فالأمر فيهما واضح ، لأنّ كلّ واحد منهما في الثانية إمّا ليس بوليّ ووصيّ ، أو لا يجوز تصرفه مستقلا وإن كان لاشتراط الاجتماع ، فمخالفته تبديل للوصيّة وقد حرّمه اللّه تعالى بقوله ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (1).

هذا إذا كان الاجتماع شرطا للتصرّف ، وأمّا إذا كان قيدا للولاية بمعنى أنّ الولاية

ص: 342


1- البقرة (2) : 181.

جعل للاثنين فكأنّه كلاهما وليّ واحد ، فكلّ واحد منهما منفردا عن الآخر ليس بوليّ ، فلا ينفذ تصرّفاته ويكون حاله حال الأجنبيّ عن التركة ، بل هو هو.

وأمّا في الثالثة فيجوز تصرّف كلّ واحد منهما مجتمعا مع الآخر ومتفرّدا عنه ، لتصريح الموصي بذلك.

أمّا الصورة الأولى ، أي فيما إذا أوصى إليهما من دون تصريح بكونهما مجتمعين أو تصريح بعدم الفرق بين كونهما مجتمعين أو منفردين ، فالمشهور عدم نفوذ تصرّف كلّ واحد منهما منفردا واستقلالا لوجوه :

الأوّل : لأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّ احتمال أن يكون تصرّف كلّ واحد منهما مشروطا بالانفراد ، بحيث لو اتّفقا على أمر يكون تصرّفهما باطلا ، لا يليق مثل هذا الاحتمال بالفقيه ، فلا بدّ من أحد أمرين : إمّا اختصاص النفوذ باجتماعهما على أمر ويكون التصرّفات ناشئة من رأيهما جميعا ، أو ينفذ وإن تفرّد أحدهما بالتصرّف دون الآخر. وهذا معنى الدوران بين التعيين والتخيير ، فالقدر المتيقّن ممّا هو نافذ هو صورة اجتماعهما ، فلا بدّ وأن يؤخذ به ، لأنّ الأخذ به يوجب القطع بالعمل بالوصيّة. وأمّا الفرد الآخر ، أي الأخذ بنفوذ تصرّف كلّ واحد منهما وإن كان منفردا مشكوك أنّه عمل بالوصيّة أم لا ، والعقل يحكم بلزوم الأخذ بالأوّل ، وهذا الحكم العقلي ثابت وجار في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

الثاني : ظهور جعلهما وصيّا في أنّ لنظر كلّ واحد ورأيه مدخليّة في نفوذ الوصيّة ، ورأي كلّ واحد منهما بعض المؤثّر لإتمامه ، ولا شكّ في أنّ المعلول لا يوجد إلاّ بتمام العلّة لا ببعضها ، وكذلك الحكم لا يوجد إلاّ بعد وجود تمام موضوعه ، فلا بدّ من الاجتماع في نفوذ الوصيّة.

الثالث : الروايات الواردة الظاهرة في أنّ تصرّف أحد الوصيّين دون الآخر ومنفردا لا نفوذ له :

ص: 343

منها : رواية محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام : رجل أوصى إلى رجلين أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة ، والآخر بالنصف؟ فوقّع علیه السلام : « لا ينبغي لهما أن يخالفا الميّت وأن يعملا على حسب ما أمرهما إن شاء اللّه ».

وروى المشايخ الثلاثة هذه الرواية عن الصفّار (1).

ومنها : ما رواه صفوان بن يحيى قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل كان لرجل عليه مال فهلك وله وصيّان ، فهل يجوز أن يدفع إلى أحد الوصيّين دون صاحبه؟ قال : « لا يستقيم إلاّ أن يكون السلطان قد قسم بينهما المال فوضع على يد هذا النصف وعلى يد هذا النصف ، أو يجتمعان بأمر السلطان » (2).

فقوله علیه السلام : « لا يستقيم » صريح في أنّ كلّ واحد منهما ليس مستقلاّ في التصرّفات.

وأمّا الاستثناء فإن كان المراد من السلطان هو الإمام الحقّ ، فلا شكّ في أنّه بعد تقسيمه لمصلحة فكلّ واحد منهما يصير مستقلاّ في نصيبه. وإن كان المراد هو الجائر فيكون الحكم من باب التقيّة وقد وجّه الرواية بهذا أو ما هو قريب منه الشيخ قدس سره (3) ولا بأس به.

ومنها : ما رواه بريد بن معاوية قال : إنّ رجلا مات وأوصى إليّ وإلى آخر أو إلى رجلين فقال أحدهما : خذ نصف ما ترك وأعطني النصف ممّا ترك ، فأبى عليه الآخر ،

ص: 344


1- « الكافي » ج 7 ، ص 46 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 203 ، باب الرجلين يوصى إليهما. ، ح 5471. « الاستبصار » ج 4 ، ص 118 ، ح 448 ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 185 ، ح 745 ، باب الأوصياء ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 440 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 51 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 243 ، ح 941 ، باب من الزيادات الوصايا ، ح 34 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 450 ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 440 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 51 ، ح 2.
3- « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ذيل ح 119.

فسألوا أبا عبد اللّه علیه السلام عن ذلك ، فقال علیه السلام : « ذلك له » (1).

وهذه الرواية أيضا تدلّ على عدم جواز استقلال أحدهما وتفرّده بالتصرّف ، بناء على أن يكون المشار إليه في كلمة « ذلك له » هو أباه الآخر بعد طلب أحدهما التقسيم والنصف ، لا أن يكون المشار إليه هو طلب التنصيف ، وإلاّ فيكون على خلافه أدلّ. فظهر أنّ هذه الروايات أيضا تدلّ على عدم جواز انفراد كلّ واحد من الوصيّين أو الأوصياء بالتصرّف ، بل لا بدّ من اجتماعهما على رأي وأمر فيما لم ينصّ الموصي على الاستقلال والانفراد.

ثمَّ إنّه لو تشاحا ولم يجتمعا على أمر وأصرّ كلّ واحد منهما على رأيه المخالف لرأي الآخر ، فالحاكم يجبرهما على الاجتماع ، فإن لم يمكن وتعذّر الاجتماع بل وإن تعسّر يستبدل بهما غيرهما ، لأنّ تعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، ولأنّ التعطيل في وصايا الميّت بحيث يضيع حقّ من أوصى له أو غير ذلك من وصاياه أمر مرغوب عنه شرعا. ومضافا إلى أنّ المال يبقى بلا من يكون وليّا عليه ويدبّر أمره ، خصوصا إذا كان من الحيوانات فتتلف لاحتياجها إلى عنايات من تعليفها ، ومكان بالليل لحفظها من السباع ، وراع يرعيها وأمثال ذلك ، والصغار من يتامى الموصي يحتاجون إلى الأكل واللباس وغير ذلك من حوائجهم ، فلا بدّ من مداخلة الحاكم الذي بيده مجاري الأمور لاستبدال المتشاحين بغيرهما كي يدبّر هذه الأمور وينظّمها.

وأمّا ما قيل : من أنّ في الأمور اللابدّية التي لا يمكن تعطيلها لفوات نفس محترمة ، أو فوات الأموال بجواز انفراد أحدهما بالتصرّف كما في الشرائع. (2)

ص: 345


1- « الكافي » ج 7 ، ص 47 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 203 ، باب الرجلين يوصى إليهما. ، ح 5472. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 185 ، ح 746 ، باب الأوصياء ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 118 ، ح 449 ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 440 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 51 ، ح 3.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 256.

فهذا كلام خال عن الدليل ، بل الدليل على خلافه ، لأنّهما بعد سقوط رأيهما عن الاعتبار لعدم إمكان اجتماعهما لا اعتبار برأي كلّ واحد منهما منفردا عن الآخر ولا بفعله ، فيكون حاله حال الأجانب بل هو بمفرده أجنبي عن التركة ، فهو كسائر الناس لا يجوز له التصرّف إلاّ بأمر وإذن من الحاكم ، فبعد عدم إمكان اجتماعهما على رأي لا بدّ من مداخلة الحاكم كي يستبدل بهما ، سواء كان مورد خلافهما من الضروريّات والأمور اللابدّ منها ، أو لم يكن كذلك.

نعم لو لم يوجد الحاكم - أي المجتهد العادل - أو لم يمكن الوصول إليه ، فعلى عدول المؤمنين بل على فسّاقهم إن لم يوجد العدول أيضا من باب الحسبة. وليس ذلك حينئذ من باب الوصيّة كي يقدّم أحدهما على سائر المؤمنين.

وما ذكرنا من أنّه لا بدّ من مراجعة الحاكم فيما إذا كان عدم إمكان الاجتماع لإصرار كلّ واحد منهما على رأيه وعدم تنزّله عنه.

وأمّا إذا كان لسقوط رأيه وعدم قابليّته للتدخل بموت أو جنون ، فهل للحاكم ضمّ آخر إلى الباقي منهما أم لا؟ الظاهر أنّه ليس له ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له ، وها هنا حيث أنّ لكلّ واحد منهما ولاية على الموصى به ، فبخروج أحدهما عن قابليّة الولاية والوصاية لا يبقى الموصى به بلا ولي كي تصل النوبة إلى الحاكم ، بل ينفرد الولي والوصي الآخر ويتمّ العمل بمقتضى الوصيّة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الوصاية والولاية التي جعلها الموصي لكلّ واحد منهما كانت مشروطة بانضمام الآخر ، فلو سقط الآخر عن قابليّة الانضمام بواسطة الموت أو الجنون فينتفي حصول الشرط ، فينتفي المشروط بانتفاء الشرط ، فلا يبقى له الولاية والوصاية فتصل النوبة إلى الحاكم.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اشتراط ولاية كلّ واحد منهما بانضمام الآخر لم يكن مطلقا ، بل كان مقيّدا بالإمكان ، ففيما إذا لم يمكن الانضمام لموت أو لجنون لا اشتراط ، فتكون

ص: 346

ولاية من له قابليّة التصرّف باقية ، فلا تشمله أدلّة رجوع الأمر إلى الحاكم.

ولكن الإنصاف : أنّه يمكن الفرق بين أن يكون التقييد صريحا بأن يقول الموصي لزيد مثلا : أنت وصيّ بشرط أن لا تعمل بوصاياي إلاّ مع عمرو ، فإذا اتّفقتما على رأي فاعمل ، وبين أن يكون التقييد بالانضمام مستفادا من الإطلاق بأن يقول لزيد : أنت وصيّ ، ويقول لعمرو أيضا : أنت وصيّ.

ففي الأوّل التقييد يوجب تضييق دائرة الولاية والوصاية ، بمعنى عدم كونه وصيّا في غير تلك الدائرة ، سواء كان الانضمام ممكنا أم لا ، ففي صورة عدم الانضمام لا ولاية وإن كان لجهة عدم إمكانه كما في المقام ، لأنّ الانضمام مع الموت أو الجنون غير ممكن.

وأمّا في الثاني فنفس التقييد مقيّد بإمكان حصول القيد ، فإن لم يمكن حصول القيد كما في المقام حيث أنّ حصول الانضمام غير ممكن بواسطة الموت أو الجنون ، فلا تقييد في البين. والحاكم بهذا الفرق هو الظهور العرفي.

وحيث أنّ التقييد في المقام مستفاد من الإطلاق فلا إطلاق له ، ففي صورة عدم إمكان الانضمام الولاية والوصاية مطلقة لا تضييق فيها ، فلا تصل النوبة إلى الحاكم ، بل الآخر الباقي على قابليّته ينفرد ويستقرّ بالأمر ، ولا يحتاج إلى جعل الحاكم شريكا له بدل الآخر الذي سقط عن القابليّة للموت أو للجنون ، وعلى اللّه التوكّل وبه الاعتصام.

فرع : قد تقدّم أنّ الوصيّة عقد جائز ، فيجوز فسخها من قبل الموصي ما دام في بدنه الروح وأن يغيّرها بالزيادة والنقصان ، ومن طرف الموصى إليه أيضا كذلك في حياة الموصي وإن كان بعد القبول. أمّا لو كان بعد موت الموصي أو لم يبلغه الردّ وإن كان في حال حياته فليس له الردّ ، بل يجب عليه القبول والعمل بمقتضاها. والظاهر أنّ هذا الحكم إجماعيّ لا خلاف فيه.

ص: 347

ويدلّ على لزوم القبول أيضا التعليل الذي في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا أوصى الرجل إلى أخيه وهو غائب فليس له أن يردّ عليه وصيّته ، لأنّه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها طلب غيره » (1) فجعل علیه السلام مناط عدم جواز الردّ ووجوب القبول على الوصي عدم اطّلاع الموصي على الردّ ، فكونه غائبا لا خصوصيّة له ، بل المناط عدم إمكان الوصيّة إلى شخص آخر لعدم اطّلاعه على الردّ لهذا التعليل.

وفي بعض الروايات الأخر الواردة في هذا الباب كرواية فضيل بن يسار (2) أيضا إيماء بذلك.

نعم هنا كلام وهو أنّه هل صرف بلوغ الردّ يكفي في عدم وجوب القبول على الموصى إليه ، أو يحتاج مضافا إلى بلوغ الردّ إمكان جعل غيره ، بحيث لو لم يمكن جعل غيره وصيّا إمّا لقلّة زمان حياته بعد البلوغ أو لشدّة المرض والآلام أو لغياب سائر من يعتمد عليهم من أقربائه وأصدقائه فلا يفيد البلوغ ، بل يجب عليه القبول وإن بلغ؟

وظاهر التعليل هو الثاني ، لأنّه علیه السلام جعل البلوغ مقدّمة لإمكان جعل شخص آخر وصيّا ، فالمناط لصحّة الردّ وعدم وجوب القبول في الحقيقة هو الغاية الأخيرة ، لأنّها العلّة واقعا للحكم في باب ترتّب الغايات.

ص: 348


1- « الكافي » ج 7 ، ص 6 ، باب الرجل يوصى إلى آخر. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 196 ، باب للامتناع من قبول الوصيّة ، ح 5449 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 206 ، ح 816 ، باب قبوله الوصيّة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 398 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 23 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 6 ، باب الرجل يوصى إلى آخر. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 195 ، باب الامتناع من قبول الوصيّة ، ح 5446 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 205 ، ح 815 ، باب قبول الوصيّة ، ح 2 ، وص 159 ، ح 654 ، باب في النحل والهبة ، ح 31 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 398 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 23 ، ح 2.

فرع : لو ظهر عن الوصي عجز بمعنى عدم قدرته على العمل بالوصيّة لمرض مزمن أو هرم أو ما يشبه ذلك هل ينعزل ويسقط ولايته ووصايته ، أو يضمّ إليه الحاكم من يساعده فيخرج عن الاستقلال لعدم قدرته مستقلاّ؟ وأمّا ولايته وصدور التصرّفات عن رأيه ونظره فلا يسقط. وأمّا فرض عدم رأي ونظر له من جهة مرض أو كبر بحيث صار مخرفا فهو خارج عن الفرض ، إذ الفرض في المقام هو عجزه عن تنفيذ الوصيّة استقلالا وبمفرده؟

الظاهر عدم انعزاله مع إمكان العمل بالوصيّة وعدم تبديلها عمّا وقعت عليه بضمّ الحاكم إليه مساعد معه يتمّ العمل بالوصيّة ، فالقول بعزله أو انعزاله يكون من التبديل المنهي عنه ، وهذا لا كلام ولا خلاف فيه بل ادّعى الإجماع عليه.

نعم هنا بحث علميّ ربما يترتّب عليه بعض الآثار ، وهو أنّه في المفروض هل ولاية الوصي العاجز عن التنفيذ تنقص وتقصر ، بمعنى أنّها لا تكون تامّة بحيث يستقلّ في التصرّفات ، فيكون الحاكم أو المساعد الذي ضمّه إليه الحاكم شريكا له في الولاية ، أو يكون تمام الولاية له فإذا خالف رأيه رأي المساعد المنصوب عن طرف الحاكم ، يكون رأيه هو المتّبع دون رأي المساعد. وأمّا فرض أنّه لا رأي له لكبر أو مرض فقلنا إنّه خارج عن الفرض؟

الظاهر عدم حصول نقص في ولايته ، ولذلك لو كان قادرا على تعيين شخص للمباشرة وتنفيذ ما هو عاجز عن مباشرته وتنفيذه ، يمكن أن يقال بأنّه مقدّم على جعل الحاكم وضمّه مساعدا إليه. نعم لو كان عاجزا عن هذا أيضا كما أنّه عاجز عن المباشرة وتنفيذ الوصيّة ، فحينئذ تصل النوبة إلى جعل الحاكم ونصبه.

فما هو الحقّ والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الوصي إن كان عاجزا عن العمل بالوصيّة مباشرة وتسبيبا ، فتسقط ولايته رأسا ويتعيّن على الحاكم جعل وليّ على الوصايا بدلا عن الوصي الأصلي الذي كان وليّا بجعل الموصي ، لأنّ العمل بوصايا

ص: 349

الميّت لازم وليس من يعمل بها ، فلا بدّ عن جعل الحاكم من يعمل ، لئلا يلزم التعطيل.

وأمّا إن كان ضعيفا لا يقدر على العمل بها وحده ، فإن كان يقدر على تحصيل شريك معه في العمل وتنفيذ الوصايا ، فله أن يحصّل ولو كان بإعطاء الأجرة له ولا يحتاج إلى الحاكم أيضا ، إلاّ إذا كان الموصي اشتراط عليه المباشرة بنفسه ، وأن يكون مثلا مشرفا على تنفيذ الوصيّة بنفسه في الأمور الراجعة إلى أولاده الصغار من تربيتهم والنظر في أمر معاشهم وتنظيم تعاليمهم وأمر دروسهم وهو بنفسه عاجز عن ذلك.

وحيث أنّه ليس له الولاية على جعل وليّ آخر يشاركه في هذه الأعمال ، فتصل النوبة إلى الحاكم وأن يعيّن شخصا يشارك الوصي في هذه ، كي لا تبقى وصاياه معطّلا ، بعد الفراغ عن العلم بأنّ الشارع لا يرضى بتعطيل وصايا الميّت وتبديله.

نعم هنا احتمل بعض أنّ هذا يكون من الحسبيات ويكون بيد عدول المؤمنين.

وفيه : أنّه مع وجود الحاكم لا تصل النوبة إلى عدول المؤمنين ، بل هم في طول الحاكم لا في عرضه ، ففي هذه الفروض انعزال الوصي لا وجه له ، غاية ما يمكن أن يقال هو أنّه للحاكم أن يضمّ إليه مساعدا يشاركه كي لا يلزم تعطيل الوصيّة ، وهو أيضا فيما لا يمكن للوصي تحصيل مساعد له ولو بأجرة ، أو فيما اشترط الميّت عليه المباشرة بنفسه ، وإلاّ لا تصل النوبة إلى الحاكم كما تقدّم.

هذا كلّه فيما إذا صار عاجزا عن العمل بالوصيّة بالاستقلال بعد ما لم يكن كذلك.

وأمّا لو كان عاجزا من حين الوصيّة ، هل يجوز جعله وصيّا ولو بضمّ مساعد إليه ، أم لا؟ والظاهر أيضا عدم المانع من هذا ، لأنّ إطلاقات أدلّة الوصيّة تشمل هذا الفرض ، لأنّ المقصود عن الإيصاء إلى شخص هو أن يوجد ما أوصاه في الخارج ، ويعمل ذلك الشخص على طبق ما أوصى وينفذه ، فإذا أمكن مثل هذا ولو بتوسّط مساعد له على ذلك فلا مانع من جعله لحصول الغرض من الوصيّة ، بل ربما يحصل

ص: 350

الاطمئنان منه أكثر من الذي يقدر على تنفيذها وحده من دون مساعد.

ولو كان الاحتياج إلى المساعد مانعا عن جعله وصيّا مع جعل مساعد له ، لكان حصول العجز في الأثناء أيضا كذلك ، فبعد الفراغ عن صحّته فيما إذا طرأ العجز في الأثناء وعدم انعزاله لا بدّ من أن يقال بصحّته وإن كان من أوّل الأمر ، غاية الأمر بشرط جعل مساعد له.

ثمَّ إنّه فيما إذا جعل الحاكم مساعدا له لعجزه ، فإذا زال العجز كما إذا كان مريضا مزمنا فبرأ فهل يرجع استقلال الوصي وليس للمساعد مشاركته في الرأي أو العمل أو الاثنين ، أو يبقى شريكا معه حتّى بعد زوال العجز؟

الظاهر استقلاله ، لأنّ مشاركة المساعد المجعول من طرف الحاكم كان لتتميم نقصه ، فإذا زال النقص فلا يبقى موضوع للتتميم ، فقهرا يسقط حقّ مشاركته مع الوصي ، ولا يبقى مجال لاستصحاب بقاء حقّه أو ولايته ، بناء على ثبوت ولاية له بعد جعله الحاكم مساعدا وأمثال ذلك من الأوصاف التي توجد له بعد جعل الحاكم ، وذلك للقطع بزوالها بعد زوال العجز.

ولكن قال في جامع المقاصد : إنّ في ذلك وجهين : وجه رجوع الاستقلال تقدّم ، وأمّا وجه بقاء المشاركة هو أنّ بجعل الحاكم وجد للمساعد منصب لا يرتفع إلاّ برافع ، وليس رافع في المقام (1).

وبطلان هذا الوجه ظهر ممّا تقدّم.

فرع : لو ظهرت من الوصي خيانة ، فقد يقال : إنّ الحاكم يضمّ إليه أمينا يمنعه عن الخيانة ، فإن لم يمكن ذلك لعدم امتناعه أو لعدم قدرة الأمين على منعه فيعزله

ص: 351


1- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 280.

الحاكم وينصب غيره. وقد يقال بأنّ الحاكم مخيّر من أوّل الأمر بين أن يعزله أو يضمّ إليه أمينا حسب ما يراه من المصلحة.

وقال في الشرائع : وإن ظهر منه - أي من الموصي - خيانة ، وجب على الحاكم عزله ويقيم مقامه أمينا. (1)

أقول : ظاهر كلام صاحب الشرائع تعيّن العزل أو الانعزال ، ولم يتكلّم عن ضمّ الأمين إليه أصلا.

وعلى كلّ حال تحقيق المقام هو أنّه لو قلنا باعتبار العدالة في الوصي ، والخيانة حيث أنّها موجبة لفسقه وخروجه عن العدالة ، فبانعدام العدالة التي هي شرط في الوصاية ينعدم المشروط أي الوصاية ، فيخرج من كونه وصيّا من غير احتياج إلى العزل بل عدم إمكانه ، لأنّه كما أنّ إيجاد الموجود لا يمكن لأنّه تحصيل للحاصل فكذلك إعدام المعدوم ، فحيث أنّ في صورة اعتبار العدالة في الوصي بالخيانة ترتفع العدالة فلا وصاية ، فعزله معناه أنّ الوصية التي ليست وارتفعت يرتفعها ، وهذا معناه إعدام المعدوم ، ومحال.

فقول المحقّق « وجب على الحاكم عزله » لا يستقيم مع القول باعتبار العدالة فيها ، بل بناء على هذا القول ينعزل قهرا ، نعم يجب على الحاكم نصب شخص أمين يقوم مقامه ، ولا معنى بناء على هذا المبنى لضمّ الأمين إليه ، لسقوط وصايته وصيرورته أجنبيّا عن وصايا الميّت.

نعم بناء على عدم اعتبار العدالة يبقى مجال للكلام في أنّه بالخيانة والفسق هل يسقط الوصيّة وينعزل ، أو يجب على الحاكم عزله وجعل شخص آخر أمين يقوم مقامه في العمل بالوصيّة؟ وجهان :

وجه الأوّل : أي السقوط هو أنّ الموصي من أوّل الأمر أوصى إلى شخص يكون

ص: 352


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 275.

أمينا ويراه أنّه لا يخون ، والموضوع للولاية هو الشخص المقيّد بكونه غير خائن ، فإذا خان فليس هو بموضوع فقهرا ينعزل ولا تبقى وصاية له ، فيجب على الحاكم نصب شخص أمين مراعاة لحق الصغار وأموال الصدقات كي لا تضيع ولا تعطل الوصايا ، كما تقدّم.

وبناء على هذا الوجه يكون كلام صاحب الشرائع « وجب على الحاكم عزله » غير مستقيم ، ولا بدّ في تصحيحه من تأويل ، كما صنعه صاحب الجواهر وقال : لعلّ المصنّف - أي المحقّق - يريد بعزل الحاكم منعه عن التصرّف (1) ، لا العزل بمعناه الحقيقي.

وجه الثاني : أي عدم السقوط وبقاء الوصاية والولاية حتّى بعد الخيانة ، هو أنّ الولاية أمر اعتباري مجعول من قبل الحاكم ، فإذا لم تكن مشروطة بالعدالة فلا وجه لسقوطها بالخيانة التي هي ضدّ للعدالة ، بل هو منصب من قبل الحاكم لا يرتفع إلاّ بعزل الحاكم ، لأنّ أمر وضعه بيد الحاكم.

والوجه هو الأوّل ، لأنّنا وإن لم نقل باعتبار العدالة في الوصي - بل الإسلام لو لم تكن الإجماعات المدّعاة في المقام - ولكنّ الظاهر أنّ المجعول ليس هو هذا الإنسان مطلقا ، بل هو مقيّدا بأنّه أمين غير خائن. وهذا من قبيل القيود الضمنيّة الارتكازيّة ، فيكون متعلّق الوصاية ضيقا من أوّل الأمر وفي حال الجعل. وهذا أمر ارتكازي عرفي في كلّ من يوصي إلى شخص أنّ إيصاءه إلى من هو أمين ولا يفرّط فيما أوصى إليه ، فهذا الارتكاز عند العرف بمنزلة التقييد اللفظي.

فرع : لا شكّ في أنّ الوصي أمين ، والمال الذي في يده أمانة ، فلو تلف في يده لا يضمن. وقاعدة « على اليد ما أخذت » لا تشمل اليد الأمانيّة ، بل هي خارجة عن موردها تخصيصا أو تخصّصا ، لأنّ اليد في القاعدة إن لم تكن مقيّدة فاليد الأمانيّة

ص: 353


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 421.

والمأذونة من قبل اللّه المسمّى بالأمانة الشرعيّة كاللقطة ، أو ما في أيدي الحكّام من باب الولاية الشرعيّة خارجة تخصيصا ، لا ضمان فيها إلاّ على التعدّي والتفريط.

وفي الحقيقة في مثل مورد التعدّي تخرج عن كونها أمانة ، وتكون من اليد الغاصبة حكما بل موضوعا ، وإن كانت مقيّدة بعنوان غير المأذونة فهي خارجة تخصّصا ، وذلك لأنّ اليد غير المأذونة لا تنطبق عليها ، لأنّها مأذونة إمّا من قبل اللّه كالأمانات الشرعيّة ، أو من قبل المالك ، وفي كليهما خارجة عن تحت قاعدة اليد بناء على هذا التقدير تخصّصا ، فضمان اليد لا محلّ له ، وباقي أقسام الضمانات لا موجب لها.

ولا شك في أنّ يد الوصي أمانيّة ، إمّا أمانة شرعيّة أي : مأذونة من قبل اللّه باعتبار أنّ المجعول من قبل الحاكم مجعول من قبل اللّه كسائر الأولياء ، وإمّا المالك الميّت جعله وليّا حين كونه مالكا ، فيكون الوصي مأذونا من قبل المالك الموصي إلى أن ينفذ وصيّته. وعلى كلا التقديرين لا ضمان ما لم يفرّط ولم يغيّر الوصيّة عن وجهها.

نعم وردت روايات في ضمان الوصي ، ولكن كلّها فيما إذا غيّر الوصي الوصيّة عن وجهها ، وقد عقد لذلك بابا في الوسائل (1) لكنّها أجنبيّة عن المقام ، فإنّها راجعة إلى تبديل الوصيّة عن وجهها وتغييرها عما أوصى لها ولا كلام ولا إشكال في هذا.

فرع : لو كان للوصي دين على الميّت ، جاز أن يستوفي ممّا في يده وهو وصي في خصوص أداء ديونه ، أو عنوان عامّ يشمل أداء الديون وغيره ، ولا يحتاج إلى أخذ الإذن في ذلك من الحاكم قيل : مطلقا ، أي سواء كان عنده حجّة يمكن بها أن يثبت حقّه ودينه ، أو لم يكن. وقيل : هذا الحكم - أي جواز استيفاء ما يطلب من الميّت ممّا في يده بدون إذن الحاكم - مخصوص بالأخير ، أي : بما لم يكن عنده حجّة يمكن أن يثبت بها حقّه.

ص: 354


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 419 ، باب أنّ الوصي إذا كانت في حقّ فغيّرها فهو ضامن.

والتحقيق في المقام أن يقال : بعد أن كان الوصي على الفرض واحدا ، لا شريك له كي يكون فعله وتصرفه فيما أوصى الميّت إليه موقوفا على إجازة شريكه وإذنه ، وهو بمقتضى الوصيّة مخيّر بين تطبيق دين الميّت على أيّ مصداق من مصاديق ذلك الدين من أموال الميّت ، فلا يحتاج إلى قيام البيّنة لإثبات دينه ، لأنّ المفروض أنّ الوصي الذي بيده أمر أداء ديون الميّت يعلم بأنّ الميّت مديون له.

فكما لو كان يعلم أنّ رجلا آخر غيره له دين في ذمّة الميّت الموصي كان عليه أن يؤدّى دينه ، وإن كان لذلك الرجل بيّنة لإثبات دينه لا يحتاج إلى طلب إقامة البيّنة لإثبات دينه ، لأنّه ثابت ، لأنّ المفروض أنّ الوصي يعلم بذلك ، فطلب البيّنة منه من قبيل طلب تحصيل الحاصل بل أردأ منه ، لأنّه من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد.

فكذلك الأمر بالنسبة إلى دين نفسه ، فيجوز أن يستوفي دينه من التركة ، لأنّ المفروض أنّه وصى في أداء ديونه.

وادّعاء الانصراف عن أداء دينه لا وجه له ، ولا يحتاج إلى أخذ الإجازة والإذن من الحاكم حتّى لو قلنا بلزوم أخذ الإجازة عن الحاكم ، لأنّه هناك حقّ تطبيق الكلّي على الخارج بيد المقتصّ منه لا بيد المقاصّ ، وها هنا بيد نفس الدائن ، لأنّه وصي ، فهاهنا الدائن مأذون من قبل نفس المديون في التطبيق ، فلا وجه لعدم جواز الاستيفاء مطلقا ، سواء كان عند الوصي الحجّة على إثبات دينه أو لم يكن.

ولكن قد يشكل الأمر على هذا برواية بريد بن معاوية ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّ رجلا أوصى إليّ ، فسألته أن يشرك معي ذا قرابة له ، ففعل وذكر الذي أوصى إليّ أنّ له قبل الذي أشركه في الوصيّة خمسين ( خمسمائة ) ومائة درهم عنده ورهنا بها جاما من فضّة ، فلما هلك الرجل أنشأ الوصي يدّعى أنّ له قبله أكرار حنطة ، قال علیه السلام : « إنّ أقام البيّنة وإلاّ فلا شي ء له ». قال : قلت له : أيحلّ له أن يأخذ ممّا

ص: 355

في يديه شيئا؟ قال علیه السلام : « لا يحلّ له ». قلت : أرأيت لو أنّ رجلا عدا عليه فأخذ ماله فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ ، أكان ذلك له؟ قال : « إنّ هذا ليس مثل هذا » (1).

فهذه الرواية الموثّقة تدلّ على أنّ الوصي بصرف ادّعائه أنّه يطلب من الميّت الموصي كذا مقدار لا يحلّ له أخذ شي ء ممّا في يده من مال الميّت الموصي إلاّ بإقامة البيّنة ، وهذا نقيض الحكم بالجواز الذي اخترناه.

ولكن أنت خبير بالفرق بين مورد هذه الرواية وبين ما نحن فيه ، لأنّ ما نحن فيه مورده أنّه هناك وصي واحد يجب عليه أداء ديون الميّت إذا ثبت بالوجدان أو بالتعبد أنّه مديون لفلان بكذا ، والمفروض أنّ أمر تطبيق دين الكلّي الذي في ذمّة الميّت على المال الخارجي بيد الوصي ، لأنّ الميّت أوكل الأمر إليه في حياته ، فلا يرى مانع من استيفائه. وفي مورد الرواية وصيّان ، والوصي الأصلي الذي هو العمدة غير الدائن ، فالدائن ليس له استقلال في تطبيق حقّه إلاّ أن يثبت عند شريكه الذي هو الوصي الأوّل كي يأذن له في التطبيق. نعم لو فرضنا أنّ شريك من يدّعي الدين في الوصيّة أيضا يعلم بطلب شريكه من الميّت وأذن في التطبيق ، فلا يحتاج الاستيفاء إلى إقامة البيّنة ، لكن هذا ليس مورد الرواية.

فرع : وهو أنّه هل يجوز للوصي أن يشتري لنفسه من نفسه ، بمعنى أنّه إنسان كاسب يشتري لأن يكتسب به ، أو من حوائج الدار والمنزل فيشتري من أموال الميّت لحاجة الدار مثلا من الوصي الذي هو نفسه ، فالبائع والمشتري شخص واحد باعتبارين : فهذا الوصي باعتبار أنّه وصىّ عن الميّت بائع كما إذا أوصى ببيع بعض أسباب بيته أو أدوات شغله وصرفه في مورد كذا ، فيبيع الوصي باعتبار أنّه وصىّ

ص: 356


1- « الكافي » ج 7 ، ص 57 ، باب ما يلحق الميّت بعد موته ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 234 ، باب نوادر الوصايا ، ح 5560 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 232 ، ح 910 ، باب من الزيادات ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 479 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 93 ، ح 1.

متاع بيت الميّت أو دكّانه للصرف في مورد كذا ، ويشتري لنفسه باعتبار أنّه أحد الناس الحاضرين للاشتراء في المزاد العلني مثلا ، وهذا هو المراد من الاشتراء من نفسه لنفسه.

والظاهر عدم الإشكال في صحّة هذا المعاملة ، وإن أظهر المحقّق في الشرائع التردّد فيها وقال في ذيل كلامه : أشبهه الجواز إذا أخذ بالقيمة العدل (1). وهذا الكلام الأخير لا حاجة إليه ، لأنّه إن لم يكن بالقيمة العدل متعمّدا فهذه خيانة إمّا ينعزل أو يجب عزله كما تقدّم ، فليس له البيع وأيضا سائر المعاملات.

والإشكال ليس من هذه الناحية ، بل الإشكال من ناحية اتّحاد الموجب والقابل وأنّه هل يكفي تغاير الاعتباري أو يعتبر التغاير الحقيقي ، فإن قلنا بالأوّل - كما هو الصحيح - فيجوز أن يشتري الوصي لنفسه باعتبار أنّه أحد الحاضرين في مجلس المزاد العلني ، وهو أيضا يبيع باعتبار أنّه وصىّ من قبل المالك الحقيقي. وإن قلنا بأنّ التغاير الاعتباري لا يكفي ولا بدّ أن يكون بين البائع والمشتري في عقد واحد تغايرا حقيقيّا ، لأنّ البائع من يخرج المبيع عن ملكه ، والمشتري من يدخل المبيع في ملكه ، والشخص الواحد لا يمكن أن يخرج المبيع الواحد من ملكه ويدخل أيضا في زمان واحد وفي عقد واحد ، إذ هما متقابلان ، فلا يجوز أن يشتري لنفسه من نفسه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا شبه مغالطة ، إذ نحن لا ندّعي أنّ الشخص الواحد بعنوان شخصه - الذي واحد لا تعدّد فيه - بائع ومشتري كي يأتي أمثال هذه الإشكالات ، بل نقول إنّه بائع بعنوان أنّه وصىّ أي يخرج المبيع عن كيس الموصي بناء على بقائه بحكم مال الميّت ، لأنّ الوارث يرث من بعد وصيّة يوصي بها ، وحيث أنّ الوصي نائب عن الموصي فالفعل الذي يصدر منه كأنّه يصدر من الموصي.

كما أنّه كذلك في باب الوكالة ، ففعل الوكيل ينسب إلى الموكّل ، فإذا باع الوكيل

ص: 357


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 257.

داره ففي الحقيقة البائع هو الموكّل ، ويخرج المبيع عن ملكه لا عن ملك الوكيل.

وكذلك الأمر هنا ، فالوصيّ إذا اشترى لنفسه بائع باعتبار نيابته عن الموصي ، ففي الحقيقة البائع هو الموصي وإن كان المباشر هو الوصي ، ومشتري باعتبار نفسه فيدخل المبيع الخارج عن ملك الموصي أو الموصى له في ملك نفس الوصي ، فلا إشكال في البين.

فما نسب إلى الشيخ وابن إدريس 5 من إنكارهما صحّة اشتراء الوصي من نفسه لنفسه ، لأنّ الواحد لا يكون موجبا قابلا في عقد واحد ، لأنّ الأصل في العقد أن يكون بين اثنين (1).

فيه : أنّ هذا إذا كان الواحد موجبا قابلا باعتبار واحد ، والشاهد على ذلك الاتفاق على صحّة شراء الأب عن طفله الصغير لنفسه وبيع ماله له أيضا ، وكذلك الجد ، بالنسبة إلى حفيده. والسرّ في ذلك أنّ في جميع هذه الموارد في الحقيقة البائع الحقيقي غير من هو مشتر حقيقة.

هذا ، مضافا إلى ما رواه الحسين بن يحيى الهمداني قال : كتبت مع محمد بن يحيى هل للوصيّ أن يشتري من مال الميّت إذا بيع فيمن زاد يزيد ويأخذ لنفسه؟ فقال : يجوز إذا اشترى صحيحا (2).

نعم لا بدّ أن لا يكون مخالفا لمصلحة الطفل إذا كان وليّه يشتري ماله لنفسه أو يبيع ماله للطفل ، ولكن هذا لا دخل له بمسألة اتّحاد الموجب والقابل ، بل من شرائط صحّة البيع والشراء للقاصر ، طفلا كان أو مجنونا أو غير ذلك من موارد معاملة الأولياء للمولّى عليهم.

ص: 358


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 426.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 59 ، باب النوادر ، ح 10 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 219 ، باب الوصيّ يشتري من مال الميّت. ، ح 5514. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 245 ، ح 950 ، باب في الزيادات ، ح 43 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 475 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 89 ، ح 1.

وقال في المسالك : وعلى الجواز - أي على جواز شراء الوصيّ من نفسه لنفسه - رواية مجهولة الراوي والمروي عنه ، لكنّها شاهد (1).

والظاهر أنّ مراده هذه الرواية ، أي رواية حسين بن يحيى الهمداني ، وهو كما ذكره إذ الراوي مجهول لم نجده في كتب الرجال ، وأمّا المروي عنه فلم يذكره هو - أي الراوي - أصلا حتّى بالإضمار ، فلا حجّية لهذه الرواية وإن استند في جامع المقاصد إليها أيضا في ذكر مدارك هذا الحكم. (2)

وأمّا قول الشهيد الثاني بعد الطعن على الرواية بأنّها مجهولة الراوي والمروي عنه لكنّها شاهد. (3) أي ليس بدليل ولكنّها شاهد.

وفيه : أنّها إذا لم تكن حجّة فليست شاهدا أيضا.

فرع : إذا أذن الموصي للوصي أن يوصى ، أي يجعل وصيّا كي ينفذ وصايا الميّت الذي أوصى إلى هذا الوصي ، ويكون الوصي الثاني وصيّا للوصي الأوّل ولكن متعلّق الوصاية لكلا الوصيّين أمر واحد وهو تنفيذ وصايا الموصي الأوّل ، ففي هذه الصورة يجوز إجماعا.

وخلاصة الكلام في هذا الفرع هو أنّه لو أوصى إلى رجل بوصايا متعدّدة وأذن لمن أوصى إليه أنّه إذا حضره الموت وبعد لم ينفذ جميع وصاياه أن يوصى هو - أي الوصي - إلى شخص آخر كي ينفذ البقيّة الباقية من وصاياه ، فهذا جائز إجماعا.

وهذا الحكم مطابق للقواعد الأوّلية ، وذلك لأنّ الموصي الذي أذن لوصيه أن يوصى ، كان له أن يوصى إلى شخص آخر بعد موت الوصي الأوّل لينفذ ما بقي من

ص: 359


1- « المسالك » ج 1 ، ص 415.
2- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 287.
3- « المسالك » ج 1 ، ص 415.

وصاياه ولم يعمل بها الوصي الأوّل عصيانا أو لعذر شرعي ، فإذا هو يملك مثل هذا الأمر فلا فرق بين أن يوصى هو بالترتيب المذكور أو يوصى إلى وصيّة بالإيصاء.

والحاصل : أنّ في هذه الصورة لم يخالف أحد في جواز إيصاء الوصي إلى شخص آخر لتتميم تنفيذ ما بقي من الوصايا التي هو لم ينفذها عصيانا أو لعذر ، كما أنّه لا يصحّ الخلاف مع وضوح الأمر.

كما أنّه لو شرط مباشرة الوصي بنفسه تنفيذ وصاياه ، ليس له أن يوصى إلى شخص آخر. فهاتان الصورتان واضحتان ولا خلاف فيهما.

إنّما الكلام والخلاف فيما إذا أطلق الموصي ، أي لم يأذن في الإيصاء ولم يقيّد الوصاية بمباشرة الوصي بنفسه ولم ينه أيضا عن الإيصاء ، فقال الأكثر : إنّه لا يجوز له الإيصاء ، لعدم ولايته على مثل ذلك ، لأنّ الموصي المالك جعل له جواز أن يتصرّف في وصاياه بالشكل الذي أراده ، والشارع أيضا نهى عن التبديل وأوجب العمل طبق ما أوصى ، ولم يجعل له أن يجعل جواز التصرّفات لغيره مع أنّ المال لغيره ، ومقتضى الأصل أيضا عدم نفوذ إيصائه ، لأنّ مفاد إطلاقات أدلّة الوصاية نفوذ وصيّة المالك في ثلث ماله مطلقا ، وفي الزائد مع إذن الورثة أو إجازتهم بعد الوصيّة. وأمّا غير المالك فليس له مثل هذا الحقّ إلاّ بإذنه.

وأمّا القائلون بالجواز فقاسوا المقام بتوكيل الوصي شخصا آخر بتنفيذ بعض الأمور الراجعة إلى الوصايا ، كما أنّه إذا كان بعض وصاياه إطعام الناس في إفطار الصائمين في شهر رمضان ، أو في عشرة عاشوراء ، فيجوز للوصي أن لا يباشر بنفسه ويوكل شخصا لإنفاذ هذه الوصيّة والعمل بها.

ولكن فيه : أنّه مع كونه قياسا باطلا في نفسه ، يكون فرق واضح بينهما ، إذ الوصي في حال حياته مالك لمثل هذا التصرّف ، فيجوز أن يستنيب فيه غيره. وأمّا بعد موته لا يملك شيئا من التصرّفات كي يستنيب شخصا آخر ، بل بموته ينقطع ، فإن كان من

ص: 360

طرف الموصي وصي آخر مجعول طولا أو عرضا ، فيرجع الأمر إليه ، وإلاّ فالمرجع هو الحاكم.

وأيضا قالوا : إنّ الموصي أقام مقام نفسه ، فكما أنّ له الولاية على الاستنابة بعد الموت ، فكذلك للقائم مقامه.

وفيه : أنّ كون الاستنابة للموصي بعد الموت من شؤون مالكيّته في حال الحياة ، فكأنّ المالك حال الحياة له أن يستنيب بعد موته شخصا آخر يتصرّف في أملاكه بما أوصاه بها إن لم تكن تلك الأملاك زائدة على الثلث ، وإلاّ فأيضا يجوز مع إجازة الوارث.

وممّا استدلّ القائلون بالجواز أيضا صحيحة محمّد بن الحسن الصفّار ، عن أبي محمّد علیه السلام أنّه كتب إليه رجل كان وصيّ رجل ، فمات وأوصى إلى رجل ، هل يلزم الوصي وصيّة الرجل الذي كان هذا وصيّه؟ فكتب : « يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ إن شاء اللّه تعالى » (1).

فحملوا الحقّ في قوله علیه السلام : « يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ » على حقّ الأخوّة ، أي إن كان الموصي مؤمنا وكان له حقّ الأخوّة الإيمانيّة على وصيّه لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (2) فيلزم الوصي العمل بذلك الحقّ ، أي بحقّ الإيمان.

فهذه الرواية تدلّ على لزوم عمل الوصيّ الثاني بوصيّة الوصي الأوّل إن كان مؤمنا ، سواء أذن الموصي الأوّل بوصيّة الموصي الثاني أو لم يأذن.

وفيه : أنّ ها هنا احتمال آخر ، وهو أن يكون المراد بحقّه هو حقّ الوصي الأوّل الذي ثبت له بواسطة إذن الموصي الأوّل له في الإيصاء ، فيكون حاصل معنى الرواية

ص: 361


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 226 ، باب ما يجب على وصيّ الوصيّ من القيام بالوصيّة ، ح 5535 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 215 ، ح 850 ، باب الوصي يوصى إلى غيره ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 460 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 70 ، ح 1.
2- الحجرات (49) : 10.

أنّه يلزم العمل بالوصيّة إن كان له - أي للموصي الأوّل - حقّ قبله أي الوصي الأوّل ، وهو عبارة عن الوصيّة إليه بالإيصاء ، فوصيّة الموصي الأوّل بإيصاء الوصي الأوّل حقّ له عليه.

فمفاد الرواية : إن كان للموصي الأوّل حقّ على الوصي الأول أي أذن له في الوصيّة فيلزمه هذه الوصيّة ، ومفهوم الشرطيّة يكون أنّه إن لم يأذن فلا يلزمه. وهذا خلاف ما أرادوا من الرواية ، وعلى خلاف مقصودهم أدلّ.

وهذا الاحتمال إن لم يكن أظهر من الاحتمال الأوّل ليس أبعد منه ، ومعه لا يبقى ظهور للرواية في ما استدلّوا له.

فالأظهر ما ذهب إليه الأكثر من عدم الجواز مع عدم الإذن ، وبناء على ما ذكرنا عن عدم نفوذ وصيّة الوصي بالنسبة إلى وصايا من أوصى إليه إلاّ مع إذن الموصي لوصيّه بالإيصاء ، فإذا مات الوصي الأوّل وكان أوصى في حياته إلى شخص آخر من غير إذن من قبل الموصي في ذلك ، فحيث أنّ وصيّته غير نافذة ، فيرجع الأمر الحاكم بالنسبة إلى وصايا الموصي الأوّل ، وتكون وصيّته في حكم العدم ، فيكون كما لو مات ولم يكن له وصي أصلا ، فلا وليّ على تركته ويكون بيد الحاكم إن كان فيهم قصّر.

فرع : لو مات إنسان وكانت ورثته كلّهم كبيرا لا صغير ولا قاصر فيهم ، فأمر تركة مورّثهم بيدهم ، يقسّمونها بينهم كما فرضه اللّه تعالى ، وإن وقع النزاع في أمر فالمرجع هو الحاكم. والمراد من الحاكم في عصر غيبة صاحب الأمر والعصر والزمان - عجّل اللّه فرجه - هو المجتهد المطلق العادل المخالف للهوى ، حيث أنّهم علیهم السلام نصبوه مرجعا عامّا إليه ينتهي الأمور ، ولا مجال ها هنا لذكر الأدلّة والإثبات ، وله محلّ آخر ، فالحاكم هو وليّ من لا وليّ له.

وأمّا لو كان فيهم الصغار والقصر أو الغيّب ، فإن كان لهم وليّ خاصّ ، كالأب

ص: 362

والجدّ من قبل الأب الأقرب فالأقرب ، فالمرجع هو ذلك الولي الخاصّ لا الحاكم ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له. وإن لم يكن لهم أب وجدّ من قبل الأب بمراتبه ، فالأمر ينتهي إلى الحاكم بالمعنى الذي عرفت ، وإن لم يكن للميّت وصيّ ارجع أمور هؤلاء القصر إليه ، وأمّا لو كان فأيضا لا تصل الأمر إلى الحاكم.

والبحث في هذه الأمور وبيان مراتب الأولياء مفصّلا مع الدليل والبرهان ليس محلّها ها هنا ، ونتكلّم عنها في محلّه - مبحث الولايات - إن شاء اللّه تعالى.

فرع : تقدّم في الفرع السابق تقدّم ولاية الأب والجدّ من قبله - وإن علا مع مراعاة الأقرب فالأقرب - على ولاية الأوصياء والحكّام وعدول المؤمنين عند فقد الحكّام ، فلو أوصى بالنظر إلى أجنبي في مال ولده الصغير مع وجود أب الموصي الذي هو جدّ الصغير لم يصحّ ، وكانت الولاية لجدّ الصغير من قبل أبيه دون الوصي. وقيل : يصحّ في مقدار الثلث من تركة الموصي وفي أداء الحقوق.

أمّا الأوّل ، فوجهه واضح ، لأنّه بعد ما عرفت أنّ ولاية الوصي بالنسبة إلى الصغير - سواء كانت في نفسه أو في ماله - في طول ولاية الأب والجدّ ، فمع وجودهما أو أحدهما لا مجال لجعل الولاية للأجنبي ، لأنّه في غير محلّه ، فيكون لغوا وباطلا.

وأمّا الثاني ، أي ما قيل من التفصيل بين مقدار الثلث والأقلّ منه وبين الأزيد منه ، فيجوز في الأوّل دون الثاني ، وكذا التفصيل بين أن تكون في أداء الحقوق وبين غيره ، فيجوز في الأوّل ، ولا يجوز في الثاني ، فهناك تفصيلان :

الأوّل : هو التفصيل بين ما يكون بمقدار الثلث أو أقلّ منه ، وبين ما يكون أزيد منه ، ففي الأوّل يجوز ، وفي الثاني لا يجوز.

ووجهه : أنّ مقدار الثلث أو ما هو أقلّ منه ، أمره بيد الميّت قبل أن يموت ، له أن يمنع ولده الصغار عنه رأسا بأن يهبه لغيرهم بالعقد المنجّز ، وأن يوصى به لغيرهم

ص: 363

فيحرمون من ذلك المقدار ، فإذا جاز ذلك فقهرا له إبطال ولاية الجدّ على ذلك المقدار من مال الصغار ، فلا مانع من جعل الوليّ على ذلك المال الذي له أن يحرمهم عنه ، ولا يبقى موضوع ومحلّ لولاية الجدّ. وبعبارة أخرى : إن كان إفناء أصل المال بذلك المقدار جائزا للأب كي لا يبقى محلّ وموضوع لولاية الجدّ بالنسبة إلى ذلك المال ، فإفناء التصرّفات فيه جائز بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذه مغالطة واضحة ، وذلك لأنّ إفناء جميع ماله جائز بالعقد المنجّز ، بناء على أنّ إخراج المنجّزات من الأصل لا من الثلث ، ومع ذلك جعل الوصي على جميع التركة مع وجود الجدّ لا يجوز حتّى عند المفصّل ، لأنّه يجوز في مقدار الثلث أو ما هو الأقلّ منه ، وأمّا في الزائد فلا.

والسرّ في ذلك : هو أنّ الحكم الشرعي بولاية الجدّ وأنّ ولايته مقدّم على ولاية الوصي والفقيه بعد وجود الموضوع ، وأمّا إن لم يكن موضوع فلا يشمله دليل تقديم ولاية الجدّ على الوصي ، ففرض عدم وجود الموضوع أو جواز إفنائه أجنبي عن محلّ الكلام.

وإنّما الكلام في أنّه مع وجود الموضوع ووجود مال للصغير ، ويكون له جدّ من قبل أبيه ، هل في هذا الفرض جعل الوصي على ذلك المال بأن يكون له النظر دون الجدّ جائز أم لا؟

وفي هذا الفرض معلوم أنّ ولاية الجدّ مقدّم على ولاية الوصي ، فيكون جعله لغوا ، سواء كان في مقدار الثلث أو أقل منه أو أزيد منه.

وأمّا التفصيل الثاني وهو الفرق بين أداء الحقوق فيجوز ، وبين غيره فلا يجوز ، ففي الحقيقة هذا خارج عن محل البحث ، لأنّ الكلام في الوصيّة بالولاية على الصغار أو على أموالهم ، وأداء الحقوق مسألة أجنبيّة عمّا هو محلّ الكلام.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الموصي لو أوصى إليه بالنظر في شي ء معيّن ، فليس للوصي

ص: 364

التعدّي عمّا عيّن له ، فلو قال : أوصيت إلى فلان في إصلاح شؤون بستاني فلان ، أو زرعي فلان ، أو أداء ديوني أو استيفائها من المديونين ، أو ردّ الأمانات التي من أربابها عندي إليهم ، أو شؤون أولادي الصغار أو السفهاء منهم من حيث مساكنهم وملابسهم وما سوى ذلك من حوائجهم ، فللوصي التصرّف والتدخّل فيما عيّنه له فقط وفيما أوصى إليه ، دون سائر ما له الولاية فيها.

فلو أوصى إليه بأداء ديونه فقط ، فليس له استيفاؤها من المديونين ، وبالعكس أيضا كذلك ، وذلك لأنّ حقيقة الوصيّة بالولاية استنابة من الموصي بعد موته في التصرّف فيما كان له التصرّف فيه ، فإذا استنابه في عمل خاصّ ، ليس له التجاوز عنه ، فهي من هذه الجهة مثل الوكالة.

فكما أنّه لو وكّله في بعض أموره ليس له التصرّف في الأمور الآخر ، فلو وكّله في بيع ما عنده من الحنطة ليس له بيع ما عنده من الشعير ، أو وكّله في شراء الفرش لداره ليس له شراء الغنم أو البقر لشرب حليبهما وهكذا ، لأنّهما - أي الوصيّة والوكالة - كلاهما استنابة في التصرّف ، فإذا تعدّى في كليهما عمّا استنابه الموصي أو الموكّل فيه ، يكون تصرّفاته حراما تكليفا إن كان تصرّفا خارجيّا في مالهما ، وفاسدا وضعا إن كان من قبيل المعاملات التي يحتاج إلى إمضاء الشارع. وهذا واضح جدّا.

فرع : الشروط المعتبرة في الوصي من بلوغه وإسلامه وحرّيته وعقله وعدالته - بناء على اعتبار هذه الشروط ، لأنّ في اعتبار بعضها خلاف - هل يعتبر وجودها ، أي اتّصاف الوصي بها حال العقد ، أو يكفي وجودها حال الوفاة وإن لم يكن وقت الإيصاء متّصفا بها ، ولكن صار متّصفا بها حال وفاة الموصي.

مثلا لو أوصى إلى صبيّ كافر عبد مجنون ، ولكن حال موت الموصي صار واجدا لتلك الصفات ، أي صار بالغا مسلما حرّا عاقلا عادلا - بناء على اعتبار العدالة -

ص: 365

فيصحّ هذه الوصيّة ، لاجتماع الشرائط في وقتها ، وهو حال الوفاة.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ القول الأوّل الذي مفاده اجتماع الشروط حال الوصيّة معناه صرف وجود هذه الشروط في ذلك الوقت وإن لم يبق بعد ذلك أو ارتفع بعضها أو جميعها ، بل لا شكّ في لزوم اجتماع الشروط حال الإنفاذ ، لأنّ الاعتبار بلحاظ حال الإنفاذ.

فالكلام في الحقيقة يرجع إلى أنّ وجود هذه الشروط حال الإنفاذ يكفي ، أو يلزم أن يكون حال الوصيّة موجودة وباقية إلى زمان الإنفاذ ، أو يكفي أن تكون موجودة حال الموت إلى زمان الإنفاذ ، فاجتماعها حال إنفاذ اتّفاقي لا خلاف فيه فإنّ أحدا لا يقول وليس له أن يقول إنّ الوصي لو كان حال إنشاء العقد مسلما عادلا عاقلا حرّا ، ثمَّ صار حال الإنفاذ كافرا أو فاسقا ومجنونا وعبدا مثل أن كان حال العقد حرّا ومن أهل الجزية ثمَّ خالف شروط الجزية فاسترقّه المسلمون.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الأقوال في هذه المسألة ليست أربعة أو ثلاثة كما توهّمه بعض ، بل اثنان : أحدهما : اجتماع الشروط من حال العقد إلى زمان الإنفاذ ، الثاني : كفاية اجتماع الشروط من حال الموت إلى حال الإنفاذ.

وقال في الشرائع : والأوّل أشبه. (1) وترجيح هذا القول لوجوه :

الأوّل : أنّ هذه الشروط شروط صحّة العقد ، وما لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط ، فعند انتفاء جميعها أو بعضها ينتفي الصحّة.

وفيه : أوّلا أنّ هذه الشروط شروط لكونه وصيّا لا لصحّة العقد ، فيمكن أن يكون العقد صحيحا ، ولكن تأثيره في صيرورته وصيّا بالفعل يكون موقوفا على كونه متّصفا بهذه الصفات من حين موت الموصي إلى آخر زمان إنفاذ هذه الوصايا وإن لم يكن حال العقد متّصفا بها.

ص: 366


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 257.

وبعبارة أخرى : يرجع الأمر إلى أنّ شرط صحّة العقد هل هو وجود هذه الصفات حال العقد ، أو من زمان موت الموصي إلى آخر زمان إنفاذها ، بل من الممكن أن يكون الشرط وجود هذه الصفات حال الإنفاذ فقط ، لا قبله ، ولا حال العقد ، ولا حال موت الموصي ، فلا بدّ من مراجعة أدلّة اعتبار هذه الشروط ولا يبعد أن يكون ظاهرها اعتبارها حال الإنفاذ فقط لمناسبة الحكم والموضوع.

الثاني : أنّ التفويض إلى من ليس متّصفا بهذه الصفات منهيّ ، والنهي يدلّ على الفساد إن كان متعلّقا بركن العقد ، ولا شكّ في أنّ الموصى إليه ركن في عقد الإيصاء بالولاية.

وفيه : أنّ النهي المتعلّق بالمعاملة إن كان نهيا غيريّا وأفاد الإرشاد إلى المانعيّة ، فلا محالة يدلّ على الفساد ، كما أنّه لو كان نفسيا مولويّا وتعلّق بالمعنى الاسم المصدري أي النقل والانتقال في باب المعاوضات مثلا ، فأيضا يدلّ على الفساد كما حقّقنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

ولكن العمدة في المقام هو النهي عن الإيصاء إلى غير البالغ أو الفاسق أو الكافر أو المملوك أو غير العاقل مطلقا ، فلو كان كذلك فهذا الدليل يدلّ على لزوم وجود هذه الصفات في الوصي حال العقد ، ولكن هذا أوّل الكلام ، لأنّه يمكن أن يكون متعلّقا بالإيصاء إلى الصبيّ حال موت الموصي أو حال إنفاذ الوصايا. وأمّا لو لم يكن ذلك الوقت صبيّا مثلا فلا إشكال ، فهذا الدليل لا يتمّ إلاّ مع الاستظهار عن الأدلّة أنّ النهي متعلّق بالإيصاء إلى فاقد هذه الصفات حال العقد ، وهذا أوّل الكلام ، فيكون هذا الاستدلال من قبيل المصادرات.

الثالث : أنّ الوصي يجب أن يكون - متى مات الموصي - أهلا وقابلا للعمل وإنفاذ الوصايا ، وغير البالغ والمجنون والمملوك والكافر ليسوا قابلين لإنفاذ الوصايا لو

ص: 367


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 419.

فرضنا موت الموصي في حال عدم اتّصافهم بهذه الصفات.

وفيه : أنّ هذا خلف بالنسبة إلى الفرض ، لأنّ المفروض أنّ الوصي واجد لهذه الصفات حال الموت ، وقد عرفت أنّ هذه الوجوه وإن كانت لا تخلو من نظر ومناقشة ، ولكن الإنصاف أنّ ظاهر أدلّة اشتراط الوصي بالصفات المذكورة هو كونه متّصفا بها حال الإيصاء إليها ، بمعنى أنّه لا يجوز ولا يصحّ الإيصاء إلى الصبيّ غير البالغ ، فلو كان حال وقوع عقد الإيصاء إليه غير بالغ يصدق على ذلك العقد أنّه إيصاء إلى غير البالغ ، فيكون منهيّا عنه مثل هذا الإيصاء فيكون باطلا.

فالأظهر ما ذهب إليه المحقّق قدس سره من أنّ صحّة العقد مشروط بوجود هذه الصفات في الوصي حال العقد. (1)

فرع : يجوز للوصيّ على الصغار الأيتام المسمّى باسم « القيّم » أن يأخذ أجرة مثل عمله إذا كان لعمله أجرة عرفا وكان القيّم فقيرا ، أمّا إذا كان غنيّا ففيه إشكال ، والأصل في ذلك قوله تعالى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (2).

المقصود من ذكرنا الآية ها هنا الجملتان الأخيرتان : أي قوله ( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، فاللّه تبارك وتعالى بيّن أنّ وليّ الصغير واليتيم الذي يصلح أمورهم ويدبّر شؤونهم يجب عليه أن يختبر اليتيم ، فإن رأى منه أنّه بلغ السن الرشد فيجب عليه أن يدفع إليه أمواله ، وما دام متشاغلا بحفظ أموالهم وإدارة شؤونهم فله أن يتناول من ماله بقدر قوته إن كان فقيرا ، وأمّا إن كان

ص: 368


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 257.
2- النساء (4) : 6.

غنيّا فيجب عليه أن يستعفف ويترك أموالهم ولا يأخذ منهم شيئا.

وخلاصة الكلام : أنّ اللّه تبارك وتعالى نهى القيّم والوصيّ على اليتيم أن يأكلا من أمواله إسرافا وبدارا ، أي متجاوزين عن القوت اللازم ، ومسرعين في الأكل قبل أن يكبروا ويأخذوا المال من أيديهم.

ثمَّ بيّن سبحانه وتعالى أنّ القيّم والوصيّ اللذان يحفظان أموال اليتامى ، ويصلحان أمورهم وشؤونهم ، وتستغرق أوقاتهم في تدبير شؤون أموال اليتامى ونفوسهم ولا يبقى للاشتغال لأنفسهم ، إن كانوا أغنياء - أي يملكون قوت سنتهم ، بل جميع نفقات سنتهم ونفقات عيالهم الواجبي النفقة عليهم - فيجب عليهم التعفّف ، وترك أكل أموالهم ولو كان قليلا. وأمّا إن كانوا فقيرا - أي لا يملكون ما ذكرنا من قوت سنتهم وقوت عيالهم الواجبي النفقة ، بل مطلق نفقاتهم ونفقات عيالاتهم مقدار سنة كاملة - فيجوز لهم الأكل بالمعروف.

والمراد بالمعروف هو القوت المتعارف الذي هو الوسط بين البخل والإمساك ، وبين التبذير والإسراف ، أي أكلا متعارفا.

وقد روى الشيخ في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ فليأكل بالمعروف قال : « المعروف هو القوت ، وإنّما عنى الوصي أو القيّم في أموالهم ما يصلحهم ». (1)

والظاهر أنّ مراده علیه السلام من القوت ما يقابل الكماليّات والتجمّلات كما هو المصطلح في هذه الأزمان ، لا الخبز فقط. والظاهر أنّه لا فرق فيما ذكرنا في جواز الأكل إن كان فقيرا ، وعدم جوازه إن كان غنيّا بين أن يكونا منصوبا من قبل الأب أو من قبل الحاكم.

ص: 369


1- « الكافي » ج 5 ، ص 130 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 340 ، ح 950 ، باب المكاسب ، ح 72 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 184 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 1.

وقيل : المراد بالمعروف هو أن يأخذ بقدر أجرة عمله. وقيل : هو أقلّ الأمرين من أجرة عمله وقدر قوته المتعارف ، أي مقدار معيشة المتعارفة.

فلنذكر الأخبار الواردة في هذا المقام :

منها : ما روى الشيخ عن البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل يكون في يده مال لأيتام ، فيحتاج إليه ، فيمدّ يده فيأخذه وينوي أن يردّه؟ فقال : « لا ينبغي له أن يأكل إلاّ القصد ولا يسرف ، فإن كان من نيّته أن لا يردّه إليهم فهو بالمنزل الذي قال اللّه عزّ وجلّ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) (1) » (2).

ومنها : ما عن سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال علیه السلام : « من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم ، فليأكل بقدر ولا يسرف ، وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأ من أموالهم شيئا » (3).

ومنها : موثقة حنّان بن سدير عنه علیه السلام قال : « إذا لاط حوضها وطلب ضالّتها وهنأ جرباها فله أن يصيب من لبنها من غير نهك لضرع ولا فساد نسل ». (4)

ومنها : ما عن أبي الصباح ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( فمَنْ

ص: 370


1- النساء (4) : 10.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 128 ، باب أكل مال اليتيم ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 339 ، ح 946 ، باب المكاسب ، ح 67 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 192 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 76 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 129 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 340 ، باب المكاسب ، ح 69 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 185 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 4.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 130 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 340 ، ح 951 ، باب المكاسب ، ح 72 ، « قرب الإسناد » ص 47 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 185 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 2.

كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) فقال ذلك يحبس نفسه من المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا ». (1)

ومنها : ما روى العيّاشي في تفسيره عن زرارة ، وروى أيضا عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في تفسير الآية أنّه قال : « هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ويشغل فيها نفسه فليأكل بالمعروف ، وليس له ذلك في الدنانير والدّراهم عنده موضوعة » (2).

ومنها : ما روى الشيخ عن الكاهلي قال : قيل لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعه خادم لهم ، فنقعد على بساطهم ، ونشرب من مائهم ، ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم ، فما ترى في ذلك؟ فقال : « إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس ، وإن كان فيه ضرر فلا. وقال علیه السلام : « ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) وأنتم لا يخفى عليكم وقد قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) (3) » (4).

ومنها : ما في الكافي عن عليّ بن المغيرة : قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّ لي ابنة أخ يتيمة ، فربما أهدى لها شي ء فأكل منه ثمَّ أطعمها بعد ذلك الشي ء من مالي ، فأقول : يا ربّ هذا بذا؟ فقال علیه السلام : « لا بأس » (5).

ص: 371


1- « الكافي » ج 5 ، ص 130 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 3410 ، ح 952 ، باب المكاسب ، ح 73 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 185 ، أبواب ما يكتسب منه ، باب 72 ، ح 3.
2- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 222 ، ح 31 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 187 ، أبواب ما يكتسب منه ، باب 72 ، ح 9.
3- البقرة (2) : 220.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 129 ، باب أكل مال اليتيم ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 339 ، ح 947 ، باب المكاسب ، ح 68 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 183 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 71 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 129 ، باب أكل مال اليتيم ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 184 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 71 ، ح 2.

ومنها : ما رواه الشيخ عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عمّن تولّى مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ فقال : « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم ، فليأكل بقدر ذلك » (1).

والإنصاف أنّ القدر المتيقّن المتحصّل من هذه الآية الشريفة بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها هو أنّ المتولي لأمر الصغار ، أي الوصي عليهم من طرف الأب ، أو الجدّ من قبل الأب ، أو القيّم عليهم من طرفها أو من طرف الحاكم ، إذا كان فقيرا - أي لم يملك مئونة نفسه وعياله الواجبي النفقة مقدار سنة كاملة ، وكان مشتغلا بإصلاح أموالهم وتدبير شئونهم بحيث يشغله ذلك عن تحصيل معيشته وإدارة شئونه ، وعن كسبه وتدبير مال نفسه - فيجوز له أن يأكل من مال اليتيم بمقدار أقلّ الأمرين من قوته المتعارف ومن أجرة عمله ، بشرط أن لا يكون مال اليتيم قليلا بحيث لو أكل الوصي أو القيّم منه ينعدم ، أو يكون قريبا من الانعدام. وإن شئت قلت : أنّه لا يكون موجبا لتبيّن نقصه عرفا.

فلجواز الأكل قيود :

الأوّل : أن لا يكون غنيّا ، لأنّ الأمر بالاستعفاف ظاهر في الوجوب.

الثاني : أن يكون مشتغلا بإصلاح أموالهم وشؤونهم ، ويدلّ على هذا القيد أغلب الروايات المتقدّمة.

الثالث : أن يكون اشتغاله بإصلاح أمورهم مانعا عن تحصيل معيشته والاشتغال لنفسه ، ويدلّ على هذا القيد قوله علیه السلام في رواية سماعة « وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يزرأ من أموالهم شيئا ». ومعنى « لا يزرأ » هو « لا ينقص » والنهي عن النقص من أموالهم كناية عن عدم جواز الأكل مطلقا ، قليلا كان أو كثيرا.

ص: 372


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 343 ، ح 960 ، باب المكاسب ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 186 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 5.

الرابع : أن يكون بمقدار أقلّ الأمرين من القوت المتعارف ومن أجرة عمله ، فالدليل على هذا القيد هو رواية هشام بن الحكم حيث يقول علیه السلام فيها « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك ».

والآية وإن كانت مطلقة من هذه الجهة ، لأنّ مفادها جواز الأكل بالمعروف وإن كان أكثر من أجرة المثل ، لكن هذه الرواية يقيّدها بما إذا لم يكن أزيد من أجرة المثل.

مضافا إلى أنّ أكله أزيد من أجرة المثل خلاف القواعد الأوّلية ، إذ في الكبير لا يجوز ذلك فضلا عن الصغير ، وكون هذا حكما تعبّديا في خصوص الصغير بعيد إلى الغاية.

أمّا لو كان قوت السنة أقلّ من أجرة المثل ، فالأخذ به من جهة أنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة في قوله تعالى ( مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) هو أنّ أزيد من قوت السنة الذي هو الأكل بالمعروف لا يجوز ، فيقيّد به دليل استحقاق الأجير أجرة عمله ، وكأنّه قال : كلّ أجير يستحقّ مقدار أجرة عمله ويجوز له أكل ما يستحقّ من ناحية عمله ، إلاّ إذا كان عمله في إصلاح أموال اليتيم ، فإنّه لا يستحقّ ولا يجوز أكل أزيد من قوت ، ونتيجة ما ذكرنا هو استحقاق أقلّ الأمرين.

الكلام في منجّزات المريض

إنّ من المعلوم أنّ تصرّفات المريض نوعان : مؤجّلة بالموت ومعلّقة عليه ، وهي الوصيّة وقد تقدّمت بتفاصيلها ، سواء صدرت عن المريض أو الصحيح ، وذكرنا مقدارا مهمّا أعني ما هو محلّ الابتلاء من فروعها ، ومنجّزة وهي التي اصطلح عليها الفقهاء بإطلاق لفظ منجّزات المريض عليها.

والمنجّزات التي تصدر عن المريض إن لم تكن فيها محاباة ولم تكن من التبرّعات ، فلا كلام فيها ولا خلاف في البين.

ص: 373

وأمّا إن كانت من التبرّعات كالهبة والعتق والوقف وأمثالها ، أو كانت من المعاوضات التي فيها المحاباة ، فقد وقع الخلاف في أنّها من الأصل وإن لم يجز الوارث ، أو متوقّف كونها من الأصل على إجازة الوارث مثل الوصيّة ، فإن لم يجز كان من الثلث؟

فمن الأولى والأرجح أن نقدّم أمورا لتوضيح المقام :

الأوّل : كما عرفت أنّ المراد من « المنجّز » هو ما يقابل الوصيّة ، بمعنى أن تكون العطيّة التي يعطيها ، أو المعاملة المحاباتيّة التي ينشأها ، أو فكّه لملكه أو إبراء ذمّة مشغولة له ، سواء كانت مشغولة بمال أو حقّ له غير معلّق على موته ، بل يتحقّق ما أنشأه من الأصل على أحد القولين ، ومن الثلث على القول الآخر في حال حياته وليس موقوفا على موته ، بخلاف الوصيّة فإنّ الموصى به لا يوجد للموصى له إلاّ بعد موت الموصي. فبناء على هذا عتقه في حال المرض وهبته ووقفه وصدقته وبيعه المحاباتي وصلحه بلا عوض أو مع عوض أقلّ ممّا يصلح عليه وإجارته المحاباتيّة وكلّ معاوضة محاباتيّة وجميع تبرّعاته على أنحائه ممّا يوجب ضررا ونقصا على الوارث ، وكذلك إسقاط حقوقه التي تعاوض بالمال وإبراء ذمّة مديونه ، وأمثال المذكورات ممّا ليس منشأه معلّقا على الموت ويكون إضرارا بالوارث ، يكون داخلا في محلّ النزاع والخلاف.

ثمَّ إنّ ها هنا موارد وقع الكلام في أنّها داخلة في محلّ النزاع أم لا؟

منها : شراء من ينعتق عليه كالعمودين - أي الآباء والأمّهات - أو المحارم من النساء ، فمن جهة يمكن أن يقال هذه المعاملة ليس فيها محاباة ، وإنّما المبيع الذي اشتراه يساوي ثمنه ، وليس عند العرف خسارة وضرر ، ولذلك ليس فيها خيار غبن ، والضرر الذي يتوجّه على الورثة من ناحية حكم الشارع بانعتاق هؤلاء ، وإلاّ لو فرضنا عدم

ص: 374

هذا الجعل من قبل الشارع لم يكن ضرر عليه في البين ، ولكن حيث أنّه يظهر من روايات الباب أنّ مناط عدم النفوذ في الزائد على الثلث على القول به هو الإضرار بالورثة ، ففي ما روى الكليني أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله عاب من أعتق مماليكه ولم يكن له غيرهم وقال صلی اللّه علیه و آله : « ترك صبية صغارا يتكفّفون الناس ». (1) شاهد واضح على أنّ مناط المنع في الزائد على الثلث هو الإضرار بالورثة ، ولا شكّ في أنّ في شراء من ينعتق عليه إضرار بالورثة ، فيكون داخلا في محلّ الخلاف ، لوجود المناط فيه.

منها : ردّ الهبة والوصيّة والصدقة إن كان من أهلها.

منها : العفو عن القصاص مع إمكان أن يصالح هذا الحقّ بالمال. ولكن الإنصاف أنّ هذا من عدم جلب النفع للورثة لا من الإضرار عليهم ، لأنّ المجعول لوليّ الدم ابتداء هو ليس حقّا ماليّا بل حقّ القصاص فقط ، ولكن له أن يصالح بالمال فلو لم يحصل مالا وأضرّ بهم وإلاّ لو كان ذا صنعة مهمّة مثل أن يكون خطّاطا من الدرجة الأولى ، كلّ قطعة من خطّه يباع بقيمة مهمّة غالية يمكن أن يحصل أيّام المرض مالا مهمّا يجب أن يقال بوجوب الشغل بتلك الصنعة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

منها : الإتلاف الموجب للضمان ، فلو تعمّد إتلاف مال الغير فيكون ضامنا لما أتلف ، ولا شكّ في أنّه إضرار بالورثة ، فهل يخرج الضمان من الأصل أو الثلث؟ ومثل أنّه أفطر في نهار رمضان متعمّدا فيجب عليه الكفّارة فيما إذا تعيّن عليه الكفّارة الماليّة من إطعام ستّين مسكينا أو تحرير رقبة مؤمنة ، وهكذا الحال في سائر الكفّارات الماليّة فهل يكون من الأصل أو من الثلث مثل كفّارة حنث الحلف النذر؟

أقول : محل البحث هو إنشاء تبرّع ابتداء أو في ضمن معاملة محاباتيّة ، سواء كانت عقدا أو إيقاعا ، فهل مثل هذه المعاملات تنفذ من الأصل أو من الثلث؟

ص: 375


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 9.

أمّا الفعل الخارجي التكويني الذي جعله الشارع موضوعا لحكم من الأحكام - كباب الجنايات التي جعل الشارع لها الدية أو لزوم إعطاء الأرش ، أو جعله الشارع موضوعا لوجوب إعطاء الكفّارة - فلا دخل لها بما هو محلّ بحثنا ، بل رفع الحكم فيها يحتاج إلى تقييد في دليلها أو تخصيص فيه ، وحيث لا تقييد ولا تخصيص في البين فيجب إعطاء الكفّارة فيما تجب فيها والأرش والدية فيما يجب فيه الأرش أو الدية.

وخلاصة الكلام هو أنّ البحث في أنّه إذا صدر من المريض عقد أو إيقاع يكون تبرّعا ابتداء أو يكون متضمنا للتبرّع كالعقود المحاباتيّة أو الإيقاع كذلك ، فهل ينفذ من الأصل أو لا ينفذ إلاّ في خصوص الثلث كالوصيّة؟

وإن شئت قلت : إنّ محلّ النزاع والخلاف هو أن يكون مالا موجودا للمريض من عين أو منفعة أو دين أو حقّ ماليّ ، ففي عالم الاعتبار التشريعي لو نقله إلى غيره بلا عوض أو بعوض أقلّ أو أبرأ ذمّة من في ذمّته أو أسقط حقّه المالي الموجود ، فهل ينفذ مطلقا ، أو لا بل ينفذ في مقدار الثلث ، أمّا الزائد عليه فنفوذه موقوف على إجازة الورثة؟

نعم لو اشتغل ذمّته لشخص بعقد أو إيقاع ، بحيث يكون ملزما بأدائه من المال الموجود عنده بدون عوض والظاهر كونه داخلا في محلّ الكلام.

وأمّا إذا ضمن بعقد الضمان ما في ذمّة زيد مثلا ، خصوصا إذا كان زيد معسرا يتعذّر عليه أداء عوض الضمان ، فهل داخل في محلّ البحث ، أم لا؟ فيه وجهان :

من حيث أنّ الضمان عقد موجب لاشتغال ذمّة الضامن بعوض مثله في ذمّة المضمون عنه ، فليس من عقود التبرّعات ولا المعاوضة المحاباتيّة ، فيكون خارجا عن محلّ النزاع.

ومن حيث أنّ المضمون له لو كان معسرا يتعذر عليه أداء ما في ذمّته من عوض المضمون به ربما يكون ضررا على الورثة ، فيكون داخلا في محلّ الخلاف والنزاع.

ص: 376

والإنصاف : أنّه في صورة كون المضمون عنه معسرا بحيث يتعذّر عليه أداء ما في ذمّته ، لا يبعد دخوله في محلّ النزاع ، لوجود المناط والملاك فيه.

وأمّا نذر المال في حال المرض فداخل في محلّ الكلام بلا كلام ، لأنّه يقينا ضرر على الورثة ، فإنّ مقدار المال المنذور يخرج من كيس الورثة يقينا وبلا عوض ، فهو من العقود التبرعيّة بلا ريب.

ثمَّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا من الضابط من محلّ النزاع والخلاف - وهو أن يكون مالا موجودا ، أو ما يكون بحكم الموجود ، كالمنافع للأعيان الموجودة التي تتجدّد في الأزمنة المتتالية ، من عين أو منفعة أو دين في ذمّة أو حقّ مالي ، ففي عالم الاعتبار التشريعي بعقد أو إيقاع لو نقله إلى غيره بلا عوض أو مع عوض أقلّ منه ، أو أبرأ ذمّة من في ذمّته ، أو أسقط حقّه المالي الموجود ، ففي جميع ذلك يأتي الخلاف المذكور أنّه من الأصل أو هو كالوصيّة من الثلث إذا صدر من المريض - أنّ العطايا الخارجيّة التي تصدر منه كما إذا أعطى مالا بدون عقد أو إيقاع في البين لمادح يمدحه ، أو لمن يخاف منه على نفسه أو على ماله أو على عرضه ، أو يريد يجلب مودّته لغرض من الأغراض أو يريد احترامه لأجل حقّ له عليه فيضيفه ، أو يهدى إليه لرجوعه من سفر أو لعرسه وزفافه ، أو يعطى لفقير للأجر والثواب ، أو يعطى لسلامته من الآفات وحصول الصحّة والاستشفاء من مرضه ، فجميع ذلك خارج عن محلّ الخلاف والنزاع ، وعليه السيرة المتشرّعة قديما وحديثا.

الثاني : أنّه ما المراد من المرض الذي أخذ في عنوان البحث ، حيث أنّ المسألة عندهم معنونة بعنوان أنّ منجّزات المريض هل هي من الأصل أم من الثلث كالوصيّة؟

أقول : الاحتمالات كثيرة :

منها : أن يكون المراد منه المرض الذي بسببه يحصل الموت ، فيكون من إضافة

ص: 377

السبب إلى المسبّب ، فمرض الموت أي المرض الذي يكون سببا وعلّة للموت.

وهذا أيضا على قسمين ، لأنّ السبب قد يكون سببا فعليّا ، وقد يكون شأنيّا.

مثلا قد يكون الموت مستندا إليه ، وليس للموت سبب وعلّة أخرى بحيث لو لم يكن هذا المرض لم يمت ، وأخرى يكون سبب آخر للموت من غرق أو حرق وإن كان المرض أيضا لو لم يكن ذلك السبب الآخر كان كافيا لوقوع الموت ، ولكن بواسطة وجود ذلك السبب الآخر لم يبق مجال لتأثير المرض ، كما أنّه كان مبتلى بالسل في الدرجة الأخيرة التي ليست قابلة للعلاج ، ولكن يتأخّر موته سنة مثلا وفي الأثناء انهدمت الدّار عليه ومات ، فالمرض في هذا المثال سبب شأني للموت ، والسبب الفعلي له انهدام الدار عليه.

ومنها : أن يكون المراد منه المرض الذي يتّفق فيه الموت ، وليس للمرض تأثير فيه أصلا ، وذلك كما إذا كان مريضا قابلا للعلاج وفعلا مشغولة بالمعالجة ، ولكن اتّفق أنّه مات بسبب آخر ، كما أنّه وقع من شاهق أو لدغه حيوان سامّ مثلا فمات بسببه.

وبناء على هذا التفسير - لمرض الموت - يكون من قبيل إضافة الظرف إلى مظروفة ، كقولهم : سنة الوباء أو الطاعون أو القحط وأمثال ذلك أي المرض الذي يقع فيه الموت. وبناء على هذا التفسير الأخير لو كان مريضا وصدر منه تصرّف منجّز في ماله ، كهبة أو وقف أو عتق ومات في أثناء ذلك المرض بسبب آخر ، كلدغ حيّة مثلا ، يكون داخلا في محلّ الخلاف ، أي أنّه يخرج من الأصل أو الثلث؟

ثمَّ إنّه قد تحصل أمارات الموت وليس بمريض أصلا ، كما أنّه لو صعب الولادة على المرأة حال الطلق وظهرت عليها أمارات الموت ، فإن صدرت في هذه الحالة تبرّعات منجّزة من بذل مهرها لزوجها وأمثال ذلك ، فهل داخل مثل هذا التبرع في محلّ الخلاف أم لا؟ أو كان في الحرب في محلّ يظنّ فيه التلف لوقوع رصاصه عليه ، أو كان في السفينة المشرفة على الغرق في حال هيجان البحر وتلاطم الأمواج ، ففي مثل

ص: 378

هذه الموارد هل يكون ملحقا بمرض الموت ، لوحدة الملاك وتنقيح المناط ، أم لا؟

ولكن هناك في الروايات تعبير آخر غير مرض الموت ، وهو عنوان « حضرته الوفاة » ربما يشمل مثل هذه الموارد ، فالمرأة التي حال الطلق ظهرت عليها أمارات الموت يصدق عليها أنّها حضرتها الوفاة ، وهكذا في السفينة المشرفة على الغرق.

ثمَّ إنّه هاهنا أمران :

أحدهما : هل موضوع هذا الخلاف والنزاع وقوع التبرّعات المنجّزة في مطلق المرض ، وإن كان تطول مدّته ويبقى المريض سنين ، كمرض السل والسرطان ، فإنّهما وإن كان سببا للموت بالأخرة وليس لهما العلاج ولكن قد تطول سنين عديدة ، أو مخصوص بالمرض الذي يتعقّب بالموت بسرعة ولا يزيد على الشهر مثلا؟

ومعلوم أنّه لو كان موضوع الحكم هو مرض الموت ، فلا بدّ من مراجعة العرف في فهم المراد من هذه الكلمة إلاّ أنّ الشأن في ذلك.

الثاني : أنّ موضوع هذا الحكم ووقوع الخلاف مطلق المرض ، أو خصوص المخوف منه؟ واختلف عباراتهم في هذا القيد ، ويظهر من عبارة المحقّق في الشرائع أنّ موضوع هذا الخلاف مطلق المرض الذي يتّفق به الموت ، سواء كان مخوفا في العادة أو لم يكن (1) فعنده موضوع هذا الخلاف هو المرض الذي يكون سببا للموت وإن لم يكن مخوفا بل اتّفق فيه الموت. واختار في القواعد (2) أنّ الموضوع لهذا الحكم هو المرض يتّفق معه الموت وإن لم يكن بسببه.

ثمَّ إنّ الذين جعلوا الموضوع المرض المخوف مثل الشيخ (3) قدس سره ومن تبعه في ذلك ، دخلوا في مسألة بيان الأمراض المخوفة وما ليس بمخوف ، وهذا عبارة الشرائع : كلّ

ص: 379


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 261.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 334.
3- « المبسوط » ج 4 ، ص 44.

مرض لا يؤمن معه من الموت غالبا فهو مخوف ، كحمّى الدق ، والسل ، وقذف الدم ، والأورام السوداويّة والدمويّة ، والإسهال المنتن وما شاكله. وأمّا الأمراض التي الغالب فيها السلامة فحكمها حكم الصحّة ، كحمى يوم وكالصداع عن مادّة أو غير مادّة ، والدمل ، والرمد ، والسلاق ، وكذا ما يحتمل الأمرين كحمى الغض ، والزحير ، والأورام البلغمية (1).

وهذه الأمراض التي ذكرها أنّ عدّة منها مخوفة وعدّة أخرى غير مخوفة هو حسب الطبّ القديم ، وأمّا اليوم فتغيّرت أسماؤها ، وبعض ما سمّاها بالمخوفة ليست بالمخوفة ، بل يمكن علاجها بسهولة في هذه الأزمان.

هذا ، مضافا إلى أنّه ليس في الروايات هذا العنوان ، أي عنوان « المرض المخوف » كي ترجع في تعيين مفاده إلى العرف أو إلى أهل الخبرة في فنّ الطبّ ، وأنّه هل يسمع شهادة الفاسق بل الكافر من أهل الخبرة أو لا بدّ وأن يكون شهادة العدل بل العدلين لو كان من باب الشهادة.

نعم في عدّة روايات عنوان « المريض » من دون قيد ، وفي الكتاب العزيز وفي عدة من الروايات عنوان « حضر أحدكم الموت » وفي بعضها « عند الموت » فالبحث عن أنّ أيّ مرض مخوف وأيّها ليس بمخوف لا أثر له.

نعم المسلّم عند الكلّ أنّه لو تبرّع في مرضه ، ثمَّ طاب من ذلك المرض ولم يمت ، ثمَّ مات بمرض آخر أو بسبب آخر ، فهذا ليس داخلا في محلّ النزاع والخلاف قطعا ، فما هو المسلّم في دخوله في محلّ النزاع هو أن يقع الموت في نفس المرض الذي صدر التبرّع منه في ذلك المرض ، أمّا كونه سببا للموت أو كونه مخوفا فليس شي ء من ذلك مذكور في الأخبار ولا من المسلّمات عند الأصحاب.

الثالث : في بيان أنّه ما هو مقتضى الأصل ، مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة التي

ص: 380


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 261.

مفادها خروج منجّزات المريض من الأصل أو من الثلث.

فتارة نتكلّم في الأصول اللفظيّة من العمومات والإطلاقات التي هي من الأمارات ومع جريانها لا يبقى محلّ لجريان الأصول العمليّة لارتفاع الشكّ الذي هو موضوعها بها ، لأنّها حاكمة عليها وقد حرّرنا المسألة في الأصول. (1)

وأخرى في الأصول العمليّة على فرض عدم جريان الأصول اللفظيّة من العمومات والإطلاقات.

أمّا الأوّل ، أي الأصول اللفظيّة :

فمنها : المرسلة المعروفة بين الفريقين : الناس مسلّطون على أموالهم » (2).

وتقريب الاستدلال بها في المقام هو أنّ مفاد هذه المرسلة أنّ كلّ من يملك مالا فهو السلطان على ماله ، فله أنحاء التصرّفات الجائزة شرعا ، ولا فرق في ذلك بين التصرّفات التكوينيّة كشرب المشروبات وأكل المأكولات ولبس الملبوسات ، وهكذا في سائر أنحاء التصرّفات التكوينيّة فيؤخذ بالعموم ، إلاّ أن يأتي دليل على التخصيص بالنسبة إلى تصرّف من التصرّفات ، وبين التصرّفات التشريعيّة كبيعه وهبته وإجارته وعاريته والصلح عليه وهكذا ، بل قلنا في الاستدلال بها على أصالة اللزوم إذا شككنا في لزوم معاملة مملكة ونفي جواز الرجوع بعد حصول الملك للطرف المقابل إنّ إرجاعه بدون رضاه مناف مع سلطنته على ماله.

وذلك من جهة أنّ مقتضى السلطنة التامّة التي هي مفاد القاعدة أنّ للمالك جميع أنحاء التصرّفات المباحة في ماله ، وقصر سلطنة الغير عنه. فالمرسلة متضمّن لعقدين : إيجابي وسلبي ، أي كما أنّ له جميع أنحاء التصرّفات الجائزة المباحة ، كذلك له منع الغير

ص: 381


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 222 ، ح 99 ، وص 457 ، ح 198 ، وج 2 ، ص 138 ، ح 383 ، وح 3 ، ص 208 ، ح 49 ، « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 272 ، كتاب العلم ، ح 7.

عن التصرّف فيه ، وإلاّ ليس سلطنة تامّة بل ناقصة ضعيفة ، ولذا جعلناها دليلا على اللزوم في مورد الشكّ وقلنا بأصالته في الملك.

ففي ما نحن فيه بعد الفراغ أنّ المال ماله ما دام الروح في بدنه ولا يخرج عن ملكه ، فبهذه المرسلة نستدلّ على أنّه في حال المرض الذي يقع فيه الموت حيث أنّ المال ماله ولم يخرج عن ملكه ، فله التسلّط على جميع أنحاء التصرّفات المشروعة غير المحرمة ، إلاّ أن يأتي دليل على المنع عن تصرّف وإن كان في حدّ نفسه حلالا أو كان في حدّ نفسه من المحرّمات كجعل عنبه خمرا مثلا أو خشبه صنما وأمثال ذلك.

وحيث أنّ التبرّعات المنجّزة ليست من العناوين المحرّمة ، ولا نهي الشارع عن مثل هذا التصرّف على الفرض ، بل هي من العناوين الراجحة بلا كلام ، فللمالك السلطنة عليها.

لا يقال : إنّ قاعدة السلطنة ليست مشرّعة لمعاملة مشكوك الشرعيّة ، بمعنى أنّه لا يمكن ولا يصحّ إثبات شرعيّتها بهذه القاعدة ، وذلك لأنّ المعاملات التي عند العرف والعقلاء سبب للنقل والانتقال يحتاج إلى إمضاء من قبل الشارع ، فما لم يمضه الشارع لا يثبت ماليّة ذلك المال شرعا لمن انتقل إليه ، فبالقاعدة لا يثبت الإمضاء ، وهذا معنى أنّها ليست مشرّعة. فإذا شككنا في أنّ التبرّعات العقديّة الصادرة عن المريض في المرض الذي وقع فيه موته هل أمضاها الشارع أم لا؟ لا يصحّ إثبات إمضائها بهذه القاعدة ، فلا يصحّ إثبات الانتقال إلى المتبرّع إليه بهذه القاعدة وترتيب آثار ملكيّة المتبرّع إليه لما تبرّع به ، وهذا ملازم مع عدم خروجها عن ملك المريض بل هو باق إلى زمان حصول الموت ، فيرثه الورثة. نعم مقدار الثلث يقينا صدر الإمضاء عن الشارع فينتقل إلى المتبرّع إليه قطعا ، وأمّا الزائد عليه فيبقى على حاله ، فيصدق عليه التركة ، فيرثها الورثة.

لما ذكرنا أنّ هذه المعاملات والعقود التبرّعية ممضاة من قبل الشارع يقينا ، وإنّما

ص: 382

الشكّ في محلّ النزاع أتى من قبل أنّ المرض الذي يقع فيه الموت هل يوجب نقصا وقصورا في سلطنة المريض كي لا تكون عقوده المنجّزة مؤثّرة في الأزيد من ثلث ماله ، أم لا قصور ولا نقص فيه كي تكون مؤثّرة في الجميع في الثلث وما زاد عليه؟

فعموم « الناس مسلّطون على أموالهم » حيث يدلّ على السلطنة المطلقة التامّة على جميع أموالهم في جميع الأحوال ، صحيحا كان أم مريضا ، وكذا بالنسبة إلى جميع الحالات الطارئة على المالك مثل السفر والحضر ، فالمرسلة تدلّ على أنّ أيّ معاملة مشروعة - أي ممضاة - من قبل الشارع في حدّ نفسها إذا صدر عن المالك يجب ترتيب الأثر عليها والحكم بصحّتها ، لأنّ الشارع جعل المالك سلطانا عليها في جميع الحالات ، إلاّ فيما إذا جاء الدليل على عدم سلطنته على تلك المعاملة في حال من الأحوال.

كما أنّ القائلين بعدم نفوذ المنجّزات في الزائد على الثلث يدّعون وجود الدليل على مثل ذلك التخصيص ، وأنّه ليس للمريض الذي يقع موته في ذلك المرض السلطنة على التبرّع بماله بأزيد من الثلث إلاّ بإجازة الورثة ، فإذا أثبتنا أنّه ليس دليل على مثل ذلك التخصيص ، فمقتضى أصالة العموم وأصالة الإطلاق في المرسلة أنّ السلطنة لجميع الملاّكين ثابتة في جميع أموالهم في جميع الأحوال ، سواء كانوا أصحّاء أو كانوا مرضى.

وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى في أنّ أدلّة القائلين بمنع نفوذ منجّزات المريض في أزيد من الثلث غير تامّ ، فمقتضى الأصل أي عموم قاعدة السلطنة وإطلاقها بالنسبة إلى جميع الأحوال هو النفوذ وإن كان أزيد من الثلث.

ومنها : الأدلة العامّة التي تدلّ على وجوب الوفاء بالعقود ، كقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وقوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (2) بناء على شمول

ص: 383


1- المائدة (5) : 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 404 ، باب الشرط في النكاح وما يجوز منه وما لا يجوز ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور و. ، ح 66. « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 218 ، ح 84 ، وج 2 ، ص 257 ، ح 7 ، وج 3 ، ص 217 ، ح 77 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 301 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 7.

الشروط الابتدائيّة كي يشمل العقود والالتزامات الابتدائيّة.

وتقريب الاستدلال بهذه العمومات هو بعد ما صدر أحد العقود التبرّعية عن المريض الذي يموت في ذلك المرض ، أو صدر أحد المعاملات المحاباتيّة ، وكان واجدا لشرائط تلك المعاملة عرفا بحيث تحقّق موضوع ذلك العقد عرفا ، فيشمله العمومات الواردة في لزوم الوفاء بذلك العقد أو ذلك الشرط ، ومعنى وجوب الوفاء به ترتيب أثر الملكيّة بالنسبة إلى ذلك المال الذي تبرّع به للمنتقل إليه.

وإطلاق وجوب الوفاء يدلّ على عدم الفرق بين صورة إجازة الوارث ، وبين صورة عدم إجازته. ومعنى حكم الشارع بلزوم ترتيب آثار ملكيّة من انتقل إليه مطلقا أجاز الوارث أم لا ، نفوذ التبرّعات والمعاملات المحاباتيّة مطلقا.

ومنها : عمومات نفس ذلك التبرّع ، مثل عمومات الهبة أو الصدقة ، أو عمومات البيع أو الإجازة أو الصلح المحاباتيّة بنفس التقريب الذي بيّنّا في العمومات التي تشمل مطلق العقود والمعاملات ، فلا حاجة إلى إعادة ما ذكرنا.

وهم ودفع

أمّا الأوّل : فهو أنّ دلالة قاعدة السلطنة ، وعمومات وجوب الوفاء بالعقود ، وعمومات كلّ واحد من عناوين هذه المعاملات مثل ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) وعموم ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) وكذلك عموم الرهن قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (3) أو قوله علیه السلام :

ص: 384


1- . البقرة 1. : 275.
2- النساء (4) : 128.
3- البقرة (2) : 283.

« لا بأس استوثق من مالك » (1) وهكذا في الإجارة والعارية وغيرها على كون المالك سلطانا ، ووجوب الوفاء بكلّ عقد ، ونفوذ كلّ معاملة بالنسبة إلى جميع ما يصدق عليه البيع بالنسبة إلى عمومات البيع ، وجميع ما يصدق عليه الإجارة أو الصلح بالنسبة إلى عموماتها ، وهكذا في سائر العناوين من عناوين التبرّعات والمعاملات المحاباتيّة متوقف على إحراز قابليّة المحلّ للسلطنة أو وجوب الوفاء أو النفوذ في جميع المصاديق والحالات. وأمّا لو علم بعدم قابليّة المحلّ للمذكورات أو شكّ فيها ، فلا يفيد في ثبوت السلطنة أو وجوب الوفاء أو نفوذ تلك المعاملة شي ء من هذه العمومات والإطلاقات.

نعم لو كان هناك أصل موضوعي أثبت قابليّة المحلّ تعبّدا فتجري تلك العمومات ، مثلا في محلّ كلامنا احتمال وجود حقّ المنع للورثة عن تصرّف المريض الذي يموت في ذلك المرض في الزائد على الثلث يمنع من تأثير العقود المنجّزة في مؤدّاها لعدم إحراز قابليّة المحلّ ، لأنّ قابليّة المحلّ شرط التأثير ، نعم لو جرى أصالة عدم حدوث حقّ للورثة بعد حدوث المرض وأحرز القابليّة تعبّدا فتجري العمومات الثلاثة ، أي قاعدة السلطنة ، وعمومات وجوب الوفاء بكلّ عقد ، وعمومات كلّ واحد من تلك العقود التبرّعية والمعاملات المحاباتيّة ، فأوّلا لا بدّ من إجراء استصحاب عدم حدوث حقّ للورثة ، ثمَّ الاستدلال بهذه الطوائف الثلاث من العمومات ، وإلاّ مع الشكّ في قابليّة المحلّ لا يجري شي ء منها هذا هو الوهم.

وأمّا الثاني : أي الدفع ، فهو أنّا لا نرى معنى محصّلا لتوقّف شمول هذه العمومات للمورد على إحراز قابليّة المحلّ باستصحاب عدم حدوث حقّ للورثة بعد حدوث المرض المذكور.

وذلك لأنّ محلّ السلطنة ومتعلّقها هو مال ذي السلطنة ، ولا شكّ في أنّ مال كلّ

ص: 385


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 1 و 3 و 8.

شخص قابل لأن يكون له السلطنة عليه ، وأن يكون له التصرّف فيه بأنواع التصرّفات ، سواء كان حال التصرّف صحيحا أو مريضا ، وسواء يموت في ذلك المرض أو لم يمت ، وإذا منع المالك عن التصرّف فيه في حال من الأحوال فلا بدّ وأن يكون تخصيصا في قاعدة السلطنة.

كما أنّ الراهن لا يجوز له التصرّف في ماله المرهون ، لورود الدليل على تخصيص القاعدة وعدم جواز تصرّف الراهن في عين المرهونة بدون إجازة المرتهن ، لا لعدم قابليّة المحلّ لتعلّق حقّ المرتهن به.

وباب التخصيص غير عدم قابليّة المحلّ للحكم الشرعيّ أو اعتبار العرفي ، مثل بعض الحشرات التي لا فائدة فيها ولا يترتّب أثر عليها مثل الخنفساء مثلا المحلّ ليس قابلا لاعتبار الماليّة حتّى عرفا.

مثلا التذكية شرعا عبارة عن فري الأوداج الأربعة من مسلم بآلة من حديد مسمّيا موجّها إلى القبلة ، وأثرها في الحيوان المحلّل الأكل أمران : طهارة أجزائه ، وحلّية أكله ، وفي حيوان المحرّم الأكل طهارة بدنه وأجزائه فقط ، وأمّا حرمة أكله فذاتيّة لا تزول ، وأمّا الحيوان نجس العين كالكلب والخنزير البرّيان فالمحلّ غير قابل للتذكية ، لأنّ أثر التذكية إمّا كلا الأمرين أو أحدهما ، فإذا لم يترتّب كلّ واحد منهما - كما أنّه كذلك في نجس العين - فاعتبار التذكية لا معنى له ، فالمحلّ غير قابل للتذكية ، كما أنّه لو شككنا في حيوان أنّه نجس العين ، فلو لا قاعدة الطهارة تكون قابليّته للتذكية مشكوكة ، للشكّ في قابليّة المحلّ.

وأمّا فيما نحن فيه ، فمال المريض قابل للسلطنة عليه مثل الصحيح ، فإذا لم يكن في مورد له السلطنة عليه لا بدّ وأن يكون لدليل مخصّص في البين ، وهكذا الحال بالنسبة إلى أدلّة وجوب الوفاء بالعقود ، فعقود المريض مثل الصحيح قابل لوجوب الوفاء بها.

فإذا لم يكن في مورد واجب الوفاء لا بدّ وأن يكون لوجود دليل مخصّص لذلك

ص: 386

العموم ، وإلاّ فعدم قابليّة المحلّ كلام لا أساس له. وهكذا الأمر في عمومات كلّ واحد من العناوين التبرّعية ، أو المعاملات المحاباتيّة الدالّة على نفوذ تلك المعاملة لو لم تكن نافذة في مورد لا بدّ وأن يكون لوجود مخصّص ، لا لعدم قابليّة المحلّ ، فحديث عدم قابليّة المحلّ في هذه الموارد كلام لا أساس له ، وإن كان أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره مصرّا عليه ، فلا حاجة إلى أصالة عدم حدوث حقّ للورثة ، لإجراء قاعدة السلطنة ، أو التمسّك بعمومات وجوب الوفاء بالعقود ، أو عمومات نفس المعاملات المحاباتيّة ، أو العناوين التبرعيّة الصادرة عن المريض الذي يموت في ذلك المرض.

وأمّا الثاني أي الأصول العملية :

فالأصل الذي يمكن جريانها - في نفس المسألة أي لإثبات نفوذ التبرّعات في الزائد على الثلث من دون إجازة الوارث ، أو عدم نفوذها وتوقّفه على إجازة الورثة - هو الاستصحاب.

وهو على قسمين : تنجيزي ، وتعليقي.

أمّا [ القسم ] الأوّل ، فهو أيضا على قسمين : كلّي وشخصي.

فالأوّل - أي الاستصحاب الكلّي التنجيزي - هو أن يقال : إنّ الإنسان العاقل البالغ الصحيح الرشيد ، غير المحجور عليه من جهة أحد أسباب الحجر ، يقينا له السلطنة على ماله وينفذ جميع تصرّفاته المباحة ، فإذا زالت عنه الصحّة وصار مريضا بمرض مات فيه شككنا في بقاء سلطنته ، فيشمله قوله علیه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » فينتج الاستصحاب بقاء السلطنة ونفوذ التصرّفات في حال المرض أيضا.

لا يقال : إنّ اتّحاد قضيّة المتيقّنة مع المشكوكة موضوعا ومحمولا شرط في جريان الاستصحاب ، وها هنا ليس كذلك ، فإنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة هو الإنسان العاقل الصحيح ، وفي المشكوكة هو المريض.

قلت : هذا الإشكال يأتي في جميع الاستصحابات في الحكم الكلّي ، ولأجل ذلك

ص: 387

أنكر بعضهم جريان الاستصحاب في الحكم الكلّي ، منهم سيّدنا الأستاذ الأصفهاني قدس سره على ما ببالي ، ولكن نحن حرّرنا المسألة في كتاب « منتهى الأصول » (1) في مبحث الاستصحاب في ذكر أقوال المفصّلين في حجّيته.

وإجمال ما ذكرنا هناك بطور الاختصار أنّ اتّحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا وإن كان صحيحا لا مناص منه ، ولكن الاتّحاد بنظر العرف كاف وإن كانا بالدقّة غير متّحدين ، وكذلك وإن كان بحسب ما أخذ موضوعا في لسان الدليل مختلفين ، فالاتّحاد بنظر العرف هو المناط في جريان الاستصحاب. وإن شئت التفصيل فراجع كتابنا « منتهى الأصول ».

والمثل المعروف لجريان استصحاب الكلّي هو أنّه لا شكّ في نجاسة الماء المتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ، فإذا زال التغيّر من قبل نفسه فهل تبقى نجاسته ، أو تجري فيه أصالة الطهارة؟ الصحيح هو الأوّل ، ومدرك بقاء نجاسته هو استصحابها ، فيأتي هذا الإشكال وهو أنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة هو الماء المتغيّر بوصف التغيّر ، وفي المشكوكة الماء الذي زال التغيير من قبل نفسه لا بوصول المطهّر إليه.

ولكن بعد ما كان بنظر العرف موضوع الحكم هو الماء ، والتغيّر كان واسطة في الثبوت ، أي كان علّة الحكم ، لا من قيود الموضوع كي ينتفي بانتفائه الحكم ، وشكّ في أنّه هل بحدوثه علّة لحدوث الحكم الوضعي أي النجاسة وبقائه إلى أن يأتي المطهّر أم لا ، بل علّة لحدوث الحكم وبقائه ما دام باقيا ، وأمّا إن زال فلا دليل لا على بقاء النجاسة ولا على ارتفاعها ، فبالاستصحاب يحكم ببقائها ، فحدوث النجاسة بحدوث التغيّر وبقاؤها ببقائه ، وأمّا إن زال التغيّر فلا دليل على بقائها إلاّ استصحابها ، فهذا الاستصحاب لا مانع من جريانه.

فكذلك في المقام السلطنة التي كانت ثابتة للإنسان العاقل البالغ حال صحّته

ص: 388


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 385.

مشكوكة البقاء بعد زوال الصحّة وصيرورته مريضا ، فبالاستصحاب يثبت بقاؤها. والجواب عن اختلاف الموضوع هو كفاية الاتّحاد عرفا وهو حاصل.

والثاني : أي استصحاب التنجيزي الشخصي ، هو أن يقال : إنّ هذا الشخص حال صحّته يقينا كان ذا سلطنة على أمواله ، وكان جميع تصرّفاته التبرعيّة والمحاباتيّة نافذة من أصل ماله ، وبواسطة ارتفاع الصحّة أو وجود المرض حصل الشكّ في بقاء سلطنته ونفوذ تصرّفاته ، فبالاستصحاب يثبت بقاؤها وبقاء نفوذها من أصل المال.

وأمّا توهم أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم السلطنة فيما إذا كان المرض من حال الصغر إلى أن بلغ ومات في ذلك المرض وتبرّعاته كانت بعد بلوغه ، فبهذا الاستصحاب يثبت عدم سلطنته على التبرّعات والعقود المحاباتيّة فيما زاد على الثلث.

لا يقال : لا تعارض بين الاستصحابين ، لأنّهما في موضوعين ، فيمكن العمل بكليهما والقول بعدم نفوذ التبرّعات في مورد الأخير ، أي فيما إذا كان البلوغ في حال المرض ، وكان صدور التبرّعات منه في حال المرض وبعد البلوغ بواسطة هذا الاستصحاب فيما زاد على الثلث إلاّ بإجازة الورثة ، والقول بالنفوذ من الأصل في مورد الاستصحاب الأوّل ، أي فيما إذا كان البلوغ في حال صحّة المتبرّع ثمَّ مرض وصدر منه التبرّعات لأجل استصحاب الأوّل ، أي استصحاب بقاء السلطنة التي كان له في حال صحّته.

لأنّه وإن كان الاستصحابان غير متعارضين بالذات لأنّهما في موضوعين ، لكنّه لا يمكن العمل بكليهما ، لأنّه قول بالفصل ولا قائل به ، بل في المسألة قولان : النفوذ من الأصل مطلقا - سواء كان المرض من قبل البلوغ مستمرّا إلى أن يبلغ فيصدر منه التبرّعات المنجّزة أو كان وجود المرض بعد البلوغ - وعدم النفوذ في الزائد على الثلث إلاّ بإجازة الوارث أيضا مطلقا ، سواء كان المرض بعد البلوغ أو قبله وكان مستمرّا إلى زمان صدور المنجّز عنه ، فالقول بالتفصيل والعمل بكلا الاستصحابين

ص: 389

خرق للإجماع المركّب ، فلا يجوز العمل بكليهما ، فيكونان متعارضين بالعرض فيتساقطان.

فتوهم فاسد ، لعدم جريان استصحاب عدم السلطنة التي كان في حال الصغير بعد البلوغ ، وذلك لأنّ الصغر في نظر العرف موضوع واسطة في العروض ، لا أنّ الموضوع في نظرهم ذات هذا الشخص والصغر واسطة في الثبوت ، كي يقال بأنّ موضوع عدم السلطنة باق وهو ذات هذا الشخص ، والصغر كان علّة لعدم السلطنة لا أنّه موضوعه.

وبعبارة أخرى : في نظر العرف غير البالغ والصغير موضوع لأحكام منها عدم توجّه الخطابات الإلزاميّة إليهم ، منها عدم صحّة معاملاتهم وعدم سلطنتهم على أنواع التصرّفات فجرى هذا العدم إلى زمان البلوغ وإثباتها للبائع على فرض ثبوت الشكّ ليس من الاستصحاب ، بل يكون من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وذلك لما ذكرنا من أنّ العرف يرى الصغير موضوعا وواسطة في العروض ، لا أنّ الموضوع ذات الشخص وعدم البلوغ واسطة في الثبوت.

العجب من أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره أنّه مع كمال دقّة نظره غفل عن مثل هذا النكتة الواضحة ، وقال بالتعارض بين هذين الاستصحابين وتساقطهما ، مع أنّه ليس هناك استصحابان ، بل واحد وهو استصحاب بقاء السلطنة التي كان له حال الصحّة ، فلا تعارض ولا تساقط في البين أصلا.

وأمّا القسم الثاني : أي استصحاب التعليقي هو أن يقال : إنّ هذا الشخص لو كان يصدر منه هذه التبرّعات المنجّزة في حال صحّته لكانت نافذة جميعها من أصل ماله بدون التوقّف على إجازة الورثة - لا من الثلث والزائد يتوقّف على إجازتهم - ففي حال المرض أيضا كذلك.

كما يقال : إنّ هذا الزبيب لمّا كان عنبا ورطبا لو كان يغلي ماؤه ينجّس أو يحرم

ص: 390

شربه أو أكله إلاّ إذا ذهب ثلثاه ، فالآن في حالة الجفاف والزبيبية كما كان.

وأيضا مثل أن يقال : إنّ هذا الرجل لمّا كان صحيحا ولم يكن مريضا ، أو لمّا كان شابّا ولم يكن شيخا هرما لو كان مستطيعا كان يجب عليه الحجّ ، فالآن بعد ما صار مريضا أو شيخا هرما وصار مستطيعا يجب عليه.

فالاستصحاب التعليقي في الحقيقة عبارة عن أنّ الموضوع المركّب من الجزئين إذا وجد أحدهما ، فذلك الجزء الموجود بشرط انضمامه إلى الجزء الآخر يكون له حكم كذا.

مثلا البالغ العاقل الحرّ لو انضمّ إليه الاستطاعة وصار مستطيعا يجب عليه الحجّ ، فوجوب الحجّ ليس حكم البالغ العاقل الحرّ فقط ، بل هذا جزء الموضوع بحيث لو انضمّ إليه الجزء الآخر وهو الاستطاعة يأتي الحكم وهو وجوب الحجّ ، فقبل وجود الجزء الآخر لا حكم أصلا ، وإلاّ يكون خلفا ويلزم أن يكون ما فرضته جزء الموضوع تمام الموضوع ، وهذا خلف بيّن.

فإذا وجد تغيّر في ذلك الجزء الموجود ، مثل أن كان البالغ العاقل الحرّ صحيحا وصار مريضا ، أو كان شابّا فصار شيخا هرما ، وحصل الشكّ بواسطة هذا التغيّر في أنّه بعد هذا التغيير هل أيضا لو انضمّ إليه الجزء الآخر - أي الاستطاعة - يكون ذلك الحكم - أي وجوب الحجّ - عليه أو لا؟ فبالاستصحاب تريد أن تجرّ ذلك الحكم الذي كان معدوما وتبقية إلى زمان الشكّ ، وهل هذا إلاّ إبقاء ما هو معدوم ، الذي هو من المحالات الأوّلية.

والتخلّص عن هذا بأنّ الاستصحاب جرّ الملازمة التي كانت موجودة بين الجزء الموجود من الموضوع وبين الحكم بشرط انضمام الجزء الموجود إلى الجزء المعدوم ، كما يظهر من عبارات شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره .

أو القول بأنّ الحكم التقديري نحو حكم يسمّى بالحكم المشروط ، كما يظهر من

ص: 391

صاحب الكفاية علیه السلام .

أو القول بأنّ ظرف وجود الحكم ظرف فرض وجود الموضوع في الذهن ، لا وجود الموضوع خارجا ، لأنّ ظرف وجود موضوع الحكم بمعنى متعلّقة خارجا ظرف سقوط الحكم ، لا ظرف ثبوته ، مثلا ظرف وجود الصلاة خارجا ظرف حصول الامتثال ، وهو ظرف سقوط الوجوب لا ثبوته ، كما قال به أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره وجمع أخر من الأساطين.

فكلّ هذه الاحتمالات بل الأقوال لا يسمن ولا يغني من جوع ، وقد أبطلنا الاستصحاب التعليقي في كتابنا « منتهى الأصول » (1) في إحدى تنبيهات الاستصحاب الموضوع لأجل هذا الأمر بأحسن بيان وأقوم برهان ، فراجعه.

ولا فرق فيما ذكرنا من بطلان الاستصحاب التعليقي بين أن يكون الحكم المشروط وضعيّا أم كان تكليفيّا ، لأنّ المناط في كليهما واحد ، وهو محاليّة إبقاء ما هو المعدوم.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فالمسألة ذات قولين :

الأوّل : نفوذها في الثلث فقط ، وفي الزائد عليه يتوقّف على إجازة الوارث.

وذهب إلى هذا القول واختاره جماعة من الأساطين ، منهم المحقّق في الشرائع ، (2) والعلاّمة في القواعد ، (3) والشيخ في المبسوط ، (4) والشهيدان ، (5) والمحقّق الثاني في جامع

ص: 392


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 463.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 102.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 334.
4- « المبسوط » ج 4 ، ص 43.
5- « الدروس » ج 2 ، ص 302 ، « المسالك » ج 1 ، ص 242.

المقاصد ، (1) وفخر المحقّقين في الإيضاح ، (2) والصدوق ، (3) وابن الجنيد ، (4) بل ادّعى بعضهم الشهرة بين المتأخّرين ، بل ربما استظهر بعض من الخلاف دعوى الإجماع على أنّها من الثلث.

القول الثاني : نفوذها في أصل المال وإن كان زائدا على الثلث ، واختاره الكليني في الكافي ، (5) والصدوق في أحد قوليه ، (6) والمفيد في المقنعة ، (7) والشيخ في التهذيب وسائر كتبه ، والمرتضى علم الهدى (8) ، وابن زهرة في الغنية ، (9) وابن البراج ، (10) وابن إدريس ، (11) وابن سعيد ، (12) وجماعة أخرى. ومستندهم روايات سنذكرها إنشاء اللّه تعالى.

أمّا القول الأوّل فاستندوا إلى روايات ، وهي طوائف :

الطائفة الأولى : ما مفادها أنّ للميّت ثلث ماله.

منها : صحيح يعقوب بن شعيب ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يموت ما له من ماله؟ فقال « له ثلث ماله » (13).

ص: 393


1- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 94.
2- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 593.
3- « المقنع » ص 165.
4- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 367.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 7.
6- « المقنع » ص 165.
7- « المقنعة » ص 671.
8- « الانتصار » ص 224.
9- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 603.
10- « المهذّب » ج 1 ، ص 420.
11- « السرائر » ج 3 ، ص 199.
12- « الجامع للشرائع » ص 497.
13- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5422 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 770 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه. ، ح 2. « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 452 ، باب انه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 362 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 2.

وتقريب الاستدلال به أنّ الميّت في حال حياته وقبل أن يموت مالك لجميع ماله ، فالسؤال ليس عمّا يملك من ماله ، لأنّه من الواضح المعلوم أنّه مالك لجميع ماله ، فلا بدّ وأن يقال : إنّ المراد من الميّت من أشرف على الموت ، وهو الذي عبّر عنه في بعض الروايات بمن حضرته الوفاة ، فيكون من قبيل من قتل قتيلا فله سلبه. والمراد من قول السائل « ما له من ماله » أي : في أيّ مقدار يجوز له التصرّف في ماله وتنفذ تصرّفاته ، أعمّ من أن تكون معلّقة على الموت أو منجّزة؟ فأجاب علیه السلام بأنّ له ثلث ماله ، أي له أن يتصرّف معلّقة على الموت ، أو مطلقة ومنجّزة في ثلث ماله.

وحيث أنّ السؤال عن حدّ ما يملك التصرّف فيه ، أعمّ من أن يكون تصرّفه معلّقة على الموت أو منجّزة - فجوابه بيان ذلك الحدّ ، فتدلّ الرواية على عدم ملكيّته للتصرّف فيما زاد على الثلث ، سواء كان تصرّفه منجّزا أو معلّقا على موته ، والأوّل هو المسمى بالمنجّزات ، كما أنّ الثاني مسمّى بالوصيّة.

ولكن أنت خبير بأنّ الرواية ظاهرة في التصرّفات بلحاظ بعد موته ، فيكون المراد بها الوصيّة وأنّ في أيّ مقدار من ماله تنفذ وصيّته من غير الاحتياج إلى إذن الورثة أو إجازتهم. ووجه ظهوره في التصرّفات المعلّقة على الموت هو أنّه كان في ذهن المؤمنين أنّ الإرث بعد الوصيّة والدين ، لقوله تعالى في كتابه العزيز ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1) فجعل الإرث بعدهما ، ولكنّ السؤال عن الدين لا وجه له ، لأنّه تابع لواقعة.

وأمّا الوصيّة التي يكون الإرث بعدها لم تكن معلومة عندهم أنّ الموصي في أيّ مقدار من ماله له أن يوصى من دون توقّف على إجازة الورثة ، فيجيب علیه السلام بأنّه

ص: 394


1- النساء (4) : 12.

الثلث ، وإلاّ فلا معنى له ، لأنّ يسأل ما له من ماله ، لأنّ الجميع ماله ، فالمراد بالسؤال هو أنّه أيّ مقدار من ماله له أن يخصّصه بنفسه ويجعل في الخيرات والمبرات لينتفع بها في الآخرة ، فيجيبون علیهم السلام أنّه الثلث من ماله ، ولكنّ الزائد يتوقّف صحّته ونفوذه على إذن الورثة أو إجازتهم.

فتمام النظر في هذه الأسئلة والأجوبة بعد الفراغ عن أنّ الإرث بعد الوصيّة أنّ المالك الموصي أيّ مقدار له حقّ أن يخصّصه بنفسه ويجعل ذخيرة لآخرته ويحرم الورثة منه ، فهذه الروايات التي مضمونها بيان ما هو حدّ حقّ الميّت من ماله أجنبيّ عن محلّ بحثنا بالمرّة.

ولأجل ذلك يقول علیه السلام في صحيحة عليّ بن يقطين بعد أن سئل ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : « الثلث والثلث كثير » (1) أي : أنّ اللّه تبارك وتعالى راعي المالك ، وخصّص ثلث ماله بوصاياه التي ترجع منافعه إليه وليس الثلث قليلا ، فكأنّه تعالى رأفة لعباده جعل حصّة من مال الشخص بعد موته لنفس الميّت وهي ثلث ماله ، وحصّته للورثة وهي الثلثان الباقيان.

ومنها : خبر عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « للرجل عند موته ثلث ماله ، وإن لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه » (2).

وتقريب الاستدلال به على عدم نفوذ التبرّعات المنجّزة في الزائد على الثلث ، كما تقدّم في صحيح يعقوب بن شعيب.

والجواب أيضا عين ما تقدّم ، نعم في هذه الرواية جملة أخرى ، وهي قوله علیه السلام : « وإن لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه » أي : إن لم يوص فليس على الورثة إعطاء

ص: 395


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 242 ، ح 940 ، باب في الزيادات ، ح 33 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 363 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 8.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 242 ، ح 939 ، باب في الزيادات ، ح 32 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 363 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 7.

الثلث بعنوان الخيرات والمبرّات للميت ، فكأنّه قال علیه السلام : إن أوصى فيوجب نقصا في حصّة الورثة ، وإلاّ إن لم يوص لم يجب على الورثة شي ء وإن كان للميّت أن ينقص الإرث بالإيصاء ولكن حيث أنّه لم يوص فلا نقص.

ومنها : خبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يموت ما له من ماله؟ فقال : « له ثلث ماله ثلث ماله ، وللمرأة أيضا ». (1)

وتقريب الاستدلال والجواب عنه كما تقدّم.

ومنها : مرسلة جامع المقاصد : المريض محجور عليه إلاّ في ثلثه. (2)

ودلالتها على المنع في الزائد على الثلث وإن كانت واضحة إلاّ أنّ كونها رواية ليست ثابتة ، بل الظاهر أنّها فتواه ونتيجة اجتهاده في المقام ، وإن كان ظاهر كلامه أنّها رواية ، لأنّه يقول : واختاره المصنّف - أي : العلاّمة في القواعد لأنّ كتابه شرح قواعد العلاّمة - لتناول عموم قوله علیه السلام : المريض محجور عليه إلاّ في ثلث ماله.

وعلى كلّ حال ليست من الروايات الموثوقة الصدور كي يشملها أدلّة حجّية خبر الواحد الموثوق الصدور ، كما اخترناه في الأصول (3).

ومنها : خبر أبي حمزة عن بعض الأئمّة علیهم السلام قال : إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول : ابن آدم تطوّلت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدّم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم

ص: 396


1- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5422 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 770 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 452 ، باب انّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 362 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 2.
2- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 97.
3- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 112.

تقدّم خيرا (1).

وقوله تبارك وتعالى « ما واروك » أي : ما دفنوك. وقوله تعالى : « فاستقرضت منك » إشارة إلى الآية الشريفة ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) . (2)

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث القدسي هو أنّه تعالى يقول : « جعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك » فلو كانت تبرّعاته في مرض الموت تخرج من الأصل فلا اختصاص لجعل النظرة في الثلث ، بل جعل له النظرة في جميع ماله.

وفيه : أنّ هذا الحديث في مقام بيان ما منّه اللّه تعالى على عباده وعدم شكرهم له تعالى ، ومعلوم أنّ المناسب لهذا المقام هو جعل النظرة للعبد في ماله باعتبار زمان موته وبعد حياته ، لأنّ النظرة في ماله باعتبار زمان حياته معناها أنّ اللّه تعالى جعل له أن يصرف ماله في الخيرات والمبرّات في حياته ، وهذا تكليف شاقّ عليه ربما يكون أشقّ من التكاليف البدنيّة ، مثلا الزكاة والخمس ربما يكون على العبد امتثالها أصعب من امتثال الصوم والصلاة.

وأمّا النظرة في ماله بعد موته بأن يصرف فيما يكون له منفعة في الآخرة مع انقطاعه عن ذلك المال وانتقاله إلى آخرين يكون من ألطافه على ذلك العبد ، فالمراد من النظرة في ماله حيث أنّه تعالى في مقام الامتنان هو النظرة باعتبار زمان موته ، وهذا هو الوصيّة ، ولا كلام في أنّ الوصيّة بدون إجازة الورثة لا تنفذ في أزيد من الثلث.

ومنها : طائفة من الأخبار واردة فيمن أعتق في مرض موته - وهي الطائفة الثانية - فيأمر علیه السلام بنفوذه من الثلث ، ولا شكّ أنّه إذا أعتق فقد نجز وتمَّ الأمر

ص: 397


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 181 ، باب حجّة اللّه عزّ وجلّ على تارك الوصيّة ، ح 5410 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 175 ، ح 712 ، باب الوصيّة المبهمة ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 4 ، ح 4.
2- البقرة (2) : 245.

فأمره علیه السلام بأنّه ينفذ من الثلث معناه أنّ التبرّعات المنجّزة لا تنفذ من الأصل وإنّما نفوذها من الثلث ، مثل الوصيّة المعلّقة على الموت.

منها : خبر عليّ بن عقبة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه؟ قال : « ما يعتق منه إلاّ ثلثه ، وسائر ذلك الورثة أحقّ بذلك ولهم ما بقي » (1).

ومنها : خبر عقبة بن خالد مثل ما ذكرنا عن عليّ بن عقبة إلاّ أنّه ليس فيه هذا الذيل « وسائر ذلك الورثة أحقّ بذلك ولهم ما بقي » (2).

ومنها : خبر أبي بصير عن الصادق علیه السلام قال : « إن أعتق رجل عند موته خادما له ثمَّ أوصى بوصيّة أخرى ألقيت الوصيّة وأعتقت الجارية من ثلثه ، إلاّ أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصية » (3).

ومنها : خبر السكوني ، عن عليّ علیه السلام : إنّ رجلا أعتق عبد له عند موته لم يكن له مال غيره ، قال علیه السلام : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يستسعى في ثلثي قيمته للورثة ». (4)

ومنها : ما هو المروي في المسالك (5) عن صحاح الجمهور ، وهو أنّ رجلا من الأنصار أعتق ستّة أعبد له في مرضه ولا له غيرهم ، فاستدعاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجزّأهم ثلاثة أجزاء ، وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرقّ أربعة.

ص: 398


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 194 ، ح 781 ، باب الوصية بالثلث و. ، ح 13. « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 455 ، باب انه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 219 ، ح 862 ، باب وصيّة الإنسان لعبده وعتقه له ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 384 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 197 ، ح 786 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 6.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 229 ، ح 828 ، باب العتق وأحكامه ، ح 61 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 7 ، ح 22 ، باب من أعتق بعض مملوكه ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 76 ، أبواب كتاب العتق ، باب 64 ، ح 5.
5- « المسالك » ج 1 ، ص 424.

وهذه الطائفة من الروايات التي فيها أنّ المريض أعتق عبده أو عبيده ظاهرة في الوصيّة بالعتق ، لا إنشاء العتق منجّزا قبل وفاته وباعتبار حال حياته ، والأخبار بلفظ الماضي تعبير عرفي ، وكأنّ العرف - في باب وصايا المريض الذي حضره الوفاة - يرى المريض ميّتا ، للجزم بوقوعه قريبا ، فيرى الموصى به أمرا واقعا لوقوع شرطه وما علّق عليه ، وهو الموت.

ولذلك إذا علموا بوصيّة مريض أنّه أوصى بأن يعطوا بعد وفاته داره مثلا أو كتبه العلميّة أو ألبسته لفلان يقولون : إنّه أعطى هذه المذكورات لفلان.

والشاهد لما ذكرنا أنّ في بعض هذه الأخبار يقول علیه السلام كما في خبر أبي بصير المتقدّم « إن أعتق رجل خادما له ثمَّ أوصى بوصيّة أخرى ». وأنت ترى أنّ ظاهر هذه العبارة وقوله علیه السلام « ثمَّ أوصى بوصيّة أخرى » أنّ الأوّل أي العتق أيضا وصيّة بالعتق ، وإلاّ لا يبقى وجه للتعبير عن الوصيّة التي بعد العتق بوصيّة أخرى ، فكلمة أخرى دليل على أنّ الأولي أيضا وصيّة.

فتدلّ هذه الكلمة على أنّ عرفهم في ذلك الزمان كان الإخبار من وقوع العتق بلفظ الماضي إيصاء بالعتق ، فيسقط ظهور هذه الطائفة في العتق المنجّز كي يكون دليلا على أنّ التبرّعات المنجّزة تخرج من الثلث ، كما هو مدّعى المستدلّ.

وظهر ممّا ذكرنا أنّ ما رواه المسالك عن الجمهور - أنّ رجلا من الأنصار أعتق ستّة أعبد له في مرضه - من هذا القبيل ، أي أنّ الأنصاري أوصى بعتق الستّة أو دبّر عتقهم ، فإن المدبّر عن الثلث كالوصيّة ، وبذلك روايات وقد عقد في الوسائل بابا بهذا العنوان وأن المدبّر ينعتق بعد الموت من الثلث (1). ففي تطبيق الثلث عليهم لا طريق إلاّ القرعة ، وكذلك الأمر في خبر السكوني وقول أمير المؤمنين علیه السلام : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يستسعى في ثلثي قيمته » إذا قلنا إنّ عتقه عند موته وصيّة ولا

ص: 399


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 19.

ينفذ في الزائد عن الثلث ، فالذي يحكي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو مقتضى القواعد ، ولا يدلّ على أنّ إخراج المنجّز من الثلث وممّا ذكرنا ظهر الحال في خبري عليّ بن عقبة وعقبة بن خالد ، فلا نطول الكلام.

الطائفة الثالثة : فيما ورد من الروايات في خصوص العتق ممّن عليه الدين :

منها : خبر حسن بن الجهم قال : سمعت أبا الحسن علیه السلام يقول في رجل أعتق مملوكا وقد حضره الموت وأشهد له بذلك وقيمته ستمائة درهم ، وعليه دين ثلاثمائة درهم ولم يترك شيئا غيره ، قال : « يعتق منه سدسه لأنّه إنّما له منه ثلاثمائة درهم ، وله السدس من الجميع ، ويقضي عنه ثلاثمائة درهم وله من الثلاثمائة ثلثها ». (1)

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أنّه لو كان نفوذ المنجّزات من الأصل - ولا شبهة في أنّ العتق من المنجّزات - فكان يعتق نصف ذلك العبد لا سدسه ، لأنّه مالك لنصف قيمته إذ نصفه يخرج بواسطة الدين للدائن ، ويبقى ملك المالك النصف الباقي ، فإذا كان نفوذها من الأصل فتمام هذا النصف الباقي يعتق ، فحكمه علیه السلام بعتق السدس دليل على النفوذ من الثلث ، لا من الأصل ، إذ سدس الجميع عبارة عن ثلث النصف الباقي للمالك بعد أداء نصفه إلى الدائن للوفاء بدينه.

ومنها : رواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألني أبو عبد اللّه علیه السلام : « هل يختلف ابن أبي ليلى وابن شبرمة » فقلت : بلغني أنّه مات مولى لعيسى بن موسى فترك عليه دينا كثيرا وترك مماليك يحيط دينه بأثمانهم فأعتقهم عند الموت إلى أن قال علیه السلام : « إذا استوى مال الغرماء ومال الورثة ، أو كان مال الورثة أكثر من مال الغرماء لم يتّهم الرجل على وصيّته وأجيزت وصيّته على وجهها ، فالآن يوقف هذا فيكون نصفه

ص: 400


1- « الكافي » ج 7 ، ص 27 ، باب من أعتق وعليه دين ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 169 ، ح 690 ، باب الإقرار في المرض ، ح 36 ، ص 218 ، ح 855 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 423 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 39 ، ح 4.

للغرماء ، ويكون ثلثه للورثة ، ويكون له السدس » (1).

وهذه الرواية مفصّلة سأل الإمام علیه السلام عن اختلاف الفتاوى بين أبي ليلى وابن شبرمة القاضيين في الكوفة ، فذكر الراوي موردا من موارد اختلافهما ، وفي هذا المورد قال علیه السلام : إذا استوى مال الغرماء مع مال الورثة أو كان مال الورثة أكثر أجيزت وصيّته وحكم بنفوذ الوصيّة في الثلث لا من الأصل.

وبهذه الجهة تكون دليلا في المقام. بيان ذلك أنّ المفروض أنّ قيمة العبيد الذين أعتقهم مثلا ضعف دينه ، فليفرض أنّ قيمتهم ستمائة درهم ودينه ثلاثمائة ، فيبقى بعد إخراج الدين للمالك الموصي المعتق ثلاثمائة ، وثلث ثلاثمائة مائة وهو سدس المجموع ، فحكمه علیه السلام بأنّ له - أي للميّت - السدس ، أي ثلث التركة بعد أداء الدين ، فنفوذ العتق في سدس المجموع معناه نفوذ الوصيّة في الثلث ، وإلاّ لو كان من الأصل لكان ينفذ في ثلاثمائة درهم الذي هو نصف المجموع لا في مائة درهم الذي هو سدس المجموع ، فهذه الرواية تدلّ على نفوذ العتق في سدس المجموع الذي هو ثلث التركة ، فتدلّ على أنّ العتق الذي هو من المنجّزات من الثلث ، لا من الأصل.

ولكن أنت خبير أنّ هاتين الروايتين وأمثالهما موردهما الوصيّة بالعتق ، لا أنّه أعتق منجّزا في حال حياته ، فتكون خارجة عن محلّ البحث ، خصوصا الرواية الثانية فإنّه علیه السلام صرّح بأنّه أجيزت الوصيّة ، فحملها على العتق المنجّز خلاف ظاهر الرواية.

نعم في الرواية إشكال آخر من جهة تقييده علیه السلام نفوذ الوصيّة في الثلث بأن يكون مال الغرماء وحصّتهم من التركة مساويا مع ما يبقى للورثة ، أو يكون ما يبقى لهم أكثر.

ص: 401


1- « الكافي » ج 7 ، ص 26 ، باب من أعتق وعليه دين ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 217 ، ح 854 ، باب وصية الإنسان لعبده وعتقه له ، ح 4 ، وج 8 ، ص 232 ، ح 841 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 423 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 39 ، ح 5.

وهذا الإشكال لا دخل له بما هو محلّ بحثنا وإن كان موجبا لطرح الرواية وعدم عمل الأصحاب بها.

الطائفة الرابعة : الأخبار الواردة في موارد بعض المنجّزات ، وعدم نفوذ ذلك التبرّع المنجّز في ذلك المورد.

منها : صحيح الحلبي ، سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق أو بعضه ، فتبرأه منه في مرضها؟ فقال علیه السلام : « لا ». (1)

ومنها : خبر جراح المدائني سئلت أبا عبد اللّه علیه السلام عن عطية الوالد لولده يبينه قال : « إذا أعطاه في صحّته جاز » (2).

وتقريب دلالة هذين الخبرين على ما يدّعون من خروج المنجّزات من الثلث لا من الأصل.

أمّا الأوّل ، فمن جهة أنّ نفيه علیه السلام صحّة الإبراء مطلقا ، سواء كان بقدر الثلث أو الأزيد منه مع الإجماع على صحّته إن كان بقدر الثلث أو كان أقلّ منه يدلّ على أنّ المراد من نفيه هو كون الإخراج من الأصل ، وأمّا الإخراج من الثلث فليس بمنفي.

وأمّا الثاني ، أي خبر جراح المدائني وإن كانت القضيّة الشرطيّة بمفهومها تدلّ على عدم الجواز إذا لم تكن العطيّة في حال الصحّة ، ولكن حيث أنّ نفي الجواز بقول مطلق وإن كانت مساويا للثلث أو كانت أقلّ منه خلاف الإجماع فلا بدّ وأن يحمل النفي على الكراهة.

ويؤيّد هذا الحمل قوله علیه السلام في رواية سماعة التي مضمونها نظير المقام في جواب

ص: 402


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 201 ، ح 802 ، باب الوصية للوارث ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 384 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 15.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 201 ، ح 801 ، باب الوصيّة للوارث ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 127 ، ح 480 ، باب عطيّة الوالد لولده في حال المرض ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 284 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 14.

السائل « وأمّا في مرضه فلا يصلح ». (1)

ومنها : خبر أبي ولاّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين ، فتبرأه منه في مرضها؟ قال علیه السلام : « بل تهبه له فتجوز هبتها له ، ويحسب ذلك من ثلثها ». (2)

وهذا الخبر وإن كان ذيله يدلّ على أنّ الهبة المنجّزة تخرج من الثلث ، ولكن من حيث اشتماله على ما هو مخالف لإجماع الأصحاب وهو إعراضه عن الإبراء الدالّ على عدم صحّته ، وصحّة الهبة ساقط عن الاعتبار ، ولا يصحّ الاعتماد عليه.

قال في المسالك (3) في مقام الاعتراض على هذه الرواية : وأمّا رواية أبي ولاّد ففيها أنّ مضمونها لا يقول به أحد ، لأنّ الإبراء ممّا في الذمّة صحيح بالإجماع دون هبته ، والحكم فيها بالعكس ، فكيف يستند إلى مثل هذه الرواية المقلوبة الحكم الضعيفة السند.

هذا مع أنّها على فرض صحّتها ليست قابلة للمعارضة مع الأخبار الصحيحة الصريحة في أنّ إخراج المتنجّزات من الأصل لا من الثلث.

الطائفة الخامسة : الأخبار الواردة في عدم جواز الإضرار بالوارث ، والجور في الوصيّة والحيف ، ووجوب ردّها إلى العدل.

منها : رواية السكوني عن جعفر بن محمد ، عن أبيه علیه السلام قال : قال على علیه السلام : « ما

ص: 403


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 156 ، ح 642 ، باب النحل والهبة ، ح 19 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 461 ، باب انّه لا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 384 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 11.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 195 ، ح 783 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 15 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 457 ، باب انّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 367 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 11.
3- « المسالك » ج 1 ، ص 425.

أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال ». (1)

ولا شكّ في أنّ هذه الرواية تدلّ على عدم جواز الإضرار بالورثة بتنقيص حصّتهم بالأزيد من الثلث ، لأنّ أدلّة جواز الوصيّة بالثلث تخصّص هذه الرواية بالنسبة إلى مقدار الثلث ، والزائد يبقى تحت المنع ، ومعلوم أنّه لا فرق بين أن يكون سبب الإضرار هي الوصيّة أو التبرّعات المنجّزة ، لأنّه علیه السلام في مقام مذمّة الإضرار بهم وأنّه مثل السرقة ، فإذا كان موضوع الحكم بالحرمة هو الإضرار فأيّ فرق بين أسبابه.

وفيه : أنّ الفرق واضح ، لأنّ الوصيّة إخراج الموصى به عن التركة بعد الموت بإنشائه قبل الموت ، فالوصيّة في الحقيقة من قبيل إيجاد المانع عن ملكيّتهم لمقدار الذي أوصى به بعد وجود المقتضي لملكيّتهم لذلك المقدار وهو الموت ، بخلاف التبرّعات المنجّزة فإنّها إخراج في حال الحياة ، أي في وقت تكون الورثة أجانب عن المال كسائر الأجانب ، نعم على تقدير موت المورث يوجد المقتضي لإرثهم لو لا المانع ، فقياس أحدهما بالآخر - مع بطلان القياس في حدّ نفسه - قياس مع الفارق الكثير ، وأين أحدهما من الآخر.

وأمّا ادّعاء تنقيح المناط القطعي بأن يقال : نقطع بأنّ المناط في عدم نفوذه في الزائد على الثلث هو حرمان الوارث عن ذلك المقدار بأيّ سبب كان ، فهذا باطل قطعا ، لأنّ لازم ذلك عدم جواز التبرّعات وعدم نفوذها حتّى في حال الصحّة.

وبما ذكرنا يظهر بطلان الاستدلال لعدم نفوذ المنجّزات في الأزيد من الثلث برواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام ، قال علیه السلام : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل توفّى وأوصى بماله كلّه أو أكثره فقال علیه السلام : الوصيّة تردّ إلى المعروف غير المنكر ، فمن ظلم نفسه وأتى في وصيّته المنكر والحيف فإنّها تردّ إلى المعروف ، ويترك لأهل الميراث

ص: 404


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 183 ، باب ما جاء في الإضرار بالورثة ، ح 5418 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 174 ، ح 710 ، باب الوصية ووجوبها ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 5 ، ح 1.

ميراثهم » (1).

وذلك لوضوح أنّهم في حياة المورث ليسوا أهل الميراث ، لأنّه لا ميراث في البين كي يترك لأهل الميراث ميراثهم ، وبعد الوفاة أيضا لا ميراث بالنسبة إلى ذلك المقدار الذي نجّز فيه التبرّع ، لأنّه أفناه وانتقل عنه بالتبرّع ، فلا يصدق عليه عنوان أنّه « ما تركه الميّت » الذي هو موضوع الميراث.

الطائفة السادسة : الأخبار الواردة في باب نفوذ الإقرار من المريض - يموت في ذلك المرض - في الثلث ، وعدم نفوذه في الأزيد منه إن كان متّهما ، ولتعليله علیه السلام ذلك بقوله في إقرار امرأة بذلك في رواية بيّاع السابري : « فإنّما لها من مالها ثلثه ».

عن العلاء بيّاع السابري قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن امرأة استودعت رجلا مالا ، فلمّا حضرها الموت قالت له : إنّ المال الذي دفعته إليك لفلانة ، وماتت المرأة فأتى أولياؤها الرجل فقالوا : إنّه كان لصاحبتنا مال ولا نراه إلاّ عندك ، فاحلف لنا مالها قبلك شي ء أفيحلف لهم؟ فقال : « إن كانت مأمونة عنده فيحلف لهم ، وإن كانت متّهمة فلا يحلف ويضع الأمر على ما كان ، فإنّما لها من مالها ثلثه » (2).

ورواية إسماعيل بن جابر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أقرّ لوارث له وهو مريض بدين له عليه ، قال علیه السلام : « يجوز عليه إذا أقرّ به دون الثلث » (3).

ص: 405


1- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 186 ، باب ما يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5425. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 773 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 358 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 8 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 42 ، باب المريض يقرّ لوارث بدين ، ح 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 229 ، باب إقرار المريض للوارث بدين ، ح 5543 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 661 ، باب الإقرار في المرض ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 431 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 377 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 42 ، باب المريض يقرّ لوارث بدين ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 228 ، باب إقرار المريض للوارث بدين ، ح 5540 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 659 ، باب الإقرار في المرض ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 429 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 377 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 3.

ورواية أبي ولاّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل مريض أقرّ عند الموت لوارث بدين له عليه قال : « يجوز ذلك ». قلت : فإن أوصى لوارث بشي ء قال : « جائز ». (1)

وظاهر هذه الرواية وإن كان مطلقا بالنسبة إلى كون ما أقرّ به أزيد من الثلث أو أقل أو مساويا ، ولكن يقيّد برواية إسماعيل بن جابر بكونه دون الثلث.

ورواية البرقي عن سعد بن سعد ، عن الرضا علیه السلام ، قال : سألته عن رجل مسافر حضره الموت ، فدفع مالا إلى أحد من التّجار فقال له : إنّ هذا المال لفلان بن فلان ليس له فيه قليل ولا كثير فادفعه إليه يصرفه حيث يشاء ، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمر ولا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال : « يضعه حيث شاء ». (2)

ورواية الحلبي قال : سئل أبو عبد اللّه عن رجل أقرّ لوارث بدين في مرضه أيجوز ذلك؟ قال : « نعم إذا كان مليا ». (3)

ورواية أبي أيّوب عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل أوصى لبعض ورثته أنّ له عليه

ص: 406


1- « الكافي » ج 7 ، ص 42 ، باب في المريض يقرّ لوارث بدين ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 660 ، باب الإقرار في المرض ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 430 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 377 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 63 ، باب النوادر ، ح 23 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 662 ، باب الإقرار في المرض ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 378 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 41 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 229 ، باب إقرار المريض للوارث بدين ، ح 5541 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 159 ، ح 655 ، باب الإقرار في المرض ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 111 ، ح 425 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 378 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 7.

دينا؟ فقال : « إن كان الميّت مريضا فأعطه الذي أوصى له » (1).

ومضمرة سماعة قال : سألته عمّن أقرّ للورثة بدين عليه وهو مريض؟ قال : « يجوز عليه ما أقرّ به إذا كان قليلا ». (2)

ومكاتبة محمّد بن عبد الجبّار قال : كتبت إلى العسكري علیه السلام امرأة أوصت إلى رجل وأقرّت له بدين ثمانية آلاف درهم ، وكذلك مالها أقرّت به للموصى إليه ، وأشهدت على وصيّتها ، وأوصت أن يحجّ عنها من هذه التركة حجّتان ، وتعطى مولاة لها أربعمائة درهم ، وماتت المرأة وتركت زوجا فلم ندر كيف الخروج من هذا ، واشتبه علينا الأمر وذكر كاتبت أنّ المرأة استشارته فسألته أن يكتب لهم ما يصحّ لهذا الوصيّ فقال لها لا تصحّ تركتك لهذا الوصي إلاّ بإقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود ، وتأمريه بعد أن ينفذ ما توصيه به وكتبت له بالوصيّة على هذا وأقرّت للوصي بهذا الدين فرأيك أدام اللّه عزّك في مسألة الفقهاء قبلك عن هذا وتعريفنا ذلك لنعمل به إن شاء اللّه؟ فكتب بخطّه : « إن كان الدين صحيحا معروفا مفهوما فيخرج الدين من رأس المال إن شاء اللّه ، وإن لم يكن الدين حقّا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف » (3).

ورواية عليّ بن مهزيار قال : سألته عن رجل له امرأة لم يكن له منها ولد ، وله

ص: 407


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 657 ، باب الإقرار في المرض ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 378 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 8.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 658 ، باب الإقرار في المرض ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 111 ، ح 428 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 379 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 9.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 161 ، ح 664 ، باب الإقرار في المرض ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 113 ، ح 433 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 379 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 10.

ولد من غيرها ، فأحبّ أن لا يجعل لها في ماله نصيبا ، فاشهد بكلّ شي ء له في حياته وصحّته لولده دونها ، وأقامت معه بعد ذلك سنين ، أيحلّ له ذلك إذا لم يعملها ولم يتحلّلها وإنّما عمل به على أنّ المال له يصنع به ما شاء في حياته وصحّته؟ فكتب علیه السلام : « حقّها واجب ، فينبغي أن يتحلّلها ». (1)

ورواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ علیهم السلام : « إنّه كان يرد النحلة في الوصيّة وما أقرّ به عند موته بلا ثبت ولا بيّنة ردّه ». (2)

ورواية مسعدة بن صدقة ، عن جعفر ، عن أبيه علیهماالسلام قال : « قال عليّ علیه السلام : لا وصية لوارث ولا إقرار له بدين ». (3)

فهذه الأخبار الكثيرة التي يمكن ادّعاء تواترها إجمالا ظاهرة في عدم نفوذ الإقرار من المريض الذي حضره الموت في الأزيد من الثلث.

وفيه : أوّلا : أنّ الإقرار غير التبرّعات المنجّزة وخارج عنها موضوعا ، لأنّ التبرّعات المنجّزة أو العقود والمعاملات المحاباتيّة في حال المرض عبارة عن إنشاء تمليك منجّز غير معلّق على موته بغيره ، فهو بهذا الإنشاء فعلا أي في وقت الإنشاء يخرج بعض ما يملكه أو تمامه عن ملكه ، ويدخله في ملك شخص آخر.

وأمّا الإقرار فهو عبارة عن الاعتراف بكون حقّ - من دين أو عين أو حقّ - ثابتا في ما هو تحت سلطنته ، أو في ذمّته ، أو على عهدته من ذي قبل ، ففرق واضح

ص: 408


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 162 ، ح 667 ، باب الإقرار في المرض ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 379 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 11.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 249 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 5592 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 161 ، ح 663 ، باب الإقرار في المرض ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 432 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 380 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 12.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 162 ، ح 665 ، باب الإقرار في المرض ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 113 ، ح 434 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 380 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 13.

بينهما إذ الإقرار ليس تصرّفا جديدا في ماله كي يقال بأنّه محجور عليه بالنسبة إلى الأزيد من ثلث ماله ، بل هو إخبار عن دينه السابق على هذه الحالة التي حجر عليه الشارع في الأزيد من الثلث.

إذا عرفت ما ذكرنا تعلم أنّه لا منافاة بين أن يفتي الفقيه في باب الإقرار بعدم نفوذه في الزائد على الثلث ويفتي في باب التبرّعات المنجّزة والعقود المحاباتيّة بالنفوذ من الأصل أو بعكس هذا ، إذ لا ربط بين المسألتين.

وثانيا : أنّ في مسألة الإقرار في مرض الموت ليس من المسلّم أنّه لا ينفذ في الأزيد من الثلث دائما ومطلقا ، ولا أنّه ينفذ في مقدار الثلث دائما ومطلقا ، بل الأقوال فيها كثيرة ، وقيل بأنّها عشرة ، وذلك لاختلاف الروايات الواردة في هذا الباب ، وقد تقدّم ذكرها آنفا.

ففي بعضها كرواية العلاء بيّاع السابري قيّد النفوذ في جميع المال بكون الامرأة المقرّة مأمونة غير متّهمة ، وعلّل ذلك بقوله علیه السلام : « فإنّما لها من مالها ثلثه ». والظاهر أنّ مراده علیه السلام من هذا الكلام أنّه إذا لم تكن مأمونة يمكن أن تكون في إقرارها كاذبة ، فتكون النتيجة أنّ إقرارها صار سببا لخروج جميع التركة من يد الورثة ، مع أنّها لا تملك أزيد من ثلث تلك التركة.

إن قلت : هذا الكلام الأخير منه علیه السلام يدلّ على أنّ المنجّزات لا تخرج من الأصل ، لأنّه لا يملك في المرض الذي يموت فيه تمام ماله ، بل له الثلث.

قلنا : إنّ المراد أنّها إذا لم تكن مأمونة ، واحتملنا أن تكون كاذبة في إقرارها ، فيكون إقرارها خبرا كاذبا وليس تبرّع ولا عقد محاباتي في البين بحيث أنّها تنشأ فعلا تمليك مالها لتلك الفلانة ، بل غاية ما يمكن أن يقال في حقّها إنّها توصي بإعطاء جميع مالها لتلك الفلانة بعد مماتها ولكن بصورة الإقرار ، لعلمها بأنّ الوصيّة لا تنفذ في الأزيد من الثلث ، فلذلك تظهر ما تريد بصورة الإقرار كي يصل إليها تمام المال ، وإلاّ

ص: 409

فليس مرادها أن يعطى المال لتلك الامرأة الفلانية في حياتها ، فيكون إقرارها لها في الحقيقة وصيّة لها.

ومعلوم أنّ الميت ليس له التصرّف في ماله بعد موته في الأزيد من الثلث ، أي يكون تصرّفه في ماله وإن كان في حال حياته ، ولكن يكون ظرف انتقال المال إلى الطرف بعد موته ، وهذا معنى الوصيّة ، وهو مقابل للمنجّزات ، لأنّ المنجّز التمليك وتملّك الطرف الاثنان في حال الحياة ، ويكون كسائر معاملاته في حال صحّته.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ جميع موارد إقرار المريض إذا كانت إقرارا واقعا حقيقيّا وكان صادقا ، فهذا واقعا مال المقرّ له ، ولا يخرج عن ملك المريض في عالم الثبوت شي ء كي يقال بالنفوذ في الأصل أو في الثلث ، وإن كان كاذبا فليس للمقرّ له شي ء كي يقال بأنّه من الأصل أو من الثلث.

إذا عرفت ذلك تعرف أنّ التفاصيل الكثيرة الواردة في الأخبار المتقدّمة كلّها ترجع إلى أنّه هل هناك أمارة على أنّ المقرّ صادق في إقرار أم لا.

مثلا الفرق بين أن يكون المقرّ له وارثا أو كان أجنبيّا يرجع إلى أنّه لو كان وارثا فهذا أمارة على كذب الإقرار ، وذلك لأنّ المريض الذي أشرف على الموت بعد أن رأى أنّ يده تنقطع عن أمواله بالموت ، فيجب أن ينتقل أمواله إلى من يحبّه أكثر ، ولا شكّ في أنّه يحبّ أولاده أكثر من الأجنبيّة التي صارت من ورثته بواسطة تزوّجه لها قبل كم يوم ، خصوصا إذا لم يدخل بها أو وإن دخل بها ولكن ليس له ولد منها ويدري بأنّ الوصيّة لا تنفذ في الأزيد من الثلث ، فيقرّ بأنّ جميع ماله لأولاده مثلا.

وأمّا الروايات التي قيد فيها نفوذ الإقرار بأن لا يكون المقرّ متّهما ، فأمرها فيما ذكرنا واضح لا يحتاج إلى البيان.

ورواية الحلبي التي يقول الإمام علیه السلام فيها « نعم إذا كان مليّا » يعني إذا كان مليّا بفقد إقراره ، وذلك لأنّ كون المريض المقرّ مليّا أمارة على صدقه في إقراره ، لأنّ الملي

ص: 410

يصل إلى وارثه ما يكفيه من إرثه ، فلا يحتاج إلى أن يقرّ المريض كاذبا بالمال ، فتكون ملاءته أمارة على صدقه.

ورواية أبي أيّوب التي يقول علیه السلام فيها « إن كان الميّت مرضيّا فأعطه الذي أوصى له » أي ما أقرّ له بالدين كما هو المذكور في نفس الرواية ، وواضح أنّ كونه مرضيّا أمارة صدقه في إقراره.

ورواية سماعة التي يقول علیه السلام فيها « يجوز عليه ما أقرّ به إن كان قليلا » يعني إذا كان المقرّ به شيئا قليلا ، فلا داعي له على الكذب ، فهو صادق في إقراره.

وأمّا مكاتبة محمّد بن عبد الجبّار إلى مولانا العسكري علیه السلام فأوّلا أمارات كونها تقيّة بادية وظاهرة عليها ، وقوله علیه السلام فيها « وإن لم يكن الدين حقّا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف » ظاهر بل صريح في ما استظهر من تلك الروايات ، أي الروايات التي وردت في باب إقرار المريض لوارثه أو لأجنبي ، وهو أنّه لو كانت أمارة صدق لإقراره وأنّه صادق في إقراره يؤخذ به ، وإلاّ يكون وصيّته يخرج من الثلث ، كفى أو لم يكف.

والسرّ في ذلك : أنّ نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم من جهة أنّ العاقل لا يقدم على ما هو ضرر عليه بلا داع أهمّ من ذلك الضرر في نفسه ، والأمارات المذكورة في هذه الروايات لبيان أنّ المورد مورد جريان هذه القاعدة. فإذا كان مورد الجريان تجري وإلاّ ليس بإقرار ، بل صرف وصيّة ويخرج من الثلث ، فلا ربط لهذه الروايات بباب المنجّزات.

وأمّا القول المختار ، أي خروج المنجّزات من أصل التركة فلوجوه :

الأوّل : الإجماع.

وفيه : المنع صغرى وكبرى.

ص: 411

أمّا الصغرى ، فلكثرة المخالفين حتّى ادّعى بعضهم الإجماع على الخلاف ، ولكن المحقّق أنّه - أي القول بالخروج من الثلث - ذهب إليه جميع كثير من أعاظم الأصحاب كالشهيدين ، (1) والفاضلين ، (2) وجامع المقاصد ، (3) بل في المسالك نسبته إلى الأكثر ، بل نسب إلى عامّة المتأخّرين. (4)

وأمّا الكبرى ، فلأنّ الإجماع في مثل هذه الموارد - التي يدّعي الطرفان تواتر الروايات كلّ واحد منهما على مذهبه - لا حجّية له قطعا ، لما ذكرنا في الأصول من أنّ حجّية الإجماع وكونه دليلا على الحكم الشرعي موقوف على أن لا يكون للمجمعين والمتّفقين مدرك معيّن ، ومتكئا معلوم ، من عقل أو نقل ، أي الآيات والروايات ، وإلاّ لا بدّ من المراجعة إلى تلك المدارك وأنّها تدلّ على المدّعى أو لا تدلّ. ففي مثل هذا المقام الذي يدّعي كلّ واحد من الطرفين وجود روايات متواترة على مدّعاه لا يبقى مجال للتمسّك بالإجماع.

الثاني : قاعدة السلطنة ، أي عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » خرج منها التصرّفات المعلّقة على الموت ، ويبقى المنجّزة تحت العموم.

الثالث : استصحاب ما كان للمالك حال الصحّة من نفوذ تصرّفاته المنجّزة في جميع ماله ، وإن كانت تبرّعية أو معاملة محاباتيّة. وهذا الاستصحاب تنجيزي لا تعليقي ، لأنّه استصحاب صفة وحالة كانت للمالك قبل أن يمرض.

الرابع : الأخبار الواردة في الباب :

منها : رواية سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : « هو ماله يصنع ما شاء به إلى أن

ص: 412


1- « الدروس » ج 2 ، ص 302 ، « المسالك » ج 1 ، ص 242.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 102 ، « مختصر النافع » ص 167 ، « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 334.
3- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 94.
4- « المسالك » ج 1 ، ص 464.

يأتيه الموت » (1).

وهذه الرواية رواها في الوسائل بطريق آخر من سماعة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام مثل ما ذكرنا ، وقال صاحب الوسائل : وزاد - أي أبو بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام - : « أنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّا إن شاء وهبه ، وإن شاء تصدّق به ، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت ، فإن أوصى به فليس له إلاّ الثلث ، إلاّ أنّ الفاضل في أن لا يضيّع من يعوله ولا يضرّ بورثته ». (2)

ومنها : رواية عمّار بن موسى الساباطي أنّه سمع أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « صاحب المال أحقّ بماله ما دام فيه شي ء من الروح يضعه حيث شاء ». (3)

ومنها : رواية أخرى له أيضا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام : « الرجل أحقّ بماله ما دام فيه الروح إن أوصى به كلّه فهو جائز ». (4)

قال في الوسائل : حمله الشيخ وجماعة على التصرّفات المنجّزة ، وحمله الصدوق على من لا وارث له. (5)

ص: 413


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحق بماله ما دام حيّا ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 186 ، ح 749 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 381 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 381 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، حكم التصرّفات المنجزة في مرض الموت.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 7 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 176 ، ح 748 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 381 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 4.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 7 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 202 ، باب في أنّ الإنسان أحقّ بماله... ، ح 5468. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 187 ، ح 753 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 459 ، باب أنّه لا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 5.
5- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 5 ، وانظر : « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ذيل ح 460.

ومنها : رواية ثالثة لعمّار بن موسى الساباطي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : الميّت أحق بماله ما دام فيه الروح يبين به؟ قال : « نعم فإن أوصى به فليس له إلاّ الثلث ». (1)

ومنها : رواية رابعة لعمّار بن موسى الساباطي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الرجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه ، فقال : « إذا أبانه جاز ». (2)

وهذه الرواية الأخيرة لا تدلّ على ما نحن بصدده من نفوذ المنجّزات من الأصل ، لأنّه من الممكن أن يكون البعض هو الثلث أو الأقلّ منه ، وإن كان ظاهر القضيّة الشرطيّة - حيث علّق الجواز على الإبانة ، أي المنجّز - كون ذلك البعض أزيد من الثلث ، وإلاّ لو كان بمقدار الثلث أو أقلّ منه لم يكن وجه لهذا التعليق ، لأنّه كان جائزا أبان أو لم يبن ، لأنّ نفوذ الوصيّة في الثلث وفيما هو أقلّ منه إجماعي بل قطعي ، لتواتر الروايات على ذلك.

وعلى كلّ حال رواية سماعة ، وروايات الثلاث لعمّار دلالتها على ما ندّعي من نفوذ المنجّزات من الأصل واضحة لا حاجة لها إلى الشرح والإيضاح.

ولذلك لم يستشكل في دلالتها جامع المقاصد (3) الذي يقول بنفوذ المنجّزات مثل الوصايا المعلّقة على الموت من الثلث ، وينكر كونه من الأصل ، بل يستشكل في سندها بأنّ عمّار وسماعة ضعيفان ، لكونهما خارجين عن طريق الحقّ ، لأنّ عمارا فطحي وسماعة واقفي ، ولذلك لم يعتبر روايتها في مقابل الصحاح المعتبرة ، كصحيحة

ص: 414


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 188 ، ح 756 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 7.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 190 ، ح 764 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 461 ، باب في أنّه لا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 10.
3- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 95.

عليّ بن يقطين ، وصحيحة يعقوب بن شعيب.

ولكن قد عرفت فيما سبق حال هذه الأخبار الصحيحة منها ، وغير الصحيحة. وقد جعلناها ستة طوائف ، وأجبنا عن كلّ طائفة بما يناسبها. وقد عرفت أنّه لا دلالة لها على إخراج المنجزات عن الثلث ، فضلا عن أن يكون راجحا في مقام المعارضة على أخبار التي لا ريب في دلالتها على إخراج المنجّزات من الأصل ، كموثقات عمّار وسماعة هذا.

مع أنّ عمارا وسماعة وثّقهما أصحاب الرجال والحديث ، بل ينقل صاحب جامع الرواة عن الخلاصة والنجاشي ثقة ثقة في حقّ سماعة ، (1) وفي حقّ عمّار أيضا ينقل عن الكتابين المذكورين أنّه وأخواه « قيس » و « صباح » كانوا ثقاة في الرواية. (2)

هذا مع أنّه يروي الصدوق عن صفوان ، عن مرازم في الرجل يعطي الشي ء من ماله في مرضه ، فقال : إذا أبان فهو جائز ، (3) وليس في الطريق لا سماعة ولا عمّار ، وصفوان ومرازم كلاهما ثقتان. (4)

والمراد من الإبانة على الظاهر هو فصله عن نفسه بحيث لا يبقى بينه وبين ذلك المال علاقة ، وهذا عبارة أخرى عن إخراجه عن ملك نفسه بعقد منجّز بهبة أو صدقة أو غير ذلك ، بخلاف الوصيّة فإنّ الموصى به ما دام حيّا يكون ملكه كسائر أملاكه.

إن قلت : إنّ الشي ء من ماله يطلق على القليل والكثير ، بل له ظهور في القليل ، فربما يكون المراد هو الثلث أو أقل منه ، ولا خلاف في النفوذ في الثلث أو ما كان أقلّ منه.

ص: 415


1- « جامع الرواة » ج 1 ، ص 384. وهو في « الخلاصة » ص 228. وفي « رجال النجاشي » ص 193 ، رقم 517.
2- « جامع الرواة » ج 1 ، ص 613.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 202 ، باب في أنّ الإنسان أحقّ بماله. ، ح 5467. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 6.
4- « رجال النجاشي » ص 197 ، رقم 524 ، وص 424 ، رقم 1138.

قلنا : إذا كان كذلك فيكون الشرط لغوا ، لأنّ نفوذ ما هو بقدر الثلث أو ما هو أقلّ منه ليس مشروطا بالإبانة قطعا ، بل ينفذ مطلقا أبان أو لم يبن ، وكان من قبيل الوصيّة ، فالرواية تدلّ على النفوذ إن كان منجّزا بالمنطوق ، وعلى عدمه إن كان من قبيل الوصيّة بالمفهوم.

ومنها : ما رواه الكليني قدس سره مرسلا قال : وقد روي أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال لرجل من الأنصار أعتق مماليكه لم يكن له غيرهم ، فعابه النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : « ترك صبيّة صغارا يتكفّفون الناس ». (1)

ورواه الصدوق عن هارون بن مسلم نحوه إلاّ أنّه قال : « فأعتقهم عند موته » (2) فيكون على المقصود أدلّ ، لارتفاع احتمال كون عتقهم في حال الصحّة ، فيكون خارجا عن محلّ البحث.

ثمَّ إنّ الإشكال في موثّقات عمّار بأنّها مطلقات من حيث كون التصرّف في حال الصحّة والمرض فيقيّد بحال الصحّة بالروايات التي تدلّ على إخراج تصرّفات المريض في حال المرض من الثلث.

ففيه أوّلا : أنّا قد ذكرنا فيما تقدّم من عدم دلالة تلك الأخبار على نفوذ المنجّزات من الثلث كي تصلح لتقييد الموثّقات بحال الصحّة.

وثانيا : قوله علیه السلام في إحدى الموثّقات « صاحب المال أحقّ بماله ما دام فيه شي ء من الرّوح » نصّ في أنّه وإن كان مريضا قريب الموت ، فليس من قبيل المطلقات القابلة للتقييد ، فإن كان هناك ما يدلّ على إخراج المنجّزات من الثلث يقع بينه وبين الموثّق التعارض.

ص: 416


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 9.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 186 ، باب ما يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5427. « علل الشرائع » ص 566 ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 9.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ في التبرّعات المنجّزة التي تصدر من المريض الذي يموت في ذلك المرض هو إخراجها من أصل المال وجميع التركة ، لا خصوص الثلث كالوصيّة. ومع ذلك كلّه مراعاة الاحتياط أولى بل لا ينبغي تركه ، لأنّ مستند القائلين بإخراجها من الثلث كالوصيّة قوّى جدّا ، والقائلون به من العظماء والأساطين قدّس اللّه أسرارهم.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطنا ً

ص: 417

ص: 418

فهرس الموضوعات

ص: 419

ص: 420

56 - قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضا

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها : ... 9

الأوّل : قوله تعالى ( فرهان مقبوضة ) ... 9

الثاني : رواية الباقر علیه السلام ... 9

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة ... 10

بيان حقيقة الرهن عرفا وشرعا ... 10

هل القبض دخيل في حقيقة الرهن أو شرط لصحته ... 12

فروع كون القبض شرطا لصحة الرهن ... 15

منها : لو قبضه من غير إذن الراهن ... 15

منها : لو مات الراهن أو جن قبل القبض ... 16

فرع : عدم بطلان الرهن فيما لو أخذ الراهن بعد قبضه بإذن من المرتهن أو بدون إذنه 17

فرع : لو رهن ما هو في يد المرتهن ولو كانت يده غصبا لزم الرهن ... 18

فرع : لو رهن مالا غائبا عن مجلس الرهن ... 19

فرع : لو كان ما جعله رهنا مشاعا فلا يجوز تسليمه إلى المرتهن إلا برضاء شريكه 20

فرع : لا إشكال في صحة رهن الأعيان المملوكة ... 21

فرع : لا يجوز رهن مالا يملك ... 22

ص: 421

فرع : لو رهن المشاع نفذ في حصته ويقف في حصة الغير على إجازته... 22

فرع : عدم جواز رهن المصحف أو العبد المسلم عند الكافر ... 23

فرع : لو رهن ما يسرع إليه الفساد ... 24

فرع : يجوز أن لا يكون الرهن ملكا للراهن ... 25

فرع : لو رهن عصيرا فصار خمرا عند المرتهن ... 26

فرع : لو رهن على دينه مالا ثم استدان من ذلك المرتهن ... 28

فرع : الرهن لازم من طرف الراهن وجائز من طرف المرتهن ... 29

فرع : الرهن أمانة مالكية عند المرتهن ... 33

فرع : يجوز للمرتهن اشتراء الرهن من الراهن ... 37

فرع : لا يجوز للمرتهن التصرف في الرهن بدون إذن الراهن ... 38

فرع : لو كان للرهن مؤنه فانفق المرتهن عليه جاز له الانتفاع عوضا عن نفقته 39

فرع : جواز استيفاء المرتهن دينه من الرهن ... 41

فرع : لو مات المرتهن ولم يعلم بوجود الرهن في تركته ... 43

فرع : لو أفلس الراهن أو مات ، فهل المرتهن مقدم على الديان؟ ... 47

فرع : لو أذن المرتهن ببيع العين المرهونة ... 49

فرع : لو أذن الراهن للمرتهن في بيع الرهن قبل حلول الاجل وبعده ... 50

فرع : هل يصح شرط المرتهن على الراهن أن يكون الرهن مبيعا بالدين أن لم يؤد الدين إلى أجل معين ، أو لا؟ 51

فرع : منافع العين المرهونة لمالك الرهن ... 53

فرع : إذا كان الرهن من مستثنيات الدين ... 57

ص: 422

فرع : عدم جواز بيع الزائد من الرهن فيما لو وفي بعضه بالدين ... 58

فرع : لا تبطل الرهانة بموت الراهن ولا المرتهن ... 59

فرع : إذا ظهر للمرتهن أمارات الموت يجب عليه الوصية بالرهن ... 59

فرع : لو استدان من شخص دينارا برهن ودينارا بلا رهن ... 62

فرع : لا إشكال في تحقق الرهن بالعقد والمعاطاة ... 63

فرع : لو اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين ... 66

فرع : لو اختلفا في أن المقبوض وديعة أو رهن ... 70

فرع : لو رجع المرتهن عن الاذن في البيع واختلفا في أن الرجوع قبل البيع أو بعده فالقول قول المرتهن 74

فرع : ليس للمرتهن الزام الراهن بالوفاء بعين الرهن ... 78

فرع : إذا ادعى المرتهن رهانة شئ معين وادعى الراهن غيره ... 83

فرع : لو اختلفا في رد الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه ... 84

فرع : إذا رهن مالا مشاعا ... 86

فرع : لو أرهن بيضة على دين فاحضنها المرتهن ... 88

فرع : لو رهن المستعير ما استعاره بدون إذن مالكه ... 92

فرع : إذا انفك الرهن بأداء الدين أو ابراء المرتهن ... 93

57 - قاعدة الزعيم غارم

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ... 97

الأوّل : الآية الكريمة ... 97

ص: 423

الثاني : الحديث ... 98

الثالث : الاخبار ... 98

الرابع : الاجماع ... 99

الخامس : بناء العقلاء ... 99

الجهة الثانية : شرح مفادها ... 99

المقام الأوّل : في الضمان ... 101

البحث الأوّل : في شرائط الضمان ... 103

البحث الثاني : في شرائط صحة الضمان ... 106

فرع : الضمان المؤجل للدين الحال جائز إجماعا ... 108

فرع : يجوز رجوع الضامن على المضمون عنه فيما أداه ... 110

فرع : يجوز ضمان مال الجعالة ... 113

فرع : يجوز ضمان نفقة الزوجة على الزوج ... 116

فرع : هل يجوز ضمان الأعيان المضمونة أم لا؟ ... 117

فرع : يجوز الترامي في الضمان ... 120

فرع : لو ضمن اثنان أو أكثر ما في ذمة شخص معين ... 121

فرع : هل ينفك الرهن بالضمان أم لا؟ ... 122

فرع : صحة الضمان لو قال للدائن : علي ما عليه بنحو البت ... 123

المقام الثاني : في الحوالة وفروعها : ... 123

فرع : يعتبر في صحة الحوالة أن يكون المال ثابتا في ذمة المحيل ... 124

فرع : يعتبر في صحة الحوالة رضا المحال عليه ... 125

فرع : هل الحوالة على البرئ صحيحة ... 125

فرع : هل الحوالة بيع أم لا؟ ... 126

ص: 424

فرع : تصح الحوالة سواء كان المال الذي في ذمة المحيل عينا أو منفعة أو عملا 126

فرع : إذا تحققت الحوالة برءت ذمة المحيل عن الدين ... 127

فرع : لو كان المحتال جاهلا بإعسار المحال عليه له الفسخ والرجوع إلى المحيل 129

فرع : جواز رجوع المحال عليه إلى المحيل بالمال الذي أحال عليه ... 130

فرع : عدم جواز فسخ الحوالة إلا في حالة إعسار المحال عليه حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك 132

فرع : حال المحيل بعد أن أحال دينه حال الأجنبي ... 132

فرع : لا يجب على المحتال قبول الحوالة ... 132

فرع : تبرأ ذمة المحيل بمحض وقوع الحوالة الصحيحة ... 133

فرع : جواز ترامي الحوالات ... 134

فرع : لا تصح الحوالة إلا بشرطين : اتفاق الحقين في الجنس ، وكون الحق مما يصح فيه أخذ البدل قبل قبضه 137

فرع : جواز الحوالة بما لا مثل له - القيمي - ... 140

فرع : لو اختلفا - المحيل والمحتال - في الإحالة هل هي حوالة أو وكالة؟ فالقول قول المحيل 141

فرع : تصح الحوالة لو أحاله على اثنين كل واحد منهما ضامنا لصاحبه... 146

فرع : جواز شرط الاجل في الحوالة ... 149

المقام الثالث : في الكفالة وفروعها : ... 150

فرع : شروط صحة الكفالة ... 151

ص: 425

فرع : تصح الكفالة حالة ومؤجلة ... 156

فرع : للمكفول له مطالبة الكفيل باحضار المكفول عاجلا ، إذا كانت الكفالة حالة أو مطلقة 157

فرع : من أطلق غريما عن يد صاحب الحق قهرا ضمن احضاره أو أداء ما عليه 160

فرع : لا كفالة في الحد ... 163

فرع : عقد الكفالة لازم ولا يجوز فسخه إلا بالإقالة أو باشتراط الخيار للكفيل أو المكفول له 164

فرع : إذا أحضر الكفيل الغريم قبل الاجل ، هل يجب على المكفول له تسلمه؟ 165

فرع : لو سلمه وكان المكفول له ممنوعا من تسلمه لم يبرأ الكفيل ... 166

فرع : إذا كان المكفول غائبا ، معلوم المكان أو مجهول المكان ... 166

فرع : في حالة عدم تعين مكان التسليم ينصرف إلى بلد المكفول له... 167

فرع : إذا تكفل رجلان برجل واحد ثم سلمه أحدهما ثم هرب المكفول ، فهل تبرأ ذمة الاخر؟ 168

فرع : إذا مات المكفول برأ الكفيل ، وكذلك لو مات الكفيل ... 169

فرع : لو انتقل الحق بأحد النواقل الشرعية يبرأ الكفيل ... 171

فرع : يصح ترامي الكفالات ... 171

فرع : يكره التعرض للكفالات لروايات تدل على الكراهة ... 172

58 - قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء

وفيها جهات من البحث :

ص: 426

الجهة الأولى : شرح ألفاظ القاعدة ، وبيان المراد منها ... 177

الجهة الثانية : مدرك القاعدة وبيان الدليل عليها ... 178

الجهة الثالثة : شروط القاعدة ... 180

فرع : لو ادعى الشفيع غيبة الثمن ... 195

فرع : يثبت هذا الحق للغائب ... 196

فرع : الشفيع يأخذ المال المشاع بعد تحقق البيع بنفس الثمن ... 199

فرع : مورد حق الشفعة هو الاخذ من المشتري ... 201

فرع : لو تلف بعض المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة ... 202

فرع : لو باع الشفيع سهمه بعد البيع ... 205

فرع : هل يورث حق الشفعة أم لا؟ ... 206

فرع : لا تبطل الشفعة بتقايل المتبايعين ... 208

فرع : لا يحق للشفيع التبعيض في الاخذ إذا كان المال المشاع الذي تعلقت به الشفعة عينا واحدا 209

فرع : لو اشترى المال المشاع بثمن مؤجلا ... 211

فرع : لو باع الشريك سهمه المشاع في مرض موته محاباة ... 211

فرع : ربما يقال باعتبار علم الشفيع بمقدار الثمن قبل الاخذ بالشفعة... 211

فرع : لو تصرف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع ... 212

فرع في التنازع ... 215

59 - قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدرك القاعدة ... 221

ص: 427

الجهة الثانية : شرح ألفاظ هذه القاعدة ، وبيان المراد منها ... 222

الأمر الأوّل : في الوصيّة ... 223

فرع : الايجاب يصح بكل لفظ من أي لغة ... 225

فرع : الموصى به ينتقل إلى الموصى له بعد صدور الايجاب عن الموصى وبعد موته 228

فرع : هل لابد وأن يكون القبول بعد الموت أو يصح في حياة الموصى... 233

فرع : لو مات الموصى له قبل أن يقبل ... 238

فرع : لو رد الموصى له في حياة الموصي ، فهل تبطل الوصية؟ ... 239

فرع : لو رد الموصى له بعضا وقبل بعضا ، صح فيما قبله وتبطل فيما رده... 240

فرع : لا تصح الوصية في معصية ... 242

فرع : عقد الوصية جائز من الموصي وله الرجوع حتى شاء وما دام حيا... 243

الأمر الثاني : في الموصي ... 247

فرع : الشرائط المعتبرة في الموصي ... 247

فرع : لو جرح الموصي نفسه عمدا بما فيه هلاكها لم تصح وصيته في ماله ... 251

فرع : لا يجوز الوصية لغير الأب والجد من طرف الأب بأن يجعل القيم على الأطفال بعد موته أحدهما 253

الأمر الثالث : في الموصى به ... 255

فرع : لابد أن تكون العين الموصى بها ذات منفعة محللة ... 256

ص: 428

فرع : يشترط في الوصية العهدية أن يكون ما أوصى به عملا سائغا... 256

فرع : يشترط في الوصية أن لا يكون الموصى به زائدا عن الثلث ... 256

فرع : لو أجاز الوارث في حياة الموصي فيما زاد عن الثلث ... 260

فرع : هل إجازة الوارث بعد الوفاة هبة للموصى له أو تنفيذ للوصية ... 263

فرع : المراد من الثلث حال الوفاة لا حال الوصية ... 265

فرع : لو أوصى لرجل بثلث ماله - مثلا - ثم قتله قاتل فوصيته ماضية ... 267

فرع : لو أوصى بالمضاربة بتركته على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صح 270

فرع : لو أوصى بواجب غيره ... 275

فرع : لو أوصى لشخص بثلث ما يملك ولآخر بربعه ولثالث بسدسه ... 280

فرع : لو أوصى بثلثه لواحد وبثلثه لاخر كان ذلك رجوعا عن الأول إلى الثاني 281

فرع : لو أوصى بشئ واحد لاثنين وهو يزيد عن الثلث ... 284

فرع : لو أوصى بنصف ماله وأجاز الورثة ثم قالوا : ظننا أنه قليل قضى عليهم بما ظنوه واحلفوا على الزائد 284

الكلام في الوصايا المبهمة ... 287

فرع : لو أوصى بجزء من ماله ... 287

فرع : لو أوصى له بسهم من ماله كان للموصى له ثمنه ... 292

فرع : لو أوصى بشئ من ماله لرجل فله السدس ... 294

فرع : لو أوصى بوجوه فنسى الموصي وجها منها جعله الوصي في

ص: 429

وجوه البر أو يرجع ميراثا ... 295

فرع : لو أوصى باخراج بعض ولده من تركته ، فهل تقع هذه الوصية صحيحة؟ 297

فرع : لو أوصى لغيره بسيف وكان في جفن وعليه حلية ... 302

فرع : لو أوصى بلفظ مجمل لم يفسره الشرع رجع في تفسيره إلى الوارث ... 303

فرع : يستحب أن تكون الوصية بخمس ماله ... 305

في أحكام الوصيّة ... 306

الكلام في إثبات الوصية ...309

فرع : هل تثبت بشهادة أهل الذمة عند فقد البينة ... 310

فرع : لا إشكال في ثبوت الوصية بالمال بشهادة العدل الواحد ... 316

فرع : لا تثبت الوصية بالولاية إلا بشاهدين عدلين ... 318

فرع : لا تثبت بشهادة الوصي ما هو وصي فيه ... 318

الأمر الرابع : في الموصى له ... 320

فرع : لا خلاف بين الامامية في صحة الوصية للوارث والأجنبي ... 324

فرع : تصح الوصية للذمي مطلقا ... 324

فرع : إطلاق الوصية يقتضي السوية بين من أوصى لهم ... 327

فرع : إذا أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبه ... 329

فرع : تصح الوصية للحمل الموجود حال الوصية ... 330

فرع : لو أوصى في سبيل اللّه ... 331

الأمر الخامس : في الأوصياء ... 333

فرع : لو أوصى إلى عدل ففسق بعد موت الموصي ... 338

ص: 430

فرع : تصح الوصية إلى الصبي منضما إلى الكبير ... 340

فرع : لو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل ، فهل ينفرد الكبير بالتصرف أو يراجع الحاكم؟ 341

فرع : لا يشترط الذكورة في الوصي ... 342

فرع : لو أوصى إلى اثنين أو أكثر ... 342

فرع : الوصية عقد جائز فيجوز فسخها ... 347

فرع : لو ظهر عن الوصي عجز ... 349

فرع : لو ظهرت من الوصي خيانة ... 351

فرع : الوصي أمين ، فلو تلف المال في يده لا يضمن ... 353

فرع : لو كان للوصي دين على الميت جاز أن يستوفيه مما في يده - وهو وصي في أداء ديونه - أو يحتاج إلى إذن من الحاكم؟ ... 354

فرع : يجوز أن يشتري الوصي لنفسه من نفسه ... 356

فرع : إذا أذن الموصي للوصي أن يوصى ... 359

فرع : المرجع في اختلاف الورثة هو الحاكم ... 362

فرع : في ولاية الأب والجد من قبل الموصي ... 363

فرع : الشروط المعتبرة في الوصي هل تعتبر اتصاف الوصي بها حال العقد أو حال الوفاة؟ 365

فرع : يجوز للوصي على الصغار أخذ الأجرة ... 368

الكلام في منجّزات المريض ... 373

ص: 431

المجلد 7

هویة الكتاب

سرشناسه : بجنوردی، حسن، 1276 - 1353.

عنوان و نام پديدآور : القواعد الفقهیه/ تالیف محمد حسن البجنوردی؛ تحقیق مهدی المهریزی، محمدحسین الدرایتی.

الناشر : نشر الهادی

الطبع الأولی: 1419 ه ق - 1377 ه ش

مشخصات ظاهری : 7 ج.

الكمیة: 1000 نسخة

القواعد الفقهیه

الجزء السابع

آية الله العظمی السيد محمد حسن البجنوردی

تحقیق : مهدی المهریزی - محمدحسین الدرایتی

ص: 1

اشارة

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 7

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

فهرس الإجمالي

60- قاعدة: لاضمان علی المستعير...7

61- قاعدة: الاجارة أحد معايش العباد...55

60- قاعدة: الدين مقضي...181

60- رسالة في التبوبة...323

ص: 5

ص: 6

60- قاعدة لاضمان علی المستعیر

اشارة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأوّلين و الآخرين محمد و آله الطيبين الطاهرين المعصومين.

قاعدة لا ضمان على المستعير (1)

و من جملة القواعد الفقهيّة أنّه «ليس على المستعير ضمان إلاّ أن تكون العارية ذهبا أو فضّة، أو شرط عليه» .

و فيها جهات من البحث:

الأولى: في بيان المراد منها و شرح ألفاظها، الثانية: في الدليل عليها، الثالثة: في فروعها.

الجهة الأولى: في معنى العارية و فروعها

فالمراد من «الضمان» كون الشيء بما له من الماليّة في عهدة الضامن، فيجب أداؤه للمضمون له و تفريغ ذمّته عن حقّ الغير.

ص: 9


1- . «القواعد» ص 251، «المبادي العامّة للفقه الجعفري» ص 286.

و المراد من «المستعير» هو الشخص الذي أخذ عينا ذات منفعة لكي ينتفع بها مجّانا و بلا عوض، فلا بدّ من بيان معنى العارية و المعير و المستعير و العين المعارة و أحكامها و فروعها التي تترتّب عليها.

فنقول: قال في المسالك ناقلا عن الخطّابي في غريبه: أنّ اللغة الغالبة في العارية أن تكون مشدّدة و قد تخفّف (1)، و حكى عن الجوهري و ابن الأثير في نهايته أنّها منسوبة إلى العار، لأنّ طلبها عيب و عار على المستعير، و قيل: منسوبة إلى العارة التي هي مصدر ثان للإعارة، كالطاقة و الجابة للإطاقة و الإجابة (2).

و بناء على هذا القول يكون معنى العارية و الإعارة واحدا مثل الطاقة و الإطاقة، و قيل: بمعنى التعاور، أي الذي يأتي و يذهب إلى الإنسان أو يتداول الشيء بينهم، بمعنى أنّه يتحوّل من يد إلى يد.

و لكل واحد من هذه الأقوال و الاحتمالات وجه، و لكن الأظهر هو الاحتمالان الأوّلان، أي كونها منسوبة إلى العار أو إلى العارة، فتكون ياؤها مشدّدة، لأنّها ياء النسبة.

أقول: «العارية» عبارة عن تسليط شخص على عين ذات منفعة لكي ينتفع بها مجانا و بلا عوض. و هذا معنى العارية إذا أضيفت إلى المعير بالمعنى المصدري، فتكون العارية بناء على هذا بمعنى الإعارة الذي هو فعل المعير.

و الفرق بينها و بين الإجارة-بناء على ما هو المشهور من تعريف الإجارة بأنّها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم-من جهتين:

إحداهما: أنّ الإجارة تمليك المنفعة، و العارية صرف تسليط للانتفاع، لا أن

ص: 10


1- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 248، نقل عن الخطّابي، الخطّابي في «غريب الحديث» ج 3، ص 232.
2- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 248، حكى عن الجوهري و ابن الأثير، الجوهري في «الصحاح» ج 2، ص 761، ابن الأثير في «النهاية» ج 3، ص 320 مادة (عور) .

تكون المنفعة ملكا للمستعير. و يترتّب عليه آثار مذكورة في محلّه.

الثانيّة: أنّ جواز الانتفاع و استيفاء المنافع في العارية مجّاني و بلا عوض، و في الإجارة يكون بعوض معلوم.

و لا فرق في هذه الجهة الثانية بين أن تكون حقيقة الإجارة هي تمليك المنفعة كما هو المشهور، أو صرف التسليط على الانتفاع كما أنّه ربما يقال. و في إجارة الأعيان هما متّفقان في أنّ ما تعلّقا به لا بدّ و أن يكون عينا ذات منفعة محلّلة يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. و لعلّه إلى هذا يرجع قولهم: كلّما صحّت إعارته صحّت إجارته.

ثمَّ إنّ العارية حيث أنّ قوامها بإذن المالك أو من بيده الأمر-و في هذه الجهة بمنزلة المالك-فتكون جائزة من الطرفين، لأنّ المالك أو من هو بمنزلته متى رجع عن إذنه فتنتفي العارية لانتفاء ما به قوامها، فهي من العقود الإذنيّة إن صحّ القول بأنّها من العقود. و الغالب المتعارف عند الناس وقوعها بالمعاطاة، و إن صحّ وقوعها بالعقد أيضا. و لا فرق في كونها جائزة بين وقوعها بالعقد أو بالمعاطاة، لما ذكرنا من أنّ قوامها بالإذن، فإذا انتفى تنتفي. هذا هو معنى العارية و المراد منها.

و أمّا «المعير» فمفهومه بيّن لا يحتاج إلى بيان.

و يشترط فيه أن يكون جائز التصرّف، و لا يكون محجورا عليه بصغر، أو بفلس، أو بسفه، أو بجنون، أو بمرض يقع موته فيه، و ذلك لأنّه لو كان ممنوعا عن التصرّف يكون إذنه كالعدم، و تقدّم أنّ قوام العارية بالإذن، و بانتفائه تنتفي.

نعم قال في الشرائع: و لو أذن الولي جاز للصبيّ مع مراعاة المصلحة (1). و حكى في الجواهر ذلك عن الإرشاد و التحرير و اللمعة أيضا (2).

ص: 11


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 171.
2- «جواهر الكلام» ج 27، ص 160، العلاّمة في «إرشاد الأذهان» ج 1، ص 439، «تحرير الأحكام» ج 1، ص 269، الشهيد الأوّل في «اللمعة الدمشقية» ص 156.

و خلاصة استدلالهم على الجواز: أنّه بالإذن يخرج عن كونه ممنوع التصرّف فيرتفع المانع، و أيضا تقدّم أنّ قوام صحّة العارية بالإذن من قبل المالك أو من يكون بمنزلته و له الإذن، فإذا أذن الولي يحصل ذلك.

نعم اشترط بعضهم-مضافا إلى إذن الولي-أن يكون مميّزا كي يعرف مراعاة المصلحة.

و فيه: أنّ إذن الولي لا يجعل غير المشروع مشروعا، فبعد دلالة الآيات و الروايات على اشتراط نفوذ تصرّفات الصبي بصيرورته بالغا بأحد أسباب البلوغ من الإنبات أو الاحتلام أو إكمال خمسة عشر سنة هلاليّة، فبالإذن لا يصير غير النافذ نافذا. اللّهمّ إلاّ أن يدّعى انصراف الأدلّة عن صورة إذن الولي، و لكن لا شاهد لهذه الدعوى.

نعم دعوى الانصراف فيما إذا كان الصبي بمنزلة الآلة لا بعد فيها، و لكن ذلك خروج عن الفرض، إذ الفعل في هذه الصورة مستند إلى نفس الولي، كما أنّ الكتابة و القطع مستند إلى نفس الفاعل بالحمل الشائع، لا إلى القلم و السيف. هذا أوّلا.

و ثانيا: لو كان بمنزلة الآلة فلا فرق بين الصبي و المجنون و سائر موجبات الحجر و المنع عن التصرّف. نعم فيما إذا كان علّة عدم نفوذ معاملاته تعلّق حقّ الغير به مثل المملوك، أو بما يتصرّف فيه كالعين المرهونة، أو مال الغير، فبالإذن ممّن له الإذن يرتفع المانع.

و إن شئت قلت: إنّ إذن الولي له في التصرّف لا يخرج تصرّفاته عن كونها تصرّفا من قبله و إعطاء منه، و المفروض أنّ الشارع الأقدس منعه عن التصرّف حتّى في مال نفسه، و اشترط جواز تصرّفاته و نفوذها بالبلوغ و الرشد، فالدليل

ص: 12

الشرعي جعل إعطاءه كلا إعطاء، و إذنه كلا إذن.

فالإنصاف أنّ مقتضى الاحتياط الذي لا ينبغي تركه، هو اجتناب المستعير عن عارية الصبيّ و إن كان مأذونا من قبل وليّه.

و خلاصة الكلام: أنّه لا فرق بين العارية و سائر المعاملات خصوصا الجائزة منها، فإن قيل بجوازها و نفوذها مع إذن الولي فيمكن القول بجواز عاريته و نفوذها أيضا، و إلاّ فالتخصيص بها لا وجه له.

و أمّا «المستعير» فهو أيضا مبيّن من حيث المفهوم، و هو الذي يتسلّم العين لأجل الانتفاع بها.

و يشترط فيه أن يكون أهلا للانتفاع بالعين المعارة، فلا يصحّ إعارة المصحف للكافر بناء على عدم جواز انتفاعه به.

و الوجه واضح، لأنّ الغرض من العارية هو الانتفاع بالعين المعارة، فلو لم يجز الانتفاع بها شرعا فتكون كما لا منفعة لها أصلا، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، فإعارتها باطلة.

و كذلك إعارة الصيد للمحرم يكون باطلا، لعدم جواز الانتفاع به للمحرم لوجوب إرساله عليه، للروايات الواردة في هذا الباب، و قوله عليه السّلام فيها: «فخلّ سبيله» (1)، و قوله عليه السّلام فيها: «حرم إمساكه» (2).

و كذلك يشترط فيه أن يكون معيّنا، فلو أعار شيئا غير معيّن، كأحد هذين، أو بعض هؤلاء و أمثال ذلك لا يصحّ، و ذلك لعدم معلوميّة طرف الإيجاب و أنّه أنشأ

ص: 13


1- «الكافي» ج 4، ص 236، باب صيد الحرم و ما تجب فيه الكفارة، ح 19، «وسائل الشيعة» ج 9، ص 199، أبواب كفارات الصيد، باب 12، ح 6.
2- «الفقيه» ج 2، ص 262، ح 2370، باب تحريم صيد الحرم و حكمه، ح 21، «وسائل الشيعة» ج 9، ص 199، أبواب كفارات الصيد، باب 12، ح 4.

الإعارة لمن، فكما أنّه في الإجارة التمليك-بناء على أنّها تمليك أو التسليط بناء على القول الآخر-لغير المعيّن المردّد غير معقول، كذلك الحال في العارية تسليط المجهول المردّد غير مفهوم.

و أمّا لو كان المستعير معيّنا فلا مانع و إن كانوا متعدّدين، كما إذا قال: أعرت هذا الإبريق لأهل هذا المنزل ليستعملوا في تطهيرهم، أو يقول المعير: أعرت هذا القوري أو هذا القدر لهؤلاء العشرة ليطبخوا فيه الغذاء أو الشاي، و هكذا في سائر الأدوات في سائر الاستعمالات.

و مثل هذه العارية جارية و دائرة في الجيران، فيعير أحد الجيران مثلا للآخر ما يحتاج إليه تمام أهل المنزل الآخر من أدوات البيت.

نعم هل ذلك مختصّ بما إذا كان عددهم محصورا؟ أو يجوز و إن كانوا غير محصورين، فيجوز أن يقول: أعرت هذا الشيء لجميع الناس؟ الظاهر هو الثاني، فيصحّ أن يعير مثلا إبريقا للتطهير في محلّ عامّ من مسجد، أو خان وقف لجميع الناس ممّن يريد أن يصلّي هناك، أو ينزل فيه عابرا، كما هو الجاري في الرباطات أو خانات الوقف، و لا مانع من ذلك لا شرعا، لشمول العمومات لمثل هذا، فلا يبقى محلّ لجريان أصالة الفساد بناء على جريانها في أبواب المعاملات، و لا عقلا، لبناء العقلاء على صحّتها، و عدم محذور عقلي في البين، كما هو ظاهر.

نعم لا بدّ أن يكون أفراد عنوان العامّ غير المحصور ممّن يمكن أن ينتفعوا بتلك العين العمارة، و إلاّ يكون جعلها عارية لهم لغوا، فلو قال: أعرت هذا الشيء لجميع أهل العالم، ربما يكون لغوا، لعدم إمكان انتفاع جميع أهل العالم به عادة، إلاّ إذا قيّدها بقيد مثل أن يقول: أعرت هذا الإبريق لجميع أهل العالم ممّن يعبر بهذا الخان مثلا، أو يقول: أعرت هذا الكتاب لمطالعة جميع أهل العالم ممّن يأتي و يدخل هذه

ص: 14

المكتبة العامّة من أي صنف، و أهل أي مذهب أو دين أو ملّة كان.

و يشترط فيه أيضا أن يكون عاقلا بالغا، لعدم تحقّق المعاملة مع من هو مسلوب العبارة، فلو كان المستعير مجنونا أو صبيّا لا اعتبار بقبولهما و يكون كالعدم، فلا يمكن أن يكونا طرفا للعقد. و حيث أنّ العارية من العقود و المعاملات فلا بدّ أن يكون الموجب و القابل كلاهما قابلين لأن يكونا طرفا العقد، و لا يكونان مسلوبي العبارة.

و أمّا «العين المستعارة» فهي كلّ شيء يصحّ الانتفاع به مع بقاء عينه، و لا بدّ أن تكون المنفعة محللة مقصودة للعقلاء، فإذا لم تكن له منفعة أصلا، أو كان و لم تكن محلّلة مثل آلات اللّهو، و أواني الذهب و الفضة للأكل و الشرب، أو كان له منفعة محلّلة و لكن لم تكن مقصودة للعقلاء، كالانتفاعات الطفيفة التي لا يعتني العقلاء بها، أو كان جميع ذلك و لكن لا تحصل إلاّ بإتلاف عينه، كالمأكولات و المشروبات، ففي جميع ذلك لا تصحّ العارية، و في بعض تلك المذكورات و إن كان الإعطاء صحيحا بعنوان الإباحة، و لكن لا يصدق العارية على كلّ ما يصدق عليه إباحة المنافع.

و بناء على ما ذكرنا يصح، إعارة الحليّ للتزيّن، و الثياب للبس و الدوابّ و الخيل للركوب و الحمل، و كذلك السيّارات و الطيّارات للحمل و الركوب، و الدكاكين و الخانات للتكسّب، و المنازل للسكنى، و الأراضي و العقار للزرع و الغرس، و أدوات أهل الصناعة لمن يشتغل بتلك الصنعة، كأدوات النجّارين و الحدّادين و الحذّائين و سائر أرباب الحرف و الصنائع لهم، و الكتب للمطالعة و المصاحف و كتب الأدعية للقراءة، و الفراش لمن له حاجة إلى الفراش، و هكذا في جميع ما ينتفع به منفعة محلّلة للذي يريد الانتفاع بها.

نعم في بعض الأمثلة و المصاديق التي ذكرها الفقهاء تشكيك صغروي، و إلاّ فالضابط الكلّي الذي ذكرناه للعين المستعارة لا كلام فيه.

ص: 15

الجهة الثانية: في بيان الدليل على هذه القاعدة

و هو عدم الضمان لو تلفت العين المستعارة بدون تعدّ و لا تفريط، إلاّ إذا شرط المعير الضمان عليه، أو كان المعار ذهبا أو فضّة.

و هذه القاعدة مركّبة من عقدين: أحدهما إيجابيّ، و الآخر سلبيّ.

أمّا العقد السلبي فهو عدم الضمان على المستعير لو تلفت العين المستعارة بدون تعدّ و لا تفريط.

و العقد الإيجابي هو الضمان بأحد الأمرين: إمّا الشرط من طرف المعير، و إمّا كون المعار ذهبا أو فضّة.

فالأوّل-أي العقد السلبيّ-أي عدم الضمان فأوّلا من جهة أنّ العين المعارة أمانة مالكية، لأنّ المالك-أو من بيده الأمر الذي هو بمنزلة المالك-أعطاها للمستعير لكي ينتفع بها مجّانا، و معلوم أنّ الأمين مأمون و ليس عليه شيء، إلاّ إذا تعدّى و فرّط، فيخرج عن كونه أمينا و تصير يده عارية، فتشملها قاعدة «و على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» . كما أنّ الأمر كذلك في باب الإجارات أيضا، فالمالك هناك يسلم العين إلى المستأجر ليستوفى المنفعة التي ملكها بعقد الإجارة.

و خلاصة الكلام: أنّه في كلّ مورد كانت اليد مأذونة من قبل من له الإذن فاليد ليست موجبة للضمان. و قد تقدّم أنّها مع التعدّي و التفريط تخرج عن كونها أمانة، ففي مورد العارية حيث أنّ يد المستعير يد أمانة و مأذونة-كما هو المفروض-فلا توجب ضمانا لذي اليد.

و ثانيا: من جهة الأخبار الواردة في المقام:

ص: 16

منها: قوله عليه السّلام في صحيح الحلبي: «صاحب العارية و الوديعة مؤتمن» (1).

و قرن عليه السّلام في هذه الرواية العارية مع الوديعة التي ليس فيها الضمان قطعا ما لم يفرط.

و منها: أيضا عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلاّ أن يكون اشترط عليه» (2).

و منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العارية؟ فقال:

«لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا» (3).

و الظاهر أنّ المراد من الشرطيّة الأخيرة أي: لم يخرج عن كونه أمينا بالتعدّي و التفريط.

و منها: ما رواه أبو بصير المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى صفوان بن أميّة فاستعار منه سبعين درعا بأطرافها (4)فقال: أ غصبا يا محمد؟ فقال النبي: «بل عارية مضمونة» (5).

و منها: ما رواه محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن العارية

ص: 17


1- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 183، ح 805، باب العارية، ح 9، «الاستبصار» ج 3، ص 124، ح 441، باب العارية غير مضمونة، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 237، في أحكام العارية، باب 1، ح 6.
2- «الكافي» ج 5، ص 238، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 236، في أحكام العارية، باب 1، ح 1.
3- «الكافي» ج 5، ص 239، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 5، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 182، ح 801، باب العارية، ح 4، «الاستبصار» ج 3، ص 124، ح 443، باب ان العارية غير مضمونة، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 236، في أحكام العارية، باب 1، ح 3.
4- «الكافي» ج 5، ص 240، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 10، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 183، ح 803، باب العارية، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 236، في أحكام العارية، باب 1، ح 4.
5- «الكافي» ج 5، ص 240، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 10، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 183، ح 803، باب العارية، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 236، في أحكام العارية، باب 1، ح 4.

يستعيرها الإنسان فتهلك أو تسرق؟ فقال: «إن كان أمينا فلا غرم عليه» (1).

و منها: ما رواه محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام: قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل أعار جارية فهلكت من عنده و لم يبغها غائلة، فقضى أن لا يغرمها المعار و لا يغرم الرجل إذا استأجر الدابّة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة» (2).

و منها: ما رواه مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: سمعته يقول: «لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت، أو سرقت، أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا» (3).

و دلالة هذه الروايات على عدم الضمان في العارية على المستعير إن كان أمينا و لم يظهر منه تعدّ و لم يصدر عنه تفريط واضح لا يحتاج إلى البيان و الشرح و الإيضاح، و هذا هو العقد السلبي لهذه القاعدة.

و أمّا بالنسبة إلى العقد الإيجابي-أي ثبوت الضمان فيما إذا فرط و خرج عن كونه أمينا-أيضا يظهر من هذه الروايات بمفهوم قوله عليه السّلام: «إذا كان أمينا» حيث أنّه عليه السّلام اشترط عدم الضمان بكونه أمينا و لم يتعدّ و لم يفرط، مضافا الى أنّه مقتضى قاعدة «و على اليد» بعد ما خرجت عن كونها يد أمانة بعد التعدّي و التفريط.

و أمّا ثبوت الضمان فيما إذا اشترط:

فأوّلا لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» (4)، فيجب الوفاء بكلّ شرط سائغ،

ص: 18


1- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 182، ح 779، باب العارية، ح 2، «الاستبصار» ج 3، ص 124، ح 442، باب أنّ العارية غير مضمونة، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 237، في أحكام العارية، باب 1، ح 7.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 182، ح 800، باب العارية، ح 3، «الاستبصار» ج 3، ص 125، ح 447، باب ان العارية غير مضمونة، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 237، في أحكام العارية، باب 1، ح 9.
3- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 184، ح 813، باب العارية، ح 16، «الاستبصار» ج 3، ص 125، ح 444، باب أن العارية غير مضمونة، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 237، في أحكام العارية، باب 1، ح 10.
4- «عوالي اللئالي» ج 1، ص 218، ح 84، و فيه: المسلمون بدل المؤمنون، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 303، أبواب الخيار، باب 6، ح 1 و 2 و 5.

و قد بيّنّا في بعض القواعد المتقدّمة شروط صحّة الشرط و نفوذه، و قوله صلّى اللّه عليه و آله «كلّ شرط جائز إلاّ ما خالف كتاب اللّه» (1)، و قوله عليه السّلام: «كلّ شرط جائز إلاّ ما أحلّ حراما، أو حرّم حلالا» (2).

و معلوم أنّ شرط الضمان في العارية لي ممّا استثنى من الكليّة المذكورة.

و ثانيا: للروايات الواردة في خصوص المقام:

منها: قوله عليه السّلام في رواية الحلبي المتقدّمة: «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه، إلاّ أن يكون اشترط عليه» (3).

و منها: رواية أبان في قضيّة استعارة رسول اللّه الدروع من صفوان بن أميّة و قوله «بل عارية مضمونة» بعد قول صفوان له صلّى اللّه عليه و آله أ غصبا (4).

و أمّا ثبوت الضمان فيما إذا كان المعار ذهبا أو فضّة و إن لم يشترط الضمان إذا لم يشترط عدمه، فللروايات الدالّة على ذلك:

منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا تضمن العارية إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمان إلاّ الدنانير، فإنّها مضمونة و إن لم يشترط فيها ضمانا» (5).

و منها: ما رواه زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: العارية مضمونة؟ فقال:

ص: 19


1- «الكافي» ج 5، ص 169، بالشرط و الخيار في البيع، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 22، ح 93 و 94، باب عقود البيع، ح 10 و 11، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 303، أبواب الخيار، باب 6، ح 5.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 467، ح 1872، في الزيادات في فقه النكاح، ح 80، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 303، أبواب الخيار، باب 6، ح 5.
3- تقدم راجع ص 17، هامش رقم (2) .
4- تقدم راجع ص 17، هامش رقم (5) .
5- «الكافي» ج 5، ص 238، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 183، ح 804، باب العارية، ح 7، «الاستبصار» ج 3، ص 126، ح 448، باب أنّ العارية غير مضمونة، ح 8، «وسائل الشيعة» ح 13، ص 239، في أحكام العارية، باب 3، ح 1.

«جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه، إلاّ الذهب و الفضّة فإنّهما يلزمان، إلاّ أن تشترط عليه أنّه متى توى لم يلزمك تواه، و كذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك لزمك، و الذهب و الفضّة لازم لك و إن لم يشترط عليك (1).

و منها: ما رواه عبد الملك بن عمرو، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس على صاحب العارية ضمان إلاّ أن يشترط صاحبها، إلاّ الدراهم فإنّها مضمونة، اشترط صاحبها أو لم يشترط» (2).

و منها: ما رواه إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه أو أبي إبراهيم عليهما السّلام قال: «العارية ليس على مستعيرها ضمان إلاّ ما كان من ذهب أو فضّة، فإنّهما مضمونان، اشترطا أو لم يشترطا» (3).

و هذه الأخبار مختلفة من حيث العموم و الخصوص، و الإطلاق و التقييد. ففي بعضها أخرج عن تحت عموم ما يدلّ على عدم الضمان مورد اشتراط الضمان فقط مثل رواية الحلبي المتقدّمة، و في بعضها الآخر أخرج أمرين: أحدهما مورد شرط الضمان، و الثاني خصوص الدنانير كرواية عبد اللّه بن سنان، و في بعضها الآخر أخرج مورد شرط الضمان و كون المعار من الدراهم، و في البعض الآخر أخرج مطلق الذهب و الفضّة، سواء كانا مسكوكين أو لم يكونا، كرواية إسحاق ابن عمّار، و في بعضها لا تخصيص و لا تقييد أصلا، بل ينفي الضمان في العارية مطلقا، كرواية الحلبي المتقدّمة عن الصادق عليه السّلام «ليس على مستعير عارية ضمان، و صاحب

ص: 20


1- «الكافي» ج 5، ص 238، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 183، ح 806، باب العارية، ح 9، «الاستبصار» ج 3، ص 126، ح 450، باب أنّ العارية غير مضمونة، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 239، في أحكام العارية، باب 3، ح 2.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 184، ح 808، باب العارية، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 240، في أحكام العارية، باب 3، ح 3.
3- «الفقيه» ج 3، ص 302، ح 4083، باب العارية، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 184، ح 807، باب العارية، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 240، في أحكام العارية، باب 3، ح 4.

الوديعة و العارية مؤتمن» (1)، و في بعضها يقيّد نفي الضمان بكون المستعير مأمونا.

و المجموع و ان كانت ستّة طوائف، لكن اثنان منها يرجع إلى واحد، من حيث أنّ مفادها نفي الضمان عن المال المستعار مطلقا من أي جنس كان. و الاختلاف الذي بينهما-من حيث تقييد المستعير في أحدهما يكون المستعير مأمونا دون الآخر-لا تأثير له في ما هو المهمّ في المقام، لأنّ الكلام في الإطلاق و التقييد من حيث المال المستعار.

فكأنّه في المقام وردت خمس طوائف، اثنان منها مفادهما نفي الظمان مطلقا، شرط أو لم يشترط، كان من الذهب و الفضّة أو لم يكن، كان من الدراهم و الدنانير أو لم يكن. و هذا هو العامّ الفوقاني الذي يرد القيود عليه. الثالثة و الرابعة لكلّ واحد منها عقد سلبيّ و عقد إيجابي.

و العقد السلبي في الطائفة الثالثة-أي رواية عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد اللّه-عدم الضمان في كلّ عارية لم يشترط فيها الضمان، و العقد الإيجابي هو عقد المستثنى، و هو ثبوت الضمان فيما إذا كان المعار هو الدراهم. فهذا العقد الإيجابي يخصّص العمومات أو يقيّد المطلقات التي كان مفادها عدم الضمان في كلّ عارية من أي جنس كان، و هو العام الفوقاني.

و كذلك الطائفة الرابعة لها عقد سلبي و عقد إيجابي، كرواية عبد اللّه بن سنان.

و العقد السلبي فيها عبارة عن عدم الضمان في كلّ عارية لم يشترط فيها الضمان من أيّ جنس كان، إلاّ أن تكون من جنس الدنانير، و العقد الإيجابي فيها عبارة عن ثبوت الضمان في عارية الدنانير مطلقا، اشترط صاحبها أو لم يشترط.

و هذا العقد الإيجابي في هذه الطائفة أيضا يخصّص عامّ الفوقاني الذي كان مفاده عدم الضمان من أي جنس كان، لأنّه أيضا أخصّ منه. و قد بيّنّا في محلّه أنّه

ص: 21


1- تقدم ص 17، هامش رقم (1) .

إذا ورد عامّ و خصوصات متعدّدة، يخصّص العامّ بجميعه ما لم يصل إلى حدّ الاستهجان.

ثمَّ إنّ هذين العقدين الإيجابيّين في الطائفة الثالثة و الرابعة كما يخصّصان عمومات الفوقاني الذي مفادها عدم الضمان مطلقا، كذلك يقيّد كلّ واحد منها العقد السلبي الذي في الآخر، و ذلك لأخصيّته منه.

مثلا العقد الإيجابي في الطائفة الثالثة-أي رواية عبد الملك بن عمرو-هو ثبوت الضمان فيما إذا كان المعار هو الدرهم يخصّص العقد السلبي الذي هو في رواية عبد اللّه بن سنان التي هي عبارة عن عدم الضمان في كلّ عارية لم يشترط فيها الضمان لأخصيّته منه كما هو واضح.

و العقد الإيجابي في الطائفة الرابعة-التي هي عبارة عن ثبوت الضمان في عارية الدنانير مطلقا اشترط صاحبها أو لم يشترط-يخصّص العقد السلبي في الطائفة الثالثة، و هي عدم الضمان في كلّ عارية لم يشترط فيها الضمان لأخصيّته منه. و كذلك العقد الإيجابي في الروايات التي اشترط فيها عدم الضمان فيها بعدم الاشتراط الذي هو عبارة عن ثبوت الضمان بالاشتراط أيضا يخصّص العامّ الفوقاني.

فالمتحصّل من الطوائف الأربع-ما عدا الطائفة الأخيرة الباقية الخامسة-أنّ كلّ عارية لا ضمان فيها إلاّ أن يشترط صاحبها أو يكون المال المستعار من الدراهم أو الدنانير، إلاّ أن يشترط فيها عدم الضمان، كما تدلّ عليه رواية زرارة المتقدّمة (1).

و العقد الإيجابي في الطائفة الخامسة-أي رواية إسحاق بن عمّار-و هو عبارة عن ثبوت الضمان في كلّ عارية كانت من ذهب أو فضّة مطلقا، سواء أ كان مسكوكا كالدراهم و الدنانير، أم لم يكن مسكوكا كالحليّ للنساء و السبائك من الذهب أو

ص: 22


1- تقدم ص 20، هامش رقم (1) .

الفضّة، فيكون معارضا مع العقد السلبي في روايتي الدرهم و الدينار، لأنّ مفاد العقد السلبي فيهما عدم الضمان في غير المسكوك من الذهب و الفضّة، و مفاد رواية إسحاق بن عمّار ثبوت الضمان فيهما و إن كانا غير مسكوكين.

و النسبة بين هذين المتعارضين عموم و خصوص من وجه، و هو واضح. و في مادّة الاجتماع-أي الذهب و الفضّة غير المسكوكين-مفاد العقد السلبي لروايتي الدينار و الدرهم-و هو عدم الضمان لغير المسكوكين منهما-نفي الضمان، و مفاد العقد الإيجابي لرواية عمّار هو إثبات الضمان، فيتعارض العقد السلبي من روايتي الدرهم و الدينار مع العقد الإيجابي من رواية عمّار.

فإن قلنا بالتساقط في المتعارضين اللذين بينهما عموم و خصوص من وجه، في مادّة الاجتماع كما في المقام فيتساقطان، و المرجع بعد التساقط عموم الفوق، و هو رواية الحلبي التي نفت الضمان مطلقا.

و لكن بناء على ما اخترناه في باب التعارض في الأصول من انقلاب النسبة بواسطة المخصّص و إن كان منفصلا (1)فعامّ الفوق أيضا يكون طرف المعارضة، لأنّه بعد ورود الدليل على ثبوت الضمان في عارية الدراهم و الدنانير تتضيّق دائرة حجّية العام الفوق، و لا يكون حجيّة عمومه باقية، فلا يمكن التمسّك بعمومه و يختصّ بما ليس بدرهم و لا دينار، و يكون مضمونه عدم الضمان في كلّ عارية ما عدا الدراهم و الدنانير، فيكون متّحد المضمون مع العقد السلبي في روايتي الدرهم و الدينار.

فبناء على التساقط في المتعارضين بالعموم من وجه يتساقط الجميع، أي العامّ الفوقاني الذي هو مضمون رواية الحلبي و العقد السلبي في روايتي الدرهم و الدينار و العقد الإيجابي في رواية إسحاق بن عمّار، فتصل النوبة إلى الأصل العملي، و هو البراءة عن ضمان الذهب و الفضّة غير المسكوكين.

ص: 23


1- «منتهى الأصول» ج 2، ص 579.

هذا كلّه مع فقد المرجّح و القول بالتساقط في المتعارضين بالعموم من وجه، و إلاّ فمع وجود المرجّح يجب الأخذ بما هو ذو المزيّة، و مع عدم المرجّح و القول بعدم التساقط فالتخيير.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّه ليس على المستعير ضمان، إلاّ إذا اشترط عليه الضمان، أو كانت المعارة درهما أو دينارا، إلاّ إذا اشترط فيهما عدم الضمان. و أمّا الذهب و الفضّة غير المسكوكين فالأظهر أنّه أيضا لا ضمان فيهما، للعموم الفوقاني، أو لأصالة البراءة.

هذا ما هو مقتضى القواعد، و لكن الإنصاف أنّ تقييد إطلاق رواية الذهب و الفضّة بخصوص المسكوك منهما تقييد بالفرد النادر، لأنّ الأغلب في عاريتهما هو عارية الحليّ لا الدراهم و الدنانير، فمحل قوله عليه السّلام «عارية الذهب و الفضة فيها ضمان مطلقا سواء اشترط أو لم يشترط» (1)على خصوص الدراهم و الدنانير مستهجن و بعيد جدّا.

فالأقوى ثبوت الضمان في عارية مطلق الذهب و الفضّة كما هو المشهور، و تخصيص العامّ الفوقاني بما عدا مطلق الذهب و الفضّة سواء كانا مسكوكين أم لا.

و تقديم التقييد و كونه أولى من التخصيص لا يأتي هاهنا، لاستهجان التقييد و حمل المطلق على الفرد النادر.

الجهة الثالثة: في بيان فروع العارية و أحكامها

اشارة

فرع: هل يجوز إعارة الشاة أو البقر أو غيرهما من الحيوانات اللبونة الحلوبة

ص: 24


1- تقدم ص 20، هامش رقم (2) .

للانتفاع بلبنها، أو الأغنام بصوفها، أو الأمعز للانتفاع بوبرها؟ الظاهر جوازها، و كذلك الآبار للانتفاع بمياهها.

و الإشكال بعدم انطباق ضابط العارية عليها، بأنّ العارية هي التسليط على العين التي لها منفعة للانتفاع بها مجّانا مع بقاء العين، فلا ينطبق على المذكورات، لعدم بقاء العين فيها، بل الانتفاع بإتلاف مقدار من العين أي الحليب في بعضها، و الصوف و الوبر في بعضها، و الماء في الآبار.

لا أساس له، لأنّ العين و المنفعة تختلفان في الأشياء عند العرف، فالعرف يرى العين في المذكورات نفس الشاة و البقر و سائر الحيوانات اللبونة، و يرى اللبن منفعة، كما أنّه يرى نفس أشجار الفواكه عينا، و يرى الفواكه منفعة لها، و لذلك يقال: آجر بستانه بكذا، مع أنّه ملّك فواكه أشجاره للمستأجر بعوض معلوم، و الإجارة عنده عبارة عن تمليك منفعة العين مع بقاء نفس العين على ملك الموجر، و ليس هذا إلاّ من جهة أنّه يرى الفواكه منفعة للأشجار.

نعم لو انفصلت الفواكه عن الأشجار و ملكها بعوض معلوم لشخص يقال أنّه باعها، و لا يقال: آجرها، و كذلك في المقام لو ملّك الماء أو اللبن أو الصوف أو الوبر منفصلة يقال: أنّه باعها، و لا يقال: آجرها.

أمّا لو تعلّق عقد الإجارة بالعين باعتبار منافعها التي هي الأثمار بالنسبة إلى الأشجار، و اللبن و الوبر بالنسبة إلى الحيوان، و الماء بالنسبة إلى الآبار فيقال: آجرها.

و خلاصة الكلام: أنّ ما ينعدم هو منافع هذه الأعيان لا أصلها، فينطبق الضابط المذكور عليها، و لا إشكال في البين أصلا. و الإجارة و العارية من واد واحد، و الفرق بينهما أنّ الانتفاع في العارية بلا عوض و مجّاني، و في الإجارة بعوض معلوم، و لا شكّ في صحّة إجارة هذا الأمور، فكذلك العارية. و السيرة المستمرّة جارية في كليهما، أي الإجارة و العارية، و ادّعى الإجماع و الاتّفاق القولي أيضا.

ص: 25

مضافا إلى ورود النصّ في الشاة المنحة في قوله صلّى اللّه عليه و آله: «العارية مؤدّاة، و المنحة مردودة، و الدين مقضيّ، و الزعيم غارم» (1). و ضعف سندها منجبر باتّفاق الأصحاب على الأخذ بمضمونها.

و أمّا الإشكال على دلالة الحديث الشريف بأنّه صلّى اللّه عليه و آله جعل المنحة في قبال العارية و قسما آخر غيرها، و بيّن أحكاما لموضوعات مختلفة، فالحديث في عدم كون المنحة من العارية أظهر.

فيه: أنّه بعد ما ذكرنا من فهم العرف أنّ التسليط على الشاة المنحة للانتفاع بلبنها مجّانا و بلا عوض عارية عندهم، لأنّهم يرونه من التسليط على العين التي لها منفعة لأجل الانتفاع بها، و هذه هي العارية عندهم.

و قد حقّقنا في محلّه أنّ عناوين المعاملات من البيع و الإجارة و غيرهما ليست من الماهيّات المخترعة شرعا، بل هي عناوين عرفيّة، فذكر الشارع لها أنّ الشاة المنحة بعد ذكر العارية من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ لأجل خصوصيّة فيه.

و الظاهر أنّها في المقام كثرة ابتلاء الناس بهذا القسم من العارية، و الاحتياج إلى بيان حكمها، لكثرة تداولها في ذلك الوقت بينهم، و ذلك لأنّ الاحتياج إلى العارية غالبا في الأشياء التي تكون محلّ الابتلاء في أمر، أو المعيشة مع فقدها عند المستعير، و المنحة كانت في ذلك العصر كذلك، و لا شكّ في أنّ الاحتياج إلى الأشياء بالنسبة إلى الأعصار و الأمصار يختلف.

فرع: لا شكّ في أنّه إذا أعار شيئا و كانت الإعارة صحيحة يجوز للمستعير

ص: 26


1- «مستدرك الوسائل» ج 13، ص 435، أبواب كتاب الضمان، باب 1، ح 2، «سنن الترمذي» ج 3، ص 565، ح 1265، كتاب البيوع، باب 39، «سنن أبي داود» ج 3، ص 296، ح 3565، باب في تضمين العارية، كتاب البيوع.

الانتفاع بما جرت العادة بمثل ذلك الانتفاع به، فلو أعار مثلا قدرا له الطبخ فيه، أو كتابا فله المطالعة فيه، و لو كان من الكتب التي يستصحبها التلميذ للحضور في مجالس درس الأستاذ فله ذلك، و لو كان فراشا فله أن يبسطه للجلوس عليه أو النوم عليه، هو أو من يتعلّق به من عياله أو أضيافه و من يتردّد عنده أو في سائر احتياجاته المتعارفة من الفراش، كلّ ذلك لأجل أنّها أثر العارية الصحيحة، و لأجل ذلك شرّعت العارية.

و إن كانت للعين المعارة منافع متعدّدة، كالدابة مثلا للحمل و الركوب، و الأرض للزرع و الغرس و البناء، فإنّ عين المعير واحدة من تلك المنافع تعيّن الانتفاع بها فقط، كما أنّه لو صرّح بجواز الجميع يجوز له الانتفاع بالجميع.

أمّا لو أطلق و قال: أعرتك هذه الدابة مثلا فهل يجوز الانتفاع بجميع منافعه، أو خصوص ما جرت به العادة، أو واحدة منها تخييرا؟ احتمالات.

و الظاهر هو الثاني، لأنّه المتبادر من اللفظ عند عدم التصريح بجميع المنافع.

و ربما ينصرف عن بعض المنافع حتّى مع التصريح بجميع المنافع، فلا يجوز الانتفاع بمثل تلك المنفعة إلاّ مع التصريح بها بخصوصها. كلّ ذلك لأجل عدم الجواز إلاّ مع الإذن، فلا بدّ إمّا أن يعلم بالإذن، أو يكون اللفظ ظاهرا فيه، فيكون بمنزلة العلم لحجيّة الظهورات.

فرع: و حيث أنّ العارية من العقود الإذنيّة التي قوامها بالإذن فهي جائزة من الطرفين.

أمّا من طرف المعير، فمن جهة أنّه متى رجع عن إذنه فيكون تصرّف المستعير في مال الغير بدون إذن صاحبه، و معلوم عدم جوازه. و لا يقاس بباب الإجارة، لأنّ المنافع هناك ملك للمستأجر إلى مدّة معيّنة، و أصالة اللزوم في الأملاك تمنع عن إرجاع الموجر تلك المنافع إلى ملكه ثانيا، مضافا إلى سائر أدلّة

ص: 27

اللزوم في باب الإجارة. و أمّا من طرف المستعير: لأنّه لا ملزم عليه أن يتصرّف في مال الغير، فمتى ارتفعت حاجته، له أن يردّ العارية إلى صاحبها. و هذا هو معنى الجواز من طرفه.

فرع: تبطل العارية بموت المعير ، لما قلنا أنّ العارية صحّتها و بقاؤها متقوّم ببقاء إذن المالك و رضائه، و إلاّ يكون تصرّفا في مال الغير بدون إذنه و رضاه. و هو معلوم عدم الجواز، و الموت يوجب خروجها عن ملكيّة الميت و انتقالها إلى غيره من الوارث أو الموصى له أو غيرهما، فيكون تصرّف المستعير بدون إذن المالك، فلا يجوز.

و كذلك تبطل بخروجها عن ملك المعير بأسباب أخرى من بيع، أو هبة أو صلح، أو غيرها، لعين الوجه المتقدّم.

و كذلك تبطل بخروج المعير عن أهليّة الإذن، و حجره عن التصرّف في أمواله بأحد أسباب الحجر، من السفه، أو الجنون، لعين الدليل. كلّ ذلك لأجل قوام العارية حدوثا و بقاء بإذن المالك حدوثا و بقاء، فإذا انتفى بأيّ سبب كان تنتفي و تبطل.

فرع: لو أعار الأرض للغرس أو الزرع ففسخ المعير بعد ما غرس المستعير أو زرع، و حيث أنّ العارية تنفسخ لأنّها جائزة، فهل له الإلزام بالقلع، غرسا كان أم زرعا مطلقا-أي سواء أعطى المستعير أجرة البقاء أم لا-و له في خصوص ما إذا لم يعط أجرة البقاء، أو التفصيل بين الزرع و الغرس، ففي الثاني له مطلقا، و أمّا في الأوّل فله ان لم يعط الأجرة؟ وجوه.

و الأقوى من هذه الوجوه أنّ له إلزامه بالقلع مطلقا، سواء كان غرسا أو زرعا، و سواء أعطى أجرة البقاء أم لا. و لكن عليه إعطاء الأرش، أي تفاوت ما بين قيمته

ص: 28

منصوبا و مقلوعا.

فهاهنا أمران: أحدهما: أنّ لمالك الأرض إجبار المستعير على القلع. الثاني: أنّ عليه الأرش.

أما الأوّل: فلأنّ مالك الأرض له السلطنة على تفريغ ماله ، و تخليصه عن أشغال الغير، و إن كان التخليص ضررا على ذلك الغير، فمثل هذه السلطنة منفيّة بقاعدة لا ضرر، معارض بأنّ أشغال الغير لماله أيضا ضرر عليه، فلا مورد لقاعدة لا ضرر هاهنا.

لا يقال: كما أنّ جريان قاعدة لا ضرر في كلّ واحد من الطرفين معارض بمثله، كذلك قاعدة السلطنة أيضا في كلّ واحد من الطرفين معارضة بمثله، لأنّه كما أنّ لمالك الأرض سلطنة على تخليص أرضه عن إشغال الغير، كذلك لمالك الغرس أو الزرع سلطنة على منع تصرّف الغير في غرسه أو زرعه، فيتساقطان.

لأنّا نقول: قاعدة السلطنة لا تشمل الموارد التي تكون إعمال السلطنة فيها علّة للتصرّف في مال الغير. و بعبارة أخرى: يكون التصرّف في مال نفسه أيضا تصرّفا في مال الغير، فهو ليس له السلطنة على مثل هذا التصرّف. و تصرّف مالك الغرس و الزرع بإشغال مال الغير من هذا القبيل، لأنّ السلطنة على إبقاء ماله في ملك الغير معناه السلطنة على إشغال ملك الغير. و قاعدة السلطنة لا عموم لها يشمل هذا، فتكون السلطنة على التفريغ و التخليص بلا معارض. و أمّا التخليص فدائما في طول الأشغال و بمنزلة المعلول له، لأنّه ما لم يكن إشغال لم يكن موضوع للتخليص و إن كان زمانهما واحدا، كما هو شأن العلة و المعلول.

فحيث أنّ الغارس و الزارع ليس لهما السلطنة على التصرّف العلة لإشغال مال الغير و تصرّف المالك للأرض بالتصرّف التخليصي دائما في ظرف السقوط، و عدم السلطنة على التصرّف الإبقائي الذي هو علّة للإشغال، فلا تجتمع السلطنتان

ص: 29

في زمان واحد كي تتعارضان.

و إن شئت قلت: قاعدة السلطنة مخصّصة بالنسبة إلى التصرّفات التي هي علّة للتصرّف في مال الغير بدون إذنه، فالتصرّف الإبقائي للغرس و الزرع في ملك المعير بدون إذنه حيث أنّه علّة لإشغال مال الغير بدون إذنه يكون خارجا عن عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» (1)، و لا يشمل العموم مثل هذا التصرّف، فلا تجري القاعدة في حقّ الغارس و الزارع، فتبقى القاعدة في حقّ مالك الأرض بلا معارض.

و لا يمكن العكس، بأن يقال: قلع مالك الأرض أيضا حيث أنّه علّة للتصرّف في الغرس أو الزرع اللذان لغيره خارج عن تحت هذه القاعدة، فليس لكلّ واحد منهما السلطنة، لا مالك الأرض على القلع، و لا مالك الغرس و الزرع على الأشغال و الإبقاء، لأنّ القلع الذي هو بمعنى تخلية أرضه عن مال الغير متفرّع على الأشغال، و يكون الأشغال بمنزلة الموضوع للتخلية، فلا يمكن أن تكون التخلية علّة لمثل هذا التصرّف، أي التصرّف الإشغالي، و إلاّ يلزم أن يكون الشيء علّة لما هو من قبيل الموضوع له، و هذا محال، فلا مخصّص للقاعدة بالنسبة إلى هذا التصرّف، أي التصرّف التفريغي، فيشمله القاعدة بلا معارض في البين، و ليس هناك تصرف آخر في مال الغير غير الأشغال كي يقال بأنّ التفريغ و التخلية علّة له.

هذا كلّه في الأمر الأوّل، و هو أنّه هل لمالك الأرض القلع، أم لا.

و أمّا الأمر الثاني: و هو أنّه عليه الأرش أم لا؟

الظاهر أنّه عليه الأرش، لأنّ مقتضى قاعدة السلطنة هو سلطنة على تخليص ماله عن إشغال الغير، لا إتلاف خصوصيّات مال الغير من صفاته و حالاته، فإذا أتلف تلك الخصوصيّات بواسطة التخليص يكون ضامنا لها.

و هذا هو المراد من الأرش هاهنا، إذ الغارس و الزارع يملكان الغرس أو الزرع

ص: 30


1- «عوالي اللئالي» ج 1، ص 222، ح 99، و ص 457، ح 198.

قائما و منصوبا، فزالت تلك الصفة بواسطة القلع، و أتلفها المالك مباشرة أو تسبيبا، فعليه ضمانها لإتلافه لها.

و معنى ضمانها أنّ ما نقص منها في عهدته، فيجب عليه أداؤه و ما نقص، حيث أنّه من القيميّات فعليه أداء قيمته، و هو التفاوت بين قيمته منصوبا و مقلوعا.

و هذا الذي ذكرناه من استحقاق مالك الزرع و الغرس الأرش فيما إذا كان الغرس و الزرع جائزان للغارس و الزارع، إمّا لإذن مالك الأرض، أو لكون الأرض ملكا متزلزلا لهما، فرجع إلى مالكه الأوّل بفسخ، أو أخذه بالشفعة، أو غير ذلك بعد الغرس أو الزرع.

و أمّا لو غرس الغارس أو زرع الزارع بغير وجه شرعي بغير إذن من قبل المالك، و لا هو كان مالكا و لو بملك متزلزل، بل كان غاصبا ظالما، فلا يستحق الأرش يقينا، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «ليس لعرق ظالم حق» (1).

و في الحقيقة الظالم الغاصب هو أقدم على إتلاف خصوصيّات ماله بغرسه أو زرعه، لعلمه أنّ المالك للأرض له أن يقلعهما أيّ وقت أراد، لأنّه ليس لعرقه حقّ.

فرع: لو أعار الأرض لدفن الميّت المسلم و فسخ بعد الدفن، فليس له المطالبة بنبش القبر و إخراجه منه و أن يدفن في مكان آخر، إلاّ أن يطمئن باندراسه، و ذلك لحرمة النبش و هتك الميّت المحترم، فلا يجوز إجماعا.

نعم لو اتّفق أنّه نبشه نابش و كشف الميّت، أو أخرجه عن قبره لجهة أخرى، سواء كان ذلك النبش حراما أو جائزا لكونه من المستثنيات عن حرمة النبش فدفنه ثانيا يحتاج إلى إذن جديد، لارتفاع إذنه السابق بالفسخ.

ص: 31


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 294، ح 819، باب من الزيادات في القضايا و الأحكام، ح 26، «وسائل الشيعة» ج 17، ص 311، أبواب الغصب، باب 3، ح 1.

فرع: لا يجوز للمستعير إعارة العين المستعارة إلاّ بإذن المالك، لما بيّنّا من شرائط المعير أن يكون مالكا للمنفعة، إمّا بتبعيّتها لملك العين التي لها المنفعة، و إمّا باستئجاره لتلك العين و عدم اشتراط الموجر عليه المباشرة في الانتفاع. و أمّا الإعارة فلا توجب إلاّ إباحة الانتفاع للمستعير، أو من تشمله من أهله و تابعيه عرفا، و لا يصير المستعير مالكا للمنفعة بالعارية، فليس له إباحة غيره.

فرع: لو أذن مالك الأرض في غرس شجرة فانقلعت، أو بناء دار فانهدمت بسبب من الأسباب، فهل يجوز له غرس شجرة أخرى، أو بناء دار أخرى من دون إذن جديد باستصحاب الإذن الأوّل، أو يحتاج إلى تحصيل إذن جديد؟ الظاهر هو الثاني، إلاّ أن تكون قرينة في البين على أنّ إذنه الأوّل ليس مخصوصا بالأوّل. و لكن هذا خارج عن الغرض.

و أمّا الاستصحاب فلا مورد له هاهنا، لأنّه صدر من المالك إذن شخصي في مورد خاصّ، و ارتفع ذلك الإذن قطعا، فلا شكّ كي يستصحب، و ذلك من جهة أنّه لو كان إذنه متعلّقا بشجرة معيّنة، فلا كلام في أنّ فردا آخر من تلك الطبيعة غير ذلك الفرد، و أمّا لو كان إذنه متعلّقا بصرف الوجود من تلك الطبيعة، فقد حصل و لا يبقى محلّ لإيجاده ثانيا، بل هو من تحصيل الحاصل المحال، لأنّه وجد المأذون و انعدم.

و هذا كما أنّه لو قال المالك: أذنت لك في أكل رمّانة من هذا البستان، و فيه آلاف من تلك الطبيعة، و لكن لو أكل واحدا منها ليس مأذونا في أكل ما عداه، و كذلك الأمر فيما نحن فيه.

نعم لو أذن له في غرس شجرة فغرس، و لكن بعد مدّة طويلة أو قصيرة انقلعت لهواء خارق، لا يبعد جواز إرجاعه إلى مكانه من دون الاحتياج إلى تحصيل إذن

ص: 32

جديد، و ذلك لبقاء إذنه عرفا، خصوصا إذا كان بعد مدّة قصيرة، فربما يحصل القطع بوجود الإذن و بقاء الرضا الباطني.

و لهذا الفرع مصاديق كثيرة، مثلا لو أعار محلا أو سرجا لفرسه المعيّن، أو إصطبلا ليكون فيه، فبدل هذا الفرس بفرس آخر، أو مات و اشترى فرسا آخر، تشمل الإعارة هذا الفرس الآخر. و لا بدّ من اتّباع الظهور العرفي لما أذن، و هو يختلف في الموارد.

فرع: هل يعتبر التعيين في العين المستعارة، فلو قال المستعير: أعطني أحد هذين القدرين عارية لأطبخ فيه، أو: أحد هذين الثوبين لألبسه، فقال المعير: خذ أحدهما، أو قال: خذ أيّ واحد تريد منهما، فهذه العارية صحيحة أم لا؟ الظاهر عدم إشكال فيه، لتماميّة أركان العارية فيه، من شرائط المعير، و المستعير و العين المستعارة. و الترديد في العين المستعارة لا مانع فيه، لأنّ الترديد في طلب المستعير، و إلاّ فما وقع عليه الإعارة عنوان كلّي قابل للانطباق على كلّ واحد من مصاديقه بدلا لا جمعا، فلا ترديد في العين المستعارة.

فرع: لو كانت منفعة لا يجوز الانتفاع بها إلاّ بأسباب خاصّة التي ليست منها العارية، كوطي الامرأة التي لا يجوز وطيها إلاّ بالعقد الصحيح دواما أو انقطاعا، أو بملك اليمين، أو بالتحليل الذي يرجع إلى أحدهما، فبالعارية لا يجوز الانتفاع بتلك المنفعة. و إن شئت قلت: إنّ العارية لا تكون مشرّعا، فالمنافع المحرّمة لا تصير محلّلة بورود العارية على العين التي لها تلك المنافع.

فالحيوان الجلاّل-كشاة جلاّلة أو بقرة جلاّلة-حيث أنّ لبنهما يحرم شربه و لا يحلّ إلاّ بالاستبراء، فلو أعارهما المالك للانتفاع بمنافعهما المحلّلة، فلا يصير شرب

ص: 33

لبنهما حلالا بواسطة العارية، لأنّ لحلّيته سببا خاصّا و هو الاستبراء. و لذلك لو أعار جارية للانتفاع بجميع منافعها لا يجوز الانتفاع بها إلاّ بمنافعها المحلّلة، أمّا منافعها التي تحلّ بأسباب خاصّة كالوطي كما تقدّم فلا. و كذلك لا يجوز النظر بالإعارة إلى ما لا يجوز النظر إليه إلاّ بتلك الأسباب الخاصّة التي ذكرناها.

فرع: تقدّم أنّه لا ضمان على المستعير إلاّ إذا شرط الضمان ، أو كان العين المعارة من الذهب أو الفضّة، أو فرّط و تعدّى، و التفريط و التعدّي يحصل بأمور: منها:

أن يتصرّف فيها تصرّفا على خلاف المتعارف، أو تصرّف تصرّفا غير مأذون فيه.

أمّا الأوّل: فلأنّ ظهور العارية إذا أعار يكون في إباحة الانتفاعات المتعارفة، فالتصرّفات غير المتعارفة ليست مباحة له، فيصير في حكم الغاصب، بل يكون موضوعا هو هو. و معلوم أنّ الغاصب يؤخذ بالتلف الذي وقع عنده و لو كان تلفا سماويّا لا بإتلاف منه، فيكون ضامنا.

و أمّا الثاني: أي التصرّفات غير المأذونة فالأمر فيها أوضح. مثلا لو أعار الدابّة أو السيّارة للركوب، فاستعملهما في الحمل، فتلفت و لو كان تلفا سماويّا يكون ضامنا، لأنّه تصرّف في مال الغير بلا إذن من مالكه، فيكون غاصبا، لأنّه تصرّف فيه بلا مجوّز شرعي، فيده ليست يد أمانة. و الذي هو خارج عن عموم «على اليد ما أخذت» هي اليد الأمانيّة، و في المفروض لا أمانة مالكيّة و لا شرعيّة، فهو ضامن لما تلف في يده، سواء وقع التلف على تمام ما في يده، أو بعض و جزء منه، أو نقص فيه وصفا، أو من ناحية نقص قيمته السوقيّة، و جميع ذلك من جهة خروج يده عن كونها يد أمانة.

فرع: في الموارد التي في تلف العارية ضمان لا يخرج عن عهدته إلاّ بردّه

ص: 34

إلى صاحبه، أو من هو وكيله أو وليّه، فلو لم يوصل إلى مالكه أو وكيله أو وليّه لا يخرج عن عهدته، و إن ردّه إلى المحلّ الذي أخذ منه. مثلا ردّ الدابّة إلى محلّها الذي أخذها منه و ربطها فيه بلا إذن من المالك.

و ذلك لعدم صدق الأداء، و ضمان اليد مغيى بالأداء، فما لم تحصل الغاية الضمان باق.

نعم في بعض الموارد السيرة قائمة على أن يردّ الدابة المستعارة إلى اصطبلها، أو السيّارة المستعارة إلى موقفها، فإذا فعل ذلك بناؤهم على أنّه ردّ العين المعارة إلى مالكها، و خرج المستعير أو المستأجر عن ضمانها.

فرع: لو كانت العين المستعارة مغصوبة و استعارها من الغاصب، فتارة هو- أي المستعير-جاهل بالغصب، و أخرى عالم بكونها مغصوبة، و على أيّ حال هو ضامن للعين و منافعها المستوفاة للمالك، بل و غير المستوفاة كما حقّقنا في قاعدة «و على اليد ما أخذت» (1). و إن شئت فراجع.

لكن حيث أنّه كان جاهلا بالغصب، فيكون قرار الضمان على الغاصب العالم بالغصب، فإذا راجع المالك إلى المستعير يراجع هو إلى المعير الغاصب، و إلاّ لو كان الغاصب غيره كلاهما لهما أن يراجعا إلى الغاصب الأوّل العالم بالغصب، لأنّ قرار الضمان عليه.

هذا إذا كان المستعير جاهلا بالغصب، و أمّا إذا كان عالما به فهو ضامن للعين إذا تلفت، و لمنافع العين المستوفاة و غير المستوفاة. و لا رجوع له إلى الغاصب، لأنّه أيضا غاصب، و وقع تلف العين عنده و هو استوفى المنفعة، بل لو رجع المالك إلى الغاصب فله أن يرجع إلى المستعير، لأنّ قرار الضمان عليه و يجب على المستعير

ص: 35


1- راجع ج 4، ص 53.

ردّه إلى المالك لا إلى المعير الغاصب، لأنّ الغاصب مثله أجنبي عن هذا المال، فبردّه إليه لا يرتفع الضمان عن عهدة المستعير، لأنّ مفاد قاعدة «و على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» أنّ الضمان لا يرتفع عن عهدة من وقع يده غير المأذونة على مال الغير إلاّ بأدائه إلى صاحبه و مالكه الواقعي.

و ما قلنا من أنّ قرار الضمان في تعاقب الأيادي غير مأذونة على مال الغير على الذي وقع التلف في يده، وجهه إجمالا-و أمّا تفصيلا فقد بيّنّا في قاعدة «و على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» -هو أنّ كلّ واحدة من الأيادي حيث يصدق عليها أنّه وقع مال الغير تحتها و أخذت، فيكون ما أخذت مستقرّ عليه و في عهدته، و إذا انتقل من يده إلى يد أخرى يكون ما أخذته يد الأخرى العين المضمونة بوصف أنّها مضمونة، أي العين التي لها وجود اعتباري في ذمّة اليد التي قبل هذه اليد، فليست المأخوذة في اليد الثانية العين المجردة، فكأنّه وقعت تحت اليد الثانية عينان: إحداهما بوجودها التكويني، و الأخرى بوجودها الاعتباري، فهو ضامن للاثنين: مالك الوجود التكويني و هو المالك الواقعي الأصلي لهذه العين، و من عليه الوجود الاعتباري و هو الغاصب الأوّل. و لذلك يجوز أن يرجع المالك الوجود التكويني، لأنّ ماله وقع تحت يده فصار ضامنا له. و يجوز أن يرجع إليه الغاصب الأوّل، لأنّ ما كان عليه من ذلك الوجود الاعتباري أيضا وقع تحت يده.

فإذا رجع المالك للعين إلى الغاصب الأوّل له أن يرجع إلى الغاصب الثاني، لأنّ ما عليه صار تحت يد الغاصب الثاني و هو أخذه. و هكذا كلّ غاصب إذا رجع المالك إليه أو الغاصب السابق عليه له أن يرجع إلى الذي بعده، فالمالك الحقيقي له أن يرجع إلى أيّة واحدة من الأيادي الغاصبة، و أمّا الأيادي الغاصبة فكلّ سابقة لها الرجوع إلى اليد اللاحقة عليها، و أمّا اللاحقة ليس لها الرجوع إلى السابقة لعدم ملاك الرجوع لعدم وقوع اليد السابقة على شيء من مال اللاحقة لا بوجوده التكويني و لا بوجوده الاعتباري، و أمّا اللاحقة فوقعت يده على الوجود الاعتباري

ص: 36

الذي كان في ذمّة اليد السابقة.

و إن شئت قلت: إنّ اليد السابقة لم تأخذ شيئا من اليد اللاحقة كي تكون لها ضمانها، بخلاف اليد اللاحقة فإنّها أخذت من السابقة فتكون ضامنة لها ما أخذت.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ قرار الضمان على الغاصب الأخير، أي من وقع التلف في يده و من استوفى المنافع، و ذلك لعدم يد لاحقة عليها كي يرجع إليها، فإذا كان المستعير عالما بأنّ ما أخذه من المعير كان غصبا، فيكون هو الغاصب الثاني، فيجري في حقّه ما قلناه من قرار الضمان عليه إذا وقع تلف العين المستعارة عنده، أو نقص عنده منها شيء أو استوفى منافعه، فإن رجع المالك إلى المعير بما ذكرنا فله أن يرجع إلى المستعير الذي هو الغاصب الثاني، لما ذكرنا، و إذا رجع المالك إلى المستعير الذي وقع التلف عنده ليس له الرجوع إلى المعير أيضا، لما ذكرنا.

هذا كلّه إذا كان المستعير عالما بأنّ ما أخذه مغضوب، و أمّا إذا كان جاهلا و غرّه المعير فله أن يرجع إليه، و ذلك من جهة أنّ المستعير إذا قال للمعير: أعرني الشيء الفلاني المعيّن، أو قال بنحو عدم التعيين: ثوبا من أثوابك، أو دابّة من دوابّك للركوب، فقال المعير: خذ هذا الثوب أو هذه الدابّة، أو أدخل الإصطبل و خذ واحدا من الدوابّ، فظاهر كلامه أنّ المعار له و هو مالكه، لا أنّه غاصب أو له أن يعيره بإذن المالك أو بولاية عليه، فيغترّ و يأخذ منه. فإذا ظهر أنّه مغصوب و المالك طالبه بعوضه إن تلف، أو بدل منافعه المستوفاة بل و غير المستوفاة بناء على ما هو التحقيق من ضمان الغاصب لها أيضا و خسر و أدّاها، فللمستعير المغرور الرجوع إلى المعير الغارّ، لقوله صلّى اللّه عليه و آله في المرسلة المنجبرة بعمل الأصحاب: «المغرور يرجع إلى من غرّه» (1)، فله المطالبة من المعير بجميع ما خسر للمالك.

ص: 37


1- ابن الأثير في «النهاية» ج 3، ص 356، مادة (غرر) ، و قد تقدم الحديث في ج 1، في قاعدة «الغرر» فليراجع هناك.

فرع: للمستعير أن يدخل الأرض التي استعارها لغرس الأشجار و لو للتنزّه، لا لإصلاح الأشجار و لا لجني الأثمار، لأنّهما معلوم الجواز و لا ينبغي الشكّ فيهما، و إلاّ تكون الاستعارة لغوا و بلا فائدة. فالذي هو محلّ الكلام هو الدخول لا لجني الأثمار، و لا لإصلاح الأشجار، بل للتفرّج و التنزّه أو الاستظلال بظل أشجارها.

و خالف في هذا الحكم جماعة كالشيخ في المبسوط (1)و العلاّمة في التذكرة و القواعد (2)و المحقّق الثاني في جامع المقاصد (3)و الشهيد الثاني في المسالك و الروضة (4)، و عمدة دليلهم أنّ المستعير استعار لأجل الغرس، فلا يجوز له الانتفاعات الآخر كالاستظلال بأشجارها و غيره من المذكورات و غيرها.

و فيه نظر واضح، و هو أنّه لا شكّ في أنّ المالك إذا نهى عن تصرّف خاصّ أو عدّة تصرّفات و عيّن المنهي يجب الاجتناب عنه، لأنّه مالك له حقّ الإذن و المنع. و أيضا لا شكّ في أنّه لا يجوز التصرّف في مال الغير بدون إذنه و رضاه، فلا بدّ من إحرازه أو رضاه بعلم أو علمي، فلا شكّ أيضا في حجّية ظهور الألفاظ و أنّه كاشف عن مراد المتكلّم، فلا بدّ من المراجعة إلى ظهور كلام المعير المالك أو من هو بمنزلة المالك و أنّه ظاهر في أيّ مقدار من التصرّف، فالزائد عليه لا يجوز قطعا، للزوم إحراز الإذن، و ليس بناء على هذا محرز في البين إلاّ ظهور كلام المعير.

و الظاهر أنّه إذا قال: أعرتك هذا، و لم يعيّن و لم ينه عن تصرّف خاصّ، فهو ظاهر في التصرّفات المتعارفة و الانتفاعات التي ينتفع العرف من ذلك الشيء. و أمّا كون طلب المستعير لأجل الغرس لا يخرج الكلام عمّا هو ظاهر فيه، لأنّ المستعير

ص: 38


1- «المبسوط» ج 3، ص 55.
2- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 213، «قواعد الأحكام» ج 1، ص 192.
3- «جامع المقاصد» ج 6، ص 74.
4- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 316، «الروضة البهية» ج 4، ص 266.

يطلب الإعارة لأجل ما هو مهمّ عنده، و أمّا الانتفاعات الآخر حيث أنّها ليست بمهمّ عنده، لأجل ذلك لا يذكرها، لا أنّه لا يريدها.

فإذا قال المعير: أعرتك، يكون ظاهر كلامه ما هو ظاهر لفظ الإعارة حسب المتفاهم العرفي، و قد عرفت أنّ المتفاهم العرفي منه هو الإذن في الانتفاع به الانتفاعات المتعارفة منه، إلاّ أن يصرّح بنفي البعض منها، أو تجويز بعضها الغير المتعارف، ففي غير المتعارف يحتاج ثبوت الإذن أو نفيه إلى التصريح.

و لا شكّ في أنّ دخول البستان و لو للتفرّج و التنزّه ليس من الانتفاعات غير المتعارفة، فالأظهر-كما لعلّه هو المشهور-جوازه، أي الدخول للتنزّه و التفرّج أو لسائر الانتفاعات المتعارفة من الأرض و البستان.

فرع: لو ادّعى من بيده المال و ينتفع به أنّه عارية، و ادّعى المالك الإجارة، فالقول قول مدّعي الإعارة

، لأنّ قوله مطابق لأصالة عدم ذكر العوض للمنفعة التي استفادها، و قيل لأصالة البراءة عن الأجرة التي يدّعيها المالك.

و إن شئت قلت: هما متّفقان في صدور التسليط من قبل المالك و إنشاءه على الانتفاع بهذه العين و التنازع بينهما، في أنّ هذا التسليط مجّاني كما يدّعيه من بيده المال و تصرّف فيه و استفاد منافعه و يستفيد أو مع العوض كما يدّعيه المالك، فلبّ الدعوى يرجع إلى أنّ المالك يدّعي استحقاق أجرة المسمى أو المثل في ذمّة مدّعي العارية و هو ينكر، و قوله مطابق لأصالة البراءة و أصالة عدم اشتغال ذمّته بشيء للمالك.

و لكن هذا لو كان قبل استيفاء شيء من المنافع، و أمّا لو كان بعده و حيث أنّ العين ملك للمالك فمنافعها أيضا بالتبع ملك له، و الأصل عدم خروجها عن ملك المالك مجّانا، فالحلف على المالك، لأنّه يدّعي المجّانية، و المالك منكر، فإذا حلف

ص: 39

و ارتفعت المجّانية فمال المسلم محترم له عوض، إمّا المسمّى الذي يدّعيه المالك أو أجرة المثل.

فبعد حلف المالك و انتفاء المجّانية يثبت أقلّ الأمرين، من أجرة المثل و المسمّى، لأنّه لو كان المسمّى أزيد من أجرة المثل، فتنتفي الزيادة بحلف مدّعي العارية، و لو كان أجرة المثل أزيد فتنتفي الزيادة بإقرار نفس المالك، لأنّه معترف بعدم استحقاق الزيادة، فيبقى مسألة احترام مال المسلم، و هو هاهنا يقتضي ثبوت أقلّ الأمرين.

فرع: لو ادّعى المالك أنّ ما بيده مغصوب ، و قال الطرف إنّه عارية، فالظاهر قبول قول المالك، لأنّ الأصل عدم إباحة المنافع، فلو حلف المالك على ذلك يضمن مدّعي العارية المنافع، و العين أيضا لو تلفت، و لو كانت باقية يردّها.

و حكي عن الشيخ (1)تقديم قول مدّعي العارية لبراءة ذمّته عمّا يدّعيه المالك من الضمان.

و لكن أنت خبير بأنّ أصالة عدم إباحة المنافع حاكمة على هذا الأصل، فلا يمكن معارضة هذا الأصل معها.

فرع: لا خلاف و لا إشكال في جواز بيع المستعير ما غرسه من الأشجار، أو ما زرعه، أو بناه في الأرض المستعارة لنفس المعير المالك، و أمّا بيعها لغيره ربما أشكل فيه تارة لأنّها في معرض التلف، لما ذكرنا في بعض الفروع السابقة من أنّ المعير له الرجوع في أيّ وقت أراد، و له المطالبة بقلع الغرس و الزرع و هدم ما بناه،

ص: 40


1- «الخلاف» ج 3، ص 389، كتاب العارية، مسألة 5.

فلا تبقى لها ملكيّة مستقرّة.

فإقدام العقلاء على التمليك و التملّك في مثل هذه الأمور التي هي معرضة للتلف غير معلوم، بل ربما يسفهون المشتري في مثل هذه الموارد.

و فيه: أنّهم جوّزوا بيع الحيوان المشرف على التلف، و العبد المستحقّ للقتل قصاصا، فالمورد أيضا يكون من هذا القبيل.

و ما يجاب عن هذا: بأنّ ذينك الموردين أمّا بالنسبة إلى الحيوان المشرف على التلف ربما ينتفع بلحمه إن كان من المأكول، أو بجلده و إن كان من غير مأكول اللحم، و أمّا بالنسبة إلى العبد المستحقّ للقصاص ربما يعفو الولي عنه، فلا يكون تلف في البين.

فيه: أنّ ما نحن فيه أيضا ربما لا يطالب المالك المعير بالقلع و الهدم.

و لكنّ الجواب الصحيح من هذا الإشكال: هو أنّ المبيع حال وقوع البيع لا بدّ و أن يكون مالا عرفا و لم يسقط الشارع ماليّته كما أسقط في الخمر و الخنزير، و أمّا بعد ذلك فقد يقع عليه التلف أو يسقط ماليّته بواسطة كثرة وجوده، كما أنّ الماء في البادية مال، فربما بعد ما اشتراه تمطر السماء بكثرة فيسقط عن الماليّة، و أمثال هذا و نظائره كثيرة.

و لا شكّ في أنّ الغرس و الزرع في المفروض حال وقوع البيع لها ماليّة، و احتمال وقوع التلف عليها لا يمنع العقلاء من الإقدام على شرائها.

و ما ذكره الشيخ قدّس سرّه (1)في وجه عدم جواز البيع من غير المعير المالك من عدم القدرة على التسليم لإمكان منع المالك من الدخول، فمخدوش من جهات لا يخفى، و لذا تركنا ذكرها و الرد عليها.

ص: 41


1- «المبسوط» ج 3، ص 56.

فرع: إذا حملت الأهوية أو السيول أو غيرهما إلى ملك الإنسان و أرضه بعض الحبوب فنبت فيها ، فلا شكّ في أنّ الثابت ملك لصاحب الحبّ لو لم يعرض عنه، بناء على أنّ الإعراض يوجب الخروج، و إلاّ لو نقل بذلك و إن أعرض لأنّ ذلك النبت نفس ذلك الحبّ، و لعلّه إلى هذا يشير قوله «الزرع للزارع و لو كان غاصبا» (1)، بناء على أنّ المراد بالزارع هو مالك الحبّ و البذر.

و أمّا القول بأنّه بالاستحالة خرج عن ملكه. فضعيف لا يصغى إليه، فإذا كان صاحب الحبّ معلوما يكون كالمستعير المأذون من قبل مالك الأرض، فيأتي فيه جميع ما تقدّم فيما إذا غرس المستعير في الأرض المستعارة من أنّ للمالك المطالبة بقلع الزرع و الأشجار، و ما ذكرنا من فروعها هناك.

و أمّا إذا لم يكن معلوما بالتفصيل و كان معلوما بالإجمال، فتارة في عدة محصورين، و أخرى في غير المحصور عرفا. أمّا الأوّل فصاحب الأرض يجب عليه أنّ يصالح مع جميعهم بإرضاء الجميع بأيّ شكل كان ممكنا، و يمكن ان يقال باستخراج المالك المجهول شخصا المعلوم وجوده بين أفراد محصورين بالقرعة، لأنّها لكلّ أمر مشكل.

و أمّا الثاني-أي فيما إذا كان المالك معلوما بين أفراد غير محصورين-فقيل إنّه من قبيل اللقطة، فيجب عليه التعريف سنة كاملة، أو حتّى اليأس من وجدانه فيعطيه صدقة من قبل صاحبه.

و فيه: أنّ اللقطة قسم خاصّ من مجهول المالك لها أحكام مخصوصة، و تلك الأحكام رتّبها الشارع على عنوان خاصّ ليس ذلك العنوان في المفروض، فإجراء أحكام اللقطة عليها لا وجه له، بل يجب إجراء حكم مجهول المالك المطلق من

ص: 42


1- «نيل الأوطار» ج 6، ص 68، كتاب الغصب، باب تملّك زرع الغاصب. ، «سبل السّلام» ج 3، ص 906، ح 843، من غصب أرضا فزرعها.

دون اتّصافه بعنوان خاصّ.

هذا كلّه إذا كان متموّلا، و أمّا إذا لم يكن متموّلا، إمّا لقلّته أو لجهة أخرى، فربما يقال يجوز تملّكه لصاحب الأرض بعد أن نبت. و لكن لا وجه له، لأنّه و إن لم يكن مالا و لا يبذل بإزائه المال و لا ضمان له، إلاّ أنّه لم يخرج عن كونه ملكا لصاحبه.

إلاّ أن يقال: بأنّه خرج عن ملكه بواسطة التغيّر الذي وقع. و هذا أيضا لا وجه له، لأنّ النماء وقع في ملكه، فلو صارت تلك الحبّة شجرة تكون ملكا لمالكها، فصاحب الأرض له إجبار صاحب تلك الحبة بقلع تلك الشجرة، و أمّا إذا أعرض صاحب الحبّة و خرج عن ملكه فيصير من المباحات، و لصاحب الأرض تملّكه، فإذا تملّكه فيكون لصاحب الأرض.

فرع: إذا استعار شيئا لأجل انتفاع معيّن فانتفع به في غير ما استعار له ممّا لا يشمله إذن المعير ضمن العين المستعارة، لخروج يده عن كونها مأذونة و عن كونها يد أمانة، فيشملها قاعدة «على اليد ما أخذت» ، فيكون المستعير ضامنا. فلو تلف يكون عليه المثل إن كان مثليّا، و القيمة إن كان قيميّا، و يكون حاله حال الغاصب في ضمان جميع الانتفاعات المستوفاة، بل و غيرها.

فرع: لو جحد العارية بعد طلب المعير لها تخرج يده عن كونها يد أمانة، فتشملها قاعدة «على اليد ما أخذت» . فلو تلفت العين المعارة، أو نقصت يكون المستعير ضامنا لها، و كذلك يكون ضامنا للمنافع التي استوفاها بعد جحودها و ثبوتها بالبيّنة و الإقرار، أي من الوقت الذي خرجت يده عن كونه يد أمانة.

ص: 43

هذا لو كان جحوده بعد طلب المالك واضح، و أمّا لو يكن طلب من طرف المالك و هو ابتداء قال الشيء الفلاني مثلا كتابه الفلاني ليس عارية عندي، فهل هذا أيضا يوجب خروج يده عن كونها يد أمانة، و يكون عليه ضمان العين و المنافع؟ أم لا يوجب إلاّ بعد طلب المالك؟ الظاهر عدم الفرق بين كون جحوده بعد الطلب، أو كان جحودا ابتدائيا، لأنّ المناط في الخروج عن الأمانة عدم الإذعان بأنّ هذا المال أمانة، سواء طلب المالك أو لم يطلب.

نعم بعد طلب المالك و إنكاره و جحوده كمال الظهور في إنكاره أنّه إنكاره واقعي، و لا يعتني العقلاء باحتمال أنّه لعلّ إنكاره لغرض من الأغراض، و ليس غرضه أكل هذا المال و عدم ردّه إلى مالكه. و أمّا بدونه فيمكن أن يكون إنكاره إنكارا ظاهريّا و لغرض من الأغراض، بل ربما يكون إنكاره في غياب المالك لمصلحة المالك، مثل أن يكون عنده حجرا كريما غاليا، أو حليّا غاليا، فيذكر في مجلس: أنّ الحجر الفلاني أو الحليّ الفلاني من زيد عارية عندك؟ فيقول: لا، و مقصوده أنّ السراق الموجودين في المجلس لا يفهمون بوجوده عنده فيطمعون في سرقته، فمثل هذا الإنكار لا يوجب خروج يده عن الأمانة قطعا، و إلاّ فلا شكّ في أنّ طلب المالك في مقام الثبوت لا تأثير له في كون الجحود إنكارا واقعيّا أم لا.

فرع: إذا ادّعى المستعير التلف يقبل قوله مع يمينه ، أمّا أنّه يقبل قوله لأنّ يده أمانيّة، و قد بيّنّا في بعض القواعد السابقة الأدلّة الدالّة على سماع قول الأمين و أنّه ليس عليه إلاّ اليمين (1).

ص: 44


1- راجع ج 2، ص 9، قاعدة «عدم ضمان الأمين» .

و في بعض الروايات: «إذا ائتمنته فلا تتهمه» (1). و في خبر مسعدة بن زياد، عن الصادق، عن أبيه عليهما السّلام «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ليس لك أن تتّهم من قد ائتمنته و لا تأمن الخائن» .

بل في بعض الروايات كما في المرسل الذي ينقله في الجواهر: «لا يمين عليه إذا كان ثقة غير مرتاب» (2).

لا يقال: إنّ المراد من الأمين في هذه الأخبار هو الودعي لا مطلق اليد المأذونة، لأنّ ذو اليد تصرّفاته في ما تحت يده إن لم يكن مال نفسه إمّا بإذن مالكه و برضاه، أو بإذن من هو بمنزلة المالك شرعا و برضاه، فهذا هو الأمين. و أمّا بدون إذنه و رضاه فهي يد العادية و الغاصبة، فلا شبهة في قبول قوله، بمعنى عدم طلب البيّنة منه، و أمّا إنّه مع يمينه، أي القبول بمعنى ترتيب الأثر على دعواه فيما إذا حلف على طبق دعواه فأوّلا من جهة الإجماع، و ثانيا من جهة أنّ الميزان في باب القضاء أوّلا و بالذات أمران: أحدهما البيّنة، و الثاني الحلف، و كلّف المدّعي بأشقّ الميزانين، لأنّه هو الذي يريد إلزام الطرف بثبوت حقّ عليه، و جعل الشارع للمدّعى عليه أخفّ الميزانين، و هو الحلف، لأنّه لا يريد إلزام الطرف بشيء، بل رفع الإلزام عن نفسه، و لذا قالوا في تعريف المدّعي بأنّه هو الذي لو ترك ترك، فمعنى قبول قول الأمين أنّه بمقتضى عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: «البيّنة على المدّعي» (3)هو و لو كان المدّعي أمينا و لكن لمراعاة أمانته و دلالة الأدلّة المتقدّمة لم يكلّف بالأشقّ و هو البيّنة، فهذا الميزان لم يجعل في حقّه، و القضاء لا يمكن بدون الميزان، فجعل حقّه أخفّ الميزانين، مع أنّه مدّع، و إلاّ يبقى القضاء بلا ميزان، إن حكم الحاكم و إن لم يحكم يلزم التعطيل في

ص: 45


1- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 227-229، كتاب الوديعة، في أحكام الوديعة، باب 4.
2- «جواهر الكلام» ج 27، ص 148.
3- «عوالي اللئالي» ص 345، باب القضاء، ح 11، «مستدرك الوسائل» ج 17، ص 368، أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى، باب 3، ح 5.

الحكم و عدم حسم النزاع. فبهاتين المقدمتين-أي حصر ميزان القضاء في هذين الميزانين، أي البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر-و عدم جواز الحكم بدون ميزان.

فإذا دلّ الدليل على عدم كون البيّنة ميزانا في حقّ مدّع فلا بدّ من كون وظيفته ميزان الآخر، و إلاّ يلزم تعطيل الحكم، أو كون المرجع هو الميزان الآخر و هو الحلف.

و قد حرّرنا المسألة كافية و وافية في قاعدة «كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين» في الجزء الثالث من هذا الكتاب. و إن أردت التفصيل فراجع هناك.

و أيضا اشتهر أنّه و ما على الأمين إلاّ اليمين. و هذا-أي قبول قول المستعير- في التلف و التعدّي و التفريط، و أمّا في دعوى الردّ فعلى قاعدة «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» و أمّا الردّ فلا يأتي فيه قاعدة قبول قول الأمين، لأنّ الأمانة لا تقتضي قبول قوله في الردّ.

فرع: لو قال المعير: أعرتك كتابي هذا على أن تعيرني عباءك الفلاني، فهذه العارية صحيحة، لأنّ هذه عارية مشروطة بإعارة المستعير شيئا آخر له في قبال إعارته.

و الإشكال عليها بأنّ الشرط فاسد فيسري فساده إلى عقد العارية ممنوع صغرى و كبرى.

أمّا الكبرى فلما بيّنّا مفصّلا في هذا الكتاب في الجزء الرابع في قاعدة «إنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟» عدم إفساده مطلقا.

و أمّا الصغرى فلأنّ القول بفساد هذا الشرط من جهة ادّعاء أنّه خلاف مقتضى عقد العارية، لأنّ العارية عبارة عن التسليط على الانتفاع مجّانا، و مع هذا الشرط

ص: 46

ليس التسليط على الانتفاع مجّانا، بل يكون بإزاء انتفاع المعير الأوّل من مال المستعار الذي هو المعير الثاني.

و لكن فيه: أنّ المراد من أنّ العارية عندهم عبارة عن أن يكون انتفاع المستعير مجّانا، أي لا يكون بإزاء الانتفاع و مقابله شيئا من المال. و الأمر في المفروض أيضا كذلك، لأنّه ليس مع هذا الشرط شيء من المال في قبال الانتفاعات، بل تكون الإعارة مشروطة بالإعارة.

و هذا مثل الهبة المشروطة بهبة الموهوب له، فليس هناك أيضا مقابل العين الموهوبة كي نقول بأنّ الهبة المعوّضة باطلة و لا معنى لها، لأنّ الهبة معناها التمليك بلا عوض، فكون العوض لها لا يجتمع مع كونها هبة.

و الجواب هناك و هاهنا واحد، و هو أنّ العوض في العارية المشروطة، و في الهبة المعوضة ليس للانتفاعات في الأوّل، و للعين الموهوبة في الثاني، بل العارية المشروطة الشرط هو إعارة شيء معين آخر بإزاء إعارة الأوّل، فالإعارة بإزاء الإعارة شرطا أي يلتزم بإعارة في قبال إعارته. و هكذا في الهبة المعوّضة هو أن يلتزم الموهوب له بأن يهب شيئا في قبال هبته لا عوض موهوبة.

فالعارية المشروطة بعارية أخرى من طرف المستعير، و هكذا هبته المشروطة بهبة أخرى من طرف الموهوب له ليسا من العقود المعاوضيّة و ليس الشرط في كليهما منافيا لمقتضى عقديهما.

فرع: لو تلفت العارية بعد التعدّي و التفريط، مثل أنّه استعار دابّة للركوب فاستعملها في الحمل فتلفت بعد مدّة، فلا شكّ في ضمانها، لأنّ يده بعد التعدّي و التفريط خرجت عن كونها يد أمانة، فتشملها قاعدة «على اليد ما أخذت» .

و إنّما الكلام في أنّها لو كانت قيميّا فما يأتي بذمّته قيمة يوم التعدّي، أو قيمة

ص: 47

يوم التلف، أو أعلى القيم من يوم التعدّي إلى يوم التلف كما قيل في الغصب لأخذه بأشقّ الأحوال؟ وجوه بل أقوال.

و الظاهر هو قيمة يوم التلف، لأنّ العين المضمونة ما دامت موجودة هي بنفسها بوجودها الاعتباري تأتي في الذمّة و تشغل بها، فبعد التلف إن كان قيميّا ما يأتي في الذمّة و يستقرّ على عهدته هو قيمتها. و بناء على هذا فقيمتها يوم التلف، لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة، و إلاّ ما دام العين موجودة هي بنفسها في العهدة، غاية الأمر حيث أنّ العهدة عالم الاعتبار، و الأمر الخارجي التكويني لا يمكن أن يأتي بوجوده التكويني في عالم الاعتبار، لا بدّ و أن يقال يأتي بوجوده الاعتباري في عالم الاعتبار، كما أنّه لا يمكن أن يأتي بوجوده الخارجي في الذهن، بل يأتي في الذهن بوجوده الذهني، و لكن بعد إن انعدم وجوده في الخارج فذلك الوجود الاعتباري حيث أنّه كظلّ للوجود الخارجي فينعدم بانعدامه، فمعناه أنّه يسقط الضمان.

و هذا باطل يقينا، و قاعدة اليد أيضا مفادها بقاؤها إلى أن يؤدّي، و لكن حيث أنّ بقاءها لا يمكن لا بوجودها الخارجي لأنّه انعدم، و لا بوجوده الاعتباري لأنّه تابع للوجود الخارجي فبانعدامه ينعدم، فلا بدّ و أن يقال بانتقال ما في الذمّة إلى المثل إن كان مثليّا و إلى القيمة إن كان قيميّا، فإن كان قيميّا كما هو المفروض في المقام فلا بدّ و أن يكون قيمة ذلك الوقت، أي وقت التلف.

نعم إن قلنا: يمكن بقاء العين الخارجي بوجودها الاعتباري و لو بعد التلف في العهدة إلى أن يؤدّي، فوقت الانتقال إلى القيمة إن كان قيميّا هو وقت الأداء، فما يأتي هو قيمة يوم الأداء.

و لكن بقاء نفس العين في العهدة بعد انعدامها في الخارج و لو كان بوجوده الاعتباري غير معقول، لما قلنا إنّه من قبيل ظلّ الوجود الخارجي و تابع له، فلا يمكن بقاؤه بعد انعدام الوجود الخارجي، فلا بدّ من القول باشتغال الذمّة في

ص: 48

القيميّات بقيمة يوم التلف، و لا يسقط الضمان إلاّ بأداء تلك القيمة.

و أمّا في المثليّات حيث أنّ ما يأتي في الذمّة مثل العين الخارجي و هو باق إلى زمان الأداء، فإن كان أداء المثل ممكنا في يوم الأداء عليه أن يؤدّي المثل، و إن تعذّر أو تعسّر فقيمة ذلك الوقت، أي وقت التعذّر. ففرق بين المثلي و القيمي، ففي الأوّل قيمة يوم الأداء، و في الثاني قيمة يوم التلف.

و السرّ في ذلك: أنّ ظاهر «على اليد ما أخذت» أنّ نفس ما أخذت تسلّط عليه من دون إذن مالكه على عهدته إلى أن يؤدّي، فإذا أدّى يسقط عن عهدته و نبرأ ذمّته. و معلوم أنّ نفس العين الخارجي بوجود الخارجي لا يعقل أن يستقرّ على العهدة، فلا بدّ و أن نقول يأتي في العهدة بوجودها الاعتباري.

و معنى هذا الكلام أيضا ليس أنّ العين الخارجي يأتي بوجودها الاعتباري في العهدة، لأنّه تناقض، بل معناه أنّ العقلاء أو الشارع يعتبر ذمّته مشغولة في عالم الاعتبار التشريع بذلك الشيء، أي يعتبر ما كان تحت اليد مستقرّا على اليد، أي على من تسلّط على ذلك الشيء بدون إذن المالك.

و هذا يمكن فيما إذا كان ذلك الشيء تحت اليد، فيعتبر ما في اليد فوق اليد.

و أمّا إذا لم يكن شيء في اليد و انعدم كيف يمكن أن يقال ما في اليد و تحت سلطنته معتبر فوق عاتقه و عهدته، فلا بدّ أن يقال: مثله أو قيمته فوق عهدته، ففي المثلي المثل و في القيمي القيمة، فإذا كان قيميّا يكون قيمة ذلك الوقت و هو يوم التلف، و إن كان مثليّا فيأتي المثل إلى يوم الأداء، فإن تعذّر ينتقل إلى القيمة أي قيمة ذلك اليوم، أي يوم الأداء.

و أمّا من يقول بأعلى القيم فيقول: نفس العين بوجودها الاعتباري يأتي من يوم الغصب في الذمّة إلى يوم الأداء بما له من القيمة السوقيّة، و اختلاف القيم كلّ ما زاد يأتي في الذمّة و لا يرتفع و لا تبرأ ذمّته إلاّ بالأداء، و إذا نقص فذلك النقص

ص: 49

لا يوجب البراءة من الزائد. فالنتيجة تصير أعلى القيم من حين الغصب إلى زمان الأداء.

و إن قلنا بأنّ العين ما دامت موجودة يكلّف بأداء نفسها، و إذا وقع التلف عليها يعتبر قيمة العين في الذمّة، و لكن زيادات القيمة السوقيّة أيضا تعتبر في الذمّة، فيكون أعلى القيم من يوم التلف إلى يوم الأداء.

و لكن أنت خبير بأنّ ما هو الصحيح من هذه الأقوال هو قيمة يوم التلف في القيمي، و يوم الأداء في المثلي.

فرع: بعد الفراغ عن أنّ النقص الحاصل في العارية من قبل الاستعمال المأذون فيه تصريحا أو إطلاقا لا يضمن، فلو شرط الضمان في عارية حصل فيها النقص من ناحية الاستعمال المأذون فيه، ثمَّ بعد حصول النقص تلفت، فلا شك في ضمانها من جهة اشتراط الضمان فيها، و لكن قيمتها يوم التلف، أي بعد حصول النقص إن كانت قيميّا، و مثلها كذلك إن كانت مثليا.

و ذلك لأنّ النقص الحاصل لا ضمان فيه، و اشتراط الضمان في نفس العين المستعارة بقيمتها يوم التلف أو مثلها كذلك.

نعم لو كان اشتراط الضمان فيها بحيث يشمل ضمان النقص الحاصل من الانتفاعات و الاستعمالات المأذونة، ففيه أيضا الضمان، كما أنّه كذلك بطريق أولى لو خص بثبوت الضمان فيه.

و لكن ربما يقال بأنّ ضمان النقص الحاصل بالاستعمالات المأذونة مندرج في اشتراط ضمان نفس العين، لأنّ العين عبارة عن مجموع أجزائها و أوصافها، فإذا نقص كلّ جزء أو وصف فضمان العين ينطبق على ذلك الجزء أو ذلك الوصف بمقداره.

ص: 50

نعم ربما يكون لاجتماعها أيضا زيادة قيمة، و هو يكون في هذا المقام بمنزلة نقصان جزء، فلا يحتاج إلى إطلاق أو تنصيص لضمان خصوص النقصان.

و أنت خبير بأنّ هذا شبه مغالطة في المقام، و ذلك لأنّ الاستعمالات المأذونة لو أدّت إلى نقص في حد نفسها لا توجب ضمانا، و إنّما الضمان جاء من قبل الاشتراط و الشرط حسب الفرض ضمان العين لو تلفت، فبأيّة حالة كانت عند التلف قيمتها أو مثلها تأتي على العهدة، فقبل تلف العين لا يأتي شيء ممّا وقع عليه التلف على العهدة، سواء كان من الأجزاء أو من الأوصاف، بل ما يتعلّق بالذمّة و يستقرّ على العهدة هي العين الموجودة في وقت وقوع التلف عليها بوجودها الاعتباري أو قيمتها أو مثلها، و أمّا الصفات الفاقدة أو الأجزاء الفاقدة قبلا فلا.

و ليس من قبيل الغصب كي يكون جميع أجزائها و أوصافها من حين وقوع اليد العارية أي غير المأذونة عليها مضمونة على الغاصب، فتلك الأوصاف و الأجزاء خارجة عن دائرة الضمان إلاّ باشتراط خاص متعلّق بها أو شمول الإطلاق لها.

و هنا إشكال آخر على ضمان ما نقص بالاستعمالات المأذونة، و هو أنّ اشتراط الضمان فيه مخالف لمقتضى عقد العارية، و الشرط المخالف لمقتضى العقد باطل و فاسد.

و فيه: أنّ شرط الضمان في النقص الحاصل من الاستعمالات المأذونة ليس منافيا لمقتضى العقد.

بيان ذلك: أنّ العارية و إن كانت عبارة عن التسليط على عين متموّل للانتفاع و الاستعمال في ما يحتاج إليه مجّانا و بلا عوض، فما هو مجّان و بلا عوض هو جواز الاستعمال بلا عوض، و ليس مقتضاه عدم ضمان النقص الحاصل من تلك الاستعمالات الجائزة مجّانا كي يكون شرط ضمانه منافيا لمقتضى العقد.

نعم لو شرط في عقد العارية كون تصرّفاته و استعمالاته بمعوّض، يكون هذا

ص: 51

الشرط مخالفا لمقتضى العقد، و ليس الاستعمال ملازما للنقص، بل ربما يكون الاستعمال و لا يكون نقص أصلا، لا في الصفات في الأجزاء و لا في القيمة.

و الحاصل: أنّ كون جواز الاستعمالات مجّانا و بلا عوض غير مضادّ مع ضمان النقص و ممّا يجتمعان، فلا مانع من ضمان النقص بالاستعمال، و لا يكون مخالفا لمقتضى العقد.

فرع: و بهذا الفرع نختم العارية، و هو أنّ العارية لا شكّ في رجحانها شرعا و عقلا ، و ذلك لاحتياج أكثر الناس في بعض الأحيان إلى بعض الآلات و الأدوات و ظروف الأطعمة، و الأشربة، و القدور للطبخ، و الأغطية، و اللحف خصوصا إذا نزل عليهم ضيف، و الحليّ و أدوات الزينة للنساء، خصوصا إذا أردن الذهاب إلى الأعراس، و كثير من الحوائج الأخر.

و خلاصة الكلام: لو لم تكن العارية مشروعا لكان يختل أمور معيشة كثير من الناس، و لذلك حثّ الشارع عليها و وضع اللّه تعالى تركها في عداد المحرّمات الكبيرة في سورة الماعون كالغفلة عن الصلاة و الرياء و أمثال ذلك، و لذلك ذهب جمع إلى وجوبها عند الطلب.

و على كل حال لا شكّ في حسنها مستدلا بالنصّ و الإجماع، و النص كتابا و سنّة.

أمّا الكتاب:

منها: قوله (وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ) (1). و لا شكّ في أنّ العارية برّ، فإعطاء العارية معاونة على البرّ.

و منها: قوله تعالى (وَ يَمْنَعُونَ اَلْمٰاعُونَ) (2)حيث ذمّهم اللّه تعالى عن منع

ص: 52


1- المائدة (5) :2.
2- الماعون (107) :7.

إعطاء الماعون.

و قال في التذكرة: و روي عن ابن عباس و ابن مسعود أنّهما قالا: الماعون العواري. و العواري جمع عارية، و فسرّ ذلك ابن مسعود فقال ذلك القدر و الدلو و الميزان (1).

و أمّا استحبابها: فبعد الإجماع على عدم وجوبها فهذه الآيات و الروايات الواردة في الحثّ عليها

لا بدّ و أن تحمل على تأكّد الاستحباب، مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله في حقّ من عنده الإبل و أداء حقّها بعد ما قيل: يا رسول اللّه و ما حقّها؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:

«إعارة دلوها، و إطراق فحلها، و منحة لبنها يوم وردها» (2).

و حكي عن عكرمة أنّه قال: التوعّد وقع على الثلاث، فإذا جمع ثلاثتها فالويل له إذا سها عن الصلاة ورائي و منع الماعون.

و الحمد لله أوّلا و آخرا، و ظاهرا و باطنا.

ص: 53


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 209.
2- «عوالي اللئالي» ج 3، ص 251، باب الوديعة، ح 7.

ص: 54

61-قاعدة الإجارة أحد معايش العباد

اشارة

ص: 55

ص: 56

قاعدة الإجارة أحد معايش العباد

و من جملة القواعد الفقهيّة قاعدة «الإجارة أحد معايش العباد» .

و فيها جهات من البحث:

الجهة الأولى: في مشروعيّتها و أنّها من المعاوضات

الثابتة في الدين و الشريعة الإسلاميّة، و يترتّب شرعا عليها آثار باستحقاق المستأجر منافع العين المستأجرة، أو عمل الأجير الذي استأجره لذلك العمل إذا وقعت واجدة لشروط صحّتها الآتية.

و الدليل على ثبوتها و مشروعيّتها الآيات، و الروايات، و الإجماع.

أمّا الأوّل:

فمنها: قوله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَلىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) (1).

و منها: قوله تعالى (قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ) (2).

ص: 57


1- القصص (28) :27.
2- القصص (28) :26.

و منها: قوله تعالى (لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً )(1). و غيرها من الآيات التي منها ما نقله المرتضى، عن تفسير النعماني بإسناده عن علىّ عليه السّلام في بيان معايش الخلق، قال: و أمّا وجه الإجارة فقوله عزّ و جلّ (نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ) (2).

فأخبرنا سبحانه أنّ الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم و إرادتهم و سائر حالاتهم، و جعل ذلك قواما لمعايش الخلق، و هو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته و أعماله و أحكامه و تصرّفاته و أملاكه، و لو كان الرجل منّا يضطرّ إلى أن يكون بنّاء لنفسه، أو نجّارا، أو صانعا في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه، و يتولّى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب و ما يحتاج إليه من الملك فمن دونه، ما استقامت أحوال العالم بتلك، و لا اتّسعوا له و لعجزوا عنه، و لكنّه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم و كلّما يطلب ممّا تنصرف إليه همّته ممّا يقوم به بعضهم لبعض، و ليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش التي بها صلاح أحوالهم (3).

و أيضا روى الحسن بن عليّ بن شعبة في تحف العقول عن الصادق عليه السّلام في وجوه معايش العباد إلى أن قال: «و أمّا تفسير الإجارات فإجارة الإنسان نفسه، أو ما يملكه، أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه» (4)إلى آخر الحديث الشريف.

و المقصود من نقل الروايتين أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام استدلّ لكون الإجارة من وجوه معايش العباد، و أنّها مشروعة ثابتة في الدين بالآية الشريفة و أنّها لا بدّ منها، و أنّ أمور الخلق و معايشهم لا تستقيم بدونها.

ص: 58


1- الكهف (18) :77.
2- الزخرف (43) :32.
3- المرتضى في «المحكم و المتشابه» ص 59، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 244، كتاب الإجارة، باب 2، ح 3.
4- «تحف العقول» ص 333، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 242، كتاب الإجارة، باب 1، ح 1.

و أمّا الثاني: فأخبار كثيرة دالّة على مشروعيّة الإجارة، نذكرها إن شاء اللّه تعالى في الفروع الآتية.

و أمّا الثالث: فالقولي منه هو اتّفاق جميع الفقهاء على مشروعيّة الإجارة، و العملي منه هو اتّفاق جميع المتديّنين من جميع الفرق الإسلاميّة على أخذ الأجير لحوائجهم و إيجار أملاكهم، بل لا يبعد الادّعاء بأنّ ثبوتها و لزوم ترتيب الأثر عليها من الضروريّات.

الجهة الثانية: في بيان حقيقتها و شرح ماهيّتها و المراد منها

أقول: الظاهر أنّ لفظة «الإجارة» مصدر فعل الثلاثي المجرّد، أجر يأجر إجارة، ككتاب مصدر كتب، و هي في الأصل بمعنى الإكراء كما ذكره أهل اللغة، و هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة.

و عند الفقهاء: فالمشهور منهم قائلون بأنّها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، و قيل إنّ حقيقتها التسليط على عين للانتفاع بها بعوض معلوم.

و الأوّل أمتن و أشمل، لعدم شمول الثاني إجارة الحرّ نفسه، لأنّ الحرّ لا يقع تحت سلطنة أحد و لا يمكن أن يكون لأحد يد عليه. نعم تمليك منافعه لا مانع منه.

و قد أشكل على التعريف الأوّل بأنّ المنافع تدريجيّة الوجود، ما لم ينعدم الجزء الأوّل لا يتحقّق الجزء التالي، فلا قرار و ثبات لها كي تصير متعلّقة للملكيّة و يرد عليها التمليك.

و فيه: أن الأمور التدريجية الوجود أيضا لها وجود، و لوجودها آثار، فمثل الليل و النهار و ليلة الجمعة و شهر رمضان لها وجود، و ذلك لأنّ المتّصل التدريجي مساوق للوحدة الشخصيّة، فالقول بأنّ المنافع حيث أنّها تدريجيّة الوجود فليس لها

ص: 59

قرار و ثبات فلا يرد عليها التمليك، ليس كما ينبغي.

و أمّا الإشكال عليه: بأنّ الإجارة ليست تمليكا للمنفعة، لأنّها متعلّقة بالعين، فلو كان معنى الإجارة هو التمليك فلا بدّ و أن يكون تمليكا للعين لا المنفعة، لعدم تعلّقها بالمنفعة، فلا تكون موجبا لنقلها إلى المستأجر.

ففيه: أنّه ليس معنى «آجرت الشيء الفلاني» ملكته كي يقال بأنّها لم تتعلّق بالمنفعة، بل معنى «آجرتك هذه الدار أو هذه الدابة» مثلا، أو أيّ مال آخر له منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء هو أكريتك هذه الأشياء. و معنى الإكراء عند المتفاهم العرفي تمليك منافع ذلك الشيء له بإزاء عوض معلوم. فمعنى إجارة عين من الأعيان التي لها منفعة تمليك منافعها، فإذا تعلّقت الإجارة أو الإكراء بعين يفهم العرف منه أنّ منافع تلك العين صارت ملكا للمستأجر و المكتري.

و بعبارة أخرى: لفظتا «الإجارة» و «الإكراء» مفيدتان لتمليك منافع ما تعلّقا به، فلو تعلّقا بالمنفعة أفادا تمليك منافع تلك المنفعة، فلو قال: «آجرتك أو أكريتك منافع هذا البستان» كان معناه ملكتك منافع هذا البستان، فلا بدّ و أن تتعلّق الإجارة بنفس العين كي تفيد تمليك منافعها الذي هو حقيقة الإجارة.

فلا مجال للإشكال المتقدّم، لما ذكرنا في معنى الإجارة من أنّ المعاوضة فيها في الحقيقة تقع بين منافع العين المستأجرة و العوض المذكور في عقد الإجارة، و ذكر العين باعتبار قيام المنافع بها و لتعيين المنافع التي يملكها المؤجر للمستأجر بإزاء ما يأخذ من العوض. هذا في إجارة الأعيان المملوكة.

و في إجارة الأحرار للأعمال أيضا يكون الأمر كذلك.

و في الحقيقة معنى إجارة الأجير نفسه، أو من يلي أمره لعمل تمليك ذلك العمل و ذكر الأجير لقيام العمل به فلا يتعيّن إلاّ به، و إلاّ هو بنفسه أجنبي عن مورد المعاملة و المعاوضة.

ص: 60

هذا إذا لم يكن لفظ «الإجارة» متضمّنا لتمليك منافع متعلّقه، سواء كان متعلّقة من الأعيان التي لها منفعة، أو كان حرّا آجر نفسه، فمعنى إجارة نفسه تمليك منافع نفسه للمستأجر. فالإجارة و إن كانت تتعلّق بنفسه و لكن قلنا إنّ معنى تعلّق الإجارة بشيء هو تمليك منافع متعلّقه للمستأجر، فإذا قال «آجرتك هذه الدار» معناه تمليك منافع تلك الدار للمستأجر، فلا يبقى إشكال في البين، و لا حاجة إلى القول بأنّ ذكر العين من باب قيام المنفعة بها و من جهة تعيين المنفعة التي تقع طرفا للعوض.

ثمَّ إنّ العلاّمة قدّس سرّه ذكر في جملة من كتبه أنّ الإجارة عبارة عن العقد (1). و ثمرته تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم مع بقاء الملك على أصله.

و أشكل عليه في جامع المقاصد (2)بأنّه لو كان معنى الإجارة هو العقد، فلازمه أن يكون قول الموجر «آجرتك» إنشاء و إيجادا لعقد الإجارة، فيكون معنى «آجرتك الدار الفلانية» مثلا: أنشأت عقد إجارتها. و هو غريب.

و الصحيح هو أنّ الإجارة بالمعنى الذي ذكرنا لها-تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم-مسبّبة عن العقد، أي عن الإيجاب و القبول، بمعنى أنّ الإيجاب و القبول عند الشارع موضوع لوجود الإجارة في عالم الاعتبار التشريعي.

فقولنا: إنّها مسببة عن العقد-أي الإيجاب و القبول-ليس مرادنا أنّها من المسبّبات التكوينيّة، كالاحتراق الحاصل من النار بل عبارة عن أمر اعتباري اعتبره الشارع أو العرف و العقلاء في موضوع كذا، و هو ملكيّة المنفعة الكذائيّة في إجارة الأعيان، أو العمل الكذائي في إجارة الأحرار.

فلا يرد عليه أنّ السبب لا بدّ و أن يكون موجودا بتمام أجزائه حال وجود المسبّب، و إلاّ لزم تأثير المعدوم في الموجود، و لا يحتاج إلى التمحلات الباردة التي

ص: 61


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 290، «قواعد الأحكام» ج 1، ص 224.
2- «جامع المقاصد» ج 7، ص 80.

ذكروها في هذا المقام.

فإن كان مرادهم من قولهم في مقام تعريف الإجارة «إنّها عقد ثمرتها كذا» هو الإيجاب و القبول، فهذا واضح البطلان، و إن كان مرادهم أنّ العقد موضوع عند الشارع لذلك الأمر الاعتباري، فهذا كلام حقّ لا إشكال فيه.

و لا مانع من كون الأمور التدريجية الوجود، موضوعة لأمر اعتباري و مصحّحة لاعتباره، كما أنّ الشارع جعل التذكية-أي فري الأوداج الأربعة بآلة من حديد من مسلم مسمّيا موجّها إلى القبلة-موضوعا لطهارة بدن الحيوان المذكّى، و حلّية لحمه إن كان ممّا يحلّ أكله، و قد اعتبر الشارع الأحكام الخمسة التكليفية من الوجوب، و الحرمة، و الاستحباب، و الكراهة، و الحلّية في أكثر الأفعال التي هي تدريجيّة الوجود.

ثمَّ إنّ عقد الإجارة كسائر العقود يقع بالإيجاب و القبول، و لا بدّ أن يكونا بلفظين صريحي الدلالة على المقصود. و اللفظ الصريح من طرف الموجب هو «آجرت» و «أكريت» ، و من طرف القابل، «قبلت» و «استأجرت» و «اكتريت» أو «استكريت» و أمثال ذلك ممّا هو يدلّ دلالة صريحة على مطاوعة ما أنشأه الموجب.

و المراد من الدلالة الصريحة هو أن يكون اللفظ إمّا موضوعا لذلك المعنى، و إمّا يستعمل فيه مع القرينة الصارفة و المعيّنة جميعا بحيث يكون ظاهرا في المعنى المراد، و ذلك لأنّ العقود تابعة للمقصود، و قد أوضحناه في قاعدة «العقود تابعة للقصود» من هذا الكتاب.

و خلاصة الكلام في هذا المقام أنّ إنشاء عناوين العقود، كالبيع و الإجارة و الصلح و الرهن، لا بدّ و أن تكون مقصودة للمتعاقدين موجبا و قابلا، لأنّها عناوين قصديّة لا تتحقّق بدون القصد، فإذا قصد عنوانا من عناوين العقود، و أنشأه بلفظ صريح في معنى ذلك العنوان إمّا بالوضع أو بالقرينة المتعارفة الظاهرة فيه حسب

ص: 62

المتفاهم العرفي، وجد ذلك العنوان في عالم الاعتبار التشريعي.

و أما إذا لم يكن المستعمل في الإيجاب أو في جانب القبول ظاهرا في المعنى المقصود لا بالوضع و لا بالقرينة لم يوجد ذلك المعنى في عالم الاعتبار التشريعي و إن كان مقصودا، لعدم كفاية القصد وحده، بل لا بدّ في وجوده من وجود أمرين:

القصد، و إنشاء ما قصده بلفظ صريح فيه، و إلاّ يلزم أحد الأمرين: إمّا أنّ ما قصد لم يقع، أو أنّ ما وقع لم يقصد. و قد يكون كلا الأمرين كما أنّه لو قصد إجارة الدار و استعمل لفظ البيع في مقام الإنشاء و قال: «بعتك هذه الدار» فلا يقع بيعا، لأنّه لم يقصد، و لا إجارة، لأنّه و إن قصدها و لكن الذي أوقعه هو البيع، فما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

و ذلك لأنّ آلة الإيقاع في باب الإنشاءات هو اللفظ الظاهر في المعنى الذي يريد إنشاءه، إذ الإنشاء بالاستعمال الصحيح، و هو لا بدّ و أن يكون إمّا باستعمال اللفظ في معناه الحقيقي، و إمّا باستعماله في غير ما وضع له، و لكن مع القرينة الصارفة و المعيّنة للذي يريد.

و لذلك وقع الخلاف في بعض التعابير، كما إذا قال: «بعتك سكنى هذه الدار سنة كاملة بكذا» هل تقع الإجارة أم لا؟ من حيث ظهور البيع في نقل الأعيان و ظهور المنفعة في الإجارة.

نعم لو قال: «ملّكتك سكنى هذا الدار سنة كاملة بكذا» كان ظاهرا في الإجارة، لأنّه تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، و هذا عين الإجارة.

ثمَّ إنّه لا إشكال في وقوع الإجارة بالعقد، إنّما الكلام في وقوعها بالمعاطاة.

الظاهر أنّه أيضا لا إشكال فيه لوجوه:

الأوّل: تحقّق عنوان الإجارة بالمعاطاة فتشمله العمومات، إذ لا شكّ أنّ

ص: 63

قوله عليه السّلام: «الإجارة أحد معايش الخلق» (1)في مقام بيان طرق المعيشة التي هي حلال و بها قيام أسواق المسلمين و تلك الطرق ممضاة من قبل الشارع، فحال «الإجارة أحد معايش الخلق» حال «أحلّ اللّه البيع» و «الصلح خير» و «العارية مردودة» و أمثال ذلك من عناوين المعاملات.

الثاني: بناء على أنّ المعاطاة أيضا عقد-كما احتمله بعض و إن كان لا يخلو من مناقشة بل إشكال-تشملها أدلّة وجوب الوفاء بكلّ عقد، و قدم تقدّم تفسير ذلك في بيع المعاطاة و قلنا التحقيق إنّها ليست بعقد.

الثالث: قيام السيرة المستمرّة في جميع أنحاء العالم على تحقق الإجارة بالمعاطاة و بناء العقلاء من كافّة الأمم على ذلك.

فإذا تحقّقت بالمعاطاة تشملها العمومات من الآيات و الروايات التي تدلّ على إمضائها و ترتيب الأثر عليها، فلا ينبغي أن يشكّ في صحّة الإجارة المعاطاتية و لزوم ترتيب أثر الإجارة الصحيحة عليها.

و أمّا أنّها لازمة كالعقدية أم لا؟ أقول: جميع أدلّة اللزوم-خصوصا أصالة اللزوم في الملك-تجري فيها ما عدا (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2)بناء على عدم كون المعاطاة عقدا كما اخترناه.

فالإجارة مطلقا-تحقّقت بالعقد أو بالمعاطاة-معاملة لازمة لا تنفسخ إلاّ بالتقايل أو شرط الخيار كسائر العقود اللازمة.

نعم إذا ثبت الإجماع على عدم اللزوم في المعاطاة منها، كما ادّعي في البيع، فلا بدّ من الخروج من مقتضى الإطلاقات و الأدلّة و القول بجوازها ما لم تلزم بتصرّفهما أو تصرّف أحدهما فيما انتقل إليه.

ص: 64


1- تقدم ص 58، هامش رقم (4) .
2- المائدة (5) :1.

فلو تصرّف المستأجر في المنفعة التي ملكها بالإجارة، أو تصرّف المؤجر في عوضها لزمت الإجارة و لا يجوز فسخها، كما هو الحال في البيع أيضا، فالبيع المعاطاتي أيضا جوازه مشروط ببقاء الثمن و المثمن، ففي صورة تلفهما أو تلف أحدهما لا يبقى الجواز، بل يصير البيع لازما، لأنّ القدر المتيقّن من مورد الإجماع هو فيما إذا كان العوضان باقيين و لم يقع تلف في أحدهما، كلاّ أو بعضا، و لا تصرّف منهما أو من أحدهما.

و بناء على هذا حيث أنّ الإجارة المعاطاتيّة غالبا ملازمة مع تلف جزء من المنفعة المملوكة للمستأجر أو العمل الذي صار مملوكا له، فلا يبقى مورد للجواز.

و لعلّه لهذا ادّعوا الإجماع على لزومها مطلقا.

فرع: لا تبطل الإجارة ببيع العين المستأجرة ، غاية الأمر تنتقل إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدّة تلك الإجارة اللازمة.

و لا مانع من ذلك بعد الفراغ عن اجتماع شرائط صحّة البيع و نفوذه فيه و شمول إطلاقات البيع له، و عدم الخلاف في صحة البيع إن كان المشتري غير المستأجر، بل و إن كان هو المستأجر لوقوع الشراء بعد أن صار الملك مسلوب المنفعة بالإجارة، فلم تبق منفعة كي تكون ملكا للمشتري تبعا للعين، من غير فرق في ذلك بين أن يكون المشتري هو المستأجر أو يكون غيره، لأنّه فيما إذا كان المشتري هو المستأجر في الرتبة السابقة على البيع صارت المنعفة ملكا له، فمحال أن تصير ملكا له بواسطة الشراء المتأخّر.

اللّهمّ إلا أن يقال بسقوط الملكيّة الحاصلة بالإجارة بالانفساخ، و حصول ملكيّة جديدة بتبع ملكيّة العين بالبيع. و لكن هذا قول بلا دليل، و تكلّف بلا مبرر.

إلاّ أن يقال: إنّ العقلاء لا يرون في حال كون العين ملكا له أن تكون ملكيّة

ص: 65

منفعتها مستندة إلى سبب آخر غير التبعيّة. و لكن هذا أيضا صرف ادّعاء لا شاهد عليه.

فالأقوى عدم بطلان الإجارة ببيع العين المستأجرة، سواء كان المشتري هو المستأجر أو كان غيره، و قد عقد في الوسائل بابا لذلك (1).

نعم لو كان المشتري جاهلا بأنّ البائع آجر المبيع قبل البيع، كان له الخيار، لأنّ اللزوم ضرريّ، و ربما يكون ضرره أكثر من مورد الغبن الذي يوجب الخيار، خصوصا إذا كانت الإجارة لمدّة طويلة. بل في بعض الصور تكون المعاملة لغوا و غير عقلائي، كما إذا آخر داره-مثلا-لمدّة مائة سنة فباعها، فالمشتري الجاهل يشتري لأجل أن يسكن فيها، فلو كانت هذه المعاملة لازمة لزم أن يكون المشتري طول عمره محروما من سكنى داره، و لا يمكن للفقيه الالتزام بصحّة أمثال هذه المعاملات و لزومها.

و أمّا ما ذكره العلاّمة قدّس سرّه في الإرشاد (2)من بطلان الإجارة و انفساخها إذا كان المشتري هو المستأجر، فقد ذكروا لتوجيه كلامه وجوها:

منها: ما أفاده المحقّق المقدّس الأردبيلي قدّس سرّه في شرحه على الإرشاد (3)، من أنّه لو قلنا بعدم الانفساخ و بقاء الإجارة لزم توارد العلّتين و السببين المستقلّين على مسبّب واحد، لأنّ المستأجر يملك المنفعة أيضا تبعا للعين بالبيع، و قد كان مالكا لها بالإجارة، فبعد أن اشترى العين لو لم تنفسخ الإجارة و بقيت، يكون ملكه للمنفعة مستندا إلى سببين: الإجارة و التبعيّة، كلّ واحد منهما سبب مستقلّ لا أنّه جزء سبب، و يكون من قبيل تحصيل الحاصل المحال لو قلنا بحصول ملكيّتها ثانيا بالتبعيّة، فلا بدّ من القول ببطلان الإجارة و انفساخها.

ص: 66


1- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 266، كتاب الإجارة، باب 24.
2- «إرشاد الأذهان» ج 1، ص 426.
3- «مجمع الفائدة و البرهان» ج 10، ص 91.

و لكن قد عرفت أنّ الأقوى عدم بطلان الإجارة، و إن كان المشتري هو المستأجر، لأنّه في الرتبة السابقة على الشراء ملك منافع العين بالإجارة، و مالك العين حيث أنّه آجر ملكه و نقل منفعة ذلك الملك إلى المستأجر فقد استوفى منفعة العين بالإجارة و أخذ بدلها، فلم يبق لذلك الملك منفعة في عالم الاعتبار التشريعي، بمعنى أنّ الباقي في يد المالك بعد الإجارة نفس العين بدون المنفعة.

فإذا باع العين فلا ينتقل إلى المستأجر بذلك البيع إلاّ العين مجرّدة عن المنافع، لعدم كونه مالكا للمنافع كي ينقلها إلى المشتري، و فاقد الشيء لا يمكن أن يكون معطيا له، فيحصل للمشتري ملك بلا منفعة. و في مثل هذا المورد لا تبعية في البين.

و لا ملازمة بين ملكيّة العين و ملكيّة منافعها، و إلاّ يلزم إمّا بطلان جميع الإجارات، أو القول بأنّ منافع العين المستأجرة ملك للموجر بتمامها، و أيضا ملك للمستأجر بتمامها، و لا يصحّ التفوه بهذه الأباطيل.

و منها: ما أفاده في الإيضاح في شرح قول والده قدّس سرّه: «و لو كان هو المستأجر فالأقرب هو الجواز» . قال: و يحتمل انفساخ الإجارة، لأنّه إذا ملك الرقبة حدثت المنافع على ملكه تابعة للرقبة، و إذا كانت المنافع مملوكة له لم يبق عقد الإجارة عليها (1).

و فيه: أنّ ملك العين يستدعي ملك المنافع تبعا إذا لم يسبق ملكها بسبب آخر، و إلاّ يلزم تحصيل الحاصل كما تقدّم بيانه، و صرف حدوث المنافع على ملكه لا يوجب كونها ملكا له مطلقا، بل يوجب إذا لم يكن له سبب آخر قبلا، و إلاّ يلزم المحذور المتقدّم-تحصيل الحاصل.

و منها: ما قاله في جامع المقاصد: أنّ لازم بقاء الإجارة و عدم انفساخها أن يجتمع على المشتري المستأجر الثمن و الأجرة جميعا، فيجب عليه أن يعطى من

ص: 67


1- «إيضاح الفوائد» ج 2، ص 244، «قواعد الأحكام» ج 1، ص 224.

ماله أجرة ماله. (1)

و فيه: أنّ هذا يلزم لو كان حصول ملكيّة منافع العين المستأجرة بالتبعيّة، و إلاّ لو كان ذلك جهة الإجارة ففي الرتبة السابقة على الإجارة ليست المنافع مالا له، و إنّما تحصل الماليّة بالإجارة و إعطاء الأجرة، فهو يعطي من ماله أجرة ما صار ملكا له بالإجارة.

و هذا لا إشكال فيه، بل يكون كلّ إجارة هكذا. و بعد أن صارت المنافع ملكا له بالإجارة و إعطاء العوض و البدل، فوقوع البيع بعد ذلك لا يؤثّر في ملكيّتها تبعا، لأنّه إذا كان لشيء سببان، فالسبب الأوّل إذا وجد يوجد المسبّب و لا يبقى محلّ و مجال لتأثير السبب الثاني.

فما قاله العلامة قدّس سرّه في القواعد: «لو كان هو المستأجر فالأقرب هو الجواز» (2)هو الصحيح، لا ما أفاده في الإرشاد (3). و إن كان تعبيره بالجواز لا يخلو من مناقشة، إذ المراد منه بقاء الإجارة و عدم انفساخها. و لا ينبغي أن يعبّر عن هذا المعنى بالجواز، لعدم الكلام في جواز البيع و جواز الإجارة و عدم جوازها، إنّما الكلام في انفساخ الإجارة و عدم انفساخها.

فرع: لو تقارن البيع و الإجارة -كما إذا باع داره مثلا، و في نفس ذلك الزمان آجرها وكيله-فهل كلاهما يقعان صحيحين، أو باطلين، أو التفصيل بين البيع فيقع صحيحا، و بين الإجارة فتقع باطلة؟ وجوه.

ربّما يتوهّم في وجه الأوّل أنّ تمليك العين لشخص و تمليك منفعتها لشخص

ص: 68


1- «جامع المقاصد» ج 7، ص 90.
2- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 224.
3- «إرشاد الأذهان» ج 1، ص 426.

آخر لا تنافي بينهما، لأنّهما ملكان لمالك واحد، و له أن ينقل أحدهما إلى شخص، و الآخر إلى شخص آخر.

و فيه: أنّ هذا صحيح لو كانت الإجارة متقدّمة على البيع زمانا، لأنّه بعد نقل المنفعة إلى الغير بالإجارة يبقى الملك بلا منفعة في مدّة الإجارة، فللمالك أن يبيع العين المسلوبة المنفعة لنفس ذلك المستأجر أو لغيره، و لا تنافي بينهما.

و أمّا لو كانا في زمان واحد-كما هو مفروض المسألة-فحيث أنّ نقل العين بالبيع يستتبع نقل المنفعة أيضا، فإذا كان زمان البيع و الإجارة واحدا لزم نقل المنفعة إلى شخصين في زمان واحد، فيكون النقلان متنافيين، و لا ترجيح لأحدهما، فيتساقطان. نعم لو كان المشتري و المستأجر واحدا فلا يأتي الإشكال و لا تنافي، بل يكون بمنزلة تكرار نقل المنفعة إليه.

و ربما يجاب عن الإيراد المذكور بأنّ النقلين ليسا في رتبة واحدة، بل يكون نقل المنفعة بالإجارة في رتبة علّة نقل المنفعة بالبيع، أي نقل العين، فيكون نقل المنفعة بالإجارة حاصلا بدون معارض، و لا يبقى محلّ لنقلها ثانيا بالبيع، فتكون الإجارة صحيحة و البيع أيضا صحيحا، غاية الأمر يكون نقل العين بالبيع حال كونها مسلوبة المنفعة، و يكون للمشتري الخيار مع الجهل.

و فيه: أوّلا أنّ تقدّم العلّة ليس زمانيّا، بل لا بدّ و أن يكونا-العلة و المعلول-في زمان واحد، و إلاّ لزم التفكيك بين العلّة و المعلول، فلو كان هناك ألف علّة و معلول في سلسلة مترتّبة، فزمان العلّة الأولى مع زمان المعلول الأخير في تلك السلسلة واحدة، فزمان تمليك المنفعة في الإجارة مع زمان تمليكها في البيع في المفروض واحد، و إن كان الأوّل في رتبة العلّة الثاني.

و ثانيا قد تقرّر في محلّه أنّ ما مع العلّة في الرتبة لا يلزم أن يكون مقدّما على معلولها مثل نفس العلّة، و ذلك لأنّ التقدّم لا بدّ و أن يكون له ملاك، و التقدّم بالعلّية

ص: 69

ملاكه الوجوب. و هذا المعنى في نفس العلّة موجود، و لكن ليس موجودا فيما مع العلّة زمانا، لأنّه ليس بعلّة، فعلى فرض كون تمليك المنفعة في الإجارة في رتبة علّة تمليكها في البيع ليس مقدّما عليه كتقدّم علّته عليه، لعدم وجود ملاك التقدّم- و هو الوجوب-فيه.

هذا، مضافا إلى أنّ ملاك التنافي هو وحدة زمانيهما، و لا أثر لاتّحاد الرتبة و عدمه في المقام.

نعم يمكن أن يقال: إنّ عقد الإجارة مقتض لنقل منفعة العين المستأجرة منجّزا و لا تعليق فيه، و أمّا عقد البيع مقتض لنقل منفعة العين إلى المشتري معلّقا على عدم كونها مسلوبة المنفعة، فهنا مقتضيان أحدهما تعليقي و الآخر تنجيزي، و الأوّل لا يعارض الثاني لذهاب موضوعه به، ففي نفس الزمان الذي يقتضي التعليقي نقل المنفعة معلّقا على عدم كونها مسلوبة المنفعة، يؤثّر المقتضي التنجيزي أثره و يجعلها مسلوبة المنفعة، و لا يبقى محل لتأثير مقتضى التعليقي، فلا فرق بين تقدّم الإجارة زمانا على البيع، و بين اتّحادهما زمانا كما في المقام.

فظهر ممّا ذكرنا صحّة الوجه الأوّل و بطلان الوجهين الآخرين.

فرع: هل تبطل الإجارة بموت المؤجر، أو المستأجر أو لا تبطل بموت أيّ واحد منهما، و قيل: تبطل بموت المستأجر دون الموجر؟ الظاهر عدم البطلان بموت كلّ واحد منهما.

بيان ذلك: أنّه لا شكّ في حصول النقل و الانتقال في أبواب المعاوضات العقديّة و المعاملات الماليّة بوقوع العقد صحيحا تامّ الأجزاء و الشرائط من حيث شرائط العقد، و المتعاقدين، و العوضين في العقود اللازمة، و تشملها إطلاقات و عمومات الأدلّة الواردة في وجوب الوفاء بالعقود، و لزوم العمل بالشروط، و البقاء عند العهود.

ص: 70

فبناء على هذا مقتضى القواعد الأوّلية هو دخول منافع العين المستأجرة في ملك المستأجر في المدّة المضروبة و خروجها عن ملك الموجر، و كذلك الأمر في الأجرة التي هي عوض تلك المنافع مقتضى صحّة العقد و نفوذه و وجوب الوفاء به وضعا و تكليفا دخولها في ملك الموجر و خروجها عن ملك المستأجر. و قد فرغنا عن إثبات أنّ الإجارة عقد لازم لا تنفسخ إلاّ بالتقايل أو أحد الأسباب المقتضية للفسخ، فخروج كلّ واحد من العوضين عن ملك مالكه بعد وقوع العقد الصحيح و رجوعه إلى مالكه الأوّل يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

استدلّ القائلون بالانفساخ و فساد الإجارة بموت أحدهما بالإجماع.

ففيه: أنّه لا إجماع في البين مع مخالفة جمع من قدماء الأصحاب القائلين بعدم الانفساخ بالموت كالإسكافي (1)و المرتضى (2)و أبي الصلاح (3)-قدس اللّه أسرارهم-بل على ما في الجواهر نسب في السرائر عدم الفساد و البطلان إلى أكثر المحصّلين (4)، و في المختلف: أنّ أكثر الأصحاب لم يفتوا بالبطلان (5).

نعم لا يبعد أن يكون القول بالبطلان هو المشهور بين القدماء، كما صرّح بذلك في الشرائع (6)، و في الغنية (7)الإجماع على ذلك. كما أنّ المشهور بين المتأخّرين عدم البطلان، فلا مجال للخروج عن مقتضى القواعد بأمثال هذه الإجماعات التي ليست مبتنية على أساس صحيح.

ص: 71


1- حكاه عن الإسكافي في «مختلف الشيعة» ج 6، ص 107، الإجارة و توابعها، مسألة:6.
2- المرتضى في «المسائل الناصرية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 260، المسألة:200.
3- «الكافي في الفقه» ص 348.
4- «جواهر الكلام» ج 27، ص 207، موارد بطلان الإجارة، «السرائر» ج 2، ص 449، في ما لو مات المستأجر أو المؤجر.
5- «مختلف الشيعة» ج 6، ص 108، الإجارة و توابعها، مسألة:6.
6- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 179.
7- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 539.

فالعمدة في دليلهم على البطلان بموت أحدهما وجهان:

[الوجه]الأوّل: الدليل العقلي، و هو تبعيّة المنفعة للعين. و لا شبهة في أنّ العين بعد الموت يخرج عن ملك الميّت و ينتقل إلى غيره، فالمنفعة أيضا تكون بتبع العين ملكا لمن انتقل اليه العين، فتمليك المؤجر المنفعة للمستأجر بالنسبة إلى منافع العين المستأجرة بعد موته يكون تمليكا لما لا يملك، و هو معلوم البطلان.

هذا بالنسبة إلى موت الموجر، و أمّا بالنسبة إلى موت المستأجر، فلأنّ المنفعة تدريجيّة الوجود، فقبل موته لا منفعة في البين، أي المنافع التي توجد بعد موته كي يملكها، و بعد موته غير قابل لأن يتملّك، فيبطل بموت كلّ واحد منهما.

و فيه: أنّ ملكيّة الموجر للعين ليست موقّتة بمدّة حياته، بل ملكيّة مرسلة. نعم بالموت ينتقل إلى الورثة، فالموت سبب ناقل كسائر النواقل، فاذا كان ملكه للعين مطلق مرسلة غير مقيّدة بالحياة، فملكه لمنافعها أيضا مطلق مرسل، فله تمليكها أزيد من مدة حياته، لأنّه سلطان على ماله. بل له تمليكها لشخص في خصوص زمان بعد موته، و ذلك كما إذا أوصى بمنافع عين من أعيان أملاكه لشخص مدّة طويلة أو قصيرة، و لا شكّ في أنّه لو لم يكن ملكه للعين أو منافعها مطلقة كان تمليكه لكلّ واحد منهما بعد الموت تمليكا لمال الغير، و هو باطل بالضرورة.

و إن شئت قلت: ليس من قبيل تمليك أحد بطون الموقوف عليهم لعين الموقوفة لغيره، أو إجارته أزيد من مدّة حياته، لأنّ ملكيّة البطن ليست مطلقة مرسلة، بل كلّ بطن لا يملك العين و كذلك منافعها أزيد من مدّة حياته. و لذلك لو آجر العين الموقوفة مدّة أزيد من مدّة حياته تكون موقوفة على إجازة البطن اللاحق، إلاّ أن يكون له ولاية عليه، أو كان له الولاية على مثل ذلك من قبل الواقف بأن كان متوليّا من قبله في ذلك.

و أمّا الإشكال عليه بأنّ وجود المنفعة تدريجيّة، فلا يملكها المستأجر إلاّ في

ص: 72

حال وجوده، لأنّه في حال موته ليس قابلا لأن يتملّك.

فقد أجبنا عنه بأنّه و إن كانت المنفعة تدريجيّة الوجود، و لكن العرف و العقلاء يرونها موجودة باعتبار تبعيّتها للعين الموجودة.

و أمّا ادّعاء أنّ مضيّ مدّة الإجارة جزء أو شرط لحصول ملكيّة المنفعة للمستأجر فغريب إثباتا و ثبوتا.

أمّا في مقام الإثبات: فلعدم الدليل على ذلك، بل لوجود الدليل على العدم، و هو أنّ المستأجر له أن يوجر العين المستأجرة إن لم يشترط عليه المباشرة في الاستيفاء، و هذا دليل على أنّه يملك بمحض تماميّة العقد واجدا لشرائطه، و ليس متوقّفا على مضيّ المدّة.

و أمّا في مقام الثبوت: فلأنّ مضيّ مدّة الإجارة مساوق لانعدام المنافع، و مرجع ذلك إلى أن يكون ملكيّة الشيء مشروطة بانعدامه. و هذا غريب، فليس في البين إشكال عقلي في بقاء الإجارة و عدم بطلانها لا بموت الموجر و لا بموت المستأجر.

الوجه الثاني: ورود روايات دالّة على بطلانها بموت المؤجر، كرواية إبراهيم بن الهمداني قال: كتبت إلى الحسن عليه السّلام و سألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطي الإجارة (الأجرة خ ل) في كلّ سنة عند انقضائها لا يقدم لها شيء من الإجارة (الأجرة خ ل) ما لم يمض الوقت، فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت، أم تكون الإجارة منقضية بموت المرأة؟ فكتب عليه السّلام: «إن كان لها وقت مسمّى لم يبلغ فماتت فلورثتها تلك الإجارة، فإن لم تبلغ ذلك الوقت و بلغت ثلثه أو نصفه أو شيئا منه، فتعطي ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إن شاء اللّه (1).

ص: 73


1- «الكافي» ج 5، ص 270، باب من يؤاجر أرضا ثمَّ يبيعها. ، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 207، ح 912، باب المزارعة، ح 58، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 268، كتاب الإجارة، باب 25، ح 1.

تقريب الاستدلال بهذه المكاتبة على بطلان الإجارة بموت الموجر هو أن يكون المراد بقوله عليه السّلام «فلورثتها تلك الإجارة» أي أمرها بيد الورثة، و لهم إمضاءها بالنسبة إلى المدّة الباقية من عشر سنين التي كانت المدّة المضروبة لأصل الإجارة التي أوقعتها تلك المرأة و لهم فسخها و حلّها بالنسبة إلى تلك المدّة الباقية.

أو يكون المراد أنّ الإجارة انفسخت بالنسبة إلى ما بعد موت المرأة، و أمر المدّة الباقية من عشر سنين بيد الورثة، فلهم أن يؤجروا بإجارة جديدة بمثل إجارة المرأة و على تلك الكيفيّة و لهم أن لا يعطوه. و يكون المراد بقوله عليه السّلام «فإن لم تبلغ ذلك الوقت» أي الوقت المضروب للنجوم و أقساط إعطاء الأجرة، فالواجب على المستأجر إعطاء الأجرة للورثة بقدر ما مضى من تلك المدّة التي استوفى منفعة الضيعة فيها، لأنّ الإجارة لا تبطل بالنسبة إلى ما مضى في زمان حياة المرأة، فتستحقّ المرأة و بعد موتها تكون للورثة.

و أنت خبير بأنّ هذا خلاف ظاهر الرواية، و ظاهرها في مقام جواب السائل هو أنّ الإجارة لا تنقضي بموت المرأة و لا تنفسخ، بل تنتقل كما كانت إلى الورثة.

و بعبارة أخرى: تكون الورثة قائمة مقام مورثهم في جميع شؤون تلك الإجارة، و لذلك يستحقّون بالإرث عوض المنفعة التي استوفاها المستأجر، و أمّا فيما بعد موت المرأة فأيضا يستحقّون الأجرة، و لكن باعتبار أنّها عوض ملكهم لا باعتبار الإرث من المرأة.

و بناء على هذا المعنى تكون المكاتبة دليلا على عدم البطلان كما صرّح به المقدّس الأردبيلي قدّس سرّه على ما حكي عنه (1)، و حكي عن العلاّمة الطباطبائي قدّس سرّه ظهورها في الصحّة (2). و الإنصاف أنّ المكاتبة لو لم تكن ظاهرة في الصحّة غير دالّة

ص: 74


1- «مجمع الفائدة و البرهان» ج 10، ص 64.
2- حكاه عنه في «جواهر الكلام» ج 27، ص 209.

على البطلان، بك تكون مجملة لا ظهور لها، فلا بدّ من القول بعدم البطلان بموت الموجر.

و أمّا ما يقال من أنّ المراد بالشرطيّة الثانية-أعني قوله عليه السّلام «و إن لم يبلغ ذلك الوقت و بلغت ثلثه» -أنّها ماتت في أثناء الأجل المضروب و قبل أخذ الأجرة، فتستحقّ الورثة باعتبار الإرث ذلك المقدار الذي استحقّت المرأة، فيعطى لهم. فتدلّ على بطلان الإجارة بموتها، و إلاّ تقوم الورثة مقامها و تستحقّ تمام أجرة النجم بعد تمام السنة مثل نفس المرأة.

ففيه: ما ذكرنا من أنّ الورثة من ناحية الإرث يستحقّون المقدار الذي استحقّت المرأة بالنسبة إلى ما مضى من الوقت المضروب، و هذا لا ينافي استحقاقهم لباقي الأجرة باعتبار كونه إجارة ملكهم الذي ورثوه من المرأة و إن تكون الإجارة باقية صحيحة.

و إن شئت قلت: إنّ بعض ما يستحقّه الورثة على المستأجر باعتبار إرثهم ممّا استحقّته المرأة، و البعض الآخر باعتبار كونه إجارة ملكهم.

و أمّا عدم البطلان بموت المستأجر فأوضح، من جهة أنّ المستأجر بمحض وقوع العقد الصحيح ملك منفعة جميع المدّة، و بعد موته ينتقل ملكه إلى وارثه، و ليس هاهنا ما يمنع عن ملكيّة الورثة إلاّ اشتراط المالك على المستأجر المباشرة في الانتفاع، و في مثل ذلك نلتزم بالبطلان لتعذّر الانتفاع.

فرع: يجوز إجارة المشاع كالمقسوم كما يجوز بيعه و صلحه و هبته، و ذلك لأنّ حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم. و هذا المعنى كما يتحقّق في المقسوم غير المشاع يتحقّق في المشاع أيضا، فتشمله إطلاقات الإجارة. فعدم جوازها يحتاج إلى دليل ينفي الصحّة من إجماع أو رواية أو غيرهما، و ليس في

ص: 75

البين ما ينفي الصحّة، بل السيرة عند العقلاء و المتديّنين قائمة على صحّة الإجارة في الأملاك المشتركة، و كثيرا ما تكون الضيعة و كذلك القرية و الخان مشتركة بين عدّة و يوجر وكيلهم المجموع، فيأخذ كلّ واحد من الأجرة بمقدار حصّته من العين المستأجرة، أو كلّ واحد من الشركاء يؤاجر حصّته منفردا. و هذا الأمر دائر بين الناس في معاملاتهم.

نعم في الصورة الأخيرة ليس له تسليم تمام العين المستأجرة إلى المستأجر بدون إذن شريكه، لأنّه تصرّف في مال الغير.

و بعبارة أخرى: شرائط صحّة الإجارة من شرائط المتعاقدين، كالبلوغ و العقل و الاختيار و عدم الحجر و غير ذلك، و شرائط العوضين من كونهما معلومين كي لا يلزم غررا في البين، و كونهما مقدوري التسليم، و كونهما مملوكين، و كون العين المستأجرة ممّا يمكن الانتفاع بها مع بقائها، و كون المنفعة و الانتفاع بها مباحا، وجود كلّها يمكن مع كون العين المستأجرة مشاعا غير مقسوم.

فرع: لا شكّ في أنّ العين المستأجرة أمانة مالكيّة في يد المستأجر فيما إذا كان الانتفاع بكونها في يد المستأجر، و أمّا إذا كان الانتفاع غير متوقّف على كونها في يد المستأجر كالسيّارة التي يستأجرها لركوبه مع كون العين في يد صاحبها، فهو خارج عن محلّ الكلام موضوعا، و ليس داخلا في باب الأمانات قطعا.

و المقصود من هذا البحث هو أنّه إذا وقع تلف على العين المستأجرة من غير تعدّ أو تفريط و كانت في يد المستأجر هل يضمن أم لا؟ و حيث أنّ ضمان اليد لا يأتي إلاّ فيما إذا كانت اليد غير مأذونة من قبل اللّٰه أو من قبل المالك، أو من هو بمنزلته.

فالأوّل كاللقطة، فإنّ اللاقط مأذون من قبل اللّٰه في حفظ ذلك المال و إيصاله

ص: 76

إلى المالك، و في كونه في يده مدّة التعريف به، و الحاكم الشرعي مأذون في حفظ أموال الغيّب و القصر من المجانين و السفهاء و غير البالغين إلى زمان زوال الحجر عنهم. و هذا القسم من الأمانة تسمّى بالأمانة الشرعيّة.

و أمّا الثاني فهو في كلّ مورد كان المال في يد غير صاحبه إمّا بإذن صاحبه و مالكه، أو من هو بمنزلة المالك كوليّه أو وكيله، أو كان متولّيا على ذلك المال من قبل مالكه، أو من كان بمنزلة المالك كمتولّي الوقف و الناظر فيه، ففي جميع هؤلاء الأمناء التلف بدون تعدّ و لا تفريط لا ضمان فيه، لأنّ قاعدة «و على اليد» إنّما هي في اليد غير المأذونة، و اليد المأذونة خارجة عن مفادها إمّا تخصيصا أو تخصّصا.

و حيث أنّ يد المستأجر مأذونة فلا ضمان إلاّ بالتعدّي و التفريط، لخروجها بهما عن كونها أمانيا. نعم الأمانة المالكيّة على قسمين:

قسم منها عقديّة كالوديعة، فإنّ الطرفين يتعهّدان على أن يكون المال أمانة عنده، و هذا هو الأمانة بالمعنى الأخصّ. و هذا القسم هو الذي يقال بعدم جواز شرط الضمان فيه، لأنّه خلاف مقتضى العقد، بل و خلاف الكتاب، لقوله تعالى (ومٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (1)، و لا شكّ في أنّ الودعي محسن، و أيّ سبيل أعظم من الضمان بدون تعدّ و تفريط.

مضافا إلى ما ورد من عدم ضمان صاحب الوديعة بدون التفريط.

منها: ما في الكافي، صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «صاحب الوديعة و البضاعة مؤتمنان» (2).

و منها: ما في الكافي و التهذيب، صحيحة زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن

ص: 77


1- التوبة (9) :91.
2- «الكافي» ج 5، ص 238، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 227، كتاب الوديعة، باب 4، ح 1.

وديعة الذهب و الفضة؟ قال: فقال عليه السّلام: «كلّ ما كان من وديعة و لم تكن مضمونة لا تلزم» (1). و غيرهما من الروايات المعتبرة.

و القسم الآخر-هو أن يعطي المالك ماله بيد الغير لأجل مصلحة له كما في باب الإجارة، أو لأجل مصلحة ذلك الغير كباب العارية. ففي هذا القسم أيضا إن قلنا بأنّ الأمانيّة لا توجب الضمان بقوله عليه السّلام «و ما على الأمين إلاّ اليمين» (2)و لخروج اليد الأمانيّة عن عموم مفاد «و على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» (3)تخصيصا أو تخصّصا فلا موجب للضمان. و أمّا إذا شرط الضمان فنفس الشرط موجب له، و ليست الأمانيّة تقتضي عدم الضمان كي يقال بأنّ الشرط خلاف مقتضى العقد، فلا يؤثّر، بل يوجب بطلان العقد، بناء على أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد. و هذا القسم هو الأمانة بالمعنى الأعمّ، كباب العارية و الإجارة و المضاربة و غيرها ممّا هو من هذا القبيل.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الإجارة لا تقتضي الضمان في حدّ نفسها، و لكن لا تقتضي عدم الضمان مثل الوديعة، فشرط الضمان فيها يكون نافذا و لا يكون على خلاف مقتضى العقد، فبدون الشرط لا ضمان في تلف العين المستأجرة أو في نقصها إلاّ مع التعدّي و التفريط، و مع الشرط لا مانع من ضمانها.

فرع: لو آجر داره مثلا في هذا الشهر الحاضر باعتبار منفعة شهر أو شهرين أو أزيد متأخّرا عن هذا الشهر، فالإجارة صحيحة لا مانع منها. و بعبارة أخرى: لا

ص: 78


1- «الكافي» ج 5، ص 239، باب ضمان العارية و الوديعة، ح 7، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 179، ح 789، باب الوديعة، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 228، كتاب الوديعة، باب 4، ح 4.
2- راجع ج 2، ص 9، «قاعدة عدم ضمان الأمين» .
3- «عوالي اللئالي» ج 2، ص 345، باب القضاء، ح 10، «مستدرك الوسائل» ج 17، ص 88، أبواب الغصب، باب 1، ح 4، «سنن أبي داود» ج 3، ص 296، ح 3561، باب في تضمين العارية، «سنن ابن ماجه» ج 2، ص 802، ح 2400، أبواب الصدقات، باب العارية.

يعتبر اتّصال مدّة الإجارة بالعقد، و لا فرق بين أن تكون العين المستأجرة-في الزمان الفاصل بين مدّة الإجارة و العقد-في إجارة الغير أو لا.

و ذلك من جهة أنّ المالك الموجر يملك منافع العين المستأجرة في جميع قطعات الزمان، فله أن يملك أيّ قطعة شاء من أيّ شخص، سواء كان متّصلا أو كان منفصلا، و سواء كان في الزمان الفاصل آجره لشخص آخر أو لم يوجره.

فرع: لو آجر داره أو دكّانه سنة أو شهرا و لم يعيّن ، ربما انصرف إلى السنة أو الشهر المتّصلان بزمان العقد، و إلاّ فالإجارة باطلة، لعدم تعيين زمان الانتفاع و المنفعة، مع أنّ حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم.

فرع: بناء على بطلان شرط الضمان في الإجارة -و إن تقدّم منّا صحّته و جوازه و نفوذه-لو قال المؤجر للمستأجر: آجرتك هذه الدار مثلا بكذا بشرط أن تعطي مقدار كذا من مالك لو تلفت أو حصل فيها نقص، فهل هذا أيضا يرجع إلى شرط الضمان و يكون باطلا، أم لا إذ ليس هذا شرط خارجي وقع في ضمن عقد الإجارة و ليس خلاف مقتضى عقد الإجارة، و لا خلاف الكتاب و السنّة، فيكون صحيحا و نافذا؟ الظاهر هو الثاني، إذ على فرض تصديق أنّ عقد الإجارة يقتضي عدم ضمان العين المستأجر لا يقتضي عدم التزام المستأجر بشيء من ماله إن وقع التلف أو حصل نقص في العين المستأجرة، فتشمله عمومات وجوب الوفاء بالشرط إذا كان واجدا لشروط صحّة الشروط، كما هو كذلك في المقام.

فرع: هل الحكم في الإجارة الفاسدة مثل الإجارة الصحيحة -أي لا ضمان

ص: 79

بتلف العين فيها-أم لا، بل يضمن لعدم كون اليد فيها مأذونه، فإنّ اليد في المقبوض بالعقد الفاسد تجري مجرى الغصب عند المحصّلين، كما قال به ابن إدريس قدّس سرّه (1)فتخرج عن عموم «الأمين مؤتمن» (2)و يشملها عموم «و على اليد ما أخذت» ، لأنّ الخارج هي اليد المأذونة و ليس هاهنا إذن واقعا، لأنّ إعطاء المالك العين المستأجرة للمستأجر باعتقاد أنّه مستحقّ لأن يعطي له لأنّه مالك لمنافعها، و إلاّ لو علم بأنّه غير مستحقّ لعدم كونه مالكا لمنافعها فلا يعطيه العين و لا يرضى بأن تكون في يده، ففي الواقع لا رضاء له بأن يكون المال في يده، فيكون إذنه و رضاه بكونه في يده في حكم العدم، بل معدوم واقعا، فتكون يد المستأجر كاليد الغاصبة، بل هو غاصبا لو كان عالما بفساد الإجارة.

كما أنّ المالك لو كان عالما بفساد الإجارة و مع ذلك أعطى العين المستأجرة للمستأجر فلا ضمان، لقاعدة الإقدام، لأنّه أقدم على ذلك فيكون أمانة مالكيّة و اليد يد مأذونة فلا موجب للضمان. و هذا لا إشكال و لا كلام فيه.

إنما الكلام في صورة جهله بالفساد.

و التحقيق في هذا المقام هو الذي ذكرناه مرارا في مقام الفرق بين القضيّة الحقيقيّة و القضيّة الخارجيّة أنّ الأولى يتعلّق الحكم و الإرادة بوصف عنواني ينطبق على مصاديقه، و الثانية ما تعلّق الحكم بنفس الأشخاص الخارجيّة بتوسّط الصورة الذهنيّة.

و في الصورة الأولى إذا أخطأ و اعتقد وجود ذلك الوصف العنواني في شخص و خاطبه بعنوان ذلك الوصف و قال مثلا: يا صديقي ادخل داري، فليس ذلك

ص: 80


1- «السرائر» ج 2، ص 285.
2- «الفقيه» ج 3، ص 304، ح 4087 و 4088، باب الوديعة، ح 1 و 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 183 و 184، ح 805 و 811، في العارية، ح 8 و 14، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 227، كتاب الوديعة، في أحكام الوديعة، باب 4، ح 1 و 2.

المخاطب الذي ليس صديقه دخول الدار، لأنّ إرادة المتكلّم و إذنه لم يتعلّقا بهذا الشخص الخارجي بل تعلّقا بعنوان لا ينطبق عليه، فليس مأذونا بالدخول.

و أمّا إذا كان بطور القضيّة الخارجيّة و قال: يا زيد مثلا ادخل داري، و إن كان إذنه هذا باعتقاد أنّه صديقه، يجوز له الدخول و إن لم يكن صديقه.

و السرّ في ذلك: تعلّق الإرادة و الإذن في هذه الصورة بشخص المخاطب و إن كان منشأها اعتقاد أنّه صديقه و كان مخطئا في اعتقاده، و أمّا في الصورة الأولى تعلّقت بعنوان لا ينطبق على المخاطب، فلا يكون المخاطب مأذونا بالدخول، لا بشخصه و لا بعنوان منطبق عليه.

و فيما نحن فيه إن أعطى العين المستأجرة و سلّمها إلى المستأجر بعنوان المستحقّ للأخذ و الملك لمنفعتها فلا يكون المستأجر مأذونا، و ليست يده يد أمانة، لتعلق الإذن بعنوان غير منطبق عليه. و ان سلّم إليه العين بعنوان شخصه باعتقاده أنّه مالك منفعتها كان مأذونا، و كانت يده يد أمانة، و ان كان مخطئا في اعتقاده.

فلا بدّ و أن ينظر و يلاحظ في أنّ تسليم الموجر العين للمستأجرة بأيّ واحد من القسمين، فإن كان بعنوان المستحق للأخذ و أنّه مالك لمنفعتها فليست يده يد أمانة، و إن كان من القسم الثاني كانت يده يد أمانة و لا يكون ضامنا. هذا في مقام الثبوت.

و أمّا في مقام الإثبات فظاهر الحال أنّه سلم إليه العين بعنوان أنّه مالك لمنفعتها، و أخذه مقدّمة لاستيفاء المنفعة في باب الإجارة، و في باب البيع الفاسد البائع يسلم المبيع للمشتري بعنوان أنّه مالك له، ففي كلا البابين تكون يدهما يد ضمان، لا يد أمانة.

نعم تبقى مسألة قاعدة «مالا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده» ، فإنّها تدلّ على عدم الضمان في الإجارة الفاسدة بناء على عدم الضمان في صحيحها بالتلف

ص: 81

كما تقدّم.

و القاعدة ثابتة بالإجماع، و نحن تكلّمنا في هذه القاعدة أصلا و عكسا في الجزء الأوّل من هذا الكتاب، فلا نعيد.

فرع: هل الأجراء يضمنون العين-التي يأخذونها لأجل عمل فيها-لو تلفت أو حصل فيها عيب و نقص، كالخيّاط الذي يأخذ الثوب لأجل أن يخيطه، أو القصّار الذي يأخذه لأجل أن يغسله، و هكذا في جميع الأجراء بالنسبة إلى العين التي تقع تحت أيديهم لأجل عمل فيها أم لا؟ الظاهر عدم ضمانهم، لما تقدّم من أنّ يدهم يد أمانة مالكيّة، فهي خارجة عن عموم «و على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» تخصيصا أو تخصّصا. و لا موجب آخر للضمان، بل الأخبار التي تنفي الضمان عن الأمين إذا لم يصدر عنه تعدّ و لا تفريط من أدلّة عدم الضمان في المقام، و كذلك سيرة المتديّنين، و ادّعى المرتضى قدّس سرّه الإجماع على عدم الضمان (1).

نعم الظاهر نفوذ اشتراط الضمان فيها لعموم «المؤمنون عند شروطهم» (2)بعد كونه واجدا لشروط صحّة الشروط، و ليس عدم الضمان من مقتضيات هذا العقد كي يكون شرط الضمان على خلاف مقتضاه، فيكون فاسدا و باطلا، بل يكون مفسدا للعقد على قول.

هذا، مضافا إلى رواية موسى بن بكير، عن العبد الصالح عليه السّلام قال: سألته عن رجل استأجر ملاّحا و حمله طعاما في سفينته، و اشترط عليه إن نقص فعليه. قال:

«إن نقص فعليه» . قلت: فربما زاد. قال عليه السّلام: «يدّعى هو أنّه زاد فيه؟» قلت: لا. قال:

ص: 82


1- «الانتصار» ص 226.
2- تقدم ص 18، هامش (4) .

«فهو لك» (1).

و هذه الرواية ظاهرة في أنّ شرط الضمان بالنسبة إلى نقص العين التي في يد الأجير نافذ، فلا يبقى وجه للقول ببطلان هذا الشرط و عدم نفوذه.

فرع: هل يأتي الخيار في عقد الإجارة أم لا ؟ الحقّ في المقام هو أنّ الشارع إذا لم يمنع عن دخول الخيار في معاملة-كما أنّه منع عن دخوله في عقد النكاح- مقتضى القاعدة إمكان دخول الخيار فيها و إن كان بتوسيط الشرط.

و بعبارة أخرى: يحتاج إلى وجود دليل عليه، و الأدلّة الواردة في باب الخيارات و التي يمكن أن يستشهد بها مختلفة، فبعضها مختصّ بمعاملة خاصّة فلا يثبت في غيره، كقوله عليه السّلام في باب البيع: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع» (2). فهذا الخيار المسمّى بخيار المجلس لا يجري في غير البيع، سواء الإجارة و غيرها من المعاملات. و بعضها يشمل جميع المعاملات و لا اختصاص له بمعاملة دون أخرى، كقاعدة لا ضرر بناء على دلالتها على ثبوت الخيار في المعاملة الضررية.

و خلاصة الكلام هو: أنّ أبواب المعاملات هي في الحقيقة تعهّدات و التزامات بين المتعاقدين على أمر من الأمور، و هذا المعنى يمكن أن يكون فيه أحد الالتزامين مقيّدا بالتزام آخر، أو كلّ منهما مقيّدا بالآخر، إلاّ أن يمنع الشارع عن ذلك، و إلاّ ففي حدّ نفسه لا مانع عقلي في البين في مقام الثبوت.

نعم في مقام الإثبات يحتاج إمّا إلى دليل منع و نفي يمنع شمول الإطلاقات

ص: 83


1- «مستطرفات السرائر» ص 19، ح 13، من كتاب موسى بن بكر الواسطي، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 270، كتاب الإجارة، باب 27، ح 1.
2- «الكافي» ج 5، ص 170، باب الشرط و الخيار في البيع، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 346، أبواب الخيار، باب 1، ح 4.

التي تدل على لزوم الوفاء بالشروط، كما ورد في باب النكاح و كما إذا كان الشرط غير واجد لشرائط صحّة الشروط، أو كان ذلك الدليل مخصّصا لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)كأدلّة حرمة الربا بالنسبة إلى المعاملة الربويّة، و إلاّ ففي حدّ نفسه شرط الخيار مثل سائر الشروط الصحيحة تشمله إطلاقات أدلّة لزوم الوفاء بالشرط، و لا فرق عند العقل و العرف بين شرط الخيار في البيع و في الإجارة.

نعم إذا ورد دليل خاصّ بثبوت خيار خاص في معاملة مخصوصة، كما ورد في باب البيع: «صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام» (2)سواء كان المبيع أو الثمن أو كلاهما حيوانا فلصاحب الحيوان-و هو الذي انتقل إليه الحيوان كان هو المشتري أو البائع-الخيار ثلاثة أيّام، يقتصر على مورده لعدم العموم لدليله يشمل جميع المعاملات، بل لا يشمل جميع أفراد البيع لفقدان موضوع خيار الحيوان في أكثر البيوع لعدم كون المثمن أو الثمن فيها الحيوان، و كذلك المجلس إن كان دليله منحصرا بقوله عليه السّلام: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع» ، (3)لعدم شموله ما عدا البيع.

و أمّا دليل نفي الضرر فيشمل جميع المعاملات إذا كان اللزوم و وجوب الوفاء ضرريّا، فيرتفع الوجوب، فيكون مخيّرا بين أن يبقى على التزامه و أن يرفع اليد عنه و لا يعتني بما التزم. و هذا هو الخيار بين حلّه و إبرامه.

و على هذا لو كان مدرك الخيار قاعدة لا ضرر، فيشمل جميع المعاملات التي لزومها و وجوب الوفاء بها يكون ضرريّا على أحد المتعاقدين، سواء كان البيع أو الإجارة أو الصلح غير المبني على المسامحة، أو غيرها من المعاوضات التي ليس

ص: 84


1- المائدة (5) :1.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 67، ح 287، باب ابتياع الحيوان، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 249، أبواب الخيار، باب 3، ح 2.
3- تقدم ص 83، هامش (2) .

بناء المتعاملين فيها على المسامحة من حيث الخسارة و الضرر المالي.

و لكن ربما يستشكل على الاستدلال بقاعدة لا ضرر لثبوت الخيار في أبواب المعاملات حتّى في خيار الغبن، بأنّ قاعدة نفي الضرر بناء على حكومتها على الأدلّة الأوليّة التي مفادها الأحكام الواقعيّة بعناوينها الأوّلية في جانب المحمول.

مثلا حكم العقود بعناوينها الأوّلية هو اللزوم و وجوب الوفاء بمضمونها، فإذا كان وجوب الوفاء ضرريّا فالقاعدة ترفعه، فلا يكون الوفاء واجبا، و يرتفع في عالم التشريع واقعا، كما هو شأن الحكومة الواقعيّة في جانب المحمول. و لكن ارتفاع وجوب الوفاء لا يوجب حدوث حقّ في هذه المعاملة الذي يعبّر عنه بالخيار و يكون قابلا للإسقاط شأن كلّ حقّ، حتّى عرّفوه بأنّ الحقّ ما هو قابل للإسقاط، و جعلوه الفارق بين الحقّ و الحكم.

و إن شئت قلت: إنّ قاعدة لا ضرر شأنه الرفع، لا الوضع و إثبات حق يسمّى بالخيار، و لذلك قالوا: إنّ خيار الغبن ليس من جهة قاعدة نفي الضرر، بل من جهة تخلّف الشرط الضمني، و ذلك لأنّ البيع عبارة عند العرف و العقلاء عن تبديل مال بمال يساويه، لأغراض عندهم. فكلّ واحد من البائع و المشتري يتعلّق غرضه بما يأخذه عوض ماله، بمعنى أنّ البائع يتعلّق غرضه بالثمن، و المشتري بالمبيع. و هذا لا ينافي بناء كلّ واحد من المتعاقدين أنّ ما يأخذه عوض ما يعطي يساويه و لا ينقص عنه، فهذا يكون شرطا ضمنيّا من الطرفين، فإذا لم يكن كذلك و كان ما أخذه لا يساوي ما أعطى يقال إنّه خدع و غبن، فيتخلّف ذلك الشرط الضمني. و قد تحقّق في محلّه أنّ تخلّف الشرط يوجب الخيار.

و فيه: أنّ قاعدة نفي الضرر لا شكّ في أنّها ترفع اللزوم و وجوب الوفاء بالعقد، فيكون حاله حال العقود الجائزة، فيجوز رفع اليد عن المعاملة الضرريّة، و هذه هي نتيجة الخيار.

ص: 85

نعم هذا المعنى-أي الجواز-حكم شرعي و ليس قابلا للإسقاط. و لا يمكن إنكار هذا الفرق، فلو قال في الإجارة الضرريّة: أسقطت حقّ فسخي، لا أثر لهذا الكلام، لأنّه ليس حقّ في البين.

و لكن يمكن أن يقال: بأنّ ذلك الشرط الضمني الذي ادّعيناه في باب البيع أيضا يمكن ادّعاؤه هاهنا-أي باب الإجارة-لأنّهما من هذه الجهة من واد واحد، فإنّ المؤجر و المستأجر أيضا في معاوضتهم يبنون على تساوي العوضين، بمعنى أنّ الموجر يملك منافع العين بعوض معلوم بانيا على أنّ ذلك العوض يساوي منافع ماله، و كذلك المستأجر يقبل التمليك بالعوض بانيا على أنّ المنافع التي تملك بعقد الإجارة تساوي ما يعطيه من العوض، فإذا كانت المنافع أقلّ فللمستأجر الخيار، لتخلّف الشرط الضمني، كما أنّه لو كان العوض أقلّ من المنافع فللموجر الخيار.

نعم لو كان مدرك خيار الغبن هو الإجماع، لا قاعدة نفي الضرر، و لا الشرط الضمني، فإثباته في الإجارة أيضا يحتاج إلى إثبات الإجماع فيها أو دليل آخر. هذا كلّه في غير شرط الخيار.

و أمّا ثبوت خيار الشرط في الإجارة فيكفي في إثباته فيها عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«المؤمنون عند شروطهم» (1).

قال في الجواهر: و لا خلاف في ثبوت خيار الشرط فيها، و استظهر من التذكرة الإجماع عليه (2). ثمَّ ذكر ثبوت جملة من الخيارات فيها كخيار الرؤية، و العيب، و الغبن، و الاشتراط، و تبعّض الصفقة، و تعذّر التسليم، و الفلس، و التدليس و الشركة.

و الضابط هو الذي ذكرنا من أنّ ثبوت الخيار في معاملة إن كان لدليل خاصّ لا يشمل غيرها-كخيار المجلس و خيار الحيوان-فلا يجري فيها، لعدم الدليل عليه

ص: 86


1- تقدم ص 18، هامش (4) .
2- «جواهر الكلام» ج 27، ص 218.

و بطلان القياس، و أمّا إذا كان الدليل عامّا فيجري في جميع ما يشمله، سواء كان إجارة أو غيرها.

الجهة الثالثة: في شرائطها

اشارة

و هي ستة:

الأوّل: كمال المتعاقدين

بالبلوغ و العقل و الاختيار، و أن لا يكونا محجورين بأحد أسباب الحجر، و هذا الشرط من الأمور الواضحة الغنيّة عن البيان.

الثاني: كون الأجرة معلومة،

و قد عرّفت الإجارة بأنّها «تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم» لدفع الغرر المنهي في أبواب المعاملات.

قال في المسالك في وجه هذا الشرط: لنهي النبي صلّى اللّه عليه و آله عن الغرر مطلقا (1).

و قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع: الثاني أن تكون الأجرة معلومة بالوزن و الكيل فيما يكال أو يوزن، لتحقّق انتفاء الغرر، و قيل: يكفي المشاهدة، و هو حسن (2).

وجه الحسن عدم ورود الدليل على لزوم معرفة الأجرة فيما يكال أو يوزن، و إنّما هو قياس على البيع. و الذي ورد هو نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الغرر مطلقا، كما يدّعيه في المسالك، و المرويّ عنه صلّى اللّه عليه و آله في التذكرة أنّه قال: «من استأجر أجيرا فليعلم أجره» (3).

و هذان-أي، العلم بالأجرة و رفع الغرر-كما يحصلان فيما يكال أو يوزن

ص: 87


1- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 255.
2- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 180.
3- «مسالك الأفهام» ج 5، ص 178 و 179، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 291.

بالكيل و الوزن، كذلك تحصل مرتبة منهما بالمشاهدة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ رفع الغرر عند العرف و العقلاء في المكيل و الموزون لا يحصل إلاّ بهما، فبيعهما أو جعلهما عوضا للمنفعة المملوكة بالإجارة بدون الكيل و الوزن تكون معاملة غرريّة، و بناء على بطلان ما هو معاملة غرريّة تكون تلك المعاملة باطلة، و إذا حصل الشكّ في صحّة إجارة بدونهما فالمرجع هو استصحاب عدم انتقال المنافع إلى المستأجر. و لا تجري أصالة الصحّة فيها، لعدم جريانها في الشبهات الحكميّة، فإنّها أصل موضوعي بعد الفراغ من حكم المعاملة.

و بعبارة أخرى: أصالة الصحّة تجري فيما إذا كان الشكّ في أنّ المأتي به هل هو موافق لما هو المأمور به أم لا، و أمّا إذا كان الشكّ في صحّة المأتي به لأجل عدم العلم بما هو المأمور به، كما إذا علم بأنّه في صلاته لم يأت بجلسة الاستراحة بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية، و شكّ في صحّة الصلاة لأجل الشكّ في جزئيّتها، فبأصالة الصحّة لا يمكن إثبات عدم جزئيّتها و صحّة الصلاة بدونها.

و كذلك الأمر في المعاملات، فإذا شكّ في اعتبار أمر في معاملة، كتقدّم الإيجاب على القبول مثلا، و أوقع معاملة و لم يقدم فيها الإيجاب على القبول عمدا، فلا يمكن إثبات صحّة تلك المعاملة، و عدم اعتبار تقدّم الإيجاب على القبول بأصالة الصحّة.

و معلوم أنّ المقام من هذا القبيل، لأنّ المدعي بكفاية المشاهدة في معرفة المكيل و الموزون، و عدم اعتبار الكيل و الوزن في معرفتهما ليس له مدرك سوى أصالة الصحّة في فاقدهما، و هو لا يخلو من الغرابة.

ذكر في ضمن هذا الشرط-أي معلوميّة الأجرة-فروع نحن نذكرها أيضا.

فرع: لا خلاف عندنا في أنّ المستأجر يملك تمام المنفعة بنفس العقد،

ص: 88

و ذلك من جهة أنّ المالك أو من يقوم مقامه بعد ما أنشأ تمليك المنفعة المعلومة للمستأجر بعوض معلوم، و صدر القبول عن المستأجر، و تمَّ العقد واجدا لجميع شرائط الصحّة لا وجه لعدم حصول الملكيّة.

نعم في بعض العقود و المعاملات شرط الشارع القبض مطلقا، أو في خصوص المجلس لتأثير العقد أو للزومه. و هذا لا ربط له بالمقام، لأنّ مقامنا في أنّه بعد أن تمَّ عقد الإجارة إيجابا و قبولا مع وجود جميع شرائط الصحّة، فهل يملك المستأجر جميع منافع مدّة الإجارة حين تماميّة العقد أم لا، بل يملك تدريجا، ففي كلّ زمان يملك منفعة ذلك الزمان؟ فلو استأجر دارا أو دكّانا سنة مثلا لا يملك منفعة تمام السنة حين تمام العقد، بل يملك في كلّ يوم منفعة ذلك اليوم فقط، بل في كلّ ساعة منفعة تلك الساعة لا الساعة المتأخّرة.

لا ينبغي أن يشكّ في أنّ الصحيح هو الأوّل، لأنّ سبب الملكيّة هو العقد الصادر عن أهله، أي المالك العاقل البالغ، غير المحجور، واجدا لجميع الشرائط المعتبرة في صحّة هذا العقد، فيلزم من عدم وجود المسبّب الخلف.

و منشأ احتمال الثاني هو أنّ المنافع حال وقوع عقد الإجارة ليست موجودة كي يكون مالك العين مالكا لها، فلا يملكها إلاّ بعد وجودها، فقبل وجودها لا يمكن أن يملكها، لأنّ الشيء لا يمكن أنّ يكون معطيا له. و هذه قضيّة ضروريّة.

فلا بدّ و أن نقول: حيث أنّ ملكيّة المنافع لمالك العين تدريجيّة، فتمليكها أيضا تدريجي، فحصول الملكيّة للمستأجر أيضا تدريجي.

و أنت خبير بأنّ مبنى هذا الكلام هو عدم ملكيّة المنافع لمالك العين إلاّ بعد وجودها، و حيث أنّ وجودها تدريجيّة فملكيّتها أيضا تدريجيّة. و هذا المبنى فاسد جدا، لأنّ الملكيّة من الاعتبارات العقلائيّة و الشرعيّة، و العقلاء يعتبرون منافع كلّ عين بتبع تلك العين ملكا لمالكها، لأنّهم يرون منافع الأعيان من شؤونها، فحيث أنّ

ص: 89

ملكيّة نفس العين ليست موقّتة بوقت، فكذلك ملكيّة شؤونها، فكما أنّ ملكيّة العين لمالكها ملك طلق ما لم يخرج عن تحت سلطنته بناقل قهري كالموت و الارتداد، أو غير قهري كالبيع و الصلح و الهبة و غيرها، فكذلك منافعها، و لذلك تجوز الوصيّة بمنافع ملكه سنين لشخص مع أنّه لا يملك جديدا بعد موته.

و أمّا حديث أنّها قبل أن توجد ليست قابلة لأنّ تتعلّق بها الملكيّة، لأنّ المعدوم غير قابل لأن يكون معروضا لعرض خارجي أو أمر ذهني.

ففيه: أوّلا أنّه من الممكن تعلّق الغرض الخارجي كالإرادة-التي هي الشوق المؤكّد-بالموجودات الخارجية قبل وجودها بتوسّط الصورة الذهنيّة، التي هي مرآة للخارج، فالمرئي بالذات-بمعنى كون الوصف نعتا لنفس الموصوف، لا أنّه وصف بحال متعلّق الموصوف-و إن كان هي الصورة الذهنية، و لكن متعلّق الحكم الشرعي واقعا و في الحقيقة و المقصد الأصلي هو الخارج الذي هو محكيّ هذه الصورة الذهنيّة.

لأنّ المصلحة و المفسدة قائمتان به، و إلاّ فالصورة الذهنيّة لا مصلحة و لا مفسدة لها، فالإرادة و الكراهة لا تتعلّقان بها إلاّ بالعرض. مثلا الصلاة تكون مطلوبة بوجودها الخارجي قبل أن توجد بتوسيط تلك الصورة الذهنيّة، و كذلك الأمر في الكراهة، فتكون المحرّمات مكروهة منفورة بوجودها الخارجي قبل أن توجد بتوسيط الصورة الذهنيّة.

و حيث أنّ مركز المصلحة و المفسدة هو الوجود الخارجي، و إلاّ فالصورة الذهنيّة لذلك الوجود الخارجي لا مطلوب و لا مبغوض، و على هذا بنينا امتناع اجتماع الأمر و النهي إن كان التركيب بين متعلّقيهما تركيبا اتّحاديا، و أجبنا عمّن يقول بأنّ متعلّق الأمر و النهي صورتان ذهنيّتان كلّ واحد منهما غير الآخر، فلا يجتمعان في متعلّق واحد كي يلزم منه اجتماع الضدّين فيكون محالا.

ص: 90

و ذلك لأنّ ظرف الاتّحاد في الغصب و الصلاة-مثلا-هو الخارج، و الأمر و النهي لا يتعلّقان بالخارج، لأنّ الخارج ظرف سقوطهما لا ثبوتهما، بل يتعلّقان كلّ واحد منهما بالصورة الذهنيّة للصلاة و الغصب، و هما مختلفان فلا اجتماع.

و خلاصة ما قلناه في مبحث الاجتماع في مقام الردّ على هذا الكلام هو: أنّ تعلّق الإرادة و الكراهة بالصورة بالذهنيّة من أجل أنّهما من الكيفيّات و الحالات النفسانيّة، فلا بدّ و أن يكون عروضهما في الذهن و لكن بما هي مرآة للخارج، فيسريان إلى الخارج بتوسيط الصورة الذهنيّة.

و المراد الأصلي و ما فيه المصلحة و المفسدة-اللتان هما ملاك الحكم الشرعي -في الخارج، و لا شكّ في أنّ الإرادة و الكراهة تتبعان الملاك. و لكن حيث أنّ تعلّقهما ابتداء و بلا واسطة في المعروض بالخارج غير ممكن، فبتوسيط الصورة الذهنيّة تتعلّقان به، فالصورة الذهنيّة مراد بالذات بمعنى أنّه بدون واسطة في العروض، و مراد بالعرض بمعنى أنّ تعلّق الإرادة بها لأجل مطلوبيّة ذي الصورة و كون الملاك و المصلحة فيه.

و أمّا الإشكال بأنّ الخارج ظرف السقوط لا الثبوت.

ففيه: أنّه لو قلنا إنّهما تتعلّقان بنفس الخارج بدون واسطة كان الإشكال متّجها، لأنّه بعد وجود المتعلّق لزم في الأوامر أن يكون من قبيل طلب وجود ما هو حاصل، و في النواهي اجتماع النقيضين، و كلاهما محال.

و أمّا إذا قلنا بأنّهما تتعلّقان بالصورة الذهنيّة بما هي مرآة للخارج، فالصورة قبل وجود ذي الصورة مطلوبة، و لكن باعتبار كونها حاكية عن ذي الصورة و مرآة له، فيكون ذي الصورة قبل وجوده في الخارج مطلوبا بتوسيط الصورة الذهنيّة، فلا يلزم المحذور المذكور.

و كذلك الأمر فيما نحن فيه، فالمالك الموجر يملك المنافع التي توجد فيما

ص: 91

سيأتي و المستقبل بتوسيط صورة تلك المنافع، لا أنّه يملك للمستأجر نفس المنافع الموجودة في الخارج كي يلزم المحذور المذكور. و عدم إمكان عروض الإرادة على الخارج بدون توسيط صورته الذهنيّة غير عدم إمكانه مطلقا. فالأوّل غير ممكن، و الثاني لا مانع منه. فالقول بأنّ المستأجر يملك منافع العين تدريجا و شيئا فشيئا لا أساس له.

بل لا يمكن رفع الإشكال المتوهّم به أصلا، إذ الموجود التدريجي من الأمور غير القارّة مثل الحركة قابل للقسمة إلى ما لا يتناهى، فأيّ جزء منه قبل وجوده- بناء على صحّة هذا الإشكال-ليس قابلا للتمليك، لأنّه معدوم، و بعد وجوده ليس قابلا لأن يستفيده المستأجر، فلا تتعلّق به الإجارة، إذ المقصود من الإجارة انتفاع المستأجر و استفادته من منافع العين المستأجرة، و الأمر التدريجي بعد أن وجد كلّ جزء منه ينعدم فورا، بل ما لا ينعدم ذلك الجزء لا يوجد الجزء الآخر، و إلاّ لزم الخلف، أي عدم تدريجيّة ما فرض تدريجيّته، لأنّ معنى تدريجيّة موجود هو عدم إمكان اجتماع أجزائه في الوجود.

لأنّ معنى تدريجيّة موجود هو عدم إمكان اجتماع أجزائه في الوجود.

فرع: إطلاق عقد الإجارة و عدم تقييد كون الأجرة مؤجّلة بوقت معيّن ، أو بالنجوم المعيّنة يقتضي التعجيل، كما أنّ اشتراط التعجيل مؤكّد لما يقتضيه الإطلاق من التعجيل. نعم لو شرط التأجيل مع ضبط الوقت عرفا بحيث لا يكون غررا في البين كان نافذا، لعموم «المؤمنون عند شروطهم» . (1)

و ما ذكرنا من أنّ إطلاقه عقد الإجارة يقتضي التعجيل بالنسبة إلى أداء الأجرة، جار في البيع من أنّ إطلاقه يقتضي تعجيل أداء الثمن.

ص: 92


1- تقدم ص 18، هامش (4) .

و السّر في كليهما: هو أنّه كما ذكرنا ملكيّة الأجرة للأجير بنفس العمل، و الثمن لمالك العين بنفس العقد، و بعد حصول الملكيّة يجب على كلّ من المستأجر و المشتري ردّ مال الغير-الأجرة و الثمن-إلى صاحبه فورا من دون تراخ و مماطلة، لوجوب ردّ الأمانات إلى أهلها، و لا شكّ أنّ الثمن و الأجرة أمانة مالكيّة عند المشتري و المستأجر.

و أمّا أنّ اشتراط التعجيل مؤكّد لما يقتضيه العقد، فلأنّ العقد في البيع و الإجارة و غيرهما من العقود التمليكيّة، حيث أنّه سبب للملكيّة، فبوجوده توجد الملكيّة، فبمقتضى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)يجب ترتيب الأثر على ذلك العقد الذي تمَّ، و أن يسلم المشتري الثمن إلى البائع، و المستأجر الأجرة إلى مالك العين المستأجرة، فإذا شرط التعجيل في الأداء فأيضا يجب الوفاء و التعجيل في الأداء، فعموم «المؤمنون عند شروطهم» يؤكّد عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) . و أمّا شرط التأجيل فيقيّد إطلاق العقد، و حيث أنّه لا يحلّل حراما و لا يحرّم حلالا فجائز و نافذ لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ شرط جائز بين المسلمين إلاّ ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا» (2).

فرع: لو وقف الموجر على عيب سابق على القبض في الأجرة -و إن كان حدوث ذلك بعد العقد، لعدم الفرق بين حدوثه قبل العقد أو بعده بعد ما كان قبل القبض، إذ المناط هاهنا أنّ الأجرة وصلت إلى يد المؤجر معيبة لفوات جزء أو وصف منها-فهل موجب للخيار، أو الأرش، أو للخيار وحده، أو للأرش وحده، أو موجب للانفساخ، أو لا يوجب شيئا من ذلك بل يكون له فقط حقّ طلب الإبدال بالفرد الصحيح من طبيعة الأجرة إذا كانت كلّيا في الذمّة؟ وجوه.

ص: 93


1- المائدة (5) :1.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 467، ح 1872، الزيادة في فقه النكاح، ج 80، «وسائل الشيعة» ج 15، ص 50، أبواب المهور، باب 40، ح 4.

أقول: الأجرة إمّا طبيعة كلّية قابلة للانطباق على أفراد متعدّدة، و إمّا شخص خارجي ممتنع الصدق على كثيرين. فإن كان من القسم الأوّل فليس للمستأجر تطبيقها على الفرد المعيب، لأنّ الكلّي إذا جعل عوضا في العقود المعاوضيّة ينصرف إلى الطبيعة السالمة عن العيب و النقص، ففي مقام الأداء يجب أن يؤدّي الفرد السالم، فإن خالف و أدّى الفرد المعيب فللموجر مطالبة إبداله بالفرد الصحيح، لأنّه مصداق ما هو حقّه.

و أمّا إذا كانت الأجرة شخصا خارجيّا و حدث فيها عيب قبل القبض، فإن قلنا بعدم اختصاص قاعدة «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه» بالبيع بل تجري في جميع المعاوضات، فالعيب الحادث إمّا بتلف جزء و إمّا بزوال وصف الصحّة، فإن كان الجزء التالف ممّا يقسط عليه الثمن و يكون مقابله مقدار من الطرف الآخر فبالنسبة إلى ذلك الجزء و مقابله تنفسخ المعاملة.

مثلا: لو آجر دارا سنة كاملة بمقدار طن من الحنطة، فوقع التلف على جزء من الحنطة التي هي أجرة الدار، فبمقدار ذلك الجزء تنفسخ الإجارة، فلنفرض أنّ مقابل التالف هو الشهر من مدّة الإجارة فبمقدار الشهر تنفسخ الإجارة، لأنّ التالف يكون من مال المستأجر بحكم القاعدة على الفرض، و لا يكون إلاّ بانفساخ العقد بتمامه، و لا أقلّ بمقدار ما يقابل التالف بعد التقسيط.

ثمَّ إن قلنا بانفساخ تمام العقد فيرجع تمام الأجرة إلى المستأجر و العين المستأجرة إلى المؤجر و لا إشكال في البين، و إن قلنا بانفساخ مقدار المقابل للجزء التالف من الأجرة فيرجع ذلك المقدار إلى المؤجر و الباقي للمستأجر، و لكن يأتي خيار تبعّض الصفقة، فلكلّ واحد منهما-الموجر و المستأجر-خيار تبعّض الصفقة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: لو تعمّد الموجر بإتلاف بعض الأجرة يكون إتلافه بمنزلة قبضه و إن لم يكن قبضا عرفا. هذا بالنسبة إلى الجزء.

ص: 94

و أمّا لو كان التالف هو الوصف و صار سببا لحدوث عيب في الأجرة، فإن قلنا بأنّ حدوث العيب قبل القبض كحدوثه قبل العقد، فيختار بين الردّ و بين أخذ الأرش مع الإمساك على إشكال، و ذلك لأنّ أخذ الأرش مع الإمساك على خلاف القاعدة، و إنّما ثبت في البيع لدليل تعبّدي. و قد حقّقنا المسألة في خيار العيب.

نعم ادّعي الإجماع على جواز أخذ الأرش إن أمسك و لم يردّ، فإن تمَّ الإجماع فهو، و إلاّ فلا يخلو من إشكال.

بقي الكلام في أنّ قاعدة «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» هل هي مختصّة بالبيع، أم تجري في جميع المعاوضات؟ و نحن و إن حقّقنا هذه المسألة في الجزء الثاني من هذا الكتاب في مقام شرح القاعدة، و لكن نشير إليها هاهنا أيضا إشارة.

أقول: لو كان مدرك هذه القاعدة الروايتين الشريفتين-أي الحديث الشريف النبوي المروي في عوالي اللئالي: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه» (1)و رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل اشترى متاعا من آخر و أوجبه، غير أنّه ترك المتاع عنده و لم يقبضه، و قال: آتيك غدا إن شاء اللّٰه، فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال عليه السّلام: «من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتّى يقبض المتاع و يخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يردّ ماله إليه» (2).

فالظاهر اختصاصها بالبيع و عدم شمولها لسائر المعاوضات، فالتعدّي إلى سائر

ص: 95


1- «عوالي اللئالي» ج 3، ص 212، باب التجارة، ح 59، «مستدرك الوسائل» ج 13، ص 303، أبواب الخيار، باب 9، ح 1.
2- «الكافي» ج 5، ص 171، باب الشرط و الخيار في البيع، ح 12، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 21، ح 89، في عقود البيع، ح 6، و كذلك ج 7، ص 230، ح 1003، باب في الزيارات، ح 23، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 358، أبواب الخيار، باب 10، ح 1.

المعاملات المعاوضيّة-كالإجارة و الصلح بعوض-يحتاج إلى دليل، أو تنقيح مناط قطعي، و إذ ليس شيء في البين، فلا يمكن التعدّي من البيع إلى غيره.

و لو كان مدركها الإجماع كما قيل-و حكى الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه (1)عن التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجه يظهر كونه من المسلّمات عندهم -فأيضا التعدّي لا يخلو عن إشكال: أوّلا لعدم تحقّقه بادّعاء البعض، خصوصا إذا كان بالاستظهار من كلام ذلك البعض من دون تصريحه بذلك. و ثانيا عدم حجّية مثل هذا الإجماع على فرض تحقّقه، كما حقّقناه في الأصول.

أمّا لو كان مدركها-ما ذكرناه في شرح هذه القاعدة في الجزء الثاني من هذا الكتاب-هو بناء العقلاء و العرف و العادة على أنّ إنشاء العقود المعاوضيّة مبنيّ على الأخذ و الإعطاء الخارجي، بمعنى أنّ المبادلة في عالم الإنشاء و التشريع مقدّمة للأخذ و الإعطاء الخارجي، بحيث لو لم يكن العوضان قابلين للأخذ و الإعطاء الخارجي مأخوذة في حقيقة العقد حدوثا و بقاء، و لا بدّ من بقاء القابليّة إلى ما بعد القبض، و بزوالها قبل القبض ينفسخ العقد.

و أنت خبير: بأنّ مثل هذا المعنى ليس مختصّا بالبيع، بل يجري في جميع المعاوضات، لوحدة المناط بنظر العرف و العقلاء. و هذا هو المختار في مدرك القاعدة، و الروايات تؤيّد هذا المعنى المرتكز في أذهان العرف و العقلاء.

فرع: قال في الشرائع: و لو فلس المستأجر كان للموجر فسخ الإجارة ، و لا يجب عليه إمضاؤها، و لو بذل الغرماء الأجرة (2).

ذكر الفقهاء في كتاب المفلس اختصاص الغريم بعين ماله و لا يشاركه الغرماء،

ص: 96


1- «المكاسب» ص 314.
2- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 92.

للإجماع و أخبار وردت في المقام:

منها: النبويّ المرويّ في الكتب الفقهيّة للأصحاب: «إذا أفلس الرجل و وجد سلعته فهو أحقّ بها» (1).

و منها: صحيح عمر بن يزيد، عن أبي الحسن عليه السّلام، سألته عن الرجل تركبه الديون فيوجد متاع رجل آخر عنده بعينه. قال عليه السّلام: «لا يحاصّه الغرماء» (2)و غير ذلك من الأخبار.

و على كلّ تقدير فمشهور الفقهاء على اختصاص الغريم بعين ماله و لو لم يكن للمفلس مال سواها، و هذا هو الذي يسمّى بخيار التفليس.

إذا ظهر هذا فنقول في تفسير ما أفاده في الشرائع (3): إنّه لو آجر داره مثلا لشخص، فقبل إعطاء الأجرة أفلس المستأجر و لم يستوف شيئا من منافع الدار، أو بقي شيء منها و لم يستوفه، فللموجر أن يفسخ الإجارة كي ترجع المنافع التي لم يستوفها المستأجر إليه.

و الحكم المذكور-أي إلحاق المنافع بالأعيان بمعنى أنّه كما لو كانت عين ماله و سلعته موجودة كان هو أحقّ بها من سائر الغرماء، كذلك هو أحقّ بالمنافع الموجودة التي لم يستوفها المستأجر-ادّعي عليه الإجماع.

و لكن حيث أنّ أخبار الباب في خصوص الأعيان، فلا تشمل مورد الإجارة

ص: 97


1- «مستدرك الوسائل» ج 13، ص 430، أبواب الكتاب الحجر، باب 4، ح 1، «دعائم الإسلام» ج 2، ص 67، ح 187، فصل (17) ذكر الحجر و التفليس، «السنن الكبرى للبيهقي» ج 6، ص 45، باب المشتري يفلس بالثمن، «سنن أبي داود» ج 3، ص 286، ح 3519، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، (نحوه) .
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 193، ح 420، في الديون و أحكامها، ح 45، «الاستبصار» ج 3، ص 8، ح 19، كتاب الديون، باب من يركبه الدين. ، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 145، كتاب الحجر، باب 5، ح 1.
3- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 92.

و المنافع، فبعد بطلان القياس لا بدّ من القول بأنّ حكمهم باختصاص الموجر دون سائر الغرماء بمنافع ماله من باب تنقيح المناط، و أنّه لا خصوصيّة لكون ماله الموجود عينا، بل المراد أنّ المديون بعد أنّ أفلس و حجر عليه فمن كان من الغرماء ماله موجودا عنده-سواء كان ذلك المال عينا أو منفعة-فهو أحقّ به، و مرجع ذلك إلى إلغاء خصوصيّة عينيّة المال، و لا بعد فيه.

فرع: قال في الشرائع: لا يجوز أن يوجر المسكن و لا الخان و لا الأجير بأكثر ممّا استأجره، إلاّ أن يوجر بغير جنس الأجرة، أو يحدث ما يقابل التفاوت (1).

و في بعض الروايات ذكر «أنّ فضل الحانوت حرام» (2)، و الظاهر أنّ «الخان» الذي ذكره في الشرائع مع «الحانوت» واحد، و إلاّ فلفظ «الخان» ليس في أخبار منع الفضل، أي الإجارة بأكثر ممّا استأجره، بل الموجود فيها «الرحى» و «الحانوت» و «الدار» و «الأجير» و «السفينة» و «الأرض» .

و على كلّ تقدير مقتضى القواعد الأوّلية أنّ كلّ ما يملكه و له منفعة محلّلة يجوز نقله إلى الغير و صحّت إعارته و إجارته، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، و ليس حدّ لأخذ العوض على نقل منافع ماله، بل له أخذ أيّ مقدار مع علم الطرف بسعر المنافع المنقولة ما لم تصل الأجرة إلى حدّ يقال إنّها معاملة سفهيّة عند العرف و العقلاء.

فلو استأجر عينا أو أجيرا، و بالإجارة تملك منافع تلك العين، و عمل ذلك الأجير، فله تمليك تلك المنافع و الأعمال لغيره بأيّ أجرة أراد، ما لم يصل إلى حدّ

ص: 98


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 181.
2- «الكافي» ج 5، ص 272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأكثر مما استأجرها، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 260، كتاب الإجارة، باب 20، ح 4.

السفاهة، فالمنع يحتاج إلى دليل.

و قد ذكروا منع الفضل عما استأجره به في موارد، منها: هذه الثلاثة المذكورة في الشرائع: «المسكن» و قد عبّر عنه في بعض الأخبار بالدار و البيت (1)، و «الخان» و قد عبّر عنه في بعض الأخبار بالحانوت، و «الأجير» (2). و في بعض الأخبار ألحق بالأخير «الرحى» (3)و لكن لم يذكره في الشرائع، و لعلّه لأنّ الرواية الواردة فيها عبّر بالكراهة لا الحرمة، بخلاف الثلاثة المذكورة.

و هي رواية سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال عليه السّلام: «إنّي لأكره أن استأجر الرحى وحدها ثمَّ أؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها، إلاّ أن أحدث فيها حدث، أو أغرم فيها غرما» (4).

و مفهوم رواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليه السّلام: أنّ أباه كان يقول: «لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمَّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئا» (5).

فالرواية بمفهومها دالّة على أنّ المذكورات إذا لم يصلح فيها شيئا ففي إجارتها بأس بأكثر ممّا استأجرها به.

و لكن كون البأس في إجارة هذه الأمور لا تدلّ على الحرمة، بل أعمّ منها و من

ص: 99


1- «الكافي» ج 5، ص 271، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار. ، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 203، ح 894، باب المزارعة، ح 40، «الاستبصار» ج 3، ص 129، ح 463، باب من استأجر أرضا بشيء معلوم. ، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 259، كتاب الإجارة، باب 20، ح 2 و 3.
2- «الكافي» ج 5، ص 272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأكثر مما استأجرها، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 260، كتاب الإجارة، باب 20، ح 4.
3- «الفقيه» ج 3، ص 235، ح 3864، بيع الكلاء و الزرع و الأشجار، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 259، كتاب الإجارة، باب 20، ح 1.
4- تقدم تخريجه في هذه الصفحة هامش (3) .
5- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 223، ح 979، في الإجارات، ح 61، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 263، كتاب الإجارة، باب 22، ح 2.

الكراهة، فلا مانع من أن يكون في الدار حراما، كما صرّح في الشرائع بذلك بعنوان المسكن، و في الأرض و السفينة يكون مكروها.

و خلاصة الكلام: أنّه لا إشكال في عدم جواز إجارة المسكن-أي الدار- و الخان الذي هو بمعنى الحانوت، و لا إجارة الأجير بأكثر ممّا استأجره به إلاّ أن يحدث ما يقابل التفاوت، أو يوجر بغير جنس الأجرة التي استأجرها به، كما صرّح بذلك في الشرائع.

و الدليل على ذلك أمّا بالنسبة إلى البيت و الأجير فما رواه أبو الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يتقبّل الأرض من الدهاقين، ثمَّ يؤاجرها بأكثر ممّا تقبّلها به و يقوم فيها بخط السلطان؟ فقال: «لا بأس به، إنّ الأرض ليست مثل الأجير و لا مثل البيت، إنّ فضل الأجير و البيت حرام» (1).

و هذه الرواية تدلّ على أمرين: الأوّل: عدم البأس بإجارة الأرض بأكثر ممّا استأجرها به. فالجمع العرفي بينها و بين مفهوم رواية إسحاق بن عمّار بحمل المفهوم في الثاني على الكراهة فيرتفع التعارض.

الثاني: التصريح بحرمة الفضل في الأجير و البيت الذي هو مرادف للدار و المسكن.

و أمّا بالنسبة إلى الحانوت الذي هو مرادف للخان و الدكّان، ما رواه ابن أبي عمير، عن أبي المغراء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يؤاجر الأرض، ثمَّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها، قال: «لا بأس، إنّ هذا ليس كالحانوت و لا الأجير، إنّ فضل الحانوت و الأجير حرام» (2).

و الرواية صريحة في حرمة الفضل في الحانوت، و أيضا صريحة في جواز

ص: 100


1- تقدم ص 99، هامش (1) .
2- تقدم ص 99، هامش (2) .

الفضل في إجارة الأرض، فلا بدّ من حمل المفهوم في رواية إسحاق بن عمّار على الكراهة بالنسبة إلى الأرض، فبحكم وحدة السياق لا بدّ و أن تحمل السفينة أيضا كذلك. و هذا لا ينافي ثبوت حرمة الفضل في الدار بدليل آخر.

نعم لو لم يكن دليل آخر في الدار على الحرمة لكنّا نقول فيها أيضا بالكراهة بحكم وحدة السياق، لكن مرّ عليك وجوده.

و أمّا بالنسبة إلى الرحى فنفس دليله لسانه لسان الكراهة كما عرفت.

فتلخّص من مجموع ما ذكرناه أنّ الحقّ ما أفتى به المحقّق قدّس سرّه في الشرائع من حرمة الفضل في خصوص الثلاثة التي ذكرها: المسكن، الخان، الأجير دون غيرها، أي الأرض، و السفينة، و الرحى (1).

و أمّا الجواز في الجميع لو أحدث فيها حدثا، أو كانت الأجرة التي يأخذها من المستأجر من غير جنس الأجرة التي هو أعطاها، فلوجود الاستثناءات في الروايات المانعة المتقدّمة بالنسبة إلى ما إذا أحدث فيها حدثا.

و أمّا استثناء ما إذا كان الفضل في غير المتجانسين، مثل أن يستأجر الدار بمائة كيلو من الحنطة مثلا، ثمَّ يؤجرها بمائتي كيلو من الشعير أو الأرز أو غير ذلك من الأجناس، فليس في أخبار الباب منه لا أثر و لا عين، و إنّما هو في كلام الفقهاء.

و اعترف بذلك جمع من الأصحاب، فمدرك هذا الاستثناء إمّا دعوى الإجماع، و هو لا صغرى له، لمخالفة جمع، و لا كبرى له، لعدم الدليل على حجّية مثل هذا الإجماع، لما ذكروه و تمسّكوا بها من الوجوه الباطلة، مثل أنّ حرمة الفضل من جهة لزوم الربا في المتجانسين و إذا كانا متخالفين فلا يلزم الربا.

و أنت خبير بضعف هذا التوجيه الذي لا ينبغي صدوره عن الفقيه بل يوهنه، فالحقّ في المقام عدم الاعتناء بهذا الاستثناء و القول بحرمة الفضل في الثلاثة

ص: 101


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 181.

المذكورة في الشرائع، سواء كان الفضل في المتجانسين أو كان في المتخالفين.

فرع: لو استأجر ليحمل متاعا إلى موضع معيّن بأجرة معيّنة في وقت معيّن، و يشترط عليه أنّه لو لم يوصل في ذلك الوقت المعيّن ينقص عن تلك الأجرة التي عيّنها كذا مقدار، بحيث لا تبقى الإجارة عند عدم الوفاء بالشرط بلا أجرة، أو يشترط عليه عند عدم الوفاء بالشرط سقوط الأجرة بالمرّة و أن تبقى الإجارة بلا أجرة.

أمّا الأوّل فجائز و لا إشكال فيه، لشمول إطلاقات أدلّة وجوب الوفاء بالشرط له، إذ ليس الشرط مخالفا لمقتضى العقد و لا الكتاب و لا السنّة.

و لما رواه الحلبي قال: كنت قاعدا عند قاض و عنده أبو جعفر عليه السّلام جالس، فجاءه رجلان فقال أحدهما: إنّي تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا إلى بعض المعادن، فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا و كذا لأنّها سوق أخاف أن يفوتني فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكلّ يوم احتبسه كذا و كذا، و إنّه حبسني عن ذلك اليوم كذا و كذا يوما. فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفه كراه. فلمّا قام الرجل أقبل إليّ أبو جعفر عليه السّلام فقال: «شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه» (1).

فهذه الرواية صريحة في صحّة الشرط و جوازه في القسم الأوّل، و بالمفهوم تدلّ على عدم الصحّة و عدم الجواز في القسم الثاني، لأنّ مفهوم قوله عليه السّلام «ما لم يحط بجميع كراه» هو أنّه لو أحاط بجميع كره فالشرط باطل.

هذا، مضافا إلى أنّ شرط سقوط الأجرة مناف و مناقض لحقيقة الإجارة، و ذلك لأنّ حقيقتها عبارة عن تمليك المنفعة المعلومة بعوض معلوم، فإذا لم يكن عوض

ص: 102


1- «الكافي» ج 5، ص 290، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز بها الحد. ، ح 5، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 253، كتاب الإجارة، باب 13، ح 2.

في البين فلا إجارة، بل هذا الحكم جار في جميع المعاوضات، إذ معنى المعاوضة هو أن يجعل أحدهما في عالم الإنشاء عوضا عن الآخر، فحقيقة المعاوضة متقوّمة بكون كلّ واحد منهما عوضا و بدلا عن الآخر، فشرط سقوط العوض مرجعه عدم كونه معاوضة، و هذا معلوم الفساد.

فشرط عدم الأجرة في الإجارة فاسد و مفسد للعقد، سواء قلنا بأنّ الشرط الفاسد مفسد أو لم نقل، لمناقضة هذا الشرط مع العقد، فتكون الإجارة فاسدة و يستحقّ المكاري أجرة المثل، لاحترام عمله، و عدم إقدامه على هتكه. هذا هو المشهور بين الأصحاب كما في المتون الفقهيّة.

و لكن استشكل عليه في جامع المقاصد (1)و المسالك (2)بأنّ هذا يرجع إلى الترديد في الأجرة على تقديرين، كما لو قال للأجير: إن خطّته روميّا فلك درهمان، و إن خطّته فارسيا فلك درهم واحد، كان الترديد في العمل و الأجرة، مع أنّه لازم في إجارة الأجير تعيين عمله و مقدار أجرته، و كلاهما في المقام مفقودان.

و فيه: أنّ ما هو مورد الإجارة معيّن، و هو الإيصال في وقت، و الأجرة أيضا معيّنة، فكأنّه قال: آجرتك دابّتي لأن أوصلك إلى مكان كذا في زمان كذا بأجرة كذا، غاية الأمر اشترط عليه المستأجر أنّه لو لم يف بما التزم ينقص عن أجرته مقدار كذا. و أيّ ربط لهذا بالترديد في متعلّق الإجارة.

فالحقّ جواز شرط التنقيص على تقدير عدم الوفاء بما التزمه الأجير في متن العقد، لأنّ الشرط خارج عن مورد العقد و ليس مخالفا لمقتضى العقد و لا الكتاب و لا السنّة. نعم شرط سقوط الأجرة بالمرّة بحيث تبقى الإجارة بلا أجرة مناقض لحقيقة عقد الإجارة، و لذلك يكون باطلا، كما تقدّم.

ص: 103


1- «جامع المقاصد» ج 7، ص 107.
2- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 255.

و إشكال الشهيد و المحقق الثانيان في المسالك و جامع المقاصد غير وارد كما أوضحناه. و ما ذكراه من التنظير قياس مع الفارق، لأنّ الترديد في محلّ الكلام في مورد الشرط الذي هو خارج عن مورد الإجارة، و فيما ذكراه من التنظير في الترديد مورد الإجارة و متعلّقها، لأنّ متعلّق الإجارة في مورد التنظير نفس الخياطة، و هي مردّدة بين كونها روميّة أو فارسيّة، كذلك عوض العمل أيضا غير معلوم، لأنّه مردّد بين أن يكون درهما على تقدير، و درهمين على تقدير آخر.

و هذا ينافي لما هو المأخوذ في حقيقة الإجارة، لأنّها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، و الترديد ينافي المعلوميّة كما هو واضح.

تنبيه

اعلم: أنّ الأحكام الشرعيّة و إن كانت من الأمور الاعتباريّة التي ليس لها وجود خارجي يكون محمولا على موضوعه بالضميمة، مثل الأعراض الخارجيّة المحمولات على موضوعاتها بالضمائم. و لكن مع ذلك كلّه تطرأ عليها أحكام الأعراض الخارجيّة من التضادّ و التماثل، و الأشدّية و الأضعفيّة باعتبار منشأ اعتبارها، و بهذا الاعتبار يقال: الشيء الفلاني أشدّ حرمة أو كراهة أو نجاسة، و هكذا يكون فيها التشكيك بهذا الاعتبار.

و يمكن الجمع بين الروايات الواردة في بعض هذه العناوين التي ظاهرها التعارض على اختلاف المراتب، مثلا الروايات الواردة في إجارة الأراضي بأكثر ممّا استأجرها به ظاهرها و إن كانت متعارضة باعتبار الحكم في بعضها بالجواز مطلقا، و في بعضها الآخر بالمنع مطلقا، و في ثالثة التفصيل بين ما إذا كان بنحو المزارعة و التقبّل بالكسور من حاصل الزرع أو بنحو الإجارة، فيمكن أن يحمل على مراتب الكراهة التي لا تنافي الجواز، فيقال: لو كان بنحو الإجارة بالدرهم

ص: 104

و الدينار فلا يجوز، أي فيه كراهة شديدة، و لو كان بنحو المزارعة فيجوز، أي كراهته قليلة، إلاّ أن يعمل فيها عملا فلا كراهة في الفضل أصلا، كما هو مفاد رواية إسماعيل بن فضل الهاشمي (1).

فرع: لو قال الموجر: آجرتك كلّ شهر بهذا،

أو قال المستأجر: إن خطّته بدرز فلك درهم و إن خطّته بدرزين فلك درهمان، أو قال: إن عملت العمل الفلاني في هذا اليوم فلك درهمان، و إن عملت في الغد فلك درهم واحد.

ففي هذا المسائل الثلاث المنفعة التي يملكها المستأجر غير معلومة لعدم تعيينها في عقد الإجارة، و في اثنتين منها العوض أيضا ليس معلوما، بل مردّد بين درهم واحد و بين درهمين على تقديرين، فالكلام يرجع إلى أنّه هل تعيين المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر لازم بحيث يكون الترديد مضرّا أم لا، و كذلك الأمر في عوضها؟ ربما يقال: تمليك المبهم-أي ما يكون كلّيا لم يؤخذ فيه خصوصيّة من الخصوصيّات-لا مانع عنه، بل المعاملات كثيرا ما تقع على الكليّات عوضا و معوّضا، سواء كان كلّيا على سعته أو كان كلّيا في المعيّن، من قبيل الصاع من الصبرة الموجودة في الخارج، فلا مانع من تمليك منفعة هذه العين شهرا كلّيا ينطبق على كلّ شهر من شهور تلك السنة، غاية الأمر في مقام التطبيق تعيين ذلك الكلّي بيد المالك الموجر، كما أنّه في باب البيع تعيين المبيع الكلّي بيد البائع، لأنّ الخصوصيّات باقية على ملكه.

و فيه: أنّ هذا الكلام صحيح لو كانت الإجارة واقعة على الشهر الكلّي، مثل أن

ص: 105


1- «الكافي» ج 5، ص 272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار. ، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 261، كتاب الإجارة، باب 21، ح 3.

يقول المالك: آجرتك الدار شهرا من شهور هذه السنة، حيث يكون التمليك واقعا على منفعة الشهر الكلّي في المعيّنة، و يكون التطبيق بيد المالك.

و لكن المقام ليس من هذا القبيل، بل المفروض أنّه يقول: كلّ شهر كذا، فإن كان مراده أنّ كلّ ما يصدق عليه الشهر مطلقا من أيّ سنة طول الدهر، فما وقع عليه الإجارة جميع الشهور في تمام الدهر إلى قيام يوم القيامة، فهذا قطعا ليس بمراد، كما أنّه أراد كلّ واحد من شهور هذه السنة، و المستأجر قبل، فيكون جميع شهور هذه السنة واقعا تحت الإجارة، فهذا ممكن و لكن خلاف الفرض.

لأنّ الفرض أنّ المقدار الذي يريده المستأجر يقع تحت الإجارة، و أيّ مقدار لا يريده خارج عن تحت الإجارة، مع أنّ الإجارة عقد لازم. فإن فرضنا وقوع تمام الشهور مطلقا، أو شهور هذه السنة دفعة تحت الإجارة فليس للمستأجر رفع اليد إلاّ بالتقايل، و لذلك قال بعضهم يقع شهرا واحدا تحت الإجارة.

و فيه: أوّلا: أنّه مع شمول الإنشاء لجميع الشهور على نسق واحد لا وجه للحكم على أنّ الإنشاء على شهر واحد فقط.

و ثانيا: ذلك الشهر غير معيّن و مجهول إن كان من قبيل النكرة، أي الفرد غير المعيّن، بمعنى أنّ الإجارة واقعة على الطبيعة المقترنة بإحدى الخصوصيّات، و أمّا إن كان واقعا على الطبيعة المبهمة المجرّدة عن الخصوصيّات اللابشرط، فهذا أمر معقول و لكن لا بدّ و أن يكون التعيين بيد المالك، لأنّ الخصوصيّات له و لم تخرج عن ملكه. و مثل هذا ظاهرا ليس مقصودا للمتعاقدين مع أنّ العقود تابعة للقصود، و خلاف ظاهر لفظ «كلّ شهر كذا» ، و معلوم أنّ ظاهر الألفاظ حجّة كاشفة عن مراد المتكلّم في مقام الإثبات.

و أمّا ما يقال: من أنّه ينصرف إلى الشهر الأوّل المتّصل بزمان العقد، فله وجه فيما إذا قال: «آجرتك شهرا» ، لا في المفروض و هو «آجرتك كلّ شهر كذا» .

ص: 106

نعم يحتمل أن تكون هذه العبارة في قوّة إجارات و عقود متعدّدة، خصوصا إذا كانت في سنة معيّنة، فيكون منحلاّ إلى قوله: آجرتك الشهر الأوّل من هذه السنة بعشرة دنانير مثلا، و الثاني و الثالث و الرابع كذلك إلى آخر السنة. فلو قبل المستأجر شهرا معيّنا من تلك السنة تمّت الإجارة بالنسبة إليه، و أمّا فيما لا يقبل فلا، و ذلك مثل أن يقول: بعتك كلّ غنم في هذه الدار، و قلنا بانحلال هذه العبارة إلى بيوع متعدّدة، فقبل المشتري بيع غنم معيّن دون الباقي، صحّ البيع في خصوص ما قبل، و ذلك لعدم القبول في الباقي.

و لكن كلّ ذلك خلاف الفرض، و خلاف ظاهر اللفظ كما تقدّم.

و أمّا بالنسبة إلى الفرعين الآخرين-أي قوله: إن خطّته فارسيّا أي بدرز واحد فلك درهم، و إن خطّته روميّا أي بدرزين فلك درهمان-فالظاهر بطلانها إجارة، و كذلك قوله: إن عملت العمل الفلاني في هذا اليوم فلك درهمان، و إن عملته في غد فلك درهم واحد، فباطل إجارة، لأنّ العمل المستأجر عليه في كلا الفرضين مردّد و غير معلوم، و من شرائط صحّة الإجارة في باب الأعمال أن يكون العمل المستأجر عليه معلوما.

و ربما يستدلّ على صحّة ذلك بالآية الشريفة في قصّة تزويج شعيب ابنته لموسى، و هي قوله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَلىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) (1)و بصحيحة أبي حمزة، عن الباقر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكتري الدابّة فيقول اكتريتها منك إلى مكان كذا و كذا، فإن جاوزته فلك كذا و كذا زيادة و يسمّى ذلك، قال: «لا بأس به كلّه» (2)، و صحيحة

ص: 107


1- القصص (28) :27.
2- «الكافي» ج 5، ص 289، باب الرجل يكتري الدابة. ، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 214، ح 938، في الإجارات، ح 20، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 249، أبواب أحكام الإجارة، باب 8، ح 1.

الحلبي التي تقدّمت (1)في فرع تنقيص الأجرة على تقدير عدم إيصال المكاري حمله أو نفسه في الوقت المعيّن.

و لكن الأدلّة الثلاثة-الآية و الصحيحتين-لا تفي بالمقصود:

أمّا الآية، فلأنّها جعلت المهر رعي ثمانية سنين، و إتمام العشر ليس جزء للمهر بل إحسان من موسى عليه السّلام بشهادة قوله تعالى حكاية عن قول شعيب (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي إحسان من عندك، فليس المهر مردّدا بين ثمانية و بين عشرة كما توهم.

و أمّا الصحيحتان فأجنبيّتان عن المقام، لأنّ مفادها أنّه بعد تعيين متعلّق الإجارة شرط على نفسه أنّه إن تجاوز عن مقدار متعلق الإجارة يعطي له كذا و كذا، و إن لم يف بعقد الإجارة و لم يوصله في الوقت الذي عين ينقص عن الأجرة كذا و كذا، و أيّ ربط لهذين بالتردّد في متعلّق الإجارة و الجهل به.

نعم لا مانع من أن يكون الفرعان من قبيل الجعالة، بناء على جواز هذا المقدار من الجهل و الإبهام و التردّد في الجعالة، و إلاّ لو قلنا بأنّ الإبهام في الجعل أيضا لا يجوز، فكونهما من قبيل الجعالة أيضا مشكل.

و لكن الصحيح أنّ الجهالة التي لا تمنع عن الردّ و التسليم لا يقدح في صحّة الجعالة، بل مبنى الجعالة على هذا المقدار من الجهل.

و يدلّ عليه قوله تعالى في قصّة فقد صواع يوسف عليه السّلام (قٰالُوا نَفْقِدُ صُوٰاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جٰاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (2)فتأمّل. فالحقّ في المقام أنّهما جعالة إن قصداها، لأنّ العقود تابعة للقصود.

ص: 108


1- تقدم ص 102، هامش (1) .
2- يوسف (12) :72.

فرع: هل يستحقّ الأجير الأجرة بنفس العمل، أم بتسليمه إلى المستأجر ، أم يفصّل بين يكون العمل الصادر عن الأجير في ملكه كالخيّاط الذي يخيط ثوب شخص في دكّانه أو داره فلا يستحقّ إلاّ بتسليمه إلى المستأجر، و بين أن يكون في ملك المستأجر فيستحقّ بنفس العمل؟ و نسب في الجواهر (1)هذا التفصيل إلى الشيخ قدّس سرّه.

و هناك تفصيل آخر، و هو أنّ العمل الصادر عن الأجير تارة يكون أثرا في ملك المستأجر بحيث يصير ملك المستأجر بعد صدور العمل عن الأجير متّصفا بصفة لم يكن مسبوقا بتلك الصفة، و أخرى ليس من هذا القبيل، بل العمل الصادر إمّا موجود غير قارّ ينعدم بعد وجوده، كالأجير لقراءة القرآن للميّت، أو لقضاء صلواته، أو للحجّ، أو لقراءة مصائب أهل البيت عليهم السّلام، و إمّا موجود قارّ يقوم بنفسه و لا ينعدم بعد وجوده.

أمّا القسم الأوّل، فبعد وجود الأثر في ملك المستأجر فيده على ملكه تكون يده على صفته، فإذا وجد قهرا يكون تحت يد مالك العين، فوجوده مساوق مع تسليمه. اللّهمّ إلاّ أن لا تكون العين حال إيجاد العمل تحت يد مالكها، بل كانت تحت يد الأجير، فحال العمل حال نفس العين في وجوب تسليمه إلى مالكها.

و أمّا القسم الثاني، أي ما يكون موجودا غير قارّ فلا وجه لأن يقال: إنّ استحقاق الأجرة مشروط بتسليم العمل إلى المستأجر، لأنّه غير ممكن، إذ المفروض أنّ العمل موجود غير قارّ، لا يوجد الجزء اللاحق إلاّ بعد انعدام الجزء السابق، فبمحض أن تمَّ العمل صحيحا يستحقّ الأجرة.

و أمّا القسم الثالث، أي ما يكون موجودا قارّا يقوم بنفسه، فبعد أن وجد و صدر عن الأجير لا شكّ في أنّه يستحق الأجرة، غاية الأمر إن كان تحت يده وجب عليه

ص: 109


1- «جواهر الكلام» ج 27، ص 237.

إيصاله إلى مالكه أي المستأجر، إمّا مع المطالبة أو مطلقا، لوجوب ردّ الأمانات إلى أهلها. و أمّا إذا لم يكن تحت يده، بل كان تحت يد المستأجر فالتسليم من قبيل تحصيل الحاصل.

و أمّا إذا لم يكن تحت يد أحدهما، لا الأجير و لا المستأجر، كما إذا استأجر بنّاء لبناء منارة في مسجد، فإذا تمَّ بناؤه فقد و في بالعقد و يستحقّ الأجرة، و لا معنى لكون استحقاق الأجرة منوطا بتسليم عمله إلى المستأجر.

و ذلك لأنّ مقتضى عقد الإجارة-كسائر العقود المعاوضيّة-سببيّة العقد لحصول المعاوضة و المبادلة في عالم التشريع و المبادلة الخارجيّة وفاء لتلك المبادلة التي وقعت في عالم التشريع، فلا يمكن أن يكون الاستحقاق مشروطا بالتسليم، إلاّ أن يكون من مقوّمات العقد، كالقبض في الصرف و السلم في المجلس.

و لكن هذا يحتاج إلى ورود دليل من قبل الشارع، و عقد الإجارة ليس من هذا القبيل، فوجوب تسليم العمل إلى المستأجر ليس من باب أنّه متمّم لاستحقاق الأجير، بل من جهة أنّ العمل صار ملكا للمستأجر بعقد الإجارة، فيجب ردّه إليه.

و التفصيلان كلاهما لا وجه له من حيث استحقاق الأجير الأجرة، و الفرق هو أنّ العمل لو كان في ملك المستأجر و عنده، فوجوب التسليم لا موضوع له، و إلاّ فالعمل بمحض وجوده يكون ملكا للمستأجر. و حيث أنّه ليس ملكا مجّانا و بلا عوض، فلا بدّ و أن يكون العوض-أي الأجرة-ملكا للأجير، و إلاّ يكون المعوّض ملكا للمستأجر مجّانا، و هو خلف.

نعم لا شكّ في أنّه لا يستحقّ المطالبة من المستأجر قبل إتمام العمل، إلاّ أن يشترط، أو كان المتعارف في بعض الأعمال هو أخذ الأجرة قبل العمل، كالأجير للحجّ، فإنّه غالبا لا يتمكّن الأجير من أداء الحجّ قبل أخذ الأجرة، ففي هذه الموارد ينصرف الإطلاق إلى ما هو نتيجة الشرط. فالعرف و العادة في مثل هذه الأمور تقوم

ص: 110

مقام الاشتراط.

و خلاصة الكلام في هذا المقام: أنّه بعد ما كان حقيقة المعاوضة و المبادلة إخراج كلّ واحد من المتعاملين ماله عن ملكه و إدخاله في ملك الآخر عوض ما ينتقل من الآخر إليه و يدخل في ملكه، فإذا كان العقد سببا لمثل هذا المعنى و لم يكن مشروطا بشرط، كالقبض في المجلس الذي هو شرط لحصول الملكيّة في السلف و السلم، فلا محالة تحصل ملكيّة كلّ واحد من العوضين لمن انتقل إليه بمحض تماميّة العقد واجدا لجميع الأجزاء و الشرائط، فاقدا لجميع الموانع، و إلاّ يلزم الخلف، أي ما فرضته سببا أن لا يكون سببا.

فإذا حصل لكل واحد من الطرفين ملكيّة ما نقله الآخر إليه بنفس العقد، فإن كان ما انتقل إليه موجودا خارجيّا يكون له السلطنة عليه، و يجوز له أن يتصرّف فيه التصرّفات التي لم يمنع الشارع منها، و أمّا إذا كان في العهدة فللمالك مطالبته بإيجاده بحيث يقدر على استيفاء منافعه المملوكة إن كان من قبيل الأعمال. و بعبارة أخرى:

إن كان له في عهدة شخص مال فله حقّ استخراجه منه و الانتفاع به.

و هذا الحقّ تارة يثبت له من ناحية حكم الشارع بأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، و هذا لا مورد له إلاّ فيما إذا وجد ما هو متعلّق المال، و تارة من ناحية وجوب الوفاء بالعقد. و أثر ذلك وجوب إعطاء ما ملكه إلى صاحبه، فإن كان ما ملكه عين من الأعيان، كما في البيع، وجب عليه تسليم ذلك إلى صاحبه. نعم له حق الامتناع إن امتنع الطرف عن إعطاء العوض، و إذا تعاسرا يجبرهما الحاكم.

و أمّا إن كان عمل من الأعمال، كالعبادات التي يستأجره لأن يأتي بها، كالصلاة و الصوم و الحجّ و أمثالها، فله المطالبة بإيجادها، لأنّه مالك في ذمّته ذلك العمل، و مع قطع النظر عن هذا أيضا يجب عليه إتيان ذلك العمل من باب وجوب الوفاء بعقده، و العمل على طبق التزامه.

ص: 111

نعم يجب على الآخر أيضا إعطاء الأجرة في ظرف إيجاده تمام العمل لوجوب الوفاء بالعقد. نعم لكلّ منهما الامتناع عند امتناع الآخر إلاّ أن يشترطا تعجيل أحدهما أو تأخيره أو يكون الإطلاق منصرفا إلى أحدهما بواسطة العرف و العادة، كما تقدّم ذكره و قلنا إنّ العرف و العادة يقومان مقام الشرط.

و ما قلنا إنّ لكلّ واحد من الموجر و المستأجر الامتناع من الإعطاء عند امتناع الآخر، هو أنّ بناء المعاوضات عند العرف و العقلاء على الأخذ و العطاء بأن يعطي كلّ واحد منهما ماله بعنوان أن يكون عوضا و بدلا عمّا يأخذه، فإذا لم يكن أخذ في البين لامتناع طرفه من الإعطاء، فهذا خلاف ما التزما به، و إمضاء العقود المعاوضيّة من طرف الشارع تعلّق بما التزما به.

و لذلك قلنا في بعض الأجزاء المتقدّمة من هذا الكتاب في شرح قاعدة «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (1)أنّه لو لم يكن النبويّ المشهور و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه» (2)لكان مقتضى القاعدة أيضا ذلك، لأنّ المعاوضات عند العرف و العقلاء على الأخذ و العطاء خارجا، فإذا لم يكن ذلك بواسطة التلف فقهرا تنفسخ المعاملة، و هذه القاعدة لا تختصّ بباب البيع، بل تجري في جميع المعاوضات.

و في المفروض حيث أنّ الأخذ و العطاء ممكن إذ لا تلف في البين، فلا وجه للانفساخ، بل يجبره الحاكم الذي هو وليّ الممتنع على الوفاء إن كان الممتنع أحدهما، و يجبرهما معا لو امتنعا.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ ملكيّة كلّ واحد من العوضين تحصل بنفس العقد التامّ بعد وجوده جامعا للشرائط و الأجزاء و فاقدا للموانع، و أمّا وجوب الإعطاء-لكلّ

ص: 112


1- راجع ج 2، ص 77.
2- تقدم ص 95، هامش (1) .

واحد منهما ما التزما به-لأحد أمرين: إمّا لوجوب الوفاء بالعقد، و إمّا لكون المالك سلطانا على ماله الذي حصل بالعقد. و عند الامتناع من أحدهما يجبره الحاكم، و لو كان من الطرفين يجبرهما لو لم يكن الامتناع منهما إقالة.

فرع: في كلّ مورد كانت الإجارة فاسدة و استوفى المستأجر المنفعة كان عليه أجرة المثل، و ذلك لأمور:

الأوّل: القاعدة المعروفة «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» أو «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ، و الأوّل أشمل لشموله العقود و الإيقاعات.

و معنى الضمان كون الشيء بوجوده الاعتباري في العهدة و الذمّة، لأنّه بوجوده الواقعي التكويني موجود في الخارج كسائر الجواهر و الأعراض الخارجيّة، و ليس من الموجودات في عالم الاعتبار التشريعي.

و لا فرق في هذا المعنى بين كون الضمان ضمان المسمّى أو كونه ضمانا واقعيّا. غاية الأمر في الضمان المسمّى يعيّنون ماليّة الشيء في مقدار معيّن، و في الضمان الواقعي الذي في العهدة هو واقع ماليّته إن كان قيميّا، و مثله إن كان مثليّا.

فالضمان في الصحيح و الفاسد بمعنى واحد، غاية الأمر في المعاملات الصحيحة حيث أنّهم يعيّنون ماليّة العوض نقدا أو جنسا فيسمّى بضمان المسمّى، و أمّا في الفاسدة حيث لا تعيين في البين فيعبّرون عنه بالضمان بدون قيد، فبناء على صحّة هذه القاعدة كما شرحنا و أثبتنا صحّتها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فحيث أنّ الإجارة الصحيحة فيها الضمان ففي الفاسد منها أيضا يكون الضمان، غاية الأمر في الصحيحة الضمان المسمّى، و في الفاسدة الضمان الواقعي، المثل في المثليّات، و القيمة في القيميّات.

و العمدة في مدرك هذا القاعدة هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و على اليد ما أخذت حتّى

ص: 113

تؤدّيه» (1)و حيث أنّ يد القابض بالعقد الفاسد ليست يد أمانة لا من قبل المالك كي تكون أمانة مالكيّة، و لا من قبل اللّه كي تكون أمانة شرعيّة، تكون غير مأذونة، و هي إمّا غصب موضوعا أو حكما.

فما ذكره ابن إدريس قدّس سرّه من أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصلين (2). لا يخلو من وجه. و قد فصّلنا الكلام في شرح هاتين القاعدتين- قاعدة «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» (3) و قاعدة «و على اليد ما أخذت» (4)في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.

و إجماله فيما نحن فيه: أنّه لا شكّ في أنّ المستأجر بعد ما قبض العين المستأجرة و استوفى منفعتها-كما إذا سكن الدار مثلا بالإجارة الفاسدة-فليست يده على الدار يد أمانة مالكيّة و لا شرعية، بل يد ضمان.

لا يقال: إذا كان الموجر جاهلا بفساد الإجارة، فيعطي ماله للمستأجر باعتبار أنّ له الحقّ أن ينتفع بمنافع تلك العين المستأجرة، فيعطيها بأن تكون أمانة عنده إلى أن يستوفي من تلك العين جميع المنافع التي ملكها بالإجارة، فيد المستأجر ليست يدا عادية حتى يكون فيها الضمان، بل و لا غير مأذونة، لأنّ المالك أعطاه و أذن بأن يكون في يده، غاية الأمر أنّ العقد فاسد لجهة من الجهات من فقد شرط أو جزء، أو وجود مانع في العقد أو في المتعاقدين أو في العوضين. هذا بالنسبة إلى نفس العين.

فإنّه يقال: إنّ الموجر و إن كان أعطاه بهذا الاعتقاد و أذن في الانتفاع به، و لكن أذنه للمستحقّ للأخذ و الانتفاع، فمن هو مأذون و هو المالك لم يعط، و من أعطى ليس بمأذون، فتكون يده يد ضمان. و بعبارة أخرى: ما تعلّق به الإذن هو العين التي

ص: 114


1- تقدم ص 78، هامش (3) .
2- «السرائر» ج 2، ص 285.
3- راجع ج 2، من هذا الكتاب.
4- راجع ج 4، من هذا الكتاب.

منافعها ملكه لا هذه العين الخارجيّة، سواء كانت منافعها ملكا له أو لم تكن، و الذي بيده ليس كذلك فلم يتعلّق به الإذن.

و أمّا ما ربما يقال: بأنّ الإذن المتعلّق بالمقيّد ينحلّ إلى إذنين، إذن بنفس الذات و إذن بقيده. و القيد و إن كان غير موجود، و لكن فقده ليس سببا لعدم تعلّق الإذن بنفس الذات المجرّدة عن القيد، فنفس العين المستأجرة و إن لم تكن منافعها ملكا للمستأجر مأذون في كونها في يده، فإذا قال مثلا: هذه الرقبة المؤمنة تكون عندك أمانة، و فرض أنّها لم تكن مؤمنة، فلا شكّ في أنّ نفس الرقبة و ذاتها مجرّدة عن الإيمان مأذون في أن تكون عنده.

كذلك الكلام بالنسبة إلى المنفعة، فإذا أذن أن تكون المنفعة التي ملك المستأجر تحت يده، و المفروض أنّ الإجارة فاسدة و ليست المنافع ملكا له، و لكن بالبيان المتقدّم تعلّق إذنه بنفس ذات المنافع أيضا، و لو كان قيد كونها ملكا له مفقود في المقام، فاليد على المنافع يد مأذونة لا ضمان فيها.

ففيه: أنّ الخاصّ، أي الوجود المقيّد بقيد مباين لما هو فاقد القيد، فإذا فقد قيده فهذا وجود آخر يباين معه، فإذا أذن في عتق الرقبة المؤمنة فغير المؤمنة غير مأذون، لأنّه ليس لذات المقيّد وجود و لقيده وجود آخر كي يكون التركيب بينهما انضماميّا، بل القيد و ذات المقيّد موجودان بوجود واحد، و التركيب بين العرض و المعروض اتّحادي بالنظر العرفي. بل قال بعضهم إنّ الأعراض من شؤون معروضاتها ليس لها وجود آخر. و القول بأنّها محمولات بالضمائم و إن كان صحيحا بالدقّة العقليّة، و لكن في نظر العرف وجود واحد و موجود واحد.

و لذلك قالوا بعدم جواز بيع الجارية المغنّية و أنّه ليس من باب تبعّض الصفقة، لأنّ وصف كونها مغنّية مع شخصها و ذاتها موجودان بوجود واحد.

و لا شكّ في أنّ في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعيّة يلاحظ النظر

ص: 115

العرفي لا الدقّي العقلي، و بالنظر العرفي للعرض و معروضه وجود واحد، و تكون الأعراض مع موضوعاتها مثل الأجناس و الفصول موجودات بوجود واحد.

فإذا تعلّق الإذن بوجود خاصّ و لم تكن له تلك الخصوصيّة، مثل أن يقول لشخص باعتقاد أنّه زيد: يا زيد ادخل داري، و في الواقع لم يكن زيدا، فلا يجوز له الدخول.

و لا يصحّ أن يقال بأنّ خصوصيّة الزيديّة ليست مأذونة، و أمّا الجهة المشتركة بينه و بين غيره من أفراد النوع مأذونة بالدخول، ففي المورد الذي تعلّق الإذن بذات مقيد بقيد لا يصحّ أن يقال بأنّ الذات مأذون مع فقد قيده، إلاّ أن يكون متعلق الإذن هو الذات بنظرهم و يرون القيد وصفا زائدا أو مطلوبا آخر.

و إلى هذا يرجع قولهم بتعدّد المطلوب في المستحبّات في بعض الخصوصيّات.

و أيضا إلى هذا يرجع قولهم بخيار تخلّف الوصف مع قولهم بصحة المعاملة بتحليل بيع هذا العبد الكاتب-مثلا-بالتزامين: التزام بالمبادلة بين هذا الذات و هذا الثمن، و التزام آخر بكونه كاتبا. فتخلّف أحد الالتزامين لا يضرّ بوقوع البيع صحيحا، غاية الأمر يوجب خيار تخلّف الوصف.

و الحاصل: أنّه ضامن للمنافع التي استوفاها أو لم يستوفها، لأنّ المناط في هذا الضمان كونها تحت اليد غير المأذونة، و لذلك يسمّى بضمان اليد. و أمّا كونها تحت اليد فباعتبار تبعيّتها للعين، لأنّ اليد على العين يد على منافعها، و لذلك قلنا أنّه لا فرق بين المستوفاة و غير المستوفاة.

الثاني: قاعدة الاحترام

، و هي عبارة عن احترام مال المسلم و أنّه لا يذهب هدرا، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» (1)فإذا استوفى منافع ماله يكون

ص: 116


1- «عوالي اللئالي» ج 3، ص 473، باب الغصب، ح 4، «سنن الدارقطني» ج 3، ص 26، ح 94، كتاب البيوع، و فيه: المؤمن بدل المسلم.

ضامنا و لا يذهب هدرا.

و الفرق بين هذا الدليل و الدليل الأوّل هو أنّ الأوّل يشمل المنافع المستوفاة و غير المستوفاة، و هذا الدليل لا يشمل غير المستوفاة.

اللّهمّ إلاّ أن يكون سببا لإتلافه، و في تلك الصورة لا تصل النوبة إلى قاعدة الاحترام، بل يكون مشمولا لقاعدة الإتلاف الثابتة بالأدلّة و الإجماع أنّ «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» .

و أمّا معنى الإتلاف، و أنّه ما المراد منه، و أنّه هل يصدق على منافع غير المستوفاة التي حبس المالك عن استيفائها بواسطة أخذه العين المستأجرة عن مالكها بعنوان استحقاقه لأخذها لتعلّق الإجارة بها، فهي أمور بيّنّاها مفصّلا في مقام شرح هذه القاعدة في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الثالث: قاعدة الإقدام

، و هي عبارة عن كون إقدام الإنسان على التصرّف في مال الغير أو أخذه-بالضمان، سواء كانت هي التصرّفات المتلفة أو غير المتلفة، أو كان بإتلاف منافعها بالاستيفاء، أو بمنع المالك عن استيفائها و حبسها عنه موجبا للضمان.

فمثل هذا الإقدام مع رضاء المالك بمقدار معيّن من الضمان أو الضمان الواقعي يوجب ضمان المقدم ضمانا واقعيا، لا المقدار الذي عيّنّاه بعد حكم الشارع بالفساد، لأنّ تعيين مقدار معيّن لا يوجب تعيّن ذلك المقدار إلاّ بوقوعه تحت عنوان أحد العقود المملكة التي أمضاها الشارع، و إلاّ فبصرف تعيين الطرفين لا دليل على تعيّنه، بل إذا حكم الشارع بفساد تلك المعاملة و لم يمضها فقهرا ذلك المقدار المعيّن المسمّى بضمان المسمّى يسقط عن الاعتبار.

نعم حيث أنّ المالك لم يرض بتصرّفاته و انتفاعاته منها إلاّ بعوض، و المستأجر أقدم على إعطاء العوض المعيّن، و المفروض أنّ الشارع لم يمض مثل هذه

ص: 117

المعاوضة، فلا تقع صحيحة فتبطل المسمّى، و أمّا أصل الضمان فثابت بمقتضى إقدامهما، فينصرف إلى الضمان الواقعي.

و فيه: إنّه لا دليل على ثبوت أصل الضمان-بعد نفي الشارع المسمّى-كي يقال بانصرافه إلى الضمان الواقعي و صرف دخولهما في المعاملة على أن يكون تصرّف المستأجر بالضمان لا يكون دليلا على إثبات أصل الضمان بعد بطلان المسمّى، بل كما أنّ إثبات ضمان المسمّى يحتاج إلى دليل، كذلك إثبات أصل الضمان أيضا يحتاج إلى الدليل الذي يدلّ عليه.

نعم يمكن أن يقال: إنّ إقدام المالك على عدم الضمان و تلف منافعه مجّانا و بلا عوض يوجب عدم الضمان، و كذلك لو أقدم على عمل مجّانا و بلا عوض يوجب عدم الضمان، لأنّه بنفسه هتك احترام ماله، فقاعدة الإقدام حاكمة على قاعدة الاحترام إذا كان الإقدام على العمل و الإذن في استيفاء المنافع مجّانا و بلا عوض.

و أمّا كون صرف الدخول بالضمان في معاملة على كون عمله أو التصرّف في منافع ملكه موجبا للضمان، فهذا يحتاج إلى الدليل، من مثل «احترام مال المسلم» و قاعدة «و على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» و قاعدة الإتلاف و أنّه «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» و أمثال ذلك من أدلّة الضمان، أو يكون عمله أو الإذن في استيفاء منافع ماله داخلا تحت أحد عناوين المعاملات التي فيها ضمان المسمّى مع إمضاء الشارع لها. و إلاّ فصرف كون الدخول في عمل مع تراضيهما بالضمان مع عدم المذكورات موجبا للضمان الواقعي من المثل أو القيمة مشكل جدّا.

و أمّا كون الضمان في المعاملات الفاسدة من قبيل الشروط الضمنيّة التي بناء المتعاملين على أخذ عوض ما يفعل أو يعطي للطرف، فلا صغرى له و لا كبرى.

أمّا لا صغرى له، فلأنّ بناء المتعاملين و إن كان على أخذ العوض، و لكن بناءهم على أخذ عوض خاصّ الذي هو المسمّى، لا العوض الواقعي من المثل أو القيمة.

ص: 118

و أمّا لا كبرى له، فمن جهة أنّه على فرض وجود مثل هذا الشرط الضمني لا دليل على وجوب الوفاء به، لأنّ القدر المتيقّن ممّا هو واجب الوفاء هي الشروط التي تكون في ضمن العقود الصحيحة اللازمة، و أمّا الشروط الابتدائيّة أو الواقعة في ضمن العقود الجائزة أو الفاسدة فلا دليل على وجوب الوفاء بها. و قد حققنا هذه المسألة في قاعدة «المؤمنون عند شروطهم» (1).

الرابع: الإجماع على الضمان الواقعي في الإجارة الفاسدة.

و فيه: أنّه قد بيّنّا عدم حجّية أمثال هذه الإجماعات ممّا لها مدارك متعدّدة مذكورة كرارا و مرارا.

فرع: لو قال: آجرتك بلا أجرة، فهذا مثل قوله: بعتك بلا ثمن، و كلاهما مثل قوله: آجرتك بلا أن تكون إجارة و بعتك بلا أن يكون بيعا، فهو كلام متناقض بعضها مع بعض و لغو لا يترتّب أثر عليه.

و التأويلات الباردة في توجيهه و صحّته لا ينبغي أن تذكر.

فهذا ليس من الإجارة الفاسدة كي يقال بالضمان الواقعي بدل أجرة المسمّى في الإجارة الصحيحة، فلا تجري فيه قاعدة «ما يضمن بصحيحة» و لا قاعدة «ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده» ، بل كلام لغو خارج عن طريق المحاورة و الإفادة و الاستفادة.

فرع: يكره استعمال الأجير قبل أن يقاطعه على الأجرة ، لقول الصادق عليه السّلام في ما رواه مسعدة عنه: «من يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يستعمل أجيرا حتّى يعلمه

ص: 119


1- راجع ج 3، من هذا الكتاب.

ما أجره» (1)و لما رواه سليمان بن جعفر الجعفري من أنّ مولانا الرضا عليه السّلام قد ضرب غلمانه و غضب غضبا شديدا حيث استعانوا برجل في عمل و ما عيّنوا له أجرته. فقلت له:

جعلت فداك لم تدخل على نفسك؟ فقال عليه السّلام: «إنّي نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة، و اعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئا من غير مقاطعة ثمَّ زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلاّ ظن أنّك قد نقصت أجرته، فإذا قاطعته ثمَّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّة عرف ذلك و رأى أنّك قد زدته» (2).

و دلالة الخبرين على ما ذكرنا في العنوان واضحة.

فرع: يكره تضمين الأجير إلاّ مع التهمة.

هذه العبارة ذكروها في المتون الفقهيّة، و اختلف في المراد منها، و قد ذكر في الجواهر (3)في بيان المراد منها وجوها سبعة، و لكن ظاهر العبارة لا خفاء فيه، و لا وجه للحمل على خلاف ظاهرها بقرينة الواردة في هذه المسألة.

و ظاهر العبارة أنّه بعد ما وجد أسباب التضمين و كان له أن يغرمه و يضمنه بأيّ سبب كان و أيّ دليل من الأدلّة لكن مع بقاء الشكّ وجدانا في تفريطه كره مع الاعتراف بأمانته أن يغرمه و يضمنه.

نعم لو اتّهمه-أي يكون ظانّا بأنّه فرط أو خان و هو ليس بمأمون عنده-فلا كراهة في تضمينه.

ص: 120


1- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 211، ح 931، في الإجارات، ح 13، «الكافي» ج 5، ص 289، باب كراهة استعمال الأجير. ، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 245، أبواب أحكام الإجارة، باب 3، ح 2.
2- «الكافي» ج 5، ص 288، باب كراهة استعمال الأجير. ، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 212، ح 932، في الإجارات، ح 14، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 245، أبواب أحكام الإجارة، باب 3، ح 1.
3- «جواهر الكلام» ج 27، ص 255.

و أمّا استحباب عدم تضمينه فلا دليل يدلّ عليه إلاّ ما توهّم أنّ ترك المكروه مستحبّ، و هذا التوهّم واضح البطلان كما حقّق في محلّه.

و الأخبار الواردة في هذا الفرع كثيرة:

منها: خبر خالد بن الحجّاج قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الملاح أحمله الطعام ثمَّ أقبضه فينقص. قال عليه السّلام: «إن كان مأمونا فلا تضمنه» (1).

و منها: خبر جعفر بن عثمان قال: حمل أبي متاعا إلى الشام مع جمّال فذكر أنّ حملا منه ضاع، فذكرت ذلك لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام فقال: «أ تتّهمه؟» . قلت: لا. قال:

«فلا تضمنه» (2).

و منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الجمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه. قال عليه السّلام: «إن كان مأمونا فليس عليه شيء، و إن كان غير مأمون فهو ضامن» (3).

منها: خبر حذيفة بن منصور قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع المتاع فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله أ يأخذونه. قال: فقال لي:

«أمين هو؟» قلت: نعم. قال عليه السّلام: «فلا يأخذون منه شيئا» (4).

ص: 121


1- «الكافي» ج 5، ص 243، باب ضمان الجمّال و المكاري و أصحاب السفن، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 217، ح 947، في الإجارة، ح 29، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 277، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 3.
2- «الكافي» ج 5، ص 244، باب ضمان الجمّال و المكاري و أصحاب السفن، ح 5، «الفقيه» ج 3، ص 256، ح 3924، باب ضمان من حمل شيئا فادّعى ذهابه، ح 5، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 217، ح 946، في الإجارات، ح 28، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 278، أبواب أحكام إجارة، باب 30، ح 6.
3- «الكافي» ج 5، ص 244، باب ضمان الجمّال و المكاري و أصحاب السفن، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 278، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 7.
4- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 222، ح 975، في الإجارات، ح 57، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 279، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 12.

و منها: خبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أتي بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه و قال عليه السّلام: إنّما هو أمين» (1).

و منها: خبر الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام يضمن القصار و الصانع احتياطا للناس، و كان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأمونا» (2).

و هناك أخبار أخر بهذا المضمون تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها، لأنّ فيما ذكرناه كفاية.

و جميع هذه الأخبار متّفقة في أنّ الأجير إذا كان مأمونا غير متّهم فتضمينه مرجوح، و أمّا إذا كان متّهما و غير مأمون فتضمينه غير مرجوح و لا حزازة فيه.

فرع: يعتبر في صحّة الإجارة أن تكون المنفعة مملوكة للموجر ، أو لمن ينوب الموجر عنه بالوكالة أو الولاية، أو تكون مملوكة لمن يكون الموجر فضولا عنه.

و وجه هذا الشرط واضح، و ذلك لأنّ المؤجر هو الذي يملك المنفعة للمستأجر، فلا بدّ و أن يكون إمّا مالكا أو يكون عن قبل المالك و لو كان فضولا، و ذلك لأنّ فاقد الشيء لا يمكن أن يكون معطيا له.

و لا فرق بين كونها مملوكة بتبع ملكيّة العين، أو تكون مملوكة مستقلاّ من دون تكون العين التي لها المنفعة مملوكة له، كما إذا استأجر عينا ذات منفعة فآجرها، فالمستأجر الذي يؤاجر ما استأجره مالك للمنفعة من دون أن يكون مالكا

ص: 122


1- «الكافي» ج 5، ص 242، باب ضمان الصنّاع، ح 8، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 218، ح 954، في الإجارات، ح 36، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 270، أبواب أحكام الإجارة، باب 28، ح 1.
2- «الكافي» ج 5، ص 242، باب ضمان الصنّاع، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 220، ح 962، في الإجارات، ح 44، «الاستبصار» ج 3، ص 133، ح 478، باب الصانع يعطى شيئا ليصلحه. ، ح 9، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 272، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 4.

للعين التي لها هذه المنفعة.

و كذلك فيما إذا آجر الموصى له منفعة عين سنين تلك العين في تمام تلك المدّة أو في بعضها، فهو مالك للمنفعة من دون أن يكون مالكا للعين التي لها هذه المنفعة، و ذلك لأنّ الواجب في الإجارة-حيث أنّها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم-أن تكون تلك المنفعة ملكا له، لما ذكرنا من أنّ فاقد الشيء لا يمكن أن يكون معطيا له.

و أمّا ملكيّة العين التي لها هذه المنفعة لا أثر لها في هذا المقام أصلا، فلا يجوز إجارة المنافع التي هي من المباحات الأصليّة لكثير من المنافع الموجودة في الجبال و الأزوار من الأودية التي تنبت فيها، كورد لسان الثور، و الهندباء، و غيرهما و الفواكه الموجودة أشجارها في الأزوار و غيرها من المنافع التي ليست ملكا لأحد و جميع الناس فيها شرع سواء. و لا فرق في جواز الانتفاع بها بين الموجر و المستأجر.

و لا وجه لإنشاء التمليك من أحدهما للآخر، لأنّ نسبتهما إلى تلك المنافع على حدّ سواء لا ترجيح لأحدهما على الآخر، بل التمليك من أحدهما للآخر غير معقول، كما نبّهنا عليه.

و بعد ما عرفت أنّ ملكيّة المنفعة كان في الإجارة و لا يتوقّف على ملكيّة العين، يتفرّع عليه جواز إجارة المستأجر ما استأجره لآخر حتّى من نفس المؤجر الذي استأجر منه فضلا عن غيره، لأنّ المفروض أنّ منفعة هذه العين صارت ملكا للمستأجر، فيجوز أن ينقلها إلى شخص آخر و لو كان هو نفس الموجر. كما أنّه لو اشترى عينا من شخص و صارت ملكا له فبعد قبضها يجوز أن يبيعها لكلّ أحد حتّى من نفس البائع.

نعم لو اشترط الموجر عليه استيفاء المنفعة بنفسه و مباشرته الاستيفاء فلا يجوز إجارته للغير، لعموم «المؤمنون عند شروطهم» (1)، فمقتضى القاعدة الأوّلية

ص: 123


1- تقدم ص 18، هامش (4) .

جواز إجارة المستأجر ما استأجره لغيره حتّى لنفس الموجر.

و قد ورد أيضا في ذلك روايات:

منها: ما عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهم السّلام قال: سألته عن رجل استأجر أرضا بألف درهم، ثمَّ آجر بعضها بمائتي درهم، ثمَّ قال صاحب الأرض الذي آجره: أنا أدخل معك فيها بما استأجرت فننفق جميعا فما كان فيها من فضل كان بيني و بينك. قال: «لا بأس» (1).

أقول: و قد ورد روايات تدلّ على جواز إجارة الأرض الذي استأجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا كان بغير جنس الأجرة، أو أحدث ما يقابل التفاوت و إن قلّ (2).

منها: رواية أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يتقبّل الأرض من الدهاقين ثمَّ يؤاجرها بأكثر ممّا تقبّلها به و يقوم فيها بخط السلطان؟ فقال: «لا بأس به، إنّ الأرض ليست مثل الأجير و لا مثل البيت، إنّ فضل الأجير و البيت حرام» (3).

و منها: رواية أبي المغراء، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يؤاجر الأرض، ثمَّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها؟ قال: «لا بأس، إنّ هذا ليس كالحانوت و لا الأجير، إنّ فضل الحانوت و الأجير حرام» (4).

و غير هاتين الروايتين ممّا جمعها في الوسائل في الباب العشرين و الواحد و العشرين من كتاب الإجارة (5). غاية الأمر يدلّ بعضها على عدم جواز الإجارة بأكثر

ص: 124


1- «الفقيه» ج 3، ص 245، ح 3893، باب المزارعة و الإجارة، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 259، أبواب أحكام الإجارة، باب 19، ح 1.
2- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 259-262، أبواب أحكام الإجارة، باب 20 و 21.
3- تقدم ص 99، رقم (1) .
4- تقدم ص 99، رقم (2) .
5- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 259-262، أبواب أحكام الإجارة، باب 20 و 21.

ممّا استأجره به في خصوص البيت و الحانوت و الأجير، و إلاّ فأصل جواز الإجارة مفروغ عنه، و عدم الجواز في الثلاثة المذكورة أيضا بأكثر ممّا استأجرها به إن لم يحدث فيها حدثا، و إلاّ فلا مانع.

فرع: لو شرط مباشرة المستأجر في الانتفاع بالعين المستأجرة، فآجرها لغيره و سلّمها إليه، ضمنها ، لأنّها كانت أمانة مالكيّة عنده، فتسليمها لغيره بدون إذن المالك إلى شخص آخر تعدّ منه، فتخرج عن كونها أمانة و تصير بمنزلة الغصب، بل عينه، فيكون ضامنا على حسب قواعد باب الضمان، و تجري عليها أحكام العين المغصوبة عند تلفها.

فرع: و من شرائط صحّة الإجارة أن تكون المنفعة معلومة، بل هذا الأمر من مقوّمات حقيقة الإجارة، و لذلك عرّفوها بأنّها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم.

فإذا كان حقيقة الإجارة عند العرف و العقلاء هو المعنى الذي ذكرناه من اعتبار كون المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر معلومة، فبدون معلوميّتها لا تتحقّق حقيقة الإجارة عندهم، فإطلاقات أدلّة صحّة الإجارة لا تشملها.

هذا، مضافا إلى ثبوت الإجماع على هذا الشرط، و لزوم كون المنفعة معلومة في صحّة الإجارة.

و أيضا الحديث الشريف: «نهى النبي عن الغرر» (1)بناء على ثبوته و عدم

ص: 125


1- «عيون أخبار الرضا» ج 2، ص 45، باب فيما جاء عن الرضا عليه السّلام من الأخبار المجموعة، ح 168، «عوالي اللئالي» ج 2، ص 248، باب المتاجر، ح 17، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 330، أبواب آداب التجارة، باب 40، ح 3، «صحيح مسلم» ج 3، ص 1153، ح 1513، كتاب البيوع، ح 4، باب (2) ، «سنن أبي داود» ج 3، ص 254، ح 3376، باب في بيع الغرر، «سنن الترمذي» ج 3، ص 532، ح 1230، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.

اختصاصه بالنهي عن بيع الغرر.

و على كلّ حال لا شبهة في اشتراط هذا الشرط و لا ريب فيه، و قد تقدّم بعض الكلام في هذا الشرط، و إنّما الكلام هاهنا في المراد من معلوميّة المنفعة و تعيّنها في كلا القسمين-أي إجارة الأعيان، و في باب الأعمال-فنقول:

أمّا في إجارة الأعيان فيختلف التعيّن باعتبار الأعيان و باعتبار منافعها، ففي مثل الدار و الدكّان و الخان و أمثالها فتعيّنها بتقدير مدّة سكناها بحسب الزمان كما هو المتعارف الآن، فيقول الموجر: آجرتك هذه الدار أو هذا الدكّان أو هذا الخان أو غيرها من أمثال ذلك مدّة سنة أو شهر مثلا بكذا، و بهذا التقدير يعرف المستأجر أنّه ملك سكنى سنة من هذه المذكورات بعوض كذا المعلوم أيضا.

و في مثل السيّارة و الدابّة تحصل المعلوميّة و التعيين إمّا بالزمان، كما إذا قال:

آجرتك هذه الدابّة أو هذه السيّارة يوما أو ساعة، أو بالمسافة كما إذا قال: آجرتك هذه الدابّة أو هذه السيّارة من النجف إلى كربلاء أو إلى بغداد.

و في إجارة الأعمال أيضا يختلف بالنسبة إلى الأجراء و بالنسبة إلى أعمالهم، فلا بدّ من تعيين العمل الذي يستأجره عليه إمّا من تقديره بحسب الزمان كما هو المتعارف في البنّائين و العمّال حسب درجاتهم، فتكون أجرته في كلّ يوم كذا مقدار، و في نصف اليوم نصفه أو أقلّ أو أكثر، و في بعض الأعمال تكون الأجرة بحسب نفس العمل، ففي كلّ عمل له أجرة خاصّة، فالخيّاط مثلا في كلّ ثوب يعيّن أجرته باعتبار نفس العمل حسب المتعارف، ففي القباء مثلا كذا مقدار، و في العباء كذا مقدار، و كذلك في سائر الألبسة كلّ بحسبه.

ص: 126

و قد يختلف اختلافا كثيرا باعتبار نوع الخياطة و الألبسة بشكل الألبسة القديمة و الحديثة أو الشرقيّة و الغربيّة، و كذلك الحذاؤن باعتبار نوع الحذاء، و ربما يكون لبعض أنواع الحذاء أجرة فوق ما يتوهّمه المستأجر، فتعيين نوع العمل لازم.

و أيضا تعيين أجرة ذلك النوع لازم.

و خلاصة الكلام: أنّ الإجارة مطلقا-سواء كان إجارة الأعيان أو إجارة الأعمال-حيث أنّ المنافع في الأعيان و الأعمال في الإجراء مختلفة، و أجرتها أيضا مختلفة باعتبار اختلاف المنافع و الأعمال، فلا بدّ من تعيينها كي لا يلزم الغرر عند من يقول بأنّ دليل اعتبار المعلوميّة في المنفعة هو لزوم أن لا تكون المعاملة غرريّة، و كذلك الأمر في جانب الأجرة، فالمناط كلّ المناط ارتفاع الغرر، و أن تكون المعاملة على النحو المتعارف بين العرف و العقلاء.

و كذلك عند من يقول اعتبار العلم هو بناء العرف و العقلاء أنّ صحّة الإجارة منوطة بمعرفة المنفعة و الأجرة، فإذا لم يعلما فلا تشملها الأدلّة العامّة و الإطلاقات الواردة في باب لزوم الوفاء بعقد الإجارة.

و هذا هو معنى اشتراط صحّة الإجارة بالعلم بالمنفعة، بل العلم بالأجرة أيضا، و لذلك اعتبروا العلم بكليهما في مقام التعريف، و عرفوا الإجارة بأنّها تمليك منفعة معلومة.

و أمّا من يعتبر هذا الشرط لأجل الإجماع فلا بدّ و أن يكون العلم بها بحيث لا يكون مخالفا لما اتّفقوا عليه.

فرع: لو استأجر شيئا معيّنا فتلف قبل أن يقبض ذلك الشيء بطلت الإجارة.

قال في الجواهر: بلا خلاف أجده (1)، و ادّعي في التذكرة أيضا الإجماع على

ص: 127


1- «جواهر الكلام» ج 27، ص 277.

هذا الحكم (1).

مضافا إلى ما تقدّم منّا في إلحاق الإجارة بالبيع في التلف قبل القبض، و أنّها بحكمه في الانفساخ، و ذلك لأنّ تلف العين قبل القبض يلزم منه تلف المنفعة أيضا قبل القبض، لأنّ المنفعة تابعة للعين تبعيّة العرض للمعروض، لأنّ سكنى الدار و ركوب الدابّة موقوفان على بقاء الدار و الدابّة، و بتلفهما يتلفان قهرا. فالمنفعة في الإجارة بمنزلة المبيع في البيع، فإذا تلف قبل القبض فيشملها قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه» (2)، و كذلك رواية عقبة بن خالد التي تقدّم ذكرها (3).

و هما و إن كانا في ظاهر اللفظ مختصّان بالبيع، و لكن المناط في البيع و الإجارة واحد، و هو أنّ المبادلة بين العوضين في عالم الإنشاء و التشريع مقدّمة للأخذ و الإعطاء خارجا، و إلاّ يكون الإنشاء في الأغلب لغوا، فإذا امتنع التعاطي الخارجي فيبقى العقد و العهد لغوا، فينفسخ.

و لا شكّ في أنّه بتلف العين يمتنع التعاطي الخارجي في كلا البابين، أي في باب البيع و الإجارة، فقهرا ينفسخ العقد في كلا البابين. و لعلّ هذا هو المراد من إلحاق الإجارة بالبيع في شمول النبوي صلّى اللّٰه عليه و آله و رواية عقبة بن خالد لها.

هذا إذا كان تلف العين المستأجرة قبل القبض و قبل أن يستوفي المستأجر شيئا من المنفعة، و أمّا لو وقع التلف بعد القبض فإن كان بعد استيفاء شيء من المنفعة أو بعد إمكان استيفائه لها و لكنّه قصر في الاستيفاء، فتكون الأجرة عليه بمقدار تلك المدّة، لأنّها تقسط باعتبار أزمنة الاستيفاء، إذ لا وجه للقول بالانفساخ من زمان وقوع العقد أو البطلان من أوّل الأمر في هذه الصورة و إن قال به قائل، فعليه أجرة المثل لما استوفى، أو للمدّة التي كان يمكنه استيفائها و لم يستوف.

ص: 128


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 322.
2- تقدم ص 95، هامش (1) .
3- تقدم ص 95، هامش (2) .

و أمّا لو كان بعد القبض و لكن كان قبل استيفاء شيء منها و عدم إمكان استيفاء شيء منها، فهذه الصورة أيضا في حكم التلف قبل القبض، لوحدة المناط فيهما.

و الحاصل: أنّ المناط في بطلان الإجارة و انفساخها هو عدم إمكان استيفاء منفعة العين المستأجرة من غير تقصير و تهاون في ذلك من قبل المستأجر، بل القصور في جانب العين، إمّا لتلف أو لجهة أخرى.

هذا كلّه فيما إذا تلفت العين، أمّا إذا أتلفها متلف فإن كان هو نفس المستأجر فربما يقال بأنّه هو الذي أتلف المنفعة على نفسه، فيكون الإتلاف بمنزلة الاستيفاء، فعليه ضمان العين من جهة إتلافه لها، و عليه الأجرة لاستيفائه المنفعة بإتلافه الذي هو بمنزلة الاستيفاء.

و لكن فيه: أنّ الإجارة تنفسخ بتلف العين، سواء كان بآفة سماويّة أو بتلف المستأجر أو بتلف غيره، فإذا أتلف المستأجر العين المستأجرة فهو ضامن للعين و لا كلام فيه، لقاعدة الإتلاف «و من أتلف مال الغير فهو له ضامن» .

و أمّا بالنسبة إلى الأجرة فبالنسبة إلى المقدار الذي استوفى من المنفعة عليه الأجرة، و أمّا بالنسبة إلى الباقي فليس عليه شيء، لانفساخ الإجارة.

و لو أتلف العين المستأجرة قبل أن يستوفي شيئا منها فليس عليه شيء سوى ضمان نفس العين المستأجرة، و كذلك الأمر لو كان الإتلاف بيد غير المستأجر.

فرع: لو تجدّد فسخ الإجارة بسبب من أسباب الفسخ بعد تماميّة عقد الإجارة واجدا لجميع الأجزاء و الشرائط، و بعد مضيّ مقدار من مدّة الإجارة صحّ فيما مضى و بطل فيما بقي، بناء على ما هو المختار من أنّ الفسخ حلّ العقد من حين الفسخ، لا من أوّل انعقاده، فتقسط الأجرة.

فلو أعطى الأجرة من أوّل انعقاد الإجارة-كما هو المتعارف غالبا-فيستردّ

ص: 129

بالنسبة إلى مقدار الباقي، لأنّه لا إجارة بالنسبة إليه كي يستحقّ المؤجر أجرة ماله، لانفساخ العقد بالنسبة إليه. و لو لم يعط الأجرة أصلا و شيئا منها فعليه مقدار ما مضى دون ما بقي. فلو كان أجزاء مدّة الإجارة متساوية من حيث قيمة المنفعة، فيعطي أو يستردّ ما مضى بالنسبة إلى مجموع المدّة في الأوّل، و بمقدار ما بقي بالنسبة إلى مجموع المدّة في الثاني.

و أمّا إن لم تكن الأجزاء متساوية في القيمة، فيقوّم أجرة مثل مجموع المدّة فافرضها مثلا مائة و خمسين دينار، و تقوّم أجرة مثل ما مضى من مدّة الإجارة و أفرضها مثلا مائة دينار، و نسبتها إلى أجرة مثل المجموع نسبة الثلاثين، فيعط المستأجر ثلثي المسمّى إن لم يعط شيئا منها، و إن أعطى الجميع من حين العقد فيستردّ من الموجر الثلث من المسمّى في المفروض، فإذا كان المسمّى في المفروض تسعين و لم يعط المستأجر شيئا منها، فيجب عليه أن يعطي للموجر ستّين، و إن أعطى المجموع حين انعقاد الإجارة فيستردّ ثلاثين للمدّة الباقية.

و هذا ضابط كلّي لموارد اختلاف أجزاء المدّة بحسب القيمة، و لا شكّ في وقوع ذلك كثيرا، فالدور في مكّة المكرمة أجرتها أيّام الموسم أضعاف أجرة غير الموسم.

فرع: لو استأجر دابّة للحمل يلزم تعيين ما يحمل عليها إمّا بالمشاهدة، أو بالكيل و الوزن. و المقصود من التعيين هو ارتفاع الغرر، فلو كان ما يحمل عليها هو الراكب فلا بدّ من المشاهدة، و ذلك لاختلاف الركّاب في الطول و القصر و السمن و الهزال، فربّ راكب تعجز الدابّة عن حمله، فلا بدّ من مشاهدته أو وصفه بحيث يرتفع الغرر.

و قد تقدّم أنّ حقيقة الإجارة هي تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، و لا تصير المنفعة معلومة فيما ذكر إلاّ بما ذكرنا من المشاهدة، أو التوصيف التامّ بحيث لا

ص: 130

يبقى المنفعة أو شأن من شؤونها مجهولة فيما لا يتسامح العقلاء في مثل ذلك.

فلو كان الاستيجار لأجل حمل آلات و أدوات للصنعة أو الزرع أو لشغل آخر، فلا بدّ أن يعيّن جنس الآلة و أنّها من حديد أو من صفر أو من خشب أو من جنس آخر، و ذلك لاختلافها ثقلا و خفّة من حيث أجناسها، بل ربما تكون صعوبة في حملها من جهات أخرى غير جهة الثقل و الخفّة، فلا بدّ من ملاحظة جميع هذه الجهات في مقام إيقاع عقد الإجارة و تعيينها كي يرتفع الغرر و الجهالة كما هو ديدن العقلاء و بناؤهم في معاملاتهم.

و كذلك يلزم تعيين الدابّة التي يستأجرها لأجل غرضه، و ليس مرادنا من لزوم تعيينها تعيين شخصها، لأنّه لا مانع من استئجار دابّة كليّة، كما أنّه يجوز بيعها كذلك، غاية الأمر يجب توصيف صفاتها التي لها مدخليّة في أصل الانتفاع بها، أو يكون لها مدخليّة في تكميل الانتفاع بها، فالدابّة و كذلك سائر المراكب سواء كانت من سنخ الحيوان أو غير الحيوان كالسيّارة و الطيّارة يجب أن يعيّن نوعها بل صنفها، لاختلاف منافعها من حيث سرعة السير و بطئه، و استراحة الراكب فيها و عدمها.

و الضابط الكلّي في جميعها رفع الغرر و معلوميّة المنفعة التي يملكها الموجر و المستأجر.

و إن شئت قلت: إنّ بناء العقلاء في معاملاتهم المعاوضيّة على أن يعرف كلّ واحد من المتعاملين ما يأتي في ملكه عوض ما يخرج عنه، و على هذا يتفرّع لزوم العلم بالعوضين، و الشارع أمضى هذه الطريقة و نهى عن الغرر.

و خلاصة الكلام في المقام: أنّه لا بدّ من معلوميّة العين المستأجرة، سواء كانت إنسانا أو حيوانا أو غيرهما. و أيضا لا بدّ من معلوميّة المنفعة التي يتملكها المستأجر علما عاديا حسب ما هو المتعارف في معاملات أهل العرف.

و قد طوّلوا بذكر الأمثلة و الموارد لاختلاف المنافع فيها، و لكن جميع الموارد لا

ص: 131

تخرج عن هذا الضابط الكلّي، فذكر الأرض للزرع، أو الدار للسكنى، أو الخان و الدكّان للكسب، أو الدابّة و السيّارة للركوب و التفصيل فيها ببيان كيفية معلوميّة منافعها و كيفيّة الانتفاع بها ليس بلازم، لأنّ الموارد ليست محصورة، بل ربما تختلف بحسب الأزمان و العادات، فربما ينقص شيء منها باعتبار تغيير العادات، و يزيد شيء آخر، فلا بدّ من ملاحظة العرف و العادة.

ثمَّ إنّه ذكروا هنا فرعا:

و هو أنّه لو استأجر لحفر بئر عشر قامات بعشرة دراهم مثلا، فحفر قامة واحدة و عجز عن إتمامها لجهة من الجهات، فقالوا يقوّم حفر الجميع و أيضا يقوّم ما حفر ثمَّ ينصب قيمة ما حفر إلى قيمة الجميع، فيرجع الأجير إلى المستأجر بتلك النسبة من الأجرة المسمّاة في العقد. فلو فرضنا أنّ قيمة المجموع في المثال المذكور ثلاثون درهما و قيمة ما حفر درهم واحد، فتكون النسبة ثلاث عشر، فيستحق الأجير من المسمّى ثلاث عشر، و حيث أنّ المسمّى في المثل المفروض عشرة لمجموع عشرة قامات، فيستحقّ الأجير ثلاث دراهم.

ثمَّ ذكر المحقّق في الشرائع (1)قولا آخر مستنده رواية مهجورة غير معمول بها بين الأصحاب، و هي ما رواه أبو شعيب المحاملي عن الرفاعي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قبّل رجلا حفر بئر عشر قامات بعشرة دراهم، فحفر قامة ثمَّ عجز؟ فقال عليه السّلام: «له جزء من خمسة و خمسين جزء من العشرة دراهم» . رواها الصدوق (2)مرسلا، و رواها في الوسائل بطريق آخر مذيّلا بهذا الذيل: «تقسم عشرة على خمسة و خمسين جزء فم أصاب واحدا فهو للقامة الأولى، و الاثنان للثانية،

ص: 132


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 185.
2- «المقنع» ص 134.

و الثالثة للثالثة و على هذا الحساب إلى العشرة» (1).

و الصحيح هو القول الأوّل، لأنّه مقتضى القواعد، و الرواية مهجورة لم يعمل بها الأصحاب، فتسقط عن الحجّية على فرض سلامة سندها.

و قد قيل في توجيه الرواية: أنّها لعلّها وردت في مورد خاصّ، له خصوصيّة من حيث المكان أو الزمان يلائم مع ما ذكره عليه السّلام، لا أنّه حكم كلّي لجميع الموارد كي يكون خلاف مقتضى القواعد. و هو توجيه حسن.

فرع: يجوز استئجار المرأة للإرضاع مدّة معيّنة بعوض معلوم مع وجود سائر الشرائط التي اعتبروها في باب الإجارة.

و الغرض من ذكر هذا الفرع هنا دفع الإشكال المشهور الذي أوردوه على إجارة بعض الأعيان باعتبار تمليك منافعها التي هي أيضا أعيان، كإجارة البستان باعتبار تمليك منافعها من الفواكه الموجودة فيها أو التي ستوجد. و لا شكّ في أنّ تمليك المنافع التي هي من هذا القبيل و نقلها إلى الغير بإزاء عوض معيّن معلوم ينطبق عليه تعريف البيع، أي تمليك عين متموّل بإزاء عوض مالي. و هذا ينافي حقيقة الإجارة التي عرّفناها بأنّها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم.

و لكن يمكن أن يجاب عنه: أنّ أمثال هذه المنافع التي هي أيضا كذويها من الأعيان لها اعتباران و تلاحظ بلحاظين: تارة باعتبار وجوداتها في نفسها و أنّها مستقلاّت في الوجود و من مقولة الجواهر، فإذا وقع النقل و الانتقال عليها بهذا اللحاظ و الاعتبار فيكون نقلها بإزاء عوض مالي بيعا، و تارة تلاحظ باعتبار كونها من شؤون ذويها كما يقال: تمر هذه النخلة، أو حليب هذه البقرة، أو حليب هذه

ص: 133


1- «الكافي» ج 7، ص 433، كتاب القضاء و الأحكام، ح 22، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 284، أبواب أحكام الإجارة، باب 35، ح 2.

المرضعة، أو عنب هذه الشجرة، أو هذا البستان و أمثال ذلك، فبهذا الاعتبار يشبه عند العرف أن تكون من الأعراض القائمة بالغير، كركوب هذه الدابّة، أو سكنى هذه الدار، فإذا وقع النقل و الانتقال عليها بهذا الاعتبار يراها العرف نقل المنفعة لا العين، و لذلك يضيف الإجارة إلى نفس العين فيقول: آجرتك هذه الدار أو هذا البستان، أو غير ذلك ممّا هو من هذا القبيل، لا إلى منافع تلك العين، بل إذا قال: آجرتك سكنى هذه الدار أو حليب هذه البقرة، تكون الإجارة باطلة، لما تحقّق أنّ حقيقة الإجارة هي تمليك منفعة العين المستأجرة مع بقاء نفس العين و عدم إتلافها.

ففي جميع موارد إتلاف نفس العين-سواء كان لها وجود مستقلّ و ليست منفعة و تبعا للغير كالخبز بالنسبة إلى آكله، و الحطب لإشعاله و استعماله في الطبخ و غيره، أو كانت من منافع الغير كالأثمار على الأشجار، أو المياه في الآبار، أو الألبان في الحيوانات اللبونة، و المرضعات للأطفال، أو إجارة العيون و القنوات للانتفاع بمياها للزرع في الزرع، أو في جهات أخر-لا يصحّ أن يجعل نفس هذه الأعيان التي يكون المقصود الانتفاع بإتلافها متعلّقا للإجارة كي تكون هي الأعيان المستأجرة، و لو فعل ذلك تكون الإجارة باطلة.

و أمّا لو جعل متعلّق الإجارة الأعيان التي تكون هذه الأعيان عند العرف بل حقيقة تعدّ من منافعها، لأنّه لا يشترط في كون شيء منفعة لشيء أن يكون من أعراض ذلك الشيء، فالإجارة تكون صحيحة لتحقّق أركانها، و هي صدق تمليك منفعة معلومة بعوض.

و لا يرد عليه إشكال أصلا، و لا يحتاج إلى تكلّف القول بأنّ حقيقة الإجارة هي جعل العين المستأجرة في الكراء و أنّ ملك المنفعة لازم غالبي لها، مضافا إلى أنّ جعل الشيء في الكراء عبارة أخرى عن تمليك منفعة ذلك الشيء بعوض معلوم.

و الواقعيّات لا تختلف باختلاف التعابير الغير المختلفة بحسب المعنى المراد منها.

ص: 134

ثمَّ إنّ هاهنا أمورا ينبغي أن تذكر و ينبّه عليها

منها: أنّه هل يجوز للمرضعة التي لها زوج أن توجر نفسها للإرضاع أو الرضاع بدون إذن زوجها، أم لا؟ فيها أقوال، ثالثها عدم الجواز فيما إذا كان مزاحما لحقّ زوجها.

و الحقّ هو هذا التفصيل، لأنّه ليس لمن عليه الحقّ إنشاء معاملة و ارتكاب أمر يوجب تضييع حقّ الغير، لأنّ الشارع سلب مثل تلك السلطنة له على أمواله و على أفعاله، كما هو كذلك في موارد سائر الحقوق.

و أمّا القول بعدم الجواز مطلقا و إن لم يكن مزاحما لحقّه، لكون الزوج مالك اللبن، أو لكونه مالكا لجميع منافعها كالجارية التي يملكها.

فكلام عجيب، لوضوح أنّ الزوجة ليست مملوكة لزوجها كي يكون جميع منافعها أو خصوص لبنها له، فليس لمنعه تأثيرا، فضلا عن احتياجه إلى الإذن فيما إذا لم يكن مزاحما لحقّ استمتاعه منها متى شاء.

و ظهر ممّا ذكرنا عدم بطلان الإجارة لو طرأ النكاح على الإجارة، بمعنى أنّها حينما كانت خلية آجرت نفسها للإرضاع أو للرضاع ثمَّ تزوّجت، فليس للزوج منعها عن ذلك بطريق أولى، إلاّ أن يكون مانعا عن استمتاعاته التي جعلها اللّه تعالى له.

نعم لو كان الزوج من أهل الشرف بحيث كان مثل هذا العمل إهانة له عند العرف لا يبعد أن يكون له منعها، كما أنّ له ذلك بالنسبة إلى سائر المكاسب المباحة لها إذا كان كذلك، كالخياطة و النساجة، و الدلالة و غير ذلك من الأعمال التي لا يرتكبها أهل العزّة و الشرف.

ص: 135

هذا، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال في هذا الأخير-أي فيما إذا كان النكاح بعد الإجارة-بتقديم حقّ المستأجر على حقّ الزوج، لتقدّمه عليه، فليس له حقّ الاستمتاع في الزمان الذي يجب عليها الإرضاع بواسطة الإجارة المتقدّمة على النكاح الطارئ، خصوصا مع علم الزوج بذلك.

و قد أفاد أستادنا المحقّق العراقي قدّس سرّه في هذا المقام: أنّ صحّة هذه الإجارة بدون إذن الزوج مبنيّة على أنّ سلطنة الزوج على الاستمتاع ليست مطلقة بحيث تكون مستتبعة للسلطنة على حفظ مقدّمات استمتاعه، بل تكون مقيّدة بقابليّة المحلّ و عدم وجود ما يمنع عن الاستمتاع، فحينئذ في ظرف صدور الإجارة و تحقّقها لا تبقى السلطنة على الاستمتاع، لوجود المانع و هو حقّ المستأجر، فلا يبقى شيء يمنع عن صحّة الإجارة بدون إذن الزوج (1).

و فيه: أنّه لا شكّ في سلطنة الزوج على الاستمتاع متى شاء، فله حقّ المنع عن إيجاد ما يضيّق دائرة سلطنته و يفوت حقّه، و هي الإجارة. فالسلطنة إذا كانت في العقود اللازمة كالسلطنة على الاستمتاع في النكاح، فلا محالة يكون لذيها حقّ المنع عن تفويت متعلّقها و تضييق دائرتها.

نعم لو كان في العقود الجائزة-مثل سلطنة المستعير على العين المعارة- فللمالك تضييق دائرتها أو تفويت متعلّقها بإتلاف أو نقل غير ذلك، فلا بدّ من القول بصحة الإجارة بدون إذن الزوج بشرط عدم المزاحمة مع حقّ الزوج، كما إذا كان الزوج في سفر طويل يعلم بعدم رجوعه قبل انقضاء مدّة الإجارة، أو كان مريضا لا يقدر معه على الاستمتاع يعلم بعدم برئه قبل انقضاء مدّة الإجارة، و أمثال ذلك ممّا لا تكون الإجارة منافية لحقّ استمتاع الزوج.

و أمّا القول بأنّ حقّ المستأجر مع حقّ الزوج كلاهما من قبيل الكلّي في

ص: 136


1- المحقق العراقي في «شرح تبصرة المتعلمين» ج 5، ص 455، أحكام الإجارة.

المعيّن، كبيع صاع من هذه الصبرة لزيد و صاع آخر لعمرو مثلا، و لا تنافي بينهما فيكون لكلّ واحد من الزوج و المستأجر حقّه و لا تمانع بينهما.

ففيه: أنّه لا شكّ في أنّ الزوج و إن لم يكن حقّه بنحو الاستغراق لجميع الأزمنة، لكن له حقّ التطبيق على أيّ واحد من الأزمنة التي يمكن الاستمتاع فيه، و ليس مانع عقلي أو شرعي في البين. و بعبارة أخرى: هو مخيّر بين تلك الأزمنة التي من جملتها زمان الإرضاع الذي هو حقّ المستأجر، فيقع التزاحم بين الحقّين، و لا يرتفع إلاّ بتقييد كلا الحقين بزمان، و إلاّ لا يرفع بتقييد أحدهما مع إطلاق الآخر كما هو واضح.

و قياس المقام بباب بيع صاع من الصبرة لشخص و صاع آخر منها لشخص آخر، في غير محلّه، لأنّ حقّ التعيين هناك و تطبيق الكلّي على المصاديق بيد المالك البائع، لأنّ الخصوصيّات باقية على ملكه، و إنّما الخارج عن ملكه ببيعه هو كلّي الصاع.

و في المقام حقّ التطبيق للزوج و مطلق بالنسبة إلى خصوصيّات الأزمنة، فيقع التزاحم بين الحقّين و إن قلنا بعدم إطلاق حقّ المستأجر و أنّ تعيينه مقيّد بمشيّة الزوجة أو تعيّن الوقت في عقد الإجارة، لما تقدّم أنّ التزاحم لا يرتفع إلاّ بتقييد كلا الحقّين، فلا بدّ من تقييد الصحّة بعدم مزاحمتها لحقّ الزوج أو بإذنه.

و منها: أنّه لو ماتت المرضعة أو الطفل فهل تنفسخ الإجارة، أم لا؟ و خلاصة الكلام في المقام هو: أنّه لو كان الميّت هي المرضعة، و كان موتها قبل ارتضاع الطفل و لو بشيء يسير، فهذا من التلف قبل القبض، و قد تقدّم الكلام فيه و أنّ الإجارة تنفسخ من أوّل الأمر و يكون كتلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري، و أمّا لو ماتت بعد أن استوفى الطفل شيئا من المنفعة-أي ارتضع مقدارا ما-فتستحقّ الأجرة بالنسبة إلى ما مضى، و تنفسخ بالنسبة إلى ما بقي من المدّة. و قد تقدّم الكلام

ص: 137

في ذلك و إن الإجارة تقسط.

و أمّا لو مات الطفل، فإن كان مفاد عقد الإجارة و المنشأ به إرضاع خصوص هذا الطفل أو ارتضاعه بلبنها، فبعد موت الطفل يتعذّر استيفاء تلك المنفعة، و لا فرق في تعذّر استيفاء المنفعة المملوكة بعقد الإجارة بين أن يكون من جهة موت المرضعة، أو يكون من جهة موت المرتضع، لأنّ الرضاع قائم بالطرفين: المرضعة و المرتضع، و بانعدام كلّ واحد منهما ينعدم الرضاع و لا يمكن تحقّقه، فيكون من قبيل إجارة دابّة خاصّة لركوب شخص خاصّ، و لا شكّ في أنّه بهلاك كلّ واحد من الدابّة و ذلك الشخص يمتنع استيفاء تلك المنفعة الخاصّة، فقهرا تنفسخ الإجارة من رأس إذا كان موت الطفل قبل استيفاء شيء من المنفعة، و يقسط العوض على ما مضى من المدّة و ما بقي على تقدير الاستيفاء المدّة التي مضت. و قد تقدّم وجه ذلك في بعض الفروع السابقة.

و أمّا لو لم يكن مفاد عقد الإجارة إرضاع خصوص هذا الطفل الذي مات، بل استأجرها لإرضاع طفل كلّي مقيّدا بقيد الوحدة، و إن كان نظره إلى أن يكون المستوفى خصوص هذا الطفل، فلا يكون موته سببا لبطلان الإجارة، بل يستحقّ المستأجر عليها إرضاع طفل، فيأتي بطفل آخر لكي يرتضع من لبنها، و ليس لها أن لا تقبل، لأنّه حقّ لازم عليها أن توفي بها بمقتضى عقد الإجارة.

و منها: أنّه لو آجرت نفسها بزعم عدم المزاحمة لحقّ الزوج-كما أنّه لو كان الزوج غائبا فحضر، أو كان مريضا و كانت الزوجة قاطعة بعدم برئه مدّة الإجارة فمن باب الاتّفاق برئ-فهل للزوج فسخ الإجارة بطلب حقّه الاستمتاع، أم لا بل بعد ما وقعت الإجارة صحيحة و صار المستأجر ذا حقّ على هذه المرأة، فيكون حقّه مانعا عن جواز تطبيق الزوج حقّ استمتاعه منها على ذلك الوقت الذي ترضع الولد، لأنّ الإجارة أخرجت ذلك الوقت عن تحت قدرة الزوجة بأن تمكّن زوجها من الاستمتاع بها، لأنّها ملزمة بالوفاء بالإجارة و الإرضاع في ذلك الوقت، فليس

ص: 138

لها صرف الوقت في أمر آخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال ببطلان الإجارة و انفساخها من جهة أنّه بعد ما كان التمكين للزوج فيما إذا أراد الاستمتاع بها واجبا عليها، فهذا ينفي قدرتها على تسليم العمل، أي الإرضاع في المفروض للمستأجر، فتبطل الإجارة، لأنّ من شرائط صحّة الإجارة في باب الأعمال قدرة الأجير على تسليم العمل في وقته إلى المستأجر، فإذا لم يقدر-كما هو المفروض في المقام-فتكون الإجارة باطلة.

و لا يقال: هذا من باب تزاحم الحقين، فمن الممكن أن يكون حقّ المستأجر مقدّما على حقّ الزوج، فيكون الزوج ممنوعا عن الاستمتاع في وقت الوفاء بالإجارة إلى وقت الإرضاع، لأنّ تقديم حقّ الزوج اتّفاقي.

و ذلك أن الإجارة في المفروض طارئة و متأخّرة عن الزوجيّة، فحين وقوع الإجارة كان وقت الاستمتاع خارجا عن تحت قدرة المرأة، و لم يكن لها صرف ذلك الوقت في أمر آخر غير الاستمتاع، فمتعلّق الإجارة يقيّد قهرا بغير ذلك الوقت، فيخرجان في ذلك الوقت عن كونهما متزاحمين، و يتعيّن ذلك الوقت للاستمتاع، و لو كانت الإجارة مطلقة بحيث تشمل ذلك الوقت تكون باطلة، لعدم قدرتها على الوفاء بها شرعا، فيرتفع التزاحم من البين.

و بعبارة أخرى: ليس من باب تزاحم الحقّين، نعم لو كانت الزوجيّة طارئة على الإجارة يمكن أن يقال إن حقّ المستأجر ثبت حين ما لم يكن مانع في البين، فلا يكون لحقّ استمتاع الزوج إطلاق يشمل صورة وجوب الوفاء بالإجارة على الزوجة، بل هي خارجة عن تحت أدلّة وجوب التمكين، كما أن الحكم كذلك في موارد سائر الواجبات، كما في موارد الصلاة و الصيام و أمثالهما.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: أنّه ليس للمرأة المزوّجة أن توجر نفسها بالإجارة المطلقة على تقدير طلب الزوج منها الاستمتاع، بل لا بدّ و أن يقيّد بغير هذه الصورة و إن لم

ص: 139

يكن فعلا طلب في البين، بل لا يمكن أن يكون لأحد الموانع التي ذكرناها أو لغيرها من الموانع الأخر.

فرع: قال في الشرائع: و يجوز استيجار الأرض لتعمل مسجدا(1) . و قال في الجواهر: بالخلاف أجده (2). و حكي عن كشف الحقّ نسبته إلى الإماميّة (3).

و على كلّ حال الظاهر أن المراد من قولهم «إنّه يجوز استيجار الأرض لتعمل مسجدا» ليس المسجد بالمعنى الخاصّ الذي له أحكام خاصّة، من عدم جواز تنجيسه، و وجوب إزالة النجاسة عنه، و عدم جواز مكث الجنب فيه و غير ذلك من أحكامه، لأنّ المسجد بذلك المعنى لا بدّ و أن يكون وقفا مؤبّدا و لا يكون ملكا لأحد، و فيما نحن فيه للأرض مالك غاية الأمر ملك منفعتها للمستأجر لمدّة معيّنة، بل المراد أن الإجارة لغرض أن يجعلها محلاّ لصلاة الناس جميعا، أو لطائفة خاصّة مدّة الإجارة، كما أنّه إذا كان عنده عمّال يشتغلون لمدّة سنة مثلا، فيستأجر أرضا لصلاتهم في تلك السنة، كما أنّه يجوز له أن يستأجر أرضا لسائر حوائجهم بلا إشكال، خصوصا إذا كان من الأعمال الراجحة، مثل أن يكون محلاّ في تلك المدّة لاجتماعهم و تعلّمهم الأحكام الشرعيّة مثلا، أو غير ذلك من العبادات.

و ذكر هذا الفرع لأجل ما قيل وجها لعدم الجواز، بأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد الإجارة بحال، فلا تجوز الإجارة لذلك. و بطلان هذا الكلام و فساده غنيّ عن البيان.

ص: 140


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 185.
2- «جواهر الكلام» ج 27، ص 301.
3- «كشف الحق و نهج الصدق» ص 507، في الإجارات و توابعها، مسألة:4.

فرع: قال في الشرائع: يجوز استيجار الدراهم و الدنانير إن تحقّقت لهما منفعة حكميّة مع بقاء عينهما (1).

أقول: هذا الشرط لتحقّق حقيقة الإجارة، لأنّ حقيقة الإجارة عبارة عن تمليك منفعة عين مع بقاء نفس تلك العين، و لا بدّ أن تكون تلك المنفعة محلّلة و مقصودة للعقلاء كي لا تكون المعاملة سفهيّة، فإذا اجتمعت هذه الأمور في أيّ شيء من الأشياء يجوز إجارته، كما أنّه يجوز إعارته.

و إنكار كون الدراهم و الدنانير ذات منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء مكابرة.

و أمّا الإشكال بأنّه لو كان لهما منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء لكان يضمنها الغاصب بقاعدة «و على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» بناء على جريانها في المنافع الغير المستوفاة، و لا يقول أحد من الفقهاء في غصب الدراهم و الدنانير بضمان منافعهما الغير المستوفاة.

و أيضا لو جاز إجارتهما لجاز وقفهما لوحدة المناط فيهما، لكن وقفهما لا يجوز فلا يجوز إجارتهما، و إلاّ يلزم التفكيك بين المتلازمين.

و فيهما: أمّا الأوّل: فلصحّة القول بالضمان على تقدير القول بضمان المنافع الغير المستوفاة، من باب شمول قاعدة «و على اليد ما أخذت» .

و أمّا الثاني: فلعدم الملازمة بين جواز الإجارة و جواز الوقف، لإمكان أن يأتي دليل من إجماع أو غيره على عدم جواز الوقف في مورد مع جواز إجارته، مضافا إلى المنع عن عدم جواز وقفهما للمنافع المحلّلة المقصودة للعقلاء.

فرع: يجوز الاستيجار لحيازة المباحات كالاحتطاب و الاحتشاش

ص: 141


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 185.

و الاستقاء من الماء المباح كالشطّ مثلا، فلو جمع الحطب أو الحشيش أو أخذ الماء بقصد أن تكون هذه المذكورات للمستأجر فيصير ملكا له، فلو أتلفه متلف قبل أن يقبضه المستأجر يكون ضامنا للمستأجر لا الأجير، لأنّها بحيازة الأجير بذلك القصد يصير ملكا له. فالإتلاف يقع على مال المستأجر لا الأجير، و من أتلف مال الغير فهو له ضامن.

نعم لو كان حيازته لهذه الأشياء المذكورة أو لغيرها بقصد أن يكون ملكا لنفسه لا للمستأجر، فالظاهر عدم صيرورته ملكا للمستأجر، فلو أتلفها متلف لا يكون ضامنا للمستأجر. بل إن قلنا بأنّها تصير ملكا لنفس الأجير فيكون ضامنا له، و إن قلنا بأنّها لا تصير ملكا لأحد لعدم قصد ملكيّة في البين، فلا ضمان في البين.

لكن القول بأنّها لا تصير ملكا لأحد لا أساس له، بل الظاهر أنّها تصير ملكا لنفس الأجير فيما إذا لم يقصد ملكيّة المستأجر و يكون لنفسه و لو لم يقصد ملكيّة نفسه، لأنّ كونه له قهريّ، لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «من حاز ملك» (1). و هذا الكلام عامّ يشمل كلتا صورتي قصده لتملّكه و عدم قصده للتملّك أصلا، لا لنفسه و لا لغيره. فتأمّل.

فالمتلف يكون ضامنا لنفس الأجير و الأجير ضامن للمنفعة التي فوّتها على المستأجر للمستأجر.

و ربما يقال: يكفي في كونها للمستأجر قصد نفس المستأجر أن يكون ما حازه الأجير له، سواء قصد الأجير أم لا يقصد، و ذلك لأنّ فعل الأجير بعد وقوع الإجارة صحيحة بمنزلة فعل نفس المستأجر، لأنّ الإجارة في مثل هذه المقامات استنابة، فعلى تقدير احتياج تملّكه إلى القصد يكفي قصد نفسه، و لا يحتاج إلى قصد الأجير.

نعم لو لم يقصد المستأجر و لا الأجير كلاهما التملّك بتلك الحيازة، فكونه للمستأجر لا يخلو من تأمّل، بل عن إشكال.

ص: 142


1- «جواهر الكلام» ج 26، ص 291، و لم نعثر على الحديث بهذا اللفظ لا من طريق الخاصة و لا العامة.

فرع: لا يجوز إجارة نفسه لإتيان ما وجب عليه، سواء كان الواجب تعبّديا أو توصّليا، عينيّا أو كفائيّا إذا كان وجوبه بعنوانه الخاصّ كتغسيل الأموات و تكفينهم و دفنهم.

و أمّا الواجبات النظاميّة التي وجبت لحفظ النظام و حاجة الأنام، كالصناعات التي لا تقوم أسواق المسلمين إلاّ بها، و كذلك الحرف و المكاسب التي يحتاجون إليها، فلا مانع من أخذ العوض عليها، بل وجوبها من أوّل الأمر ليس مطلقا، بل يكون مع أخذ العوض.

و لقد ذكرنا هذه القاعدة أي قاعدة «عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات عدا الواجبات النظاميّة» مفصّلا و مشروحا في بعض الأجراء المتقدّمة، و هو الجزء الثاني من هذا الكتاب فلا يحتاج إلى ذكرها هاهنا ثانيا.

فرع: لو استأجر دابّة لحمل مقدار معيّن من صبرة، فحملها أزيد من ذلك المقدار زيادة لا يتسامح فيها، فتارة يكون المستأجر هو الذي اعتبر ذلك المقدار بكيل أو وزن، و أخرى يكون المعتبر و المحمل هو الموجر، و ثالثة يكون غيرهما، و لا يكون المعتبر و المحمل لا الموجر و لا المستأجر، بل يكون أجنبيّا فعل ذلك.

فإن كان المعتبر و المحمل كلاهما هو المستأجر، لزمه أجرة المثل عن الزيادة، لأنّه في حكم الغاصب و تصرّف في مال الغير بدون إذن صاحبه، فيكون ضامنا لما انتفع به، بل يضمن نفس الدابّة، لأنّه غاصب أو في حكمه، لتصرفه عدوانا في دابّة الغير بدون إذن صاحبه في تلك الزيادة، فتكون يده يد ضمان.

نعم هاهنا كلام آخر، و هو أنّه ربما يقال بأن تلف الدابّة لو كان مستندا إلى مجموع الحمل-و هو في بعضه مأذون-فهل يقسط و يكون ضامنا بالنسبة إلى

ص: 143

المقدار الغير المأذون، أو يكون ضامنا للجميع؟ قد حكى في الجواهر عن العلاّمة في إرشاده القول بتنصيف الضمان، و أن نصفه على المستأجر، و أنّه يضمن نصف الدابّة، لاستناد التلف إلى فعلين: أحدهما مأذون فيه و هو غير مضمون، و الآخر المضمون ليس تمام التلف مستندا إليه بحيث يكون هو السبب وحده (1).

و فيه: أن هذا الكلام على تقدير صحّته و قطع النظر عن بعض الإشكالات الواردة عليه، يكون فيما إذا كان سبب الضمان هو الإتلاف. و ليس الأمر هاهنا كذلك، لما ذكرنا أن هاهنا سبب الضمان هو اليد و صيرورتها بالتعدّي يد ضمان، فلو تلف من دون مدخليّة تلك الزيادة في تلفها يكون ضامنا لجميع الدابّة من باب «و على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» .

و قد ورد في ذلك روايات مضافا إلى قاعدة «و على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» :

منها: صحيحة أبي ولاّد الحنّاط المشهورة الواردة في اكتراء بغل إلى قصر ابن هبير ثمَّ تجاوزه عن ذلك المكان فضمنه عليه السّلام قيمة البغل لو عطب، لتعدّيه عمّا استأجر (2).

و الاستدلال بهذه الرواية و أمثالها في المقام مبنيّ على عدم الفرق بين أسباب التعدّي.

و منها: رواية الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما تقول في رجل اكترى دابّة إلى مكان معلوم فجاوزه؟ قال: «يحسب له الأجر بقدر ما جاوزه، و إن عطب الحمار فهو ضامن» (3).

ص: 144


1- «جواهر الكلام» ج 27، ص 303، «إرشاد الأذهان» ج 1، ص 423.
2- «الكافي» ج 5، ص 290، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز بها الحد. ، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 255، أبواب أحكام الإجارة، باب 17، ح 1.
3- «الكافي» ج 5، ص 289، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز بها الحد. ، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 257، أبواب أحكام الإجارة، باب 17، ح 2.

و منها: رواية عمرو بن خالد، عن زيد بن عليّ، عن آبائه عليهم السّلام قال: أتاه رجل تكارى دابّة فهلكت و أقرّ أنّه جاز بها الوقت فضمنه الثمن و لم يجعل عليه كراء (1).

و غير هذه ممّا ذكرها في الوسائل و غيره من كتب الأخبار و الأحاديث (2).

و خلاصة الكلام: أن المفروض ليس الضمان من باب قاعدة الإتلاف كي يأتي فيه ما ذكروه من التقسيط على مجموع الحمل و يغرم المستأجر بمقدار الزيادة.

هذا كلّه لو كان المستأجر هو المعتبر و المحمل، و أمّا لو كان كلاهما هو نفس الموجر، فلا ضمان لا بالنسبة إلى تلك الزيادة، و لا بالنسبة إلى تلف الدابّة. أمّا المستأجر فلأنّه لم يصدر منه شيء يكون موجبا للضمان. و أمّا الموجر فلأنّ الإنسان لا يضمن لتلف ماله لنفسه، لأنّ الضمان عبارة عن اشتغال ذمّته للمضمون له، فلا يتصوّر أن تكون مشغولة لنفسه.

و أمّا لو كانا أجنبيّين و لم يكونا مأذونين و حملا و اعتبرا من دون علم المستأجر و لا الموجر فتلف المتاع و الدابّة أيضا، فيكونان ضامنين المتاع للمستأجر و الدابّة و الزيادة للموجر، لعدوانهما عليهما-أي المؤجر و المستأجر-من جهة تصرّفهما في مال الاثنين بدون إذنهما و اطّلاعهما. و ما ذكرناه كلّه على قواعد باب الضمان.

فرع: في الشرائع: و من شرائط صحّة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة ، فلو آجره مسكنا ليحرز فيه خمرا، أو دكّانا ليبيع آلة محرّمة، أو أجيرا ليحمل إليه

ص: 145


1- . «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 223، ح 977، في الإجارات، ح 59، «الاستبصار» ج 3، ص 135، ح 484، باب من اكترى دابة إلى موضع فجاز ذلك. ، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 257، أبواب أحكام الإجارة، باب 17، ح 5.
2- «الكافي» ج 5، ص 289-291، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز بها الحد. ، ح 2 و 3 و 4 و 5 و 7، «وسائل الشيعة» ج 3، ص 257 و 258، أبواب أحكام الإجارة، باب 17، ح 3 و 4 و 6.

مسكرا، أو جارية للغناء، أو كاتبا ليكتب له كفرا لم تنعقد الإجارة، و ربما قيل بالتحريم و انعقاد الإجارة لإمكان الانتفاع في غير المحرّم، و الأوّل أشبه (1).

لما ذكرنا مكرّرا أن حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، فإذا كانت المنفعة محرّمة فليس قابلا للتمليك، لأنّه لا يملكها فكيف يملكها، و لا يمكن يكون فاقد الشيء معطيا له.

فالتعليل لصحّة الإجارة و وقوعها بإمكان الانتفاع في غير المحرّم لا وجه له بعد عدم تماميّة أركان الإجارة، و ذلك لما ذكرنا أن الموجر فعله عبارة عن تمليك المنفعة للمستأجر، فلا بدّ و أن يكون إمّا مالكا لتلك المنفعة، أو يكون مالكا للتمليك من طرف المالك بنيابة، أو ولاية، أو غير ذلك، ففي إجارة الأعيان لا بدّ و أن يكون مالكا لتمليك منفعة تلك العين، و في إجارة الأفعال لا بدّ و أن يكون الموجر مالكا لذلك الفعل، أو كان مالكا لتمليكه نيابة، أو ولاية، أو غير ذلك.

فإذا سلب الشارع سلطنته في كلا المقامين، فيكون الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، فليس تمليك تلك المنفعة المحرّمة أو ذلك الفعل المحرّم اللذان وقعت الإجارة عليهما، فالانتفاع في غير المحرّم لا يملكه، فكيف يكون له ذلك. و لذلك قلنا لا يصح أخذ الأجرة على الواجبات على الأجير و كذلك على أفعاله المحرّمة.

فرع: و من شرائط صحّة الإجارة أن تكون المنفعة مقدورا على تسليمها، فلو آجر عبدا آبقا أو دابّة شاردة بحيث لا يقدر الموجر على تسليمها، و لا المستأجر على أخذها و قبضها، تكون الإجارة باطلة، لكونها معاملة غرريّة بل سفهيّة، و يكون أخذ العوض على تمليك مثل هذه المنفعة التي لا طريق للمستأجر إلى استيفائها أكل المال بالباطل، و لا يصدق عليه أنّه تجارة عن تراض. و هذا لا

ص: 146


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 186.

كلام فيه.

و إنّما الكلام في أنّه لو ضمّ الموجر العين المستأجرة التي لا يقدر على تسليمها عينا أخرى ذات منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء التي قادر على تسليمها، فهل تصحّ الإجارة حينئذ كالبيع مع الضميمة أم لا؟ قال في الشرائع: و فيه تردّد (1).

و قيل في وجه تردّد المحقّق أن الضميمة في بيع العبد الآبق توجب صحّته و خروجه عن كونه غرريّا، ففي الإجارة أولى بذلك، لأنّ الإجارة تتحمّل الغرر أزيد من البيع، فإذا كانت الضميمة موجبة لرفع الغرر هناك و المقدار الباقي من الغرر في الجزء الآخر من البيع معفو، ففي الإجارة يكون معفوّا بطريق أولى.

هذا أحد الوجهين من وجهي الترديد، و الوجه الآخر هو أن دليل نفي الغرر و عدم صحّة المعاملة الغرريّة المتّفق عليه بين الفقهاء يشمل المقام، و صحّة البيع هناك بدليل تعبّدي، و ليس هاهنا دليل على الصحّة و القياس باطل و إن كان وجود ما يتخيّل أنّه الملاك في المقيس أولى من المقيس عليه لعدم خروجه بذلك عن كونه ظنّا غير معتبر. مضافا إلى منع الصغرى و عدم كونه أولى، لاشتراط معلوميّة المبيع في البيع و المنفعة في الإجارة على نسق واحد.

و التحقيق في هذا المقام أن يقال: إنّ المستأجر إمّا يحتمل حصول القدرة له أو للموجر فيما بعد قبل فوت زمان استيفاء المنافع من العين المستأجرة، أو مأيوس و لا يحتمل. ففي الصورة الثانية تكون المعاملة باطلة قطعا حتّى مع الضميمة، للغرر، بل تكون سفهيّة إن لم تكن منافع الضميمة كثيرة بحيث يتدارك بها ما يفوت من منافع العين المستأجرة التي لا يقدر الموجر على تسليمها.

و تارة يحتمل احتمالا عقلائيّا، حصول القدرة له أو للموجر بعود العبد من قبل

ص: 147


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 186.

نفسه، أو بإرجاعه من قبل أحدهما، ففي مثل هذه الصورة لا تكون سفهيّة، و لا أكل للمال الباطل، لإقدام العقلاء على أمثال هذه الخسارات لأجل احتمال تحصيل ما هو أنفع، فالزارع يصرف مصارف كثيرة لأجل احتمال تحصيل ما هو أزيد نفعا في نظره، و ليس قاطعا بحصول مثل هذا النفع، و كذلك التاجر في تجارته و سائر أرباب الحرف و الصناعات في أشغالهم يبذلون الأموال باحتمال تحصيل ما هو أهمّ بنظرهم.

نعم يبقى مسألة الغرر و أن عدمه من القيود الشرعيّة المعتبرة في صحّة المعاملة، لما هو المنقول في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام؟ فقال: «لا يجوز لأنّه مجهول يقلّ و يكثر و هو غرر» (1). فالتعليل عام يشمل الإجارة و البيع و غيرهما.

أو من جهة شمول قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «نهى النبيّ عن بيع الغرر» (2)للإجارة أيضا من باب وحدة المناط، بعد الفراغ عن أن معنى الغرر هو الجهل بالعوضين أو أحدهما، و المفروض هاهنا أن أحد العوضين-الذي هو المنفعة-حصوله غير معلوم، فيكون مثل هذه المعاملة غرريّا بغير شكّ فيكون منهيّا، فيكون باطلا.

و لا شكّ في أنّ إجارة العبد الآبق أو الدابّة الشاردة التي غير معلوم مكانها من هذا القبيل، إذ لا يعلم المستأجر بإمكان حصول الانتفاع بهما و استيفاء ما يملكه بالإجارة منهما أم لا؟ ، فتكون الإجارة و نفس هذه المبادلة غرريّا فلا تصحّ.

نعم لو كان له طريق إلى تمكّنه من ذلك و مطمئن بأن العبد يرجع إلى مولاه و الدابّة توجد بحيث لا يعدّ غررا في العرف، فلا مانع و يجوز إجارتهما.

ص: 148


1- «دعائم الإسلام» ج 2، ص 23، ح 42، ذكر ما نهي عنه من بيع الغرر، «مستدرك الوسائل» ج 13، ص 237، أبواب عقد البيع و شروطه، باب 10، ح 1.
2- تقدم ص 125، هامش (1) .

و أمّا صرف الضميمة فلا تصلح الجهالة التي هي حاصلة في نفس العين المستأجرة و لا ترفعها. نعم الضميمة ترفع السفاهة عن مثل هذه المعاملة في بعض الصور، لا الجهالة. و هذا واضح.

فرع: لو منع الموجر من تسلم المستأجر العين المستأجرة بحيث لا يقدر على تحصيل المنفعة التي ملكها بالإجارة و تفوت عنه، فهل تنفسخ الإجارة و يرجع المستأجر إلى المسمّى-كما في باب تلف العين المستأجرة لوحدة الملاك، و هو عدم إمكان تحصيل المنفعة التي ملكها بالإجارة-أو يغرمه المستأجر ببدل المنفعة التالفة، لأنّه أتلفها عليه كما هو الحكم في باب إتلاف مال الغير، أو يكون مخيّرا بين التغريم و الرجوع إلى المسمّى؟ وجوه.

و الظاهر من هذه الوجوه هو أن للمستأجر التغريم، لأنّ حال المؤجر في المفروض حال الغاصب الأجنبي. اللّهمّ إلاّ أن يقال: بأن قاعدة «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه» بناء على جريانها في الإجارة تقتضي انفساخ الإجارة و رجوع المسمّى إلى المستأجر، و لا تصل النوبة إلى الإتلاف و التغريم، لأنّهما موقوفان على بقاء العقد.

و فيه: أن ظاهر قاعدة التلف قبل القبض و أنّه من مال بايعه، هو أن يكون التلف من دون استناده إلى فعل متلف أتلفه اختيارا، بل و إن كان بغير تعمّد و اختيار.

و بعبارة أخرى: قاعدة تلف قبل القبض لا تشمل موارد الإتلاف، و المفروض من قبيل الإتلاف لا التلف. هذا أوّلا.

و ثانيا: ما نحن فيه ليس من قبيل التلف، لأنّ التلف عبارة عن انعدام الشيء إمّا حقيقة أو حكما، بمعنى عدم صلاحيّته للاستفادة عنه و عدم ترتّب فائدة عليه بالمرّة. و منع المالك عن تسلم الموجر لا ينطبق على كلّ واحد منهما، لعدم انعدامه

ص: 149

فرضا و صلاحيّته للاستفادة يقينا، غاية الأمر المالك الموجر منع عن الاستفادة عنها.

فالحقّ أن المالك الموجر كالغاصب الأجنبي يكون ضامنا لما فوّته على المستأجر.

و أمّا القول بالتخيير فلا وجه له، لأنّه مع جريان قاعدة التلف قبل القبض لا يبقى مجال لبقاء العقد و ينفسخ و يرجع المسمّى إلى المستأجر، و لا يبقى وجه لطلب أجرة المثل.

و مع عدم جريانها و بقاء العقد تكون المعاملة موردا لقاعدة الإتلاف، و حيث أن المتلف هو الموجر فيغرم، و لا مجال للرجوع إلى المسمّى، فالتخيير بين الأمرين لا وجه له.

فرع: لو منع المستأجر عن الانتفاع بالعين المستأجرة ظالم قبل أن يقبضها، فإن كان المنع بغصب العين المستأجرة و وضع اليد عليها، فيكون الحال كما قلنا في المسألة السابقة، و يكون الغاصب ضامنا لما فوّته على المستأجر، فله الرجوع إلى الظالم بأجرة المثل.

و لا تجري في المفروض قاعدة التلف قبل القبض كي يرجع إلى المؤجر بالمسمّى، لما ذكرنا في الفرع السابق الذي كان نظير المقام و قلنا: إنّ التلف لا يشمل مورد غصب الغاصب و منعه المستأجر عن استيفاء المنفعة، و كذلك لا يشمل مورد استيفاء الغاصب للمنفعة و عدم إبقاء مجال للمستأجر.

هذا إذا كان منع الظالم قبل أن يقبض المستأجر العين المستأجرة، و أمّا لو كان بعد القبض-سواء كان في ابتداء مدّة الإجارة أو في أثنائها-فعدم جريان قاعدة التلف قبل القبض أوضح، و حكم تغريم الظالم و الرجوع إليه بأجرة المثل أجلى.

و أمّا لو كان بحبسه و سدّه عن الانتفاع به من دون وضع يد على العين المستأجرة و عدم تصرّف فيها-كما أنّه لو استأجر دارا لسكناه فمنعه الظالم عن

ص: 150

الدخول أو السكنى فيها، أو استأجر سيّارة للسفر إلى مكان كذا فمنعه الظالم من المسافرة مطلقا، أو إلى ذلك المكان-فضمان اليد ليس هاهنا قطعا، لعدم يد على العين المستأجرة من طرف الظالم.

نعم لو صدق إتلاف المنفعة على منع الظالم لأنّه صار سببا لفوته، فيكون ضامنا بقاعدة الإتلاف و إلاّ فلا موجب لضمانه، و صدق الإتلاف عليه مشكل. اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّه و إن لم يصدق عليه الإتلاف لكن يصدق عليه التفويت على المستأجر، و هذا كاف في الضمان.

فرع: لو حدث بعد وقوع الإجارة تامّ الأجزاء و الشرائط ما يمنع عن استيفاء المنفعة شرعا أو عقلا، فهل تنفسخ الإجارة، أو يكون للمستأجر الخيار، أو ليس شيء منهما في البين؟

و قد ذكروا هاهنا أمورا تمنع الاستيفاء

منها: ما لو استأجر شخصا لقلع ضرسه فزال الألم قبل أن يقلع، و لم يكن به عيب يحتاج إلى القلع بناء على عدم جواز قلع الضرس السالم، فهذا مانع عن الاستيفاء بالقلع، فهل هذا يوجب انفساخ الإجارة، أو الخيار، أم لا؟ الظاهر أنّه يوجب الانفساخ، بل عدم صحّة هذه الإجارة من أوّل الأمر، لأنّ من شرائط صحّة الإجارة أن يكون الأجير قادرا على إنجاز العمل الذي استؤجر عليه في ظرف العمل، و كون العمل مقدورا في ظرف وقوع العقد لا أثر له، و الممتنع شرعا كالممتنع عقلا. و حيث أن العمل-أي القلع في ظرف العمل-حرام فليس مقدورا للأجير شرعا، فيكشف هذا عن بطلان الإجارة من أوّل الأمر، فلا تصل النوبة إلى الفسخ أو الانفساخ.

ص: 151

و منها: أنّه لو استأجر امرأة لكنس المسجد أيّاما معيّنة، أو يوما معيّنا فحاضت، و معلوم أن الحائض ممنوعة عن المكث و اللبث في المساجد، و الكنس بدون المكث و اللبث لا يمكن، فهذا المورد أيضا لا يقدر المستأجر شرعا على إيجاد العمل مباشرة في الظرف الذي عيّن للعمل، فيكشف حدوث حيضها في ذلك الوقت عن بطلان الإجارة من أوّل الأمر مثل الصورة السابقة.

هذا فيما إذا كان متعلّق الإجارة عملها مباشرة، و إلاّ فلا مانع في البين. و خلاصة الكلام في هذا المقام هو أنّه من شرائط صحّة الإجارة في باب الأعمال هو أن يكون الأجير قادرا على إيجاد ذلك العمل الذي استؤجر عليه إذا كانت الإجارة واقعة على صدور العمل عنه مباشرة، و إذا لم يكن الأجير قادرا على إيجاد ذلك العمل فليس هناك عمل كي يملكه للمستأجر و يأخذ بإزائه العوض، فيكون أكلا للمال بالباطل، و لا تكون تجارة عن تراض.

و لا فرق في عدم القدرة بين أن يكون تكوينيّا أو تشريعيّا، بمعنى أنّه لا فرق في عدم حصول الشرط بين أن يكون عجز الأجير لعدم قدرته تكوينا، أو كان من ناحية نهي المولى عنه، أو من إحدى مقدّماته التي لا يمكن أن يوجد ذلك العمل إلاّ بها.

و إن شئت قلت: لا فرق بين أن يكون العجز عجزا تكوينيّا أو تعجيزا مولويا لوحدة المناط، و هو عدم قدرته على الإيجاد. فلا فرق بين أن يكون العمل المستأجر عليه بنفسه حراما أو كان بعض مقدّماته المنحصرة حراما، و في كلتا الحالتين تسلب القدرة عنه في عالم الاعتبار التشريعي، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أن مسألة إجارة المرأة للإرضاع مع طلب الزوج الاستمتاع في ذلك الوقت المعيّن للإرضاع. و كذلك عروض مرض يمنع عن إيجاد العمل في

ص: 152

الوقت المعيّن له في عقد الإجارة، و كذلك عدم إمكان السلوك في طريق الحجّ لمانع شرعي أو عقلي في إجارة الدابّة أو السيّارة أو الطيّارة أو غيرها، و كذلك عروض مانع آخر عن إيجاد العمل، كلّها من واد واحد. و مرجعها إلى أمر واحد، و هو عدم القدرة على إيجاد العمل إمّا تكوينا أو تشريعا، فتكون الإجارة باطلة.

و أمّا مسألة عدم إمكان الانتفاع من العين المستأجرة لمانع فليس من هذا القبيل، و صحّة الإجارة فيها أو عدم صحّتها لها ملاك آخر. نعم هي داخلة في العنوان الذي ذكرناه في أوّل هذا الفرع، و هو أنّه لو حدث بعد وقوع الإجارة صحيحا تامّ الأجزاء و الشرائط فحدث ما يمنع عن الاستيفاء.

فالأولى أن يجعل و يذكر هاهنا عنوانان:

أحدهما: عدم قدرة الأجير على إنجاز العمل تكوينا أو تشريعا، فتكون مسألة كنس المسجد مع صيرورة المرأة الأجيرة حائضا في الوقت المعيّن للكنس، و كذلك مسألة إرضاع المرأة المستأجرة لذلك في وقت معيّن مع طلب الزوج الاستمتاع في ذلك الوقت، و غيرهما ممّا هو نظيرهما داخلة في هذا العنوان، و الإجارة باطلة لعدم قدرة الأجير على إنجاز العمل.

و الثاني: وجود مانع عن الاستيفاء للمنفعة التي للعين المستأجرة، فتكون مسألة وجود مانع عن الانتفاع بالدار المستأجرة و ما هو نظيرها داخلة تحت هذا العنوان، و يكون ملاك البطلان فيها لغويّة مثل هذا التمليك الذي لا يمكن أن ينتفع به.

و ليس ملاك بطلان الإجارة في كلتا المسألتين واحدا، لما هو واضح، فالأحسن أن لا يخلط بين المقامين، لعدم وحدة الملاك فيهما، بل لكلّ واحد منهما ملاك يخصّه.

فرع: إذا أفسد الصانع ما أعطى ليصنعه شيئا معيّنا -مثل أن أعطي ذهبا

ص: 153

ليصنعه زينة معينة للنساء-فلم يقدر على صنعة، أو صنع غير ما أراد المعطي، أو صنع ما أراد و لكن صنعه غير جيّد بحيث يقال عند العرف إنّه أفسد في صنعه و أتلف أو أتلف شيئا منه، أو كسر ما أعطى من الأحجار الكريمة ليصنع خاتما أو شيئا آخر، أو أعطى ساعة لكي يصلحها فكسرها أو أتلف شيئا منها، أو غير ذلك من الآلات و الأدوات فأوقع التلف عليها من حيث الصورة أو المادّة، أو أعطى ثوبا للقصار فخرقه أو أحرقه، أو للخيّاط فأتلفه أو لم يصنع كما أراد و وقعت الإجارة عليه-ففي جميع ذلك يكون الصانع ضامنا، لقاعدة الإتلاف، لأنّه أتلف مال الغير من دون إقدام مالكه على تلفه أو إذنه فيه.

و ذلك لأنّ قاعدة لا يشترط في جريانها أن يكون قاصدا إليه متعمّدا، بل لو صدر عنه بلا توجّه و التفات إليه يكون ضامنا، و لذلك لو اشتبه الطبيب و أعطى المريض دواء مضرّا يكون ضامنا إذا كان هو المباشر لا شراب الدواء و لو كان حاذقا، و كذلك الحجّام و الختّان إذا اشتبها في عملهما، و تجاوزا عن حدّ الحجامة و الختان، و حدث تلف نفس أو عضو بسببهما، يكونان ضامنين، لصدق الإتلاف في الجميع.

و في باب ضمان الإتلاف المناط هو صدق الإتلاف و يوجب الضمان إلاّ إذا كان مأذونا في الإتلاف و كان المالك مقدّما عليه، فهو الذي هتك حرمة ماله.

و لا فرق بين أن يكون المتلف يده يد أمانة، و ذلك لأنّ سبب الضمان ليس هو اليد كي يفرق بين أن يكون أمينا أو لا يكون، فالمناط كلّ المناط هو صدق الإتلاف. و قد حقّقنا في محلّه أن القصد و التعمّد ليسا مأخوذين، لا في مادّة الأفعال و لا في هيئتها.

هذا، مضافا إلى ورود أخبار كثيرة في ضمان جملة ممّا ذكرنا:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يعطي الثوب ليصبغه

ص: 154

فيفسده، فقال عليه السّلام: «كلّ عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن» (1).

و منها: أيضا عن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، قال: سئل عن القصّار يفسد؟ فقال: «كلّ أجير يعطي الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» (2).

و أيضا عن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال في الغسّال و الصبّاغ: «ما سرق منهم من شيء، فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق و كل قليل له أو كثير فإن فعل فليس عليه شيء، و إن لم يقم البيّنة و زعم أنّه قد ذهب الذي ادّعى عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بيّنة على قوله» (3).

و هناك روايات كثيرة بهذا المضمون أو ما هو قريب منه، و قد عقد لها بابا في الوسائل (4). و مضافا إلى نقل الإجماعات الذي قيل إنّها ربما تبلغ حدّ التواتر.

و هاهنا روايات أخرى ربما يكون ظاهرها معارضا لهذه الروايات، كرواية معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الصبّاغ و القصّار؟ قال عليه السّلام:

«ليسا يضمنان» (5).

و لكن لا يصحّ الاعتماد عليها و الاعتناء بها، لإعراض المشهور عنها و عدم العمل بها، و إن كانت بحسب السند من الصحاح و لكن إعراض المشهور عن العمل

ص: 155


1- «الفقيه» ج 3، ص 253، ح 3917، باب ضمان الصنّاع، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 275، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 19.
2- «الكافي» ج 5، ص 241، باب ضمان الصنّاع، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 219، ح 955، في الإجارات، ح 37، «الاستبصار» ج 3، ص 131، ح 470، باب الصانع يعطى شيء ليصلحه فيفسده. ، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 271، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 1.
3- «الكافي» ج 5، ص 242، باب ضمان الصنّاع، ح 2، «الفقيه» ج 3، ص 254، ح 3921، باب ضمان من حمل شيئا فادّعى ذهابه، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 271، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 2.
4- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 271، أبواب أحكام الإجارة، باب 29.
5- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 220، ح 964، في الإجارات، ح 46، «الاستبصار» ج 3، ص 132، ح 477، باب الصانع يعطى شيئا ليصلحه فيفسده. ، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 274، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 14.

بها يسقطها عن الحجيّة، و التعارض فرع الحجّية.

و أمّا صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الجمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال عليه السّلام: «إن كان مأمونا فليس عليه شيء، و إن كان غير مأمون فهو ضامن» (1).

فالظاهر أنّها ليست من موارد إتلاف الجمّال ما حمله، لأنّه في مورد الإتلاف لا فرق بين أن يكون المتلف أمينا و بين أن يكون غير أمين، لأنّ المتلف يكون ضامنا مطلقا.

فالأحسن أن يجمع بين هذه الروايات بحمل ما نفي فيها الضمان مطلقا كرواية معاوية بن عمّار، أو نفي فيها الضمان فيما إذا كان مأمونا على ما إذا كان التلف في المال الذي تحت يده من دون صدق الإتلاف.

و معلوم أن التلف تحت يد الأمين لا يوجب ضمانا إلاّ مع التعدّي أو التفريط، فيخرج بذلك عن كونه أمينا. و حمل الروايات التي تدلّ على ثبوت الضمان على موارد الإتلاف، كما هو ظاهر قوله عليه السّلام «كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» هو إتلاف ما وقع تحت يده، لا تلفه فقط.

و فرق واضح بين المسألتين، و إلاّ ففي مورد الجمع الدلالي بالإطلاق و التقييد- كما في رواية الحلبي مع رواية أبي بصير-لا تصل النوبة إلى الإسقاط عن الحجّية بإعراض المشهور، لأنّه مع الجمع الدلالي لا يبقى تعارض في البين كي يعالج بأمثال هذه المرجّحات.

فرع: لو استأجر دابّة للركوب أو للحمل ، و أخذها من المالك، و صارت

ص: 156


1- «الكافي» ج 5، ص 244، باب ضمان الجمّال و المكاري و أصحاب السفن، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 278، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 7.

تحت يده لاستفادة الركوب أو الحمل منها يجب عليه سقيها و علفها، و لو أهمل ضمن.

هذا ما أفتى به المحقق في الشرائع (1).

و تفصيل الكلام فيه: أنّه تارة نتكلّم في وجوب السقي و التعليف من حيث حفظ مال الغير الذي أمانة عنده، و أخرى نتكلّم من حيث ضمان مالك الحيوان للمصارف التي صرفها المستأجر لتلك الدابّة.

فنقول:

أمّا الأوّل-أي وجوبهما من حيث حفظ مال الغير عن التلف-باعتبار أنّ بناء العقلاء على أنّ المستأجر الذي يقبض الدابّة المستأجرة و تدخل تحت يده لو لم يعلفها و لم يسقها و تلفت من الجوع أو العطش فعند العرف هو-أي المستأجر- سبب لتلفها، و يكون تعدّ و تفريط من قبل الآخذ و القابض، ففي صورة عدم سقيها و تعليفها لو تلفت يكون ضامنا. و ذلك كما صرّحوا في باب لقطة الحيوان الذي يسمّى بالضالّة بلزوم الإنفاق عليه و يجوز الرجوع إلى مالكه بالعوض إذا كان إنفاقه بقصد أخذ العوض.

نعم إذا لم تكن تحت يده و لم تخرج عن يد المالك، بل استفادة المستأجر الركوب أو الحمل مع كونها تحت يد مالكها-كما هو الحال و المتعارف عند المكارين و الحملدارية في بعض البلاد-فلا يجبان على المستأجر قطعا، لأنّهما عين العوض مع عدم ذكر الإنفاق، و لذلك لو أنفق بقصد العوض مع غياب المالك المؤجر، أو لم ينفق عليها مع حضوره لعدم قدرته أو لأيّ علّة أخرى يجوز له الرجوع إلى المالك.

و مما ذكرنا ظهر أنّه لا منافاة بين وجوب الإنفاق و جواز مطالبة العوض.

ص: 157


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 187.

و إن شئت قلت: لا شكّ في عدم وجوب الإنفاق على مال الغير إن كان حيوانا، سواء كان له منفعة أو لم يكن، إلاّ إذا كان تحت يده بطور الأمانة المالكيّة أو الشرعيّة و المالك غائب أو معذور لا يقدر على الإنفاق، و في هذه الصورة يجب، و لكن مع جواز الرجوع إليه إذا كان الإنفاق بقصد العوض.

كل ذلك لقاعدة احترام مال المسلم من جهة، و عدم جواز التعدّي و التفريط في مال الغير من جهة أخرى، و أنّه ضامن لو فعل و إن كان لا يجب حفظ مال الغير ابتداء، إذ لا دليل عليه.

فرع: قال المحقّق رحمه اللّٰه في الشرائع: من استأجر أجيرا لينفذه في حوائجه فنفقته على المستأجر إلاّ أن يشترط على الأجير (1).

و هذا الكلام مخالف لظاهر القواعد المقرّرة في باب الإجارة، و ذلك لأنّ حقيقة الإجارة في باب الأجراء هو أنّ الأجير يملك المنفعة-أي عمله المعيّن بتعيينهما، أي الأجير و المستأجر للمستأجر بعوض معيّن-فنفقة الأجير خارجة عن العوضين في باب الإجارة، و ما يستحقّه الطرفان-أي الأجير و المستأجر-ليس إلاّ العوضان اللذان وقع المبادلة بينهما، كما هو الحال في سائر العقود المعاوضيّة.

فكلّ واحد من المتعاقدين يملك ما ملكه الآخر في عقد المعاوضة بإزاء ما ملكه هو للآخر، و ليس لنفقة الأجير ذكر في عقد الإجارة، و إلاّ لو كان لها ذكر-أي كان شرط من طرف الأجير و لو كان شرطا ضمنيا-فلا كلام، و كان يجب على المستأجر ذلك، لوجوب الوفاء بالشرط.

و لكن مع ذلك تبع جماعة من الأساطين كما حكي عن النهاية و القواعد

ص: 158


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 188.

و الإرشاد و الروض (1)المحقّق في هذه الفتوى، بل حكي عن اللمعة أنّه المشهور (2).

و الظاهر أنّ القائلين بهذه الفتوى تمسّكوا إمّا بظاهر ما هو المتعارف في الخارج من إعطاء المخدوم نفقة خادمه، خصوصا إذا أرسله إلى بلد آخر لقضاء حوائجه فيه، فيكون هذا التعارف بمنزلة الشرط الضمني، بعد أن كانت الشروط الضمنيّة واجب الوفاء.

و أنت خبير بأنّ إثبات مثل هذا التعارف كي يكون بمنزلة الشرط الضمني لا يخلو من إشكال.

و إمّا يكون تمسّكهم بالروايات الواردة في هذا الباب:

منها: ما رواه سليمان بن سالم، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل استأجر رجلا بنفقة و دراهم مسمّاة على أن يبعثه إلى أرض، فلمّا أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر و الشهرين، فيصيب عنده ما يغنيه من نفقة المستأجر، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافى به الذي يدعوه فمن مال من تلك المكافأة؟ أمن مال الأجير، أم من مال المستأجر؟ قال عليه السّلام: «إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله، و إلاّ فهو على الأجير» . و عن رجل استأجر رجلا بنفقة مسمّاة و لم يفسّر (و في التهذيب و لم يعيّن) شيئا على أن يبعثه إلى أرض أخرى، فما كان من مئونة الأجير من غسل الثياب و الحمام فعلى من؟ قال: «على المستأجر» (3).

و أنت خبير بأنّ هذه الرواية في كلا السؤالين أجنبيّة عن محلّ كلامنا، إذ كلامنا

ص: 159


1- «النهاية» ص 447، «قواعد الأحكام» ج 1، ص 225، «إرشاد الأذهان» ج 1، ص 425. و حكى قول «روض الجنان» صاحب «جواهر الكلام» ج 27، ص 328.
2- «اللمعة الدمشقية» ص 165، كتاب الإجارة، المسألة الرابعة.
3- «الكافي» ج 5، ص 287، باب إجارة الأجير و ما يجب عليه، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 212، ح 933، في الإجارات، ح 15، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 250، أبواب أحكام الإجارة، باب 10، ح 1.

فيما إذا لم يكن للنفقة ذكر في متن العقد، لا بنحو الشرط، و لا بنحو كونه عوضا عن عمل الأجير أو جزء عوض عنه، و في هذه الرواية في السؤال الأوّل النفقة جزء العوض، لقوله «استأجر رجلا بنفقة و دراهم مسمّاة» فمورد السؤال كون مجموع النفقة و الدراهم عوضا مجعولا عن العمل، و في السؤال الثاني جعل النفقة تمام العوض، فأين هذا من مفروض كلامنا و أن لا يكون من النفقة ذكر في متن العقد، و لم تجعل لإتمام العوض و لا جزئه.

فالرواية مضافا إلى إعراض المشهور عن العمل بها و ضعف سندها أجنبيّة عن محلّ بحثنا و فرضنا.

و أمّا الإشكال عليها بأنّ النفقة مختلفة من حيث المقدار و جعلها عوضا من غير تعيين مقدارها و لا بدّ من تعيين العوضين في الإجارة.

ففيه: أنّها محمولة على المتعارف في حقّ مثل ذلك الأجير، و هذا نحو تعيين و غير مضرّ بصحّة الإجارة.

فرع: صاحب الحمّام لا يضمن إلاّ إذا أودع المال أو اللباس عنده و قبل هو، فحينئذ إذا تعدّى أو فرط يكون ضامنا كما هو الشأن في كلّ وديعة و لا اختصاص له بالمقام.

و بعبارة أخرى: للضمان أسباب و ليس شيء منها هاهنا إلاّ اليد، لأنّه لا يد له على ماله أو لباسه، و لا الإتلاف، لأنّه لم يتلف شيئا منها. و لو ادّعاه من دخل في الحمّام يجري في حقّهما-أي صاحب الحمّام و صاحب المال و اللباس-قاعدة «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» . مضافا إلى كونه أمينا و لا ضمان في يد الأمين.

و مضافا إلى ورود روايات هاهنا

ص: 160

منها: رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أتي بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه و قال: إنّما هو أمين» (1).

و منها: رواية عبد اللّٰه بن جعفر في قرب الإسناد عن السندي بن محمّد، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السّلام أنّه كان لا يضمن صاحب الحمّام و قال: «إنّما يأخذ الأجر على الدخول إلى الحمّام» (2).

و منها: رواية إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه أنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: «لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب، لأنّه إنّما أخذ الجعل على الحمّام و لم يأخذ على الثياب» (3).

و دلالة هذه الروايات على عدم ضمان الحمّامي فيما إذا تلف و ذهب شيء من ثياب من دخل الحمّام أو من ماله واضح، إلاّ فيما إذا تعدّى الحمّامي أو فرط في حفظه.

فرع: لو آجر الولي صبيّا مدّة يعلم بلوغه فيها ، فهل تبطل بالنسبة إلى المدّة التي بعد البلوغ، لأنّ الولي يملك التصرّف فيه بالنسبة إلى زمان قبل البلوغ، و أمّا بالنسبة إلى زمان البلوغ و بعده فلا ولاية له، فلا تنفذ تصرّفاته بالنسبة إلى ذلك الزمان، فتكون إجارته بالنسبة إلى ذلك الزمان باطلة؟ الظاهر هو ذلك.

و يحتمل أن تكون فضوليّا موقوفا على إجازة ذلك الصبيّ بعد بلوغه و خروجه

ص: 161


1- تقدم ص 122، هامش (1) .
2- «قرب الإسناد» ص 152، ح 553، أحاديث متفرقة، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 271، أبواب أحكام الإجارة، باب 28، ح 2.
3- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 314، ح 869، من باب في الزيادات في القضايا و الأحكام، ح 76، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 271، أبواب أحكام الإجارة، باب 28، ح 3.

عن الصغر بالنسبة إلى ذلك المقدار الذي وقع في كبره، و يكون كالأجير الذي استأجر عينا سنة و آجرها مدّة سنتين، فبالنسبة إلى السنة الثانية التي لا يملك منفعتها تقع الإجارة فضوليّا موقوفا على إجازة المالك.

و ما يقال: من أنّه من الممكن أن تكون إجارة الصغير أزيد من مدّة صغره من مصالح الصغير، فيجب أن تنفذ مثل هذا التصرّف في حقّه، خصوصا إذا كان عدمه مفسدة في حقّه، مثل أن يكون هناك شخص يطلب كاتبا لمدّة عشر سنين-مثلا- بإجارة تكون أجرته فوق ما هو المتعارف في الإجارات من حيث الزيادة و الكثرة، و الصبي عمره أربع عشر سنين و لم يبلغ، و لكنّه محاسب قدير يقدر على تمشّي هذا الشغل حسنا و بكمال الجودة، فلو ترك الولي و لم يوجره يعلم بأنّه لا يوجد له مثل هذا الشغل فيما بعد، فبأيّ وجه للوليّ يجوز ترك ما هو ذو المصلحة الكثيرة للصبيّ.

و فيه: أنّ صحّة مثل هذه الإجارة و جوازه، بل وجوبه على الوليّ لا ينافي سلطنة الصبيّ بعد بلوغه على الإمضاء و الردّ، فيكون حاله حال سائر المعاملات الفضوليّة التي تكون من مصلحة المالك و مع ذلك يكون له الإجازة و الردّ.

و صرف كون الشيء ذا مصلحة لا يوجب سلب سلطنة المالك عن ملكه، فالإنصاف أنّ أمثال هذه المعاملات إذا وقعت فيما يرجع إلى التصرّف في نفس الصبي بحيث شمل مقدارا من زمان بلوغه، تكون بالنسبة إلى ذلك الزمان فضوليّا، فله بعد بلوغه الإمضاء أو الردّ.

و قياسها على مسألة تزويج الصغيرة أو الصغير انقطاعا، و نفوذه فيما بعد البلوغ باطل، و ذلك لأنّ تزويج الصغيرة بالعقد الانقطاعي في مدّة أزيد من زمان صغرها و نفوذه عليها حتّى في زمان كبرها إذا كان العقد الواقع في حال الصغر من مصلحتها ليس من قبيل الإجارة، لأنّ الإجارة عبارة عن تمليك منافع الصغير في تمام تلك المدّة للمستأجر، فإذا فرضنا أنّ مدّة عشر سنين-مثلا-فكأنّه تنحلّ إلى عشر

ص: 162

إجارات، أي في كلّ سنة تملك منافع تلك السنة، و المفروض أنّ في بعض هذه السنين ليس له السلطنة على تمليك منافعها، فتكون الإجارة بالنسبة إلى تلك السنة فضوليّا.

و أمّا في تزويج الصغيرة و لو انقطاعا في مدّة أزيد من مدّة صغرها فلا انحلال في البين، بل إيجاد علاقة الزوجيّة بينهما في وقت له حقّ إيجاد مثل تلك العلاقة و هي الزوجيّة، غاية الأمر أنّ هذه العلاقة الواحدة الآنية الحصول على قسمين:

مطلقة و تسمّى بالعقد الدائم، و موقّتة و تسمّى بالعقد المنقطع، و ليس من قبيل تمليك البضع في كلّ سنة كي يقال بأنّه في بعض هذه السنين-السنين التي بعد بلوغها- ليس للوليّ هذا الحقّ.

فقياس أحدهما بالآخر باطل، مضافا إلى بطلان أصل القياس، إذ الدليل هناك وارد على صحّة عقد الصغيرة من قبل الوليّ دواما و انقطاعا، و لم يردها دليل على جواز الإجارة في الصغير و الصبي أزيد من مدّة صغرها.

و العمومات لا تشملها، لأنّ عمومات جواز تصرّف الولي مخصّص بحال الصغر و لا يشمل حال الكبر، فتصرّفه فيه بالنسبة إلى زمان كبره غير نافذ، و يكون فضوليّا، كما بيّنّا و عرفت.

هذا كلّه بالنسبة إلى تصرّف الولي في نفس الصغير، و أمّا تصرّفاته بالنسبة إلى أمواله، فهل يجوز التصرّف في حال صغره تصرّفا يمتدّ إلى حال كبره، بأن يكون زمانه أزيد ممّا بقي من زمان صغره، مثلا بقي من زمان صغره سنتان و هو يوجر أملاكه لمدّة أربع سنين لوجود مصلحة له في ذلك، بحيث لو منعنا عن إجارته أزيد من المقدار الذي بقي من صغره يتضرّر الصبي، و تفوت منه المصلحة التي يلزم تحصيلها.

و الإشكال الوارد على هذا التصرّف هو تجويز تصرّف الولي على الصغير في

ص: 163

مال ليس له الولاية عليه، لأنّ المفروض أنّ له الولاية على أمواله التي له حال صغره، و أمّا الأموال التي تجدّدت له في حال كبره فليس له ولاية عليها.

كما أنّه لو علم بأنّ هذا الصغير يرث بعد سنتين مالا من قريبه، لا يجوز للولي التصرّف في ذلك باعتبار زمان كونه لهذا الصبيّ، أي باعتبار زمان بعد سنتين الذي يكبر فيه، لأنّه الآن ليس له.

فإن قلنا بأنّ الصغير الآن لا يملك منافع ماله التي توجد و تتجدّد بعد سنتين، فليس للولي الآن التصرّف فيها، لعدم كونها الآن ملكا للصبيّ و إنّما تصير ملكا له فيما بعد البلوغ.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: أنّ الصبيّ الآن-أي في حال صغره-يملك منافع ماله التي تتجدّد في حال كبره، و لا بعد فيه.

و يكون هذا هو الفارق بين أمواله و أعماله، بأن يقال: إنّه لا يملك الآن أعماله التي تصدر عنه في زمان كبره، و يملك الآن منافع أمواله التي تتجدّد و توجد في زمان كبره، فبناء على هذا يكون للوليّ الآن الولاية على منافع أمواله التي تتجدّد في زمان كبره، لأنّها الآن ملك الصغير، و للوصيّ الولاية على أملاك الصغير، و ليس له الولاية على أعماله في زمان كبره، لأنّ الصبي لا يملك تلك الأعمال الآن و إنّما يملكها حال وجودها.

و هذا هو السرّ في الفرق بين أعمال الصبي و أمواله. و على هذا يبتني الفرق في تجويز إجارة أمواله أزيد من مدّة صغره إذا كان لها مصلحة ملزمة، و عدم جواز إجارة نفسه باعتبار الأعمال المتأخّرة عن زمان صغره و كونها في زمان كبره و بلوغه.

و أمّا ما يقال: من أنّ ملاك جعل الوليّ للصبيّ هو أنّ لا يفوت عليه ما يتعلّق بنفسه و بماله من المصالح في صغره، و أمّا ما يتعلّق بماله في زمان كبره فيمكن له

ص: 164

تحصيلها، و لا يفوت عنه بترك جعل الوليّ، فدائرة الولاية للوليّ ضيقة لا تشمل الأموال التي له في زمان كبره، لعدم الملاك، فلا ولاية له بالنسبة إلى منافع أمواله في زمان كبره، فتصرّفه لا ينفذ بالنسبة إلى منافع زمان كبره، و إن كان ظرف التصرّف زمان صغره.

ففيه: أنّ هذه الاستحسانات و الظنون لا يصحّ استناد الحكم الشرعي إليها، و لا يجوز أن تكون مدركا لها، بل لا بدّ و أن يراجع إلى الأدلّة الشرعيّة و مفادها.

و الدليل الشرعي في المقام هو أنّه للوليّ التصرّف في أموال الصغير حال صغره، و قد عرفت أنّه يصدق على المنافع التي تتجدّد في أموال الصغير حال كبره، أنّها أموال الصغير في حال صغره، فيجوز للوليّ التصرّف فيها إن كان فيه مصلحة للصغير.

فالإنصاف: أنّه فرق بين التصرّف في نفس الصغير أزيد من زمان صغره، و بين ماله كذلك، و أنّ الأوّل لا يجوز، و أمّا الثاني فلا إشكال فيه و لا مانع عنه.

فرع: إذا هلك الأجير الذي يعمل لشخص ، أو وقع تلف عضو، أو كسر و أمثال ذلك من أنواع التلف و أقسامه عليه، و لم يكن بتسبيب من المستأجر أو تفريطه و تعدّيه-كما إذا وقع البناء من مكان مرتفع، أو كان هناك بئر يشتغل فيه فوقع فيها و هلك، أو تلف عضو من أعضائه كما أنّه يتّفق كثيرا للعمّال في هذه المكائن الجديدة من كسر عضو أو قطعه-فلا ضمان على المستأجر.

و هذا إذا كان الأجير حرّا فواضح، لأنّه فعل باختياره من باب الوفاء بالإجارة، و لم يصدر من طرف المستأجر شيء يوجب ضمانه أو الدية عليه، و أمّا إذا كان عبدا فأيضا ليس عليه شيء، و إن كان للمستأجر يد عليه، لأنّ يده يد أمانة لا توجب الضمان إلاّ إذا تعدّى أو فرط فيه.

ص: 165

و قد تقدّم بعض الكلام في مسألة هلاك الدابّة لو حمل عليها أزيد من المقدار المتعارف.

فرع: إذا دفع سلعته ليعمل له فيها عملا، كما إذا دفع ثوبه للقصّار و الغسّال ليغسله و يبيّضه أو يرقعه إذا كان محتاجا إلى التغسيل و التبييض و الترقيع، فإن كان هذا شغله، و من حرفته أن يستأجر لمثل هذه الأعمال فله أجرة المثل، لأنّ هذا العمل-أي إعطاء السلعة للعمل فيها-يكون إجارة معاطاتيّة، كما أنّ المتعارف الآن في الأسواق في أكثر البلاد أنّ صاحب النعال و الحذاء إذا كان في نعاله أو حذائه خرق يعطي للرقاع ليصلحه بإزاء ما هو المتعارف من أجرته، و كذلك الحال في صباغ الأحذية و الأثواب.

و قد يكون بصورة الأمر، كما إذا قال للحلاّق: احلق رأسي، و كذلك الأمر في سائر أرباب الحرف و الصنائع يعطي سلعته لكي يصلحها، مثل الرجوع إلى من يصلح الساعة أو المكائن للطبخ، و كثير من المراجعات إلى أرباب الحرف و الصناعات من هذا القبيل، فلا شكّ في استحقاق العامل أجرة مثل عمله.

و أمّا إذا لم يكن شغله و لا من عادته أخذ الأجرة على مثل هذا العمل، و لكن كان لمثل هذا العمل عند العرف أجرة، و سائر الناس يأخذون الأجرة عليه، فله حقّ المطالبة و ادّعاء أنّه لم يعمل مجّانا، بل قصد أخذ الأجرة.

و حيث أنّ عمل المسلم محترم و هذه الدعوى-أي قصده للأجرة-لا يعلم إلاّ من قبله و هو أعرف بنيّته و ما قصده، فتسمع و يجب على صاحب السلعة أو الأمر إعطاء الأجرة.

و أمّا لو لم يكن عند العرف لمثل هذا العمل أجرة، مثل أن يأمر شخصا بأن يؤذّن أو يكنس هذا المسجد هذا اليوم فقط، أو يلتمس استيداع شيء عنده لمدّة

ص: 166

قليلة، فالعرف في الغالب لا يطلبون لمثل هذه الأمور أجرة.

و لكن هذا لا ينافي كونها ذات ماليّة و إن كان بناء العرف على عدم أخذ الأجرة على مثل هذه الأمور، و أنّهم يعملونها مجّانا و من باب الصداقة مع المستودع مثلا، أو طلبا لمرضاة اللّٰه جلّ جلاله و تعالى شأنه. و على كلّ بناء العرف على عدم ماليّتها و إن كان في الواقع لها ماليّة.

ففي هذا القسم ظاهر الحال يدلّ على وقوعها مجّانا و عدم قصد الأجرة، فهل يؤخذ بظاهر الحال و يحكم بعدم استحقاق الأجرة، أو يؤخذ بقاعدة احترام مال المسلم و عمله و يحكم باستحقاقه للأجرة إن طالبها، فيجب إعطاؤها له إنّ طالبها؟ لا يبعد جريان قاعدة الاحترام إن ادّعى أنّه أتى بالعمل بقصد الأجرة، لأنّه أعرف بنيّته، و هذه دعوى لا تعرف إلاّ من قبله، فتكون من الدعاوي المسموعة كما حقّقناه في باب الدعاوي من كتاب القضاء.

فرع: كلّ ما يتوقّف عليه استيفاء المنفعة للمستأجر فهو على الموجر ، سواء كان في إجارة الأموال، أو في إجارة الأجراء.

فإذا استأجر دارا مثلا للسكنى فيها، أو دكّانا للكسب و التجارة فيه، فتنقية البئرين-أي البالوعة و البئر التي يجري منها الماء في الدار-و القفل و الباب في الدكّان على الموجر، كما أنّ الأدوات التي تستعمل في البناء على المؤجر أي البناء، و ذلك من جهة أنّ الموجر ملك عمله للمستأجر، و لا بدّ و أن يكون عمله قابلا لأن يستوفيه المستأجر، فيجب عليه تسليم العمل، و هو متوقّف على الآلات و الأدوات، فيجب عليه تحصيلها بالاشتراء أو الاستعارة أو غيرهما من وجوه الحلال مقدّمة لأداء الواجب، بل و إن كانت غصبا و لكن حينئذ ضمانها و أجرتها على الموجر.

و كذلك الخيّاط مثل البنّاء من حيث احتياج عمله إلى الإبرة و الخيوط، و كذلك الحال

ص: 167

في سائر الأجراء كالملإ الذي يجرّ الماء من البئر لإملاء الحوض أو لجهة أخرى يجب عليه تحصيل الدلو و الحبل و البكرة التي يتوقّف عليها جرّ الماء من البئر، و هكذا الأمر في جميع الآلات التي يحتاج إليها الأجراء في أعمالهم التي آجروا أنفسهم لإنجاز تلك الأعمال.

كلّ ذلك لأجل وجوب تسليم العمل للمستأجر، و المفروض أنّ التسليم متوقّف على هذه الأمور، فتجب مقدّمة لما هو الواجب عليهم.

نعم لو اشترط الموجر-سواء كان في إجارة الأعيان أو كان في باب الأجراء- أن ما يتوقّف عليه استيفاء المنفعة على المستأجر لا على الموجر، فالشرط سائغ يجب إنفاذه. و كذلك الحال في الشروط الضمنيّة التي منها بناء العرف و العادة على كونها على المستأجر.

و قد يفصّل بين ما كان استيفاء المنفعة متوقّفا عليه من الأموال التي تدخل في ملك المستأجر، كالخيوط و القياطين في خياطة بعض الملابس كالعباء و القباء، أو أشياء أخرى في ملابس أخر، فتكون على المستأجر، و بين ما لا يكون كذلك بل صرف آلة للعمل بحيث يكون إنجاز العمل من قبل الأجير متوقّفا عليها، كالإبر و مكائن الخياطة و أمثالها، فهي على نفس الأجير إلاّ إذا اشترط الأجير كونها على المستأجر، أو كان من الشروط الضمنيّة التي عليها بناء العرف و العادة.

و هذا البناء يختلف اختلافا كثيرا باختلاف الأمكنة و الأزمنة، حتّى في زماننا هذا على ما أسمع البطانة أيضا يكون على الخياط الأجير.

ثمَّ إنّه لا ينبغي أن يشكّ أنّ تدارك الضرر الذي يرد على العين المستأجرة من ناحية استيفاء المنفعة إذا لم يكن خارجا عن المتعارف لا يجب على المستأجر، فتنقية البئرين البالوعة و بيت الخلاء ليس على المستأجر بعد تماميّة مدّة الإجارة إذا لم يكن استعماله لهما خلاف المتعارف، و كذلك حال الأصباغ في المنزل لو زالت

ص: 168

باستعمال الغرف إذا لم يكن الاستعمال خارجا عمّا هو المتعارف، فليس على المستأجر أن يصبغها صبغا جديدا و إعادتها كما كانت يوم تسلمها. و أمثلة هذا الفرع كثيرة لا يمكن إحصاؤها.

و الضابط الكلّي: هو أنّ كلّ نقص يحصل في العين المستأجرة من ناحية الاستعمالات المتعارفة ليس تداركه على المستأجر، لأنّ ورود مثل هذا النقص من لوازم الاستيفاء الذي يملكه المستأجر بعقد الإجارة من قبل الموجر.

فرع: لو تلف الأجير حال العمل للمستأجر ، أو وقع التلف على عضو من أعضائه حال الاشتغال بالعمل بسبب العمل أو بسبب غيره، فهل يضمن المستأجر التلف أو النقص لو كان الأجير عبدا، أو الدية لو كان حرّا، أم لا يضمن أصلا؟ الظاهر عدم الضمان مطلقا، سواء كان حرا أو عبدا.

أمّا الأوّل: فلعدم موجب للضمان، لا اليد، لأنّ الحرّ البالغ العاقل لا يقع تحت اليد كما هو المسلّم عندهم، و لا الإتلاف، لأنّه لا إتلاف في البين أوّلا بل التلف وقع عليه أوّلا بفعله الاختياري، و ثانيا تلف الحرّ لا يوجب الضمان، لا المثل و لا القيمة، و إنّما عيّن الشارع لتلفه القصاص إذا كان بفعل فاعل مختار أو الدية، و أمّا إذا كان بفعل نفسه بدون مباشرة للغير أو كونه سببا فلا شيء في البين أصلا.

و أمّا الثاني: أي لو كان الأجير عبدا فحاله حال سائر الأعيان المستأجرة أنّه يضمن مع التعدّي و التفريط، و إلاّ فيده يد الأمانة المالكيّة و لا ضمان عليه.

و قد تقدّم هذا المطلب في بعض الفروع السابقة، و قد استوفينا الكلام فيه فراجع.

ص: 169

فرع: كلّ ما كان بعد وقوع عقد الإجارة في ذمّة الأجير من عمل كلّي، أو كان في ذمّة المؤجر من العوض نقدا أو عروضا و متاعا كلّيا، فكلّ واحد منهما المالك لذلك الكلّي في ذمّة الآخر إبراء ذمّته، فيسقط عن ذمّته و تصير ذمّته غير مشغولة كأن لم يكن.

و السر في ذلك: أنّ الكلّي في الذمّة إمّا أن يكون اعتبارا عقلائيّا أمضاه الشارع، و إمّا أن يكون من أوّل الأمر اعتبارا شرعيّا. و على كلّ حال هذا الأمر الاعتباري اعتبر لرعاية ذلك الطرف الآخر و يكون زمامه بيده، فإذا أسقطه يسقط.

لا يقال: إنّ ملكيّة ما في ذمّة أحدهما للآخر حكم شرعي ليس قابلا للإسقاط، و ذلك لأنّ الإسقاط يتعلّق بما هو موضوع للحكم الشرعي لا بنفس الحكم.

و بعبارة أخرى: الموجود في ذمّة كلّ واحد منهما للآخر أمر اعتباري مثل الحقّ، و ذلك الأمر الاعتباري موضوع للملكيّة و قابل للإسقاط، فقهرا بذهابه يذهب الحكم، لعدم موضوعه. و ذلك مثل أنّه لو كان له مملوك في الخارج، فإذا انعدم ذلك المملوك فبانعدامه تنعدم الملكيّة المتعلّقة به، إلاّ يلزم بقاء أحد المتضايفين بدون الآخر و هو محال.

فرع: يجوز الإجارة لحفظ المتاع أو الدار أو البستان أو غير ذلك، و يسمّى في عرف هذا الزمان ذلك الأجير بالناطور.

و لا إشكال في ذلك، لأنّه عمل مباح له منفعة مباحة للمستأجر، و هي حفظ ماله عن السرقة أو التلف، فيجوز للأجير تمليكه للمستأجر بعوض معلوم.

و فيه رواية عن الصفّار عن مولانا العسكري، قال: إنّه كتب إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليه السّلام: رجل يبذرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف يشارطونه على شيء مسمّى، إله أن يأخذ منهم أم لا؟ فوقّع عليه السّلام: «إذا واجر نفسه

ص: 170

بشيء معروف أخذ حقّه إن شاء اللّٰه» (1).

نعم يجب أن يكون عمل الناطور معيّنا من حيث المدّة و الكيفيّة، لرفع الغرر.

و هل يجوز اشتراط الضمان عليه لو تلف أو سرق ما استؤجر على حفظه من التلف و السرقة أم لا؟ فيه كلام و هو أنّه مقتضى كون يده يد أمانة عدم الضمان إلاّ مع التعدّي و التفريط، و بهما تخرج عن كونها أمانيّة، فشرط الضمان مخالف للكتاب فلا ينفذ بدون التعدّي و التفريط. و مقتضى بعض الروايات كرواية إسحاق بن عمّار (2)نفوذ الشرط.

و لكن يمكن أن يكون المراد من نفوذ هذا الشرط هو أنّ يكون من قبيل شرط الفعل لا شرط النتيجة، بمعنى أن يكون عليه تدارك خسارة المستأجر من مال نفسه، فليس مخالفا للكتاب، لأنّ المخالف للكتاب هو ضمانه و اشتغال ذمّته، و أمّا تدارك خسارة المستأجر من ماله فحلال و جائز.

بل ربما يكون من الأمور الراجحة عقلا و شرعا، لأنّه إحسان إلى أخيه المؤمن، غاية الأمر هذا الأمر الجائز فعله و تركه يلزم و يجب عليه بالشرط، لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» (3).

ص: 171


1- «الفقيه» ج 3، ص 173، ح 3653، المكاسب و الفوائد و الصناعات، ح 88، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 385، ح 1141، في المكاسب، ح 262، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 254، أبواب أحكام الإجارة، باب 14، ح 1.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 467، ح 1872، في الزيادات في فقه النكاح، ح 80، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 353، كتاب التجارة، أبواب الخيار، باب 6، ح 5.
3- تقدم ص 18، هامش (4) .
في التنازع

و فيه فروع:

[الفرع]الأوّل: لو تنازعا في أصل وقوع الإجارة فالقول قول منكرها ، سواء كان هو المالك أو طرفه، لمطابقة قوله للحجّة الفعليّة، و هي أصالة عدم وقوعها.

و قد حقّق في باب تشخيص المدّعي و المنكر أنّ المناط في كونه منكرا مطابقة قوله للحجّة الفعليّة، كما أنّ المناط في كونه مدّعيا مخالفة قوله لها، و بعد تشخيصهما يدخلان تحت القاعدة المعروفة المسلمة «البيّنة على المدّعي، و اليمين على من أنكر» .

هذا إذا كان قبل استيفاء المنفعة، فبعد إن لم تكن لمدّعي الإجارة بيّنة و حلف المنكر، فالعين التي يدّعي إجارتها مع منافعها لمالكها و يختم النزاع.

و أمّا لو كان بعد استيفاء المنفعة فحيث أنّ مع بطلان الإجارة يستحقّ المالك أجرة المثل فلا يخلو الأمر من أحد ثلاث:

إمّا يكون المسمّى المدّعى مساويا لأجرة المثل، أو أقلّ، أو أكثر. فإن كان مساويا فلا يبقى نزاع في البين، و إن كان أقلّ فالأغلب حينئذ أن يكون المالك هو الذي يدّعي البطلان لكي يأخذ أجرة المثل الذي هو أكثر، فيؤول النزاع إلى أنّ المالك يطالب الزيادة على المسمّى، و الأصل عدمها، فيكون طرف المالك هو المنكر، لأصالة عدم الزيادة.

و إن كان أكثر فالأغلب أن يكون المدّعي للبطلان هو طرف المالك لكي لا يعطي المسمّى الذي يزيد على أجرة المثل، فيكون هو المنكر، لأصالة عدم استحقاق المالك أزيد من أجرة المثل، فيحلف على عدم وقوع الإجارة و يعطى أجرة المثل الذي هو الأقلّ. و هذا الذي ذكرنا من تقديم قول منكر الإجارة مضافا إلى أنّه مقتضى قواعد باب القضاء، ادّعوا عليه الإجماع.

ص: 172

و لو كان نزاعهما في قدر العين المستأجرة، فادّعى أحدهما أنّه تمام الدار مثلا، و الآخر أنّه نصف الدار، فالظاهر أيضا أنّ القول قول منكر الزيادة، لعين ما ذكرنا فيما إذا كان التنازع في أصل الإجارة، و هو أصالة عدم وقوع العقد على الزيادة.

و لا فرق في أن تكون الزيادة المدعاة في المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر-كما إذا ادّعى المستأجر أنّها سكنى تمام الدار، و المالك يدّعي أنّها سكنى نصف الدار مثلا، أو يدّعي زيادة المدّة كسنة، و المالك لا يعترف بأزيد من ستّة أشهر مثلا-أو تكون في جانب الأجرة-كما أنّه لو ادعى المالك أنّ الأجرة في السنة مائة و خمسين دينارا، و المستأجر يدّعي أنّها مائة دينار-لاتّحاد المناط في الجميع، و هو أصالة عدم الزيادة على ما يعترف الطرف في جميع صور المسألة.

و أمّا القول بأنّه في بعض صور المسألة يكون من باب التحالف لوجود دعوى من كلّ واحد منهما مع إنكار الآخر، فأحدهما يدّعي أنّ الإجارة وقعت على مائة و خمسين دينارا مثلا و ينكر الآخر، و الثاني يدّعي وقوعها على مائة مثلا و ينكر الآخر، فتكون دعويان و إنكاران، فقهرا يكون المورد من موارد التحالف، فيحلف أحدهما على نفي الزيادة، و الآخر على إثبات الزيادة.

و فيه: أنّ مدّعي الزيادة ليس بمنكر كي يكون وظيفته الحلف، بل هو مدّع و وظيفته البيّنة، فإذا لم تكن له بيّنة فيكون الحلف لطرفه على نفي الزيادة، فليس في البين إلاّ منكر واحد و هو منكر الزيادة.

و ليست المسألة من باب التحالف، لاتّفاقهما على مقدار الأقلّ، و الخلاف و النزاع إنّما هو في الزيادة فقط. و معلوم أنّ منكر الزيادة قوله مطابق للأصل، فهو المنكر و عليه اليمين لا على طرفه، بل على طرفه البيّنة لا غير.

و أمّا القول بعدم الاتّفاق على الأقلّ بشرط لا، لأنّ مدّعي الزيادة ينكر الوقوع على الأقلّ بشرط لا، و هو مباين مع الأكثر.

ص: 173

ففيه: أنّه كلام شعري، لأنّ قوله صلّى اللّٰه عليه و آله «البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه» (1)يؤخذ بمفهومه العرفي، و لا شكّ في أنّ مثل هذه الموارد العرف يفهم أنّ من يدّعي الزيادة مدّع و طرفه الذي ينكر الزيادة منكر.

الفرع الثاني: لو تنازعا و اختلفا في ردّ العين المستأجرة، فالقول قول المالك، لأصالة عدم ردّها. و كونها بيد المستأجر أمانة مالكيّة لا يثبت أزيد من أنّ تلفها بيده لا يوجب الضمان، أيّ ضمان اليد، لأنّ ضمان اليد و كونها مشمولة لقاعدة «و على اليد ما أخذت» مخصوص باليد غير المأذونة، و أمّا المأذونة و الأمانيّة فخارجة عن هذه القاعدة إمّا تخصيصا أو تخصصا على القولين في القاعدة، فقبول قوله في الردّ يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، فلا بدّ من إجراء قواعد باب القضاء و تشخيص المدّعي أو المنكر.

و حيث أنّه في هذا المقام قول المالك و دعواه عدم الردّ مطابق للحجّة الفعليّة- أي أصالة عدم ردّها-فيكون هو المنكر و عليه اليمين، و على المستأجر البيّنة.

و أمّا قوله عليه السّلام «لا تتّهم من ائتمنته» (2)أي بالتعدّي و التفريط، لا أنّه يجب قبول قوله في دعوى الردّ.

و أمّا قبول دعوى الردّ في الوديعة فلدليل خاصّ و أنّه محسن و (مٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (3). و بعبارة أخرى: الودعي يحفظ المال لمصلحة المودع،

ص: 174


1- «الكافي» ج 7، ص 415، باب ان البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 229، ح 553، باب كيفية الحكم و القضاء، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 18، ص 170، أبواب كيفية الحكم، باب 3، ح 1 و 2.
2- «قرب الإسناد» ص 72، ح 231، أحاديث متفرقة، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 229، كتاب الوديعة، في أحكام الوديعة، باب 4، ح 9.
3- التوبة (9) :91.

و ليس عمله إلاّ محض الإحسان، و أمّا المستأجر و إن كان مأذونا من قبل المالك في كون المال في يده و لكن لمصلحة نفسه لا لمصلحة المالك، فليس إحسان في البين، بل معاملة و معاوضة أقدم كلّ واحد من الطرفين لمصلحة نفسه.

الفرع الثالث: لو تنازعا-أي المؤجر و المستأجر-في هلاك المتاع الذي في يد الأجير الذي آجر نفسه لحمل المتاع، كما إذا كان الأجير ملاّحا أو كان مكاريا أو قصارا جمّالا أو غير ذلك، و أنكر المالك أصل الهلاك و يزعم البقاء و يتّهم الأجير، فاختلف الفقهاء في أنّه هل يقدّم قول المالك، لمطابقة قوله لأصالة عدم التلف و عدم الهلاك، أو يقدّم قولهم، لأنّهم أمناء و ليس على الأمين إلاّ اليمين؟ فقال جماعة كالمفيد (1)و السيد (2)و ثاني الشهيدين في المسالك (3)بأنّهم يكلّفون بالبيّنة و مع فقدها يضمنون، و قال الآخرون يقبل قولهم مع اليمين، لأنّهم أمناء، و ما على الأمين إلاّ اليمين.

و الأقوال و الروايات في المسألة مختلفة، و هو السبب في اختلاف الأقوال.

أمّا الأخبار التي تدلّ على تضمينهم:

فمنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الجمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه. فقال: «إن كان مأمونا فليس عليه شيء، و إن كان غير مأمون فهو ضامن» (4).

و منها: خبر عثمان بن زياد، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: إنّ حمّالا لنا يحمل

ص: 175


1- «المقنعة» ص 643.
2- «الانتصار» ص 225.
3- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 263.
4- تقدم ص 156، هامش (1) .

فكاريناه، فحمل على غيره فضاع، قال: «ضمنه و خذ منه» (1).

و منها: خبر السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السّلام قال: «إذا استبرك البعير بحمله فقد ضمن صاحبه» (2).

و منها: خبر حسن بن صالح، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا استقلّ البعير أو الدابّة بحملها فصاحبها ضامن» (3).

و الإنصاف: أنّ هذه الروايات أجنبية عن محلّ كلامنا، لأنّ محلّ كلامنا هو ادّعاء الأجير تلف المال مع إنكار المالك و دعواه البقاء و عدم التلف.

نعم هذه الروايات تدلّ على عدم قبول قولهم في عدم التعدّي و التفريط، بل يحكم بتفريطهم إلاّ أن يأتوا بالبيّنة على التلف و أنّهم لم يفرطوا.

نعم هاهنا روايات أخر ربما تدلّ على عدم قبول قولهم دعوى التلف و الهلاك إلاّ بالبيّنة:

منها: رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الغسّال و الصبّاغ: «ما سرق منهما من شيء، فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق و كل قليل له أو كثير فهو ضامن، فإن فعل فليس عليه شيء، و إن لم يفعل و لم يقم البيّنة و زعم أنّه قد ذهب الذي ادّعى عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بيّنة على قوله» (4).

و منها: رواية أبي بصير عن الصادق عليه السّلام: «لا يضمن الصائغ و لا القصار و لا

ص: 176


1- «الفقيه» ج 3، ص 256، ح 3926، باب ضمان من حمل شيئا فادّعى ذهابه، ح 7، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 221، ح 969، في الإجارات، ح 51، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 278، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 8.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 222، ح 971، في الإجارات، ح 53، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 278، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 9.
3- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 222، ح 972، في الإجارات، ح 54، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 279، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 10.
4- تقدم ص 155، هامش (3) .

الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين فيخوف بالبيّنة و التحليف، لعلّه يستخرج منه شيء» (1).

و منها: خبر أبي بصير عنه عليه السّلام أيضا: سألته عن قصار دفعت إليه ثوبا، فزعم أنّه سرق من بين متاعه. فقال عليه السّلام: «عليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه و ليس عليه شيء، فإن سرق متاعه كلّه فليس عليه شيء» (2).

أقول: لا شكّ في أنّ هذه الأخبار متعارضة، لأنّ طائفة منها تنفي الضمان عن المذكورين، و أخرى تثبت إلاّ أن يأتي بالبيّنة على التلف من دون تعدّ و لا تفريط.

و مقتضى قواعد باب القضاء هو طلب البيّنة على التلف إن لم يصدقهم المالك، و أمّا لو صدقهم في التلف و ادّعى عليهم التعدّي و التفريط فمقتضى قواعد أبواب الأمانات هو عدم اتّهامهم بذلك و قبول قولهم مع اليمين، فيمكن الجمع بين الطائفتين بحمل ما مفادها الضمان إلاّ أن يأتوا بالبيّنة على دعواهم التلف و حمل ما مفادها عدم ضمانهم على دعوى المالك عليهم التعدّي أو التفريط.

و يمكن أيضا أن يجمع بين الطائفتين بحمل إحديهما على مورد اتّهامهم و عدم كونهم مأمونين عنده، كما هو صريح جملة من أخبار الباب، و هي الطائفة التي مفادها ضمانهم إلاّ أن يأتوا بالبيّنة على التلف بدون تعد أو تفريط، و حمل الطائفة الأخرى-أي النافية للضمان عنهم-على كونهم مأمونين عنده، فالقول قولهم مع الحلف و لا يكونون ضامنين مع الحلف.

و أمّا لو أتوا بالبيّنة فيرتفع الضمان عنهم أم لا؟ مبني على أنّ الميزان للمنكر هو خصوص الحلف بحيث لو أتى بالبيّنة على نفي ما يدّعيه المدّعي لا أثر لها، أو

ص: 177


1- «الفقيه» ج 3، ص 257، ح 3928، باب ضمان من حمل شيئا فادّعى ذهابه، ح 9، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 218، ح 951، في الإجارات، ح 33، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 274، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 11.
2- «الكافي» ج 5، ص 242، باب ضمان الصنّاع، ح 4، «الفقيه» ج 3، ص 256، ح 3925، باب ضمان من حمل شيئا فادّعى ذهابه، ح 6، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 218، ح 953، في الإجارات، ح 35، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 272، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 5.

تعيين الحلف لكونه ميزانا له من باب أخفّ الميزانين تسهيلا و من باب مراعاته، لكون قوله مطابقا للحجة الفعلية. فعلى الأوّل لا أثر لبيّنته، و على الثاني يثبت قوله مع البيّنة بطريق أولى.

و الظاهر هو أنّ الحقّ هو الثاني و أنّ جعل الحلف ميزانا للمنكر لأجل التأكيد من البراءة، و عدم اشتغال ذمّته بما يدّعيه المدّعى عليه، و إلاّ فالحجّة الفعليّة التي كان قوله مطابقا معها كانت كافية في براءة ذمّته، و حصول التأكيد بالبيّنة أقوى، لأنّ كثيرا من الناس في مقام جلب النفع أو دفع الخسارة لا يحترزون عن الحلف الكاذب.

الفرع الرابع: قال في الشرائع: لو قطع الخيّاط قباء، فقال المالك: أمرتك بقطعه قميصا، فالقول قول المالك مع يمينه . و قيل: القول قول الخيّاط، و الأوّل أشبه. (1)

أقول: وجه كون القول قول المالك في إنكاره الأمر أو الإذن بقطعه قباء هو أصالة عدم الأمر أو الإذن بقطعه قباء، فيكون المالك منكرا في دعوى الخيّاط إن قطعه بأمر المالك أو إذنه، فعليه اليمين. و لا يستحقّ الخيّاط أجرة بل عليه أرش قيمة الثوب لو حصل فيه أرش.

و ليس له نقضه إن كانت الخيوط التي خاط بها القباء لمالك الثوب إلاّ بإذنه، و أمّا لو كانت الخيوط له فالظاهر أنّ له استخلاص ماله و جرّه من القباء، مع ضمانه للنقص الحاصل في الثوب من ناحية جرّ الخيوط، فالخيّاط ضامن لحصول كلا النقصين و للأرش الحاصل بسببهما في الثوب، أي النقص الحاصل بسبب الفصل و الخياطة، و النقص الحاصل بسبب النقض و جرّ الخيوط إن حصل نقص من ناحية الخياطة أو من ناحية النقض.

هذا بالنسبة إلى دعوى الخيّاط صدور الإذن أو الأمر من طرف المالك بقطعه

ص: 178


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 189.

قباء، و أمّا بالنسبة إلى دعوى المالك أمره أو إذنه بقطعه قميصا فلا أثر له، لأنّ الخيّاط لم يفعل شيئا و لم يعمل عملا كي يكون مستحقّا للأجرة، و الأمر بعمل مع عدم المأمور ذلك العمل لا يوجب حقّا للمأمور.

نعم لو كان النزاع في تعلّق عقد الإجارة بعد الاتّفاق على وقوعه بقطعه قباء كما يدّعيه الخيّاط، أو بقطعه قميصا كما يدّعيه المالك، فيكون لكلتا الدعويين أثر، و تكون المسألة من باب التداعي كما حكي عن الأردبيلي قدّس سرّه (1)، و ذلك لأنّ من يدّعي وقوع عقد الإجارة على قطعه قميصا-و هو المستأجر المالك للثوب-يدّعي كونه مالكا في ذمّة الأجير-أي الخيّاط-صنع الثوب قميصا بإزاء عوض معيّن، و الخيّاط ينكر ذلك، و قوله مطابق مع أصالة عدم ما يدّعيه المالك المستأجر، فيكون منكرا و عليه الحلف، و المالك مكلّف بإتيان البيّنة على ما يدّعيه.

و من يدّعي وقوع عقد الإجارة على قطعه قباء يدّعي أجرة خياطة القباء على المالك، و هو ينكر ذلك، و قوله مطابق للأصل، أي أصالة عدم اشتغال ذمّته للخيّاط بما يدّعيه من استحقاق الأجرة.

و أمّا أصالة عدم وقوع العقد على ما يدّعيه كلّ واحد منهما فيتساقطان بالمعارضة بعد الفراغ عن العلم إجمالا بوقوع أحدهما، و إلاّ فلا مانع من جريان كليهما.

و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

ص: 179


1- «مجمع الفائدة و البرهان» ج 10، ص 84 و 85.

ص: 180

62-قاعدة الدين مقضي

اشارة

ص: 181

ص: 182

قاعدة الدين مقضي و من جملة القواعد المشهورة في الفقه قاعدة «الدين مقضي» .

و فيها جهات من البحث:

الجهة الأولى: في مدرك القاعدة

و هو أمور:

الأوّل: الروايات الواردة في هذا الباب:

منها: الحديث الشريف النبوي، قال صلّى اللّٰه عليه و آله في خطبته عام حجّة الوداع: «العارية مؤدّاة، و الزعيم غارم، و الدين مقضي» (1).

و هذه الجمل الثلاث و إن كانت بصورة الجملة الخبريّة، لكنّها حيث هي واقعة في مقام إنشاء الحكم الشرعي تدلّ على الوجوب، و قد ثبت في الأصول أنّ الجمل الخبريّة الواقعة في مقام الإنشاء دلالتها على الوجوب آكد من الجمل الإنشائية كصيغ الأمر و النهي، فمعنى الحديث الشريف: أنّه يجب أداء العارية، و يجب أن يغرم

ص: 183


1- «سنن الترمذي» ج 3، ص 565، ح 1265، كتاب البيوع، باب (39) ما جاء في ان العارية مؤداة، «سنن أبي داود» ج 3، ص 296، ح 3565، باب (88) في تضمين العارية، «صحيح ابن ماجه» ج 2، ص 801، كتاب الصدقات، باب (5) العارية، «عوالي اللئالي» ج 3، ص 252، باب الوديعة، ح 8.

الزعيم-أي الكفيل و الضامن-ما ضمنه و كفله، و يجب أن يقضي المديون دينه.

و منها: الروايات الواردة عن طريق أهل بيت العصمة، كرواية عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنّان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كلّ ذنب يكفّره القتل في سبيل اللّٰه إلاّ الدين، لا كفّارة له إلاّ أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحقّ» (1).

و كرواية أبي ثمامة قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السّلام: إنّي أريد أن ألازم مكّة و المدينة و عليّ دين. فقال: «ارجع إلى مؤدّى دينك و انظر أنّ تلقى اللّٰه عزّ و جلّ و ليس عليك دين، فإنّ المؤمن لا يخون» (2).

و روى الصدوق في الفقيه بإسناده عن بشار، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أوّل قطرة من دم الشهيد كفّارة لذنوبه إلاّ الدين، فإنّ كفارته قضاؤه» (3).

و أيضا روى الصدوق في الفقيه بإسناده عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «أيّما رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا و في نيّته أنّ لا يؤدّيه، فذلك اللص العادي» (4).

و الأخبار بهذا المضمون كثيرة.

ص: 184


1- «الكافي» ج 5، ص 94، باب الدين، ح 6، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 184، ح 380، في الديون و أحكامها، ح 5، «علل الشرائع» ص 528، باب العلة التي من أجلها يكره الدّين، ح 4، «الخصال» ص 12، كل ذنب يكفّره القتل في سبيل اللّٰه عزّ و جلّ. ، ح 42، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 83، أبواب الدين و القرض، باب 4، ح 1.
2- «الكافي» ج 5، ص 94، باب الدّين، ح 9، «الفقيه» ج 3، ص 183، ح 3686، باب الدّين و القرض، ح 8، «علل الشرائع» ص 528، باب العلة التي من أجلها يكره الدّين، ح 7، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 184، ح 382، في الديون و أحكامها، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 83، أبواب الدّين و القرض، باب 4، ح 2.
3- «الفقيه» ج 3، ص 183، ح 3688، باب الدّين و القرض، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 85، أبواب الدّين و القرض، باب 4، ح 5.
4- «الفقيه» ج 3، ص 183، ح 3689، باب الدّين و القرض، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 86، أبواب الدّين و القرض، باب 5، ح 5.

الثاني: حكم العقل بأنّ من اشتغلت ذمّته بمال الغير يجب عليه تفريغ ذمّته عن عهدة ذلك المال.

الثالث: الإجماع، بل ينبغي أنّ يعدّ هذا من ضروريّات الدين، فلا يحتاج إلى ذكر الآيات و الأخبار على لزوم ذلك و أنّ المماطلة في أداء حقّ الناس حرام، حتّى ورد في حديث المناهي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه قال: «و من مطل على ذي حقّ حقّه و هو يقدر على أداء حقّه فعليه كلّ يوم خطيئة عشار» (1).

و حتى ورد عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه قال: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته و عرضه» (2).

الجهة الثانية: في المراد من هذه القاعدة

أقول: المراد منها و تفسيرها هو أنّ المراد بالدين هو مال أو حقّ في ذمّة المديون، و أسبابه كثيرة، منها: لو اشترى شيئا بمال كلّي في ذمّته أو استأجر بمال كذلك أو اقترض كذلك فيكون ذلك المال الكلّي الذي في ذمّته لغيره دينا، و ذلك الغير صاحب الدين أو صاحب الحقّ. و قد يقال للأوّل أي من عليه الحقّ «المديون» أو «المدين» بفتح الميم، و للثاني أي من له الحقّ أو صاحب الحقّ «الدائن» أو «المدين» بضم الميم.

و من أسباب ثبوت الدين على ذمّة الشخص القرض، و ذلك بأنه اقترض مالا من آخر بعوض واقعي، فيكون ذلك العوض مثلا كان أو قيمة في ذمّته و دينا عليه.

فالدين أي اشتغال الذمّة بمال كلّي للغير قد يحصل بالقرض، و قد يحصل

ص: 185


1- «الفقيه» ج 4، ص 16، ح 4968، مناهي النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 89، أبواب الدّين و القرض، باب 8، ح 2.
2- «أمالي الطوسي» ج 2، ص 134، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 90، أبواب الدّين و القرض، باب 8، ح 4.

بأسباب أخرى من أسباب الضمانات.

و قد صار بناء الفقهاء على ذكر الدين الحاصل بأسباب أخرى غير القرض في نفس باب المسبّب، كما أنّهم يذكرون الدين الحاصل للبائع في باب السلم في نفس ذلك الباب.

و المهمّ هاهنا الآن عندنا ذكر الدين و أحكامه، و ذكر القرض و أحكامه و شرائطه.

فهاهنا مقصدان:

المقصد الأوّل: في الدين المطلق بأي سبب كان

اشارة

قد عرفت أنّ الدين عبارة عن ثبوت حقّ أو مال كلّي في ذمّة الشخص بأحد أسباب الضمان، سواء كان ضمان المسمّى، أو الضمان الواقعي مثلا أو قيمة، كما هو مذكور تفصيلا في أبواب الضمانات و العقود المعاوضية.

و فروع الدين و أحكامه كثيرة، نذكر جملة منها:

الفرع الأوّل: هل يجوز بيع الدين بأقلّ منه نقدا أم لا ؟ مثلا لو كان له على شخص عشرة دنانير مؤجلا، أو وزنة من الحنطة كذلك، هل يجوز أنّ يبيعهما بأقلّ منهما نقدا و بلا أجل، فيبيع عشرة المؤجّلة بثمانية نقدا، و الوزنة بمقدار أقلّ منها نقدا أم لا؟

الظاهر عدم الإشكال إن لم يكن مستلزما للربا، بأنّ لا يكون من متّحدي الجنسين، أو لا يكون من المكيل و الموزون. و ذلك لأنّ الدين ملك لصاحب الدين في ذمّة المديون، فله أنّ يبيع بأيّ قيمة شاء ما لم يستلزم محرّما آخر كالربا

ص: 186

و أمثالها، أو لا يكون إعانة على الإثم على التفصيل المذكور في محلّه.

نعم هناك بعض الروايات وردت بأنّه لو اشترى الدين بالأقلّ فليس له مطالبة المديون بأكثر ممّا أعطى للدائن ثمنا، كرواية محمّد بن فضيل عن الرضا عليه السّلام قال:

قلت للرضا عليه السّلام: رجل اشترى دينا على رجل، ثمَّ ذهب إلى صاحب الدين فقال له:

ادفع إليّ ما لفلان عليك فقد اشتريته منه. قال: «يدفع إليه قيمة ما دفع الى صاحب الدين و برئ الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه» (1).

و أيضا محمّد بن الفضيل عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل كان له على رجل دين، فجاءه رجل فاشتراه منه بعوض، ثمَّ انطلق إلى الذي عليه الدين فقال: أعطني ما لفلان عليك فإنّي قد اشتريته منه، كيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام: «يرد الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين» (2).

و الروايتان ضعيفتان في حدّ أنفسهما، مع أنّ الأصحاب أيضا لم يعملوا بهما كي يكون جابرا لضعفهما، فيطرحان أو يؤوّلان بحيث لا يكونان مخالفين للقواعد المقرّرة في الفقه.

و إلاّ فمقتضى القواعد أنّ المشتري عن صاحب الدين يملك الدين بمحض وقوع البيع صحيحا و جامعا للشرائط، و الناس مسلّطون على أموالهم، فلا يبقى وجه لعدم نفوذ البيع.

فما ذهب إليه الشيخ و ابن البرّاج (3)-من أنّ صاحب الدين إذا باعه بأقلّ منه لم

ص: 187


1- «الكافي» ج 5، ص 100، باب بيع الدّين، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 191، ح 410، في الديون و أحكامها، ح 35، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 100، أبواب الدين و القرض، باب 15، ح 3.
2- «الكافي» ج 5، ص 100، باب بيع الدّين، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 189، ح 401، في الديون و أحكامها، ح 26، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 99، أبواب الدّين و القرض، باب 15، ح 2.
3- الشيخ في «النهاية» ص 311. و قول ابن البرّاج لم نعثر عليه في كتبه، و حكاه عنه العلاّمة في «مختلف الشيعة» ج 5، ص 389، الديون، مسألة:6.

يلزم المديون أن يدفع إلى المشتري أكثر ممّا بذله-لا وجه له، فالأقوى مع صحّة البيع و سلامته من الربا و عدم الإخلال بسائر شرائطه لزوم دفع جميع الدين، لأنّه بالشراء صار ملكا له.

و مضافا إلى أنّ رواية أبي حمزة لا ظهور لها في عدم تساوي الثمن الذي يعطيه المشتري لصاحب الدين مع الدين، لأنّه يقول فيها «فاشتراه منه بعرض» و من الممكن أن يكون العروض الذي اشترى به الدين مساويا معه في القيمة أو يكون أزيد.

فرع: يجوز للمسلم أن يستوفي دينه من الذمّي من ثمن ما لا يصحّ تملّكه للمسلم كالخمر و الخنزير، و ذلك لأنّ الشارع أقرّهم على معاملاتهم بينهم في أمثال هذه الأشياء، و حكم بصحّة تلك المعاملات ظاهرا، فيكون ثمن تلك الأشياء التي أسقط الشارع ماليّتها ملكا ظاهريّا لهم، و حكم بترتيب آثار الملكيّة لهم على أثمان هذه الأمور.

و هذا الحكم إجماعي لا خلاف فيه، و لا ينافيه تكليف الكفّار بالفروع، لأنّ هذا حكم ظاهري مثل ترتيب آثار الطهارة على المشكوك و إن كان نجسا واقعا، و عدم رفع اليد عن نجاسته الواقعيّة.

و قد وردت على صحّة أخذ ثمن هذه الأمور من الذمّي استيفاء لدينه روايات:

منها: ما رواه داود بن سرحان قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل كانت له على رجل دراهم، فباع خنازير و خمرا و هو ينظر فقضاه. قال عليه السّلام: «لا بأس، أمّا للمقضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام» (1).

ص: 188


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 195، ح 429، في الديون و أحكامها، ح 54، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 116، أبواب الدّين و القرض، باب 28، ح 1.

و منها: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يكون لي عليه الدراهم، فيبيع بها خمرا أو خنزيرا، ثمَّ يقضيني منها، فقال: «لا بأس» أو قال: «خذها» (1).

و منها: خبر الخثعمي قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يكون لنا عليه الدين، فيبيع الخمر و الخنازير فيقضيانه. فقال: «لا بأس به، ليس عليك من ذلك شيء» (2).

و منها: خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يكون له على الرجل مال، فيبيع بين يديه خمرا أو خنازير يأخذ ثمنه. قال عليه السّلام: «لا بأس» (3).

ثمَّ إنّ هذه الأخبار و إن كانت مطلقة من حيث البائع، و لم يقيّد فيها البائع بكونه ذمّيا، لكنّها تنصرف إلى ذلك و لها ظهور عرفي في أنّ البائع من غير المسلمين، لأنّ بيع الخمر و الخنزير حيث أنّه حرام عندهم فلا يبيعونهما على رؤوس الأشهاد، خصوصا الخنزير ليس بيعه من عادات المسلمين، فلا بدّ من كون المراد من البائع في هذه الروايات تقييدا و انصرافا هو الذمي، لأنّ المسلم لا يرى نفسه مالكا لثمن الخمر و الخنزير، و يعلم بعدم فراغ ذمّته بذلك الثمن، و تبقى مشغولة بذلك الدين، فلا يقدم حسب دينه و شريعته على مثل هذا الأمر، أي الأداء مع كونه لغوا لا أثر له و لا فائدة فيه.

فما ذكره الشيخ في المبسوط (4)و ابن إدريس في السرائر (5)، و المحقّق في

ص: 189


1- «الكافي» ج 5، ص 232، باب بيع العصير و الخمر، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 171، أبواب ما يكتسب به، باب 60، ح 3.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 137، ح 607، باب الغرر و المجازفة و شراء السرقة. ، ح 78، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 171، أبواب ما يكتسب به، باب 60، ح 4.
3- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 137، ح 607، باب الغرر و المجازفة و شراء السرقة. ، ح 79، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 172، ح 22410، أبواب ما يكتسب به، باب 60، ح 5.
4- «المبسوط» ج 2، ص 223.
5- «السرائر» ج 2، ص 43، و كذلك، ج 2، ص 329، في الأمور التي يجوز بيعها.

الشرائع، (1)و العلاّمة في التذكرة و القواعد و التحرير و المختلف (2)من تقييد البائع بكونه ذميّا و إلاّ لو كان مسلما فلا يجوز للمسلم الدائن أخذه و لا يحصل الأداء، هو الصحيح.

و إشكال المحقّق السبزواري في الكفاية (3)بأنّ مقتضى إطلاق هذه الروايات عدم الفرق بين كون البائع مسلما أو ذمّيا أو غيرهما، لا يخلو من نظر بل عن إشكال.

و أمّا الاستشهاد لكون المراد من البائع هو خصوص الذمّي-كما يظهر من صاحب الجواهر (4)-بتقييده بذلك في السؤال في رواية منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: لي على رجل ذمّي دراهم، فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر فيحلّ لي أخذها؟ فقال: «إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك» (5)، غير وجيه، لأنّ كون السؤال عن مورد خاصّ في بعض الأحيان لا يضرّ بإطلاق المطلق، و لا يوجب صرفه إلى ذلك المورد، و إلى هذا ينظر قولهم «العبرة بعموم الجواب لا بخصوصية المورد» . و هذا واضح جدّا.

فرع: الدين لا يصير ملكا للدائن بتعيين المديون فقط ، بل لا بدّ من قبض الدائن، و ذلك لأنّ ما في ذمّة المديون كلّي، و الخصوصيّات الفرديّة باقية على ملك المديون، و لا تخرج عن ملكه إلاّ بإعطاء الفرد بعنوان الوفاء مع قبض الدائن، فيصير ذلك الفرد بأجمعه من الطبيعة الكلّية مع الخصوصيّة المنضمّة إليها ملكا للدائن، و إلاّ

ص: 190


1- «الشرائع» ج 2، ص 69.
2- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 4، «قواعد الفقهاء» ج 1، ص 156، «تحرير الأحكام» ج 1، ص 200، «مختلف الشيعة» ج 5، ص 278، المتاجر، بيع الغرر و المجازفة، مسألة:248.
3- «كفاية الأحكام» ص 104، كتاب الدّين، في الأحكام المتعلقة بالدّين، المسألة الثانية.
4- «جواهر الكلام» ج 25، ص 51.
5- «الكافي» ج 5، ص 232، باب بيع العصير و الخمر، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 171، أبواب ما يكتسب به، باب 60، ح 1.

لا يكون وفاء، فبعد القبض تتحقّق الملكيّة و يترتّب على هذا آثار:

منها: أنّه لو وقع التلف على ذلك الفرد الذي عيّنه المديون للوفاء قبل أن يقبضه الدائن يكون من مال المديون.

و منها: أنّه لا تصحّ للدائن المضاربة معه قبل أن يقبض، لأنّه ليس ملكه بل ملكه كلّي في ذمّة المديون. و لا ينطبق على هذا الفرد الخارجي إلاّ بعد إعطاء المديون له بعنوان الوفاء و قبض الدائن. و أيضا لما رواه الإمام الباقر عليه السّلام عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل يكون له مال على رجل يتقاضاه، فلا يكون عنده ما يقضيه فيقول له: هو عندك مضاربة، فقال عليه السّلام: «لا يصلح حتّى يقبضه منه» (1).

و بناء على هذا تكون مضاربة فاسدة، فلو اتّجر به المديون المالك و ربح يكون تمام الربح له، لأنّه ماله و العمل أيضا له، فليس للدائن حقّ في هذا الربح لكونه أجنبيّا عن هذا المال.

و هذا العمل و لو كان العامل غير المديون، بل كان شخصا عيّنه الدائن للعمل، فجميع الربح للدائن و عليه أجرة العامل لكون العامل وكيلا في القبض عن طرف الدائن، فبقبضه يصير ملكا للدائن. و حيث أنّه مأذون في التجارة به من طرف الدائن فيستحقّ الأجرة على عمله و إن كانت المضاربة فاسدة، لوقوعها على ما لم يكن ملك المضارب، و إنّما صار ملكا له بعد وقوع المضاربة حال الاشتغال بالعمل، لأنّه في تلك الحالة تحقّق القبض الذي هو شرط في حصول الملك.

فرع: الدين إمّا حالّ أو مؤجّل.

ص: 191


1- «الكافي» ج 5، ص 240، باب ضمان المضاربة و ماله من الربح و ما عليه من الوضعية، ح 4، و فيه: عن الصادق عليه السّلام، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 195، ح 428، في الديون و أحكامها، ح 53، و كذلك ج 7، ص 192، ح 848، في الشركة و المضاربة، ح 34، و فيه: عن الصادق عليه السّلام عن أبيه، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 178، في أحكام المضاربة، باب 5، ح 1، و فيه: عن الصادق عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

و المراد من الأوّل: هو أن لا يكون وجوب أدائه موقّتا بوقت، بل بمقتضى اشتغال ذمّته للدائن من غير تقييد في أدائه بوقت معيّن يجب عليه الأداء في أيّ وقت طولب إن كان موسرا، فللدائن حقّ المطالبة في أيّ وقت شاء إن كان موسرا.

و المراد من الثاني: أن يكون وجوب أدائه موقّتا بوقت خاصّ معيّن، بحيث لو طالب الدائن قبل ذلك الوقت لا يجب على المديون إجابته و إن كان موسرا.

و ما ذكرنا في بيان القسمين كان من توضيح الواضحات، لوضوح المفهومين عند العرف و عدم خفاء فيهما.

و العمدة في المقام هو أنّ الدين الحالّ أو المؤجّل الذي حلّ أجله إذا كان المديون بصدد أدائه ليس للدائن الامتناع عن أخذه و قبوله.

و الوجه واضح، لأنّ اشتغال ذمّته لغيره ثقل عليه بل ذلّ له، فله حقّ تفريغها، كما أنّ لذلك الآخر حقّ تحصيل ماله، فليس للمديون حقّ الامتناع إن طولب الأداء، و لا للدائن حقّ الردّ و عدم القبول إن كان موسرا و صار بصدد الأداء.

و إن ردّ و لم يقبل يجبره الحاكم على القبول، و إن لم يقدر الحاكم على ذلك أحضره الحاكم عنده و مكّنه منه تفرغ ذمّته. و لو تلف بعد ذلك لا يضمنه المديون لصدق الأداء على ما فعل، و لم يوجد الحاكم يعزله عن ماله و يضعه عند أمين إلى أن يقبل أو عدول المؤمنين، و إن تلف بعد ذلك لا ضمان على أحد.

نعم في الدين المؤجّل إن صار المديون بصدد الأداء، فلا بأس بالقول بعدم إيجاب القبول، خصوصا إذا كان لعدم القبول مصلحة له.

فرع: لا تصحّ قسمة الدين ، فلو اقتسما ما في الذمم فتلف قسمة أحدهما أو بعضها و استوفى الآخر، فالمستوفي لكليهما و التالف منهما.

ص: 192

و مرجع هذا الكلام إلى أنّ الشركة بينهما ثابتة و باقية إلى زمان قبض الدين، و حصوله في يد الدائن أو وكيله، فلو لم يحصل و لم يمكن استيفاؤه، فالخسارة عليهما.

و هذا الحكم مقتضى القواعد الأوّلية بناء على عدم تأثير القسمة قبل حصول الدين في يد الشريكين، أو يد من هو بمنزلتهما، كوليّهما أو وكيلهما.

و تدلّ عليه روايات:

منها: الصحيح عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجلين كان لهما مال بأيديهما و منه متفرق عنهما، فاقتسما بالسويّة ما كان في أيديهما و ما كان غائبا عنهما، فهلك نصيب أحدهما ممّا كان غائبا و استوفى الآخر عليه أن يردّ على صاحبه؟ قال: «نعم ما يذهب بماله» (1).

و منها: ما في التهذيب، موثّقة عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن رجلين بينهما مال، منه دين و منه عين، فاقتسما العين و الدين، فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه، و خرج الذي للآخر أ يردّ على صاحبه؟ قال: «نعم ما يذهب بماله» (2).

و منها: ما في التهذيب عن أبي حمزة قال: سئل أبو جعفر عليه السّلام عن رجلين بينهما مال، منه بأيديهما و منه غائب عنهما، فاقتسما الذي بأيديهما، و أحال كلّ واحد منهما من نصيبه الغائب، فاقتضى أحدهما و لم يقتض الآخر؟ قال: «ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ما يذهب بماله» (3).

ص: 193


1- «الفقيه» ج 3، ص 35، ح 3275، باب الصلح، ح 9، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 207، ح 477، باب الصلح بين النار، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 116، أبواب الدّين و القرض، باب 29، ح 1.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 186، ح 821، باب الشركة و المضاربة، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 180، في أحكام الشركة، باب 6، ح 2.
3- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 185، ح 818، باب الشركة و المضاربة، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 179، في أحكام الشركة، باب 6، ح 1.

و منها: ما في الفقيه و التهذيب عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليهم السّلام في رجلين بينهما مال منه بأيديهما، و منه غائب عنهما، فاقتسما الذي بأيديهما و احتال كلّ واحد منهما بنصيبه، فقبض أحدهما و لم يقبض الآخر، فقال: «ما قبض أحدهما فهو بينهما و ما ذهب فهو بينهما» (1).

و لا ريب في أنّ مفاد هذه الروايات هو أنّ تقسيم الدين قبل الحصول في أيد الدائنين لا أثر له، بل كلّ قطعة من قطعات الدين بعد حصولها في يد الدائنين يصير ملكا مشتركا بينهم، فحينئذ إذا اقتسموا يختص كلّ واحد منهم بنصيبه و حصّته.

و هذا هو المشهور بين الأصحاب، و ذهب إليه الشيخ في النهاية و الخلاف (2)و المبسوط (3)، و الجواهر للقاضي (4)، و الوسيلة لابن حمزة (5)، و الغنية لابن زهرة (6)، و السرائر لابن إدريس (7)، و التنقيح للفاضل المقداد (8)، و عن مفتاح الكرامة: و هو ظاهر أكثر الباقين (9). و أيضا حكى عن جامع الشرائع (10)و الشرائع (11)و النافع (12)و التذكرة (13)في

ص: 194


1- «الفقيه» ج 3، ص 97، ح 3406، باب الحوالة، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 212، ح 500، في الحوالات، ح 5، و ج 6، ص 195، ح 430، في الديون و أحكامها، ح 55، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 159، كتاب الضمان، باب 13، ح 1.
2- «النهاية» ص 308، «الخلاف» ج 3، ص 336، كتاب الشركة، مسألة:15.
3- «النهاية» ص 308، «الخلاف» ج 3، ص 336، كتاب الشركة، مسألة 15، «المبسوط» ج 2، ص 358، كتاب الشركة.
4- «جواهر الفقه» ص 73، باب مسائل تتعلق بالشركة، مسألة:275.
5- «الوسيلة» ص 263.
6- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 534.
7- «السرائر» ج 2، ص 402.
8- «التنقيح الرائع» ج 2، ص 158.
9- «مفتاح الكرامة» ج 5، ص 24.
10- . «الجامع للشرائع» ص 285.
11- . «شرائع الإسلام» ج 2، ص 69.
12- . المختصر النافع» ص 136.
13- . «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 4، و ج 2، ص 225، في أحكام الشركة.

موضعين، و الإرشاد (1)و الدروس (2)و اللمعة (3)و حواشي الكتاب، و حكاه في المختلف عن أبي علي و أبي الصلاح التقي (4)، و في إيضاح النافع: أنّه أظهر (5)، و في الغنية:

الإجماع عليه (6)، و في الكفاية: إنّ المعروف بين الأصحاب أنّه لا تصحّ قسمة الدين (7)، و في الروضة (8)و مجمع البرهان (9)و في الرياض (10): تارة: أنّه الأشهر، و أخرى: أنّ الشهرة عظيمة.

و الإنصاف أنّ ما ذكره في الرياض أنّ الشهرة عظيمة صحيح لا شكّ فيه، مضافا إلى ما ذكرنا من عدم صحّة التقسيم إلاّ بعد حصول الملكيّة أو بعد تعيّنها، و لا شكّ في عدم حصول ملكيّة هذا الفرد الخارجي إلاّ بعد القبض، فقبل القبض لا أثر للتقسيم. و لذلك كان في الروايات أنّ التلف بينهما و ما استوفى أحدهما يردّ حصّة الآخر إليه، و ما يذهب بماله-أي أيّ شيء يذهب بماله-لأنّ التقسيم قبل القبض لا أثر له (11).

و ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ كلام الأردبيلي قدّس سرّه و إشكاله على هذا الحكم بأنّ الشهرة غير حجّة، و ليس في الروايات ما يدلّ عليه إلاّ رواية غياث و هي ليست بمعتبرة (12)، ليس بوجيه، لأنّه أوّ: ليست الرواية في هذا الموضوع منحصرا برواية

ص: 195


1- «إرشاد الأذهان» ج 1، ص 390.
2- «الدروس» ج 3، ص 134.
3- «اللمعة الدمشقية» ص 134 و 135.
4- «مختلف الشيعة» ج 6، ص 199، في الشركة، مسألة:147.
5- «إيضاح النافع» حكاه عنه «مفتاح الكرامة» ج 5، ص 24.
6- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 534.
7- «كفاية الأحكام» ص 104، أحكام الدّين، المسألة الثالثة.
8- «الروضة البهيّة» ج 4، ص 18 و 19.
9- «مجمع البرهان» ج 9، ص 92 و 93.
10- . «رياض المسائل» ج 1، ص 580.
11- . تقدم ص 193، هامش 2 و 3.
12- . «مجمع البرهان» ج 9، ص 93.

غياث كما عرفت، و ثانيا: الحكم ليس على خلاف القاعدة كما بيّنّاه و عرفت، و ثالثا:

على فرض كون ضعف في سند الرواية ينجبر بهذه الشهرة العظيمة التي انعقدت على العمل بها.

فالأظهر كما ذهب إليه المشهور عدم صحّة تقسيم الدين قبل حصوله في يد الشريكين، فما استوفى أحدهما كان بينهما و ما تلف عليهما و كان منهما.

و قال في المسالك: الحيلة في تصحيح ذلك أن يحيل كلّ منهما صاحبه بحصّته التي يريد اعطاءها صاحبه و يقبل الآخر بناء على صحّة الحوالة ممّن ليس في ذمّته دين، و لو فرض سبق دين له فلا إشكال في الصحّة، و لو اصطلحا على ما في الذمم بعضها ببعض فقد قرب في الدروس صحّته، و هو حسن. انتهى ما في المسالك (1).

و ما ذكره في اختصاص ما استوفى كلّ واحد منهما بنفسه احتيال جيّد، و إن لم يكن له دخل فيما هو محلّ البحث، أيّ صحّة تقسيم الدين.

فرع: الدين المؤجّل بعد حلول أجله يجوز بيعه على من هو عليه و على غيره، لأنّه ملك للدائن قابل للنقل بعوض، سواء كان المنقول إليه هو نفس المديون أو غيره.

نعم يشترط في صحّة بيع الدين أنّ لا يكون الثمن دينارا، و إلاّ فباطل من جهة نهيه صلّى اللّٰه عليه و آله عن بيع الدين بالدين. روى في فروع الكافي و التهذيب عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا يباع الدين بالدين» (2).

و أيضا يشترط أن لا يكون المبيع دينا مؤجّلا و الثمن أيضا كذلك، فإنّه يكون

ص: 196


1- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 177. حكى عن الدروس، «الدروس» ج 3، ص 314.
2- «الكافي» ج 5، ص 100، باب بيع الدّين، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 189، ح 400، في الديون و أحكامها، ح 25، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 99، أبواب الدّين و القرض، باب 15، ح 1.

من بيع الكالي بالكالي الباطل.

و أمّا لو كان الدين حالاّ، أو كان الثمن نقدا فلا إشكال فيه، و ما ذهب إليه ابن إدريس (1)من بطلان بيع الدين مطلقا على غير من هو عليه لا دليل عليه.

و خلاصة الكلام: أنّ بيع الدين على من هو عليه، أو على غير من هو عليه في حدّ نفسه لا إشكال فيه، إلاّ أن يستلزم البطلان من جهة أخرى، مثل أن يصير ربويّا، أو يكون من قبيل الكالي بالكالي المنهيّان، أو يكون من بيع الدين بالدين الذي نهى عنه رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، و إلاّ بحسب القواعد لا مانع منه.

هذا كلّه في الدين الحالّ الذي حلّ أجله، أو لم يكن مؤجّلا من الأصل، و أمّا المؤجّل الذي لم يحلّ أجله ففيه قولان، و الظاهر فيه الجواز، لعدم مانع في البين.

نعم لا يجوز للمشتري مطالبته قبل حلول أجله، لأنّ المفروض أنّه اشترى المؤجّل فلا يملكه إلاّ مؤجّلا. و حال المشتري بعد الشراء يصير حال البائع، فكما أنّ البائع لم يكن له المطالبة قبل حلول الأجل، فكذلك المشتري الذي تلقّى الملك منه.

نعم لو اشترى المشتري نسيئة يأتي إشكال الكالي بالكالي، و لو اشترى بالدين يأتي إشكال بيع الدين بالدين، أي نهي رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عنه.

و أمّا لو اشترى بالثمن النقد فلا إشكال فيه أصلا.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ ظاهر قوله «إنّه لا يجوز بيع الدين بالدين» (2)، هو أن يكون كلاهما-أي الثمن و المثمن-مؤجّلين، و إلاّ لو كان أحدهما أو كلاهما حالّين فلا يشمله الحديث الشريف. هكذا قال بعضهم، و لكنّه لا يخلو من نظر بل من إشكال.

ص: 197


1- «السرائر» ج 2، ص 38.
2- «الكافي» ج 5، ص 100، باب بيع الدين بالدين، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 189، ح 400، في الديون و أحكامها، ح 25، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 99، أبواب الدين و القرض، باب 15، ح 1.

فرع: قال في التذكرة: لو استدانت الزوجة النفقة الواجبة وجب على الزوج دفع عوضه ، لأنّه في الحقيقة دين عليه (1)، فإذا كانت النفقة دينا عليه فكأنّه هو بنفسه استدان، فيجب عليه أداء دينه.

أمّا كونه دينا عليه فمن جهة أنّ نفقة الزوجة ليس من قبيل نفقة الأقارب كي يكون حكما تكليفيّا فقط، فإذا عصى و لم يعط أو صار القريب الواجب النفقة ضيفا لا يبقى ذمّته مشغولة له بمقدار نفقته، بخلاف الزوجة فإنّها تملك على عهدة الزوج مقدار نفقتها صرفت أو لم تصرف.

هذا، مضافا إلى ما رواه السكوني عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: قال عليّ عليه السّلام:

«المرأة تستدين على زوجها و هو غائب، فقال: يقضي عنها ما استدانت بالمعروف» (2).

فرع: و يجب الغرم على قضاء الدين ، و يدلّ عليه النصّ و الإجماع:

أمّا النصّ فلقوله عليه السّلام في رواية عبد الغفّار الجازي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

سألته عن رجل مات و عليه دين؟ قال: «إن كان أتى على يديه من غير فساد له يؤاخذه اللّٰه إذا علم من نيّته إلاّ من كان لا يريد أن يؤدّي عن أمانته فهو بمنزلة السارق» (3).

و لما رواه ابن فضّال عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «من استدان

ص: 198


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 3.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 194، ح 426، في الديون و أحكامها، ح 51.
3- «الكافي» ج 5، ص 99، باب الرجل يأخذ الدّين و هو لا ينوي قضاءه، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 191، ح 411، في الديون و أحكامها، ح 36، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 85، أبواب الدّين و القرض، باب 5، ح 1.

دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق» (1).

و لما رواه أبو خديجة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «أيّما رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا و في نيّته أن لا يؤدّيه فذلك اللص العادي» (2).

و أمّا الإجماع فلم يخالف أحد فيه، بل حكي عن المسالك أنّ ذلك من أحكام الإيمان (3).

فرع: المعسر-أي الذي لا يتمكّن من أداء الدين إلاّ ببيع حوائجه الضروريّة، من مسكنه و ملبسه و سائر حوائجه التي يحتاج إليها في معيشته، و بعبارة أخرى التي هي من مستثنيات الدين-لا يحلّ مطالبته و لا حبسه، و يجوز له إنكار الدين بل الحلف على العدم إن خشي الحبس مع الاعتراف، و لكن يجب عليه أن يوري و ينوي القضاء مع المكنة.

و هذه الأمور التي ذكرناها إجماعية، مضافا إلى ورود روايات في بعضها.

أمّا وجوب التورية فللاحتراز عن الكذب المحرّم.

أمّا جواز الحلف على العدم فهو لدفع الضرر عن نفسه، و قد أجيز في الشرع ما هو أعظم من الحلف الكاذب لدفع الضرر، خصوصا إذا كان مع التورية، فإنّه حينئذ ليس بكاذب، غاية الأمر أنّه أخفى الواقع الذي أراد. و هذا ليس فيه كثير مفسدة إذا كان لمصلحة.

ص: 199


1- «الكافي» ج 5، ص 99، باب الرجل يأخذ الدّين و هو لا ينوي قضاءه، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 86، أبواب الدّين و القرض، باب 5، ح 2.
2- «الفقيه» ج 3، ص 183، ح 3689، كتاب المعيشة، الدّين و القرض، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 86، أبواب الدّين و القرض، باب 5، ح 5.
3- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 177.

فرع: و يجب على المديون السعي في أداء دينه إنّ كان حالاّ، أو بعد حلوله إن كان مؤجّلا و طولب.

و الوجه واضح، لأنّ ذمّته مشغولة بحقّ الغير فيجب عليه تفريغ ذمّته و أداء حقّ الغير عقلا و شرعا.

و إذا توقّف الأداء على التكسّب اللائق بحاله يجب عليه، كما صرّح به جمع من أعاظم الفقهاء، و يظهر أيضا من كلام بعض آخر. و أنكر وجوب التكسّب بعض آخر كما حكي عن الإرشاد (1)و غاية المرام (2)و الكفاية (3)، و لكن الظاهر وجوبه لمن شغله التكسّب. و ليس فيه تكلّف كثير، خصوصا إذا كان من أرباب الصنائع و عليه دين و كبر و يعطي مصارفه ابنه مثلا، فترك الاشتغال بتلك الصنعة لكبره و عدم احتياجه، فمثل هذا الشخص يجب عليه الاشتغال لأداء دينه.

و أمّا لو كان عالما و فقيها ذا شرف و وجاهة عند الناس، و ركب عليه الدين للاحتياج في مصارف عياله، فالقول بوجوب كسبه و لو لم يكن غير لائق بحاله- مثل أن يشتغل بصيرورته أجيرا في أداء العبادات عن الميّت مثلا كالصلاة و الصوم و الحجّ و غيرها-لا يخلو من نظر و تأمّل، لأنّه مأمور بأداء دينه إن لم يكن معسرا و قادرا و ليس مأمورا بإيجاد القدرة و تحصيلها و جعل نفسه موسرا، إلاّ أن يكون التكسّب له من الطرق العقلائيّة المتعارفة لأداء ديونه، فحينئذ الدليل على وجوب السعي في قضاء الدين يكون دليلا على تكسّبه.

و القدر المتيقّن لمورد وجوب التكسّب لمن ليس مشغولا به فعلا هو الذي كان

ص: 200


1- «إرشاد الأذهان» ج 1، ص 400.
2- «حكى قول «غاية المرام» في «مفتاح الكرامة» ج 5، ص 6.
3- «كفاية الأحكام» ص 111.

كاسبا و ترك الكسب لكبر أو لضعف و لكن ليس عاجزا عنه، بل تركه لأجل تحمّل الغير مصارفه و عدم احتياجه إلى الشغل.

و على كلّ حال يجب على المديون عند حلول الدين و مطالبة الدائن السعي في أداء دينه بكلّ وسيلة يمكنه و قادر عليها، ما لم يصل إلى حدّ العسر و التكلّف الكثير، و ما لم يصل إلى وقوعه في شدّة و حزازة و منقصة.

و من هاهنا استثنى الفقهاء عن لزوم بيع ما عنده من الأمتعة و الأراضي و العقار و كلّ شيء يمكن بيعه أداء دينه أشياء سمّوها بمستثنيات الدين، كالدار التي يسكنها، أو الملابس التي يلبسها، و غير ذلك ممّا هو من هذا القبيل.

و في خصوص الدار التي يسكنها وردت روايات تدلّ على أنّها لا تباع للدين، و لكن يظهر من التعليمات الواردة فيها أنّ عدم جواز بيعها ليس لخصوصيّة فيها، بل من جهة أنّه لا يبقى بلا مأوى و أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش بغير مأوى، و لذا عبّر عليه السّلام عن الدار بظلّ رأسه، و كرّر هذا القول «أعيذك باللّه أن تخرجه من ظلّ رأسه» (1)، فالمقصود من هذه الروايات أن لا يضيق الدائن على المديون بحيث يقع في شدّة أو حزازة أو ذلة و منقصة.

و بناء على هذا لا اختصاص في المستثنيات بالدار التي يسكن فيها، و الجارية التي تخدمه، و الدابّة التي يركبها، بل يشمل جميع ما يحتاج إليها في معيشته من الألبسة الشتويّة في الشتاء، و الصيفية في الصيف، و آلات الطبخ و أدواته، و الظروف التي يحتاج إليها، و الأغطية و الفرش و البسط و أدوات الشاي كالقوري و الاستكان و النعلبكي و الكتلي أو السماور لنفسه أو لأضيافه، بل الكتب العلميّة اللائقة بحاله أو اللازمة لتدريسه أو لقراءته في طلب العلم، خصوصا الكتب الدينيّة ككتب الفقه

ص: 201


1- «الكافي» ج 5، ص 97، باب قضاء الدّين، ح 8، و ج 5، ص 237، باب الرهن، ح 21، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 187، ح 390، في الديون و أحكامها، ح 15، و ج 7، ص 170، ح 754، في الرهون، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 94 و 95، أبواب الدّين و القرض، باب 11، ح 3 و 4.

و الحديث و التفاسير، و ككتب الكلام التي صنفت للجواب عن شبهات المستشكلين و للهداية و الإرشاد إلى طريق الصواب و الحقّ.

فبناء على هذا لو كان عنده بقدر احتياجه من الكتب الوقفيّة التي هو من الموقوف عليهم، و عنده من الكتب القيمة التي ملكها، لا بأس بأن يقال: يجب عليه بيع ما يملك منها و رفع احتياجه بالكتب الموقوفة، و كذلك الأمر في دار سكناه لو كان له دار وقف يمكن أن يسكن فيها بلا مزاحمة أحد له، فيجب عليه أن يبيع ما هو ملك له و يؤدّي به دينه، فإذا راجعت الأخبار ترى أنّه عليه السّلام بصدد بيان عدم جواز التضيّق و التشديد على المديون.

و أمّا الروايات الواردة:

فمنها: ما في الكافي و العلل و التهذيب و الاستبصار عن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «لا تباع الدار و لا الجارية في الدين، ذلك أنّه لا بدّ للرجل من ظلّ يسكنه، و خادم يخدمه» (1).

و منها: ما في الكافي و الفقيه و التهذيب عن بريد العجلي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ عليّ دينا-و أظنّه قال: لأيتام-و أخاف إن بعت ضيعتي بقيت و ما لي شيء؟ فقال: «لا تبع ضيعتك و لكن أعطه بعضا و أمسك بعضا» (2).

و منها: ما في الكافي و التهذيب و الاستبصار عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن عثمان بن زياد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ لي على رجل دينا، و قد أراد أن يبيع

ص: 202


1- «الكافي» ج 5، ص 96، باب قضاء الدّين، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 186، ح 387، في الديون و أحكامها، ح 12، «الاستبصار» ج 3، ص 6، ح 12، كتاب الديون، باب انه لا تباع الدار و لا الجارية في الدين، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 94، أبواب الدّين و القرض، باب 11، ح 1.
2- «الكافي» ج 5، ص 96، باب قضاء الدين، ح 4، «الفقيه» ج 3، ص 184، ح 3693، الدين و القرض، ح 15، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 186، ح 388، في الديون و أحكامها، ح 13، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 94، أبواب الدين و القرض باب 11، ح 2.

داره فيقضيني قال: فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «أعيذك باللّه أن تخرجه من ظلّ رأسه» (1).

و منها: ما في الكافي و التهذيب عن إبراهيم بن عثمان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

قلت رجل لي عليه دراهم و كانت داره رهنا فأردت أن أبيعها؟ قال: «أعيذك باللّه أن تخرجه من ظلّ رأسه» (2).

و منها: ما في الفقيه و التهذيب عن محمّد بن أبي عمير، قال حدّثني ذريح المحاربي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين أرفعها، فلا حاجة لي فيها و إنّي لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم و ما يدخل ملكي منها درهم واحد» (3).

و غيرها من الروايات المعتبرة.

فقوله عليه السّلام في رواية الحلبي: «لا تباع الدار و لا الجارية للدين، ذلك أنّه لا بدّ للرجل من ظلّ يسكنه و خادم يخدمه» بيان أنّ ما يحتاجه في معيشته لا يباع في الدين.

و هذا التعليل عامّ ليس منحصرا بالدار و الخادم، بل الاحتياج إلى كثير من الأشياء أزيد و أشدّ من الاحتياج إلى الخادم، فإنّ الإنسان يمكن أن يخدم نفسه، أو تخدمه زوجته، أو أحد أقربائه و لكن بدون الكتاب لا يمكن أن يستنبط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

ص: 203


1- «الكافي» ج 5، ص 97، باب قضاء الدّين، ح 8، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 187، ح 390، في الديون و أحكامها، ح 15، «الاستبصار» ج 3، ص 6، ح 13، كتاب الديون، باب أنّه لا تباع الدار و لا الجارية في الدين، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 94، أبواب الدين و القرض، باب 11، ح 3.
2- «الكافي» ج 5، ص 237، باب الرهن، ح 21، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 170، ح 754، في الرهون، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 95، أبواب الدين و القرض، باب 11، ح 4.
3- «الفقيه» ج 3، ص 190، ح 3715، الدين و القرض، ح 37، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 198، ح 441، في الديون و أحكامها، ح 66، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 95، أبواب الدين و القرض، باب 11، ح 5.

نعم لوازم الحياة و المعيشة لها درجات متفاوتة، و المستثنى منها ما هو لائق و مناسب لحال هذا الشخص في حال إفلاسه لا في حال ثرائه، و ذلك لأنّ المناسب و اللائق بحاله بحسب الحوادث الواردة عليه و الأحوال الطارئة له تختلف جدّا، فالشخص الواحد في حال ثرائه و سعة غنائه يختلف مع نفسه في حال إفلاسه من حيث سعة الدار و ضيقها، و من حيث أمتعة الدار و فرشه و وسائله و بسطه و ظروفه و أكله و شربه و ألبسته و ألبسه أهله و خدّامه و مركوبه و كتبه العلميّة و قرآنه و كتب أدعيته و أغطيته و آلات طبخه و حمّامه.

و خلاصة الكلام: أنّ التاجر الذي يقدّر ثروته بالملايين أو البلايين في حال الثروة و الرخاء، له شأن من جميع هذه الجهات التي ذكرناها ليس له ذلك الشأن في حال انكساره و إفلاسه، فلا بدّ من مراعاة هذه الجهة في مقام الاستثناء.

فرع: لو كان ما يلزم أن يباع من أمواله لأجل أداء دينه لا يشترونه إلاّ بأقلّ من قيمته كثيرا، و يرجى ترقّيه و وصوله إلى ما هو المتعارف من قيمته، فلا بأس بأن يقال بإبقائه إلى أن يصل إلى قيمته المتعارفة، خصوصا إذا كان بيعه بتلك القيمة النازلة يعدّ عند العرف تضييعا للمال.

فرع: صحّة بيع شيء متوقّف على كون ذلك الشيء ملكا للبائع ، أو كان البائع مأذونا من قبل المالك بأن يكون وكيلا عنه، أو وليّا عليه، أو كان مأذونا من قبل المولى عليه كما إذا كان مأذونا من قبل الحاكم الشرعي، أو صدر إذن من قبل اللّٰه جلّ جلاله، كلّ ذلك لأنّه لا بيع إلاّ في ملك.

فبناء على هذا المستحقّ للخمس و الزكاة لا يصحّ بيع حصّته من الخمس و الزكاة قبل أن يقبض، لتوقّف ملكه على القبض كما في السرائر و التذكرة و التحرير

ص: 204

و الدروس و جامع المقاصد (1).

و كذلك أرزاق السلطان لا يجوز بيعها قبل أن يقبضها، لتوقّف الملك على القبض كما في المقنعة و النهاية و الوسيلة و السرائر و التذكرة و التحرير و الدروس و جامع المقاصد (2).

فرع: ما قلنا إنّ دار المديون من مستثنيات الدين، هذا فيما إذا كان المديون حيّا ، و أمّا إذا مات فيجب بيعه لأداء دينه و إن كان ذا عيال و أطفال ليس لهم مأوى غير ذلك المنزل، لأنّ الدار لا تنتقل إليهم أصلا كما هو أحد القولين في الدين المستوعب، أو ينتقل متعلّقا لحقّ الغير. فعلى كلّ حال أداء الدين يقدّم و لا يبقى للورثة طلقا.

فرع: ما قلنا في المستثنيات من الدين معناه أنّه لا يجبر المديون على البيع للوفاء بالدين، و أمّا لو باع باختياره لأجل غرض آخر فيجب عليه أداء دينه بما أخذ من قيمتها، و ذلك لعدم إتيان التعليل و النصّ في قيمتها.

نعم فيما إذا كان للمديون دار واسعة زائدا على احتياجه أو شأنه، و حكم عليه بالتبديل بدار أخرى ليست بتلك السعة، فإذا باعها لا يؤخذ منه جميع الثمن، بل يبقى عنده مقدار ما يشتري به دارا أخرى يليق بحاله و رافع لاحتياجه. و الوجه واضح.

ص: 205


1- «السرائر» ج 2، ص 57، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 4، «تحرير الأحكام» ج 1، ص 201، «الدروس» ج 3، ص 314، «جامع المقاصد» ج 5، ص 19.
2- «المقنعة» ص 614، «النهاية» ص 311، «الوسيلة» ص 251، «السرائر» ج 2، ص 56، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 4، «تحرير الأحكام» ج 1، ص 201، «الدروس» ج 3، ص 314، «جامع المقاصد» ج 5، ص 9.

فرع: من كان عليه دين و غاب عنه صاحب الدين غيبة منقطعة، لا خبر عنه و لا يعرف مكانه، و لا أحد يعرف عنه شيئا، و لا يدري المديون أنّه حيّ أو ميّت، و لا يعرف له وليّ أو وكيل، يجب على المديون أن يبقى ناويا قضاء ذلك الدين بأحد الوجوه الشرعيّة التي سنذكرها.

و هذا الحكم إجماعيّ، مضافا إلى حكم العقل بوجوب تفريغ ذمّته بالأداء إليه، أو إلى من هو في حكم الأداء إليه شرعا.

و لصحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر على صاحبه و لا على وليّ له و لا يدري بأيّ أرض هو؟ قال: «لا جناح عليه بعد أن يعلم اللّٰه منه أنّ نيّته الأداء» (1).

و لرواية معاوية بن وهب قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل كان له على رجل حقّ، ففقد و لا يدرى أ هو حيّ أم ميّت، و لا يعرف له وارث و لا نسب و لا بلد؟ قال:

«اطلبه» . قال: إنّ ذلك قد طال، فأصدّق به؟ قال: «اطلبه» (2).

و لرواية هشام بن سالم قال: سأل حفص الأعور أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا عنده جالس قال: إنّه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه، و له عندنا دراهم و ليس له وارث؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «تدفع إلى المساكين. ثمَّ قال: رأيك فيها» .

ثمَّ أعاد عليه المسألة فقال له مثل ذلك، فأعاد عليه المسألة ثالثة فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «تطلب وارثا، فان وجدت وارثا و إلاّ فهو كسبيل مالك. ثمَّ قال: ما عسى أن يصنع بها. ثمَّ قال: توصي بها، فإن جاء طالبها و إلاّ فهي كسبيل مالك» (3).

ص: 206


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 188، ح 395، في الديون و أحكامها، ح 20، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 109، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 22، ح 1.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 188، ح 396، في الديون و أحكامها، ح 21، «وسائل الشيعة» ج 13، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 110، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 22، ح 2.
3- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 177، ح 781، في الرهون، ح 38، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 110، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 22، ح 3.

و قال الشيخ في النهاية: و من وجب عليه دين و غاب عنه صاحبه غيبة لم يقدر عليه معها، وجب عليه أن ينوي قضاءه و يعزل ماله من ملكه، فإن حضرته الوفاة أوصى به إلى من يثق به، فإن مات من له الدين سلّمه إلى ورثته، فإن لم يعرف له وارثا اجتهد في طلبه، فإن لم يظفر به تصدّق عنه و ليس عليه شيء (1)انتهى.

و الإنصاف أنّ عبارة النهاية أجمع عبارة في هذا الباب، فإنّها أوفق بالقواعد الكلّية و ما ورد في هذه المسألة من الروايات.

و أمّا قوله عليه السّلام في رواية هشام بن سالم بعد سؤال حفص الأعور و تكراره السؤال ثلاث مرّات «و إلاّ فهو كسبيل مالك» حيث علّق هذا الحكم على عدم وجدان الوارث، و جعل عدم الوجدان بعد الطلب أمارة على عدمه واقعا، و معلوم أنّ في فرض عدمه واقعا يكون للإمام عليه السّلام، و ليس من مجهول المالك كي يكون حكمه التصدّق، فكأنّه عليه السّلام حيث أنّه في تلك الصورة ملكه وهبه له و قال: «و إلاّ فهو كسبيل مالك» ثمَّ قال ثانيا: «توصي بها فإن جاء طالبها و إلاّ فهي كسبيل مالك» أي وهبها له.

و أمّا القول بالعزل عن ملكه من جهة التحفّظ على الدين، لأن الأهل و الأقارب كلّهم يعرفون بأنّ هذا المال ليس لمورّثهم بل للدائن الغائب، فيكون أبعد عن الضياع و التلف، و إلاّ فليس على وجوب العزل دليل.

و أمّا وجوب التسليم إلى الحاكم فلا وجه له، من جهة أنّه على تقدير موت الدائن الغائب و عدم وارث له يكون للإمام عليه السّلام، فيكون مصرفه مصرف سهم الإمام فيصرفه فيه، غاية الأمر بإذن المجتهد.

و أمّا لو لم يعلم بأنّ له وارثا أم لا، فإن قلنا في مورد عدم العلم بالوارث

ص: 207


1- . «النهاية» ص 307.

خصوصا بعد الطلب أيضا له عليه السّلام فيكون مصرفه مصرف سهم الإمام، و أمّا لو لم نقل بذلك-كما هو الظاهر من الأدلّة-فيجب الطلب إلاّ مع اليأس، فحينئذ يكون من مجهول المالك الذي يجب التصدّق به عن قبل صاحبه مع الضمان أو بدونه على القولين في المسألة.

فرع: الدين المؤجّل يحلّ بالموت. و هذا الحكم مخصوص بما إذا كان الميّت مديونا، و أمّا إذا كان دائنا فلا.

و بعبارة أخرى: موت من عليه الدين المؤجّل موجب لحلول دينه لا موت الدائن، فلو مات زيد و كان عليه دين مؤجّل يجب أن يؤدّي بعد سنة مثلا، يحلّ و يؤخذ من تركته حال موته كسائر ديونه المعجّلة، و أمّا لو كان زيد المفروض مثلا له دين على عمرو عليه أن يؤدّي لزيد بعد سنة فمات زيد، فلا يحلّ ذلك الدين، بل على عمرو أن يؤدّي لزيد بعد سنة فمات زيد، فلا يحلّ ذلك الدين، بل على عمرو أن يؤدي لورثة زيد بعد حلول أجله، أيّ بعد سنة من مضيّ موت زيد في المفروض.

و لعلّ السرّ في ذلك أنّ الميّت لا تبقى له ذمّة، فإذا مات فلا بدّ إمّا من القول بسقوط الدين-و هو لا وجه له قطعا-و إمّا أن نقول باشتغال ذمّة الورثة، بأن يكون عليهم أن يؤدّوا في المفروض بعد سنة، و هذا معناه اشتغال ذمّتهم بلا سبب و يكون ظلما و تعدّيا عليهم، خصوصا إذا لم يكن له مال بإزائه. و إمّا أن يقال بأنّه يصير حالاّ و يؤخذ من تركته فعلا، و إلاّ فالشقّان الآخران-أي بقاء التركة بلا تقسيم-ضرر على الورثة، و التقسيم فعلا و عدم الانتظار لحلول الدين موجب لضرر الدائن و ضياع الدين، فلا بدّ من القول بحلول الدين و الأخذ من التركة فعلا، و هو المطلوب.

و أمّا هذا الوجه و التعليل فلا يأتي في موت الدائن بالنسبة إلى الدين المؤجّل،

ص: 208

لأنّ الدائن إذا مات ينتقل إليهم الدين المؤجّل، فيكون حالهم حال مورّثهم يستوفون بعد حلول أجل الدين، و لا يلزم محذور في البين.

و لعلّ هذا هو الوجه في تفصيلهم في حلول الدين المؤجّل بين موت المديون و موت الدائن، و إلاّ فالأخبار الواردة في هذا الباب لم تفرق بين أن يكون الميّت له الدين أو عليه الدين، بل مفادها صيرورة الدين حالاّ بالموت مطلقا، كان الدين له أو عليه.

منها: ما رواه أبو بصير قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «إذا مات الرجل حلّ ماله و ما عليه من الدين» (1).

و منها: ما رواه حسين بن سعيد قال: سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمّى، ثمَّ مات المستقرض أ يحلّ مال القارض عند موت المستقرض منه أو للورثة من الأجل مثل ما للمستقرض في حياته؟ فقال: «إذا مات فقد حلّ مال القارض» (2).

و منها: ما رواه السكوني عن جعفر، عن أبيه عليهم السّلام أنّه قال: «إذا كان على الرجل دين إلى أجل و مات الرجل حلّ الدين» (3).

و منها: عن إسماعيل بن مسلم، عن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه عليهم السّلام مثله» (4).

ص: 209


1- «الكافي» ج 5، ص 99، باب أنّه إذا مات الرجل حلّ دينه، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 190، ح 407، في الديون و أحكامها، ح 32، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 97، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 12، ح 1.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 190، ح 409، في الديون و أحكامها، ح 34، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 97، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 12، ح 2.
3- «الفقيه» ج 3، ص 188، ح 3709، الدّين و القرض، ح 31، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 190، ح 408، في الديون و أحكامها، ح 33، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 97، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 12، ح 3.
4- «الفقيه» ج 3، ص 188، ح 3709، الدّين و القرض، ح 31، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 190، ح 408، في الديون و أحكامها، ح 33، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 97، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 12، ح 3.

و منها: مرسلة الصدوق قال: و قال الصادق عليه السّلام: «إذا مات الميّت حلّ ماله و ما عليه» (1).

فمقتضى رواية أبي بصير و مرسلة الصدوق عدم الفرق في حلول الدين المؤجّل بالموت بين أن يكون الدين له أو عليه، و لكن الفقهاء فرّقوا.

قال شيخنا الشهيد في الدروس: تحلّ الديون المؤجّلة بموت الغريم، و لو مات المدين لم يحلّ إلاّ على رواية أبي بصير و اختاره الشيخ و القاضي و الحلبي (2).

و في هامش الوافي: إذا مات المديون حلّ عليه بلا إشكال (3). و ليس أخبار هذا الكتاب منقّحة من جهة الأسناد، و إذا مات الدائن لم يحلّ ماله بل يجب على الورثة الصبر إلى الأجل. و قال بعض علمائنا يحلّ كما في هذه الرواية و هي مرسلة. و روى في المختلف عن السيد المرتضى قدّس سرّه في المسألة الأولى-أعني موت المديون أيضا -أنّه قال: لا أعرف إلى الآن لأصحابنا نصّا معيّنا فأحكيه، و فقهاء الأمصار كلّهم يذهبون إلى أنّ الدين المؤجّل يصير حالاّ بموت من عليه الدين، و يقوى في نفسي ما ذهب إليه الفقهاء، انتهى (4).

و خلاصة الكلام: أنّه ليس على أنّه بموت الدائن أيضا يصير الدين المؤجّل معجّلا، إلاّ رواية أبي بصير و مرسلة الصدوق.

ص: 210


1- «الفقيه» ج 3، ص 189، ح 3710، الدّين و القرض، ح 32، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 97، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 12، ح 4.
2- «الدروس» ج 3، ص 313، الدّين، في المؤجل و أحكامه، الشيخ في «النهاية» ص 310، كتاب الديون، باب قضاء الدّين عن الميّت، القاضي، نقله عنه في «مختلف الشيعة» ج 5، ص 400، كتاب الديون، مسألة:16، الحلبي في «الكافي في الفقه» ص 333، القرض و الدّين.
3- «الوافي» ج 18، ص 807، باب أنّه إذا مات الرجل حلّ دينه، هامش (3) .
4- «مختلف الشيعة» ج 5، ص 400، كتاب الدّيون، مسألة:16، «المسائل الناصرية» ضمن «الجوامع الفقهيّة» ص 260 و 261، المسألة:201.

و أمّا المرسلة فمن المحتمل القريب أن تكون هي رواية أبي بصير أرسلها الصدوق قدّس سرّه، و أمّا رواية أبي بصير فتسقط عن الحجّية بإعراض المشهور عنها، بل ادّعي الإجماع على خلافها.

و على كلّ حال يجب أن يفرق بين أن يكون الميّت هو المديون فيحلّ الدين بموته، و بين أن يكون هو الدائن فلا يحلّ، و بناء على هذا لو كان صداق الزوجة مؤجّلا فمات الزوج يحلّ الدين و يؤخذ حال الموت عن التركة، و لو ماتت الزوجة ليس لورثتها مطالبة الصداق فعلا، بل لا بدّ لهم الصبر إلى حلول الأجل الذي عيّنّاه للصداق، و ليس لهم حقّ المطالبة قبل ذلك.

فرع: لا يجوز تأجيل الدين الحالّ بزيادة، و أيضا لا يجوز زيادة أجل المؤجّل بزيادة، للزوم الربا، و لكن يمكن تصحيحه بشكل لا يلزم منه الربا، و هو أن يبيع المديون ما يساوي عشرين بعشرة، و يشترط عليه في ضمن هذا العقد تأخير الدين و أن لا يطالبه قبل يوم كذا، فبهذه الحيلة الشرعيّة تحصل النتيجة و ما يريد، و هو تأجيل الدين للحالّ، أو الزيادة في أجل المؤجّل.

و يمكن أيضا تحصيل هذه النتيجة بأن يبيع الدائن ما يساوي عشرة بعشرين للمديون على أن يلتزم في ضمن هذه المعاملة و يشترط على نفسه تأخير المطالبة إلى زمان كذا. فتحصل النتيجة و هو تأجيل الحالّ أو الزيادة في أجل المؤجّل من دون لزوم ربا في البين.

فرع: ثمن كفن الميّت مقدّم على دينه ، أي إذا مات و لم يكن تركته بمقدار كفنه و دينه بل يفي بأحدهما، فالكفن مقدّم على أداء الدين، لما رواه إسماعيل ابن أبي زياد، عن جعفر، عن أبيه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّ أوّل ما يبدأ به من

ص: 211

المال الكفن، ثمَّ الدين، ثمَّ الوصيّة، ثمَّ الميراث» (1).

و لما روى زرارة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل مات و عليه دين بقدر كفنه؟ قال: «يكفن بما ترك إلاّ أن يتجر عليه إنسان فيكفنه و يقضي بما ترك دينه» (2).

فرع: المشهور كراهة نزول صاحب الدين على المديون ، و ادّعى في الغنية (3)الإجماع عليه، و قد صرّح بالكراهة في القواعد و النهاية و التذكرة و السرائر (4)، و قال في القواعد: فإن فعل فلا يقيم أكثر من ثلاثة أيّام (5)، و حكى ذلك أيضا عن النهاية و السرائر و جامع الشرائع و التذكرة و التحرير و الدروس و جامع المقاصد و المفاتيح (6)، لما رواه سماعة قال: سألته عن الرجل ينزل على الرجل و له عليه دين أ يأكل من طعامه؟ قال: «نعم يأكل من طعامه ثلاثة أيّام، ثمَّ لا يأكل بعد ذلك شيئا» (7).

و النهي عن الأكل بعد ثلاثة أيّام محمول على الكراهة الشديدة، و قال في القواعد بعد قوله «فلا يقيم أكثر من ثلاثة أيّام» : و ينبغي احتساب ما يهديه إليه ممّا

ص: 212


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 188، ح 398، في الديون و أحكامها، ح 23، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 98، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 13، ح 2.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 187، ح 391، في الديون و أحكامها، ح 16، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 98، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 13، ح 1.
3- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 529، كتاب البيع، في القرض.
4- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 155، «النهاية» ص 305، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 2، «السرائر» ج 2، ص 31.
5- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 155.
6- «النهاية» ص 305، «السرائر» ج 2، ص 31، «جامع الشرائع» ص 283، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 2، «تحرير الأحكام» ج 1، ص 199، «الدروس» ج 3، ص 310، «جامع المقاصد» ج 5، ص 9، «مفاتيح الشرائع» ج 3، ص 134.
7- «الكافي» ج 5، ص 102، باب النزول على الغريم، ح 2، «الفقيه» ج 3، ص 188، ح 3705، الدّين و القرض، ح 27، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 204، ح 463، في القرض و أحكامه، ح 17، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 102، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 18، ح 3.

لا تجر له به عادة من الدين (1)، لما رواه غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إنّ رجلا أتى عليّا عليه السّلام فقال: إنّ لي على رجل دينا فأهدى إليّ هديّة. فقال: «احسبه من دينك عليه» (2).

و هاهنا تفصيل حسن عن الباقر عليه السّلام، رواه هذيل بن حيّان-أخي جعفر بن حيان الصيرفي-قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام إنّي دفعت إلى أخي جعفر مالا فهو يعطيني ما أنفق و أحجّ منه و أتصدّق، و قد سألت من قبلنا فذكروا أنّ ذلك فاسد لا يحلّ و أنا أحبّ أن انتهى إلى قولك؟ فقال لي: «أ كان يصلك قبل أن تدفع إليه مالك؟» قلت: نعم. قال: «خذ منه ما يعطيك فكل منه و اشرب و حجّ و تصدّق، فإذا قدمت العراق فقل جعفر بن محمّد عليه السّلام أفتاني بهذا» (3).

و الظاهر أن ما حكينا عن القواعد من قوله «ممّا لا تجر له به عادة فيه» إشارة إلى هذا المعنى، أي الفرق بين الهدايا التي كانت العادة جارية بها و لو لم يكن دين في البين، و بين ما لم تكن العادة جارية بها قبلا و قد أتى بها من قبل الدين.

و نظير هذه الهدايا التي تعطى للحاكم، فإن كانت ممّا كانت العادة جارية بها قبل أن يتصدّى للحكم، أو قبل أن يكون للمهدي دعوى مع أحد كي يحتاج إلى المراجعة إلى الحاكم، أو بعد أحدهما، ففي الأوّل لا إشكال، و لكن في الثاني الإنصاف أنّه مورد التهمة.

ص: 213


1- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 155، كتاب الدين، المطلب الأوّل.
2- «الكافي» ج 5، ص 103، باب هدية الغريم، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 190، ح 404، في الديون و أحكامها، ح 29، «الاستبصار» ج 3، ص 9، ح 23، باب القرض لجر المنفعة، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 103، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 1.
3- «الكافي» ج 5، ص 103، باب هدية الغريم، ح 2، «الفقيه» ج 3، ص 187، ح 3704، الدين و القرض، ح 26، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 202، ح 454، في القرض و أحكامه، ح 8، «الاستبصار» ج 3، ص 10، ح 25، باب القرض لجر المنفعة، ح 5، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 103، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 19، ح 2.

فرع: يكره لمن يستقضي دينه المبالغة في الاستقضاء ، لما رواه حمّاد بن عثمان، قال: دخل رجل على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، فشكى إليه رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «ما لفلان يشكوك؟» فقال: يشكوني أنّي استقضيت منه حقّي. قال: فجلس أبو عبد اللّٰه عليه السّلام مغضبا ثمَّ قال: «كأنك إذا استقضيت حقّك لم تسئ، أرأيتك ما حكى اللّٰه عزّ و جلّ فقال وَ يَخٰافُونَ سُوءَ اَلْحِسٰابِ (1)أ ترى أنّهم خافوا اللّٰه أن يجور عليهم، و اللّٰه ما خافوا إلاّ الاستقضاء، فسمّاه اللّٰه عزّ و جلّ سوء الحساب، فمن استقضى فقد أساء (2).

فرع: قال في القواعد: و لو التجأ المديون إلى الحرم لم تجز مطالبته (3) .

و الظاهر من هذه العبارة هو أنّ المديون لو تحصّن بالحرم لكي لا يؤخذ منه الدين بالقوّة لا يجوز مطالبته و التضييق عليه كما في التذكرة و السرائر و جامع المقاصد و التحرير و الدروس (4).

و قال في النهاية: إذا رأى صاحب الدين المديون في الحرم لم تجز مطالبته و لا ملازمته (5). و حكي أيضا ذلك عن عليّ بن بابويه قال: إذا كان لك على رجل حقّ فوجدته بمكّة أو في الحرم فلا تطالبه و لا تسلّم عليه فتفزعه، إلاّ أن تكون أعطيته

ص: 214


1- الرعد (13) :21.
2- «الكافي» ج 5، ص 100، باب في آداب اقتضاء الدين، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 194، ح 425، في الديون و أحكامها، ح 50، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 100، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 16، ح 1.
3- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 155.
4- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 2، «السرائر» ج 2، ص 31، «جامع المقاصد» ج 5، ص 10، «تحرير الأحكام» ج 1، ص 199، «الدروس» ج 3، ص 311.
5- «النهاية» ص 305.

حقّك في الحرم فلا بأس أن تطالبه في الحرم (1).

و مدرك هذه المسألة ما رواه سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن رجل لي عليه مال فغاب عنّي زمانا، فرأيته يطوف حول الكعبة فأتقاضاه؟ قال:

قال: «لا تسلم عليه و لا تروعه حتّى يخرج من الحرم» (2).

و لكن ظاهر رواية سماعة هو تحريم المطالبة و الملازمة، لأنّ النهي ظاهر في التحريم. نعم لو كان في المسألة إجماع على عدم التحريم فلا بدّ حينئذ من الحمل على الكراهة.

و أمّا التفصيل الذي حكي عن ابن بابويه بين أن يكون الدائن أعطاه في الحرم فيجوز المطالبة عنه إن لم يكن معسرا و كان موسرا مليّا، و بين أن يكون وقع في خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم لأجل الفرار عن الأداء، ففي الأوّل يجوز المطالبة، و لا يجوز في الثاني.

فهذه الفتوى من ابن بابويه عين ما في الفقه الرضوي (3)، فهو مأخوذ من ذلك، و الصدوقان اعتمدا عليه و كثيرا ما يفتون بعين عبارة ذلك الكتاب، و هذا أحد الوجوه التي أوجب الاعتماد على ذلك الكتاب، حيث أن هذين العظيمين عملا به.

و على أيّ حال فتوى الشيخ بالحرمة في النهاية ليست مستندة إلى الفقه الرضوي كي يكون فيه هذا التفصيل، بل الظاهر أنّ مدركه رواية سماعة حيث أنّه عليه السّلام نهى عن المطالبة في الحرم. و يمكن أن يكون من الأحكام الخاصّة بالحرم.

و ما ذهب إليه الشيخ في النهاية من تحريم مطالبة الدين في الحرم (4)صرّح به

ص: 215


1- حكاه عنه في «مختلف الشيعة» ج 5، ص 387، كتاب الديون و توابعها، مسألة:4.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 194، ح 423، في الديون و أحكامها، ح 48، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 115، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 26، ح 1.
3- «فقه الرضا عليه السّلام» ص 253، (36) باب التجارات و البيوع و المكاسب.
4- «النهاية» ص 305.

ابن إدريس في السرائر و أبو الصلاح (1)إلاّ أنّهما أضافا إلى الحرم مسجد النّبي صلّى اللّٰه عليه و آله و مشاهد الأئمّة عليهم السّلام، فقول العلاّمة (2)بالكراهة خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بقرينة أو إجماع على عدم الحرمة، و كلاهما مفقودان في المقام. فالإنصاف أنّ الأحوط- لو لم نقل بأنّه الأقوى-هو ترك المطالبة و الملازمة في الحرم مطلقا. و لا غرو في ذلك، فإنّ للحرم أحكاما خاصّة كثيرة، فتأمّل.

فرع: لو دفع المديون عروضا عمّا في ذمته بعد أن حلّ الدين من غير أن يساعر ذلك المتاع مع الدائن، ثمَّ بعد مضيّ أشهر أرادا أن يحاسبا ما بينهما و قيمة المتاع تغيّر بالزيادة أو النقصان من وقت الدفع مع وقت المحاسبة، فهل يحسبه بقيمة يوم الدفع، أو قيمة يوم الحساب؟

الظاهر اعتبار قيمة يوم الدفع، لأنّ المفروض أن دينه حلّ، و هو-أي المديون- يعطي العروض بعنوان وفاء دينه عوضا عمّا في ذمّته، و الدائن يملكه حال القبض بماله الماليّة عوضا عمّا يطلبه من المديون، فيكون الوفاء و فراغ ذمّته باعتبار ماليّة ذلك الوقت و قيمته في ذلك الزمان.

و يدلّ عليه أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب-في الصحيح-عن محمّد بن الحسن الصفّار، قال: كتبت إليه-الضمير يرجع إلى أبي محمد عليه السّلام-في رجل كان له على رجل مال، فلمّا حلّ عليه المال أعطاه بها طعاما أو قطنا أو زعفرانا و لم يقاطعه على السعر، فلمّا كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الطعام أو الزعفران أو القطن أو نقص، بأيّ السعرين يحسبه لصاحب الدين، سعر يومه الذي أعطاه و حلّ ماله عليه، أو السعر الذي بعد شهرين أو ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقّع عليه السّلام: «ليس له إلاّ على حسب

ص: 216


1- «السرائر» ج 2، ص 31، «الكافي في الفقه» ص 331.
2- «مختلف الشيعة» ج 5، ص 388، كتاب الديون و توابعها، مسألة:4.

سعر وقت ما دفع إليه الطعام إن شاء اللّٰه» . قال: و كتبت إليه: الرجل استأجر أجيرا ليعمل له بناء أو غيره من الأعمال و جعل يعطيه طعاما أو قطنا و غيرهما، ثمَّ تغيّر الطعام و القطن عن سعره الذي أعطاه إلى نقصان أو زيادة، أ يحسب له بسعره يوم أعطاه، أو بسعره يوم حاسبه؟ فوقّع عليه السّلام: «يحسب له سعر يوم شارطه فيه إن شاء اللّٰه» (1).

فرع: لو قتل المديون عمدا و ليس له مال يؤدّون به دينه،

فيعطى دينه من ديته فيما إذا رضي القاتل بإعطاء الدية و صالحه الوارث على أخذ الدية فيؤدّي دينه من ديته، لأنّه أحقّ بديته من غيره، لأنّ الدية عوض أعزّ شيء عنده و هو روحه و حياته.

لا كلام في هذا. قال الشيخ في نهايته: لم يكن لأوليائه القود إلاّ بعد تضمين الدين عن ديانه، فإن لم يفعلوا فليس لهم القتل، لأنّه تضييع لحقّ الميّت (2). و نسب هذا القول في الدروس (3)إلى المشهور، و نسب أيضا إلى أبي الصلاح و إلى ابن البراج (4).

و خلاصة الكلام: أنّ قتل العمد ابتداء يوجب حقّ القصاص لأولياء المقتول، قال اللّٰه تبارك و تعالى (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً) (5).

و لكن الورثة مخيّرون بين القتل و أخذ الدية إن حضر القاتل على أداء الدية،

ص: 217


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 196، ح 432، في الديون و أحكامها، ح 57، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 402، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 26، ح 5.
2- «النهاية» ص 309، كتاب الديون، باب قضاء الدين عن الميت.
3- «الدروس» ج 3، ص 313، كتاب الدّين، في المؤجل و أحكامه.
4- «الكافي في الفقه» ص 332. حكى قول ابن البراج العلاّمة في «مختلف الشيعة» ج 5، ص 398، الدّيون، مسألة:15.
5- «الإسراء (17) :33.

و لكن في هذا المورد-أي فيما إذا كان المقتول مديونا و لا مال له يفي بدينه-فهل يجوز للورثة اختيار القود لكونهم مخيّرون بينه و بين أخذ الدية، أو يتعيّن أخذ الدية كي يؤدّي بها دين الميّت؟ و الراجح هو تعيّن أخذ الدية لئلاّ يضيع حقّ الميّت.

و يدلّ عليه أيضا الرواية الواردة في التهذيب و الفقيه عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يقتل و عليه دين و ليس له مال، فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله و عليه دين؟ فقال: «إنّ أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل، فإن وهبوا أولياؤه دية القاتل فجائز، و إن أرادوا القود فليس لهم ذلك حتّى يضمن الدين للغرماء و إلاّ فلا» (1).

و رواية صفوان بن يحيى، عن يحيى الأزرق، عن أبي الحسن عليه السّلام في رجل قتل و عليه دين و لم يترك مالا، فأخذ أهله الدية من قاتله عليهم أن يقضوا دينه؟ قال:

«نعم» . قتل: و هو لم يترك شيئا. قال: «إنّما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه» (2).

و لكن هذه الرواية الأخيرة-أي رواية صفوان بن يحيى-أشكل على دلالتها على هذه المسألة على محلّ النزاع، أوّلا بأنّه من المحتمل أن يكون القتل المذكور فيها قتل خطأ، و لا خلاف في أنّه يعطى دين الميّت من ديته، و محلّ الكلام هاهنا في أنّه في قتل العمد هل يجوز لأولياء الميّت القود كي لا تكون دية في البين فيؤدّي منها دين الميّت، أم لا يجوز بل يتعيّن عليهم أخذ الدية كي لا يضيع حقّ الميّت.

و ثانيا: السؤال في هذه الرواية عن أمر واقع، و هو أنّ الأولياء و أهل الميّت المقتول أخذوا الدية فهل عليهم قضاء الدين من تلك الدية أولا، لأنّ الميّت المقتول

ص: 218


1- «الفقيه» ج 4، ص 159 و 160، ح 5362، باب الرجل يقتل و عليه دين، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 312، ح 861، في باب من الزيادات في القضايا و الأحكام، ح 68، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 112، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 24، ح 2.
2- «الكافي» ج 7، ص 25، كتاب الوصايا، باب من أوصى و عليه دين، ح 6، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 192، ح 416، في الديون و أحكامها، ح 41، و ج 9، ص 167، ح 681، في الإقرار في المرض، ح 27، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 111، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 24، ح 1.

لم يترك شيئا كي يتعلّق به وجوب أداء الدين منه، فأجاب عليه السّلام بأنّ نفس ما أخذوا يتعلّق به الدين.

فالإنصاف: أنّ هذه الرواية أجنبيّة عن محلّ البحث.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ العدول عن القود إلى أخذ الدية من المقدّمات الوجوديّة للواجب الذي هو أداء الدين، فهذه الرواية تدلّ بالالتزام على وجوب عدول الأولياء عن القود إلى أخذ الدية و أداء الدين، و هو عين محلّ النزاع.

و لكن فيه: أنّ وجود المال و أخذ الدية من مقدّمات الوجوب لا الوجود، فالواجب بالنسبة إليه مشروط، فتحصيلها ليس واجبا إلاّ أن يأتي دليل على وجوبها، و لا يكون من باب وجوب المقدّمة و الكلام و محلّ البحث الآن وجود ذلك الدليل و عدمه.

و على كلّ حال رواية أبي بصير و سائر ما ورد تكفي في محلّ البحث و النزاع.

و أمّا الإشكال على رواية أبي بصير بضعف السند-كما حكي عن شيخنا الشهيد قدّس سرّه في كتابه نكت الإرشاد (1)-فلا أثر له بعد ما بيّنّا مرارا أنّ المدار في حجّية الأخبار هو الوثوق بصدورها، لا وثاقة الراوي فقط أو عدالته، و لا شكّ في أنّ الشهرة العمليّة أو الفتوائيّة خصوصا بين القدماء ممّا يوجب الوثوق أزيد من وثاقة الراوي، خصوصا إذا كانت الرواية التي عمل بها الأصحاب مرويّة في أحد الكتب المعتبرة التي هي معتمدة عند الأصحاب، أو كانت في جميعها.

و أمّا الإشكال على هذا الحكم بأنّ استحقاق الدية بعد موت المقتول عمدا لأنّه من قبيل الموضوع لاستحقاق الدية، و الميّت بعد تحقّق الموت ليس قابلا لأن يتملّك، و المفروض أنّ هذا الميّت لم يملك شيئا حال حياته و لم يترك شيئا، و وقت استحقاق الدية الذي هو بعد حصول الموت عرفت أنّه ليس قابلا للتملّك كي يؤدّي

ص: 219


1- «غاية المراد» ص 364.

منه دينه.

ففيه: أنّه بعد ما دلّ الدليل على لزوم أداء دين المقتول عمدا من ديته و أنّه ليس للأولياء القود و يجب عليهم أخذ الدية و أن يقضوا ديته منه، لا يبقى مجال لهذا الكلام، لأنّه أمر ممكن دلّ الدليل عليه.

و أمّا ادّعاء أنّه غير ممكن و محال فساقط لا ينبغي أن يصغى إليه.

أمّا أوّلا-فلأنّ الملكيّة اعتبار عقلائي أمضاها الشارع في موارد كثيرة من موارد اعتبارهم، فلا مانع من اعتبارها للميّت. و أمّا قولهم بأنّه بحكم مال الميّت في بعض الموارد و لا يقولون أنّه ماله، فمن جهة أنّ الميّت لا يمكن أن يتصرّف فيه التصرّفات المتوقّفة على الحياة، فيتوهّمون عدم إمكان الملكية للميّت فيقولون إنّه بحكم مال الميّت، و إلاّ ففي الحقيقة ماله و لكن الشارع نفى عنه بعض آثار الملكيّة و أثبت بعض الآثار، و له ذلك في عالم التشريع، لأنّ الموضوع من اعتباراته تأسيسا أو إمضاء، و الآثار أيضا تشريعيّة.

و ثانيا: على فرض عدم إمكان حصول الملكيّة للميّت، أيّ مانع في أنّ يحكم الشارع على الأولياء بعدم جواز القود لهم في المفروض، و وجوب أخذ الدية التي تصير ملكهم ثمَّ الإيجاب عليهم أن يقضوا دين ميّتهم من تلك الدية، كما هو ظاهر قوله عليه السّلام في رواية أبي بصير «بل يؤدّوا دينه التي صالح عليها أولياءه فإنّه أحق بدينه من غيره» (1).

ثمَّ أن الاستدلال على هذا الحكم بالإجماع كما هو صريح الغنية (2)لا وجه له،

ص: 220


1- «الفقيه» ج 4، ص 112، باب القود و مبلغ الدية، ح 27، «وسائل الشيعة» ج 19، ص 92، أبواب القصاص في النفس، باب 59، ح 2.
2- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 530.

لما عرفت مكرّرا من أنّ الاستدلال بالإجماع مع وجود الرواية المعتبرة لا وجه له، و خلاف ما بيّنّا في الأصول في باب حجّية الإجماع (1).

فظهر ممّا ذكرنا أنّ من قتل عمدا و عليه دين و لا مال له لا يجوز لأولياء الدم القود أو العفو إلاّ أن يضمنوا الدين، و إن أخذوا الدية و صالحوا عليها يجب عليهم أن يقضوا دين المقتول ممّا أخذوا من القاتل بعنوان الدية، لأنّه أحقّ بها من غيره.

فرع: قال في الغنية: و يكره استحلاف الغريم المنكر

، لأنّ في ذلك تضييعا للحقّ و تعريضا لليمين الكاذبة، و متى حلف لم يجز لصاحب الدين إذا ظفر بشيء من ماله أن يأخذ بمقدار حقّه، و يجوز له ذلك إذا لم يحلف إلاّ أن يكون ما ظفر به وديعة عنده، فإنّه لا يجوز له أخذ شيء منها بغير إذنه على حال بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يخصّ الوديعة عموم قوله تعالى (إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا) (2)(3).

و ما ذكره في هذه الأسطر يشتمل على أربع فروع:

الأوّل: كراهة الاستحلاف، لما ذكره من أنّه موجب لتضييع الحقّ و التعريض لليمين الكاذبة، و هو تعليل حسن.

الثاني: أنّ المديون المنكر متى حلف فلا يجوز المقاصّة عن ماله لو ظفر به.

الثالث: جواز المقاصّة لو لم يحلف.

الرابع: عدم جواز المقاصّة و لو لم يحلف إن كان ما ظفر به وديعة المديون عنده.

ص: 221


1- «منتهى الأصول» ج 2، ص 86.
2- النساء (4) :58.
3- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 530.

و المهم في المقام-أي في الغريم المنكر لو لم تكن بيّنة للدائن على الدين و حلف الغريم-هو مسألة عدم جواز المقاصة و أنّه أيّ شيء مدركه؟

فنقول:

أوّلا: دعوى الإجماع المحقّق في المسألة من جماعة، و دعوى عدم الخلاف من بعض آخر.

الثاني: الروايات الواردة في هذا المقام:

منها: رواية ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه و استحلف فحلف لا حقّ له عليه و ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا حقّ له» . قلت: و إن كانت له عليه بيّنة عادلة؟ قال: «نعم و إن أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له، و كان اليمين قد أبطل كلّ ما ادّعاه قبله ممّا استحلفه عليه» (1).

و منها: رواية خضر النخعي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئا، و إن تركه و لم يستحلفه فهو على حقّه» (2).

و منها: رواية عبد اللّٰه بن وضاح قال: كان بيني و بين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، و قد علمت أنّه حلف يمينا

ص: 222


1- «الكافي» ج 7، ص 417، باب أنّ من رضي باليمين فحلف له فلا دعوى له بعد اليمين، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 231، ح 565، في كيفية الحكم و القضاء، ح 16، «وسائل الشيعة» ج 18، ص 178، كتاب القضاء، أبوابه كيفية الحكم و أحكام الدّعوى، باب 9، ح 1.
2- «الكافي» ج 7، ص 418، باب ان من رضى باليمين مخلف له. ، ح 2، «الفقيه» ج 3، ص 185، ح 3695، كتاب المعيشة، الدّين و القرض، ح 17، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 231، ح 566، في كيفية الحكم و القضاء، ح 17، «وسائل الشيعة» ج 18، ص 179، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى، باب 10، ح 1.

فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح و دراهم كثيرة فأردت أن أقتص الألف درهم التي كانت لي عنده و أحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف و قد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت. فكتب: «لا تأخذ منه شيئا، إن كان ظلمك فلا تظلمه، و لو لا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، و لكنّك رضيت بيمينه، و قد ذهب اليمين بما فيها، فلم آخذ منه شيئا» و انتهيت إلى كتاب أبي الحسن عليه السّلام (1).

و لا شبهة في دلالة هذه الروايات على عدم جواز التقاص بعد استحلاف الدائن غريمه المنكر للدين و هو حلف.

و هناك روايات أخرى تدلّ على جواز التقاصّ حتى بعد حلف المديون على عدم الدين، و لكنّها محمولة على الحلف بدون استحلاف الدائن و بدون رضائه بذلك.

نعم وردت روايات تدلّ على أنّ الغريم المنكر للدين بعد حلفه على عدم كونه مديونا لو رجع بعد مدّة عن إنكاره و اعترف بالدين و جاء إلى الدائن و أتى بالدين الذي كان عليه مع ربحه في هذه المدّة، فيجوز له أخذ مقدار الدين الذي كان عليه مع نصف أرباحه.

منها: ما عن الفقيه بإسناده عن مسمع أبي سيّار قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّي كنت استودعت رجلا مالا فجحد دينه و حلف لي عليه، ثمَّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه، فقال: «هذا مالك فخذه» و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها فهي لك مع مالك و اجعلني في حل. فأخذت منه المال و أبيت أن آخذ الربح منه، و دفعت المال الذي كنت استودعته و أبيت أخذه حتّى أستطلع رأيك فما ترى؟ فقال عليه السّلام: «خذ نصف الربح و أعطه النصف و حلله، فإنّ هذا رجل تائب و اللّٰه يحب

ص: 223


1- «الكافي» ج 7، ص 430، باب النوادر من كتاب القضاء و الأحكام، ح 14، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 289، ح 802، في باب من الزيادات في القضايا و الأحكام، ح 9، «وسائل الشيعة» ج 18، ص 180، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى، باب 10، ح 2.

التوابين» (1).

و منها: ما في الفقه الرضوي قال عليه السّلام: «و إذا أعطيت رجلا مالا فجحدك و حلف عليه ثمَّ أتاك بالمال بعد مدّة و بما ربح فيه و ندم على ما كان منه فخذ منه رأس مالك و نصف الربح و ردّ عليه نصف الربح، هذا رجل تائب» (2).

ثمَّ اعلم أنّ المعاملات التي صدرت من هذا المديون المنكر إمّا بعين مال صاحب الدين فتكون باطلة و تكون الأرباح لملاّكهم الأوّلية، إلاّ أن يقال بأنّ إجازة الدائن يصحّح جميع تلك المعاملات، فيكون جميع الربح لهذا الدائن، فيكون ردّ النصف إلى المديون المنكر عطيّة و هبة من هذا الدائن إلى ذلك المديون.

و إن كانت المعاملات واقعة بما في الذمّة، فيكون تمام الأرباح لذلك المديون المنكر، فهو يعطي للدائن إمّا بداعي أن يحلله عمّا فرط، و إمّا بتوهّم أنّ هذه الأرباح لصاحب المال، أي الدائن.

و أمّا كون المعاملات من قبيل المضاربة و يكون نصفه-أي الربح-للعامل و نصفه لصاحب المال، فبعيد، لأنّه لا مضاربة في البين، بل المنكر كان يعامل بعنوان أنّه ملكه، و لكن وفّقه اللّٰه للتوبة و إرجاع المال إلى صاحبه.

و أمّا إعطاء الأرباح و ردّه إليه، فمن جهة تخيّل أنّ الأرباح تابعة للمال، فإذا كان المال لشخص فتكون أرباحه أيضا لذلك الشخص. فلأجل هذا التخيّل يأتي بالأرباح إلى الدائن.

و أمّا قوله عليه السّلام «يأخذ النصف و رد النصف الآخر إلى ذلك المديون المنكر» للإرفاق لتوبته فيحلله بالنصف و لا يأخذ التمام منه، فيكون معاملتهما شبيهة

ص: 224


1- «الفقيه» ج 3، ص 305، ح 4091، كتاب المعيشة، باب الوديعة، ح 5، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 235، كتاب الوديعة، باب 10، ح 1.
2- «فقه الإمام الرضا عليه السّلام» ص 252، (36) باب التجارات و البيوع و المكاسب.

بالمضاربة الصحيحة، و إلاّ فمن المعلوم أنّه ليس بمضاربة.

قلنا: يستفاد ممّا ذكره في الغنية هاهنا أربع فروع، و المهمّ منها هو عدم جواز مقاصّة الدائن لو استحلف الغريم المنكر للدين فحلف على عدم الدين، و قد بيّنّا تفصيله و مدركه (1).

و الثاني: كراهة الاستحلاف، و هو بيّن وجهه بأنّه تضييع للحقّ و تعريض لليمين الكاذبة.

و الثالث: جواز المقاصّة في صورة عدم حلف الغريم إمّا لعدم استحلافه له و إمّا لعدم حضوره للحلف و استنكافه عنه، و نفس استنكافه مع عدم ردّه اليمين إلى الدائن أيضا حجّة لدينه و مثبتا له.

و الدليل على جواز المقاصّة في هذه الصورة هو التصريح في بعض الأخبار المتقدّمة بجواز التقاصّ إن لم يحلف (2)، و ذلك من جهة أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو جواز التقاصّ، لأنّه استيفاء حقّ، لأنّ الاستيفاء إمّا بإعطاء المديون و أخذه و إمّا بالتقاصّ، و المفروض امتناع الأوّل في المقام لعدم حضوره لذلك و إنكاره للدين، فيتعيّن الوجه الآخر و هو التقاصّ.

و أمّا احتمال سقوط حقّه لعدم إمكان استيفائه إلاّ بالتقاصّ الذي لا دليل عليه فلا ينبغي أن يتوهّم، و قد عرفت وجود الدليل على جواز التقاصّ في هذه الصورة، لأنّه مقتضى القواعد الأوّليّة، مضافا إلى ما ذكرنا من دلالة الروايات عليه، فمنها قوله عليه السّلام فيما رواه عبد اللّٰه بن وضاح و قد تقدم: «و لو لا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، و لكنّك وفيت بيمينه و قد ذهبت اليمين بما فيها» (3).

ص: 225


1- تقدم ص 222.
2- تقدم ص 222، هامش (2) .
3- تقدم ص 223، هامش (1) .

و أيضا قال عليه السّلام في رواية خضر النخعي: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئا و إن تركه و لم يستحلفه فهو على حقه» (1).

و قال عليه السّلام في رواية ابن أبي يعفور: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه و استحلف فحلف لا حقّ له عليه و ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا حقّ له» (2).

و خلاصة الكلام أنّ في هذه الروايات علّق الإمام عليه السّلام نفي الحقّ و عدم جواز التقاصّ على رضائه بالحلف و استحلافه للمنكر و وقوع الحلف، فإذا اجتمعت هذه الأمور فلا يبقى للمدّعي حقّ كي يكون له حقّ استيفائه بالتقاصّ، و قد كرّر عليه السّلام أنّ اليمين هي التي ذهبت بالحقّ، فإذا لم تكن يمين في البين فالحقّ باق فيجوز التقاصّ.

نعم هنا كلام آخر، و هو أنّ التقاص هل يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي أو لا، و له مقام آخر.

الرابع: عدم جواز المقاصّة إن كان المال الذي وقع تحت يده وديعة من الغريم المنكر للدين عنده، و إن لم يكن استحلاف و حلف في البين، و ذلك من جهة أنّ التقاصّ و إن كان عبارة عن استيفاء الحقّ و إذا لم يكن استحلاف و حلف فالحقّ باق، و لكنّ الشارع منع عن التصرّف في المال الذي هو وديعة عند الشخص بأيّ نحو من أنحاء التصرّف إلاّ إرجاعه إلى صاحبه و إيصاله إليه، فقد ورد منع التقاصّ فيما رواه ابن أبي عمير عن ابن أخي الفضيل بن يسار قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و دخلت امرأة و كنت أقرب القوم إليها فقالت لي: اسأله. فقلت: عما ذا؟ فقالت: إنّ ابني مات و ترك مالا كان في يد أخي، فأتلفه ثمَّ أفاد مالا فأودعنيه فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شيء؟ فأخبرته بذلك فقال: «لا، قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أدّ الأمانة إلى من

ص: 226


1- تقدم ص 222، هامش (2) .
2- تقدم ص 222، هامش (1) .

ائتمنك و لا تخن من خانك» (1).

هذا مضافا إلى التشديدات الواردة في وجوب ردّ الأمانة، و أنّه يجب و لو كان المستأمن ناصبيّا خبيثا و لو كان قاتل أمير المؤمنين أو الحسين عليهم السّلام، في الوسائل في كتاب الوديعة (2).

هذا و لكن وردت رواية أخرى تعارض هذه الرواية، عن أبي العباس البقباق أنّ شهابا ما رآه في رجل ذهب له بألف درهم و استودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العباس: فقلت له: خذها مكان الألف الذي أخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فذكر له ذلك فقال: «أمّا أنا فأحب أن تأخذ و تحلف» (3).

و لكن المشهور أعرضوا عن هذه الرواية و عملوا بالرواية الأولى، أي رواية ابن أبي عمير عن فضيل بن يسار، فيجب الأخذ بها و ترك هذه الرواية، بل يظهر عن الغنية (4)أنّ العمل بالرواية الأولى-أي رواية ابن أبي عمير عن الفضيل بن يسار- إجماعي، إذ يدّعى الإجماع على الفروع الأربعة التي ذكرناها و مرّت عليك تفصيلا.

فافهم و تأمّل.

ثمَّ إنّهم ذكروا ما يستحب على الدائن و على المديون، و نحن نذكر جملة منها:

فمنها: أنّه يستحبّ على الدائن الإرفاق بالمديون في الاقتضاء و المطالبة، و أن يسامحه في الأمور التي هي قابلة للمسامحة، و قد ورد بذلك روايات.

ص: 227


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 348، ح 981، في المكاسب، أحاديث التقاص، ح 102، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 202، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 83، ح 3.
2- «الكافي» ج 5، ص 133، كتاب المعيشة، باب أداء الأمانة، ح 4، و ج 8، ص 293، تعبير منامات، ح 448، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 221 و 222، في أحكام الوديعة، باب 2، ح 2 و 4.
3- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 347، ح 979، في المكاسب، أحاديث التقاص، ح 100، «الاستبصار» ج 3، ص 53، ح 174، باب من له على غيره مال فيجده. ، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 202، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 83، ح 2.
4- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 530.

و منها: أنّه يستحبّ على الدائن إمهال المديون و عدم التضييق عليه.

و منها: استحباب الإشهاد على الدين، روى عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «من ذهب حقّه على غير بيّنة لم يؤجر» (1).

و منها: أنّه يستحبّ ترك الاستدانة مع الاستغناء منها بل فعله مكروه.

و منها: أنّه يستحبّ أداء دين الأبوين، و بعد موتهما يتأكّد الاستحباب.

و قد ذكر في الوسائل في كتاب الدين الأخبار الدالة على استحباب هذه الأمور و كراهة البعض الآخر فعليك بمراجعتها (2).

فرع: تبرأ ذمّة الميّت بضمان شخص قابل لأن يكون ضامنا ، و قد ورد بذلك أخبار (3)، و هذا بناء على ما هو الحقّ عندنا من أنّ حقيقة الضمان نقل ما في ذمّة إلى ذمّة أخرى في غاية الوضوح. نعم في رواية عبد اللّٰه بن سنان قيد براءة ذمّة الميّت برضاء الغرماء بذلك الضمان (4).

فرع: ظاهر الأخبار أنّه يجب على الإمام قضاء الدين عن المؤمن المعسر من الزكاة من سهم الغارمين

إذا كان قد أنفق ما استدانه في طاعة أو مباح، و أمّا لو

ص: 228


1- «الكافي» ج 5، ص 298، كتاب المعيشة، باب من أدان ماله بغير بينة، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 93، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 10، ح 2.
2- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 117، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 30، ح 1 و 2.
3- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 188، ح 397، في الديون و أحكامها، ح 22، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 99، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 14، ح 2.
4- «الكافي» ج 5، ص 99، كتاب المعيشة، باب أنّه إذا مات الرجل حلّ دينه، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 187، ح 392، في الديون و أحكامها، ح 17، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 98، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 14، ح 1.

أنفقه في معصية فلا شيء له عليه.

عن محمّد بن سليمان، عن رجل من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمد، قال: سأل الرضا عليه السّلام رجل و أنا أسمع فقال له: جعلت فداك إنّ اللّٰه جلّ و عزّ يقول وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ (1)أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها اللّٰه عزّ و جلّ في كتابه، لها حدّ يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بدّ له من أن ينتظر، و قد أخذ مال هذا الرجل و أنفقه على عياله و ليس له غلّة ينتظر إدراكها، و لا دين ينتظر محله، و لا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال: «نعم ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة اللّٰه عزّ و جلّ، فإن كان أنفقه في معصية اللّٰه عزّ و جلّ فلا شيء له على الإمام» . قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه و هو لا يعلم فيما أنفقه في طاعة اللّٰه أم في معصيته؟ قال: «يسعى له في ماله، فيردّه عليه و هو صاغر» (2).

و ما روي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «الإمام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلى مهور النساء» (3).

فرع: إذا أقام الدائن على الغائب بأنّه مديون له بكذا يقضى عنه من ماله إجماعا و لكن بالكفلاء، و يكون الغائب على حجّته إذا رجع و لم يقبل و أنكر الدين.

و وجه هذه الأمور الثلاثة واضح:

أمّا الأوّل-أي قضاء الدين عنه من ماله-لحجّية البيّنة التي قامت على أنّه

ص: 229


1- البقرة (2) :280.
2- «الكافي» ج 5، ص 93، كتاب المعيشة، باب الدين، ح 5، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 185، ح 385، في الديون و أحكامها، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 91، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 9، ح 3.
3- «الكافي» ج 5، ص 94، كتاب المعيشة، باب الدين، ح 7، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 184، ح 379، في الديون و أحكامها، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 92، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض، باب 9، ح 4.

مديون، فيكون بمنزلة العلم بدينه.

و أمّا الثاني-و هو كونه بالكفلاء-فلأنّه من الممكن أنّه بعد حضوره تكون حجّة على أنّه قضى هذا الدين، فلا يتلف حقّه و ماله مع وجود الكفيل.

و أمّا الثالث-أي كون الغائب على حجّته لو حضر-فمن جهة عدم وجه لسقوط حجّته عن الاعتبار، لأنّه لو كان حاضرا وقت إقامة الدائن البيّنة على أنّه مديون كان له جرح الشهود أو إتيانه بحجة حاكمة على البيّنة، و بعد حضوره ذلك الوجه باق بعينه.

هذا، مضافا إلى ما رواه في الكافي و التهذيب عن محمّد، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الغائب يقضى عنه إذا قامت البيّنة عليه، و يقضى عنه و هو غائب، و يكون الغائب على حجّته إذا قدم، و لا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلاّ بكفلاء إذا لم يكن مليّا» (1).

فرع: لا يبطل الحقّ و لا يذهب من البين بتأخير المطالبة و تركها و إن كان إلى مدّة طويلة.

و هذا الحكم مضافا إلى أنّه إجماعيّ لا وجه لذهابه، لأنّ تأخير المطالبة ليس من المسقطات، فالحقّ باق و إن طالت مدّة عدم المطالبة.

نعم قال الصدوق في المقنع: من ترك دارا، أو عقارا، أو أرضا في يد غيره فلم يتكلّم و لم يطالب و لم يخاصم في ذلك عشر سنين فلا حقّ له (2).

ص: 230


1- «الكافي» ج 5، ص 102، كتاب المعيشة، باب إذا التوى الذي عليه الدين على الغرماء، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 191، ح 413، في الديون و أحكامها، ح 38.
2- «المقنع» ص 123.

و استدلّ له في المختلف (1)برواية يونس المرويّة في الكافي و التهذيب عن العبد الصالح عليه السّلام قال: قال: «إنّ الأرض للّه عزّ و جلّ جعل وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية بغير سبب أو علّة أخرجت من يده و دفعت إلى غيره، و من ترك مطالبة حقّ له عشر سنين فلا حقّ له» (2).

و روى أيضا في الكافي و التهذيب عن يونس، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «من أخذت منه أرض ثمَّ مكثت ثلاث سنين لم يطلبها لا يحلّ له بعد ثلاث سنين أن يطلبها» (3).

و أيضا في الكافي و التهذيب عن علي بن مهزيار قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن دار كانت لامرأة و كان لها ابن و ابنة فغاب الابن في البحر و ماتت المرأة فادعت ابنتها أنّ أمّها كان صيرت هذه الدار لها، فباعت أشقاصا منها، و بقيت في الدار قطعة إلى جنب دار رجل من أصحابنا و هو يكره أن يشتريها لغيبة الابن، و يتخوّف من أن لا تحلّ له شراؤها و ليس يعرف للابن خبر، فقال لي: «و منذكم غاب؟» فقلت: منذ سنين كثيرة. قال: «ينتظر به غيبة عشر سنين ثمَّ يشتري» . فقلت له: فإذا انتظر به غيبة عشر سنين حلّ شراؤها؟ قال: «نعم» (4).

أقول: أمّا رواية يونس الأولى في خصوص الأرض فالظاهر أنّها راجعة إلى الأراضي الخراجيّة فليس فيها كثير إشكال، و أمّا ذيلها، أي قوله عليه السّلام «و من ترك مطالبة حقّ له عشر سنين فلا حقّ له» فالظاهر منه أنّه عليه السّلام جعل ترك المطالبة في

ص: 231


1- «مختلف الشيعة» ج 5، ص 414، الديون، القرض، مسألة:32.
2- «الكافي» ج 5، ص 297، كتاب المعيشة، باب نادر، ح 1، «تهذيب الأحكام»7، ص 232، ح 1015، في باب من الزيادات، ح 35، «وسائل الشيعة» ج 17، ص 345، أبواب إحياء الموات، باب 17، ح 1.
3- «الكافي» ج 5، ص 297، كتاب المعيشة، باب نادر، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 233، ح 1016، في باب من الزيادات، ح 36، «وسائل الشيعة» ج 17، ص 345، أبواب إحياء الموات، باب 17، ح 2.
4- «الكافي» ج 7، ص 154، كتاب المواريث، باب ميراث المفقود، ح 6، «تهذيب الأحكام» ج 9، ص 390، ح 1391، كتاب الفرائض و المواريث، في ميراث المفقود، ح 8.

هذه المدّة أمارة لإسقاط حقّه و إبراء ذمّة من عليه الحقّ، فلا إشكال في البين. و أمّا رواية عليّ بن مهزيار، فالظاهر أنّه جعل غيبة عشر سنين أمارة موت الابن فلا إشكال أيضا فيها.

و خلاصة الكلام: أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على أنّه لو كان له دين في ذمّة شخص، أو كان له مال عند شخص من دار أو عقار أو متاع أو عروض أخر و لم يطالبه عشر سنين يسقط حقّه و ليس له أن يطلبه بعد ذلك، مضافا إلى أنّها على فرض دلالتها عليه قد أعرض جمهور الفقهاء قدّس سرّه عن العمل بها، و لا شكّ في أنّ هذه فتوى شاذّة صدرت عن ابن بابويه رضوان اللّٰه تعالى عليه في رسالته (1).

و في نهج البلاغة قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الحقّ جديد و إن طالت عليه الأيّام، و الباطل مخذول و إن نصره أقوام» (2).

فرع: الظاهر جواز الاشتراط في القرض أن يؤدّى المديون دينه في بلد آخر غير البلد الذي يستدين فيه، لأنّ هذا شرط سائغ فتشمله عمومات أدلّة وجوب الوفاء بالشرط و أنّ المؤمنين عند شروطهم.

و عن التذكرة (3)الإجماع على صحّة هذا الشرط، لأنّ الشرط الذي لا يجوز في القرض هو أن يوجب جرّ النفع للمقرض، و هاهنا ربما يوجب ضررا على المقرض، فلا إشكال من هذه الجهة.

و بصحته وردت روايات:

ص: 232


1- حكى فتواه العلاّمة في «مختلف الشيعة» ج 5، ص 413، الديون-القرض، مسألة:32، «المقنع» ص 123.
2- «وسائل الشيعة» ج 17، ص 345، أبواب إحياء الموات، باب 17، ح 3، و لم نعثر عليه في كتاب نهج البلاغة المطبوع.
3- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 6.

منها: صحيحة أبي الصباح، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يبعث بمال إلى أرض، فقال الذي يريد أن يبعث به: أقرضنيه و أنا أوفيك إذا قدمت الأرض، قال:

«لا بأس» (1).

و منها: صحيحة زرارة عن أحدهما عليهم السّلام، و يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يسلف الرجل الورق على أن ينقدها إيّاه بأرض أخرى و يشترط ذلك، قال: «لا بأس» (2).

و منها: ما روى السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

لا بأس أن يأخذ الرجل الدراهم بمكّة و يكتب لهم سفاتج أن يعطوها بالكوفة» (3).

و منها: صحيحة إسماعيل بن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: يدفع إلى الرجل الدراهم فاشترط عليه أن يدفعها بأرض أخرى سودا بوزنها و اشترط عليه ذلك قال: «لا بأس» (4).

و منها: ما في الكافي و التهذيب عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

قلت: يسلف الرجل الورق على أن ينقدها إيّاه بأرض أخرى و يشترط عليه ذلك، قال: «لا بأس» (5).

ص: 233


1- «الكافي» ج 5، ص 256، كتاب المعيشة، باب الرجل يعطي الدراهم ثمَّ يأخذها ببلد آخر، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 203، ح 458، في القرض و أحكامه، ح 12، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 480، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 14، ح 2.
2- «الكافي» ج 5، ص 255، كتاب المعيشة، باب الرجل يعطي الدراهم ثمَّ يأخذها ببلد آخر، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 480، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 14، ح 1.
3- «الكافي» ج 5، ص 256، كتاب المعيشة، باب الرجل يعطي الدراهم ثمَّ يأخذها ببلد آخر، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 481، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 14، ح 2.
4- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 110، ح 473، في بيع الواحد بالاثنين و أكثر من ذلك و ما يجوز فيه و مالا يجوز، ح 79، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 481، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 14، ح 5.
5- «الكافي» ج 5، ص 255، باب الرجل يعطي الدراهم ثمَّ يأخذها ببلد آخر، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 203، ح 459، في القرض و أحكامه، ح 13، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 481، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 14، ح 6.

و منها: ما في الفقيه عن أبان بن عثمان أنّه قال-يعني أبا عبد اللّٰه عليه السّلام-في الرجل يسلف الرجل الدراهم ينقدها إيّاه بأرض أخرى؟ قال: «لا بأس به» (1).

و منها: ما في التهذيب عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يسلف الرجل الدراهم ينقدها إيّاه بأرض أخرى و الدراهم عددا؟ قال: «لا بأس» (2).

و غيرها من الروايات المعتبرة. و لا شكّ في دلالة هذه الروايات على صحّة هذا الشرط و نفوذه، مثل دلالة عمومات أدلّة نفوذ الشروط و وجوب الوفاء بها على نفوذه و صحّته.

إنّما الكلام في أنّ العمل بهذا الشرط لازم و لا يجوز عدم الاعتناء به و فرضه كالعدم، أو لا بل شرط جائز يجوز العمل به و يجوز عدم الاعتناء به أيضا كسائر الشروط الابتدائيّة التي ليست في ضمن العقد اللازم. و هذا مبنيّ على أنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود الجائزة لا يجب الوفاء بها، بعد الفراغ من أنّ عقد القرض ليس من العقود اللازمة.

فبعد تماميّة هاتين المقدّمتين لا مناص إلاّ من القول بأنّ هذا الشرط-أي شرط أداء المقترض دينه في بلد آخر في ضمن عقد القرض-جائز لا يجب الوفاء به، و إلاّ يلزم زيادة الفرع أي الشرط على الأصل أي نفس عقد القرض، بمعنى أنّ الأصل-أي نفس عقد القرض-يكون جائزا، و الشرط الواقع في ضمنه يكون لازما، و هذا لا يخلو من غرابة.

و أمّا في مسألة جواز عقد القرض أو لزومه سنتكلّم عمّا قريب

ص: 234


1- «الفقيه» ج 3، ص 261، ح 3941، كتاب المعيشة، السلف في الطعام و الحيوان، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 481، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 14، ح 4.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 110، ح 472، في بيع الواحد بالاثنين و أكثر من ذلك و ما يجوز فيه و ما لا يجوز، ح 78، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 481، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 14، ح 7.

إن شاء اللّٰه تعالى.

فرع: قال بعضهم: اشتهر القول بين جماعة من الأصحاب بأنّ من قتل مؤمنا ظلما ينتقل ما في ذمّة المقتول إلى ذمّة القاتل ، و لا فرق في ذلك بين أن تكون الديون التي في ذمّة المقتول ديونه الماليّة و حقوق الآدميّين، أو كان من الحقوق الإلهيّة. و نسب في الحدائق هذا القول إلى شيخنا الشهيد قدّس سرّه (1).

و على كلّ حال لم نجد دليلا على هذا القول يعتمد عليه. نعم روى الصدوق رحمه اللّٰه في عقاب الأعمال بسنده عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: «من قتل مؤمنا أثبت اللّٰه على قاتله جميع الذنوب، و برء المقتول منها» (2).

و لكن هذا في حقّ اللّٰه فقط، و أمّا في الماليّات فروى في الكافي عن الوليد ابن صبيح قال: جاء رجل إلى أبي عبد اللّٰه عليه السّلام يدّعي على المعلّى بن خنيس دينا، فقال:

ذهب بحقّي. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «ذهب بحقّك الذي قتله» (3).

و لكن في دلالة كلتا الروايتين على المطلوب تأمّل.

هذا آخر ما كتبناه في الدين المطلق.

المقصد الثاني: في القرض الذي هو أحد أسباب الدين و اشتغال الذمّة

و أحسن ما قيل في تعريفه: أنّه عبارة عن تمليك مال بعوضه الواقعي، إن كان من المثليّات فبمثله، و إن كان من القيميّات فبقيمته.

ص: 235


1- «الحدائق الناصرة» ج 20، ص 213.
2- «ثواب الأعمال و عقاب الأعمال» ج 2، ص 328، عقاب من قتل نفسا متعمدا، ح 9.
3- «الكافي» ج 5، ص 94، كتاب المعيشة، باب الدّين، ح 8.

و لا ريب في استحبابه و أنّ الشارع ندب إليه و أكّد، بل لا يبعد كونه من الضروريّات، و هو حسن عقلا و شرعا.

و قد ورد في كتاب اللّٰه العزيز (مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً وَ اَللّٰهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (1)«ثواب الأعمال و عقاب الأعمال» ج 1، ص 167، ثواب من أقرض المؤمن، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 87، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 6، ح 1.(2).

و في ثواب الأعمال عن محمّد بن حباب القمّاط، عن شيخ كان عندنا قال:

سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: «لأن أقرض قرضا أحبّ إلى من أن أتصدّق بمثله» (2).

و كان يقول: «من أقرض قرضا و ضرب له أجلا فلم يؤت به عند ذلك الأجل، كان له من الثواب في كلّ يوم يتأخّر عن ذلك الأجل بمثل صدقة دينار واحد في كلّ يوم» (3).

و أيضا في ثواب الأعمال عن جابر، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: من أقرض مؤمنا قرضا ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة و كان هو في صلاة من الملائكة حتّى يؤدّيه» (4).

و في عقاب الأعمال عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في حديث قال: «و من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوى و طور سينا حسنات، و إن رفق به في طلبه تعدّى به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب و لا عذاب، و من شكى إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرم اللّٰه عزّ و جلّ عليه

ص: 236


1- البقرة
2- :245.
3- «ثواب الأعمال و عقاب الأعمال» ج 1، ص 167، ثواب من أقرض المؤمن، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 87، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 6، ح 1.
4- «ثواب الأعمال و عقاب الأعمال» ج 1، ص 166، ثواب من أقرض المؤمن، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 87، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 6، ح 3.

الجنّة يوم يجزي المحسنين» (1).

و في الأمالي في خبر المناهي: «من احتاج إليه أخوه المسلم في قرض و هو يقدر عليه و لم يفعل، حرم اللّٰه عليه ريح الجنّة» (2).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في فضل القرض و أنّه أفضل من الصدقة.

و روى في الهداية عن الصادق عليه السّلام: «مكتوب على باب الجنّة: الصدقة بعشرة و القرض بثمانية عشر» (3).

فرع: قد عرفت أنّ حقيقة القرض هو تمليك مال لشخص آخر أو أشخاص آخرين بعوضه الواقعي من المثل في المثليّات، و القيمة في القيميّات.

و لا فرق بين هذه العبارة و قول جماعة أنّه عبارة عن التمليك بالضمان، لأنّ معنى الضمان هو أيضا يرجع إلى هذا المعنى، فإذا قال: من أتلف مال الغير فهو له ضامن، أي هذا التالف في عهدته و لا يتخلّص إلاّ بأدائه بالمثل، أو القيمة بعد تعذّر أداء نفسه بالتلف، و في الحقيقة أداء نفس الشيء و إن كان يصدق على ردّه إلى صاحبه و منه قوله تعالى (إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا) (4)و لكن فيما لا يمكن ردّه لتلف أو جهة أخرى، فأداؤه عرفا بالمثل إن كان مثليا، و بالقيمة إن كان قيميّا.

و حيث أنّ المقصود من القرض هو أن يرفع به المقترض حاجته، و هذا ملازم

ص: 237


1- «ثواب الأعمال و عقاب الأعمال» ج 2، ص 341، باب يجمع عقوبات الأعمال، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 88، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 6، ح 5.
2- الصدوق في «الأمالي» ج 516، المجلس السادس و الستون.
3- الصدوق في «الهداية» ص 44.
4- النساء (4) :58.

عرفا مع تلفه، فأداؤه غالبا لا يمكن بردّه، بل مقصود المقرض هو أن يرفع المقترض به حاجته ثمَّ يؤدّيه، لا أنّه يذهب بالمرّة، و إلاّ فهو يدخل في الهبات لا القرض الذي هو من المعاوضات، و الأداء حينئذ لا يمكن بردّ عينه لإتلافها في قضاء حوائجه، فيكون أداؤه بالمثل أو القيمة كلّ واحد منهما في محلّه.

فعند العرف حقيقة القرض هو تمليك مال لا مجّانا و إلاّ يصير هبة، و لا بعوض مسمّى و إلاّ يصير بيعا، بل بعوض واقعي من المثل أو القيمة أو بالضمان، و هو أيضا عبارة عن عوضه الواقعي، أي المثل في المثليّات، و القيمة في القيميّات.

و لهذا قالوا: إنّه لا يجب على المقترض ردّ العين و إن كانت موجودة، بل له أن يعطي المثل أو القيمة كلّ في محلّه.

و إذا عرفت هذا فنقول: يجب إنشاء هذا المعنى كي يتحقّق القرض، فالمقرض ينشئ تمليك المال المطلوب للمقترض بعوضه الواقعي، و المقترض يقبل ما أنشأه المقرض، فيتحقّق القرض، فالقرض أيضا كسائر عناوين المعاملات متوقّف على إيجاب من طرف المقرض و قبول من طرف المقترض.

و لا شكّ في وقوع هذا المعنى بالإيجاب و القبول القولي، غاية الأمر بالألفاظ الصريحة الصحيحة، كما هو الحالّ في سائر العقود و المعاملات، و أصرح لفظ في هذا الباب هو لفظ «أقرضتك الشيء الفلاني» ، و لا يحتاج إلى أن يقول «بعوضه الواقعي» لأنّ مادة القرض معناه العرفي هو هذا المعنى.

و إنّما الكلام في وقوعه بالإنشاء الفعلي الذي يسمّى بالمعاطاة أم لا؟

و الظاهر وقوعه كذلك و صدق القرض عليه، بل السيرة المستمرّة في البلاد و الأسواق هو إنشاؤه بفعله، مثلا إذا يطلب القرض من شخص و يريد المقرض أن يعطيه يأتي بما طلب و يعطيه من دون التكلّم في هذا الموضوع، و يصدق عليه القرض في هذا الموضوع، و يشمله إطلاق قوله تعالى (مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ

ص: 238

قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً وَ اَللّٰهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (1)، فيكون قرضا عرفيّا أمضاه الشارع. و هذا معنى الصحّة، فينتج أنّ القرض كما أنّه يقع و يصحّ و يترتّب عليه الأثر إذا وقع بالقول و اللفظ كذلك يقع بالفعل و المعاطاة، و يترتّب عليه آثار القرض و أحكامه.

و أمّا مسألة اللزوم و الجواز، فهذا البحث لا يأتي في القرض، لأنّ القرض جائز على كل حال، سواء كان إنشاؤه بالقول أو بالفعل.

و هذا البحث كان يثمر في العقود اللازمة إذا كان إنشاؤها بالقول، و أمّا إذا كان بالفعل كالبيع المعاطاتي فيقع البحث في أنّه هل هو لازم أو جائز.

و أمّا اللزوم في القرض فلا معنى له، إذ اللزوم عبارة عن أنّ المتعاقدين يقفان عند التزام كلّ واحد منهما للآخر و لا يرجعان عمّا التزما به.

و إن شئت قلت: كلّ واحد منهما يلتزم للآخر بالبقاء عند هذه المعاوضة التي وقعت بينهما و العقد و العهد الذي حصلت لهما، و هذا هو اللزوم الحقّي، أي لكلّ واحد منهما حق على الآخر، و هو أنّه يجب عليه أن يبقى على التزامه للآخر من غير تراجع عنه.

و هذا هو معنى قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) أي كلّ واحد من المكلّفين يجب أن يفي بعهده و عقده، و لا يجوز له الرجوع عمّا التزم به للآخر، لأنّ هذا حقّ الآخر عليه. و لذلك لو رفع الاثنان يدهما عن حقّهما فقهرا ينحلّ العقد، لأنّ وقوف كلّ أحد من المتعاملين عند التزامه من باب مراعاة حقّ ذلك الآخر، فإذا رفض الاثنان حقّهما فلا يبقى شيء يكون موجبا للزوم بقائه عند التزامه.

و هذا معنى الإقالة، ففي الحقيقة مرجع الإقالة إلى ردّ كلّ واحد منهما الالتزام

ص: 239


1- المائدة (5) :1.
2- البقرة (2) :245.

الذي التزم به طرفه له إلى صاحبه، فيكون نتيجته سقوط كلا الحقّين.

و مرجع هذا إلى انحلال العقد و العهد، فانحلال العقد بالإقالة لا يحتاج إلى دليل على صحّة الإقالة، بل هو مقتضى نفس القواعد الأوّلية.

فإذا عرفت معنى اللزوم في أبواب العقود و المعاوضات، فتعرف أنّ إتيان اللزوم في باب الهبة و القرض لا يخلو عن غموض، لعدم تصوير التزامين للطرفين كلّ واحد من الالتزامين يكون حقا للآخر بحيث يكون أمر إبقائه أو إسقاطه بيد الآخر، لأنّ معنى عقد القرض كما عرفت-تمليكه المال للمقترض بعوضه الواقعي الذي قد يعبّر عنه بالتمليك بالضمان، و معنى عقد الهبة هو تمليكه له مجّانا و بلا عوض في مقابل ما يملكه، و في الهبة المعوّضة أيضا ليس العوض في مقابل ما يملكه بل يملكه مجّانا و بلا عوض، بل غاية ما يكون فيه اشتراط هبة مقابل هبته فلا يلتزم المتّهب بشيء في قبال تمليك ما ملكه الواهب-أي العين الموهوبة.

فباب القرض و الهبة لا محلّ فيهما للزوم بذلك المعنى الذي ذكرنا له، يمكن أن يحكم فيهما باللزوم بمعنى آخر، و هو عدم جواز الرجوع إلى ما أخرج عن ملكه و أدخل في ملك غيره، كما حكم بذلك في باب الصدقة و قال: الراجع إلى صدقته كالراجع الى قيئه. و لكن هذا يحتاج إلى ورود دليل عليه، و حيث لا دليل على ذلك في باب القرض بأنّه لا يجوز له الرجوع إلى ما ملك، فمقتضى القاعدة هو جوازه.

فرع: لا يجوز شرط الزيادة في القرض ، سواء كان من جنس المال الذي أقرضه، مثل أن أقرضه عشرة دراهم باثني عشر درهما مثلا، أو منّا من الحنطة بمنّ و ربع منّ، أو من غير جنسه، كما إذا أقرضه عشرة دراهم بمثله و بزيادة ربع وقية من الشاي مثلا، أو كانت الزيادة عملا، كما إذا أقرضه مائة درهم مثلا بمثله بإضافة خياطة ثوبه، أو بناء حائطه، أو شيئا آخر من الأعمال النافعة للمقرض، أو كانت

ص: 240

الزيادة منفعة من المنافع، كما أنّه لو أقرضه مائة دينار بمثله بزيادة أن ينتفع من داره المعدّة للإيجار سكنى سنة، و أمثالها من منافع الأعيان.

و لا فرق في عدم جواز الزيادة فيما اقترض بين أن يكون المال الذي يقترضه من الأجناس الربويّة-أي كان من المكيل و الموزون-أو لم يكن منها، بل كان من المعدود، فلا يجوز إقراض عدة من البيض أو الجوز أو البرتقال-بناء على أنّه من المعدود-بأزيد من العدد الذي أقرضه، و لا بزيادة أخرى و إن كانت من غير جنس ما اقترضه.

و هذا هو الفرق بين الربا في القرض و بين الربا في سائر المعاملات و المعاوضات، فالربا في باب القرض أوسع من الربا في سائر المعاملات و المعاوضات، ففي سائر المعاملات و المعاوضات، لا يأتي الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن، و أمّا في القرض فيأتي في الجميع، سواء كان من المكيل و الموزون، أو كان من المعدود كالبيض و الجوز.

و الدليل على عدم جواز الزيادة فيه مطلقا أو في خصوص ما إذا شرط، هو إجماع المسلمين، بل الضرورة من الدين، لأنّها ربا، فتكون المنهيّة في الكتاب المبين و التنزيل من رب العالمين.

و قد روي عنه صلّى اللّٰه عليه و آله: «كلّ قرض يجرّ منفعة فهو حرام» (1).

و أيضا يدل عليه روايات:

منها: ما في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهم السّلام قال: و سألته عن رجل أعطى رجلا مائة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقلّ

ص: 241


1- «سنن البيهقي» ج 5، ص 350، باب كل قرض جر منفعة فهو ربا، و فيه: «كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا» ، ابن حجر في «المطالب العالية» ج 1، ص 411، ح 1373، باب الزجر عن القرض إذا جر منفعة، و فيه: «كل قرض جرّ منفعة فهو ربا» ، «الصنعاني في «سبل السلام» ج 3، ص 872، القرض، و فيه: كما في المطالب.

أو أكثر؟ قال عليه السّلام: «هذا الربا المحض» (1).

منها: ما في الكافي و التهذيب قال خالد بن الحجّاج: سألته عن رجل كانت لي عليه مائة درهم عددا فقضاها مائة وزنا؟ قال: «لا بأس ما لم يشترط» . قال: و قال:

«جاء الربا من قبل الشروط، إنّما يفسده الشروط» (2).

و منها: ما في الفقيه و التهذيب و الاستبصار، موثّقة إسحاق بن عمّار، قال: قلت:

لأبي إبراهيم عليه السّلام: الرجل الذي يكون له عند الرجل المال قرضا، فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منفعة فينيله الرجل الشيء بعد الشيء كراهية أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة، أ يحلّ ذلك؟ قال: «لا بأس» إذا لم يكن يشترط» (3).

و منها: ما في الكافي و الفقيه و التهذيب، حسن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

سألته عن الرجل يستقرض الدراهم البيض عددا، ثمَّ يعطي سودا و قد عرفت أنّها أثقل ممّا أخذ، و تطيب به نفسه أن يجعل له فضلها؟ فقال: «لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط، و لو وهبها له كلّها صلح» (4).

و منها: ما في الكافي و التهذيب، صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا

ص: 242


1- «قرب الإسناد» ص 265، ح 1055، ما يحل من البيوع، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 108، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 18.
2- «الكافي» ج 5، ص 244، كتاب المعيشة، باب الصروف، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 112، ح 483، في بيع الواحد بالاثنين و أكثر من ذلك و ما يجوز منه و ما لا يجوز، ح 89، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 476، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 12، ح 1.
3- «الفقيه» ج 3، ص 284، ح 4027، كتاب المعيشة، باب الرّبا، ح 37، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 205، ح 467، في القرض و أحكامه، ح 21، «الاستبصار» ج 3، ص 10، ح 28، في القرض لجر المنفعة، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 106، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 13.
4- «الكافي» ج 5، ص 253، كتاب المعيشة، باب الرجل يقرض الدراهم و يأخذ أجود منها، ح 1، «الفقيه» ج 3، ص 284، ح 4025، كتاب المعيشة، باب الرّبا، ح 35، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 109، ح 470، في بيع الواحد بالاثنين و أكثر من ذلك. ، ح 76، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 476، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 12، ح 2.

أقرضت الدراهم ثمَّ أتاك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط» (1).

و منها: ما في التهذيب، صحيحة محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط إلاّ مثلها، فإن جوزي أجود منها فليقبل، و لا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقة» (2).

و أمّا الروايات التي وردت على أنّ خير القرض هو الذي يجرّ المنفعة، كرواية محمّد بن عبده قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن القرض يجرّ المنفعة؟ فقال: «خير القرض ما يجرّ المنفعة» (3).

و منها: ما في الكافي عن ابن أبي عمير، عن بشر بن سلمة و غير واحد، عمّن أخبرهم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «خير القرض ما جرّ منفعة» (4).

و غيرهما ممّا ظاهرها شمول إطلاقها لما جرّ القرض المنفعة و لو كان بسبب الشرط فلا بأس، فيقيّد إطلاقها بالروايات المتقدّمة التي فصّلت بين أن تكون بالشرط فيكون الشرط و القرض كلاهما باطلان، و بين أن لا يكون بالشرط فلا بأس في أخذ الزيادة.

و أمّا الروايات التي مفادها البأس في أخذ الزيادة مطلقا، سواء شرط أو لم يشترط، فقد عرفت أنّها تقيّد بمورد شرط الزيادة.

ص: 243


1- «الكافي» ج 5، ص 254، كتاب المعيشة، باب الرجل يقرض الدراهم و يأخذ أجود منها، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 201، ح 449، في القرض و أحكامه، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 477، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 12، ح 3.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 203، ح 457، في القرض و أحكامه، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 106، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 11.
3- «الكافي» ج 5، ص 255، كتاب المعيشة، باب القرض يجر المنفعة، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 202، ح 453، في القرض و أحكامه، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 104، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 5.
4- «الكافي» ج 5، ص 255، كتاب المعيشة، باب القرض يجر المنفعة، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 105، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 6.

و خلاصة الكلام: أنّ الروايات الواردة في هذا الباب ثلاث طوائف:

الأولى: هي المانعة عن الزيادة مطلقا، سواء شرط أم لا، كالنبويّ المتقدّم: «كلّ قرض يجرّ المنفعة فهو حرام» (1).

الثانية: هي المفصّلة المانعة عنها إذا اشترط، و هي كثيرة.

الثالثة: هي المرخّصة فيها مطلقا، كقوله عليه السّلام في روايات متعدّدة «خير القرض ما يجرّ المنفعة» و الروايات المفصّلة يقيّد بها كلا الإطلاقين في طرفي الجواز و المنع.

فالنتيجة هو الحكم بالجواز إذا لم يشترط الزيادة و عدم الجواز فيما إذا اشترط.

و أمّا حمل الإطلاقات الناهية-أي التي مفادها عدم الجواز مطلقا-على الكراهة كما يظهر من بعض كتب الشيخ قدّس سرّه (2)، فخلاف ظاهر الروايات. فالمتعيّن حمل الإطلاقات المانعة على مورد الاشتراط، و الإطلاقات المجوّزة على مورد عدم الاشتراط.

ثمَّ إنّه بعد ما ظهر ممّا ذكرنا أنّ اشتراط الزيادة في القرض لا يجوز، و حمل المطلقات الناهيّة عن الزيادة على ذلك، فلا شبهة في حرمة نفس الزيادة، و أنّها لا تصير ملكا للمقرض، و أنّها من الربا المحرّم، فهل المال المقترض أيضا لا يجوز للمقترض التصرّف فيه كما أنّه لا يجوز للمقترض التصرّف في الزيادة و يكون حراما عليه، أو لا بل الحرمة مختصّة بالزيادة، و نفس القرض بالنسبة إلى مال المقترض معاملة صحيحة لا إشكال فيه، فيجوز للمقترض التصرّف فيما اقترض و يحرم عليه إعطاء الزيادة، بل صرف الاشتراط حرام و إن لم يعط، و بعد ذلك يجب عليه الاستغفار من هذا الذنب-أي الاشتراط-لأنّه أقدم على المحرم، أي المعاملة الربويّة.

ص: 244


1- تقدم ص 241، هامش (1) .
2- «الخلاف» ج 3، ص 174، مسألة:286.

نعم لو تاب و ردّ الزيادة أو لم يأخذ فله رأس ماله كما هو صريح الآية الشريفة، أو جواز التصرّف في المقترض مبنيّ على أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد فيكون التصرّف حراما، لأنّه حينئذ يكون المال المقترض مقبوضا بالعقد الفاسد، و هو جار مجرى الغصب كما حقّق في محلّه.

و أمّا إن قلنا بأنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد-كما هو المختار عندنا-فالقرض صحيح، و يجوز تصرّف المقترض في المال المقترض و إن فعل حراما بالاشتراط، و لا تشتغل ذمّته بتلك الزيادة.

الظاهر من الأدلّة و الإجماعات هو بطلان هذه المعاملة، أي القرض المشترط فيه الزيادة، و إن قلنا بأنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد، كما هو المختار عندنا.

و قد أفردنا لذلك قاعدة في المجلّد الرابع من هذا الكتاب و أثبتنا هناك عدم كونه مفسدا، و ذلك لأنّ المعاملة تصير بهذا الاشتراط ربويّة، و قد ثبت من الشرع بالآيات و الروايات و الإجماعات، بل الضرورة بطلان المعاملة الربويّة، فما ذكره المحدّث البحراني (1)أنّه ليس في شيء من نصوصنا ما يدلّ على فساد العقد فعجيب.

و أمّا ما قاله: إنّ أقصى ما فيها هو النهي عن اشتراط الزيادة، و الحديث النبوي «كلّ قرض يجرّ المنفعة فهو حرام» ليس من طرقنا. ففيه: أوّلا كما عرفت أنّ دليل حرمة القرض المشتمل على شرط الزيادة ليس منحصرا بذلك الحديث الشريف.

و ثانيا: أنّ ضعف سنده منجبر بعمل الأصحاب و شهرته عملا، بل جماعة ادّعى الإجماع عليه كما في السرائر و المختلف و الغنية (2).

ص: 245


1- «الحدائق الناصرة» ج 20، ص 117.
2- «السرائر» ج 2، ص 62، «مختلف الشيعة» ج 5، ص 408، الفصل الثاني: في القرض، مسألة:24، «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 529.

فرع: قال في الشرائع: لو تبرّع المقترض بزيادة في العين أو الصفة جاز (1).

أقول: الزيادة في العين هو أن يكون كمّية المثل في المثلي و كمّية القيمة في القيمي في مقام أداء الدين أزيد من مقدار الدين، و الزيادة في الصفة هو أن يكون ما يؤدّي به الدين أجود من نفس الدين-أي المال المقترض-أو صفة أخرى ممّا يوجب كثرة الرغبة إليه. مثلا أقرضه حنطة أو أرزا من القسم الرديء، فالمقترض يؤدّي دينه من القسم الجيّد منها، أو المراد بالتّبرع هو أن لا يكون بالاشتراط بحيث يكون ملزما بتلك الزيادة حسب التزامه.

و الدليل على ذلك مضافا إلى حكم العقل بحسنه و إلى الإجماعات، هو الأخبار و الروايات الواردة في هذا الباب:

منها: ما رواه إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له مع رجل مال قرضا، فيعطيه الشيء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه؟ قال عليه السّلام: «لا بأس بذلك ما لم يكن شرطا» (2).

و منها: ما رواه هذيل بن حيّان، أخي جعفر بن حيان الصيرفي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّي دفعت إلى أخي جعفر مالا فهو يعطيني ما أنفق و أحجّ منه و أتصدّق، و قد سألت من قبلنا فذكروا أنّ ذلك فاسد لا يحلّ، و أنا أحبّ أن أنتهي إلى قولك فما تقول؟ فقال لي: «أ كان يصلك قبل أن تدفع إليه مالك؟» قلت: نعم. قال: «خذ منه ما يعطيك فكل منه و اشرب و حجّ و تصدّق، فإذا قدمت العراق فقل: جعفر بن محمّد

ص: 246


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 67.
2- «الكافي» ج 5، ص 103، كتاب المعيشة باب هدية الغريم، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 191، ح 414، في الديون و أحكامها، ح 39، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 103، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 3.

أفتاني بهذا» (1).

و منها: ما رواه محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضا و يعطيه الرهن، إمّا خادمة، و أمّا آنية، و إمّا ثيابا، فيحتاج إلى شيء من منفعته فيستأذن فيه فيأذن له؟ قال: «إذا طابت نفسه فلا بأس» . قلت:

إنّ من عندنا يروون أنّ كلّ قرض يجرّ منفعة فهو فاسد؟ فقال: «أو ليس خير القرض ما جرّ منفعة» (2).

و منها: ما رواه محمّد بن عبدة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن القرض يجر المنفعة؟ فقال: «خير القرض الذي يجرّ المنفعة» (3).

و قد تقدّم توجيه هذه الجملة أنّه فيما إذا كان بغير شرط، و إلاّ فلا يجوز، فيكون دليلا في المقام، و هو أنّه لو تبرّع المقترض بزيادة في العين أو الصفة جاز.

و منها: ما رواه يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينار، و يقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينار؟ قال: «لا يصلح إذا كان قرضا يجرّ شيئا فلا يصلح» . قال: و سألته عن رجل يأتي حريفه و خليطه فيستقرض منه الدنانير فيقرضه و لو لا أن يخالطه و يحارفه و يصيب عليه لم يقرضه؟ فقال عليه السّلام: «إن كان معروفا بينهما فلا بأس، و إن كان إنّما يقرضه من أجل أنّه يصيب عليه فلا يصلح» (4).

ص: 247


1- تقدم ص 213، هامش (3) .
2- «الكافي» ج 5، ص 255، كتاب المعيشة، باب القرض يجر المنفعة، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 201، ح 452، في القرض و أحكامه، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 104، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 4.
3- تقدم ص 243، هامش (4) .
4- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 204، ح 462، في القرض و أحكامه، ح 16، «الاستبصار» ج 13، ص 10، ح 27، في القرض لجر المنفعة، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 105، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 9.

و لا بدّ من حمل قوله «لا يصلح» على مورد الشرط، و قد تقدّم.

و يقول صاحب الوسائل: إنّ الشيخ تارة حمله على الكراهة، و أخرى على الشرط (1)انتهى.

أقول: حمله على الشرط أقرب و أظهر.

و منها: ما رواه أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: الرجل يأتيه النبط بأحمالهم فيبيعها لهم بالأجر، فيقولون له أقرضنا دنانير فإنّا نجد من يبيع لنا غيرك و لكنّا نخصّك بأحمالنا من أجل أنّك تقرضنا. فقال: «لا بأس به، إنّما يأخذ دنانير مثل دنانيره، و ليس بثوب أنّ لبسه كسر ثمنه و لا دابّة إن ركبها كسرها، و إنّما هو معروف يصنعه إليهم» (2).

و منها: ما رواه جميل بن درّاج، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قلت له:

أصلحك اللّٰه إنّا نخالط نفرا من أهل السواد فنقرضهم القرض و يصرفون إلينا غلاّتهم فنبيعها لهم بأجر و لنا في ذلك منفعة، قال: فقال: «لا بأس، و لا أعلمه إلا قال: و لو لا ما يصرفون إلينا من غلاّتهم لم نقرضهم. قال: «لا بأس» (3).

و منها: ما رواه إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السّلام: الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا، فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منفعة، فينيله الرجل الشيء بعد الشيء كراهية أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة، أ يحلّ ذلك؟ قال: «لا بأس إذا لم يكن بشرط» (4).

ص: 248


1- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 105، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 9، في ذيل الحديث.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 203، ح 461، في القرض و أحكامه، ح 15، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 105، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 10.
3- «الفقيه» ج 3، ص 283، ح 4024، كتاب المعيشة، باب الرّبا، ح 34، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 204، ح 466، في القرض و أحكام، ح 20، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 106، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 12.
4- تقدم ص 242، هامش (3) .

و منها: ما رواه إسحاق بن عمّار، عن العبد الصالح عليه السّلام قال: سألته عن رجل يرهن العبد، أو الثوب، أو الحليّ أو المتاع من متاع البيت فيقول صاحب الرهن للمرتهن: أنت في حلّ من لبس هذا الثوب فالبس الثوب و انتفع بالمتاع و استخدم الخادم؟ قال: «هو له حلال إذا أحلّه، و ما أحبّ له أن يفعل» (1).

و منها: ما رواه الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا أقرضت الدراهم ثمَّ جاءك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط» (2).

أقول: لا ريب في دلالة هذه الروايات على أنّ المقترض أو الذي يريد أن يقترض لو تبرّع بإعطاء شيء للمقرض، يجوز ذلك له، و لا يضرّ بصحّة القرض أصلا. نعم كان في بعض هذه الروايات على كراهة أخذه، كما كان في رواية إسحاق بن عمّار قوله عليه السّلام: «هو له حلال إذا أحلّه و ما أحبّ أن يفعل» ، و في بعض آخر:

«إنّه يأخذ و لكن يحسبه من دينه» ، كما أنّه قال في رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إنّ رجلا أتى عليا عليه السّلام فقال: إنّ لي على رجل دينا فأهدى إليّ هدية؟ قال عليه السّلام: «احسبه من دينك عليه» (3).

فرع: و لو شرط ردى المكسرة عوض الصحيحة، أو الأنقص عوض التامّ، أو تأخير القضاء فهل يلغو الشرط و يصحّ القرض كما اختاره العلاّمة في القواعد و التذكرة (4)و الشهيد في الدروس (5)، أو يبطل القرض لأنّ مبناه على المماثلة، فشرط

ص: 249


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 205، ح 468، في القرض و أحكامه، ح 22، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 107، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 15.
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 201، ح 449، في القرض و أحكامه، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 108، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 20، ح 1.
3- تقدم ص 213، هامش (2) .
4- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 156، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 6.
5- «الدروس» ج 3، ص 319، في القرض.

الناقص عوض التامّ، أو المكسر عوض الصحيح، و إن لم يكن من شرط الزيادة و لا يوجب كون القرض سبباً لجرّ المنفعة، و لكن مثل هذا الشرط خلاف حقيقة القرض -كما تقدّم-التي هو التمليك بالضمان الواقعي، بمعنى اشتغال ذمّة المقترض بالمثل في المثلي و القيمة في القيمي، فكون المكسر عوض الصحيح أو الأنقص عوض التامّ أو تأخير القضاء؟ كلّها خلاف مقتضى عقد القرض، فهذه الشروط بأقسامها الثلاثة باطلة لا أثر لها.

و لعل هذا مراد العلاّمة حيث يقول: إنّ الشرط يلغو (1).

و بعد أنّ فرضنا أنّ الشرط الفاسد لا يفسد المعاملة التي وقع الشرط في ضمنها فالقرض صحيح و يلغو الشرط كما ذهب إليه العلاّمة. و أمّا اشتراط تأخير القضاء فهو أيضاً خلاف مقتضى العقد فيكون فاسدا، ففي جميع هذه الشروط الثلاثة الحقّ هو ما ذهب إليه العلاّمة لا ملزم في البين، بل كما تقدّم سابقاً يجوز للمقرض مطالبة المثل أو القيمة.

هذا كلّه فيما إذا شرط ردّ المكسر عوض الصحيح، أما لو شرط ردّ الصحيح عوض المكسر فلا ريب في أنّه من شرط الزيادة و يكون باطلا كما تقدم.

نعم هاهنا وردت رواية، و هي صحيح يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلّة، و يأخذ منه الدراهم الطازجيّة طيبة بها نفسه؟ قال: «لا بأس به» و ذكر ذلك عن علي عليه السّلام (2).

و تمسّك من قال بصحّة هذا الشرط-أيّ شرط ردّ الصحيح عوض المكسر-

ص: 250


1- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 156.
2- «الكافي» ج 5، ص 254، كتاب المعيشة، باب الرجل يقرض الدراهم و يأخذ أجود منها، ح 4، «الفقيه» ج 3، ص 285، ح 4031، كتاب المعيشة، باب الرّبا، ح 41، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 477، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 12، ح 5، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 201، ح 450، في القرض و أحكامه، ح 4.

كالشيخ و أبي الصلاح و ابني البراج و حمزة (1)بهذه الرواية، و لكنّ الإنصاف عدم دلالة هذه الرواية على الاشتراط، بل ظاهرها أنّه يقرض الدراهم الغلّة، و المقترض يعطي قرضه من طيبة نفسه بالدراهم الطازجيّة، و ليس حديث الاشتراط في البين أصلاً، فمفاد هذه الرواية أجنبي عن محلّ البحث، فالحقّ هو بطلان القرض إذا كان بشرط أن يعطي الطازج عوض الغلّة، أو الصحيح عوض المكسر.

فرع: كلّ مال يضبط وصفه الذي تختلف القيمة باختلافه و أيضا يمكن ضبط قدره، مثل الحنطة و الشعير كيلاً أو وزناً أو عدداً مثل الجوز و البيض يجوز إقراضه.

و شرط إمكان ضبط وصفه و قدره وزناً أو كيلاً أو عدداً من جهة معرفة المال المقترض كي يكون في مقام الأداء يعرف المقرض و المقترض أنّه أي الدين-مثليّ أو قيميّ، و بأيّ وصف هو إن كان مثليّاً، و بأيّ قيمة هو إن كان من القيميّات، بل لا فرق بين المثلي و القيمي في لزوم معرفة الأوصاف التي لها دخل في الماليّة، و كذلك في مقداره و كميّته، إذ معرفة كلاهما بمعرفتهما كي يؤدّي المقترض ذلك المثل أو تلك القيمة، فصحّة الإقراض مشروطة بمعرفة وصف المال المقترض و قدره وزناً أو كيلاً أو عدداً، و إلاّ لو لم يعرفا الوصف الذي تختلف القيمة باختلافه، لا المقرض يدري أيّ شيء يطلب من المقترض، و لا المقترض يدري أيّ شيء عليه أن يؤدّي إلى المقرض.

و خلاصة الكلام: أنّ الفقهاء قرّروا ضابطاً لما يصحّ أن يقرض، و هو أنّ كلّ ما يضبط وصفه و قدره كيلاً أو وزناً في المكيل و الموزون، أو عدداً في المعدود يصحّ إقراضه.

ص: 251


1- الشيخ في «النهاية» ص 312، أبو الصلاح في «الكافي في الفقه» ص 331، ابن حمزة في «الوسيلة» ص 273، و حكى قول ابن البرّاج العلاّمة في «مختلف الشيعة» ج 5، ص 407، الفصل الثاني: في القرض، مسألة:24.

و يظهر من الجواهر (1)عدم الخلاف في هذا الضابط، فهذه الكلّية-أي كلّ ما يضبط وصفه و قدره يصحّ إقراضه إجماعيّ، و إنّما الكلام في عكسه، أي كلّ ما لا يضبط وصفه و قدره لا يصحّ إقراضه، فهل هذه أيضا من المسلّمات أو لا؟ الظاهر أنّه لا دليل على الكلّية الثانية، لا الإجماع و لا غيره، فإطلاقات أدلّة القرض و أنّه أفضل من الصدقة تشمله و إن لم يكن وصفه أو قدره مضبوطا. و بعضهم قال إنّ الضابط في صحّة الإقراض في شيء جريان السلم فيه، فكلّ شيء يجري فيه السلم يصحّ إقراضه.

و قد ذكروا في باب السلم شروطا لصحة السلم و جريانه، منها ذكر الجنس و الوصف الرافع للجهالة و تقدير المبيع ذي الكيل و الوزن بمقداره.

و المقصود من هذه الشروط حيث أنّ المبيع ليس بموجود و يشتريه سلفا تعيينه كي يكون في مقام الأخذ و الأداء لا يكون شكّ و ترديد في انطباق ذلك الكلّي الذي في ذمّة البائع على الخارج، و ذلك لأنّه بعد ما تعيّن أنّ ما في البائع المقدار الفلاني من جنس كذا بأوصاف كذا، لا يبقى شكّ و ترديد في مقام الانطباق على الخارج، و كذلك في المقام بعد أن عرف أنّ عقد القرض وقع على جنس كذا، و على تقدير كذا وزنا أو كيلا أو عددا، لا يبقى ترديد في الانطباق في مقام أخذ المقرض و أداء المقترض ما في ذمّته.

فالقرض و السلف من هذه الجهة من واد واحد، لما قلنا إنّ حقيقة القرض هو التمليك بالضمان، بمعنى أنّ في المثليّات يأتي في ذمّة المقترض المثل جنسا و وصفا و قدرا، فلا بدّ من معرفتها و ضبطها كما هو كذلك في السلف.

فبناء على هذا يجوز الدين في كلّ ما هو مثلي، لأنّه يمكن معرفته بالأوصاف.

و أيضا مقداره بالكيل و الوزن و العدّ، فمثل الحنطة و الشعير و سائر الحبوبات كالعدس

ص: 252


1- «جواهر الكلام» ج 25، ص 14.

و الحمص و الماش و الأرز يصحّ فيه الدين كيلا و وزنا، و الذهب و الفضّة وزنا، لأنّ تقديرهما في المتعارف بالوزن و بالكيل.

مضافا إلى أنّه ليس من المتعارف ربما يكون اختلاف بين ما اقترضه و بين ما يؤدّيه باعتبار اختلاف القطعات منهما، فتختلف الفرج التي بينها، فيتضرّر أحدهما، و لذلك يتعيّن في مثل هذه الأمور بالوزن لا بالكيل، و كذلك في كثير من المخاضير مثل الشلغم و الجزر و البطّيخ و البصل و الثوم، فاختلاف قطعاتها توجب عدم صحّة تقديرها بالكيل، بل لا بدّ من تقديرها بالوزن.

ذلك من جهة أنّه لا بدّ من أن يكون ما تشتغل ذمّة المقترض به مساويا في المقدار مع ما أخذ من المقرض، و لا يمكن في المذكورات إحراز ذلك إلاّ بالوزن، ففي الفواكه غالبا التساوي في المقدار لا يحصل و لا يعرف إلاّ بالوزن، كالعنب و المشمش و التفّاح.

نعم ربما يتعارف في بعض البلاد معرفة التساوي في المقدار في بعض الفواكه بالعدّ كالبرتقال و النارنج، و مع ذلك الأحوط لو لم يكن الأقوى لزوم تقدير جميع الفواكه و المركّبات بالوزن، لاختلافها بالصغر و الكبر في الحجم الذي له دخل في الماليّة بما لا يتسامح فيه.

نعم في الجوز و إن كان اختلاف أيضا من حيث الحجم و لكن العرف يتسامح فيه، و كذلك الاختلاف في البيض من حيث الاختلاف في الحجم كان يتسامح فيه سابقا قبل وجود هذه الدجاجات الجديدة بتوسّط المكائن الجديدة، و لكن الظاهر أنّ الاختلافات الموجودة الآن من حيث كونه من الدجاج الأهلي أو من تلك الدجاجات التي راجعة إلى الاختلاف في الوصف، أو من حيث الصغر و الكبر التي ترجع إلى الاختلاف في المقدار لا يتسامح فيها، و لذلك السعر عند العرف يختلف فيها، فلا بدّ من تعيين المقدار و معرفته بالوزن.

ص: 253

و من جملة ما صار محلّ الكلام أنّ تقديره بالعدّ و الوزن جميعا أو بخصوص الوزن هو الخبز، فقال في الشرائع: و الخبز وزنا و عددا (1). و خالف بعض الفقهاء من المخالفين فأنكروا تقديره بالعدّ. و قال الشيخ في المبسوط: يجوز وزنا و عددا و من أنكر من الفقهاء فقد خالف الإجماع (2). و يظهر من الشهيد قدّس سرّه في الدروس (3)عدم جواز تقديره بالعدّ إذا علم بالتفاوت.

و على كلّ حال ورد روايتان تدلاّن على جواز تقدير الخبز بالعدّ:

الأولى: عن صباح بن سيابة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عبد اللّه ابن أبي يعفور أمرني أن أسألك قال: إنّا نستقرض الخبز من الجيران، فنردّ أصغر منه أو أكبر؟ فقال عليه السّلام: «نحن نستقرض الجوز الستّين و السبعين عددا، فيكون فيه الكبيرة و الصغيرة فلا بأس» (4).

الثانية: عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: استقرض الرغيف من الجيران و نأخذ كبيرا و نعطي صغيرا، و نأخذ صغيرا و نعطي كبير؟ قال عليه السّلام:

«لا بأس» (5).

و رواية أخرى في أصل جواز استقراض الخبز من دون التعرّض للاختلاف بين ما يؤخذ و بين ما يعطي، و هي رواية غياث، عن جعفر، عن أبيه عليهم السّلام قال عليه السّلام:

«لا بأس باستقراض الخبز» (6).

ص: 254


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 68.
2- «المبسوط» ج 2، ص 161.
3- «الدروس» ج 3، ص 321.
4- «الفقيه» ج 3، ص 188، ح 3707، كتاب المعيشة، باب الدّين و القرض، ح 29، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 109، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 21، ح 1.
5- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 162، ح 719، باب التلقي و الحكرة، ح 24، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 109، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 21، ح 2.
6- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 238، ح 1041، في باب من الزيادات، ح 61، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 109، ح 23850، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 21، ح 3.

و دلالة هاتين الروايتين على جواز استقراض الخبز حتّى مع التفاوت وزنا بين ما يأخذ المقترض و بين ما يؤدّي و إن كان ممّا لا ينكر، و لكن تنصرفان إلى ما إذا كان التفاوت بينهما ممّا يتسامح العرف فيه، كالتفاوت التي بين أفراد الجوز، فإنّ الناس لا يعتنون بذلك التفاوت اليسير، فالحقّ في الخبز أنّ يقال: إن التفاوت بين القرض إن كان قليلا كالجوز و البيض في الدجاج الأهليّة، فيجوز القرض فيه عددا، و إلاّ لو كان التفاوت كثيرا لا يتسامحون فيه، فلا يجوز، بل يجب أن يكون بالوزن.

فرع: بعد ما عملت أنّ القرض يوجب الاشتغال في المثلي بالمثل و في القيمي بالقيمة ، أقول: الضابط في كون المال مثليّا عند الأكثر كالشيخ و ابن زهرة و ابن إدريس و المحقّق و العلاّمة (1)و غيرهم هو أن يكون أجزاؤه متساوية في القيمة، مثلا لو كان هناك منّ من الحنطة بدينارين، نرى أنّ نصف ذلك المقدار يكون قيمته نصف قيمة المجموع، أي نصف المنّ بدينار، و كذلك ربعه بربع قيمة المجموع أي نصف دينار و هكذا. و عند بعض آخر المثلي ما يجوز فيه السلم، أي كان واجدا لشرائط صحّة السلم فيه.

و قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه في بيان الضابط في المثلي و الميز بينه و بين القيمي: أنّ المثلي عبارة عمّا لا يتفاوت أفراد نوعه أو صنفه، و لا يتميّز كلّ فرد عن الآخر بحيث لو اختلطا أو امتزجا و كانا من مالكين تحصل الشركة القهرية، و ذلك كما أنّه لو اختلط منّ من الحنطة لشخص مع منّ آخر من ذلك الصنف لشخص آخر، أو منّ من الأرز لشخص مع منّ آخر من ذلك الصنف لشخص آخر، تحصل الشركة

ص: 255


1- . الشيخ في «المبسوط» ج 3، ص 59، و ابن زهرة في «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 537، و ابن إدريس في «السرائر» ج 2، ص 480، و المحقق في «شرائع الإسلام» ج 2، ص 68، و العلاّمة في «قواعد الأحكام» ج 1، ص 203.

بين المالكين في ذلك المختلط قهرا، لعدم الامتياز بين المالين بحيث يقال هذا لفلان و هذا لفلان (1).

ثمَّ إنّ الأصحاب ذكروا تعريفات أخر للمثلي، فعن السرائر أنّه ما تماثلت أجزاؤه و تقاربت صفاته [1]، و عن الدروس و الروضة: أنّه المتساوي الأجزاء و المنفعة المتقارب الصفات (2)، و قال في المسالك و الكفاية: أنّه أقرب التعريفات إلى السلامة (3)، و عن غاية المراد: ما تساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية (4).

و لكن أنت خبير بأنّ هذه التعريفات ليست تعريفات حقيقيّة و جامعة و مانعة، و ربما يكون المعرف في نظر العرف أعرف من بعضها، فتكون فاقدة لكلا شرطي التعريف الحقيقي، و هما تساويهما في الصدق و كون المعرف أجلى.

و زاد شيخنا الأستاذ قدّس سرّه قيودا أربعة على تعريف المشهور الذي هو أجود التعاريف:

الأوّل: أن يكون تساوي الصفات و الآثار بحسب الخلقة الإلهيّة، لا بصنع مخلوق. فيخرج بهذا القيد التساوي الذي يحصل بين أفراد نوع واحد، أو صنف واحد بتوسّط المكائن و الفابريقات الجديدة، كما هو الحالّ في هذه الأعصار في أغلب ما يحتاج إليه الإنسان في عيشه من أثاث البيت. و أدوات طبخه، و أدوات المنزل من ظروفه و أوانيه و فرشه و أدوات طبخه، حتّى الكتب العلمية و كتب الأدعية، بل القرائين المقدّسة، فإنّها كلّها أو جلّها من صنع المكائن و متساوية في الصفات التي لها دخل في زيادة القيمة و قلّتها من حيث جنس كاغذها أو جنس

ص: 256


1- «كتاب المكاسب» ص 105.
2- «الدروس» ج 3، ص 113، «الروضة البهية» ج 7، ص 36.
3- «مسالك الأفهام» ج 2، ص 208، «كفاية الأحكام» ص 257.
4- «غاية المراد» ص 136.

حروف طبعها.

و الإنصاف: أنّ الأفراد التي من صنع المكائن من أيّ نوع كان، و من أيّ صنف كان تماثلها و عدم الميز بينها من حيث الصفات النوعيّة أو الخصوصيّات الصنفيّة أقوى و أشدّ بكثير من التساوي بين أفراد نوع واحد أو صنف واحد ممّا هو من المخلوقات الإلهيّة.

فالتساوي بين استكان و استكان، أو كتاب و كتاب، أو ظرف و ظرف، أو سائر الأدوات و الأمتعة ممّا صنع في مكينة واحدة على شكل واحد و منهج واحد أشدّ و أقوى من التساوي بين أبعاض بعض الحبوب التي انعقد الإجماع على أنّها من المثليّات، فلا وجه لإنكار كونها من المثليّات.

و سنذكر وجه عدم جواز الإنكار إن شاء اللّه تعالى، و قد ذكرنا الوجه مفصّلا في قاعدة «و على اليد ما أخذت» في المجلّد الرابع من هذا الكتاب.

الثاني: أن لا يتغيّر بالبقاء و لا يفسد، كما هو الحال في بعض الفواكه و المخاضير ممّا يفسد ليومه.

و الدليل الذي أقامه على اعتبار هذا القيد أيضا لا يخلو من ضعف، فهل يمكن أن يقال إذا أتلف مقدارا من العنب الذي كان في هذه السلّة، أو الرطب الذي كان في هذه السلّة، فيعطى لمالكهما من نفس تينك السلّتين من صنف ذلك العنب و من صنف ذلك الرطب عين ذلك المقدار أنّه ما أدّى ما أتلف، لأنّه لا يبقى و يتغيّر، فهذا التقييد أعجب من التقييد الأوّل.

الثالث: أن يكون المماثل كثيرا مبذولا، لا أن يكون قليلا نادر الوجود، خصوصا إذا كان مالكه لا يبيعه إلاّ بسعر غالي.

و هذا الوجه صحيح لما سنذكره.

الرابع: أن يكون تماثل الصفات موجبا لتماثل القيمة و تساويها، أي قيمة التالف

ص: 257

و قيمة هذا الذي يريد أن يؤدّي به التالف و يدفعه إلى مالك من وقع التلف على ماله.

و هذا القيد لا يخلو من وجه، لما سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

و التحقيق في هذا المقام هو أنّ الضمان مطلقا-سواء كان سببه الاقتراض، أو اليد غير المأذونة من قبل المالك، أو من هو بمنزلة المالك، أو كان إتلاف مال الغير، أو كان غير ذلك من الأسباب المعروفة المعلومة-عبارة عن اشتغال الذمّة بمال الغير و حقّه، فيجب عليه أداؤه و ردّه إلى صاحبه بحيث يكون ما يؤدّي و يفرغ به ذمّته عرفا هو عين ما في عهدته و يقال هو هو.

و حيث أنّ في مورد التلف لا يمكن ردّ ذلك الذي كان تحت يده الغير مأذونه أو الغاصبة، فلا بدّ أن يكون الهوهويّة بين ما يردّ و يؤدّي و بين ما كان تحت يده هو هويّة عرفيّة لا حقيقيّة، فلا بدّ أن يكونا متساويين في صفاتهما النوعيّة و الصنفيّة التي لها مدخليّة في القيمة باختلافها، و ذلك من جهة أنّ عمدة النظر في أبواب الضمان إلى حفظ ماليّة مال المضمون له بعد تعذّر ردّ عين ماله، أو عدم إمكانه لتلفه.

و القرض حيث أنّ بناء الطرفين المتعاملين-أي المقرض و المقترض-على استهلاك المال الذي يقترضه فمن أوّل الأمر بناؤهما على ردّ ما هو عوض ما أخذ، و إن كان يلزم أن يصدق عليه ردّ ما أخذه، بحيث يقال عرفا إنّه هو، و يكون بين ما أخذ و ما يردّ الهوهويّة العرفيّة، فلا بدّ و أن يكونا متّحدين في المهيّة النوعيّة و الصفات الصنفيّة التي لها دخل في الماليّة. و أمّا الخصوصيّات الشخصيّة فتلفت بتلف الشخص و لا يمكن ردّها.

ففي كلّ مورد وقع التلف على المقبوض الذي في ضمان القابض يجب عليه ردّ ما قبض، و لكن حيث لا يمكن ردّ عين ما قبض لتلفه أو من جهة بناء الطرفين على استهلاكه و قضاء حاجته به، فلا بدّ أن يردّ ما هو أقرب إلى التالف بعد حفظ ماليّته أن يكونا متّحدين في المهيّة النوعيّة و الصفات الصنفيّة، و كلّ ماله دخل في

ص: 258

ماليّته كي يحتفظ المقبوض منه على ماليّة ماله.

و هذا ما يسمّى بالمثل، حيث أنّه مثل المقبوض في المهيّة و الصفات المصنّفة، و أمّا الخصوصيّات الشخصيّة فقد فاتت و لا يمكن تداركها.

نعم إذا لم يمكن أداء المقبوض بحيث يقال هو هو و لو عرفا-أي لا يمكن حفظ جهاته النوعيّة و الصنفيّة-فقهرا تصل النوبة إلى حفظ جهته المالية فقط التي هي العمدة في أبواب الضمان، و هذا يسمّى بالقيمي.

فالضابط في باب المثلي و القيمي هو أنّه إن كان للمقبوض الذي فيه الضمان على القابض ما يماثله في المهيّة النوعيّة و الصفات الصنفيّة مع حفظ ماليّته فهو مثلي، و مع وجوده يجب على الضامن دفعه في مقام الأداء، و إن لم يكن ما هو كذلك فهو قيمي، و يجب دفع قيمة المقبوض.

نعم يشترط فيما يكون مثليّا أن يكون ذلك كثير الوجود و لا يكون نادر الوجود، خصوصا إذا كان لا يبيعه مالكه إلاّ بسعر غال، لأنّ هذا في حكم العدم و كان العرف لا يراه موجودا فيرى أنّ ردّه لا يمكن عادة، و ما لا يمكن ردّه عادة لا يستقرّ في عهدة لأنّه يرى الاعتبار في العهدة لغوا.

و كذلك يشترط أن يكون تماثل الصفات موجبا لتماثل قيمتها، كي يكون ماليّة مال المقبوض محفوظا، التي قلنا إنّ العمدة هي في أبواب الضمانات.

و خلاصة الكلام: أنّه لم يرد نصّ في بيان المراد من المثلي و القيمي، و لم يعلّق الحكم في لسان الشرع على المثلي و القيمي، و إنّما مفاد أدلّة الضمان ليس إلاّ ردّ ما أخذه و ما كانت عهدته مشغولا به. و هذا الذي قال الفقهاء بأنّ الردّ في المثلي بالمثل و في القيمي بالقيمة هو حسب مقتضى القواعد الأوّلية.

نعم إذا ثبت في مورد إجماع على أنّه يجب أن يردّ القيمة فيما بيّنّا أنّه مثلي أو بالعكس، يجب اتّباعه لحجّيته، و إلاّ يجب الأخذ بالضابط الذي ذكرناه، لأنّه

ص: 259

مقتضى القواعد الأوّلية.

فرع: لا شكّ في ثبوت المثل في الذمّة في المثلي ، لأنّه أقرب إلى التالف، و واجد لماليّة التالف، و اشتراكه معه في المهيّة النوعيّة و الصفات الصنفيّة التي لها دخل في تماثل الماليتين.

و إنّما الكلام في القيمي و أنّه هل تتعيّن القيمة، أو للمقترض أن يعطي في مقام الأداء مثله على فرض وجوده و لو كان من باب الاتّفاق؟ ثمَّ إنّه على تقدير إعطاء القيمة تعيينا أو تخييرا هل في ذمّته قيمة يوم الأخذ، أو قيمة يوم الأداء بعد المطالبة؟

فهاهنا أمران:

الأوّل: أنّ القيمة التي تتعلّق بعهدته و تستقرّ في ذمّته هي قيمة يوم أخذ المال

المقترض، أو قيمة يوم الأداء بعد المطالبة إذا اختلفت القيمتان.

الثاني: أنّه له إعطاء المثل في القيمي بحيث يكون للمقرض مطالبة خصوص القيمة و عدم قبول المثل أم لا؟

فنقول:

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ الذي يتعلّق بعهدته هو قيمة يوم التسليم و أخذ المال المقترض، إذ بالأخذ و تسليم المقرض للمقترض يحصل الملك، و المفروض أنّه ليس مجّانا بل بعوض، فلا بدّ أن يكون حصول الملك للمقترض و دخوله في ملكه بعوض في ظرف اشتغال ذمّته بذلك العوض الذي في المفروض هي القيمة، فلا بدّ أن يكون قيمة ذلك الوقت. و هذا واضح جدّا.

ص: 260

و أمّا الثاني: فقال في الشرائع: و لو قيل يثبت مثله في الذمّة أيضا كان حسنا (1)، لعدم الشبهة في أنّ المثل إذا وجد لشيء ففي جعله عوضا و بدلا أولى من قيمته، لأنّ إعطاء القيمة يوجب تدارك ماليّة التالف فقط، و في إعطاء المثل مضافا إلى تدارك الماليّة يتدارك به الجهات النوعيّة و الصنفيّة أيضا.

و لكن ربما ينافي ذلك الإجماع على أنّ أداء ما في العهدة في القيميّات بالقيمة و في المثليّات بالمثل، و التفصيل قاطع للشركة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ معقد الإجماع المدّعى في المقام هو جواز إعطاء القيمة في القيميّات لا تعيّنه.

و لكن هذا خلاف ظاهر ما قالوا. نعم روى الجماعة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة أخرى، و حكم بضمان عائشة إناء حفصة و طعامها بمثلهما، و أنّه استقرض بكرا و ردّ بازلا تارة و استقرض أخرى بكرا فأمر بردّ مثله (2).

فمن هذه المذكورات يظهر جواز إعطاء المثل في القيميّات في مقام، و ذلك لأنّ الطعام و الإناء و القصعة و البكر و البازل كلّها من القيميّات، و مع ذلك ردّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مقام مثل ما اقترض، أو أمر بإعطاء المثل، كما في قضية عائشة و حفصة على ما سمعت من حكمه صلّى اللّه عليه و آله بضمان عائشة مثل الطعام و الإناء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: بضعف سند هذه الروايات و عدم حجيّتها.

و ما قلنا من جواز إعطاء المثل في مقام الأداء في القيميّات مبنيّ على جواز إقراض القيميّات، و إلاّ فلا يبقى محلّ و مجال لهذا الكلام.

و قد تقدّم ثبوت الإجماع على جواز إقراض كلّ ما يصحّ ضبطه من حيث

ص: 261


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 68، المقصد الخامس: في القرض، الثاني: ما يصح إقراضه.
2- «السنن الكبرى للبيهقي» ج 6، ص 21، باب من أجاز السلم في الحيوان. ، و كذلك: ج 6، ص 96، باب ردّ قيمته ان كان من ذوات القيم... .

أوصافه التي تختلف باختلافها و قدره و يجري فيه السلف.

و قال في التذكرة: الأموال إمّا من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم، فالأوّل يجوز إقراضه إجماعا، و أمّا الثاني فإن كان ممّا يجوز فيه السلم جاز إقراضه أيضا على المشهور، بل ادّعى جماعة الإجماع على الجواز، و إن لم يكن ممّا جاز فيه السلم ففيه قولان (1).

فرع: يجوز إقراض الجواري و اللئالي بناء على أنّ ضمانهما بالقيمة، لأنّ المتعذّر فيهما هو المثل بحيث يكون مضبوطا، و أمّا القيمة فيمكن ضبطها، خصوصا بالمراجعة إلى أهلها من تجّار الجواهر في اللئالي، و النخّاسين في الجواري، فهؤلاء يعرفون قيمتها، فالبيّاعون للئالي يعرفون قيمة اللؤلؤ، و النخّاسون يعرفون قيمة الجواري، فيمكن ضبط قيمتهما بالمراجعة إليهما و السؤال عنهما، فبناء على اشتغال ذمّة المقترض بقيمتهما لا إشكال في إمكان ضبط قيمتها، فلا يبقى مانع عن جواز اقتراضهما.

و حكي عن المبسوط (2)و بعض آخر عدم الجواز، و لكنّ مقتضى إطلاقات أدلّة القرض هو الجواز.

و أمّا ادّعاء الإجماع على لزوم إمكان ضبط أوصاف مال المقترض و مقداره كيلا أو وزنا أو عدّا، و هذا لا يمكن في الجواري و اللئالي.

ففيه: أنّ هذا الشرط على تقدير عدم إمكانه في الجواري و اللئالي مختصّ بما إذا كان الضمان و اشتغال الذمّة بالمثل، فيجب وجود هذا الشرط لسهولة تطبيق ما في الذمّة على الخارج في مقام الأداء. و أمّا لو لم يكن ما في العهدة هو المثل، بل

ص: 262


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 5.
2- «المبسوط» ج 2، ص 161.

كان اشتغال الذمّة بالقيمة، فطريق ضبط القيمة في كمال الوضوح و السهولة، و هو ما ذكرنا من المراجعة إلى النخّاسين حال اقتراض الجواري، و إلى بيّاعي اللؤلؤ حال اقتراض اللئالي، فتنضبط القيمة و لا يبقى إشكال في البين.

فالأظهر ما ذهب إليه المشهور، بل ادّعى الإجماع في التذكرة و المسالك و الكفاية عليه هو الجواز (1).

و قال الشيخ في المبسوط: لا أعرف نصّا لأصحابنا في جواز إقراض الجواري و لا في المنع، و الأصل جوازه، و عموم الأخبار يقتضي جوازه (2).

و ما ذكره الشيخ كلام حسن.

فرع: المشهور أنّ المقترض يملك القرض بالقبض ، بل ادّعى عليه الإجماع في الغنية و السرائر، بل و في التذكرة و جمع آخر من الأساطين (3).

و لكنّ التحقيق: أنّه يملكه بالعقد بمقتضى القاعدة كسائر العقود المعاوضيّة لو لا الإجماع، و جواز القبض و صحّته من آثار كون المقترض مالكا بالعقد. نعم في بعض العقود تحصل الملكيّة بالقبض كالهبة، و لكن ذلك لورود الدليل على أنّ القبض شرط لصحّتها، فهناك العقد جزء السبب و الجزء الآخر هو القبض. و أمّا في القرض فليس الأمر كذلك، بل المقرض لو قال: أقرضتك الشيء الفلاني، و قبله المقترض يحصل الملك.

هذا مقتضى القواعد الأوليّة، و لكن ثبت الإجماع على عدم حصول الملك

ص: 263


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 5، «مسالك الأفهام» ج 1، ص 175 و 176، «كفاية الأحكام» ص 103.
2- «المبسوط» ج 2، ص 161.
3- «الغنية» ضمن «الجوامع الفقهية» ص 529، «السرائر» ج 2، ص 60، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 6، «المبسوط» ج 2، ص 161.

بصرف العقد، بل يحتاج إلى القبض. قال في الجواهر: و لا قبله-أي القبض-بعقد القرض إجماعا بقسميه، انتهى (1).

و بناء على ما ذكره صاحب الجواهر و جمع آخر يكون حال القرض في اشتراط القبض في حصول الملك حال الهبة، لثبوت الإجماع على ذلك.

هذا إذا كان الاقتراض بالعقد، و أمّا إذا كان بالمعاطاة فلا محالة تحصل الملكيّة بالقبض، لأنّ تماميّة المعاطاة بالقبض.

و أمّا القول بحصولها بالتصرّف فلا وجه له، لأنّه لا يجوز التصرّف إلاّ بعد حصول الملكيّة، و إلاّ يكون التصرّف في مال الغير، فيحتاج إلى الإذن من المقرض.

و البناء العملي عند الناس ليس على هذا، بل بعد تماميّة العقد و حصول القبض يرى نفسه مالكا و لا يراجع المقرض في تصرّفاته أصلا.

و الحاصل: أنّ مقتضى المعاوضة و التمليك بالضمان الذي هو حقيقة القرض و إمضاء الشارع هذه المعاوضة هو حصول الملك بنفس العقد إذا كان القرض بالعقد لا بالمعاطاة، و لكن الإجماع قيّده بالقبض. و أمّا شرطيّة التصرّف لحصول الملك فلا دليل عليه، بل الدليل على عدمه، و هو ما ذكرنا من حصول السبب التامّ قبله.

و أمّا ما يقال في وجه عدم كون التصرّف شرطا له، من أنّ التصرّف موقوف على الملك، فكيف يمكن أن يكون شرطا لحصوله.

ففيه: أنّ تقدّم الشرط على المشروط رتبيّ و ليس زمانيّا، فيمكن أن يوجدا في زمان واحد، بل لا بدّ أن يكون كذلك، فلا مانع من أن يكون التصرّف شرطا لحصول الملك، و مع ذلك يكون وجودهما في زمان واحد.

و قد شرحنا ذلك في باب الترتّب في الأصول (2)و في الفسخ الفعلي إذا كان له

ص: 264


1- «جواهر الكلام» ج 25، ص 23.
2- «منتهى الأصول» ج 1، ص 334.

الخيار و كان الفسخ بالأفعال التي هي متوقّفة على الملك كالوقف و العتق و الوطي، و قلنا هناك إنّه يكفي في جواز هذه الأفعال إيجادها في زمان كون الجارية أو العبد أو ذلك المال الذي يوقفه ملكا.

نعم ذلك في العلّة الموجدة لا يمكن، أي لا يمكن أن يكون شيئان كلّ واحد منهما علّة لوجود الآخر، و لكن لا بأس بأن يكون الشرط و المشروط كلاهما معلولين لعلّة واحدة، أو كان كلّ واحد منهما معلولا لعلّة غير علّة الأخرى، فالعمدة في عدم كون التصرّف شرطا لحصول الملك عدم الدليل عليه لا عدم إمكانه، بل المطلقات التي لا مقيّد لها دليل على العدم.

فرع: هل للمقرض الارتجاع العين المقروضة بعد القبض و حصول الملك للمقترض أم لا؟

ربما يقال بعد ما كان القرض من العقود الجائزة و للمقرض الفسخ في كلّ وقت أراد، فله الارتجاع.

و فيه: أنّ الارتجاع بالفسخ و حلّ العقد شيء، و باستيفاء حقّه شيء آخر، و محلّ البحث هو الثاني.

و التحقيق: أنّ المقرض إذا كان في مقام مطالبة حقّه على المقترض و استيفاء ما عليه و ما في ذمّته له، فليس له الارتجاع، لأنّ ما له عليه إمّا قيمة ما أقرضه لو كان قيميّا، أو مثله لو كان مثليّا، و أمّا خصوص ما أقرضه فصار ملكا للمقرض و صار كسائر أمواله، و ليس للمقرض تعيين ما له و حقّه في مال بالخصوص من أموال المقترض، بل للمقترض أن يوفي دينه و يؤدّي ما اقترضه بأيّ مال من أمواله التي يكون قابلا للانطباق عليه، لأنّ ما يملكه المقرض عليه و يستقرّ في ذمّة المقترض الكلّي قابل للانطباق على كلّ فرد من أفراده، و أمّا الخصوصيّات فهي باقية على

ص: 265

ملك المقترض، فله التطبيق و التعيين، فليس للمقرض إلزام المقترض بارتجاع خصوص العين المقترضة.

و أمّا إذا كان في مقام الفسخ و حلّ العقد، فالظاهر أنّه لا دليل على جواز عقد القرض إلاّ دعوى الإجماع عليه. و لكنّ الظاهر أنّ الإجماع المدّعى عندهم على الجواز ليس بمعنى جواز الفسخ و حلّ العقد كي يرجع كلّ واحد من العوضين إلى صاحبه كما هو الشأن في العقود المعاوضيّة الجائزة، بل المراد من الجواز القرع أنّ المقرض ليس ملزما ببقاء ماله عند المقترض مدّة طويلة أو قصيرة، بل في أيّ وقت من الأوقات له مطالبة ماله و لو بعوضه المثلي أو بقيمته، و إلاّ فمقتضى أصالة اللزوم في العقود و في الأملاك عدم جواز فسخه. و قد شرحنا وجهه في العقود و في الأملاك في قاعدة أصالة اللزوم في العقود في المجلد الخامس من هذا الكتاب.

و الشاهد على ذلك أنّهم اختلفوا اختلافا كبيرا في أنّه هل للمقرض ارتجاع عين المال المقروضة أم لا، و لو كان الجواز بمعنى الفسخ و حلّ العقد اتّفاقيّا لما كان وجه للاختلاف في إمكان الارتجاع، فمن ذلك يعلم أنّ قولهم بجواز القرض هو المعنى الذي ذكرنا لا الفسخ و حلّ العقد، فبناء على هذا لا وجه للقول بجواز الارتجاع، بل الأظهر-لو لم يكن أقوى-عدم جواز ارتجاع عين المال المقروضة كما هو المشهور عندهم كما في المسالك، بل ادّعى في الجواهر (1)الإجماع بين المتأخّرين.

فرع: قال في الشرائع: لو شرط التأجيل في القرض لم يلزم (2).

و هذه العبارة يحتمل فيها معنيان:

ص: 266


1- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 176، «جواهر الكلام» ج 25، ص 28.
2- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 68.

أحدهما أن يكون الاشتراط في نفس عقد القرض.

و الآخر أن يكون في ضمن عقد لازم آخر.

أمّا الأوّل: فبعد ما فرغنا عن أنّ القرض عقد جائز، و أنّ الشرط في ضمن العقد الجائز لا يكون لازم الوفاء به، لا يبقى مجال للكلام في أنّه هل شرط التأجيل في ضمن العقد القرضي لازم الوفاء به أم لا، إذ من الواضح أنّه كما أنّ سائر الشروط في ضمن سائر العقود الجائزة لا يلزم الوفاء بها، فكذلك الحالّ في هذا الشرط و هذا العقد.

هذا، مضافا إلى ما ادّعاه صاحب الجواهر (1)من عدم وجدان الخلاف في عدم لزوم هذا الشرط قبل الكاشاني، و معلوم أنّ مخالفة الكاشاني لا يضرّ بالإجماع لو تحقّق الإجماع قبله.

نعم هنا شيء آخر، و هو أنّ عقد القرض ليس بجائز كما احتمله في المسالك (2)بدليل عدم لزوم ردّ العين المقروضة و لو طالبها الدائن و كانت باقية حين الأداء، مع أنّ العقد لو كان جائزا فبمحض الفسخ ينحلّ العقد و يرجع كلّ واحد من العوضين إلى ملك مالكه قبل المعاوضة، فالعين المقروضة ترجع مع بقائها إلى ملك المقرض، و لا يبقى مجال للبحث في أنّ للمقرض استرداد نفس العين لو كانت باقية، أم لا.

فهذا البحث يدلّ على أنّ بناءهم على عدم وجوب ردّ العين دليل على عدم جواز العقد، بل يكون قولهم بالجواز و تصريحهم بذلك في بعض العبارات يكون بمعنى آخر، لا أنّ العقد ينفسخ، و ذلك المعنى الآخر هو أنّ عقد القرض لا يوجب لزوما حقّيا للمقترض، بل في كلّ وقت أراد استنقاذ حقّه و استرجاع ماله الذي اشتغلت ذمّة المديون به له، لأنّه لم يتعهّد بشيء للمديون، بل هو مثل الهبة ليس

ص: 267


1- «جواهر الكلام» ج 25، ص 30، الكاشاني في «مفاتيح الشرائع» ج 3، ص 125 و 126، مفتاح 996 و 997.
2- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 176.

تعهّد في ذمّة الواهب للموهوب له، بل صرف تمليك له، فله أن يرجع ما دامت العين باقية.

و كذلك في المقام صرف تمليك للعين المقروضة من قبل المقرض، غاية الأمر أنّه في الهبة ليس شيء آخر كي يرجع إليه بعد تلف العين، و لذلك لو كانت العين باقية له أن يرجع إليها، و بعد تلفها لا شيء.

أما في القرض حيث أنّه تمليك مع العوض، فيملك في ذمّة المديون عوض العين المقترضة، و بعد تلف العين المقروضة أيضا ذمّته مشغولة بعوضها، فللدائن الرجوع إلى ما هو موجود في ذمّته. و هذا معنى الجواز في عقد القرض و الهبة لا بمعنى حقّ فسخ العقد، كما توهّم.

و أنت خبير بأنّ هذا المعنى من الجواز لا ينافي مع لزوم المعاملة بمعنى عدم جواز حلّها و فسخها، فيكون الشرط في ضمنها أيضا لازما.

هذا بناء على أنّ الاشتراط في ضمن نفس عقد القرض.

و أمّا بناء على أن يكون الاشتراط في ضمن عقد لازم آخر فلا إشكال في لزوم الوفاء بالشرط حسب ما حقّقناه في باب وجوب الوفاء بالشرط و أنّ المؤمنين عند شروطهم، فمقتضى القواعد الأوّليّة لزوم شرط التأجيل، خصوصا إذا كان في ضمن عقد لازم آخر.

اللّهمّ إلاّ أن يكون إجماع في البين، كما ادّعاه صاحب الجواهر أو يظهر من كلامه (1)، و قد حكى الإجماع في مفتاح الكرامة أيضا عن مجمع البرهان (2)، و حكى أيضا كلاما عن صاحب الرياض ربما يكون يستشم منه الإجماع، حيث حكى عنه

ص: 268


1- «جواهر الكلام» ج 25، ص 28.
2- «مفتاح الكرامة» ج 5، ص 53، «مجمع الفائدة و البرهان» ج 9، ص 77.

أنّه قال: و لا خلاف فيه يعرف إلاّ ممّن ندر من بعض من تأخّر (1). و أيضا حكى عنه أنّه قال: و ربما أشعرت عبارة الشرائع (2)و غيرها بالإجماع، و هو الحجة.

و خلاصة الكلام: أنّه إن كان إجماع فهو، و إلاّ فمقتضى القواعد نفوذ هذا الشرط و أنّه يلزم، سواء كان شرط التأجيل في ضمن نفس عقد القرض، أو كان في ضمن عقد لازم غير القرض.

و مما استدلّوا على لزوم شرط التأجيل مضمرة حسين بن سعيد، قال: سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمّى، ثمَّ مات المستقرض، أ يحلّ مال القارض عند موت المستقرض منه أو للورثة من الأجل مثل ما للمستقرض في حياته؟ فقال: «إذا مات فقد حلّ مال القارض» (3).

فهذه الجملة الشرطيّة تدلّ بالمفهوم أنّه لو لم يمت المستقرض لم يحلّ مال القارض، و هذا مرجعه إلى لزوم القرض المؤجّل إلى حلول أجله. و ردّه صاحب الجواهر أوّلا: بأنّه إشعار بهذا المعنى، أي لم يبلغ إلى حدّ الظهور. و ثانيا: بأنّها مهجورة و متروكة (4).

أقول: أمّا إنكار الظهور إن كان من جهة إنكار وجود المفهوم للقضيّة الشرطيّة فلا وجه له، لما بيّنّا في الأصول من ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة على التفصيل الذي ذكرنا هناك، و إن كان مراده أنّ المفهوم و إن كان ثابتا لكن لا يدلّ على أنّ شرط التأجيل موجب للزوم القرض، فله وجه، من جهة أنّ غاية ما يدلّ عليه المفهوم هو أنّه في صورة عدم موت المستقرض لا يصير الدين المؤجّل حالاّ و فعليّا، لأنّ الأدلّة

ص: 269


1- «رياض المسائل» ج 1، ص 578.
2- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 68.
3- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 190، ح 409، في الديون و أحكامها، ح 34، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 97، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 12، ح 2.
4- «جواهر الكلام» ج 25، ص 33.

تدل على أنّ الديون المؤجلة تصير حالّة بموت المديون، و أمّا في صورة عدم الموت باقية على ما كان، إنّ كان لازما فلازم، و إن كان جائزا فجائز. و أمّا ردّها بأنّها مهجورة متروكة فصحيح، من جهة أنّ الإجماع أو الشهرة قائمة على خلافها.

و ممّا استدلّ بها على أنّ هذا الشرط يلزم قوله تعالى (إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (1)تقدم ص 18، هامش (4) .(2). ببيان أنّه لو كان التأجيل لا أثر له فلا يكون وجه للكتابة، و يكون تعليق الكتابة على كون الدين إلى أجل مسمّى بلا فائدة، فلا بدّ و أن يقال:

حيث أنّ التأجيل ملزم فلا بدّ و أن يكتب كي لا يفوت حقّ ذي الحقّ بالتقديم و التأخير.

و لكن أنت خبير بأنّ الآية ظاهرة في وجوب الكتابة أو استحبابها لفائدة عدم ضياع حقّ الدائن بالموت من أحدهما، فحال الكتابة حال الرهن شرّع لأجل عدم تضييع مال الدائن، سواء كان إلى أجل أو لم يكن. و أمّا تخصيصه بالذكر فمن جهة أنّ ضياع الحقّ و تلف مال الدائن غالبا يصير في الدين المؤجّل، خصوصا إذا كان الأجل طويلا ربما يكون موجبا للنسيان أو عوارض أخر، فالآية كما هو واضح ممّا قبلها و ما بعدها أنّ الكتابة مثل الرهن موجب للاستيثاق من ماله، و أجنبيّة عن دلالة التأجيل على اللزوم.

و أمّا الاستدلال على أنّ شرط التأجيل ملزم لعموم «المؤمنون عند شرطهم» (2)و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3).

فالجواب ما ذكرنا من كونها فيما إذا كان في ضمن العقود اللازمة، و لا يشمل الشروط الابتدائيّة، و لا الواقعة في ضمن العقود الجائزة.

ص: 270


1- البقرة
2- :282.
3- المائدة (5) :1.

و أمّا ما في فقه مولانا الرضا عليه السّلام: «من أقرض قرضا و لم يردّ عليه عند انقضاء الأجل كان له من الثواب في كلّ يوم صدقة دينار» (1). فغاية ما يدلّ أنّ إمهال المديون و عدم التسرّع إلى المطالبة مستحبّ و ممدوح و فيه الثواب، و هذا أجنبيّ عمّا نحن بصدده.

فرع: لو أجّل المقرض المقترض بعد وقوع القرض و اشتغال ذمّته بعوض ما اقترض من المثل أو القيمة، فهل يتأجّل أم لا؟

الظاهر العدم، لعدم ملزم في البين في هذه الصورة، لعدم شرط من طرف المقترض، لا في عقد القرض، و لا في ضمن عقد لازم آخر كي يشمله عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» (2)، بل هو وعد ابتدائي يستحبّ الوفاء به.

و مقتضى الأصل أيضا بقاؤه على ما كان من عدم اللزوم.

قال في الشرائع: لا فرق-في عدم حصول اللزوم بالتأجيل المذكور-بين أن يكون الدين مهرا أو ثمن مبيع اشتراه أو غير ذلك من أسباب الدين (3)، و ذك لوحدة الملاك في الجميع و عدم ملزم في البين، فما دام له حقّ المطالبة في جميع هذه الموارد لا يسقط بصرف وعد من قبل المقرض و تأجيله. و هذا واضح جدّا.

فرع: لو أخّر المقرض الدين الحالّ بزيادة في مقدار الدين لم تثبت الزيادة و لا الأجل ، بل هو بحسب الظاهر من الربا المحرّم، و ذلك من جهة أنّ الربا في القرض عبارة عن كون العوض الذي يأخذه أزيد ممّا يعطيه، و إن كان الأخذ بعد

ص: 271


1- «فقه الرضا عليه السّلام» ص 257، (38) باب الربا و السلم و الدّين و العينة.
2- تقدم ص 18، هامش (4) .
3- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 68.

مضي مدّة من الزمن، و لو كان بقصد كون الزيادة عوضا عن تأخير الأداء في تلك المدّة، بل لا معنى للربا في القرض إلاّ هذا المعنى، إذا العاقل لا يأخذ شيئا بأزيد منه مع التزامه بإعطاء العوض نقدا.

نعم لا يلزم أن تكون الزيادة التي يأخذونها بإزاء المدّة عينيّة، بل ربما تكون لأجل وصف الجودة، كما أنّهم ربما يأخذون نصف حقّة من الدهن الجيّد الحيواني بإزاء حقّة من النباتي نقدا، و لكن لا يقدمون على أخذ الشيء بالزيادة في المقدار نقدا لا لأجل المدّة أو لأجل وجود صفة أو فقدها في إحديهما، فكون الزيادة في مقابل تأخير المدّة هي عين الربا المحرّم إجماعا.

نعم ربما يحتال بأن يبيع مثلا متاعا بما هو مثله وزنا و مقدارا و وصفا، و لكن يشترط على المشتري أن يبيع متاعه المرغوب فيه بأقلّ من قيمته، أو يشتري منه متاعا بأكثر ممّا يساوي بحسب القيمة و يشترط على البائع أن يؤجّل في دينه الكذا.

فهذا يخرج عن كونه زيادة في القرض، لأنّ الزيادة لم تقع في قبال المدّة، بل الزيادة جعلت بالشرط في ضمن العقد.

و بهذا المضمون و بصحّته وردت روايات:

منها: ما في الكافي، و هو موثّق ابن عمّار، فيه: قلت للرضا عليه السّلام: الرجل يكون له المال قد حلّ على صاحبه، فدخل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تساوي مائة درهم بألف درهم و يؤخّر عليه المال إلى وقت؟ قال عليه السّلام: «لا بأس، قد أمرني أبي ففعلت ذلك» (1).

و زعم أنّه سأل أبا الحسن عليه السّلام عنها فقال له مثل ذلك.

و منها: ما في الكافي أيضا عن محمّد بن إسحاق بن عمّار أيضا قال: قلت لأبي

ص: 272


1- «الكافي» ج 5، ص 205، كتاب المعيشة، باب العينة، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 380، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 9، ح 6.

$$$$$$$$$$

الحسن عليه السّلام: يكون لي على الرجل دراهم، فيقول أخّرني بها و أنا أربحك، فأبيعه حبّة تقوّم عليّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم، أو قال بعشرين ألفا و أؤخّره بالمال؟ قال: «لا بأس» (1).

و منها: أيضا في الكافي عن عبد الملك بن عتبة، قال: سألته عن الرجل أريد أن أعيّنه (2)المال و يكون لي عليه مال قبل ذلك، فيطلب منّي مالا أزيده على مالي الذي عليه، أ يستقيم أن أزيده مالا و أبيعه لؤلؤة تساوي مائة درهم بألف درهم، فأقول:

أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخّرك بثمنها و بمالي عليك كذا و كذا شهرا؟ قال عليه السّلام: «لا بأس» (3).

و منها: ما رواه في الكافي أيضا عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سألته عن رجل لي عليه مال و هو معسر، فاشترى بيعا من رجل إلى أجل على أن أضمن ذلك عنه للرجل و يقضيني الذي عليه؟ قال: «لا بأس» (4).

و منها: ما في الكافي عن هارون بن خارجة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: عينت رجلا عينة فقلت له: اقضني. فقال: ليس عندي تعيني حتّى أقضيك. قال: «عينه حتّى يقيضك» (5).

ص: 273


1- «الكافي» ج 5، ص 205، كتاب المعيشة، باب العينة، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 380، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 9، ح 4.
2- «و التعيين هو عبارة عن أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمّى، ثمَّ يشتريها منه بأقلّ مما باعه به نقدا و يعطيه الثمن و يفعلون هذا فرارا عن الربا و في القاموس يقول: عيّن التاجر، أي باع سلعة بثمن إلى أجل ثمَّ اشتراها منه بأقلّ من ذلك ثمن.
3- «الكافي» ج 5، ص 206، كتاب المعيشة، باب العينة، ح 12، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 380، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 9، ح 5.
4- «الكافي» ج 5، ص 205، كتاب المعيشة، باب العينة، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 372، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 6، ح 3.
5- «الكافي» ج 5، ص 205، كتاب المعيشة، باب العينة، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 372، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 6، ح 4.

و منها: ما رواه في الكافي عن محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: إنّ سلسبيل طلبت مني مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف، فأقرضتها تسعين ألفا و أبيعها ثوبا و شيئا [1]يقوّم عليّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم.

قال: «لا بأس» .

قال في الكافي و في رواية أخرى: «لا بأس به أعطها مائة ألف و بعها الثوب بعشرة آلاف و اكتب عليها كتابين» (1).

و لا شكّ في دلالة هذه الأخبار على جواز أخذ الزيادة عمّا أقرضه، و لكن في ضمن معاملة أخرى كي لا يكون و لا يتحقّق الربا التي حرمتها من ضروريّات الدين و بنصّ الكتاب المبين. و بعبارة أخرى: حيلة شرعيّة للفرار عن الربا، و اشتهر العمل بها بين المتديّنين.

و قال المحدّث المجلسي في كتاب مرآة العقول في شرح كتاب الكافي بعد ذكر هذه الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار: هذه الأخبار تدلّ على جواز الفرار من الربا بأمثال تلك الحيل، و الأولى الاقتصار عليها، بل تركها مطلقا تحرزا من الزلل (2).

و قد يقال بمعارضة خبر يونس الشيباني لهذه الروايات، و هو ما رواه في الوسائل عنه قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يبيع البيع و البائع يعلم أنّه لا يسوى، و المشتري يعلم أنّه لا يسوى إلاّ أنّه يعلم أنّه سيرجع فيه فيشتريه منه. قال: فقال:

«يا يونس إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجابر بن عبد اللّه: كيف أنت إذا ظهر الجور و أورثهم الذّل؟ قال: فقال له جابر: لا بقيت إلى ذلك الزمان، و متى يكون ذلك بأبي أنت و أمّي؟ قال: «إذا ظهر الربا يا يونس، و هذا الربا فإن لم تشتره ردّه عليك» قال:

ص: 274


1- «الكافي» ج 5، ص 205، كتاب المعيشة، باب العينة، ح 9، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 379، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 9، ح 1 و 2.
2- «مرآة العقول» ج 19، ص 228، باب العينة.

قلت: نعم. قال: «فلا تقربنه، فلا تقربنه» (1).

و لكن أنت خبير بأنّ هذه الرواية قاصرة عن المعارضة مع تلك الروايات الكثيرة التي ذكرناها، لوجوه:

منها: أنّ مقتضى الجمع العرفي حمل النهي فيها-أي قوله عليه السّلام «فلا تقربنه» مكرّرا-على الكراهة.

منها: حملها على التقيّة، لأنّهم لا يجوزون المعاملة في مثل هذه الصورة و يطعنون على من يجوز و يقولون إنّها حيلة للفرار عن الربا المحرّم بالضرورة.

و الجواب عن طعنهم أنّها حيلة و لكن نعمت الحيلة، أي الحيلة التي يكون بها الفرار عن المعصية كما هو مصرّح به في بعض الأخبار.

و منها: حملها على صورة عدم قصد الطرفين للمعاملة حقيقة، و إنّما هي صرف إجراء صورة بيع مثلا لأخذ الزيادة، و معلوم أنّ هذه المعاملة باطلة.

و بنظري هذا الحمل هو الصحيح، و الآن في نظر عامّة الناس المشتغلون بمثل هذه المعاملات مرميّون بأنّهم آكلة الربا، و هذا البيع و المعاملة إجراء صوري لأجل إخفاء أكلهم الربا.

و الانصاف: أنّ صرف النظر عن تلك الأخبار الكثيرة و القول بحرمة أمثال هذه المعاملات جرأة و يكون من عدم الاعتناء بالأخبار الصادرة عن الأئمّة الأطهار، مع أنّها مخالفة للتقيّة، فالأولى حمل هذه الرواية على أحد الوجوه المذكورة، بل المتعيّن هو ذلك.

هذا كلّه في تأخير الدين الحالّ بالزيادة في متن عقد القرض أو بالشرط في ضمن عقد آخر، و أمّا تعجيله بإسقاط بعضه فلا إشكال فيه، و جوازه اتّفاقي،

ص: 275


1- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 19، ح 82، في فضل التجارة و آدابها و غير ذلك. ، ح 82، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 371، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 5، ح 5.

و الأخبار به مستفيضة:

منها: ما رواه في الوسائل عن الصدوق بإسناده عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في الرجل يكون عليه دين إلى أجل مسمّى فيأتيه غريمه فيقول: انقدني من الذي لي كذا و كذا و أضع لك بقيّته، أو يقول: انقدني بعضا و أمد لك في الأجل فيما بقي؟ فقال: «لا أرى به بأسا ما لم يزد على رأس ماله شيئا، يقول اللّه عزّ و جلّ:

(فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوٰالِكُمْ لاٰ تَظْلِمُونَ وَ لاٰ تُظْلَمُونَ) (1) .

و منها: عن أبان، عمّن حدّثه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيقول له قبل أن يحلّ الأجل: عجّل لي النصف من حقّي على أن أضع عنك النصف، أ يحلّ ذلك لواحد منهما؟ قال: «نعم» (2).

هذا، مضافا إلى أنّ المالك لما في الذمّة له بمقتضى القواعد الأوّليّة حقّ إسقاط بعض ما يملك أو جميعه، و لا محذور فيه أصلا، و كذلك في الدين المؤجّل له أن يزيد في أجله و أن يمدّه و لا يحتاج إلى وجود دليل. فهذا الحكم-أي التمديد في الأجل أو إسقاط بعض ماله في ذمّة الغير-من آثار كونه مالكا لما في ذمّة المديون.

و الناس مسلّطون على أموالهم، له أن يسقط تمامه أو بعضه، و له أن يؤخّر مطالبته، فإذا التزم بأحد هذه الأمور في ضمن عقد لازم يجب عليه تنفيذ ما التزم، كما أنّه لو أسقط فعلا ماله في ذمّة الغير، تمامه أو بعضه، يسقط، فقياس تعجيل الدين المؤجّل بإسقاط بعضه، و جوازه و زيادته بزيادة أجله لا وجه، لأنّ الثاني ربا محض إلاّ بما ذكرنا من كونها في معاملة أخرى، و أمّا الأوّل فهو مقتضى سلطنته على ماله و لا

ص: 276


1- «الفقيه» ج 3، ص 33، ح 3270، باب الصلح، ح 4، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 207، ح 475، باب الصلح بين الناس، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 168، كتاب الصلح، في أحكام الصلح، باب 7، ح 1. و الآية في البقرة (2) :279.
2- «الكافي» ج 5، ص 258، كتاب المعيشة، باب الصلح، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 206، ح 474، باب الصلح بين الناس، ح 5، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 168، كتاب الصلح، في أحكام الصلح، باب 7، ح 2.

محذور فيه أصلا.

و مما ذكرنا ظهر أنّ ما ذكره بعض الأساطين من أنّ هذا القسم-أي تعجيل الدين المؤجّل بوضع بعض الدين عن المديون أيضا-ينجرّ إلى الربا إن قلنا بدخول الربا في جميع المعاوضات حتّى الصلح و عدم اختصاصها بالبيع، لأنّ هذا في الحقيقة مرجعه إلى مصالحة مجموع الدين ببعضه، و لا شكّ في أنّ هذا هو الربا.

و قد عرفت أنّ هذا من قبيل لزوم ما لم يلتزم، فإنّه ليس من الصلح في شيء و لا حاجة إليه، بل أخذ بعض و إبراء بعض أو تأخير المطالبة في صورة أخرى، و أيّ ربط لهما بالصلح كي يكون من الربا المحرّم بالضرورة.

فرع: لو أقرض دراهم ثمَّ أسقطها السلطان و جاء بدراهم جديدة و شاعت المعاملة بها، فهل على المقترض الدراهم الأولى، أو الجديدة، أو ما هو الشائع في المعاملة بها في الأسواق و ينفق في المعاوضات و المبادلات؟ و التحقيق في المقام هو أنّ الدراهم الأولى التي أسقطها السلطان تارة لا يبقى لها ماليّة أصلا كالأوراق الماليّة التي أسقطها عن الاعتبار، فإنّها تسقط ماليّتها بالمرّة و لا يتعامل بها أصلا، فالظاهر فيها هو وجوب أداء قيمتها، لأنّها بعد إسقاط ماليّتها تكون بمنزلة التلف. و الظاهر أنّ القيمة الواجبة أداؤها هو قيمة يوم الإسقاط، فهو بمنزلة يوم التلف، و تحويل القرض إلى القيمة يوم تعذّر المثل، و المفروض أنّ تعذّر المثل حصل يوم الإسقاط الذي هو بمنزلة تلف هذا النوع، فذلك اليوم يتحوّل المثل إلى القيمة، فلا بدّ من مراعاة قيمة ذلك اليوم.

هذا إذا لم يبق لها قيمة أصلا، و أمّا إذا بقي لها قيمة، خصوصا إذا كانت قيمتها بمقدار لا يضرّ بماليّتها كثيرا، مثل مسكوكات الذهب و الفضة الخالصتين عن الغشّ، فيجب أداء تلك الأولى التي مثل العين المقروضة، و ذلك من جهة أنّ اشتغال ذمّة

ص: 277

المديون في المثليّات من أوّل الأمر بالمثل، و المفروض أنّ له المثل الذي له ماليّة فلم يحدث شيء يخرجه عن الضمان بالمثل الذي هو الأصل في باب المثليّات في القرض، و النظر في باب القرض غالبا إلى حفظ ماليّة العين المقروضة، و المفروض أنّها محفوظة.

نعم التنزّل و الترقّي السوقي لا يخرج المثل عن كون العين المقروضة محفوظة بماليّتها، لأنّ مقدار ماليّة الشيء ليس شيئا ثابتا لا يتغيّر، بل يتبدّل باختلاف الأزمنة و الأمكنة، و على هذا يدور في الأغلب مدار المعاملات و التجارات.

نعم لو سقط من الماليّة بالمرّة، أو كان في نظر العرف كالسقوط بالمرّة يتحوّل الضمان من المثل إلى القيمة. و مثّلوا لذلك بأنّه لو اقترض قربة من الماء في البادية التي لها قيمة يعتنى بها، فوصل المقرض و المقترض إلى الشطّ، و معلوم أنّ قربة الماء عند الشطّ لا قيمة لها و لا يعتني أحد بها، ففي مثل هذا المورد ينتقل الضمان من المثل إلى القيمة. فيبقى الكلام في أنّ الضمان بقيمة أيّ يوم.

ثمَّ إن تلف ماليّة الشيء قد يكون دفعيّا و قد يكون تدريجيّا، ففي الأوّل ينتقل الضمان من المثل إلى القيمة حال التلف، و ذلك كالأوراق الماليّة التي تعلن الدولة بعدم اعتبارها، كورقة مائة دينار إن أسقطتها الدولة عن الاعتبار فلا يشتريها أحد بفلس واحد.

و أخرى يكون تدريجيّا، و ذلك كالقربة من الماء في البادية، فإنّها تقلّ قيمتها كلّما يقرب من الشطّ إلى أن يصل إلى الشطّ، فيسقط بالمرّة و كالثلج يقترضه في الصيف و كلّما يقرب إلى الشتاء تقلّ قيمته إلى أن يصل إلى الشتاء في البلاد الباردة فيسقط عن القيمة بالمرّة.

ففي القسم الأوّل الانتقال إلى القيمة في نفس ذلك اليوم الذي يحصل التلف، و أمّا في القسم الثاني حيث أنّ التلف فيه تدريجيّ، لا تخلو المسألة من إشكال، لأنّه

ص: 278

لا يمكن القول بأنّه إذا شرع في نقص القيمة و لو كان بمقدار قليل، فينتقل الضمان من كونه مثليّا إلى القيمة، إذ لا وجه لهذا الانتقال، إذ المثل موجود و له قيمة يعتنى بها، فالانتقال لا بدّ و أن يكون بدليل معتبر، و إلاّ فلا وجه له.

و أمّا القول بأنّ الانتقال حال وصول النقص إلى أقصاه و سقوطه عن القيمة، فهذا خلاف المقصود و المفروض، إذ المقصود من الانتقال إلى القيمة حفظ ماليّة المال المقروض، فالانتقال إلى القيمة بعد سقوط القيمة خلاف الفرض.

و لا يبعد أن يقال: إنّ المقترض يضمن يوم السقوط عرفا و إن كان لم يسقط بالمرّة، بل له قيمة عرفيّة يعتنى بها، و يجوز أن يقال عليه قيمة يوم مطالبة المقرض، و لكن لا بدّ و أن يقيّد بما إذا لم يكن الأداء يوم سقوط القيمة بالمرّة، و إلاّ يكون خلاف الفرض و خلاف المقصود.

ثمَّ إنّه ورد في هذه المسألة-أي مسألة الاقتراض دراهم ينفق و يتعامل بها يسقطها السلطان و يأتي بدراهم جديدة-روايات لا بأس بذكرها تبرّكا و تيّمنا:

منها: رواية يونس قال: كتبت إلى الرضا عليه السّلام: إنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، و كانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام و ليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: «لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس» (1).

و منها: أيضا ما عن يونس قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام إنّه كان لي على رجل عشرة دراهم، و إنّ السلطان أسقط تلك الدراهم، و جاءت بدراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى و لها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه، الأولى التي أسقطها

ص: 279


1- «الكافي» ج 5، ص 252، باب آخر من كتاب المعيشة، ح 1، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 116، ح 505، في بيع الواحد بالاثنين و أكثر من ذلك. ، ح 111، «الاستبصار» ج 3، ص 100، ح 345، باب الرجل يكون له على غيره الدراهم فتسقط. ، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 487، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 20، ح 1.

السلطان، أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: «لك الدراهم الأولى» (1).

و منها: ما عن العبّاس بن صفوان قال: سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم عن رجل و سقطت تلك الدراهم أو تغيّرت و لا يباع بها شيء، أ لصاحب الدراهم الدراهم الأولى، أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال:

«لصاحب الدراهم الدراهم الأولى» (2).

و لا بدّ من تقييد هذه الروايات التي مفادها هو الأخذ بالدراهم الأولى التي أسقط السلطان اعتبارها بما إذا لم تسقط ماليّتها بالمرّة، كما هو الغالب و إن كانت تفاوتت بالوضيعة.

فرع: لو قال المقرض للمقترض: «إذ متّ فأنت في حلّ» كان وصيّة، و إن قال: «إن متّ في حلّ» كان إبراء و باطلا، لتعليقه على الشرط.

هذا ما ذكره العلاّمة في التذكرة (3)، و مرجع هذا الكلام إلى بحث لفظيّ، و هو أنّ «إذا» ظرف زمان، فقوله «إذا متّ» أي الزمان و الوقت الذي متّ يكون هذا المال الذي اقترضته لك، فهذا تمليك للمقترض بعد موته، فيكون وصيّة ينفذ في الثلث، و إذا كان زائدا على الثلث نفوذه موقوف على إجازة الورثة.

و أمّا «إن» في قوله «إن متّ» حرف شرط، فيكون إسقاطا لما في الذمّة معلّقا

ص: 280


1- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 117، ح 507، في بيع الواحد بالاثنين و أكثر من ذلك. ، ح 113، «الاستبصار» ج 3، ص 99، ح 343، باب الرجل يكون له على غيره الدراهم فتسقط. ، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 12، ص 488، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 20، ح 2.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 117، ح 508، في بيع الواحد بالاثنين و أكثر من ذلك. ، ح 114، «الاستبصار» ص 488، كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 20، ح 4.
3- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 7.

و مشروطا بالموت، و لا شكّ أنّ الإسقاط لما في ذمّة شخص هو الإبراء فيكون تعليقا في الإبراء و هو باطل إجماعا، سواء كان تعليق المنشأ في العقود أو في الإيقاعات كما في ما نحن فيه.

لكن فيه أنّ «إذا» يستعمل ظرفا و شرطا، فالمائز هو القصد، لأنّه في مقام الاستعمال صالح للمعنيين، و يكون الفرق بينهما هو الفرق بين الواجب المعلّق و المشروط فتأمّل جدّا.

فرع: حكي عن أبي الصلاح تحريم و منع الاقتراض على من ليس عنده مقابل و لو بالقوّة يؤدّي به دينه (1)، و المقصود منه لعلّه أن يكون له غلّة ملك، أو كان له قوّة عمل يقدر على تحصيل ما يؤدّي به دينه، فلا يأكل مال الناس مع اليأس عن التمكّن من أدائه، و أمّا لو كان يرجو و يحتمل احتمالا عقلائيّا التمكّن من أدائه فلا إشكال في جوازه، و إن كان سبب رجاء تمكّنه احتمال وصول الحقوق الشرعيّة كسهم الإمام عليه السّلام، أو سهم السادات إن كان المقترض سيّدا، أو وصول الكفّارات إليه أو النذورات و أمثال ذلك.

و الحاصل: أنّه لا مانع من الاقتراض إن كان يحتمل احتمالا عقلائيّا التمكّن من أدائه بوجه حلال شرعي، و إن كان من جهة رجائه أنّ أقرباءه الأقربين أو غيرهم من المؤمنين يؤدّون دينه. و أمّا فيما عدا ذلك فالاقتراض خيانة بالمقرض، و المؤمن لا يخون كما هو في الرواية التي رواها أبو ثمامة قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السّلام:

إنّي أريد أن ألازم مكّة و المدينة و عليّ دين. فقال: «ارجع إلى مؤدّى دينك و انظر أن تلقى اللّه عزّ و جلّ و ليس عليك دين، فإنّ المؤمن لا يخون» (2).

ص: 281


1- «الكافي في الفقه» ص 330.
2- تقدم ص 184، هامش (2) .

و لهذه الرواية طرق عديدة كما هو مذكور في الوسائل.

و قال في الجواهر (1)في وجه منع أبي الصلاح عن الاستدانة إن لم يكن له مقابل يؤدّي به دينه: و لعلّه لموثّق سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل منّا يكون عنده الشيء يتبلغ به و عليه دين أ يطعمه عياله حتّى يأتيه اللّه بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على نفسه في خبث الزمان و شدّة المكاسب، أو يقبل الصدقة؟ قال عليه السّلام: «يقضي ممّا عنده دينه، و لا يأكل أموال الناس إلاّ و عنده ما يؤدّي إليهم حقوقهم، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ (2)، و لا يستقرض على ظهره إلاّ و عنده وفاء، و لو طاف على أبواب الناس فردّوه باللقمة و اللقمتين و التمرة و تمرتين، إلاّ أن يكون له وليّ يقضي دينه من بعده، ليس منّا من ميّت يموت إلاّ جعل اللّه له وليّا يقوم في عدته، فيقضي عدته و دينه» (3).

و قوله عليه السّلام «و لا يستقرض على ظهره إلاّ و عنده وفاء، و لو طاف على أبواب الناس» إلى آخر الحديث، صريح في أنّ الاقتراض و الاستدانة لا يجوز و لو بلغ أمره إلى السؤال على أبواب الناس، إلاّ أن يكون له وليّ من بعده يقضي دينه.

و ما قال صاحب الجواهر (4) من شهادة ذيل الرواية بخلاف قول أبي الصلاح عجيب، لأنّه لا يقول بالمنع حتّى و لو كان عنده وليّ من أب أو ابن يقضي دينه.

فالصحيح في الجواب أن يقال: مضافا إلى فتوى المشهور بالجواز فتكون الرواية معرضا عنها عندهم، و مضافا إلى الإطلاقات الكثيرة الدالّة على جواز

ص: 282


1- «جواهر الكلام» ج 25، ص 67.
2- النساء (4) :29.
3- «الكافي» ج 5، ص 95، كتاب المعيشة، باب قضاء الدّين، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 83 و 80، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 4، ح 3، و ذيل الحديث في باب 2، ح 5.
4- «جواهر الكلام» ج 25، ص 68.

الاقتراض لمن له حاجة إلى الدين، ما رواه في الوسائل عن موسى بن بكر قال: ما أحصي كم سمعت أبا الحسن موسى عليه السّلام ينشد:

«فإن يك يا أميم عليّ دين *** فعمران بن موسى يستدين» (1)

و أيضا فيه عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: «من طلب الرزق من حلّه فغلب فليستقرض على اللّه عزّ و جلّ و على رسوله صلّى اللّه عليه و آله» (2).

و أيضا ما رواه عن موسى بن بكر قال: قال لي أبو الحسن عليه السّلام: «من طلب الرزق من حلّه ليعود به على نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه عزّ و جلّ و على رسوله ما يقوت به عياله، فإن مات و لم يقضه كان على الإمام قضاؤه» الحديث (3).

و أيضا ما رواه عن أيوب بن عطيّة الحذاء قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، و إن ترك مالا فللوارث و من ترك دينا أو ضياعا فإليّ و عليّ» (4).

و هاهنا أخبار كثيرة بأمثال هذه المضامين تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها و كفاية ما ذكرنا.

ص: 283


1- «الكافي» ج 5، ص 94، كتاب المعيشة، باب الدّين، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 81، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 2، ح 6.
2- «الفقيه» ج 3، ص 182، ح 3684، باب الدّين و القرض، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 3، ص 81، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 2، ح 7.
3- «الكافي» ج 5، ص 93، باب الدّين، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 184، ح 381، في الديون و أحكامها، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 91، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 9، ح 2، و كذلك: ج 13، ص 80، أبواب الدّين و القرض، باب 2، ح 2.
4- «الكافي» ج 1، ص 335، باب ما يجب و من حقّ الإمام على الرعية و حق الرعية على الإمام عليه السّلام، ح 6، «عوالي اللئالي» ج 1، ص 42، ح 50، و فيه لم يذكر الشطر الأوّل من الحديث، «مستدرك الوسائل» ج 13، ص 398 و 399، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 9، ح 3، باختلاف السند في الكافي و المستدرك، و في العوالي مرفوع.

و مقتضى الجمع الدلالي العرفي بين هذه الأخبار الكثيرة التي مفاد بعضها جواز الاستدانة للحجّ، و مفاد بعضها جوازها لأجل التزويج، و مفاد بعضها جوازها لأجل قوت نفسه و عياله بيّن، و رواية سماعة هو حمل الأخير على الكراهة أو على ما إذا كان في نيّته عدم الأداء و أكل مال الناس بالباطل، كما صرّح به في بعض هذه الأخبار.

فرع: اختلفوا في جواز الاشتراط في ضمن عقد القرض على المقترض أن يعامل مع المقرض معاملة محاباتيّة

، كبيع محاباتي، أو إجارة، أو صلح كذلك فضلا عن الهبة و سائر العطايا التي تكون بلا عوض أصلا. و البيع المحاباتي و كذلك سائر المعاملات المحاباتيّة هو أن يسامح و يساهل البائع و يبيع أو يواجر بأقلّ من ثمن المثل أو أجرة المثل، و كذلك في سائر المعاملات المحاباتيّة.

و عمدة الكلام و البحث و الإشكال في مثل هذا القرض هو أنّ مرجع مثل هذا إلى الربا، لأنّ الربا في القرض هو أن يكون مفاد عقد القرض استحقاق المقرض أزيد ممّا أعطاه عوضا عمّا أعطاه. و قد سبق ما رواه الجمهور عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «إنّ كلّ قرض يجرّ المنفعة فهو حرام» (1).

و على كلّ تقدير ادّعى الإجماع على حرمة مثل هذا القرض المشروط بمثل هذا الشرط استاد الكلّ الآغا محمّد باقر البهبهاني (2)، و تلميذه الجليل الشيخ جعفر النجفي كاشف الغطاء، و نسب دعوى ثبوت الإجماع على التحريم إلى جمع آخر في مفتاح الكرامة، و نسب أيضا إلى أستاده الجليل السيد محمّد مهدي المعروف ببحر العلوم قدّس سرّه مخالفته لذينك العلمين و أنّه قال بصحّة هذا الشرط و جوازه و نفوذه (3).

ص: 284


1- تقدم ص 241، هامش (1) .
2- «حاشية مجمع الفائد و البرهان» للبهبهاني، ص 309.
3- حكى قول كاشف الغطاء و بحر العلوم صاحب «مفتاح الكرامة» ج 5، ص 38.

و التحقيق في هذه المسألة أنّ فيها صورتين:

الأولى: هو الذي ذكرناه، و هو أن يشترط المقرض على المقترض في ضمن عقد القرض أن يبيع المقترض منه الشيء الفلاني، أو يشتري منه بالمعاملة المحاباتيّة بأن يبيع منه بأقلّ من ثمن مثله، أو يشتري منه بأكثر من ثمن المثل، أو يواجر أو يستأجر كذلك محاباتيّا، و كذلك الأمر في سائر المعاملات المحاباتيّة ما عدا هذه الصورة.

الثانية: أن يعامل معاملة محاباتيّة مع شخص، و يشترط على ذلك الشخص أن يقرضه كذا مقدار، و حكي عن العلاّمة أنّه قال: المتنازع فيه هو إباحة البيع المحاباتي مع اشتراط القرض في ضمنه أو حرمته (1). و كأنّه يستظهر من هذه العبارة أنّه إذا كان الاشتراط في ضمن عقد القرض فلا إشكال في عدم جوازه، بل الأدلّة و الإجماعات صريحة في بطلانه.

و قد حكى في كشف الرموز عن الشيخ الإجماع على صحّة الصورة الثانية (2)، و أنّ اشتراط الإقراض في ضمن المعاملة المحاباتيّة لا مانع منه و لا محذور فيه أصلا.

و الظاهر أنّ هذا التفصيل بين هاتين الصورتين بالقول بالتحريم و عدم الجواز في الصورة الأولى، لأنّ الاشتراط في ضمن القرض بالمعاملة المحاباتيّة صريح في جرّ النفع بالقرض، أي أخذ الزيادة على ما يعطى للمقترض و هو حرام في الشريعة الإسلامية.

و أمّا ما يقال من أنّ الحديث الشريف الذي مضمونه حرمة القرض الذي يجرّ النفع عامّي، فسنده ضعيف ليس مشمولا لأدلّة الحجّية.

ص: 285


1- «مختلف الشيعة» ج 5، ص 330، المتاجر، في الشروط، آخر المسألة:297.
2- «الخلاف» ج 3، ص 173، كراهة البيع و السلف في عقد واحد، مسألة:283. و حكى قول كشف الرموز صاحب «جواهر الكلام» ج 25، ص 62.

ففيه: أنّه بعد عمل الكلّ به و اتّفاق الفتاوى على مضمونه مستندا إليه لا يبقى محلّ و مجال لهذا الكلام، مضافا إلى ورود هذا المعنى أيضا في الأحاديث المرويّة عنه صلّى اللّٰه عليه و آله عن طرق أهل البيت عليهم السّلام، كقوله عليه السّلام في رواية يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «إذا كان قرضا يجرّ شيئا فلا يصلح» (1).

و ما في رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط إلاّ مثلها، فإن جوزي أجود منها فليقبل، و لا يأخذ أحد منكم ركوب دابّة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقة (2).

و أمّا ما يقال من أنّه وردت مستفيضة عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام أنّ «خير القرض ما جرّ منفعة» محمول على ما إذا لم يشترط في القرض، ففي رواية إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «لا بأس بذلك-أي أخذ الزيادة-ما لم يكن شرطا» (3). و في رواية صفوان قال عليه السّلام: «لا بأس-أي أخذ الزيادة-إذا لم يكن يشترط» (4). و غيرهما من الروايات الكثيرة التي هي بهذا المضمون.

و ظهر ممّا ذكرنا وجه التفصيل، و هو البطلان في الصورة الأولى، و ذلك لأنّ مرجع اشتراط المعاملة المحاباتيّة في ضمن عقد القرض هو جرّ الزيادة في القرض بالاشتراط، خصوصا مع قوله عليه السّلام في بعض الأخبار «جاء الربا من قبل الشروط إنّما يفسده الشروط» (5).

و أمّا عدم البطلان في الصورة الثانية، لأنّه لم يشترط في القرض الزيادة و إنّما الاشتراط في المعاملة المحاباتيّة و لا محذور فيه أصلا.

ص: 286


1- تقدم ص 247، هامش (4) .
2- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 203، ح 457، في القرض و أحكامه، ح 11، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 106، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 19، ح 11.
3- تقدم ص 246، هامش (2) .
4- تقدم ص 242، هامش (3) .
5- تقدم ص 242، هامش (2) .

و خلاصة الكلام: أنّ ظاهر الأخبار أنّ فساد المعاملة ليس بصرف أخذ الزيادة عمّا أعطى المقرض، بل الفساد يأتي من ناحية شرط الزيادة، فالقرض بشرط أن يعامل المقترض معه معاملة محاباتيّة من بيع أو إجارة أو غيرهما حيث أنّه موجب لحصول الزيادة بالشرط يكون باطلا و فاسدا، و أمّا المعاملة الأخرى غير القرض بشرط القرض حيث ليس قرضا مشروطا لا وجه لبطلانه و فساده.

فرع: قال في القواعد: لو ردّ العين في المثلي وجب القبول و إن رخصت، و كذا غير المثلي على إشكال منشأه إيجاب قرضه القيمة (1).

أمّا وجوب القبول في ردّ نفس العين المقروضة فمن جهة أنّ المقرض يستحقّ على المقترض الطبيعة الكلّية التي أحد أفرادها هي نفس العين المقروضة، لما ذكرنا مرارا في هذا الكتاب و في غيره أنّ المراد من الضمان بالمثل في باب ضمان الأعيان التالفة هو أنّ نفس التالف بوجوده الاعتباري يأتي و يثبت في الذمّة، و يجب بحكم العقل و الشرع تفريغ الذمّة و العهدة عمّا ثبت و استقرّ عليها، فلو فرضنا محالا وجود ذلك التالف، ففي مقام أداء ما عليها و تفريغها لكان يجب ردّ نفس العين التالفة، و إن لم يكن موجود كما هو المفروض يكون أداء ذلك الأمر الاعتباري بأداء فرد آخر من تلك الطبيعة. و هذا هو المراد بالمثلي.

فليس للمقرض عدم القبول و يجب القبول، لأنّه ليس له حقّ إشغال ذمّة الغير و إبقاء ماله فيها، فكما أنّه لو كان له متاع في مخزن الغير ليس له حقّ الإبقاء رغما على أنف صاحب المخزن، فكذلك في هذا الأمر الاعتباري.

هذا في المثلي واضح، و أمّا في القيمي حيث أنّ ما يثبت في الذمّة و يستقرّ عليها من أوّل وجود القرض و ساعته هي القيمة، فذمّته مشغولة بالقيمة، فإذا ردّ العين لا بدّ

ص: 287


1- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 157، كتاب الدّين، المطلب الثاني: في القرض.

و أن يكون بعنوان البدليّة، فيكون من قبيل المعاملة الجديدة بين العين المقروضة و بين ما ثبت في ذمّته و هي القيمة، فيحتاج إلى رضا الطرفين، فليس للمقترض إلزامه بأخذ العين المقروضة من دون رضاه.

و ظهر ممّا ذكرنا عدم تماميّة قوله: «و كذا غير المثلي على إشكال» بل ليس غير المثلي مثله بلا إشكال في البين أصلا، لوجوب القبول من مساواة المدفوع للمأخوذ. لا محصل، لأنّ صرف مساواتهما للأثر له ما لم يقع التبادل بينهما عن رضا الطرفين، و كذلك قولهم إنّما اعتبرت القيمة لتعذّر المثل، و ما دام المثل موجودا لا تصل النوبة إلى القيمة. و هذا المناط و الملاك موجود في العين بطريق أولى، فما دام العين موجودة لا تصل النوبة إلى القيمة بطريق أشدّ أولوية من صورة وجود المثل، كما هو واضح.

و فيه: أنّ حكم العقل و النقل هو وجوب الأخذ و عدم جواز الرد فيما إذا أعطى حقّه و ماله و ليست العين لا حقّه و لا ماله، و إنّما خرجت عن ملكه بصرف عقد القرض أو بالقبض. و على كلّ لو كان أخذ العين المقروضة واجب كان مرجعه إلى وجوب أخذ مال الغير عوضا و بدلا عن ماله، و هذا يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

فرع: لو وقع النزاع بينهما فقال المعطي كان قرضا و تمليكا بعوضه الواقعي، و قال الآخذ كان هبة و تمليكا بلا عوض، و لم يكن البين قرينة دالّة على أحدهما، فالظاهر أنّ القول قول المعطي، لأنّ هذا يرجع إلى نيّة المعطي و قصده، لأنّ الإعطاء بعد الفراغ عن كونه تمليكا إمّا من جهة قوله «ملّكتك هذا» بدون ذكر العوض أو ذكر مجّانا، فلا شكّ في أنّه ظاهر في التمليك، فهذا إنشاء عقد التمليك، و العقود تابعة للقصود، فإن قصد بعوضه الواقعي فيكون قرضا، و إن قصد التمليك مجّانا فهي هبة،

ص: 288

و حيث لا يعلم إلاّ من قبله فإخباره عمّا في ضميره نافذ.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ لفظ «ملّكتك» بدون ذكر العوض ظاهر في الهبة، و استعماله في القرض مجاز لا يصار إليه إلاّ بالقرينة، فإنكاره لكونه هبة من قبيل الإنكار بعد الإقرار، فيكون إنكارا لكونه هبة بعد إقراره، فلا يسمع، فيرجع أن يكون قوله «ملّكتك» بدون ذكر العوض بمنزلة قوله « وهبتك» .

و لكن الإنصاف أنّ لفظ «ملّكتك» ظاهر في القدر المشترك بين الهبة و القرض، و الخصوصيّة لا بدّ و أن يكون بدالّ آخر، و حيث أنّ المفروض أنّه ليس دالّ آخر في البين فيكون تعيين أحدهما بقصده، فلا بدّ و أن يرجع إليه في معرفة ما قصد.

و استصحاب عدم قصده العوض معارض باستصحاب عدم قصده المجانيّة، و التمسّك بقاعدة الاحترام مال المسلم تمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة، و استصحاب بقاء الملك لا وجه له بعد القبض، لأنّه خرج عن ملكه على كلّ تقدير إمّا بالقرض أو بالهبة.

و أمّا قوله عليه السّلام «و على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» (1)فالاستدلال على كونه قرضا به فعجيب، لأنّ اليد فيما نحن فيه ليست يد عادية أو غير مأذونة، بل هي يد المالك على ماله، و لا يشمل الحديث مثل ذلك، و ذلك لأنّ الرجوع إلى مثل هذه الأمور فيما إذا لم يكن سبب ناقل في البين، و أمّا فيما نحن فيه فالسبب الناقل شرعا موجود و هو إمّا القرض المملّك للعين المقروضة و إمّا الهبة، فلا يبقى محلّ و مجال لهذه المذكورات.

فرع: للمقرض مطالبة المقترض-أي في وقت الحالي-حالاّ بجميع ما أقرضه و إن أقرضه تفاريق، مثلا لو أقرضه في كلّ شهر كذا مقدار، فله في آخر

ص: 289


1- تقدم ص 78، هامش (3) .

السنة مطالبة جميع ما أقرضه في الأشهر الاثنى عشر دفعة واحدة.

و وجهه واضح، لأنّ ذمّته اشتغلت بالجميع و ليس مؤجلا على ما هو المفروض، فله استيفاء حقّه في أيّ وقت أراد، أيضا له حقّ استيفاء الجميع أو البعض و ترك البعض الآخر لوقت آخر.

هذا فيما إذا أقرضه تفاريق أيّ دفعات، و أمّا إذا أقرضه دفعة واحدة، فله الخيار أيضا في مطالبة الجميع دفعة واحدة بطريق أولى، و في مطالبته تفاريق بأن يطلب البعض و يترك البعض الآخر لوقت آخر.

نعم ليس له إلزامه بالتفاريق، فلو أراد المقترض أداء الجميع في جميع صور المسألة ليس للمقرض عدم القبول.

و أمّا هل للمقترض إلزام المقرض بالقبول لو أدّاه تفاريق، أم له الردّ و عدم القبول إن لم يؤدّ الجميع و له الامتناع من الأخذ إلى أن يسلم الجميع؟ و اختار في التذكرة و الدروس و جامع المقاصد الأوّل (1)-أي وجوب القبول على المقرض و لو أدّاه تفاريق-بأن يأخذ ما يؤدي و يطالب بالباقي، خصوصا إذا كان المقترض معسرا بالنسبة إلى الباقي.

و استدلّ في جامع المقاصد على وجوب القبول لو دفع المقترض البعض بأنّه ليس من باب الدين مثل باب البيع أن يكون الجميع صفقة واحدة، كي يكون وجوب الوفاء بالعقد مقتضيا لوجوب التسليم و التسلّم لكلّ واحد من الطرفين البائع و المشتري تسليم ما التزم بنقله إلى طرفه من غير تبعيض و تسلّم ما نقل إليه طرفه، بل له حقّ على الغير، فإذا أراد الغير تفريغ ذمّته ليس له الامتناع، و ذلك لأنّ اشتغال ذمّته بالدين ثقل على المديون و يكون كحمل عليه، فله تخليص نفسه من هذا الثقل و الحمل، و ليس لصاحب الحقّ-أي المقرض-إبقاء هذا الثقل على عهدته و إبقاء

ص: 290


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 7، «الدروس» ج 3، ص 320، «جامع المقاصد» ج 5، ص 30.

اشتغال ذمّته.

هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به كلامهم.

و لكن أنت خبير بأنّ لزوم أخذه بالبعض و إن كان حقّه و له ذلك، إلاّ أنّ ذلك ربما يكون موجبا للضرر و الخسارة على المقرض، بأن يكون ما يأخذه تدريجا معرضا للتلف، و أمّا لو كان دفعة واحدة يؤدّي الجميع لا يتلف بل يصرفه في مصارفه، مثلا لو كان عليه ثمن مبيع اشترى فلو أدّى الجميع دفعة واحدة يسدّ به دينه و يعطي ثمن ذلك المبيع و لا يبقى للبائع خيار تأخير الثمن، و أمّا لو لم يحصل دفعة واحدة فيبقى مجال لذلك الخيار.

و هناك إضرار أخر ربما تترتّب على وجوب أخذ ما يعطي المقترض بالتفريق غير مخفيّة على الفقيه المتتبع.

فرع: المشهور عدم جواز المضاربة بالدين قبل قبضه ، و تعيّن كونه ملكا للمقترض مضاربة، فلو أقرضه مائة دينار فلا يصحّ جعلها مضاربة عند المقرض قبل أن يقبضها المقترض، و قال في الجواهر: بلا خلاف أجده، (1)و ادّعى بعضهم الإجماع على عدم الجواز.

و وجه عدم الجواز هو أنّه يشترط في صحّة المضاربة بمال أمور:

منها: أن يكون رأس المال عينا معيّنا، فلا يصحّ المضاربة على المنفعة، و لا على العين المردّدة، و لا على الكلّي قبل تعيينه و تطبيقه على الخارج، فلا يصحّ على الدين الذي في الذمّة قبل قبضه، لأنّ الدين الذي في الذمّة كلي لا يتعيّن إلاّ بالقبض و تطبيقه على الخارج، و لها شروط أخر لا ربط لها بما نحن فيه. فالكلّي في الذمّة و إن

ص: 291


1- «جواهر الكلام» ج 25، ص 48، كتاب التجارة، هل يصلح المضاربة بالدّين قبل قبضه؟

كان ملكا للمالك في ذمّة الغير لكن صرف هذا لا يكفي في صحّة المضاربة كما هو مقرّر في محلّه. فالمضاربة حيث أنّها تحتاج إلى تعيين رأس المال لا تقع بالدين، لأنّه كلّي لا تعيّن فيه، بل قابل للانطباق على كثيرين.

و أمّا فرض التعيين فيه مثل أن يشتري من الدائن بهذه المائة دينار شخصي فخروج عن الفرض لعدم كونه دينا و كلّيا في الذمّة، بل يكون عينا خارجيّا أمانة عند ذاك.

هذا مضافا إلى ورود رواية عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام رواها السكوني أنّه قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل له على رجل مال فيتقاضاه، و لا يكون عنده ما يقضيه فيقول: هو عندك مضاربة، قال عليه السّلام: «لا يصلح حتّى يقبضه منه» (1).

فهذه الرواية صريحة في عدم جواز جعل الدين الذي هو أحد قسمي القرض بالمعنى الأعمّ مضاربة، لا لعدم كونه ملكا، بل لعدم تعيينه، و على فرض كون الرواية ضعيفة من حيث السند منجبر ضعفها بعمل الأصحاب، بل ادّعى بعضهم كما في الجواهر عن التذكرة ظهور الإجماع على ذلك، (2)قال في التذكرة: فإذا ثبت هذا فلو فعل فالربح بأجمعه للمديون إن كان هو العامل، و إلاّ فللمالك و عليه الأجرة (3).

و الظاهر أنّ مراده من هذه العبارة أنّه بعد ما ثبت بطلان تلك المضاربة، إمّا لأجل عدم تعيين رأس المال لأنّ الدين كلّي في الذمّة، و إمّا لأجل الرواية المتقدّمة التي عمل بها الأصحاب، فحينئذ إن عمل المديون و اتّجر بذلك الدين بنفسه و مباشرته ربح في عمله، فجميع الربح مثل رأس المال الذي هو عبارة عن الدين

ص: 292


1- «الكافي» ج 5، ص 240، باب ضمان المضاربة و ماله من الربح و ما عليه من الوضعية، ح 4، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 195، ح 428، في الديون و أحكامها، ح 53، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 187، كتاب المضاربة، في أحكام المضاربة، باب 55، ح 1.
2- «جواهر الكلام» ج 25، ص 48، هلل يصح المضاربة بالدّين قبل القبض، «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 3، كتاب الدّين.
3- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 3، كتاب الدّين.

الذي في ذمّته يكون للمديون، و ذلك لأنّ مقدار الدين الذي عمل به المديون باق على ملكه و لم يصر ملكا للدائن لعدم قبضه، فالمديون عمل في ملكه و ربح، فالأصل و الفرع-أي رأس المال و ربحه-كلّه له.

و أمّا لو عيّن عاملا هو أو الدائن ضارب مع شخص آخر غير المديون، فحيث أنّ ذلك الشخص يكون وكيلا عن قبل الدائن في قبض الدين و العمل به، و لكن لمّا كان المفروض بطلان مضاربته لعدم التعيين أو للرواية، فيكون جميع الربح للمالك الدائن و يكون عليه أجرة المثل لعمل العامل، لأنّ المضاربة و إن كانت فاسدة و لكن عمل المسلم محترم و قد عمل بإذنه، فعليه أجرة مثله.

هذا ما يستظهر من عبارة التذكرة في المقام، و لكن التحقيق أن يقال: إن قلنا بأنّه للمديون تطبيق الدين الكلّي على عين خارجي، فيصير تلك العين الخارجيّة ملكا للدائن، فبعد أن طبق المديون يصير ذلك الخارج ملكا للدائن، فيكون عمل المديون في ملك الدائن. و لا ينافي ذلك بطلان المضاربة، لعدم التعيين أو للنصّ، لأنّ المضاربة أنشأت قبل التعيين فتكون باطلة، و لكن العمل حيث أنّه بعد التعيين فيكون جميع الربح للمالك-أي الدائن-و عليه أجرة مثل عمل العامل إن كان بإذنه كما هو المفروض في المقام.

اللّهمّ إلاّ إن يقال: إنّ إذن المالك الدائن كان بعنوان المضاربة، و المفروض أنّه لم تقع، فلا إذن في البين، فلا يستحقّ المديون العامل لا حصّة من الربح لبطلان المضاربة، و لا أجرة مثل عمله لعدم كونه مأذونا في العمل.

و لكن يمكن أن يقال: باستحقاقه للأجر بقاعدة «كلّ ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده» ، و لا شكّ في أنّ العامل يستحقّ الأجر في المضاربة الصحيحة، غاية الأمر عينا اجره برضائهما بحصّة من الربح، و في المضاربة الفاسدة أيضا بناء على تماميّة هذه القاعدة يستحقّ الأجر، و لمّا لم يكن في الفاسدة مسمّى في البين لبطلانها فلا بدّ

ص: 293

و أن يكون له الأجر الواقعي، أي أجرة المثل.

هذا إذا كان العامل هو نفس المديون، و أمّا إذا كان غيره، فإذا كان بتعيين المديون-و حيث أنّ المضاربة باطلة لو كان المديون ضارب معه-فلا يستحقّ شيئا على الدائن الذي هو المالك، لعدم صدور إذن من قبله في حقّ هذا العامل. نعم يكون مغرورا من قبل المديون لو كان جاهلا، فيرجع إلى المديون و يأخذ أجرة عمله. و أمّا إذا كان بتعيين الدائن للعمل أو المضاربة معه، فهذا يرجع إلى جعله وكيلا في قبضه، و أن يتّجر في ماله، فيستحقّ الحصة التي عيّنت له بعنوان المضاربة، و تكون مضاربته صحيحة بناء على عدم شمول الرواية لمثل هذه الصورة و انصرافها عنها.

تذنيب

ذكر الفقهاء في كتاب الدين مسألة دين العبد، و تعرّضوا لصورة و فروعه الكثيرة.

و قد ذكر في التذكرة له فروعا كثيرة، و جعل مسألة مداينة العبد و باقي معاملاته و تجاراته ثلاثة أقسام، و قال: العبد إمّا أن يأذن له مولاه في الاستدانة أوّلا، و الثاني إمّا مأذون في التجارة أم لا، فجعل الأقسام ثلاثة:

الأوّل: غير المأذون في الاستدانة و لا في التجارة.

الثاني: المأذون في الاستدانة فقط.

الثالث: المأذون في التجارة فقط (1).

و هاهنا قسم رابع، و هو أن يكون في كليهما مأذونا، و هو أهمله و لم يذكره. ثمَّ

ص: 294


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 7.

ذكر لكلّ واحد من الأقسام الثلاثة فروعا كثيرة.

أقول: قد وقع الخلاف بين الأصحاب في أنّ العبد يملك أو لا، و نذكر ما هو الصواب عندنا أنّه يملك أو لا يملك، و ليس هاهنا محلّ البحث عنه و النقض و الإبرام في أدلّة الطرفين، و يأتي في بعض الفروع الآتية ما هو الحقّ و ينبغي الذهاب إليه و الاعتراف به إن شاء اللّٰه تعالى، و نذكر أدلّة الطرفين.

و لكن على كلّ حال هو لا يقدر على شيء من التصرّفات-و إن قلنا بأنّه يملك -حتّى في بدنه في غير الضروريّات و ما لا بدّ منه في تعيّشه بدون إذن سيّده و مولاه، لأنّه محجور عليه بنصّ الكتاب المبين، و صريح الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

ففي رواية أبي خديجة في الكتب الثلاثة: الكافي، و التهذيب، و الفقيه قال: سأله ذريح عن المملوك يأخذ اللقطة؟ قال عليه السّلام: «و ما للمملوك و اللقطة، و المملوك لا يملك من نفسه شيئا» (1).

و الروايات بهذا المضمون كثيرة، فإن لم يكن مأذونا من قبل سيّده في الاستدانة و يدري الدائن بذلك، فهو الذي أقدم في إتلاف ماله و ليس لماله احترام، كما أنّه يكون الحال كذلك بالنسبة إلى سائر معاملاته لو كان يدري الطرف بأنّه غير مأذون في التجارة.

و لا بأس بأن يقال في مثل هذه الموارد: ذمّة العبد مشغولة لأدلّة الضمان، فإن أعتق و صار ذا مال يؤخذ منه، و إلاّ يستسعى. و على كلّ حال يتبع به.

و أمّا القول باستسعائه حال الرقّ يرجع إلى خسارة المولى بلا وجه وجيه،

ص: 295


1- «الكافي» ج 5، ص 309، باب النوادر من كتاب المعيشة، ح 23، «الفقيه» ج 3، ص 249، ح 4054، باب اللّقطة و الضالّة، ح 8، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 397، ح 1197، في اللّقطة و الضالة، ح 37، «وسائل الشيعة» ج 17، ص 370، أبواب اللقطة، باب 20، ح 1.

مضافا إلى دلالة رواية أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام على عدم شيء على المولى إن لم يأذن له في الاستدانة، قال: قلت له: رجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير دين عليه قال عليه السّلام: «إن كان أذن له أنّ يستدين فالدين على مولاه، و إن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شيء على المولى و لا يستسعى العبد في الدين» (1).

إن قلت: إنّ هذه الجملة-أي و يستسعى العبد في الدين-تدلّ على وجوب السعي.

قلنا: إنّه لا بدّ من حمل الجملة الأخيرة «و يستسعى العبد في الدين» بقرينة قوله عليه السّلام «و لا شيء على المولى» إمّا على ما أعتق، أو كان مأذونا في السعي لنفسه، أو غير ذلك ممّا لا ينافي مع قوله عليه السّلام «لا شيء على المولى» .

فلا يمكن أن يقال: إنّ هذه الرواية تدلّ على وجوب سعي العبد في أداء دينه في حال كونه رقّا، لأنّه مناقض لقوله عليه السّلام «فلا شيء عليه» ، فلا بدّ من التوجيه.

هذا فيما إذا لم يأذن له لا في الاستدانة و لا في التجارة، و أمّا لو أذن له في كليهما-أي في الاستدانة و التجارة-فلا إشكال في لزوم أداء الدين على مولاه، لما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: الرجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير عليه دين، قال عليه السّلام: «إن كان أذن له أن يستدين فالدين على مولاه، و إن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شيء على المولى و يستسعى العبد في الدين» .

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لو لم يأذن السيّد لا في التجارة و لا في الاستدانة فليس عليه شيء أصلا، و إن أذن في كليهما فعليه أداء الدين، و إن أذن في التجارة دون الاستدانة فيستسعى المملوك لأداء الدين.

ص: 296


1- «الكافي» ج 5، ص 303، باب المملوك يتجر فيقع عليه الدّين، ح 3، «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 200، ح 445، في القرض و أحكامه، ح 70، «الاستبصار» ج 3، ص 11، ح 31، باب المملوك يقع عليه الدّين، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 118، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 31، ح 1.

و وجوب السعي في أداء دينه و إن كان خسارة على مالك العبد، و لكن ذلك من لوازم إذنه له في التجارة، لأنّ التجارة كما أنّه قد تربح كذلك قد تخسر، و لا شكّ في أنّ إتلاف مال الغير يوجب الضمان، فإنّه له في التجارة ملازم مع الإذن في صيرورته ضامنا، و خلاص عهدته عن الضمان لا طريق له إلاّ بأحد أمرين: إمّا أداؤه من كيسه، أو يسعى العبد نفسه للأداء، و لا شكّ في أنّه لا ملزم للأوّل.

هذا، مضافا إلى صراحة رواية أبي بصير المتقدّمة في ذلك.

ثمَّ إنّه ذكر في الشرائع هاهنا فرعان

[الفرع]الأوّل: إذا اقترض أو اشترى بغير إذن كان موقوفا على إذن المولى، فإن أذن، و إلاّ كان باطلا و تستعاد العين، و إن تلف يتبع بها إذا أعتق فأيسر (1).

و وجهه واضح، لأنّ العبد في المفروض يكون مثل الفضولي أجنبيّا ليس له هذا التصرّف، لأنّه ليس مالكا لنفسه و لا لأفعاله من عقوده و تجاراته، و هو تصرّف في ملك الغير، فيحتاج إلى إذن ذلك الغير الذي هو عبارة عن سيّده، فإن أجاز فيكون كسائر المعاملات التي تقع فضولة صحيحا إن أجاز، و إلاّ فباطل.

و أمّا العين التي اقترضها أو اشتراها تبقى على ملك مالكها الأوّل فتستعاد إلى صاحبها، و إن وقع عليها التلف يكون العبد ضامنا، إمّا لقاعدة «و على اليد» و إمّا لقاعدة الإتلاف لو كان تلفها بإتلافه فقهرا يتبع بها إذا أعتق فأيسر، لأنّه لا يجوز مطالبته إلاّ بعد أن صار حرّا ذا يسر.

الفرع الثاني: إذا اقترض مالا فأخذه المولى فتلف في يده، كان المقرض بالخيار بين مطالبة المولى، و بين اتّباع المملوك إذا أعتق و أيسر.

ص: 297


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 71.

و الوجه واضح، لأنّه من فروع تعاقب الأيدي على مال الغير، لأنّه من قبيل المقبوض بالعقد الفاسد، لأنّ المولى إن لم يجز القرض يكون القرض فاسدا، فكلّ واحدة من اليدين يد ضمان، فللمقرض المالك الرجوع بأي واحد منهما.

فرع: لو ضمن العبد بدون إذن سيّده فهل يصحّ أولا؟

فيه كلام، و هو أنّه تصرّف في نفسه، فيكون تصرّفا في ملك الغير بدون إذنه، و هذا لا يجوز قطعا، فلا يقع الضمان و لا يصحّ. و ربما يقال بأنّه تصرّف في الذمّة و ليس تصرّفا في العين، و ما هو ملك الغير هي العين الموجودة في الخارج كملكيّة سائر الحيوانات غير الإنسان، فلم يتصرّف في ما هو ملك الغير، بل التصرّف وقع في أمر اعتباري و هو ذمّته، و ليس هو ملكا لمولاه، بل اعتبار عقلائي أمضاه الشارع، فلا محذور في ضمانه، و لا يوجب ضيقا على المالك، لأنّه مع علم المضمون له بالعبوديّة يجب عليه الصبر إلى أن يعتق و أيسر، فيأخذ بما هو من لوازم ضمانه، و يرتّب على ضمانه آثاره و أحكامه.

هذا ما توهّم، و لكن الظاهر بل المتعيّن هو أن يقال: إنّ عقد الضمان أيضا كسائر المعاملات صحته ممنوعة من العبد بدون إذن سيّده، و إنّ جميع عقوده و إيقاعاته تصرّف في ملك المولى، و صحته موقوفة على إذن سيّده أو إجازته. إلاّ في خصوص الطلاق، فإنّه يصحّ منه و إن كره المولى، بل و إن نهى عنه، لأنّ ظاهر قوله عليه السّلام «الطلاق بيد من أخذ بالساق» هو استقلال الزوج بذلك و عدم مدخليّة غيره فيه، فلا يحتاج إلى إذن المولى، كما أنّه ليس له إجبار عبده على طلاق امرأته لنفس تلك الرواية.

هذا، مضافا إلى أنّ قوله تعالى «عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ» (1)يشمل

ص: 298


1- النحل (16) :75.

الضمان قطعا، فالإنصاف أنّ صحّة ضمانه بدون إذن سيّده في غاية الإشكال.

فرع: لا شكّ في جواز قبول الهبات بإذن سيّده و صحّتها ، و إنّما الكلام في جوازها صحّتها بدون إذنه و إجازته.

قيل: بعدم جوازها بناء على أنّ كلّ ما يملكه العبد يكون ملكا لسيّده، فيرجع إلى صيرورة السيّد مالكا بغير رضاه و رغما عليه، و هذا ممّا لا يمكن قبوله.

و فيه: أنّ الملك القهري لا مانع من حصوله بدون رضاه. نعم إذا كانت الملكيّة حصولها موقوف على قصد التملّك، كحيازة المباحات، فما لم يقصد لا تحصل الملكيّة، لأنّ قصد التملّك برضائه و طيب نفسه من أسباب حصول الملك، و أمّا فيما نحن فيه، فقصد الملكيّة تحصل من العبد بقبوله العطايا و الهبات، فيصير ملكا للعبد أولا و بالذّات، ثمَّ يصير ملكا للمولى، لورود الدليل على أنّ العبد و ما يملكه ملك لمولاه، و لذلك لو خالع زوجته على مال من مهر أو غيره بدون رضاء سيّده لما تقدّم أنّه مستقل في طلاق زوجته، فيصير ما خالع عليه من مهر أو غيره ملكا له، فيصير ملكا لمولاه قهرا و من دون اختياره و رضائه بذلك الخلع.

و خلاصة الكلام: أنّ ملكيّة ما ملكه العبد لمولاه حكم شرعي مثل ملكيّة الوارث لا يملكه مورّثه تحصل قهرا بدون توقّفه على رضاء الورثة أو السيّد، لأنّها ليست من الأمور التي تحصل لهما بأسبابها الاختياريّة، بل لو كانا غافلين عن وجود مورّث و عبد، أو جاهلين بوجودهما تحصل لهما هذه الملكيّة.

اللّهمّ إلاّ إن يقال: إنّ العبد ليس له قابليّة أن يملك، فلا تحصل له ملكيّة كي يكون ثانيا و بالعرض ملكا لمولاه، كما لو كان كافرا حربيا بناء على عدم قابليّة الكافر الحربي و المرتدّ الفطري لأن يتملّك ملكا جديدا بعد أن يكون كذلك.

و لكن التحقيق: أنّ كلا الأمرين-أي عدم قابلية العبد للتملك، و عدم قابليّة

ص: 299

المرتدّ الفطري لأن يتملّك ملكا جديدا-لا أساس لهما.

فرع: قال في التذكرة: المشهور بين علمائنا أنّ العبد لا يملك شيئا ، سواء ملّكه مولاه شيئا أولا (1). و استدلّوا على ذلك بقوله تعالى عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ (2)، و لا يصحّ سلب القدرة عنه بقول مطلق إلاّ فيما إذا لا يملك، و إلاّ له القدرة على ماله بأن يهبه، أو يقفه، أو يصرفه في الخيرات، أو غير ذلك.

و فيه: أنّه لا تنافي بين سلب القدرة و بين كونه مالكا، لإمكان أن يكون محجورا مع كونه مالكا، و لذلك ذكر الفقهاء أنّ أحد أسباب حجر المالك عن التصرّف في ماله هو الرقيّة.

و أيضا استدلّوا على أنّه لا يملك بقوله تعالى (هَلْ لَكُمْ مِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ شُرَكٰاءَ فِي مٰا رَزَقْنٰاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوٰاءٌ) (3).

وجه الاستدلال: أنّ اللّٰه تعالى نفى مشاركة مخلوقاته معه في الفاعليّة، بأن ضرب مثلا، و هو أنّه كما أنّ العبيد للموالي العرفيّة لا شراكة لهم مع مواليهم فيما يعطون أو يمنعون، كذلك العبيد الحقيقيّة، أي عباد اللّٰه جلّ و علا لا شراكة لهم فيما يعطي اللّٰه أو يمنع، إذ ليس لهم شيء و لا يقدرون على شيء. و هذا يدلّ دلالة واضحة على كونهم لا يملكون شيء، و إلاّ لم يكن سلب القدرة عنهم صحيحة.

و بعبارة أخرى: نفى اللّٰه سبحانه تساوي عباده معه، و شبّه نفيه لذلك بنفي تساوي عبيد عباده مع مواليهم العرفيّة. و هذا لا يستقيم مع كونهم مالكين.

و فيه: ما تقدّم أنّ المنفي هو تسلّطهم على التصرّفات و أنّهم مثل الصبيان

ص: 300


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 8.
2- النحل (16) :75.
3- الروم (30) :28.

و المجانين محجور عليهم، و هذا المقدار من التساوي يكفي في التشبيه و التمثيل.

و حاصل ما قلنا: أنّ الظاهر هو نفي الشريك له تعالى في الفاعليّة، فكما أنّ العبيد العرفيّة ليسوا شركاء لمواليهم، و أنتم لا ترضون بكونهم شركاء لكم في تصرّفاتكم و شؤونكم، فكذلك يجب عليكم أن لا ترضون بكون هذه المخلوقات التي أنتم تنحتونها و تعبدونها شركاء لله الواحد القهّار.

و هذا المعنى أجنبي عن عدم كون العبيد قابلين لأن يملكوا و لو بكسبهم مع إذن المولى بذلك، أو أرش الجنايات، أو فاضل الضريبة، أو عوض طلاق الخلع.

و خلاصة الكلام: أنّ مدلول الآية الشريفة أجنبي عمّا يدّعون من عدم كون العبد قابلا للامتلاك.

و أمّا دعوى الإجماع على أنّه لا يملك لا عينا و لا منفعة، لا مستقرا و لا متزلزلا مطلقا، سواء ملكه المولى أو غيره، و أيضا لا فرق بين أن يكون المملوك فاضل الضريبة، أو عوض الخلع، أو أرش الجناية أو غيرها.

ففيه: أنّ هذه الدعوى مع ذهاب الأكثر إلى خلافه و أنّه يملك، خصوصا في بعض المذكورات كفاضل الضريبة، و عوض طلاق الخلع، و فيما ملكه مولاه، و قال في المسالك: القول بالملك في الجملة للأكثر (1)، فهذا الإجماع المدّعى في المقام لا يخلو من وهن.

مضافا إلى أنّ الطرفين يستدلّون بأدلّة أخرى في المقام، فليس من الإجماع المصطلح الذي قلنا في الأصول بحجّيته (2).

و أمّا ما قالوا بأنّ مالكيّته لغيره فرع مالكيّته لنفسه، فإذا لم يكن سلطانا على نفسه كيف يكون سلطانا على غيره. فكلام شعريّ، لأنّ جميع الناس ليسوا مالكين

ص: 301


1- «مسالك الأفهام» ج 1، ص 178.
2- «منتهى الأصول» ج 2، ص 88، في حجية الإجماع المنقول.

لذبح أنفسهم، و لكن كلّ من كان مالكا لحيوان مأكول اللحم مالك لذبحه و أكله.

و ما قيل: إنّ كسبه و انتفاعاته التي تحصل من كسبه من منافع ملك المولى، فتكون للمولى، لأنّ منافع الملك للمالك و تابعة للعين.

ففيه: أنّ الملكيّة من الاعتبارات العقلانيّة التي أمضاها الشارع في بعض الأشياء و في بعض المقامات، و العقلاء يعتبرون ملكيّة المنافع لمالك العين فيما إذا لم يكن العين قابلا لأن يتملّك، كما إذا كانت من الجمادات أو النباتات أو الحيوانات العديمة الشعور، و أمّا إذا كانت إنسانا عاقلا شاعرا فيرون منافعه لنفس ذلك الإنسان، بل يرون من ينتزع عنه فوائد أعماله و أفعاله الاختيارية التي أتعب نفسه في تحصيلها ظالما له و غاصبا، إلاّ أن يأتي الدليل على تشريع إلهيّ على أنّه يجب عليه أن يعطى فوائد عمله لشخص آخر، أو يأتي الدليل على أنّ فوائد عمله يصير ملكا لشخص آخر لوجود مصلحة في هذا الجعل، أو في هذا المجعول و إن كانت خفيّة علينا.

و أمّا ما رواه محمّد بن إسماعيل، في الصحيح، عن الرضا عليه السّلام سألته عن رجل يأخذ من أمّ ولده شيئا وهبه لها بغير طيب نفسها من خدم، أو متاع، أ يجوز ذلك؟ قال: «نعم إذا كانت أمّ ولده» (1).

و فيه: أنّ جواز أخذ المولى منها لا ينافي كونها مالكة لها، لأنّ للمولى منع عبده أو أمته من التصرّف في مالها و حجره عنه، فأخذ المولى قهرا عنه لا يدلّ على عدم مالكيّته.

و ما عن المختلف (2)من أنّه لو ملك لما جاز أخذ المولى منه قهرا مع أنّه يجوز

ص: 302


1- «تهذيب الأحكام» ج 8، ص 206، ح 729، في السراري و ملك الأيمان، ح 25، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 342، كتاب الهبات، في أحكام الهبات، باب 10، ح 2.
2- «مختلف الشيعة» ج 8، ص 44، العتق و توابعه، المقام الثاني.

إجماعا محصلا و منقولا، لا أساس له، لأنّ الصبيّ أو السفيه مالك لأمواله يقينا، و يجوز أخذ الوليّ منهما قهرا أيضا يقينا، فجواز الأخذ قهرا لا يلازم عدم كونه مالكا، و هذا واضح.

هذا، مضافا إلى أنّ الهبة إلى غير ذي الرحم جائزة يجوز أخذها من الموهوب له ما دامت العين باقية كما في المقام.

هذا، مضافا إلى أنّ الخدم في البيت مع أمتعة البيت لا يكون ملكا لربة البيت و إن كانت زوجة حرّة دائمة، فضلا عن أن تكون أمة، غاية الأمر أنّها صارت أمّ ولد من صاحب البيت، و ليس قول الراوي «وهبه لها» هبة اصطلاحيّة بمعنى تمليكه لها مجّانا و بلا عوض، بل المراد أنّه جعل تحت يدها الخدم و أمتعة البيت، و كأنّ المالك هاج به فرحه من صيرورتها ذات ولد، فجعل تحت اختيارها الخدم و الأمتعة، و بعد مدّة سكن هياج ذلك الفرح فأخذها منها، لأنّه لم يخرج عن ملكه.

و أيضا استدلوا لعدم كون العبد مالكا لما في يده و أنّه لم يملك بما رواه الجمهور عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه قال: «من باع عبدا و له مال فماله للبائع إلاّ أن يشترطه المبتاع» (1). فيدلّ الحديث على أنّ العبد لا يملك، لأنّه لو ملك لما كان وجه لكونه للبائع.

و فيه: أوّلا عدم ثبوت مثل هذا الحديث، و ثانيا: أنّه معارض بما رووه أيضا صلّى اللّٰه عليه و آله قال: «من باع عبدا و له مال فما له للعبد إلاّ أن يستثني السيّد» (2).

فظهر ممّا ذكرنا أنّ إطلاقات أدلّة العطايا و الهبات و سائر المعاملات و أرش

ص: 303


1- «أمالي الطوسي» ج 1، ص 397، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 33، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، باب 7 ح 5.
2- «مجمع الزوائد» ج 4، ص 106، باب: فيمن باع عبدا و له مال أو نحلا مؤبرة، و الحديث فيه: «من باع عبدا و له مال فله ماله و عليه دينه إلاّ أن يشترط المبتاع» .

الجنايات لا يصحّ تخصيصها بمثل هذه المذكورات، فمقتضى الأدلّة العامّة المملكة عدم الفرق بين الحرّ و العبد في صيرورة المال ملكا له، غاية الأمر للمولى منع العبد عن التصرّف في أمواله، و أنّ العبوديّة أحد أسباب الحجر، و أنّ المراد من قوله تعالى (لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ) عدم استقلاله في شيء من تصرّفاته، و أنّها لا تنفذ بدون إذن سيّده، و إن ادّعى بعضهم من بعض موارد استدلال الإمام عليه السّلام بهذه الآية نفي ملكيّة العبد، كصحيح محمّد بن مسلم، سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل ينكح أمته من رجل، أ يفرق بينهما إذا شاء؟ فقال: «إن كان مملوكه فليفرق بينهما إذا شاء، (إنّ اللّٰه تعالى يقول عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ) (1)، فليس للعبد شيء من الأمر» (2).

فهذا يدلّ بعمومه على نفي الملكيّة أيضا، فقوله عليه السّلام «ليس للعبد شيء من الأمر» لا يلائم مع ثبوت الملكيّة له، لأنّ الملكيّة لو ثبتت له لكان له شيء، فإنّ الملكيّة شيء و أي شيء، و الإمام عليه السّلام يستدلّ على كون شيء له بهذه الجملة، أي جملة (لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ) .

و لكن أنت خبير بأنّه لو كان كلامه تعالى «ليس له شيء» كان لهذا الكلام مجال، لأنّ المال و الملك شيء يقينا، و لكنّه تعالى قال (لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ) ، و من الواضح الجليّ أنّ عدم التسلّط على التصرّف في الشيء غير عدم نفس الشيء، و مفاد الآية هو الأوّل و المدّعى هو الثاني.

و أمّا كلامه عليه السّلام أيضا ليس نفي الشيء كي يشمل بعمومه الملكيّة، بل يقول عليه السّلام «ليس للعبد شيء من الأمر» ، و هذه العبارة ظاهرة في نفي التصرّف، لا نفي أصل الشيء.

ص: 304


1- النحل (16) :75.
2- «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 340، ح 1392، في العقود على الإماء و ما يحل من النكاح بملك اليمين، ح 23، «الاستبصار» ج 3، ص 207، ح 749، في أن المملوك إذا كان متزوجا بحرّة كان الطلاق بيده، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 14، ص 575، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد و الإماء، باب 64، ح 8.

هذا كلّه كان في بيان الأدلّة على نفي ملكيّة العبد، و قد عرفت أنّها ليست بحيث يمكن أن تخصّص بها العمومات و الإطلاقات. و أمّا الأدلّة على ثبوت الملكيّة لهم فعمدتها العمومات و الإطلاقات التي لأدلّة المعاملات و الهبات و العطايا و الوصايا، حيث أنّها تشمل العبيد كالأحرار، مع عدم وجود مخصّص لها يعتدّ به.

و أيضا الأخبار الخاصّة الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السّلام الظاهرة في ثبوت الملكيّة لهم.

منها: ما رواه في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل أراد أن يعتق مملوكا له، و قد كان مولاه يأخذ منه ضريبة فرضها عليه في كلّ سنة، فرضي بذلك فأصاب المملوك في تجارته مالا سوى ما كان يعطي مولاه من الضريبة؟ قال: فقال عليه السّلام «إذا أدى إلى سيّده ما كان فرض عليه، فما اكتسب بعد الفريضة فهو للمملوك» . ثمَّ قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «أ ليس قد فرض اللّٰه على العباد فرائض، فإذا أدوها إليه لم يسألهم عمّا سواها» . قلت: فللمملوك أن يتصدّق ممّا اكتسب و يعتق بعد الفريضة التي كان يؤدّيها إلى سيّده؟ قال: «نعم و أجر ذلك له» .

قلت: فإن أعتق مملوكا ممّا كان اكتسب سوى الفريضة لمن يكون ولاء المعتق؟ فقال: «يذهب فيتولّى إلى من أحبّ، فإذا ضمن جريرته و عقله كان مولاه و ورثه» .

قلت له: أ ليس قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «الولاء لمن أعتق» ؟ فقال: «هذا سائبة لا يكون ولاؤه لعبد مثله» . قلت: فإن ضمن العبد الذي أعتقه جريرته و حدثه يلزمه ذلك و يكون مولاه و يرثه؟ فقال: «لا يجوز ذلك لا يرث عبد حرا» (1).

و منها: ما رواه الصدوق عليه الرحمة، بإسناده عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم، أو أقلّ، أو أكثر فيقول حللني من ضربي إيّاك و من كلّ ما كان منّي إليك و ما أخفتك و أرهبتك، فيحلله

ص: 305


1- «الكافي» ج 6، ص 190، باب المملوك يعتق و له مال، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 34، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، باب 9، ح 1.

و يجعله في حلّ رغبة فيما أعطاه، ثمَّ إنّ المولى بعد أصاب الدراهم التي أعطاه في موضع قد وضعها فيه العبد فأخذها المولى إحلال هي؟ فقال: «لا» . فقلت له: أ ليس العبد و ماله لمولاه؟ فقال: «ليس هذا ذاك» . ثمَّ قال عليه السّلام: «قل له فليردّها عليه، فإنّه لا يحلّ له، فإنّه افتدى به نفسه من العبد مخافة العقوبة و القصاص يوم القيامة» الحديث (1).

و هاتان الروايتان صريحتان في أنّ العبد يملك، فالأحسن ما قاله المحقّق في الشرائع في باب بيع الحيوان: و لو قيل يملك مطلقا لكنّه محجور عليه بالرقّ حتى يأذن له المولى كان حسنا (2).

و المراد بقوله «مطلقا» هو مقابل التفصيلات التي ذكروها في المسألة، مثل حصول الملكيّة له لكن في خصوص ما يعطيه المولى، أو في خصوص أرش الجنايات، أو في خصوص فاضل الضريبة، أو في خصوص عوض الخلع، أو غير ذلك.

ثمَّ إنّ ثمرة القولين-أي القول بأنّ العبد يملك و القول بأنّه لا يملك مع أنّه بناء على القول الأوّل أيضا ليس له التصرّف بدون إذن مولاه، لأنّه محجور و إن كان مالكا-أمور:

الأوّل: أنّه بناء على القول بملكيّة العبد فذلك المال ليس له زكاة، و إن كان من الأجناس الزكويّة، أي من الأنعام الثلاثة، أو الغلاّت الأربعة، أو من النقدين أي الذهب و الفضة المسكوكين، أمّا على العبد فلأنّه ممنوع عن التصرّف، لأنّه محجور مثل المالك غير البالغ، فلا زكاة عليه لفقد الشرط، و هو كون المالك يجوز له التصرّفات و كان الملك تامّ الملكيّة، أي يكون المالك متمكّنا من التصرّف، و العبد

ص: 306


1- «الفقيه» ج 3، ص 232، ح 3800، باب المضاربة، ح 14، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 35، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، باب 9، ح 3.
2- «شرائع الإسلام» ج 2 ص 58.

ليس كذلك فليس في ملكه زكاة، و أمّا المولى فليس عليه زكاة، لأنّه ليس بمالك على الفرض.

الثاني: أنّه لو كان ما استفاده من كسبه المأذون فيه جارية، فعلى القول بأنّه يملك يجوز له وطيها، و على القول بالعدم لا يجوز، لأنّه لا وطي إلاّ في الملك على فرض عدم تزويج من قبل المولى، و أيضا عدم تحليل أو عدم تأثيره و إن كان.

الثالث: في مورد وجوب الكفّارة، أو ذبح الهدي للمالك الواجد، و إن كان فقيرا لا يتمكّن فعليه الصوم كذا أيّام، فإن قلنا بأنّه يملك فعليه الكفّارة التي عيّنت من قبل الشارع من الأموال، و إن قلنا إنّه لا يملك و لم يتبرّع المولى فعليه الصوم الذي جعله الشارع بدلا عنها.

و موارد أخرى كثيرة غير خفيّة على الفقيه المتتبّع، و الضابط أنّ كلّ تكليف ماليّ كان متوجّها إلى من له المال، إن قلنا بأنّه يملك يتوجه إليه مع وجود سائر الشرائط، و على القول بأنّه لا يملك فلا يتوجّه إليه تكليف أصلا، أو ينتقل إلى بدله إن كان له بدل.

فرع: قال في الشرائع بعد ذكره مسألة أن العبد يملك أو لا: من اشترى عبدا له مال كان ماله لمولاه

إلاّ أنّ يشترطه المشتري (1).

و الظاهر أنّ المراد بالاستثناء هو أنّ المشتري اشترط على بائع العبد انتقال أمواله إليه أيضا، و هذا الشرط صحيح و نافذ إذا كان انتقال أموال العبد و نقلها بيد مولاه كي يكون الشرط مقدورا لمولاه البائع، لأنّ من شرائط صحّة الشروط أن يكون الشرط مقدورا للمشروط عليه، و إلاّ يكون الالتزام به لغوا لا أثر له. و كونه مقدورا للمولى في المفروض بأحد أمرين:

ص: 307


1- «شرائع الإسلام» ج 2، ص 58.

إمّا بأن يكون مال العبد لمولاه حقيقة و لا يكون ملكا للعبد، و الإضافة إليه لأجل حصوله للمولى بواسطته. و يكفي في الإضافة أدنى ملابسة فضلا من أن يكون حصوله بسببه، فالشرط حينئذ مقدور للبائع، لأنّه له أن يعطي مال العبد الذي هو ماله حقيقة للمشتري، سواء جعله في مقام البيع جزءا للمبيع، أو التزم في ضمن المعاملة بإعطائه له.

و إمّا أن يكون للمولى شرعا السلطنة على مال العبد بالنقل و الانتقال، سواء رضي العبد بذلك أو لم يرض.

و من الواضح الجليّ أنّه عند فقد كلا الأمرين لا أثر لهذا الاشتراط، بل يكون مال العبد باقيا على ملكه بعد أن باعه مولاه. نعم لو كان الحكم الشرعي هو أنّ ملكيّة مال العبد تابعة لملكيّة نفسه، فيكون للمشتري قهرا، و يكون هذا الاشتراط لغوا.

هذا بحسب القواعد الأوليّة، و لكن في المسألة وردت روايات:

منها: ما رواه محمّد بن مسلم، عن أحدهما قال: سألته عن رجل باع مملوكا فوجد له مالا. قال: فقال: «المال للبائع، إنّما باع نفسه، إلاّ أن يكون شرط عليه أنّ ما كان له مال أو متاع فهو له» (1).

و هذه الرواية لها ظهور ما في أنّ مال العبد لمولاه، فله أن ينقل إلى آخر جزءا للمبيع أو شرطا، و لكن ليس قابلا للمعارضة مع الأدلّة الدالّة على أنّه يملك، لاحتمال أن يكون نفوذ شرطه من جهة أنّ الشارع جعل المولى سلطانا على جميع التصرّفات في مال عبده من دون أن يكون ماله ماله، فلا يمكن أن تكون مخصصة للمطلقات الكثيرة التي تدلّ على أنّه يملك.

ص: 308


1- «الكافي» ج 5، ص 213، باب المملوك يباع و له مال، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 71، ح 306، في ابتياع الحيوان، ح 20، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 32، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، باب 7، ح 1.

و منها: ما عن جميل بن درّاج، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الرجل يشتري المملوك و له مال لمن ماله؟ فقال عليه السّلام: «إن كان علم البائع أنّ له مالا فهو للمشتري، و إن لم يكن علم فهو للبائع» (1).

و هذه الرواية التي فرّق الإمام عليه السّلام بين علم البائع و عدمه ظاهرة في أنّ في صورة علم البائع يكون نقل مال العبد إلى المشتري من قبيل الشرط الضمني، و أمّا في صورة عدم علمه فلا شرط في البين، فيبقى مال العبد ملكا للبائع بناء على أنّ العبد لا يملك، و تحت سلطانه بناء على الاحتمال الآخر الذي بيّناه.

و منها: ما عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «من باع عبدا و له مال فماله للبائع إلاّ أن يشترطه المبتاع» (2). و مضمون الحديث و توجيهه كما تقدّم في الروايات المتقدّمة.

نعم يبقى كلام، و هو أنّ صرف علم البائع بأنّ للعبد مال يكون بمنزلة الاشتراط الضمني، بمعنى أنّ البائع التزم في ضمن عقد البيع بأن يكون مال العبد أيضا منتقلا إلى المشتري مع عدم قصد ذلك و عدم إنشاء مثل هذا المعنى، بل من الممكن أن يكون في عالم اللبّ أيضا غير قاصد لانتقال مال العبد إلى المشتري، و ليس دالّ في البين يكون حجّة في كشف مراد البائع و أنّه في ضمن وقوع المعاملة قصد انتقال مال العبد أيضا كنفسه إلى المشتري، بل الأصول العمليّة في مثل المقام تجري و تفيد بقاء ملكيّة العبد على تقدير أن يملك و بقاء ملكيّة المولى أو سلطنته على تقدير عدم الملك، فالانتقال إلى المشتري لا وجه له على كلّ حال.

هذا مع أنّ صرف كونه مقصودا و مرادا واقعيّا لا أثر له في أبواب المعاملات،

ص: 309


1- «الكافي» ج 5، ص 213، باب المملوك يباع و له مال، ح 1، «الفقيه» ج 3، ص 220، ح 3816، شراء الرقيق و أحكامه، ح 45، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 32، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، باب 7، ح 2، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 71، ح 307، في ابتياع الحيوان، ح 21.
2- تقدم ص 303، هامش (1) .

بل لا بدّ و أن تبرز تحت الإنشاء كي يصدق النقل و الانتقال في عالم الاعتبار التشريعي.

و أمّا مسألة «العقود تابعة للقصود» فمعناه أنّ الإنشاء بلا قصد لا أثر له، لأنّ التمليك بعوض و كذلك التملك بعوض من الأفعال الاختياريّة لا بدّ فيها من القصد و الاختيار، فيحتاج النقل و الانتقال إلى أمرين، و بفقد كلّ واحد منهما لا يتمّ النقل، و هما الإنشاء و القصد. و في المفروض على فرض أن يكون القصد حاصلا حيث أنّ الإنشاء كما هو المفروض لم يحصل، فلا ينتقل المال إلى المشتري، سواء علم أو لم يعلم، فلا بدّ من حمل الرواية المفصّلة بين علم البائع و بين عدمه بحمل صورة العلم على الاشتراط، إمّا صريحا و إمّا ضمنا بالدلالة الضمنيّة، لا صرف القصد بدون مبرز و إنشاء أصلا.

فرع: لو باع العبد و ماله بحيث كان المبيع مركّبا من الاثنين-أي نفسه و ماله جميعا-مثل أن يقول: «بعتك هذا العبد مع ماله الذي هو ألف درهم بكذا مقدار من الدراهم، أو بكذا مقدار من الدنانير، أو بمال آخر من جنس آخر» فإن كان الثمن من غير جنس مال العبد فلا إشكال، لأنّ المعاوضة تقع بين جنسين، و لا يكون رباء في البين، و أمّا إن كان الثمن من جنس مال العبد و كان ممّا يدخل فيه الربا-أي كان مكيلا أو موزونا، و لم يكن البائع و المشتري ممّن يجوز الربا في حقّهم-فلا بدّ و أن يكون الثمن أزيد من مال العبد بمقدار يصحّ أن يكون مقابل نفس العبد و إن كان قليلا لئلاّ يصير ربا فتبطل المعاملة.

مثلا لو كان مال العبد ألف درهم فباعه مع ذلك المال بألف درهم أو أقلّ منه، لا يصحّ مثل هذا البيع، للزوم الربا. و أمّا لو كان الثمن في المعاملة المفروضة أكثر من ألف درهم، و لو كانت الزيادة على الألف مقدارا قليلا، و لكن المقدار الزائد كان قابلا

ص: 310

لوقوعه ثمنا لنفس العبد، و لا يكون بيعه بذلك المقدار سفهيّا، فتصحّ المعاملة و لا إشكال فيها.

و روى زرارة في الصحيح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

الرجل يشتري المملوك و ماله، قال: «لا بأس» . قلت: فيكون مال المملوك أكثر ممّا اشتراه به، قال عليه السّلام: «لا بأس به» (1).

و لا بد من حمل هذه الرواية إمّا على أنّ مال العبد من غير جنس الثمن، أو المبيع نفس العبد وحده، و ماله يدخل في ملك المشتري بالاشتراط الخارج عن دخوله في المعاملة، أو يقال ببقاء مال العبد في ملكه و عدم دخوله في ملك المشتري، فيكون الحكم مبنيّا على أنّ العبد يملك كلّ ذلك للتخلّص عن الربا.

و المحكي عن الدعائم، عن جعفر بن محمّد عليهم السّلام: «فإن باعه بماله و كان المال عروضا-أي متاعا-و باعه بعين-أي بنقد-فالبيع جائز كان المال ما كان، و كذلك إن كان المال عينا و باعه بعروض، و إن كان المال عينا و باعه بعين مثله لم يجز إلاّ أن يكون الثمن أكثر من المال، فيكون رقبة العبد بالفاضل، إلاّ أن يكون المال ورقا و البيع بتبر أو البيع بورق فلا بأس بالتفاضل، لأنّه من نوعين» (2).

و اللّٰه العالم.

فرع: في ما يستحبّ على الدائن و المديون:

أمّا الأوّل: فيستحبّ على الدائن الإرفاق بالمديون، و يكره المبالغة في

ص: 311


1- «الكافي» ج 5، ص 213، باب المملوك يباع و له مال، ح 3، «الفقيه» ج 3، ص 220، ح 3817، شراء الرقيق و أحكامه، ح 46، «تهذيب الأحكام» ج 7، ص 71، ح 305، في ابتياع الحيوان، ح 19، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 34، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، باب 8، ح 1.
2- «جواهر الكلام» ج 24، ص 192، حكى عن الدعائم، «دعائم الإسلام» ج 2، ص 54، ح 146، ذكر الشروط في البيوع.

الاستقضاء و الدقّة في الحساب. و يدلّ عليه ما رواه في الكافي في الفروع، و الشيخ في التهذيب، عن حمّاد بن عثمان قال: دخل رجل على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فشكى إليه رجل من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «ما لفلان يشكوك» . فقال: يشكوني، أنّي استقضيت منه حقّي. قال: فجلس أبو عبد اللّٰه عليه السّلام مغضبا ثمَّ قال: «كأنّك إذا استقضيت حقّك لم تسئ، أرأيتك ما حكى اللّٰه عزّ و جلّ فقال (وَ يَخٰافُونَ سُوءَ اَلْحِسٰابِ) أ ترى أنّهم خافوا اللّٰه أن يجوز عليهم، لا و اللّٰه ما خافوا إلاّ الاستقضاء، فسمّاه اللّٰه عزّ و جلّ سوء الحساب، فمن استقضى فقد أساء» (1).

و قد روي الصدوق هذه الرواية أيضا في معاني الأخبار (2)باختلاف يسير في اللفظ لا يختلف معه المعنى.

و أمّا الثاني: فيستحبّ على المديون

حسن القضاء و إرضاء الغريم المطالب بالأداء و الإعطاء أو الملاطفة مع التعذّر، و يدلّ على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: «ليس من غريم ينطلق من عند غريمه راضيا إلاّ صلّت عليه دوابّ الأرض و نون البحر، و ليس من غريم ينطلق صاحبه غضبان و هو ملي إلاّ كتب اللّٰه عزّ و جلّ بكلّ يوم يحسبه و ليلة ظلما» (3).

و أيضا عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السّلام عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله في حديث المناهي أنّه قال: «و من مطل على ذي حقّ حقّه و هو يقدر على أداء حقّه، فعليه كلّ يوم خطيئة عشّار» (4).

ص: 312


1- تقدم ص 214، هامش (2) .
2- «معاني الأخبار» ص 246، ح 1، باب معنى سوء الحساب. «وسائل الشيعة» ج 13، ص 101، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 16، ح 3.
3- «الفقيه» ج 3، ص 185، ح 3694، الدّين و القرض، ح 16، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 101، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 17، ح 1.
4- «الفقيه» ج 4، ص 16، ح 4968، المناهي، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 89، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 8، ح 2.

و أيضا قال في الفقيه: و من ألفاظ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «مطل الغني ظلم» (1).

و أيضا روى الحسن بن محمّد الطوسي في مجالسه بإسناده عن الصادق و عن الرضا عليهم السّلام عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «لي الواجد بالدين يحل عقوبته و عرضه ما لم يكن دينه فيما يكره اللّٰه عزّ و جلّ» (2).

و أيضا روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله: «ألف درهم أقرضها مرّتين أحبّ إليّ من أن أتصدّق بها مرّة، و كما لا يحلّ لغريمك أنّ يمطلك و هو موسر و كذلك لا يحلّ لك أن تعسره إذا علمت أنّه معسر» (3).

و الروايات الواردة في عدم جواز مطل المدين الموسر و عدم جواز إعسار الدائن المدين المعسر كثيرة في كتب الحديث.

و من جملة ما يستحبّ على المدين الاقتصاد في المعيشة ، و هو الحدّ الوسط بين الإسراف و التقتير، فالإسراف لا يجوز، لأنّه مضافا إلى أنّه في حدّ نفسه منهيّ عنه و مذموم في الآيات و الأخبار، صدوره عن المدين يوجب ضياع حقّ الدائن، و التقتير لا يجب لما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن عليّ بن إسماعيل، عن رجل من أهل الشام أنّه سأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن رجل عليه دين قد فدحه و هو يخالط الناس و هو يؤتمن يسعه شراء الفضول من الطعام و الشراب فهل يحلّ له أم لا؟ و هل يحلّ أن يتطلع من الطعام أم لا يحلّ له إلاّ قدر ما يمسك به نفسه و يبلغه؟

ص: 313


1- «الفقيه» ج 4، ص 380، ح 5819، باب النوادر، ألفاظ موجزة للنبي صلّى اللّٰه عليه و آله، ح 57، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 90، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 8، ح 3.
2- «أمالي الطوسي» ج 2، ص 134، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 90، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 8، ح 4.
3- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 192، ح 418، في الديون و أحكامها، ح 43، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 90، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 8، ح 5.

قال: «لا بأس بما أكل» (1).

و قال في الدروس: و يجب على المديون الاقتصاد في النفقة، و يحرم الإسراف، و لا يجب التقتير و هل يستحبّ؟ الأقرب ذلك إذا رضي عياله (2).

و قوله «يجب الاقتصاد في النفقة» وجهه ما ذكرنا من أنّ عدمه يوجب ضياع حقّ الدائن، أو لما هو ظاهر موثّق سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الرجل منّا يكون عنده الشيء يبلغ به و عليه دين أ يطعمه عياله حتّى يأتي اللّٰه عزّ و جلّ بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان و شدّة المكاسب، أو يقبل الصدقة؟ قال: «يقضي بما عنده دينه، و لا يأكل أموال الناس إلاّ و عنده ما يؤدّي إليهم حقوقهم، إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول (لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ) (3)، و لا يستقرض على ظهره إلاّ و عنده وفاء، و لو طاف على أبواب الناس فردّوه بالتمرة و التمرتين، إلاّ أن يكون له وليّ يقضي دينه من بعده» الحديث (4).

و ذكرنا تفاصيل لهذه المسألة في هذا المقام مع وضوح الأمر من جهة كثرة الابتلاء و عدم الاعتناء، فالأغلب مبتلون بالدين و مع ذلك يسرفون في معيشتهم و يعيشون عيشة الأمراء و المثرين. و قد عبر عن هذه الطائفة في الأخبار تارة باللصوص، و أخرى بالسراق.

و من جملة ما يستحبّ على الدائن هو الإشهاد على دينه لئلاّ يضيع بالإنكار، أو بموت المديون و جهل ورثته، و أمثال ذلك ممّا يوجب ذهاب ماله و ضياعه، و لما

ص: 314


1- «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 194، ح 424، في الديون و أحكامها، ح 49، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 115، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 27، ح 1.
2- «الدروس» ج 3، ص 310.
3- النساء (4) :29.
4- تقدم ص 282، هامش (3) .

روى في الكافي بإسناده عن عمران بن أبي عاصم قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «أربعة لا تستجاب لهم دعوة: أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة، يقول اللّٰه عزّ و جلّ ألم آمرك بالشهادة» (1).

و أيضا روى في فروع الكافي بإسناده عن عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «من ذهب حقّه على غير بيّنة لم يوجر» (2).

و أيضا روى في الكافي عن جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «أربعة لا تستجاب لهم دعوة: الرجل جالس في بيته يقول اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب، و رجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقال: ألم أجعل أمرها إليك، و رجل كان له مال فأفسده فيقول اللّهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، أ لم آمرك بالإصلاح، ثمَّ قال (وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً) (3)، و رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة فيقال له: ألم آمرك بالشهادة» (4).

فرع: المديون إذا كان معسرا لا يجوز مطالبته و لا حبسه

، لقوله تعالى وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ (5)، فيجب على الدائن الصبر و انتظار الميسرة، و لا يتعرّض له قبل ذلك.

ص: 315


1- «الكافي» ج 5، ص 298، باب من أدان ماله بغير بيّنة، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 93، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 10، ح 1.
2- «الكافي» ج 5، ص 298، باب من أدان ماله بغير بيّنة، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 93، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 10، ح 2.
3- الفرقان (25) :67.
4- «الكافي» ج 2، ص 370، باب من لا تستجاب دعوته، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 4، ص 1159، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 50، ح 2. و المراد بالأمر بالشهادة ما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة (2) :282: وَ (اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) .
5- البقرة (2) :280.

و لا شكّ في أنّ قوله تعالى (فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ) و إن كان جملة اسميّة لكنّه آكد في الوجوب من الجملة الإنشائيّة التي مفادها طلب شيء، فالانتظار واجب، و التعرّض بالمطالبة أو الحبس أو ملازمته و عدم الانفكاك عنه ضدّ الانتظار، و يكون موجبا لترك الواجب فلا يجوز.

و وردت أيضا روايات كثيرة في وجوب إنظار المعسر و عدم جواز إعساره، و قد عقد في الوسائل في كتاب الدين بابا بهذا العنوان (1)و روى روايات متعددة:

منها: ما رواه عن الكافي بإسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في وصيّة طويلة كتبها إلى أصحابه قال: «و إيّاكم و إعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله و هو معسر، فإن أبانا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان يقول: «ليس لمسلم أن يعسر مسلما، و من أنظر معسرا أظلّه اللّٰه يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه» (2).

و ظاهر قوله صلّى اللّٰه عليه و آله «ليس لمسلم أن يعسر مسلما» . هو حرمة الإعسار و نفي الجواز.

فرع: لو ضائق الدائن المعسر و أراد أن يحبسه بأن يرفع أمره إلى الحاكم، و لا يمكن للمديون و لا طريق له لإثبات أنّه معسر، خصوصا فيما إذا كان سابقا موسرا و استصحاب اليسار موجود فينجرّ أمره إلى الحبس، فهل يجوز لدفع الضرر عن نفسه إنكار الدين مع علمه بأنّه مديون، و هل يجوز له أن يحلف على عدم كونه مديونا مع أنّه يدري بأنّه مديون، أم لا؟ و على تقدير جواز الحلف هل يجب عليه التورية، أو يجوز الحلف كاذبا بدون التورية؟

ص: 316


1- «وسائل الشيعة» ج 13، ص 113، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 25.
2- «الكافي» ج 8، ص 9، رسالة أبي عبد اللّٰه عليه السّلام إلى جماعة الشيعة، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 13، ص 113، كتاب التجارة، أبواب الدّين و القرض، باب 25، ح 1.

الظاهر جوازه مع التورية. أمّا جواز الحلف كاذبا فلأنّ الحلف كاذبا لمصلحة خصوصا إذا كان لدفع الضرر عن نفسه، أو عن عرضه، أو عن نفس غيره، أو عرض ذلك الغير جائز و لا بأس به، بل ربما يكون واجبا، خصوصا فيما إذا كان حفظ نفس محترمة متوقّفا عليه. روى زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: إنّا نمرّ بالمال على العشارين فيطلبون منّا أن نحلف لهم و يخلون سبيلنا و لا يرضون منّا إلاّ بذلك، فقال عليه السّلام: «احلف لهم فهو أحلى من التمر و الزبد» (1).

و عن الفقيه قال: و قال الصادق عليه السّلام: «اليمين على وجهين-إلى أن قال-فأمّا الذي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكفّارة فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ مسلم، أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّى عليه من لصّ أو غيره» - الحديث (2).

و الروايات بذلك مستفيضة بل متواترة.

و أمّا لزوم التورية فمن جهة أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، إذ لا شبهة في أنّ تجويز الحلف كاذبا ليس بعنوانه الأوّلى، إذ الحلف باللّه بعنوانه الأوّلي صادقة لا يخلو عن كراهة فضلا عن كاذبة، قال اللّه تعالى (وَ لاٰ تَجْعَلُوا اَللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ) (3)فجوّزه الشارع لأجل دفع الضرر، أو وجود مصلحة أخرى، فإن كان من الممكن دفع ذلك الضرر أو تحصيل تلك المنفعة و المصلحة بدون ارتكاب الكذب يتعيّن، و حيث أنّ التورية ممّا يتخلّص بها عن الكذب فتجب لفقدان علّة جوازه مع إمكان التورية، و كذلك الأمر في غير مورد الحلف من موارد جواز الكذب المحرّم

ص: 317


1- «الفقيه» ج 3، ص 363، ح 4286، الأيمان و النذور، ح 14، «وسائل الشيعة» ج 16، ص 163، كتاب الأيمان، أبواب الأيمان، باب 12، ح 6.
2- «الفقيه» ج 3، ص 366، ح 4297، الأيمان و النذور، ح 25، «وسائل الشيعة» ج 16، ص 163، كتاب الأيمان، أبواب الأيمان، باب 12، ح 9.
3- البقرة (2) :224.

الذي جوّز لأجل دفع الضرر، أو لجلب المنفعة، أو لأجل كونه ذا مصلحة كالكذب مع الزوجة بناء على جوازه لأجل إدارة البيت.

فرع: إذا اقترض حيوانا فنفقة ذلك الحيوان قبل أن يقبضه المقترض على المقرض، و ذلك لأنّ نفقته نفقة الملك، و قد تقدّم أنّ الملك يحصل بالقبض، فقبله لا ملك فلا نفقة.

و لو قيل بأنّ الملك يحصل بالتصرّف لا بصرف القبض من دون تصرّف، فلو أقبض الحيوان و لكن لم يتصرّف المقترض بعد، فنفقته على المقرض، لعين ما ذكرنا في القبض، فلو كان الحيوان الذي اقترضه بعيدا عن مكان المقترض و بعد إجراء صيغة القرض و وقوعه أمر المقرض خادمه بإقباض الفرس مثلا للمقترض و لا يمكن له قبضه قبل مضيّ أيّام لبعد المكان مثلا أو لجهة أخرى، ففي تلك الأيّام نفقته على المالك المقرض لعدم زوال ملكه بعد، و عدم حصول الملكيّة للمقترض، و كذلك الأمر بعينه لو قلنا بحصول الملكيّة بالتصرّف.

فرع: قال في التذكرة: إذا اقترض نصف دينار مكسورا فأعطاه المقترض دينارا صحيحا عن قرضه نصف دينار و الباقي يكون وديعة عنده و تراضيا جاز(1) .

أقول: لا شكّ في صحّة أداء الدين و الوديعة كلاهما مع التراضي، أمّا الأداء فلأنّه و إن كان للمقرض الامتناع من الأخذ، لأنّ الشركة عيب، فله أن لا يقبل و يقول أريد مالي مفروزا، و له أن يرضى بكونه شريكا مع صاحب النصف، فإذا رضي بذلك يرتفع الإشكال.

ص: 318


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 6 و 7.

و أمّا صحّة كون النصف الآخر وديعة أيضا يحتاج إلى رضا الودعي، لأنّه لا بدّ و أن يلتزم بالحفظ و تحمّل المشقّة في ذلك، و لا وجه للزومه عليه بدون رضائه و التزامه بذلك.

و هذا كان كثير الوقوع بالنسبة إلى قرض الدنانير في الزمان القديم و الأزمنة السالفة، و إن كان في هذا الزمان لا مصداق له من جنس الدينار، و لكن في نفس هذا الزمان له مصاديق أخر كثيرة من غير الدنانير. مثلا لو اقترض كم ذراعا من فاسونة مقصوصة معيّنة لونها، و سائر خصوصياتها من حيث الجودة و الرداءة، ففي مقام الأداء أعطى من ذلك الجنس الواحد لجميع صفاتها و خصوصيّاتها طاقة كبيرة بقصد أن يكون مقدار دينه وفاء له و الباقي أمانة عنده.

و نظير هذا كثير في الأجناس التي هي من صنع المكائن في هذه الأزمنة، كما إذا اقترض أقراصا بقدر معيّن من كنين مثلا، فأعطى للمقرض قوطية من تلك الأقراص ليكون مقدار دينه وفاء و أداء له و الباقي أمانة عنده، و هكذا خسائر الأجناس، ففي جميع ذلك يكون الأداء و الأمانة كلاهما صحيحين مع تراضيهما، لما بيّنّا مفصّلا فلا نعيد.

فرع: لو باع العبد المأذون في التجارة متاعا و قبض الثمن، فظهر المتاع مستحقّا للغير و قد تلف الثمن في يد العبد، فهل المشتري يرجع إلى السيّد أو إلى العبد؟

قيل برجوعه إلى السيّد، لأنّه في الحقيقة طرف المعاملة، فكما لو كان هو بنفسه البائع كان للمشتري الرجوع إليه، لأنّ المعاملة لم تقع صحيحة، فلا بدّ من إرجاع الثمن إلى المشتري، و يد القابض كانت يد ضمان، لأنّه من المقبوض بالعقد الفاسد الذي هو في حكم الغصب، فإذا كان البائع في الحقيقة هو السيّد فالثمن

ص: 319

المقبوض حيث لو كانت المعاملة صحيحة كانت ملكا له و واصلا إليه و كان قبض العبد قبضه، و لذلك لو لم يكن المتاع مستحقّا للغير، و كانت المعاملة صحيحة و الثمن قد تلف في يد العبد، لم يكن للسيّد مطالبة المشتري بالثمن، فإنّ الثمن وصل إليه بوصوله إلى العبد، فيكون عند بطلان المعاملة هو الضامن.

نعم لو قيل بأنّ العبد يملك ما أعطاه السيّد للتجارة به، غاية الأمر بشرط أن يكون الأصل و الفرع من الربح بعد ختم التجارة لمولاه، يكون الضامن للمشتري هو العبد. و لكن هذا خلاف الواقع و خلاف الفرض.

فالحقّ في المقام هو الذي تقدم، و هو طرف المعاملة حقيقة هو السيّد، لأنّ المعاوضة تقع بينه و بين المشتري، و قبض العبد للثمن هو قبض السيّد.

فرع: لو اقترض ذمّي من مثله خمرا ثمَّ أسلم أحدهما سقط القرض. هكذا ذكر في التذكرة (1)، و علّل ذلك بأنّ الخمر من المثليّات يأتي بعد تحقّق القرض مثله في ذمّة المقترض، و لا بدّ ممّا يأتي في الذمّة أن يكون مالا كي يصحّ اعتباره في الذمّة، فإذا أسلم أحدهما-سواء كان هو المقرض أو المقترض-فذلك المسلم لا يرى شيئا في ذمّته إن كان هو المقترض حسب دينه و مذهبه، فكأنّه كان و انعدم و لا يرى شيئا في ذمّة طرفه إن كان هو المقرض، و بقاء القرض موقوف على بقاء ذلك الأمر الاعتباري عند الطرفين، فبإسلام كلّ واحد منهما-المقرض و المقترض- يسقط القرض.

أمّا لو كان العين المقروضة قيميّا فلا يسقط القرض بإسلام أحدهما. و السرّ في ذلك هو أنّ في القيمي ما يأتي في الذمّة هو قيمة العين المقروضة يوم القرض، و هذه القيمة قابلة للبقاء في ذمّة المسلم و الكافر، فلا وجه لسقوطه.

ص: 320


1- «تذكرة الفقهاء» ج 2، ص 7.

فالفرق واضح بين أن تكون العين المقروضة مثليّا أو قيميّا، ففي الأوّل بإسلام أحدهما يسقط القرض، و في الثاني لا وجه لسقوطه.

هذا ما ذكر في التذكرة من التفصيل بين أن يكون مثليّا و بين أن يكون قيميّا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ القيمة أيضا قيمة تلك العين المقروضة، فلا بدّ و أن يكون وقت أخذ القيمة أيضا من يأخذ القيمة معتقدا بأنّ ما أقرضه كان له قيمة، و أمّا إذا كان حال الأخذ لا يعتقد هذا الاعتقاد، بل بالعكس يعتقد أنّ ما أقرضه ليس مال شرعا و له قيمة فكيف يأخذ مال الناس بإزاء ما ليس عنده بمال، لأنّه بعد إسلام المقرض يعلم بأنّ ما أقرضه ليس بمال، فلا يكون له عوض كي يأخذ عوضه.

اللّهمّ إلا أن يقال: إنّ ما أقرضه كان حين الإقراض مالا واقعا بجعل الشارع، فحين كان ذمّيا كان خمره الذي أقرضه أو خنزيره مالا واقعا و لم يسقط الشارع ذلك الوقت ماليّته، فيأخذ القيمة باعتبار ماليّة ذلك الوقت التي تعلّقت بذمّته و ثبتت في عهدته في نفس ذلك الوقت، لأنّه قيميّ، و القيمي في نفس حال القرض تتعلّق قيمته بعهدة المقترض و تثبت في ذمّته.

و لكن القول بأنّه كان الخنزير مالا واقعا حال كفره بعيد عن مذاق الشرع، بل الظاهر أن الشارع حكم بإجراء أحكام المال عليه ظاهرا، حفظا للنظام. و هذا حكم ظاهري، فلو باع خمرا أو خنزيرا وقت كفره ثمَّ أسلم فيجب عليه ردّ الثمن، لانكشاف الخلاف عنده، فلا يبقى الحكم الظاهري بعد انكشاف الخلاف. فافهم (1).

فرع: لو أسقط المديون أجل الدين الذي عليه هل يسقط الأجل و يصير

ص: 321


1- إشارة إلی القول بكون المذكورات ملكاً للذمي حال كفره ظاهراً لا واقعاً، خلاف ما تسالم عليه الأصحاب، فبناءً عليه ما ذكره العلامة قدس سره في التذكرة من التفصيل بين قرض ماهو المثلي وبين ما هو القيمی في محله. (منه قدس سره).

حالاّ بحيث يكون الأداء واجبا على المديون لو طالبه الدائن قبل حصول ذلك الأجل، أم لا يسقط و يبقى مؤجّلا فليس لصاحب الدين المطالبة؟ قال في القواعد لا يسقط قبله (1). و قال في جامع المقاصد ليس له المطالبة في الحال. لأنّ ذلك-أي الأجل-قد ثبت بالعقد اللازم كما هو المفروض، فلا يسقط بمجرّد الإسقاط، و لأنّ في الأجل حقّا لصاحب الدين، و لذلك لا يجب عليه القبول قبل الأجل (2).

و لعلّ مراده من هذا الكلام أنّ في الدين المؤجّل حقّين، أحدهما لصاحب الدين، و الآخر للمديون، و بإسقاط أحدهما حقّه لا يسقط حقّ الآخر. نعم لو تقايلا يسقط، لأنّ مرجع الإقالة إلى إسقاط الاثنين، فلا يبقى حقّ في البين.

و أمّا تعليل عدم سقوطه بكون ثبوته بالعقد اللازم، فمبنيّ على كون المنشأ بالعقد معنى مقيّدا بذلك الأجل، لا جعل حقّ لأحد الطرفين أولهما.

و الأظهر هو أنّ عقد الدين المؤجّل بنحو التقييد لا في مقام جعل حقّ لأحدهما أولهما، فبالإسقاط لا يسقط.

و الحمد لله أوّلا و آخرا، و ظاهرا و باطنا.

ص: 322


1- «قواعد الأحكام» ج 1، ص 158، كتاب الدّين.
2- «جامع المقاصد» ج 5، ص 41.

63-رسالة في التّوبة

اشارة

ص: 323

ص: 324

رسالة في التّوبة (1) الحمد لله ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على سيّد الأوّلين و الآخرين محمّد و آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

و بعد: فهذه نبذة من الكلام في تحقيق معنى التوبة، و شرح مفهومها، و بيان حقيقتها، و الدليل على وجوبها على جميع المكلّفين غير المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، بل و على بعض هؤلاء ممّن صدر منهم ترك الأولى، كبعض الأنبياء السالفين كما هو صريح القرآن المبين، و لا يخلو عادة ما عداهم أي مؤمن و مسلم عن ارتكاب بعض ما حرّمه اللّه على عباده و إن كان من الصغائر.

و أيضا بيان آثارها بعد وجودها ممّا يحصل للتائب من الصعود من حضيض الناسوت إلى أوج الملكوت، و أنّه يصير مشمولا لقوله عليه السّلام: «التائب عن الذنب كمن لا ذنب له» (2).

فأقول:

أمّا الأوّل: أي حقيقة التوبة عبارة عن الرجوع من الغيّ و الضلال إلى الرشد

و ما يوجب الهداية و الكمال، أو الرجوع إلى اللّه تعالى بعد الإعراض عنه، أو الرجوع

ص: 325


1- . قد بحث عن التوبة في الكتب الاخلاقية، لا الفقهيّة نحو: «المحجة البيضاء» ج 7، ص 1 - 104؛ «جامع السعادات» ج 2، ص 49 - 88؛ التوبة و التائبون مهدى الفتلاوي، مكبتة الإمام الحسن عليه السلام ، قم،؛ «ثلاث رسائل العدالة، التوبة، قاعدة لاضرر» سید تقی طباطبائی قمی، محلاتی، قم.
2- . «الكافي» ج 2، ص 316، باب التوبة، ح 10، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 358، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 8.

إلى الطريق المستقيم بعد الانحراف عنه. و مرجع الكلّ إلى أمر واحد، و هو الرجوع من عصيان المولى عزّ و جلّ و مخالفته و الطغيان عليه إلى طاعته و امتثال أوامره و نواهيه.

و إن شئت قلت: إنّها عبارة عن الندم ممّا ارتكب فيما مضى من المعاصي و العزم على تركها في الآتي، أو تقول: إنّها عبارة عن تنزيه القلب عن الرذائل و ما يوجب البعد عن المولى عزّ و جلّ، و الرجوع إلى ما يوجب القرب و تدارك ما فات منه من الكمال.

و ذلك من جهة أنّ ارتكاب الذنوب و الاقتراف فيها ينشأ من الصفتين الرذيلتين، و هما الشهوة و الغضب، و بسببهما يخرج الإنسان عن الاستقامة و الاعتدال، و ربما يصير أنزل من السباع الضارية و الأفاعي السامة، و الشهوات من أوان الطفولة إلى أن يصير شيخا كبيرا أنواع و أقسام، و كلّها من المهلكات إن لم تصرف فيما خلقها اللّه لأجله.

و أمّا القوّة الغضبيّة التي هي مبدأ أغلب الشرور و البلايا تتولّد منها المعاصي الكبيرة، و المفاسد، و الجرائم، و قتل النفوس، و هتك الأعراض، و نهب الأموال، و هدم الدور إلى غير ذلك من الجرائم الكبيرة التي ربما تكون بمثابة لا يقدر الإنسان على سماعها و تقشعرّ من ذكرها الأبدان.

و بالتوبة و الرجوع إلى اللّه يزيل التائب عن قلبه هذه الرذائل و يطهّرها من الأرجاس و الأدناس، فيصير القلب سليما عن تلك الأمراض و الآفات، و يكون الإنسان داخلا في المستثنى في الآية الشريفة (يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ مٰالٌ وَ لاٰ بَنُونَ إِلاّٰ مَنْ أَتَى اَللّٰهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(1).

و أمّا الدليل على وجوبها:

ص: 326


1- الشعراء (26) :88 و 89.

فمن الآيات و هي كثيرة لا تحصى

بصورة الأمر، أو بذكر الآثار و الفوائد العظيمة التي لها.

فمن الأوّل قوله تعالى (تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ) (1)، و قوله تعالى (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (2)و قوله تعالى:

(إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلىٰ بٰارِئِكُمْ) (3) و قوله تعالى (وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً) (4).

و من الثاني قوله تعالى (فَإِنْ تٰابٰا وَ أَصْلَحٰا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمٰا إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ تَوّٰاباً رَحِيماً) (5)إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في نتائج التوبة و فوائدها.

و كذلك وردت آيات في الإنابة، كقوله تعالى (وَ أَنِيبُوا إِلىٰ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ) (6)و قوله تعالى (وَ مٰا يَتَذَكَّرُ إِلاّٰ مَنْ يُنِيبُ) (7)و قوله تعالى (وَ جٰاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (8).

و زعم بعضهم أنّ الإنابة غير التوبة، و هي الرجوع حتّى من المباحات إليه تعالى، لا فقط من الذنب كما في التوبة، و لكن الصحيح أنّها المرتبة الكاملة من التوبة، و هي الابتهال و التضرّع إليه تعالى بعد الندم عن الذنوب، و غير هذا قول بلا دليل.

و أمّا من الأخبار فهي كثيرة بالغة حدّ التواتر

، و قد عقد في الوسائل بابا بل أبوابا لذلك و ذكر أحاديث كثيرة:

ص: 327


1- النور (24) :31.
2- التحريم (66) :8.
3- البقرة (2) :54.
4- هود (11) :3.
5- النساء (4) :16.
6- الزمر (39) :54.
7- غافر (40) :13.
8- ق (50) :33.

منها: رواية معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: «إذا تاب العبد توبة نصوحا أجلّه اللّٰه تعالى فستر عليه في الدنيا و الآخرة» . قلت: و كيف يستر عليه؟ قال: «ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، و يوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، و يوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى اللّٰه حين يلقاه و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب» (1).

و منها: رواية محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ (فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهىٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ) (2)قال: «الموعظة التوبة» (3).

و منها: رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال: «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا» . قلت: و أينا لم يعد؟ فقال: «يا أبا محمّد إنّ اللّٰه يحبّ من عباده المفتن التوّاب» (4).

و منها: رواية أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن قول اللّٰه عزّ و جلّ (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال: «يتوب العبد من الذنب ثمَّ لا يعود فيه» . قال محمّد بن فضيل: سألت عنها أبا الحسن عليه السّلام فقال:

«يتوب من الذنب ثمَّ لا يعود فيه، و أحبّ العباد إلى اللّٰه المفتنون التوّابون» (5).

و منها: مرفوعة عليّ بن إبراهيم قال: إنّ اللّٰه أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السماوات و الأرض لنجوا بها، قوله عزّ و جلّ (إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ) (6)فمن أحبّه اللّٰه لم يعذّبه، و قوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ

ص: 328


1- «الكافي» ج 2، ص 314، باب التوبة، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 356 و 357، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 1.
2- البقرة (2) :275.
3- «الكافي» ج 2، ص 314، باب التوبة، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 357، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 2.
4- «الكافي» ج 2، ص 314، باب التوبة، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 257، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 3.
5- «الكافي» ج 2، ص 314، باب التوبة، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 357، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 4.
6- البقرة (2) :222.

تٰابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذٰابَ اَلْجَحِيمِ) (1) و ذكر الآيات، و قوله (إِلاّٰ مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صٰالِحاً فَأُوْلٰئِكَ يُبَدِّلُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِهِمْ حَسَنٰاتٍ) (2). (3)

و منها: رواية أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «إنّ اللّٰه تبارك و تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته و زاده في ليلة ظلماء فوجدها، فاللّه أشدّ بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها» (4).

و منها: رواية يوسف أبي يعقوب بيّاع الأرز، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

سمعته يقول: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، و المقيم على الذنب و هو مستغفر منه كالمستهزئ» (5).

و منها: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «أوحى اللّٰه عزّ و جلّ إلى داود النبيّ عليه السّلام: يا داود إنّ عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثمَّ رجع و تاب من ذلك الذنب و استحى منّي عند ذكره، غفرت له و أنسيته الحفظة و أبدلته الحسنة و لا أبالي، و أنا أرحم الراحمين» (6).

و منها: رواية يحيى بن بشير، عن المسعودي قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من تاب تاب اللّٰه عليه، و أمرت جوارحه أن تستر عليه، و بقاع الأرض أن تكتم عليه، و نسيت الحفظة ما كانت كتبت عليه» (7).

ص: 329


1- غافر (40) :7.
2- الفرقان (25) :70.
3- «الكافي» ج 2، ص 315، باب التوبة، ح 5، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 357، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 5.
4- «الكافي» ج 2، ص 316، باب التوبة، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 358، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 6.
5- تقدم ص 325، هامش (1) .
6- «ثواب الأعمال» ص 158، ح 1، باب من أذنب ذنبا ثمَّ رجع و تاب. ، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 359، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 9.
7- «ثواب الأعمال» ج 213، ح 1، ثواب التوبة، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 359، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 10.

و منها: رواية السكوني عن جعفر بن محمّد سلام اللّٰه عليهما، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّ لله فضولا من رزقه ينحاه من شاء من خلقه، و اللّٰه باسط يده عند كلّ فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له، و يبسط يده عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له» (1).

و منها: رواية عليّ بن عقبة، عن أبيه، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ ثُمَّ تٰابَ عَلَيْهِمْ (2)قال: «هي الإقالة» (3).

و في عيون الأخبار عن الرضا عليه السّلام، عن آبائه قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «مثل المؤمن عند اللّٰه تعالى كمثل ملك مقرّب، و إنّ المؤمن عند اللّٰه لأعظم من ذلك، و ليس شيء أحبّ عند اللّٰه تعالى من مؤمن تائب و مؤمنة تائبة» (4).

و منها: ما عن دارم بن قبيصة، عن الرضا، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (5).

و منها: ما عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «لا خير في الدنيا إلاّ لرجلين: رجل يزداد في كلّ يوم إحسانا، و رجل يتدارك ذنبه بالتوبة، و أنّى له بالتوبة، و اللّٰه لو سجد حتّى ينقطع عنقه ما قبل اللّٰه منه إلاّ بولايتنا أهل البيت» (6).

ص: 330


1- «ثواب الأعمال» ص 214، ح 3، ثواب التوبة، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 359، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 11.
2- التوبة (9) :117.
3- «معاني الأخبار» ص 215، ح 1، باب توبة اللّٰه عزّ و جلّ على الخلق، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 359، ح 21020، أبواب جهاد النفس، باب 26، ح 12.
4- «عيون الأخبار الرضا» ج 2، ص 29، ح 33، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 359، أبواب جهاد النفس، باب 26، ح 13.
5- «عيون اخبار الرضا» ج 2، ص 74، ح 347، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 360، أبواب جهاد النفس، باب 26، ح 14.
6- «الخصال» ص 41، ح 29، لا خير في الدنيا إلاّ لأحد رجلين، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 360، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 15.

و منها: ما عن عليّ بن موسى بن طاوس في مهج الدعوات، عن الرضا، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: اعترفوا بنعم اللّٰه ربّكم، و توبوا إلى اللّٰه من جميع ذنوبكم، فإنّ اللّٰه يحبّ الشاكرين من عباده» (1).

و منها: ما عن محمّد بن أحمد بن هلال قال: سألت أبا الحسن الأخير عليه السّلام عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب عليه السّلام: «أن يكون الباطن كالظاهر و أفضل من ذلك» (2).

و منها: ما رواه عبد اللّٰه بن سنان و غيره جميعا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «التوبة النصوح هو أن يتوب الرجل من ذنب، و ينوي أن لا يعود إليه أبدا» (3).

و عن نهج البلاغة قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام لمن قال بحضرته استغفر اللّٰه:

«ثكلتك أمّك، أ تدري ما الاستغفار، الاستغفار درجة العليّين، و هو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها: الندم على ما مضى، و الثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، و الثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللّٰه عزّ و جلّ أملس ليس عليك تبعة، و الرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيعتها فتؤدّي حقّها، و الخامس:

أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى يلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد، و السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر اللّٰه» (4).

و ما رواه جميل بن درّاج، عن بكير، عن أبي عبد اللّٰه أو عن أبي جعفر عليهم السّلام في حديث: «إنّ اللّٰه عزّ و جلّ قال لآدم عليه السّلام: جعلت لك أنّ من عمل من ذرّيّتك سيّئة ثمَّ استغفر غفرت له. قال: يا ربّ زدني. قال: جعلت لهم التوبة-أو بسطت لهم التوبة-

ص: 331


1- «مهج الدعوات» ص 275، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 360، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 16.
2- «معاني الأخبار» ص 174، ح 1، باب معنى التوبة النصوح، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 361، أبواب جهاد النفس، باب 87، ح 1.
3- «نهج البلاغة» حكم أمير المؤمنين عليه السّلام، رقم (417) .
4- «نهج البلاغة» حكم أمير المؤمنين عليه السّلام، رقم (417) .

حتّى تبلغ النفس هذه. قال: يا ربّ حسبي» (1).

و ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا بلغت النفس هذه-و أهوى بيده إلى حلقه-لم يكن للعالم توبة و كانت للجاهل توبة» (2).

و عن ابن فضّال، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: من تاب قبل موته بسنة قبل اللّٰه توبته، ثمَّ قال: إنّ السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّٰه توبته، ثمَّ قال: إنّ الشهر لكثير، ثمَّ قال: من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّٰه توبته، ثمَّ قال: و إنّ الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل اللّٰه توبته. ثمَّ قال: إنّ يوما لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل اللّٰه توبته» (3).

عن معاوية بن وهب في حديث: إنّ رجلا شيخا كان من المخالفين، عرض عليه ابن أخيه الولاية عند موته، فأقرّ بها و شهق و مات، قال: فدخلنا على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فعرض عليّ بن السري هذا الكلام على أبي عبد اللّٰه، فقال: «هو رجل من أهل الجنّة» . قال له عليّ بن السري: إنّه لم يعرف شيئا من هذا غير ساعته تلك، قال: «فتريدون منه ما ذا قد و اللّٰه دخل الجنّة» (4).

عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن عدّة من أصحابنا رفعوه قالوا: قال: «لكلّ شيء دواء، و دواء الذنوب الاستغفار» (5).

ص: 332


1- «الكافي» ج 2، ص 319، باب فيما أعطى اللّٰه عزّ و جلّ آدم عليه السّلام وقت التوبة، ح 1، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 369، أبواب جهاد النفس، باب 93، ح 1.
2- «الكافي» ج 2، ص 319، باب فيما أعطى اللّٰه عزّ و جلّ آدم عليه السّلام وقت التوبة، ح 3، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 369، أبواب جهاد النفس، باب 93، ح 2.
3- «الكافي» ج 2، ص 319، باب فيما أعطى اللّٰه عزّ و جلّ آدم عليه السّلام وقت التوبة، ح 2، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 370، أبواب جهاد النفس، باب 93، ح 3.
4- «الكافي» ج 2، ص 319 و 320 باب فيما أعطى اللّٰه عزّ و جلّ آدم عليه السّلام وقت التوبة، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 370، أبواب جهاد النفس، باب 93، ح 4.
5- «الكافي» ج 2، ص 318، باب الاستغفار من الذنب، ح 8، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 352 و 367، أبواب جهاد النفس، باب 85، ح 3، و باب 92، ح 2.

و هذه الروايات و إن كان أكثرها يمكن المناقشة في دلالتها على وجوب التوبة و لكن يستفاد من المجموع أنّ اللّٰه تبارك و تعالى لا يرضى بتركها، و هذا ملازم مع الوجوب.

هذا، مع أنّ بعضها-كرواية عليّ بن موسى بن طاوس في مهج الدعوات- ظاهرة في الوجوب، لمكان قوله صلّى اللّٰه عليه و آله فيها «و توبوا إلى اللّٰه من جميع ذنوبكم» ، و الأمر ظاهر في الوجوب، خصوصا مع تأييد هذا الظهور بالآيات الظاهرة في الوجوب، و الإجماعات المدّعاة في المقام، و الأدلّة العقليّة التي سنذكرها إن شاء اللّٰه تعالى.

و أمّا الاستدلال على وجوبها بالإجماع: فقد حكي عن كثير، و حكى الشيخ الأعظم الأنصاري (1)عن شارح أصول الكافي ادّعاء إجماع الأمّة عليه.

و نحن لم نجد مخالفا في أصل الوجوب. نعم هنا وقع خلاف في أنّ وجوبها هل هو إرشاديّ أو مولوي، و سنتكلّم فيه إن شاء اللّٰه تعالى.

و لكنّ الكلام في حجية مثل هذا الإجماع الذي يمكن كون اتّكاء المجمعين على الآيات و الروايات الكثيرة، أو الأدلّة العقليّة التي سنذكرها إن شاء اللّٰه تعالى.

هذا، مضافا إلى الإشكال العقلي سنذكره في كون وجوبها شرعيّا مولويّا، فلا يبقى مجال للتمسّك بالإجماع أصلا.

و أمّا الأدلّة العقليّة: على وجوبها، فهي من وجوه:

الأوّل: لزوم دفع الضرر المحتمل بحكم العقل

، و لا شكّ في أنّ في ترك التوبة احتمال ضرر عظيم، و هو عذاب اللّٰه الشديد الأليم الذي تطول مدّته و يدوم بقاؤه و لا تطيقه السماوات و الأرضون، لأنّه من غضب اللّٰه و انتقامه.

ص: 333


1- «مصنفات الشيخ الأنصاري» مجموعة 23، ص 58.

هذا، مع أنّ الاحتمال في وقوعه لأجل احتمال الشفاعة، و إلاّ فاستحقاقه معلوم، لا أنّه محتمل، مع ورود روايات كثيرة في أنّ أهل الكبائر لا يشفعون خصوصا بعض الكبائر.

و أيضا صرّح في بعض الأخبار بأنّ اللّٰه تبارك و تعالى لا يعفو عن حقوق الناس إلاّ أن يعفو صاحبه، فلا ينبغي التأمّل في أنّ العقل يحكم حكما قطعيّا بلزوم دفع مثل هذا الضرر المحتمل، و لذلك لما استدل الأخباريون للزوم الاحتياط في الشبهات البدويّة التحريميّة بهذه القاعدة.

و أجاب الأصوليّون: بأنّ المراد من الضرر المحتمل إن كان ضررا دنيويّا فمقطوعه لا يجب دفعه إذا كان يسيرا، فضلا عمّا هو محتمل. نعم لا بدّ أن يكون ارتكابه لغرض ديني أو دنيوي كي لا يكون ارتكابه سفهيّا، بل العقلاء يتحمّلون إضرارا لأجل أغراضهم و لو كانت تلك الأغراض شهويّة.

و أمّا إن كان المراد من الضرر المحتمل الضرر الأخرويّ و العذاب الإلهيّ يقبلون لزوم دفعه بحكم العقل الصريح و لا ينكرون، بل يقولون بوجوب دفع الموهوم منه، بأن يكون احتمال وجوده أضعف من احتمال عدمه، و ذلك لشدّته و طول مدّته، فلذلك يحتاج إلى وجود المؤمن لدفع هذا الاحتمال.

فيجيبون عن استدلالهم هذا بوجود المؤمن العقلي، أي قبح العقاب بلا بيان من قبل المولى، و المؤمن الشرعي، أي أدلّة البراءة الشرعيّة من الآيات و الروايات و الإجماع.

و خلاصة الكلام: أنّ لزوم دفع الضرر المحتمل إذا كان المراد منه العذاب الأخروي بحكم العقل ممّا لا كلام و لا إشكال فيه.

الثاني: شكر المنعم،

و العقل يستقلّ بلزوم شكر المنعم، و منه لزوم النظر في المعجزة، و إلاّ يلزم إفحام الأنبياء عليهم السّلام.

ص: 334

فهذه الكبرى-أي شكر المنعم-لزومه بحكم العقل ممّا لا ريب فيه، و إلى هذا يشير قوله تعالى (هَلْ جَزٰاءُ اَلْإِحْسٰانِ إِلاَّ اَلْإِحْسٰانُ) (1)، أي هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم المذكورة في سورة الرحمن إلاّ أن تحسنوا في شكره و عبادته.

فالكبرى فطريّ، و أمّا الصغرى-أي كون التوبة من شكر المنعم-فلأنّه لا شكّ في أنّه تعالى أنعم بجميع النعم من ابتداء خلقة الإنسان و كونه علقة في الرحم، إلى أن صار إنسانا سويّا كاملا عاقلا بالغا ذا رشد عليه من إعطائه نعمة الوجود أوّلا، ثمَّ إعطاء الجوارح اللازمة لرفع احتياجاته من اليد و الرجل و العين و الاذن و غيرها، بحيث يكون فقد أي واحد منها عنه يكون بلاء عظيما له، ثمَّ بعد ذلك إعطاء الحواسّ الخمسة الظاهريّة من اللمس و الأبصار و الشمّ و الذوق و السمع، بحيث يكون فقدان كلّ واحد منها يوجب نقصا لا يتدارك، و هكذا الأمر في القوى الباطنة.

ثمَّ أعظم و أكبر من ذلك أعطاه العقل المجرّد الذي به يجلب كلّ خير و يدفع كلّ شرّ.

و قال بعض العارفين: إلهي إن أعطيته العقل فمن أي شيء أحرمته، و إن أحرمته من العقل فأي شيء أعطيته. أي: كلّ شيء لا يفيده لأنّه بالعقل يوحّد اللّٰه و يعبد و يكتسب به الجنان، و ليس في العالم شيء أحسن من هذا و أنفع و أشرف، و به يخرج عن حضيض الحيوانيّة إلى أوج الملكوتيّة، ثمَّ أعطاه النعم الظاهرة التي يحتاج الجسم إليها في حياته و بقائه من المساكن و الملابس و المآكل و المشارب و المراكب و المناكح و غير ذلك.

و لا شكّ في أنّ عصيان المولى المنعم و مخالفته في أوامره و نواهيه تمرّد و بغي و طغيان عليه و ابتعاد عنه، و رجوعه عن مخالفته و طغيانه و بغيه و ابتعاده عنه إلى المولى و التزامه بترك مخالفته شكر له، فيجب ذلك عليه بحكم العقل الصريح الفطري، فالكبرى و الصغرى كلاهما في هذا القياس ثابتة و معلومة بغير إشكال.

ص: 335


1- الرحمن (55) :60.

الثالث: حكم العقل بلزوم درك المصالح الملزمة و عدم جواز تفويتها

و لزوم حفظ النفس عن الوقوع في المفاسد.

بيان ذلك: هو أنّ الحقّ عندنا الإماميّة أنّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد التي نسمّيها بملاكات الأحكام، فالعاصي إمّا يترك واجبا فيفوت عنه مصلحة ذلك الواجب، و إمّا يرتكب حراما فيقع في مفسدة ذلك الحرام، و التوبة-أي الرجوع إلى طاعة المولى و ترك مخالفته-مرجعها إلى عدم ترك الواجب، فلا يفوت عنه مصلحة ملزمة، أو إلى ترك الحرام، فلا يقع في مفسدة، و كلاهما-أي عدم فوت المصلحة الملزمة، و عدم الوقوع في المفسدة-ممّا يحكم العقل بلزومهما، فينتج أنّ التوبة لازمة بحكم العقل.

الرابع: في أنّه لا شبهة في حكم العقل بلزوم الاستكمال و الترقّي في مراتب الحقيقة إن كان ذلك ممكنا و ميسورا. و لا شكّ في أنّ الإنسان بواسطة ارتكاب المعاصي، سواء كان بترك الواجبات، أو بفعل المحرّمات ينزل، بل ربما يكون أنزل من الحيوان، و إلى هذا يشير قوله تعالى (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (1)، و لكن لمّا تاب و رجع إلى اللّٰه و صار كمن لا ذنب له، فينقلب نفسه من الخسّة و الرذالة و الدناءة و الخباثة و الشقاوة إلى الشرافة و النزاهة و العلو و الطيبة و السعادة.

فلو فرضنا أنّ فردا من أفراد حقيقة من الحقائق المشكّكة ذات مراتب متفاوتة بالكمال و النقص له إمكان أن يرقى نفسه من النقص إلى الكمال، لأنّه فاعل مختار، له أن يكمل نفسه و يصعد من الحضيض الناسوتية إلى أوج القدس و الكمال و الملكوتيّة، و يزيل عن نفسه الرذائل، و يتحلّى بالفضائل، فهل لعاقل أن ينكر وجوب ذلك عليه و يقول لا مانع له من إبقاء نفسه على النقص و إن كان أنزل من السباع الضارّة و الأفاعي السامّة؟ ما أظنّ أنّ عاقلا يجوّز مثل هذا المعنى، مع أنّ اللّٰه

ص: 336


1- الفرقان (25) :44.

تعالى ذمّهم على ذلك، و قال في كتابه العزيز (إِنْ هُمْ إِلاّٰ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (1).

و قد عبّر علماء الأخلاق عن تلك الرذائل مثل الجبن و البخل و الحسد و الكبر و الرياء و الحرص و الطمع تارة بالأمراض النفسانيّة، و أخرى بالمهلكات، فالقلب السالم عندهم هو الخالي عن هذه الأمراض و المهلكات، و لذلك قالوا في مقام علاج النفس المريضة بلزوم التخلية عن هذه الرذائل و تحليتها بالفضائل، و لعلّ إلى هذا يشير قوله تعالى في وصف يوم القيامة (يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ مٰالٌ وَ لاٰ بَنُونَ إِلاّٰ مَنْ أَتَى اَللّٰهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (2)أي يكون سالما عن هذه الأمراض النفسانيّة.

فتحصيل هذه المرتبة من كمال النفس و القلب، و تخليته من الأمراض و المهلكات أولى بكثير من تخلية البدن من الأمراض الجسميّة.

و بعبارة أخرى: الإنسان مركّب من البدن و النفس الناطقة القدسيّة التي بها يتميّز تميّزا جوهريّا ذاتيّا عن سائر الحيوانات، المعبّر عنها في الكتاب العزيز تارة بالقلب، و أخرى بالروح، و ثالثة بالنفس أيضا.

و لا شكّ في أنّ هذا الجزء من الإنسان-أي النفس-أشرف من الجزء الآخر أي البدن، لأنّه ثبت تجرّده في محلّه، و البدن مادّي، لأنّه جسم، و لأنّ إنسانيّة الإنسان بالنفس لا بالبدن، إذ النفس صورة للإنسان، و البدن مادّة له، و شيئيّة الشيء بصورته لا بمادّته. ففساد البدن و أمراضه لا يضرّ بإنسانيّة الإنسان بقدر ما يضرّ فساد القلب، و لذلك علم الأخلاق الذي وضع لعلاج أمراض النفس أشرف بكثير من علم الطبّ الذي وضع لعلاج أمراض البدن، فكما أنّ العقل يحكم بلزوم علاج أمراض البدن و حفظه عن الهلاك، فكذلك يحكم بلزوم علاج أمراض النفس-أي القلب-

ص: 337


1- الفرقان (25) :44.
2- الشعراء (26)88: و 89.

و حفظ سلامته بطريق أولى.

و ليس علاج و دواء لأمراض النفس أحسن و أنفع و أفيد من التوبة، إذ بها يطهّر القلب عن الرذائل و يحفظ سلامته، و بها يخرج عن الحيوانيّة و البهيميّة. و ربما يحصل له مرتبة شامخة من الولاية التكوينيّة بحيث يكون له بعض التصرّفات في الكون، كما اتّفق لبعض الكمّلين من العلماء الأخيار.

نعم الولاية المطلقة مخصوصة بنبيّنا صلّى اللّٰه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، فيتصرّفون في جميع الأشياء بإذن اللّٰه حتى في الحيوانات و النباتات كلّها بإذن اللّٰه.

و هذه الولاية المطلقة لهم عليهم السّلام لا ربط لها بالتوبة، حاشاهم عن العصيان و الاحتياج إلى التوبة، بل موهبة إلهيّة لاستعدادهم الذاتي و نفاسة جوهرهم و كونه من عليّين، فوصلوا إلى أعلى مراتب الكمال و إلى أقرب مدارج القرب إلى ذي الجلال، بحيث يكونون سمعه الذي يسمعون به، و بصره الذي يبصرون به، و يده التي يبطشون بها.

و هذه الولاية هي التي يبرأ بها الأكمه و الأبرص بإذن اللّٰه، و يحيى الموتى بها بإذنه تعالى، و كذلك في سائر التصرّفات المنقولة عنهم عليهم السّلام المرويّة في الكتب المعتبرة التي اعتمد عليها العلماء الأبرار في هذا الموضوع، ككتاب مدينة المعاجز (1)للسيّد البحراني قدّس سره و غيره ممّا هو مثله.

و بعد ما ثبت وجوب التوبة بالآيات، و الروايات و الإجماع و الأدلّة العقليّة يجب ذكر أمور لا بدّ منها لتتميم البحث عن التوبة:

[الأمر]الأوّل: في أنّ الوجوب المذكور هل هو إرشاديّ عقليّ، أو شرعي

ص: 338


1- «مدينة المعاجز» ص 5، نحوه.

مولوي؟ قد يقال: إنّه إرشاديّ عقليّ، و لا يمكن أن يكون شرعيّا مولويّا، لوقوعه في سلسلة معاليل الأحكام، فيكون حاله حال وجوب الإطاعة، فلو كان شرعيّا يلزم من وجوده تكرّره، و كل ما كان كذلك يلزم منه التسلسل المحال، فهو باطل و محال.

و بعبارة أخرى: لو كان أمر «تب» شرعيا، يلزم من ذلك تعلّق أمر آخر مثل الأمر الأوّل به، فيكون الأمر الأوّل المتعلّق بمادّة التوبة موضوعا للأمر الثاني متعلّقا بتلك المادّة، و هكذا الأمر الثاني يكون موضوعا للأمر الثالث بتلك المادّة، و هكذا و هلمّ جرّا، فيلزم من وجوده تكرّره، فيكون محالا كما عرفت.

و لكن هذا القياس ليس في محلّه و باطل، و ذلك لأنّ أمر «أطع» موضوعه كلّ أمر شرعيّ مولويّ صدر من الشارع، لأنّ الإطاعة عبارة عن امتثال كلّ أمر مولويّ صدر عن الشارع، فلو كان أمر «أطع» شرعيّا مولويّا فكلّ فرد من أفراد أمر «أطع» يكون موضوعا لأمر آخر مثله، فقهرا لا ينتهي مثل هذا إلى حدّ، لأنّ كلّ واحد من أفراد «أطع» يولد مثله فيلزم من وجوده تكرّره، و مثل هذا يلزم منه التسلسل المحال.

و أمّا أمر «تب» فليس وجوده موضوعا لأمر آخر مثله كي يلزم من وجوده تكرّره، بل ينقطع بامتثال كلّ واحد ما بعده، إذ موضوع المتأخّر عصيان المتقدّم لا وجوده، فلا يدخل تحت قاعدة «كلّ ما يلزم من وجوده تكرّره فهو محال» كما كان في باب الإطاعة كذلك، فقياس أمر التوبة بأمر الإطاعة باطل.

و ليس معنى التوبة «لا تعص» كي يكون مثل باب الإطاعة، بل معناه هو أنّه إذا عصيت ارجع عن غيّك و ضلالك إلى اللّٰه، أو إلى الطريق المستقيم، و مئال كليهما واحد.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ كون أمرها أمرا شرعيّا مولويّا ممكن، ففي مقام

ص: 339

الإثبات يكفي لإثباته هذه الآيات الكثيرة، و الروايات المتواترة، و تلك الأدلّة العقليّة.

ثمَّ إنّه من آثار كونه أمرا شرعيّا مولويّا هو أنّه لو عصى معصية واحدة و إن كان ما ارتكبه من الصغائر و لم يتب يصير فاسقا، لإصراره على المعصية بترك التوبة، خصوصا إذا تأخّرت توبته مدّة، فيصدر منه تروك كلّ واحد منها معصية، و إن قلنا بأنّ ترك التوبة معصية صغيرة لتحقّق الإصرار الذي هو معصية كبيرة، فيصير فاسقا بذلك. و أمّا لو لم نقل بأنّ أمر التوبة أمر مولويّ، بل إرشاديّ محض، فليس هاهنا إلاّ تلك المعصية الصغيرة التي ارتكبها، فلا يخرج عن العدالة و إن كان بانيا عازما على الرجوع إلى تلك المعصية، كالنظر إلى الأجنبيّة بناء على أنّ البناء و العزم على المعصية ليس بمعصية، كما أنّ الظاهر أنّه هو كذلك. و هذا أثر مهمّ.

الأمر الثاني: هل يعتبر في تحقّق التوبة العزم على عدم العود إلى إيجاد مثل ما تاب عن إيجاده، أم لا؟

و الظاهر هو أنّ العزم على عدم العود إليه و إرادة عدم إيجاده مرّة أخرى من لوازم التوبة، بمعنى الندم عمّا فعل بحيث لا ينفكّ عنه. نعم لا ينافي الندم عن فعل شيء و العزم على تركه طول عمره مع احتمال صدوره عنه لوجود غريزة، أو طروّ حالة تمنعه عن الاستمرار على الترك، و إن كان في الحال الحاضر عازما على الاستمرار على الترك، كما في المتعوّدين بشرب الأفيون أو سائر المخدّرات لمّا يتوجّه إلى مضارّة و مفاسده يبني و يعزم على ترك شربه، و لكن العادات قاهرات، فربما يطرأ عليه حالة تمنعه على الجري على طبق عزمه، فطروّ مثل هذه الحالات بالنسبة إلى التائب لا ينافي مع تحقّق التوبة منه في السابق، و لا ينافي العزم على العدم قبل طرو هذه الحالة.

و على كلّ حال العزم على عدم العود إليه معتبر فيها، بمعنى أنّه من لوازمها و لا

ص: 340

ينفكّ عنها و إن كان خارجا من حقيقتها، إذ لازم الشيء غير نفس الشيء، بل و غير ذاتيّاته الايساغوجي و إن أدخلوه في تعريفها، فهو من باب أنّه قد يعرّفون الشيء بلوازمه و آثاره و إعراضه، فيكون رسما لا حدّا حسب اصطلاح المنطقيين.

الأمر الثالث: هل يعتبر في تحقّق التوبة الاستغفار، أم لا؟

الحقّ في هذا المقام أنّ حقيقة التوبة في مقام اللبّ هو الندم عمّا صدر عنه من المعاصي، كما ورد أنّ «الندم توبة» (1)، و أنّه «كفى بالندم توبة» (2)، و قوله عليه السّلام في الصحيفة في دعاء التوبة: «اللّهمّ إن يكن الندم توبة إليك فأنا أندم النادمين» (3)و لكن وصول هذه الحقيقة إلى مرحلة الإثبات يحتاج إلى الاعتراف باللسان و الإنشاء بهذه الكلمة المركّبة من جملتي «استغفر اللّٰه ربّي» و جملة «أتوب إليه» ، و كمالها بالجري عملا على طبقها.

و ذلك كما أنّ حقيقة الإسلام هو الاعتقاد بالشهادتين و أنّه «لا إله إلاّ اللّٰه، و أنّ محمّدا رسول اللّٰه» ، و لكن وصوله إلى مرتبة الإثبات بالإقرار و الاعتراف بالجملتين باللسان، و لا تترتّب عليه الآثار إلاّ بإظهار الجملتين، و كماله بالعمل بالأركان و أن يعمل بأحكام الإسلام بإتيان الواجبات، و فعل ما يقدر و يسهل عليه من المستحبّات، و تركه جميع المحرّمات، و ما يسهل عليه تركه من المكروهات، فكذلك في المقام و إن كان حقيقة التوبة هي الندم و العزم على ترك العود إليه كما ذكرنا، و هذا أمر قلبي، و لكن بلوغها بمرتبة الإثبات و ترتيب الآثار عليها بذكر الجملتين، أي

ص: 341


1- «عوالي اللئالي» ج 1، ص 292، ح 168، الفصل العاشر، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 349، أبواب جهاد النفس، باب 83، ح 5، و فيه: الندامة توبة.
2- «الخصال» ص 16، ح 57، كفى بالندم توبة، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 349، أبواب جهاد النفس، باب 83، ح 6.
3- «الصحيفة السجادية» ص 164 و 165، دعاء (31) .

«أستغفر اللّٰه ربّي» و جملة «أتوب إليه» .

فحينئذ يجمع بين الروايات الواردة في هذا المقام بحمل ما يكون مفادها أنّ التوبة هي الاستغفار على مرتبة البلوغ إلى مقام الإثبات، و ما يكون مفادها أنّ التوبة عبارة عن الندم و العزم على عدم العود إليه على بيان حقيقة التوبة في مقام الثبوت، و ما يكون مفادها أداء الحقوق و قضاء الفرائض التي ضيّعها، و إذابة اللحم الذي نبت على السحت بالأحزان، و أذاقه الجسم ألم الطاعة و أمثال المذكورات على بيان مرتبة كمالها بالعمل على طبقها، و الجري على وفقها.

و عند العرف أيضا إذا أساء شخص إلى آخر و ندم من إساءته، يأتي إليه و يطلب العفو و المغفرة، و يظهر ندامته بهذا أو ينشئ ندامته بهذه الجملة، فالاستغفار و إنشاء التوبة بقوله «أستغفر اللّٰه ربي و أتوب إليه» متأخّر عن واقع التوبة التي هي عبارة عن نفس الندم و العزم على عدم العود إليه.

و خلاصة الكلام: أنّ التوبة-أي رجوع النفس عن الغيّ و الضلال إلى طريق الرشد و الهداية و الكمال-لها عرض عريض، و مراتب كثيرة متفاوتة بالشدّة و الضعف، و النقص و الكمال، و بعض الآيات و الأخبار ربما يعبّر عن بعض المراتب النازلة أو الكاملة، و الآية أو الرواية الأخرى تعبّر عن بعض آخر بعكس الطائفة الأولى، فيتوهّم المتوهّم التعارض بينها، أو أنّ للتوبة معان متعددة و هي لفظ مشترك بينها. و لكن لا هذا و لا ذاك، بل هذه الاستعمالات لأجل أنّه أريد من كلّ واحد منها مرتبة منها غير ما أريد من الآخر، فيخيل إلى الناظر أنّها معان متعدّدة.

الأمر الرابع: في أنّه هل يمكن التبعيض في التوبة، بمعنى أنّه يتوب عن بعض المعاصي دون البعض الآخر، أم لا؟

ربما يقال بعدم إمكان ذلك، لأنّ حقيقة التوبة هي الرجوع عن مخالفة اللّٰه

ص: 342

و الطغيان عليه إلى طاعته و التسليم لأمره، فيندم لأجل أنّه ممّا يوجب سخط اللّٰه و غضبه أو البعد عنه، و هذه الجهة و العلّة مشتركة بين المعاصي، فالعزم على ترك البعض دون البعض الآخر، و كذلك الندم عن ارتكاب البعض دون البعض الآخر غير ممكن، مع اشتراك الجميع في علّة الندم من الفعل، و العزم على الترك.

و إن شئت قلت: ليس الندم و العزم على الترك إلاّ لتقديم رضا اللّٰه على رضا نفسه بنيل الشهوات و الخروج عن الطغيان و الغيّ و الضلال، و الرجوع إلى الطاعة و العمل بوظيفة العبوديّة، و مقتضى هذا المعنى هو العزم على ترك جميع المعاصي صغيرها و كبيرها، كانت من حقوق اللّٰه أو من حقوق الناس، و التخصيص ببعض دون بعض لا وجه له.

و فيه: أنّ المعاصي تختلف من حيث سخط المولى تعالى بصدورها عن العبد، و لا شكّ في شدّة العذاب الأليم بالنسبة إلى البعض دون البعض، و كذلك سخطه أشدّ بالنسبة إلى البعض، فما كان السخط فيه أشدّ و العذاب أغلظ، علّة العزم على الترك فيه أقوى، فيؤثّر في نفس العبد أزيد و يعزم على الترك. و إذا رأى أنّ العذاب فيه أغلظ أو مدّته أطول كما أنّه في قتل العمد مؤمنا نصّ الكتاب العزيز بالخلود في النار، و قال تعالى (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا) (1)فيكون الداعي على الترك أقوى، فقهرا يحصل الندم على مثل هذا الفعل العظيم.

و ممّا يكون موجبا للفرق في وجود الندم و العزم على الترك بين المعاصي اختلاف الشهوات بالنسبة إلى أفرادها، و هذا أمر محسوس بالنسبة إلى المخدّرات، فإذا تعوّد الشخص بشربها و صار كالطبيعة الثانية له و حضر وقت عادته، فلا يتمكّن عادة من تركه، و لا يحصل له الندم على فعله الماضي، بل يشتاقه غاية الاشتياق مع كراهته لسائر المعاصي، و كذلك الشابّ الشبق إذا احتاج و خلى من الأجنبيّة

ص: 343


1- النساء (4) :93.

الجميلة، و لم يكن مانع في البين من فعل المحرّم، فلا يمكنه عادة العزم على ترك الفعل خصوصا إذا كان عاشقا لها.

و خلاصة الكلام: أنّ اختلاف المعاصي من حيث الكبر و الصغر، و من حيث كونها موجبة لاستحقاق العذاب الأشدّ و الأخفّ، و من حيث الاختلاف في كون بعضها أقرب إلى تطرّق العفو من البعض الآخر، و من حيث كون بعضها ممّا يقطع الرجاء دون البعض الآخر، و من حيث كون بعضها ممّا يمنع قبول الدعاء دون الآخر، و من حيث اختلاف الرغبات و الشهوات و العادات موجب لصحّة التبعيض في التوبة، فيتوب عن بعض دون البعض الآخر، فليست العلّة مشتركة في الجميع كي لا يكون التفكيك و التبعيض ممكنا كما توهّمه المتوهّم.

و من جملة ما يوجب التبعيض شدّة العداوة لشخص، فلا يتوب عن إيذائه و الافتراء عليه و غيبته و إشاعة عيوبه و الازدراء به، و قد رأينا أشخاصا مجتنبين عن أكثر المعاصي الكبيرة غاية الاجتناب، و مع ذلك لا يجتنبون عن تفريط الأوقاف أو سهم الإمام عليه السّلام، و يفرّون من شرب الخمر أو السرقة أو قتل النفس فرار الحمر المستنفرة من قسورة، و لكن لا يتورّعون بالنسبة إلى الأوقاف و سهم الإمام عليه السّلام أبدا.

و الحاصل: أنّ القول بعدم إمكان التبعيض في التوبة لما ذكروه في غاية الضعف، بل أمر ممكن، بل يقع كثيرا. و منشأ الإمكان و الصحّة تلك الاختلافات التي ذكرناها.

الأمر الخامس: هل يجب التوبة عن الصغائر مع اجتنابه عن الكبائر أم لا ، لأنّ التوبة عنها مع الاجتناب عن الكبائر لا أثر لها، بل يكون لغوا، لأنّ اللّٰه تبارك و تعالى وعد العفو عن الصغائر إن اجتنب عن الكبائر، و قال في كتابه العزيز (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (1).

ص: 344


1- النساء (4) :31.

و لكن أنت خبير بأنّه ليس فائدة التوبة عن الصغائر منحصرة بالخلاص عن عقابها، بل كلّ معصية توجب نقصا في النفس، و موجبة لهبوطها عن الكمال و الصعود إلى الدرجات العالية، و توجد نقطة سوداء في النفس، كما في بعض الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة، فبعد أن وفّقه اللّٰه للتوبة يبدّل اللّٰه تلك النقطة السوداء بالبيضاء، و إلاّ تكبر و تحيط على تمام القلب، فلا يبالي بارتكاب أي معصية كبيرة أو صغيرة، فطهارة القلب و تذكيته عن دنس المعصية لا يمكن إلاّ بالتوبة و الرجوع إلى اللّٰه و إلى الطريق المستقيم.

و هذا أثر للتوبة لا ربط له بمسألة العفو عن العقاب، و لا يحصل هذا الأثر إلاّ بالتوبة، و لعلّه إلى هذا يشير قوله صلّى اللّٰه عليه و آله «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1)أي لا يبقى بعد التوبة أي أثر لذنبه، لا أنّها ترفع العقاب فقط.

هذا، مضافا إلى أنّه من أين يقطع أو يطمئن بعدم صدور الكبيرة، و اللّٰه تعالى علّق تكفير الصغائر و رفع العقاب على الاجتناب عن جميع الكبائر، و أنّى له بذلك مع كثرة المغريات، و ازدياد أسباب الشهوات، و خروج الخلق عن بساطة المعيشة مع وفور أسباب اللذائذ و سعة العيش و الملهيات المهلكات و قلّة المنجيات، و أمّا التوبة فتريحه من جميع ذلك، و تجعل قلبه كالمرآة الصافية زائدا عنه كلّ نقيصة كيوم ولدته أمّه.

و لذلك الأنبياء و الأئمّة المعصومون عليهم السّلام مع أنّهم قطعا بالأدلّة القطعيّة لا يرتكبون الكبائر، و مع ذلك لا نجوّز في حقّهم ارتكاب الصغائر، لأنّه نقص لا يليق بمنصب النبوّة و الإمامة و الزعامة الحقّة الكبرى، و الولاية المطلقة التي ادّعيناها و أثبتناها في حقّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الأئمّة المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

ص: 345


1- تقدم ص 325، هامش (1) .

الأمر السادس: في أنّه إذا تاب العبد عن ذنوبه التي ارتكبها ، و ندم من المعاصي التي فعلها، و عزم على عدم العود إليها مرّة أخرى، و رجع إليه تعالى بعد ما كان منحرفا عن الطريق المستقيم معرضا عن اللّٰه-العياذ باللّه-و كان غارقا في الشهوات و الملاهي و الملذّات، و لكن بعد أن كان مدّة من الزمن تائبا راجعا إلى الحقّ غلبه الهوى و الشهوات ثانيا، و النفس الأمّارة بالسوء جرّته ثانيا إلى ارتكاب المعاصي و المناهي، فهل له التخلّص عن عواقبه و مفاسده بالتوبة أم لا، بل يسقط عن قابليّة التوبة؟ و الصحيح هو أنّه لو ألف مرّة خالف عهده مع اللّٰه بالتوبة في المرّة بعد الألف أيضا مثل سوابقه تقبل التوبة، و لا وجه لعدمه، لأنّ التائب يخرج من البغي و الضلال إلى الطاعة و الهداية، فكان شيئا و صار شيئا آخر.

و هذا بناء على كون ملكات النفس و حالاتها عين النفس واضح لا خفاء فيه، إذ بناء على هذا النفس بالتوبة تصعد إلى الكمال، كما أنّها بالعصيان-العياذ باللّه- تهبط إلى النقصان، و ربما ينزل إلى أضلّ من الحيوان، فكما أنّ في الأجسام نموّ و ذبول، كذلك في النفس بالحركة الجوهريّة استكمال في جوهر ذاته و انتقاص في ذاته كذلك.

و الأوّل في النفس مثل النموّ في الجسم الذي هو عبارة عن الزيادة في الأجزاء في الجسم على النهج الطبيعي، كذلك الاستكمال زيادة في أصل جوهر النفس، أي يترقّى من الجماديّة إلى النباتيّة، و منها إلى الحيوانيّة، و منها إلى الإنسانيّة، و منها إلى الملكوتيّة.

و الثاني-أي الانتقاص-مثل الذبول، فكما أنّ الذبول نقص في الأجزاء الأصليّة للجسم، كذلك الانتقاص في النفس نقص في حقيقتها و جوهرها، و ربما يصير أنقص من الحيوان في جوهر ذاته كما في الآية الشريفة، فلا معنى لعدم قبول

ص: 346

التوبة، لأنّها-أي النفس-وصلت و حصل لها العلو و الترقّي، و لذا قلنا إنّ توبة المرتدّ الفطري تقبل، و لا معنى لعدم قبول توبته.

نعم قد يكون للمعصية أو الارتداد عن فطرة أحكام اجتماعيّة لا ترتفع بالتوبة، كما أنّ قاتل العمد-أي من قتل مؤمنا عمدا-يستحقّ القتل، سواء تاب أو لم يتب، و الغاصب و متلف مال الغير ضامن لذلك المال، تاب أو لم يتب، كذلك المرتد الفطري له أحكام اجتماعيّة حفظا لحدود الإسلام، سواء تاب أو لم يتب، و هو قتله، و إبانة زوجته، و وجوب اعتدادها من أوّل زمان ارتداده، و تقسيم تركته بين الورثة، فهذه الأحكام الأربعة لا ترتفع بالتوبة، لا أنّها أحكام اجتماعيّة غير مربوطة بعدم قبول توبته، و إن اشتهر في الألسنة عدم قبول توبة المرتدّ الفطري.

و أمّا عدم قبول توبة فرعون حين قال لمّا أدركه الغرق (قٰالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ) (1)فمن المحتمل أنّه يكون من جهة أنّه كان يكذب، و كان يريد التخلّص من الغرق بهذه الكذبة.

و هذا لا ينافي ما رواه في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل: لأيّ علّة غرق اللّٰه تعالى فرعون و قد آمن به و أقرّ بتوحيده؟ قال عليه السّلام: «لأنّه آمن عند رؤية البأس» (2).

و الإيمان عند رؤية البأس غير مقبول، لأنّه من الممكن أن يكون إيمانه عند رؤية البأس كذبا و يريد التخلّص بهذه الكذبة كما قلنا، أو كان جزاء كفره السابق إن قلنا بأنّه آمن حقيقة و واقعا و لكن الواقع خلافه، فإنّه لم يؤمن قطّ و قد كذب لأجل التخلّص.

ص: 347


1- يونس (10) :90 و 91.
2- «عيون الرضا» ج 2، ص 77، باب (32) في ذكر ما جاء عن الرضا عليه السّلام من العلل، ح 7، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 372، أبواب جهاد النفس، باب 93، ح 9.

و لكن ظاهر بعض الروايات و الآيات أنّه إذا رأوا بأسنا فلا ينفعهم إيمانهم (1)، و استثنى اللّٰه من هذه الكلّية قوم يونس فقط (2).

و على كلّ حال ورد في هذه المسألة-أي مسألة نقض التوبة و إعادتها هل تقبل أم لا-روايات أنّها تقبل، كما في رواية محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: «يا محمّد بن مسلم ذنوب المسلم إذا تاب منها مغفورة فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة، أما و اللّٰه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان» . قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال: «يا محمّد ابن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه و يستغفر اللّٰه تعالى منه ثمَّ لا يقبل اللّٰه تعالى توبته» .

قلت: فإن فعل ذلك مرارا يذنب و يتوب و يستغفر؟ فقال عليه السّلام: «كلّما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد اللّٰه تعالى عليه بالمغفرة، و إنّ اللّٰه تعالى غفور رحيم يقبل التوبة و يعفو عن السيّئات. قال: و إيّاك أن تقنط المؤمنين من رحمة اللّٰه تعالى» (3).

و رواية أبي بصير المرويّة في الكافي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (4)؟ قال عليه السّلام: «هو الذنب الذي لا يعود إليه أبدا» . قلت: و أينا لم يتب و يعد. فقال: «يا أبا محمّد إنّ اللّٰه تعالى يحبّ من عباده المفتن التوّاب» (5).

و أيضا في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: «أنّ اللّٰه يحبّ العبد المفتن التوّاب، و من لا يكون ذلك منه كان أفضل» (6).

و أيضا في الكافي عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: «إنّ اللّٰه تعالى أوحى إلى داود عليه السّلام

ص: 348


1- غافر (40) :85 « فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا .» .
2- يونس (10) :98.
3- «الكافي» ج 2، ص 315، باب التوبة، ح 6، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 363، أبواب جهاد النفس، باب 89، ح 1.
4- التحريم (66) :8.
5- «الكافي» ج 2، ص 314، باب التوبة، ح 4، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 357، أبواب جهاد النفس، باب 86، ح 3.
6- «الكافي» ج 2، ص 316، باب التوبة، ح 9، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 363، أبواب جهاد النفس، باب 89، ح 2.

أن ائت عبدي دانيال فقل له: إنّك عصيتني فغفرت لك، و عصيتني فغفرت لك، و عصيتني فغفرت لك، فإن عصيتني الرابعة لم أغفر لك. فقال دانيال: قد بلّغت يا نبيّ اللّٰه، فلمّا كان في السحر قال دانيال و ناجى ربّه فقال: يا ربّ إنّ داود نبيّك أخبرني عنك أنّي قد عصيتك فغفرت لي، و عصيتك فغفرت لي، و عصيتك فغفرت لي، و أخبرني عنك أنّي إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي، فو عزّتك و جلالك لئن لم تعصمني فإنّي لأعصينّك، ثمَّ لأعصينّك، ثمَّ لأعصينّك» (1).

و هذه الرواية صريحة في أنّ نقض التوبة و إعادة المعصية ثمَّ بعدها التوبة ثانيا و ثالثا لا يمنع عن قبولها كالروايات السابقة، و لكن فيها شيء آخر، و هو أنّ ظاهر الأخبار أنّ دانيال من الأنبياء، و الأنبياء معصومون لا يعصون اللّٰه، و لا يرتكبون كبيرة و لا صغيرة، فهي بناء على كون دانيال نبيّا مؤوّلة أو مطروحة، و تأويلها كسائر الآيات التي ظاهرها إسناد العصيان إلى الأنبياء كقوله تعالى (وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ) (2)فأوّل العصيان بترك الأولى، فهاهنا يكون المراد من عصيان دانيال أنّه ثلاث مرّات ترك ما هو الأولى و الأرجح.

الديلمي في الإرشاد قال: كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يستغفر اللّٰه في كلّ يوم سبعين مرّة، يقول «استغفر اللّٰه ربّي و أتوب اليه» و كذلك أهل بيته و صالح أصحابه، يقول اللّٰه تعالى (وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (3). قال رجل: يا رسول اللّٰه إنّي أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال صلّى اللّٰه عليه و آله: «استغفر اللّٰه» . فقال: إنّي أتوب ثمَّ أعود. فقال: «كلّما أذنبت استغفر اللّٰه» . فقال: إذن تكثر ذنوبي، فقال: «عفو اللّٰه أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور» (4).

ص: 349


1- «الكافي» ج 2، ص 316، باب التوبة، ح 11.
2- طه (20) :121.
3- هود (11) :90.
4- «إرشاد القلوب» ص 45، «وسائل الشيعة» ج 11، ص 364، أبواب جهاد النفس، باب 89، ح 5.

و هذه الرواية أدلّ روايات هذا الباب على المقصود، أي صحّة العفو مع نقض التوبة و تكرارها. و قال الفاضل النراقي في جامع السعادات: و ورد في الإسرائيليات أنّ شابّا عبد اللّٰه عشرين سنة ثمَّ عصاه عشرين سنة، ثمَّ نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال: إلهي أطعتك عشرين سنة ثمَّ عصيتك عشرين سنة فإن رجعت إليك تقبلني. فسمع قائلا يقول: أحببتنا فأحببناك، فتركتنا فتركناك، و عصيتنا فأمهلناك، فإن رجعت إلينا قبلناك (1).

فظهر لك توافر الأدلّة العقليّة و النقليّة من الكتاب و السنّة على أنّ اللّٰه تبارك و تعالى يقبل التوبة عن عباده و إن نقضها ألف مرّة، فإنّه غفور رحيم.

الأمر السابع: في أنّ وجوب التوبة بناء على أنّه إرشاديّ عقليّ فوريّ، إذ العقل لا يجوّز التأخير، أوّلا لأنّه من الممكن أن يموت قبل أن يتوب، فيبتلى بعقاب ما صدر عنه من المعاصي، و المؤمن من هذا الاحتمال ليس إلاّ أن يتوب فورا و يخلّص نفسه عن تبعة ما صدر منه.

و أيضا على فرض أنّه لم يمت لا شكّ في أنّ المعصية توجب البعد عن اللّٰه و دناءة النفس و خسّتها و هبوطها و قصورها عن الوصول إلى مقام القرب و درجات الكمال، فالعقل يحكم حكما بتّيا بالخروج عن هذه النقيصة و فوريّة التوبة.

و أمّا لو كان الوجوب شرعيّا، فالأوامر الشرعيّة و إن كانت لا تدلّ لا على الفور و لا على التراخي كما حقّق في الأصول، و لكن هو فيما إذا كان لو عجّل به الموت لا يبتلي بعقاب ترك الواجب ما لم يخرج عمّا هو وظيفة العبوديّة من المسامحة في امتثال أوامر المولى.

و بعبارة أخرى: لا يعدّ تاركا للامتثال و عاصيا إلاّ بعد مضيّ زمان يصدق عليه

ص: 350


1- «جامع السعادات» ج 3، ص 68 و 69، المقام الرابع: قبول التوبة.

أنّه مسامح في الامتثال و غير معتن بتكاليفه، فالتأخير ليس في حدّ نفسه معصية، فلو مات قبل الامتثال ليس عليه شيء بخلاف المقام، فإنّ العصيان سجّل عليه و صار مستحقّا، و هو بواسطة التوبة يريد تحصيل العفو، فإن مات و لم يتب يبقى عليه الاستحقاق و لا مخلص منه إلاّ بالشفاعة، و هي له غير معلومة الحصول، فعقله يحكم عليه بفوريّة الامتثال.

و لو كان وجوب أصل التوبة شرعيّا فعلى كلا القولين-أي سواء كان وجوبها شرعيّا أم عقليا-يجب عليه المبادرة في الامتثال عقلا و لا يبقى الاستحقاق في عهدته و لا مخلص له إلاّ الشفاعة.

الأمر الثامن: بعد الفراغ عن أنّ التوبة توجب العفو عن المؤاخذة على الذنب و المعصية التي تاب عنها و أنّه لا يعاقب التائب، و يكون التائب كمن لا ذنب له، فهل هذا تفضّل منه تعالى ، و عدم العقاب ليس لأجل عدم الاستحقاق و ارتفاعه بالتوبة كي يكون العقاب بعد التوبة ظلما و صدوره عن اللّٰه قبيحا و محالا، أولا و عدم العقاب ليس لأجل قبحه و محاليّته على اللّٰه شأن كلّ قبيح.

نعم حيث وعد تفضّلا، و وعده حقّ و صدق، و خلف الوعد محال في حقّه تعالى حيث قال (وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ يَجِدِ اَللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً) (1)فمن هذه الجهة لا عقاب لا من جهة ارتفاع الاستحقاق بالتوبة.

و إلاّ فلا يرد إشكال على كون العقاب للعصيان المتقدّم، و يكون أثر التوبة هو طهارة القلب و القرب إلى اللّٰه، و لذلك العصاة كانوا يأتون إلى النبيّ و يقولون: طهّرني يا رسول اللّٰه بالنسبة إلى الحدود، و حال عذاب الآخرة أيضا كذلك، و لا تنافي بين قبول التوبة و بقاء الاستحقاق لو لا وعده بالعفو تفضّلا.

ص: 351


1- النساء (4) :110.

هذا، مضافا إلى قوله صلّى اللّٰه عليه و آله لأمّ سعد بن معاذ بعد ما خاطبت سعد بعد دفنه: هنيئا لك الجنة يا أمّاه، قال صلّى اللّٰه عليه و آله لها: «يا أمّ سعد لا تحتمنّ على ربّك أمرا» ، ثمَّ بيّن لها ما أصاب سعد من ضغط القبر.

و الإنسان إذا راجع الآيات و الأخبار-بل العقل-يرى و يعلم أنّ كلّ ما يصل إليه من الرحمة و الخير من قبل اللّٰه تعالى تفضّل منه تعالى و إحسان، لا أنّه بالاستحقاق كي يكون عدمه ظلما.

الأمر التاسع: هل يجب تجديد التوبة بعد أن تاب عن معصية و مضى زمن و غفل عنها حينما ذكرها فيما بعد و التفت إليها، أو تلك التوبة السابقة كافية في ارتفاع أثر المعصية السابقة و لا يحتاج إلى تجديدها؟ ربما يقال بلزوم تجديد العزم على الترك و الندم على ما فعل و ارتكب من المعصية في الزمان الماضي، لأنّ معنى التوبة هو الرجوع إلى اللّٰه، و العدول إلى الطريق المستقيم من الانحراف، و الإعراض عن اللّٰه تعالى و الندم على ما فعل، فإن زال هذا المعنى عنه و لم يبق ندامته و لا العزم على الترك فلا يكون تائبا و راجعا بقاء، خصوصا إذا كان بعد أن التفت إلى عصيانه و أنّه ارتكب المحرّم الفلاني اشتاقت نفسه إليه.

و لو لم يرتكب لمانع آخر، لا للندم عن فعله السابق، و للعزم على الترك، بل إمّا لعدم إمكانه الارتكاب أو لمانع آخر، فهو في هذه الحالة ليس بتائب و لا بنادم عمّا فعل.

و لكن أنت خبير بأنّ حقيقة التوبة هو الندم عن فعل المحرّم و العزم على تركه، و هذا المعنى حصل، و أمّا عدم الاشتياق في الأزمنة المتأخّرة إليه طول عمره فليس داخلا في حقيقة التوبة، و لا هو من لوازمها.

ص: 352

و بعبارة أخرى: حصلت التوبة و عفى اللّٰه عمّا سلف، حتّى لو ارتكب ذلك المحرّم ثانيا بعد أن تاب و عزم على تركه فتكون هذه معصية جديدة، و لا يضرّ بالعفو السابق، و لا يعاقب على فعله السابق، بل استحقاق العقاب على فعله الثاني فقط إن لم يتب عنه، و إلاّ إن تاب عنه ثانيا أيضا كما تاب عن فعله الأوّل فلا عقاب لا على الأوّل لحصول العفو له بالتوبة الأولى، و لا على الثانية للتوبة الثانية. و هكذا الحال في تكرار الفعل و تكرار التوبة، كما أنّه يتفق كثيرا و كان في مضامين الأخبار السابقة.

مضافا إلى أنّه مشمول حكم العقل أيضا بحصول التوبة و قبولها كما تقدّم بيانه.

فظهر أنّ تجديد العزم على الترك و الندم على ما فعل سابقا بعد الغفلة عمّا فعل من المعاصي بعد التوبة عنها سابقا و إن كان حسنا و من كمال الإيمان و سلامة القلب و طهارته من أدناس المعاصي، و لكن لا يحتاج إليه في بقاء العفو السابق، لأنّ العفو إذا حصل فهو باق، بل هو من قبيل إسقاط ما في الذمّة فلا يعود إلاّ بسبب جديد، فالعفو إذا حصل لا يبقى محلّ للمؤاخذة و العقاب إلاّ بسبب جديد. و فيما نحن فيه ليس السبب الجديد إلاّ بالمعصية الجديدة، و المفروض أنّه ليس في البين معصية جديدة.

إن قلت: لا نسلّم أنّ العفو حصل بصرف حصول الندم و العزم على الترك آنا مّا، بل حصول العفو مشروط بالشرط المتأخّر على بقاء الندم و العزم على الترك طول عمر التائب.

فجوابه: أنّ هذا مخالف لمّا هو الظاهر من معنى التوبة و المفهوم العرفي منها، و أيضا مخالف لحكم العقل و للأخبار المتقدّمة كما بيّنّا.

الأمر العاشر: أنّ الإنسان إذا أراد أن يتوب و هو ارتكب معاصي كثيرة صغيرة و كبيرة، و ذلك كما أنّ شخصا مدّة مديدة من عمره كان منحرفا عن الطريق المستقيم،

ص: 353

و كان لا يبالي بما يفعل أو يقول أو يسمع، ثمَّ هداه اللّٰه و أراد أن يتوب عن جميع المعاصي التي ارتكبها، فهل يحتاج إلى تذكّرها تفصيلا ثمَّ يندم على فعله و صدوره منه و يعزم على ترك كلّ واحد واحد تفصيلا، أو يكفي الندامة على الجميع بنحو الإجمال و العزم على ترك الجميع كذلك؟ لا شبهة في صدق التوبة بالنسبة إلى جميع المعاصي لو ندم عن جميع ما فعل و ارتكب و عزم على ترك جميع المحرّمات، سواء أحضر صورها التفصيليّة في ذهنه أم لا. و ذلك من جهة أنّ التنفّر من فعل شيء و العزم على تركه و أن لا يوجده يتحقّق بعدم إرادة فعله، فلا مانع من أن يتعلّق إرادته و قصده بعدم إرادة إيجاد ما هو من مصاديق الحرام، أو ممّا لا يرضى اللّٰه بفعله و إيجاده.

نعم إيجاد مصاديق هذا العنوان العامّ-أي ما لا يرضى اللّٰه بفعله مثلا-لا يمكن إلاّ بالإرادة التفصيليّة لنفس المصاديق، و أمّا الترك حيث أنّ تحقّقه بعدم وجود علّته -أي عدم إرادة الوجود و عدم إرادة الإيجاد-يكفي فيه قصد ترك جميع مصاديق ذلك العنوان العامّ، فتحقّق التوبة بقصد ترك ذلك العنوان الإجمالي.

و فرق واضح بين إيجاد مصاديق العامّ و بين تركها، ففي طرف الإيجاد لا يمكن إلاّ بإرادات مفصّلة لجميع مصاديق ذلك العنوان العامّ، و أمّا في طرف الترك يكفي قصد ترك الجميع، بأن يتعلّق القصد و الإرادة الواحدة بترك ذلك العنوان الإجمالي العامّ.

و السرّ في ذلك: أنّه في طرف الإيجاد لكلّ مصداق يحتاج إلى وجود إرادة متعلّقة به، لأنّها من مبادي وجوده، فبدونه لو تحقّق يلزم أن يكون وجود المعلول بدون وجود علّته، و هذا محال. و أمّا في طرف الترك يكفي عدم إرادة ذلك المصداق، و هذا المعنى يحصل بإرادة ترك ذلك العنوان الإجمالي، و لا يحتاج إلى إرادة عدم كلّ واحد تفصيلا.

ص: 354

إن قلت: إنّ التوبة لو كانت صرف عدم العصيان لكان ما ذكرت حقّا و صحيحا، و لكن الأمر ليس التوبة صرف الترك و عدم العصيان، بل هي عبارة عن الترك، بمعنى ردع النفس و منعها عن ارتكاب الشهوات و المحرّمات للوصول إلى مراتب القدس و الكمال، و الاتّصال المعنوي إلى حضرة ذي الجلال، و هذا المعنى لا يحصل إلاّ بالترك بمعنى كفّ النفس عن ارتكاب الملاذّ المحرّمة و متابعة الشهوات، مثل الصوم الذي هو من أكبر العبادات و أفضل القربات، فإنّه صرف انتراك المفطرات، بل عبارة عن إمساك النفس عن ارتكابها، و لذلك يجب فيه القصد و العزم على تركها.

و الجواب: أنّ تلك الإرادة و القصد المتعلّق بالعنوان الإجمالي يكفي في استناد الترك إلى التائب، كما أنّ الأمر في الصوم أيضا كذلك، فلو نوى الإمساك عن المفطرات التي جعلها الشارع مفطرا يكفي في تحقّق الصوم و إن لم يعرفها تفصيلا، بل في نيّته هذه المفطرات التي هي مكتوبة في هذه الرسالة أمسك عنها إذا سئل عن العارف بالأحكام، فكلّ ما عيّن و قال أنّه مفطر أمسك عنه، فقصد ذلك العنوان الإجمالي موجب لصحّة استناد هذه التروك إلى التائب، بل ذلك القصد يصير سببا لكفّ النفس عن ارتكاب مصاديق ذلك العنوان. و إذا سئل عنه لما ذا لا تفعل كذا و كذا، يجيب بأنّي تبت و بنيت على عدم ارتكاب هذه الأمور.

[الأمر]الحادي عشر: في بيان طرق التوبة عن المعاصي.

قد عرفت أنّ التوبة عبارة عن الندم عن فعل ما هو محرّم، أو عن ترك ما هو واجب، و هو أيضا يرجع إلى ما هو المحرّم، لأنّ ترك الواجب حرام.

و المحرّمات على أقسام:

منها: ترك الواجبات العباديّة، كالصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ و الخمس و الكفّارات و المنذورات، و طريق التوبة فيها بعد الندم على تركها فيما مضى، و العزم

ص: 355

على عدم تركها فيما يأتي، هو قضاء ما فات منها إن كان له قضاء ما لم يبلغ إلى العسر و الحرج المسقطين للتكاليف.

و منها: المحرّمات التي هي حقوق اللّٰه، كشرب الخمر و اللواط و الزنا بغير ذات البعل مع رضا الولد و المرأة، و كأقسام الملاهي، و أقسام القمار كالنرد و الشطرنج و غيرهما من أصناف القمار، و الكذب الذي غير ضارّ بغيره بناء على حرمته. و طريق التوبة فيها هو الندم على ما صدر منها منه، و العزم على عدم العود إلى مثلها.

و منها: ما يسمّى بحقوق الناس، و هذا القسم طريقها أصعب من القسمين الأوّلين، لأنّه يحتاج إلى إرضاء من له الحقّ أيضا، مضافا إلى الندم و العزم على العدم.

و هذا القسم إمّا في أموال الناس، بمعنى أنّه لهم حقّ ماليّ عليه، لخيانته في أموالهم بسرقة، أو إتلاف بحيث أخفى الأمر على صاحبه، أو غشّ في معاملاته معهم أو غرّهم على ذهاب ماله، و كلّ مورد اشتغلت ذمّته بمال للغير بأحد أسباب الضمان و أخفى على المضمون له فرارا عن الأداء، فيجب عليه أوّلا الندم على ما فعل إن كان صدر عنه عمدا و أغفل هو صاحب المال لأجل أن لا يفهم فيطالبه، ثمَّ يعزم على أن لا يعود لمثل هذه الخيانات في أموال الناس، ثمَّ بعد ذلك يفرغ ذمّته بإعطاء الحقّ لصاحبه و يعتذر منه من الضرر المالي الذي أوقعه فيه بعد تدارك الضرر عينا و منفعة. فلو أخذ مثلا شاة حلوبا منه بدراهم مغشوشة غير رائجة معيوبة مع علمه بأنّها مغشوشة فعليه أوّلا أن يندم ممّا فعل، و العزم على عدم العود على ذلك، ثمَّ يردّ عين الشاة و قيمة حليبها الذي استفاد منها و صوفها الذي قصّة و سائر منافعه إن كانت لها، و حكم الغاشّين في جميع معاملاتهم هكذا، أي التوبة مع تدارك الضرر الذي أوردوها على الطرف. و كذلك الحكم في جميع أبواب الضمانات التي منشؤها إتلاف مال الغير عمدا و عصيانا، ففي الجميع يجب التوبة و التدارك.

ص: 356

و إمّا في أنفسهم من جناية أو قتل، عمديين أو خطأ، فإن كان من الأوّل يجب عليه بعد التوبة بما ذكرنا تسليم نفسه و تمكينه من الاقتصاص منه، أو يعفو الوليّ أو الأولياء عنه، أو يبدّلون القصاص برضائهم إلى أخذ الدية. و أمّا لو كان خطأ فيجب عليه أن يؤدّى الدية للمجني عليه إن كان حيّا بعد أن يتوب، و إلاّ فللورثة، و إن كان عاجزا عن أداء الدية فعليه أن يستحلّ منهم بالتضرّع و الإلحاح، و إن لم يحلوه مع كثرة إلحاحه و تضرّعه إليهم فعليه الابتهال إلى اللّٰه، و أن يكثر من الاستغفار للمجني عليه لعلّ اللّٰه يعفو عنه و يرضى المجني عليه كي لا يكون في القيامة عليه تبعة، فإنّ اللّٰه على كلّ شيء قدير، فيعطى للمجني عليه ما يرضى به عنه، إذ حساب الآخرة غير حساب الدنيا، فهناك يعلم أنّ ما فات منه بواسطة جناية هذا الجاني في غاية، لأنّ نعم الآخرة أبديّة، و هذا الذي فات منه شيء فان داثر و إن كان الفائت حياته، لكن حياته في الدنيا لمّا كانت قصيرة في مقابل تلك النعم التي يعطيها اللّٰه تبارك و تعالى ليس شيء يذكر و لا يحسب بحساب، و لذلك يرضى بهذه المعاوضة و المعاملة.

و إمّا في أعراض الناس، أي هتك عرض مسلم، بأن قذفه و قال: فلان زان، أو فلانة زانية، أو نسب اللواط إلى الفاعل أو المفعول، أو قال: إنّه سارق، أو قال: إنّ فلانا فاسق، أو قال: إنّ فلانا لا دين له، أو نسبه إلى أحد الأديان الباطلة، أو قال: إنّ فلانا من أهل الغيبة و يغتاب الناس، و أمثال ذلك من المخازي و المعايب، فطريق توبته بعد الندم و العزم على ترك أمثال هذه التهم، أو و لو كان في حاقّ الواقع صادقا لكن ليس له طريق إثبات، هو أن يكذب نفسه عند ما قال له ذلك أو يقول مثلا: أنا اشتبهت الذي أنا سمعت كان غير هذا الشخص و أنا غلطت في الاسم، و أمثال هذه الاعتذارات لرفع التهمة أو المخازي عنه، أو يستحلّ منه و يتضرّع كي يسقط حقّه، أو يسلم نفسه و يمكن ذي الحقّ من إجراء حدّ القذف عليه، أو يعطيه شيئا كي يسقط حقّه.

ص: 357

كل ذلك فيما إذا لم يترتّب مفسدة على الإظهار و طلب إسقاط حقّه، و أمّا إذا كان الاستحلال المتوقّف على إظهار ما قال موجبا لفتنة، أو فساد، أو ضرر ماليّ غير قابل للتحمّل، أو و إن كان قابلا للتحمل، فحينئذ الأحسن أن يستغفر له و يدعو له و يبتهل إلى اللّٰه أن يرضيه عنه في القيامة كي يخلّص عن تبعة ما قال، و اللّٰه على كلّ شيء قدير.

و مما ذكرنا ظهر أنّ الحق لو كان من جهة الخيانة مع زوجته أو أخته أو بنته أو سائر محارمه بحيث يكون الإظهار للاستحلال و إسقاط حقّه موجبا لفساد عظيم بل ربما ينجرّ إلى القتل و القتال، فحينئذ لا يجوز الإظهار إلاّ بالاعتراف عند الحاكم الشرعي لأجل إجراء الحدّ، ففي مثل هذه الحال إن أمكن تحصيل إسقاط حقّه بدون وقوع مفسدة، بأن طلب إسقاط جميع ماله عليه من الحقّ، أي حقّ كان-سواء كان متعلّقا بالأموال أو بالنفوس أو الأعراض بهذه العناوين العامّة كي لا تقع مفسدة في البين-فيجب، و إلاّ فالأحسن الاستغفار له، و الإحسان إليه، و إيكال أمره إلى اللّٰه و التضرّع و الإلحاح عند اللّٰه بأن يرضيه عنه يوم تبلى السرائر و ينكشف الحال، و اللّٰه على كلّ شيء قدير.

و الذي استفدت من الأخبار و الأحاديث أنّه إذا اتّفق أمثال هذه الأمور ممّا يتولّد من إظهاره فساد عظيم، الأحسن و الأولى بل الأحوط-إن لم يكن أقوى-هو دفنها في هذا الدنيا و عدم إظهارها أبدا. نعم بينه و بين اللّٰه يتوب توبة نصوحا.

و كلّما في قوته و قدرته من الطاعات و العبادات يأتي بها لصاحب الحقّ عوض هتك عرضه و الخيانة التي صدرت منه بالنسبة إلى حرمة أو محارمه، و يبتهل إلى اللّٰه و يتضرّع عنده بمقدار ما يمكنه، و يجهد ما يستطيع في أنّ اللّٰه يرضيه في الآخرة عنه بإسقاط حقّه، و ما ذلك بعزيز على اللّٰه القدير على كلّ شيء.

و قد بيّنّا أنّ حساب الآخرة، فربّ شيء في الدنيا في نظره له أهميّة عظيمة،

ص: 358

و لكن في الآخرة يعرف أنّه ليس له أهميّة أصلا، بل في هذه الدنيا قبيل موته حين ما يعاينه-أي الموت-يعرف أنّ لهذا الذي كان في نظره أهميّة كبيرة لا أهمية له أصلا، هو و التراب سواء، و هاهنا علماء الأخلاق ذكروا لهذا الموضوع قصص و حكايات كثيرة، و إن شئت فراجع كتبهم، و أبسط ما رأيناه كتاب إحياء العلوم للغزالي (1)، و لكن الأحسن و الأجود ما في كتب الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة كقضية يوزاسف و بلوهر التي ذكرها المجلسي عليه الرحمة و الرضوان في كتابه عين الحياة. و اسأل اللّٰه أن يهدينا سواء السبيل.

[الأمر]الثاني عشر: في بيان مراتب التوبة:

الأولى: أن يندم على صدور جميع المعاصي التي صدرت منه، و يعزم على الاحتراز و الاجتناب عن جميع المعاصي و ما حرمه اللّٰه، كبيرة كانت أو صغيرة، و يستديم على هذا العزم و هذه النيّة طول عمره و ينزّه قلبه و يطهّره عن جميع الرذائل و الصفات السيّئة، و يحلّيها بالأخلاق و الملكات الحسنة الحميدة كي يكون قلبه سليما عن كلّ عيب و نقص، و يرد على اللّٰه تبارك و تعالى بعد موته بقلب سليم الذي لا ينفع في ذلك اليوم غيره شيء، لا مال و لا بنون.

فهذه هي التوبة الكاملة و أعلى مراتبها، و معلوم أنّ هذه المرتبة لا تحصل إلاّ بإعطاء كلّ ذي حقّ عليه حقّه، سواء كان الحقّ متعلّقا بأموال الناس، أو بأنفسهم، أو بأعراضهم حتّى لا يكون عليه تبعة و يلقى اللّٰه أملس، لا يكون عليه تبعة من أحد المخلوقين، كما هو مذكور فيما قاله أمير المؤمنين عليه السّلام لمن قال بحضرته «أستغفر اللّٰه» ، و الحديث تقدّم ذكره (2).

ص: 359


1- «إحياء علوم الدين» ج 4، ص 34-43، كتاب التوبة، الركن الثالث: في تمام التوبة و شروطها و دوامها إلى آخر العمر.
2- تقدم ص 331، هامش (4) .

الثانية: أن يتوب كما ذكرنا في المرتبة الأولى و يندم على جميع ما صدر منه من المعاصي، و لكن مع ذلك قد تصدّر عنه ذنوب في مجاري حالاته، كما هو الحال في أغلب التائبين، فإنّهم و إن تابوا و عزموا على الترك و لكن ربما يتسامحون و يتساهلون في حفظ أنفسهم، أو يغلب عليهم شهواتهم فيخرجون عن الجادّة المستقيمة، و يرتكبون بعض المعاصي الصغيرة، بل و في بعض الأحيان الكبيرة أيضا، و لكن هم بعد الصدور يلومون أنفسهم على ما صدر منهم، و يندمون على ما ارتكبوا و على خروجهم عن الجادّة المستقيمة.

الثالثة: أنّه بعد ما تاب و ندم عمّا فعل و صدر منه نفسه تشتاق إلى ما تاب عنه و تأمره بالعود، و لكن لا يعود إلاّ في فروض نادرة، فالأوّل هي النفس المطمئنّة التي ترجع إلى ربّها راضية مرضيّة، الثاني هي النفس اللوّامة، الثالث هي النفس الأمّارة بالسوء.

و التائب إن أطاع النفس الأمّارة بالسوء ربما ينتهي أمره-العياذ باللّه-إلى سوء الخاتمة، و صيرورة الفسوق ملكة له فلا يمكن زوالها، بل ربما ينجرّ إلى الكفر، و قد قال اللّٰه تبارك و تعالى في كتابه العزيز (ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ) (1). نستجير باللّه من سوء العاقبة و الخاتمة.

[الأمر]الثالث عشر: في مراتب التائبين.

و هم على أقسام:

الأوّل: من نسي الذنب الذي تاب منه، و لا يتفكّر فيه أصلا، فكأنّه لم يصدر منه شيء، كشارب الخمر الذي ترك شرب الخمر و صار شرب الخمر عنده نسيّا منسيّا و لا يتفكّر فيه أصلا، لأنّه خرج من ذلك العالم بالمرّة و لا يختلط مع شاربي الخمور

ص: 360


1- الروم (30) :10.

و ليس في عالمهم، و هكذا الأمر في سائر الفسوق.

الثاني: من جعل فسقه نصب عينيه، و دائما يتفكّر و يتأسّف على ما فعل و يظهر الندامة و الأسف، و يحترق قلبه على تلك الخطيئة و يبكي و يتضرّع إلى اللّٰه و يرجو عفو ربّه الغفور و رحمته الواسعة، و أن يطهّر قلبه من رجس تلك المعصية، و أن يوفّقه في المستقبل للعزم و ترك المعصية و بقائه و استمراره على ذلك، و أن يحفظه من شرّ آثارها الوضعيّة.

و لا شكّ في أنّ القسم الأوّل إذا كان طريق الكمال و الترقّي-بمعنى الترقّي من عالم المعاشرة مع الأراذل و أصحاب الملاهي و شرب الخمر و لعب القمار و دخوله في الأخبار و الزاهدين و العرفاء الشامخين-أفضل و أحسن من القسم الثاني، لأنّه انعزل من ذلك العالم إلى عالم أعلى و مرتبة أكمل، كما ادّعوا في بعض الكتب التي في تاريخ العرفاء الشامخين أنّهم كانوا في أوّل الأمر من الفسقة المشهورين، كما قيل في حقّ بشر الحافي و غيره (1). و قالوا في ذكر حالات الشيخ أحمد جام الشيعي الاثني عشري أنّه عشرين سنة كان خمّارا، و بشر الحافي كان غارقا في الفسوق و الملاهي، حتّى مرّ على باب داره الإمام الكاظم عليه السّلام، و ببركة نصحه و إرشاده تاب بشر و بلغ ما بلغ. و على تقدير صحّة هذه الرواية و صدقها فصار بشر عالما آخر، مضادّا لذلك العالم متباينان.

هذه الحكايات غالبا ذكروها في حالات العرفاء، و أمّا فقهاؤنا-رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين-كانوا من أوّل أمرهم بل من صغرهم أبرارا أخيارا، إذا ينظر الإنسان في تاريخ حالاتهم لا يرى إلاّ الصلاح و التقوى و السداد، اللّهمّ اجعلنا من تابعيهم في العلم و العمل.

و رأيت في عبارة بعض الأعاظم من العلماء حين ما يعبّر عن أستاده يقول: قال

ص: 361


1- «روضات الجنّات» ج 2، ص 129 و 130، بشر الحافي.

فلان تال العصمة علما و عملا.

و القسم الثالث من التائبين هو الذي و إن كان تاب يخلط الصلاح بالفساد، فهو و إن كان يواظب على العبادات و إتيانها في أوقاتها من الصلاة و الصوم و أداء الزكاة و غيرها، و لكن مع ذلك كلّه قد يغلب عليه الشهوات، خصوصا حبّ الجاه، فيرتكب بعض المعاصي الصغيرة الكبيرة أيضا.

فهذا القسم هو الغالب في التائبين، و هم تحت رحمة اللّٰه تعالى و لطفه العميم، فإمّا أن يعذّبهم نستجير باللّه الغفور الرحيم، و إمّا أن يغفر لهم، خصوصا الأمور الراجعة لمولانا أبي عبد اللّٰه الحسين عليه السّلام من الزيارات و العزاءات لمستحبّات و واجبات عملوها مع الإخلاص و النيّة الصادقة مخلصين للّه تبارك و تعالى، كما هو المرجو لشيعة مولانا أمير المؤمنين و محبي الأئمة الطاهرين المعصومين عليهم السّلام، و قد قال اللّٰه تبارك و تعالى في كتابه العزيز وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صٰالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

[الأمر]الرابع عشر: أنّ المعاصي على قسمين: صغيرة و كبيرة، على ما يظهر من الأخبار و الأقوال.

و اختلفوا في المراد من الصغيرة و الكبيرة، لأنّه حسب المعنى اللغوي لا شكّ في أنّهما إضافيّان، فكلّ صغيرة بالنسبة إلى الأصغر منه كبير، خصوصا إذا كانا من نوع واحد، و كذلك كلّ كبير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه صغير، فالشيء الواحد يمكن أن يكون صغيرا و كبيرا معا، و لكن بالنسبة إلى شيئين. مثلا الزنا مع امرأة خلية معصية كبيرة بالنسبة إلى النظر إلى ما لا يجوز النظر منها، و لكن صغيرة بالنسبة إلى الزنا مع ذات البعل.

ص: 362


1- التوبة (9) :102.

و هذا واضح، و إنّما كلام في أنّه اصطلح الشارع أو الفقهاء على تسمية المعاصي المعيّنة بالكبيرة، و كذلك هل عيّنوا المعاصي المعيّنة بكونها صغيرة أو اصطلحوا على تسمية ما عدى الكبيرة عندهم بالصغيرة.

كلمات الفقهاء في هذا الأمر و الأخبار أيضا مختلفة، و المشهور أنّ الكبيرة إمّا ما ذكر في الكتاب العزيز، لأنّ ذكرها في الكتاب علامة أهميّتها في نظر الشارع الأقدس و عظم جرم مرتكبها عند اللّٰه، و لذلك سمّيت بالكبيرة، و إمّا ما أوعد الشارع على ارتكابه بالنار و لو لم يكن ذكر منها في الكتاب، و لكن ورد النصّ المعتبر من النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله على أنّها ممّا أوجب اللّٰه عليه النار، و إمّا ما صرّح في النصّ المعتبر بكونها كبيرة.

هذا ما ذكروه، و لكن الشيخ الأعظم الأنصاري رضوان اللّٰه تعالى عليه ذكر في رسالته التي كتبها في العدالة الأمور التي تثبت بها كون المعصية كبيرة، و هي أمور خمسة:

الأوّل: وجود النّص المعتبر على أنّها كبيرة، و هي في المرويّ عن الرضا عليه السّلام نيف و ثلاثون.

الثاني: النصّ المعتبر على أنّها ممّا أوجب اللّٰه عليها النار.

الثالث: النصّ في الكتاب الكريم على ثبوت العقاب عليه بالخصوص، أي بعنوانه الخاصّ لا بالعناوين العامّة، مثل قوله (وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ) (1).

الرابع: دلالة العقل و النقل على أشدّية معصية ممّا ثبت أنّها كبيرة أو مساواتها لها، كقوله تعالى في حقّ الفتنة (وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ) (2)مع ثبوت أنّ القتل من

ص: 363


1- الجن (72) :23.
2- البقرة (2) :191.

أعظم المعاصي.

الخامس: أنّ يرد النصّ على عدم قبول شهادته (1).

هذا ما ذكره شيخنا الأعظم الأنصاري، و لكن الأخير-أي الخامس-لا يخلو من تأمّل و إن كان لا يخلو من صحّة أيضا.

و على كلّ حال معرفة الكبائر لها آثار، و أهمّها أنّ اللّٰه وعد في الكتاب العزيز بالعفو عن الصغائر إن اجتنب عن الكبائر، قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ) (2).

و لكن الواجب عقلا أن لا يغترّ المؤمن السالك بهذا، لأنّه في الرواية التي تعدّ الكبائر عدّ من جملتها الإصرار على الصغيرة، فإن لم يهتمّ بالصغيرة فقهرا يقع في الإصرار، لأنّ الظاهر عبارة عن بقائه على حالة فعل المعصية من دون ندم و لا أسف على ما صدر منه، و حينئذ في أغلب الناس تنقلب الصغيرة كبيرة، فتنعدم فائدة الاجتناب عن الكبائر من هذه الجهة، إذ لا تبقى الصغيرة صغيرة.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: «لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار» (3).

و أمّا صيرورة الصغيرة كبيرة مع الإصرار فمن جهة أنّ الإصرار و عدم الأسف و الندم على ما فعل كاشف عن رذالة النفس و رداءتها و بعدها عن اللّٰه تعالى، و هذه الأمور لا تنفكّ عن كون ما صدر منه من الكبائر.

هذا، مضافا إلى ما ذكروه في كتب الأخلاق أنّ من موجبات صيرورة الصغائر كبيرة هو الإصرار على الصغيرة، لأنّ بالإصرار-بمعنى التكرار كما هو أحد معاني الإصرار-يتأثّر القلب تدريجا بتلك الأرجاس و أنجاس المعاصي و لو كانت صغيرة

ص: 364


1- «المكاسب» ص 333 و 334.
2- النساء (4) :31.
3- «الكافي» ج 2، ص 219، باب الإصرار على الذنب، ح 1.

حتّى تحيط عليه ظلمة المعصية، و هذه نتيجة كون المعصية كبيرة.

و مضافا إلى وجوه أخر ذكروها لصيرورة الصغيرة كبيرة:

منها: استصغار الذنب الصغير عند رب كبير، و آه آه من استصغار الذنب و أنّه رأس كلّ بلية، و ذلك أنّ المعصية مطلقا-صغيرة كانت أو كبيرة-ترجع إلى عدم إطاعة اللّٰه و البغي و الطغيان عليه، فاستصغار الذنب يرجع إلى استصغار من أمر بالاجتناب عنه و نهى عن ارتكابه، و عدّه-أي العصيان-شيئا لا أهميّة له، و التمرّد عليه تعالى لا يحسبه بحساب.

و هذا من أكبر المعاصي، إذ معناه عدم الاعتناء بمخالفته في هذا الأمر الذي هو حقير و لا أهميّة له. و لعلّه لذلك قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «اتّقوا المحقّرات من الذنوب فإنّها لا تغفر» (1). و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تصغر ما ينفع يوم القيامة، و لا تصغر ما يضرّ يوم القيامة، فكونوا فيما أخبركم اللّٰه كمن عاين» (2).

و خلاصة الكلام أنّ من يعرف عظمة اللّٰه و يقرّ و يذعن بها لا يستصغر مخالفته و ترك إطاعته في أي موضوع كان، صغيرا و حقيرا أم لا.

و منها: اغتراره بستر اللّٰه عليه، و أنّ اللّٰه تعالى يمهله و لا يعجّل عليه، و لا يدري و لا يتوجّه إلى أنّ الموت قد يأتي بغتة و القبر صندوق العمل. و في كون هذا الوجه من موجبات صيرورة الصغير كبيرة تأمّل.

و منها: السرور بالصغيرة، كمن نظر إلى أجنبيّة و يفرح من تمكّنه من ذلك و يظهر البشاشة من فعله و أنّه اختصّ به دون غيره، أو لم يعتن بمؤمن.

ص: 365


1- «الكافي» ج 2، ص 218، باب استصغار الذنب، ح 1، و فيه: عن الصادق عليه السّلام، و في «الكافي» ج 2، ص 218، باب استصغار الذنب، ح 3، عن الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله نحوه، «جامع السعادات» ج 3، ص 75، فصل الصغائر قد تكون كبائر.
2- «جامع السعادات» ج 3، ص 76، فصل: الصغائر قد تكون كبائر.

و خلاصة الكلام: أنّه ارتكب صغيرة و أظهر الفرح و السرور من ارتكابه عوض أن يندم و يأسف من التورّط فيه، فنفس الفرح و السرور من مخالفة أوامر اللّٰه و نواهيه يوجب صيرورة الصغيرة كبيرة. و هذا يرجع إلى هتك حرمة اللّٰه و الجرأة عليه تبارك و تعالى.

و منها: عدم الستر على معصيته و إظهاره و التجاهر به، فمثل أن يأتي بالأجنبيّة مكشوفة كي ترقص في مجلس أنس أو عرس أو ختان أو غير ذلك، فهذا من حيث أنّه تجرّ على اللّٰه تكون كبيرة، و كذلك حلق اللحية حيث أنّه معصية ظاهرة غير مستورة تكون كبيرة و إن كان في حدّ نفسه صغيرة لو أخفاه و لم يتجاهر به.

و منها: أن يكون مرتكب الصغيرة عالما كبيرا يقتدي به الناس، فارتكابه للصغيرة يصير سببا لاشاعة المنكر، حيث أنّ الناس يتّبعونه و يقتدون به، فيصير هذا المنكر الصغير في نظرهم معروفا، فلو لبس قباء من الإبريسم الخالص، أو لبس الخاتم من ذهب خالص، أو غير ذلك من المحرّمات فالناس و العوام، يستشهدون بفعله و يصنعون كما صنع. و هذا معناه صيرورة المنكر معروفا، و اللّٰه هو الموفّق للصواب.

[الأمر]الخامس عشر: هل يعتبر في تحقّق التوبة أن يكون قادرا على فعل ما تاب عن فعله ؟ مثلا في التوبة عن الزنا هل يعتبر أن يكون قادرا على فعله أم لا؟ فلو زنا و بعد ذلك صار عنينا لا يقدر على هذا الفعل، هل بحصول الندم على فعله السابق تتحقّق التوبة، إذ العزم على الترك لا يمكن في حقّه لأنّه بنفسه منترك، و العزم على الترك فيما إذا كان الترك اختياريا، و هاهنا الترك قهريّ.

و ليس الطرفان-أي الفعل و الترك-بالنسبة إليه متساويين كي يرجّح أحدهما على الآخر بالإرادة و اختياره، إذ طرف الترك بالنسبة إليه ضروري الوجود، و طرف

ص: 366

الفعل ضروري العدم، و ما هذا شأنه لا تتعلّق به الإرادة، و لا يتصوّر الاختيار في حقّه في كل واحد من طرفي الفعل و الترك، كحركة يده المرتعشة، فلا يقدر اختيار الحركة و لا عدم الحركة.

نعم لو كانت التوبة عبارة عن صرف الندم-كما يظهر عن بعض الأخبار و تقدّم نقله عن الصحيفة السجادية سلام اللّٰه عليه من قوله عليه السّلام «إن كانت التوبة ندما فأنا أندم النادمين» (1)-لا مانع من تحقّق التوبة عن فعل فعل و فعلا في حال التوبة عاجز عن العود إليه، كما يتّفق لكثير من الشيبة العاجزين من ارتكاب الحرام الذي ارتكبه أيّام شبابه، لكن نادم على فعله غاية الندم، و يبكي من صدوره منه بكاء المضطرّ الحزين، و يتأسّف منتهى الأسف و يتضرّع و يبتهل إلى اللّٰه نهاية الابتهال.

فهل لمثل هذا يمكن أن يقال ليس بتائب لأنّه عاجز عن العود و ليس راجعا إلى اللّٰه من غيّه و ضلاله و هو بعيد عن مقام القرب إليه تعالى؟ ! نعم لو كان في نيّته العود إن قدر فليس بتائب قطعا، و لكنّه في قلبه أنّه على تقدير إن مكّنه اللّٰه من ذلك الفعل و أقدره اللّٰه تعالى يكون تاركا، فيصدق في حقّه العزم المعلّق، فالظاهر عدم الإشكال في صدق التوبة، و القدرة الفعليّة ليس بشرط فيها.

و خلاصة الكلام: أنّ ضرورة الفعل أو الترك لمرجح أو لمصلحة في أحدهما لا يضرّ بالاختيار، و أمّا الضرورة لعدم القدرة على ضدّه ينافي الاختيار. و لكن الكلام في أنّها تحتاج إلى العزم الفعلي على الترك، أو يكفي العزم المعلّق على القدرة، أو لا يحتاج حتّى على المعلّق منه بل يكفي في تحقّقها صرف الند؟ و التحقيق في هذا المقام هو التفصيل بين ما إذا كان الفعل مقدورا له، فالتوبة و إن كان حقيقتها الرجوع إلى اللّٰه و الندم ممّا فعل و ارتكب من المعاصي، و لكن هذا

ص: 367


1- تقدم ص 341، هامش (3) .

يلازم العزم على عدم العود بحيث لا يمكن انفكاكه عن الندم. و أمّا لو كان غير مقدور فلا ملازمة بينهما، بل يمكن أن يكون نادما على ما فعل و لا يتحقّق منه العزم على الترك لعدم كونه فعلا اختياريّا له كي يعزم لعدم القدرة على ضدّه، فيكون الترك ضروريّا فلا يتعلّق بها الإرادة و الاختيار.

و قياسه على ما إذا كان الفعل ضروريّا لأجل وجود المرجّح و المصلحة الملزمة فيه. في غير محلّه. و اللّٰه وليّ التوفيق.

و ظهر لك ممّا ذكرنا أنّ ما أفاده بعضهم في هذا المقام أنّ العاجز عن العود إلى مثل المعصية التي صدرت منه تتحقّق توبته بالعزم على ترك ما يماثل المعصية الصادرة منه منزلة و درجة كالقذف و السرقة و أمثالهما ممّا هي في درجة الزنا العاجز عنه لكبر سنّة أو لعارض آخر، بتخيّل أنّ التوبة لا تتحقّق إلاّ بالعزم و الالتزام على الترك، فإذا كان الفعل غير مقدور كما هو المفروض فلا تتحقّق التوبة إلاّ بالعزم على ترك ما هو في درجته و منزلته.

أنّ هذا الكلام شعر بلا ضرورة، لأنّ التوبة تتحقّق بنفس الندم على الفعل الذي صدر منه مع أنّه منهيّ من قبل اللّٰه تعالى، بل حقيقة التوبة هي الندامة، و أمّا العزم على الترك من لوازمها فيما يمكن الترك اختيارا و بإرادته، و أمّا إذا كان لعدم القدرة على ضدّه-أي الفعل-فليس من لوازمه.

و أمّا حصول الندم فللاضرار التي تولّدت من ناحية الفعل، و مثل ذلك أنّه لو زنا بعاهرة فابتلي بالزهري، و بعد ذلك عجز عن الزنا، فهو و إن لم يقدر على الزنا فلا يمكنه العزم على تركه لما ذكرنا، و لكن نادم من ذلك الفعل أشدّ الندامة لتلك الإضرار الآتية من قبل فعله، أي ذلك المرض الخبيث الذي ربما يوجب العمى أو الجنون أو غير ذلك.

و حيث أنّ صدور العصيان منه يوجب البعد عن اللّٰه و عن رحمته الواسعة

ص: 368

و يوجب استحقاق العقاب الأليم، فلذلك يندم أشدّ الندامة أنّه بواسطة لذّة موقّتة التي تزول بسرعة أوجب على نفسه العذاب و الآلام لمدّة طويلة، فمثل هذه الندامة العظيمة الكبيرة لما ذا لا يكون توبة و رجوعا إلى اللّٰه، مع أنّه دائم البكاء و مستمرّ الأحزان و الأسف على ما فعل، و من سوء اختياره جرّ على نفسه البلايا و المحن.

أعاذنا اللّٰه من شرور النفس الأمّارة بالسوء، قال اللّٰه تبارك و تعالى حاكيا عن لسان النسوة اللاتي كدن لنبيّ اللّٰه يوسف (وَ مٰا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّٰ مٰا رَحِمَ رَبِّي) (1). هذا بناء على أن يكون هذا الكلام من تتمة كلام امرأة العزيز.

و اللّٰه أعلم بالصواب و هو وليّ التوفيق.

ص: 369


1- يوسف (12) :53.

ص: 370

فهرس الموضوعی

ص: 371

ص: 372

الصورة

ص: 373

الصورة

ص: 374

الصورة

ص: 375

الصورة

ص: 376

الصورة

ص: 377

الصورة

ص: 378

الصورة

ص: 379

الصورة

ص: 380

الصورة

ص: 381

الصورة

ص: 382

الصورة

ص: 383

الصورة

ص: 384

الفهارس العامة

ص: 385

ص: 386

الصورة

ص: 387

الصورة

ص: 388

الصورة

ص: 389

الصورة

ص: 390

الصورة

ص: 391

الصورة

ص: 392

الصورة

ص: 393

الصورة

ص: 394

الصورة

ص: 395

الصورة

ص: 396

الصورة

ص: 397

الصورة

ص: 398

الصورة

ص: 399

الصورة

ص: 400

الصورة

ص: 401

الصورة

ص: 402

الصورة

ص: 403

الصورة

ص: 404

الصورة

ص: 405

الصورة

ص: 406

الصورة

ص: 407

الصورة

ص: 408

الصورة

ص: 409

الصورة

ص: 410

الصورة

ص: 411

الصورة

ص: 412

الصورة

ص: 413

الصورة

ص: 414

الصورة

ص: 415

الصورة

ص: 416

الصورة

ص: 417

الصورة

ص: 418

الصورة

ص: 419

الصورة

ص: 420

الصورة

ص: 421

الصورة

ص: 422

الصورة

ص: 423

الصورة

ص: 424

الصورة

ص: 425

الصورة

ص: 426

الصورة

ص: 427

الصورة

ص: 428

الصورة

ص: 429

الصورة

ص: 430

الصورة

ص: 431

الصورة

ص: 432

الصورة

ص: 433

الصورة

ص: 434

الصورة

ص: 435

الصورة

ص: 436

الصورة

ص: 437

الصورة

ص: 438

الصورة

ص: 439

الصورة

ص: 440

الصورة

ص: 441

الصورة

ص: 442

الصورة

ص: 443

الصورة

ص: 444

الصورة

ص: 445

الصورة

ص: 446

الصورة

ص: 447

الصورة

ص: 448

الصورة

ص: 449

الصورة

ص: 450

الصورة

ص: 451

الصورة

ص: 452

الصورة

ص: 453

الصورة

ص: 454

الصورة

ص: 455

الصورة

ص: 456

الصورة

ص: 457

الصورة

ص: 458

الصورة

ص: 459

الصورة

ص: 460

الصورة

ص: 461

الصورة

ص: 462

الصورة

ص: 463

الصورة

ص: 464

الصورة

ص: 465

الصورة

ص: 466

الصورة

ص: 467

الصورة

ص: 468

الصورة

ص: 469

الصورة

ص: 470

الصورة

ص: 471

الصورة

ص: 472

الصورة

ص: 473

الصورة

ص: 474

الصورة

ص: 475

الصورة

ص: 476

فهرس الكتب الواردة في المتن

الصورة

ص: 477

الصورة

ص: 478

الصورة

ص: 479

الصورة

ص: 480

الصورة

ص: 481

الصورة

ص: 482

الصورة

ص: 483

ص: 484

فهرس مصادر التحقیق

الصورة

ص: 485

الصورة

ص: 486

الصورة

ص: 487

الصورة

ص: 488

الصورة

ص: 489

الصورة

ص: 490

الصورة

ص: 491

الصورة

ص: 492

الصورة

ص: 493

الصورة

ص: 494

الصورة

ص: 495

الصورة

ص: 496

الصورة

ص: 497

الصورة

ص: 498

الصورة

ص: 499

الصورة

ص: 500

الصورة

ص: 501

الصورة

ص: 502

الصورة

ص: 503

الصورة

ص: 504

الصورة

ص: 505

الصورة

ص: 506

الصورة

ص: 507

الصورة

ص: 508

الصورة

ص: 509

الصورة

ص: 510

الدوریات

الصورة

ص: 511

الصورة

ص: 512

فهرس القواعد الفقهیة

الصورة

ص: 513

الصورة

ص: 514

الصورة

ص: 515

الصورة

ص: 516

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.