سيرة أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة

هوية الکتاب

سيرة أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

تأليف: السيد هاشم الميلاني

تنضيد وإخراج: نذير هندي الكوفي

عدد النسخ: 1000 نسخة

سنة: 1432ه- / 2011م

العتبة العلوية المقدسة، العراق . النجف الأشرف

هاتف: 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكتروني:

info@haydarya.com

ص: 1

اشارة

العتبة العلوية المقدسة

سلسلة في رحاب نهج البلاغة - 7

سيرة أمير المؤمنين علیه السلام فی نهج البلاغة

السيد هاشم الميلاني

النجف الأشرف عاصمة الثقافة الإسلامية 2012م

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

تمهيد

ما زالت الدراسات و الأبحاث والكتب - منذ مئات السنين - تترى حول سيرة أمير المؤمنين علیه السلام وحياته، وما يحيطها منذ الولادة وحتى الشهادة.

ولم يتم لحدّ الآن – حسب ما أعلم – ببلوغرافية جامعة لكل ما كتب عن أمير المؤمنين من كتب و بحوث وحتى مقالات في المجلات و الصحف، وهو عمل جدير بالاهتمام، نعم هناك جهود مشكورة في هذا المجال ولكنها لم تكتمل بعد.

وقد اهتمت مكتبة الروضة الحيدرية بنشر التراث العلوي منذ اعادة تأسيسها لحد الآن، ومن جملة اهتماماتها مشروع «سلسلة في رحاب نهج البلاغة» حيث تتناول السلسلة ما يخصّ نهج البلاغة من دراسات وبحوث ودروس وكتيبات أخلاقية وغيرها، إذ انّ نهج البلاغة

ص: 5

يشكّل هويّة الإنسان المسلم لما في هذا السفر القيّم من مواضيع تخصّ أصول الدين وفروعه، وتبين مناهج الحياة.

ومعكم في هذه الحلقة من «سلسلة في رحاب نهج البلاغة» مع دراسة موجزة عن حياة أمير المؤمنين علیه السلام وسيرته العطرة من خلال ما جاء عن لسانه القدسي علیه السلام في نهج البلاغة.

ص: 6

1 - علي و رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

اشاره

بزغ فجر الإسلام في الجزيرة العربية بعد فترة من الرسل، و بعد تفشّي الجاهلية الجهلاء في القبائل وبين الناس، وقد أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى هذه الحالة قائلاً: «انّ الله سبحانه بعث محمداً نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين، وفي شر دار، مُنيخُونَ بين حجارة خُشنٍ وحيّات صُمّ، تشربون الكَدِرَ، و تأكلون الجَشِبَ، و تسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة» (1).

و قال علیه السلام: «أرسله على حين فترة من الرسل، و طول هجعة من الأمم، و اعتزام من الفتن و انتشار من الأمور، و تلظٍّ من الحروب، و الدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور على حين اصفرار من ورقها و اياس من ثمرها و اغورار من مائها قد درست منار الهدى و ظهرت أعلام الردى، فهي متجهّمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف و دثارها السيف» (2).

ص: 7


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 26.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 88.

ففي هذه الظروف الحرجة ظهرت دعوة الاسلام وكان أوّل من أناب وأجاب اليها علي بن أبي طالب علیه السلام كما سيوافيك بيانه.

1 - إسلامه علیه السلام:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «والله لأنا أول من صدّقه» (1) و قال علیه السلام: «انّي ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإسلام و الهجرة» (2) و قال علیه السلام: «فعلى من أكذب؟ أعلى الله، فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه، فأنا صدّقه» (3) و قال علیه السلام: «اللهم انّي أوّل من أناب و سمع و أجاب لم يسبقني إلّا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالصلاة» (4).

وقال علیه السلام: «ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و خديجة وأنا ثالثهما» (5)

تشير هذه النصوص إلى انّ أمير المؤمنين علیه السلام أوّل من أسلم، هذا ما دلّ عليه الروايات الكثيرة الصحيحة و الموثقة والمعتبرة، ونظمه الشعراء أيضاً في قصائدهم، واعترف به كثير من الصحابة والتابعين.

ص: 8


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 26
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 56
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 70
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 131
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 192

فمن الروايات ما أورده الحاكم و الطبراني وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم انّه قال لفاطمة علیها السلام: «أنه لأول أصحابي سلماً، و أكثرهم و أكثرهم علماً، و أعظمهم حلماً» (1).

و في مستدرك الحاكم و سنن ابن ماجة، عن علي علیه السلام قال: «صلّيت قبل الناس بسبع سنين» (2) وعن علي علیه السلام قال: «أنا أوّل من صلى مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم» قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير حبة العرني وقد وثق» (3)

و في المستدرك للحاكم (4) و قد صححه عن ابن عباس قال: «كان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة» و رواه أيضاً ابن عبد البر في الاستيعاب و قال: «هذا اسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقله، وهو يعارض ما ذكرناه عن ابن عباس في باب أبي بكر، و الصحيح في أمر أبي بكر أنّه أوّل من أظهر اسلامه، كذلك قال مجاهد و غيره و قالوا: و منعه قومه وقال ابن شهاب وعبد الله بن محمد بن عقيل وقتادة و أبو إسحاق: أوّل من أسلم من الرجال علي، و اتفقوا على أنّ خديجة أول من آمن بالله و رسوله وصدّقه فيما جاء به، ثم علىّ بعدها» (5) .

ص: 9


1- مجمع الزوائد:9 102
2- مستدرك الحاكم 3 112، سنن ابن ماجة 1: 44.
3- مجمع الزوائد 9: 103
4- مستدرك الحاكم 3: 133.
5- الاستیعاب: 3: 1092.

فبعد هذا لا يبقى مجال للشك في تقدّم اسلام أمير المؤمنين علیه السلام سيما انّ الروايات الواردة في تقدّم إسلام أبي بكر مدخولة وضعيفة، وقد روى الطبري عن محمد بن سعد ما يدلّ على انّ أبا بكر أسلم بعد خمسين رجلاً، قال محمد بن سعد: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم اسلاماً؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلاً (1).

2 - جهاده علیه السلام:

كان لسيف أمير المؤمنين علیه السلام الدور البارز في تثبيت أركان الإسلام، فقد ورد في كشف الغمة للاربلي عن الحسن البصري انّه قال: «استوى الإسلام بسيف علي علیه السلام» (2) و قال العلامة الحلي: «وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام، و تشيّدت أركان الإيمان» (3).

ونحن هنا لسنا بصدد سرد مواقف أمير المؤمنين علیه السلام الجهادية إلّا بقدر ما وردت الإشارة إليها في نهج البلاغة، لذا نحيل القارئ الكريم إلى كتب السير والتاريخ.

انّ الأساس الذي اعتمد عليه أمير المؤمنين علیه السلام في جهاده، هو نصرة الحق، ولذا كان يقول: «و لعمري ما عليّ من قتال من خالف

ص: 10


1- تاريخ الطبري 2: 60.
2- كشف الغمة 1: 322
3- منهاج الكرامة: 164.

الحق وخابط الغي من إدهان ولا إيهان» (1).

و هو علیه السلام يصف لنا صورة رائعة من الجهاد و التضحية و يقول: «ولقد كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك الّا إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم، و صبراً على مضض الألم، وجدّاً على جهاد العدوّ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا، و مرّة لعدوّنا منّا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوثاً أوطانه» (2).

و علي علیه السلام كان هو الرجل البارز في هذا الميدان حيث يقول في وصف بعثة النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم ... و ايم الله لقد كنت من ساقتِها حتى تولت بحذافيرها، و استوسقت في قيادها ما ضعفت ولا جبنت ...» (3).

و قال علیه السلام في كتاب كتبه إلى معاوية: «فأنا أبو حسن، قاتل جدك و خالك وأخيك شدخاً يوم بدر» (4) 0

ص: 11


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 24
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 55
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 103
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 10

3 - اختصاصه بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أنا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كالصنو من الصنو، والذراع من العضد» (1). يدلّ هذا النص الشريف على شدّة اختصاص أمير المؤمنين علیه السلام بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم وقربه منه وهذا شيء لا ينكر، وقد نطقت به كتب الحديث و التاريخ. فهو علیه السلام تربى في حجر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكان معه إلى آخر لحظة، وكم من حادث ورواية وردت في الصحاح والمسانيد أثبتت هذا الأمر كحديث المنزلة، وحديث

الدار، وحديث الطير، وحديث المؤاخاة، وحديث الغدير وغيرها.

وقال علیه السلام أيضاً: «و لقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر الأقدام» (2).

و صوّر علیه السلام في نص آخر مدى قربه واختصاصه بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم و قال: «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه ويمسّني جسده ويشمّني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل ... و لقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر امّه، يرفع لي في كل يوم عَلَماً من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري ولم

ص: 12


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 45.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 197

يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخديجة و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت: يارسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، انّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، الّا انّك لست بنبي ولكنّك وزير، وانّك لعلى خير».(1)

وهذا شرف ليس بعده شرف و أين هذه المنقبة من تلك التي تمسكوا بها في آية الغار، و مصاحبة أبي بكر للنبي صلی الله علیه و آله و سلم لساعات من النهار، حيث استدلّوا بها على أفضليته واستحقاقه الخلافة، وهو لم يشهد نزول الوحي، ولم يسمع رنّة الشيطان، ولم يتوسّم بوسام ولكنّك وزير وانّك لعلى خير» فأين هذه من تلك؟

و قد قال ابن أبي الحديد في شرحه نقلاً عن شيخه أبي جعفر: «ثم أنتم معشر العثمانية تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم من مكة إلى يثرب و دخوله معه في الغار فقلتم: مرتبة شريفة و حال جليلة، إذ كان شريكه في الهجرة، و أنيسه في الوحدة، فأين هذه من صحبة علي علیه السلام له في خلوته، وحيث لا يجد انساً غيره ليله و نهاره، أيام مقامه بمكة يعبد الله معه سرّاً، ويتكلّف له الحاجة جهراً، و يخدمه كالعبد يخدم مولاه، و يشفق عليه ويحوطه وكالولد يبرّ والده و يعطف عليه» (2) .

ص: 13


1- نهج البلاغه، الخطبة رقم: 192
2- شرح ابن أبي الحديد 13: 252.

4 - الروايات المسندة:

لقد ورد في نهج البلاغة مجموعة من الروايات أسندها أمير المؤمنين علیه السلام إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم واستشهد بها تأييداً لكلامه، نوردها كما هي لمزيد الفائدة.

1 - قال علیه السلام: «أيّها الناس خذوها عن خاتم النبيين صلی الله علیه و آله و سلم: انّه يموت من مات منّا وليس بميّت ويبلى من بلي منّا وليس ببال (1).

2 - قال علیه السلام: «و اعلم انّ لكلّ ظاهر باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق صلی الله علیه و آله و سلم: انّ الله يحبّ العبد و يبغض عمله، و يحبّ العمل ويبغض بدنه» (2)

3 - قال علیه السلام: «لما أنزل الله سبحانه قوله: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (3) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين أظهرنا. فقلت يا رسول الله، ما هذه الفتنة الّتي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي فقلت: يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عنّي الشّهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلت لي:

ص: 14


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 86.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 154.
3- العنكبوت: 1 - 2.

أبشر، فإنّ الشّهادة من ورائك؟ فقال لي: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟.

فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبّر، ولكن من مواطن البشرى و الشّكر.

و قال: يا عليّ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة، و الأهواء السّاهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ، والسّحت بالهديّة، و الرّبا بالبيع قلت: يا رسول الله، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة، أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة» (1).

4 - قال علیه السلام في وصف زهد النبي صلی الله علیه و آله و سلم وإعراضه عن الدنيا: ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير، فيقول: يافلانة - لإحدى أزواجه - غيّبيه عنّي، فانّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها» (2).

5 - قال علیه السلام: اني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيُلقى في نار جهنّم، فيدور فيها كما تدار الرحى، ثم يرتبط في قعرها» (3).

6 - قال علیه السلام: «انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يقول: انّ الجنة حُفّت عليه 64

ص: 15


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 156.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 160.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 164

بالمكاره، وانّ النار حُفّت بالشهوات» (1).

7 - قال علیه السلام: «لقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (2)

8 - قال علیه السلام: «إذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شراً فاذهبوا عنه، فانّ رسول الله الله كان يقول: يابن آدم اعمل الخير ودع الشر، فاذا أنت جواد قاصد» (3).

9 - قال علیه السلام: «ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلی الله علیه و آله و سلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرّنّة؟ فقال: هذا الشّيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، و ترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير. ولقد كنت معه صلی الله علیه و آله و سلم لمّا أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمد إنّك قد ادّعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب.

فقال لهم صلی الله علیه و آله و سلم: وما تسألون؟ قالوا: تدعو لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال صلی الله علیه و آله و سلم: إن الله على كلّ شيء قدير، فإن فعل الله ذلك لكم أتؤمنون و تشهدون بالحقّ! قالوا: نعم. .

ص: 16


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 176.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 176.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 176.

قال: فإنّي سأريكم ما تطلبون وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير وإنّ فيكم من يطرح في القليب، ومن يحزّب الأحزاب. ثمّ قال: يا أيّتها الشّجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين أنّي رسول الله، فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ بإذن الله.

فوالّذي بعثه بالحقّ نبيّاً لانقلعت بعروقها، وجاءت ولها دويّ شديد وقصف كقصف أجنحة الطّير، حتّى وقفت بين يدي رسول الله مرفرفةً، و ألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه علیه السلام. فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا - علوّاً و استكباراً - : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها. فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً، فكادت تلتفّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. فقالوا - كفراً وعتوّاً - : فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان. فأمره علیه السلام فرجع. فقلت أنا: لا إله إلا الله، إنّي أوّل مؤمن بك يا رسول الله، و أوّل من آمن بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقاً لنبوّتك، وإجلالاً لكلمتك. فقال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب عجيب السّحر خفيف فيه، و هل يصدّقك في أمرك إلّا مثل هذا! يعنونني»(1).

10 - قال علیه السلام: «فانّه لا سواء إمام الهدى وإمام الردى، ووليّ النبيّ وعدوّ النبي، و لقد قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: انّي لا أخاف على .

ص: 17


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192.

امّتي مؤمناً ولا مشركاً، أما المؤمن فيمنعه الله بايمانه، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكنّي أخاف عليكم كل منافق الجّنان، عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون» (1).

11 - قال علیه السلام و قد أوصى ولديه الحسن و الحسين علیهما السلام في ابن ملجم لعنه الله قائلاً: «ألا لا تقتلنّ بي إلّا قاتلي، انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثّل بالرجل، فانّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يقول: إياكم و المثلة ولو بالكلب العقور» (2)

12 - قال علیه السلام في وصيته لهما علیهما السلام أيضاً: «أوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فانّي سمعت جدّكما صلی الله علیه و آله و سلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام». (3)

13 - قال علیه السلام في عهده للأشتر في لزوم الاهتمام بالضعفاء: «فانّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول في غير موطن: لن تقدّس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع» (4)

14 - قال علیه السلام له أيضاً: «وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكوننّ.

ص: 18


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 27.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 47.
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 47.
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 53.

منفّراً ولا مضيّعاً، فانّ في الناس من به العلّة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين وجّهني إلى اليمن: كيف أُصلّي بهم؟ فقال: صلّ بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيماً» (1).

15 - قال علیه السلام: «وقد كان فيما عهد اليّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في وصاياه: تحضيضاً على الصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم» (2).

16 - وسُئل علیه السلام عن قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «غيّروا الشيب ولا تشّبهوا باليهود؟ فقال علیه السلام: انّما قال ذلك والدين قُلّ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه، وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار» (3).

17 - قال علیه السلام: «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، و ذلك انّه قُضي فانقضى على لسان النبي صلی الله علیه و آله و سلم انّه قال: لا يبغضك مؤمن، و لا يحبّك منافق» (4).

5 - ساعة الرحيل:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ولقد قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و انّ رأسه لعلى

ص: 19


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 53.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 53.
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 13.
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 40.

صدري، ولقد سالت نفسه في كفّي، فأمررتها على وجهي» (1)

وقال علیه السلام أيضاً: «فلقد و سّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك» (2).

ويؤيد هذا ما ورد عن عائشة أنّها قالت لامرأتين سألنها عن علي علیه السلام: «أيّ شيء تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم موضعاً فسالت نفسه في يده، فمسح بها وجهه» (3).

و في الحديث الصحيح عن أم سلمة أنّها قالت: «و الذي أحلف به إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عدنا رسول الله غداة وهو يقول: جاء علي، جاء عليّ؟ مراراً، فقالت فاطمة: كأنّك بعثته في حاجة، قالت: فجاء بعد قالت أم سلمة فظننت انّ له إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، وكنت أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وجعل يسارّه و يناجيه، ثم قبض رسول الله من يومه ذلك، فكان علي أقرب الناس عهداً» (4).

وقيل لابن عباس: أرأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم توفّي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفي وهو لمستند إلى صدر عليّ قلت: فانّ عروة حدّثني عن عائشة أنها .

ص: 20


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 197.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 202
3- تاريخ دمشق لابن عساكر 42: 394.
4- المستدرك للحاكم 3: 139 وصححه.

قالت: توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين سحري و نحري، فقال ابن عباس: أتعقل هذا؟ والله لتوفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أنّه لمستند إلى صدر علي» (1)

و عن أبي رافع قال: «توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و رأسه في حجر علي ابن أبي طالب ...» (2).

و عن علي بن الحسين علیه السلام قال: «قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ورأسه في حجر علي» (3).

وعن الشعبي قال: «توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ورأسه في حجر عليّ» (4).

فهذه الروايات و غيرها الواردة عن الصحابة و التابعين تدلّ بصراحة على انّ الرسول الأكرمه صلی الله علیه و آله و سلم توفي ورأسه في حجر علي علیه السلام، و عليه فلا قيمة لما رواه القوم عن لسان عائشة من انّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم توفي بين سحرها ونحرها، إذ أنّه لا يقاوم سائر الأخبار الصحيحة والحسنة والموثقة التي تعارضه.

و أيضاً ممّا لا إشكال فيه و لا خلاف حوله انّ أمير المؤمنين علیه السلام هو الذي تولّى غسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقد قال علیه السلام: «ولقد و ليت غسله صلی الله علیه و آله و سلم و الملائكة أعواني فضجّت الدار و الأفنية، ملأ يهبط وملأ .

ص: 21


1- الطبقات لابن سعد 2 263.
2- مجمع الزوائد للهيثمي 1: 293.
3- الطبقات لابن سعد 2: 262.
4- المصدر نفسه 2: 262.

يعرج، و ما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه حتى و اريناه في ضريحه» (1)

فانظر إلى هذه المنقبة الشريفة، تتلو منقبة بدء الوحي حيث كان علیه السلام يرى نور الوحي و الرسالة، ويشمّ ريح النبوة، و قال له الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «انَّك تسمع ما أسمع، و ترى ما أرى» وسمع أيضاً رنّة الشيطان فياله من شرف عظيم.

وقد أثّرت مصيبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على قلب أمير المؤمنين علیه السلام أشدّ تأثير حتى انّه ترك الخضاب، فقد قيل له: لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين، فقال علیه السلام: «الخضاب زينة، و نحن قوم في مصيبة» قال الشريف الرضي موضّحاً: يريد برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (2).

و قال علیه السلام عند تغسيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «بأبي أنت و أمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة و الأنباء و أخبار السماء خصّصت حتى صرت مسلّياً عمّن سواك، وعمّمت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا انّك أمرت بالصبر، و نهيت عن الجزع، لأنفذنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، و الكمد محالفاً، و قلّا لك، ولكنّه ما لا يمكن ردّه و لا يستطاع دفعه، بأبي أنت وأمّي اذكرنا عند ربك و اجعلنا من بالك» (3)..

ص: 22


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 197.
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 461.
3- المصدر نفسه الخطبة رقم 234.

2 - علي بعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم

اشاره

صحّ عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنّه أخبر أمير المؤمنين علیه السلام بغدر الأمة إياه، فقد روى الحاكم في المستدرك عن أمير المؤمنين علیه السلام انّه قال: «قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: انّ الأمة ستغدر بك بعدي» (1)، و قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: «وقد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ أو بقريب منه» (2).

و بوادر الغدر كانت تلوح قبيل وفاته صلی الله علیه و آله و سلم من التخلّف عن جيش اسامة، و التكلّم في إمارته، وعدم إحضار الدواة و الكتف عندما طلبها النبي صلی الله علیه و آله و سلم ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً (3).

وما أن رحل النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى الملأ الأعلى - وقبل أن يُدفن – حتى حصل ما حصل من إقصاء أهل البيت علیهم السلام والتعدّي عليهم، وغصب حقوقهم الثابتة بنص القرآن و السنّة. وفيما يلي نشير إلى بعض تلك

ص: 23


1- المستدرك للحاكم 3: 142 وصححه.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 4: 107
3- راجع صحيح البخاري 5: 137، و صحيح مسلم 5: 76 5 137

الأمور بالاعتماد على ما ورد في نهج البلاغة:

1 - السقيفة:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «فلما مضى صلی الله علیه و آله و سلم تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يُلقى في روعي، ولا يخطر ببالي انّ العرب تُزعج هذا الأ من بعده عن أهل بيته ولا انّهم منحّوه عنّي من بعده» (1).

وقال علیه السلام بعدما ذكر اختصاصه بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم و قربه منه ومواساته في جميع المواطن، ثم رحيله على صدره وتولّي غسله مع الملائكة: «فمن ذا أحق به منّي حياً وميتاً؟!» (2).

لقد صدق إخبار النبي صلی الله علیه و آله و سلم لعليّ علیه السلام بغدر الأمة إياه بعد رحيله مباشرة، فاجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة وكان أبو بكر خارج المدينة، فجاء عمر وبثّ دعاية عدم موت النبي صلی الله علیه و آله و سلم و توعّد لمن قال بموته، أما بنو هاشم فقد اجتمعوا حول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و اهتموا بغسله ودفنه.

كان هناك انقلاب سياسي خطط له من ذي قبل كل يجرّ النار إلى قرصه، وكأنّه لم يكن أيّ شيء مذكوراً أو مأثوراً عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم ولو

ص: 24


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 62.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 197.

بالاشارة والإيماء – لو تنزلنا عن التصريح - فأين حديث الغدير، وأين حديث الثقلين، وأين حديث المنزلة، وأين وأين؟!

وهنا نص خطير يرويه البخاري عن عمر بن الخطاب يصوّر الانقلاب السياسي الذي حصل فقد قال عمر بن الخطاب: «انّه قد كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم انّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنّا علي و الزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد اخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ... فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويحضنونا من الأمر ... فتكلّم أبو بكر ... فقال: ... لم يعرف هذا الأمر الّا لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسباً و داراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي و بيد أبي عبيدة بن الجراح ... فكثر اللغط و ارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار» (1). 7

ص: 25


1- صحيح البخاري 8: 27

ويلاحظ على هذا النص امور:

يذكر عمر انّ الأنصار خالفوهم و اجتمعوا في السقيفة، ممّا يعني انّه كان يرى الأمر ثابتاً لغير الأنصار، وهذا أوّل الكلام، فانّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لم ينص على أحد ولا على قبيلة بحسب زعمهم، فمن أين جاءت هذه الرؤية حتى ينسب الأنصار إلى المخالفة؟

ثم يقول عمر: خالف عنّا عليّ والزبير ومن معهما والحال انّ الأمر لم يتم بعد ولم يعلم أحد لمن ستكون الخلافة، فيكف يقول: (خالف عنّا).

ثم يدلّ على تخلّف علي علیه السلام والزبير وغيرهما عن هذا الأمر لانشغالهم بأمر تجهيز الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، ولا أفهم كيف ترك زعماء القوم وكبار الصحابة تجهيز النبي صلی الله علیه و آله و سلم و انشغلوا بأمر الخلافة؟!

ثم يدل النص على انطلاق عمر وأبي بكر ومن معهما إلى الأنصار، لا لأن يدعوهم إلى المشاركة في تجهيز النبي صلی الله علیه و آله و سلم ولا لنصيحتهم بالصبر حتى يتمّ دفن النبي صلی الله علیه و آله و سلم ويحضر وجوه القوم، بل لأجل أن لا يقصوا من الأمر، وقد صرّح عمر بهذا حيث قال: «فاذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحضنونا من الأمر»، أي يخرجونا من الأمر، وفي سيرة ابن هشام ويغصبونا الأمر وكأنّ أمر الخلافة ثابت لهم، فكيف يتفق هذا مع عدم وجود النص كما يزعمون؟!

وكذا قوله: فذكر ما تمالأ عليه القوم أي الأنصار، فكأنّ هناك حق تمالأ عليه الأنصار ليقصوه عن أهله والحال انّ مدرسة الخلفاء

ص: 26

تعتقد بعدم وجود أيّ نص فأيّ معنى يبقى لتمالاً الأنصار غير الانقلاب السياسي المبيّت من قبل بعض الصحابة.

ثم الأطرف من هذا قول أبي بكر: لم يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش وفي لفظ ابن هشام في السيرة: لن تعرف العرب هذا الأمر الّا لهذا الحيّ من قريش وكأنّ الأنصار ليسوا من العرب، وكأنّ رجال قريش وكبارها أو كلوا الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ليتكلّموا ويقروا بالنيابة عنهم، حيث يتبرع أبو بكر الأمر لعمر أو لأبي عبيدة، أو يتبرع عمر الأمر لأبي بكر؟! فأين شيوخ قريش وكبارها؟! أين العباس عمّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأين علي علیه السلام، وأين غيرهما من الشجعان وذوي النجدة والكفاءة لو كان الأمر لقريش كما يزعمون؟!

ولماذا لم نسمع من واحد منهم تأجيل الأمر حتى يدفن الرسول، ثم يجتمع وجوه الناس و شيوخهم للبتّ بأمر الخلافة، فلماذا هذه العجلة والتسرّع التي تعطي صورة سيّئة عنهم للتغلّب على الحكم.

وقد أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى تلك الأحداث بعدما تم بعدما تم الأمر وقال: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منّا أمير ومنكم أمير قال علیه السلام: (فهلا احتججتم عليهم بانّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم، ويُتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال علیه السلام: «لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم، ثم قال: فماذا قالت قريش؟ قالوا احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 27

فقال: احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (1).

وقال علیه السلام في مكان آخر لمعاوية: ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فالجوا عليهم، فان يكن الفلج فالحق لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم» (2).

طبعاً هذه الخلافات كانت بمرأى ومسمع من اليهود والنصارى وغيرهما، وكان موضع سخريتهم، حتى قال بعض اليهود لأمير المؤمنين علیه السلام: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه، وهنا انبرى أمير المؤمنين علیه السلام كعادته للدفاع عن الإسلام قائلاً: «انّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: انكم قوم تجهلون» (3).

2 - مظلومية الزهراء علیها السلام:

انّ الحديث عن الزهراء علیها السلام ومظلوميتها وما جرى عليها بعد أبيها صلی الله علیه و آله و سلم، ذو شجون، و حقيق بالانسان الحرّ الذي أطلق عقله عن أسر التعصبات المذهبية أن يأسف على امّة سرعان ما نست وصايا رسولها بحق ابنته وأهل بيته بحيث تموت أم أبيها و حبيبة قلب المصطفى فاطمة الزهراء علیها السلام وهي في مقاطعة سياسية للسلطة الحاكمة آنذاك.

ص: 28


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 66.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 28
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 308

فقد ثبت في الصحيح انّ فاطمة علیها السلام وجدت على أبي بكر فهجرته ولم تكلّمه حتى توفيت (1) كما سنبيّن سببه لاحقاً.

فهل من المعقول انّ أشرف قبيلة في قريش وهم بنو هاشم، وأشرف بيت في بني هاشم وهم عترة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يقاطعون السلطة الفتية آنذاك، والتي يجب دعمها وتشييد مبانيها في تلك الظروف الحرجة، لا لشيء سوى الدنيا والصراع على المناصب، وهم هم في زهدهم وبعدهم عن الدنيا وزخارفها و نبذهم لها - كما هو ثابت عند الفريقين - ففاطمة تغضب على السلطة وتقاطعها، وعليّ يغضب على السلطة ولم يبايع وكذلك باقي البيوت الهاشمية، أليس هذا ينبئ عن شيء أخطر وأعمق ممّا يتصوره السذّج من الناس. فانتظر فسيوافيك بيانه في مسألة الإمامة و النص.

و نحن يكفينا في إدانة القوم، و اثبات مظلومية الزهراء علیه السلام، ما ذكرناه آنفاً من الثابت الصحيح عند أهل السنة من غضب الزهراء علیها السلام على القائمين بالأمر آنذاك، ونضيفك بياناً ما ورد من إقدام عمر بن الخطاب على تهديد بيت الوحي بالإحراق والهجوم عليه، وذلك ما رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة عن عمر بن الخطاب لما جاء بالحطب إلى دار فاطمة فقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص انّ فيها فاطمة فقال: وإن(2) .

ص: 29


1- صحيح البخاري 5: 82، وصحيح مسلم 5: 154.
2- الإمامة والسياسة 1: 19.

و ما رواه المنقري من كلام عمرو بن العاص لمعاوية لما منع الماء عن جيش علي علیه السلام فنهاه عمرو وقال له: وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول له: لو استمكنت من أربعين رجلاً فذكر أمراً. يعني لو انّ معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت، يعني بيت فاطمة(1).

ونقل الصفدي عن النظام - شيخ الجاحظ ومن كبار المعتزلة - انّه كان يقول: انّ عمر ضرب بطن فاطمة حتى ألقت المحسن من بطنها (2).

و أكّد هذا ندم أبي بكر عند وفاته على بعض ما صنعه، منها قوله: وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أغلقوه على حرب (3).

فهذه النصوص وغيرها تدلّ على الإقدام لإحراق البيت بجمع الحطب، و تدلّ على تفتيش البيت و الكشف عنه، وتدلّ على اسقاط المحسن، ظلامة ما فوقها ظلامة.

و إشارة إلى هذه الظلامات قال أمير المؤمنين علیه السلام عند دفن فاطمة الزهراء علیها السلام مخاطباً الرسول علیها السلام: «السلام عليك يا رسول الله عنّي و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك، ... انّا لله وانّا إليه راجعون، فلقد استرجعت الوديعة، وأُخذت الرهينة، أمّا حزني فسرمد، و أمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، و ستنبئك .

ص: 30


1- وقعة صفين: 163.
2- الوافي بالوفيات 6 15
3- تاريخ الطبري: 431، العقد الفريد لابن عبد ربه 4 267.

ابنتك بتظافر امتك على هضمها، فأحفها السؤال واستخبرها الحال هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر (1).

3 - فدك:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله. و ما أصنع بفدك و غير فدك و النفس مظانّها في غد جدث (2).

يدل هذا النص الشريف على عدّة أمور:

1 - قوله علیه السلام: بلى كانت في أيدينا فدك مما يدلّ على صحة دعوى الزهراء علیه السلام بانّ فدك لها، و يدل عليه ما رواه السيوطي عن البزار و أبي يعلى وابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري انّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (3) دعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاطمة فأعطاها فدك (4).

وجاءت علیها السلام على ذلك بشهود، ففي تاريخ المدينة لابن شبة أنّها قالت لأبي بكر: انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أعطاني فدكاً»، فقال لها: هل لك

ص: 31


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 202.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 45
3- الإسراء: 26
4- الدر المنثور:4 177، وانظر كنز العمال 3: 767

على ذلك بيّنة؟ فجاءت بعلي فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن فقالت: أليس تشهد انّي من أهل الجنة؟ قال: بلى قالت: فأشهد ان النبي صلی الله علیه و آله و سلم أعطاها فدكاً، فقال أبو بكر: فبرجل و امرأة تستحقينها أو تستحقين بها القضية (1).

ثم انّ للزهراء علیها السلام حقاً آخر منعت منه أيضاً، ألا أيضاً، ألا و هو إرثها من النبي صلی الله علیه و آله و سلم ممّا أفاء الله عليه و ممّا اصطفاه لنفسه و الذي دخل في ملكه منعت منه أيضاً استناداً إلى حديث نسبه أبو بكر إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم انّه قال: سمعت رسول الله يقول: «ما نورث ما تركنا صدقة انّما يأكل آل محمد من هذا المال» (2).

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: و قد مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وله ضياع كثيرة جليلة جداً بخيبر وفدك وبني النضير، وكان له وادي نخلة وضياع أخرى كثيرة بالطائف فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر (3).

وكان رسول الله الزهده في الدنيا يأخذ نفقته ونفقة عياله من هذه الأموال و يصرف الباقي في وجوه البر، كما قال عمر: «فما فضل عن نفقة أهله ردّها على فقراء المهاجرين (4) و هذا لا يعني انّه صلی الله علیه و آله و سلم تخلّى عن أمواله وجعلها صدقة وحكم بعدم ارث ذويه من تركته كما استغلّ.

ص: 32


1- تاريخ المدينة لابن شبة 1: 199.
2- صحيح البخاري:8 149
3- شرح النهج لابن أبي الحديد 15 147
4- فتح القدير للشوكاني 5: 199.

المتغلّبون ذلك و صوّروه بصورة رواية لم يسمعها عنه صلی الله علیه و آله و سلم غيرهم.

و هذا هو الذي أرسلت أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم عثمان لأبي بكر يسألنه ثُمنهنّ مما أفاء الله على رسوله، فردّتهنَّ عائشة محتجة بهذا الحديث (1)

فحديث لم تعلم به الزهراء علیه السلام العزيزة على أبيها، و كذلك الأزواج بما فيهنّ أم سلمة، وكذلك عليّ وغيره من بني هاشم والصحابة مع مخالفته لنص القرآن بالتوارث حتى بين الأنبياء علیهم، ثم علم به أبو بكر فقط - إذ الرواية تنحصر به - لا أدري من أين جاء؟! وكان الأحرى أن يخبرهم النبي صلی الله علیه و آله و سلم بأنّه لا يورث حتى لا يطلبوا باطلاً.

2 - فشحّت عليها نفوس قوم يشير الإمام علیه السلام بقوله هذا إلى انّ وراء هذا الظاهر المشاهد من انتساب حديث لم يروه أحد غير أبي بكر إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و التظاهر بالدفاع عن حقوق المستضعفين بانّ هذا المال حق لهم، يشير علیه السلام إلى انّ وراء كل هذا أمر آخر وهو انّ نفوساً طمعت في فدك وغيرها من تركة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لتبقى العترة الطاهرة محتاجة إلى السلطة من جهة، ومن جهة ثانية إطفاء الرصيد المالي لهم كي لا يستميلوا قلوب العشائر وغيرهم بالمال - بحسب زعمهم الدنيوي - وكي لا يتكرّر التاريخ مرّة ثانية، وتأتي أموال الزهراء علیها السلام لدعم موقف علي علیه السلام ونصرته على اعدائه ومناوئيه كما دعمت خديجة سلام الله عليها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمالها. 4

ص: 33


1- فتح القدير للشوكاني 5 24

ويؤيّده ما رواه الطبراني في المعجم الاوسط عن عمر قال: لما قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جئت أنا وأبو بكر إلى علي فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ قال: نحن أحق الناس برسول الله وبما ترك، قال: فقلت: والذي بخيبر؟ قال: والذي بخيبر قلت والذي بفدك؟ قال: والذي بفدك، قلت: أما و الله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا والعذرات (1).

و لذا لمّا أمن الخليفة الثاني من أمير المؤمنين علیه السلام، وعلم أنّه لا يشكل خطراً على السلطة بعد ردّ عليه تركة الرسول مما أفاء الله عليه وسهمه من خيبر، وذلك بعد سنتين من حكومته، يدلّ عليه قوله مخاطباً لعلي والعباس: فقبضتها سنتين من امارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وما عمل فيها أبو بكر ... فلما بدا لي أن أدفعه إليكما على انّ عليكما عهد الله و ميثاقه، فتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و بما عمل فيها أبو بكر وبما عملت فيها منذ وليتها (2).

هذه الرواية الصحيحة عند القوم تعطينا مؤشرات جميلة تدلّ على ما نقصده، فلماذا أبو بكر لم يأخذ العهود على عليّ والزهراء علیها السلام أن يعملا فيها بما كان يعمل بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رغم المطالبة من قبلهما واقامة الشهود والاستدلال بالآيات؟ ولماذا تنازل عمر و أعطاها لعلي علیه السلام والعباس. ولا أدري هل الأمر مجرد أهواء و آراء شخصية، 1

ص: 34


1- المعجم الأوسط للطبراني،5: 288 مجمع الزوائد للهيثمي 9: 40.
2- صحيح البخاري 4: 81

فتارة يبدو لهم فيحجبوا وتارة يبدو لهم فيمنحوا، أم هناك نصوص مزعومة اعتمدوا عليها؟!

ومع هذا فرواية صحيح مسلم المتضمنة لنفس الحدث - وهو مخاصمة علي و العباس عند عمر - تضيف عليه تصريح عمر بانّ علياً و العباس وسائر بني هاشم - لانّهما سادة بني هاشم و يمثلان رأي الجميع، لانّ بني هاشم لم تبايع الّا بعد مبايعة علي علیه السلام - كانا يعتقدان بعدم شرعية هذا العمل وأنّه ظلم واثم وخيانة، بل يعتقدان كذب المدعي في دعواه فقد قال عمر: فقال أبو بكر: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما نورث ما تركنا صدقة فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، و الله يعلم انّه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر و أنا ولي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ولي أبو بكر، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً، والله يعلم انّي لصادق بار راشد تابع للحق (1).

نحن نأخذ من هذا النص الصحيح عند القوم، اعتراف عمر بن الخطاب باعتقاد علي علیه السلام و عدم شرعية ما فعلاه، و ندع دعواه لنفسه ولأبي بكر بالصدق والرشاد، ونلتزم بما رووه عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» (2) فنحن نقتدي بعلي، وليقتد غيرنا بمن يجب. .

ص: 35


1- صحيح مسلم 5: 152.
2- الشفا للقاضي عياض 2 53، تفسير الرازي:2 5 الكشاف للزمخشري 2: 424، تحفة الاحوذي للمباركفوري 10: 155.

3 - وسخت عنها نفوس آخرين و نعم الحكم الله لما رأى أمير المؤمنين و الزهراء علیها السلام شدّة المؤامرة، تركا الأمر إذ لا حيلة سوى الشكوى إلى الله تعالى، و تبيين الحق مهما أمكن كي لا تخفى الحقيقة، وهذا ما اعترف به عمر نفسه كما ورد في صحاح القوم.

أما لماذا لم يسترجع أمير المؤمنين علیه السلام فدك لمّا آلت إليه الخلافة فأولاً أنه علیه السلام أصبح خليفة و بيده بيت المال فلاحاجة له بها ولا تسدّ شيئاً من نفقات الحكومة إذ لو كانت بيده لأوقفها للمسلمين كما أوقف سائر ضياعه و ممتلكاته، ولم يدخر لنفسه شيئاً، كما كان يحلف ويقول علیه السلام: فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ولا حزت من أرضها شبراً ... بلى كانت في أيدينا فدك ... وما أصنع بفدك وغير فدك و النفس مظانّها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها ... (1)

و ثانياً: جرى المسلمون على أنّها صدقة، وانّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لا يورث، وكان من أهمّ أسباب نقمة المسلمين على عثمان أنّه أقطع فدك لمروان قال ابن قتيبة في المعارف وكان مما نقموا على عثمان أنّه ... أقطع مروان فدك وهي صدقة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (2)

فكيف يرجعها أمير المؤمنين علیه السلام لنفسه ولأولاد فاطمة، والأعداء يتربصون به الدوائر وهو علیه السلام لم يتمكن من تصحيح البدع المحدثة آنذاك .

ص: 36


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 45.
2- المعارف: 195، وانظر تاريخ أبي الفداء 1: 168، والعقد الفريد 4: 283.

من صلاة التراويح والمنع عن المتعتين والتكتّف في الصلاة وغيرها، فكيف بهذه وهي حالة شخصية يكون الانسان في مظنّة التهمة، هذا ما لا يعمله المحنّك في السياسة، إذ كان هدف أمير المؤمنين علیه السلام الوحيد آنذاك تعبئة الأمة أمام الفتن الداخلية، فلذا ترى انّ جيشه كان يضمّ الخوارج، وقتلة عثمان والناقمين على القتلة، وضعفاء الإيمان، وغيرهم من شرائح الناس.

فقد ورد في نهج البلاغة انّ قوماً من الصحابة قالوا لأمير المؤمنين علیه السلام: لو عاقبت قوماً ممّن أجلب على عثمان فأجابهم علیه السلام بجواب مقنع، فمما قاله «و هل ترون موضعاً لقدرة على شيء تريدونه ... فاهدأوا عنّي وانظروا ماذا يأتيكم به أمري ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة وتسقط مُنّة، وتورث وهناً وذلة» (1).

ويقول علیه السلام في نص آخر «قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم متعمّدين خلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها، و إلى ما كانت في عهد رسول الله لتفرّقت عنّي جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض امامتي من كتاب الله عزوجل وسنّة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم» (2)

وثالثاً: قال الشيخ الطوسي @ في كتابه الاقتصاد: «وفي أصحابنا .

ص: 37


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 168.
2- الكافي: 58، البحار 34: 172.

من قال: انّ الخصم في فدك كانت فاطمة علیها السلام، و أوصلت إلى علی علیه السلام بأن لا يتكلّم فيها، لتكون هي المخاصمة يوم القيامة لما جرى بينها وبين من دفعها من الكلام المعروف، حتى قالت له سيجمعني وإياك يوم يكون فيه فصل الخطاب (1).

ورابعاً: ما قاله الإمام الكاظم علیه السلام عن سبب ذلك: «لانّا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممّن ظلمنا إلّا هو – يعني الله عز وجل – ونحن أولياء المؤمنين، انّما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممّن ظلمهم، ولا نأخذ لأنفسنا» (2).

ويدلّ عليه قول أمير المؤمنين الآنف الذكر حيث قال بعد ذكر طمع القوم في فدك: ونعم الحكم الله أي انّ الله تعالى هو الذي سيحكم فيها غداً.

4 - مساعدة السلطة:

كتب معاوية إلى أمير المؤمنين علیه السلام كتاباً يستنقصه، وممّا ذكره أمر بيعته لأبي بكر، فأجابه علیه السلام قائلاً: «وقلت انّي كنت أُقاد كما يُقاد الجمل المخشوش حتى ابايع، و لعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجتي إلى غيرك

ص: 38


1- الاقتصاد: 214
2- علل الشرائع للصدوق:1: 155، والبحار 29 396

قصدها، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها» (1).

وقال علیه السلام: فنظرت فإذا ليس لي معين ألّا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى و شربت على الشجي، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمرّ من طعم العلقم) (2)

تدلّ هذه النصوص على عدّة أمور:

1 - انّ أمير المؤمنين علیه السلام امتنع عن البيعة رغم ما لاقى من الأذى، وهو في مقامه ومكانته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و لا أدري لماذا هذه القسوة معه؟! لم لا يُترك كما تُرك سعد بن عبادة حينما امتنع عن البيعة؟ نعم كل ما جرى من ظلم وضغط وكبت على أمير المؤمنين علیه السلام، وعلى بيته الشريف و زوجته الطاهرة، انّما كان لأجل أخذ البيعة منه قسراً حتى يقولوا للناس انّ علياً بايع وتنازل عن حقه المخصوص به بنص الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وعلى أخذ الحجية والشرعية من مبايعته، وتمويه مسألة النص، وافراغ حديث الغدير وغيره من النصوص من محتواها الحقيقي في النص على عليّ علیه السلام.

و حديث عدم المبايعة ثابت في صحاح القوم، فقد ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم ان علياً علیه السلام لم يبايع إلى أن توفيت الزهراء علیها السلام.(3) 4.

ص: 39


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 62.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 6
3- صحيح البخاري 5 83، صحیح مسلم 5: 154.

2 - انّه علیه السلام واجه محاربة سياسية من قبل السلطة أدّت إلى تفرّق الناس من حوله، فلم يبق معه إلّا أهل بيته، حتى انّه علیه السلام استنكر وجوه الناس بعدما توفيت فاطمة الزهراء علیها السلام كما في البخاري ومسلم (1) ومعنى هذا انّ المسلمين تركوا مجالسته ومصاحبته وزيارته والسلام عليه سبحان الله!! أكلّ هذا لعليّ علیه السلام وهو هو، فأين حديث الغدير الثابت المتواتر؟ أليس زعموا انّه لا يدل على النص بل يدل على المحبة والنصرة؟ فأين هذه المحبة والنصرة؟.

وكان في ضمن مسلسل الانقلاب السياسي بث الدعاية ضدّ البيت العلوي، وكشاهد لذلك لمّا جاءه أبو سفيان و العباس ليبايعاه بالخلافة، أشار علیه السلام إلى الفتن المحدقة، وانّ الوقت لا يسمح بذلك، ثم قال: «فان أقل يقولوا حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت» (2) فجعلوه علیه السلام بين سندان الحرص ومطرقة الجزع، حيث لا ينفع سوى الصبر والورع.

3 - انّه علیه السلام بعدما رأى تهديد كيان الإسلام والخطر الحقيقي على بيضة الإسلام، انبرى للدفاع وساعد القوم بكل ما عنده، إذ هو القائل: ووالله لا سلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ

خاصة (3) 73

ص: 40


1- صحيح البخاري 5: 83، صحيح مسلم 5: 154.
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 5.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 73

3 - علي علیه السلام والإمامة

انّ الأساس الذي نعتمد عليه في فهمنا للكون والخلقة والرسالة،والإمامة، يعتمد على انّ الله تعالى خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض، ولهذا الإنسان حوائج معنوية ومادية معاً، وباشباعهما يصل الإنسان إلى أعلى المراتب ويتحقق هدف الخلقة. ومن أهمّ هذه الحوائج نيل السعادة في الدارين، ولا يخفى انّ الوصول إلى هذه السعادة صعب المنال، ويحتاج إلى برنامج واسع وشامل لجميع أبعاد الإنسان سواء المعنوية أم المادية، وسواء عرفها الإنسان وانتبه إليها أم لا.

ومن البديهي أن لا يتمكن أيّ شخص رسم هكذا برنامج شامل لنفسه أو لغيره، لأنّه فرع معرفته بجميع أبعاد وجود الإنسان وحوائجه، وما لم تشبع هذه الحوائج ولم تتحقق بصورة صحيحة لن يصل الإنسان إلى السعادة.

نعتقد انّ الدين والشرع الإلهي هو القادر على رسم هذا البرنامج الشامل، وهو المتكفّل لإيصال الإنسان إلى السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة، وهذا ما تحمّل أعباءه الأنبياء والرسل علیهم السلام.

ونعتقد أيضاً انّ الإمامة امتداد للنبوة، إذ انّ الشريعة الخاتمة بعد

ص: 41

رحيل خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم بحاجة إلى من يحافظ عليها ويدافع عنها، ويتكفل نشرها و التبليغ لها إلى قيام الساعة إذ لا نبوّة ولا شريعة بعد، وهذا ما أكّد عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الحين بعد الحين وفي مرّات عديدة،

وقال فيما قال: «انّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام في مواطن كثيرة، فقد قال علیه السلام: انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى فان لبدو فالبدو، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا» (1).

وقال لنا أيضاً: «ألا انّ مثل آل محمد كمثل نجوم السماء، إذا خوى نجم طلع نجم (2).

وقال علیه السلام: «نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدوّنا و مبغضنا ينتظر السطوة (3).

وقال علیه السلام: «نحن النمرقة الوسطى، بنا يلحق التالی وإليها يرجع الغالي»(4). .

ص: 42


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 96
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 99.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 108
4- المصدر نفسه، قصار الحكم 104.

هذا الأمر لم يكن مفهوماً للعرب و الصحابة حينذاك، بل كثير منهم فهم النبوة على أنّها ملك وامارة فضلاً عن الإمامة، وهذا ما ظهر على لسان أبي سفيان حيث قال للعباس بعدما فتح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مكة: «لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً» فرد عليه العباس قائلاً: «انّها النبوة وليس الملك يا أبا سفيان» (1).

ويؤيّده قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لبني عامر بن صعصعة لما عرض عليهم الدعوة، وطلبوا منه أن يكون الأمر لهم من بعده إن ساعدوه ونجحت الدعوة، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» (2)

هذا الفهم الخاطئ زائداً المؤامرات التي حيكت آنذاك، هو الذي حال دون فهم مسألة النص بالشكل الصحيح الذي كان يريده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وحتى حاول ترسيخ ذلك قبيل رحيله ولكن جوبه بقساوة

عليه وفظاظة، ونُسب إلى الهجر وغلبة الوجع والعياذ بالله.

انّ مسألة النص على الإمامة لم تكن بالهويني حتى يتخلّى عنها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد قال الله تعالى له: (ييَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (3)، و هذا ما بلّغه و أشار إليه في عشرات الموارد، آخرها حديث الغدير المتواتر الثابت. .

ص: 43


1- السيرة لابن هشام 34:4
2- البداية والنهاية لابن كثير 3 171.
3- المائدة: 67.

إذن كيف يكون موقف أمير المؤمنين علیه السلام حيال النص عليه بالإمامة؟! فهو من جهة حوصر مالياً فأخذت منه فدك و منع من إرث الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وتركته، ومن جهة ثانية حورب ببثّ الدعايات ضدّه حتى انّه استنكر وجوه الناس (1)، وقال علیه السلام: فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى، وشربت على الشجي، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمرَ من طعم العلقم (2) حيث يدل النص على أنّهم كانوا على مظنة القتل.

ويقول في مكان آخر، ويصوّر الإعلام المسموم ضده آنذاك: فإن أقل يقولوا حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت» (3).

و مع ذلك فانّه علیه السلام لم يسكت عن الطلب بالإمامة – كما سنذكر - ولكن لكل مقام مقال، ولكل زمان وَضْعه الخاص، فربما الاصرار على شيء وإن كان حقاً أعطى عكس النتيجة إذ انَ المشروع الإلهي جاء للنجاح لا للفشل وجاء للحياة لا للموت، كما نرى في سيرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم انّه تدرّج في دعوته واغتنم الفرص، فحارب تارة وهادن أخرى، وقتل تارة وعفى في أخرى بحسب المصلحة.

و كذلك أمير المؤمنين علیه السلام لم يكن ساكتاً عن الطلب بحقه، فتارة 5

ص: 44


1- حيح البخاري 5: 83، صحيح مسلم 5: 154.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 26.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 5

كان يظهر أحقيّته ويقول علیه السلام: «فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ منذ قبض الله تعالى نبيه صلی الله علیه و آله و سلم حتى يوم الناس هذا (1)، وقال علیه السلام في جواب من اتهمه بالحرص على الملك: «انما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه ... اللهم أنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم فانّهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ...»(2)، و قال علیه السلام: «لقد علمتم أنّي أحق بها من غيري ...» (3).

وقال علیه السلام وهو يذكر قريشاً: «وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري (4)، وقال علیه السلام: «فلما مضى صلی الله علیه و آله و سلم تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي انّ العرب تزعج هذا الأم الأمر من بعده عن أهل بيته ولا أنّهم منحّوه عنّي من بعده (5)، وقال علیه السلام: لنا حق فان اعطيناه وإلّا ركبنا أعجاز الابل وإن طال السرى (6).

و قال علیه السلام - على ما ورد في صحاح القوم - : «كنا نرى لنا في هذا .

ص: 45


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 6
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 172.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 73.
4- المصدر نفسه الخطبة رقم: 172.
5- المصدر نفسه الكتاب رقم 61.
6- المصدر نفسه، قصار الحكم: 18.

الأمر نصيباً فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا (1)، قاله علیه السلام قبل أن يبايع ممّا يدلّل على تضجّره ممّا حدث، طبعاً هذا ما وصل الينا عنهم القوم، بعد تمحيصه وغربلته واضافة ما يروقهم على أصل الحدث من قبيل قوله علیه السلام لأبي بكر - في نفس الرواية - : «انّا عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله اليك» و هذا لم يصدر عن أمير المؤمنين علیه السلام قطعاً، وإلّا لو كان يعتقد انّ الله تعالى هو الذي أعطاه هذا المنصب، فلماذا تأخّر عن البيعة ستة أشهر، ولماذا استعمل كلمة: «الاستبداد بالأمر» ولماذا وجد في نفسه من ذلك؟!

وتارة أخرى كان علیه السلام يصرّح بمسألة الوصاية والوراثة والوزارة فيقول: لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد هم أساس الدين وعماد اليقين ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة» (2).

وقال علیه السلام: «فياعجباً وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبيّ، ولا يقتدون بعمل وصي (3)، وقال علیه السلام: «انّ الأئمة من قريش غُرسوا في هذا البطن من،هاشم لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم (4) 44

ص: 46


1- صحيح البخاري 5: 83، صحيح مسلم 5: 155.
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 2.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 87
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 144

وقال علیه السلام عن لسان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في قضية بدء نزول الوحي: انّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا انّك لست بنيّ ولكنّك وزير» (1)، وقال علیه السلام في الخطبة الشقشقية: «أرى تراثي نهباً» (2).

وأخرى يقول علیه السلام: فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق ... فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن امّي (3).

ورابعة يظهر انّه ظُلم في هذا الأمر، ويقول لمعاوية لما عيّره بانّه كان يجرّ كالجمل المخشوش لأخذ البيعة: وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه» (4).

وخامسة يعرّض بانحراف الناس آنذاك ويقول وهو خليفة المسلمين و قد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة، كنتم فيها عندي غير محمودين» (5).

وسادسة يحتج علیه السلام بقربه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ويقول لما سئل: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال علیه السلام: «أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون بالرسول .

ص: 47


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 3.
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 36.
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 28
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 178.

نوطاً، فانّها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين (1)، وقال علیه السلام: ولقد قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وانّ رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي، ولقد ولّيت غسله و الملائكة،أعواني فضجّت الدار و الأفنية ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه حتى و اريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً (2)، ويقول: ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلجوا عليهم، فان يكن الفلج به فالحق لنا دونكم وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم (3)

وسابعة يذكر الانقلاب السياسي الذي حدث عقيب رحلة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و يقول: «حتى إذا قبض الله رسوله صلی الله علیه و آله و سلم رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، و هجروا السبب الذي امروا بمودته ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه» (4).

و أخيراً يعلّق علیه السلام على مؤتمر السقيفة و يقول: «أما و الله لقد تقمّصها فلان وانّه ليعلم انّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا، ينحدر 50

ص: 48


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 162.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 197
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 28.
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 150

عنّي السيل ولا يرقى اليّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً ...»(1).

وقال علیه السلام لما انتهت إليه أخبار السقيفة: ما قالت الأنصار؟ قالوا:قالت: منّا أمير ومنكم أمير، قال علیه السلام: فهلا احتججتم عليهم بان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وصى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال علیه السلام: «لو كانت الامارة فيهم لم تكن الوصية بهم ثم قال فماذا قالت قریش؟ قالوا: احتجت بانّها شجرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، فقال علیه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (2)

وقال علیه السلام: «واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة وروي له شعر في هذا المعنى وهو:

فان كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غیّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي وأقرب (3) .

ص: 49


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 3.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 66
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 180.

فهذه أساليب مطالبة الإمام علیه السلام بحقه، وإظهار تضجّره عمّا مضى والتصريح أو التعريض بمسألة الإمامة، وقد أدلى بها بحسب الظروف وما تفرضه المصلحة.

ومجرد هذه المطالبة - مع زهده الشديد في الدنيا وما يتعلق بها، وعدم رغبته فيها كما سيأتي بيانه - لخير دليل على وجود نص والزام بالنسبة له من قبل النبي صلی الله علیه و آله و سلم وإلّا لألقى حبلها على غاربها، ولسقى آخرها بكأس أوّلها، فهو علیه السلام طالب بالحق تارة بعمله و سلوكه حينما تأخّر عن البيعة لستة أشهر - كما في الصحاح - وتارة أخرى بكلامه كما مضى، ولو وجد ذوي عزم لكان له مع القوم شأن آخر.

فسلوك أمير المؤمنين علیه السلام حجة لنا، إذ انّه ميزان الحق، وإمام مفترض الطاعة ومعصوم عندنا، وأما عند أهل السنة فهو رابع الخلفاء الراشدين الذين يجب الاهتداء بهديهم وسنتهم، وهو من الصحابة الذين قال فيهم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم وهو الذي مودته إيمان وبغضه نفاق (1)، وهو المتوسّم بوسام: من كنت مولاه فعلي مولاه وهو من العترة الذين أمرنا بالتمسك بهم كي لا نضلّ، وهو وهو ... إذاً تصريحه بالنص حجة كما سكوته لظروف تحيط به حجة أيضاً، ولا يدلّ سكوته عن النص في فترة على عدم وجوده. .

ص: 50


1- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب 33 ح 131.

وهو علیه السلام يشير إلى هذا الأمر بطرف خفيّ في جواب العباس وأبي سفيان لما جاءا ليبايعاه بعد رحيل نبي الأمة صلی الله علیه و آله و سلم، فقال لهما: «ماء آجن، ولقمة يغصّ بها آكلها ومجتني الثمرة لغير وقت ايناعها كالزارع بغير أرضه» (1) و قال علیه السلام في مكان آخر: انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فان لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا» (2). .

ص: 51


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 5.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 96.

4 - علي العلم والخلفاء

1 - أبو بكر:

عاش أمير المؤمنين علیه السلام منذ رحيل الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في ظروف قاسية ومحنة شديدة، فمن جهة كان عليه الاجهار بالنص والمطالبة بالحق، ومن جهة ثانية رأى انّ راجعة الناس قد رجعت وانّ النص ترك، وانّ وصايا الرسول بالعترة والآل نبذت: فدك تؤخذ بيت الرسالة يهدّد عليّ يقاد للبيعة و ...، ومن جهة ثالثة يرى نشاط المنافقين لمحق الدين، زائداً تربص الكفار من خارج القطر الإسلامي، هذه المناظر كلها بمرأى و مسمع أمير المؤمنين علیه السلام، وهنا لابدّ من اتخاذ القرار الصحيح.

وكان من جملة ما اتخذه علیه السلام المقاطعة ورفض البيعة والمشاركة أوّلاً، يدلّ عليه جواب أمير المؤمنين لمعاوية لمّا عيّره بعدم المبايعة: وقلت: انّي كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى ابايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ...» (1).

ص: 52


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 28.

وقال علیه السلام: فما راعني الّا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي ...). (1)

و هذه المقاطعة أدّت إلى تخلّف الناس عنه حتى بقي علیه السلام وحده، كما قال: فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمرّ من طعم العلقم» (2)، ويقول أيضاً في الخطبة الشقشقية: فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها المؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت انّ الصبر على هاتا أحجي، فصبرت و في العين قذى، وفي الحلق شجا» (3).

هذه المقاطعة من علي و البيت الهاشمي وهم ساسة العباد، زائداً عدم قدرة القوم على ضبط الأمور بحنكة و كفاءة، أدّت إلى استغلال الوضع من قبل الكفار من خارج القطر الإسلامي، والمنافقين من داخله، فهنا نهض أمير المؤمنين علیه السلام للحفاظ على بيضة الإسلام كما قال علیه السلام: حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون .

ص: 53


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 62.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 26
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 3.

إلى محق دين محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي انّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه» (1).

وذلك لانّه علیه السلام كان أحرص على حفظ الإسلام وحفظ المسلمين من التمزق من غيره، كما كتب علیه السلام لأبي موسى موسى الأشعري: «وليس رجل - فاعلم – أحرص على جماعة امة محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأُلفتها منّي، أبتغي بذلك حسن الثواب و كرم المآب وسأفي بالذي وأيت على نفسي (2).

2 - عمر بن الخطاب:

كانت فترة خلافة أبي بكر قصيرة وقد عهد إلى عمر رغم اعتراض بعض الصحابة، فكان الأمر على أمير المؤمنين علیه السلام أشد وأصعب، وهو يصف تلك البرهة بقوله: فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلْمها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم، فمُني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلوّن واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدّة

ص: 54


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 62.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم: 78

المحنة» (1).

هذه الأوصاف يصدّقها التاريخ، أما بالنسبة إلى غلظة عمر وفضاضته، فقبل إسلامه ما صدر منه من إيذاء المسلمين حتى يتركوا دينهم، كما فعل باخته وختنه حيث أدمى رأسه لإسلامه (2)، وكما ضرب جارية حتى ملّ من ضربها (3).

وقالت أم عبد الله بنت أبي حثمة في حقه: كنّا نلقى منه البلاء أذى وشدة علينا، حتى أنّها وزوجها كانا قد أيسا من إسلامه لقسوته وغلظته على أهل الإسلام (4)

أما بعد اسلامه وفي زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم ما حدث منه في صلح الحديبية من المحاولة لنقض مصالحة النبي صلی الله علیه و آله و سلم حيث صرّح هو وقال: «فعملت في ذلك أعمالاً - يعني في نقض الصحيفة - »(5) وما صدر من ضرب أبي هريرة حتى خرّ لاسته (6)، وما صدر من شنيع قوله عند مرض النبي صلی الله علیه و آله و سلم واتهامه بغلبة الوجع والهجر – والعياذ .

ص: 55


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 3.
2- اُسد الغابة 5: 519
3- السيرة لابن هشام 1: 211
4- المصدر نفسه 1: 229، الكامل في التاريخ 2: 84
5- ابن حبان 11 224
6- صحيح مسلم 1: 44.

بالله - (1)

أما بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فما صدر منه من التهديد لمن قال بموته صلی الله علیه و آله و سلم، وقد قال ابن أبي الحديد: وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر و رقم المخالفين فيها، فكسر سيف الزبير لما جرّده، ودفع في صدر المقداد، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة، وقال: اقتلوا سعداً قتل الله سعداً، وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة علیها السلام من الهاشميين وأخرجهم منها (2) وقال أيضاً: وأول من ضرب عمر بالدرة امّ فروة بنت أبي قحافة، مات أبو بكر فناح النساء عليه وفيهنّ أم فروة، فنهاهنّ عمر مراراً وهنّ يعاودن، فأخرج اُم فروة من بينهنّ وعلاها بالدرّة، فهربن و تفرّقن (3) حتى كان يقال: درّة عمر أهيب من سيف .

ص: 56


1- ربما يقال: انّ الذي ذكره عمر لم يكن فيه نسبة الهجر إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، والثابت في الصحاح غيره، كما ورد في الصحاح من استعمال كلمة «قالوا» [راجع البخاري 4: 66، ومسلم 5: 75، 76] ولكن أقول: هذا دفاع عليل إذ أولاً مفاد الجملتين واحد و ثانياً يكفينا تصحيح ابن تيمية لاتهام عمر النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالهجر، فقد قال في مقام الدفاع عنه و لهذا قال ما له أهجر [منهاج السنة 6: 24] وقال في مكان آخر: «فلما كان يوم الخميس همّ أن يكتب كتاباً، فقال عمر: ماله أهجر» [المصدر نفسه 6: 315].
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 174.
3- المصدر نفسه 1: 181.

الحجاج (1).

وقال الأوزاعي: بلغني انّ عمر سمع صوت بكاء في بيت، فدخل معه غيره فأمال عليهم ضرباً حتى بلغ النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، فعدل الرجل فقال: اضرب فانّها نائحة ولا حرمة لها ...» (2) ورأى عمر ناساً يتبعون اُبيّ بن كعب، فرفع عليه الدرة فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله قال: فما هذه الجموع خلفك يابن كعب، أما علمت انّها فتنة للمتبوع، مذلّة للتابع (3).

هذا بالنسبة إلى غلظته أما بالنسبة إلى سائر الأمور، فقد قال ابن أبي الحديد: «وكان عمر يفتي كثيراً بالحكم ثم ينقضه ويفتي بضده وخلافه، قضى في الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة» (4).

وقال أيضاً: «روى مالك عن نافع عن ابن عمر: انّ عمر تعلّم سورة البقرة في اثنتي عشر سنة، فلما ختمها نحر جزوراً» (5) وهكذا قوله: كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال و قوله: لولا علي لهلك عمر في مسائل كثيرة أخطأ فيها أو احتار في حلّها فالتجأ إلى أمير المؤمنين علیه السلام .

ص: 57


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 181.
2- تاريخ المدينة لابن شبة:3 799، وشرح النهج لابن أبي الحديد:12: 68
3- شرح النهج لابن أبي الحديد 12: 68.
4- المصدر نفسه 1: 181.
5- المصدر نفسه 12: 66.

ومن تلك المسائل ما جاء في نهج البلاغة من أنّه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته، فقال قوم: لو أخذته فجهّزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي، فهمّ عمر بذلك وسأل عنه أمير المؤمنين علیه السلام فقال: «انّ القرآن اُنزل على النبي صلی الله علیه و آله و سلم و الأموال أربعة: أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض، والفيء فقسّمه على مستحقيه، والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه الله على حاله، ولم يتركه نسياناً ولم يخف عليه مكاناً، فأقره حيث أقره الله و رسوله فقال له عمر: لولاك لافتضحنا، وترك بحاله (1)

و أشار علیه السلام على عمر بعدم الخروج إلى حرب الروم، لعلمه علیه السلام بسابقة الرجل في الحروب في عهد النبي صلی الله علیه و آله و سلم، لذا قال له: «انّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم (2)

وفي حادثة ثانية عندما تجهز الفرس لحرب المسلمين و كانوا كثيرين نهى أيضاً أمير المؤمنين علیه السلام عمر عن الخروج و قال له: «إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة وهو دين الله الّذي أظهره .

ص: 58


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 261.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 134.

وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعودٍ من الله والله منجزٌ وعده، وناصرٌ جنده.

ومكان القيّم بالأمر مكان النّظام من الخرز يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النّظام تفرّق،وذهب، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون،بالإسلام، عزيزون بالاجتماع! فكن قطباً، و استدر الرّحا بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك، وطمعهم فيك.

فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنّا نقاتل بالنّصر والمعونة!» (1).

وهذا النص الشريف يفيد عدّة أمور:

1- إدلاء النصيحة من قبل أمير المؤمنين علیه السلام كانت للحفاظ على بيضة الإسلام، ولا تدلّ على صلات وديّة كما انّه علیه السلام ساعد عثمان كثيراً، مع ما كان بينهما من تباعد بيّن. .

ص: 59


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 146.

2 - يظهر من رواية الشيخ المفيد @ للحدث في كتاب الإرشاد (1) ان عمر لما سمع استعداد الفرس للهجوم على المسلمين فزع فزعاً شديداً واحتار في أمره فاستشار الصحابة فأشار عليه أمير المؤمنين علیه السلام بالبقاء وعدم الخروج، فطمأنه وصبّره وأذهب روعته، وذكر له بانّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة، وانّ الله تعالى أقدر على تغيير ما يريد.

3 - كان هناك خطر آخر يحيط بالاسلام، وهو الأعداء و المنافقون من داخل القطر الإسلامي، فلذا قال له: فانّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى تكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك.

4 - أما الأوصاف التي وردت في كلامه علیه السلام من قبيل: ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز ... هي أوصاف عامة للحاكم الذي يدير أمور البلاد براً كان أو فاجراً ولا تدل على مدح أو ذمّ أو أيّ شيء آخر، وهي كما قال علیه السلام: «لابدّ للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في امرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر ...» (2). فهذه وتلك أوصاف للدور السياسي والاجتماعي الذي يقوم به الحاكم أياً من كان، كما ذكر هو علیه السلام عن نفسه لما طلب منه المسلمون الخروج للقتال في زمن 0.

ص: 60


1- الإرشاد 1: 209
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 40.

خلافته: «انّما أنا قطب الرحا تدور عليّ وأنا بمكاني فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثفالها (1) فالمراد بقوله: «أنا قطب الرحا» الأنا العرفي أي الحاكم أياً من كان سواء أكانت له أهلية الحكم أم لم تكن.

أما ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام من ابتلاء الناس في زمن عمر بن الخطاب بخبط وشماس وتلون واعتراض فهو أمر صحيح، حتى انّ الناس تعبوا في اخريات خلافته وبدأوا بالتفكر في البديل، ولما وصلت أخبار هؤلاء الجماعة إلى عمر - وهو في موسم الحج - غضب غضباً شديداً بحيث أراد أن يخطب الناس في نفس المكان ويحذّرهم ويتوعدهم، فقد جاء في صحيح البخاري انّ عبد الرحمن قال لعمر وهو في الموسم آخر حجة حجها: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة فتمت فغضب عمر ثم قال: انّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ... فلا يغترنّ امرؤ أن يقول انّما كانت بيعة أبي بكر فلتة و تمت ألا وأنّها قد كانت كذلك و لكن وقى الله شرها ... من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّه أن يقتلا (2). 5

ص: 61


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 118
2- صحيح البخاري 8 25

فانّ هذا النص فيه مداليل كثيرة تصوّر لنا حالة الناس آنذاك، منها وجود معارضة - عدا البيت الهاشمي - ومنها انّ لهؤلاء عمل وتنظيم ووسائل اعلام بحيث أزعجت الخليفة، وأراد أن يتكلّم في نفس الموسم لولا انّ عبد الرحمن نهاه عن ذلك، فأجّل خطبته إلى المدينة وذكر فيها أخبار السقيفة وما حصل ممّا يدلّل على تشابه الموقف من حيث الفوضى، والّا فأيّ فائدة في ذكر أخبار مضت عليها أعوام، ومنها بدء تفكر الخليفة بمسألة الشورى إلى غيرها من المداليل.

و أخيراً يبقى الجدال قائماً حول ما نسب إلى أمير المؤمنين علیه السلام من قوله في نهج البلاغة: لله بلاد فلان فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وخلّف الفتنة، ذهب نقيّ الثوب قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرّها، أدّى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعّبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي» (1).

وهنا وقع الخلاف بين الشرّاح في المعني بهذا الكلام، فذهب ابن أبي الحديد إلى أنّه أراد به عمر بن الخطاب ومال ابن ميثم إلى إرادة أبي بكر، وقال الراوندي أنّه أراد به بعض أصحابه كمالك الأشتر، وذهب المحقق التستري إلى انّه كلام موضوع على أمير المؤمنين علیه السلام، إذ أنّنا لا نعتقد بصحة جميع ما هو بين دفتي نهج البلاغة، وليس لنا كتاب صحيح من أوله إلى آخره إلّا القرآن و الباقي يخضع لموازين النقد والبحث. 7

ص: 62


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 227

أما المصادر التي روت الحدث ففيها اختلاف، وفي بعضها انّ هذا الكلام قول نائحة عمر، حيث قال السلام في آخره: و الله ما قالت ولكن قوّلت ممّا يدلّل على وجود ضغط وكبت سياسي آنذاك حتى على نائحة عمر، والّا فهو موضوع على لسان الإمام علیه السلام قطعاً، فكيف يقول الإمام انّ عمر أو أبو بكر «أقام السنة» وقد رفض علیه السلام الخلافة لما سيقت إليه يوم الشورى، ولم يقبلها للاشتراط عليه بالعمل بسيرة الشيخين وسنتهما؟! فلو أقاماها بالنحو الصحيح لقبل علیه السلام ذلك وصار هو الخليفة الثالث مكان عثمان، هذا عدا جانب الضعف السندي.

وكذلك ما نُسب إليه علیه السلام من قوله: «فوليهم وال فأقام و استقام حتى ضرب الدين بجرانه حيث زعموا انّ المشار إليه هو عمر بن الخطاب، فنقول أولاً: انّ الخطبة الشقشقية أقوى سنداً من هذا الكلام وقد أشار علیه السلام هناك إلى ابتلاء الناس في تلك الفترة بالتلوّن والخبط والشدّة، فكيف يقول هنا: أقام واستقام وضرب الدين بجرانه مع كثرة أخطائه الفقهية و السياسية؟ وثانياً: لو سلّمنا الصحة فانّ الفخر والمدح في الاستقامة الحاصلة آنذاك كانت لأمير المؤمنين علیه السلام حيث لم يأل جهداً في تصحيح الأخطاء، و الدفاع عن حوزة الدين.

3 - عثمان بن عفان:

أما عثمان فقد تسلّم دفة الحكم نتيجة صراع سياسي قبلي بين أهل الشورى - عدا أمير المؤمنين علیه السلام - الذين انتخبهم عمر بن الخطاب

ص: 63

ليختاروا من بينهم إماماً وحاكماً للناس، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام: حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم في الله و للشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنّني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ (1).

طبعاً كانت النتيجة معلومة لأمير المؤمنين علیه السلام من قبل، فقد قال لعمّه العباس: عُدل بالأمر عنّي يا عم، قال: وما علمك؟ قال: «قُرن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر، فان رضي رجلان رجلاً و رجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئاً» (2).

وكان كما تفرّس أمير المؤمنين علیه السلام حيث أنتجت مهزلة الشورى خلافة عثمان، وأبو طلحة الأنصاري واقف مع خمسين رجلاً من الأنصار يحملون سيوفهم ليضربوا عنق من يخالف(3)، وأمير المؤمنين علیه السلام يناشد القوم بفضائله وسابقته، ولكن هل من مجيب؟!

قال أمير المؤمنين علیه السلام في ذلك إلى أن قام ثالث القوم نافجاً .

ص: 64


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 3.
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 191.
3- المصدر نفسه 1: 187، تاريخ الطبري 3: 294.

حضنيه بين نثيله و معتلفه، وقام معه بنوا أبيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته» (1).

كانت فترة حكومة عثمان فترة عصيبة، يصفها أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: «انّه قد كان على الامة وال أحدث أحداثاً، وأوجد الناس مقالاً، فقالوا ثم نقموا فغيّروا (2)

ويقول أيضاً و هو يمدح أهل مصر: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه، وذُهب بحقه، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر، والمقيم والظاعن، فلا معروف يُستراح إليه، ولا منكر يتناهى عنه (3).

ويشرح لنا ابن أبي الحديد أسباب نقمة الناس على عثمان ويقول: أنّه أوطأ بني أمية رقاب الناس، وولاهم الولايات، وأقطعهم القطائع وافتتحت افريقية في أيامه، فأخذ الخمس كلّه فوهبه المروان ... وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صِلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم.

و أعاد الحكَم بن أبي العاص بعد أن كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد سيّره ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر وأعطاه مائة ألف درهم وتصدّق رسول 8

ص: 65


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 3.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 43.
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 38

الله صلی الله علیه و آله و سلم بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم. وأقطع مروان فدَك وقد كانت فاطمة علیها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارةً

بالميراث، وتارة بالنحلة فدفعت عنها.

وحمى المراعي حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلا عن بني أمية. وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقية بالمغرب؛ وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال، وقد كان زوّجه ابنته أم أبان فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان وبكى فقال عثمان: أتبكي أن وصلتُ رحمي! قال: لا، و لكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً، فقال: ألقِ المفاتيح يا بن أرقم؛ فإنّا سنجد غيرك.

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسّمها كلّها في بني أمية، وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه.

وانضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون، كتسيير

ص: 66

أبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة؛ وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود، وردّ المظالم، وكفّ الأيدي العادية والانتصاب لسياسة الرعيّة، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين» (1).

هذه الأمور أدّت إلى سخط الناس عليه فكتب مَنْ بالمدينة من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى مَن بالآفاق منهم، وكانوا قد تفرقوا في الثغور: انّكم خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل تطلبون دين محمد فان دين محمد قد اُفسد من خلفكم و ترك، فهلمّوا فأقيموا دين محمد فأقبلوا من كل افق حتى قتلوه (2).

و كان في مقدمة هؤلاء المعترضين طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة، قال أمير المؤمنين علیه السلام: «أما بعد فانّي أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه انّ الناس طعنوا عليه فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر استعتابه و أقل عتابه وكان طلحة والزبير أهون سيرهما إليه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف وكان من عائشة فيه فلتة غضب، فاتيح له قوم فقتلوه» (3). .

ص: 67


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 198.
2- تاريخ الطبري 3: 400.
3- نهج البلاغة الكتاب رقم: 1.

وقال علیه السلام أيضاً في قتل عثمان: «لو أمرت به لكنت قائلاً، أو نهيت عنه لكنت ناصراً غير انّ من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير منّي، وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، و لله حكم واقع في المستأثر و الجازع» (1).

و كان موقف أمير المؤمنين علیه السلام تجاه عثمان يتلخّص ضمن النقاط التالیة:

1 - المناصحة، و ذلك لما اجتمع الناس إليه علیه السلام و شكوا ما نقموه على عثمان و سألوه مخاطبته واستعتابه لهم، فدخل علیه السلام على عثمان وقال له: «انّ الناس ورائي، وقد استسفروني بينك وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلّك على أمرٍ لا تعرفه إنّك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شيءٍ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيءٍ فنبلّغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، و صحبت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب بأولى بعمل عليه الحقّ منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و شيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا.

فالله الله في نفسك! فإنّك - والله - ما تبصّر من عمىّ، ولا تعلّم من جهلٍ، وإنّ الطّرق لواضحة، وإنّ أعلام الدّين لقائمة. فاعلم أنّ أفضل .

ص: 68


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 30.

عبادالله عند الله إمام عادل هدي وهدى فأقام سنّةً معلومةً، و أمات بدعةً مجهولةً، وإنّ السّنن لنيّرة لها أعلام، وإنّ البدع ظاهرة لها أعلام وإنّ شرّ النّاس عند الله إمام جائر ضلّ وضلّ به، فأمات سنّةً مأخوذةً، وأحيا بدعةً متروكةً. و إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنّم، فيدور فيها كما تدور الرّحى، ثمّ يرتبط في قعرها.

وإِنِّي أنشدك الله أن تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة، و يلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكوننّ لمروان سيّقةً يسوقك حيث شاء بعد جلال السّنّ و تقضّي العمر.

فقال له عثمان: كلّم النّاس في أن يؤجّلوني حتّى أخرج إليهم من مظالمهم، فقال علیه السلام: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، و ما غاب فأجله وصول أمرك إليه» (1)

وكتب إلى معاوية في أمر عثمان: «فان كان ذنبي إليه ارشادي وهدايتي له فرب ملوم لا ذنب له» (2).

2- الدفاع عنه، قال علیه السلام لابن عباس لما أرسله عثمان إليه وهو .

ص: 69


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 164.
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 28.

محصور في بيته: «يا بن عباس، ما يريد عثمان إلّا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب أقبل وأدبر بعث اليّ أن أخرج ثم بعث اليّ أن أقدم، ثم هو الآن يبعث اليّ أن أخرج والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً» (1).

و كتب علیه السلام في جواب معاوية: ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه، أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه (2).

3 - المعاتبة والسخط، قال علیه السلام في كتاب كتبه إلى أهل الكوفة: فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر استعتابه، وأقل عتابه (3) وكتب في جواب معاوية: وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثاً (4).

4 - التبرء من دمه، قال علیه السلام: «لو أمرت به لكنت قائلاً، أو نهيت عنه لكنت ناصراً، غير انّ من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير منّي، وأنا جامع لكم أمره: استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع ولله حكم 8

ص: 70


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 240
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 28
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 1
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 28

واقع في المستأثر والجازع» (1).

نعم هذه كانت مواقف أمير المؤمنين علیه السلام النبيلة تجاه عثمان وأحداثه، ولكن ما جزاء عليّ علیه السلام من عثمان أمام كل هذه؟! فانظر إلى ما رواه الزبير بن بكار وابك ألماً، فقد روى عن رجاله عن علي علیه السلام انّه قال:

أرسل اليّ عثمان في الهاجرة، فتقنّعت بثوبي وأتيته، فدخلت عليه وهو على سريره وفي يده قضيب وبين يديه مال دثر: صبرتان من ورق وذهب فقال: دونك خذ من هذا ما تملأ بطنك فقد أحرقتني فقلت: وصلتك،رحم إن كان هذا المال ورثته أو أعطاكه معط أو اكتسبته من تجارة كنت أحد رجلين: إما آخذ و أشكر أو أوفّر وأجْهَد وإن كان من مال الله وفيه حق المسلمين واليتيم وابن السبيل فوالله مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه، فقال أبيت والله الّا ما أبيت، ثمّ قام اليّ بالقضيب فضربني والله ما أردّ يده حتى قضى حاجته، فتقنعت بثوبي ورجعت إلى منزلي (2)..

ص: 71


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 30
2- شرح النهج لابن أبي الحديد 9: 16.

5 - علي علیه السلام و الخلافة

1 - البيعة

بعد تلك السنوات العجاف، تطلّع الناس إلى من ينجيهم من الوضع المأساوي الذي حصل جرّاء خلافة المتقدمين، فاتجهوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام، طبعاً لا بمعنى انّه إمام مفترض الطاعة منصوص عليه من قبل النبي صلی الله علیه و آله و سلم، بل اتجهوا إليه لتديّنه وعدله وزهده وما كان يمتلكه من صفات فذّة افتقدها غيره، وهو علیه السلام يشير إلى هذا الأمر ويقول: «انّي اريدكم الله، وأنتم تريدونني لأنفسكم (1) أي ليس ثمة اعتراف بالتقصير، ولا اعتراف بالنص، بل حاجة نفسية دعتهم إلى الاتجاه نحوه علیه السلام.

وقد وصف أمير المؤمنين علیه السلام اقبال الناس إليه وشوقهم لمبايعته وقال: فما راعني إلّا والناس إليّ كعرف الضبع ينثالون عليّ من كل جانب، حتى لقد وُطئ الحسنان، وشقّ عِطافي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (2) وقال علیه السلام: «ثم تداككتم عليّ تداك الابل الهيم على حياضها يوم ورودها،

ص: 72


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 136.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 3.

حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، و وطئ الضعيف، وبلغ سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت اليها الكعاب (1). وقال علیه السلام: «فأقبلتم اليّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها، تقولون البيعة البيعة ... (2).

نعم هكذا كان إقبال الناس على أمير المؤمنين علیه السلام، وفي كل هذا لم نسمع عن النص والإمامة الإلهية شيئاً، ومع كل هذا فهو علیه السلام يمتنع ويقول: دعوني والتمسوا غيري.. وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً (3) ويقول: قبضت كفّي فبسطتموها ونازعتكم يدي فجاذبتموها»(4) ويقول: «والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية اربة (5) ويقول: وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها (6).

السبب في رفض الخلافة:

و هنا سؤال يطرح نفسه بجدّ، و كثيراً ما قرأناه في كتب أهل السنة، و سمعناه من أفواههم، وهو انّ أمير الؤمنين علیه السلام لماذا امتنع عن قبول 8

ص: 73


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 228
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 137.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 91.
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 137
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 205
6- المصدر نفسه الخطبة رقم: 228

البيعة إلى أن اُجبر عليها؟! ونقول في الجواب:

1 - انّ الأكثرية - كما قلنا - ما اتجهت إلى طلب البيعة بعنوان - الإمامة الإلهية، بل أرادوا بيعته بعنوان أنّه خليفة، حاله حال سائر الخلفاء الذين بايعوهم فبيعتهم أنّما كانت بيعة دنيوية سياسية، ولم تكن كبيعتهم لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على أنّه نبي مرسل من قبل الله تعالى، فهنا أيضاً لم تكن البيعة لكونه وصيّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخليفته، يؤيّده ما قاله علیه السلام لهم: «انّي أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم» (1).

2 - انّ الزمان قد تغيّر، واختلط الحلال بالحرام، ممّا يصعب معالجته إلّا بعد أجيال، وهو يعلم علیه السلام انّ الامة لا تطيق ذلك، كما أشار إليه بقوله: «دعوني والتمسوا غيري فانّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وانّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكّرت واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم اُصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتمونه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً (2).

3 - أنّه علیه السلام كان يعلم بانّ المترفين سيعارضون خلافته، فأراد أن يتمّ الحجة عليهم باقبال معظم الناس عليه، ويسدّ عليهم باب الاعتراض، ولذا 1

ص: 74


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 136
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 91

كان يقول علیه السلام: لم تكن بيعتكم إياي فلتة (1) و هذا ما تحقق بالفعل فاعترض عليه معاوية و أجابه علیه السلام بقوله: «انّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد، و انّما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فان اجتمعوا على رجل و سمّوه إماماً كان ذلك لله رضى ...» (2).

فهو علیه السلام يعرّض أولاً ببيعة أبي بكر التي كانت فلتة من دون مشورة، وقد قبلها معاوية وأذعن إليها، فلماذا يتمرّد هنا؟ و ثانياً يقول له: انّك قبلت بشورى عمر بن الخطاب، وقد غاب عنها كل المسلمين سوى الستة الذين انتخبهم عمر بن الخطاب، فهناك أيضاً قبلت بالحكم ولم تعترض! وثالثاً انّ خروجك عليّ وعدم الاذعان الخلافتي خروج عن الامة الإسلامية وشق عصاها واعلان الحرب معها.

فهذا النص لا يدل على اقرار مسألة الاختيار في الخلافة من قبل الإمام، بل هو أمر احتجاجي جدلي أورده الإمام علیه السلام لدحض شبه معاوية، ولا علاقة له بمسألة الإمامة الإلهية الثابتة بالأدلة العقلية والنقلية، كما هو مشروح في كتب الكلام.

و بنفس الجواب أجاب علیه السلام طلحة والزبير لما خرجا عليه، فكتب إليهما: «أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أنّي لم أرد الناس حتى .

ص: 75


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 139.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 6.

أرادوني، و لم أبايعهم حتى بايعوني وانكما ممّن أرادني وبايعني (1)

4 - ان الإمامة عندنا - معاشر الشيعة - نيابة وخلافة عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في جميع المراتب سوى تلقي الوحي، و الزعامة السياسية أحد أركان الإمامة، و هذا الركن وإن كان ثابتاً للإمام بالنص الإلهي غير انّ تحققه و تفعيله على أرض الواقع منوط بشرائط مختلفة، إذا اجتمعت كلها وجب على الإمام التصدّي وإلّا فلا، فتفعيل الزعامة السياسية وتطبيقها على أرض الواقع - كما فعل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في أخذ البيعة الأولى في العقبة - أو تركها والتخلّي عنها لظروف خاصة، و قد مرّ ذكر بعضها – كما فعل أمير المؤمنين علیه السلام - لا يضرّ بثبوتها الإلهي بل هو أمر منوط - تشخيصه واتخاذ الموقف تجاهه – بالإمام علیه السلام.

ولذا قال علیه السلام بعد مرحلة النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى الملأ الأعلى لعمه العباس وأبي سفيان لما جاءا للبيعة معه: ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت ايناعها كالزارع بغير أرضه» (2)، ذاك الموقف كان صحيحاً لقلة الناصر، و هذا الموقف أيضاً صحيح للأسباب التي مرّت، ولكنّه علیه السلام وافق على البيعة لانّ الحجة تمّت، والأسباب الظاهرية تهيّأت، والأبواب قد فتحت وعليه تم القبول من قبله علیه السلام إذ هو القائل: (وما أردت إلّا الإصلاح ما استطعت، و ما توفيقي إلّا بالله 5

ص: 76


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 54.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 5

عليه توكلت (1).

وقال علیه السلام: «اللهم انّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك ... وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الجائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنة فيهلك الامة» (2)

وقال علیه السلام: «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (3).

انّ الإمام علیه السلام - كما قال - كان يريدهم لله تعالى، و لتحقيق الإمامة الإلهية على الأرض، ولكنّهم كانوا يريدونه لأنفسهم ولاصلاح أمورهم الدنيوية، وبايعوه على هذا الأساس وهذه الإمارة بهذا الفهم .

ص: 77


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 28
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 131.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 3.

الدنيوي لا قيمة لها عند علي علیه السلام، لذا قال لعبد الله بن عباس لما كان يخصف نعله: «ما قيمة هذا النعل؟ قال: فقلت: لا قيمة لها، قال: والله لهي أحبّ إليّ من امرتكم الّا أن اُقيم حقاً أو أدفع باطلاً» (1)، فعلي علیه السلام يعبّر عنها بقوله: أمرتكم أي انّ هذا الشأن الدنيوي الذي طلبتموني إليه لا قيمة له عندي إلّا ....

ولهذا السبب نفسه ردّ على الخوارج بقوله: انّه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الأجل، ويُجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويُستراح من فاجر (2) فالكلام هنا عن الإمرة الدنيوية لا الإمامة الإلهية، وبين المقامين فرق فتأمّل.

2 - تحليل نفسية المجتمع:

قبل أن نبدأ بتحليل نفسية المجتمع عند تصدي أمير المؤمنين علیه السلام الحكم، نتذكّر ونسترجع وصف مجتمع الصحابة عند حضور النبي صلی الله علیه و آله و سلم كما ورد في الذكر الحكيم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (3). وقال تعالى أيضاً:

ص: 78


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 33
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 40
3- آل عمران: 110

(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (1)، ثم نتساءل عن سبب تراجع الامة عمّا كانت عليه.

والجواب واضح من قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (2)، ويؤيده ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام: حتى إذا قبض رسوله علیه السلام رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي امروا بمودته ونقلوا البناء على رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه

(3)

نعم، هذا هو السبب الرئيسي لتخلّف الأمة، لأنّه إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان (4)، وكما قال علیه السلام: فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة وعند عدم صلاحهم وعدم قيامهم بواجبهم ينتج منه ما ذكره علیه السلام من قوله: «ظهرت معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطّل، ولا لعظيم باطل فعل (5). 16

ص: 79


1- البقرة: 143
2- آل عمران 144
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 150
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 31
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 216

وفي عهده علیه السلام للأشتر يصرّح ويقول بكل وضوح: «انّ هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى، وتُطلب به الدنيا»(1) و قال علیه السلام: «وكانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر، و إليكم ترجع فمكّنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات» (2).

وقد تغيّر الناس بالفعل عند تسلّم أمير المؤمنين علیه السلام دفة الحكم، وهو علیه السلام يشرح نفسيّة المجتمع آنذاك و يشير إلى عدّة نقاط:

منها تفشّي الفساد، قال علیه السلام: «أيها الناس انّا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن شديد يُعدّ فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتوّاً، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عمّا جهلنا، ولا نتخوّف قارعة حتى تحلّ بنا» (3)، وقال علیه السلام: «قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أوان قويت عدّته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلّا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً أو متمرداً كانّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً، أين خياركم وصلحاؤكم؟ أين أحراركم وسمحاؤكم؟ أين المتورّعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم؟ أليس قد ظعنوا 32

ص: 80


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 53
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 105
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 32

جميعاً عن هذه الدنيا الدنية والعاجلة المنغَصة، وهل خُلّفتم الّا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان استصغاراً لقدرهم وذهاباً عن ذكرهم؟ فانّا لله وانا إليه راجعون ظهر الفساد فلا منكر مغيّر، ولا زاجر مزدجر (1) وقال علیه السلام: واعلموا رحمكم الله انّكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل و اللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان مصطلحون على الادهان فتاهم عارم، و شائبهم آثم، وعالمهم منافق، وقارئهم ممازق، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم، ولا يعول غنيّهم فقيرهم (2).

ومنها حب الدنيا، قال علیه السلام: قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود، وحلالها بعيداً غير موجود، وصادفتموها والله ظلاً ممدوداً إلى أجل معدود، فالأرض لكم شاغرة، وأيديكم فيها مبسوطة» (3)، وقال علیه السلام: قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة ... ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه، ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبيّن ذلك في وجوهكم، وقلة صبركم عمّا زوي منها عنكم كانها دار مقامكم 04

ص: 81


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 129
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 232
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 104

وكأنّ متاعها باق عليكم» (1)، وقال علیه السلام: «انّ الناس قد تغيّر كثير منهم عن كثير من حظّهم، فمالوا مع الدنيا، ونطقوا بالهوى (2).

ومنها الغدر، قال علیه السلام: ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة» (3)، وقال علیه السلام: «مازلت أنتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسّمكم بحلية المغترين (4)

و منها الغفلة، قال علیه السلام: ولكنكم نسيتم ما ذُكّرتم، وأمنتم ما حُذّرتم فتاه عنكم رأيكم، وتشتّت عليكم أمركم (5).

ومنها خلط الحق والباطل، قال علیه السلام: «لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق» (6)

و منها التهاون في أمر الدين قال علیه السلام: «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون (7)، وقال علیه السلام: قد تصافيتم على رفض الآجل و حب العاجل، وصار دين أحدكم لُعقة .

ص: 82


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 112.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 78
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 41.
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 4.
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 115.
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم 68
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 105.

على لسانه صنيع من قد فرغ من عمله وأحرز رضى سيده (1).

ومنها اضاعة الطريق، قال علیه السلام: «انّ الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكّرت (2)، وقال علیه السلام: مالي أراكم أشباحاً بلا أرواح، وأرواحاً بلا أشباح، ونسّاكاً بلا صلاح وتجاراً بلا أرباح، وأيقاضاً نوماً، وشهوداً غيّباً، وناظرة عمياً، وسامعة صماً، وناطقة بكماً (3).

ومنها الغرور والكبر والاعتداد بالنفس، قال علیه السلام: «فيا عجباً ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفّون عن عيب، يعملون في الشبهات، و يسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و أسباب محكمات» (4).

نعم هذه نفسية المجتمع آنذاك و هي التي أولدت حرب الجمل و صفّين و النهروان، راح ضحيتها عشرات الآلاف، وهذا هو الداء العضال الذي أقلق أمير المؤمنين علیه السلام و أسهر لياليه وهو القائل: «وقد 7

ص: 83


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 112
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 91
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 107
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 87

قلّبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم، فما وجدتني يسعني إلّا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلی الله علیه و آله و سلم (1)، حقّاً أنّه لموقف عصيب، يحتاج إلى إيمان وبصيرة عالية، وليس لهذه الفتن إلّا أمير المؤمنين علىّ، كما قال علیه السلام: «أما بعد أيها الناس فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها واشتد كلبها (2)

3 - وصف المسلمين آنذاك:

انّ الصفة الغالبة على خطب أمير المؤمنين علیه السلام وكتبه وقصار حكمه في نهج البلاغة، التبرّم من المسلمين الذين بايعوه، وبثّ الشكوى منهم لتمزّقهم وخذلانهم، وهذا ما التبس أمره على بعض إخواننا من أهل السنة فزعم انّ أمير المؤمنين علیه السلام يذم شيعته، ونقول في الجواب:

أولاً: أنّه علیه السلام لم يقصد بذلك شيعته الخلّص الذين قال في حقهم: أنتم الأنصار على الحق والإخوان في الدين و الجنن يوم البأس، و البطانة دون الناس بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل، فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب» (3)، وقال لما هجم أصحاب الجمل على البصرة: ووثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم صبراً

ص: 84


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 53
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 92
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 117

وطائفة عضّوا على أسيافهم، فضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين (1).

وقال علیه السلام: «أين اخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق، أين عمار و أين ابن التيهان و أين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، واُبرد برؤوسهم إلى الفجرة ... أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه و تدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة، وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه» (2).

فهؤلاء هم شيعة علي الخلّص أمثال عمار وابن التيهان، وذي الشهادتين، وهاشم بن عتبة و محمد بن أبي بكر، وكميل، ومالك الأشتر، وغيرهم من أمثالهم فكم ترى كان في جيش علي علیه السلام مثلهم؟! وهل تزعم انّ أمير المؤمنين ذمّ هؤلاء؟

و ثانياً: انّ جيش أمير المؤمنين علیه السلام كان يضمّ شرائح مختلفة، وطبقات من الناس متنوعة، فكان فيهم المؤمن و المنافق ومرضى القلوب و الخوارج و أنصار عثمان و قتلة عثمان وغيرهم، وكشاهد على ذلك لما قال له قوم من أصحابه: لو عاقبت قوماً ممن أجلب على عثمان، فقال علیه السلام لهم: «انّ الناس من هذا الأمر إذا حرّك على امور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى 82

ص: 85


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 217
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 182

ما لا ترون و فرقة لا ترى لا هذا ولا هذا (1).

فجيش علي علیه السلام كان يضمّ هذه الطوائف المختلفة التي بايعته كما بايعت من كان قبله وهم ليسوا شيعة بالمعنى الاصطلاحي.

و ثالثاً: انّ الذم لم يكن مطلقاً وعلى نحو القضية الحقيقية، بل جاء الذم و التبرم بعد التخاذل و التمزق وترك الطاعة، يدل عليه قوله علیه السلام: «أيها الناس انّه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب» (2).

ولما كانوا يظهروا التجلد والاستقامة يمدحهم، كما قال في بعض أيام صفّين: «لقد شفى و حاوح صدري أن رأيتكم بآخرة تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم حسّاً بالنصال وشجراً بالرماح تركب اولاهم أخراهم كالابل الهيم المطرودة، تُرمى عن حياضها، وتذاد عن مواردها (3)

وكتب إلى أهل البصرة بعدما فتحها وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم ما يجزي العاملين بطاعته، والشاكرين لنعمه، فقد سمعتم وأطعتم ودعيتم فأجبتم» (4).

ص: 86


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 168
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 208
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 106 4 - المصدر نفسه الكتاب رقم: 2
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 2

ورابعاً: انّه علیه السلام كان يرى انّ هذا التخاذل سيؤدي إلى انكسار جيش الإسلام، وسيؤدي بتبعه إلى تغيير معالم الدين من قبل الطلقاء و أبناء الطلقاء الذين آمنوا رهبة و خوفاً، و ستذهب كل تلك الجهود التي بذلها علیه السلام لنصرة الإسلام وتنازل عن حقوقه الحقة، وتجرع الغصص و الآلام، ستذهب كل هذه الجهود سدى، و هذا ما صرّح به علیه السلام وقال: ولكنّني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها، فيتخذوا مال الله دولاً، و عباده خولاً، و الصالحين حرباً، و الفاسقين حزباً، فانّ منهم الذي شرب فيكم الحرام، و جُلد حداً في الإسلام، و انّ منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ، فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، وجمعكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم (1)، وقال علیه السلام: «واعلموا انكم إن اتبعتم الداعي لكم، سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤونة الاعتساف ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق (2).

وخامساً: انّ البعض منهم تأثّر بدعايات معاوية المسمومة ضد أمير المؤمنين علیه السلام لالقاء الفتنة - كما سنشير إليها – وعلى سبيل المثال اتهامه بالكذب، والذي اضطر أمير المؤمنين علیه السلام أن يدافع عن نفسه و يقول لأهل العراق: ولقد بلغني انكم تقولون عليّ يكذب، قاتلكم 66

ص: 87


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 62
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 166

الله فعلى من أكذب أعلى الله فأنا أوّل من آمن به أم على نبيه فأنا أوّل من صدّقه» (1)

هذا عدا بذل الأموال لشراء النفوس و الضمائر، كما بدأ بعض الأفراد يتسلّل إلى معاوية و يلتحق به بحيث أصبح ظاهرة، ممّا اضطر أمير المؤمنين علیه السلام أن يكتب إلى عامله على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري: «أما بعد فقد بلغني انّ رجالاً ممن قبلك يتسلّلون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم و يذهب عنك من مددهم فكفى لهم غياً ولك منهم شافياً فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل و انّما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون إليها، قد عرفوا العدل و رأوه، و سمعوه و وعوه، و علموا انّ الناس عندنا في الحق اسوة فهربوا إلى الاثرة، فبعداً لهم وسحقاً أنّهم والله لم ينفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل ...» (2).

* * *

أما الآن فلنذكر ما ورد من ألفاظ الذم والتحريض في كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وهي تتسم بسمات مختلفة نوجزها فيما يلي: 0

ص: 88


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 70
2- المصدر نفسه الخطبة رقم: 70

1 - الغدر، قال علیه السلام: «ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر وأتوسّمكم بحلية المغترين (1)

2 - البخل، قال علیه السلام: «فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها (2)

3 - اتهامه علیه السلام بالكذب، قال علیه السلام: «أما بعد يا أهل العراق فانّما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلمّا أتمّت أملصت ومات قيّمها، وطال تأيّمها، وورثها أبعدها، أما و الله ما أتيتكم اختياراً ولكن جئت إليكم سوقاً ولقد بلغني انّكم تقولون عليّ يكذب، قاتلكم الله فعلى من أكذب، أعلى الله فأنا أول من آمن به أم على نبيّه فأنا أوّل من صدّقه» (3)

4 - الاغترار بالدنيا، قال علیه السلام: «قد اصطلحتم على الغلّ فيما بينكم و نبت المرعى على دمنكم و تصافيتم على حب الآمال و تعاديتم في كسب الأموال، لقد استهام بكم الخبيث، وتاه بكم الغرور، و الله المستعان على نفسي ونفسكم» (4).

5 - ترك الحق، قال علیه السلام: «أيّها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر 33

ص: 89


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 4
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 116
3- المصدر نفسه الخطبة رقم: 70
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 133

الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليضعفنّ لكم التيه من بعدي اضعافاً بما خلّفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد» (1).

6 - الخذلان والتذبذب، قال علیه السلام بعدما علم باستيلاء أصحاب معاوية على اليمن: انبئت بسراً قد اطلع اليمن، وانّي والله لأظنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم و تفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم امامكم في الحق، و طاعتهم امامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته ... اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء. (2)

وقال علیه السلام: ألا وانّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسرّاً واعلاناً، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلّا ذلّوا فتواكلتم و تخاذلتم حتى شُنّت عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان ... فيا عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرّقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى يغار عليكم ولا تغيرون 25

ص: 90


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 166
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 25

وتُغزون ولا تَغزون ويعصى الله و ترضون فإذا أمرتكم بالسير اليهم في أيام الحر قلتم هذه حمّارة القيظ أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ، وإذا أمرتكم بالسير اليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القُرّ، أمهلنا ينسلخ عنّا البرد،

كل هذا فراراً من الحرّ و القرّ، فإذا كنتم من الحرّ و القُرّ تفرّون فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباه الرجال ولا رجال حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندماً وأعقبت سدماً، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، و جرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان ...» (1).

و قال علیه السلام: «أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصّمّ الصَّلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس كيت و كيت فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد! ما عزّت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم أعاليل بأضاليل؛ دفاع ذي الدين المطول. لا يمنع الضّيم الدليل، ولا يدرك الحقّ إلا بالجدّ؛ أيّ دار بعد داركم تمنعون، ومع أيّ إمام بعدي تقاتلون المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسّهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدوّ بكم، ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم 27

ص: 91


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 27

رجال أمثالكم، أقولاً بغير علم و غفلة من غير ورع و طمعاً في غير حقّ!» (1)

و قال علیه السلام: «أفّ لكم! لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة عوضاً! وبالذلّ من العزّ خلفاً! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم؛ كأنّكم من الموت في غمرة، و من الذّهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتعمهون فكأنّ قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون. ما أنتم لي بثقة سجيس اللّيالي وما أنتم بركن يمال بكم، ولا زوافر عزّ يفتقر إليكم ما أنتم إلّا كابل ضلّ رعاتها، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر. لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غلب و الله المتخاذلون! وايم الله إنّي لأظنّ بكم أن لو حمس الوغى، واستحرّ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرّاس» (2).

و قال علیه السلام: منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، و لا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم! ما تنتظرون بنصركم ربّكم! أما دين يجمعكم، ولا حميّة تُحمشكم! أقوم فيكم مستصرخاً، وأناديكم متغوّثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الامور عن عواقب المساءة، 34

ص: 92


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 29
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 34

فما يدرك بكم ثار، ولا يبلغ بكم مرام دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر، ثمّ خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف؛ كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون» (1).

وقال علیه السلام: كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، والثّياب المتداعية! كلّما حيصت من جانب تهتّكت من آخر كلّما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ رجل منكم بابه و انجحر النجحار الضّبّة في جحرها، والضّبع في وجارها الذّليل والله من نصر تموه؛ ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. إنّكم والله لكثير في الباحات قليل تحت الرّايات، وإنّي لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم ولكنّي والله لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع الله خدودكم، وأتعس جدودكم! لاتعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ!). (2)

وقال علیه السلام: «أما والذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، ولكن لاسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقّي. ولقد أصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي. استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا ودعوتكم سرّاً وجهراً فلم تستجيبوا، .

ص: 93


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 39.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 68.

ونصحت لكم فلم تقبلوا شهود كغيّاب وعبيد كأرباب! أتلوا عليكم الحكم فتنفرون منها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، وأحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا، ترجعون إلى مجالسكم و تتخادعون عن مواعظكم أقوّمكم غدوة، وترجعون إليّ عشيّة، كظهر الحنيّة عجز المقوّم، وأعضل المقوّم.

أيّها الشّاهدة أبدانهم الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددت والله أنّ معاوية صارفني بكم

صرف الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم!

يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث واثنتين: صمّ ذو و أسماع، وبكم ذووكلام، وعمي ذو و أبصار، لا أحرار صدق عند اللّقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء! تربت أيديكم! يا أشباه الابل غاب عنها رعاتها! كلّما جمعت من جانب تفرّقت من،آخر والله لكأنّي بكم فيما إخال لو حمس الوغى، وحمي الضّراب، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها، وإنّي لعلى بيّنة من ربّي، ومنهاج من نبيّي، وإنّي لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطاً» (1).

وقال علیه السلام: «ما أنتم بوثيقة يُعلق بها، ولا زوافر عزّ يعتصم اليها، لبئس حُشاش نار الحرب أنتم أفٍ لكم لقد لقيت منكم برحاً، يوماً .

ص: 94


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 96.

اناديكم ويوماً أناجيكم، فلا أحرار صدق عند النداء، و لا اخوان ثقة عند النجاء» (1).

وقال علیه السلام: «أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظاركم على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد، هيهات أن اُطلع بكم سرار العدل، أو اقيم اعوجاج الحق» (2).

وقال علیه السلام: أحمد الله على ما قضى من أمر، وقدّر من فعل، وعلى ابتلائي بكم أيّتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب، إن اُمهلتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقّة نكصتم لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بنصركم والجهاد على حقّكم! الموت أو الذّلّ لكم! فوالله لئن جاء يومي - وليأتينّي - ليفرّقنّ بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قال وبكم غير كثير.

لله أنتم! أما دين يجمعكم! ولا محميّة تشحذكم! أوليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطّغام فيتّبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم - وأنتم تريكة الإسلام وبقيّة النّاس - إلى المعونة أو طائفة من العطاء، فتتفرّقون عنّي وتختلفون عليّ! إنّه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه (3). .

ص: 95


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 125.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 131
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 180.

وقال علیه السلام: وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا لله أنتم أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل (1).

وكتب علیه السلام الى ابن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر بمصر: «وقد كنت حثثت الناس على الحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم سرّاً وجهراً وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي كارهاً، ومنهم المعتلّ كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً، أسأل الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجاً عاجلاً، فوالله لولا طمعي عند لقائي عدوّي في الشهادة، وتوطيني نفسي على المنية لأحببت ألّا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً، ولا ألتقي بهم أبداً» (2).

وقال علیه السلام: «إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وأنّني اليوم لأشكو حيف رعيّتي، كأنّي المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة» (3).

4 - سيرته علیه السلام الحكومية:

تتلخّص ملامح سيرة أمير المؤمنين علیه السلام الحكومية كما يلي:

1 - العمل بالشريعة وتبليغ مهام الرسالة، قال علیه السلام: «ألم أعمل

ص: 96


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 182
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 35
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 252

فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي (1)

وقال علیه السلام: والله ما أسمعكم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم شيئاً الّا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم بالأمس، ولا شقّت لهم الأبصار، ولا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الأوان الّا وقد أعطيتم مثلها في هذا الزمان، ووالله ما بُصّرتم بعدهم شيئاً جهلوه، ولا أصفيتم به وحرموه (2).

وقال علیه السلام: ولكم علينا العمل بكتاب الله، وسيرة رسوله، والقيام بحقّه و النعش لسنته (3).

وقال علیه السلام: «أيها الناس، أنّي قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ بها الأنبياء اممهم، وأدّيت اليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم (4)

2 - متابعة الحق، قال علیه السلام: «أقمت لكم على سنن الحق في جواد المظلّة، حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون و لا تميهون» (5). .

ص: 97


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 86.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 88
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 169
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 182.
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 4.

وقال علیه السلام: «لم يكن لأحد فيّ مهمز، ولا لقائل فيّ مغمز، الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه» (1).

3 - التدرّج في الأمور، و ذلك - كما قلنا – للتنوع الفكري و العقائدي والسياسي الكبير الذي كان يسود المجتمع الاسلامي آنذاك، مما اضطر أمير المؤمنين علیه السلام إلى أخذ سياسة التدرج في سلوكه الحكومي، فهو علیه السلام لم تتم بيعته بعد ولم تستحكم حتى جاءه قوم من المسلمين وقالوا له: لو عاقبت قوماً ممن أجلب على عثمان فأجابهم علیه السلام بجواب اقناعي و قال في آخره: «فاصبروا حتى يهدأ الناس و تقع القلوب مواقعها، و تؤخذ الحقوق مسمحة فاهدأوا عنّي، و انظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة، وتسقط مُنّة، وتورث وهناً وذلّة، وسأمسك الأمور ما استمسكت، وإذا لم أجد بُداً فآخر الدواء الكيّ» (2).

وقال علیه السلام: «فان ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحق على محضه» (3).

وقال علیه السلام: لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيّرت أشياء» (4). .

ص: 98


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 37
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 168.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 162.
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 263.

فهو علیه السلام لم يكن متعنتاً برأيه حفاظاً على وحدة الامة ورعاية لمصلحة الدين، وتوحيداً للصف أمام العدو، ولذا كان يستشير ويقول:

فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل (1)

4 - التآلف ونبذ الفرقة، قال علیه السلام: «وليس رجل – فاعلم – أحرص على جماعة امة محمد صلی الله علیه و آله و سلم والفتها منّي، أبتغي بذلك حسن الثواب وكرم المآب، وسافي بالذي وأيت على نفسي (2).

5 - العفو والصفح وحسن السيرة، قال علیه السلام: «ولقد أحسنت جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم وأعتقتكم من ربق الذل، وحلق الضيم، شكراً منّي للبرّ القليل، وإطراقاً عمّا أدركه البصر، و شهده البدن من المنكر الكثير» (3).

و قال علیه السلام لأهل البصرة: «وقد كان من انتشار حبلكم و شقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن مجرمكم، و رفعت السيف عن مدبركم، و قبلت مقبلكم» (4).

ولما قال له بعض الخوارج قاتله الله كافراً ما أفقهه همّ قوم من أصحابه أن يقتلوه، فنهاهم وقال: رويداً، انّما هو سب بسب أو عفو .

ص: 99


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 216.
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 78
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 159
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 29.

عن ذنب»(1).

وقال علیه السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: «إن أبق فأنا وليّ وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة، فاعفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم (2).

6 - العدل وترك الظلم، قال علیه السلام: «انّي لعالم بما يصلحكم ويقيم أو دكم، ولكنّي والله لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي» (3)

وقال علیه السلام: «أيها الناس أعينوني على أنفسكم، وايم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً» (4)

وقال علیه السلام في تعامله بالعدل والانصاف حتى مع نفسه القدسية: «أيها الناس انّي والله ما أحثّكم على طاعة الّا و أسبقكم اليها، ولا أنهاكم عن معصية الّا وأتناهى قبلكم عنها» (5)

وقال علیه السلام: والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، أو أجرّ في الأغلال مصفّداً، أحب اليّ من أن ألقى الله و رسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس 75

ص: 100


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 408.
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 23
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 68.
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 136.
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 175

يُسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها ... والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته» (1)

وكان علیه السلام يكتب إلى عماله حينما يمرّ بالجيش من مدنهم ويوصيهم بالجيش خيراً و يقول: «وأنا بين أظهر الجيش، فارفعوا اليّ مظالمكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه الّا بالله وبي، اُغيره بمعونة الله إن شاء الله» (2).

وفي عهده علیه السلام لمالك الأشتر: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك خاصّة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فانّك الّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم، فانّ الله سميع دعوة المظلومين، وهو للظالمين بالمرصاد» (3).

7 - ترك الغدر والخيانة، قال علیه السلام: «لقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحوّل القُلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله 3.

ص: 101


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 223
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 60
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53.

ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»(1).

وقال علیه السلام: «وما معاوية بأدهى منّي ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» (2).

وفي عهده علیه السلام للأشتر: وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة، أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة، واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فانّه ليس من فرائض الله عزوجل شيء الناس أشدّ عليه اجتماعاً، مع تفريق أهوائهم وتشتيت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمتك ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوّك» (3).

طبعاً هذا فيما لو التزم العدوّ بالوفاء أيضاً، والّا كما قال علیه السلام: «الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، و الغدر بأهل الغدر وفاء عند الله» (4).

8 - الاصلاح، قال علیه السلام وهو يدعو: «اللهم أيّما عبد من عبادك .

ص: 102


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 41.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 200.
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53.
4- المصدر نفسه، قصار الحكم: 250.

سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين و الدنيا غير المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلّا النكوص عن نصرتك والإبطاء عن اعزاز دينك، فانّا نستشهدك عليه ...» (1)

وقال علیه السلام: و ما أردت إلّا الاصلاح ما استطعت ... (2).

وقال علیه السلام: «اللهم انّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام

المعطّلة من حدودك» (3).

9 - التواضع، قال علیه السلام: «انّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظنّ بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أنّي اُحب الإطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت اُحبّ أن يُقال ذلك لتركته المحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة و الكبرياء، و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله واليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من امضائها، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي 31

ص: 103


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 212
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 28
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 131

بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس اعظام لنفسي، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ... (1).

وقال علیه السلام لما مرّ بدهاقين الأنبار فمشوا بين يديه وترجلوا: «ما هذا الذي صنعتموه؟» فقالوا: خلق منّا نعظّم به امراءنا، فقال علیه السلام: «والله ما ينتفع بهذا امراؤكم وانّكم لتشقّون به على أنفسكم في دنياكم وتشقون به في آخر تكم ...» (2).

و قال علیه السلام لحرب بن شرحبيل الشبامي من وجوه الشباميين لما مشى خلفه وهو علیه السلام راكب: «ارجع فانّ مشي مثلك مثلي فتنة للوالي، ومذلة للمؤمن» (3).

10 - الزهد، قال علیه السلام: ألا وانّ امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ... فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منها اتان دبرة ...) (4).

11 - المواساة، قال علیه السلام: ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى 5

ص: 104


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 216
2- المصدر نفسه، قصار الحكم 33
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 313
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 45

هذا العسل و لباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً

وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اسوة لهم في جشوبة العيش ... (1).

12 - المساواة في التعامل، كتب علیه السلام لسهل بن حنيف واليه على المدينة لما تسلّل بعض أهلها إلى معاوية: وعلموا انّ الناس عندنا في الحق اسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعداً لهم وسحقاً (2).

وكتب علیه السلام لمحمد بن أبي بكر: فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة و النظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم (3).

13 - عدم تولية الفاسقين و الفجار، كتب علیه السلام إلى معاوية وحاش لله أن تلي للمسلمين بعدي صدراً أو ورداً، أو أجري لك على .

ص: 105


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 45.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم: 70.
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 27.

أحدٍ منهم عقداً أو عهداً» (1).

وكتب علیه السلام إلى المنذر بن الجارود وقد عزله بعد خيانته: «ومن كان

بصفتك فليس بأهل أن يُسدّ به ثغر أو يُنفذ به أمر، أو يُعلى له قدر، أو يُشرك في أمانة، أو يؤمن على خيانة (2).

و في كتابه إلى معاوية أيضاً: و أما طلبك اليّ الشام، فانّي لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس (3).

14 - الهداية إلى الكمال، قال علیه السلام لأهل البصرة: «فان أطعتموني فانّي حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة، وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة (4).

15 - تفقّد أحوال الأمراء ومراقبتهم كتب علیه السلام إلى ابن عباس وهو عامله على البصرة: وقد بلغني تنمّرك لبني تميم وغلظتك عليهم، وانّ بني تميم لم يغب لهم نجم الّا طلع لهم آخر، وانّهم لم يُسبقوا بوغم في

جاهلية ولا اسلام ... (5)

وكتب إلى بعض عماله: «أما بعد، فانّ دهاقين أهل بلدك شكوا 8

ص: 106


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 65
2- المصدر نفسه الكتاب رقم: 71
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 17
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 156
5- المصدر نفسه الكتاب رقم: 18

منك غلظة وقسوة، واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم، ولا أن يُقصوا ويُحفوا لعهدهم ...» (1)

وكتب أيضاً إلى زياد بن أبيه: و انّي اقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني انّك خُنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر. (2)

وكتب إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: «أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني انّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت انّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ» (3).

5 - سيرته علیه السلام المالية

كانت معالم سيرة أمير المؤمنين عليه السلام المالية تعتمد على الركائز التالیة:

1 - رعاية العدل، قال علیه السلام بالنسبة إلى قطائع عثمان: «والله لو وجدته قد تزوّج به النساء، ومُلك به الاماء لرددته، فانّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (4)

ص: 107


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 19.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم: 20
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 45
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 15

وقال علیه السلام لبعض شيعته لما طلب منه مالاً: «انّ هذا المال ليس لي ولا لك، وانّما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم، فان شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، والّا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم» (1).

وقد تجسّد هذا العدل المالي في وصاياه إلى من يستعمله على الخراج، فقد كتب اليهم: انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروّعنّ مسلماً، ولا تجتازنّ عليه كارهاً ولا تأخذنّ منه أكثر من حقّ الله في ماله.

فإذا قدمت على الحيّ فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثمّ امض إليهم بالسّكينة والوقار، حتّى تقوم بينهم فتسلّم عليهم ولا تخدج بالتّحيّة لهم، ثمّ تقول: عباد الله أرسلني إليكم وليّ الله وخليفته، لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حّق فتؤدّوه إلى وليّه! فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة، فإن كانت له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلّا بإذنه، فإنّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخلها دخول متسلّط عليه ولا عنيف به، ولا تنفّرنّ بهيمة ولا تفزعنّها، ولا تسوءنّ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين، ثمّ خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره، ثمّ اصدع الباقي 1

ص: 108


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 231

صدعين، ثمّ خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختار فلا تزال بذلك حتّى يبقى ما فيه وفاء لحقّ الله في ماله فاقبض حقّ الله منه، فإن استقالك فأقله، ثمّ اخلطهما، ثمّ اصنع مثل الّذي صنعت أوّلاً حتّى تأخذ حق الله في ماله.

ولا تأخذنّ عوداً، ولا هرمة، ولا مكسورة، ولا مهلوسة، ولا ذات عوار. ولا تأمننّ عليها إلّا من تثق بدينه رافقاً بمال المسلمين حتّى يوصله إلى وليّهم فيقسمه بينهم ولا توكّل بها إلّا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً غير معنّف ولا مجحف، ولا ملغب ولا متعب.

ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك، نصيّره حيث أمر الله به. فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألّا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر لبنها فيضرّ ذلك بولدها، ولا يجهدنّها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفّه على اللّاغب، وليستأن بالنّقب والظّالع، وليوردها ما تمرّ به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطّرق، وليروّحها في السّاعات وليمهلها عند النّطاف والأعشاب، حتّى تأتينا بإذن الله بدناً،منقيات غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب الله وسنّة نبيّه علیه السلام فإنّ ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك، إن شاء الله» (1).

وكتب إليهم أيضاً: ولا تضربنّ أحداً سوطاً لمكان درهم، ولا .

ص: 109


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 25.

تمسّن مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد الّا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الاسلام، فانّه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الاسلام، فيكون شوكة عليه (1).

وفي عهده علیه السلام لمالك الأشتر: وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع.

2 - التسوية في العطاء، قال علیه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء من غير تفضيل إلى السابقات و الشرف: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه و الله لا أطور به ما سمر سمير و ما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وانّما المال مال الله. (2)

وقال علیه السلام لطلحة والزبير: وأمّا ما ذكر تما من أمر الاسوة، فانّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وليته هوىً منّي، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد فرغ منه، فلم أحتج اليكما فيما قد فرغ الله من قسمه و أمضى فيه حكمه، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى (3).05

ص: 110


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 51
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 126
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 205

ويشرح علیه السلام معاملته مع أخيه عقيل لما طلب منه زيادة في العطاء: «والله لقد رأيت عقيلاً و قد أملق حتّى استماحني من برّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الألوان من فقرهم، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكّداً، وكرّر عليّ القول مردّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أنّي أبيعه ديني وأتّبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدةً، ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثّواكل يا عقيل! أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرّني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه! أتئنّ من الاذى ولا أئنّ من لظىً؟!». (1)

وكتب علیه السلام إلى مصقلة بن هبيرة: ألا وانّ حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يردون عندي عليه ويصدرون عنه (2).

3 - مراقبة العمال، قال علیه السلام لشريح لما اشترى داراً: «فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا والآخرة. (3)

4 - النصيحة و التذكر كتب علیه السلام للأشعث بن قیس عامله علی آذربیجان: و انّ عملك ليس لك بطعمة، ولكنّه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك .

ص: 111


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 223 -
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم 43.
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 3.

ليس لك أن تفتات في رعية ولا تخاطر الّا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عز وجل، وأنت من خزّانه حتى تسلّمه اليّ (1).

وكتب علیه السلام إلى بعض عماله: وانّ لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً، وحقاً معلوماً، وشركاء أهل مسكنة وضعفاء ذوي فاقة انّا موفّوك حقك فوفّهم حقوقهم، والّا تفعل فانّك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون و الغارم وابن السبيل (2)

5 - التوعّد والعقوبة، كتب علیه السلام إلى زياد بن أبيه: «وانّي اقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني انّك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدّنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر» (3).

وكتب علیه السلام إلى بعض عماله: «أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك، بلغني انّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع اليّ حسابك واعلم انّ حساب الله أعظم من حساب الناس» (4). 40

ص: 112


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 5
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 26
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 20
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 40

وكتب علیه السلام إلى مصقلة بن هبيرة عامله على أرد شير خُرّة: بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وأغضبت إمامك انّك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، لئن كان ذلك حقّاً لتجدنّ بك عليّ هواناً، ولتخفّنّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحقّ ربّك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً. ألا وإنّ حقّ من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يردون عندي عليه، يصدرون عنه، والسّلام (1).

وفي عهده لمالك الأشتر: وتحفّظ من الأعوان، فان أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التهمة» (2).

6 - منع الاحتكار في عهده علیه السلام لمالك الأشتر: «واعلم مع ذلك انّ في كثير منهم [أي التجار] ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فانّ رسول الله علیه السلام منع منه ... فمن قارف حكرة بعد نهيك ايّاه فنكّل به وعاقب في غير اسراف» (3) 53

ص: 113


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 43
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53

7 - وضع المال في موضعه قال علیه السلام: ألا وانّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و اسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقّه وعند غير أهله الّا حرمه شكرهم، وكان لغيره ودّهم، فان زلّت به النعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل وألأم خدين (1)

8 - الاهتمام بالتنمية الاقتصادية في عهده علیه السلام للأشتر: وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لانّ ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلّا قليلاً.

فإن شكوا ثقلاً أو علّة، أو انقطاع شرب أو بالّة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجّحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوّتهم، بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربّما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به فإنّ العمران محتمل ما حمّلته، وإنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنّما يعوز أهلها لاشراف أنفس 26

ص: 114


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 126

الولاة على الجمع، وسوء ظنّهم بالبقاء، وقلّة انتفاعهم بالعبر (1).

9 - الاهتمام بالتجارة، في عهده علیه السلام للأشتر: واعلم انّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها الّا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض ... ولا قوام لهم جميعاً الّا بالتجار و ذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفّق بأيديهم ممّا لا يبلغه رفق غيرهم ... ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً: المقيم منهم و المضطرب بماله والمترفّق ببدنه فانّهم مواد المنافع، وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فانّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تُخشى غائلته، وتفقّد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك» (2).

10 - الاهتمام بالفقراء، في عهده علیه السلام للأشتر: «ثمّ الله الله في الطّبقة السّفلى من الّذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزّمنى، فإنّ في هذه الطّبقة قانعاً ومعترّاً، واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلّات صوافي الاسلام في كلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر، فإنّك لا تعذر .

ص: 115


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 53.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 53.

بتضييع التّافه لاحكامك الكثير المهمّ.

فلا تشخص همّك عنهم، ولا تصعّر خدّك لهم، وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون، وتحقره الرّجال، ففرّغ لاولئك ثقتك من أهل الخشية والتّواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالاعذار إلى الله تعالى يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرّعيّة أحوج إلى الانصاف من غيرهم وكلّ فأعذر إلى الله تعالى في تأدية حقّه إليه.

وتعهّد أهل اليتم وذوي الرّقّة في السّنّ ممّن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحقّ كلّه ثقيل، وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله

لهم (1)

وفي كتابه إلى قثم بن العباس عامله على مكة: «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذي العيال و المجاعة، مصيباً به مواضع المفاقر و الخلّات وما فضل عن ذلك فاحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا» (2).

6 - سيرته علیه السلام الحربية:

كان أمير المؤمنين علیه السلام يعتمد في سيرته الحربية على علمه اللدنّي الالهي أولاً، وثانياً على تجربته الشخصية، إذ مارس الحرب من بدايات

ص: 116


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 53
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم 67

حياته الكريمة، وهذا ما صرّح به علیه السلام لما اتّهم بعدم معرفة فنون الحرب نتيجة تقاعس جنوده عن طاعته، فقال: «قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نغب التهمام أنفاساً و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش: انّ ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب لله أبوهم وهل أحد منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فيها مقاماً منّي، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين (1)، وها أنا اليوم قد ذرّفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع (2)

وعلى كل حال فانّ سيرته الحربية في نهج البلاغة تعكس فترة حكومته علیه السلام، ولا يتعرّض إلى زمن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم من باب التذكير والتحريض، وفيما يلي بعض معالم سيرته علیه السلام وتخطيطه للحرب:

1 - التحريض على الجهاد، قال علیه السلام: «أما بعد فانّ الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلّ، وشمله البلاء، 7

ص: 117


1- هكذا في المصادر، ولكن رواه المسعودي: «وما بلغت الثلاثين وصوّبه المحقق التستري في بهج الصباغة، 10: 514 وقال: «والظاهر صحته، فأوّل حروبه علیه السلام الرسمية حرب بدر، وكانت في السنة الثانية من الهجرة وكان علیه السلام وقت البعثة ابن عشر على الأصح، وكان مقام النبي صلی الله علیه و آله و سلم بمكة قبل الهجرة ثلاث عشرة سنة».
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 27

وديّث بالصغار و القماء، وضرب على قلبه بالاسهاب واديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف (1).

وقال علیه السلام: «الجهاد الجهاد عباد الله، ألا وانّي معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج(2).

2 - الاستعداد للقتال، و هو ينقسم إلى استعداد نفسي، واستعداد ظاهري، أما بالنسبة إلى الاستعداد النفسي يقول أمير المؤمنين علیه السلام: تزول الجبال ولا تزُل، عضّ على ناجذك، أعر الله جمجمتك، تد في الأرض قدمك، إرم ببصرك أقصى القوم، وغُضّ بصرك، واعلم أنّ النصر من عند الله سبحانه (3).

وقال علیه السلام: «معاشر المسلمين استشعروا الخشية، و تجلببوا السكينة، وعضّوا على النواجذ، فانّه أنبى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلّها، و الحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، و نافحوا بالضبا، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا انّكم بعين الله ومع ابن عمّ رسول الله (4)

وقال علیه السلام: اذمروا أنفسكم على الطعن الدعسيّ، والضرب 5

ص: 118


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 27
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 182
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 11
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 65

الطلحفيّ، وأميتوا الأصوات فانّه أطرد للفشل (1).

و أما بالنسبة إلى الاستعداد الظاهري فقال علیه السلام: «فقدّموا الدارع وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس فانّه أنبى للسيوف عن الهام و التووا في أطراف الرماح فانّه أمور للأسنة، وغضّوا الأبصار فانّه أربط للجاش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فانّه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلّوها، ولا تجعلوها الّا بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم، فانّ الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفّون براياتهم ويكتنفونها حفافيها ووراءها،وأمامها، لا يتأخّرون عنها فيسلموها، ولا يتقدّمون عليها فيفردوها» (2).

وقال علیه السلام لمن بعثهم إلى الحرب: «فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار كيما يكون لكم ردءاً، ودونكم مردّاً، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلّا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن واعلموا انّ مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، واياكم والتفرّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفّة ولا تذوقوا النوم الّا غراراً أو مضمضة» (3) 11

ص: 119


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 16
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 124
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 11

3 - عدم البدء بالقتال لاتمام الحجة، قال علیه السلام لما أشاروا عليه بالاستعداد لحرب الشام: «الرأي مع الأناة، فأرودوا ولا أكره لكم الإعداد» (1).

وقال علیه السلام لأصحابه لما استبطؤوا القتال مع أهل الشام: «فوالله ما دفعت الحرب يوماً الّا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشوا إلى ضوئي، وذلك أحبّ اليّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها» (2).

وقال علیه السلام: إذا طمعنا في خصلة يلمّ الله بها شعثنا، ونتدانى بها إلى البقية بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها (3)

4 - عدم الشروع بالقتال وطريقة المعاملة مع العدو بعد القتال قال علیه السلام: «لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم فانّكم بحمد الله على حجة، وترككم اياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تُجهزوا على جريح و لا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسبين امراءكم (4).

5 - القاء الحماسة، قال علیه السلام لما استولى أصحاب معاوية على الماء: 14

ص: 120


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 43
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 54
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 121
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم 14

قد استطعموكم القتال، فأقرّوا على مذلة وتأخير محلّة، أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين (1).

و قال علیه السلام في حضّ أصحابه على القتال: «أنتم لهاميم العرب، و السنام الأعظم (2).

و قال علیه السلام: ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقضت، و إلى أمصاركم قد افتتحت، وإلى ممالككم تُزوى، وإلى بلادكم تُغزى انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوّكم، ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقرّوا بالخسف وتبوؤا بالذل، ويكون نصيبكم الأخس وانّ أخا الحرب الأرق، ومن نام لم ينم عنه (3).

6 - مساعدة باقي الجنود عند رؤية الفشل منهم، قال علیه السلام: «وأيّ امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد من اخوانه فشلاً، فليذبب عن أخيه بفضل نجدته التي فُضّل بها عليه كما يذبّ عنه نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله» (4).

و قال علیه السلام: «أجزأ امرؤ قرنه وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى 2

ص: 121


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 51
2- المصدر نفسه الخطبة رقم 124
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 62
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 122

أخيه فيجتمع عليه قرنه و قرن أخيه» (1)

7 - التهديد و التوعد، كتب علیه السلام إلى معاوية: «و عندي السيف الذي أعضضته بجدك و خالك وأخيك في مقام واحد» (2).

وكتب علیه السلام إلى أهل البصرة ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم، لا وقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلّا كلعقة لاعق» (3).

وكتب علیه السلام إلى معاوية: «أنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم قد صحبتهم

ذرية بدرية، وسيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك وماهي من الظالمين ببعيد (4)

وكتب علیه السلام إليه أيضاً: فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخاً يوم بدر، وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوي» (5)

8 - الاستقامة في القتال، قال علیه السلام وهو يصف استقامة أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في القتال: «ولقد كنّا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً، ومضيّاً 0

ص: 122


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 124.
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم 64.
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 29
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم 28
5- المصدر نفسه الكتاب رقم: 10

على اللّقم، وصبراً على مضض الألم، وجدّاً على جهاد العدوّ، ولقد كان الرّجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما، أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا، ومرّة لعدوّنا منّا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النّصر، حتّى استقرّ الاسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدّين عمود، ولا اخضرّ للايمان عود، وأيم الله لتحتلبنّها دماً، ولتتبعنّها ندماً!» (1)

وقال علیه السلام أيضاً: «فلقد كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وانّ القتل ليدور بين الآباء والأبناء والإخوان والقرابات فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا ايماناً ومضياً على الحق، وتسليماً للأمر، وصبراً على مضض الجراح» (2). :

ص: 123


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 55.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم:

6 - علي علیه السلام و البغاة

1 - حكم البغاة

قال تعالى في محكم كتابه «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (1).

انطلاقاً من هذه الآية ومن سيرة أمير المؤمنين علیه السلام يعرف حكم البغاة في وجوب الإصلاح أولاً، والقتال عند عدم الصلاح ثانياً، وهذا متفق عليه لا خلاف فيه.

وإنّما وقع الخلاف في حكم البغاة، هل أنّهم يدخلون ببغيهم في الكفر أو الفسق او أنّهم متأولون لا كفار ولا فساق، ذهبت الإمامية إلى الأول والمعتزلة إلى الثاني وقاطبة أهل السنة إلى الثالث.

واستدل أهل السنة بهذه الآية على مدعاهم حيث ان الله تعالى وصف الطائفتين بالإيمان، ولكن أجاب الشيخ الطوسي @ عن هذا

ص: 124


1- الحجرات 9

الإشكال قائلاً: «لا يدل على أنّهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان، ويطلق عليهما هذا الاسم، بل لا يمتنع أن يفسق أحد الطائفتين أو يفسقا جميعاً، وجرى ذلك مجرى أن تقول: وإن طائفتان من المؤمنين ارتدت عن الإسلام فاقتلوها (1).

وأما المعتزلة مذهبهم في البغاة تابع لقولهم في أصحاب الكبيرة من انّة لا مؤمن ولا كافر.

وأما الإمامية فقد استدلّوا بعدة أدلّة على الحكم بكفرهم إذا لم يتوبوا ولم يتداركوا ما فات قال الشيخ الطوسي @ في تلخيص الشافي: عندنا انّ من حارب أمير المؤمنين علیه السلام وضرب وجهه ووجه أصحابه بالسيف كافر، والدليل المعتمد في ذلك إجماع الفرقة المحقة من الإمامية على ذلك، فانّهم لا يختلفون في هذه المسألة على حال من الأحوال.

وأيضاً فنحن نعلم انّ من حاربه كان منكراً لإمامته ودافعاً لها، ودفع الإمامة كفر، كما انّ دفع النبوة كفر، لانّ الجهل بهما على حد واحد. وقد روي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم: أنّه قال: من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وميتة الجاهلية لا تكون الّا على كفر. وأيضاً روي عنه صلی الله علیه و آله و سلم انه قال: «حربك ياعلي حربي وسلمك سلمي».

ومعلوم أنّه علیه السلام إنّما أراد انّ أحكام حربك تماثل أحكام حربي، ولم يرد الله من إحدى الحربين هي الأخرى، لأن المعلوم ضرورة 6

ص: 125


1- التبيان للطوسي 9: 346

خلاف ذلك، وإذا كان حرب النبي صلی الله علیه و آله و سلم كفراً وجب مثل ذلك في حرب أمير المؤمنين علیه السلام، لأنّه جعله مثل حربه.

ويدل على ذلك أيضاً قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ونحن نعلم أنّه لا تجب عداوة أحد بالإطلاق الّا عداوة الكفار. وأيضاً: فنحن نعلم انّ من كان يقاتله يستحلّ دمه ويتقرّب إلى الله بذلك، واستحلال دم امرئ مسلم كفر بالإجماع، وهو أعظم من استحلال جرعة من الخمر الذي هو كفر بالاتفاق.

فإن قيل: لو كانوا كفاراً لوجب أن يسير فيهم بسيرة الكفار، فيتبع موليهم، ويجهز على جريحهم وتسبى ذراريهم فلما لم يفعل ذلك دلّ على أنّهم لم يكونوا كفاراً.

قلنا: لا يجب بالتساوي في الكفر التساوي في جميع أحكامه، لأنّ أحكام الكفر مختلفة: فحكم الحربي خلاف حكم الذمي، وحكم أهل الكتاب خلاف من لا كتاب له من عبّاد الأصنام، فانّ أهل الكتاب تؤخذ منهم الجزية ويقرّون على أديانهم، ولا يفعل ذلك بعبّاد الأصنام. وعند من خالفنا من الفقهاء يجوز التزوج من أهل الذمة وإن لم يجز ذلك إلى غيرهم. وحكم المرتد بخلاف حكم الجميع، و إذا كان حكم الكفر مختلفاً مع الاتفاق في كونه كفراً، لا يمتنع أن يكون من محاربه علیه السلام كافراً، وإن سار فيهم بخلاف أحكام الكفار، وفعله علیه السلام حجة في الشرع بما ثبت من إمامته وعصمته، فيجب أن تكون سيرته فيهم هو الذي يجب العمل به والاعتقاد بصحته. وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة فيما

ص: 126

تقدم حيث استدلوا بقوله تعالى: (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ...) (1) على إمامة أبي بكر، فلا وجه لاعادته» (2)

وقد قال الشيخ المفيد رحمه الله بعد تبيين الآراء المختلفة عند المذاهب الإسلامية في حكمهم وأجمعت الشيعة على الحكم بكفر محاربي أمير المؤمنين علیه السلام ولكنّهم لم يخرجوهم بذلك عن حكم ملّة الإسلام، إذ كان كفرهم من طريق التأويل كفر ملّة ولم يكن كفر ردّة عن الشرع مع اقامتهم على الجملة منه واظهار الشهادتين والاعتصام بذلك عن كفر الردّة المخرج عن الإسلام، وإن كانوا بكفرهم خارجين عن الايمان مستحقين به اللعنة والخلود في النار (3).

ولو رجعنا إلى نهج البلاغة لرأينا انّ موقف أمير المؤمنين علیه السلام مع البغاة يتلخص في النقاط التالیة:

1 - النصيحة، وهذا ما حدث لأصحاب الجمل والنهروان وأصحاب معاوية، وقد مضى شطر منه في سيرته علیه السلام الحربية.

2 - ضرورة قتالهم، قال علیه السلام: وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم، فما وجدتني يسعني إلّا قتالهم أو الجحود بما جاء محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فكانت معالجة القتال أهون عليّ من معالجة العقاب .

ص: 127


1- الفتح: 16
2- تلخيص الشافي للطوسي 4: 131 - 133.
3- كتاب الجمل: 70.

وموتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة (1)

وقال علیه السلام: ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه، وقلّبت ظهره وبطنه، فلم أر لي إلّا القتال أو الكفر بما جاء محمد صلی الله علیه و آله و سلم (2)

وكتب علیه السلام إلى أخيه عقيل: وأما ما سألت عنه من رأيي في القتال، فانّ رأيي قتال المحلّين حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرّقهم عنّي وحشة» (3)

وقال علیه السلام في ذكر أصحاب الجمل: فقدموا على عاملي بها [أي بالبصرة] وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبراً وطائفة غدراً، فو الله لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلاً واحداً معتمدين لقتله بلا جرم جرّه لحلّ لي قتل ذلك الجيش كله، إذ حضروه فلم ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم (4)

3 - لزوم البصيرة، قال علیه السلام: «قد فُتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تُنهون عنه، ولا تعجلوا في .

ص: 128


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 53.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 43
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 36
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 172.

أمر حتى تبيّنوا، فانّ لنا مع كل أمر تنكرونه غيراً» (1).

ولذا لما شك بعض من معه وسأله عن أصحاب الجمل هل كانوا على ضلالة، قال علیه السلام: انّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت انك لم تعرف الحق فتعرف من أباه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه» (2).

وكتب علیه السلام إلى أهل مصر: وانّي من ضلالهم الذي هم فيه، و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي (3)

وكتب علیه السلام إلى أبي موسى الأشعري: «والله انّه لحق مع محق، وما أبالي ما صنع الملحدون» (4)

4 - الفتنة، قال علیه السلام بعد ما ذكر بعثة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسابقته في نصرته: «وانّ مسيري هذا لمثلها، فلأنقبنّ الباطل حتى يخرج الحق من جنبه مالي وقريش والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنّهم مفتونين، وانّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم (5).

وقال علیه السلام: «أما بعد أيها الناس فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن 33

ص: 129


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 173.
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 253.
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 62.
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم 63.
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 33

ليجترئ عليها أحد غيري بعد ما ماج غيهبها، واشتد كلبها (1).

وكتب علیه السلام إلى أهل الكوفة واعلموا انّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها ... وقامت الفتنة على القطب» (2).

وكتب علیه السلام إلى معاوية: ففرّق بيننا وبينكم أمس أنّا آمنا وكفرتم واليوم أنّا استقمنا وفتنتم. (3)

أقول: هذا لا ينافي اجماع الإمامية على تكفير الباغي على الإمام علیه السلام انا ما لم يتب ويتدارك ما فات منه، لأنّ المفتون معنى عاماً يشمل كل من افتتن سواء كَفَرَ أو ارتدّ أو فسق أو أذنب، وعدم إجراء أحكام الكفار عليهم لا يضرّنا إذ نعتقد انّ أحكام الكفار تختلف كما قال الشيخ الطوسي: أحكام الكفر مختلفة كحكم الحربي والمعاهد والذمي والوثني فمنهم من تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم، ومنهم من لا تقبل، ومنهم من يناكح وتؤكل ذبيحته ومنهم لا تؤكل عند المخالف، ولا يمتنع أن يكون من كان متظاهراً بالشهادتين وإن حكم بكفره حكمه مخالف لأحكام الكفار، كما تقول المعتزلة في المجبرة والمشبّهة وغيرهم من الفرق الذين يحكمون بكفرهم، وإن لم تجر هذه الأحكام عليهم (4) 6

ص: 130


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 92
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 1
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 64
4- الاقتصاد للطوسي: 226

ثم انّ كلام أمير المؤمنين علیه السلام يفسّر بعضه بعضاً، فلو رجعنا إلى بعض مقاطع كلامه لرأيناه يقول: « ... و انّ مسيري هذا لمثلها يشير علیه السلام إلى انّ حربه مع البغاة كحربه الكفار في زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وقال علیه السلام في مكان آخر: واعلموا انّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً. وبعد الموالاة أحزاباً ما تتعلّقون من الإسلام الّا باسمه ولا تعرفون من الإيمان الّا رسمه، تقولون: النار ولا العار كأنّكم تريدون أن تكفؤوا الإسلام على وجهه انتهاكاً لحريمه ونقضاً لميثاقه» (1).

فوصفهم علیه السلام بالتعرب بعد الهجرة ومحاولة هدم الإسلام وانتهاك حرمته ونقض ميثاقه، وقال علیه السلام: «فانّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبلي (2). ومعلوم ما هو حكم المحاربة مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وقد سبق عنه صلی الله علیه و آله و سلم لعليّ: «حربك حربي

وممّا وصفهم علیه السلام أيضاً: ولعمري ما عليّ من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدمان ولا إيهان (3)

وقال علیه السلام: استعدوا للمسير إلى قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه، وموزعين بالجور لا يعدلون به جفاة عن الكتاب، نكّب عن الطريق» (4). .

ص: 131


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192.
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم 36.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 24
4- المصدر نفسه الخطبة رقم 125.

وقال علیه السلام: حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسدّ فواره من ينبوعه (1)

وقال علیه السلام: انّ الشيطان اليوم قد استفلّهم، وهو غداً متبرئ منهم ومخل عنهم، فحسبهم بخروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلال والعمى، وصدّهم عن الحق، وجماحهم في التيه (2).

وقال علیه السلام: ألا وقد قطعتم قيد الإسلام» وعطلتم حدوده وأمتم أحكامه» (3)

وقال علیه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسرّوا الكفر، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه (4).

وكتب علیه السلام إلى معاوية: أما قولك ان الحرب قد أكلت العرب الّا حشاشات أنفس بقيت فمن أكله الحق فإلى النار ... ولا المحق كالمبطل ولا المؤمن كالمدغل ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم (5)

وكتب علیه السلام إليه أيضاً: فقد أجريت إلى غاية خسر، ومحلة كفر، 7

ص: 132


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 162
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 181
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 192
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 16
5- المصدر نفسه الكتاب رقم 17

وانّ نفسك قد أوحلتك شرّاً، وأقحمتك غياً، وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك (1).

وكتب علیه السلام إلى أهل الأمصار بعد وقعة صفين: « ... ومن لجّ وتمادى، فهو الراكس الذي ران الله على قلبه وصارت دائرة السوء على رأسه» (2).

ألا تدلّ هذه الأوصاف كلها على الحكم بكفر القوم ولو تنزلنا وسلّمنا بعدم كفرهم، ولكن هل نشك في أنّهم من أهل النار وهذا يكفي في الحكم بضلالهم واعوجاجهم عن الحق، ويلزم علينا التبرؤ منهم وعدم تولّيهم ما لم تثبت توبتهم، وانّ توبة كل عمل بحسبه، فمن أضل لمة من الناس وكان السبب في اغوائهم وعدولهم عن جادة الحق، لا يمكن الاكتفاء في توبته بالندم والاستغفار باللسان مالم يعترف بالخطأ والضلال ويرشد الذين أغواهم ويمنعهم عن ضلالهم.

وهناك نص آخر حاول ابن أبي الحديد تفسيره بما يدعم معتقده في البغاة، وهو ما نقله علي علیه السلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من قوله: «يا عليّ انّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع» قال 8

ص: 133


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 30
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 58

أمير المؤمنين علیه السلام: قلت: يارسول الله فبأي المنازل اُنزلهم عند ذلك، أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة».

فهذا النص لا يدل من قريب ولا من بعيد على حكم البغاة، بل إنّما يشرح حال المفتتن بالدنيا وزخارفها ما لم يصل به الأمر إلى الارتداد وانكار ضروريات الدين، ولذا قال صلی الله علیه و آله و سلم: «ان القوم سيفتنون بأموالهم ولم يقل يرتدون وقضية البغي على الإمام الحق قضية سياسية اجتماعية.

5 - القتال، قال علیه السلام: انّ هؤلاء قد تمالأوا على سخطة إمارتي، وسأصبر مالم أخف على جماعتكم، فانّهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين (1)

وقال علیه السلام: «أيها الناس انّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب فان أبى قوتل (2).

وقال علیه السلام: «انّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىّ، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، و ولّاه الله ما تولّى»(3) 6

ص: 134


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 169
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 173
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 6

وقال علیه السلام: «ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض، فأما الناكثون فقد قاتلت وأما القاسطون فقد جاهدت، وأمّا المارقة فقد دوخت وأمّا شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ورجة صدره وبقيت بقية من أهل البغي، ولئن أذن الله في الكرة عليهم لاديلنّ منهم الّا ما يتشذّر في أطراف الأرض تشذّراً» (1).

6 - وأخيراً يذكر الإمام علیه السلام انّ سبب بغي هؤلاء كان الشيطان، وحب الدنيا، والحسد، قال علیه السلام: «فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: (تتِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (2) بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها» (3).

وقال علیه السلام: ألا وانّ الشيطان قد ذمّر حزبه، واستجلب جلبه ليعود الجور إلى أوطانه، ويرجع الباطل إلى نصابه» (4)

وقال علیه السلام: «انّ هؤلاء تمالأ وا على سخطة امارتي ... وانّما طلبوا 22

ص: 135


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192
2- القصص: 83
3- نهج البلاغة الخطبة رقم 3
4- المصدر نفسه الخطبة رقم 22

هذه الدنيا حسداً لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا ردّ الامور على أدبارها» (1).

2 - أصحاب الجمل:

بعدما تمت البيعة لعلي علیه السلام بدأ المتضرّرون منها بالتخطيط لنقضها وعدم استحكام أمرها، ولكل منهم دليله.

أما عائشة فكانت تريد الأمر لطلحة أو للزبير، ولما علمت بقتل عثمان خرجت من مكة متوجهة إلى المدينة لكنها لما سمعت ببيعة الناس لعلي علیه السلام رجعت إلى مكة وأظهرت انّ عثمان قتل مظلوماً، وليس ذلك الّا لما كانت تحمله من أمير المؤمنين علیه السلام، وهذا ما أشار إليه بقوله: وأما فلانة فأدركها رأي النساء وضغن غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت اليّ لم تفعل (2)

أما عمّال عثمان وشيعته فهربوا بالأموال التي كانت بحوزتهم خوفاً من عدل عليّ علیه السلام، إذ هو الذي حلف بالله تعالى انّ يرد قطائع عثمان وقال: والله لو وجدته تزوّج به النساء، وملك به الاماء لرددته» (3). مضافاً إلى المظالم التي كانت في رقابهم، فلاذوا بالبيت وباُم المؤمنين لعلمهم من ذي قبل بمخالفتها لعليّ علیه السلام.

ص: 136


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 169
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 156
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 15

وأما طلحة والزبير فانّهما وإن كانا من أول المبايعين لعلی علیه السلام كما قال: «أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما انّي لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني وانّكما ممن أرادني وبايعني. (1)

ولكن كانا - بعد ما صرف الأمر عنهما - يطمعان أن يكون لهما شأن خاص في حكومة علي علیه السلام، لذا اشترطا عليه قبل البيعة أن يكونا شركاؤه في الأمر، فقال لهما علیه السلام: «لا، لكنكما شريكان في القوة والاستعانة، وعونان على العجز والأود. (2)

ولما عتبا على أمير المؤمنين علیه السلام بترك مشورتهما في الأمور والمساواة في توزيع بيت المال، قال علیه السلام في الجواب: «لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً، ألا تخبراني أيّ شيء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه؟ وأيّ قسم استأثرت عليكما به؟ أم أيّ حقّ رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته، أم أخطأت بابه؟!

والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلمّا أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به،فاتّبعته وما استسنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فاقتديته فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته، فأستشيركما وإخواني من المسلمين؛ ولو كان ذلك لم أرغب عنكما، ولا .

ص: 137


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 54
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 192.

عن غيركما.

وأمّا ما ذكرتما من أمر الاسوة، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ولا وليته هوىّ منّي، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد فرغ منه فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ الله من قسمه، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبي. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ، وألهمنا وإيّاكم الصّبر (1).

ثم انّهما بعد اليأس من عليّ علیه السلام بدءا بالتخطيط لنقض العهد ونكث البيعة، فادعيا أولاً أنّهما أكرها وأُجبرا على البيعة، فكتب إليهما أمير المؤمنين علیه السلام: فان كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا وتوبا إلى الله من قريب، وإن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهار كما الطاعة واسراركما المعصية، ولعمري ماكنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان وانّ دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه، كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما» (2).

وقال علیه السلام في الزبير: يزعم أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه، فقد أقرّ بالبيعة وادّعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يُعرف والّا فليدخل فيما خرج منه (3) .

ص: 138


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 205.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 54
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 8.

ثم أنّهما بعد ما علما بموقف،عائشة، ورفعها شعار المخالفة لعلي علیه السلام والدفاع عن الخليفة المقتول، اتخذا سياسة اتهام علي علیه السلام بقتل عثمان، وفي ذلك يقول علیه السلام: «وانّهم ليطلبون حقاً هم تركوه، ودماً هم سفكوه فان كنت شريكهم فيه فانّ لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولوه دوني فما الطلبة الّأ قبلهم، وانّ أول عدلهم للحكم على أنفسهم (1)

وكتب إليهما أيضاً: وقد زعمتما انّي قتلت عثمان، فبيني وبينكما من تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة، ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل» (2).

وهذا الادعاء كان خدعة منهما للناس وتبريراً لنقض البيعة، ومن جانب آخر التخلّص من متابعة ومعاتبة أنصار عثمان واستجلاب قلوبهم، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام في نقض هذا الادعاء وهو يشير إلى طلحة: والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان الّا خوفاً من أن يطالب بدمه لأنّه مظنته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلتبس الأمر ويقع الشّكّ. ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدةً من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالماً - كما كان يزعم - - لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه وأن ينابذ ناصريه، ولئن كان مظلوماً لقد 54

ص: 139


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 137
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم 54

كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه والمعذّرين فيه، ولئن كان شكّ في من الخصلتين، لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع النّاس معه، فما فعل واحدةً من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره (1).

ثم انّ هناك بعض الأسباب الاخر لنكث البيعة، أشار إليها أمير المؤمنين علیه السلام في ضمن كلامه عن أصحاب الجمل، منها الحسد فقد قال: وانّما طلبوا هذه الدنيا حسداً لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا ردّ هذه الأمور على أدبارها (2).

وقال علیه السلام في عائشة: وأما فلانة فأدركها رأي النساء وضغن غلا في صدرها كمرجل القين (3)

ومنه التنافس على الدنيا، فقد قال علیه السلام: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت اخرى وفسق آخرون كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (4) بلى والله لقد سمعوها و وعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها (5) .

ص: 140


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 174.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 169.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 156.
4- القصص: 83.
5- نهج البلاغة الخطبة رقم 3.

وقد ذكر الشيخ المفيد @ انّ طلحة والزبير لما غلبا على بيت مال البصرة احتملا منه شيئاً كثيراً (1).

وهذا التنافس والتكالب على الدنيا كان يتبلور أكثر حينما تصطدم المصالح فيبدأ النزاع بين شيوخ القوم، وعلى سبيل المثال ذكر الشيخ المفيد: «انّ القوم لما سيطروا على البصرة وحان وقت الصلاة، رام طلحة أن يتقدم للصلاة بهم فدفعه الزبير وأراد أن يصلّي بهم فمنعه طلحة، فما زالا يتدافعان حتى كادت الشمس أن تطلع، فنادى أهل البصرة: الله الله يا أصحاب رسول الله في الصلاة نخاف فوتها ...» (2)

وفي حادثة أخرى يرويها الشيخ المفيد أيضاً: «انّ القوم لما أخذوا من بيت مال البصرة ما شاؤوا أمرت عائشة بختمه، فبرز لذلك طلحة ليختمه فمنعه الزبير، وأراد أن يختمه الزبير دونه فتدافعا، فبلغ عائشة ذلك فقالت: يختمانه ويختم عنّي ابن أختي عبد الله بن الزبير، فختم يومئذ بثلاثة ختوم (3)

وهذا ما تنبأ به أمير المؤمنين علیه السلام حيث قال: «كل واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه لا يمتان إلى الله بحبل، ولا يمدّان إليه بسبب كل واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه، وعمّا قليل .

ص: 141


1- الجمل للمفيد: 284.
2- المصدر نفسه: 281 - 282.
3- المصدر نفسه: 284.

يُكشف قناعه به و الله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا، وليأتينّ هذا على هذا» (1)

فهؤلاء القوم بهذه النوايا ساروا إلى البصرة، وقتلوا من قتلوا وأخذوا من بيت المال ما شاؤوا، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام: فخرجوا يجرون حرمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كما تجر الأمة عند شرائها، متوجّهين بها إلى البصرة فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لهما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجل إلّا وقد أعطاني الطّاعة، سمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره، فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفةً صبراً، وطائفةً غدراً. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلاً واحداً معتمدين لقتله، بلا جرم جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه، إذ حضروه فلم ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم!» (2).

وقال علیه السلام: فقدموا على عمّالي وخزّان بيت مال المسلمين الذي في يديّ، وعلى أهل مصر كلّهم في طاعتي وعلى بيعتي، فشتّتوا كلمتهم، وأفسدوا عليّ جماعتهم، ووثبوا على شيعتي، فقتلوا طائفةً منهم غدراً، وطائفة عضّوا على أسيافهم، فضاربوا بها حتّى لقوا الله 2

ص: 142


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 148
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 172

صادقين» (1).

وكان موقف أمير المؤمنين علیه السلام في هذه الفتنة الظلماء أولاً: التأني والتؤدة حيث قال: «وسأصبر مالم أخف على جماعتكم، فانّهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين (2)

و ثانياً: النصيحة، حيث ذكّر أمير المؤمنين علیه السلام طلحة والزبير ببيعتهما له ولزوم الوفاء بها ثم قوله لهما فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما، فانّ الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار والنار (3) كما أنّه علیه السلام لما أرسل ابن عباس قبل الحرب إلى الزبير ليستفيئه إلى طاعته قال له: «لا تلقينّ طلحة، فانّك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه يركب الصعب ويقول هو الذلول، ولكن الق الزبير فانّه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا ممّا بدا» (4).

وثالثاً: عند عدم الاصغاء إلى النصيحة و الاصرار على الضلال الدعاء عليهما والقتال، قال علیه السلام: «اللهم أنّهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي، وألّبا الناس عليّ، فاحلل ما عقدا، ولا تحكم ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا ولقد استثبتهما قبل القتال، واستأنيت 1

ص: 143


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 217
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 169
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 54
4- المصدر نفسه الخطبة رقم: 31

بهما أمام الوقاع، فغمط النعمة، وردّا العافية (1).

وكتب علیه السلام إلى أهل الكوفة: واعلموا انّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها، وجاشت جيش المرجل، وقامت الفتنة على القطب، فأسرعوا إلى أميركم وبادروا جهاد عدوكم إن شاء الله (2).

ولقد انتهت هذه المعركة بمقتل قادتها سوى عائشة، ولما مرّ أمير المؤمنين علیه السلام بطلحة وهو قتيل قال: لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريباً، أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب، أدركت وتري من بني عبد مناف وأفلتني أعيان بني جمح، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه (3)

ولكن بانتهائها لم تنته الفتنة، إذ انّ الشيطان وجد مرتعاً خصباً، فبدأ بالوسوسة في الصدور قبل المعركة وبعدها وقد أصيب الحارث بن حوط بسهامه، فجاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام وقال: أتراني أظنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال علیه السلام: يا حار انّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، انّك لم تعرف الحق فتعرف من أباه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه فقال الحارث: فانّي أعتزل مع سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر، فقال علیه السلام: انّ سعيداً وعبد الله بن عمر لم ينصرا 8

ص: 144


1- نهج نهج البلاغة الخطبة رقم: 137
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 1
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 218

الحق ولم يخذلا الباطل (1)

لذا كان أمير المؤمنين علیه السلام يراقب الأوضاع سيما في البصرة، فقد كتب إليهم يتوعدهم: وقد كان من انتشار حبلكم و شقاقكم مالم تغبوا عنه فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم و قبلت من مقبلكم، فان خطت بكم الأمور المردية، وسفه الآراء الجائرة إلى منابذتي وخلافي، فها أنا ذا قد قرّبت جيادي ورحلت ركابي، ولئن ألجأتموني إلى المسير اليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها الّا كلعقة لاعق (2).

3 - أصحاب صفين:

انّ أمير المؤمنين علیه السلام كان يعرف معاوية حق المعرفة، ويعلم نواياه وسوء سريرته، وقد كتب إلى زياد بن أبيه يحذّر من خدعه وكيده ويقول: «انّما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته، ويستلب غرّته» (3).

وقال علیه السلام لمعاوية: وانّك لذهّاب في التيه، روّاغ عن القصد (4).

ص: 145


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 253.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 29
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 44
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 28

وقال علیه السلام في مكان آخر: ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة. (1)

وكتب له أيضاً: انّك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه، وبلغ فيك أمله، وجرى منك مجرى الروح والدم (2) انّ الله سبحانه ابتلى أمير المؤمنين علیه السلام بمعاوية، وهذا ما صرّح به علیه السلام في كتاب كتبه إلى معاوية يقول فيه: أما بعد فانّ الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملاً، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أُمرنا، وانّما وضعنا فيها لنبتلى بها، وقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي، فجعل أحدنا حجة على الآخر.(3)

وكتب علیه السلام أيضاً: «فيا عجباً للدهر إذ صرت يُقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلى أحد بمثلها» (4).

ولذا لم يرض بإبقائه على الشام و كتب إليه: «من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فقد علمت إعذاري فيكم وإعراضي عنكم حتى كان ما لابد منه ولا دفع له، والحديث طويل والكلام كثير، وقد أدبر ما أدبر وأقبل ما أقبل، فبايع من قبلك، .

ص: 146


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 200.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 10.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 55
4- المصدر نفسه الكتاب رقم 9.

وأقبل اليّ في وفدٍ من أصحابك» (1).

ولمّا تأخّر كتب علیه السلام إلى جرير بن عبد الله البجلي وقد أرسله إليه: وأما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيّره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فان اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السّلم فخذ بيعته» (2).

ولكن معاوية أبى وكان يريد البقاء على الشام، و هذا ما رفضه أمير المؤمنين علیه السلام بتاتاً وكتب له وحاش لله أن تلي للمسلمين بعدي صدراً أو ورداً، أو اُجري لك على أحدٍ منهم عقداً أو عهداً» (3).

وكتب إليه مرة أخرى: وأما طلبك اليّ الشام، فانّي لم أکن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس» (4)

كانت فترة انشغال أمير المؤمنين علیه السلام بأصحاب الجمل، فرصة ذهبية لمعاوية لتعبئة الناس واغفالهم وتأليبهم ضد أمير المؤمنين علیه السلام كما كتب إليه علیه السلام: وألّب عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم (5).

ومن خدعه ما ذكره ابن كثير في البداية و النهاية: ولما قتل عثمان 55

ص: 147


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 75
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 8
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 65
4- المصدر نفسه الكتاب رقم: 17
5- المصدر نفسه الكتاب رقم 55

ابن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه ومعه أصابع نائله [زوجة عثمان] التي اصيبت حين حاجفت عنه بيدها فقطعت بعض الكف فورد به على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، و علق الأصابع في كمّ القميص، وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه فتباكى الناس حول المنبر، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله سنة، وحثّ بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان» (1).

وفي نص آخر: كان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع، فاذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظاً وجدّاً في أمرهم ثم رفعه، فاذا أحسّ بفتور يقول له عمرو بن العاص: حرّك لها حوارها تحن فيعلّقها» (2).

وقال مبعوث معاوية لأمير المؤمنين علیه السلام: تركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق (3).

فهذا كان من أكبر خدع معاوية ضد الإمام، وقد حاول علیه السلام ردّ .

ص: 148


1- البداية والنهاية 7: 255
2- الكامل لابن الأثير 7: 192
3- تاريخ الطبري 3: 463.

خديعته ببيانه وبنانه فكتب إليه ولعمري يا معاوية، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمنّ انّي كنت في عزلة عنه (1)

وكتب علیه السلام أيضاً: «و أمّا ما سألت من دفع قتلة عثمان اليك، فانّي نظرت في هذا الأمر فلم أره يسعني دفعهم اليك ولا إلى غيرك، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبوك ولا يكلّفونك طلبهم في برّ ولا بحر ولا جبل ولا سهل الّا انّه طلب يسوءك وجدانه، وزور لا يسرّك لقيانه» (2).

وكتب علیه السلام أيضاً: وزعمت أنّك جئت ثائراً بدم عثمان، ولقد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالباً» (3).

و كتب علیه السلام أيضاً: «فأما إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته، فانّك انّما نصرت عثمان حيث كان النصر لك وخذلته حيث كان النصر له (4)

وكتب له أيضاً: «وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس ثم حاكم القوم اليّ أحملك وإياهم على كتاب الله» (5) 4

ص: 149


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 6
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 9
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 10
4- المصدر نفسه الكتاب رقم: 37
5- المصدر نفسه، الكتاب رقم 64

ومن خدع معاوية أيضاً ادعاؤه بطلان بيعة أمير المؤمنين علیه السلام حيث لم يشهدها الجميع، وعليه لابد من نقضها وإرجاع الأمر شورى بين المسلمين وفي جوابه وردّ هذه الشبهة كتب أمير المؤمنين علیه السلام: «انّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على مابايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وانّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فان اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّه إلى ما خرج منه فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين و ولّاه الله ما تولّی» (1).

و كتب علیه السلام إليه أيضاً: «لأنّها بيعة واحدة لا يُثنّى فيها النظر، ولا يُستأنف فيها الخيار الخارج منها طاعن، والمروّي فيها مداهن. (2)

ومن خدعه أيضاً نبش الماضي، وإظهار مخالفة أمير المؤمنين علیه السلام للخلفاء المتقدمين الذين كان يموّه بأفضليتهم على أمير المؤمنين علیه السلام لاشعال نار الفتنة الطائفية، وقد أجابه أمير المؤمنين علیه السلام قائلاً: وزعمت أن أفضل الناس في الاسلام فلان وفلان، فذكرت أمراً إن تمّ اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين .

ص: 150


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 6.
2- المصدر نفسه الكتاب رقم: 7.

الأولين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم فيها ألا تربع أيها الانسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر، فما

عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر ....

وزعمت أنّي لكل الخلفاء،حسدت وعلى كلّهم بغيت، فان يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر اليك ... وقلت انّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى ابايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً مالم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بقينه ....

ثم ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله، أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه، أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه حتى أتى قدره ...» (1).

وكذلك تمسّك معاوية بقتل طلحة و الزبير لتأليب الناس، فردّه علیه السلام وقال: وذكرت أنّي قتلت طلحة والزبير وشرّدت بعائشة، ونزلت بين المصرين، وذلك أمر غبت عنه فلا عليك ولا العذر فيه لك (2).

هذا عدا استمالة ضعفاء الإيمان بالأموال والمناصب، فذهب إليه 64

ص: 151


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 28
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 64

من ذهب ممّن اغتر بالدنيا أمثال عمرو بن العاص الذي قال علیه السلام فيه: «انّه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة» (1).

وكتب له أيضاً: «فانّك جعلت دينك تبعاً لدنيا امرئ ظاهر غيّه مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويُسفه الحليم بخلطته، فاتبعت أثره وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام يلوذ إلى مخالبه، وينتظر ما يُلقى إليه من فضل فريسته فأذهبت دنياك وآخرتك (2).

وكذلك غيره ممّن ترك الإمام علیه السلام وذهب إلى معاوية، وقد كتب علیه السلام إلى سهل بن حنيف عامله على المدينة، يصف فيه حال الفارين: «أما بعد، فقد بلغني انّ رجالاً ممّن قبلك يتسلّلون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم فكفى لهم غياً ولك منهم شافياً فرارهم من الهدى والحق، و ايضاعهم إلى العمى والجهل، وانّما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون إليها، قد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا انّ الناس عندنا في الحق اسوة، فهربوا إلى الأثرة فبعداً لهم وسحقاً، انّهم والله لم ينفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل» (3). 70

ص: 152


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 83
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 39
3- المصدر نفسه الكتاب رقم: 70

فهذه كانت أحوال معاوية، وكان دور أمير المؤمنين علیه السلام في معالجة الأمر أولاً: تبيين ما عليه معاوية من واقع الحال في إظهار الإيمان نفاقاً وتبيين ضلاله وانّه هو الذي ترك نصرة عثمان، كما مرّ شطر منه.

و ثانياً: النصيحة، فقد كتب علیه السلام إلى معاوية: وكيف أنت صانع إذا تكشّفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهّجت بزينتها، وخدعت بلذّتها دعتك فأجبتها، وقادتك فاتّبعتها، وأمرتك فأطعتها، وإنّه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجنّ، فاقعس عن هذا الأمر، وخذ أهبة الحساب، وشمّر لما قد نزل بك، ولا تمكّن الغواة من سمعك ...» (1).

وكتب علیه السلام له أيضاً: وأرديت جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظّلمات وتتلاطم بهم الشّبهات، فجاروا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولّوا على أدبارهم، وعوّلوا على أحسابهم إلّا من فاء من أهل البصائر، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله سبحانه من موازرتك، إذ حملتهم على الصّعب وعدلت بهم عن القصد. فاتّق الله يا معاوية في نفسك، وجاذب الشّيطان قيادك، فإنّ الدّنيا منقطعة عنك، والآخرة قريبة منك، والسّلام (2). 32

ص: 153


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 10
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 32

وكتب علیه السلام له أيضاً: «فائق الله فيما لديك، وانظر في حقّه عليك، وارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته، فإنّ للطّاعة أعلاماً واضحة وسبلاً نيّرة، ومحجّة نهجة، وغاية مطّلبة يردها الأكياس، ويخالفها الأنكاس، من نكب عنها جار عن الحقّ، وخبط في التّيه، وغيّر الله نعمته وأحلّ به نقمته فنفسك نفسك! فقد بيّن الله لك سبيلك وحيث تناهت بك أمورك، فقد أجريت إلى غاية خسر، ومحلّة كفر، وإنّ نفسك قد أو حلتك شرّاً، وأقحمتك غيّاً، وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك. (1)

وكتب علیه السلام له أيضاً: وإنّ البغي والزّور يوتغان المرء في دينه ودنياه، ويبديان خلله عند من يعيبه وقد علمت أنّك غير مدرك ما قُضي فواته، وقد رام أقوام أمراً بغير الحقّ، فتأوّلوا على الله فأكذبهم، فاحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله، ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه» (2).

وكتب علیه السلام له أيضاً: «فائق الله في نفسك، ونازع الشيطان قيادك، واصرف إلى الآخرة وجهك، فهي طريقك، واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة تمسّ الأصل، وتقطع الدابر ...». (3) .

ص: 154


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 30.
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم 48.
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 55.

وكتب له علیه السلام: «أمّا بعد، فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل وإقحامك غرور المين والأكاذيب وبانتحالك ما قد علا عنك وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحقّ، وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك، ممّا قد وعاه سمعك، وملىء به صدرك، فماذا بعد الحق إلّا الضّلال وبعد البيان إلّا اللّبس فاحذر الشّبهة واشتمالها على لبستها فإنّ الفتنة طالما أغلفت جلابيبها، وأعشت الأبصار ظلمتها» (1).

وثالثاً: عدم الاسراع للشروع بالحرب، فقد كتب علیه السلام لمعاوية: وأقسم بالله لولا بعض الاستبقاء لوصلت اليك منّي قوارع تقرع العظم وتهلس اللحم. (2)

وبلغ هذا التأنّي أن استبطأ جيش أمير المؤمنين علیه السلام القتال حتى اتهموه بالخوف والشك، ممّا اضطره علیه السلام أن يقول لهم: اما قولكم أكل ذلك كراهية الموت فو الله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت اليّ، وأما قولكم: شكاً في أهل الشام، فو الله ما دفعت الحرب يوماً الّا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوا إلى ضوئي، وذلك أحب اليّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها» (3). 54

ص: 155


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 65
2- المصدر نفسه، الكتاب رقم: 73
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 54

و رابعاً: الحرب وهي آخر الدواء، فقد كتب علیه السلام له: «وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم قد صحبتهم ذريّة بدريّة، وسيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد (1).

وقبل لقاء العدوّ دعا علیه السلام ربه وقال: «اللهمّ ربّ السّقف المرفوع، والجوّ المكفوف، الذي جعلته مغيضاً لليل والنّهار، ومجرّى للشّمس والقمر، ومختلفاً للنّجوم السّيّارة، وجعلت سكّانه سبطاً من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك. وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام، ومدرجاً للهوامّ والأنعام، وما لا يحصى ممّا يرى وما لا يرى. وربّ الجبال الرّواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق اعتماداً. إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي وسدّدنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة.

أين المانع للذّمار والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ؟! العار وراءكم، والجنة أمامكم!. (2)

ثم استنهض أصحابه للجهاد وقال علیه السلام: «اللهمّ أيّما عبدٍ من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا 71

ص: 156


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 28
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 171

غير المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلّا النّكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنّا نستشهدك عليه يا أكبر الشّاهدين شهادة، ونستشهد عليه جميع ما أسكنته أرضك و سماواتك، ثمّ أنت بعد المغني عن نصره، والآخذ له بذنبه»(1).

ثم دارت المعركة بأشد ما يكون فيوم لأصحاب أمير المؤمنين علیه السلام على معاوية ويوم لمعاوية على أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، وكان يقول لهم: وقد رأيت جولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطّغام، وأعراب أهل الشام وأنتم لهاميم العرب، ويآفيخ الشّرف والأنف المقدّم، والسّنام الأعظم، ولقد شفى وحاوح صدري أن رأيتكم بآخرة تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم؛ حسّاً بالنّصال وشجراً بالرّماح تركب أولاهم أخراهم كالإبل الهيم المطرودة ترمى عن حياضها، وتذاد عن مواردها!» (2).

وكان علیه السلام يحثّ جنده ويقول: واعلموا انّكم بعين الله ومع ابن عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فعاودوا الكرّ، واستحيوا من الفرّ، فإنّه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، وطيبوا عن أنفسكم نفساً، عن أنفسكم نفساً، وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً، وعليكم بهذا السّواد الأعظم، والرّواق المطنّب، فاضربوا ثبجه، فإنّ الشّيطان كامن في كسره، قد قدّم للوثبة يداً، وأخّر 6

ص: 157


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 212
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 106

للنكوص رجلاً؛ فصمداً صمداً! حتّى ينجلي لكم عمود الحقّ؛ وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم» (1).

ولما غلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات، ومنعوا جيش أمير المؤمنين علیه السلام منه، قام خطيباً وقال لهم: «قد استطعموكم القتال، فأقرّوا على مذلّة، وتأخير محلّة، أو روّوا السّيوف من الدّماء ترووا من الماء؛ فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين. ألا وإنّ معاوية قاد لمةً من الغواة، وعمّس عليهم الخبر، حتّى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة (2).

ومع هذا كلّه لما سمع علیه السلام جيشه يسبّون أصحاب الشام، نهاهم عن ذلك وقال لهم: إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به (3)

و هكذا استمر الأمر إلى أن لجأ معاوية إلى خدعة رفع المصاحف حيث ظهرت فتنة الخوارج كما سنبينه لاحقاً.06

ص: 158


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 65
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 51
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 206

4 - الخوارج:

انّ طريقة الخوارج ومنهجهم التفكيري كان منذ زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم وقد قال فيهم: «هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة (1)

ولكن كان أوّل ظهورهم التنظيمي بعد حادثة التحكيم في حرب صفين. وذلك عندما رفع أصحاب معاوية المصحف ودعوا إلى التحكيم إليه، الأمر الذي تنبأ به أمير المؤمنين علیه السلام من ذي قبل في كتاب كتبه إلى معاوية: وكأنّي بجماعتك تدعوني جزعاً من الضرب المتتابع، و القضاء الواقع، ومصارع بعد مصارع إلى كتاب الله وهي كافرة جاحدة أو مبايعة حائدة» (2).

وكان موقف أمير المؤمنين علیه السلام أمام هذه الخدعة، الرفض وعدم القبول ومن الخوارج الإصرار وإجبار الإمام على القبول، وأمير المؤمنين علیه السلام يصوّر لنا هذا الأمر في احتجاجه على الخوارج ويقول: «ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ومكراً و خديعة اخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم، فقلت لكم: هذا أمر ظاهره ايمان وباطنه عدوان، وأوّله رحمة و آخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعضّوا

ص: 159


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 267 وفتح الباري لابن حجر 12: 253
2- نهج البلاغة الكتاب رقم: 10

على الجهاد بنواجذكم، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن اُجيب أضلّ وإن تُرك ذلّ» (1).

وقال علیه السلام لهم أيضاً: وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم عليّ إباء المخالفين المنابذين حتى صرفت رأيي إلى هواكم (2)

وبعدما قبل علیه السلام التحكيم كتب إلى معاوية: «وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله ولسنا إيّاك أجبنا ولكنّا أجبنا القرآن إلى حكمه» (3)

ولمّا رشّح معاوية عمرو بن العاص للتحكيم، أراد أمير المؤمنين علیه السلام ترشيح ابن عباس، لكن الخوارج رفضوا وأصرّوا عليه بتعيين أبي موسى الأشعري، يقول علیه السلام: «ألا وانّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا تحبون، واخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون، وإنّما عهدكم بعبد الله بن قيس بالأمس يقول: إنّها فتنة فقطّعوا أوتاركم وشيموا سيوفكم، فإن كان صادقاً فقد أخطأ بمسيره غير مستكرهٍ وإن كان كاذباً فقد لزمته التّهمة فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العبّاس، وخذوا مهل الأيّام، وحوطوا قواصي الإسلام، ألا ترون إلى بلادكم تغزى، وإلى صفاتكم ترمى!»(4). 36

ص: 160


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 121
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 36
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 48
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 236

ويذكرهم علیه السلام بعدم أهليتهما للتحكيم ويقول: «فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أن يجعجعا [أي يقيما] عند القرآن ولا يجاوزاه وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه فتاها عنه وتركا الحقّ وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما والاعوجاج دأبهما، وقد سبق استثناؤنا عليهما - في الحكومة بالعدل، والصّمد للحقّ - سوء رأيهما، وجور حكمهما» (1).

وقال علیه السلام: «انّما اجتمع رأي ملئكم على اختيار رجلين، أخذنا عليهما ألّا يتعدّيا،القرآن فتاها عنه وتركا الحقّ وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما والاعوجاج دأبهما، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما وجود حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا، حين خالفا سبيل الحق وأتيا بما لا يُعرف من معكوس الحكم» (2).

لكنّهم ندموا على ما فعلوا حيث لا ينفع الندم، كما قال علیه السلام: أما بعد فانّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر، فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضنّ الزند بقدحه، 27

ص: 161


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 177
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 127

فكنت وإيّاكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللّوى *** فلم تستبينوا النصح الّا ضحى

الغد» (1)

وهذه الفتنة راح ضحيتها الكثير، فانحازوا واصطفوا مع الخوارج، وقد قال علیه السلام في قوم من جند الكوفة لحقوا بالخوارج: «بعداً لهم كما بعدت ثمود، أما لو أشرعت الأسنة إليهم، وصبّت السيوف على هاماتهم، لقد ندموا على ما كان منهم، أنّ الشيطان اليوم قد استفلّهم وهو غداً متبرّئ منهم ومخلّ عنهم، فحسبهم بخروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلال والعمى وصدّهم عن الحق وجماحهم في التيه (2)

وهناك أيضاً من احتار في أمره ولم يعرف الصواب من الخطأ، فقد قام رجل إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال له: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فما ندري أيّ الأمرين أرشد، فصفق علیه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال: هذا جزاء من ترك العقدة أما والله لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً، فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قوّمتكم وإن أبيتم تداركتكم لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من! أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي .

ص: 162


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 35.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 181.

كناقش الشّوكة بالشّوكة وهو يعلم أنّ ضلعها معها!» (1)

ثم انّ الخوارج ندموا على مافعلوه وتابوا بزعمهم وطلبوا التوبة من أمير المؤمنين علیه السلام وسائر المسلمين للرضى بتحكيم الرجال إذ أنّه لا حكم إلّا الله، فأجابهم علیه السلام قائلاً: «أنّا لم نحكّم الرجال، وإنّما حكّمنا القرآن. وهذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين، لا ينطق بلسان، ولابدّ له من ترجمان؛ وإنّما ينطق عنه الرّجال. ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله، وقال الله سبحانه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه، وردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته؛ فإذا حُكم بالصّدق في كتاب الله، فنحن أحقّ الناس به، وإن حُكم بسنّة رسول الله فنحن أحقّ الناس وأولاهم به.

وأمّا قولكم: لم جعلت بينك وبينهم أجلاً في التّحكيم؟ فإنّما فعلت ذلك ليتبيّن الجاهل، ويتثبّت العالم، ولعلّ الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمّة، ولا تؤخذ بأكظامها، فتعجل عن تبيّن الحقّ، وتنقاد لأوّل الغيّ» (2).

وأجاب علیه السلام عن اتهامه بالكفر: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم آبر، أبعد ايماني بالله وجهادي مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أشهد على نفسي 25

ص: 163


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 120
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 125

بالكفر، لقد ضللت اذاً وما أنا من المهتدين (1)

وقال علیه السلام وهو يحاججهم: فإن أبيتم إلّا أن تزعموا أنّي أخطأت وضللت، فلم تضللّون عامّة أمّة محمد صلی الله علیه و آله و سلم بضلالي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفّرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البراءة والسّقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب.

وقد علمتم أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجم الزّاني [المحصن] ثمّ صلّى عليه ثمّ ورّثه أهله وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله، وقطع السّارق وجلد الزّاني غير المحصن ثمّ قسم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات؛ فأخذهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بذنوبهم، وأقام حقّ الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله. ثمّ أنتم شرار النّاس، و من رمى به الشّيطان مرامیه و ضرب به تیهه! (2)

وأجاب علیه السلام عن شبهة (لا حكم الّا الله) بقوله: «كلمة حق يراد بها باطل! نعم إنّه لا حكم إلا الله، ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة، فإنّه لابدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدوّ، وتأمن به السّبل، ويؤخذ به للضّعيف من القويّ، حتى يستريح برّ، 27

ص: 164


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 57
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 127

ويستراح من فاجر (1)

ولم يال علیه السلام جهداً في نصيحتهم وتحذيرهم، فقد قال لهم: «فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط على غير بيّنة من ربكم ولا سلطان مبين معكم، قد طوّحت بكم الدار واحتبلكم المقدار» (2).

وكانوا منتشرين في جيش الإمام علیه السلام قبل انحيازهم بالنهروان وكانوا يبثون الشكوك والشبه حتى أمام أمير المؤمنين علیه السلام نفسه، فكانوا يأتون إليه ويسمعونه شعارهم لا حكم الّا الله» ممّا اضطر الإمام إلى أن يقول للبرج بن مسهر الطائي: اسكت قبّحك الله يا أثرم فو الله لقد ظهر الحق فكنت فيه ضئيلاً شخصك خفياً صوتك، حتى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن المعاز» (3).

ولما نصح علیه السلام أصحابه بكفّ النظر عن الشهوات في واقعة، قال بعض الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه، فوثب القوم ليقتلوه فقال: رويداً انّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب (4)

ولما خرج علیه السلام ليخطب الناس صاحوا به من جوانب المسجد: لا .

ص: 165


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 40.
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 36.
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 184.
4- المصدر نفسه، قصار الحكم:408.

حكم الّا الله، وصاح به رجل منهم واضع إصبعه في اذنيه فقال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (1).

فقال عليّ علیه السلام: فاصبر انّ وعد الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون» (2).

ونفس الواقعة تكررت مرّة اُخرى وهو علیه السلام في الصلاة، فأجاب بنفس الجواب (3).

فلما رأى أمير المؤمنين علیه السلام انّهم تمادوا في الضلال، ولم تنفعهم النصائح ضيّق عليهم، وقال فيما قال: ألا ومن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه، فانّما حُكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، وإحياؤه الاجتماع عليه، واماتته الافتراق عنه، فان جرّنا القرآن إليهم اتبعناهم، وإن جرّهم الينا اتبعونا» (4).

وحتى بعدما انحازوا وبدأوا بالقتل والسلب، كان يرسل إليهم الأشخاص للمحاججة والنصيحة، وفي إحدى المرات أرسل ابن عباس وقال له: «لا تخاصمهم بالقرآن فانّه حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون .

ص: 166


1- الزمر: 65.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 269.
3- المصدر نفسه 2: 311
4- نهج البلاغة الخطبة رقم: 127.

ولكن حاججهم بالسنة فانّهم لن يجدوا عنها محيصاً) (1).

ورغم كل تلك الجهود وبعد رجوع قوم منهم إلى الحق، كان آخر الدواء الكي، فدارت الحرب، وقتلوا عن آخرهم وكان كما قال أمير المؤمنين علیه السلام: «مصارعهم دون النطفة والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة» (2).

ولما مرّ علیه السلام بقتلاهم قال: «بؤساً لكم، لقد ضركم من غركم، فقيل له من غرهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: الشيطان المضل، والأنفس الأمارة بالسوء غرتهم بالأماني، وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الإظهار، فاقتحمت بهم النار» (3).

وبعد ما تمت الحرب نهى علیه السلام عن قتلهم بعده ومتابعتهم وقال: لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه يعني معاوية (4)

وذلك لأنّ هذا النمط من التفكير سيبقى ويستمر كما قال علیه السلام: انّهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء، كلّما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين (5) 59

ص: 167


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 77
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 58
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 314
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 60
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 59

وقال فيهم علیه السلام: «أما انّكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة» (1).

وقيل في تعليل نهيه علیه السلام عن قتل الخوارج:

1 - أنّه علیه السلام أراد اعطاء شرعية النهوض أمام الحاكم الجائر والاعتراض عليه، إذ انّ الحكام ربما يستغلّون موقف الإمام ويقمعون كل صوت يخالفهم بتهمة الخروج على الإمام.

2 - وكذلك انّ الذي له الحق في محاربة الخوارج انّما هو الإمام الحق، ولاحكومة معصومة بعد علي علیه السلام الّا للإمام المهدي علیه السلام - عدا أيام الإمام الحسن علیه السلام القلائل -

3 - ما ذهب إليه العلامة المجلسي من أنّه لا تقتلوا الخوارج بعدي ما دام ملك معاوية وأضرابه، كما يظهر من التعليل (2) .

ص: 168


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 57.
2- البحار: 434:33.

7 - علي علیه السلام والصحابة

لقد انطلق أمير المؤمنين علیه السلام في تعامله الصحابة والتكلم عنهم موقف القرآن، إذ انّ القرآن لم يعطهم العصمة في امورهم، بل مدحهم تارة وذمّهم أخرى، فاذا أحسنوا كان جزاؤهم الاحسان، وإن أساؤوا كان جزاؤهم الذم والهوان، شأنهم شأن سائر الناس، لو لم تكن الحجة عليهم ألزم كما هو الحال في نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم إذ يقول الله تعالى فيهنّ: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) (1). فهذا حال نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم فناهيك عن غيرهنّ من المسلمين.

ثم انّ الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم الذي لم يصدر منه أمام الله تعالى سوى العبودية والخضوع والتذلل والانقطاع، يُهدّد تارة بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (2).

وتارة بقوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ

ص: 169


1- الأحزاب: 30 - 31.
2- الحاقة: 44 - 46.

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (1). وأخرى بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (2). ويقول هو صلی الله علیه و آله و سلم عن نفسه الشريفة: «ولو عصيت لهويت» (3).

فمع هذا لا أدري كيف اجترأ القوم بالحكم على عدالة جميع الصحابة بما فيهم ومهما فعلوا؟ هذا ما يخالف القرآن والسنة النبوية فالقرآن يدل على انّ ملاك النجاة انّما هو التقوى والعبودية من أيّ شخص كان، وملاك الهلاك انّما هو العصيان ومتابعة الشيطان من أيّ شخص كان، وانّما المكفّر الوحيد للذنوب الاستغفار والتوبة لا شيء آخر، فمن أذنب ثم تاب واستغفر غفر الله تعالى له ورضى عنه سواء كان صحابياً أو غير صحابي، كما قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (4). وكما قال تعالى في مسألة مباشرة النساء ليلة الصيام: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) (5).

وقوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ .

ص: 170


1- الزمر: 65.
2- المائدة: 68.
3- الارشاد للمفيد 1: 182 شرح النهج لابن ابي الحديد 184:10.
4- الفتح: 18.
5- البقرة: 187.

رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (1). ومن الطبيعي انّ هذه الآيات لم تنزل دفعة واحدة، بل نزلت واحدة تلو الأخرى وفي مناسبات مختلفة، فنرى التوبة السابقة و المغفرة من الله تعالى لحقتها توبات ومغفرات أخرى في مناسبات أخرى، مما يدلّل على انّ حال الصحابة حال غيرهم في المعصية والتوبة والمغفرة.

مضافاً إلى انّ هذا الرضى وقبول التوبة لم يكن ليعطي العصمة من الوقوع في الذنوب مرة أخرى، ولم يقل أحد من المسلمين ان صحابياً لو أذنب بعد نزول هذه الآيات الدالة على الرضى والمغفرة، لم يحتج إلى التوبة والاستغفار، وانّه يكفيه شمول هذه الآيات عند نزولها إذ أصبح في حمى رضى الله تعالى أبد الآبدين، كيف وقد احتجوا بنجاة البغاة على الإمام: طلحة و الزبير وعائشة؛ بتوبتهم وندمهم وسردوا لذلك شواهد، ولم يستدلّوا على نجاتهم ولم يحتجوا بكونهم من أصحاب الشجرة وبيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم، ومن الذين تاب الله عليهم في مواطن مختلفة، فلا حاجة إذن للتوبة إذ ثبتت عدالتهم من ذي قبل، بل تمسكوا و حاولوا اثبات توبتهم، لعلمهم في قرارة أنفسهم بأنّ الصحابي وغير الصحابي والنبي وغير النبي أمام المعصية والذنب سواسية، كما قال زين العابدين علیه السلام: خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن إليه ولوكان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولوكان سيداً قرشياً» (2).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام: «انّ وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت 2

ص: 171


1- التوبة: 117.
2- المناقب لابن شهر آشوب 3: 291، البحار 46: 82

لحمته، وانّ عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته (1)

أما السنة النبوية فيكفينا حديث الحوض الوارد والثابت في صحاح القوم الدالّ بصراحته على ارتداد بعض الصحابة القهقرى واحداث البدع والفتن مما استوجبوا بها النار، فقد روى البخاري في صحيحه انّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ رجال منكم ثم ليختلجنّ دوني فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: انّك ما تدري أحدثوا بعدك» (2). وفي لفظ آخر للبخاري: «انّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، أنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» (3).

وهذا ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام وأكّده بقوله: «حتى اذا قبض الله رسوله صلی الله علیه و آله و سلم رجع قوم على الأعقاب وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي امروا بمودته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه في غير موضعه معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة على سنّة من آل فرعون من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين (4)

وفي نص آخر سأل رجل أمير المؤمنين علیه السلام عن الفتنة، وانّه هل سأل عنها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال علیه السلام: «لمّا أنزل الله سبحانه قوله: ﴿الم * .

ص: 172


1- نهج البلاغة، قصار الحكم 90.
2- صحيح البخاري 7: 206، وصحيح مسلم 7: 68، وسنن ابن ماجة 2: 1016.
3- المصدر نفسه 7: 208
4- نهج البلاغة الخطبة رقم: 150.

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين أظهرنا. فقلت: يا رسول الله ما هذه عليه الفتنة التى أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي إنّ أمتي سيفتنون من بعدي». فقلت: يا رسول الله، أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشّهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلت لي: أبشر، فإنّ الشّهادة من ورائك؟ فقال لي: «إنّ ذلك لكذلك فكيف صبرك إذن»! فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصّبر ولكن من مواطن البشرى والشّكر. وقال: يا عليّ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة، والأهواء السّاهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ، والسّحت بالهديّة والرّبا بالبيع.

قلت: يا رسول الله، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّةٍ، أم بمنزلة فتنةٍ؟ فقال: بمنزلة فتنة» (1).

وقد مضى موقفه علیه السلام أمام الخلفاء، وكذلك البغاة أمثال طلحة والزبير وعائشة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم.

وكما قلنا في البداية، انّ أمير المؤمنين علیه السلام انطلق في تعامله مع الصحابة من منطلق القرآن، ولذا نراه لا ينسى فضل المحسنين من الصحابة الذين قام الاسلام على أكتافهم، فيقول فيهم: «لقد رأيت أصحاب .

ص: 173


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 156.

محمد صلی الله علیه و آله و سلم فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثا غبراً، قد باتوا سجّداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تبلّ جباههم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاء للثواب (1).

وقال علیه السلام في مدح الأنصار: «هم والله ربّوا الاسلام كما يُربّى الفلو (2) مع غنائهم بأيديهم السباط (3) وألسنتهم السلاط (4) (5).

وقال علیه السلام وهو يصف صمود الصحابة وتضحيتهم لنصرة الدين: ولقد كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك الّا ايماناً وتسليماً ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم، وجداً على جهاد العدو، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما، أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منّا، فلما رأى الله صلی الله علیه و آله و سلم صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقرّ الاسلام ملقياً جرانه ومتبوئاً أوطانه» (6). 55

ص: 174


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 96.
2- الفلوّ: ولد الفرس.
3- السباط: يقال رجل سبط اليدين أي سخي.
4- السلاط: جمع سليط وهو الشديد و ذو اللسان الطويل.
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: 453.
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 55

8 - علي علیه السلام وبنو امية

أشار أمير المؤمنين علیه السلام في طيات كلامه إلى فتنة بني امية، وما يأتي على الناس من ظلم واضطهاد جرّاء حكمهم، ويتنبأ علیه السلام بسرعة زوال حكمهم، ونحن هنا نورد كلامه علیه السلام حول بني اُمية ونسرده سرداً.

قال علیه السلام: «انّ بني امية ليفوّقوني تراث محمد تفويقاً، والله لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التربة (1).

وقال علیه السلام في دولتهم حتى يظن الظان انّ الدنيا معقولة على بني امية، تمنحهم درّها وتوردهم صفوها لا يُرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظان لذلك، بل هي مجّة من لذيذ العيش يتطعّمونها برهة ثم يلفظونها جملة (2).

وقال علیه السلام: «ألا وإنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني اميّة فإنّها فتنة عمياء مظلمة، عمّت خطّتها، وخصّت بليّتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم الله لتجدنّ بني أميّة

ص: 175


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 76
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 86

لكم أرباب سوءٍ،بعدي كالنّاب الضّروس: تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درّها، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلّا نافعاً لهم، أو غير ضائرٍ بهم، ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا مثل انتصار العبد من ربّه، والصّاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيةً، وقطعاً جاهليّةً، ليس فيها منار هدًى، ولا علم يرى (1).

وقال علیه السلام: والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرّماً إلا استحلّوه، ولا عقداً إلّا حلّوه حتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلّا دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باكٍ يبكي لدينه وباكٍ يبكي لدنياه، وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده، إذا شهد أطاعه وإذا غاب اغتابه، وحتى يكون أعظمكم فيها غناءً أحسنكم بالله ظنّاً، فإن أتاكم الله بعافية فاقبلوا، وإن ابتليتم فاصبروا، فإنّ العاقبة للمتقين» (2).

وقال علیه السلام في وصف دولتهم وسرعة زوالها: «فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلّا وأدخله الظُّلَمَة ترحةً، وأولجوا فيه نقمةً، فيومئذ لا يبقى لهم في السّماء عاذر، ولا في الأرض ناصر. أصفيتم بالأمر غير أهله، وأوردتموه غير ورده، وسينتقم الله ممّن ظلم، مأكلاً بمأكلٍ، ومشرباً 7

ص: 176


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 92
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 97

بمشربٍ من مطاعم العلقم ومشارب الصّبر والمقر ولباس شعار الخوف، ودثار السّيف. وإنّما هم مطايا الخطيئات و زوامل الآثام.،فأقسم ثمّ أقسم لتنخّمنّها أميّة من بعدي كما تلفظ النّخامة، ثمّ لا تذوقها ولا تتطعّم بطعمها أبداً ما كرّ الجديدان» (1).

وقال علیه السلام: «انّ لبني امية مروداً يجرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثم كادتهم الضباع الغلبتهم» (2)

قال الرضي @: المرود هاهنا مفعل من الارواد وهو الامهال والانظار، وهذا من أفصح الكلام وأغربه، فكأنّه شبّه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى النهاية فاذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها. 52

ص: 177


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 158
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 452

9 - علي علیه السلام وقريش

بعدما استلم أمير المؤمنين علیه السلام دفّة الحكم، كان يظهر على لسانه ما تحمّله من إقصاء وظلم من قبل قريش فيما مضى، كما استمر الحال في فترة حكمه علیه السلام حيث كانت البلايا والفتن التي حصلت في تلك الفترة من قبلهم وبتخطيطهم، واليك شكواه علیه السلام منهم:

قال علیه السلام: مالي ولقريش، والله لقد قاتلتهم كافرين ولا قاتلنّهم مفتونين، وانّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم (1)

وقال علیه السلام: «اللهم انّي أستعديك على قريش ومن أعانهم، فانّهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا ألا في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه» (2).

وبنفس اللفظ قال علیه السلام: «اللهمّ إنّي أستعديك على قريشٍ [ومن أعانهم]، فإنّهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به من غيري وقالوا ألا إنّ في الحق أن تأخذه، وفي

ص: 178


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 33
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 172

الحقّ أن تمنعه فاصبر مغموماً، أو مت متأسّفاً. فنظرت فإذا ليس لي رافد، ولا ذابّ ولا مساعد إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشّجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم وآلم للقلب من حزّ الشّفار» (1).

وكتب علیه السلام إلى ابن عباس: فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق وجماحهم في التيه، فانّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبلي، فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن امّي (2)

وختاماً قال علیه السلام لما سئل عن قريش: «أمّا بنو مخزوم فريحانة قريش، نحبّ حديث رجالهم والنكاح في نسائهم، وأمّا بنو عبد شمس فأبعدها رأياً، وأمنعها لما وراء ظهورها، وأمّا نحن فأبذل لما في أيدينا، وأسمح عند الموت بنفوسنا، وهم أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح» (3) 14

ص: 179


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 217
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 36
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 114

10 - أدعية علي علیه السلام

ورد في نهج البلاغة مجموعة من أدعية أمير المؤمنين علیه السلام، كان يدعو بها في حالات ومناسبات مختلفة، وهي تعبّر عن مدى عُلقته علیه السلام المعنوية بالله تعالى ونحن - تتميماً للفائدة - نوردها كما هي.

قال علیه السلام: نسأل الله منازل الشهداء، ومعايشة السعداء، ومرافقة الأنبياء» (1).

وقال علیه السلام وهو يدعو على المتخاذلين من جنده: «اللهم انّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً منّي، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء (2).

ومن دعائه علیه السلام في السفر: «اللهم انّي أعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل و المال والولد. اللهم أنت الصّاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل؛ ولا يجمعهما غيرك؛ لانّ المستخلف

ص: 180


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 23
2- المصدر نفسه الخطبة رقم 25

لا يكون مستصحباً، والمستصحب لا يكون مستخلفاً» (1).

وقال علیه السلام: نسأل الله سبحانه أن يجعلنا واياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة» (2).

وقال علیه السلام: «اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به منّي؛ فإن عدت فعد لي بالمغفرة. اللهمّ اغفر لي ما وأيت من نفسي، ولم تجد له وفاءً عندي. اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك [بلساني] ثمّ خالفه قلبي. اللهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللّسان» (3).

وقال علیه السلام: «اللهم أنت أهل الوصف الجميل، والتّعداد الكثير، إن تؤمّل فخير مأمولٍ، وإن ترج فأكرم مرجوٍّ. اللهم وقد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، ولا أثني به على أحدٍ سواك، ولا أوجّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الرّيبة، وعدلت بلساني عن مدائح الآدميّين؛ والثّناء على المربوبين المخلوقين. اللهم ولكلّ مثنٍ على من أثنى عليه مثوبة من جزاء، أو عارفة من عطاء؛ وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرّحمة وكنوز المغفرة. اللّهم وهذا مقام من أفردك بالتّوحيد 7

ص: 181


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 46
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 63
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 77

الذي هو لك، ولم ير مستحقّاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلّا فضلك ولا ينعش من خلّتها إلّا منّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مدّ الأيدي إلى من سواك، إنّك على كلّ شيء قدير!» (1).

وقال علیه السلام: ونسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان» (2).

وكان من دعائه علیه السلام للنبي علیه السلام: «اللهم اقسم له مقسماً من عدلك، واجزه مضعّفات الخير من فضلك. اللهم اعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نزله، وشرّف عندك منزله، وآته الوسيلة، وأعطه السّناء والفضيلة واحشرنا في زمرته غير خزايا، ولا نادمين، ولا ناكبين ولا ناكثين ولا ضالّين ولا مفتونين (3)

وكان يدعو علیه السلام للاستسقاء ويقول: «اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرّت أرضنا وهامت دوابّنا، وتحيّرت في مرابضها، وعجّت عجيج الثّكالى على أولادها، وملّت التردّد في مراتعها، والحنين إلى مواردها. اللهم فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة!

اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها! اللهم خرجنا 05

ص: 182


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 90
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 98
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 105

إليك حين اعتكرت علينا حدابير السّنين، وأخلفتنا محايل الجود؛ فكنت الرّجاء للمبتئس والبلاغ للملتمس. ندعوك حين قنط الأنام ومنع الغمام، وهلك السّوام، ألّا تؤاخذنا بأعمالنا، ولاتأخذنا بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسّحاب المنبعق، والرّبيع المغدق، والنّبات المونق سحّاً وابلاً تحيي به ما قد مات، وتردّ به ما قد فات.

اللهم سقيا منك محيبةً مرويةً، تامةً عامةً طيبةً مباركةً، هنيئةً مريعةً، زاكياً نبتها ثامراً فرعها ناضراً ورقها تنعش بها الضّعيف من عبادك، وتحيي بها الميّت من بلادك! اللّهم سقيا منك تعشب بها نجادنا، وتجري بها وهادنا، ويخصب بها جنابنا وتقبل بها ثمارنا، وتعيش بها مواشينا، وتندى بها أقاصينا وتستعين بها ضواحينا من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة، على بريّتك المرملة، ووحشك المهملة.

وأنزل علينا سماءً مخضلةً، مدراراً هاطلةً، يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر، غير خلّب برقها، ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها ولا شفّان ذهابها، حتّى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيى ببركتها المسنتون، فإنّك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك، وأنت الوليّ الحميد» (1).

وقال علیه السلام أيضاً: اللهم إنّا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق الوعرة، وأجاءتنا المقاحط المجدبة 4

ص: 183


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 114

وأعيتنا المطالب المتعسّرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة. اللّهم إنّا نسألك ألّا تردّنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقايسنا بأعمالنا. اللهم انشر علينا غيثك وبركتك ورزقك ورحمتك، واسقنا سقيا نافعةً مرويةً معشبةً تنبت بها ما قد فات وتحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان وتسيل البطنان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار، إنّك على ما تشاء قدير (1).

وقال علیه السلام لما عزم على لقاء أصحاب صفين: «اللهم ربّ السّقف المرفوع، والجوّ المكفوف، الذي جعلته مغيضاً للّيل والنهار، ومجرّى للشّمس والقمر، ومختلفاً للنّجوم السيّارة، وجعلت سكّانه سبطاً من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك. وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام، ومدرجاً للهوامّ والأنعام، وما لا يحصى ممّا يرى وما لا يرى. وربّ الجبال الرّواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق اعتماداً. إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي وسدّدنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا الفتنة (2)

وكان من دعائه علیه السلام على قريش: «اللهم انّي أستعديك على قريش ومن أعانهم، فانّهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا: انّ في الحق أن تأخذه وفي الحق أن 71

ص: 184


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 143
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 171

تتركه (1)

وقال علیه السلام: استعملنا الله بطاعته وطاعة رسوله، وعفا عنّا وعنكم بفضل رحمته (2)

وكان علیه السلام يستنهض ويدعو جنوده لجهاد أهل الشام قائلاً: «اللهم أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلّا النّكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنّا نستشهدك عليه يا أكبر الشّاهدين شهادةً، ونستشهد عليه جميع ما أسكنته أرضك وسماواتك ثمّ أنت بعد المغني عن نصره، والآخذ له بذنبه» (3).

ومن دعائه علیه السلام الذي كان يدعو به كثيراً: «الحمد لله الذي لم يصبح بي ميّتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوء، ولا مأخوذاً بأسوأ عملي، و لا مقطوعاً دابري، ولا مرتدّاً عن ديني، ولا منكراً لربّي، ولا مستوحشاً من إيماني ولا ملتبساً عقلي، ولا معذّباً بعذاب الأمم من قبلي. أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي، لك الحجّة عليّ ولا حجّة لي، لا أستطيع أن آخذ إلّا ما أعطيتني، ولا أتّقي إلا ما وقيتني.

اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضلّ في هداك، أو أضام 2

ص: 185


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 172 وقريب منه الخطبة 217
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 190
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 212

في سلطانك، أو أضطهد والأمر لك! اللهم اجعل نفسي أوّل كريمة تنتزعها من كرائمي، وأوّل وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي! اللهم إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك أو نفتتن عن دينك، أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك!» (1)

ومن دعائه علیه السلام: «اللهم صن وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار، فأسترزق طالبي رزقك، وأستعطف شرار خلقك، وأبتلى بحمد من أعطاني وأفتتن بذمّ من منعني وأنت من وراء ذلك كلّه وليّ الاعطاء والمنع، إنّك على كلّ شيء قدير (2)

ومن دعائه علیه السلام أيضاً: «اللهم إن فههت عن مسألتي، أو عميت عن طلبتي، فدلّني على مصالحي، وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذاك بنكر من هداياتك، ولا ببدع من كفاياتك، اللهم احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك» (3).

وكان علیه السلام يقول إذا لقى العدوّ: «اللّهم إليك أفضت القلوب ومدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، ونقلت الأقدام، وأنضيت الأبدان. اللّهم قد صرّح مكنون الشّنآن وجاشت مراجل الأضغان، اللهم إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا، ربّنا افتح 26

ص: 186


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 215
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 224
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 226

بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين. (1)

وقال علیه السلام وقد مدحه قوم في وجهه اللهم انك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلنا خيراً ممّا يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون» (2).

ومن دعائه علیه السلام أيضاً: «اللهم إنّي أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي، وتقبح فيما أبطن لك سريرتي، محافظاً على رياء النّاس من نفسي بجميع ما أنت مطّلع عليه منّي، فأبدي للنّاس حسن ظاهري، وأفضي إليك بسوء عملي، تقرّباً إلى عبادك، وتباعداً من مرضاتك» (3).

وفي نهاية عهده علیه السلام لمالك الأشتر: وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني واياك لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، أنّا إليه راغبون. (4)

نعم هذه كانت أدعية أمير المؤمنين علیه السلام، وهي حِكَمَ وعبر وتوجّه إلى الله تعالى وانقطاع إليه. 53

ص: 187


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 15
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 94
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 267
4- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53

11 - الخصائص العلوية

نعتقد أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أفضل الخلق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لدلائل عقلية ونقلية كثيرة بحثت في مظانّها، وإن حاول القوم - عبثاً - إخفاء هذه الأفضلية، ولفترة عندما كانوا يعدّون الصحابة بحسب الأفضلية، يذكرون ابا بكر وعمر وعثمان ويمسكوا أي يجعلون الصحابة بعدهم سواسية في الفضل (1)، ثم بعد فترة ألحقوا علياً علیه السلام بهم، وكان قسم منهم يتردد في المفاضلة بين علي علیه السلام وبين عثمان (2)؟!.

وهذا من عجيب الأمر، إذ كيف تُنسى تلك الروايات المتواترة والصحيحة الدالة على فضل أمير المؤمنين علیه السلام وتُهمل، ولكن كما قال علیه السلام: «فيا عجباً للدهر إذ صرت يُقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها، الّا أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه،

ص: 188


1- صحيح البخاري 203:4
2- فتح الباري لابن حجر 7:14

ولا أظنّ الله يعرفه» (1).

وقال علیه السلام أيضاً وهو يذكر قصة الشورى: متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم، حتى صرت اُقرن الى هذه النظائر (2)

وعلى كل حال، فانّ خصائص أمير المؤمنين علیه السلام وفضائله كثيرة لا يحصيها هذا المختصر، ونحن نشير الى بعضها بحسب ما ورد في نهج البلاغة، إذ لو انّ الغياض أقلام والبحر مداد والجن حسّاب والانس كتّاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب علیه السلام (3).

وهذا الحديث النبوي صحيح في معناه حتى لو أغمضنا النظر عن سنده، إذ كيف يتمكن الخلق إحصاء فضائله الظاهرية والباطنية والحال انّ عملاً واحداً منه علیه السلام في يوم الخندق كان أفضل من عبادتهم جميعاً (4)

وفيما يلي نورد بعض خصائصه علیه السلام بحسب ما ورد على لسانه في نهج البلاغة:

1 - اسلامه: مضى انّ أمير المؤمنين علیه السلام أول من آمن برسول 5

ص: 189


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 9
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 3.
3- المناقب للخوارزمي: 32، وينابيع المودة للقندوزي 2: 254
4- المستدرك للحاكم 32:3، تفسير الرازي،32: 31 تاريخ بغداد للخطيب 19:13، كنز العمال للمتقي 11: 623 ح 33035

الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلا حاجة الى تكراره، وقد قال علیه السلام عن نفسه الشريفة: «وانّي لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل ومنار النهار، متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون ولا يفسدون قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل». (1)

2 - صدقه: قال علیه السلام بعد ما بويع بالمدينة: «والله ما كتمت وشمة، ولا كذبت كذبة، ولقد نُبّئت بهذا المقام وهذا اليوم». (2)

وقال علیه السلام: «أتراني أكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والله لأنا أوّل من صدّقه، فلا أكون أول من كذب عليه. (3).

وقال علیه السلام مخاطباً أهل العراق «وقد بلغني انّكم تقولون: عليّ يكذب، قاتلكم الله فعلى من أكذب أعلى الله فأنا أوّل من آمن به، على نبيّه فأنا أوّل من صدّقه» (4).

وقال علیه السلام في خطبة تشتمل على ذكر الملاحم: فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، انّ الذي اُنبئكم به عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ما كذب المبلغ ولا جهل السامع (5). 00

ص: 190


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 16
3- المصدر نفسه الخطبة رقم: 37
4- المصدر نفسه الخطبة رقم: 70
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم 100

وقال علیه السلام: والذي بعثه بالحق، واصطفاه على الخلق ما أنطق الّا صادقاً، وقد عهد اليّ بذلك كلّه وبمهلك من يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمرّ على رأسي الّا أفرغه في اذني و أفضى به اليّ (1).

وقال علیه السلام وهو يصف مكانته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقربه منه: وما وجد كذبة لي في قول، ولا خطلة في فعل

(2)

3 - محبته: قال علیه السلام: «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، وذلك انّه قضي فانقضى على لسان النبي صلی الله علیه و آله و سلم انّه قال: لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق (3).

ويؤيّده ما رواه مسلم في صحيحه عن علي علیه السلام انّه قال: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، انّه لعهد النبي الأمي صلی الله علیه و آله و سلم اليّ لا يحبّني إلّا مؤمن ولا يبغضني إلّا منافق (4)

طبعاً نحن نتمسّك بحبه علیه السلام وولايته، ولا نخرج عن حدّ الاعتدال لنقع في الغلو، إذ كما قال علیه السلام: هلك فيّ رجلان: محب غال، ومبغض .

ص: 191


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 175
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 192
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 40
4- صحیح مسلم کتاب الايمان باب 33 ح 131.

(1)

قال (2). وقال علیه السلام: يهلك فيّ رجلان محب مفرط، وباهت مفتر (3)

4 - زهده: كتب علیه السلام إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: «ألا وانّ امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وانّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه اتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفطة مقرة ... ولوشئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً و حولي بطون غرثى وأكباد حرّى ... فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها ... إليك عنّي يادنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذهاب في مداحضك ... اعزبي عنّي فو الله لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس لك فتقوديني، و ايم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله عز وجل، لأروضنّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا 57

ص: 192


1- المصدر نفسه، قصار الحكم: 457
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 111
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 457

قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها، أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض و يأكل عليّ من زاده فيهجع، قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة و السائمة المرعية» (1).

و رُؤي عليه إزار خلق مرقوع فقيل له في ذلك، فقال علیه السلام: يخشع له القلب و تذلّ به النفس، ويقتدي به المؤمن. (2)

قال علیه السلام: «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو لا حضور الحاضر، و قيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (3).

و قال علیه السلام: و الله لقد رقّعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: اعزب عنّي، فعند الصباح يحمد القوم السُّرى (4).

وقال علیه السلام: «انّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة 60

ص: 193


1- نهج البلاغة الكتاب رقم: 45
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 97
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 3
4- المصدر نفسه الخطبة رقم 160

تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى (1).

و قال علیه السلام وهو يخاطب الدنيا: يا دنيا يادنيا، إليك عنّي، أبي تعرضت أم إليّ تشوّقت، لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، و أملك حقير» (2).

و قال علیه السلام: «و الله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم» (3)

5 - بصيرته: قال علیه السلام: «ما شككت في الحق مذ اُريته» (4).

و قال علیه السلام: «و انّ معي البصيرتي ما لبست على نفسي، ولا لُبس علي» (5).

و قال علیه السلام: «وانّي لعلى يقين من ربي، وغير شبهة من ديني» (6)

و قال علیه السلام: «وانّي لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيیّي، وانّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً» (7). 6

ص: 194


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 223
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 72
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 227
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم 4
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 10
6- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 22
7- المصدر نفسه، الخطبة رقم 96

وقال علیه السلام: «فو الذي لا إله إلّا هو أنّي لعلى جادة الحق، وانّهم لعلى مزلّة الباطل» (1). وقال علیه السلام في البغاة: «وانّي من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي، ويقين من

ربي» (2)

6 - استجابة دعائه: وهي كثيرة وردت الاشارة إلى واحدة منها في نهج البلاغة، وذلك لما بعث أنس بن مالك إلى طلحة و الزبير لما جاءا إلى البصرة يذّكرهما بشيء سمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في معناهما، فلوى عن ذلك فرجع إليه فقال: انّي نسيت ذلك الأمر، فقال علیه السلام: «إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة» يعني البرص، فأصاب أنساً هذا الداء فيما بعد في وجهه، فكان لا يرى الّا مبرقعاً (3).

7 - شجاعته: قال علیه السلام في الناكثين: فان أبوا أعطيتهم حدّ السيف، و كفى به شافياً من الباطل، و ناصراً للحق، ومن العجب بعثهم اليّ أن ابرز للطعان، وأن اصبر للجلاد هبلتهم الهبول، لقد كنت وما اُهدد بالحرب ولا اُرهب بالضرب (4).

و قال علیه السلام بعدما ذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و كيفية دعوته وارشاده: 22

ص: 195


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 197
2- المصدر نفسه الكتاب رقم 62
3- المصدر نفسه، قصار الحكم: 302
4- المصدر نفسه الخطبة رقم 22

«أما و الله إن كنت لفي ساقتها حتى تولّت بحذافيرها، ما عجزت ولا جبنت» (1).

وقال علیه السلام في حثّ الناس على جهاد أهل الشام: و الله انّ امرأً يمكّن عدوّه من نفسه، يعرق لحمه ويهشم عظمه، ويفري جلده، لعظيم عجزه ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره أنت فكن ذاك إن شئت، فأمّا أنا فو الله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح منه السواعد و الأقدام» (2).

و قال علیه السلام بعدما استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين: «أما قولكم: أكلّ ذلك كراهية الموت فو الله ما اُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت اليّ» (3).

وقال علیه السلام: «انّ أكرم الموت القتل و الذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على الفراش (4)

وقال علیه السلام: و الله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها». (5) 5

ص: 196


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 33
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 34
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 54
4- المصدر نفسه الخطبة رقم: 122
5- المصدر نفسه الكتاب رقم 45

وقال علیه السلام: انّي و الله لو لقيتهم واحداً و هم طلاع الأرض كلّها ما باليت ولا استوحشت» (1).

وأخيراً قيل له علیه السلام: «بأيّ شيء غلبت الأقران؟ فقال: «ما لقيت رجلاً الّا أعانني على نفسه يومئ علیه السلام بذلك إلى تمكّن هيبته في القلوب (2).

8 - علمه: قال علیه السلام: اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة» (3).

و قال علیه السلام: «فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم و بين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة الّا نبأتكم بناعقها و قائدها وسائقها، ومناخ راكبها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ومن يموت منها موتاً» (4).

و قال علیه السلام بنفس المضمون: «أيّها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض (5).

و قال علیه السلام: وليس كل أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من كان يسأله 9

ص: 197


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 62
2- المصدر نفسه، قصار الحكم 309
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 5
4- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 92
5- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 189

ويستفهمه، حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي أو الطارئ، فيسأله حتى يسمعوا، و كان لا يمرّ بي من ذلك شيء الّا سألت عنه وحفظته» (1)

و قال في وصيته للإمام الحسن علیه السلام: «أي بني، انّي وإن لم أكن عُمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، و فكّرت في أخبارهم و سرت في آثارهم حتى عُدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى اليّ من امورهم قد عمّرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من کدره، ونفعه من ضرره» (2).

و في عهده علیه السلام للأشتر: واعلم أنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها الّا ببعض، و لا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتّاب العامة و الخاصة، و منها قضاة العدل، و منها عمّال الانصاف و الرفق، و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس، و منها التجار و أهل الصناعات، و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة و المسكنة، وكلاً قد سمّى الله سهمه، و وضع على حدّه و فريضته في كتابه أو سنة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم عهداً منه عندنا محفوظاً» (3).

و يدخل أيضاً في غزارة علمه علیه السلام إخباره بالمغيبات التي تعلمها من 53

ص: 198


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 210
2- المصدر نفسه الكتاب رقم: 31
3- المصدر نفسه، الكتاب رقم 53

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهذا ما صرّح به علیه السلام لبعض أصحابه لما قال له: لقد اُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك و قال: «ليس هو بعلم غيب، و انّما هو تعلّم من ذي علم، و انّما علم الغيب علم الساعة، و ما عدّده الله سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) (1) الآية، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، و قبيح أو جميل، و سخي أو بخيل، و شقي أو سعيد، و من يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد الّا الله، و ما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيه صلی الله علیه و آله و سلم فعلّمنيه، و دعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمّ عليه جوانحي» (2).

و مما ورد في نهج البلاغة من اخباره بالمغيبات قوله علیه السلام في مروان ابن الحكم: «أما انّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه، و هو أبو الأكبش الأربعة، و ستلقى الأمة منه و من ولده يوماً أحمر» (3).

قال علیه السلام: فو الّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، إنّ الذي أنبّئكم به عن النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ما كذب المبلّغ، ولا جهل السّامع، لكأنّي أنظر إلى ضلّيل قد نعق بالشّام، وفحص براياته في ضواحي كوفان. فإذا فغرت فاغرته و اشتدّت شكيمته و ثقلت في الأرض وطأته، عضّت الفتنة 72

ص: 199


1- لقمان: 34
2- نهج البلاغة الخطبة رقم: 128
3- المصدر نفسه الخطبة رقم: 72

أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها، وبدا من الأيّام كلوحها، ومن اللّيالي كدوحها.

فإذا ينع زرعه وقام على ينعه وهدرت شقاشقه وبرقت بوارقه عقدت رايات الفتن المعضلة، و أقبلن كالليل المظلم، و البحر الملتطم. هذا، وكم يخرق الكوفة من قاصف، و يمرّ عليها من عاصف! و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون، ويحصد القائم، ويحطم المحصود!» (1)

وقال صلی الله علیه و آله و سلم: فتن كقطع اللّيل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا تردّ لها راية، تأتيكم مزمومةً مرحولةً: يحفزها قائدها، و يجهدها راكبها، أهلها قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم، يجاهدهم في الله قوم أذلّة عند المتكبّرين، في الأرض مجهولون، وفي السّماء معروفون.

فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله! لا رهج له، ولا حسّ وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر (2).

و قال علیه السلام: «أما والله ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذّيال الميّال، يأكل خضرتكم، ويذيب شحمتكم» (3).

و قال علیه السلام عن البصرة: «يا أحنف كأنّي به وقد سار بالجيش 15

ص: 200


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 100
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 101
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم 115

الذي لا يكون له غبار و لا لجب، ولا قعقعة لُجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام. يومىء بذلك (علیه السلام) إلى صاحب الزّنج. ثمّ قال (علیه السلام): ويل لسكككم العامرة، ودوركم المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النّسور، و خراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم أنا كابّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها.

منه: ويومئ به إلى وصف الاتراك: كأنّي أراهم قوماً كأنّ وجوههم المجانّ المطرّقة، يلبسون السّرق والدّيباج ويعتقبون الخيل العتاق، و يكون هناك استحرار قتل، حتّى يمشي المجروح على المقتول، و يكون المفلت أقلّ من المأسور!» (1).

و قال علیه السلام: ألا وفي غدٍ - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمّالها على مساوئ أعمالها، و تخرج له الأرض أفاليذ كبدها، و تلقي إليه سِلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السّيرة، و يحيي ميّت الكتاب و السّنّة. كأنّي به قد نعق بالشّام، و فحص براياته في ضواحي كوفان، فعطف عليها عطف الضّروس، وفرش الأرض بالرّؤوس، قد فغرت فاغرته وثقلت في الأرض وطأته، بعيد الجولة، عظيم الصّولة. والله ليشرّدنّكم في أطراف الأرض حتى لا يبقى منكم إلّا قليل، كالكحل في العين فلا تزالون كذلك، حتّى تؤوب إلى العرب .

ص: 201


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 128.

عوازب أحلامها» (1).

وقال علیه السلام: وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله و رسوله وليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر! (2)

وقال علیه السلام في دولة بني اُمية: فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر الّا وأدخله الظلمة ترحة، وأولجوا فيه نقمة فيومئذٍ لا يبقى لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر ... فأقسم ثم أقسم لتنخمنّها امية من بعدي كما تلفظ النخامة ثم لا تذوقها ولا تتطعّم أبداً ما كرّ الجديدان» (3).

وقال علیه السلام: و الله لو شئت أن اُخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ألا وانّي مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه، والذي بعثه بالحق واصطفاه عن الخلق، ما أنطق الّا صادقاً، وقد عهد اليّ بذلك كلّه، و بمهلك من يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى 58

ص: 202


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 138
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 147
3- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 158

شيئاً يمرّ على رأسي الّا أفرغه في اذني وأفضى به اليّ (1).

وقال علیه السلام: يأتي على النّاس زمان لا يقرّب فيه إلّا الماحل، ولا يظرّف فيه إلّا الفاجر، ولا يضعّف فيه إلّا المنصف، يعدّون الصّدقة فيه غرماً، وصلة الرّحم مناً، والعبادة استطالةً على الناس! فعند ذلك يكون

السّلطان بمشورة الاماء، وإمارة الصّبيان، وتدبير الخصيان! (2)

وأخيراً قال علیه السلام: التعطفنّ الدنيا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (3) (4). 99

ص: 203


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 175
2- المصدر نفسه، قصار الحكم: 96
3- القصص: 5
4- نهج البلاغة، قصار الحكم 199

12 - علي علیه السلام و الشهادة

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصف المتقين: لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين (1).

وكان أمير المؤمنين علیه السلام سيد المتقين وكان يتلهّف إلى الشهادة والى لقاء ربه، وفي كل معركة كان علیه السلام يترقب ذلك، ولما حيزت عنه الشهادة يوم احد شق ذلك عليه حتى أنّه شكي ما به من ألم إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و هو علیه السلام يصور لنا هذه المحاورة بصورة رائعة و يقول: فقلت: يارسول الله أوليس قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشهادة، فشق ذلك عليّ، فقلت: أبشر فانّ الشهادة من ورائك، فقال لي: انّ ذلك لكذلك فكيف صبرك إذن؟! فقلت: يارسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى و الشكر (2).

ص: 204


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 193
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 156

وكان علیه السلام يقول لجنده أيام خلافته: «فو الله لولا طمعي عند لقائي عدوّي في الشهادة، وتوطيني نفسي على المنية، لأحببت أن لا أبقی مع هؤلاء يوماً واحداً، ولا ألتقي بهم أبداً» (1).

وبنفس المضمون قال مرّة اخرى: و الله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدوّ - ولو قد حمّ لي لقاؤه - لقرّبت ركابي، ثم شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال» (2).

وكان علیه السلام يدعو أن يرزقه الله تعالى الشهادة شوقاً إليها، فكتب في عهده إلى الأشتر: (وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة ... أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة» (3).

وكان من دعائه علیه السلام لما عزم على لقاء أهل الشام: « ... وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة» (4).

وكان علیه السلام متألّماً لتأخّر فوزه بالشهادة، وكان تألمه هذا يظهر في بیانه وما سطره ببنانه، فقال علیه السلام فيما كتبه لمعاوية حينما ذكر استشهاد حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث: وأراد من لوشئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، ولكن آجالهم عُجّلت ومنيته اُخّرت» (5). 9

ص: 205


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 35
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 118
3- المصدر نفسه الكتاب رقم 53
4- المصدر نفسه الخطبة رقم: 171
5- المصدر نفسه الكتاب رقم 9

وكان علیه السلام يقول بملئ فمه المبارك: «و انّي إلى لقاء الله لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر راج» (1).

بل انّه علیه السلام كان يأنس بالموت كما قال: «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه» (2).

وأخيراً

لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله)

صاحت الأفلاك: تهدمت والله أركان الهدى

و صاح عليّ عليه السلام

فزت ورب الكعبة 5

ص: 206


1- نهج البلاغة الخطبة رقم: 62
2- المصدر نفسه، الخطبة رقم 5

الفهرس

تمهید ... 5

1 - علي و رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... 7

1 - إسلامه علیه السلام ... 8

2 - جهاده علیه السلام ... 10

3 - اختصاصه بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 12

4 - الروايات المسندة ... 14

5 - ساعة الرحيل ... 19

2 - علي بعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ... 23

1 - السقيفة ... 24

2 - مظلومية الزهراء علیها السلام ... 28

3 - فدك ... 31

4 - مساعدة السلطة ... 38

3 - علي علیه السلام والإمامة ... 41

4 - علي علیه السلام والخلفاء ... 52

1 - أبو بكر ... 52

2 - عمر بن الخطاب ... 54

3 - عثمان بن عفان ... 63

5 - علي علیه السلام والخلافة ... 72

1 - البیعة ... 72

ص: 207

2 - تحليل نفسية المجتمع ... 78

3 - وصف المسلمين آنذاك ... 84

4 - سيرته علیه السلام الحكومية ... 96

5 - سيرته علیه السلام المالية ... 107

6 - سيرته علیه السلام الحربية ... 116

6 - علي علیه السلام والبغاة ... 124

1 - حكم البغاة ... 124

2 - أصحاب الجمل ... 136

3 - أصحاب صفين ... 145

4 - الخوارج ... 158

7 - علي انا والصحابة ... 169

8 - علي علیه السلام وبنو امية ... 175

9 - علي علیه السلام وقريش ... 178

10 - أدعية علي علیه السلام ... 180

11 - الخصائص العلوية ... 188

12 - علي علیه السلام والشهادة ... 204

الفهرس ... 207

ص: 208

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.