في رحاب نهج البلاغة

هوية الکتاب

في رِحَابِ نهج البلاغة

الأستاذ مُرتَضى المطهري

الدار الاسلامية

للطباعة والنشر والتوزيع

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1413 ه- - 1992م

المركز الرئيسي : بيروت - كورنيش المزرعة - الحسن سنتر

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

في رِحَابِ نهج البلاغة

الأستاذ مُرتَضى المطهري

الدار الاسلامية

للطباعة والنشر والتوزيع

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1413 ه- - 1992م

المركز الرئيسي : بيروت - كورنيش المزرعة - الحسن سنتر

هاتف 816627 ص.ب. 14/5680

فرع حارة حريك. مفرق الحلباوي.

ص: 4

المقدمة

كيف عرفت «نهج البلاغة» ؟

لعله قد اتفق لكم - و ان كان لم يتفق فإنكم تستطيعون أن تتصوروا ما أريد أن أقوله - أن عشتم أعواماً مع رجل في محلة واحدة، كنتم تقابلونه كل يوم مرة على الأقل ، فتسلمون عليه أو يسلم عليكم وفق المجاملات العرفية ثم تنطلقون عابرين. وعلى هذا المنوال تمضي الأيام و الشهور والأعوام ...

حتى يتفق أن تجلسوا معه عدة مجالس ، فتتعرفوا بذلك على أفكاره و اتجاهاته وأحاسيسه وعواطفه ، وحينئذٍ تشعرون بكل إعجاب أنكم لم تكونوا تقدرون على أن تعرفوه كما عرفتموه الآن.

ومن ذلك الحين تتبدّل صورته في تصوراتكم عنه، وحتى صورته الجسدية تتبدى في نظركم على غير ما كان عليه من ذي قبل، و سوف يجد لنفسه معنى وكرامة أخرى غير ما كان عليها في عواطفكم ، و تظهر شخصيته لكم من وراء الحجب غير ما كانت عليه ، وكأنه غير ذلك الرجل الذي كنتم ترونه و تقابلونه منذ سنين ، أو كأنكم قد اكتشفتم عالماً جديداً غير ذلك العالم السابق !

لقد كان تعرفي على «نهج البلاغة » هكذا ، إذ كنت أعرفه منذ صغري وقد رأيته يوم ذاك بين كتب والدي (أعلى الله مقامه ) ، وبعد ذلك اشتغلت بالدراسة أعواماً ، فأكملت العلوم العربية في الحوزة العلمية بمدينة (مشهد الإمام

ص: 5

الرضا (ع) ) ثم في الحوزة العلمية في بلدة ( قم - المقدسة ) ، وكنت على وشك إنهاء الدراسة التي يصطلح عليها ب- ( دراسة السطوح العلمية) و في جميع هذه المدة كان اسم ( نهج البلاغة) بطرق سمعي بعد القرآن الكريم أكثر من أي كتاب آخر. و كنت مذ ذاك أسمع بعض المخطب في ( الزهد) من الخطباء كثيراً حتى أني كنت أحفظها تقريباً . ولكني أعترف أني كنت حينئذ - ككثير من أقراني من الطلبة - بعيداً عن عوالم (نهج البلاغة ) ! أتلقاه وكأني غريب عنه ، و أمّر به وكأني بعيد عنه ! حتى سافرت سنة 1365 ه- . هروباً من حرّ مدينة قم - بعد إقامتي فيها خمس سنين - إلى مدينة (إصفهان ) . فعرّفني التوفيق هناك برجل عارف بنهج البلاغة ، فأخذ ذلك الرجل بيدي وأوردني بعض مناهله. و حينذاك شعرت بأني لم أكن أعرف هذا الكتاب الكبير! وبعد ذلك كنت أتمنى لو أني أجد من يعرفني بعوالم القرآن الكريم أيضاً ! .

و منذ ذلك الحين تبدلت صورة (نهج البلاغة ) في نظري ، وتعلق قلبي به وأحببته ، وكأنه كتاب آخر غير الذي كنت أعرفه منذ صغري ، وكأني اكتشفت عالماً جديداً ! .

والشيخ محمد عبده المفتي الأسبق للديار المصرية ، الذي شرح (نهج البلاغة ) شرحاً مختصراً وطبعه بشرحه ونشره في مصر فعرّف بذلك المصريين بنهج البلاغة لأول مرة ، قال هو أيضاً إنه لم يكن يعرف نهج البلاغة حتى طالعه في سفرة بعيدة عن الوطن الأم فأعجبه ، و شعر كأنه توصل به إلى كنز ثمين و لذلك عزم من حينه على شرحه وطبعه وتقديمه إلى الأمة العربية .

ولا عجب ولا استغراب في بعد عالم غير شيعي عن (نهج البلاغة ) ، إنما العجيب الغريب غربة (نهج البلاغة ) حتى في دياره بين شيعة علي (ع) ، و حتى في الحوزات العلمية الشيعية ! كما ظل علي (علیه السلام) نفسه غريباً أيضاً ! فمن البدهي أنه لو لم يكن هناك تلاؤم بين محتويات كتاب شخص أو أفكاره مع العالم الروحي لأمة ما ، لكان ذلك الكتاب أو الشخص غريباً عنها عملياً، مهما كانت تلك الأمة تعظم اسم ذلك الكتاب أو الرجل و تقرنه بآيات الجلال والعظمة.

إنه يجب علينا - نحن الطلاب - أن تعترف يبعدنا عن نهج البلاغة ، فإن

ص: 6

العالم الروحي الذي صنعناه لأنفسنا عالم آخر غير ذلك العالم المصوّر في نهج البلاغة !

ذكرى الشيخ الأستاذ

وبودي أن أذكر في هذه المقدمة سطوراً عن ذلك الرجل الذي عرّفني لأول مرة بنهج البلاغة ، و الذي أعد حضوري لديه إحدى الذخائر الثمينة من عمري بحيث لا أرضى أن أُعوّض عنها بشيء أبداً ! ولا يمر عليّ ليل أو نهار حتى أتمثله في خاطري فأذكره بخير .

أتجرّأ فأقول : إنه كان بحق «عالماً ربانياً» ، بينما لا أتجرأ لنفسي على أن أقول : إني كنت « متعلماً على سبيل نجاة» (1) . أتذكر أني حسين التقائي به كنت أذكر كلام الكاتب و الشاعر الإيراني الكبير سعدي الشيرازي إذ يقول :

المرء كل المرء - يا إخواني *** إن كان - فهو العالم الرباني

أما الرجال العابدون الزاهدون *** السالكون مسالك الإيمان

فهم بدرب الحق أبناء له *** والعالمون هداتهم ببيان(2)

لقد كان فقيهاً حكيماً وأديباً طبيباً أ كان عالماً بالفقه و الفلسفة ، والأدب العربي والفارسي ، والطب والحكمة القديمة، حتى كان يعدّ في بعض فروعها الإخصائي الأول . كان يدرّس (كتاب القانون ) في الفلسفة الطبيعية و الحكمة الإلهية للشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن علي بن سينا ببيان واضح ، و كان يحضر درسه فضلاء عصره في مصره . ولكنه لم يكن من الممكن تقييده بدرس معين ، بل لم يكن يلائمه أي قيد قط ! اللهم إلّا الدرس الوحيد الذي كان يجلس إليه بشوق و رغبة، و هو درس (نهج البلاغة) فإنه كان يطير به في آفاق لم نكن نستطيع أن ندركها جيداً ! . .

ص: 7


1- نهج البلاغة ج 3 الحكمة : 147 : « يا كميل أ الناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، و همج رعاع» .
2- معرب قوله : عابد و زاهد وصوفي همه طفلان رهاند *** مرد اگر هست بجز عالم ربانی نیست . و التعريب للمغرب .

إنه كان يعيش بنهج البلاغة و يتنفس به ، قلبه ينبض به و عروقه تفور بدمه ! و كان هذا الكتاب و رده الذي يلهج به و يستشهد بجمله ، و كثيراً ما كان إجراء كلماته على لسانه يقارنه إسبال الدمع من عينيه على محاسنه ! لقد كسان اندماجه في نهج البلاغة الذي كان يقطعه عنا وعن كل شيء حوله منظراً ذا إيحاء نفسي لذيذ ، ولا غرو ، فإن الإستماع إلى كلام القلب من ذوي القلوب خلاب ذو وقع في النفوس . إنه كان أنموذجاً صالحاً من ذلك السلف الصالح الذي كان يصدق فيه كلام علي (علیه السلام) إذ يقول : « ... و لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب و خوفاً من العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» (1)

إن الأديب المحقق ، و الحكيم الإلهي ، والفقيه الكريم ، والطبيب الكبير ، و العالم الرباني : المرحوم الشيخ الحاج ميرزا علي آقا الشيرازي الإصفهاني ( قدس الله سره) كان يحق رجل الحق والحقيقة ، إنه مع كل ما له من المقام العلمي و الشخصية الإجتماعية ، كان إحساسه بالمسؤولية في هداية الناس و إرشادهم، و علاقته القلبية بمقام سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين بن علي (علیه السلام) ، باعثاً له على الخطابة و الوعظ والإرشاد ، وحيث كان كلامه يخرج من قلبه كان يخترق القلوب فينفذ فيها ويستقر ! حتى أنه كلما كان يقدم إلى ( مدينة قم المقدسة ) كان يطلب منه العلماء الكبار أن يرقى المنبر فيعظهم ببعض مواعظه .

كان يتقي حتى إمامة صلاة الجماعة ، إلّا أنهم كانوا يطلبون منه بإصرار و الحاح شديدين أن يؤمهم في الجماعة في شهر رمضان المبارك من كل سنة في (مدرسة الصدر - بإصفهان ) و مع أنه لم يكن يحضر لذلك بانتظام ولم يتحمل التقيد بالحضور للصلاة في الساعة المعينة ، كان يشترك في صلاته الساعة المعينة ، كان يشترك في صلاته جمع كثير لم يجتمع الأحد قبله . فقيل إنه كان قد سمع بتقللة الناس في سائر الصلوات فلم يتحمل الإدامة .

كان يعرفه ويحبه - على ما أعلم - جميع أهل إصفهان ، كما كانت ( الحوزة ل

ص: 8


1- الخطبة : 186 ص 132 من ج 10 لشرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل

العلمية بقم المقدسة) تحبه أيضاً ، فكان حين وصوله إلى هذه المدينة للزيارة يبادر إلى زيارته علماؤها كلهم ، في حين أنه كان بعيداً عن كل قيد من قيود الزيارة ورد الزيارات. فرحمة الله عليه رحمة واسعة ، و حشره الله مع أوليائه الأئمة

الطاهرين .

و مع كل ذلك لا أدعي أنا أنه كان عالماً بجميع ما في ( نهج البلاغة ) من عوالم وآفاق ، و أنه كان قد افتتحها جميعاً ، بل إنه كان قد تخصص في بعض تلك الأفاق و العوالم ، و لكنه كان محققاً فيما كان متخصصاً فيه، أي أنه كان قد تجسد فيه ذلك القسم من الكتاب صورة خارجية ! .

إن لنهج البلاغة عوالم عديدة: عالم الزهد و التقوى ، عالم العرفان و العبادة ، عالم الحكمة و الفلسفة ، عالم النصح و الموعظة ، عالم الملاحم و المغيّبات ، عالم السياسة و المسؤوليات الإجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة ... و توقع التوفيق للتحقيق و التخصص لشخص واحد في جميع هذه العوالم و الآفاق بعيد عن الواقع والحقيقة . إنه كان قادراً على السباحة في قسم من هذا البحر العظيم ، و محيطاً بأقسام من هذا المحيط .

مجتمعنا اليوم ، ونهج البلاغة

لم أكن أنا وحدي و أمثالي فقط بعداء عن عوالم نهج البلاغة بل إن المجتمع الإسلامي لم يكن يعرفه ! و الذي كان يعرفه لم تكن معرفته تتجاوز حدود شرح الكلمات وترجمة الألفاظ ! أما روحه و محتواه فقد كان خفياً على كل أحد. أما الآن فإن العالم الإسلامي أخذ يكتشف نهج البلاغة شيئاً فشيئاً ، أو : أن نهج البلاغة أخذ يفتتح العالم الإسلامي.

و إن تعجب فعجب أن يكون أول من اكتشف ونشر قسماً من محتويات هذا الكتاب - سواء في إيران أو في سائر الدول الإسلامية و العربية - غير المسلمين !

نعم ، كان هدفهم - أو هدف أكثرهم - من هذا العمل : أن يجدوا من علي (علیه السلام) وكتابه تصحيحاً وتصويباً لبعض دعاويهم الإجتماعية ( السياسية ) وأن

ص: 9

ينتصروا بذلك على رقبائهم . ولكن عملهم هذا لم ينتج إلا عكس ما كانوا يأملون ! إذا أن المسلمين علموا - لأول مرة - أن ذلك الكلام المعسول الذي كان يتشدق به الأجانب لم يكن شيئاً جديداً، و أن في (نهج البلاغة) أحسن منه وأحسن ، وكذلك في سيرة علي (علیه السلام) ، وسيرة المتأدبين بآدابه وتعاليمه التربوية : كسلمان، وأبي ذر ، وعمار بن ياسر ، فكان ذلك بدل أن يصوب (نهج البلاغة ) ما يقولون و يفعلون - فاضحاً لهم وسبباً لانتكاسهم و هزيمتهم. ولكن علينا أن نعترف - على كل حال - أن معرفتنا بنهج البلاغة قبل هذا العمل لم تكن لتجاوز حدود بعض الخطب في التقوى والإرشاد والموعظة والزهد والعبادة فحسب ، أما الكنز الثمين الذي ينطوي في ( عهد الإمام إلى مالك الأشتر النخعي ) فلم يكن يعرفه أحد ، أو لم يكن يوليه أحد أي إهتمام !

* * *

إن نهج البلاغة - كما هو مذكور في الفصل الأول و الثاني من الكتاب - منتخب من خطب الإمام علي (علیه السلام) و وصاياه و أدعيته ورسائله وكلماته القصيرة ، جمعها السيد الشريف الرضي (رض) منذ ألف عام - تقريباً و لا تنحصر كلمات الإمام (علیه السلام) فيما جمعه السيد الشريف (ره) - فالمسعودي الذي كان يعيش قبل السيد الرضي (ره) بمئة عام يقول في الجزء الثاني من كتابه ( مروج الذهب ) : « و الذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة و نيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة ، و تداول الناس ذلك عنه قولاً و عملاً (1). في حين أن جميع الخطب في مجموعة السيد الرضي (ره) ليست سوی 239 خطبة، أي أقل من نصف ذلك العدد الذي يقوله المسعودي.

و الآن بين يدينا من نهج البلاغة عملان ضروريان: أحدهما: التعمق في محتوى نهج البلاغة، لتتضح لنا مدرسة الإمام علي (علیه السلام) في مختلف المسائل المطروحة في كتابه بدقة كافية ، إذ المجتمع الإسلامي بحاجة ماسة إلى ذلك . و الثاني: التحقيق في (مصادر نهج البلاغة و أسانيده ) . و من حسن الحظ أن نسمع اليوم ن

ص: 10


1- مروج الذهب ج 2 ص 431 بتحقيق محیی الدين

بعمل عدد من الفضلاء في أطراف المجتمع الإسلامي في هذين الأمرين الخطيرين.

وما جاء في هذا الكتاب مقالات نشرت في مجلة ( مكتب إسلام) (1) و نقدمها اليوم إلى القراء الكرامٍ كتاباً واحداً وقد كنت ألقيت بهذا العنوان : ( في رحاب نهج البلاغة) خطاباً في خمسة مجالس في ( المؤسسة الإسلامية : حسينية الإرشاد) ثم أحببت أن أنشر ذلك الخطاب بتفصيل أكثر بشكل مقالات متسلسلة في مجلة ( مكتب إسلام ) ثم أحببت جمعها ونشرها في كتاب.

و مذ اخترت مقالاتي هذه إسم : ( في رحاب نهج البلاغة ) كنت أعلم أن ليس هناك أي إسم آخر أنسب بعملي هذا منه ، إذا لا يمكن أن نسمي هذه المحاولة المختصرة (تحقيقاً ! ) حيث لم أكن أجد لذلك الفرصة الكافية و الوقت المناسب، و بالإضافة إلى أني لا أحسبني ممن يجدر بهذا العمل ، أضف إلى ذلك أن التحقيق العميق الدقيق في (محتويات نهج البلاغة) والمعرفة التامة بمدرسة الإمام علي (علیه السلام) ، وكذلك التحقيق في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده ) لا يمكن أن يكون عمل رجل واحد ، بل هو عمل جماعة من العلماء والمحققين . ولكني بدأت جولتي هذه في رحاب نهج البلاغة آملاً أن تكون هذه المحاولة القصيرة فاتحة الطريق إلى ذلك العمل الكبير ، وذلك من باب ما لا يدرك كله لا يترك جلّه : . وأسف أني لم أتوفق لإنهاء جولتي هذه أيضاً، فتبقّى البرنامج الذي كنت أعددته لهذه الجولة والتي ذكرته في الفصل الثالث من الكتاب غير بالغ فيه إلى غاية ، ولا أدري هل أتوفق أن آخذ بهذه الجولة المباركة مرة أخرى ؟ أم لا؟ ولكني على أمل من ذلك من ذلك شديد .

مرتضى المطهري - طهران 95/1/3 ه- . .

ص: 11


1- وهي مجلة دينية فارسية تصدر عن دار التبليغ الإسلامي بمدينة قم وتشرف عليها هيئة تحرير من الحوزة العلمية بتلك المدينة المقدسة . المترجم .

ص: 12

القسم الاول

اشاره

كتاب غريب !

هذه المجموعة النفيسة ...

السيد الرضي ، ونهج البلاغة

میزتان ...

1- الفصاحة و الجمال ...

أ - النفوذ و التأثير

ب - قالوا فيه ...

ج - نهج البلاغة ومجتمعنا اليوم ...

2 - الشمول و الإستيعاب

أ - الإمام عليه السلام في مختلف الميادين

ب - نظرة عامة في مباحث نهج البلاغة

ص: 13

ص: 14

كتاب غريب

هذه المجموعة النفيسة

هذه المجموعة النفسية والجميلة التي هي الآن بين أيدينا باسم ( نهج البلاغة ) وقد عجز الزمان عن أن يبليها، بل أصبح الزمان و الأفكار المستحدثة والنيرة تزيدها ثمناً وبهاءاً ، هي مجموعة من منتخبات ( خطب ) و ( أدعية ) و( وصايا ) و ( رسائل ) و ( کلمات قصار ) للإمام مولى المتقين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ، جمعها السيد الشريف الرضي رضوان الله عليه ، منذ ألف سنة - تقريباً .

ولا شك أن علياً (علیه السلام) - وهو رب البلاغة - قد أنشأ خطباً كثيرة ، وأنه سمع الناس منه في مختلف المناسبات جملاً حكمية كثيرة أيضاً ، وأنه كتب في عهد خلافته رسائل كثيرة أيضاً ، و أن الناس كانوا يودون أن يحفظوا ويحافظوا على كثير من كلامه (علیه السلام) .

كتب المسعودي ، الذي كان يعيش قبل السيد الرضي (ره) بمئة سنة - تقريباً (إذ هو من المئة الثالثة وأوائل القرن الرابع) في الجزء الثاني من كتابه : ( مروج الذهب) بعنوان : « في ذكر لمع من كلامه وأخباره وزهده » يقول : « والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته . أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على

ص: 15

البديهة ، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً » (1)

إن شهادة عالم خبير ومتتبع كالمسعودي تفهمنا مدى انتشار خطبه (علیه السلام) ، وقد نقل إلينا في كتاب نهج البلاغة : 239 خطبة فقط ، في حين أن المسعودي يعطينا رقياً يصل إلى أكثر من : 480 خطبة ، ثم يؤكد لنا على علاقة الناس واهتمامهم بحفظها وضبطها .

السيد الرضي ونهج البلاغة :

كان السيد الرضي (ره) مغرماً ببلاغة الإمام (علیه السلام) ، وهو رجل أديب وشاعر عارف بفنون الكلام. وقد قال فيه معاصره الثعالبي : « هو اليوم أبدع أبناء الزمان ، وأنجب سادات العراق ، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر» (2)

إن السيد الشريف الرضي بماله من غرام بالأدب عموماً وبكلام الإمام (علیه السلام) خصوصاً ، كان ينظر إلى كلامه (علیه السلام) من ناحية البلاغة والأدب ، ولذلك كان ينظر في اختياره من كلامه (علیه السلام) إلى هذه الخصوصية ، أي أن الذي كان يجلب انتباهه من كلامه (علیه السلام) هو ذلك القسم الذي يمتاز ببلاغة خاصة ومن هنا سمي مجموعة منتخباته : ( نهج البلاغة ) .

ولهذا أيضاً لم يول إهتماماً بذكر مآخذه ومداركه ، اللهم إلّا في موارد محدودة يذكر فيها بمناسبة خاصة إسم الكتاب الذي ذكرت فيه تلك الخطبة أو الرسالة .

نعم ، إن المجاميع التاريخية والحديثية يجب - في الدرجة الأولى - أن تكون الأسانيد والمصادر فيها معلومة واضحة ، وإلّا فلا إعتبار لها ، ولكن إعتبار الآثار الأدبية إنما هو في جمالها وحلاوتها ولطفها. وفي الوقت نفسه لا نستطيع القول بأن

ص: 16


1- مروج الذهب ج 2 ص 431 ، ولا أدري هل يقصد بالحفظ حفظها في متون الكتب أم عن ظهر قلب أم كليهما ؟ - المؤلف .
2- يتيمة الدهرج 3 ص 136 ط محي الدين

السيد الرضي (ره) كان في غفلة عما لهذا الأثر الشريف من إعتبارات تاريخية وغيرها ، وأنه إنما كان متوجهاً إلى إعتباره الأدبي فحسب .

ومن حسن الحظ أن تعهّد بجمع أسانيده ومصادره رجال آخرون من المتأخرين ولعل أجمعها وأوسعها كتاب بإسم (نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ) يقوم بإنجازه في العهد الحاضر فضيلة العلامة الحاج الشيخ محمد باقر المحمودي الدشتي ، وقد جمع في كتابه هذا جميع ما للإمام (علیه السلام) من كلام أعم من الخطب والأوامر والكتب والرسائل والوصايا والأدعية والكلمات الحكمية القصار ، فهو يشتمل على كتاب (نهج البلاغة) وأقسام أخرى لم تقع في ما إختاره السيد الرضي (ره) أو لم تكن تحت إختياره . وقد طبع لحد الآن من هذا الكتاب أجزاء ثمانية ، ظفر فيها المؤلف بمصادر جميع ما جمعه مما كان في نهج البلاغة أو لم يكن، اللهم إلّا قسماً من كلماته القصار (1) .

ولا يفوتنا هنا أن نقول : إن تأليف مجموعة من كلمات الإمام (علیه السلام) لم يكن منحصراً بالسيد الرضي (ره) فحسب ، فقد ألف رجال آخرون كتباً أخرى أسموها بمختلف الأسماء ، منها - وأشهرها - كتاب (غرر الحكم ودرر الكلم - للآمدي ) (2) الذي شرحه المحقق السيد جمال الدين الخوانساري (ره) المتوفي 1225 ه- بالفارسية ، وطبعته أخيراً جامعة طهران بعناية الفاضل المتتبع القدير السيد جلال الدين المحدث والأرموي.

و يذكر الدكتور علي الجندي رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة ، في مقدمته على كتاب: (علي بن أبي طالب : شعره وحكمه) بعض النسخ و الكتب من هذا القبيل ، بقي بعضها مخطوطاً لم يطبع إلى الآن ، وهي : م

ص: 17


1- وكتاب مصادر نهج البلاغة و أسانيده ، للسيد عبد الزهراء الحسيني، في أربعة أجزاء كبار . المترجم
2- أبي الفتح ناصح الدين عبد الواحد الأمدي من مشايخ ابن شهر آشوب ، فهو من المئة الخامسة ، بعد السيد الرضي (ره) بقليل . المترجم

1 - دستور معالم الحكم للقضاعي صاحب الخطط (1)

2 - نثر اللآلي - ترجمة مستشرق روسي ونشره في مجلد كبير (2)

3 - حكم سيدنا علي (علیه السلام) - نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية (3)

میزتان

تمتاز كلمات الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) منذ أقدم العصور بميزتين تعرف بهما و هما : البلاغة : والشمول . ويكفي كل واحدة من هاتين الميزتين فخراً لكلام الإمام وشرفاً. ولكن اجتماعهما يعني ورود ذلك الكلام في موارد متفاوتة بل متضادة أحياناً ، وهو مع ذلك يحتفظ بمعناه وبلاغته أيضاً ، وهذا هو الذي جعل كلامه (علیه السلام) قريباً من حد الإعجاز ، ومن هنا أيضاً عُدّ كلامه (علیه السلام) في الحد الوسط

ص: 18


1- صاحب ( الشهاب) المتوفي بمصر 354 ه- . كما في ابن خلکان : 3 : 349 - كتابه تسعة أبواب فيها ألف ومائنا كلمة في الوصايا والأمثال والحكم والآداب والعظات والجوابات والأدعية والمناجات والمحفوظ من شعره وتمثيلاته ، معتمداً في ذلك على ما يرويه هو عن مصنف يثق به ويرتضيه ولكنه يردها بحذف الأسانيد ، كما في نهج البلاغة . طبع بمصر سنة 1332 ه- ، والخطط هي (خطط مصر ) على غرار (خطط الشام) للمقريزي. وقد جمع الشيخ أسعد بن عبد القاهر الاصفهاني من علماء الإمامية بين كتابي القضاعي ( الشهاب ) في حكم الرسول و (الدستور ) في كلمات الأمير (علیه السلام) في كتاب واحد سماه ( مجمع البحرين ومطلع السعادتين) كما في مصادر نهج البلاغة للحسيني ج 1 ص 66 - 68 - المترجم .
2- هو اسم لكتابين، أحدهما لأمين الإسلام الشيخ الطبرسي صاحب التفسير المتوفي 548 ه- على حروف الهجاء مطبوع على الحجر بإيران سنة 1312 ه- . ومنه نسخة مذهبة في مكتبة الكونغرس بأمريكا في واشنطن في 17 ورقة . والنسخة الأخرى للسيد عز الدين الحسيني الراوندي . والنسخة التي بدار الكتب المصرية مكتوبة بالمداد الأبيض على الذهب ، ولا يدري لايهما هي ؟ ونسخة أخرى في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة برقم (32) أخلاق ومواعظ كما في مصادر نهج البلاغة للحسيني ج ا ص 71 - 72 - المترجم.
3- الموجود بدار الكتب المصرية كتاب باسم منتخب وصايا أمير المؤمنين وحكمه ، وهو مرتب على حروف المعجم، كما في مصادر نهج البلاغة للحسيني ج 1 ص 79 وقد ذكر السيد الحسيني في مصادر نهج البلاغة ج 1 ص 43 - 86، 22 كتاباً أنف قبل النهج و 26 كتاباً آخر ألف بعد النهج ، وفي ص 266 - 271 خمسة مستدركات على النهج ، المترجم .

بين كلام المخلوق وكلام الخالق فقالوا فيه : ( هو فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق (1)

1 - الفصاحة والجمال :

لا تحتاج هذه الميزة في نهج البلاغة إلى التوضيح لمن كان عارفاً يفنون الكلام وجمال الكلمة ، فإن الجمال يدرك ولا يوصف. إن لنهج البلاغة اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده نفس الحلاوة واللطف الذي كان فيه للناس على عهده ، ولسنا نحن الآن في مقام إثبات هذا الكلام ، ولكنا - بمناسبة البحث - نورد هنا كلاماً في مدى نفوذ كلامه (علیه السلام) في القلوب، وتأثيره في تحريك العواطف والأحاسيس، والمستمر من لدن عهده إلى اليوم ، مع كل ما حدث من تحول و تغيير في الأفكار والأذواق . ولنبدأ بعهده .

لقد كان أصحابه (علیه السلام) - خصوصاً من كان منهم عارفاً بفنون الكلام - مغرمين بكلامه ، منهم (ابن عباس) الذي كان - كما ذكر الجاحظ في ( البيان و التبيين ) - من الخطباء الأقوياء على الكلام (2) فإنه لم يكن يكتم عن غيره شوقه إلى استماع كلامه والتذاذه بكلماته (علیه السلام) ، حتى أنه حينما أنشأ الإمام خطبته المعروفة بالشقشقية كان حاضراً ، فقام إلى الإمام (علیه السلام) رجل من أهل السواد - أي العراق - وناوله كتاباً ، فقطع بذلك كلام الإمام ، فقال ابن عباس : « يا أمير المؤمنين ! لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت فقال (علیه السلام) : هيهات ! إنها شقشقة هدرت ، ثم قرت » ولم يطرد في كلامه ذلك ، فكان ابن عباس يقول : « والله ما ندمت على شيء كما ندمت على قطعه هذا الكلام ».

وكان يقول في كتاب بعث به إليه الإمام (علیه السلام) : « ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله (ص) كانتفاعي بهذا الكلام ، (3)

ص: 19


1- ابن أبي الحديد في مقدمته ص 24 ج 1 ط أبو الفضل
2- البيان والتبيين ج 1 ص 230
3- نهج البلاغة - الرسائل - رقم : 22 ص 140 ج 15 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط- أبو الفضل .

وكان معاوية بن أبي سفيان - وهو ألد أعدائه - معترفاً بفصاحته وجمال أسلوبه :

فقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام (علیه السلام) وأقبل على معاوية وقال له - وهو يريد أن يفرح قلبه الفائر بالحقد على الإمام (علیه السلام) - جئتك من عند أعيا الناس !

وكان هذا التملق من القبح بمكان لم يقبله حتى معاوية، فقال له : ويحك ! كيف يكون أعيا الناس ؟! فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره !

أ - النفوذ و التأثير

كان الذين يجلسون إلى منبره فيستمعون إليه يتأثرون بكلامه كثيراً ، إذ کانت مواعظه تهز القلوب و تسبل الدموع . والآن أيضاً من من ذا يسمع وعظه أو يقرأه فلا يهز له ؟ وهذا السيد الرضي (ره) يقول بعد نقله الخطبة المعروفة

بالغراء (1) :

و في الخبر أنه (علیه السلام) لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب ومن الناس من يسمي هذه الخطبة : الغراء.

و كان همام بن شريح من أصحابه (علیه السلام) من أولياء الله وأحبائه متيّم القلب بذكره ، فطلب من الإمام (علیه السلام) بإصرار أن یرسم يرس له صورة كاملة للمتقين ، وكان الإمام (علیه السلام) يخاف عليه أن لا يتحمل سماع كلماته ، فاقتصر على جمل مختصرة إذ قال : « اتق الله يا همام وأحسن ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » ولكن لم يقنع بهذا همام بل ازداد شوقه إلى كلامه (علیه السلام) أواراً وضرماً ، فأصر عليه أكثر من ذي قبل حتى أقسم عليه! فبدأ الإمسام (علیه السلام) خطبة عد فيها (105) من أوصاف المتقين (2) وكلما أدام الإمام كلامه وصعد في صفات المتقين ازداد إضطراب نفس مام كانها طير يحاول أن يكسر قفصه فيخرج منه ؟ وفجأة قرعت أسماع الحاضرين صرخة مهولة جلبت أنظارهم إلى صوب همام ولم يكن الصارخ سوى

ص: 20


1- الخطبة : 82 ص 276 - 241 ج 6 من شرح المنهج لابن أبي الحديد ، بتحقيق محمد أبو الفضل
2- الخطبة: 186 ص 149 - 132 ج 1 من شرح النهج لابن ابي الحدید ط ابوالفضل

همام فلما وقفوا عليه رأوا أن روحه قد خرجت من جسمه إلى رحمة الله ورضوانه . فقال الإمام (علیه السلام) : « أما والله لقد كنت أخافها عليه . ثم قال : هكذا تفعل المواعظ البليغة بأهلها » .

نعم، هكذا كان أثر نفوذ كلام الإمام (علیه السلام) في نفوس سامعيه .

ب - قالوا فيه

كان علي (علیه السلام) هو الشخص الوحيد الذي اهتم الناس بحفظ كلماته (علیه السلام) و ضبطها في بطون الصحائف و القلوب .

فهذا ابن أبي الحديد ينقل لنا عن الكاتب عبد الحميد بن يحيى (1) الذي كان يضرب به المثل في الكتابة و الخطابة في أوائل القرن الثاني الهجري أنه كان يقول : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثم فاضت !

وينقل الدكتور علي الجندي: أن عبد الحميد سئل : أنى لك هذه البلاغة فقال : « حفظ كلام الأصلع » (2)

وكان عبد الرحيم بن نباتة وهو الذي كان يضرب به المثل في خطباء العرب في العهد الإسلامي ، يعترف بأنه إنما أخذ ماله من ذوق وفكر وأدب عن الإمام (علیه السلام) ويقول - على ما نقله ابن أبي الحديد في مقدمته لشرح النهج : حفظت الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ من علي بن أبي طالب (علیه السلام) .

وكان الجاحظ وهو الأديب العارف بالكلام وفنونه ، والذي يعد نابغة في الأدب في أوائل القرن الثالث الهجري ، ويعدّ كتابه ( البيان والتبيين ) أحد أركان

ص: 21


1- کان کاتباً لمروان بن محمد آخر الخلفاء الامویین من اصل ایرانی، و هو شیخ ابن مقفع الهالم و الکاتب الشهیر في الدولة العباسیة و قد قبل فيه : بذات الکتابة بعبد الحمید و اختتمت بابن العمید. وزیر البویهیین - المؤلف
2- الأصلع : من أنحسر شعر مقدم رأسه - فعبد الحميد مع اعترافه بكلامه هذا بفضل الإمام (علیه السلام) وكماله ، يذكر الإمام بنيز اللقب وذلك بحكم انتمائه إلى بني أمية ! - المؤلف . 21

الأدب الأربعة (1) - يكرر في كتابه الإعجاب و الثناء على كلام الإمام (علیه السلام) .

و يبدو من كلامه انتشار كلمات كثيرة عن الإمام (علیه السلام) بين الناس على عهده .

ينقل الجاحظ في الجزء الأول من ( البيان و التبيين) (2) آراء الناس في الثناء على السكوت وذم كثرة الكلام ، فيعلق عليها يقول : « الإسهاب المستقيح هو التكلف والخطل المتزايد ، ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس أكثر الناس فيما ذكروا »

وفي نفس الجزء الأول ينقل هذه الكلمة المعروفة عن الإمام (علیه السلام) : « قيمة كل امرى ما يحسنه» ثم يثني على هذه الجملة ما يبلغ نصف صفحة الكتاب ويقول :

فلو لم نقف من كتابنا هذا إلّا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية ، ومجزية مغنية ، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية. وكأن الله عزّ وجلّ قد البسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوي قائله .

وللسيد الشريف الرضي (ره) جملة معروفة في وصف كلام الإمام (علیه السلام) والثناء عليه ، يقول :

كان أمير المؤمنين (علیه السلام) مَشْرَعَ الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كسل قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بلیغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا ، لأن كلامه (علیه السلام) الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي (3) ل

ص: 22


1- والأركان الثلاثة الأخرى هي : أدب الكاتب لابن قتيبة ، والكامل للمبرد ، والنوادر لأبي علي القالي - ابن خلدون - المؤلف .
2- البيان والنبيين ص 202 .
3- ص 45 ج 1 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل

وكان ابن أبي الحديد من علماء المعتزلة في القرن السابع الهجري ، أديباً ماهراً وشاعراً بليغاً . وهو كما نعلم مغرم بكلام الإمام (علیه السلام) مكرراً إعجابه به في كتابه ومقدمته :

«و أما الفصاحة : فهو (علیه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ...و حسبك أنه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر بما دوّن له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين ) وفي غيره من كتبه (1) .

وفي الجزء السادس عشر من شرحه عند شرحه رسالة الإمام (علیه السلام) إلى ابن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر واغتصاب مصر بيد أصحاب معاوية ، إذ يكتب إليه إلى البصرة يخبره بالخبر ، يقول :

انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها و تملكه زمامها وأعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضاً كيف تؤاتيه وتطاوعه سلسة سهلة ، تتدفقي من غير تعسف ولا تكلف ... فسبحان الله من منح هذا الرجل هذه المزايا النقيسة والخصائص الشريفة ! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء ، وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو ، ولم يعاشر أرباب الحكم الخلفية والآداب النفسانية - لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك - وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط ، ولم يُرب بين الشجعان - لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب - وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض ، قيل لخلف الأحمر : أيما أشجع : عنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب ؟ فقال : إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر و الناس ، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة ! فقيل له : فعلى كل حال ؟ قال : والله لو صاح في وجهيهما لمانا قبل أن يحمل عليهما . وخرج أفصح من سحبان وقُس ، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها أفصح منها ، قالوا : أفصح العرب جُرهُمْ وإن .

ص: 23


1- مقدمته ج 1 ص 24 ط أبو الفضل .

لم تكن لهم نباهة . وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفّهم، مع أن قريشاً ذوو حرص و محبة للدنيا . ولا غرو فيمن كان محمد (ص) مربيه ومخرجه ، والعناية الإلهية تمده و ترقده : أن يكون منه ما كان (1)

ج - نهج البلاغة ومجتمعنا اليوم

لقد تبدلت الألوان في هذا العالم اليوم عما كانت عليه منذ أربعة عشر قرناً وتطورت المعارف والثقافات وتغيّرت الأذواق. فقد يزعم الواهم أن المعارف والأذواق القديمة كانت تتقبل مقال الإمام (علیه السلام) وتخضع له ، أما الأفكار والأذواق الحديثة فهي تحكم بغير ذلك ! ولكن يجب علينا أن نعلم : أن مقال الإمام (علیه السلام) سواء من حيث اللفظ أو المعنى لا يتحدد بالزمان والمكان ، بل هو عالمي وإنساني ما بقي الإنسان إنساناً في العالم، وسنبحث نحن في هذا الشأن فيما بعد، ولكنا كما سردنا بعض ما قالوه في مقاله (علیه السلام) في القديم، نعكس الآن هنا قليلاً مما قاله فيه ذوو الأنظار و الأفكار في عصرنا هذا أيضاً .

كان الشيخ محمد عبده المفتي الأسبق للديار المصرية - ممن قرّبته الصدفة حين ابتعاده عن الوطن من معرفة (نهج البلاغة) وجرته هذه المعرفة إلى الشوق ، إلى أن يشرح هذه الصحيفة المقدسة وينشرها بشرحه بين شباب أمته . إنه يقول في مقدمته لشرحه : وبعد ، فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب «نهج البلاغة» مصادفة بلا تعمل ، أصبته على تغير حال وتبلبل بال ، وتزاحم أشغال وعطلة من أعمال ... (2)

و الدكتور علي الجندي رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة في مقدمة كتاب (علي بن أبي طالب ، شعره و حكمه ) كتب على نثر الإمام (علیه السلام) يقول :

في هذا الكلام موسيقى موقعة تأخذ القلب أخذاً، وفيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعراً

ص: 24


1- شرح النهج لابن أبي الحديدج 16 ص 147 ط الحلبي .
2- مقدمة عبده ص 1 وبهامشه : يقال : كان ذلك حين كان الأستاذ الإمام منفياً في بيروت

ثم ينقل عن قدامة بن جعفر أنه كان يقول : « جلت طائفة في القصار وطائفة في الطوال. أما علي فقد بزّ أهل الكلام جميعاً في القصار والطوال وفي سائر الفضائل».

و ينقل الدكتور طه حسين الأديب و الكاتب المصري الشهير في كتابه (علي وبنوه) خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي (علیه السلام) وطلحة والزبير وعائشة ، يقول في نفسه : كيف يمكن أن يكون مثل طلحة و الزبير وعائشة على الخطأ ؟ بوشكا شكه ذلك إلى الإمام علي (علیه السلام) و سأله : أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل ؟

فقال (علیه السلام) : «إنك لمبلوس عليك ، إن الحق و الباطل لا يعرفان بأقدار الرجال ، أعرف الحق تعرف أهله ، و اعرف الباطل تعرف أهله » .

یعنی: إنك في ضلال بعيد ، إذ أنك قلبت في قلبك بشكك هذا مقاييس الأمور ، فبدل أن تجعل الحق و الباطل مقياساً لعظمة الأفراد وحقارتهم ، جعلت العظمة المزعومة مقياساً لمعرفة الحق والباطل ! أردت أن تعرف الحق بمعرفة أقدار الرجال ! كلا ، بل أقلب هذا المقياس ، فابدأ بمعرفة الحق وحينئذ تعرف أهله ، واعرف الباطل وحينئذ تعرف أهله ، وحينئذ لا تباني من يكون إلى جانب الحق أو الباطل ، ولا ترتابه من أقدار الرجال

وبعد أن ينقل الأستاذ هذه الكلمات عن الإمام (علیه السلام) يقول :

ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهماً تكن منزلته ، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته، بعد أن سكت الوصي وانقطع خبر السماء.

وأمير البيان شكيب أرسلان، من كتّاب العرب المعروفين في هذا العصر ، يتفق في الحفل الذي اقيم تكريماً له في مصر أن يرقى أحد الحاضرين المنصة ويقول فيهما يقول :

رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب : أمير البيان : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وشكيب أرسلان !

ص: 25

فيقوم شكيب أرسلان من مجلسه غاضباً ويذهب إلى المنصة فيعتب على صديقه الذي عمل هذه المقارنة بينه و بين الإمام (علیه السلام) ويقول :

« أين أنا وأين عسلي بن أبي طالب ! أنا لا أعد نفي شسع نعل لعلي (علیه السلام) (1).

وكتب ميخائيل نعيمة الكاتب اللبناني المسيحي المعاصر في مقدمة كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لجورج جرداق ، يقول :

بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء رأيه ، وطهارة وجدانه . وسحر بيانه، وعمق إنسانيته ، وحرارة إيمانه و سمو دعته ، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم و الظالم ، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق .

ولا نطيل أكثر من هذا بنقل ثناء الناس على كلام الإمام (علیه السلام) ، ونختمه بكلمة منه في هذا الموضوع :

قام يوماً أحداً أصحاب الإمام (علیه السلام) ليتكلم ، فتلجلج وأعيى ! فقال الإمام (علیه السلام) :

ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا يمهله النطق إذا اتسع . وأنّا لأمراء الكلام وفينا تنشبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه .

وينقل الجاحظ في ( البيان و التبيين ) (2) عن عبد الله بن الحسن المحض بن الحسن بن علي عن الإمام (علیه السلام) أنه قال :

خصصنا بخمس خصاصة وصباحة ، وسماحة ونجدة وحظوة »

و سنرد الآن في مباحث الميزة الثانية لكلام الإمام (علیه السلام) وهي ( الشمول ) وهو الأصل في هذا الفصل:

ص: 26


1- نقل هذا الخبر العالم المعاصر الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية العاملي في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مدينة مشهد الإمام الرضا (علیه السلام) قبل عدة أعوام - المؤلف.
2- البيان والتبيين ج 2 ص 99 .

2 - الشمول والإستيعاب :

لكل أمة آثار ادبية يعتبر بعضها من نماذج العبقريات ، قلّت أو كثرت . ولا علينا الآن أن نبحث حول عبقريات الأدب القديم في اليونان وغيرها ، أو عن عبقريات الأدب الحديث في ايطاليا وبريطانيا وفرنسا وغيرها ، وندع الحكم والكلام في شأنها على العارفين بها الذين ينبغي لهم أن يحكموا لها أو عليها . ونقصر كلامنا على العبقريات الأدبية العربية و الفارسية الموجودة بين أيدينا ، والتي نستطيع أن تدركها ونفهمها قليلاً أو كثيراً .

ولا نريد أن ننازع الأدباء الفنانين في حق الحكم في العبقريات الأدبية العربية والفارسية لها أو عليها ، ولكن من المقطوع به عند الجميع : أن كل واحدة من هذه العبقريات الأدبية إنما هي في فن خاص من الأدب لا في جميع الفنون.

و بعبارة أخرى ، إن كل عبقري من أرباب هذه العبقريات إنما استطاع أن يبدي مهارته في فن خاص ، وإن استعداد كل واحد منهم كان محدوداً بذلك الفن فحسب ، بحيث إذا أراد أحدهم أن يخرج من حدود قدرته سقط في فنه.

وفي الفارسية عبقريات أدبية : في الحكمة والموعظة ، والنصح والأمثال ، والحرب والحماسة ، والقصائد والرباعيات، والغزل والنسيب والتشبيب العرفاني وغيره، وغيرها. ولكن كما نعلم لم يستطع أحد من شعراء الأدب الفارسي أن يبدي عبقريته في جميع هذه الفنون والأغراض والمقاصد المختلفة .

فالكاتب والشاعر الإيراني الشهير سعدي الشيرازي يعرف بالعبقرية في الحكمة والموعظة ، و الفردوسي في الحرب و الحماسة ، والمولوي في الأمثال والأفكار الروحية والمعنوية الدقيقة ، والخيام في التشاؤم الفلسفي، وحافظ الشيرازي في الغزل والنسيب والتشبيب العرفاني وغيره، والنظامي الكنجوي في فن آخر وهكذا . ولهذا لا يمكن أن نقيس بعضهم ببعض ولا أن نرجّح بعضهم على بعض ، وليس لنا - على الأكثر - إلا أن نقول : لكل واحد من هؤلاء المقام الأول فنه ، بحيث إذا خرج أحد هؤلاء النوابغ عما لهم القدرة فيه الوحظ بين نوعي

كلامه تفاوت كبير .

ص: 27

وكذلك كان شعراء العرب في الجاهلية والإسلام .

وقد جاء في نهج البلاغة : وسئل عن أشعر الشعراء ، فقال (علیه السلام) :

إن القوم لم يجروا في حلبة تعرف التغلية عند قصبتها ، فإن كان لا بد فالملك الضليل (1)

وينقل أبن أبي الحديد في شرحه في شرح هذه الجملة خيراً مستداً حولها يقول :

« وكان علي بن أبي طالب (علیه السلام) يعشي الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشى معهم ، فإذا فرغوا خطيهم ووعظهم . فأفاضوا اليلة في الشعراء وهم على عشائهم ، فلما فرغوا خطبهم (ع ) ، وقال في خطبته : (اعلموا : أن ملاك أمركم الدين، وعصمتكم التقوى، وزينتكم الأدب، وحصون أعراضكم الpلم » ثم قال : قل - يا أبا الأسود - فيم كنتم تفيضون فيه ، أيّ الشعراء أشعر ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ! الذي يقول :

ولقد اغتدى يدافع ركني *** أعوجيّ ذو ميعة إخريجّ

مخلط مزيل مِعَنَ عفن مِفنَ *** مِنفع مطرح سبوح خروج

يعني أبا داود الأيادي

فقال (علیه السلام) : ليس به. قالوا : فمن يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لو رفعت للقوم غاية فجروا إليها معا علمنا من السابق منهم ، ولكن إن يكن ، فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة . قيل : من هو ؟ قال : هو الملك الضليل ذو القروح . قيل امرؤ القيس يا أمير المؤمنين ؟ قال : هو (2)

وسئل يونس النحوي : من أشعر الشعراء في الجاهلية ؟ فقال :

امرؤ القيس إذا ركب ، والنابغة إذا هرب ، وزهير إذا رغب ، والأعشي إذا طرب ) . 53

ص: 28


1- الحكمة : 361 ص 153 ج 20 شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل
2- شرح المنهج لابن أبي الحديد ج 20 ص 4 - 153

يقصد أن لكل شاعر من هؤلاء الشعراء نبوغه في فنه الخاص ، وأن عبقرياتهم إنما هي في فنونهم الخاصة ، فكل واحد منهم أشعر الشعراء في فنه ، وليس لأحدهم نبوغ في غير فنه .

الإمام (علیه السلام) في مختلف الميادين

من المميزات السامية في كلمات الإمام (علیه السلام) المجموعة باسم ( نهج البلاغة ) و التي هي بين أيدينا اليوم: أنها لا تحدّد بصعيد وأحد ، فإنه (علیه السلام) لم يكن فارس الحلبة في ساحة واحدة ، بل إنه صال وجال ببيانه في ميادين مختلفة لا يجتمع بعضها مع الآخر في الرجل الواحد. إن نهج البلاغة عبقرية ولكنها ليست عبقرية واحدة في موضوع واحد كالموعظة مثلا أو الحماسة فقط ، بل في أصعدة مختلفة سنشرحها فيما يأتي.

أن تكون كلمة من العبقريات في موضوع واحد ليست كثيراً ولكنها توجد على أي حال . أو أن تكون الكلمات في مختلف الموضوعات ولكنها عادية من دون عبقرية أيضاً كثيرة . أما أن تكون الكلمات من العبقريات ومع ذلك لا تكون محدودة بصعيد واحد فتلك من خصائص (نهج البلاغة ) فقط .

طبعاً إذا تجاوزنا عن القرآن الكريم - الذي هو كتاب من نوع آخر - فأي كتاب آخر نستطيع أن نجده متنوعاً في العبقريات البلاغية على مدى ما في ( نهج البلاغة ) ؟ !

إن الكلمة مرآة الروح الإنسانية ، و لذلك فإن كل كلمة تتعلق بنفس العالم الذي يرتبط به روح صاحبها ، فالكلمات التي تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على ذلك الروح الذي لم ينحصر في عالم واحد . وحيث إن روح الإمام (علیه السلام) لا تتحدد بعالم خاص بل هو ذلك الإنسان الكامل الجامع الجميع المراتب الإنسانية والروحية والمعنوية ، فلا تختص كلماته أيضاً بعالم واحد. إن من مميزات كلام الإمام (علیه السلام) أنه ذو أبعاد متعددة وليس ذا بعد واحد.

وإن هذه الخصيصة : خصيصة الشمول و الإستيعاب في كلام الإمام (علیه السلام) ليس مما أكتشف حديثاً ، بل هو أمر كان يبعث على العجب منذ أكثر من ألف

ص: 29

عام ، فهذا السيد الشريف الرضي (ره) الذي هو من علماء الإمامية في المئة الرابعة أي قبل ألف سنة ، يلتفت إلى هذه النقطة فيعجب بها ويقول :

ومن عجائبه التي انفرد بها ، وأمرن المشاركة فيها : أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر وخلع من قليه : أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لاحظ له في غير الزهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل ، لا يسمع إلا حسّه ولا يرى إلا نفسه . ولا یکساد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً ، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال ! وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات. وكثيراً ما اذاكر الأخوان بها واستخرج عجبهم منها. وهي موضع العبرة بها والفكر فيها (1) .

وقد أعجب الشيخ محمد عبده بهذا أيضاً، حيث إن القارىء في نهج البلاغة يسير به في عوالم عديدة وقد أبدى إعجابه بهذا في مقدمته فقال :

فتصفحت بعض صفحاته ، وتأملت جملاً من عباراته ، من مواضع مختلفات ، ومواضع متفرقات ، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروباً شبّت وغارات شنّت ، وأن للبلاغة دولة وللفصاحة صولة ... و إن مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغيّر المشاهد وتحول المعاهد (2)

وقال صفي الدين الحلي - المتوفي في القرن الثامن الهجري - بهذا الصدد:

جمعت في صفاتك الأضداد *** ولهذا عزت لك الأنداد

زاهد حاكم ا حلیم شجاع! *** فاتك ناسك! فقير جوادُ!

شيم ماجمعن في بشر قط *** ولا حاز مثلهن العبادُ 0.

ص: 30


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 49 .
2- مقدمة عبده ص 10.

خلق يُخجل النسيم من اللط- *** -ف وبأس يذوب منه الجماد

جل معناك أن يحيط به الش- *** -عر ويحصي صفاتك النقادُ (1)

و بعد كل هذا نقطة أخرى وهي : أن الإمام (علیه السلام) مع أنه إنما تكلم حول المعاني الحقة و الواقعية بلغ ببلاغته الرائعة أوج العظمة والكمال ! أن الإمام (علیه السلام) لم يتكلم في الفخر أو الخمر أو الشعر وهي ساحات واسعة للخيال وللوصف الفصيح ، ولم يقل ما قاله ليكون مقالاً جميلاً يضرب به الأمثال فييدي بذلك مهارته الفنية في الكلام كلا ، إذ لم يكن الكلام هدفاً له بل وسيلة إلى أهدافه ، أنه لم يرد أن يخلف لنا بمقاله أثراً فنياً أو يبدي عبقرية أدبية، وأكثر من هذا : إن كلامه عام غير محدود بحدود الزمان أو المكان أو الأشخاص بشكل خاص ، بل هو يخاطب (الإنسان ) ، ولذلك فكلامه لا يعرف حداً للزمان أو المكان ... وكل هذه الأمور مما يقيد القائل ويضيق موضوع مقاله .

إن العمدة في الإعجاز اللفظي للقرآن الكريم هي : أن الفصاحة والجمال فيه مما أعجز الإنسان العربي، مع أن موضوع مطالبه كان يغاير الكلام المتداول في عصره متعلقاً بعالم ، بعالم آخر غير هذا العالم ، ومع ذلك أصبح مفتتح عهد جديد للأدب في العرب بل العالم. وقد تأثر به ( نهج البلاغة ) في هذه الناحية أيضاً كسائر الخصائص والصفات، فهو في الحقيقة وليد القرآن الكريم ومن كلمات وليد البيت العظيم ( الكعبة المعظمة ) علي (علیه السلام) .

نظرة عامة في مباحث نهج البلاغة

إن المباحث المطروحة في نهج البلاغة و التي صبغت هذه الكلمات السماوية بصبغة مختلفة في كل فصل عن الفصل الآخر ، كثيرة . وأنا لا أدّعي أني أستطيع أن أدرس نهج البلاغة دراسة تحليلية عميقة كما هو حقه ، ولكني أقصد أن أنظر إلى نهج البلاغة بهذه النظرة التحقيقية و التحليلية . ولا أشك أن سيجد نهج البلاغة في المستقبل من سيؤدي حقه من التحقيق .

ص: 31


1- ديوان صفي الدين الحلي - حرف الدال.

والمباحث الهامة التي يستحق كل واحد منها البحث و التحقيق ، هي كما یلی:

1 - مباحث التوحيد ، وماوراء الطبيعة

2 - نظام العبادات

3- نظام الحكم والإدارة

4 - أهل البيت (علیه السلام) والخلافة

5 - المواعظ والحكم

6 - الدنيا ، والزهد فيها

7- الحرب والحماسة

8- الملاحم والمغيبات

9 - الأدعية والمناجاة

10 - الإنتقاد والشكوى من الناس

11 - القواعد الإجتماعية في نهج البلاغة

12 - الإسلام ، والقرآن في نهج البلاغة

13 - الأخلاق وتهذيب النفس

14 - الشخصيات في نهج البلاغة

ومن البديهي - كما هو واضح من عنوان الكتاب «في رحاب نهج البلاغة» أني لا أدعي أن هذه العناوين الآنفة الذكر تشمل كل ما في نهج البلاغة من المواضيع والمباحث ، ولا أدعي أن آتي على هذه المباحث والموضوعات كلها في هذا الكتاب ، ولا أرى نفسي ممن يقوم بذلك . ولا يعدو ما ترونه في هذا الكتاب نظرة في نهج البلاغة ، وعسى أن أتوفق فيما بعد إلى أن أستفيد من هذه الكنوز أكثر فأكثر أو يتوفق إلى ذلك غيري، والله العالم. إنه خير موفق ومعين .

ص: 32

القسم الثاني

اشاره

مباحث التوحيد ، وما وراء الطبيعة

- التوحيد ومعرفة الله

- اعترافات مرّة !

- الفكر الفلسفي في الشيعة

- دور الفكر الفلسفي في ما وراء الطبيعة

- أثر النظر في الآيات والآفاق

- المسائل العقلية المحضة

- ذات الله وصفاته

- ذات الله

- وحدة الله ليست وحدة عددية

- الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية

- دراسة مقارنة في نهج البلاغة

- نهج البلاغة والأفكار الكلامية

- نهج البلاغة والأفكار الفلسفية اليونانية

- نهج البلاغة والأفكار الفلسفية الغربية

ص: 33

ص: 34

مباحث التوحيد وما وراء الطبيعة

التوحيد و معرفة الله

إن أحد الأقسام الأساسية في نهج البلاغة المسائل المتعلقة بالخالق وما وراء الطبيعة ، فقد بحث الإمام (علیه السلام) في مجموع خطبه ورسائله وكلماته القصار المجموعة في هذا الكتاب ما يقارب أربعين مورداً ، بعضها كلمات قصار وأكثرها سطور بل صفحات.

ولعلنا نستطيع أن نعد البحوث التوحيدية في نهج البلاغة من أعجب بحوث هذا الكتاب ، فإنها - بدون مبالغة ، ومع الإلتفات إلى الشرائط الزمانية والمكانية للصدور - تقرب من حدود الإعجاز !

إن بحوث نهج البلاغة حول هذا الموضوع متنوعة و مختلفة :

فقسم منها من نوع النظر في المخلوقات و آثار الصنع والحكمة الإلهية ، وفي هذا القسم قد يعرض الإمام للنظام العام في العالم في السموات والأرضين ، وقد يشرح مخلوقاً غريباً : كالخفاش أو الطاووس أو النمل ، فيرينا منها آثار الصنع و الحكمة والتدبير والهدفية فيها. ومن باب النموذج تعرض هنا ما بيّنه (علیه السلام) في وصفه النملة ، فقد جاء في الخطبة : 177 هكذا :

ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه ، وفلق له

ص: 35

السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر . انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال يلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على أرضها ، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها ، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرّها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنان ، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس ، والحجر الجامس ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ...

ولكن أكثر بحوث نهج البلاغة في التوحيد بحوث عقلية و فلسفية ، وفيها يتبين لنا أوج عظمته . ومحور البحوث التوحيدية العقلية فيه مبتنى على أساس إطلاق الخالق عن جميع القيود و الحدود، واحاطته بجميع الوجود ، وقيمومته على جمیع الكائنات . وقد أعطى الإمام (علیه السلام) في هذا القسم من مقاله حق الكلام ، فلم يدركه أحد قبله ولن يدركه أحد بعده .

وقسم آخر كرر فيه الإمام البحث حول مسألة : أن الخالق مطلق بسيط لا تكثر فيه ولا تجزؤ ، وأن صفات الحق عين ذاته لا تغاير بينها ابداً .

وهناك مسائل أخرى عميقة من قبيل : كون الخالق أولاً في آخريته وآخراً في أوليته ، وظاهراً في باطنيته و باطناً في ظاهريته، وأنه أعلى من الزمان وأسمى من العدد ، وأن قدمه ليس قدماً زمانياً ووحدته ليست وحدة عددية ، وفي علو الخالق وقدرته وغناه الذاتي وإبداعه ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن ، وأن كلامه عين فعله ، وفي مدى قدرة العقول على دركه ومعرفته ، وأن معرفته من نوع تجليه على العقول ، لا من نوع إحاطة الأفكار بمفهوم ومعنى معين ، وبكلمة : في سلب الجسمية ، والحركة ، والسكون ، والتغير، والمكسان ، والزمان ، والمثل والضد ، والشريك ، والشبيه ، وإستخدام الآلة ، والمحدودية ، والمعدودية عنه تعالى. ومسائل أخرى ، سنذكر لكل مسألة من هذه المسائل نموذجاً إن شاء الله تعالى .

هذه هي المباحث المطروحة في هذا الكتاب العجيب ، والتي أصابت أفكار

ص: 36

الفلاسفة العقائديين من المتقدمين والمتأخرين بالحيرة والدهشة والذعر والإعجاب .

وإن تفصيل البحث حول جميع المسائل الواردة في العقيدة في نهج البلاغة مما لا يتحقق بمقال أو مقالين ، بل يحتاج إلى كتاب كبير، فلا بد أن غمر نحن هنا في جولتنا هذه القصيرة بنظرة مختصرة ، ومن أجل أن نستطيع تحقيق هذه النظرة لا بد أن نشير هنا إلى عدة نقاط فيما يلي :

اعترافات مرّة

يلزمنا نحن الشيعة أن نعترف بأنا ظلمنا حق من نفتخر بالتشيع له ، أو على الأقل قصّرنا عن أداء ما يلزمنا له من حقوق و واجبات ، والتقصير هو أيضاً نوع من الظلم كأننا لم نرد أن نعرف علياً (علیه السلام) ، و إنما كانت أكثر مساعينا في التحقيق و البحث حول نصوص رسول الله (ص) في علي (علیه السلام) ، و في سب وشتم الذين تجاهلوا هذه النصوص أو تغافلوا عنها ، لا في معرفة شخصية نفس الإمام (علیه السلام) كأننا في غفلة عن أن هذا المسك الأذفر الذي دعا رسول الله (ص) الناس إلى عرفه و طيبه . له من الطيب الزكي ما يدعو الناس إلى نفسه ، وإنما يجب علينا أن نعرف الأريج الطيب ثم نعرّف الناس به، وإنما كان داعي الله يحاول بنصوصه فيه أن يعرف الناس بعرفه وطيبه ، ولا يريد أن يقنع جماعة من الناس بأقواله (ص) ثم يصرفوا أعمارهم في التعريف به قبل أن يكونوا هم يعرفونه.

ليت شعري لو كان نهج البلاغة من غير الإمام (علیه السلام) هل كان يبقى هكذا من حيث الدراسة والتحقيق ؟! إن إيران مهد شيعة علي (علیه السلام) والأمة الإيرانية أمة فارسية ، فانظروا أنتم إلى الشروح والترجمات الفارسية لنهج البلاغة ثم انظروا ماذا تقولون فيها !

مع أني أقول لكم هنا - بصورة عامة - إن الأخبار و الأحاديث الشيعية و كذا الأدعية الشيعية ، لا تشبه الأخبار و الأحاديث والأدعية عند سائر المسلمين غير الشيعة في نواحي المعارف الإلهية وسائر المضامين والمحتويات ، فإن ما نراه في

ص: 37

( أصول الكافي ) أو ( التوحيد للصدوق ) أو ( الإحتجاج للطبرسي ) لا نراه في أي كتاب آخر من غير الشيعة ، إذ أن ما في كتب غير الشيعة - من المعارف الإلهية - أحاديث يمكن القول بوضعها أو أكثرها ، إذ أنها تخالف الأصول بل النصوص القرآنية ، و يشم من بعضها رائحة التشبيه و التجسيم ! وقد ابتكر ( السيد هاشم معروف الحسني ) في كتابه (دراسات في الكافي للكليني والصحيح للبخاري ) دراسة مقارنة جديدة بين الصحيح للبخاري و الكافي للكليني من ناحية الروايات التي تتعلق بالمعارف الإلهية، يمكن أن تكون سنداً لما قلناه.

نشأة الفكر الفلسفي عند الشيعة

إن البحوث حول المعارف الإلهية التي خاضها أئمة أهل البيت (علیه السلام) بالتحليل والتحقيق، ومنها بل وفي مقدمتها (نهج البلاغة) فلسفت العقل الشيعي منذ قديم الأيام . ولم تكن هذه البحوث بدعة في عالم الإسلام ، بل هي من السلوك في نفس السبيل الذي وضعه الإسلام للمسلمين ، وقد أظهر أئمة أهل البيت (علیه السلام) تلك الحقائق بعنوان تفسير القرآن و تبعاً لتعاليمه القيمة السامية . وإن كان هنا لوم فإنما هو الآخرين الذين لم يسلكوا هذا السبيل وتركوا هذا الطريق.

إن التاريخ الإسلامي يشهد لنا : بأن الشيعة خاضوا هذه المسائل أكثر من غيرهم منذ الصدر الأول وحتى اليوم، ومال إليهم من أهل السنة فرقة المعتزلة الذين كانوا أقرب إلى الشيعة من غيرهم ، ولكنهم - كما نعلم - رفضهم المزاج الإجتماعي لأهل السنة و الجماعة ، وما أن طلع القرن الثالث الهجري حتى انقرضوا تقريباً .

و بهذا يعترف الدكتور أحمد أمين المصري في الجزء الأول من كتابه (ظهر الإسلام) فإنه بعد أن يبحث حول الحركة الفلسفية في مصر على عهد الشيعة الفاطميين ، يقول :

ولذلك ، كانت الفلسفة بالتشيع ألصق منها بالتسنن ، نرى ذلك في العهد الفاطمي و العهد البويهي ، وحتى في العصور الأخيرة كانت فارس أكثر الأقطار عناية بدراسة الفلسفة الإسلامية و نشر كتبها . ولما جاء جمال الدين الأفغاني

ص: 38

مصر في عصرنا الحديث - وكان فيه نزعة تشيع ، وقد تعلم الفلسفة الإسلامية بهذه الأقطار الفارسية - كان هو الذي نشر هذه الحركة في مصر .

ولكنه يخطىء في سبب نشوء الفلسفة لدى الشيعة - سواء عمداً أو سهواً - إذ یقول بأن السبب في خوض الشيعة في البحوث العقلية والفلسفية محاولاتهم التأويلية الباطنية ، وأنهم لتفسير وتوجيه باطنيتهم اضطروا إلى أن يستمدوا العون من الفلسفة و البحوث العقلية ، وكأنه يريد أن يقول : إنهم في مصر الفاطمية ، وإيران البويهية ، وكذا إيران الصفوية والقاجارية ! إنما كانوا يخوضون الفلسفة أكثر من سائر الأقطار الإسلامية لهذا السبب فحسب !

وليس قبول أحمد أمين هذا إلا حديث خرافة ! بل إن أئمة الشيعة هم السبب في هذه الحركة الفلسفية فيهم، فإنهم هم الذين كانوا يضمنون أحاديثهم وأخبارهم وأدعيتهم وإحتجاجاتهم وخطاباتهم أسمى وأدق مسائل الحكمة الإلهية . وإن ( نهج البلاغة) أحد نماذج ما نقول ، وإن في روايات الشيعة أحاديث طويلة عن الرسول (ص) لا تراها عند غيرهم. وليس العقل الشيعي فقط هو الذي يمتاز بالتشكيل الفلسفي ، بل إن الكلام ، والفقه ، وأصول الفقه عند الشيعة أيضاً يمتاز عن مضارعاتها عند غيرهم ، وكله من أصل واحد.

و قد رأى البعض الآخر : أن هذا التفاوت المشهود بين بحوث الشيعة و غيرهم من سائر المسلمين إنما يرجع إلى (العنصر الشيعي) ! و قالوا : بما أن الشيعة كانوا من العنصر الإيراني الفارسي، وبما أن إيران هي مهد التشيع ، وبما أن العنصر الإيراني عنصر مفكر باحث ، فهم الذين رفعوا المعارف الشيعية بعقولهم و أفكارهم، ثم صبغوها بصيغة إسلامية غير عنصرية !

و يبدي رأيه هكذا : ( برتراند رسل) في الجزء الثاني من كتابه (تاريخ الفلسفة الغربية ) - و هو يعرض لهذه المسألة بصورة غير مؤدبة - كما هي عادته أو طبيعته الثانوية ! ونحن نعذره في دعواه هذه إذ أنه لا يعرف الفلسفة الإسلامية أساساً ، وليست له أدنى معرفة بها، فضلاً عن أن يكون له ما يميز به مبادىء نشوئها !

ونحن نقول لأصحاب هذه الفكرة الخاطئة :

ص: 39

أولاً - لم يكن جميع الشيعة من العنصر الإيراني ، ولم يكن جميع الإيرانيين شيعة ، فهل كان محمد بن يعقوب الكليني، و محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، ومحمد بن أبي طالب المازندراني من العنصر الإيراني ، ولم يكن محمد بن إسماعيل البخاري ، وأبو داود السجستاني ، ومسلم بن الحجاج القشيري النيشابوري من الإيرانيين ؟! أفهل كان السيد الشريف الرضي (ره) إيرانياً ؟! أم هل كان الفاطميون في مصر من إيران ؟! لماذا يتحرك الفكر الفلسفي في مصر ينفوذ الفاطميين ويموت بموتهم ، ثم يحيا بسيد إيراني من الشيعة من جديد ؟!

و الحقيقة: أن باعث هذا الفكر إنما كان أئمة أهل البيت (علیه السلام).

ويعترف جميع محققي السنة بأن الإمام علياً (علیه السلام) كان (حكيم الأصحاب ) وأن عقله بالنسبة إلى عقول الآخرين كان من نوع آخر .

وقد نقل عن ابن سينا أنه كان يقول : كان علي (علیه السلام) بين اصحاب محمد (ص) كالمعقول بين المحسوس يعني : أنه كان بينهم ( كالكلي العقلي ) بالنسبة إلى سائر ( الجزيئات المحسوسة ) أو ( كالعقول القاهرة ) بالنسبة إلى (الأجسام المادية ) !

ومن البدهي - حينئذ - أن يتفاوت التفكير في شيعته (علیه السلام) بالنسبة إلى الآخرين !

وقد توهم الدكتور أحمد أمين وهماً آخر : إذ تردد في صحة إنتساب هذا النوع من الكلمات إلى الإمام علي (علیه السلام)! وقال بأن العرب لم يكونوا يعرفون هذه الحقائق والدقائق قبل إنتشار فلسفة اليونان بينهم ، وإنما وضع هذه الكلمات من تعرف منهم على الفلسفة اليونانية ثم نسبها إلى الإمام علي (علیه السلام) !

ونحن أيضاً نقول : نعم ، أن العرب لم يكونوا يعرفون هذه الكلمات من قبل ، وليس العرب فحسب بل وغير العرب أيضاً، بل حتى اليونان والفلسفة اليونانية لم تكن تعرف هذه الكلمات ! إن أحمد أمين يخون حق علي (علیه السلام) فيهبط بفكر الإمام إلى مستوى أعرابي كأبي سفيان وأبي جهل وأبي لهب و غيرهم ، ثم يرتب لنفسه من هذه المقدمة صغرى و كبرى منطقية، ثم يقضي بالنتائج ! أفهل كان العربي الجاهلي يعرف المعاني و المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم على لسان

ص: 40

محمد (ص) ؟! أم لم يكن الإمام (علیه السلام) ربيب رسول الله (ص) ؟! أو لم يعرّفه إلى الناس بأنه أعلم أصحابه وأقضاهم على الإطلاق ؟! أم أي ضرورة تلزمنا أن ننكر مقام من كان يستفيد من بركات القرآن والإسلام والإلهام، من أجل أن نحفظ شأن بعض الصحابة العاديين ؟!

يقول أحمد أمين : أن العرب لم يكونوا يعرفون هذه المعاني والمفاهيم قبل فلسفة اليونان !

و الجواب : إنهم لم يعرفوا ما في ( نهج البلاغة) من المعاني والمفاهيم حتى بعد فلسفة اليونان ! لأن العرب لم يعرفوها بل لم يعرفها المسلمون من غير العرب أيضاً ! بل حتى الفلسفة اليونانية ! إذ أن هذه المعاني والمفاهيم إنما كانت من خصائص ومميزات الفلسفة الإسلامية فحسب ، وإنما تعرف عليها الفلاسفة المسلمون مستوحين من سائر المبادىء الإسلامية ، ثم أدخلوها في الفلسفة الإسلامية .

دور الفكر الفلسفي في ما وراء الطبيعة

قلنا : إن المعارف الإلهية في نهج البلاغة على نوعين : ففي نوع منه : التأمل و التحقيق في العالم المحسوس بما فيه من نظام ، بإعتباره مرآة نرى فيها كمال الخالق وحكمته وتدبيره وعلمه المطلق . وفي النوع الآخر منه : الأفكار العقلية المحضة و المحاسبات الفلسفية الخالصة. وإن هذه الأفكار العقلية و المحاسبات الفلسفية تشكل أكثر البحوث الإلهية في نهج البلاغة ، فقد بحث فيه حول صفات الكمال و الجلال وشؤونه وذاته بهذه الطريقة الثانية : العقلية و الفكرية الفلسفية فقط.

و هناك شكوك - كما نعلم - في سلوك هذه الطريقة في الفكر و قيمتها ، و هناك من يحرم هذه البحوث تحريماً شرعياً أو عقلياً ، قديماً وحديثاً ، وفي عصرنا هذا من يقول بتنافي هذه التحليلات العقلية و الفلسفية مع روح الإسلام ، وإن المسلمين إنما وردوا هذه المباحث متأثرين بفلسفة اليونان لا بوحي من هداية القرآن ، وإنهم

ص: 41

لو كانوا يجعلون تعاليم القرآن نصب أعينهم بدقة كافية لما كانوا يتورطون في هذه المباحث المعقدة و الملتوية ! ولهذا فإن هؤلاء أيضاً يشككون في صحة نسبة هذا القسم من مباحث (نهج البلاغة) إلى الإمام (علیه السلام) ، من هذه الناحية .

و قد قاوم انتشار هذه البحوث في القرن الثاني و الثالث الهجريين فرقة من المسلمين ، كانوا يرون : أن من واجب المسلمين أن يتعبدوا بما يفهمه العرف العام من ظواهر ألفاظ الكتاب و السنة ، وأن كل سؤال بكيف ولم ، وكل مقال للجواب عن ذلك بدعة محرمة ، وكانوا إذا سألهم سائل عن قوله سبحانه : (الرحمن على العرش استوى) عبسوا في وجهه وقطبوا وغضبوا من ذلك و قالوا : «الكيفية مجهولة ، والسؤال بدعة ) ! (1)

وقد غلب هذا المذهب الذي عرف فيما بعد باسم (الأشاعرة ) في القرن الثالث على ( المعتزلة ) الذين كانوا يبيحون هذه البحوث العقلية . وقد أصاب هذا الغلب الفكر العقلي في الإسلام بضربة كبرى ؛ وقد كان (الأخباريون) منا في القرن العاشر إلى الحادي عشر بل وحتى الرابع عشر تبعاً لأفكار ( الأشاعرة ) ! هذا من الناحية الشرعية .

وأما من الناحية العقلية : فقد ظهرت - على أثر غلبة الفكر التجريبي والحسي على الفكر العقلي ، في الطبيعيات - فكرة تقول بعدم اعتبار الفكر العقلي لا في الطبيعيات فحسب بل في كل شيء ، وإن الفلسفة الصحيحة إنما هي الفلسفة الحسية. وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الفكرة : إعلان الشك و التردد في الفلسفة الإلهية (الميتافيزيقية) إذ أنها خارجة عن نطاق الحس والتجربة !

وقد أثرت الأمواج الفكرية الأشعرية في الإسلام من ناحية، واطرّاد الطريقة التجريبية والحسية في الطبيعيات بصورة موفقة من ناحية أخرى : في اضطراب عدد من الكتاب المسلمين من غير الشيعة ، وكان من جراء ذلك أن بدت لهم في .

ص: 42


1- انظر مقدمة الجزء الخامس من كتاب ( أصول الفلسفة ) للسيد الطباطبائي محمد حسين - بالفارسية .

ذلك ( فكرة ملفقة ) تقول بطرد الطريقة العقلية في المعارف الإلهية ( شرعاً و عقلاً ) !

واستدلوا - من الناحية الشرعية - على ذلك ؛ بأن الطريق الوحيد المطمئن لمعرفة الله في القرآن إنما هي الطريقة الحسية و التجريبية ! أي النظر في آيات الآفاق والأنفس فقط ، وأن ما سواه لغو ولهو وعبث باطل ! فإن القرآن دعا الناس بصراحة مطلقة إلى النظر في مظاهر الطبيعة ، ورأى أن مفتاح أسرار المبدأ والمعاد إنما هو في عجائب الصنع والخلقة .

و من الناحية العقلية : تمسكوا بأقوال فلاسفة الغرب التجريبيين ، فأفرغوها في مقالاتهم وكتبهم ! . .

و قد دعا إلى هذه الفكرة ، وخطأ كل فكرة سواها : كل من فريد و جدي في كتابه : ( على أطلال المذهب المادي ) و السيد أبو الحسن الندوي الهندي في كتابه : (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ) وسائر كتاب ( جماعة الإخوان المسلمين ) كسيد قطب و أخيه محمد قطب ومحمد الغزالي و سيد سابق وحسن البنّا ، وغيرهم في كتبهم . فقد كتب الندوي الهندي يقول :

كان الأنبياء أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن بداية هذا العالم ومصيره وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وأتوهم علم ذلك كله، وكفوهم مؤونة البحث و الفحص في علوم ليس عندهم مباديها ولا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم، لكن النساس لم يشكروا هذه النعمة فبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة (1) . وقد انتقد هذا الكاتب علماء المسلمين في فصل آخر من كتابه بعنوان : ( قلة إهتمامهم بالعلوم النافعة ) يقول :

إن العلماء المفكرين منهم لم يعتنوا بالعلوم الطبيعية التجريبية ، و بالعلوم العملية المثمرة المفيدة اعتناءهم بعلوم ما بعد الطبيعة و الفلسفة الإلهية التي تلقوها من اليونان. وما هي إلّا وثنيتهم القومية التي ترجموها في لغتهم الفلسفية ، واضفوا عليها لباساً من الفن. وما هي إلا ظنون وتخمينات وطلاسم لفظية لا حقيقة لها ة

ص: 43


1- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 97 من الطبعة السادسة

ولا معنى ، وقد أغنى الله المسلمين عنها وكفاهم هذا البحث و التنقيب . ولكن المسلمين لم يشكروا هذه النعمة العظيمة فظلوا قروناً طويلة يضيعون ذكاءهم في مباحث فلسفية لا تجدي نفعاً » (1).

و لا شك أن فكرة أمثال فريد وجدي والندوي الهندي نوع من ( الرجعية الأشعرية ) ! إلّا أنها بصورة حديثة ملفقة بالفلسفة التجريبية .

وليس بوسعنا هنا أن نبحث في قيمة الأفكار الفلسفية العقلية من الناحية الفلسفية ، وقد بحثنا في هذا الموضوع في مقال ( قيمة المعلومات) و مقال (ظهور الكثرة في الإدراكات ) من كتاب ( أصول الفلسفة ) بحثاً يكفي للمراجعة و النظر. ولكنا نتابع البحث هنا من الناحية القرآنية حول ما إذا كان القرآن يعتبر الطريق الوحيد للتحقيق في المعارف الإلهية هو النظر في الطبيعة ؟ وهل صحيح أنه لا يعترف بطريق آخر للتحقيق في التوحيد والمعاد ؟

وقبل الدخول في هذا البحث يجب أن نتبّه على نقطة هامة ، وهي : أن اختلاف النظر بين الأشعري وغيره ليس حول جواز الإستفادة من الكتاب والسنة في المسائل الإلهية ، بل إنما هو في طريقة الإستفادة. فالأشعري يقول بأن الإستفادة منها يجب أن تكون بصورة تعبدية فقط ، أي أن الإسلام إنما يريد من المسلمين أن يصفوا الله بالوحدة والعلم والقدرة وسائر الصفات والأسماء الحسني لورودها في الشريعة كذلك ، وإلّا فلا نقدر نحن على أن تعلم هل أن الله موصوف بهذه الأوصاف ، أم لا ؟ إذ أن مبادىء هذه الأوصاف وأصولها ليست في متناولنا. فيجب علينا أن نتقبل أن الله موصوف بها ، من دون أن نستطيع أن نفهم ونعلم أنه موصوف بها. ودور النصوص الدينية في هذا الموضوع إنما هو في أن نفهم منها كيف يجب أن تكون أفكارنا ، حتى تفكر كذلك ، وكيف يجب أن نعتقد ، حتى نعتقد كذلك .

بینما یرى من يخالفهم : أن هذه الموضوعات قابلة للفهم والاستدلال كسائر المواضيع العقلية الإستدلالية ، أي أن هناك أصولاً ومبادىء إذا اطلع عليها 35

ص: 44


1- نفس المصدر من 135

الإنسان بصورة صحيحة استطاع أن يفهم المواضيع العقائدية الشرعية ، وأن دور النصوص الشرعية هو أن تحرك الأفكار وتلهم العقول والأفهام، وتجعل الأصول والمبادىء اللازمة بمتناوله . ولا معنى للتعبد في مورد المسائل الفكرية أبداً ، فإن تفكر الإنسان طبق الأوامر الصادرة إليه يشبه أن يرى حسب الأوامر مثلاً ، فيسأل من الآمر الناهي : كيف يفرض لي أن أرى هذا الشيء : هل هو كبير أم صغير ؟ أبيض هو أم أزرق أم أسود ؟ جميل أم قبيح ؟! أن التفكر التعبدي لا معنى له سوى قبول الفكرة بدون تفكر ، أي عدم التفكر .

والخلاصة : أن ليس الكلام في أنه هل يقدر البشر على أن يتجاوز تعاليم السماء والوحي ، أم لا ... فإن ما نزل من طريق الوحي وأهل بيته (علیه السلام) هو آخر حدود الصعود و الكمال في المعارف الإلهية ، وإنما الكلام في مدى استبداد العقل والفكر البشري ، وهل أنه يقدر أن يصعد بالنظر في مبادىء وأصول هذه المسائل عقلياً وعلمياً ؟ أم لا يستطيع ؟ (1)

وأما دعوة القرآن إلى التحقيق والمطالعة في أمور الطبيعة ، وأن تكون الطبيعة خير وسيلة إلى معرفة الله وما وراء الطبيعة ... فلا كلام في أنه من الأصول الأساسية في تعاليم القرآن والذي يصر عليه القرآن ويؤكده : هو توجيه فكر البشر إلى الطبيعة وظواهر الصنع والخلقة ، وأن يتفكروا في خلق السموات والأرض والنبات والحيوان والإنسان ، بعنوان أنها من آيات الله والحكمة والمعرفة الإلهية. وأيضاً لا شك في أن المسلمين لم يتقدموا في هذا السبيل كما ينبغي لهم. وقد يكون السبب الأصيل في هذا التأخر عن النظر في الصنع هو الفلسفة اليونانية التي كانت عقلية محضة، وكانت حتى في الطبيعيات تسلك هذا السبيل العقلي فقط . وإن كان المسلمون - كما يشهد التاريخ - لم يرفضوا الطريقة التجريبية بصورة مطلقة كما فعل اليونان ، بل إنهم يعدون - بحق - المبتكر الأول للطريقة التجريبية وليس الأوروبيون كما يزعمون ، بل هم عيال في ذلك على علماء المسلمين ..

ص: 45


1- انظر مقدمة الجزء الخامس من كتاب ( أصول الفلسفة) للسيد الطباطبائي : محمد حسين .

أثر النظر في الآيات و الآفاق

ولكن مع كل ذلك يجب أن نتأمل في نقطة أخرى، وهي حول ما إذا كان هذا الإهتمام القرآني العظيم بالنظر في المخلوقات الأرضية و السماوية بصورة يرى معها القرآن الطرق الأخرى باطلة ؟ أو أنه دعا الناس إلى النظر في (آيات الله) كذلك دعاهم إلى نوع آخر من التفكر أيضاً ؟ وما هو دور النظر في المخلوقات وآثار الصنع من ناحية الإيصال إلى المعارف التي أراد القرآن من الإنسان أن يعرفها ، والتي أشير إليها أو صرح بها في هذا الكتاب السماوي العظيم ؟

و الحقيقة : أن مدى مساعدة النظر في آثار الصنع بالنسبة إلى المسائل التي عنونها القرآن الكريم بصراحة ، قليل ، فضلا عن المسائل التي أشير إليها فيه. فقد طرح القرآن على الإنسان عدة من المسائل الإلهية التي لا يقوم البرهان عليها بمجرد النظر في الخلقة والطبيعة .

فان ما نفهمه من النظر في آثار الصنع أنه يثبت لنا بكل وضوح: أن لهذا العالم قوة مدبرة حكيمة وعليمة ، وأن هناك يداً قديرة تدير شؤون هذا العالم ، وأن وراء هذه الطبيعة عالم آخر - هذا كل ما نفهمه من الناحية الحسية والتجريبية من مرأة هذا العالم .

ولكن لا يصدق في شأن القرآن الكريم أن نقول : إن القرآن يقنع من الإنسان أن يعلم بأن هناك يداً قديرة وحكيمة و عليمة تدير شؤون هذا العالم نعم ، قد يصدق هذا في شأن سائر الكتب السماوية ، أما في شأن القرآن الكريم آخر رسالات السماء، والذي عرض على الإنسان مواضيع كثيرة في معرفة الله وفيما وراء الطبيعة ، فلا يصدق أبداً .

المسائل العقلية المحضة

وإن من أولى المسائل الأساسية التي لا يمكن للنظر في آثار الصنع أن يجيب عليه هي مسألة كون الخالق خالقاً غير مخلوق بل واجباً في وجوده. أن أكثر ما ترينا مرآة العالم هو أن هناك بدأ قديرة وعليمة تدير العالم، أما ما لهذه اليد من الوضع

ص: 46

والأحوال ؟ فهل هي أيضاً مسخرة ليد أخرى أم لا ؟ وإذا كانت مسخرة فما هي تلك اليد الأخرى وكيف هي ؟ أم هل أن تلك اليد قائمة بذاتها غير مسخرة لغيرها ؟ فهذه الأسئلة مما لا يمكن للنظر في آثار الصنع أن يجيب عليها . وليس هدف القرآن الكريم أن نعلم أن هناك یدأ قديرة وعليمة تدير العالم ، بل الهدف هو أن نعلم أن المدبر في الجميع هو ( الله ) وأن ( الله ) هو مصداق قوله : (ليس كمثله شيء ) : فهو ذات مستجمع للكمالات، بل هو كمال مطلق ، وكما يقول القرآن : (له المثل الأعلى) . وكيف يمكن للنظر في الطبيعة أن تعرفنا بهذه المفاهيم السامية ؟! .

والمسألة الأخرى : هي مسألة وحدة الله تعالى ، وقد طرح القرآن هذه المسألة بصورة استدلالية في شكل ( قياس استثنائي - كما في المنطق ) ، فإن البرهان الذي أقامه القرآن على الوحدة هو البرهان الذي يسميه الفلاسفة المسلمون : (برهان التمانع) بنوعيه : فتارة بالتمانع في العلق الفاعلة ، وذلك قوله سبحانه :

(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (1)

وأخرى بالتمانع في العلل الغائية ، وذلك قوله سبحانه :

(ما اتخذ الله من ولد ، وما كان معه من إله ، إذا لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ) . (2)

إن القرآن الكريم لم يؤكد على معرفة توحيد الله تعالى عن طريق النظر نظام خلق الموجودات، كما أكد على معرفة وجود الخالق من ذلك الطريق . بل لا يصح منه هذا القول .

إننا نرى في القرآن الكريم مسائل من هذا القبيل :

( ليس كمثله شيء) (و لله المثل الأعلى ) و (له الأسماء الحسنى والأمثال العليا) و (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) و (أينما تولوا فثم وجه الله) و (هو الله في السموات وفي الأرض) و (هو الأول .

ص: 47


1- الأنبياء : 22 .
2- المومنون: 91 . انظر الجزء الخامس من کتاب (اصول الفقه) للسید الطباطبایی : محمد حسین

والآخر ، والظاهر والباطن) و (هو الحي القيوم ) و (الله الصمد * لم يلد * ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد) .

فلماذا عرض القرآن لهذه المسائل ؟ أو يمكن أن يكون ذلك من أجل أن يعرض على الإنسان مسائل لا يفهمها ولا يدركها ولا تصل يده إلى أصولها ومبادئها - كما يقول الندوي : - ثم هو يريد من البشر أن يتقبلوها تعبداً من دون أن يدركوها ؟ أم هل أراد القرآن أن يعرف الإنسان ربه بهذه الشؤون والصفات معرفة واقعية لا ببغاوية ؟ فإن كان قد أراد أن يعرف الله بهذه الصفات فمن أي طريق للمعرفة ؟ وكيف يمكن للنظر في الطبيعة أن يعرفنا بهذه المعارف ؟ أن النظر في المخلوقات يوضح لنا : أن الله عليم حكيم، أي أن ما خلقه إنما كان عن علم وحكمة و دراية و تدبير ، ولكن الذي يريده القرآن الكريم منا ليس هذا فحسب، بل : (إنه بكل شيء عليم ) و (لا يعزب عن علمه مثقال ذرة) و (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) يعني: أن علم الله لا يتناهى وقدرته لا تتناهى ، وكيف يمكن أن ندرك بالمشاهدة العينية والحسية عدم تناهي علم الله و قدرته ؟!

وفي القرآن الكريم مسائل أخرى من قبيل : الكتب السماوية ، واللوح المحفوظ ، ولوحاً المحو و الإثبات ، والجبر والإختيار ، والقدر والوحي ... مما لا يمكن التحقيق فيه بالمطالعة الحسية .

والواقع : أن القرآن الكريم إنما طرح علينا هذه المسائل كعناوين لدروس عميقة ، ثم أكد على التدبر في هذه الدروس بآيات من قبيل قوله سبحانه : (كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته) وقوله عز من قائل ؛ (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )! فلا بد من أن يكون قد اعتبر طريقاً معقولاً للوصول إلى هذه الحقائق القرآنية ، اللهم إلّا أن يكون قد ألقاها إلينا كمجهولات لا يمكننا أن ندركها أبداً ؟ !

إن نطاق المسائل التي طرحها القرآن في موضوع ما وراء الطبيعة أوسع بكثير من أن يتمكن النظر في المخلوقات المادية من أن يجيب عليها . و هذا هو الذي بعث

ص: 48

المسلمين على أن يسلكوا سبل تحصيل الإجابة من طريق العقل والفكر والفلسفة وغيرها.

ولا أدري ما يقول هؤلاء الذين يدّعون أن القرآن يكتفي بالنظر في المخلوقات، لا أدري ماذا يقولون في شأن وجود هذه المسائل المختلفة فيه والذي هو من خصائص هذا الكتاب المقدس ؟

أما باعث علي (علیه السلام) على أن يتكلم في هذه المسائل : فإنما هو محاولة تفسير ما ورد منها في القرآن الكريم. وبالحق أقول : لولا علي (علیه السلام) لبقيت هذه المسائل في القرآن من دون إجابة .

والآن - وبعد أن أشرنا إلى أثر هذه البحوث - نأخذ في ذكر نماذج من نهج البلاغة .

ذات الله وصفاته

نذكر في هذا الفصل نماذج من بحوث نهج البلاغة في المسائل المتعلقة بالمعارف الإلهية من ذات الحق وصفاته ، ثم نعمل دراسة مقارنة بينها وبين سائر المدارس الفكرية بصورة مختصرة ، وبذلك نختم البحث في هذا القسم من الكتاب .

ويلزمني قبل الدخول في البحث أن أعتذر من القراء الكرام إذا اتصف بحثنا في هذه الفصول بالصفة الفنية الفلسفية وأخذنا نطرح مسائل تثقل على من لم يأنس من قبل بتحليلات علمية كهذه، ولكن ماذا نفعل ؟ فإن البحث حول كتاب كنهج البلاغة ، فيه من أقواس الصعود والنزول ما لا يخفى . ولذلك فنحن نختصر البحث وتقنع بذكر نماذج من البحث، ولو أردنا أن نشرح الكتاب كلمة فكلمة لطال بنا المقام واحتجنا إلى موسوعة ضخمة من الكتب .

ذات الله

- هل يوجد في نهج البلاغة كلمات بليغة في تعريف كنه وماهية ذات الله ؟

ص: 49

- نعم ، كثير. ولكنها كلها تدور حول نقطة واحدة ، هي : أن ذات الله وجود غير محدود ، بل هو ذات غير قابلة للحدود، بينما لا بد لكل موجود من الموجودات سواء من حدود و نهايات ، سواء كان موجوداً ساكناً أم متحركاً و الموجود المتحرك تتبدل حدوده دائماً . وليس لذات الله ( ماهية ) تخصصه بنوع خاص من الوجود المحدود ، وهو وجود مطلق لا نهاية له ، فلا يخلو الوجود من وجوده ، ولا يتصف شيء من الوجود يفقده فيه . ولا يصدق إتصافه بالعدم والسلب ، إلّا عدم العدم و سلب السلب العدم و سلب السلب ، والنفي الوحيد الذي يصح اتصافه به هو نفي النقص و العدم، من قبيل : المخلوقية ، والمعلولية ، والمحدودية والكثرة، والتجزي، والفقر ، فلا يتطرق إليه العدم بأي شكل من أشكاله و ألوانه . إنه مع كل شيء وليس في شيء وليس معه شيء ، ليس في شيء أبداً ولا خارج عنه أبداً ، وهو منزه عن كل كيفية وتشبيه وتمثيل ، إذ كل هذه من أوصاف الموجود المحدود ذي الماهية المتعينة :

مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة (1)

فهو مع كل شيء ، ولكن لا بنحو التزاوج والإقتران بينه وبين ذلك الشيء بل هو يغاير كل شيء فليس عين الأشياء ولكن لا بوجه الإنفصال عنها حتى تكون حدوداً لذاته سبحانه : « ليس في الأشياء بوالج ، ولا عنها بخارج ، فليس (حمالاً ) في الأشياء ، إذ ( الحلول) يستلزم الحدود و التحيز ، وفي نفس الوقت ليس بخارج عنها ، أن خروجه عنها أيضاً يستلزم نوعاً آخر من الحدود :

بأن من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع

فانفصاله عن الأشياء ومغايرته لها بقدرته عليها وقهره لها ، وليس القاهر نفس المقهور ، ولا القادر عين المقدور ، ولا المسخّر نفس المسخّر ، وإنفصال الأشياء عنه ومغايرتها له بنحو الخضوع له ، ولا يمكن أن يكون الخاضع والمسخّر ( متحداً ) مع الذات الغنية . وليس إنفصال الله عن الأشياء و مغايرته لها بفصل الحدود ، بل بفصل الربوبية و المربوبية ، والكمال والنقص ، والقوة والضعف . .

ص: 50


1- الخطبة الأولى .

وفي كلام الإمام (علیه السلام) من هذا النوع كلمات كثيرة. ولكن جميع ما سنذكره من المسائل فيما يأتي مبني على أساس هذا الأصل ، وهو : أن ذات الحق وجود مطلق لا نهاية له، ولا يصدق عليه أي نوع من الحدود والماهيات و الكيفيات ...

وحدة الله ليست وحدة عددية

ومن المسائل التوحيدية في نهج البلاغة ، هي: أن وحدة الذات الواحدة المقدسة ليست وحدة عددية ، بل هي نوع آخر من الوحدة .

فإن الوحدة العددية إنما تصح فيما يمكن فرض تكرر وجوده ، فإذا تصورنا ماهية موجودة من الماهيات أو طبيعة من الطبائع ، وكان العقل يجوز فرض أن يوجد من تلك الماهية فرد آخر مرة أخرى، ففي هذه الموارد تكون وحدة أفراد هذه الماهية وحدة عددية ، وهي في مقابل الإثنينية والكثرة ، فالواحد في هذا المورد يعني ليس إثنين ، ويوصف هذا النوع من الوحدة بصفة (القلة - الكيفية ) أي أن هذا الفرد قليل بالنسبة إلى ما يقابله من الإثنين والأكثر

أما إذا كان وجود شيء بحيث لا يمكن فرض التكرار فيه ( نقول : فرض التكرار ووجود الفرد الآخر يكون فيه محالاً ، لا وجوده ) إذ لا حدّ له ولا نهاية ، فكل ما فرضناه مثله أو ثانية إما أن يكون هو عينه أو لا يكون ثانياً له ، ففي هكذا موارد لا تصدق الوحدة العددية ، فإن هذه الوحدة ليست في مقابل الإثنينية والكثرة ، فليس معنى أنه واحد : إنه ليس إثنين ، بل معناه : انه لا يفرض له ثانٍ.

ويمكننا أن نوضح هذا الموضوع بذكر مثال: نعم أن العلماء يختلفون في تناهي أبعاد العالم أو عدم تناهيه ، فبعضهم يدّعي عدم التناهي لإبعاد العالم و يقول : لا حد ولا نهاية لعالم الأجسام. والبعض الآخر يدعي: أن أبعاد العالم محدودة ، ومن أي صوب أخذنا في هذا العالم بلغنا فيه إلى النهاية لا محالة . وهناك مسألة أخرى يبحثون فيها ؛ وهي : حول ما إذا كان عالم الجسمانيات هو عالمنا هذا فقط ؟ أم أن هناك عالماً أو عوالم أخرى ؟

ص: 51

وواضح أن فرض عالم جسماني آخر غير عالمنا هذا فرع على تناهي عالمنا هذا ومحدوديته ، ففي هذه الصورة يمكن أن نفرض وجود عالمين جسمانيين محدودين بأبعاد معينة. أما إذا فرضنا عدم محدودية عالمنا الجسماني هذا ففرض العالم الآخر يصبح فرضاً محالاً غير ممكن ، إذ كل ما نفترضه عالماً آخر يكون - على الفرض

نفس عالمنا هذا أو جزءاً منه .

فرض وجود آخر مثل وجود الذات الواحدة المقدسة ، مع فرض أنه وجود محض وواقعية مطلقة ، يكون مثل فرض عالم جسماني آخر مع فرض عدم تناهي هذا العالم الجسماني ! وهذا هو فرض محال ممتنع غير ممكن.

وفي نهج البلاغة كلمات كثيرة بهذا الصدد تقول : إن وحدة ذات الله ليست وحدة عددية ، وإنه لا يوصف بالوحدة العددية ، وإن عدّه بالعدد يستلزم محدوديته :

الأحد بلا تأويل عدد (1) .

لا يشمل بحد ولا يحسب بعد (2)

من اُشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عده (3)

من وصفه فقد حدّه ، ومن حده فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبسطل أزله (4)

كل مسمى بالوحدة - غيره - قليل (5)

وما أجمل هذه الجملة الأخيرة وما أعمقها وأكثرها معنى ! فإنها تقول : كل شيء غير ذات الله إذا كان واحداً كان قليلاً ، أي أمكن أن يفرض له فرد آخر ، فهو الآن وجود محدود، إذا أضيف إليه فرد آخر كثر وخرج عن حده إلى حد آخر .


1- الخطبة : 152 ص 147 ج 9
2- الخطبة : 184
3- الخطبة الأولى .
4- الخطبة : 152 ص 147 ج 9 .
5- الخطبة : 64 ص: 153 ج 5

أما ذات الله فمع أنه واحد لا يوصف بالقلة ، إذ وحدته عظمته وشدة وجوده ولا نهائيته وعدم تصور وجود ثان يكون له مثلا ونداً وضدّاً .

وهذه المسألة ، مسألة : أن وحدة الحق ليست وحدة عددية ، من المسائل الإسلامية السامية والأفكار العالية فيه ، وليس لها أية سابقة في سائر المدارس الفكرية ، وإنما توصل الفلاسفة المسلمون إلى عمق هذه الفكرة على أثر التدبر في المتون الإسلامية الأصيلة ولاسيما كلمات الإمام علي (علیه السلام) ، ثم أدخلوها في الفلسفة الإسلامية ، ولا أثر لهذه الفكرة الدقيقة في كلمات القدماء من الحكماء المسلمين من قبيل الفارابي وابن سينا ، وإنما اقتبسها المتأخرون منهم من كلمات الإمام (علیه السلام) وأوردوها فلسفتهم وأسموها : « الوحدة الحقة الحقيقية »

الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية

ومن بحوث نهج البلاغة : كلمات في : أن الله أول وآخر ، وظاهر وباطن وهذا البحث - كسائر البحوث - مقتبس من القرآن الكريم، ولسنا نحن هنا الآن بصدد إثباته عن القرآن الكريم . أما الإمام (علیه السلام) فهو يقول : إن الله أول لا أول الزمان حتى يغاير آخريته، وظاهر لا بمعنى أنه محسوس بالحواس حتى يختلف مع معنى باطنيته ، فأوليته هي آخريته، وظاهريته هي باطنيته .

الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالاً ، فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً ، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً ... وكل ظاهر غيره غير باطن ، وكل باطن غيره غير ظاهر (1) .

لا تصحبه الأوقات ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والإبتداء أزله (2)

إن تقدم ذات الله على الزمان وعلى كل وجود وكل عدم وكل أول : من

ص: 53


1- الخطبة : 63
2- الخطبة : 184 53

أدق الأفكار في الحكمة الإلهية . وليس معنى أزلية الله أنه كان موجوداً دائماً بل هي أسمى من ذلك ، إذ أن فرض كونه دائماً يستلزم فرض الزمان معه أيضاً ، وهو - بالإضافة إلى وجوده في كل زمان - متقدم حتى على الزمان، وهذا هو معنى الأزلية ، ومن هنا يتيين أن تقدم ذات الحق ليس تقدماً زمانياً بل هو نوع آخر من

التقدم .

الحمد لله الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليته و باشتباههم على أن لا شبيه له ، ولا تستلمه المشاعر ، ولا تحجبه السواتر ) (1)

يعني: أنه ظاهر و باطن ، ظاهر في ذاته، باطن عن حواس الإنسان و باطنيته عن حواس الإنسان من محدودية الحواس لا من ذاته سبحانه . فقد ثبت في محله ، أن الوجود يساوي الظهور ، وكلما كان الوجود أقوى وأكمل كان أظهر ، وكلما كان أضعف كان أخفى . ولكل شيء وجودان : وجود في نفسه ، ووجود لنا . والثاني يرتبط بقوانا المدركة وبشرائط أخرى ، والظهور أيضاً ظهوران : ظهور في نفسه ، وظهور لنا ، أما حواسنا فبمقتضى محدوديتها إنما تستطيع أن تعكس لنا الوجودات المحدودة و المقيدة والتي لها أمثال أو أضداد ، فهي إنما تدرك الألوان و الأشكال والأصوات وغيرها المحدوديتها بالزمان والمكان ، فهي موجودة في مكان دون مكان وزمان دون زمان . فإذا كان النور - مثلاً - بصورة واحدة في كل زمان و مكان لم يكن قابلاً لإحساسنا به، و إذا كان الصوت بصورة دائمة واحدة لم نكن لنسمعه أبداً.

و ذات الله، الذي هو الوجود الصرف، لا يحدها زمان و لا مكان، فهو باطن لحواسنا، و ظاهر في ذاته هو، و كمال ظهوره أي كمال وجوده هو سبب خفائه عنا، فسبب ظهوره وخفائه شيء واحد هو وجوده الكامل ، فهو باطن لكمال ظهوره ، ولكمال ظهوره باطن :

يا من هو اختفى لفرط نوره *** الظاهر الباطن في ظهوره ،

ص: 54


1- الخطبة 152 . من 147 ج 9 من شرح النهج لابن أبي الحديد . ص 153 . ج 5 ط أبو الفضل ،

دراسة مقارنة في نهج البلاغة

إن لم ندرس البحوث التوحيدية في نهج البلاغة دراسة مقارنة - ولو بصورة مختصرة - مع سائر المدارس الفكرية ، لم يتضح لنا قيمتها الواقعية .

وما ذكر في الفصل السابق من نماذج من بحوث التوحيد في نهج البلاغة ، لم يكن كافياً حتى للمنوذج ، ولكنا مع ولكنا مع ذلك نكتفي به وندرسه الآن دراسة مقارنة فنقول :

لقد بحث حول ذات الله وصفاته قبل نهج البلاغة وبعده في الشرق والغرب في القديم والحاضر كثير من الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء والصوفية وغيرهم ، بحوثاً كثيرة ، بطرق وأساليب مختلفة. أما أسلوب نهج البلاغة فهو أسلوب مبتكر غير مسبوق قبله ، اللهم إلّا بالقرآن الكريم ، فإن أرضية الأفكار الموجودة في نهج البلاغة هي ما في القرآن الكريم فقط ، أما إذا تجاوزنا القرآن الكريم فلا نجد بعده أي أرضية أخرى لبحوث نهج البلاغة.

وقد أشرنا من قبل إلى أن بعض العلماء ! من أجل أن يفترضوا لهذه المباحث أرضية مساعدة سابقة عليها جعلوا يترددون ويشككون في صحة نسبتها إليه (علیه السلام) ! وافترضوا أن تكون هذه البيانات ظهرت في العصور المتأخرة عن ظهور أفكار المعتزلة من ناحية والأفكار اليونانية من ناحية أخرى ! متغافلين عن فساد نسبة الثريا إلى الثرى ! فأين أفكار المعتزلة واليونان عما في نهج البلاغة من أفكار أبكار ؟!

نهج البلاغة ، والأفكار الكلامية

وصف نهج البلاغة ذات الله سبحانه بالأوصاف الكمالية ، وفي نفس الوقت نفی (مقارنته) بالصفات الزائدة على ذاته. والمعتزلة ينفون عنه كل صفة ، والأشاعرة يصفونه بكل صفة زائدة على ذاته .

الأشعري (بازدياد ) قائل *** و قال ( بالنيابة ) المعتزل

وهذا هو الذي جعل البعض يتوهم أن ما جاء في نهج البلاغة في هذا

ص: 55

الموضوع إنما هو من صنع المتأخرين المتأثرين بأفكار المعتزلة . في حين يعرف المفكرون : أن نهج البلاغة حينما ينفي الصفة إنما ينفي الصفة المحدودة (1) أما إنبات الصفة غير المحدودة للذات غير المحدودة فهو يستلزم عينية الذات والصفات لا إنكار الصفات كما توهمه المعتزلي ، ولو كان المعتزلة قد أدركوا هذه الفكرة لم يكونوا لينفوا بصورة مطلقة ولم يكونوا يقولون بنيابة الذات عن الصفات !

وكذلك يمكن أن يتوهم المتوهم في ما جاء في الخطبة : 184 في كلام الله تعالى ، أنه كلام في أن القرآن قديم أو حادث مخلوق ، وهو النزاع الذي كانت له سوق رائجة بين المتكلمين من المسلمين في العصور المتأخرة عن عصر علي (علیه السلام) أن ما جاء في نهج البلاغة إنما ألحق بعلي (علیه السلام) في ذلك العصر أو فيما بعد.

ولكن يتضح بأدنى تأمل : أن ما جاء في نهج البلاغة ليس في حدوث القرآن وقدمه مما لا معنى له، بل هو في الأمر التكويني والإرادة الإنشائية لله سبحانه فيقول الإمام (علیه السلام) : بأن أمر الله وارادته الإنشائية هو فعله تعالى ، ولهذا فهو حادث متأخر عن ذاته سبحانه ، ولو كان قديماً في مرتبة ذاته سبحانه لاستلزم أن يكون لذاته ثان وشريك .

و يقول لما أراد كونه : كن ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنما کلامه - سبحانه - فعل منه انشاؤه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا. ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً .

هذا بالإضافة إلى أن الروايات التي وردت في نهج البلاغة في هذا الموضوع ، روايات مسندة تتصل إسانيدها إلى عهده (علیه السلام) . فلماذا التشكيك إذن ؟! وإذا كان هناك شبه بين كلمات الإمام (علیه السلام) وبعض كلام المعتزلة فإنما يحتمل أن يكون المعتزلة قد اقتبسوا ذلك منه (علیه السلام) لا بالعكس .

وقد جعل المتكلمون من المسلمين - أعم من الشيعة و السنة : الأشعريين و المعتزلين - محور أبحاثهم - استقلال العقل في التحسين و التقبيح وعدم استقلاله ى.

ص: 56


1- فإنه (علیه السلام) قبل أن يقول : و كمال الإخلاص نفي الصفات عنه، قال : الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ، الخطبة الأولى.

في ذلك . وهو أصل للمجتمع البشري ، ولكن المتكلمين أجروه حتى في عالم الإرادة الإلهية و السنن الكونية . بينما لا نرى نحن ولو إشارة إلى هذا في جميع نهج البلاغة ، كما لا إشارة إليه في القرآن أيضاً. فلو كانت أفكار المتكلمين قد تطرقت إلى نهج البلاغة لكنا نجد لهذا أثراً فيه .

نهج البلاغة والأفكار الفلسفية

وحينما رأى البعض في نهج البلاغة كلمات من قبيل : الوجود والعدم والحدوث والقدم ، وأمثالها ؛ احتملوا فرضية أخرى وقالوا بأن هذه الكلمات إنما دخلت فيها دخلت فيه من كلام علي (علیه السلام) - عمداً أو سهواً - بعد أن دخلت فلسفة اليونان إلى بلاد الإسلام .

إن أصحاب هذه الفرضية لو كانوا يعبرون الألفاظ إلى المعاني لم يكونوا ليفترضوها ، فإن أسلوب الإستدلال في نهج البلاغة يتفاوت بكثير عن أسلوب الفلاسفة المتقدمين و المعاصرين للسيد الشريف الرضي (ره) بل وحتى عن أسلوب المتأخرين عن نهج البلاغة بقرون .

ولا نبحث نحن الآن في مدى ومستوى المعارف الإلهية في الفلسفة اليونانية و الإسكندرية ، بل تخصص بحثنا بما بيّنه الفارابي و ابن سينا و الخواجة نصير الدين الطوسي (قده) فنقول : لا شك في أن الفلاسفة المسلمين كانوا متأثرين بالتعاليم الإسلامية، ومن هنا ادخلوا في الفلسفة بعض المسائل الإسلامية التي لم تكن من قبل ، وابتكروا في الإستدلال وبيان بعض المسائل طرقاً وأساليب حديثة ولكنهم مع ذلك تفاوتوا عما في نهج البلاغة من الأفكار المفيدة .

كتب شيخي العلامة الأستاذ السيد الطباطبائي (روحي فداه) في ( مكتب تشيع - 2 ) يقول :

إن ما ورد في الروايسات الإسلامية الشيعية في الفلسفة الإلهية ، تحل لنا كثيراً من المسائل في الفلسفة الإلهية، مما لم يكن بين المسلمين ولا العرب ولا كلمات الفلاسفة من قبل الإسلام، الذين نقلت كتبهم إلى العربية في تلك

ص: 57

الأيام ، بل لم تكن مفهومة عند العرب، ولا معنونة في كتب اليونان ، وليس لها أثر في كتب حكماء المسلمين من العرب و العجم ( من غير الشيعة ) وقد بقيت هذه المسائل مبهمة يفسرها كل من الباحثين و الشراح بظنونهم، حتى فهمت وحلت في حدود القرن الحادي عشر الهجري. كمسألة : ( الوحدة الحقة الحقيقية ) وأن : ثبوت وجود الواجب يساوي ثبوت وحدته كذلك ، وأن وجوده المطلق يساوي وحدته المطلقة ، وأن الواجب معلوم بالذات بلا واسطة ... » (1)

إن محور استدلالات الفلاسفة المتقدمين من المسلمين من قبيل الفارابي و ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي (قدس سره ) في مباحث الذات والصفات من وحدته وبساطته وغناه الذاتي وعلمه وقدرته ومشيئته وغيرها ، هو ( وجوب الوجود ) ، فهم يستنتجون كل شيء من (وجوب وجوده ) و يثبتون وجوب وجوده من طريق غير مباشر ، وهو : أنه لو لم يكن مع الموجودات واجب الوجود لم يكن لوجودها وجه صحيح . و البرهان الذي يقام على هذا الموضوع ليس من نوع برهان (الخلف) ولكنه يشبه برهان الخلف من حيث الإلزام من طريق غير مباشر ، ولهذا فلا يصل الفكر في هذا البرهان إلى (ملاك) وجوب الوجود ، ولا يكتشف منه وجه : (لِمَ). ولا بن سينا في ( الإشارات) بيان خاص يدعي أنه أكتشف به وجه (لِمَ) في الموضوع ، ولهذا فهو يسمي برهانه هذا (ببرهان الصديقين ) ، في حين لم يقنع من بعده من الحكماء ببيانه لتوجيه ( لِمَ ) في مسألة (واجب الوجود ) وقالوا أنه غير كاف لبيان الوجه .

ولم يستند في نهج البلاغة على (وجوب الوجود ) بعنوان أنه أصل مفسّر لوجود سائر الموجودات . وإنما أكد في هذا الكتاب على الواقعية المحضة والوجود الصرف لذات الحق سبحانه ، وهذا هو الملاك الواقعي لوجوب الوجود .

وقال السيد الأستاذ الطباطبائي (روحي فداه) في ( نفس المصدر ) عند شرحه لمعنى حديث رواه الشيخ الصدوق (قده) في ( كتاب التوحيد ) عن علي (علیه السلام) : 20

ص: 58


1- مكتب تشيع : مجلة إسلامية فارسية سنوية - السنة الثانية ص 120

بني أساس هذا القول على أن للحق سبحانه واقعية غير محدودة لا نهاية لها ، إذ هو الواقعية المحضة التي يحتاج إليها كل شيء موجود له واقعية وجودية محدودة، فإنه إنما يجد وجوده الخاص من ذلك الوجود المطلق (1).

أجل ، إن ما جعل اساساً لجميع البحوث حول ذات الله وصفاته في نهج البلاغة: هو أنه - سبحانه - وجود مطلق غير محدود، وأنه لا يتطرق إليه أي حد أو قيد ، وأنه لا يخلو عنه مكان ولا زمان ولا أي شيء إنه مع كل شيء وليس معه شيء . وحيث هو مطلق بلا حد فهو متقدم على كل شيء حتى على الزمان والعدد والحد والمقدار و ( الماهية ) ، فإن الزمان والمكان والعدد والحد والمقدار إنما هی منتزعة من أفعاله - سبحانه - وصنعه ، وكل شيء منه ، وإليه مرجع كل شيء وهو أول الأولين وهو آخر الآخرين .

هذا هو محور بحوث نهج البلاغة . ولا نجد في كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي والخواجة نصير الدين الطوسي (قده) منه شيئاً . وكما قال السيد الأستاذ العلامة الطباطبائي (روحي فداه ) فإن هذه البحوث العميقة في ( الإلهيات بالمعنى الأخص ) تبتنى على سلسلة من المباني التي تثبت في ( الفلسفة العامة ) ولا نستطيع نحن هنا أن نذكر تلك المسائل وابتناءها على تلك المباني .

ونحن إذا رأينا مما سبق :

أولاً : أن في نهج البلاغة بحوثاً لم تكن مطروحة في عصر السيد الشريف الرضي (ره) جامع النهج ، بين فلاسفة العالم ، من قبيل : أن وحدة الله ليست وحدة عددية ، وأن العدد في مرتبة متأخرة عن ذاته ، وأن وجوده يساوي وحدته ، وبساطة ذاته، وكونه مع كل شيء لا معه شيء ومسائل أخرى من هذا القبيل ...

و ثانياً : نرى التفاوت الكبير بين مستند البحوث في هذا الكتاب مع ما تداول من بحوث فلاسفة العالم حتى اليوم ...

فكيف نستطيع أن ندعي أن هذه الكلمات اخترعها المتعرفون على المفاهيم الفلسفية السائدة يومذاك ؟!6

ص: 59


1- المصدر السابق ص 126

نهج البلاغة ، والأفكار الفلسفية الغربية

إن لنهج البلاغة في تاريخ فلسفة الشرق دوراً عظيماً ! وقد كان ( صدر المتألهين ) الذي أحدث ثورة في الحكمة الإلهية متأثراً بكلمات الإمام علي (علیه السلام) ، فإن أسلوبه في مسائل التوحيد يبتنى على أساس الإستدلال من الذات على الذات والصفات، وهذا يبتنى على أنه سبحانه صرف الموجود ، وهذا بدوره يبتني على أساس سلسلة من الأصول العامة في فلسفته العامة .

إن الحكمة الإلهية الشرقية تبلورت و استقرت ببركة معارف الإسلام ، و بنيت على سلسلة من الأصول و المبادىء الحكيمة الثابتة التي لا تقبل الشك و الجدل. ويقيت الحكمة الإلهية الغربية محرومة عن هذه البركات . أن للإتجاه إلى الفلسفة المادية في الغرب عللاً كثيرة ليس هنا محل تفصيلها ، إلّا أنا نعتقد أن العمدة في العلل هو قصور مفاهيم الحكمة الإلهية في الغرب ..

ومن أراد أن يقارن بين موضوع بحثنا هذا والحكمة الإلهية في الغرب ، فعليه أن يطالع ما بحثه حول (برهان الوجود) كل من ( أنسلم - المقدس ) إلى (دکارت ) و ( اسبينوزا ) و ( لايب نيتيس ) و ( كانت ) وغيرهم ، ثم يقارن بينه وبين ( برهان الصديقين) الذي اقتبسه (صدر المتألهين ) من كلمات الإمام علي (علیه السلام) وسائر الأفكار الإسلامية ، حتى يعرف البون الشاسع والتفاوت الكبير

ص: 60

القسم الثالث

اشاره

نظام العبادات

- العبادة في الإسلام

- مراتب العبادات

- العبادة في نهج البلاغة

- عبادة الأحرار

- ذكر الله على كل حال

- مقامات المتقين وحالاتهم

- ليالي أولياء الله

- سيماء الصالحين

- ذكر الله في الأسحار

- الخواطر القلبية

- تنهى عن الفحشاء

- وتعالج مفاسد الأخلاق

- وفيها لذة المناجاة

ص: 61

ص: 62

نظام العبادات

العبادة في الإسلام

إن من أصول تعاليم الأنبياء و المرسلين عبادة الله الواحد الأحد ، وترك عبادة كل شيء سواه . ولم تخل تعاليم أي نبي من ذلك .

والعبادة في الدين الإسلامي الحنيف - كما نعلم - عنوان سائر التعاليم الإسلامية . ولكنها في الإسلام ليست بصورة سلسلة من المراسيم والطقوس والتقاليد والعادات والآداب والتعاليم المنفصلة عن الحياة و المرتبطة بالحياة الأخرى فقط ، بل هي في الإسلام توأم مع الحياة وفي صميم فلسفة الحياة فيه .

ففضلا عن أن بعض العبادات الإسلامية تؤدي بصورة جماعية ، نرى أن الإسلام جعل كثيراً من العبادات الفردية بحيث تتضمن تحقيق بعض مطالب الحياة.

فالصلاة - مثلاً - التي هي مظهر كامل لإظهار العبودية ، جعلت بصورة خاصة بحيث إن الفرد الذي يريد أن يصلي لوحده في زاوية بينه ، يتقيد بصورة (اتوماتيكية) بالعمل بعدد من الوظائف الأخلاقية و الإجتماعية ، من قبيل : النظافة ، و رعاية حقوق الآخرين ، ومعرفة الوقت وتثمينه ، ومعرفة القبلة وتثمين الإتجاه ، وضبط النفس ، وإعلان الصلح والسلام مع عباد الله الصالحين ، وغير ذلك .

ص: 63

بل إن الإسلام يعتبر كل عمل مفيد - إن كان صادراً بدافع إلهي طاهر - عبادة لله . ولذلك فإنه يعتبر طلب العلم عبادة (1) ، وطلب الحلال عبادة (2) والخدمات الإجتماعية عبادة (3). ومع ذلك ، فقد شرع تعاليم خاصة وضع بها مراسيم خاصة للعبادة بالمعنى الأخص - كالصلاة والصوم والحج ، ولكل من هذه العبادات علل وحكم وفلسفات (4) .

مراتب العبادات

إن الناس لا يستوون في فهم العبادة بل يختلفون في ذلك : فهي عند بعضهم نوع من المعاملة والمعاوضة التي يقع بها التبادل بين العمل والأجر عليه ، فهو يعطي العمل وسوف يستلم الأجرة عليه ، وكما يصرف العامل طاقته العملية لصاحب العمل فيأخذ منه الأجرة على ذلك ، كذلك يتعب العابد أيضاً بعيادته إذ يركع فيها ويسجد ويقوم ويقعد ، ومن الطبيعي أن يطلب على ذلك أجراً سيجده في عالم الآخرة ، وكما تنحصر فائدة العمل للعامل في تلك الأجرة التي يأخذها من صاحب العمل، فإذا لم تكن هناك أجرة ذهبت أتعابه سدى ، كذلك فائدة العبادة - عند هؤلاء - هي تلك الأجرة التي يعطاها العابد في عالم الآخرة في بضاعات وسلع مادية !

و أما أن صاحب العمل إنما يعطي الأجرة عوضاً عما يستفيده من عمل العامل ، فما هو الذي يستفيده صاحب الأمر في العالم ( وهو الله ) من عمل عبده هذا الضعيف الذليل ؟ وعلى فرض أن يكون عطاء الأجر على العبادة تفضلا منه وكرماً ، فلماذا لا يعطاه بدون أن يصرف مقداراً من طاقاته في عبادته سبحانه ؟ فهذا مما لا تفكر فيه هذه الطائفة من العابدين ! إذ العبادة - عند هؤلاء - نفس هذه

ص: 64


1- طلب العلم فريضة - الرسول الأعظم (ص)
2- العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال حديث شريف
3- خير الناس من نفع الناس - حديث نبوي شريف
4- وقد ورد في ذلك أحاديث عن أئمة أهل البيت (علیه السلام) جمعها الشيخ الصدوق في كتاب بجزئين أسماء (علل الشرائع ) .

الأعمال البدنية والحركات الظاهرية التي تتبدى بصورة محسوسة من اللسان وسائر أعضاء البدن في الإنسان ! .

هذا هو نوع من التصور الجاهل للعبادة عند العوام ، وهو - كما يقول ابن سينا في النمط التاسع من كتابه (الإشارات) - ناشيء عن عدم المعرفة بالله ، وإنما تقبل عبادة بهذا التصور عن عوام الناس القاصرين فقط.

والتصور الآخر عن العبادة هو تصور العارفين بالله .

و في هذا التصور لا يوجد عامل و صاحب عمل وإجرة كما بين العمال و أصحاب العمل ، بل لا يمكن أن يوجد . بل العبادة - عند هؤلاء - قربان الإنسان ومعراجه وتعاليه وصعوده إلى مشارق أنوار الموجود ، وهي تربية روحية ورياضة للقوى الإنسانية ، وهي ساحة إنتصار الروح على البدن ، وأسمى مظاهر شكر الإنسان لمبدىء الخلقة ومعيدها ، وهي مظهر حب الإنسان للكامل المطلق والجميل على الإطلاق ، وهي مسيرة الإنسانية إلى الكمال اللانهائي.

وفي هذا التصور عن العبادة نجد أن للعبادة جسماً وروحاً ، ظاهراً ومعني فما يتحقق منها باللسان وسائر الأعضاء هو ظاهر العبادة وجسمها ، وأما معنى العبادة وروحها فهو شيء آخر ، وهو يرتبط بما يفهمه العابد عن عبادته ، وبنوعية تصوره عن العبادة ، وبالباعث له على العبادة، وبما يحظى به من عمل العبادة ، وبما يتقدم به من العبادة إلى الله ، ويتقرب بها إليه .

العبادة في نهج البلاغة

فما هي صورة العبادة في نهج البلاغة ؟

إن صورة العبادة في نهج البلاغة من نوع عبادة العارفين بالله تعالى ، بل نقول : إن منبع الإلهام لتصور العارفين بالله من العبادة في الإسلام - بعد القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص) - هو كلام الإمام (علیه السلام) .

إن إحدى أوجه الأدب الإسلامي - سواء العربي أو الفارسي - هو أدب الدعاء ، والأفكار الدقيقة واللطيفة التي توجد في هذا الموضوع مما يثير العجب ويبعث على الإستحسان .

ص: 65

وبمقارنة أدب الدعاء في الإسلام مع ما كان سائداً من الأدب العاطفي الإلهي و العبادي في رقعة البلاد الإسلامية قبل الإسلام، يمكننا أن نفهم مدى عظمة تلك النهضة بل الثورة التي بعثها الإسلام في الأفكار من العمق والشمول واللطف والرقة. إن الإسلام صنع من أولئك الذين كانوا يعبدون الأوثان أو الإنسان أو النيران أو الئيران ، فكانوا بقصر أفكارهم يعبدون ما ينحتون بأيديهم أو يهبط به إلى مستوى إنسان أب أو ابن أو أم ، أو هم معاً ، أو يصنع (لأهورا مزدا) صنماً ينصبه في كل مكان فيعيده و يسجد له ... من هؤلاء، صنع أناساً وسعت عقولهم لأدق الأفكار والطفها وأسمى التصورات وأعلى المعاني ! فما الذي حدث فغير الأفكار والعقول ورفعها وأعلى كعبها ، وقلب الموازين والمقاييس والقيم ؟

إن المعلقات السبع و ( نهج البلاغة) نتاجان لعهدين متقاربين بين الجاهلية و الإسلام ، وكل منهما مثل أعلى للفصاحة والبلاغة في لغة عصره ومصره . أما من ناحية المحتويات فهيهات هيهات ! وشتان شتّان ! فكل ما في الأول أوصاف عن الخيول والرماح والجِمال والجَمال والمدح والذم والهوى والغرام والغزل والنسيب والتشبيب بالعيون والحواجب للكواعب ! وأما الثاني ففيه اسمى المفاهيم الإنسانية وأعلاها وأزكاها وأطيبها وأنماها .

والآن لتتضح لنا صورة العبادة في ( نهج البلاغة ) نأخذ في ذكر نماذج من كليات الإمام (علیه السلام) ، ونبدأ كلامنا هنا بكلمة منه (علیه السلام) في إختلاف تصورات الناس عن العبادة .

عبادة الأحرار

إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوماً عبدوا الله شكراً قتلك عبادة الأحرار (1)

لو لم يتوعد الله على معصيته ، لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمنه.

ص: 66


1- الكلمات القصار ، الحكمية : 234 ص 68 ج 19 من شرح ابن أبي الحديد .

إلهي ما عبدتك (حين عبدتك) خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (1) .

ذكر الله على كل حال

إن أصول جميع الآثار المعنوية والأخلاقية والإجتماعية في العبادة إنما هي في شيء واحد، هو : ذكر الله على كل حال ، وتناسي ما سواه . ويشير القرآن الكريم إلى الأثر التربوي والروحي للعبادة فيقول : « إن الصلاة تنهي الفحشاء والمنكر (2) ويقول أيضاً : أقم الصلاة لذكري (3) ويشير بهذا إلى أن المصلي الذاكر لله يذكر الله ولا ينسى أنه هو عبد مراقب من قبل السميع العليم والسميع البصير. إن ذكر الله - هو الهدف من العيادة - يجلو القلب ويصفيه ويزكيه ويطهره ، ويعده لإجراء الحكمة فيه وعلى لسانه . وقال الإمام علي (علیه السلام) :

إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب ، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به المعائدة . وما برح الله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات : رجال ناجاهم في فكرهم ، وكلمهم في ذات عقولهم » (4)

وقد بين الإمام (علیه السلام) في هذا الكلام الأثر الغريب تذكر الله في القلوب ، حتى أنها قد تستعد بذلك لتلقي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه .

مقامات المتقين

وقد عدد الإمام (علیه السلام) في نفس هذه الخطبة - وفي سائر الخطب ومنها خطبة همام في وصف المتقين - تلك الحالات والمقامات والكرامات التي تظهر لأهل العبادة المعنوية في ظلال عبادتهم ، إذ يقول :

ص: 67


1- الكلمات القصار ، الحكمية : 290
2- سورة العنكبوت : 45 .
3- سورة طه : 14 .
4- الخطبة : 217 ص 176 ج 11 من شرح النهج لابن أبي الحديد . ط أبو الفضل ابراهيم

وقد حفت الملائكة ، وتنزلت عليهم السكينة ، وفتحت لهم أبواب السماء ، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقام اطلع الله عليهم فرضي سعيهم وحمد مقامهم ، يتسمون بدعائه روح التجاوز ... (1)

ليالي أولياء الله

إن عالم العبادة في ( نهج البلاغة ) عالم آخر مليء باللذة الروحية ، لذة لا تقاس باللذة المادية ذات الأبعاد الثلاثة . إن عالم العبادة في نهج البلاغة عالم مليء من الحركة والنشاط والسير والسلوك لا إلى العراق والشام ولا إلى أي أرض بلد آخر ، بل إلى بلد لا إسم على الأرض إطلاقاً ! إن عالم العبادة في نهج البلاغة لا يختص بليل ولا بنهار ، إذ هو مليء بالأنوار ، لا ظلمة فيه ولا كدر ، بل هو خلوص وصفاء وتزكية وطهارة ، وما أسعد من يقدم إلى ذلك العالم - عالم العبادة - في نهج البلاغة ! ليعلله نسيمه المحیي للأرواح و القلوب! فإن من يقدم إلى ذلك العالم لا يبالي بعد ذلك أن يضع رأسه في دنيا المادة على الحرير أو اللبنة :

طوبى لنفس أدّت إلى ربها ،فرضها ، و عركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في الليل غمضها ، حتى إذ غلب الكرى عليها افترشت أرضها و توسدت كفها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتفشعت بطول استغفارهم ذنوبهم ، أولئك حزب الله ، إلّا إن حزب الله هم المفلحون (2) .

سيماء الصالحين في نهج البلاغة

بيّنا في الفصل السابق صورة العبادة في نهج البلاغة ، فتبيّن أن العبادة - في نهج البلاغة - ليست سلسلة من الأعمال الجامدة الجافة فقط ، بل أن العمل البدني هو صورة العبادة وجسمها ، وأن الروح هو شيء آخر ، وأن العمل البدني إنما يجد

ص: 68


1- نفس المصدر
2- الخطبة : 217 ص 6 ج 1 171 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل

الروح و يستحق اسم العبادة فيها إذا كان فيه ذلك الروح المعنوي لها ، فإن العبادة الواقعية هي نوع من الإنتقال من هذا العالم ذي الأبعاد الثلاثة إلى عالم آخر مليء بالحركة والنشاط والخواطر القلبية واللذات الروحية الخاصة .

وقد جاء في نهج البلاغة الكثير عن أهل العبادة ، وصور كثيرة عن ملامح العبادة و العباد ، فتارة : عن سهر لياليهم ، وأخرى : عن خوفهم وخشيتهم ، وثالثة : عن شوقهم ولذتهم ، ورابعة : عن حرقتهم والتهابهم ، وخامسة : عن

آهاتهم وأناتهم وزفراتهم وحسراتهم ، وسادسة : عن تلك العنايات الإلهية الغيبية التي يحصلون عليها بالعبادة والمراقبة وجهاد النفس ، وسابعة : عن أثر العبادة في طرد الذنوب وآثارها ، و ثامنة : عن أثر العبادة في علاج الأمراض النفسية والخلقية ، وتاسعة : عن لذتهم وبهجتهم الخالصة غير المحسودة والتي لا شائبة فيها ...

ذكر الله في الأسحار

أما الليل : فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً ، وظنوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف ، يطلبون إلى الله تعالى فكاك رقابهم. وأما النهار : فعلماء علماء ، أبرار أقدامهم،

أتقياء (1).

الخواطر القلبية

وقد أحيى عقله، وأمات نفسه ، حتى دق جليله ولطف غليظه ، وبرق له لا مع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب

ص: 69


1- الخطبة : 186 ص 132 ج 10 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل إبراهيم

السلامة ، و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن و الراحة ، بما استعمل قلبه ، وأرضى ربه (1) .

و الكلام في هذه الجمل - كما ترون - عن حياة أخرى دعاها حياة العقل، وعن أمانة النفس ، وعن رياضة الروح ، وعن ذلك البرق اللامع الذي يلمع في قلب العابد من أثر عبادته فينير دريه ، وعن المنازل والمراحل التي تسلكها الروح حتى تصل إلى المقصد :

(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ) (2)

وعن السكينة والطمأنينة التي يصل إليها القلب المضطرب للإنسان :

(ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (3)

و وصف الإمام (علیه السلام) إهتمام هؤلاء بحياة قلوبهم وعقولهم في الخطبة : 225 فقال :

يرون أهل الدنيا ليعظمون موت أجسادهم وهم أشد إعظاماً لموت قلوب أحيائهم (4)

ووصف الجذبة التي تجذب الأرواح ذوات الإستعداد للعروج إلى أعلى فقال :

صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى (5) . وقال (علیه السلام) :

لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب ، و خوفاً من العقاب (6) . وقال (علیه السلام) : « قد أخلص لله سبحانه د

ص: 70


1- الخطبة : 214 ص 135 ج 11 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل .
2- سورة الإنشقاق : 1
3- سورة الرعد : 28
4- الخطبة : 225، ص 8 مج 13
5- الحكمة : 143 ، ص 347 ج 18 من شرح النهج
6- الخطية : 186 ، ص 132 ج 1 من شرح النهج لابن أبي الحديد

فاستخلصه (1)

ووصف العلوم التي تفاض على قلوب العارفين بالله نتيجة لتهذيب نفوسهم فقال :

هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا ما استوحش منه الجاهلون ) (2)

تنهى عن الفحشاء

جاء في التعاليم الإسلامية، أن لكل ذنب أثراً مظلماً على القلب ، تقل به رغبة المذنب إلى الخيرات والأعمال الصالحة ، وتكثر فيه الرغبة إلى الذنوب . وأن للعبادة وذكر الله أثره في تربية الوجدان الديني للإنسان ، فتكثر فيه الرغبة إلى الخيرات والعمل الصالح ، وتقل فيه الرغبة إلى الشر والفساد والذنوب . يعني أن العبادة تزيل الظلمات والكدورات الحاصلة من الذنوب ، وتبدّلها بالميل إلى الخير والبر والعمل الصالح .

وقد جاء في ( نهج البلاغة ) خطبة في الصلاة والزكاة وأداء الأمانة ، يقول فيها الإمام (علیه السلام) بعد تأكيد شديد على الصلاة :

وأنها لتحت الذنوب حت الورق ، وتطلقها إطلاق الريق ، و شبّهها رسول الله (ص) بالحَمّةِ (3) تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن ؟ (4)

وتعالج مفاسد الأخلاق

وفي الخطبة : 196 بعد أن يشير إلى عدد من رذائل الأخلاق من قبيل :

ص: 71


1- الخطبة : 85.
2- الحكمة : 143 ، ص 347 ج 18 من شرح النهج
3- الحكمة : حفيرة فيها ماء حار، ومنه الحمام
4- الخطبة : 192 ص 202 ج 10 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل .

الطغيان والظلم والكبر ، يقول (علیه السلام) :

ومن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات و الزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات ، تسكيناً لأطرافهم ، وتخشيعاً لأبصارهم ، وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم، وإزالة للخيلاء عنهم (1)

وفيها لذة مناجاة الله

اللهم إنك أنس الأنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك ، تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم . فأسرارهم لك مكشوفة ، وقلوبهم إليك ملهوفة ، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك ، وإن صبت عليهم المصائب لجأوا إلى الإستجارة بك (2)

ويشير في الخطبة ؛ 148 إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه ) ثم يذكر في آخر الخطبة أناساً في آخر الزمان اجتمعت فيهم الشجاعة والحكمة والعبادة ، فيقول (علیه السلام) :

ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل (3) تجلى بالتنزيل أبصارهم ، ويرمى بالتفسير في مسامعهم ، ويعيقون كأس الحكمة بعد الصبوح (4)

ص: 72


1- الخطبة : 196 .
2- الخطبة : 225 .
3- الفين : العبيد ، والنصل : الحديدة الحادة من السلاح
4- الصبوح : شراب الصباح و الغبوق : شراب المساء. من الخطبة : 150 ص 126 ج 9 من شرح النهج لابن أبي الحديد

القسم الرابع

اشاره

نظام الحكم و الإدارة

- الحكومة في نهج البلاغة

- أهمية الحكومة في نهج البلاغة

- أهمية العدالة في نهج البلاغة

- يصح أن نكون متفرجين

- لا يضحّي الإمام بالعدالة للمصلحة

- حقوق الناس في نهج البلاغة

- هكذا قالت الكنيسة

- وهكذا قال الإمام عليه السلام

- الحاكم أمين ، وليس مالكاً للحكم

ص: 73

ص: 74

الحكومة والعدالة

مسألة الحكومة في نهج البلاغة

من المسائل التي بحث الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حولها كثيراً ، مسألة الحكومة ، والعدالة. ومن يلاحظ نهج البلاغة يرى أنه (علیه السلام) قد أبدى في كلماته هذه إهتماماً خاصاً بشأن الحكومة ، والعدالة ، بل أنه (علیه السلام) أولاهما أهمية كبرى لا توصف . وهذا مما قد يحمل من لم يعرف الإسلام ديناً و نظاماً، وعرف سائر الأديان المحرفة، على العجب و الإستغراب، قائلاً في نفسه : عجباً ! ما الذي يبعث هذا الإمام الديني على هذا الاهتمام الشديد بهذه الأمور الدنيوية ؟! أو ليست هذه الأمور من شؤون الحياة الدنيا ؟! فما الذي يدفع الإمام الديني على الدخول في الدنيا والحياة والأمور الإجتماعية؟!

أما من كان يعرف الإسلام ديناً ونظاماً ، وكان يعلم بسابقة الإمام (علیه السلام) في الإسلام ، وأنه هو ربيب رسول الله (ص) الوحيد ، الذي رباه صغيراً ورعاه كبيراً بتربيته وتعاليمه القيمة ، فعلمه بذلك معالم الإسلام ديناً ودولة ، وأفرغ فيه أصوله وفروعه ، فهذا لا يصاب بالدهشة والذعر ، بل أن كان يرى غير هذا كان يذهل منه ، أو ليس القرآن يقول : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (1)

ص: 75


1- سورة الحديد : 25

وقد أعلن الله بهذه الآية الكريمة : أن الهدف من بعثة الأنبياء و الرسل وإنزال الكتب هو: إقرار العدل والقسط ، فقد بلغت قداسة العدالة درجة جعلت هدفاً لبعثة الأنبياء. وعلى هذا ، فكيف يمكن لمثل الإمام علي (علیه السلام) - وهو المفسر الأول للقرآن الكريم والشارح الأول لأصول الإسلام وفروعه - أن يسكت عن هذا الحق ؟ أو أن لا مهتم به ؟!

أما أولئك الذين لا يلتفتون إلى هذه المسألة الهامة ، زعماً منهم أن أصول الدين عقائد قلبية فقط ، وأن فروع الدين الهامة هي مسائل النجاسة والطهارة فقط ، هؤلاء يلزمهم أن يعيدوا النظر في عقائدهم وأفكارهم عن الإسلام العظيم !

أهمية الحكومة في نهج البلاغة

والمسألة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا : أهمية الحكومة في نهج البلاغة خصوصاً وفي دين الإسلام عموماً . و البحث المفصل والبحث المفصل في هذا الموضوع خارج عن نطاق هذه المقالات ، ولكن تجدر الإشارة إليها هنا ، فنقول :

إن القرآن الكريم حينما يريد أن يأمر الرسول العظيم بإبلاغ ولاية علي (علیه السلام) من بعده على الأمة ، يقول :

(يا أيها الرسول! بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ! والله يعصمك من الناس ! إن الله لا يهدي القوم الكافرين (1) !

فأي شيء آخر أنزل إلى الرسول (ص) وإهتم القرآن الكريم به هذا الإهتمام ؟ و ما هو المنزل الذي يساوي عدم إبلاغه جميع الرسالة ؟

و لما انهزم المسلمون في (حرب أحد ) وانتشر بينهم خبر قتل الرسول (ص) ففر أكثرهم مدبرين من جبهة الجهاد الإسلامي المقدس ، قال القرآن العظيم في تأنيبهم :

ص: 76


1- سورة المائدة : 67

(وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم ﴾ (1)

و استفاد الأستاذ العلامة الطباطبائي (روحي فداه) من هذه الآية : أن القرآن الكريم يقول : لا ينبغي لكم أن يوقفكم عن الجهاد المقدس حتى إنتشار خبر قتل الرسول (ص) بل يجب عليكم أنذاك أن تلتفوا حول لواء الزعيم المعين من قبل الرسول (ص) وتقبلوا معه على جهاد عدوكم . وبعبارة أخرى : إن قتل رسول الله (ص) لا ينبغي أن يفرّط النظام الإجتماعي والجهادي للمسلمين (2) .

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) أنه قال :

إذا كنتم ثلاثة في سفر فاجعلوا أحدكم أميراً عليكم .

ومن هنا نستطيع أن نفهم مدى الأضرار البالغة التي كان ينظر إليها رسول الله (ص) من جزاء عدم وجود قوة حاكمة على المجتمع تحل النزاعات وتعقد المجتمعات وتدفع عنهم كل هرج ومرج .

وفي نهج البلاغة الكثير من المسائل التي ترتبط بالحكومة والعدالة ، سنتعرض نحن هنا لبعضها بحول الله وقوته ، فنقول :

إن المسألة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي : أهمية الحكومة و لزومها للمجتمع .

وقد صرح الإمام (علیه السلام) في كلماته المجموعة في ( نهج البلاغة) بوجوب وجود حكومة قوية كثيراً ، وكافح إنتشار فكرة ( الخوارج) الذين كانوا يدعون عدم الحاجة إلى الحكومة مع وجود القرآن الكريم بين المسلمين .

وكان شعار الخوارج ( لا حكم إلّا الله ) وقد اقتبسوه هم من القرآن الكريم إذ يقول : ان الحكم إلا لله (3) ومفاد هذه الآية الكريمة هو : أن ( القانون ) .

ص: 77


1- سورة آل عمران : 144 .
2- في بحثه حول ( الحكومة والولاية ) .
3- سورة الأنعام : 57 .

يجب أن يكون أما من الله تعالى ، أو ممن أذن له الله من رسول الله أو من عيّنه رسول الله (ص) . ولكن الخوارج فسروا هذه الآية من القرآن برأيهم ، فأرادوا بهذه الكلمة الحقة معنى باطلا - كما قال الإمام علي (علیه السلام) - ومفاد كلامهم هو : أن لا حق للإنسان في الحكم بل الحكم لله وحده فقط.

فكان الإمام (علیه السلام) يقول : نعم، أنا أيضاً أقول : لا حكم إلّا لله ، لكنه بمعنى: أن وضع الحكم و القانون ليس إلّا لله . و هؤلاء يقولون بأن الحكومة و الزعامة أيضا لله ، و هذا باطل ، فإن حكم الله لا بد أن يجري على يد البشر ، ولا بد للناس من حاكم صالح أو طالح خير أو شر .

كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلّا لله ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلّا الله. وإنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر (1) يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل ، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر (2) .

إن الإمام (علیه السلام) - كسائر الرجال الربانيين - يحتقر الحكومة بصفتها مقاماً دنيوياً يشبع غريزة ( حب الجاه) في الإنسان ، وبصفتها هدفاً للحياة ، وحينئذ فلا، يعتبرها بشيء أبداً ، بل هي عنده - حينذاك - أهون من عظم خنزير في يد مجدوم

كما جاء ذلك في بعض كلماته (علیه السلام) .

ولكنه - (علیه السلام) - يقدسها تقديساً عظيماً إذا كانت مستقيمة غير محرفة عن سبيلها الأصيل والواقعي الحق، وهو أن تكون وسيلة إلى إجراء العدل وإحقاق الحق وخدمة الخلق ، ومانعاً عن تغلب الرقيب الباطل المنتهز الفرص الوثوب على حقوق الناس . ولهذا فهو (علیه السلام) يكافح هذا الرقيب الباطل الثائر الذي ما زال يتربص بالحق الدوائر ، ولا يألو جهدا عن الجهاد المقدس لحفظها حينئذ وحراستها عن أيدي المنتهزين الطامعين .ضل

ص: 78


1- يعني : إنه مع فرض عدم وجود الحكومة الصالحة فالحكومة الصالحة خير من حكومة قانسون الغابات . المؤلف
2- الخطبة : 40 ص 310 ج 2 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبوالفضل

قال عبد الله بن العباس : دخلت على أمير المؤمنين (علیه السلام) بذي قار ، وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل؟ فقلت : لا قيمة لها ، فقال (علیه السلام) : و الله لهي أحب إلي من أمرتكم ، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً (1) .

ويتكلم الإمام (علیه السلام) في الخطبة : 209 حول الحقوق فيقول :

والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف . لا يجري لأحد إلّا جرى عليه ، ولا يجري عليه إلّا جرى له . ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه ، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب ، تفضلاً منه وتوسعاً بما هو - من المزيد - أهله .

ثم جعل - سبحانه - من حقوقه : حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ، ويوجب بعضها بعضاً ، ولا يستوجب بعضها إلّا ببعض .

وأعظم ما أفترض - سبحانه - من تلك الحقوق : حق الوالي على الرعية ، و حق الرعية على الوالي . فريضة الله - سبحانه - لكل على كل. فجعلها : نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم ، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على اذلالها السنن ، فصلح بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء .

وإذا غلبت الرعية وإليها ، أو أجحف الوالي برعيته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين ، وتركت محاج السنن . فعُمل بالهوى وعطلت الأحكام، وكثرت على النفوس ، فلا يستوحش لعظيم ضل

ص: 79


1- الخطبة : 33 ص 185 ج 3 من شرح النهج لابن أبي الحديد ط أبو الفضل

حق عُطل ، ولا لعظيم باطل فُعل ، فهناك تذل الأبرار ، وتعِزُّ الأشرار ، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد (1)

أهمية العدالة في نهج البلاغة

إن أولى آثار الإسلام هو أثره في أفكار المسلمين ، فإنه لم يأت بتعاليم جديدة حول الفرد والمجتمع والعالم فقط ، بل بدل أفكار العالم أيضاً ، وإن الأثر الذي جاء به الإسلام ليس بأقل مما جاء به من تعاليم .

كل معلم يعلم تلاميذه معلومات جديدة، وكل مدرسة فكرية تعطي لأتباعها ثقافات جديدة، ولكن قليل من المعلمين وقليل من المدارس الفكرية التي تهب لأتباعها أسلوباً فكرياً جديداً ، بحيث تغير الأسلوب الفكري السابق فيهم وتقلبه إلى مقاييس أخرى .

وهذا مما يحتاج إلى توضيح أكثر ، فكيف تتغير أساليب الفكر ؟ وللإجابة نقول .

إن الإنسان موجود مفكر ، و لهذا فهو يستند في المسائل العلمية و الإجتماعية على الإستدلال ، وفي استدلاله يستند إلى بعض الأصول والمبادىء التي يستنتج ويحكم بناء على تلك المبادىء والأصول .

وإن الإختلاف في أساليب الفكر ينشأ من الإختلاف في تلك المباديء والأصول التي يستند عليها الإستدلال والإستنتاج والحكم ، فإن الإختلاف في نوعيتها ومبانيها هو الذي يؤدي إلى الإختلاف في الأحكام. من هنا ينشأ الإختلاف في النتائج .

وتتساوى أساليب التفكر في المسائل العلمية بين العارفين بالأسس العلمية في كل زمان ، وإن كان هناك إختلاف في المسائل العلمية فهو في أسلوب الفكر العلمي بين زمان وزمان آخر . أما في المسائل الإجتماعية فلا تتساوى أساليب

ص: 80


1- الخطبة : 209 ص 88 - 92 ج 10 من شرح النهج لابن أبي الحديد

الفكر حتى بين أبناء العصر الواحد . ولهذا علل لا مجال هنا للبحث فيها .

إن الإنسان حينما يواجه المسائل الإجتماعية والأخلاقية لا بد وأن يقيّمها في نفسه وفكره ، وحينئذ فهو يرتب بين تلك المسائل مراتب وقيماً ودرجات مختلفة ، وعلى أساس هذه الدرجات الترتبية يتفاوت ما يستند إليه من المبادىء والأصول من شخص إلى آخر ، ومن هنا تختلف أساليب الفكر .

فالعقاف للمرأة - مثلاً - مسألة إجتماعية ، فهل يمكن أن يكون تقييمه عند الجميع بأسلوب فكري واحد ؟ كلا ، بل الإختلاف فيه كثير ، حتى أن بعضهم لا يعتبر له أي قيمة إجتماعية أو أخلاقية ، بل لا يعتبر الأخلاق اصلا . وعلى هذا فلا أثر للعفاف في أفكار هؤلاء أبداً. وهناك آخرون يعتبرون له كل الثقل في القيم الأخلاقية ، حتى أنهم لا يعتبرون للحياة أي قيمة لولا القيم الأخلاقية ومنها العفاف .

فحينها نقول : إن الإسلام بدل أساليب الفكر ، نعني : أنه صعد يبعض القيم و هبط ببعضها الآخر : فجعل التقوى - مثلاً ، ولم تكن في ميزان قيمهم إلّا بمستوى الصفر - في المرتبة العليا من قمم القيم و المثل ، وجعل لها أعلى الأثمان وأرفعها و أغلاها ، وهبط بأعلى قيمهم : كالدم و العنصر وغيرهما إلى مستوى الصفر .

والعدالة ، هي إحدى تلك القيم التي رجعت إلى الحياة و الاعتبار ، بالإسلام، فإنه لم يوص أتباعه بالعدالة فحسب ، ولم يقنع منهم باجرائها وتطبيقها فقط ، بل المهم أنه رفع من قيمتها ووزنها وثقلها وثمنها في الأفكار.

وما أجمل أن نسمع هذا المعنى من لسان الإمام (علیه السلام) كما في نهج بلاغته .

سأله رجل : العدل أفضل أم الجود ؟

سأله عن خاصتين من الخصائص الإنسانية ، فالإنسان هارب من الظلم وشاكر للإحسان - خصوصاً إذا كان الإحسان والبر بدون إنتظار الجزاء والشكر .

وقد يبدو لأول وهلة أن يكون الجواب بكل سهولة : أن الجود أفضل من العدالة ! إذ العدالة : رعاية لحقوق الآخرين وعدم التعدي عن الحقوق وعدم

ص: 81

التجاوز على حقوق الآخرين. أما الجود : فهو أن ينشر الإنسان بيده حقوقه المفروضة له على غيره. فالعادل حافظ للحقوق غير متجاوز عليها ، أما الجواد فهو مضحٍ بحقوقه للآخرين مفوض لها إياهم. فالجود أفضل والجواد أنبل !

هذا إذا كانت مقاييسنا هي المقاييس الأخلاقية الفردية ، فعليها يصبح الجود أجل معرّف لشخصية الإنسان الجواد، و أسمى سمة لكماله ، وأعلى علامة لرقيّ روحه .

ولكن الإمام علي (علیه السلام) يجيب بعكس ذلك ، فإنه يرجح العدل على الجود بدليلين :

1 - العدل يضع الأمور مواضعها ، والجود يخرجها من جهتها ! .

فإن معنى العدالة : أن تلاحظ الحقوق الواقعية والطبيعية ، فيعطي لكل شخص ما يستحقه حسب استعداده و عمله ، وحينئذ يجد كل شخص مكانه في المجتمع ، ويصبح المجتمع كمصنع جاهز منظم . أما الجود ، فهو وإن كان معناه : أن يهب الجواد ما يملكه بالمشروع للآخرين ، ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنه عمل غير طبيعي للمجتمع ، إذ ما أحسن للمجتمع أن لا يوجد فيه عضو ناقص يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة ؟! فإن الجود لا يكون إلّا كمثل أن يوجد في أعضاء البدن عضو ناقص أو مريض يستدعي سائر الأعضاء إلى العون والمساعدة .

2 - العدل سائس عام ، والجود عارض خاص .

فالعدالة قانون عام يدير جميع شؤون المجتمع ، فهو سبيل يسلكه الجميع. أما الجود فهو حال إستثنائي خاص لا يمكن أن يصبح قانوناً عاماً ، فإنه إذا كان كذلك لم يُحسب جوداً آنذاك .

ثم إستنتج الإمام (علیه السلام) فقال : « ... فالعد فالعدل أشرفهما وأفضلهما » (1)

إن فكرة كهذه حول الإنسان هي نوع خاص من الفكر على أساس تقييم خاص يبتنى بدوره على أساس أهمية المجتمع وأصالته . إن الأصل في هذا التقييم 7

ص: 82


1- الحكمة : 437

وهو تقديم الأصول والمبادىء (الإجتماعية ) على الأصول والمبادىء الأخلاقية (الفردية) وجعل الأولى أصلاً والثانية فرعاً عليه ، والأول جذعاً والثاني غصناً ، والأول ركناً والثاني زيناً وجمالاً .

إن العدل في نظر الإمام (علیه السلام) هو الأصل الذي يستطيع أن يصون توازن المجتمع ، ويرضيه ويهب له السلام والأمن والطمأنينة و الإستقرار. أما الظلم والجور والتمييز الطبقي فهو لا يرضى حتى نفس الظالم والذي يظلم من أجله فكيف بالمظلومين والمحرومين ؟ العدل سبيل عام يسع الجميع ويصل بهم إلى حيث الطمأنينة والإستقرار، أما الظلم والجور فهو طريق ضيق لا يصل حتى بصاحبه إلى ما يريد .

نعلم أن عثمان بن عفان قد وهب قسماً عظيماً من الأموال العامة للمسلمين إلى أقربائه وذويه في خلافته . فلما أخذ الإمام (علیه السلام) بأزمة الأمور طلب إليه أن لا يعيد النظر إلى ما سبق ، بل يقصر سعيه على ما يحدث له في خلافته ! ولكنه

أجاب (علیه السلام) :

الحق القديم لا يبطله شيء . والله لو وجدته قد تُزُوّج به النساء ، ومُلك به الإماء ترددته. فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (1) .

يعني : أن في العدل سعة خاصة تسع الجميع و تشملهم ، ومن كان مريضاً متخماً سميناً لا يسعه العدل فليعلم أن مكانه في الظلم والجور أضيق عليه من مكانه في العدل والقسط . وإذا ضاق تدبير الأمور على الوالي بالعدل ، فتدبير أموره بالجور أضيق عليه ، لأنه حينئذ في مظلة أن يصدّ عن جوره .

ويعني : أن العدل شيء بالإمكان أن يوصف بأنه من حدود الإيمان ، فيقنع به المؤمن ، أما إذا كان الرجل مسلوب الإيمان متجاوزاً حدود العدل ، إذن لا تحده الحدود ، فإنه كلما بلغ مبلغاً من شهواته تعطش إلى حدود أخرى لم يبلغها ، وأحس بالعطش أكثر فأكثر .د

ص: 83


1- الخطبة : 15 ص 269 من ج 1 من شرح النهج لابن أبي الحديد

لايصح أن تكون متفرّجين

إن الإمام (علیه السلام) يحسب العدالة وظيفة إلهية بل ناموساً إلهياً ، فلا يصح أن يقف المسلم العارف بالإسلام وقفة المتفرج عند ترك الناس العدل ولجوئهم إلى الجور والتمييز الطبقي .

فإنه (علیه السلام) بعدما يشير في ( الخطبة الشقشقية ) إلى بعض الحوادث المؤلمة السياسية السابقة ، يقول :

فما راعني إلا والناس كعُرف الضبع إليّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وطيء الحسنان وشق عطفاي، مجتمعين حولي كر بيضة الغنم ... أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سعب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكسأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عَنز.

هجم الناس عليه من كل جانب ومكان يطلبون إليه بإصرار والحاح شديدين أن يتقبل الإلتزام بزمام أمور المسلمين. وهو (علیه السلام) لم يكن - بعد ما كان من الحوادث المؤلمة الماضية ، وفساد الأوضاع الحاضرة - راغباً في قبول هذه المسؤولية العظمى ، ولكن بما أنه (علیه السلام) لو لم يكن يتحمل هذه المسؤولية الكبرى كان يشوه وجه الحقيقة ويقال : إنه (علیه السلام) لم يكن يهتم بهذه الأمور ولم يكن راغباً فيها من أول يوم ، وبما أن الإسلام لا يبيح للمسلم عند انقسام المجتمع إلى مجتمع طبقي ظالم ومظلوم ، متخم وجائع ، أن يقف مكتوف اليدين وقفة المتفرج ... لذلك تعهد الإمام (علیه السلام) بهذا التكليف الثقيل وقال : لو لم يكن ما كان من ذلك الإجتماع العظيم ، ولولا قيام الحجة علي وانقطاع العذر بوجود الناصرين، ولولا تحريم الله السكوت عن الحق على العلماء عند ظلم الظالمين وجوع المظلومين ... لكنت ألقي زمام الخلافة على عاتقها، وأجلس عنها كما جلست من قبل ذلك .

ص: 84

لا يضحي الإمام بالعدالة للمصلحة

قال الساسة : إن التمييز الطبقي ، واستحالة الأعوان ، وتأسيس الأحزاب ، وسدّ الأفواه بالأموال ... كل ذلك من الوسائل الضرورية للسياسة والتدبير ولكن قد التزم بالسياسة والتدبير وأصبح ربّان سفينتها اليوم رجل هو العدو اللدود لهذه الأدوات الضرورية ! بل هدفه وأمله أن يكافح هذه السياسية ! . وطبيعي - حينئذ - أن يتألم أرباب الطمع ورجال السياسة منه منذ اليوم الأول ، ويجرهم المهم هذا إلى التخريب في الأمور وخلق الإضطرابات والقلق . ولذلك فقد أقبل علي الإمام (علیه السلام) أحباؤه الخيرون وطلبوا إليه بكل إخلاص ونصح ، أن يعدل من سياسته هذه المصلحة أهم وأعظم ! واقترحوا عليه أن يريح نفسه من صراع هذا الضوضاء ، فإنها من أناس متنفذين ذوي شخصيات من الصدر الأول في الإسلام ! كمعاوية بن أبي سفيان والي اراضي الشام الذهبية ! فما ضرّك لو سكت عن المساواة والمواساة اليوم من أجل ( المصالح ) ؟!

وأجاب الإمام (علیه السلام) :

أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور ؟! والله ما أطور به ما سمر سمير ، وأم نجم في السماء نجماً ! لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله (1)

هذا نموذج من كلمات الإمام في تثمين العدل بنظره ، (علیه السلام) ، فياللاهتمام العظيم ! .

حقوق الناس في نهج البلاغة :

لا تنحصر حاجات البشر في المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، فإن من الممكن أن تسد جميع حاجات الطيور والحيوانات بالطعام والشراب وعش العيش ثم لا شيء ، أما في الإنسان فهناك حاجات نفسية وروحية لا يقل أثرها عن الحاجات الجسدية .

ص: 85


1- الخطبة : 126 .

من الممكن أن تعمل الحكومات المختلفة في سبيل تأمين الحوائج المادية للحياة بصورة واحدة ، ولكنها لا تتساوى في رضا الناس عنها ، إذ يفي بعضها بقضاء الحوائج النفسية والروحية للمجتمع بينما لا تفي بها الحكومة الأخرى.

ومما يرتبط به رضا الناس هو نوعية نظر الحكومة إلى الأمة وإلى نفسها فهل تنظر إليهم على أنهم عبيد ومماليك وهي المالكة المختارة ؟! أم على أنهم ذوو حقوق في جميع الأمور وإنما هي نائبة عنهم ومؤتمنة من قبل الله عليهم وكفيلة برعاية حقوقهم؟.

قفي الصورة الأولى فإن كل ما عملته من عمل لهم هو من نوع العمل الذي يقوم به صاحب حيوان الحماية حيوانه من الآفات والعاهات ! بينما عملها في الصورة الثانية هو من نوع الخدمات التي يقوم بها أمين صالح لما هو في أمانته ومعهود بصلاحه. إن اعتراف الحكومة بحقوق الناس ، وحذرها من كل عمل يشعرهم بنفي حقوقهم ، هما من الشروط الأولية لرضا الناس عنها واعتمادهم عليها .

وهكذا قالت الكنيسة

قامت في اوروبا في القرون المتأخرة نهضة مضادة للدين السائد هناك - كما نعلم - ثم جرت أذيالها على سائر الأديان في سائر البلدان. إذ كانت نهضة مادية عامة . وإذا نحن فتشنا عن دوافع هذا الإتجاه رأينا أن منها : ضالة المفاهيم الحقوقية والسياسية في الكنيسة المسيحية - بوصفها الدين السائد هناك آنذاك . فقد قرر بعض الفلاسفة الأوروبيون المسيحيون نوعاً من العلاقة - المفتعلة - بين الدين و إقرار الحكومات الإستبدادية و سلب الحقوق السياسية عن الناس بتأييد تلك الحكومات المستبدة (الديكتاتورية) ولهذا فقد افترض - بإزاء ذلك - نوع من العلاقة المفتعلة أيضاً بين اللادينية و (الديموقراطية) !

افترض : إما التدين ومعه قبول الحكومات المفوضة من قبل الكنيسة - إلى أشخاص معينين لا ميزة لهم عن غيرهم للإختصاص بحق الحكم ، أو اللادينية حتى نرى أنفسنا ذوي حقوق في الحكم !

ص: 86

وتقول ملاحظات علم النفس في الأمور الدينية : إن من عوامل ضعف الدين و قلة المتدينين : هو أن يقرر أولياء الدين أو المذهب مضادة بين الدين والمذهب وبين حاجة طبيعية، ولاسيما إذا كانت حاجة ظاهرة عامة تعم جميع المجتمع وتتحكم في أفكارهم .

وبينما كان الإختناق والإستبداد و ( الديكتاتورية ) قد بلغت أوجها في أوروبا ، و كان الناس يفكرون في حقوقهم في الحكم و الحكومة ، حاول أنصار الكنيسة المسيحية أن يلقنوا الناس - بالإستناد إلى الفكر المسيحي الديني - أن لا حق لهم في الحكومة وإنما هم موظفون مكلفون ! وكان هذا كافياً في أن يبعث المجتمع المتعطش إلى (الديموقراطية) والحرية في الحكومة على مضادة الكنيسة المسيحية، بل مضادة الله والدين بصورة مطلقة ! وقد كان لهذه الفكرة عروق قديمة في الشرق و الغرب منذ القديم البائد .

كتب جان جاك روسو في كتابه يقول : « كتب الفيلسوف اليوناني : فيلون (100 م ) يقول : كان الإمبراطور الرومي البيزنطي : كاليكولا يقول : كما أن الراعي قطيع الغنم تفوقاً طبيعياً على الأغنام كذلك للقائد تفوقاً نوعياً على قومه المرؤوسين. وكان يستنتج من مقدماته الفكرية هذه و يقول : إن القادة كالآلهة ، و الرعايا كالأنعام (1)

وقد تجددت هذه الفكرة في القرون الأخيرة، وبما أنها أصطبغت بصبغة دينية - مسيحية - لذلك فقد بعثت العواطف على مضادة الدين أياً كان !

وكتب روسو أيضاً يقول : لم يكن كروسيوس ( المؤرخ السياسي الهولندي الذي كان على عهد لويس الثالث عشر ساكناً بباريس ، والذي كتب في عام (1625) م) كتاب حقوق السلم والحرب) لم يكن هذا مقتنعاً بأن تكون قدرة الرؤساء لراحة المرؤوسين ! وكان يستشهد لذلك بوضع العبيد وأنهم إنما وجدوا لراحة أربابهم لا أن يكون الأسياد لراحة العبيد ! وكان (هوبز) أيضاً يقول بهذه الفكرة ، وإن البشر إنما هم أنواع من قطائع الأغنام لكل قطيع منهم رئيس وهو إنما .

ص: 87


1- نقلاً عن الترجمة الفارسية : قرار داد اجتماعي ص 38 - 37 (العقد الإجتماعي ) .

يربيهم للذبح والأكل (1)

ويجيب روسو على هذا الدليل الذي يسميه هو ( حق القوة ) قائلاً : هؤلاء يقولون : إن جميع القوى من الخالق ، وهو الذي قواهم على ذلك و بعثهم على البشر ! ولا هذا دليلاً على أن لا نسعى في سبيل دفع الطغاة الأقوياء عن

يصبح أنفسنا ، إذ الأمراض أيضاً من قبل الخالق ، ولا يكون ذلك دليلاً على أن تمتنع عن التطبيب والعلاج! وإذا هجم عليّ في الطريق سارق قاطع الطريق فهل لا يكفي أن أستسلم له وأسلم إليه كيس النقود ؟ أم يجب عليّ أن أقدم إليه الكيس عن رغبة - لا رهبة - مع أني أقدر على أن أخفي كيسي عنه ؟! فما هو تكليفي معه وهو مسلح وأنا أعزل ؟! (2)

إن ( هوبز)، الذي أتينا على نظريته آنفاً ، وأن لم يكن يستند في منطقه الديكتاتوري الاستبدادي على الله والدين، بل إن أساس نظريته الفلسفية في الحقوق السياسية هو : أن الحاكم إنما هو تجسيد حيّ لأشخاص الناس ، فما يفعله إنما هو بمثابة أن يكون قد فعله جميع الأشخاص ! إلّا أن الدقة في نظريته توصلنا إلى أنها متأثرة بأفكار الكنيسة المسيحية.

إن (هوبز) يدعي أن لا تنافي بين الحرية الفردية والقدرة المطلقة للحاكم ! ويقول : « ولا يظنن أحمد : أن هذه الحرية ( الحرية الفردية في الدفاع عن النفس ) تتنافى مع سلطنة الحاكم على الأموال والأنفس، أو أنها تقلل من قدرته هذه ! إذ لا يمكن أن نسمي أي عمل من أعمال الحاكم في الأنفس والأموال ظلماً ! ( يعني : أن ما يفعله عدل مطلقاً ) فإنه ليس إلّا تجسيداً حياً لأشخاص الناس ، فما يفعله ليس إلا كما يفعله الناس بأنفسهم ! فلا حق لأحد إلّا وحقه فوق حقه ! ولا حد لقدرته إلّا أنه عبد للخالق فيجب عليه أن يحترم نواميس الطبيعة . فمن الممكن أن يوجد حاكم - وكثيراً ما يوجد - يحطم كل ما يكون لشخص ما ، ولكن .

ص: 88


1- المصدر نفسه
2- نفس المصدر ص 40 ، وانظر كتاب الدكتور محمود صناعي : قدرة الدولة والحرية الفردية - فارسي - ص 4 و 5 .

عن

لا يمكننا أن نقول إنه ظلمه ! كما ضحى (يفتاح) بإبنته (1) ففي موارد كهذه يحق للفرد أن يفعل ما يوجب قتله أو لا يفعل (وهذا هو مبلغ حريته الفردية في الدفاع نفسه !) وهذا هو الحكم فيما إذا حاول حاكم أن يقتل الأبرياء غير المذنبين! فإن عمله - حينئذ - وأن كان مخالفاً للقانون الطبيعي والإنصاف - كما كان قتل داودُ لأوريا هكذا (2) - لكنه ليس ظلماً من داود لاوريا - مثلاً - بل هو عصيان لحق الخالق ... (3) .

يلاحظ في هذه الفلسفة : أنها تفترض أن المسؤولية أمام الله تنفي المسؤولية أمام الناس! وأن التكليف من قبل الله يكفي لنفي التكليف بحقوق الناس! وأن العدل إنما هو ما يفعله الحاكم ، وأن لا معنى ولا مفهوم للظلم . وبعبارة أخرى : فرض : أن حق الله يسقط حق الناس! ونحن نقطع هنا أن ( هوبز ) مع أنه ا متظاهر بأنه فيلسوف متحرر الفكر غير مستند إلى أفكار الكنيسة - لو لم تكن أفكار الكنيسة المسيحية مترسخة في فكرته لما كان يبدي هذه النظرية قطعاً .

والذي لا نراه في هذه الفلسفة : أن يكون الإيمان بالله والعقيدة الدينية ضماناً لحقوق الناس والعدالة الإجتماعية . بينما نعلم أن الحقيقة : هي أن الإيمان بالله هو الأساس لفكرة العدالة وحقوق الناس ، وإنما يمكننا أن نعتقد بوجود حقوق ذاتية للناس ، ووجوب العدالة بينهم ، بصفتهما حقيقتين خارجتين عن المقررات والفروض ، على أثر العقيدة بوجود الله سبحانه . هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: إن الإيمان بالله ضمان لتطبيق العدالة الإجتماعية واعطاء كل ذي حق حقه عمليا ..

ص: 89


1- يفتاح من قضاة بني إسرائيل ، وكان قد نذر في حرب أنه إن انتصر على خصمه ضحى لله بأول من بلقاه في طريق عودته. وكان أول من لافاه لإستقباله في عودته : ابنته ، فأمر يفتاح بحرقها قرباناً لله ! .
2- جاء في الإسرائيليات : أن داود كان قد هوي زوجة قائده أوريا ، فبعثه إلى حرب وأمر عسكره بقتله فيه !
3- انظر كتاب الدكتور محمود صناعي : قدوة الدولة والحرية الفردية - فارسي - من 78 .

وهكذا قال الإمام (علیه السلام)

والآن نستعرض هنا نماذج من نصوص الإمام (علیه السلام) في ( نهج البلاغة ) في باب الحقوق والعدالة الإجتماعية .

يقول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في الخطبة : 209 .

أما بعد: فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية أمركم ، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم . فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف ، لا يجري لأحد إلّا جرى عليه ، ولا يجري عليه إلّا جرى له .

فالكلام في هذا المقطع حول الحق والعدالة والوظيفة والتكليف من قبل الله تعالى ، ولكن لا بصورة أن الله أعطى لبعض الأفراد من الناس حقوقاً ثم لم يجعلهم مسؤولين سوى أمام أنفسهم فحسب ! وأنه حرم آخرين من هذه الحقوق ؛ وإنما جعلهم مسؤولين أمام أنفسهم وأمام ذوي تلك الحقوق إلى منتهى حدود المسؤولية ! مما ينفي كل معنى للعدل والظلم بين الحاكم والمحكوم عليه .

ويقول (علیه السلام) فيها أيضاً : وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته - بفوق أن يُعان على ما حمله الله من حقه ، ولا امرؤ - وإن صغرته النفوس وأقحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه .

فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ، فإنه من أستثقل الحق أن يقال له ، أو العدل أن يعرض

عليه ، كان العمل بها أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل .

الحاكم أمين ، وليس مالكاً للحكم

قلنا في الفصل السابق : إنه ظهرت في القرون الأخيرة من بعض علماء الغرب فكرة خطرة مضلة ، لها نصيب كبير في دفع المجتمع البشري نحو المادية ، وهي : أنهم قرروا بين الإيمان بالله من ناحية ونفي حق الحكم عن العموم من ناحية أخرى علاقة مختلفة! وافترضوا! أن المسؤولية أمام الله تستلزم نفي

ص: 90

المسؤولية أمام الناس ، وأن حق الله يعوض عن حق الناس ! فبدل أن يكون الإيمان بخالق العالم على العدل أساساً وضماناً لفكرة الحقوق الفطرية ، جعل مناقضاً لها ! وحينئذ فمن الطبيعي أن يحسبوا أن إقرار حق الحكم للأمة يساوي نفي الخالق !

والأمر في الإسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً . ففي ( نهج البلاغة ) مثلا مع أنه كتاب معرفة الله وتوحيده، ومع أنه يتكلم في كل مكان عن الله وعن حقوقه على العباد - مع ذلك - لم يسكت هذا الكتاب المقدس عن حقوق الناس الحقة والواقعية ، وعن مكانتهم المحترمة الممتازة أمام حكامهم ، وعن أن الحاكم في الواقع ليس إلّا حارساً مؤتمناً على حقوق الناس ، بل أكد على ذلك كثيراً.

إن الإمام الحاكم - في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس و مسؤول أمامهم ! وإن كان لا بد من أن يكون أحدهما للآخر فالحاكم الحاكم هو الذي جعل في هذا الكتاب المقدس للناس ، لا أن يكون الناس للحاكم ! وعنه اقتبس سعدي الشيرازي إذ قال :

ليست الأغنام ملكاً للرعاة *** إنما هم يخدمون الغنما (1)

وإن لكلمة ( الرعية) مفهوماً إنسانياً جميلاً في الإسلام ، على الرغم مما تدرجت إليه في اللغة الفارسية من معنى بعيد منفر ! ولأول مرة نرى إستعمال هذه الكلمة في ( الناس المحكومين ) وكلمة ( الراعي ) في الحاكم في كلمات الرسول الأعظم (ص)، ثم في كلمات الإمام علي (علیه السلام) بكثرة . وهي من مادة (رعي) بمعنى : حفظ و حرس ، وإنما أطلق رسول الله (ص) هذه الكلمة (الرعية ) على الناس من جهة أن الحاكم في الإسلام يجب أن يتعهد يحفظهم وحراستهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم وحرياتهم. ومن أحاديث رسول الله (ص) في هذا المورد قوله (ص) :

كلكم راعٍ وكلكم مسؤول ، فالإمام راعٍ وهو مسؤول ، والمرأة راعية ب

ص: 91


1- الأصل: گوسفند از برای چوپان نیست *** بلکه چوپان برای خدمت او است . و التعريب المعرب

على بيت زوجها وهي مسؤولة ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤول ، ألا فكلكم راعٍ و كلكم مسؤول (1) .

وقد ذكرنا في الفصل السابق نماذج من نهج البلاغة ترينا نظرية الإمام (علیه السلام) في حقوق الناس ، وسنذكر في هذا الفصل أيضاً نماذج أخرى في ذلك . ونقدم عليها موضوعاً من القرآن الكريم ، فنقول : قال الله تعالى

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (2)

وقال الشيخ الطبرسي (قده) في ( مجمع البيان) في ذيل هذه الآية الكريمة: قيل في المعنى بهذه الآية الكريمة : أقوال : أحدهما : أنها في كل من أؤتمن في أمانة من الأمانات ، وأمانات الله أوامره و نواهيه، وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضاً من المال وغيره المال وغيره ... وثانيها : إن المراد به ولاة الأمر ، أمرهم الله أن يقوموا (برعاية الرعية ) وحملهم على موجب الدين والشريعة ... . ثم قال : ويعضده : أنه سبحانه أمر الرعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر . وروي عنهم : أنهم قالوا « آيتان ، إحداهما لنا والأخرى لكم » . قال الله : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا) الآية . ثم قال : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم ) الآية ... و لذلك قال أبو جعفر (علیه السلام) : « إن أداء الصلاة والزكاة والصوم والحج من الأمانة ويكون من جملتها : الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك مما يتعلق به حق الرعية ... (3) .

وروى السيد الطباطبائي في تفسيره ( الميزان) عن ( الدر المنثور ) بأسانيده عن علي (علیه السلام) أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دُعواه (4) ان

ص: 92


1- البخاري ج 7 كتاب النكاح
2- النساء 58
3- مجمع البيان : للشيخ الطبرسي (قده) ج 3 ص 63 ط صيدا - لبنان
4- الميزان ج 4 ص 410 و في الدر المنثور ج 2 ص 175 ط لبنان

فالملاحظ : هو أن القرآن الكريم يرى الحاكم حارساً أميناً على المجتمع وأن الحكومة العادلة إنما هي أمانة على عاتق الحاكم يجب أن يؤديها إلى الأمة . وأن أمير المؤمنين و الأئمة المعصومين من ولده (علیه السلام) إنما أخذوا عن القرآن ما قالوه بهذا الصدد .

وبعد أن تعرفنا الآن على منطق القرآن الكريم في هذا الموضوع فلنعرض نماذج أخرى من ( نهج البلاغة ) ، وعلينا أن نفحص ذلك في كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى ولاته على الأمصار و البلدان ، ونخص بالفحص ما كان منها بصورة مرسوم حكومي عام ، فقيها تنعكس آراء الإمام (علیه السلام) في شأن الحاكم ، و وظائفه أمام الناس ، وحقوق الناس عليه.

ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان يقول (علیه السلام) : « وإن عملك ليس لك بطعمة ، ولكنه في عنقك أمانة ، وأنت مسترعىّ لمن فوقك ، ليس لك أن تفتات في رعيته ... (1) .

وفي مرسومه الحكومي العام إلى جباة الزكاة و الأموال العامة ، يعظهم ويذكرهم بالله، ثم يقول : « .. فأنصفوا الناس من أنفسكم ، وأصبروا لحوائجهم ، فإنكم خزان الرعية ، ووكلاء الأمة ، وسفراء الأئمة ... (2)

وفي عهده إلى مالك الأشتر النخعي إذ ولاء مصر ، يقول (علیه السلام) : ... وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ... ولا تقولن أني مؤمّر آمر فأطاع ، فإن ذلك أدغال في القلب و منهكة للدين وتقرب من الغير ... فإن حقاً على الوالي أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عبادة وعطفاً على إخوانه ... (3) . 2

ص: 93


1- نهج البلاغة - الكتاب الخامس من قسم الكتب والرسائل
2- نفس المصدر الكتاب 51
3- نفس المصدر الكتاب 52

وهكذا نشاهد في كتب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى ولاته وعماله على البلاد تحسساً شديداً للعدل، والشفقة بالرعية ، واحترام حقوق الناس ، مما لا ينقضي منه العجب كل العجب.

وقد نقل السيد الشريف الرضي (ره) في نهج البلاغة وصية له (علیه السلام) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات ، وقال (ره) : وإنما ذكرنا هنا جملاً منها ليعلم بهما أنه (علیه السلام) كان يقيم عماد الحق ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها ودقيقها وجليلها .

إنطلق على تقوى الله وحده لا شريك له . ولا تُروعن مسلماً ، ولا تجتازن عليه كارهاً، ولا تأخذ منه أكثر من حق الله في ماله . فإذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم ، ولا تخرج بالتحية لهم (1).

ثم تقول : يا عباد الله! أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لأخذ منكم حق الله في أموالكم . فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليّه ؟!

فإن قال قائل : لا ، فلا تراجعه. وإن أنعم لك منعم فانطلق معه ، من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسِفه أو ترهقه . فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة . فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلّا بإذنه ، فإن أكثرها له ، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه و لا عنيف به. ولا تنفرّن بهيمة ولا تفزعنها ، ولا توْن صاحبها فيها. وأصدع المال صدعين ثم خیّره ، فإذا أختار فلا تعرضنّ لما أختاره ، ثم أصدع الباقي صدعين ثم خيّره ، فإذا إختار فلا تعرضن لما اختاره ... فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله ، فاقبض حق الله منه. فإن استقالك فأقله ، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله (2) .

ص: 94


1- أي غير ناقصة
2- نهج البلاغة - الكتاب 25 وراجع أيضاً الكتاب 26 وهو عهد له (علیه السلام) إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة أيضاً ، و 27 وهو عهد له (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رحمه الله) و 47 .

وأرى أن هذا يكفي لبيان نظرية الإمام (علیه السلام) بصفته حاكماً نموذجياً مسلماً في حقوق الناس بصفتهم محكومين.

ص: 95

ص: 96

القسم الخامس

اشاره

أهل البيت ، و الخلافة

المسألة الأولى : المقام السامي لأهل البيت عليهم السلام

المسألة الثانية : حق الإمام و أولويته

أولاً : بالنص عليه والوصية إليه

وثانياً : باستحقاقه ولياقته

وثالثاً : بقرابته من رسول الله

المسألة الثالثة : نقده الخلفاء السابقين

أولاً : أبا بكر

ثانياً : عمر

وثالثاً : عثمان

الدور الماكر لمعاوية في قتل عثمان !

المسألة الرابعة : صبر جميل ولكنه مرّ

اهتمامه بوحدة الصف

موقفان عظيمان: إحجام هام ، ثم خير قيام :-

ص: 97

ص: 98

أهل البيت عليهم السلام والخلافة

عرضنا في المقالات السابقة النظريات العامة في ( نهج البلاغة ) في مسألة ( الحكومة) وأهم وظائفها وهي ( العدالة ، والآن - و بعد تلك المباحث العامة في ) أمر الحكومة والعدالة ، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة الخلافة الخاصة بعد رسول الله (ص) - يلزمنا هنا أن نورد بعض المباحث التي ترتبط بذلك ، وبالمقام الخاص لأهل البيت (علیه السلام) في أمة محمد (ص) . وذلك لأنها من المسائل التي قد تكرر الكلام عنها في هذا الكتاب المقدس .

والمسائل التي وردت في(نهج البلاغة ) حول هذا الموضوع أربع مسائل :

1 - أنهم لا يقاس بهم أحد ، وأن العلومهم ومعارفهم منابع مما وراء الطبيعة .

2 - النص عليهم والوصية إليهم - وإلى أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بصورة خاصة - وفضائلهم ومناقبهم وحقهم وأولويتهم وقرابتهم من رسول الله (ص) .

3 - فلسفة سكوت الإمام (علیه السلام) وغضّه النظر عن حقه ، وحدوده في ذلك ، وأنه (علیه السلام) لم يتجاوز حدوده المرسومة له ، ولم يقصر عن الإعتراض والمطالبة بحقه.

4 - نقده الخلفاء السابقين.

ص: 99

المسألة الأولى : المقام السامي لأهل البيت عليهم السلام

موضع سرّه ، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، واذهب ارتعاد فرائصه ... لا يقاس بآل محمد (%) من هذه الأمة أحد ، ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة. الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله (1)

الذي نراه في هذه الجمل الذهبية للإمام (علیه السلام) هو : تمنع أهل البيت (علیه السلام) بمعنوية عالية ترتفع إلى أعلى من المستوى العادي لسائر الناس ، بحيث لا يقاس بهم أحد منهم ، فكما لا يقاس في النبوة أحد من الناس بأحد الأنبياء ، كذلك لا يقاس في الإمامة أحد من الناس بأحد الأئمة (علیه السلام) .

و نحن شجرة النبوة ، ومهبط الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم وينابيع الحكم » (2)

أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا ، إن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى ويستجلي العمى. إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم (3) .

نحن الشعار و الأصحاب ، والخزنة والأبواب، لا تؤتي البيوت إلّا من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً (4) .

فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، أن نطقوا صدقوا ، وان صمتوا

ص: 100


1- نهج البلاغة : الخطبة 2
2- نفس المصدر : 107 .
3- نهج البلاغة - الخطبة : 142
4- المصدر - الخطبة : 152.

لم يسبقوا (1) .

هم عيش العلم وموت الجهل ، يخبركم حلمهم ( حكمهم ) عن علمهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه . هم دعائم الإسلام وولائج الإعتصام ، بهم عاد الحق في نصابه، وإنزاج الباطل عن مقامه وانقطع لسانه عن متنه . عقلوا المدين عقل رعاية ووعاية لا عقل سماع ورواية ، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل (2)

وروى السيد الشريف الرضي (ره) عن كميل بن زياد أنه قال : « أخذ بيدي أمير المؤمنين (علیه السلام) فأخرجني إلى الجيّان ، فلما أصحر تنفس الصعداء ، ثم قال :

یا كميل ! إن القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها ، فافهم ما أقول لك ! الناس ثلاثة : عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كلي ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ... إن ههنا لعلماً جماً ، لو أصبت له حملة ! . اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً وأما خائفاً مغموراً ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، وكم ذا ؟ وأين أولئك ؟! أولئك - والله - الأقنون عدداً والأعظمون عند الله قدراً ، يحفظ الله بهم حججه وبينانه حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم . هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ! أولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم (3)

وفي هذه الجمل وإن لم يصرح الإمام (علیه السلام) بل وحتى لم يلوح إلى أهل البيت (علیه السلام) ، ولكنا بالإلتفات إلى جمله المشابهة لهذه في نهج البلاغة في شأن أهل 7

ص: 101


1- المصدر - الخطبة : 152.
2- نهج البلاغة - الخطبة : 237
3- نهج البلاغة - الحكمة : 147

البيت (علیه السلام) نتيقن : أن المقصود بهذه الأوصاف هم أئمة أهل البيت (علیه السلام) . وتبيّن منها : أن مسألة الإمامة حسب المفهوم الشيعي الخاص المعبّر عنه أحياناً ( بالحجة ) موجودة في نهج البلاغة ، بالإضافة إلى زعامة أمور المسلمين في المسائل السياسية والحقوقية .

المسألة الثانية : حق الإمام وأولويته

نقلنا في الفصل السابق عبارات من (نهج البلاغة ) في شأن المقام السامي وغير العادي لأهل البيت (علیه السلام) ، وأن علومهم ومعارفهم إنما تصدر عن مصادر مما وراء الطبيعة البشرية ، وأنه لا يقاس بهم وأنه لا يقاس بهم أحد. ونورد هنا عبارات أخرى منه في تقدم حقه (علیه السلام) واختصاصه به. وقد استدل في (نهج البلاغة ) على هذا المقام لهم

بأصول ثلاثة :

الأول : النص من رسول الله (ص) والوصية إليه بها .

والثاني : استحقاق نفسه المقدسة ، وأنه لا تليق ملابس الخلافة الّا به (علیه السلام) .

والثالثة : علاقاته الروحية و النسبية برسول الله (ص).

أولاً : بالنص عليه والوصية إليه

قد يتصور البعض عدم وجود تصريح أو إشارة بوجود (النص) في (نهج البلاغة ) وإنما تحدث الإمام (علیه السلام) فيه عن صلاحيته للخلافة و الإمامة وفصله . ولا يصح هذا التصور الخاطيء ، إذ يصرح (علیه السلام) في شأن أهل البيت في الخطبة الثانية في ( نهج البلاغة) التي نقلناها في الفصل السابق فيقول: «وفيهم الوصية و السوراثة : هذا أولاً .

وثانيا : يتحدث الإمام (علیه السلام) في موارد كثيرة عن حقه بنحو لا يتفق إلّا مع وجود النص وتعيين حق الخلافة له (علیه السلام) من قبل رسول الله (%) ، فإنه (علیه السلام) لا يقول : لماذا أخروني عن الخلافة وانتخبوا غيري مع ما في من الشرائط والصلاحيات ، بل يقول : إنهم غصبوا حقي المقطوع لي ، ولا يتفق هذا إلّا مع

ص: 102

وجود النص والتعيين من قبل رسول الله (%) ، فإن الصلاحية والفضائل لا توجب حقاً بالفعل بل إنما بالقوة، ولا يصح الحديث عن الحق المقطوع والمسلم به بينما لا يكون الحق إلّا بالقوة لا بالفعل .

وسنذكر هنا موارد يرى فيها الإمام (علیه السلام) الخلافة حقه المسلم له :

فمن ذلك قوله في الخطبة السادسة في أوائل خلافته حينما اطلع على طغيان طلحة والزبير وعائشة ، وصمم على حربهم :

فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض الله نبيه (%) حتى يوم الناس هذا ... !

ويقول (علیه السلام) في الخطبة (173) :

... وقد قال قائل : إنك على هذا الأمر - بابن أبي طالب - خريص ! فقلت : بل أنتم والله أحرص و أبعد ، وأنا أخص وأقرب . وإنما طلبت (حقاً لي ) وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه . فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني به ... .

ولا يدري من كان هذا المعترض ؟ ومتى كان هذا الإعتراض ؟ ويقول أبن الحديد : والذي قال ليه ذلك هو سعد بن أبي وقاص في يوم الشورى ، ثم يقول : وقالت الإمامية : هذا الكلام يوم السقيفة ، والذي قال له ذلك هو أبو عبيدة بن الجراح (1).

وقد جاء في ذيل تلك الجمل السابقة : ( اللهم أني أستعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي (أمراً هو لي ) .

وقال ابن أبي الحديد في ذيل هذه الجمل : واعلم : أنه قد تواترت الأخبار عنه (علیه السلام) بنحو من هذا القول ، نحو : قوله : ما زلت (مظلوماً ) منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا. .

ص: 103


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 305 ط أبو الفضل إبراهيم .

وقوله : اللهم اُخز قريشاً ، فإنها منعتني ( حقي ) و ( غصبتني) أمري.

وقوله : « فجزى قريشاً عني الجوازي ، فإنهم ( ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي ).

وقوله : وقد سمع صارخاً ينادي : أنا مظلوم ! فقال ؛ « هلم فلنصرخ معاً ، فإني ما زلت مظلوما » .

وقوله : وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى » .

وقوله : أرى تراثي نهباً .

وقوله : « اصغيا بإناثنا ، وحملا الناس على رقابنا » .

وقوله : إن لنا حقاً أن نعطه نأخذه، وأن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السُري .

وقوله : « ما زلت مستأثراً علي مدفوعاً عما (استحقه وأستوجبه ).

وأصحابنا يحملون ذلك كله على ادائه الأمر بالأفضلية و الأحقية ، وهو الحق والصواب ، فإن حمله على (الإستحقاق بالنص) تكفير وتفسيق لوجوه المهاجرين والأنصار . ولكن (الإمامية والزيدية) حملوا هذه الأقوال على ظواهرها، وارتكبوا بها مركباً صعباً، ولعمري إن هذه الألفاظ موهمة . مغلبة على الظن بما يقوله القوم ، ولكن تصفح الأحوال يبطل ذلك الظن ويدرأ ذلك الوهم ، فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات الموهمة ما لا يجوز على الباري ، فإنه لا نعمل بها ولا نعوّل على ظواهرها ، لأنا لما تصفحنا أدلة العقول اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ ، وأن تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب ) (1) .

وابن أبي الحديد هذا هو ممن يعترف بأفضلية الإمام (علیه السلام) و أصلحيته للخلافة ، ولا يرى من هذه الجمل المتقدمة ما كان يفيد أحقيته بحاجة إلى توجيه أو تأول ، أما ما كان منها صريحاً في أن الخلافة كانت من الحقوق الخاصة به (علیه السلام) ، وهذا لا يتصور إلا مع تعيين رسول الله (%) من قبل الله حقه وتكليفه وتكليف 7

ص: 104


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 307

الناس في ذلك بالنص ، فهذا مما يحتاج إلى توجيه وتأويل في نظر ابن أبي الحديد ، بدليل أنه يجر إلى تكفير أو تفسيق الصحابة !

وثانياً : باستحقاقه ولياقته

وإذا تجاوزنا النص الصريح عليه و الحق المسلم و المقطوع له ، تصل إلى : إستحقاقه و لياقته ، وقد جاء في هذا الموضوع أيضاً في نهج البلاغة كلام كثير .

فمنه ما في الخطبة الشقشقية : « أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلىّ منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير ... .

ومن خطبة له (علیه السلام) يقول فيها : ... ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (%) :

1 - أني لم أردُ على الله ولا على رسوله ساعة قط ( على خلاف غيره من الصحابة ) .

2 - ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الإبطال وتتأخر الأقدام (ككثير من الصحابة ) نجدة أكرمني الله بها .

3- ولقد قبض رسول الله (%) وإن رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي

4 - ولقد وُليّتُ غسله (%) والملائكة أعواني ، فضحت الدار والأفنية : ملأ يهبط وملأ يعرُج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه ، حتى واريناه في ضريحه.

فمن ذا ( أحق به ) مني حياً و ميتاً ؟! فانفذوا على بصائركم ، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم ، فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة ( الحق ) وإنهم لعلى مزلة الباطل » (1)

ص: 105


1- الخطبة : 190 ص 179 ج 1 من شرح النهج لابن أبي الحديد

وثالثاً : بقرابته من رسول الله

ادعى سعد بن عبادة بعد وفاة رسول الله (%) الخلافة بعده ، والتف جمع من عشيرته حوله - كما نعلم ، وقد اختاروا لهذه البيعة سقيفة بني ساعدة ، حتى جاء هم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فكفوا الناس عن الإلتفاف حول ابن عبادة ، وأخذوا منهم البيعة لأبي بكر . وقد تبودل في هذا المجلس بين المهاجرين والأنصار كلمات حادة. وكان لتقرير المصير فيه عوامل مختلفة .

وكان من عوامل الإنتصار التي استفاد منها المهاجرون وأصحاب أبي بكر هو أنهم قالوا : إن النبي (%) من قريش وهم منهم ومنه !

روى ابن أبي الحديد في شرحه للخطبة ؛ 6 : ... فقال عمر : هيهات! لا يجتمع سيفان في غِمد ، إن العرب لا ترضى أن تؤمركم و نبيها من غيركم وليس تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وأولو الأمر منهم ، لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا و السلطان المبين على من نازعنا ! من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ، ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلّا مدلٍ بباطل ! أو متجانف لائم ! أو متورط في هلكة ... (1)

وكان الإمام (علیه السلام) حينذاك - كما نعلم - مشغولاً بجنازة رسول الله (%) ، فلما انتهى من ذلك إنتهت إليه أنباؤها ، فقال (علیه السلام) : ما قالت الأنصار ؟ قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير ! قسال (علیه السلام) : « فهلا احتججتم عليهم : بأن رسول الله (%) وصى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ؟ .

قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم ؟

فقال (علیه السلام) : لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم.

ثم قال (علیه السلام) : فما قالت قريش ؟

قالوا : احتجت : بأنها شجرة الرسول (%) .

فقال (علیه السلام) : «احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» !

ومن كلام له (علیه السلام) لبعض أصحابه ، وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، وأنتم أحق به ؟

ص: 106


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 9

فقال (علیه السلام) : « يا أخا بني أسد ، إنك لقلق الوضين (1) ترسل في غير سدد ولك - بعد - ذمامة الصهر (2) وحق المسألة ، وقد استعلمت ، فاعلم :

أما الإستبداد علينا بهذا المقام ، ونحن الأعلون نسباً و الأشدون برسول الله توطاً : فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم الله ، والمعود إليه ، والمعود إليه يوم القيامة ودع عنك نهباً صيح في حجراته وهلم الخطب في ابن أبي سفيان (3)

ومن هنا يعلم أن هذا السؤال والجواب كان في دور خلافته (علیه السلام) على عهد حربه مع معاوية ، ودسائسه وحبائله وخططه ومؤامراته ، فكره (علیه السلام) طرح هذا السؤال في أوضاع كهذه، ولذلك لأمه قبل إجابته ، ولكنه مع ذلك لم يتمالك نفسه عن جوابه وتوضيح الحق له ، كما هي سيرته الفاضلة.

والإستدلال بالنسب من الإمام (علیه السلام) من نوع الجدل المنطقي ، فبما أن غيره اتخذ القرابة بالنسب ملاكاً لاستحقاق الخلافة ، كان (علیه السلام) كأنه يقول : إنا لو افترضنا - جدلاً - أن تكون القرابة بالنسب ملاكاً لاستحقاق الخلافة كما استند إليها الآخرون ، فأنا أيضاً أولى بالخلافة منهم (4) .

المسألة الثالثة : نقده الخلفاء السابقين

والمسألة الثالثة في هذا الموضوع هو انتقاده (علیه السلام) من الخلفاء ، فلا يتكر أنه (علیه السلام) كان ينتقد الخلفاء السابقين عليه . وأن في انتقاده لنا دروساً ، فإن نقده للخلفاء لم يكن بثورة وتعصب ، بل بتحليل ومنطق ، وهذا هو الذي يمنح نقده أهمية عظمى. فإن النقد إذا كان بثورة وطغيان يختلف عنه عما إذا كان على أساس أحكام واقعية و منطقية ، فإن النقد العاطفي ليس إلا سلسلة من السباب و الطعون تنثر بسخاء عن الخصم من دون أي اتزان ، أما النقد المنطقي فإنه يبتنى على

ص: 107


1- الحبل الذي يشد به الرجل على ظهر الداية إلى تحت بطنها
2- لأن رسول الله (%) كان تزوج منهم زينت بنت جحش الأسدي
3- الخطبة : 163 ص 241 ج 9 من شرح النهج لابن أبي الحديد
4- وانظر شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 250 - 251

الخصائص الأخلاقية و الروحية وعلى نقاط خاصة من حياة الشخص المنتقد ، ولا يمكن أن يكون النقد هذا - بالطبع - غير متزن في تناسبه مع الأفراد ، ومن هنا يتجلى في هذا النوع من النقد مدى النظرة الواقعية للناقد .

وينقسم نقده (علیه السلام) في نهج البلاغة من الخلفاء إلى قسمين : عام ، وخاص :

أما العام : فهو ما يصرح فيه باغتصاب حقه القطعي والمسلم به له (علیه السلام) ، وقد نقلنا نحن قسماً منه في الفصل السابق بمناسبة البحث عن استناده إلى النص عليه والوصية إليه .

وقد قال ابن أبي التحديد : « ... وأعلم أنه قد تواترت الأخبار عنه (علیه السلام) بنحو من هذا القول ».

ثم قال : وحدثني يحيى بن سعيد الحنبلي قال : كنت حاضراً عند الفخر اسماعيل بن علي الحنبلي الفقيه مقدم الحنابلة ببغداد ، و نحن عنده نتحدث ، إذ دخل شخص من الحنابلة ، قد كان له دين على بعض أهل الكوفة فانحدر إليه يطالبه به ، واتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير ، والحنبلي المذكور بالكوفة.

فجعل الشيخ الفخر يسأل ذلك الشخص : ما فعلت ؟ ما رأيت ؟ وذلك يجاويه ... حتى قال له ؛

يا سيدي ! لو شاهدت يوم الزيارة ( يوم الغدير) وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائح والأقوال الشنيعة وسب الحصابة جهاراً بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة !

فقال إسماعيل : أي ذنب لهم ! والله ما أجرأهم على ذلك ولا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب هذا القبر !

فقال ذلك الشخص : ومن صاحب القبر ؟

قال : علي بن أبي طالب !

قال : يا سيدي ! هو الذي سنّ لهم ذلك وعلمهم إياه وطرقهم إليه ؟!

قال : نعم ، والله !

قال : يا سيدي ! فإن كان محقاً فما لنا أن نتولى فلاناً وفلاناً ( أبا أبكر

ص: 108

وعمر ) ؟! وإن كان مبطلاً فما لنا نتولاه ؟! ينبغي أن نبرأ إما منه أو منهما!

فقام اسماعيل ... وقال: « لعن الله إسماعيل إن كان يعرف جواب هذه المسألة » (1) !

أولاً - أبا بكر .

جاء نقد أبي بكر بصورة خاصة في الخطبة الشقشقية ، ويتلخص في جملتين :

الأولى : أما والله لقد تقمصها ( ابن أبي قحافة) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلىّ الطير

فهو يعلم أنه (علیه السلام) أولى منه بالخلافة ، وأنها لا تستقيم إلا به ، فلماذا أقدم - مع علمه بهذا - على غصب الخلافة منه ؟! حتى يقول :

فصبرت و في العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً !

الثانية : «فواعجباً ؟ بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته » فلماذا عيّن للناس خليفة من بعده مع أنه كان قد طلب إليهم أن يقبلوه بيعتهم بالخلافة لنفسه ؟؟ وأن يطلقوه من هذا العهد الذي القوه على عاتقه ؟؟ فكيف يعيّن الخليفة لهم من كان يشك في حقه منها ؟!

ثم يأتي أمير المؤمنين (علیه السلام) بأقسى تعبيراته بشأنه مع عمر ، مما يبين لنا اشتراكهما في الأمر :

لشد ما تشطرا ضرعيها !

وقال ابن أبي الحديد بشأن استقالة أبي بكر : « وقد اختلف الرواة في هذه اللفظة ، فكثير من الناس رواها : أقيلوني فلست بخيركم ومن الناس من أنكر هذه اللفظة ولم يروها وإنما روى قوله : « وليتكم ولست بخيركم ». (2)

وعبارة ( نهج البلاغة) تؤيد أن يكون لفظ أبي بكر « أقيلوني » .

ص: 109


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 307 - 308
2- شرح المنهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 169

وثانياً - عمر

و الإنتقاد من عمر بشكل آخر ، فإنه بالإضافة إلى النقد المشترك الذي شمله مع أبي بكر بقوله (علیه السلام) : « لشدّ ما تشطرا ضرعيها ، انتقد بسلسلة من الإنتقادات في خصائصه الأخلاقية و الروحية ، فقد انتقد الإمام (علیه السلام) من خصيصتين من خصائصه .

الأولى : خشونته و غلظته ، فقد كان في هذه الخصيصة على عكس أبي بكر ، فإنه كان في أخلاقه رجلاً خشناً مهيباً مخيفاً !

ويقول فيه أبن أبي الحديد : « ... وكان أكابر الصحابة يتحامون ويتفادون من لقائه ، وقيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول (1) بعد موت عمر - ولم يكن قبل يظهره - : هلا قلت هذا وعمر حي ؟ قال : هبته! وكان أمراً مهاباً (2)

وكان يقال : دِرّة عمر أهيب من سيف الحجاج : وفي الصحيح : أن نسوة كنّ عند رسول الله (%) قد كثر لغطهن ، فجاء عمر ، فهر بن ، هيبة له ، فقال لهن : يا عُدُيات أنفسهن أنهينني ولا تهين رسول الله ! قلن : نعم ، أنت أغلظ

وأفظ .

مات أبو بكر فناح النساء عليه ، وفيهن أخته أم فروة ، فنهاهنّ عمر مراراً ، وهنّ يعاودن ، فأخرج أم فروة من بينهن وعلاها بالدرة ، فهر بن وتفرقن .

وكان عمر يفتي كثيراً بالحكم ثم ينقضه ويفتي بضده وخلافه !

وقال مرة : لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي الّا ارتجعت ذلك منها ! فقالت له امرأة : ما جعل الله لك ذلك ، إنه تعالى قال : (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (3)

ص: 110


1- عول الفريضة : هو أن تزيد سهامها فيدخل النقصان على أهل الفرائض في الإرث ، وهو قول الشيعة ، في مقابل التعصيب وهو قول السنة
2- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 173
3- سورة النساء : 20

فقال : « كل الناس أفقه من عمر ، حتى ربات الحجال ! الّا تعجبون من إمام أخطأ وأمرأة أصابت ، فاضلت إمامكم ففضلته ) !(1)

وما يروى عن عمر أنه قال سبعين مرة : « لولا على لهلك عمر » ! فهو ما كان يقوله حينما كان يفتي بشيء فيوقفه أمير المؤمنين (علیه السلام) على خطئه .

والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان ينتقد عمر بهاتين الخصيصتين اللتين يؤكد عليهما تاريخ حياته ، وهما :

- خشونته المفرطة التي كان يهابه بها أصحابه من قول الحق !

والأخرى : أخطاؤه الكثيرة المتكررة و المستعجلة التي كان يعتذر هو أيضاً كثيراً !

يقول الإمام (علیه السلام) في القسم الأول : فصيرها في حوزة خشناء يغلّطَ كلمها ويخشن مسُّها ... فصاحبها كراكب الصعبة أن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ... (2)

و يقول في كثرة عثراته و زلاته ثم اعتذاره منها :

ويكثر العثار فيها والإعتذار منها (3)

وفي نهج البلاغة - كما أعلم - إنما انتقد الإمام (علیه السلام) الخليفة الأول والثاني بصورة خاصة ، في الخطبة الشقشقية التي نقلنا فقرات منها ، فقط . وأما في غيرها فإن كان فهو إنا بصورة عامة ، أو بالكناية والإشارة والإيماء والتلويح ، وليس بالتصريح .

فمن ذلك ما في كتابه المعروف إلى واليه على البصرة : عثمان بن حنيف الأنصاري ، من الإشارة إلى أمر ( فدك ) إذ يقول : .

ص: 111


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 181 - 182 .
2- الخطبة الشقشقية ، والضمير في صيرها إلى أبي بكر ، ويريد بالحوزة طبيعة عمر ، والكلم : الجرح ، والصعبة : الناقة ، صعبة الإنقياد ، وبريد بها الخلافة في عهد عمر، واشنق : أي شد اليه حيلها ، وخرم : أي قطع .
3- الخطبة الشقشقية ، والضمير الأول إلى الخلافة ، و الثاني إلى العثرات .

«... بلي كانت في أيدينا فدك ، من كل ما أظلته السماء ، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرین ...» .

ومنها قوله (علیه السلام) في الكتاب 62 :

أما بعد ، فإن الله سبحانه بعث محمداً (%) نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين ، فلما مضى (%) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (%) عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده ... فما راعني إلّا إنثيال الناس على ( فلان) يبايعونه ... .

ومنها قوله (علیه السلام) في الكتاب 28 :

«... وقلت : إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمرُ الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه ! » .

وقد جاء في الخطبة : 223 كلمات في الثناء على شخص مكني عنه بكلمة : ( فلان ) ، واختلف شرّاح نهج البلاغة في المراد بهذا الرجل الممدوح في كلام الإمام (علیه السلام) ، وقد قال كثير منهم بأنه هو ( عمر بن الخطاب) وقال بعضهم : بأنه يقصده جاداً ، قال بعضهم : بل تقية . وقال القطب الراوندي ( ره ) بأن المقصود منه أحد الصحابة الماضين كعثمان بن مظعون أو غيره. ويقطع ابن أبي الحديد بأنه لم يكن يقصد به إلّا عمر ، وذلك بقرينة نوع الثناء الذي ينبيء عن أنه فيمن كان قد تصدى لمقام الحكم و الإمامة قبله ، فإن الكلام فيه عن رجل أقام العوج ورفع العلل فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي (%) كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث وغيرهم من الناس . والتأويلات الباردة لا تعجبني ! على أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح بأن المعني بهذا الكلام عمر. قال الطبري: لما مات عمر بكته النساء فقالت إحدى نوادبه : « وأحزناه على عمر ! حزناً إنتشر حتى ملأ البشر ! وقالت إبنة أبي حeمة : ( وأعمراه ! أقام ، الأود وأبرأ العمد ، أمات الفتن وأحيى السنن، خرج نقي الثوب بريئاً من العيب )

ص: 112

قال الطبري : فروى صالح بن کیسان عن المغيرة بن شعبة ، قال : لما دفن عمر أتيت علياً (علیه السلام) وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً . فخرج ينقض رأسه ولحيته وقد اغتسل، وهو ملتحف بثوب، لا يشك أن الأمر يصير إليه ! فقال : رحم الله ابن الخطاب ! لقد صدقت ابنة أبي حثمة و ذهب بخيرها ونجا من شرها ، أما والله ما قالت ولكن قُولت (1) وهذا كما ترى يقوي الظن ؛ « أن المراد والمعني بالكلام إنما هو عمر بن الخطاب (2) .

قابن أبي الحديد يتأيد لنظره برواية الطبري .

وقد نقل هذه الرواية بعض المعاصرين من المحققين عن غير الطبري من سائر المصادر المعتبرة بصورة أخرى، وهي : أنه لما خرج الإمام (علیه السلام) ووقع بصره على المغيرة بن شعبة قال له متسائلاً : صدقت ابنة أبي حثمة ) ؟.

وعلى هذا فلا يكون ما ورد في نهج البلاغة من هذه الكلمات من كلام الإمام (علیه السلام) ، ولا تأييداً لما نقل منها عن هذه المرأة النائحة . وإنما يكون السيد الشريف الرضي (رحمه الله) قد أخطأ في نسبتها إلى الإمام علي (علیه السلام) .

وثالثاً - عثمان :

وجاء ذكر الخليفة الثالث عثمان بن عفان في نهج البلاغة أكثر من الخليفتين السابقين. والسبب في ذلك واضح ، إذ أن عثمان قتل في تلك الفتنة التي سماها المؤرخون : الفتنة الكبرى، والتي كان له ولأقربائه من بني أمية فيها نصيب كبير و أحاط الناس بعده بأمير المؤمنين علي (علیه السلام) فبايعوه بالخلافة ، ولم يتمالك الإمام (علیه السلام) دون أن قبل بيعتهم طوعاً أو كرهاً، وكان لهذا الأثر الكبير في إيجاد ما حدث بعد ذلك اليوم ، إذ اتهمه مدّعو الخلافة بأن له يداً في قتل عثمان ! وكان لا بد له من أن يدافع عن نفسه ويعلن موقفه للناس في ذلك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فقد كان الثوار الذين قتلوا عثمان في عداد أصحابه (علیه السلام) ، فكان أعداء علي (علیه السلام) يطلبون منه أن يسلمهم إليهم كي يقتصوا منهم دم عثمان ابن عمهم ،

ص: 113


1- الطبري : 5 : 38
2- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 12 ص 5 .

فكان لا بد للإمام (علیه السلام) من أن يبدي رأيه في هذا الموضوع .

وبالإضافة إلى ذلك ، فقد كان الإمام (علیه السلام) هو الوسيط الوحيد الذي كان يعتمد عليه الثوار الذين كانوا قد حاصروا عثمان يطالبونه بالإعتدال أو النزول عن الحكم ، ويعتمد عليه عثمان أيضاً ، فكان سفيراً بين الطرفين ، يبلغ قول بعضهم لبعض مع كلامه في ذلك ، أن كان له كلام .

وبعد كل هذا ، فقد كان الفساد متفشياً في جهاز عثمان ، فلم يكن الإمام (علیه السلام) يستطيع السكوت عنه حسب وظيفته سواء على عهده أم بعده.

وهذه الأمور كلها هي الأسباب التي دعت إلى أن يكثر ذكر عثمان في كلام الإمام (علیه السلام) .

فقد تكرر الكلام في نهج البلاغة عن عثمان في أكثر من 16 موضعاً منه ، في أكثرها الكلام عن قتله ، يبرىء الإمام (علیه السلام) ساحته من الإشتراك في قتله في خمسة موارد منها . وفي مورد واحد يتهم طلحة بالإشتراك في ذلك في حين أن طلحة كان يتهم الإمام بذلك، وبهذا كان يحرض عليه. وفي موردين يتهم معاوية بالتقصير في الدفاع عنه عامداً ، بينما كان معاوية قد جعل إتهامه للإمام بذلك مستمسكاً للإخلال في حكومة الإمام (علیه السلام) الإنسانية والسماوية ، وكان يهطل لذلك دموع التماسيح ، ویهيج الناس على علي (علیه السلام) بحجة القصاص من قتلة الخليفة المظلوم قصداً إلى ماريه القديمة .

* * *

إن قتل عثمان كان من أثر فتنة فتحت على الإسلام والمسلمين فتناً أخرى لازمتهم قروناً وهي بعد باقية . والذي نحصل عليه من مجموع كلمات الإمام (علیه السلام) في نهج البلاغة بهذا الصدد: هو أنه (علیه السلام) كان له نقد شديد على سيرة عثمان و لذلك فهو يرى أن الثوار عليه كانوا على حق في ذلك ، و لكنه - مع ذلك - كان يرى أن قتله - وهو خليفة - بيد الثوار مما لا يتفق مع المصالح العامة للإسلام - والمسلمين ، وأنه (علیه السلام) كان يفكر في هذه العواقب الخطيرة لقتله ويقلق لها ويضطرب ، فإن بلوغ جرائم عثمان إلى حد يجوز قتله للمسلمين أمرٌ، وعدم إتفاق

ص: 114

قتله بيد الثوار - وهو في مقام الخلافة - مع المصالح العامة للإسلام و المسلمين أمر آخر حتى ولو كان أصحابه هم الذين أوجبوا لهم قتله إذ قطعوا عليهم كل طريق سواه .

و نحصل من مجموع كلمات الإمام (علیه السلام) أيضاً على أنه كان يحاول أن يترك عثمان سيرته و يرجع فيسلك سبل العدالة الإجتماعية الصحيحة في الإسلام ، أما إذا امتنع عن ذلك فكان يرى الإمام أن يحبسه الثوار أو يخلعوه فيبايعوا بعده من يليق بذلك المقام، فيحقق الخليفة بعده في جرائمه ويرى فيها رأيه ويحكم فيها بحكمه . ولهذا فهو لم يأمر بقتله ، ولم يؤيده ضد الثوار ، بل كان همّ الإمام الوحيد أن تتحقق المطالب المشروعة للمشوار المسلمين ، إما بانقلاب عثمان على سيرته السابقة ، أو بنزوله عن الحكم و تسليمه إلى أهله . و لذلك فقد نقد الطرفين فقال :

استأثر فأساء الأثرة ! وجزعتم فأسأتم الجزع : (1)

وحينما عرض على عثمان مطالب الثوار كوسيط بينهم ، اطلعه على قلقه من قتله وهو خليفة فيفتح ذلك على المسلمين باباً كبيراً من الفتن الكثيرة ، فقال :

وإني أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فانه كان يقال : يقتل في هذه الأمة اما يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويبث الفتن فيها ، فلا يبصرون الحق من الباطل ، يموجون فيها موجاً ويمرجون فيها مرجاً (2)

قلنا : إن الإمام (علیه السلام) كان ينتقد عثمان على عهده غيبة أو حضوراً ومن بعده ، وإليكم الآن بعض موارد نقده :

1 - ما ورد في الخطبة : 128 مما قاله لأبي ذر (رض) حينها ودّعه عند تبعيده من قبل عثمان عن مدينة الرسول (%) إلى الربذة. ففيها يؤيد الإمام أبا ذر 62

ص: 115


1- الخطبة : 30
2- الخطبة : 162

(رض) في كل ما كان يقوم به من النقد و الإعتراض على عثمان وعماله معاوية وغيره ، و بذلك يعرف الناس بفساد دولة عثمان .

2 - قوله (علیه السلام) في الخطبة : 30 : استأثر فأساء الأثرة .

3- قوله (علیه السلام) لعثمان امام مروان بن الحكم بن العاص بن أمية في الخطبة : 162

فلا تكونن لمروان سيقة ، يسوقك حيث شاء ، بعد جلال السن وتقضي العمر .

حيث كان عثمان رجلاً ضعيفاً لا إرادة له ، وقد تسلّط عليه مروان بن الحكم طريد رسول الله (%) الذي جاء به عثمان إلى المدينة واتخذه وزيراً لنفسه، فكان يفعل باسم عثمان ما يريد.

4 - كان عثمان يسيء الظن بالإمام (علیه السلام) ، فكان يراه مضراً به ومُخلاً في أمره ! إذ كان (علیه السلام) أمل الثوار و ذخرهم، لاسيما حينما كان بعضهم يجهر باسمه أميراً مختاراً لهم بعد عثمان مهددين بخلعها ! و لهذا كان عثمان يريد منه (علیه السلام) أن لا يكون حاضراً في البلد كي لا ينظر إليه الثوار فيهيج بهم خواطرهم و آمالهم. ولكنه من ناحية أخرى كان يرى أنه (علیه السلام) هو الوسيط الوحيد الخيّر له إليهم ، وأنه مما يطمئنهم ويسكتهم. فكان أحياناً يطلب إليه أن يخرج من المدينة إلى عين ماء له ( بينبع ) و هي تبعد عنها عشرة فراسخ أو أكثر ! ولكنه لا يلبث أن يحس بخلاء من فقده (علیه السلام) فيها فكان يبعث إليه أن يأتيه . وكان من الطبيعي أن هاجت بالثوار خواطرهم حينما رأوه ، فبعث ابن عباس إليه يطلب منه العود إلى مزرعته ! فتألم الإمام (علیه السلام) من هذا وقال :

يا بن عباس ! ما يريد عثمان إلّا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب ، أقبل و أدبر ؟! بعث إلىّ : أن أخرج ، ثم بعث إلىّ : أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج ؟! والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً.

5- وأشدها ما جاء في الخطبة الشقشقية :

إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله معتلفه ، وقام معه بنو أبيه

ص: 116

يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ! إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته » !

ويقول ابن أبي الحديد في شرحه هذه الجملة : يريد : أن همه الأكل والرجيع ، وهذا من ممض الذم ، وأشد من قول الخطيئة الذي قيل : إنه أهجى بيت للعرب :

دع المكارم لا ترحل البغيتها *** واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي (1)

الدور الماكر لمعاوية في قتل عثمان

كان الإمام (علیه السلام) يتهم معاوية بأن يده الخفية تحت الستار كانت مخضوبة بدم عثمان ! وبهذا كان يرفع الإمام الستار عن سر كانت عيون التواريخ عاجزة عن استشفافه . حتى جاء بعض المحققين من المؤرخين المعاصرين فاستشف صدق هذه الحقيقة من خبايا التاريخ، بمساعدة من أصول علم النفس والمجتمع .

ولم يكن أكثر الناس فيما مضى يصدقون بوجود يد لمعاوية في قتل عثمان بل وحتى بتقصيره في الدفاع عنه ، إذ كان عثمان ومعاوية ابني عم ، تجمعهما أواصر العشيرة الأموية ، بل كان للأمويين علاقات محكمة تبتنى على أهداف مدروسة وسيرة معينة معروفة ، حتى أن المحدثين من المؤرخين يحسبون تلك العلاقات من نوع العلاقات الحزبية اليوم ، أي لم تكن تربطهم مجرد عواطف دموية عشائرية ، بل كانت القبيلة هي الأرضية التي تجمعهم وتوحدهم على درب أهدافهم المادية .

وكان معاوية - بالخصوص - قد رأى من عثمان كل حماية و محبة ، وكان هو يتظاهر دائماً بحب عثمان وحمايته. ولهذا فلم يكن أحد يصدق أن يكون لمعاوية يد خفية في الأمر !

أما معاوية الذي لم يكن له غير هدف واحد هو المادة فقط ، وكان يبيح لنفسه في سبيل ذلك كل واسطة ووسيلة ، ولم يكن عنده للأصول الإنسانية وللعواطف أي دور أو أثر ، فإنه حينما عرف أنه سيستفيد من جثة عثمان الهامدة

ص: 117


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 197

أكثر منه منه حياً ، وأن دماء عثمان المراقة تنفعه أكثر منها وهي تجري في عروقه حياً دبّر لقتله ، فتركه فريداً ، في حين كان قادراً على الدفاع عنه .

ولكن عين علي (علیه السلام) كانت ترى أيدي معاوية الخفية ، وتعلم بالحوادث التي تجري وراء الستار . ولهذا فهو يقطع في اتهامه معاوية بالتقصير عن عون عثمان على قاتليه .

فله في نهج البلاغة كتاب طويل كتبه جواباً عن كتاب معاوية إليه يتهمه فيه بإشتراكه في قتل عثمان فيجيبه الإمام (علیه السلام) : « ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه. فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله : امن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه ؟ أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره ؟ وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً فإن كان الذنب إليه ارشادي وهدايتي له ، فرب ملوم لا ذنب له « وقد يستفيد الظنة المتنصح » « وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت : ... » (1) .

ويقول (علیه السلام) في كتاب آخر له إليه : « فأما التارك الحجاج في عثمان وقتلته ، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك ، وخذلته حيث كان النصر له (2)

المسألة الرابعة : صبرٌ جميل ولكنه مرّ

القسم الرابع من المسائل المرتبطة بالخلافة في نهج البلاغة هي مسألة سكوت الإمام (علیه السلام) ومداراته الخلفاء السابقين ، وفلسفة ذلك السكوت وتلك المداراة.

ونعني بالسكوت : تركه القيام بمطالبته بحقه بالسيف والسنان وإيجاد حرب دامية طاحنة تدور رحاها ويستعر أوارها ، وإلّا فقد قلنا فيما سبق : إنه (علیه السلام) لم يتمالك نفسه دون أن يبدي استحقاقه للمسلمين ويطالب بحقه ويتظلم من الغاصبين، في كل فرصة مناسبة .

ص: 118


1- نهج البلاغة : الكتاب 28
2- نهج البلاغة : الكتاب 37

وكان الإمام (علیه السلام) يتذكر هذا السكوت المرّ ، ويقول :

وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمر من العلقم و صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ، أو « أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه » (1) .

ولم يكن سكوت الإمام هذا من اضطراره إلى ذلك فقط ، بل مدروساً ومنطقياً ، فقد كان ذلك باختياره من الأمرين أشقهما وأصعبهما طلباً للصلاح في امة محمد (%) . فقد كان بإمكانه أن يقوم بطلب حقه بالسيف ، وتقول : إنه كأن يقتل في ذلك إذ لا ناصر له ولا معين ، وأقول : إنه (علیه السلام) ما زال يتمنى الموت والشهادة في سبيل الله والحق ، فهو الذي قال لأبي سفيان إذ حرضه على القتال :

والله لابن أبي طالب أنس بالموت من الطفل بثدي أمه (2) .

وبهذا أعلن (علیه السلام) لأبي سفيان وغيره : أن سكوته هذا ليس من خوف الموت ! بل لأن قيامه بطلب حقه بالسيف وقتله في هذا السبيل الآن ليس من صالح الإسلام بل يعود على الإسلام والمسلمين بالضرر والخسران المبين.

ولقد كان (علیه السلام) يصرح للملاً : أن سكوته ذلك كان سكوتاً مدروساً ، وأنه اختار ذلك إذ كان أقرب إلى الصلاح في أمة محمد (%) :

وطفقت ارتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء ... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجي (3)

اهتمامه (علیه السلام) بوحدة الصف

وكلنا يريد أن يعرف : ما الذي كان يفكر فيه الإمام (علیه السلام) إذ ذاك ؟ وما الذي كان يحرص على سلامته ؟ وما الذي كان يهتم به حتى تحمل له ذلك الألم الملم ؟

ص: 119


1- نهج البلاغة : الخطبة الشقشقية
2- نهج البلاغة : الخطبة : 5
3- نفس المصدر الخطبة : 3

وليس لنا إلّا أن نقول : إن ذلك هو وحدة صف المسلمين وعدم وقوع الإختلاف بينهم.

فإن المسلمين الذين كانوا يحاولون إذ ذاك أن يباروا بقدرتهم العالم ، كانوا في ذلك مدينين لوحدة صفوفهم وإتفاق كلمتهم ، و إنما كسبوا ما توفقوا إليه من التقدم والإطراد والفتوحات ببركة وحدة الكلمة . ولذلك فلا نجد إلّا أن نقول : لهذا كان سكوت الإمام (علیه السلام) .

ولكن هل يصدق من لا يعرف الإمام (علیه السلام) : أن يكون شاب في الثالثة و الثلاثين من عمره قد بلغ من بعد النظر والإخلاص حداً اقتدر به على إرغام نفسه والوفاء لدينه ؟! حتى يختار له طريقاً ينتهي به إلى الحرمان !

نعم ! هذا ما لابد من الإذعان به له (علیه السلام) . وإنما تتبين لنسا شخصية الإمام من هذه النقاط الحساسة في حياته . وليس ما قلناه نحن هنا ضرباً من الظنون، بل لقد تكلم هو (علیه السلام) عن هذا الموضوع وبين علة سكوته ذلك بكل صراحة ، إنها لم تكن سوى الحذر من نشوء التفرقة بين صفوف المسلمين

وكرر الإمام (علیه السلام) مقايسة موقفه ذلك بعد وفاة رسول الله (%) مع موقف طلحة والزبير على عهده في نقض البيعة وإثارة الفتنة الداخلية بين المسلمين ، ويقول : إنه (علیه السلام) غض النظر عن الحق المسلم حذراً من التفرق ، بينما نقض هؤلاء بيعتهم ولم يراقبوا في إثارة ذلك الخلاف العظيم !

ونقل ابن أبي الحديد في شرحه للخطبة : 22 عن عبد الله بن جُنادة أنه قال : قدمت من الحجاز أريد العراق ، في أول إمارة علي (علیه السلام) ، فمررت بمكة ، فاعتمرت ، ثم قدمت المدينة ، فدخلت مسجد رسول الله (%) ، إذ نودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، وخرج علي (علیه السلام) متقلداً سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمد الله (%) ، ثم قال :

... أما بعد ، فإنه لما قبض الله نبيه (%) ، قلنا : نحن أهله وورثته وعثرته وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا : فصارت الإمرة لغيرنا ، وصرنا سوقة ،

ص: 120

يطمع فينا الضعيف ، ويتعزز علينا الذليل ، فبكت الأعين منا لذلك ، وخشيت الصدور ، وجزعت النفوس .

وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ، ويبور الدين ، لكنا على غير ما كنا لهم عليه ...

ثم قال (علیه السلام) : « ... وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع ، تعلمون ذلك ، وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ويلقيها بأسكم بينكم ... .

ثم قال ابن أبي الحديد : وروى الكلبي قال : لما أراد علي (علیه السلام) المسير إلى البصرة قام فخطب الناس ، فقال - بعد أن حمد الله وصلى على رسوله - :

إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن ويعكسه أقل خلف » (1)

ونقل عن تاريخ الطبري أنه قال : « ... فقال العباس لعلي (علیه السلام) : « لا تدخل معهم وأرفع نفسك عنهم قال : إني أكره الخلاف ! قال ؛ إذن ترى ما تكره (2).

ونقل في الجزء الخامس في ذيل الخطبة : 66 عن الزبير بن بكار عن محمد بن إسحاق قال : وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعراً :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف *** عن هاشم ، ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلي لقبلتكم *** وأعلم الناس بالقرآن والسنن

وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن

ما فيه ما فيهم ، لا يمترون به لا يمترون به *** وليس في القوم ما فيه من الحسن .

ص: 121


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 307 - 308
2- شرح النهج لابن ابي الحدید ج1 ص 191 عن الطبري 5 : 33

ماذا الذي ردّهم عنه فتعلمه *** ها إن ذا غبْتُنُا من أعظم الغبَن

فبعث إليه علي (علیه السلام) فنهاه و أمره أن لا يعود و قال : سلامة الدين أحب إلينا من غيره (1).

وأصرح من الجميع ما جاء في ( نهج البلاغة) نفسه في ثلاثة موارد منه :

1 - ما أجاب به (علیه السلام) أبا سفيان صخر بن حرب بن أمية ، حينما جاء إليه يريد أن يثير الفتنة بعنوان حمايته والدفاع عن حقه (علیه السلام) :

شقوا أمواج الفتن يسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة (2)

2 - وما قاله (علیه السلام) بعد انتخاب عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان في يوم الشورى :

قد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، و والله لأسلمّن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلّا على الخاصة (3)

3 - ما قاله (علیه السلام) في كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر النخعي : فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (%) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولايتكم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل (4) .

موقفان خطيران:

صبر جميل ، وقيام هام :

يشير الإمام في كلماته إلى موقفين خطيرين له (علیه السلام) ، ويعدهما هامين قد انفرد

ص: 122


1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 5 ص 21 عن الزبير بن بكار عن محمد بن إسحاق.
2- الخطبة : 5 ص 214 ج 1 من شرح النيج لابن أبي الحديد .
3- الخطبة : 73 ص 166 ج 6 من شرح النهج لابن أبي الحديد
4- الكتاب : 62 ص 151 ج 18 من شرح الموج لابن أبي الحديد

هو بهما ، أي أنه (علیه السلام) عزم في هذين الموردين الخطيرين على أمر يعجز غيره عن مثله ، إنه (علیه السلام) سكت في مورد منها وقام بالأمر في الآخر ، فكان سكوته في الأول هاماً وعظيماً، وقيامه في الآخر أهم وأعظم .

إن السكوت في بعض الموارد يصبح أحوج من القيام بالسيف إلى تملك النفس والإرادة ، تصوروا ذلك الرجل العظيم الذي كان قد جسد القدرة والقوة والفتوة والمروءة والشجاعة والبسالة والبطولة والغيرة ، حتى هابه الأبطال والشجعان وارتعدت فرائصهم من خيفته ولم يولّهم دبره في الزحف حتى ولو مرة واحدة في طول عمره وعلى كثرة حروبه وقتاله ... تنقلب به الأحوال إلى فرصة سائحة للسياسيين الإنتهازيين ، انتهزوها فضيقوا فيها انتهزوها فضيقوا فيها الأمر عليه من كل جانب ، أنهم تجاسروا على هتك حرمة زوجته العزيزة عليه والغالية لديه ، حتى أنها ترد عليه فتعاتبه بعتاب يقلع شم الجبال عن مواقعها وتقول : « ... يا بن أبي طالب اشتملت شملة الجنين ؟! وقعدت حجرة الظنين ؟ نقضت قادمة الأجدل ففاتك ريش الأعزل ! هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحيلة ابي بليغة ابني ، نقد أجهد في خصامي والفيته ألد في جوابي. وحتى حبستني قبلة (1) نصرها، والمهاجرة (2) ،وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها ! فلا دافع ولا مانع ولا ناصر ولا شافع؟ أخرجت كاظمة وعدت راغمة ويلاي في كل شارق ، ويلاي في كل غارب ! مات العمد و وهن العضد ! شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربي ! اللهم أنت أشد قوة وحولاً وأشد بأساً وتنكيلاً ... (3)

وقال ابن أبي الحديد : ... وقد روي عنه (علیه السلام) : أن فاطمة (علیه السلام) حرضته يوماً على النهوض والوثوب، فسمع صوت المؤذن : أشهد أن محمداً رسول الله. فقال لها : أيرك زوال هذا النداء من الأرض ؟! قالت : لا ، قال : فإنه ما أقول

لك (4) 13

ص: 123


1- قيلة ، أم الأوس و الخزرج ، وبنو قيلة : الأنصار ، وقد يقال قيلة تخفيفاً
2- المهاجرة ، أي الجماعة المهاجرة ، أي المهاجرون
3- أمالي السيد المرتضي (رض)
4- شرح النهج لابن أبي الحديد ج 11 ص 113

نعم ! فما هي هذه القدرة التي لا تحركه معها العواصف ولا تزعزعه القواصف ؟! فيسكن بها ويسكت مع إثارتها له بهذه الكلمات ، وهي العزيزة لديه منتهى العزة والكرامة ! بل ويسكنها ويهدّئها حتى يسعها تقول : ( حسبي الله ونعم الوكيل » .

هذا سكوته العظيم !

وأما قيامه الأهم والأعظم .

والذي انفرد به هو (علیه السلام) وباهي وقال : « ... ولم يكن ليجترىء عليها أحد غيري ... فهو قيامه بالأمر والسيف أمام كل من خرج عليه عائشة أم المؤمنين ، وطلحة والزبير الكبيرين العظيمين ، ومعاوية الأهم والأعظم والخوارج المرقة:

... فأنا فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترىء عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها واشتد كلبها ... .

وقد كان الخوارج من ظاهر التقوى و الدين على أمر كانوا يشككون به في الحق كل مؤمن نافذ الإيمان فضلاً عن غيرهم ، وقد أوجدوا بخروجهم على الإمام (علیه السلام) جواً مظلماً مبهماً ، مليئاً بالشك والقلق والتردد والإضطراب ! إنهم كانوا (إثني عشر ألف) رجل في جباههم من أثر السجود كثفنة البعير ، يعيشون عيشة الزاهدين يأكلون أكلهم ويلبسون ملبسهم ، دائمي الذكر لله بألسنتهم ! ولكنهم لم يكونوا يعرفون من روح الإسلام أي شيء ولو يتثقفوا به ثقافة عالية ، أنهم كانوا يحاولون أن يجبروا كل كسر في الإسلام بالصلاة والصيام ! قاصري النظر ، يتعبدون بالظواهر ويحمدون عليها وهم يجهلون حقائقها ... ولذلك فهم كانوا يشكلون أكبر الخطر على الإسلام ويصبحون سداً دون فهم معانيه ... ولذلك نرى الإمام (علیه السلام) يفتخر في التاريخ بأنه هو الذي أدرك الخطر الذي كان يصيب الإسلام من ناحية هؤلاء المتقدمين الجامدين ، وأن جباههم الساجدة وملابسهم الزاهدة وألسنتهم العابدة لم تستطع أن تعمي بصيرته عن إدراك خطرهم على الإسلام والمسلمين ، وأنهم إذا أهملوا لما يريدون كانوا يجرون بالدين إلى الجمود على الظواهر والقشور والحجر على الأفكار ...

ص: 124

نعم ! لا فخر في هذا إلّا لعلي (علیه السلام) ، فأي روح سواه لا تتزلزل أمام تلك الوجوه ؟! ثم أي يد ترتفع لتنزل على مفارقهم بالسيف ثم لا ترتعد ؟! اللهم إلّا بد الحق علي (علیه السلام)

ص: 125

ص: 126

القسم السادس

اشارة

الحكمة والموعظة الحسنة

مواعظ لا نظير لها !

مقارنة بينها وبين سائر المواعظ و النصائح

الحكمة والموعظة الحسنة

الموعظة والخطابة

الموعظة من أهم أبواب نهج البلاغة

مواضيع وعظه عليه السلام

لنتعرف على منطق الإمام عليه السلام

التقوى

التقوى : وقاية ، لا قيود

التقوى تقي الإنسان ، والإنسان يحافظ عليها

الزهد

الزهد ، والرهبنة

مسألتان :

أصول الزهد في الإسلام

الزاهد ، والراهب

الزهد ، والإيثار

الزهد ، والمساواة

الزهد ، والتحرر

الزهد ، والمعنوية

هل الدنيا والآخرة ضرتان ؟ !

الزهد : قلة المؤونة وكثرة المعونة

ص: 127

ص: 128

مواعظ لا نظير لها

إن المواعظ في (نهج البلاغة) من أكبر أبوابه وأوسعها ، فإنها تستغرق نصفاً من مجموعة تقريباً ، ولذلك فقد اشتهر هذا الكتاب بهذا الباب أكثر من سائر الأبواب .

وإذا تجاوزنا مواعظ القرآن الكريم و الرسول العظيم (%) ، و التي تعد كأصول لمواعظ نهج البلاغة ، كانت المواعظ في هذا الكتاب مما لا نظير له في غيره .

وقد مرّ على صدور هذه المواعظ أكثر من ألف عام، وهي بعد تؤدي دورها الخارق وتؤثر أثرها الغريب ! فإن هذه الكلمات الحية الخالدة لم تفقد بعد أثرها الذي ينفذ في القلوب والألباب والأفئدة والعقول والبصائر فيهزها ، وفي العواطف والأحاسيس فيجريها دموعاً من العيون والأماق ! وسيبقى أثرها هذا النافذ ما بقيت للإنسانية نسمة تتنشق النسيم الغض وتتفهم معاني الكلمات والحروف !

مقارنة بينها وبين سائر المواعظ

لنا في الأدب العربي و الفارسي مواعظ كثيرة ، بلغت أوج الرقمي الفني و اللطف في اللفظ والمعنى ، في النثر والشعر .

فقي العربية: نرى أن قصيدة ( أبي الفتح البستي ) التي تبدأ بهذا البيت :

ص: 129

زيادة المرء في دنياه نقصان *** و ربحه غير محض الخير خسران

وقصيدة (أبي الحسن التهامي) التي أنشأها في رثاء ولده، والتي تبدأ بقوله :

حكم المنية في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرار

و أوائل قصيدة (البردة) للبوصيري المصري ، والتي تقول :

فإن إمارتي بالسوء ما اتعظت *** من جهلها بنذير الشيب و الهرم

إلى أن يقول :

ظلت سنة من أحيى الظلام إلى *** أن اشتكت قدماه الضر من ورم

نرى كلاً منها أثراً خالداً يسطع كالكواكب في سماء الأدب الإسلامي العربي ، ولا يحمد ضوره.

وفي الفارسية: ترى أن الشعر الوعظي لسعدي الشيرازي في كتابيه (کلستان ) و ( بوستان) قصائد بديعة و مؤثرة ، وهي في نوعها عمل أدبي نموذجي. إن بوستان سعدي مليء من هذه المواعظ الحية النابضة اليانعة و المثمرة ولعل من أعلى نماذجها ما جمعه و أودعه في ( الباب التاسع) منه : باب التوبة و سلوك الصراط المستقيم .

و هكذا بعض مواعظ المولوي في ( المثنوي ) .

وهكذا سائر الشعراء الفارسيين، ممن لا مجال لذكرهم الآن هنا .

إن في الأدب الإسلامي - أعم من العربي و الفارسي - حكماً ومواعظ سامية ، ولا يقتصر ذلك بهاتين اللغتين ، بل لهذا القسم من الأدب الإسلامي أثره الوضاء والروح السائد في سائر الغات الإسلامية ، كالتركية والأردوية وغيرها ...

والذي نظر في القرآن الكريم وكلمات الرسول العظيم و أمير المؤمنين وسائر الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، يرى أن نفس ذلك الروح قد تجلت وظهرت في هذه المواعظ الإسلامية العربية والفارسية .

وإذا تتبع من يعرف اللغات الإسلامية العربية والفارسية وغيرهما نماذج

ص: 130

المواعظ الدينية الإسلامية وجمعها ونشرها ، سلامية وجمعها ونشرها ، توضح من ذلك مدى تقدم المعارف والثقافة الإسلامية .

و أنا أعجب من أن نبوع الأدب الفارسي في الوعظ و الإرشاد والنصيحة لم ظهر إلّا في الشعر فقط ، أما في النثر فلا أرى للأدب الفارسي فيه أثراً بارزاً ، اللهم إلّا جملاً قصاراً من نثر ( کلستان ) أو من ( مناجاة الخواجة عبد الله الأنصاري) و أنا أعترف بأني لست من علماء هذا الفن، ولكني لا أجد فيما أعرف من نصوص الأدب الفارسي نصوصاً يعتد بها من النثر الوعظي تكون قد تجاوزت حدود الكلمات القصار إلى حد مجالس أو أمالي ولو كانت قصيرة ، ولاسيما إذا أردنا أن تكون تلك النصوص من نوع الانقاء العضوي والإنشاء المرتجل، ثم تكون قد جمعت و أثبتت في متون الصحف .

و إن ما نقل إلينا من مجالس المواعظ للمولوي المثنوي الرومي التبريزي أو سعدي الشيرازي ، التي كانوا قد ألقوها بصورة نصائح في مجالس ارشادهم لأصحابهم ، موجودة الآن بين أيدينا، ولكنا لا نرى فيها ذلك الرواء واللون الجميل الذي نلمحه في أشعارهم من نفس النوع أبداً ... فضلاً عما إذا أردنا أن نقارن بينها وبين مواعظ (نهج البلاغة) ، وهكذا ما كتب بصورة رسالة أو كتاب في هذا الموضوع مثل : (نصيحة الملوك - لأبي حامد الغزالي) أو (سياط السلوك - الأحمد الغزالي) أو (كيمياي سعادت - لمحمد الغزالي ) .

الحكمة ، والموعظة الحسنة

إن الموعظة الحسنة - كما جاء في القرآن الكريم - هي إحدى الأساليب الثلاثة للدعوة :

ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن.

والفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة : هو أن الحكمة يراد بها التعليم و الإرشاد و النصيحة ، أما الموعظة فيراد بها التذكير والفات النظر إلى ما هو يعرف

ص: 131

ويعلم ولكنه في غفلة أو تغافل أو تجاهل عنه ، فالحكمة يراد بها التنبيه، أما الموعظة فيراد بها الإيقاظ، والحكمة يراد بها مكافحة الجهل، والموعظة يراد بها مكافحة الغفلة و التغافل ، فالحكمة فكرة و تعقل ، أما الموعظة فهي لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ، و الحكمة تعلم ، والموعظة تذكّر ، والحكمة تزيد الإنسان وجداناً ذهنياً ، أما الموعظة فهي توقظ الذهن للإستفادة من الوجدان و الحكمة مصباح و سراج، أما الموعظة فهي الفات النظر إلى ذلك الضياء ، و الحكمة للفكرة ، والموعظة للتفكر ، و الحكمة ترجمان العقل ، و الموعظة ترجمان الروح والأحاسيس والعواطف .

ومن هنا يفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة أيضاً : بأن لشخصية الواعظ في الموعظة دوراً بارزاً ، أما الحكمة فهى ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها ، ولو من فم فاسق أو فاجر أو غادر أو خاسر أو كافر ! و الحكمة جوهرة يأخذها المؤمن أينما وجدها ولو في فم كلب أو سبع ! ففي الحكمة لا مانع من إختلاف الأرواح بين الناطق بها و السامع ، أما في الموعظة فلا بد من ارتباط بينهما واتصال كما في السلك الكهربائي بين السالب و الموجب ، وحينئذ يكون كما قيل : «إذا خرج من القلب دخل في القلب ، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان » .

الوعظ والخطابة

وهناك فرق بين الوعظ والخطابة أيضاً : فإن الخطابة تخاطب العواطف و الأحاسيس ، لكي تشيرها وتشور بها، أما المواعظ فهي وإن كانت تخاطب العواطف أيضاً ، ولكنها لأجل أن تؤثر فيها وتتسلط عليها و تخضعها . فالخطابة إنما تفيد فيها إذا كانت العواطف راكدة خامدة هامدة جامدة ، وأما الموعظة فهي ضرورية فيما إذا كانت الشهوات والأحاسيس عاتية طاغية لتهدئها وتسكنها والخطابة تثير أحاسيس الغيرة ، والحمية ، والحماية ، والثورة ، والعصبية ، والرفعة، والعزة ، والفتوة ، والمروءة، والشرف والكرامة ، والبر، والصلة ، والخدمة ... وتوجد فيها الحركة والنشاط. أما الموعظة فهي تهدىء من ثورة هذه الأحاسيس وتغير الضارة منها . والخطابة تخرج أزمة الأمور من يد العقل فتودعها بيد الأحاسيس و العواطف، أما الموعظة فهي تهدىء من فورة العواطف و تهيّء

ص: 132

الأرضية للمحاسبة و إمعان النظر في الأمور. و الخطابة تخرج بالإنسان إلى العالم العيني الخارجي، و الموعظة تدخل بالإنسان إلى نفسه وفكره. و كلاهما ضروريان للإنسان. و لذلك نرى في نهج البلاغة من كلا النوعين . و العمدة هي مراعاة موقعهما . وقد راعى الإمام (علیه السلام) هذا الأمر تماماً ، فأورد الخطابة المثيرة حيث يجب أن تثار العواطف و الأحاسيس فتطغى وتطيح بأسس الظلم والظالمين ، كما في خطاباته التي أوردها في صفين .

منها: حيث تسرع معاوية إلى الشريعة فامتلكها وضيق على المؤمنين و أميرهم الإمام (علیه السلام) . وكان الإمام (علیه السلام) يحذر من البدء بالقتال و يحاول أن يحل المشكلة عن طريق الكلمة الحكيمة ، لكن معاوية أبي عن الحل السلمي بالكلام واغتنمها فرصة للمضايقة الحربية ، فضاق الأمر بذلك على أصحاب علي (علیه السلام). فاضطر الإمام إلى أن يثير كوامن النفوس بخطاب حماسي يرد به العدو على أعقابه خاسئاً خاسراً ، فخطبهم و قال :

... قد استطعموكم القتال ، فأقروا على مذلة و تأخير محلة ! أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء ! فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ! ألّا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، و عمش عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية ... .

و عملت هذه الكلمات النارية عملها الحاد و المهيج ، فأشارت الدماء و الغيرة ، ولم يمسوا حتى ملكوا عليهم الشريعة دونهم ، و طردوهم عنها خساسئين خائبين !

اما مواعظ الإمام (علیه السلام) فقد كانت في أحوال أخرى .

سارت عجلة الفتوحات المتتالية في دور الخلفاء وعلى عهد عثمان بالخصوص بسرعة هائلة ، فكان من أثرها الغنائم الكثيرة غير المنتظمة ، و الثروة العظيمة التي ساعدت على إيجاد النظام الطبقي ( الأروستقراطي) الأشرافي والقبلي ، في إشاعة الفحشاء وفساد الأخلاق ورفاهية العيش والتنعم والجمال والكمال المادي دون المعنوي وعبادة المال ، بين مختلف طبقات المسلمين ، وبذلك عادت العصبيات القبلية ... وفي خضم هذه الغنائم والعصبيات ... كان الصوت الملائكي الوحيد

ص: 133

الذي يرتفع للوعظ والإرشاد ... هو صوت الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ثم صوت تلامذته المتأدبين بآدابه و المتربين بتربيته ، ثم لا شيء ...

و سنبحث في الفصول التالية في العناصر التي تشتمل عليها مواعظ الإمام (علیه السلام) ، من : التقوى ... والزهد .. والدنيا .. والقبر ... والقيامة ... وغيرها ...

الموعظة من أهم أبواب نهج البلاغة

إن (86) خطبة من مجموع (240) خطبة من نهج البلاغة ، خطب موعظة أو فيها موعظة . منها ثلاث خطب طويلة تختص بالموعظة : كالخطبة : (174) التي تبتدى بقول ( ع ) : انتفعوا ببيان الله ... و ( الخطبة القاصعة ) و ( خطبة المتقين : 191 )

وإن ( 25 ) كتاباً من مجموع (80) كتاباً من نهج البلاغة ، كتب مواعظ ! أو فيها موعظة ، ثلاث منها أيضاً كتب طويلة تختص بالموعظة : كالكتاب : (31) إلى ولده الإمام الحسن (علیه السلام) (أو محمد بن الحنفية - كما في ابن ميثم البحراني وتحف العقول) وعهده إلى مالك الأشتر النخعي حينها ولاه مصر ، والكتاب : (45) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وإليه على البصرة .

مواضيع وعظه (علیه السلام)

إن مواضيع وعظه (علیه السلام) مختلفة و متنوعة : فالتقوى ، والتوكل ، والصبر ، والزهد، والتحذير عن الاغترار بالدنيا، ورفاهية العيش ، وهوى النفس ، وطول الأمل ، والعصبية للعصبة ، والظلم والجور ، والتفرقة . والترغيب في الإحسان، والمحبة ، والأخذ بيد المظلومين، وحماية الضعفاء والمساكين والإستقامة ، والقوة والفتوة والمروءة، والشجاعة والبسالة والبطولة ، والوحدة ، والعبرة ، والفكرة ، والمحاسبة ، والمراقبة ، واغتنام العمر ، وتذكر الموت ، وشدائده ، وسكراته ، وما بعده ، وأهوال القيامة ... هذه هي العناصر التي أعبرت الإهتمام في كلام الإمام (علیه السلام) .

ص: 134

لنتعرف على منطق الإمام (علیه السلام)

انا إذا أردنا أن نعرف نهج البلاغة ، أو الإمام (علیه السلام) خطيباً واعظاً وناصحاً مشفقاً، أو مدرسته الإرشادية ، كي نستفيد من ذلك المنبع الفياض ، لا يكفينا أن نعدّد المواضيع والعناصر المطروحة في نهج البلاغة فقط ، لا يكفينا أن نعلم أن الإمام (علیه السلام) قد تكلم في نهج البلاغة في التقوى و التوكل والزهد والدنيا مثلاً ... بل يجب علينا أن نتعرف على تلك المفاهيم الخاصة التي كان يفهمها الإمام (علیه السلام) من هذه المعاني ، وأن نعرف فلسفته التربوية الخاصة في تربية الإنسان المسلم، وترغيبه في الطهارة و النجاة من أسر الأرجاس و الأنجاس ، والتحرر المعنوي عن ربقة الدنايا .

إن هذه الكلمات التي عددنا عناصر الوعظه (علیه السلام) كلمات تجري على جميع الألسن و تسمع من كافة الأفواه ، و لاسيما السنة أولئك الذين يتخذون لأنفسهم سمة الناصح الأمين ، ولكن لا يتساوى الجميع في ما يرمون إليه منها ، وقد تكون مفاهيمهم منها تتجه إلى نواح متناقضة أو مضادة أو مختلفة على الأقل ، ومن الطبيعي أن تكون نتائجها أيضاً مختلفة .

ولهذا يجب علينا أن نتكلم بشيء من التفصيل في مفاهيم هذه العناصر في مدرسة الإمام (علیه السلام) . ولنبدأ حديثنا هذا بالكلام حول التقوى.

التقوى

إن كلمة ( التقوى ) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً ، فليس هناك كتاب يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة ، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى أعتني به أكثر من التقوى . فما هي التقوى ؟

يفترض الكثيرون : أن التقوى من الوقاية ، و الوقاية تعني الحذر والإحتراز والبعد والإجتناب ، فهي إذن سيرة عملية سلبية ، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل !

وعلى هذا التفسير تكون التقوى :

ص: 135

أولاً : أمراً منتزعاً عن السيرة العملية .

و ثانياً : هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية .

و ثالثاً : كلما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل .

و لهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل ، ويجتنبون كل رطب وجامد و حار وبارد ، حرصاً على سلامة تقواهم !

ولا شك أن الحذر و الإجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل ، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب و الإيجاب و النفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والأحجام . بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلّا عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلّا بعد النفي ، وليست كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، إلّا كلمة جامعة بين النفي والإثبات ، ولا يمكن إثبات التوحيد إلّا بعد نفي ما سوى الله تعالى. ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان ، أي أن كل طاعة تتضمن معصية ، وكل إيمان يشتمل على كفر : (... فمن يكفر بالطاغوت ، ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ...)

ولكن ...

أولاً : أن البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها ، ولا تصح إلّا أن تكون مقدمات للإرتباط بمقابلاتها . ولذلك فلا بد أن يكون للإبتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً . فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف ، ليست مقدسة ولا يحمد عقباها.

وثانياً : أن مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر ( حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف) فإن التقوى في نهج البلاغة : « قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب». فالحذر المعقول و المنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية ، وهو - من ناحية أخرى - من لوازم حالة التقوى ونتائجها .

إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً ، وتصونه من الإنحراف والشطط ، ومن لم يحظ بهذه الحالة لا بد له - إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية - من أن يبعد

ص: 136

نفسه عن أسبابها . وحيث إن البيئة الإجتماعية مليئة من أسباب المعاصي فلا بد له من أن يختار الإنزواء التام !

وعلى هذا : فلا بد إما أن نكون أتقياء وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الإجتماعية بصورة مطلقة ! أو أن نرد المجتمع فنودع التقوى إطلاقاً او على هذا : كلما كان الشخص أكثر انزواء وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع !

أما إذا حصلت الروح الإنسانية على ( ملكة التقوى ) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع و الإعتزال . إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع ، فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي ، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده ، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس ، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم مما هم فيه من الألم الممض .

وما جاء في ( کلستان) سعدي الشيرازي نموذج من الطبقة الأولى :

رأيت يوماً عابداً في الجبال *** مقتنعاً عن دهره بالرمال

فقلت : هل تنزل يوماً لكي *** ترى البلاد والمنى والمنال

فقال لي : لا ، أن فيها لِمَن *** بنات حوا كل ذات الجمال

وحينما يكثر وحل الطريق *** يزلق فيه الفيل قبل الرجال (1)

أما نهج البلاغة ، فإنه يصف التقوى - كما وصفناها نحن - بأنها قوة معنوية روحية ، تحصل على أثر التمرين والممارسة ، ولها آثار ونتائج ، منها تيسير الحذر من الذنوب .

... ذمتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ! إن من صرحت له العبر عما بين ب

ص: 137


1- الأصل : بديدم عابدی در کوهساري *** قناعت کرده از دنیا بغاری چرا - گفتم - به شهر اندر نيائي *** که باری بند از دل بركشاني ؟ بگفت انجا پریرویان نغزند *** چوگل بسیار شد بیلان بلغزند ! والتعريب للمعرب

يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات ... ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار .. ألّا وإن التقوى مطايا ذُلّل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة ... (1)

فقد وصف الإمام (علیه السلام) التقوى في خطبته هذه بأنها : حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها ، وإن من لوازم أتباع الهوى وترك التقوى من انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها ، وأن فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه ، بل المركب هو الذي بسير حيث يشاء ويهوى ، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة ، كراكب ماهر على فرس مدرب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة ، فيطيعه الفرس بكل بر .

... إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافتة ، حتى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم (2)

وفي هذه الكلمة يصرح الإمام (علیه السلام) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره .

وعلى هذا : فليست التقوى هي نفس الحذر ، ولا نفس الخوف من الله بل قوة مقدسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها .

فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة ، وفي غد الطريق إلى الجنة (3)

نرى أن الإمام (علیه السلام) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية و النفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح ، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر و الطهر ، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس.

وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع ، ولعل في هذا القسم كفاية ، ولا ضرورة في ذكر أكثر من هذه النماذج.89

ص: 138


1- نهج البلاغة : الخطبة : 16
2- نفس المصدر : 112
3- نهج البلاغة : المخطبة : 189

التقوى : وقاية لا قيود

كان الكلام في عناصر مواعظ نهج البلاغة ، وقد بدأنا الحديث بالكلام عن التقوى ، ورأينا أن التقوى في نهج البلاغة : قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام، إقدام على القيم المعنوية ، وأحجام عن الدنايا المادية . إن التقوى في نهج البلاغة : حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلط بها على نفسه ويمتلكها .

ولقد أكد الإمام (علیه السلام) في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى : وقاية لا قيود ... فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين ( الوقاية ) و ( القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر عن القيود والخروج عن الحدود ... ولا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان ، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر ، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان .

يقول الإمام (علیه السلام) :

... اعلموا عباد الله : أن التقوی دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل ، لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه . ألّا و بالتقوى تقطع حمة الخطايا (1)

وكأنه (علیه السلام) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات ، ويقول : اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى . ويصرح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشأها.

... فإن تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاة من كل هلكة ... (2)

واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية ، تحرره من أسر عبودية الهوى ، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة ، وهكذا تحرق 8

ص: 139


1- نهج البلاغة : الخطبة : 157
2- نفس المصدر : 228

عروق العبوديات المادية ، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة ، بينما لا يخضع النقي لأعباء هذه العبوديات .

ولقد بحث الإمام (علیه السلام) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً ، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها ، وإنما نقصد هنا أن يتضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة ، ليتبين لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة .

وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة : أثران خطيران : أحدهما : البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة .

والآخر : القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق و الشدائد .

وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر وهي - بالإضافة إلى ذلك - خارجة عما نهدف إليه من هذا البحث هنا ، وهو : بيان المفهوم الواقعي للتقوى ولذلك نكتفي هنا من هذا البحث بهذا المقدار .

ولكن بودي أن أتحدث هنا عما يشير إليه نهج البلاغة من أن :

التقوى تقي الإنسان ، والإنسان يحافظ عليها

بل يصرّ نهج البلاغة على أن التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن ، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها، فإن التقوى وان كانت واقية للإنسان فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها ! وليس هذا من ( الدور المحال الباطل) بلي هو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان و الثياب ، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق والسرقة، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال : (... ولباس التقوى ذلك خير ... ) (1) وقال الإمام علي (علیه السلام) بهذا الصدد :

ص: 140


1- سورة الأعراف : 27

... أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم ... ألا فصونوها وتصونوا بها ... (1)

وقال (علیه السلام) : « ... أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنها حق الله عليكم ، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله ، وتستعينوا بها على الله ... (2)

الزهد

وهو الموضوع الآخر من مواضيع المواعظ في نهج البلاغة ، ولعله بعد التقوى من أكثر المواضيع تكراراً وتأكيداً فيه.

والزهد : كلمة ترادف : ترك الدنيا ، وفي نهج البلاغة الكثير من ذم الدنيا والدعوة إلى الأعراض عنها. ينظري أنه من أهم المواضيع التي يجب أن تفسّر وتوضح مع الإلتفات إلى مجموع كلمات الإمام (علیه السلام) بهذا الصدد . وإذا لاحظنا أن الزهد مرادف لترك الدنيا فهو إذن من أكثر المواضيع بحثاً في نهج البلاغة قطعاً .

ونبدأ البحث هنا بالكلام حول كلمة الزهد ، فنقول :

إن كلمة ( الزهد ) إذا ذكرت بدون متعلق فهي تقابل ( الرغبة ) فإن الزهد يعني : الأعراض ، والرغبة تعني : الإتجاه والإقبال والميل والإنجذاب .

والاعراض نوعان :

طبعي : وهو عدم إقبال الطبع على شيء معين ، كطبع المريض إذ لا يشتهي الطعام والشراب . وواضح أن الاعراض هذا ليس من الزهد المراد.

وروحي عقلي قلبي : وهو ضد الطبعي ، إذ الطبع هنا يرغب في الأشياء كيفما يشاء ، ولكن الإنسان - بدافع من فكره وأمله في الكمال والسعادة الدائمة - لا يجعلها مورد هدفه وقصده . إذ أن قصده وهدفه وأمله المطلوب - وهو الكمال -

ص: 141


1- الخطبة : 189
2- نهج البلاغة : الخطبة : 189

أمور أسمى من هذه المشتهيات النفسية الدنيوية. سواء كانت تلك الأمور التي يهدف إليها من المشتهيات الأخروية ، أو لم تكن منها بل كانت من نوع الفضائل الأخلاقية : كالعزة و الشرف ، والكرامة ، والحرية الواقعية ، أو من نوع المعارف الإلهية والمعنوية : كذكر الله ، وحب الله ، والتقرب إليه ، وطلب مرضاته سبحانه . وهذا هو الزهد المقصو.

فالزاهد إذن : هو الذي اجتاز في نظره الدنيا المادية إلى الكمال المطلوب وأسمى المني ، وتوجه في نظره إلى أمور هي من نوع ما ذكرناه . فعدم الرغبة فيه ليس من الناحية الطبعية ، بل من الناحية الفكرية والمني والأمال.

وقد عرف الإمام (علیه السلام) الزهد في نهج البلاغة في موردين ، لا نصل منهما إلّا إلى ما قلناه .

الأول : في الخطبة (79) يقول (علیه السلام) : « ... أيها الناس ! الزهادة قصر الأمل ، والشكر عند النعم ، والورع عند المحارم ... .

الثاني : في الحكمة : ( 439) يقول (علیه السلام) :

... الزهد بين كلمتين من القرآن : قال الله سبحانه : « لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه » .

وإذا لم يكن الشيء هو كمال المطلوب بل لم يكن المطلوب ، بل كان وسيلة إليه ، فلا تحوم حوله طيور الأمال بل ولا تجنح إليه ، وحينذاك فلا يوجب أقباله المسرة الشديدة ، ولا إدباره الأسى الشديد.

ولكن يجب علينا أن ننظر :

هل أن الزهد والأعراض عن الدنيا الذي يؤكد عليه نهج البلاغة الإمام (علیه السلام) تبعاً للقرآن الكريم ، صفة أخلاقية روحية فحسب ؟ هل أن الزهد كيفية روحية فقط أم أن لها جوانب عملية أيضاً ؟ هل أن الزهد هو أعراض الروح أم أعراض

عملي وروحي ؟

وعلى الثاني، فهل أنه أعراض عملي عن المحرمات فحسب ( كما في

ص: 142

الخطبة : (79) أم أكثر من المحرمات ( كما في حياة الإمام (علیه السلام) والرسول (%) ؟

و إذا كان الثاني ، فما هي فلسفته ؟ وما هي خواص الحياة مع الأعراض عن نعيمها ؟

ثم : هل يصح العمل به مطلقاً ، أم أنه إنما يصح بشرائط خاصة معينة ؟

ثم : هل يتلاءم هذا مع سائر التعاليم الإسلامية ، أم لا ؟

ثم : إذا كان الزهد مبنياً على أساس اختيار أهداف غير مادية ، فما هي تلك الأهداف في الإسلام ، وما هو بيان نهج البلاغة بهذا الصدد ؟

هذه هي مجموعة الأسئلة التي حدث عنها الإمام في نهج البلاغة في موضوع الزهد ، ويجب أن تتضح لنا . وسنبحث عنها في الفصول التالية .

الزهد ، والرهبنة

قلنا : إن الزهد حسب التعريف والتفسير الذي يستفاد من نهج البلاغة : هو حالة روحية ، وإن الزاهد بماله من العلائق الأخروية والمعنوية لا يعتني بمظاهر الحياة المادية .

ونقول : إن الزهد وعدم الإعتناء بمظاهر الحياة المادية لا ينتهي بالإحساس والفكر والضمير فقط ، بل أن الزاهد زاهد في حياته العملية أيضاً ، فهو قانع فيها محترز عن التنعم باللذائذ والكماليات المادية. وليس الزاهد هو من كان في تفكيره معرضاً عن الأمور المادية فقط ، بل هو من يحذر في مرحلة العمل عن التنعم باللذائذ والكماليات ويكتفي من الماديات بالحد الأقل من التمتع بها . وليس الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) زاهداً لكونه لم يكن يرغب في الدنيا بقلبه فقط، بل لأنه كان يأبي عن التمتع باللذائذ ، وكان - كما يقولون - تاركاً للدنيا معرضاً عنها في الفكر والعمل .

مسألتان :

وهنا مسألتان تطرحان نفسهما على ذهن القارىء الكريم ، لا بد أن نجيب عليهما :

ص: 143

المسألة الأولى : انا تعلم أن الإسلام يخالف الرهبنة المسيحية ، ويعدها من بدع الرهبان والقسُس (1) وقد قال رسول الله (%) : « لا رهبانية في الإسلام» (2)، وحينما أخبروه : أن جماعة من صحابته قد أعرضوا عن الحياة وكل شيء فيها ، وأقبلوا على الإعتزال عن المجتمع وعبادة الله وحده . عاتبهم على حالتهم تلك وقال لهم : أنا نبيكم ، ولست أفعل كما تفعلون أنتم ! وبهذا أعلن رسول الله (%) : أن الإسلام دين حيوي إجتماعي لا رهباني !

أضف إلى ذلك : أن تعاليم الإسلام تشمل جميع جوانب الحياة ، وهي في المسائل الإجتماعية ، والإقتصادية ، والسياسية ، والأخلاقية ، إنما تبتني على أساس كرامة الحياة الإنسانية ، لا الاعراض عنها !

الفلسفة

أضف إلى ذلك ؛ أن الرهبنة والاعراض عن الحياة يتنافى مع الفلسفة الإسلامية ، المتفائلة في شأن الكون والوجود ، إذ ليس الإسلام كبعض الأديان الأرضية المختلفة والفلسفات المصطنعة التي تتشاءم من الكون والوجود، أو تقسم الخلقة إلى قسمين : خیروشر ، حسن وقبيح ، ظلام وضياء ، حق وباطل ، صحيح وغير صحيح ، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون !

المسألة الثانية: هي أنه فضلاً عن أن الزهد هو الرهبنة التي تتنافى مع الفلسفة الإسلامية ، نقول : ما فلسفة الزهد في الإسلام ؟ ولماذا يزهد الإنسان في الحياة ؟ لماذا يأتي إلى الحياة ويرى بعينه بحور النعم الإلهية ثم هو يمرّ عليها مرور الكرام ولا يبل منها الأقدام ؟

وعلى هذا : أفلا يمكننا أن نتهم هذه التعاليم التي نراها في الإسلام في الزهد والرهبنة ، بأنها من البدع التي دخلت الإسلام بعد صدره الأول من الأديان الأخرى كالمسيحية والبوذية ؟! إذن فما نقول فيما جاء ذلك في نهج البلاغة ؟! .

ص: 144


1- سورة الحديد : 27
2- راجع بحار الأنوار المجلد الخامس عشر ، جزء الأخلاق ، الباب الرابع عشر : ( باب النهي عن الرهبانية ) وللمولوي المثنوي الرومي التبريزي في الدفتر السادس من كتابه ( المثنوي) نظم هذا الحديث النبوي الشريف .

بل ماذا نقول في حياة الإمام علي (علیه السلام) ، ومن قبله حياة رسول الله (%) ، ويم نفسر ذلك ؟ وكيف توجهه ونؤوّله ؟!

والحقيقة في الجواب أن نقول : إن الزهد الإسلامي شيء والرهبنة شيء آخر .

فالرهبنة : انقطاع عن الخلق لعبادة الخالق ، على أساس التضاد بين عمل الدنيا والآخرة ، فإما العبادة ورياضة النفس في الدنيا لاستكمال نعيم الآخرة ، وإما الحياة الدنيا للحياة فيها فحسب ، وعلى هذا فالرهبنة تستلزم الإنقطاع عن الحياة و المجتمع والمسؤولية أيضاً . وهذه هي الرهبنة المقيتة .

أما الزهد الإسلامي : فهو وان كان يستلزم إختيار حياة ساذجة غير متكلف فيها ، لكنه أساس الاعراض عن التنعم والتجمل بلذائذ الحياة وكمالياتها المادية الإضافية ، لكنه - في نفس الوقت - علاقة إجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الإجتماعية في الإسلام، ومن أجل الخروج الصحيح عن عهدة أدائها لوجهها .

إذن : فليست فلسفة الزهد في الإسلام هي نفس تلك الفلسفة في الرهبنة المسيحية المبتدعة. إذ ليس في الإسلام مضادة بين الحياتين ، بل ولا تجزئة بينهما ، ولا بين العمل لهما . بل إن الإسلام يرى العلاقة بين هاتين الحياتين علاقة ظاهر الشيء بباطنه ، والشعار بالدثار ، والجسد بالروح ، لا وحدة ، ولا مضادة ، وإنما الإختلاف بينهما في الكيفية . وفي الحقيقة : كل ما كان صالحاً لتلك الحياة فهو صالح لهذه الحياة أيضاً ، وكذلك كل ما كان صالحاً لهذه الحياة - واقعاً - فهو صالح لتلك الحياة الأخرى أيضاً ، ولهذا وجب الترابط بين العمل الصالح في هذه الحياة لتلك الأخرى بالنية ، ولذلك : فلو عمل المرء عملاً يتفق مع المصالح السامية هذه الحياة ولكنه يخلو من النية الصالحة المرتبطة بتلك الحياة ، عدّ هذا العمل دنيوياً أما إذا كانت الناحية الإنسانية في العمل تنطوي على أهداف أسمى من الدنيا رامية إلى الآخرة ، فذاك العمل عمل أخروي مقرب محبوب راجح ، إما واجب أو مستحب مندوب إليه.

فالزهد الإسلامي - كما بيّنا - تكييف خاص للحياة ينشأ من إدخال معان

ص: 145

من المثل والقيم الإخلاقية القيمة في الحياة الإجتماعية للفرد المسلم ، وهو - كما يظهر من النصوص - يستقر في صميم الحياة الإجتماعية الإسلامية على أسس ثلاثة :

أصول الزهد في الإسلام

1 - إن الإفادة المادية من مواد هذه الحياة و التمتع بنعيمها الفاني ليس هو العامل الوحيد لتأمين سعادة الإنسان ، بل لا بد من أمور معنوية أخرى لا تكفي الحياة المادية بدونها لإسعاد الإنسان ، فيها أو فيما بعدها .

2 - أن مصير سعادة الفرد لا ينفك عن مصير أمته ، فإن له - بحكم إنسانية - سلسلة من العلائق العاطفية ، والإحساس بالمسؤولية ، لا يستطيع معها أن تكون له راحة وطمأنينة فارغاً عن قلق الآخرين واضطرابهم.

3 - إن للروح أصالتها - كما للبدن - ولها آلام ولذائذ ، وهي تحتاج - كالبدن بل أكثر منه - إلى الغذاء والدواء ، والطعام والشراب ، والتربية والتهذيب والتأييد والتسديد. وهي لا تستغني عن الجسد وسلامته وقوته وقدرته. ولكن

انغماس الإنسان في اللذائذ المادية والإقبال على التنعم والتجمل الجسماني ، لا يدع مجالاً لتقوية الروح، بل يوجد نوعاً من المضادة بين النعم المادية والروحية .

ولیست نسبة الروح إلى البدن - كما يتصورها البعض - نسبة الألم إلى النعيم ، فليس كل ما يرتبط بالروح المأ وكل ما يرتبط بالبدن نعيماً ، إذ أن اللذائذ الروحية قد تكون أصفى وأعمق وأدوم من لذات البدن ، وإن الإقبال الشديد على لذائذ البدن لما يقلل من الراحة واللذة الواقعية للبشر ، ولهذا ترانا لا نستسيغ التخلي عن اللذات الروحية حينما نواجه الحياة ونريد أن نكسبها رونقاً وصفاء وبهجة وجلالاً ، ونصنع منها جمالاً وكمالاً .

وإذا التفتنا إلى هذه الأصول الثلاثة للزهد الإسلامي الصحيح ، اتضح لنا كيف أن الإسلام حين ينفي الرهبنة يضع زهده في صميم الحياة وقلب المجتمع.

وسنوضح في الفصول التالية بعض النصوص الإسلامية التي تبتني على هذه الأسس الثلاثة .

ص: 146

الزاهد ، والراهب

قلنا : إن الإسلام دعا إلى الزهد ، وأدان الرهبنة .

ولا شك أن الزاهد والراهب يبتعدان كلاهما عن التنعم باللذائذ ، إلّا أن الراهب يفر بذلك عن المجتمع ومسؤولياته ، ويعدهما من أمور الدنيا الدنية ، ويلجأ منهما إلى الصوامع والأديرة وسفوح الجبال، أما الزاهد فهو يقبل على المجتمع وآماله ومسؤولياته . وإن الزاهد والراهب كلاهما يتجهان إلى الآخرة ، إلا أن الزاهد يتجه إلى الآخرة والمجتمع ، أما الراهب فهو يتجه إلى الآخرة راغباً عن الدنيا وما فيها ومن فيها . وإنهما يبتعدان عن اللذائذ ولكن لا سواء ، فإن الراهب يرهب من الزواج والإنجاب أو قل من النظافة والسلامة النفسية ! أما الزاهد فهو يعد و «النظافة من الإيمان » و « النكاح من الدين»، وتكثير النسل ( الطيب ) من الوظائف الدينية والإجتماعية ، وإن الزاهد والراهب كلاهما يتركان الدنيا ، إلّا أن الزاهد يترك الدنيا بترك الإنهماك بالتنعم والتمتع والكماليات ، ويحذر من أن يحبها منتهى آماله وأكمل مناه ، أما الراهب فإنه يترك الدينا يترك العمل فيها و تحمل مسؤولياتها ... ولهذا نقول : إن الزاهد يعيش في صميم الحياة والروابط الإجتماعية ، ولا يحسب زهده مما يتنافى مع تحمل المسؤوليات الإجتماعية ، بلى إن الزهد لديه خير وسيلة لتعهد المسؤوليات على الوجه الأكمل والأحسن ، بخلاف الراهب .

وإن هذا التفاوت بين سيرة الراهب والزاهد إنما ينشأ من الإختلاف في وجهة النظر إلى الحياة .

إن الراهب : يرى الحياة الدنيا والآخرة عالمين مستقلين لا علاقة بينهما ، ويحسب أن السعادة في هذه الحياة غير مرتبطة بسعادة الآخرة ، بل هما متضادان لا يجتمعان ! ومن الطبيعي لديه - حينئذ - أن يكون العمل المفيد السعادة الدنيا يغاير العمل المفيد لها في الآخرة ، وان وسائل السعادة في الدنيا تغایر بل تباین وسائل السعادة في الآخرة ، بل لا يمكن - لديه - أن يكون الشيء الواحد والعمل الواحد وسيلة لسعادة الدارين أبداً !

أما الزاهد : فهو يرى أن الدنيا مزرعة الآخرة فهما مرتبطان . وأن الذي

ص: 147

یهب لهذه الحياة الدنيا الأمن والصفاء ، والراحة والهناء ، هو : أن يرد قصد تلك الحياة في أمور هذه الحياة ، وأن ما يوجب السعادة لتلك الحياة هو : الإتقان في العمل بمسؤوليات هذه الحياة ، وأن يكون العمل بها قريناً بالإيمان والطهارة والتقوى .

فالحقيقة : أن هناك مغايرة بين فلسفة الزهد عند الزاهد في الإسلام ، وفلسفة الرهبنة للراهب في المسيحية . وأن الثانية ليست إلّا تحريفة أوجدها الإنسان بجهله أو سوء نيته في تعاليم الزهد للأنبياء السابقين .

وسنوضح فيما يلي فلسفة الزهد في الإسلام بالنظر إلى النصوص الإسلامية ، وعلى أساس هذا المفهوم الذي شرحناه من الزهد .

الزهد والإيثار

من فلسفة الزهد في الإسلام : الإيثار . وهو ضد الأثرة ، والأثرة : تقديم الشخص لنفسه ومصالحها ومنافعها على غيره ، والإيثار : هو تقديم الشخص غيره على نفسه .

والزاهد يختار العيش بكل بساطة وقناعة ، ويضيق على نفس في الحياة ، من أجل راحة الآخرين ، وإنما يهب ماله للفقراء لأنه إنما يلتذ بنعم الحياة حينهما لا يرى معه فقيراً ينام بلا عشاء ، فهو يلتذ بإعطاء الآخرين وإطعامهم وكسوتهم أكثر من راحة نفسه وطعامها وكسائها ، و إنما يتحمل الجوع والحرمان و العناء من أجل راحة الآخرين وهنائهم . وهذا هو الإيثار.

والإيثار من أعظم مظاهر الجلال والجمال والكمال الإنساني المأمول ، وإنما يستطيع الرقي إلى هذه القمة الشافحة من العمل الصالح أناس عظماء من أمثال علي والزهراء وأبنيهما السبطين الحسنين أصحاب الكساء ، الذين نزلت في شأنهم هذا ( سورة هل أتى) مرآة صافية باقية تعكس للأجيال المتعاقبة ذلك الكمال المتمثل في هؤلاء العظماء الذين : «يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً»، وهم يقولون : «إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً» .

ص: 148

وقد نالوا بهذا الإيثار أكمل الكرم والسخاء والجود ، إذ بذلوا ذلك الميسور من أقراص الشعير، مع عسرهم الشديد ، ولم يراعوا في ذلك القريب والبعيد، فأعطوا الأسير كما أعطوا اليتيم والمسكين . ولذلك دوى هذا العمل الصالح من هؤلاء العظماء في السماء ، حتى نزل في حقهم قرآن يتلى كل صباح ومساء !

ودخل الرسول الأعظم (%) ذات يوم على ابنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها ، فرأى على باب بيتها ستاراً وعلى يديها معاضد من فضة ، فأنكر ذلك بوجهه حتى عرفته منه ، ورجع عنها فلم يدخل عليها . فلما رجع خلعت الستار وشدت فيه المعاضد وبعثت بها إلى أبيها رسول الله ليفعل بها ما يشاء . وفرح رسول الله بذلك وقال : « فعلت ، فداها أبوها » !

وكانت تقوم في محرابها لربها حتى تورم قدماها، وهي تدعو لجيرانها ، فسألها ابنها الحسن (علیه السلام) يوماً : أماه ! مالي أراك تدعين الجيراننا ولا تدعين لنا ؟ فقالت : « الجار ، ثم الدار » .

ويصف القرآن الكريم أنصار رسول الله (%) في مدينته الطيبة فيقول ؟ (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ).

والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) يصف المتقين في خطبته لهمام فيقول :

نفسه منه في عناء و الناس منه في راحة

وبما أن فلسفة الزهد مبنية على أساس الإيثار ، والإيثار يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فكذلك الزهد يختلف هذا الإختلاف باختلاف الزمان والمكان ، إذ أن الإيثار في مجتمع فقير كالمدينة على عهد الرسول (%) يشتد أكثر منه فيها نفسها على عهد حفيده الإمام الصادق (علیه السلام) . ولعل هذا هو سر إختلاف السيرتين : علي ورسول الله في جانب وأبناؤهما الأئمة الأطهار في جانب آخر .

إن زهد هؤلاء العظماء كان قائماً على فلسفة الإيثار ، وأن الزهد الذي يبتنى على فلسفة الإيثار ليس من الرهبنة في شيء ، بل هو عظمة إنسانية فذة نابعة من أنبل عواطف الإنسانية، وهو ينتج أقوى الروابط الإجتماعية على الإطلاق .

ص: 149

الزهد و المواساة

و من فلسفة الزهد مواساة المحرومين و مشاركتهم في حياتهم، فإن هؤلاء حينما يقيسون أنفسهم بأمثالهم من بني الإنسان وهم أغنياء يحسون في قرارة نفوسهم بالفقر و الحرمان من ناحية ، و تأخرهم عن أمئالهم من الناس من ناحية أخرى. ولا يستطيع الإنسان بطبعه أن يرى غيره ممن لا فضل له عليه يأكل ويتمتع و يفرح و يمرح ، ثم يقف هو جائعاً حزيناً كثيباً وقفة المتفرج.

وهنا يحس المتدين بمسؤولية ملقاة على عاتقه تثقل كاهله، أمام هذا الواقع السيء، فهو يشعر في قرارة نفسه الصافية بنداء الضمير والوجدان الإنساني الحي الذي عبر عنه الإمام (علیه السلام) فقال : « أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم » فيشعر بمسؤوليته تجاه هذا الواقع السیّيء وفاء بما أخذ الله عليه وما عاهد عليه الله إذ آمن بالله وكتبه ورسله . وإذ لم يستطع ذلك بيد أو لسان فلا أقل من الإيثار ومقاسمة ما عنده لهؤلاء الفقراء المعوزين ، سعياً في سعادتهم وترسم وأقعهم المقيت - كما فعلي ذلك ثلاثة من أئمتنا : الحسن والحسين وعلي بن الحسين (علیه السلام) - وإذ لم يستطع ذلك أيضاً لكثرة الضحايا في هذا الميدان فلا أقل من أن يضمد جراح هؤلاء الضحايا - ضحايا قسوة المجتمع الظالم - ببلسم المواساة ومشاركتهم في آلامهم وهمومهم، والتساوي معهم في فقرهم .

وإن المواساة الآخرين في أحزانهم أهمية عظمى ، خصوصاً في حياة أئمة الأمة ، أولئك الذين تنظر إليهم الأمة لتقتدي بأفعالهم وأقوالهم . ولذلك نرى أن الإمام (علیه السلام) قد زهد في حياته في الخلافة أكثر من أي وقت مضى، وكان يقول في

ذلك.

إن الله فرض على أئمة العدل : أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره (1) .

ص: 150


1- الخطبة : 207 - أي لا يهيج به ألم الفقر فيهلكه .

ويقول (علیه السلام) في كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف الأنصاري ).

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون ( اسوة ) لهم في جشوبة العيش ... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع ! أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ؟ أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تموت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد (1)

نعم ، كان الإمام (علیه السلام) هو هكذا ، ولكنه كان إذا سمع برجل يضيق على نفسه كان ينكر عليه ذلك .

فقد شكا إليه العلاء بن زياد الحارثي الهمداني أخاه عاصم بن زياد ، فقال له وماله ؟ قال : لبس العباءة ، وتخلى عن الدنيا ! قال : عليّ به . فلما جاء قال له :

يا عُدي نفسه ! لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ؟ أترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على الله من ذلك !

فقال : يا أمير المؤمنين ! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك ؟ !

فقال (علیه السلام) : ويحك أ إني لست كانت ، أن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ... (2) .

وفي ( أصول الكافي) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال :

إن الله جعلني إماماً لخلقه ، ففرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس ، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه (3) .

ص: 151


1- الكتاب : 45 - نحن : أي تميل وتشتهي والقد : اللحم المجفف .
2- الخطبة : 207
3- أصول الكافي ج 1 ط آخوندي .

وقال رجل لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) : أصلحك الله ! ذكرت أن علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن والقميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، وثري عليك اللباس الجديد ؟!

فقال له : « إن علي بن أبي طالب (علیه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه ، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به .

ونقرأ في حياة المرحوم الشيخ الوحيد أستاذ الفقهاء محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني (ره) .

إنه رأى ذات يوم زوجة أحد أبنائه وعليها ألوان زوجة أحد أبنائه وعليها ألوان من ملابس الأشراف يومئذ ، فأنكر ذلك على زوجها (السيد محمد إسماعيل) فتلا الولد هذه الآية على والده : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)

فقال المرحوم العلامة البهبهاني : إني لا أقول أنها محرمة ، فلا رهبانية في الإسلام ، ولكني أقول : بما أنا من علماء هذه الأمة وقادتها فلعينا مسؤولية خاصة ، وإن الفقراء منهم يتألمون حينما يرون نعمة الأغنياء، ومواساتنا الوحيدة لهم أن تكون على مستواهم فيقولون :

إن السيد معنا . فإن نحن انعزلنا عنهم إلى صفوف الأغنياء فقدوا من يواسيهم في آلامهم ، فإذا كان لا يمكننا أن نغيّر من حالهم فلا أقل من أن نسعهم بالمواساة لهم .

إذن : فهذه الزهد الناتج عن فلسفة المواساة - كما ترى بوضوح - لا يمت إلى الرهبنة بشيء وليس - كما يقولون - فراراً من المسؤولية وأعراضاً عنها ، بل هو المواساة لآلام الفقراء والضعفاء .

الزهد ، والتحرر

ومن فلسفة الزهد : الحرية والتحرر ، فإن بين الزهد والحرية روابط قديمة وقويمة .

ص: 152

إن الحاجة والافتقار ميزة ظاهرة ، والإستغناء ميزة الحرية .

إن أقوى الآمال في حياة الأحرار هو وضع الأنفال عن كاهلهم ، والخفة والنشاط في الحركة والتنقل. وإنما يجعل هؤلاء زادهم الزهد والقناعة ليقللوا بذلك من حوائجهم المادية ، فيطلقوا أنفسهم من أسر الأشياء والأشخاص وقيودهما.

إن الحياة المادية للإنسان - كسائر الحيوانات الأخرى - تحتاج إلى سلسلة من الأمور الطبيعية والضرورية التي لا بد منها، كالهواء للتنفس والأرض للسكن والطعام للأكل والماء للشرب والثوب للستر ، فالإنسان لا يستطيع أن يكتفي بذاته - على حد تعبير الحكماء - عن هذه الأمور و أمور أخرى كالنور والحرارة ، ولا أن يتحرر من قيودها تحرراً مطلقاً .

ولكن، هناك سلسلة من الحاجات ليست طبيعية ولا ضرورية ، وإنما حملت على الإنسان على مدى تاريخه الطويل من قبله هو أو من العوامل التاريخية والإجتماعية الأخرى ، وقد كانت عاملاً فعالاً في الحد من حريته شيئاً فشيئاً .

والأمور التي تحمل على الإنسان من الخارج بصورة قسرية للإضطرار السياسي مثلا - ليست في خطرها عليه كالأمور النفسية التي تعمل على أن تجره من إطاره الداخلي إلى إطارها الغريب ، وعلى هذا فإن أخطر القيود على الإنسان إنما

هو هذه القيود التي تعزله عن نفسه .

وترى الفلسفة الميكانيكية لهذه العوامل التي تؤدي إلى عجز الإنسان وضعفه : أن الإنسان يحاول - من جهة - أن يكسب حياته صفاءً وبهاءً ورونقاً و جلالاً ، فيقبل على التجمل والتنعم بكماليات الحياة، ولأجل الحصول على القوة والقدرة يقبل على تملك الأشياء. ومن جهة أخرى : يعتاد على وسائل للتنعم والتجمل والقوة والقدرة شيئاً فشيئاً ، ويعجب بها فيعشقها ، وتنشأ بينه وبينها روابط خفية دقيقة تشد إليها ، فيصبح ذليلا لها عاجزاً أمامها . وحينئذ يتحول الشيء الذي كان مادة لصفائه و رونقه إلى سبب لذهاب رونقه وصفائه ، والذي كان وسيلة لقدرته وقوته إلى سبب لضعفه وعجزه في دخيلة نفسه . فيصبح كالعبد المدين لمولاه لا يقدر أمامه على شيء.

إن تقيد أي إنسان بالزهد - أن صح التعبير بالتقيد - نابع من أصول

ص: 153

فطرية، فإن الإنسان بطبعه يميل إلى تملك الثروة و الإستفادة من متع الحياة، ولكنه حينما يرى أن هذه الأشياء كلما منحته القدرة على الحياة في الظاهر سلبته القدرة الإرادية في واقع الحال على نفس المدى ، وجعلته : عبداً لها ولمن في يده شيء منها : فهو يثور - حينها يرى ذلك - على هذه العبودية ويصطلح على هذه الثورة بالزهد .

ولقد تغنى الكثير من شعرائنا العرفاء بهذا التحرر كثيراً .

قال الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي عن نفسه .

إني أعد نفسي عبداً لمن كان متحرراً عن زخارف الحياة وألوانها.

بقي علينا أن نقول : إن التحرر التام بحاجة إلى شيء آخر سوى الإنقطاع عن علائق الدنيا . فإن القيود التي تربط الإنسان فتذله وتعجزه ليست العلائق المادية فحسب، بل إن الإعتياد الجسمي و الروحي على الكماليات التي وجدت أما الزينة الحياة الدنيا و رونقها ، أو لإعطاء القوة و القدرة على الحياة بهناء أكثر ، قد تصبح للإنسان - بالعادة - كالطبيعة الثانوية . هذه الأمور - وإن لم تكن مورداً للعلاقة القلبية بل وحتى لو كانت وسيلة للسمو الروحي - تصبح - حينذاك - قيوداً أقوى لأسر الإنسان وذله ، فهي تعجزه وتذله أكثر من سواها .

تصوروا عارفاً صوفياً متقشفاً ، لم يتعلق قلبه بشيء من الدنيا ولذائذها ، ولكنه اعتاد الشاي أو الدخان أو الترياق أو الأفيون أو الهيروئين مثلاً حتى أصبحت هذه له كالطبيعة الثانية ، بحيث إذا تخلف عنها هلك ! كيف يمكن لهذا أن يعيش متحرراً ؟!

إن انعتاق القلب عن علائق الحياة شرط أساس في التحرر، ولكنه ليس هو الوحيد ، بل إن الإعتياد على الإستفادة بالأقل من نعم الحياة - حتى الحلال منها - و الحذر من الإعتياد على الإكثار منها شرط أساس آخر في التحرر !

يصف الصحابي الكبير أبو سعيد الخدري رسول الله (%) فيقول : إنه كان خفيف المؤنة ، يعني : أنه كان قليل المصارف، يستطيع العيش بالقليل

ونتساءل : هل هذه فضيلة من الناحية المادية أو الإقتصادية مثلاً ؟

ص: 154

والجواب : أما : لا ، أو : إنها - على الأكثر - ليست فضيلة هامة.

ولكنا إذا لاحظناها من الناحية المعنوية ، أي من ناحية التحرر عن علائق الحياة، فالجواب : نعم ، إنها فضيلة كبرى، لأنها هي الخصلة الوحيدة التي يستطيع الإنسان باحرازها أن يعيش حراً طليق المحيا والجناح ، يتحرك بحرية ونشاط ، ويكافح بخفة ومرونة .

وليس ثقل الكاهل بقيود الحياة منحصراً بالعادات الشخصية والفردية ، بل إن العادات والمراسيم العرفية كمراسيم ملابس الحفلات والآداب الإجتماعية أيضاً مما يثقل كاهل الحياة ، ويبطىء الحركة الحرة فيها .

إن مثل الحركة في الحياة كمثل السباحة في الماء ، كلما خف الكاهل سهلت السباحة ، وكلما ثقل الكاهل صعبت السباحة واحتمل خطر الغرق .

يقول الكاتب الفارسي أثير الأخسيتكي : « انزع ملابسك ثم اسبح في الحياة ، فإن العري أول شروط السباحة فيها .

ويقول الشاعر الفارسي : فرخي اليزدي : « إن الرجل المتقي لا يشتكي الجوع والعري، إذ السيف الصقيل أجدر به أن لا يغمد » .

ويقول الشاعر الفارسي : بابا طاهر : إنك تمشي على الأرض ، وبإمكانك أن تمشي على السماء ، فإن أمكنك فانزع جلدك ليخف ظهرك .

ويقص علينا الكاتب والشاعر الإيراني الكبير : سعدي الشيرازي ، في كتابه کلستان قصة تناسب المقام ، يقول : « رأيت ابن التاجر يباهي ابن الفقير بقبر والده فيقول : إن صندوق قبر والدي كبير ، عليه كتابة ملونة ، وأرضه مفروشة بالرخام وعليه قبة كالفيروزج ، فماذا على قبر والدك أنت ، سوى حفنة من التراب والحجر و المدر؟! وأصغى ابن الفقير له ثم قال : ولكن قبل أن يتحرك والدك من قبره يصل والدي إلى الجنة .

هذه كلها أمثال لخفة الكاهل، وأنه شرط أساس في الحركة و النشاط وإنما إنطلقت الحركات والمكافحات القوية والمستمرة على أيدي أناس غير متقيدين بالقيود المادية الثقيلة ، أو قل : زاهدين بمعنى من معاني الكلمة : زهد « غاندي»

ص: 155

في الراحة واللذة والشهوة والطعام والشراب فأقلق راحة بريطانيا العظمى في أوج عظمتها ، واضطرها إلى التواضع له والخضوع ! ولم يغيّر يعقوب بن الليث الصفّار طعامه الخبز والبصل حتى أوحش الخلافة العباسية الكبرى ! والفيتكونغ مدينة في إنتصاراتها الخفة المؤونة ، إذ يستطيع الفيتنامي الواحد أن يقتنع بحفنة من الرز ويبقى يكافح في مكانه أسبوعاً كاملاً .

وهل هناك من الزعماء السياسيين أو المذهبيين من إستطاع أن يصبح نقطة إنطلاق في التاريخ بالتنعم والبذخ وطيب المأكل والمشرب ؟! أم أي مؤسس دولة إستطاع أن ينقل السلطة من سلسلة الأخرى باللذة و الشهوة ؟!

و إنما أصبح الإمام علي (علیه السلام) حراً بمعنى الكلمة لأنه كان زاهداً بمعنى الكلمة، وكان (علیه السلام) كثيراً ما يعبر في خطبه في نهج البلاغة عن الزهد بالحرية ، وعن الشره و النهم بالعبودية .

يقول (علیه السلام) في بعض كلماته القصار : الطمع رق مؤبد (1)

ويصف زهد عيسى بن مريم فيقول : ... ولا طمع يذله (2)

ويقول (علیه السلام) : الدنيا دار ممر لا دار مقر ، والناس فيها رجلان : رجل باغ فيها نفسه فأويقته ، ورجل اشترى نفسه فأعتقته (3)

وأصرح من الجميع كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري :

... إليك عني عني يا دنيا ! فحبلك على غاربك ! قد انسللت من مخالبك وأفلت من حبائلك ! اغربي عني ، فوالله لا أذل فتتذليني ولا أسلس فتقوديني (4)

نعم ، إن زهد الإمام (علیه السلام) ثورة على الذل في اللذة ، وعلى الضعف في ب

ص: 156


1- الحكمة : 180
2- الخطبة : 158
3- الحكمة : 133
4- الكتاب

الشهوة ، وعصيان على عبودية الدنيا ، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حياً !

الزهد ، والمعنوية

ومن فلسفة الزهد : إيجاد المعنوية في روح هذه الحياة المادية. ومن الواضح : إنا لا نقصد هنا الماديين في هذه الحياة ، إذ من البدهي أن الزهد في الدنيا وثرواتها وجمالها ، والإعراض عن عبادة أموالها ، وترك التقيد بلذائذها .. لا يجد لنفسه عند أصحاب النظرة المادية أي معنى قط. إنما الحديث هنا مع من يرى لهذه الحياة المادية شيئاً من المعاني أيضاً . فنقول لهؤلاء :

- إن من الواضح البدهي لدى هؤلاء : أن الإنسان ما لم يتحرر من قيود المادة وأغلالها. وما لم يحترز عن إغوائها وأهوائها ، وما لم يفطم طبيعته عن ألبانها ... وأخيراً ما لم يكن يحسن جعل الدنيا وسيلة لا غاية ... لا يتهيأ صعيد قلبه لتلقي الفيوضات الإلهية ، والإشراقات الربانية ، والإحساس المقدس ، والشعور الطاهر ، والفكر النيّر ... وأخيراً العقل السليم إلى جانب العاطفة الرحيمة . ولهذا قيل : إن الزهد شرط أساس لإفاضة المعرفة ، وله بها علاقة وثيقة .

ومن الواضح أيضاً : أن عبادة الحق و الحقيقة - بكل ما لهما من المعاني الواقعية - والتلذذ في طاعتهما ، وذكر الله الحق المطلق في كل حال ، والأنس بالخالق ولطفه حين خدمة المخلوق ... يتنافى مع عبادة النفس والنفيس ، والتقيد باللذة ، والوقوع في أسار المادية وزخرفها وزبرجها .

بل وفوق هذا نقول : ليست عبادة الله هي التي تستلزم نوعاً من الزهد في الدنيا فقط ، بل إن الإلتزام والغرام بأية عبادة أو ريادة ، في دين أو مذهب ، أو فكرة أو مبدأ ، أو قومية أو وطنية ... تستلزم نوعاً من الزهد والإعراض عن الشؤون المادية ، حتى في المذاهب المادية أيضاً !

إلّا أن الفرق بين العلوم والفلسفات والتعشق للخيال ، وبين الصحيح من العبادات ، هو : أن العبادة ، بما أن مقرها القلب أو الفكر فهي لا تقبل الضرة أو

ص: 157

الرقيب . لا مانع من أن يتعبد العالم أو الفيلسوف بدراهم المادة ثم يجول يفكره في المسائل الفلسفية أو المنطقية أو الطبيعية أو الرياضية. ولكن لا مجال في فكر هذا الفيلسوف أو قلب هذا العالم للتعبد و الإلتزام بتضحية من تلك التضحيات الإنسانية ، أو المبدئية أو المذهبية، بل وحتى القومية منها والوطنية ... فضلاً محبة الخالق في خدمة المخلوق . ولهذا تقول إن إبعاد القلب عن التقلب بالمادة العمياء ، وإخلاءه عن أصنام الذهب والفضة الغراء : شرط ضروري للتربية المعنوية في الإنسان.

وقد قلنا : إنه لا ينبغي الخلط بين التحرر عن قيد الذهب والفضة وعدم الإعتناء بكل ما يتبدل بهما ، وبين الرهبنة والفرار عن المسؤولية والعهود الإنسانية. فليس في الزهد أي فرار عن المسؤولية ، بل إن المسؤولية والعهود إنما تجد حقيقتها في ظل هذا الزهد ، ولا تظل ألفاظاً جوفاء وادعاءات فارغة لا ضمان لها .

ولقد اجتمع الزهد والإحساس بالمسؤولية في شخصية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فقد كان أكبر زاهد في العالم، وكان يحمل في صدره أكثر القلوب إحساساً بالمسؤولية الإجتماعية.

إنه (علیه السلام) من ناحية كان يقول : ( ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى » .

ومن ناحية أخرى، كان يسهر الليل كله الحيف قليل في العدالة مع مظلوم ، ولا يرضى أن ينام مبطاناً و يقول : ( ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع وقد كان بين زهده ذاك وإحساسه هذا الرهيف علاقة وثيقة. إن علياً (علیه السلام) بما أنه كان زاهداً لا طمع له ، ومن ناحية أخرى كان قلبه مليئاً من حب الله ، وكان يرى العالم من الذرة إلى الذرى مسؤولية مترابطة أمام الخالق العظيم، لذلك كان يشعر بمسؤولية كهذه أمام تعدي حدود الحقوق و الواجبات الإجتماعية. ولو كان شخصية ثرية متنعمة متنفذة ، لكان من المحال أن يشعر بمثل هذه المسؤولية .

وقد صرحت الروايات والأحاديث الإسلامية بهذه الفلسفة للزهد ، وأكد عليها الإمام (علیه السلام) في نهج البلاغة .

ص: 158

جاء في الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) : ... وكل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط ، وإنما أرادوا الزهد لتفرغ قلوبهم للآخرة ... (1) .

إن الإمام الصادق (علیه السلام) - كما نراه في هذه الرواية - يعد عبادة الهوى بجميع أنواعها واللذائذ شكاً مع الله أو شركاً مع الله ، و يقول : إنما أراد الإسلام الزهد للمسلمين لتفرغ قلوبهم من كل ما سوى الله فترغب إلى الآخرة .

ويصف المولوي المثنوي الرومي زهد العارف بالله فيقول : إن الزهد هو السعي في الزرع ، و ثمرته المعرفة، و هي روح الشريعة والتقوى ، ولا تحصل إلّا بالزهد.

و يقسم ( ابن سينا ) في ( النمط التاسع) الذي قد خصصه في (مقامات العارفين) يقسم الزهد إلى: زهد العارف بالله ، و زهد غير العارف به، فيقول: إن الزاهد غير العارف بفلسفة الزهد في الإسلام يعامل بزهده ، فيعوّض متاع الدنيا بإزاء متاع الآخرة، فهو يمتنع عن التمتع بالدنيا ليتمتع بنعيم الآخرة ، ولا يستفيد من هذه الحياة ليستفيد من الحياة الأخرى. أما الزاهد العراف بفلسفة الزهد ، فهو إنما يزهد لأنه لا يريد أن يشغل ضميره بغير الحق ، وهو بهذا يكرم شخصيته ويستصغر ما سوى الله أن يشغل به نفسه ويدخل في أسره .. يقول ابن سينا : ( الزهد عند غير العارف : معاملة ما كان يشتري بمتاع الدنيا : الآخرة ، والزهد عند العارف : تنزه عما يشغل سره عن الحق ، وتكبر على كل شيء غير الحق .. (2) .

ويقول عند كلامه في ( تمرين العارفين ) : إن التمرين يكون لثلاثة أهداف :

1 - رفع المانع ، أي رفع ما سوى الله عن طريق الوصول .

2- تطويع النفس الأمارة وتذليلها للنفس المطمئنة.

3 - تلطيف الباطن وتصفيته وتزكيته. ين

ص: 159


1- بحار الأنوار ، المجلد 16 ، الجزء : 2 ص 84
2- الشفاء : النمط التاسع في مقامات العارفين

ثم يذكر لكل هدف من هذه الأهداف عوامل مساعدة ، فيقول : إن الزهد الحقيقي والواقعي يساعد للهدف الأول ، أي رفع غير الحق عن طريق الوصول إلى الحق .

وما يقال من التضاد بين الدنيا والآخرة ، وإنهما كالمشرق والمغرب كلما قرب الإنسان من أحدهما بعد عن الآخر ، فإنما يرتبط بضمير الإنسان وقلبه ، إذ (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (1)

ولهذا نرى علياً (علیه السلام) حينما يسأل عن إزاره الخلق المرفوع يقول :

يخشع له القلب ، وتذل به النفس ، ويقتدي به المؤمنون (2)

ويقصد بذلك أن المؤمنين الذين لا يجدون لأنفسهم إزاراً أحسن من هذا الإزار الخلق المرقوع، سوف لا يجدون فيه فورة حقد على المجتمع ، أو شعوراً بعقدة الحقارة في النفس ، وذلك لأنهم يجدون إمامهم قد اكتفى من دنياه بازار كإزارهم .

ثم يقول (علیه السلام) : ... إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان ، و سبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها . وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما ، كلما قرب من واحد بعد من الآخر . وهما بعد ضرتان (3).

ولذلك أيضاً نراه يقول في نهاية كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف ) :

... وايم الله ! يميناً - أستثني فيها بمشيئة الله - لأروضنُ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليها مطعوماً ، وتقتنع بالملح مادوماً . ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها ، مستفرغة دموعها . أتمتلىء السائمة من رعيها فتبرك وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ، ويأكل علي من زاده فيهجع ؟! قرت إذاً 1

ص: 160


1- سورة الأحزاب : 4
2- الحكمة : 100
3- الحكمة : 101

عينه ! إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية (1)

ثم يقول (علیه السلام) : ... طوبي لنفس أدت إلى ربها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في الليل غمضها ، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون ) (2)

وقد ذكرنا هذين المقطعين من كتاب الإمام (علیه السلام) متتاليين ، إذ بهما معاً تتضح لنا العلاقة بين الزهد والمعنوية .

وخلاصة هذين القسمين من الكتاب : هو أنه لا بد للإنسان المسلم من أن يختار أحد هذين الطريقين: إما الدنيا وإما الآخرة ، فإما شهوة الأكل و الشرب والغرام والمنام كالأنعام ، وإما الإنسانية الإلهية ، والنور الرباني الذي يخص القلوب والأرواح النيرة الطاهرة.

الزاهد قليل المؤونة كثير المعونة

إتفق لي أن سافرت إلى (إصفهان) وطرحت بحث ( الزهد ) للمناقشة في حفل من أهل الفضل ، فناقشوا في نواحي مختلفة من الموضوع في ظل التعاليم الإسلامية الشاملة ، وحاول كل منهم أن يجد لمفهوم الزهد في الإسلام عبارة جامعة بليغة . وكان أحد المدرّسين الأفاضل قد تناول هذا الموضوع بالبحث في رسالة مستقلة ، وقد جمع لهذا الغرض مذكرات خاصة ، فتقدم إلينا إذ ذاك بتعريف بليغ شامل للزهد وقال :

«الزهد في الإسلام : هو الأخذ القليل والعطاء الكثير » .

فأعجبني هذا التعريف ، ورأيته متفقاً مع تصوراتي السابقة التي كنت قد

ص: 161


1- الكتاب
2- الكتاب

شرحتها في طي عدد من المقالات بهذا الصدد ، ولكني - بالسماح - من ذلك الرجل الفاضل أتصرف قليلا في تعريفه وأقول : ( الزهد ، عبارة عن : الأخذ القليل للعطاء الكثير »

وهذا يعني أن هناك علاقة في مفهوم الزهد في الإسلام بين ( الأخذ القليل) و( العطاء الكثير ) وأن هناك نسبة متعاكسة بين التمتع المادي ، وبين العطاء الإنساني والشخصية الإنسانية ، سواء في قسم الأخلاق و العواطف ، أو في قسم المساعدات والتعاون الإجتماعي، أو من ناحية الشرف و الكرامة الإنسانية ، أو العروج إلى العالم العُلوي .

وهذا من خواص هذا الإنسان : إن إسرافه في الإستفادة من المادة والتمتع بالطبيعة ، والتنعم باللذات ، يعقمه ويُضعفه ويقلل عطاءه و يوهنه في كل ما يسمى بالكمال للإنسان . والعكس صحيح أيضاً ، فإن ابتعاده عن التنعم والتمتع - في حدود معينة - يهب لجوهره الصفاء و الجلاء ، ويقوي ويزيد في فكرته وارادته ، وهما من أسمى سمات الإنسان.

والحيوان أيضاً كذلك : فإنه - وان كان باستزادته من التمتع والإستجمام يتقدم بكماله الجسماني وفوائده الجسدية المادية : من اللحم واللبن والصوف - إلّا أن ذلك لا يصح في مورد ما يمكن أن يسمى بالكمال الفني له ، فإن جواد الرهان يجب أن يكون قد ربي على هضم الكشح والطوى على الجوع والعطش ، حتى يذوب الزائد من لحمه وشحمه ، حتى يقدر على السبق في المباراة بخفته ونشاطه وهذا من نوع الكمال لهذا الحيوان .

والنبات أيضاً كذلك ، فإن ما يمكن أن يسمى بالكمال الفني فيه - إن صح التعبير - مشروط بنوع من الأخذ القليل .

والزهد في الإنسان أيضاً تمرين ، ولكنه للروح لا للجسد ، فإن الروح تجد في الزهد رياضة يذوب بها منه الإضافات المتعلقة به ، فيخف للتحليق في سماء الفضائل والكمالات .

و الإمام علي (علیه السلام) يعبّر عن الزهد بالرياضة فيقول : وإنما هي نفسي

ص: 162

أروضها بالتقوى ... والرياضة في أصل اللغة عبارة عن التمارين التربوية لفرس السباق .

ويشير (علیه السلام) إلى هذه النقطة في النباتات أيضاً فيقول : ه .. وكأني بقائلكم يقول : لو كان هذا قوت ابن أبي طالب لقعد به عن منازلة الأقران ومقابلة الشجعان .

إن هذا القانون الحاكم على الحيوان والنبات ، حاكم على الإنسان بالنظر إلى خصائصه وشخصيته الإنسانية ، أكثر مما هو حاكم على الحيوان والنبات بدرجات .

وقد قرر لكلمة الزهد - بما لها من المفاهيم الإنسانية السامية - مصير من المعنى تدان به في هذا العصر ، معنى ظهر فيه التحريف والخطأ المتعمد أو غير المتعمد ، فقد يجعل ( الزهد) مرادفاً للرهبنة والإعتزال ، وقد يجعل مساوياً للرياء وحب السمعة !

ولكل واحد أن يستعمل في مصطلحه الخاص هذه الألفاظ بأي معنى أراد ، ولكن لا يحق لأحد أن يدين مصطلحاً للإسلام بحجة مفهوم خاطيء عنه أو اصطلاح شخصي عليه .

لقد استعمل الإسلام في نظامه التربوي الأخلاقي كلمة أصطلح عليها هي ( الزهد ) ، ونرى هذه الكلمة في نهج البلاغة وساير الروايات في الإسلام كثيراً . وإذا أردنا أن نبحث حول الزهد في الإسلام وجب علينا قبل كل شيء أن نبحث عن المفهوم الإسلامي لهذه الكلمة ، ولنا بعد ذلك أن نحكم لها أو عليها .

إن مفهوم الزهد في الإسلام هو ما قلناه فيما سبق ، وفلسفته ما وضحناة بالإستناد إلى المصادر والنصوص الإسلامية. والآن قبل أنت أيها القاريء الكريم ماذا ترى في ذلك ؟

لقد تبين مما قلناه: إن الإسلام يدين بالزهد أمرين إدانة شديدة :

أحدهما : الرهبانية المبتدعة في المسيحية.

ثانيهما : عبادة المادة والمال وحب الدنيا .

ص: 163

وأي مدرسة فكرية توصي بالرهبانية اليوم ؟!

وأي مدرسة فكرية توصي بعبادة المادة والمال ؟!

وهل يعقل أن يكون الإنسان أسيراً لها ولمن في يده شيء منها - كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) - ثم هو يتبجح بالشخصية الإنسانية ؟!

وأرى من المناسب أن أنقل لكم هنا قسماً من كلمات كاتب ماركسي في العلاقة بين الشخصية الإنسانية وعبادة المادة. يلتفت هذا الكاتب في كتابه الذي كتبه في موضوع الإقتصاد الإشتراكي والرأسمالي ، إلى الناحية الأخلاقية لسيادة المادة في المجتمع ، فيقول :

إن سيادة ( الذهب ) في المجتمع المعاصر مما يبعث القلوب الحساسة إلى الإستياء والتذمر الشديد ، وإن هواة الحقائق يعلنون دائماً تذمرهم الشديد من هذا المعدن النجس! وهم يرونه الأصل الأول لفساد المجتمع المعاصر اليوم ! والحقيقة : أن لا ذنب لهذه القطع المدورة من المعدن الأصفر البراق الذي يسمى بالذهب ! بل إن سيادة المادة على الإنسان هي مظهر من مظاهر سلطة الأشياء على البشر ! وهي من خصائص الإقتصاد غير المنظم والمبتنى على أساس المبادلات التجارية بينهم، كما كان الإنسان غير المتحضر في القديم يجعل الصنم الذي صنعه بیده معبودا يسجد له ، كذلك يعبد البشر في العهد الحاضر ما يصنعه بيده ويخضع ، ويرى حياته تحت رحمة هذه الأشياء التي صنعها بيده ! ومن أجل أن تحترق جذور عبادة المادة - التي هي نوع متطور من عبادة البضائع والأصنام - يجب أن تعدم تلك العلل الإجتماعية التي أوجدتها ، وينظم المجتمع بنظام تنعدم فيه سيادة هذه المسكوكات الصغار الصفراء على البشر ، وفي هذا النظام تنعدم سيادة الأشياء على الإنسان ، بلى يصبح الإنسان هو الحاكم وفق نظام معين على الأشياء ، وتحل (شخصية الإنسان) محل عبادة المادة (1) .

ونحن نوافق هذا الكاتب في أن سيادة الأشياء والنقود على الإنسان مما يخالف ة

ص: 164


1- اصول الاقتصاد - لنوشين ، في فصل ( القيمة والنقود ) بالفارسية

شؤون الإنسان وشرافة الإنسانية ، وأنها في الدناءة كعبادة الأوثان . ولكنا لا توافقه على ما يراه طريقاً وحيداً للخلاص !

ولا نريد أن نبحث هنا في الناحية الإقتصادية والإجتماعية في أنه : هل يجب أن يحل النظام الإشتراكي محل كل الأنظمة ، ومحل عبادة المادة بالخصوص، أم لا ؟ ولكنا نقول : إن اقتراح طريق كهذا للعلاج يكون كما إذا أردنا أن نعيد روح الأمانة إلى المجتمع فتحكم بعدم وجود شيء للتأمين !

إن الإنسان ذا الشخصية هو الذي ينقذ نفسه بنفسه من عبادة المادة ، ويسود على النقود . وأن الشخصية إنما تكون فيما إذا أمكن للبضائع والنقود أن تسود ولكن يسود عليها الإنسان بحسن اختياره . و هذا هو الذي سماه الإسلام ( زهداً ) .

إن الإنسان يجد شخصيته في الإسلام بدون أن يحكم بتحريم حق الملكية الفردية وإن الذين تأدبوا بآدابه وتربوا بتربيته يتجهزون بملكة الزهد ، فيبعدون بها سيادة البضائع والنقود عن أنفسهم ، ويسودون عليها كيفما يشاؤون لا كما تشاء .

ص: 165

ص: 166

القسم السابع

اشاره

حب الدنيا

1 - حب الدنيا وتركها في نهج البلاغة

2 - الواجهة الخاصة لكلام الإمام ، وأخطار الغنائم على عهد الخلفاء

3 - الواجهة العامة لكلام الإمام عليه السلام

4 - ما هي الدنيا المذمومة ؟

5- هل الدنيا سجن المؤمن ؟

6 - الدنيا في القرآن و نهج البلاغة

7- هل الدنيا والآخرة ضرتان ؟

8- اعمل لدنياك ... وأعمل لآخرتك

9 - الحريات ، والعبوديات

10 - خسران الذات ونسيانها

11 - من عرف نفسه فقد عرف ربه

12 - دور العبادة في الإحساس بالشخصية

ص: 167

ص: 168

حب الدنيا وتركها في نهج البلاغة

ومن مباحث نهج البلاغة : التحذير عن الإغترار بالدنيا وعبادة المادة . وما قلناه في الهدف من الزهد في الإسلام يوضح لنا مفهوم ذم الدنيا أيضاً ، إذ الإسلام إنما حث على الزهد لأنه المانع عما نهانا عنه من عبادة الدنيا و المادة ، وبتوضيح أي واحد من هذين المفهومين يتضح مفهوم الآخر .

ولكن ، لأهمية هذا البحث في نفسه ، للتأكيد الكثير من الإمام (علیه السلام) في نهج البلاغة على التحذير من الدنيا وعبادتها ، عقدنا لذلك فصلا مستقلا ليتضح الموضوع أكثر من ذي قبل ، ويرتفع بذلك كل إبهام فيه .

ما نبحث عنه أولاً، هو : لماذا اعتنى الإمام أمير المؤمنين ومن قبله رسول الله ومن بعده سائر الأئمة الأطهار ( صلوات الله عليهم أجمعين ) بهذا الأمر كثيرا ، فتكلموا الكثير في التحذير عن الإغترار بالدنيا، وفي فنائها وزوالها وزلاتها وعثراتها وأخطار الإعتناء بجمع المال والثروة ، والتوفر على النعم ، والمتع المادية والإنهماك بها ؟ فنقول :

الواجهة الخاصة لكلام الإمام (علیه السلام)

و أخطار الغنائم على عهد الخلفاء

لم يكن هذا بمحض الصدفة ، بل إن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار

ص: 169

العظيمة التي كانت قد أقبلت على العالم الإسلامي آنذاك من لدن عهد الخلفاء السابقين و لاسيما دور عثمان الذي انتهى الأمر بعده إلى الإمام علي (علیه السلام) ، و ذلك من قبل سياستهم المالية ، وكيفية ادارتهم لثروات الغنائم والفتوحات الإسلامية على عهدهم ، ونوعية توزيعهم لها وتداولها بينهم .

و كان الإمام (علیه السلام) قد أدرك هذه المخاطر فكافحها مكافحة عملية على عهده، حتى ضحى بنفسه في هذا السبيل ، و مكافحة كلامية بالخطب والكتب و سائر كلماته (علیه السلام) .

حظي المسلمون بفتوحات كبيرة، مما هطل على العالم الإسلامي بثروة كثيرة ، ثروة استقرت في أيدي شخصياتها بدلاً من أن تقسم بالتساوي بين جميع الأفراد، أو تصرف في المصارف العامة لهم. و اشتد هذا الأمر في زمن عثمان بقوة طاغية ، مما اكسب أولئك الأفراد المعدودين الذين لم يكن لهم من قبل أية ثروة أو رأسمال ، ثروة بغير حساب . وعملت الدنيا حينئذ عملها فأفسدت من الأمة الإسلامية أخلاقها. وكان نداء الإمام (علیه السلام) حينذاك بسبب الإحساس بهذا الخطر العظيم !

كتب المسعودي في أحوال عثمان يقول : « ... وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد )من بيت المال طبعاً ) ! فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته وتأسوا بفعله . وبني داره بالمدينة و شيدها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج و العرعر ، واقتنى أموالاً وجنباناً و عيوناً بالمدينة. و ذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال : خمسون ومائة ألف دينار و ألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلا وإبلا كثيرة.

ثم كتب يقول ؛ ... و في أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الدور و الضياع ، منهم الزبير بن العوام ، بني داره بالبصرة - وهي المعروفة في هذا الوقت وهو سنة 332 ينزلها التجار و أرباب الأموال و أصحاب الجهاز من البحريين و غيرهم. و ابتنى أيضاً دوره بالكوفة ، ومصر ، والإسكندرية . وما ذكرنا من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية . و بلغ ثمن ملك الزبير بعد وفاته :

ص: 170

خمسين ألف دينار، وخلّف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة ، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار.

وكذلك طلحة بن عبيد الله التيمي ابتنى داره بالكوفة في الكناسة ، المشهورة في هذا الوقت بدار الطلحيين. وكانت غلته من العراق في كل يوم ألف دينار ، و قيل أكثر من ذلك ، وبناحية الشراة أكثر مما ذكرنا ، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج .

وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره و وسعها ، وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم ، وبلغ بعد وفاته الربع من ماله : أربعة وثمانين ألف دينار .

وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ، فرفع سمكها ووسع فضاها ، وجعل أعلاها شرفات.

وقد ذكر سعيد بن المسيب : أن زيد بن ثابت حين مات خلّف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس ، غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة : مائة ألف دينار .

و ابتني المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة و جعل أعلاها شرفات و صيّرها مجصصة الظاهر والباطن .

ومات يعلى بن منبه وخلف خمسمائة ألف دينار ، وديوناً على الناس وعقارات ، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلثمائة ألف دينار ...

ثم قال : وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيما تملك من الأموال في أيامه ... (1) .

و واضح أن هذه الثروات الطائلة لا تنبع من الأرض ولا تنزل من السماء وما لم يكن هناك إلى جانبها حقوق مضيّعة من فقراء مدقعين لا تتيسر هذه الثروات ..

ص: 171


1- المسعودي - مروج الذهب ج 2 ص 341 - 343 ط مصر . و ج 4 ص 252 - 255 ط أوربا .

فلهذا يحذر الإمام (علیه السلام) الناس عن عبادة الدنيا ويقول في الخطبة : 127

... و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً ، ولا الشر إلا إقبالاً ، ولا الشيطان فى هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويتُ عُدته ، وعمت مكيدته ، وأمكنت فريسته. أضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلّا فقيراً يكابد فقراً ، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً ، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً ، أو متمرداً كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقرأ . أين خياركم و صلحاؤكم وأين أحراركم وسمحاؤكم ؟ وأين المتورعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم ؟

أجل إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، وقد رزق المسلمين من سيل النعم بغير حساب، ولكن توزيعه غير العادل على أساس التمييز الطبقي هو الذي أصاب المسلمين بداء (سكر النعم ) !

و كان الإمام (علیه السلام) يكافح هذا الخطر العظيم الذي كان قد أصاب الإسلام وأخذ يجر ويلاته على المسلمين ، وكان يتفقد كل من كان مساهماً في إيجاد هذا الداء الوبيل ! وكان (علیه السلام) يسير هو في حياته العملية الفردية الخاصة على ضد هذه السيرة غير المرضية ، وحينما بلغ إلى الخلافة جعل ذلك في رأس قائمته الإصلاحية الجادة .

و كان (علیه السلام) يشير إلى هذه النقطة الهامة : ( سكر النعم) و يقول : ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت ، فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة .

ويذكّرهم عواقب هذه السكرات ، ويرى أن لهم منها مستقبلاً وخيماً : ... ذلك حيث تسكرون من غير شراب ، بل من النعمة والنعيم ...

قدمنا هذا الكلام هنا لتتضح لنا الواجهة الخاصة لكلمات الإمام (علیه السلام) في ذم الدنيا ، وهي أنها كانت متجهة إلى ظاهرة إجتماعية خاصة في ذلك العصر العصيب .

و إذا تجاوزنا هذه الواجهة الخاصة لكلماته (علیه السلام) نجد لها - ولا شك - واجهة عامة لا تختص بذلك العصر ، بل تشمل جميع الأعصار و القرون ، بل هي من

ص: 172

التعاليم التربوية العامة في الإسلام ، نابعة من القرآن الكريم وكلمات الرسول العظيم (%) . ويجب أن تتضح لنا هذه الواجهة العامة لكلامه (علیه السلام) أيضاً ، بل نحن نولي في كلامنا هنا بهذه المواجهة العامة إهتماماً أكثر وأكبر ، إذ هي الواجهة التي يخاطب بها الإمام (علیه السلام) جميع الناس في جميع العصور .

الواجهة العامة لكلام الإمام

لكل مدرسة فكرية أسلوبها الكلامي الخاص ، ولا بد لمن يريد أن يدرك مفاهيمها كاملة من أن يتعرف على أسلوبها في البيان ، ولا بد لمن يريد أن يتعرف على أسلوبها من أن يدرك وجهتها الخاصة في نظرتها العامة إلى الإنسان والوجود .

وللإسلام وجهة نظره الواضحة إلى الحياة ، فهو ينظر إلى الكون وحياة الإنسان بنظرة خاصة، من أصول هذه النظرة : أن لا ثنوية في العالم ، فلا ينقسم العالم في نظر الإسلام إلى قسمين خير و شر، حسن و قبيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون ، بل أن منطق الإسلام يقول : إن القول بهذا كفر ومجوسية : اعملوا ... فكل ميسر لما خلق لما خلق له من خير و حكمة وغاية ، ولا شيء من غير غاية : (الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى ) . (1)

إذن : فلا يمكن أن يكون ذم الدنيا في منطق الإسلام متوجهاً إلى الحياة ، إذ أن منطق الإسلام المبني على أساس التوحيد الخالص بما يشمل التوحيد القوة الفاعلة في العالم، و النبافي لأي شريك لله في الخلقة و التكوين ، لا يمكن أن ينظر إلى العالم نظرة سيئة مقيتة ، وإن فكرة « الفلك الظالم » و « ظلم الدهر» ، فكرة غير إسلامية ... إذن فماذا يعني ذم الدنيا في القرآن ونهج البلاغة ؟

ما هي الدنيا المذمومة

قد يقول البعض: إن ذلك يعني العلاقة القلبية .

و أقول : إن أراد هؤلاء بالعلاقة القلبية الإرتباط العاطفي بالدنيا ، فلا يمكن

ص: 173


1- سورة السجدة : 33

أن يكون كاملاً صحيحاً ، إذ أن هذه العلاقة حلقة سلسلة من العواطف المخلوقة معه في فطرته الطبيعية الأولى ، وهي من طينته في الصميم ، وهي مما لم يكتسبه الإنسان بنفسه ، وكما أنه ليس في بدن الإنسان عضو زائد خلق عبثاً، كذلك ليس في عواطفه و أحاسيسه شيء زائد عبث ، بل إن عواطفه كلها مخلوقة لغاية حكيمة عبّر عنها القرآن الكريم بآيات حكمة الخالق الحكيم : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة ) .

إن هذه العواطف روابط تربط الإنسان بالحياة، سعياً نحو التكامل ، و كما لا نستطيع أن نحكم على العالم بالطرد و اللائمة، كذلك لا نستطيع أن نعد هذه العواطف الطبيعية زائدة بدون فائدة، فإنها من أجزاء الحياة .

إذن : فليس المقصود من ذم الدنيا : ذم الحياة ، ولا ذم العلاقات الطبيعية والفطرية .

بل أن المقصود من ذلك : هو ذم العلاقة القلبية الموجية لأسر الإنسان بيد الدنيا ومن في يده شيء منها. و هذا هو الذي يسميه الإسلام : عبادة الدنيا ، وهو الذي يكافحه الإسلام مكافحة شديدة و الإسلام في هذا يريد أن يرد الإنسان إلى حالته الطبيعية في ضمن تاموس الحياة ، فإن الإفراط في علاقة الإنسان بالدنيا خروج عن حالته الطبيعية .

هل الدنيا سجن المؤمن

هناك العديد من المذاهب الفلسفية تنظر إلى الحياة نظرة ملؤها الشر و الغضب ، وهي تحسب أن هناك نقصاً في العالم أو تناقضاً ، وأن الإنسان أسمى من أن يعيش في هذا العالم ، فليست هناك أية رابطة - في نظرها - تربط الإنسان بهذه الحياة إلّا علاقة السجين بسجنه أو الواقع في البئر، فلا نجاة له إلّا أن يتخلص من شرور هذه الحياة ... فهل الإسلام ينظر إلى الحياة بهذه النظرة أيضاً ؟ كلا .

إن الإسلام - المتمثل في نهج البلاغة الإمام (علیه السلام) - يرى علاقة الإنسان بالدنيا : كعلاقة الزارع بزرعه : الدنيا مزرعة الآخرة أو علاقة التاجر

ص: 174

بالمتجر : الدنيا متجر أولياء الله (1) أو علاقة المسابق بميدان السباق : ألّا و إن اليوم المظهار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار (2) أو علاقة العابد بالمسجد : « الدنيا ... مسجد أحباء الله (3)

و يمكننا أن نلخص القول في وجهة نظر نهج البلاغة إلى الحياة في الحكمة (131) من كلمات ردّ بها الإمام (علیه السلام) على من سمعه يسلم الدنيا و غداة الندامة و هو يحسبها و «متجرمة عليه » ، بناء في فكرة «الفلك الظالم » و« جور الدهر» ، كما يتبين هذا من مطاوي كلامه (علیه السلام) :

« أيها الذام للدنيا ، المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ثم تذمها ! أتغتر بالدنيا ثم تذمها ؟! أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك ؟! متى استهوتك أم متى غرتك ؟! أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك ؟؟ تبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء ، لم ينقع أحدهم إشفاقك ولم تسعف فيه بطلبتك ، ولم تدفع عنهم بقوتك . قد مئلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك .

إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها .

مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله ، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة .

فمن ذا يذمها وقد أذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها ؟ فمثلت لهم ببلاتها البلاء ، وشوقتهم بسرورها إلى السرور ، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة . ترغيباً و ترهيباً ، وتخويفاً و تحذيراً .

قدمها رجال غداة الندامة ، وحمدها آخرون يوم القيامة ، ذكرتهم الدنيا فتذكروا ، وحدثتهم فصدقوا ، ووعظتهم فاتعظوا .1

ص: 175


1- الحكمة : 131
2- الخطبة : 28
3- المحكمة : 131

وخلاصة ما يستفاد من كلام الإمام (علیه السلام) ، هو : أنه رجلا قد اغتر بغرور الدنيا وخدع بأباطيلها ، فلما ندم ذمها غداة الندامة ، وهو يحسب انها هي المتجرمة عليه ، فرد الإمام : بأنك أنت المتجرم عليها ، لأنك أنت المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ، ولكن ليست هي التي استهوتك وغرتك بل قد أذنت ببينها ونادت بفراقها وتعت أهلها ونفسها ، تخويفاً وتحذيراً وترهيباً فما تخوفت وما حذرت، بينما تذكر رجال آخرون فصدقوها واتعظوا بها، فجعلوها مسجداً ومصلى ، ومكسباً ومتجراً ترددوا منه فريحوا الجنة، وسيحمدها هؤلاء يوم القيامة ، وتذمها أنت يوم الندامة . فأنت المتجرم عليها لا هي المتجرمة ، وليست عليها بلى عليك الملامة !

إذن ، فالإسلام لا يرى العالم عبثاً ، ولا وجود الإنسان فيه خطأ ، ولا عواطقه الفطرية غلطاً ... وإذن : فإذا يعني ذم الدنيا في نهج البلاغة ؟

ونقول : من غرائز الإنسان الطبيعية غريزة التعبد و التقديس ، والسعي وراء السعادة و الكمال ، وما يرتبط به و يعتمد عليه أكثر من ارتباط عادي ، يجعله منتهى مناه وكل أمله. وهنا إذا لم يهتد الإنسان إلى الصرط المستقيم في قدسه وأمله ، فسوف يضل عن الصراط السوي ويتيه في متاهات الضلالة ، سادراً في الغي يخبط في عمياء لا يهدى سبيلاً ، وحينذاك تتبدل (الوسيلة بالغاية ) و ( الطريق بالهدف ) و ( وسيلة النجاة بسلاسل الأسر والعبودية ) وحينئذ تتبدل حرية حركته ونشاطه ومساعيه إلى أسر وعبودية وجمود . وهذا هو الذي ينبغي أن لا يكون ، وهو على خلاف نظام التكامل في الحياة ، بل هو نقص ونوعٍ من الفتاء لا البقاء ، وهو آفة الإنسان في معاشه ، ويسراه الإمام والإسلام خطرا ينبه للحذر منه . ولا شك أن الإسلام بعد الإنسان بإزاء هذه الحياة بحياة أخرى أفضل منها بمراتب ، ولا يرى لهذه الحياة الدنيا ما ينبغي أن تكون غاية مناه ومنتهى آماله ، بل يراها مجالاً لأعمال صالحة تصبح وسيلة إلى السعادة الدائمة ، ويرى الإنسان أسمى وأعز من أن يكون عبداً لها ولمن في يده شيء منها !

ولهذا نرى الإمام (علیه السلام) يؤكد على حسن هذه الحياة ، ولكن ليس ذلك إلّا لمن ثم يرض بها دار مقر دائم ، فيقول : ( ولنعم دار لمن لم يرض بها داراً ...

ص: 176

ويكرر : الدنيا دار مجاز لا دار قرار ، فخذوا من ممركم لمقركم ، والإنسان حر طليق ، ولهذا فإن كل أسر أو قيد أو حدّ ، يحدّ من شخصيته وعظمته .

ما هي الدنيا المذمومة ؟

قلنا في الفصل السابق : إن ما يراه الإسلام بما لا ينبغي أن يكون في علاقة الإنسان بالدنيا هو: أن يتعلق بها قلبه حتى يصبح أسيراً لها ولمن في يده شيء منها ، ولا تسري هذه النظرة السلبية إلى الدنيا من هذا الإطار إلى حياة الإنسان فيها ، حتى ولو كانت حرة كريمة هادفة واعية .

وقلنا : إن الذي يحاربه الإمام والإسلام في تعاليمه وإرشاداته حرباً لا هوادة فيها هو: أن يجعل المرء هذه الحياة هدفاً وغاية لا طريقاً ووسيلة .

وذلك : لأنه لو أصبحت علاقة الإنسان بهذه الحياة بصورة يكون معها طفيلياً على الحياة تابعاً لها ولمن في يده شيء منها ، أصبحت الحياة له موتاً وسموماً ! وحطمت كل ما في نفسه من المثل الإنسانية السامية ، إذ أن قيمة كل امرى بهدفه في الحياة ، فلو لم يكن له أي هدف في الحياة سوى ملء بطنه وكانت مساعيه كلها في هذه الحدود، لم يكن له قيمة سوي ما يهدف له : «من كانت همته بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه » !

إذن : فالكلام كله حول كيفية علاقة الإنسان بهذه الحياة، كيف يجب أو كيف يتبغي أن تكون ؟ إذ هناك صورة يصبح الإنسان فيها بهدقه في أسفل سافلين » وأخسّ موجود في الحياة : ( أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ) وتتحطم فيها جميع قيمه ومثله الإنسانية السامية ، ويخرج فيها بصورة حيوانية منكوسة !

وهناك صورة أخرى لهذه العلاقة على العكس من الصورة السابقة تماماً ، أي يدل أن يكون الإنسان يضحي بإنسانيته في سبيل الحياة ، تنحسر ها هنا الدنيا وما فيها أمام الإنسان ، ويصبح كل ما فيها في سبيل خدمة المصالح الإنسانية ، ويكون كما في الحديث القدسي : « ... يا ابن آدم ! خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي ...»

ص: 177

وقد أتينا فيما سبق بشواهد من نهج البلاغة على هذا ، وهنا نأتي بشواهد أخرى من نهج البلاغة والقرآن الكريم ، ونبدأ بشواهد القرآن ، فنقول :

تنقسم الآيات القرآنية الكريمة التي تتعلق بعلاقة الإنسان بالدنيا إلى قسمين :

القسم الأول : آيات تدل على فناء الدنيا وزوالها، وعدم ثباتها ، وتغيرها وتنكرها، وانتقالها بأهلها حالاً بعد حال :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا )(1)

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (2)

وبدهي أن الإنسان في حياته المادية ليس بأكثر من النباتات التي ينتظرها هذا المصير المحتوم، أراد أم كره . إذن : فلو أراد أن يكون واقعياً في نظرته إلى الحياة لا شاعراً خيالياً والإنسان إنما ينال السعادة بالواقعية لا بالأوهام والخيالات - فلا بد له من أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه ، ثم لا يغفل عنها أبداً : « وكفى بالموت واعظاً لمن اتعظ » .

ولكن هذا القسم من الآيات القرآنية إنما هو في الحقيقة مقدمة تمهيدية ، بل صغری و کبرى قياس واحد لنتيجة تالية في القسم الثاني من الآيات ، فإن هذه الطائفة من الآيات تحاول أن تخرج الحياة الدنيا من تصويرها هدفاً وغاية للإنسان في الحياة، وأن تشير إلى أن هذه الحياة الزائفة الزائلة لا ينبغي أن تكون هدفاً للإنسان وغاية له ، ولو كانت هي الهدف لكانت الحياة كلها فارغة جوفاء ، ولكن هناك من بعد هذه الحياة حياة أخرى دائمة باقية خالدة، هي عالم الآخرة ، ينبغي

أن يكون هو الهدف والغاية .0

ص: 178


1- الكهف : 45
2- سورة الحديد : 20

والقسم الثاني من الآيات : يسلط الأضواء واضحة صريحة على مشكلة علاقة الإنسان بهذه الحياة ، بما نرى فيها صريحاً : أن الذي يحكم الإسلام عليه بأن لا يكون هو : أن يتعلق الإنسان بهذه الحياة تعلق أسر وذلة وقناعة . والآيات هي :

1- (المال و البنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً) (1) .

فهذه الآية الكريمة بينما تنتقد المال والبنين بأنها ليست بأكثر من زينة في الحياة الدنيا ، وتجعل بمكانها الأمل الوحيد للإنسان في هذه الحياة : الباقيات الصالحات إذ هي خير خير ثواباً وخير أملاً ، أي ترى أن تكون هي الأمل ، لا الزينة.

إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ) (2).

وهذه الآية أيضاً إنما تنتقد أن يرضى الإنسان بالحياة الدنيا ويطمئن إليها ويغفل عن آيات الله ولا يرجو لقاء الله سبحانه ، فأما أن لا يغفل عن آيات الله ويرجو لقاء الله ، فلا بأس .

3 - (فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من المعلم ) (3) .

وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد من يتولى عن ذكر الله ولم يرد إلّا الحياة الدنيا ، فإما من لم يتول عن ذكر الله و أراد الآخرة وسعى لما سعيها ، فلا بأس عليه .

4 - ( وفرحوا بالحياة الدنيا. وما الحياة الدنيا في الآخرة إلّا متاع ) (4)

ص: 179


1- سورة الكهف : 46
2- سورة يونس : 7
3- سورة النجم : 29 - 30
4- سورة الرعد : 26

وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يفرحون بهذه الحياة الدنيا ولا يضمرون للآخرة أي حزن أو سرور ، بل لا يعدون للآخرة أي إعداد ، إذ لا يعدونها في الحياة الدنيا إلّا قليلاً ، فأما من لا يعد الحياة الدنيا في الآخرة إلّا قليلاً ، ولا يعد للحياة الدنيا إلّا قليلاً أيضاً ، بل إنما يضمر فرحته ويعد عدته ويسعى سعيه للآخرة ، فلا بأس عليه أيضاً .

5 - (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ، و هم عن الأخسرة هم غافلون ) (1)

و هذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ثم هم يغفلون بها عن الآخرة فلا يعلمون عنها أي شيء ، أما من يعلم الآخرة علماً قطعياً ، ويعلم واقع الحياة - كما في القسم الأول من الآيات - على يقظة وشعور ، فلا بأس عليه أيضاً .

فأنت ترى : أن الذي حكم عليه في جميع هذه الآيات بالنفي والتفنيد وأن لا يكون ، هو : أن تصبح الدنيا أمل الإنسان الذي يرضاه، وزاده الذي يقنع به ، وطمأنينته التي يفرح بها. وهكذا علاقة من الإنسان بالحياة التي تجعل الإنسان في خدمة الحياة وضحية ساقطة في ميادينها ، بدلاً من أن تجعل الدنيا في خدمة الإنسان .

هذه هي نظرية الإسلام المتمثل في القرآن الكريم في شأن علاقة الإنسان بالدنيا

والإمام علي (علیه السلام) أيضاً يتبع نفس هذا الأسلوب القرآني في نهج البلاغة :

فنرى أن كلماته (علیه السلام) بهذا الصدد تنقسم أيضاً إلى نفس القسمين :

1 - قسم شرح فيه الإمام : فناء الدنيا وزوالها وتغيرها وإنتقالها ، بأوصاف دقيقة وتشبيهات وكنايات واستعارات بليغة.

1 - وفي القسم الثاني : يستنتج نفس النتيجة القرآنية السالفة : .

ص: 180


1- سورة الروم : 7 .

قفي الخطبة : ( 32 ) يقسم الإمام الناس إلى قسمين : أبناء الدنيا وأبناء الآخرة . ثم يرجع إلى أبناء الدنيا فيصنفهم على أربعة أصناف .

يقول (علیه السلام) :

... فالناس على أربعة أصناف :

أ - منهم : من لا يمنعه من الفساد إلّا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض وفره .

ب - ومنهم : المصلت سيفه والمعلن بشره ، والمجلب يخيله ورجله ، قد أشرط نفسه وأويق دينه ، لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه .

ج - ومنهم : من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه ، وشمر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية .

د - ومنهم : من أقعده عين طلب الملك ضؤولة نفسه ، وانقطاع سببه ، فقصرّته الحال عن حاله ، فتحلي باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح ولا مغدى (1)

فالإمام (علیه السلام) يعد هؤلاء الأصناف الأربعة - على رغم اختلاف وجهات نظرهم في الحياة - فرقة واحدة ، هم من أهل الدنيا . لأنهم يشتركون في وجهة واحدة هي ما عبر عنها بقوله : « ... ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً وعمالك عند الله عوضاً »

إذن : فالمسألة تضحية الإنسانية في سبيل خدمة المدنيا ، والعكس من ذلك .

وقد كتب (علیه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (علیه السلام) أو محمد بن الحنفية - كما في تحف العقول وابن ميثم البحراني - يقول : أكرم نفسك من كل دنية ، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك ثمناً (2)

ص: 181


1- الخطبة : 32 .
2- تحف العقول ص 200

وفي ( تحف العقول ) عن الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) : أنه سئل : من أعظم الناس خطراً ؟ فقال (علیه السلام) : من لم بر الدنيا خطراً لنفسه (1)

ويتضح لنا من هذه النظرة الفاحصة في القرآن ونهج البلاغة : أن الإسلام لم يبخس من قيمة الدنيا شيئاً ، بل إنما استهدف من ذلك : إحياء القيم والمثل الإنسانية السامية ، وأن تكون الحياة في خدمة الإنسان لا الإنسان في خدمة الحياة ، وبالتالي ما أراده الله إذ قال : ﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) (2).

وفي تاريخ حياة الإمام الصادق (علیه السلام) في ( بحار الأنوار ) : أن له (علیه السلام) من الشعر قوله :

إنّا من بالنفس النفيسة ربها *** وليس لها في الخلق كلهم ثمن (3)

ومن هذا القبيل أحاديث كثيرة نمسك عن نقلها هنا خوف التطويل .

هل الدنيا والآخرة ضرتان

روى السيد الشريف الرضي (رض) في الجزء الثالث من نهج البلاغة في باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام) ومواعظه ، أنه قال :

إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان ، وسبيلان مختلفان ، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها. وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما ، كلها قرب من واحد بعد من الآخر ، وهما بعد ضرتان .

وهنا يتجه أن نتساءل: ما معنى هذا ؟ وكيف نجمع بينه وبين ما سبق مما استفدناه من منطق القرآن و نهج منطق القرآن ونهج البلاغة في شأن الدنيا ؟

و للإجابة نقول - أولاً : إن من الضروري أن الإسلام لا يمنع من الجمع

ص: 182


1- تحف العقول ص 200
2- سورة الإسراء الآية : 70
3- بحار الأنوار

بين العمل للآخرة وللدنيا بمعنى الإستفادة منها ، وإنما الممنوع منه في الإسلام هو الجمع بينهما بمعنى الهدف والغاية.

وبعبارة أخرى نقول : إن الإستفادة من الدنيا ليست مما يوجب الحرمان من نعم الآخرة قطعاً، وإنما الذي يوجب ذلك هو إرتكاب الذنوب و الآثام لا الإستفادة المباحة من نعم الله الحلال في الدنيا : (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (1) .

والعكس صحيح أيضاً ، فليس الإيمان و العمل الصالح مما يوجب حرمان العبد من الدنيا و ما فيها أبداً ، إذ كان كثير من الأنبياء والمرسلين والأئمة وعباد الله الصالحين الذين لا يشك في إيمانهم وصلاحهم متنعمين بكثير من خلال الله في الدنيا .

إذن فنقول : لنفترض إنّا فهمنا من هذه الرواية ما يوهم هذه الرواية ما يوهم أن بين الدنيا والآخرة عداوة ومنافرة ، فإنّا سنرفع اليد عنه بحكم تلك الأدلة القطيعة المخالفة.

وثانياً - نقول : نحن لو أمعنا النظر في هذا التعبير توصلنا إلى نقطة بليغة لا يبقى معها منافرة بين هذا التعبير مع تلك الأصول المسلمة القطيعة . ولكي تتضح لنا تلك النقطة نقدم مقدمة ، فنقول :

- إن علاقة الإنسان بالدنيا لا تخلو من إحدى حالات ثلاث :

1 - أن يجعل الدنيا أكبر همة ، والآخرة - مع ذلك - نصب عينيه !

2 - أن يجعل الدنيا أمام عينيه ، والآخرة خلف ظهره

3 - أن يجعل الدنيا وسيلة ، والآخرة غاية

فالحالة الأولى : هي حالة العداوة و المنافرة ، وهي الحالة التي يكون فيها مثلهما كمثل الضرّتين ، أو المشرقين والمغربين والماشي بين هذين .

و أما الحالة الثانية: فهي - والأولى - التي ورد النهي عنها في الآيات والروايات .32

ص: 183


1- سورة الأعراف الآية : 32

وأما الحالة الثالثة : فهي - فقط - التي ارتضاها الله لنا ورسوله (%) .

إن المضادة بين الدنيا و الآخرة إذ يجعل إحداهما هدفاً والأخرى وسيلة تكون من نوع المضادة بين الناقص والكامل ، فإذا كان الهدف هو الناقص لزم الحرمان عن الكامل ، أما إذا كان الهدف هو الكامل لم يلزم الحرمان عن الناقص ، بل لازم الإستفادة من الناقص في سبيل الوصول إلى الكامل بصورة إنسانية معقولة وسامية ، كما أن الأمر كذلك في النسبة بين كل تابع ومتبوع ، إذ لو كان غرض الإنسان الإستفادة من التابع لزم حرماته عن المتبوع ، أما إذا كان غرضه الإستفادة من المتبوع تابعة التابع بنفسه .

وفي الحكمة ( 269 ) من نهج البلاغة إشارة واضحة إلى هذا ، حيث يقول (علیه السلام) :

الناس في الدنيا عاملان :

عامل في الدنيا للدنيا ، قد شغلته دنياه عن آخرته ، يخشى على من يخلفه الفقر ويأمنه على نفسه ، فيفني عمره في منفعة غيره .

وعامل عمل في الدنيا لما بعدها ، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل ، فأحرز الحظين معاً ، و ملك الدارين جميعاً . فأصبح وجيهاً عند الله لا يسأل الله حاجة فيمنعه (1).

و قد جاءت هذه النسبة بين الدنيا و الآخرة : أن الآخرة هي المتبوعة و أن الدنيا هي التابعة لها ، وأن تبعية الدنيا تبعية للتابع تستلزم الحرمان عن المتبوع الأصل وهو الآخرة ، ولكن تبعية الآخرة تبعية للمتبوع تستلزم تبعية الدنيا لها ... جاءت هذه النسبة في القرآن الكريم ، في الآيات : 145 - 148 من سورة آل عمران بالصراحة ، وفي الآيات : 18 و 19 من سورة الإسراء ، والآية : 20 من سورة الشورى بتلويح كالتصريح .

ويمثل المولوي المثنوي الرومي للدنيا و الآخرة بقطار النوق وبعراتها ، فيقول :

عليك بالدين ، حتى تنتفع بنصيبك من المال والجمال والجاه تبعاً له . 9

ص: 184


1- الحكمة : 269

وانظر إلى الأخرى كأنها قطار من بعير ، والدنيا كأصوافها و أوبارها وبحراتها تابعة لها ، فإنك إذا استهدفت الصوف والشعر والوبر لم يكن لك بعير ، لكنك إذا استهدفت نفس النوق كان لك أصوافها وأوبارها تبعاً لها .

ويريد : من كان هدفه أن يمتلك قطاراً من الإبل كان له بتبعها الوبر والبعر ، أما من كان هدفه الوبر والبعر لم يمتلك قطار الإبل أبداً ، بل امتلك الأخرون ذلك ، وكان عليه أن يستفيد من بعرات نياق الآخرين !

اعمل لدنياك ... واعمل لآخرتك ...

وهناك حديث آخر كثر السؤال و النقاش حوله :

روي عن الرسول (%) تارة ، وعن الإمام (علیه السلام) أخرى ، وعن ابنه الإمام المجتبى (علیه السلام) في وصيته الجنادة بن أمية أيضاً، بألفاظ مختلفة ومضمون واحد :

كن لدنياك كأنك تعيش أبداً ، وكن لآخرتك كأنك تموت غداً .

فقال البعض: إن معنى هذا الحديث هو : أن يتسامح الإنسان في عمل الدنيا ولا يعجل ، فكلما عرض له عمل للدنيا يقول : إني أعيش هنا أبداً ، فلا داعي لي أن أقوم به الآن. فسأفعله بعد ، فإنه لا يفوتني ... و لكنه بالنسبة إلى عمل الآخرة يقول : سأموت غداً و ليس لي سوى هذا اليوم ، فالوقت ضيق وسيفوتني إن لم أقم به الآن .

ولم يصدق الآخرون أن يأمر الإسلام وأئمته بالتساهل والمسامحة ، ولم يروا في سيرتهم (علیه السلام) ذلك. فقالوا : إن معنى هذا الحديث هو : أن يقول الإنسان في العمل للدنيا : إني أعيش هنا أبداً ، فلا ينبغي لي أن أحتقر الأعمال فأفعلها بصورة مؤقتة ، بحجة عدم وفاء الدنيا وعدم وفاء العمر فيها ، بل يجب علي أن أقوم بها بصورة أساسية أضمن فيها المستقبل، لنفسي فإني سأعيش هنا أبداً ، و على فرض عدم بقائي بها أبداً سيستفيد من عملي الآخرون بعدي فيها. وبالنسبة إلى عمل الآخرة يقول : سأموت غداً فلا فرصة لي للقيام به بعد هذا ، فيصلي - مثلاً - صلاة المودع للحياة ، ويصوم كذلك ، ويؤدي الديون وحقوق الناس كذلك ، وهكذا ...

وأقول : إن هذا الحديث من ألطف الأحاديث في الدعوة إلى العمل وترك

ص: 185

الإهمال، سواء في الأمور الدينية والأخروية أو الدنيوية .

و للمثال نقول : إذا كان الشخص يعيش في دار يعلم بأنه سوف ينتقل منها إلى دار أخرى يعيش فيها أبداً ، ولكنه لا يعلم متى يكون هذا الإنتقال ، لا اليوم والا الشهر ولا السنة .. فهو يعيش حالة التردد في تعهد العمران بالنسبة إلى كلا الدارين ، إذ لو كان يعلم أنه سينتقل من هذه الدار في القريب العاجل جداً كان يصرف همه للعمل لتلك الدار ويهمل العمل لهذه ، وبالعكس إذا كان يعلم أنه سوف لا ينتقل من هذه الدار إلا بعد لأي من الزمن فإنه سيصرف همه لتعهد العمران في الدار التي هو فيها ويهمل العمل للأخرى ، ويقول في نفسه : يجب عليّ الآن أن أعمل هذه الدر التي أنا فيها ، وأما الأخرى فسوف نصل للعمل لها فيما سيأتي من الأيام ، فإن الفرص كثيرة ، والأقرب يمنع الأبعد .

وفي حالة التردد - الأولى - يأتي دور هذا الحديث ليقول له : بالنسبة إلى هذه الدار التي أنت بها الآن افترض أنك تعيش فيها دهراً من الزمن ، فإن كانت بحاجة إلى العمران فتعهدها بالتشييد والإتقان ... وبالنسبة إلى تلك الدار الأخرى افترض بالعكس أنك ستنتقل إليها غداً ، فعجل عمرانها وتشييدها قبل الفوت وقبل الموت .

والنتيجة الحتمية لهذه النظرة إلى الحياة الدنيا والأخرى : أنه سيعمل بجد لكلا الدارين ... فلنفترض أن إنساناً مسلماً يريد أن يطلب علماً أو يؤلف كتاباً أو يؤسس مؤسسة خيرية تستغرق ردحاً من الزمن، فإن كان يعلم أن عمره لا يكفي للقيام بهذا العمل وأنه سيبقى أثراً ناقصاً ، فهنا يقال له : افترض أن عمرك أطول من جميع هذه الأعمال. ولكن نفس هذا الشخص إذا أراد أن يقوم بعمل من أعمال الآخرة من التوبة والصلاة والزكاة وأداء الحقوق التي عليه الله وللناس وقضاء ما فات منها ، فإنه يقال له : افترض أنك تموت غداً و فعجل بالتوبة قبل الموت وبالصلاة قبل الفوت و صل صلاة المودع إذ لو كان هنا أيضاً يفترض أنه سیعیش أبداً فإنه سوف يسوّف في الأعمال حتى تبلغ به الآجال .

وتبين من هذا المثال : أن افترض بقاء الوقت في بعض الموارد يستلزم الإقدام على العمل ، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإحجام عنه. وفي بعض الموارد الأخرى يكون الأمر على عكس هذا تماماً، أي أن افتراض بقاء الوقت

ص: 186

يستلزم الإهمال والإحجام عن العمل، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإقدام عليه. إذن فالفرق بين الفرضين هو الفرق بين الموردين، فاللازم أن نفترض في كل مورد ما ينتهي بالإنسان إلى الإقدام على الأعمال، سواء كان من عمل الدنيا أو الآخرة.

ويصطلح الأصوليون هنا بقولهم: إن لسان الدليل هنا إنما هو لسان التنزيل والتمثيل، فلا مانع من أن يكون التنزيلان متضادين من جهتين.

ويكون ملخص معنى الحديث هو: القول في بعض الأعمال بأصالة الحياة وبقائها ودوام العمر فيها. وفي البعض الآخر القول بأصالة عدم بقاء العمر وقلته فيها. والضابط هو: القيام بالأعمال وعدم الإهمال سواء في عمل الدنيا أم الآخرة.

وليس ما قلناه من المعنى هنا توجيهاً بلا دليل (بل هناك عدة روايات أخرى توضح لنا مفهوم هذا الحديث على ما قلناه هنا، وإنما وقع الخلاف فيه لعدم الإلتفات إلى تلك الروايات):

1 - فقد نقل المرحوم المحدث القمي (ره) في كتابه «سفينة البحار» في مادة: رفق:

إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال الجابر بن عبد الله الأنصاري: «إن هذا الدين لمتين، فأوغل فيه برفق.. فاحرث حرث من يظن أنه لا يموت، واعمل عمل من يخاف أنه يموت غداً (1)

2 - وفي «الكافي» فيما أوصى به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علياً (علیه السلام) قال: إن هذا الدين متين، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، واحذر حذر من يتخوف أنه يموت غداً (2)

يعني إذا عرض لك عمل نافع يحتاج القيام به إلى وقت كثير فظن أن عمرك سيطول حتى تقوم به، وإذا خطر ببالك أن الوقت كثير فأردت أن تؤخر العمل.

ص: 187


1- سفينة البحارج؛ مادة رفق
2- بحار الأنوار - المجلد 15 قسم الأخلاق الباب: 29.

النافع فظن أنك تموت غداً، فلا تؤخر العمل ولا تفوت الفرص

3 - وفي «نهج الفصاحة» عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه كان يقول: «وأصلحوا دنياكم، وكونوا لآخرتكم كأنكم تموتون غداً»

4 - وفيه عنه أيضاً: و اعمل عمل امري يظن أنه لن يموت أبداً، واحذر حذر امرى يخشى أن يموت غداً.

5 - وفيه عنه أيضاً: «أعظم الناس همّا المؤمن، يهتم بأمر دنياه وأمر آخرته.

6 - وفي (تحف العقول) عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) أنه قال: «ليس منّا من ترك دنياه لدينه» أو ترك دينه لدنياه.

العبوديات والحريات

طال البحث في عبودية الدنيا والمادة في: نهج البلاغة. وقد بقي موضوع لا نستطيع أن نتعداه بلا قول فيه، وهو:

إشكال:

إذا كانت العلاقة الروحية بشيء نوعاً من المرض والمسخ للقيم الإنسانية، وموجباً للجمود والركود والوقوف عن الحركة والنشاط، فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء من المادة أو المعنى؟ من الآخرة أو الدنيا؟ من الخالق أو من المخلوق؟ ولو كان الإسلام في تحذيره عن التعلق القلبي بالدنيا والمادة ينظر إلى صيانة الشخصية الإنسانية الأصيلة و تحريرها عن أسر الركود والجمود والتوقف لكان عليه أن يدعو إلى «الحریة المطلقة» وأن يعد جميع القيود أنواعاً من الكفر والجحود! كما نرى ذلك في بعض المدارس الفلسفية الحديثة التي ترى «الحرية» ركناً أساسياً في تكوين الشخصية الإنسانية، «كالوجوديين»

ويرى بعض أرباب هذه المدارس الفلسفية الحديثة: أن الشخصية في الإنسان تساوي العصيان والتمرد على جميع القيود والتحرر من كل ألوانها وأشكالها بلا استثناء، ويعدون كل قيد وانقياد من أضداد الشخصية الواقعية للإنسان،

ص: 188

وموجباً لبعده عن واقعه الإنساني! ويقولون: إن الإنسان لا يكون إنساناً ولا يتمتع بالإنسانية إلا بمقدار ما يفقد في نفسه التسليم والتمكين والخضوع! إذ أن من خواص العلاقة والإعجاب بالشيء أن يجذب ذلك الشيء انتباهه إليه ويسلبه إنتباهه إلى نفسه، بل ينسيه نفسه، وبالتالي يتبدل هذا الموجود الحي الواعي الذي يسمى إنساناً، وتتلخص شخصيته في هاتين الكلمتين: إلى موجود و أسير غافل وعلى أثر نسيانه لذاته ینسی قیمه الإنسانية، ويقف بأسره وعلاقته عن الحركة والرقي، في نقطة الجمود والركود!

فلو كانت فلسفة مكافحة الإسلام لعبودية الدنيا والمادة هي: إحياء شخصية الإنسان المسلم، لكان عليه أن يمنع عن كل عيادة وكل قيد. بينما لا نشك أن الإسلام إنما يريد تحريره عن المادة والدنيا لتقييده بالمعنى والآخرة، وإنما يريد تركه للمخلوق لعبادة الخالق!

والشعراء العرفاء في الإسلام إنما دعوا إلى التحرر وهم يستثنون منها

فحافظ الشيرازي يقول:

«أنا عبد لمن كان في هذه القبة الزرقاء ...

حراً عن كل لون وكل ما يقبل اللون ...

إلا علاقة خاطره بقمر منير ...

تكون الخواطر بحبه فرحة مع جميع الغموم.

أنا أجهر بقولي وأنا فرح بندائي هذا:

أتي عبد لهواه، وحر عن آخرته ودنياه!

وليس على لوح قلبي سوى (الألف) من (الله)!

ومالي لا أعبد الذي فطرني على هذا ...

فالعرفان الإسلامي يرى: أنه يجب على الإنسان أن يتحرر عن قيد العالمين، ولكن يجب عليه أن يتقيد بقيد عبودية الإله، ويجب أن يكون لوح الضمير غير مسود بأي خط أو رسم أو قلم أو رقم، إلا رقم «الواحد»، ولا ينبغي أن يتعلق خاطره بأي شيء سوى ذلك القمر المنير الذي لا يضر معه أي حزن أو ألم، وهم يعنون به: «الله»

ص: 189

فالتحرر العرفاني الإسلامي لا يُعالج شيئاً من مشاكل الإنسان في نظر الفلسفات الإنسانية الوجودية، إذ هو تحرر نسبي، تحرر من أشياء لعبودية شيء آخر. والعلاقة هي العلاقة. والأسر هو الأسر، وإن اختلف السبب.

ولا شك عند المدارس الفلسفية الإنسانية في القول بأن كل شيء يربط الإنسان بنفسه هو مما يتناقض والشخصية الإنسانية، إذ هو يجمده ويوقفه. ومسيرة التكامل في الإنسان مسيرة لا نهاية لها فكل ركود فيها يضادها ويناقضها.

ولا بحث لنا في هذا، أي نحن أيضاً نقبل هذا الكلام بصورة عامة، إنما الكلام في أمرين:

أول: هل أن القرآن ومعه نهج البلاغة ينظران إلى علاقة الإنسان بالدنيا هكذا؟ فهل الذي يدينه القرآن هي العلاقة الرابطة التي تجعل الدنيا أكبر الهم؟ وهذا يضاد تكامل الإنسان وحركته وتقدمه واطراده، وهذا هو السكون والركود والوقوف بل الفناء! فهل أن القرآن لا يدين جميع أنواع العلاقة بالدنيا حتى ما لا يكون منها موجباً للوقوف؟

والثاني: لو كانت العلاقة التامة بشيء بحيث تجعله هدفاً تستلزم القيد والأسر وبالتالي الجمود والركود، فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أم مخلوقاً؟

إن القرآن ينفي كل عبودية ويدعو إلى الإنسانية والحرية المعنوية، ولكنه لا ينفي عبودية الله والعلاقة به، ولا يدعو إلى التحرر عن الرب بلوغاً إلى الحرية التامة المطلقة، بل إن دعوة القرآن إنما تبتى على أساس التحرر عما سوى الله، والتمرد عن إطاعة غير الله والإستسلام لله.

إن كلمة: لا إله إلا الله: التي هي أساس بناء الإسلام، تبتنى على نفي وإثبات، سلب وإيجاب، كفر وإيمان، تمرد وإذعان: فالنفي والسلب والكفر والتمرد بالنسبة إلى غير الحق المطلق، والإثبات والإيجاب والإيمان والإذعان بالنسبة إلى ذات الحق المطلق. إن أولى الشهادتين في الإسلام ليست «لا» فقط

كما أنها ليست: نعم فحسب، بل هي مركبة من «لا» إله «إلا الله».

فلو كان تكامل الشخصية الإنسانية يوجب تحرره عن كل قيد وطاعة وتسليم

ص: 190

وعبودية، وتوجب عصيانه لكل شيء ونفيه لكل إثبات طلباً للإستقلال بكماله الإنساني، والحرية المطلقة - كما يقول الوجوديون - فأي فرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أو غير خالق؟ وإذا كان على الإنسان أن يقبل نوعاً من الأسر والطاعة والقيد والعبودية والتوقف والركود، فما الفرق أيضاً بين أن يكون ذلك و الإله هو الله أو غير الله؟

أم أن هناك فرقاً بينما إذا كان الهدف هو الله عما إذا كان الهدف غير الله؟ وإذا كان كذلك فما هو المبنى والأساس في ذلك؟ وما هو توجيهه وتفسيره؟

ونصل في مقام الإجابة هنا إلى أجلى وأرقى المعارف الإسلامية الإنسانية، وهذا البحث من الموارد التي تتجلى فيها عظمة منطق الإسلام من ناحية وضمور الأفكار الأخرى من ناحية أخرى.

هذا هو الإشكال الذي يطرح نفسه في ذهن بعض المنتمين إلى المدارس الفلسفية الحديثة.

والجواب:

ولكي نوضح الموضوع لا بد لنا من الإشارة إلى بعض المباحث الفلسفية، فنقول: لقائل أن يقول: إن افتراض نوع من الشخصية للإنسان بصورة عامة، والإصرار على صيانة الشخصية الإنسانية وعدم تبدّلها عما هي عليها. إن هذا هو مما يستلزم نوعاً من توقيف حركة الإنسان نحو تكامله، إذ أن الحركة: تستلزم التغير والتحول والتبدل وهي كونه شيئاً ثم كونه شيئاً آخر، إنه إنما يمكن صيانة النفس عن التبدل والتحول في ظل السكون والوقوف.

وبعبارة أخرى: إن من لوازم الحركة للتكامل هو التحول والتبدل، ولهذا عرف بعض قدماء الفلاسفة الحركة بالتغيّر.

إذن: فافتراض الشخصية للإنسان والإصرار على صيانتها وعدم تبدلها إلى غيرها من ناحية، والتكامل له من ناحية أخرى، هو نوع من التناقض الذي لا يقبل الحل.

ص: 191

وقد قال بعضهم للخروج عن هذا التناقض: إن شخصية الإنسان أن لا تكون له شخصية خاصة تحده! فهو - على مصطلح الفلاسفة - لا تعيني مطلق! فحده أن لا يكون له حد خاص يحده، ولونه أن لا يكون له لون خاص يصوره ويقيده بنفسه، وشكله أن لا يكون له شكل خاص يشكل عليه الخروج منه، وقيده أن لا يكون عليه قيد يقيده ويأسره، وماهيته أن لا تكون له ماهية! والإنسان موجود لا طبيعة له، فاقد لكل نوع فاقد لكل نوع من أنواع الإقتضاء الذاتي، لا لون له ولا شكل ولا ماهية، وإذا نحن حملناه أي حد أو قيد أو طبيعة أو لون أو شكل سلبناه شخصيته الواقعية!

وهذا الكلام أشبه بالشعر منه بالفلسفة! فإن اللاتعينية المطلقة واللانسونية واللاشكلية المطلقة إنما تمكن بإحدى صورتين:

إحداهما: أن يكون ذلك الموجود منتهى الكمال الفعلي بلا نهاية، أي يكون وجوداً لا حد له، محيطاً بجميع الأزمنة والأمكنة، قاهراً لجميع الموجودات - كما أن الله هكذا - وحينئذٍ يكون التكامل على هذا مُحالاً، إذ التكامل هو الإنطلاق من النقص إلى الكمال، ولا نقص في هذا.

والأخرى: أن يكون الموجود فاقداً لكل كمال وفعلية، أي يكون إمكاناً واستعداداً صرفاً، فهو في هامش الوجود وفي ظل العدم، وهذا لا حقيقة له ولا ماهية، فهو يقبل كل حقيقة وكل ماهية وكل تعيين. وهكذا موجود - مع أنه لا تعيّن له في ذاته - يكون موجوداً دائماً في ضمن تعين خاص، ومع أنه لا لون له في ذاته ولا شكل ولكنه يكون مستقراً إلى ظل موجود له لونه وشكله. وهذا النوع من الوجود هو الذي يسميه الفلاسفة: «الهيولى الأولية» أو «مادة المواد» وهو مستقر في مراتب الوجود المتدرجة إلى الأسفل في هامش الوجود، كما أن ذات الباري سبحانه مستقرة في مراتب الكمال الوجودي في الطرف الآخر المحيط بجميع الوجود.

و الإنسان - كسائر الموجودات - مستقر في وسط هذين الطرفين، فلا يمكن أن يكون فاقداً لجميع أنواع التعيّنات. وإنما يتفاوت الإنسان عن سائر موجودات العالم بأن لا حد لتكامل الإنسان يوقفه عنه، بينما تقف سائر الموجودات عند

ص: 192

حدودها المعينة لها فلا تستطيع أن تتعداها، من دون أن يكون للإنسان حد يقف دونه.

وعلى خلاف نظر الفلاسفة أصحاب أصالة الماهية الذين كانوا يرون أن ذات كل شيء تساوي ماهيته، فكانوا يقولون بإستحالة التغيير الذاتي والماهيوي، وكانوا يرون أن جميع التغييرات إنما يمكن تصورها والتصديق بها في عوارض الأشياء، لا ذواتها و ماهياتها ... على خلاف هؤلاء نقول: إن للإنسان طبيعة وجودية خاصة، إنها كسائر الطبائع المادية الموجودة سيّالة متغيرة، مع فرق: أن لا حد لحركة الإنسان.

وقد حمل بعض المفسرين في تأويلاته الخاصة قوله سبحانه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فأرجعوا) على وجود الإنسان وقال: هذا هو الإنسان الذي ليس له منزل معيّن ولا مقام معلوم، فكلما تقدم استطاع أن يسمو أكثر فأكثر وهكذا ...

وإنما نقصد من هذا أن علماء المسلمين يرون الإنسان هكذا. ولا علينا الآن أيحق لنا أن نؤول آيات القرآن الكريم إلى تأويلات كهذه؟ أم لا؟

وأنا أرى أن في حديث المعراج رمزاً إلى هذه الحقيقة، حيث يقف جبرئيل ويقول: إن تقدمت أنا أكثر من هذا قيد أنملة احترقت أ ويتقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو إنسان، وجبرئيل ملك.

وللعلماء بحث حول الصلوات على رسول الله وآله الأطهار وجوباً أو استحباباً. هل أن في هذه الصلوات نفعاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو أكمل إنسان؟ فهل يمكن أن يتقرب رسول الله أكثر من الكمال الأعلى دون الله؟ أم أن نفع هذه الصلوات إنما يرجع إلينا فقط؟ وأن ذلك لرسول الله وآله طلب لتحصيل الحاصل. فبعضهم على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) دائماً في حال التكامل والتقرب، ولا يتوقف عن هذه الحركة أبداً، كما جاء هذا في شرح الصحيفة السجادية - للسيد علي خان «قده»:

والذي جعل الإنسان هكذا هو «اللاتعين الصرف» بل نوع من التعين الذي يعبر عنه «بالفطرة»، ونحوها.

ص: 193

فليس للإنسان محد ... ولكن له طريق ...

والقرآن يؤكد على الطريق المعيّن للإنسان الذي يعبّر عنه (بالصراط المستقيم). وليس للإنسان مرحلة توقف، بل يجب عليه إذ توصل إلى مرحلة أن ينطلق إلى مرحلة أخرى ... ولكن له مدار معين يجب عليه أن يتحرك في ذلك المدار المعين، فإن تكامله هو حركته في مداره الإنساني، لا في مدار آخر كمدار الكلب والخنزير مثلاً ... وليس خارجاً عن كل مدار أي ليس في هرج ومرج!

وهذا هو الإنتقاد الحق على منطق «الوجوديين» الذين ينكرون كل تعين للإنسان وكل لون وشكل له، ويرون أن كل قيد - حتى قيد الطريق والمدار الخاص - يضاد إنسانية الإنسان، ويؤكدون على تمرده وعصيانه وتحرره عن جميع القيود فقط ... فإن هذا يستلزم سلب جميع المسؤوليات، ونفي جميع الأخلاقيات، والهرج والمرج.

والآن نرجع إلى كلامنا الأول، فتساءل: هل أن حركة التكامل تستلزم نسيان الذات وفقدان الشخصية؟ وهل أن الموجود يجب عليه إما أن يسلك سبيل التكامل أو يبقى هو هو؟ والإنسان هل يجب أن يتكامل فيتحول و تتبدل شخصيته أو يبقى هو هو؟

والجواب: إن حركة التكامل الواقعي أي الحركة إلى الكمال الطبيعي، أو قل: من الطريق الطبيعي والصراط الطبيعي للخلقة وغايتها، لا تستلزم أن تتبدل شخصية الإنسان الواقعية إلى شخصية أخرى.

والشخصية الواقعية لأي موجود هي «وجوده» وليست «ماهيته»، فالتغيير في الماهية والنوعية لا يستلزم تبدل شخصيته أبداً.

ويصرح المرحوم الشيخ صدر الدين الشيرازي «المولى صدرا» - وهو بطل هذه المسألة - : بأن الإنسان ليست له نوعية خاصة، وهو يدعي: أن كل موجود حينها يطوي مراحل كماله لا يبقى على نوعه الأولي الواحد بل يتبدل إلى أنواع في حين أن وجوده نفس ذلك الوجود الأولي. وأن رابطة الموجود الناقص بغايته وكماله طبيعي ليست رابطة شيء أجنبي بشيء أجنبي آخر، بل هي رابطة شيء بنفسه،

ص: 194

رابطة شيء ضعيف بقوته، فالشيء حينما يتحرك نحو كماله يتحرك من نفسه إلى نفسه، أو قل من نفسه التي لم تصل إلى شخصيتها إلى أن تجد شخصيتها الواقعية بكمالها. فالنبات الذي يشق الأرض وينمو ويجد لنفسه عوداً وفرعاً وورقاً، لم يتحرك في سيره هذا من نفسه إلى غير نفسه، ولو كان شاعراً بنفسه لم يشعر يبعد عن نفسه أو شخصيته.

ويعمد هذه المقدمات نستطيع الآن أن نصل إلى: أن بين العلاقة بالله والحركة نحوه وعبوديته والتسليم له وبين أي حركة أخرى وعلاقة أخرى وعبودية أخرى وتسليم آخر، تفاوتاً كثيراً وبعداً كبيراً كبعد المشرقين، فإن العبودية لله هي الحرية، وإن العلاقة به هي العلاقة الوحيدة التي ليس فيها جمود وتوقف، وعبودية وحيدة ليس فيها فقدان الشخصية ونسيان الذات.

والدليل على ذلك: هو أن الله سبحانه هو كمال كل موجود، وهو المعبود الفطري لجميع الموجودات: «وان إلى ربك المنتهى» إذن: فالعبودية له هي الحرية، وفقدان الشخصية فيه هو وجدان للشخصية الواقعية.

وقد توصلنا هنا إلى نقطة نستطيع معها أن توضح ما يشير إليه القرآن الكريم: بأن نسيان الله هو نسيان للذات، وفقدان الله هو فقدان الذات والإنقطاع عن الله هو الإنقطاع والسقوط.

خسران الذات ونسيانها:

أتذكر أني منذ ثمانية عشر عاماً (1) التفت لأول مرة - في جلسة خاصة كنت أفسر فيها آيات من القرآن الكريم - إلى أن القرآن يستعمل كلمات خاصة في شأن بعض البشر، فيقول مثلا:

(قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) (2).

ص: 195


1- قال هذا في عام 1394 ه - ، فيكون ذلك في عام 1376 ه -
2- سورة الأعراف: 53.

(قل: إن الخاسرين: الذين خسروا أنفسهم ...) (1)

(نسوا الله، فأنساهم أنفسهم) (2)

ويفكر المتفلسف هنا ويتساءل: هل يمكن للإنسان أن يخسر نفسه؟! إذ الخسران هو الفقدان والضياع، وهو لا يكون إلّا بشيئين: خاسر فاقد، والآخر مفقود ضائع. فكيف يمكن للإنسان أن يخسر نفسه ويفقدها ويضيّعها؟! أليس هذا من التناقض؟!

ثم هل يمكن للإنسان أن ينسى نفسه؟ إذ الإنسان الحي غارق في ذات نفسه، لا یری شيئاً إلا بإضافته ونسبته إلى نفسه، فهو يلتفت إلى نفسه قبل كل شيء إذن: فما معنى نسيانه لها؟!

والتفت بعد ذلك إلى أن لهذه المسألة سابقة قديمة في المعارف الإسلامية، من الأحاديث والأدعية والعرفان والأدب العرفاني الإسلامي. وعلمت: أن الإنسان قد تلتبس عليه نفسه بغيرها فيحسبها نفسه، وبما أنه يحسب غيره نفسه فما يفعله ويحسبه لنفسه يكون قد فعله لغيره في الحقيقة والواقع، ويكون قد ترك نفسه وهجرها ونسيها بل مسخها!

مثلا: حيث يحسب الإنسان أن شخصيته الواقعية هي «شخصه الجسماني» فيما يفعله يفعله لجسمه، يكون قد ضيع نفسه ونسيها، وحسب غيره نفسه.

فمثله - على حد تعبير المولوي - كمثل من يتعب لأرض يحبها أرضه فيأتي لها بالبناء والعمال والمواد الإنشائية فيبنيها، ثم يصبغها ويزينها بأنواع الفراش والسّتر الجميلة، وحينما يريد أن ينتقل إليها ينتبه إلى أنه قد بنى وعمر وفرش وزین أرضاً هي غير أرضه! وأن أرضه بعد بائرة إلى جانب هذا البناء:

لا تبن دارك في أرض غيرك ...

اعمل لنفسك لا تعمل لغيرك ...9

ص: 196


1- سورة الزمر: 15
2- سورة الحشر: 19

من هو غيرك؟ هو جسمك ...

الذي أنت تحزن له ...

فإنك حينها تحلي وتدسم جسمك ...

لا تسمن جوهر روحك.

ويقول في مقام آخر:

يا من خسر نفسه في ساحة الصراع ...

لم تفرق بين نفسك والآخرين

في أي صورة تأتي لتقول:

ها أنذا، لست والله أنت أنت!

إذ لو بقيت وحدك عن نوعك.

غرقت في الفكر والحزن إلى رقبتك.

إذن فلست أنت أنت، بل أنت ذلك المغتر.

والسكران والفرحان بنفسك وجمالك.

وللإمام (علیه السلام) في هذا المقام مقال جميل يقول فيه:

عجبت لمن ينشد ضالته وقد أصل نفسه فلا يطلبها (1).

ولا ينحصر ضياع النفس ونسيانها في خطأ الإنسان في هويته و ماهيته، بل قد تلتبس عليه نفسه بجسمه أو بدنه البرزخي أحياناً، كما قد يتفق هذا لبعض أرباب السلوك.

وقد قلنا في الفصل السابق: إن كل موجود حينما يطوي في مسير تكامله الفطري طريق الكمال يكون في الحقيقة يسير في نفسه الضعيفة إلى نفسه القوية.

وعلى هذا فإن إنحراف أي موجود عن مسير تكامله الواقعي يكون إنحرافاً عن نفسه إلى غيره، وهذا الإنحراف يتحقق في مورد الإنسان أكثر من أي موجود آخر، لأنه حر مختار، فكل ما يختاره لنفسه غاية، يكون قد جعله في الحقيقة في مكانه نفسه وشخصيته الواقعية، فإن كانت غاية منحرفة يكون مبدلاً غيره.

ص: 197


1- الغرر والدرر - للآمدي ج 4 ص 340.

بنفسه. فكل ما جاء في ذم الفناء في الماديات إنما ينظر إلى هذا الخطأ والإلتباس.

إذن: فاختيار الغايات والأهداف المنحرفة عامل في خطأ الإنسان في نفسه وشخصيته الواقعية، وبالتالي ينسى شخصيته الواقعية ويفقدها.

وليس إختيار الأهداف والغايات المنحرفة موجباً لإصابة الإنسان بمرض نسيان ذاته وفقدانها فقط، بل قد يصل به الأمر أحياناً إلى أن يمسخ ماهيته الواقعية ويبدلها بذلك الهدف المنحرف.

وفي المعارف الإسلامية باب واسع في أن المرء يحشر مع من أحب:

فقد ورد في أحاديثنا: «من أحب حجراً حشره الله معه» (1)

وبالإلتفات إلى المسلمات من المعارف الإسلامية التي تقول بأن ما اكتسبه الإنسان في هذه الحياة سيظهر في يوم القيامة مجسماً، يتضح لنا أن السبب في حشر الإنسان مع ما أحبه هو: أن حب الإنسان للشيء يجعله في مرحلة الغاية والهدف له، فيقع ذلك الشيء في مسير تكوين شخصية الإنسان، وتنتهي تلك الغاية المنحرفة بالإنسان بالتالي إلى تبدل واقعية الإنسان إلى ذلك الشيء.

وللحكماء المسلمين في هذا الموضوع كلمات كثيرة لا مجال لنا هنا للبحث فيها، ونختصر كلامنا هنا بترجمة قطعة من الرباعيات العرفانية في هذا الصدد، يقول الشاعر:

لو كنت في طلب جواهر المعادن كنت معدناً

أو كنت في طلب الروح كنت روحاً.

إني سأصرح لك بحقيقة الأمر فأقول:

كل ما كنت أنت في طلبه كنت ذلك الشيء.

فهذان شرطان في وجدان الإنسان لنفسه و شخصيته الواقعية:

الشرط الأول: أن لا تتبدل شخصيته الواقعية ونفسه بجسمه وجسده وبدنه ب

ص: 198


1- سفينة البحار - مادة: حيب

الشرط الثاني: أن لا تتبدل غايته الواقعية وهدفه بهدف منحرف وغاية منحرفة:

ولذلك - بالإضافة إلى هذين الشرطين - شرط آخر، هو:

من عرف نفسه فقد عرف ربه:

الشرط الثالث: وهو وجدانه لخالقه وموجده وعلته الواقعية ...

إذ يستحيل على الإنسان أن يدرك و يعرف شخصيته الواقعية منفصلة عن علتها وخالقها، فإن علة كل موجود مقدمة على وجود ذلك الشيء، فهي أقرب إليه من نفسه: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (1) و(اعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) (2)

وقد أكد العرفاء المسلمون على عدم الفصل بين معرفة الله ومعرفة النفس، وقالوا بالملازمة بين معرفة النفس على ما هي عليه: ﴿ ونفخت فيه من روحي) ومعرفة الحق المطلق (الله سبحانه)، وهم يخطئون الحكماء المسلمين في مسائل معرفة النفس ولا يرون كلامهم فيها كلاماً وافياً بالمعنى ... وهذا الموضوع هو موضوع أحد الأسئلة التي وردت على الشيخ محمود الشبستري (3) من خراسان وأجاب عنها بالنظم الفارسي فاجتمع من ذلك ما عرف باسم «كلشن راز: حديقة الأسرار».

فقد سأل السائل الخراساني:

مَن أنا؟ أخبرني عن نفسي!

وما معنى السفر في أعماق النفس؟

فبحث الشيخ في جوابه بالتفصيل، ومن جملة ما قاله هنا قوله:

أعرف: أن الأشباح والأرواح نور واحد.

ص: 199


1- ق: 16
2- الأنفال: 24
3- الشيخ محمود الشبستري شيخ الإشراق وصاحب کتاب گلشن راز. (روضة الأسرار).

إلّا أنه يبدو أحياناً في المرآة وأحياناً من المصباح.

وكأنما عباراتي بأية ألفاظ كانت.

هي إشارة إلى الروح.

أنا وأنت أسمى من الأجساد.

فإنهما من أجزاء النفس.

اذهب فاعرف نفسك.

فليس السمن كالورم!(1)

وتوضيح هذا الموضوع يحتاج إلى بحث كثير يخرج بنا عن مستوى هذا المقال، ولذلك فنحن نمسك عن الدخول فيه، ونكتفي بالقول: بعدم الفصل بين معرفة النفس ومعرفة الخالق، كما جاء في كلام رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما: «من عرف نفسه فقد عرف ربه».

وهذا هو معنى كلام الإمام (علیه السلام) حينما سأله ذعلب اليماني: و هل رأيت ربك؟ فقال: أفأعبد ما لا أرى؟ ثم يوضح مراده فيقول: «لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان».

وهنا نقطة جميلة نستفيدها من تعبير القرآن الكريم، هي: أن الإنسان لا يكون فاقداً نفسه إذا كان واجداً ربه، ولا يكون ناسياً نفسه إذا كان غير غافل عن خالقه، إذ أن نسيان الله يلازم نسيان الذات وفقدانها وضياعها: ﴿ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) (2)

ويقول المولوي المثنوي الرومي بهذا الصدد:

لو استقر الجسم في المسك

ظهرت رائحته عند الموت

فلا تتطيب بالمسك على البدن ...19

ص: 200


1- يشير في هذا إلى كلمة محيي الدين بن عربي إذ يقول: من ظن أنه يصل إلى معرفة النفس بما قاله الحكماء فقد أستسمن ذاورم، ونفخ في غير ضرم. فالعرفاء بعضهم من بعض
2- الحشر: 19

بل تطيّب به بروحك» ...

وما هو المسك؟ إنه إسم ربك».

ويقول حافظ الشيرازي أيضاً:

إن أردت أن تكون حاضراً في نفسك فلا تغب عنه!

(متى ما تلق ما تهوى. دع الدنيا ورأهملها)!

ومن هنا يعلم أنا لماذا نقول: إن ذكر الله حياة القلوب ونورها، وطمأنينة الروح وصفاؤها، وبهجة الضمير الإنساني ورقة له وخشوع، ويقظة له وانتباه.

وما أجمل وأعمق ما قاله الإمام (علیه السلام) في نهج البلاغة بهذا الصدد:

«إن الله تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوفرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة، وفي أزمات الفترات رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم فأستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة.

دور العبادة في الإحساس بالشخصية:

والكلام في أبواب العبادات كثير، بحيث إذا أردنا نحن هنا أن نبسط القول فيها كان علينا أن نخصص لها عشرات الكلمات والمقالات. فنحن نشير هنا إلى موضوع واحد من مواضيعها، وهي: تثمين العبادة من حيث احساسها الإنسان نفسه وذاته وشخصيته، فنقول:

كما أن العلاقة بالماديات و الغرق فيها تفصل الإنسان عن شخصيته الواقعية وتجعله بعيداً عن نفسه، كذلك وبنفس النسبة ترجع العبادة بالإنسان إلى نفسه وذاته وشخصيته الواقعية، فإن العبادة يقظة للإنسان وإنتباهة له، وهي تنقذ الإنسان الغريق والفاني في الأشياء من أعماق بحار الغفلات، كما تنقذ الملائكة الغريق من لجج البحار! وإن الإنسان في ظل العبادة وذكر الله یری نفسه کما هی عليه، وينتبه إلى نقصانها وانكسارها، وينظر من خلال أضواء العبادة إلى الحياة والزمان والمكان، فهناك يدرك دناءة آماله وحقارة مناه المادية المحدودة، فيحاول أن يفر منها إلى قلب الوجود!

ص: 201

وإني لأنظر بإعجاب كثير إلى كلمة بهذا المعنى لعالم عصرنا الشهير: آینشتاین. والذي يبعثني على العجب هو أو هذا العالم إنما هو أخصائي في الفيزياء والرياضيات العالية لا في المسائل النفسية والإنسانية والدينية والفلسفية! إنه يقسم الأديان إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: الأديان التي منبعها الخوف من حوادث الطبيعة! والنوع الثاني: الأديان التي منشأها الخصائص الإجتماعية! والنوع الثالث: الدين الواقعي - غير الوهمي - العميق والمعقول، وهو الذي يسميه: الإحساس الديني للوجود أو الخلقة. ثم يشرح إحساس في هذا الدين الحقيقي فيقول:

في هذا الدين: يحس الإنسان بصغر آمال وأهداف البشر، والجلال والعظمة التي تتظاهر من ما وراء ظواهر الطبيعة في الطبيعة والأفكار. فيرى نفسه في قفص كالسجن بحيث يريد أن يطير من ققص جسمه فيدرك جميع الموجود كحقيقة واحدة ... (1).

ويقول الدكتور ويليام جيمز: إن التوجه إلى الخالق هو النتيجة الضرورية لإحساسه بأن أعمق أقسام وجوده الإختياري وجود من النوع الاجتماعي، ولكنه - مع ذلك - إنما يستطيع أن يجد أنيسه ومؤنسه الكامل المطلق في عالم الفكر فقط. وإن أكثر الناس - سواء بالصدف أو على الدوام - يرجعون إليه في قلوبهم وضمائرهم وأفكارهم. وإن أحقر الناس في الأرض يجد بهذا التوجه إلى الخالق نفسه الواقعية ویهبها الشخصية (2).

ولإقبال اللاهوري كلام قيم في تثمين العبادة من حيث إحساس الشخص بها بنفسه، لا أود تركه هنا، إنه يقول:

إن العبادة والتوجه إلى الله بإشراقة النفس: عمل حيوي متعارف عليه، تكتشف بها جزر شخصياتنا الصغار وجودها في ضمن الإطار الكبير من الحياة (3)..

ص: 202


1- نقلاً عن الترجمة الفارسية: دنيائى که من مي بينم ص 40. (الدنيا التي اراها).
2- نقلا عن الترجمة الفارسية: إحياء فكر دیني ص 105
3- إحياء فكر ديني.

المحتويات

المقدمة ... 5

كيف عرفت نهج البلاغة؟ ... 5

مجتمعنا اليوم ونهج البلاغة ... 9

القسم الأول

کتاب غريب ... 15

هذه المجموعة النفيسة ... 15

السيد الرضي ونهج البلاغة ... 16

میزتان ... 18

1 - الفصاحة والجمال ... 19

أ - النفوذ والتأثير ... 20

ب - قالوا فيه ... 21

ج - نهج البلاغة و مجتمعنا اليوم ... 24

2 - الشمول و الإستيعاب ... 27

الإمام (علیه السلام) في مختلف الميادين ... 29

نظرة عامة في مباحث نهج البلاغة ... 31

ص: 203

القسم الثاني

مباحث التوحيد وما وراء الطبيعة ... 35

التوحيد ومعرفة الله ... 35

اعترافات مرّة ... 37

نشأة الفكر الفلسفي عند الشيعة ... 38

دور الفكر الفلسفي في ماوراء الطبيعة ... 41

أثر النظر في الآيات والأفاق ... 46

المسائل العقلية المحضة ... 46

ذات الله وصفاته ... 49

ذات الله ... 49

وحدة الله ليست وحدة عددية ... 51

الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية ... 53

دراسة مقارنة في نهج البلاغة ... 55

نهج البلاغة والأفكار الكلامية ... 55

نهج البلاغة والأفكار الفلسفية ... 57

نهج البلاغة والأفكار الفلسفية الغربية ... 60

القسم الثالث

نظام العبادات ... 63

العبادة في الإسلام ... 63

مراتب العبادات ... 64

العبادة في نهج البلاغة ... 65

عبادة الأحرار ... 66

ذكر الله على كل حال ... 67

مقامات المتقين ... 67

ليالي أولياء الله ... 68

سيماء الصالحين في نهج البلاغة ... 68

ص: 204

ذكر الله في الأسحار ... 69

الخواطر القلبية ... 69

تنهى عن الفحشاء ... 71

وتعالج مفاسد الأخلاق ... 71

وفيها لذة مناجاة الله ... 72

القسم الرابع

الحكومة والعدالة ... 75

مسألة الحكومة في نهج البلاغة ... 75

أهمية الحكومة في نهج البلاغة ... 76

أهمية العدالة في نهج البلاغة ... 80

لا يصح أن نكون متفرجين ... 84

لا يضحي الإمام بالعدالة للمصلحة ... 85

حقوق الناس في نهج البلاغة ... 85

وهكذا قالت الكنيسة ... 86

وهكذا قال الإمام عليه السلام ... 90

الحاكم أمين وليس مالكاً للحكم ... 90

القسم الخامس

أهل البيت (علیه السلام) والخلافة ... 99

المسألة الأولى: المقام السامي لأهل البيت (علیه السلام) ... 100

المسألة الثانية: حق الإمام (علیه السلام) وأولويته ... 102

أولاً: بالنص عليه والوصية إليه ... 102

وثانياً: باستحقاقه ولياقته ... 105

وثالثًا: بقرابته من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ... 106

المسألة الثالثة: نقده الخلفاء السابقين ... 107

أولاً: أبا بكر ... 109

ص: 205

وثانياً: عمر ... 110

وثالثاً: عثمان ... 113

الدور الماكر لمعاوية في قتل عثمان ... 117

المسألة الرابعة: صبر جميل ولكنه مر ... 118

اهتمامه (علیه السلام) بوحدة الضف ... 119

موقفان خطيران: صبر جميل، وقيام هام ... 122

القسم السادس

مواعظ لا نظير لها ... 129

مقارنة بينها وبين سائر المواعظ ... 129

الحكمة والموعظة الحسنة ... 131

الوعظ والخطابة ... 132

الموعظة من أهم أبواب نهج البلاغة ... 134

مواضيع وعظه عليه السلام ... 134

لنتعرف على منطق الإمام (علیه السلام) ... 135

التقوى ... 135

التقوى: وقاية لا قيود ... 135

التقوى تقي الإنسان، والإنسان يحافظ عليها ... 140

الزهد ... 141

الزهد والرهبنة ... 143

مسألتان ... 143

أصول الزهد في الإسلام ... 146

الزاهد والراهب ... 147

الزهد والإيثار ... 148

الزهد والمساواة ... 150

الزهد والتحرر ... 152

الزهد والمعنوية ... 157

ص: 206

الزاهد: قليل المؤونة كثير المعونة ... 161

القسم السابع

حب الدنيا وتركها في نهج البلاغة ... 169

الواجهة الخاصة لكلام الإمام (علیه السلام) وأخطاء الغنائم على عهد الخلفاء ... 169

الواجهة العامة لكلام الإمام (علیه السلام) ... 173

ما هي الدنيا المذمومة؟ ... 173

هل الدنيا سجن المؤمن؟ ... 174

الدنيا في القرآن ونهج البلاغة ... 177

هل الدنيا والآخرة ضرتان؟ ... 182

اعمل لدنياك ... واعمل لآخرتك ... 185

الحريات، والعبوديات ... 188

خسران الذات ونسيانها ... 195

من عرف نفسه فقد عرف ربه ... 199

دور العبادة في الإحساس بالشخصية ... 201

المحتويات ... 203

ص: 207

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.