دراسات في نهج البلاغة

هوية الکتاب

دراسات

في نهج البلاغة

نشورات كتبة الأمن

النجف الأشرف - العراق

المطبعة العلمية في النجف

١٣76ه_ - ١٩٥٦ م

ص: 1

اشارة

المقدّمة

ص: 2

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

الارث الثقافي، وليس الحضارة المادية؛ هو آثمن ما خلفه الانسان لأنسان. فبالثقافة يستكمل الانسان وجوده الحق، لأنها تمدّه بالمعنى الذي لا يكون لولاه سوى وجود تافه فى ميزان القيم والاقدار.

وليست الحضارة المادية، مهما عظمت، سوى حسنة صغيرة من حسنات الثقافة الانسانية اذا قيست بالآثار المعنوية لهذه الثقافة.

ولا تفوتنا ملاحظة أن أغلب الآثار الثقافية وقتية وليست خالدة؛ وتخص بعض الشعوب دول أن تكون للأنسانية كلها، وذلك لا نها تصدر بتأثير عوامل اجتماعية معينة فتلبي حاجات عقلية واجتماعية معينة، ثم تفقد قيمتها عندما ينتفي العامل الذي أثارها، ولا يكون لها من الاصالة والعمق والعمومية ما يهيء لها أن تتعدى محيطها الخاص الى محيط اوسع.

والى جانب هذا الارث الثقافي الموضعي الوقتي تختص كل امة من الامم بآثار قليلة تعتبرها خالدة عندها، لا ينال من جدّتها الزمان مهما طال، لأن البحث فيها يتصل بما يدخل في الكيان الصميمي لتلك الأمة، فهي لذلك تعتبر عند هذه الامة خالدة ما دام لها كيان.

وأقل منها تلك الآثار التي تعتبر ملكا للأنسانية كلها في كل زمان. فلئن كان القسم الاعظم من الثقافة الانسانية محدوداً بحدود الزمان والمكان ولئن كان القسم القلبل منها محدوداً بالمكان وحده، فان القسم الاقل،

ص: 3

والأعظم قيمة، من الثقافة الانسانية لا يحده زمان ولا مكان.

هذه الآثار خالدة عند الناس كلهم لأنها لم توضع لفريق دون فريق، ولم يراع فيها شعب دون شعب، وانما خوطب بها الانسان أنى وجدوكان. ولأنها تلامس كل قلب، وتضمد كل جرح، وتكفكف كل دمعة، كانت ملكا للناس أجمعين، وكانت خالدة عند الناس أجمعين.

وهي قليلة، ولكنها لا تزال على قلتها، تثير في الناس الدوافع الطيبة النبيلة، وتسمو بهم الى أعلى، الى ملاعب النور، كلما شدتهم عوامل الشر إلى التراب.

* * *

و بنهج البلاغة من هذه الآثار.

وسواء نظرت اليه من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون وجدته من الآثار التي تقل نظائرها فى التراث الانساني على ضخامة هذا التراث.

فقد قيل في بيان صاحبه انه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

بيان معجز البلاغة، تتحول الافكار فية الى أنغام، وتتحول الانغام فيه الى أفكار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فاذا أنت من الفكرة أمام كأن حي، متحرك، ينبض بالحياة، ويمور بالحركة.

وتلك هي آية الاعجاز في كل بيان.

ولم يكرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو للتعبير عن عاطفة تافهة مما اعتاد التافهون من الناس أن يكرسوا له البيان ... إن البيان في نهج البلاغة قد كرس لخدمة الانسان.

فلم يمجد الامام الأعظم في نهج البلاغة قوة الاقوياء، وانما مجد نضال

ص: 4

الضعفاء، ولم يمجد غنى الاغنیاء و انما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجد الظالمين العناة، وانما مجد الاتقياء والصلحاء.

إن الحرية والعبودية، والغنى والفقر، والعدل والظلم، والجهل والعلم، والحرب والسلم، والنضال الازلي في سبيل عالم أفضل لانسان أفضل، هوى مدار الحديث في نهج البلاغة.

فنهج البلاغة كتاب انساني بكل ما لهذه الكلمة من مدلول: إنساني باحترامه للانسان و للحياة الانسانية، وانساني بما فيه من الاعتراف للانسان بحقوقه في عصر كان الفرد الانساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنساني ما يثيره في الانسان من حب الحياة والعمل لها فى حدود تضمن لها سموها ونقاءها.

لهذا ولغيره كان نهج البلاغة، وسيبقى على الدهر اثراً من جملة ما يحويه التراث الانساني من الآثار القليلة التي تعشو اليها البصائر حين تكتنفها الظلمات.

وحق له أن يكون كذلك وهو عطاء انسان كان كوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل، ومثلا أعلى في كل ما يشرف الأنسان.

* * *

وهذه دراسات في نهج البلاغة قصدت من وضعها الى ان أكشف عن ناحية ما فطن لها من كتبوا عن الامام علي عليه السلام، وهي آراؤه في الاجتماع والاقتصاد و السياسة. فان آراء الامام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لم تلاق من الكتّاب العناية التي تستحقها، وكأن البحث في نشاطه السياسي قد صرفهم عن البحث في نشاطه العلمي، مع ان نشاطه السياسي

ص: 5

لا يمكن ان يفهم حق الفهم إلا اذا درس على ضوء آرائه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وشيء آخر حفزني الى وضع هذه الدراسات، وهو ان قسماً كبيراً من الوعاظ يقدمون نهج البلاغة الى الجماهير على انه كتاب وعظي يشلّ في الأنسان إرادة الحياة، على ما هو المعروف من أساليب كثير من وعاظ هذه الايام، فأردت ان اكشف في هذه الدراسات عن أن نهج البلاغة ليس كتاباً وعظياً بقدر ما هو كتاب يعني بمشاكل الانسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية ويضع لها الحلول، وحتى القسم الوعظي منه ينكشف، اذا ردّ الى أصوله الاجتماعية، عن مفاهيم لا تمت الى ما يقوله هولاء الوعاظ بصلة، ولا تلتقي معه على صعيد (1)

* * *

النجف الاشرف في شعبان ١٣٧٥ هج_

محمد المهدي شمس الدين

المصادف آذار ١٩٥٦ م

*******************

(1) في هذا الكتاب فصل بعنوان (الوعظ) درسنا فيه القسم الوعظي من نهج البلاغة على أساس اجتماعي.

ص: 6

المجتمع والطبقات الاجتماعية

ص: 7

ص: 8

لعل فكرة المجتمع من أقدم الفكر التي اهتدى إليها الانسان - الفكر التي لعبت دوراً خطيراً في تطوير الحياة الانسانية، ودفعت بالانسان الى القيام بتجارب كثيرة كانت على ما فيها من أخطاء وحماقات، تربة خصبة لتجارب أعظم اصالة واشد إحكاماً وأقرب الى شريعة الصواب من سابقتها، وكانت ايضاً حافزاً الى القيام بمحاولات جديدة تهدف الى تطوير الحياة الأجتماعية وارسائها على ركائز تضمن لها استقرارها وتموها.

ودخلت هذه الفكرة دورها الذهبي - ولا تزال فيه حتى اليوم - يوم جعلها العقل العلمي ميداناً لبحثه، فخرجت؛ بهذا، عن أن تكون ميداناً لتجارب جماهيرية عشواء، أو ميداناً التطبيقات السياسيين الضبقي الافق، الناظرين الى قريب، المبتغين النفع العاجل من جلّ ما يصنعون - خرجت عن أن تكون ميداناً لمثل هذه التجارب الفجة لتصير ميداناً للنظر العلمي المنزن الرصين. وصار من همّ الفيلسوف - وهو رجل المعرفة الأول الذي عرفته البشرية بعد النبي - أن يتعرف على آليات الحياة الاجتماعية وقوانينها، ويدرس اتجاهاتها، ويصنف هذه القوانين و الاتجاهات.

خصها بمزيد من العناية سقراط و أرسطو و افلاطون، هذه القمم الشامخة في الفكر الفلسفي، و تعاقب بعدهم فلاسفة كثيرون لم يغفلوا هذه الفكرة ولم يبخسوها حقها من البحث و التفكير ... حتى جاء ابن خلدون فسجل في (مقدمته) حدثاً علمياً عظيما بالنسبة الى هذه الفكرة حين خطا الخطوة الاخيرة، فجعل منها علماً قائماً بنفسه يفترق عن الفلسفة في مادته وهي الحياة الاجتماعية، ويفترق عنها في منهجه وهو الملاحظة، ويفترق عنها في غايته وهي التعرف على احسن الوسائل لتنمية الحياة الاجتماعية.

ص: 9

وجاء العصر الحديث، عصر الجماهیر فزادت أهمية هذه الذكرة، وحصلت على هبتها العظمى من أوغست كنت في الفلسفة الوضعية، واصبح لها دوائر معارف خاصة هي دوائر المعارف الاجتماعية، وأصبح لها معاهد علمية خاصة لاتخلو منها جامعة تشرف عليها هيئات عالمية تخصصت في هذا العلم: علم الاجتماع.

هذا عرض خاطف؛ وأرجو ألا يكون مقتضباً جداً، لمراحل تكوّن فكرة المجتمع وتبلورها. وهنا تجيء لحظة التساؤل عن صلة نهج البلاغة بهذا كله؟

والجواب عن ذلك اننا أردنا أن نكشف عن أن نهج البلاغة لم يحظ بالالتفات الجدير به من هذه الناحية (1) ونحن بعدن أعرف أن لفكرة المجتمع في نهج البلاغة مكاناً مرموقاً بين ما اشتمل عليه من بحوث؛ وبعد أن نعرف ان الامام قد تمرس بهذه الفكرة وعاناها كما لم يتمرس بها ولم يعانها حاكم في زمانه على الاطلاق، وبعد ان نعرف أن معاناته لها قد انتهت به الى نتائج باهرة - بعد ان نعرف أن هذا كله يتبين لنا ان نهج البلاغة كان يجب ان ينال حظاً من الالتفات اليه من الاجتماعيين، الالتفات اليه من الاجتماعين، لأنه يسجل حدثاً

*******************

(١) اللهم إلا ما كان مؤخراً من المحاولة الموفقة التي قام بها الاستاذ الكبير جورج جرداق في كتابه القيم «الامام علي: صوت العدالة الانسانية» ففي هذا الكتاب الذي يعتبر فتحاً جديداً في عالم التأليف يبرهن الاستاذ جرداق عن وعي صحيح لآراء الامام في الاجتماع الانساني وسياسة الجماعات. والكتاب، بعد، نصر الحرية الفكر، و للبحث النزيه، وبرهان حي على ان المؤلف إنسان واع لمهمته كأديب قائد.

ص: 10

مهماً في فكرة المجتمع.

لا نريد أن نقول إن الامام قد اخترع علم الاجتماع لترتفع بنسب هذا العلم من ابن خلدون اليه عليه السلام بعد أن تبين للدوائر الاجتماعية ان الأب الشرعي لهذا العلم ليس أوغست كنت، لا نريد أن نقول هذا فلم يكرس الامام نفسه لاختراع العلوم: وان كان قد شارك في هذا المجال الابداعي فاخترع وحده العلم الذي حفظ للعربية اصولها وضمن لها الخلود ذلك علم النحو، لقد كانت مشاكل السياسة والادارة والحرب هي شاغله الاول وهي ميدانه الاصيل كحاكم. إن الذي نريد ان نقوله هو انه - کحاكم عادل - قد فكر في المجتمعات التي حكمها، وفكر في أفضل الطرق والوسائل التي تنمي حياتها الاجتماعية وترتفع بها الى الذروة من الرفاهية والقوة والأمن، مع ملاحظة انها تدين بالاسلام وان شؤون اقتصادها وحربها وسلمها و علائقها الاجتماعية تخضع لقوانين الاسلام، وانها يجب ان تأخذ سبيلها الى النمو في اطار إسلامي بحت. وقد هداه تفكيره الى نتائج باهرة في التنظيم الاجتماعي: فالحكم وضرورته، والنزعة القبلية وعقابيلها، وشغب الغوغاء ونتائجه، ودعامات المجتمع ومقوماته، والطبقات الاجتماعية وآليتها - كل ذلك خصه الامام بمزيد من البحث والتفكير، وطبق النتائج التي اهدى اليها على المجتمعات الاسلامية، ولولا ان اعداءه الاشرار شغلوه عن أن يفرغ لمهامّ العمل السلمي لباد هنا من أعماله شيء عظيم.

وإن ما بين أيدينا من كلامه عليه السلام في المجتمع ليدل دلالة واضحة على انه راصد اجتماعي من الطراز الأول، وان تقسيمه للطبقات الاجتماعية و تعريفة بآلياتها ليدخل فى باب الحدس العبقري والالهام.

ص: 11

ويقيناً لو ان الشريف الرضي الله حفظ لنا كل ما وقع اليه من كلام أمير المؤمنين ولم يؤثر الفصيح الباذخ وحده لا نتهى الينا من ذلك شي. عظيم. ولو ضم ما ضاع من كلامه الى ما حفظ الى زمان الشريف لأنتهى الينا من ذلك شيء أجل و أعظير خطراً وقدراً.

وسيكون مصب البحث في حديثنا هذا هو الطبقات الاجتماعية في نهج البلاغة. وقبل أن نأخذ سبيلنا اليه يحسن بنا أن ندخل في حسابنا امراً بالغ الاهمية بالنسبة الى بحثنا هذا، فلقد قلنا آنفاً إن الامام لم يقصد الى وضع أصول علم جديد، وانما فكر - كحاكم عادل - في شؤون المجتمع وخرج من تفكيره بنتائج طبقها أو أراد تطبيقها على المجتمع؛ فلذلك لم يفرغ آراءه الاجتماعية كلها في قالب علمي مجرد، وانما قدم بعضها مفرغاً في التجربة العملية، ولا يسلبها قيمتها كحقيقة موضوعية أنها مفرغة في قالب تجربي اجتماعي يسبغ عليها، بدل جمود الحقيقة العلمية المجردة، حيوية و حركية تنشآ ان من حبوبة الجماعات وحركيتها.

- 1 -

لا أعرف متى دخلت فكرة الطبقة، كوحدة اجتماعية كبيرة و ذات مدى امتدادي رحب، في تركيب المجتمع الانساني. ففي تاريخ الانسان المكتوب لا نجد حضارة تألقت ثم انطفأت إلا وكانت تعرف فكرة الطبقات، وكان لهذه الفكرة واقع عياني بضرب بجذوره عميقاً في تنظياتها الاجتماعية. كل المجتمعات التي وجدت وبادت والتي لا تزال مستمرة الوجود تقوم على النظام الطبقى. وهذا يعني في ظاهر الحال انه لم بمر على البشرية وقت طويل لم تعرف فيه فكرة الطبقات.

ص: 12

و ربما كان هذا حتماً بالنظر الی مانريجه في تعليل نشوء المجتمع الانساني، فالمجتمع الانساني، فيما نرجح، يخضع في نشوءه لعاملين: عامل، الغريزة بمعناها الواسع الذي يشمل عاطفة الأبوة و الدوافع النفسية الى تكوين العائلة، وعامل الثقافة بمعناها الواسع ايضاً. وهذا يعني ان المجتمع الانساني وجد منذ اللحظة التي تعدد فيها أفراد النوع؛ فلم يمر على الانسان أمد. طويل كان فيه حيواناً غير اجتماعي.

و منذ أخذ المجتمع الانسان في الاتساع وجدت فكرة الطبقة سبيلها الى العقل. الأفراد يختلفون في مقدار ما يأتونه من اعمال البر والخير؛ ويختلفون في المواهب وفي القدرة البدنية، ويختلفون تبعا لهذا في القدرة على الصيد وحيازته ... هذه الامتيازات وأخرى غيرها وجدت سبيلها الى الوعي الانساني في تصورات طبقية استتبعت فكرة الطبقات.

هذا، ولكننا حين نريد أن نتناول الطبقات بالبحث لا يمكن أن نتناولها على هذا المستوى الساذج البسيط؛ فقد أصبحت الطبقة مؤسسة اجتماعية ضخمة تمدها بالغذاء تقاليد عريقة، وتقوم على جذور موغلة في أعماق الماضي.

* * *

ماهو المبدأ الذي يقوم عليه الانقسام الطبق؟

لقد اختلفت آراء الاجتماعيين في هذا المبدأ، فبعضهم يرى انه المهنة وثان يرى انه الدخل أو الثروة، وثالث يرى انه الدخل والمهنة معاً.

ولأجل الحصول على جواب صحيح لهذا السؤال نلاحظ ان هذا المبدأ يختلف باختلاف النظر الى الطبقة كمؤسسة اجتماعية. فتارة ينظر الى

ص: 13

الطبقة باعتبارها تقوم بدور معين في العمليات الاجتماعية، وتقدم خدمات معينة الى المجتمع وأخرى ينظر اليها باعتبارها كتلة بشرية ذات مستوى «مادي» اقتصادي واحد وذات مزاج نفسي وعقلي خاص یوحد بين مفاهيم أفرادها في الاسرة وغيرها من المؤسسات الاجتماعية، ومختلف الأذواق والطباع والعادات.

لا بد من اعتبار المهنة وحدها مبدأ للانقسام الطبقي اذا نظرنا الى الطبقة من زاوية الدور الذي تقوم به في العمليات الاجتماعية، وذلك لأن هذا الدور يشتق من المهنة التي تمارسها الطبقة. أما حين تنظر الى الطبقة من زاوية مستوى الحياة المادي والمعنوي الذي تتمتع به فلابد من اعتبار مبدإ الانقسام الطبقي المهنة والدخل معاً، فالمهنة بما تخلفة في صاحبها من آثار نفسية معينة، والدخل بما يتيحه لصاحبه من مستوى معيشي معين يشتركان في صياغة الحياة المادية والنفسية للأنسان.

ويختلف مبدأ الانقسام الطبقي عن هذا وذاك حين ننظر الى الطبقة الاجتماعية من زاوية المركز الاقتصادي الذي تتمنع به في المجتمع حسب نظام الانتاج والتوزيع، ففي هذا الحال لا بد من جعل مبدإ الانقسام الطبقي الدخل وحده، لأن مجموع دخل الطبقة يعبر عن المركز الاقتصادي الذي تحتله بين الطبقات الأخرى. والدخل ينظر اليه هذا باعتباره ثروة متكدسة قارّة ذات امکانات اقتصادية، لا باعتباره وسيلة الى بلوغ مستوى معيشي معين (1)

*******************

(1) دكتور محمد ثابت الفندي: الطبقات الاجتماعية: ص ٦٤ - ٨٠ وثمة خلاف في وجهة النظر الى مبادى الانقسام الطبقي فقد ذكرنا هنا أنها الا تستتبع أحكاماً تقويمية ولا تسلسلا طبقياً بخلاف ماذهب اليه أصحابها.

ص: 14

هذه مبادى مختلفة للانقسام الطبقي، وهي تختلف باختلاف زاوية النظر الى الطبقة كما رأينا.

ولكننا نلاحظ ان هذه المبادى، كلها انما تعتبر مبادى انقسام طبقي فقط، ولا تستتبع حكماً تقويمياً للطبقات. فمبادىء المهنة أو الدخل أو الدخل والمهنة معاً تشير إلى سبب الانقسام وحده أما أن هذه الطبقة ذات قدر معين تحتله في سلم القيم والاقدار فذلك شيء لا يتضمنه مبدأ من هذه المبادىء على الاطلاق.

وهنا تتساءل: ما هو المبدأ الذي يستتبع الحكم التقويمي للطبقات؟ وبعبارة أخرى: نحن لا تمثل المجتمع في أذهاننا سطحاً مستوياً تتساوى فيه الرؤوس، وانما نتمثله هرمي الشكل، فبينما توجد طائفة من الناس تحتل قمة الهرم توجد طائفة أخرى تحتل قاعدته، وتوجد بينهما طوائف تختلف بالرفعة والانحطاط على حسب قربها أو بعدها عن القمة والحضيض. واذن، فاذا كان لكل طبقة من الناس قيمة معينة في التصنيف الهرمي الاجتماعي، فمن أين جاء هذا التصنيف الذي يستتبع احكاماً تقويمية لمختلف الطبقات؟

اننا فيما أحسب لا نستطيع أن نضع أيدينا على ضابط حقيقي لهذا التصنيف الاجتماعي إلا اذا درسناه من زاوية القيمة العليا للحياة. وذلك لأن أي حكم تقويمى إنما حدث بسبب هذه القيمة العليا، فترى انه كلما قرب المرء من هذه القيمة وشارك فيها وزاد في تأكيدها واكتسب خصائصها ارتفعت قيمته وعلت منزلته، وبالعكس نراه كلما بعد عنها ولم يساهم إلا بقسط ضئيل فيها أولم يساهم فيها على الاطلاق هبط في المنزلة الاجتماعية.

ص: 15

والقيمة العليا للحياة قد تكون الاقتصاد أو الفضيلة أو السياسة أو الحرب. وقد تكون هذه القيمة العليا عبارة عن المبدأ الذي استدعى التشعب الطبقي، وذلك كما في المجتمعات التي يكون الاقتصاد هو القيمة العليا فيها: فقد رأينا ان الاقتصاد و حده أو منضماً إلى المهنة يكون مبدأ الأنقسام الطبقي فاذا ما كان بالاضافة الى هذا قيمة عليا ايضاً استتبع حينئذ احكاماً تقويمية تتفاوت بتفاوت القدرة الاقتصادية التي تملكها كل طبقة من الطبقات. وقد تكون القيمة العليا شيئاً آخر غير المبدأ الذي سبب الانقسام الطبقي وحينئذ تحدث هذه القيمة انقساماً في داخل كل طبقة من الطبقات، وذلك كما لو كانت القيمة العليا للحياة عبارة عن الفضيلة، فان هذه القيمة تستتبع أحكاماً تقويمية تحدث انقساماً في داخل الطبقات نفسها، فقد يكون الفرد منتسباً من حيث المهنة أو المهنة والدخل أو القوة الاقتصادية الى طبقة ضعيفة ومنحطة المستوى المعيشي ولكنه يكون بسبب قربه من القيمة العليا التي هي الفضيلة في ذروة الهرم الاجتماعى (١)

ومهما يكن من أمر فان هذه القيم التي ذكرنا تستتبع احكاماً تقويمية تختلف باختلافها، ويتشكل وضع المجتمع صحة وفساداً بسبب ما تخلفه فيه هذه القيم من آثار، وهذا ما نلمسه حين ندرس الطبقات على أساس ان المثل الأعلى للحياة هو الفضيلة أو الاقتصاد.

فتارة تسكون القيمة العليا للحياة هي الفضيلة ... هي ان يكون الانسان فاضلا رحيما بالضعفاء، باذلا لهم المعونة دون أمل في تلقى الجزاء، ساعياً في خدمة النوع مؤثراً لذلك على مصالحه الخاصة وأطماعه، مستعداً

*******************

(1) المصدر السابق: ص ٣٦_٤٤

ص: 16

للتعاون مع الغير في سبيل المنفعة العامة، منافحاً عن الحق أياً كان موطنه ومستقره محارباً الباطل في جميع أشكاله والوانه، شاعراً بمسؤوليته كانسان عاملا على ضوء هذه المسؤولية بحرارة وإيمان.

تارة تكون القيمة العليا للحياة عبارة عن هذا، وحينئذ تتحدد المراتب الاجتماعية على أساس هذه المفاهيم، فيرقى الى القمة كل من استطاع ان يجعل من نفسه مثلا أعلى للفضيلة ويحتل المرتبة السفلى من المجتمع اولئك الذين لا فضيلة لهم أو الذين يستمسكون بالفضيلة استمساكا واهياً، وما بينهما تتفاوت المراتب الاجتماعية على أساس الحصيلة الاخلاقية التي يحويها الانسان ويعمل عليها.

في مجتمع كهذا توجد طبقات، وقد رأيت الاساس الذي أدى الى انقسامها، ولكن هذا التفاوت الطبقي الناشىء عن تفاوت المستوى الاقتصادي والمعيشي عند هذه الطبقات من الناس لا يأخذ صفة الصراع المتمثل في استغلال الطبقات العليا للسفلى ومحاولة هذه الاخيرة التفلت من أسر هذا الاستغلال بالثورة أو بغيرها من اساليب الصراع، وانما تنظر الطبقات السفلى الى العليا نظر حب ورحمة واكبار، لأنها لا ترى فى الطبقات العليا مستغلين يريدون امتصاص دمائها وجهدها وانما ترى فيهم رسل إصلاح ضحوا بمصالحهم في سبيل مصالح الجميع، وتتكروا لأنفسهم وشهواتهم في سبيل الآخرين، فهم ليسوا مستغلين لأن أكفهم لم تتعود غير العطاء. وفي مجتمع كهذا تنظر الطبقات العليا الى السفلى نظرة رحمة وإشفاق وتحاول جهدها أن تنشلها من الوهدة التي قبعت فيها الى الأفق المالي حيث يقبل جبينها نور الشمس. لا صراع ولا تناحر لأن الطبقات السفلى هنا لم تتحط

ص: 17

عن القمة لأنها منعت من الصعود. لا صراع ولا تناحر لأن الاجنحة التي يحلق بها الانسان هنا ليست شيء خارجا عن النفس یملكه فريق ولا يجده الآخرون، وانما هي شيء ينبع من النفس ... هي أنت بما أودع الله فيك من إمكانات الصعود، ولم تبق حيث أنت لانك لا تملك هذه الامكانات وانما لأنك فضلت واقعك اللاذّ على الأفق العالي حيث الثمن هو التضحية وانكار الذات.

في مجتمع كهذا يحتل الاقتصاد مرتبة ثانوية من حيث التقويم، فإذا اتخذه الانسان وسيلة لنشر الفضيلة كان مزیة بحمد عليها، وإلا كان رذيلة لا تهيه قيمة ولا تسبغ عليه قدرا.

وأخرى تكون القيمة العليا للحياة هي الاقتصاد ... النجاح المادي الخارق القائم على تكديس الاموال و تراكم العقارات، حينئذ تتحدد المراتب الاجتماعية على هذا الأساس؛ فيرتفع الى القمة أولئك الاغنياء الكبار ملوك المال و الاعمال، ويقبع في الحضيض أولئك الذين لا يملكون شيئا أو يملكون شيئا قليلا، وتتفاوت مراتب الناس بين هاتين الطبقتين على مقدار ما یملكون.

في مجتمع كهذا توجد طبقات كما رأيت، ولكن التفاوت الطبقي يأخذ صفة الصراع، لأن ما سبب الانقسام الطبقي هو مصدر القيمة في المجتمع ولأن القيمة العليا هنا شيء خارج عن النفس فلا يكون للطبقات السفلى حينئذ أمل بالارتفاع. ومن هنا ينشأ عند الطبقات السفلى شعور بالاستغلال ويواكب هذا الشعور شعور آخر، فالطبقات العليا عند هؤلاء تعني - بالنسبة اليهم -

ص: 18

المزاحم على متع الحياة والسعادة والقوة، ويولد هذا الشعور في أنفسهم مشاعر الحقد والبغضاء ويدفع بهم الى الخيانة والاجرام.

وهذا التخطيط الذى ذكرناه يصح بالنسبة الى كل المجتمعات التي تجعل الاقتصاد مثلا أعلى لها، سواء منها ما يرفع الى القمة الرأسماليين أو ما يرفع اليها العمال والفلاحين، لأن الصراع في هذه الاخيرة هو الصراع في المجتمعات الرأسمالية ومنابعه هنا هي منابعه هناك، فالاحفاد والمطامع والنيات السيئة والمكر الخبيث هي المدّ النفسي الذى يطغى على المكتلة الاجتماعية في المجتمعات الشيوعية وبنسج مصيرها. غاية ما فى الباب ان قمة الهرم الاجتماعي وقاعدته متعاكستان فبينما يحتل الراسماليون القمة في المجتمعات الرأسمالية يحتلها العمال في المجتمعات الشيوعية القائمة اليوم. على أننا لا نستطيع ان نقل ما تصوره الدعاية الشيوعية من أن الطبقة العاملة فى المجتمعات الشيوعية هي التي تحتل قمة الهرم الاجتماعي. ان العلماء والاطباء والمهندسين والكتاب والممثلين ورؤساء المصانع ورؤساه الهيئات العمالية والمزارع التعاونية يتمتعون بميزات اجتماعية واقتصادية لا تتاح لسائر العمال.

و إذن لا فرق بين المجتمعات الرأسمالية والشيوعية في العقابيل التي تنشأ من جعل الاقتصاد قيمة عليا، ولأن كان ثمة فرق فأنما هو فى السطح والشكل، أما الاعماق ... وأما ينابيع الصراع فهي واحدة في كل هذه المجتمعات.

وهكذا نرى كيف أن جعل الاقتصاد قيمة عليا للحياة يسوق الى التفسخ الاجتماعي. ولا أتصور جريمة أكبر من جريمة الماديين الذين ينادون بان الاقتصاد هو القيمة العليا في الحياة، إنهم بخرافتهم هذه يجرون

ص: 19

المجتمع الى شر عظيم، ويشوعون المثل الانسانية العليا.

* * *

من هذين المثلين تعرف أن الطبقات الاجتماعية لا يمكن أن تدرس دراسة موضوعية صحيحة تؤدي الى فهمها حقّاً والى وعي مستلزماتها الفريبة والبعيدة إلا اذا تناولها الباحث على صعيد المثل الأعلى في الحياة للمجتمع الذي يدرس الطبقات فيه.

ولا بد لنا، اذا رمنا وعياً حقيقياً لرأي الامام فى هذه المسألة، أن نتناول مسألة الطبقات الاجتماعية على هذا الصعيد.

- 2 -

لقد اعترف الاسلام كما اعترف الامام بالطبقات الاجتماعية القائمة على أساس اقتصادي أو مهنى أو عليهما معاً، وذلك لأن وجود هذه الطبقات ضرورة لا غنى عنها ولا مفر منها في المجتمع، فلا بد أن يوجد تصنيف مهني يقوم بسدّ حاجات المجتمع المتجددة، ولابد أن يوجد اناس لديهم مال كثير وآخرون لا يملكون من المال إلا قليلا لان التحكم التام فى توزيع الثروات أمر مستحيل إطلاقاً. واذا اختلفت المهن وتفاوتت الثروات فلابد أن يختلف مستوى المعيشة ويتفاوت طراز الحياة المادي والنفسي وحينئذ توجد الطبقات.

وقد رأينا أن التفاوت الطبقي يصير منبعاً للصراع الطبقي اذا جعل الاقتصاد مثلا أعلى للحياة. وإذن، فالتفاوت الطبقي الناشيء عن التفاوت الاقتصادي خطر بقدر ما هو ضروري، واذا لم يوضع المجتمع نظام يذهب بالخطر من هذا التفاوت ويستبقي جانب الخير فيه فانه خليق بان يسبب

ص: 20

للمجتمع بلبلة تقوده إلى الدمار.

وهنا تتجلى عبقرية الاسلام وعبقرية الامام.

فقد تدارك الاسلام هذه الثغرة فسدها بنظام من القوانين عظيم، وجاء الامام فوضع قيوداً أخرى تحول بين التفاوت الطبقي وبين ان يخلف في المجتمع عقابيله الضارة وآثاره الوبيلة.

وعند الحديث عن التدابير الحكيمة التي وضعها الاسلام لوقاية المجتمع من شرور التفاوت الطبقي يجيء الحديث عن المثل الأعلى للحياة في الاسلام قبل كل حديث.

وحديثنا عن المثل الأعلى للحياة في الاسلام يسوقنا الى الحديث عن المثل الأعلى للحياة عند الامام. وما نهج البلاغة إلا انعكاس الاسلام في نفس الامام. ومن هنا كان الحديث عن أحدهما يلزمه الحديث عن الآخر كما تستهدى العين بخيوط الشعاع على مركز الاشراق.

* * *

إن المثل الأعلى للحياة في الأسلام وعند الامام هو التقوى. فقلّ أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الامر بالتقوى، تقوى الله. وقلّ أن ترد خطبة أو كلام في نهج البلاغة لم يرد فيه الأمر بالتقوى، تقوى الله. فالقرآن أمر بالتقوى، وفصلها، ومدح المتقين. والامام أمر بالتقوى، ووصفها، ومدح المتقين.

قال عليه السلام:

أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فانها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فان

ص: 21

التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفى غد الطريق الى الجنة. مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الامم الماضين والغابرين، لحاجتهم اليها غدا ... فاهطموا باسماعكم اليها، وكظوا بجدكم عليها، واعتاضوها من كل سلف خلفا.

وقال عليه السلام:

أما بعد فاني اوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم و بصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم ... من أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها، واحلولت له الامور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الامواج بعد تراكمها، وسهلت له الصعاب بعد إنصلبها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، و وبلت عليه الكرامة بعد إرذاذها).

وقال عليه السلام:

... فإن تقوى اللّه مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب.

ولكن ماهي التقوى؟

إن الامام عليه السلام لم يتعرض لوصف التقوى من داخل اذا صح التعبير. انه اكتفى على كثرة ما قاله فيها بوصفها من خارج: ميزاتها، وفضلها، وثمرتها، وأصحابها، أما هي بذاتها: مقوماتها، طبيعتها، فأمر لم

ص: 22

يتعرض له الامام عليه السلام وانما تعرض له القرآن. ولعل الامام ترك الكلام في هذه الجهة اعتماداً على ماجاء في القرآن واعتماداً على ان المسلمين إذ ذاك كانوا ولا شك يمون ماهي التقوى، فاكتفى بتشويقهم الى الاخذ بها والاعتصام بحبلها. أو ان الامام قد تكلم في هذا الموضوع وأعطاه حقه من البيان ولكن الشريف رحمه الله لم يقع على شيء منه، أو وقع عليه ولم يكن بين ما اختاره. وعلى أي حال ففيما قدمه لنا القرآن غنى وكفاية.

قال الله تعالى:

( ... ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (١)

وقال تعالى:

ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم اذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (2)

وقال تعالى:

وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات و الارض

*******************

(1) سورة البقرة: ٢ - ٥

(٢) البقرة: 177

ص: 23

أعدت للمتقين: الذين ينفقون في السراء و الضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (١)

وقال تعالى:

(ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، إعدلوا هو أقرب للتقوى) (٢)

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: جماع التقوى في قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون) (3)

من هذه النصوص الالهية، وغيرها اكثر منها، نعرف طبيعة التقوى. إنها الفضيلة في أرفع معانيها وأجلّ صورها. انها الايمان بالله في أطهر حالاته وأسمى معانيه، وبذل المال لمن أعوزه المال ... ولكن كيف ...؟ إنها بذل المال على حبه ... حب الله تعالى، فلا امتنان على المعطى ولا إفضال، و متى؟ انها بذله في السراء و الضراء. وهي الصبر في جميع المواطن وفي جميع الاحوال. وهي كظم الغيظ، وهي العفو عن الناس، وهي العدل فيهم والاحسان اليهم، وهي ... وهي ...

هذه هي التقوى. فاذا حققت التفوى في نفسك: وعيت وجود الله وأمره ونهيه في كل ماتلمّ به من فعل أو قول، وتحرّيت الفضيلة أنى كانت فاخذت بها وأخضت نفسك لها، وجعلت من نفسك و جميع امكاناتك خلية انسانية حية، تعمل بحرارة واخلاص على رفع مستوى الكيان

*******************

(1) آل عمران: 133 - 13٤

(2) المائدة: 8

(3) مجمع البيان في تفسير القرآن 1 / 37، والآية في سورة النحل: 90.

ص: 24

الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرت فى ذلك كله عن ارادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، تكون قد حقفت في نفسك المثل الأعلى الذي نصبه الاسلام.

فالمال لا يكسب قيمة الا اذا بذل حيث أجاز الله ان يبذل، وإلا اذا اتخذ وسيلة الى رضوان الله. أما أولئك الذين لا يبذلون أموالهم فلا جدوى منهم للجماعة، ولذلك فلا مزية لهم على غيرهم من الناس الذين لا مال لهم. والسلالة لا قيمة لها حين لا يكون صاحبها متقياً الله. والقوة لا قيمة لها حين لا يستخدمها صاحبها في مرضاة الله. والسلطان؟ انه لا يكسب صاحبه قيمة الا اذا كان ذا تقوى.

هناك أغنياء وفقراء، وحاكمون ومحكومون، وأقوياء وضعفاء، وأناس تحدروا من سلالات لها ماض عريق وآخرون ليس لهم ماض مذكور، ولكن كل هذا لا يرفع من صاحبه ولا يضع الا اذا اقترن بالتقوى أو عري عنها. وتعاليم الاسلام صريحة فى ذلك لا لبس فيها ولا غموض، فهي تنص على أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوى.

قال الله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

وقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

وقال الامام علیه السلام: لا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا.

وإذن، فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع.

وهكذا تكون الرغبة في الخير، ورضوان الله، ومساعدة الضعفاء،

ص: 25

وتكريس المواهب في سبيل الجماعة تقرب الى الله، هي رائد كل إنسان وعى مبادى، الاسلام. وهكذا تكون الطبقات مظهر حب، ورحمة، وتآزر، و إيثار، وتعاون على البر والتقوى، بدل أن تعبر عن تفسخ وانحلال.

هذا هو المثل الأعلى للحياة في الاسلام وعند الامام.

* * *

ولكن الاسلام حين جعل الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية، وأراد أتباعه على أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب، صوناً للمجتمع من أخطار التفاوت الطبقي لم يغفل أمر الواقع النفسي والشعوري للانسان.

فان القوى الغني يتغنى بالفضيلة في كل آن، ولكنه عندما تستيقظ فيه نوازع العدوان يمضي في سبيل الثمر دون أن يصغي الى نداء فضيلة أو تقريع ضمير. وعندئذ تغدو الفضيلة فلا لا أثر له في صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي. لذلك لم يكل أمر تحقيق القيمة العليا الى الانسان وحده وانما جعل لها سنداً من القانون ليكون لها من القوة ما يحمل الاغنياء الاقوياء، والفقراء الضعفاء على التمسك بها. وكان من ذلك أن ساوى بين جميع الطبقات في الحقوق والواجبات، فالجميع سواء أمام الله، والجميع سواء أمام القانون، وجريمة الغني هي جريمة الفقير، وجريمة الرفيع هي جريمة الوضيع، وجريمة الامير هي جريمة الصعلوك، لا يمتهن هؤلاء لضعفهم ولا يحابى أولئك لشرفهم.

وبهذا حال بين الطبقات العليا وبين أن تطغى وتعتز، لأنه أثبت لها أن الغنى والسلالة والماضي العريق لن تجدي شيئاً أمام القانون. وحال بين الطبقات السفلى وبين أن تشعر بالحيف والضعة والاستغلال، لأنه أثبت لها

ص: 26

أن الفقر وضعة النسب لا تجعل من القانون لها عدواً، وانما هي أدعى لأن تجعله أرفق بها، وأحنى عليها، وأرعى لشؤونها في السراء والضراء.

* * *

وحين تحتد الفروق الاقتصادية، فتتسع وتعمق، تغيض منابع الفضيلة من المجتمع وتسوده نوازع الحيوان.

فأنت لا تستطيع أن تطلب من جائع لا يجد القوت أن يصير فاضلا، لأن الحرمان لا يدفع الى الفضيلة وانما يخلق تصورات الحرمان التي تدفع الى التمرد و الاجرام حين لا يجد المحروم اليد الباربة الوصول.

إن الجائع الذي لا يجد ما يسدّ جوعته وإن خشن وهان، والعاري الذي يجد للريح مثل لسع السياط وللشمس مثل مس الحميم، والمريض الذي لا يجد ثمن الدواء ولا الخلاص من اللاواء - هؤلاء لا يستطيعون أن يتغنوا بالفضيلة حين يرون الغني الكاسي الصحيح الذي لا يعرف معنى الجوع، فالفضيلة ليست طعاماً ولا كساء ولا دواء، إن هؤلاء ينقلبون الى قتلة ومجرمين ولصوص حين لا يجدون ما يسدون به حاجاتهم الأولية من طريق مشروع.

وهكذا يظهر الى العيان الصراع الطبقي بالرغم من أن المثل الأعلى هو الفضيلة ومكارم الاخلاق.

وعى الاسلام هذا الواقع فلم يكل أمر صيانة المجتمع من اخطار التفاوت الطبقي الى المثل الأعلی وحده وأنما أولى الاقتصاد ماله من الاهمية في أمر الصيانة والعلاج. فجعل في أموال الاغنياء ضريبة تردّ على الفقراء فترد عنهم غائلة الحاجة، وتباعد ما بينهم وبين الحرمان. وبذلك يشعر الفقراء

ص: 27

أنهم ليسوا مهملين: لا عين ترعاهم، ولا يد تأسو جراحهم، وثقيلهم عثرات الزمان ... بل يشعرون أنهم ملء سمع المجتمع وبصره، فتختنى دوافع الاجرام من أنفسهم، وحينذاك يقول لهم الاسلام إن المثل الأعلى هو الفضيلة، ويطلب اليهم أن يكونوا فضلاء ... وأن يجعلوا الارض اختاً للسماء.

فقد وعى الامام ان الانسان الجائع، المستغل، المحروم، المصفد بالاغلال لا يستطيع أن يكون فاضلا، وأن من اللغو أن يوعظ بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وان إنساناً كهذا ينقلب كافراً: كافراً بالقيم، والفضائل، والانسان. إن معدته الخاوية، وجسده المعذب، ومجتمعه الكافر بإنسانيته، المتشكر له، وشعوره بالاستغلال، وميسم الضعة الذي يلاحقه أنى كان - هذه كلها تجعله لصاً، وسفاحاً، وعدو اللانسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة.

ووعى ان المجتمع القائم على سيادة فريق وعبودية فريق، وعلى استغلال الأسياد للعبيد، والأحرار للمصفدين بالأغلال، مجتمع لا يمكن أن توجد فيه فضيلة ولا يمكن أن يوجد فيه فضلاء. انه ليس إلا مجتمع لصوص ومجرمين وعبيد، تسيرّ أفراده الاحقاد والمسكر والاستغلال، وما كانت اللصوصية والعبودية وما إليهما يوماً فضائل تشرّف الانسان.

على أساس من هذا الوعي جعل الامام الاصلاح الاقتصادي أساساً للاصلاح الاجتماعي.

و لقد كان من الطبيعي جداً - حتى عند المفكرين والمصلحين _ في عصر الامام وقبله أن يوجد أناس جائعون فقراء، وان يوجد اغنياء يحارون

ص: 28

كيف ينفقون أموالهم، فلم يكن الفقر بذاته والغنى بذاته مشكلة اجتماعية تطلب حلا، لأنها أمر طبيعي لا يحيد عنه، إنما المشكلة هي: كيف السبيل الى إسكات الفقراء وحماية الاغنياء؟ فكان الامام - بعد النبي الاعظم - هو أول من كشف ان الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة، ونظر اليها على أساس أفاعيلها الاجتماعية.

ان فلسفة الفقر عنده تجتمع في هاتين الكلمتين:

ما جاع فقير إلا بما متع به غني

و (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع). و من هنا أصبح من أبرز المشاكل التي حفل بها منهجه الاصلاحي

يوم ولي الحكم، مشكلة الفقر والغنى.

و لقد كان مجتمعه إذ ذاك يعاني جراحاً عميقة بسبب هذه المشكلة، فقد ولي الامام الحكم و التفاوت الطبقي في المجتمع الاسلامي على أشد مايكون عمقاً واتساعاً.

ففي زمان عمر كانت الطريقة المتبعة في التقدير وإظهار الكرامة هي التفضيل في العطاء، فلما ولي الخلافة عثمان اتبع هذه الطريقة أيضا ولكنه خرج بها عن حدود المعقول، ففضل من لا سابقة له في الدين ولا قدم له في الاسلام على ذوي السوابق والاقدار. وقد أدت هذه الطريقة الى العاقبة التعسة التي صار اليها عثمان وحكومته والمجتمع الاسلامي في زمانه، فقد أوجد هذا اللون من السياسة المالية طبقة من الاشراف لا تستمد قيمتها من المثل الأعلى للإسلام وإنما تستمدها من السلالة و الغنى والامتيازات التي أسبغها عليها عثمان، وطبقة الشعب التي ليس لديها مال ولا امتيازات ولا

ص: 29

ماض عريق، وكان من عقابيل ذلك أن أحسّ الفقراء الضعفاء بالدونية واستشعر الاشراف الاستعلاء، وحرم الفقراء المال الذي تدفق الى جيوب الاغنياء.

فلما ولي الامام الحكم الفي بين يديه هذا الارث المخيف الذي يهدد باستئصال ماغرسه النبي في نفوس المسلمين، وقد عالج هذا الواقع الذى سيق اليه بالتسوية بين الناس في العطاء، والشريف والوضيع، والكبير والصغير، والعربي والعجمي، كلهم في العطاء سواء. فلم يجعل العطاء مظهراً للتفاضل بين الافراد والافراد والطبقات والطبقات. وبهذا أظهر للناس ان القيمة ليست بالمال، وحال بين الفقراء والضعفاء وبين الشعور بالدونية، وبين الاشراف والاقوياء وبين أن يشعروا بالاستعلاه. وأهاب بالناس أن يتوبوا إلى الله فيجلوا التقوى مناط التفاضل ومقياس التقويم.

وقد ثارت الطبقة الارستقراطية لسياسة المساوات المالية التي قام بها الامام فأشاروا عليه أن يصطنع الرجال بالأموال، فقال:

أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أم نجم في السماء نحما، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وأنما المال مال الله. ألا وان اعطاء المال في غير حقمه تبذير وإسراف ....

ولم يكن هذا كل ما ينتظر الطبقة الارستقراطية على يديه يوم أمسك بالزمام، لقد كانت أموال الامة تتدفق - تحت عينيه - في زمن عثمان الى جيوب فريق من الناس، فأخذ على نفسه عهداً بمصادرتها، بردها الى أهلها وكان أن أعلن للناس يوم ولي الحكم مبدأ من جملة المبادىء التي أعدها لمحاربة

ص: 30

الفقر الكافر في مجتمعه الموشك على الانهيار، فقال:

ألا ان كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فان الحق لا يبطله شيء. و لو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق.

وكم كان يقض مضجعه عدم التوازن في توزيع الثروات في زمانه علیه السلام، فتراه يصرخ أكثر من مرة، من على منبر الكوفة، بمثل هذا القول:

... وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلا إقبالا، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً: إضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصراً إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا؟ أين خياركم وصلحاؤكم، وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم؟

ولا يعالج الفقر عند الامام بالمواعظ والخطب، وإنما يعالج بحماية مال الامة من اللصوص والمستغلين، ثم بصرفه في موارده. وبهذا عالجه الامام، فكان عينا لا تنام عن مراقبة ولانه على الامصار، وعن التعرف على أموال الامة وطرق جبايتها وتوزيعها. وكم من وال عزل وحوسب حساباً عسيراً لأنه خان أو ظلم أو استغل، وكم كتاب كتب عليه السلام الى ولاته بأمرهم ان يلزموا جادة العدل فيمن ولو عليهم من الناس، وبينما هو يأمرهم بهذا يضع عليهم العيون والرقباء ليرى مدى طاعتهم وتنفيذهم

ص: 31

لأوامره، لقد كان عليه السلام، بهذا، اول من اخترع نظام التفتيش.

و لقد كان يكتب الى ولاته: (ان اعظم الخيانة خيانة الامة وليس الولاة اعضاء في شركة مساهمة هدفها أن تستغل الامة كما كانوا في عهد عثمان، وانما هم كما كان يكتب اليهم خزان الرعية، ووكلاء الامة، وسفراء الأئمة.

وكون الاموال العامة هي أموال الأمة مفهوم لم يأخذ صيغته الحقة إلا على لسان الامام عليه السلام وفي أعماله. لقد جاءه أخوه عقيل يطلب زيادة عن حقه فرده محتجاً بان المال ليس له وانما هو مال الامة، وجاءه ثان يطلب اليه أن يعطيه مالا، مدلا بما ينهما من رابطة الحب فرده قائلا: ان هذا المال ليس لي ولا لك وانما هو فيء للمسلمين.

* * *

بهذا كله لم يكل الاسلام ولا الامام أمر التزام الفضيلة في السلوك الى الضمير وحده وأنما جعلا لها سنداً من القانون يكفل لها أن تصير واقعاً اجتماعيا تبني عليه العلاقات الاجتماعية والسلوك الانساني. ولكنها لم يجعلا القانون كل شيء في حياة الانسان لئلا يكون آلة مسيرة لا تملك اختيار ما تريد، وأنما أناطا جانباً من سلوكه بملزمات الضمير بعد أن أيقضا هذا الضمير. ولم يكلا أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي الى الفضيلة وحدها، لأنها لا تسد حاجات الانسان التي لا يقوى بدونها على التزام الفضيلة ومكارم الاخلاق، وإنما أناطا جانباً من مهمة الصيانة بالاقتصاد لأنه هو الذي يسد حاجات الانسان.

وهكذا، بين الضمير اليقظ والقانون الواعي الحاجات الفرد و المجتمع

ص: 32

ينمو الانسان المسلم، ويأخذ سبيله الى الكمال النسبي الذي يتاح للانسان.

* * *

وحيث قد تبين لنا موقف الاسلام وموقف الامام من الطبقات الاجتماعية والتفاوت الطبقي، فلنسلك سبيلنا إلى دراسة الطبقات الاجتماعية في نهج البلاغة.

راجع الأوامر بالتقوى، ووصفها، ووصف المتقين في نهج البلاغة في:

٦١/١ و ٦٣ - ٦٤ و ١٣٤ - ١٣٦ و ١6٠ و 16٧ و 170و 172 و ١٨2 - ٠١٨٤

2 / 5١ - 5٢ و 82 و 129 و ١٤٢ و ١6٣ و ١٧١ و 1٩٤ و 200 و 201

3/ ١٢ و ١6 و 2٠ - 21 و 29 و ٤٩ و 5٤ - 55 و 5٩ - ٩٠ و 6١ و 6٤ - 66 و ٠ ١٢ و ١٤5 و ١5٧ و ١5٩ و ١6١ - ١6٢ و ١٧١ و ٠١٧٤

٤/ 9 و 10 و 18 و 51 و ١٠٤ و ١٣٤ و ١٣5 و ١٤٢ و ١٧٤ و 188 و 192

- 3 -

مصدرنا الوحيد، من نهج البلاغة، في دراسة الطبقات الاجتماعية عند الامام هو كتابه الى مالك بن الحارث الاشتر حين ولاه مصر وعزل به محمد بن ابي بكر عنها يوم شغب العثمانية على هذا الاخير وضعف أمره معهم. ولكن يشاء الله لحكمة خفية ألّا يطبق في مصر شيء من هذا القانون الذي كتبه الامام. فقد دس معاوية من قضى على الاشتر وهو في أعتاب مصر بسم دسّ في كأس من عسل، وبعد ذلك قتل محمد بن ابي بكر وتمت

ص: 33

لمعاوية الغلبة على مصر فنزل عنها لعمرو بن العاص وفاء بالعهد الذي بينهما.

وما بين أيدينا من هذا العهد ليس تمامه. لا، وإنما قطع منه اختارها الشريف رحمه الله، وليته أثبته كله. إذن لزدنا بصراً بآراء الامام في هذا الموضوع، ولكن ماذا نصنع والشريف لم يختر إلا البليغ من كلامه عليه السلام.

ويحسن بنا أن ننوّه، ونحن على أعتاب البحث عن الطبقات الاجتماعية في نهج البلاغة، بان التقسيم الطبقي الذي ذكره الامام يقوم بالدرجة الاولى على الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها كل طبقة، وهناك تقسيم آخر يتم في داخل الطبقات هو التقسيم على أساس المثل الأعلى، والتقسيم الأول لا يستتبع حكما تقويمياً على الشخص المنتسب الى طبقه ما يجعله في القمة أو ينحدر به الى الحضيض. إن التقسيم الذي يستتبع الحكم التقويمي أعني الذي يحدد قيمة الشخص إنما هو التقسيم الثاني، فالانسان الذي يستغل إمكاناته في سبيل خير المجتمع هو في القمة أما الانسان الذي يتخذ هذه الامكانات سبيلا الى العيث والافساد واضرار المجتمع فذلك شخص يحتل مركزه في الطبقات السفلى.

وإذن فترتيب الطبقات في التقسيم لا يعني ترتيبها في القيمة، فيكون الجنودهم الطبقة العليا ويكون المعدمون هم الطبقة السفلى، وتكون قيمة ما بينهما على هذا الترتيب قرباً من الجنود وبعداً عنهم. لا، فقد عرفت ان الامام لم: يراع قيمة كل طبقة حين قدمها واخرها، وانما راعى الخدمات الاجتماعية التي تقوم بها، أما القيمة فلا تفاس إلا بالتقوى.

و نقدم بين يدي بحثنا هذا ملاحظة لها خطرها، وهي: ان هناك

ص: 34

طبقات افترض الامام وجودها وتحدث عنها كأهل الخراج، والتجار، والصناع، والمعدمين، وهناك طبقات لم يفترض وجودها وانما تكلم رأساً في كيفية إنشائها وتكوينها، فالام تشير هذه الملاحظة؟

إن ما تشير اليه هذه الملاحظة، فيما أرى، أمر طريف جداً ومعجب حقاً، فالطبقات التي تكلم الامام في كيفية إنشائها وتكوينها هي: طبقات العسكريين، والوزراء، والولاة، والقضاة. وهذه الهيئات هي التي تشرف على تسيير الجهاز الاجتماعي، وبها يتعلق مصيرها النيرّ أو الوبيل، وقد كان هذا الجهاز قبل عهد الامام فاسداً ومتهرئاً فاراد الامام أن ينشأه من جديد.

ومن هذه الملاحظة نستكشف مدى عظمة الامام في المسائل الاجتماعية فالمجتمع، خيره وشره، نحن نصنعه بأيدينا، وليس ضربة لازمة لنا أن نعيش في مجتمع متذائب متداع لا يوفر لأفراده فرصاً حسنة، وانما بإمكاننا أن نعيش في مجتمع حسن التنظيم يجد فيه كل فرد من الأفراد المجال الرحب لتحقيق مطامحه التي يريد، ولا يتم ذلك إلا اذا أصلحنا الاجهزه الاجتماعية المتداعية أو بدلناها بأخرى أجدى منها.

بهذه العقلية العظيمة الواعية نظر الامام عليه السلام الى مجتمع مصر في أيامه، وبهذه العقلية العظيمة الواعية وضع له هذا النهج وسن له هذا القانون، وامكن مجتمع مصر لم يسعد بتطبيق هذا النظام.

* * *

قسم الامام الرعية الى طبقات سبع: الجنود، كتاب العامة والخاصة، و هم بمنزلة الهيئة الوزارية ومساعديها، القضاة، الولاة، الزراع، التجار، الطبقة السفلى.

ص: 35

ولكنه في موردتان جمل و الولاة والكتاب طبقة واحدة، وان كان فيما بعد قد جرى في الكلام عن الطبقات على تقسيمه الاول.

ومع أنه يمكن إدراج الكتاب والولاة في طبقة واحدة باعتبارهم إداريين من حيث الوظيفة، وباعتبار ان «نوع الحياة» الذي يحبونه واحد ايضاً، فان مستوى الدخل والانفاق والتصورات الاجتماعية عندهم واحدة أو متقاربة تقارباً شديداً - أقول مع انه يمكن إدراج ها تين الطائفتين في طبقة واحدة جعلها الامام طبقتين متمايزتين. وأحسب ان الذي دفعه الى ذلك هو رغبته الأكيدة في التنصيص التام على كيفية تأليف كل جهاز من أجهزة الحكم في الدولة لئلا يقع اللبس والابهام من اشتراك طائفتين مختلفتي مجال النشاط في حديث واحد. ونحن: محافظة منا على إبراز جميع خصائص العهد، سنجري في كلامنا عن الطبقات حسب تقسيمه عليه السلام وان لم تكن ثم ضرورة، بلحاظ الطبقات ذاتها، تدعو الى اتباع هذا

النهج.

* * *

وبعد أن قسم الامام الطبقات على النحو الذي رأيت، تقدم بملاحظة ذات مغزى، وهي أن كل واحدة من هذه الطبقات، عدا الطبقة التي لا تستطيع عملا، ضرورية للمجتمع، والعمل الذي تقوم به ضروري الوجود، وكما انه يعتمد في وجوده على جهود الآخرين كذلك جهود الآخرين لم تكن لتوجد لولاه. ولذلك قال عليه السلام: الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا بعض ولا غنى لبعضها عن بعض.

لولا الجنود لا نعدم الأمن، وحينئذ تنعدم التجارة ويختل نظام

ص: 36

الزراعة، واذا اختل هذان لنهار الكيان الاجتماعي، ولولا التجارة والزراعة لما وجدت الضرائب التي تمد الجود بالمال والسلاح، ولولا التجارة لحدثت أزمات اجتماعية تنشأ من تكدس الانتاج في غير مكان الحاجة اليه وعدم وجوده في مكان الحاجة اليه، والعمال الولاة، والكتاب يشرفون على تنظيم هذا النشاط الاجتماعي ولولاهم لتسيّب واتجه اتجاهات غير صالحة ولولا القضاة للجأ الناس الى تسوية مشاكلهم بالعنف، وذلك يؤدي الى بلبلة الاجتماع. وإذن، فالنشاطات الاجتماعية متشابكة ومتداخلة، وليس فيها لأحد على أحد فضل، فكل واحد من الناس يؤدي عملا يأخذ في مقابله من المجتمع أعمالا كثيرة، ولو كف المجتمع عن تقديم المعونة له لما أمكنه أن يقوم بشيء.

قال عليه السلام:

... فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليست تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيها يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم. ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الامور و عوا مها. ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيها يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، و یکفونهم من الترفق بأيدهم مالا يبلغه رفق غيرهم.

وحيث كان النشاط الاجتماعي متشابكا على هذا النحو متداخلا على هذه الشاكلة فيجب أن تشق له القنوات التي يجري فيها على نحو لا يختل

ص: 37

ولا يتدافع، ولا يطفى لون منه على لون، وأمر هذا موكول الى الحاكم.

قال عليه السلام:

وفي الله لكل سمة، و لكل على الوالي بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما الزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيها خفّ عليه أو ثقل.

راجع:

- 4 -

العسكريون خطر وضرورة في آن.

هم خطر لأن الطبقة التي ينتمون اليها هي أقوى طبقات الامة كلها، فالجيش طوع أمرهم، والسلاح تحت أيديهم، ولا قوة تمنعهم من الثورة اذا ما أرادوا، ولا حاجز يحول بينهم وبين ظلم الرعية اذا تمكن ذلك من أنفسهم، ووجد هوى في صدورهم. والوجدان الذي ينتظم أفراد هذه الطبقة يقتضيهم ذلك وينزع بهم نحوه، فان التصوّرات التي يتكوّن منها هذا الوجدان هي تصورات القوة والغلبة والفتك وما يتبع هذه من تصورات الخيلاء والاستعلاء، وطبيعة عملهم العسكري تقتضيهم أن يواجهوا مشاكلهم من طريق العنف والقسر وتحملهم على أن يحلوها من هذا الطريق. وطبيعة عملهم ايضاً تجعلهم ينظرون الى المجموعات الانسانية (كوحدات عددية) تقوم بعمل معين لا أكثر ولا أقل وذلك لأنهم لا ينظرون من الجندي الذي يدين لهم بالطاعة الى اكثر من أنه آلة تجيد استعمال السلاح، أما ما وراء ذلك من صفات نفسية وسمات ذاتية فلا ينظرون الى شيء منها، لأن هذه كلها تنطمس في التجمع البشري الضخم المسمى بالجيش، ولأنها لا تغني

ص: 38

كثيراً في داء المهمة المطلوبة من الجندي، واذا كانوا ينظرون الى الجماعة الانسانية على هذا النحو فلا يؤمنون من الانحراف عن جادة الصواب في معاملتهم مع الناس؛ لأن الصفات النفسية هي التي يجب ان تلحظ في هذه المعاملة، وهم يغفلونها لأن طبيعة عملهم تقتضي ذلك كما رأيت.

هذا الوجدان الطبقي (وهو ضروري إذ لولاه لما كانوا عسكريين) خطر اذا احتد وعبر عن نفسه في غير أوانه وجرى في غير أقنينه الحقيقية، هذا هو وجه الخطر فيهم.

وهم ضرورة لأن وجودهم يحفظ الأمن ويصون الدولة، ويردع السفيه ويضرب على يد المعندي.

وحيث كانوا ضرورة فلا بد من وجودهم، وحيث كانوا خطر أفلا بد من تفاديه. واذا قد لزم هذا وذاك فقد شرع الامام عليه السلام الحاكم مصر نظاماً يستهدي به في تأليف هذه الطبقة من جديد، وشريعة بجري عليها في انتخاب من يريد ضمه اليها من رعيته، وسنة يأخذ بها في معاملتها. وقصد من ذلك كله الى أن يؤمن من هذه الطبقة جانب الضرورة، وينأى بها عن أن تكون مصدر خطر وإرهاب.

* * *

الشخصية العسكرية ضرورة لازمة للقائد العسكري لزوم الهواء لكل كأن حي.

وهذه الشخصية عبارة عن طائفة من الصفات تلتقي في الفائد فتكون له شخصية. فيجب أن يكون القائد العسكري متصفاً بصفة النفوذ والهية التي تجعله نافذ الأمر، وذلك لأن الصفة الأولى المطلوبة من الجندي هي

ص: 39

الطاعة وبدونها لا يمكن أن ينجح جيش على الاطلاق، وما لم يكن للقائد العسكري صفة النفوذ والهيبة بعدت الطاعة عن منال يديه، وحينئذ لا ينجح في عمله العسكري. ويجب أن يكون واجداً لصفة الخبرة ممن يعمل تحت يديه من مرءوسيه، عارفاً بامكاناتهم وكفاءاتهم ليضع كلامنهم موضعه اللائق به لأن خطاً بسيطاً في تعيين قائد ربما أدى إلى كارثة قومية. ويجب أن يكون واجداً للثقافة العسكرية: عارفاً باساليب قيادة الجيش وحركاته والستراتيجية العسكرية. ولما كان القائد هو المثل الأعلى للجندي وجب أن يكون هذا القائد مثلا يحتذى لجنوده في الصبر على المكاره، والتفاني في القيام بالواجب، وهما من ألزم الصفات العسكرية في الجنود والقادة على السواء.

ولا توجد هذه الصفات في عامة الناس، وهي ليست صفات تنحدر بالوراثة من جيل الى جيل، بل لا بد فيها من التربية المنهجية الواعية. ولم تكن في زمن الامام عليه السلام مدارس وكليات عسكرية تقدم مثل هؤلاء القادة في كل وقت، هذه الملاحظات دفعت بالامام الى تعيين العناصر التي يؤخذ منها هؤلاء. هذه العناصر هي البيوتات الشريفة ذات الاحساب والتقاليد المتوارثة، فقد كانت هذه البيوتات تأخذ أبناءها يتربية قاسية واعية توفر لهؤلاء الابناء الثقافة العسكرية وهي من أهم ما كان يأخذ به العرب ويعنون بإتقانه، وتغرس في أنفسهم الشعور بالمسؤولية والتحمل والصبر على المكاره. وقد كانت هذه البيوتات تحتل في نفوس أبناء الشعب، وهم الذين يؤخذ منهم عامة الجند، مركزاً سامياً حصلت عليه بسبب الخدمات التي تقدمها هذه البيوت للأمة في الحرب والسلم على السواء، وهذا يوفر للقائد صفة الهيبة، ويضمن له نفوذ الأمر وحصول الطاعة.

ص: 40

قال عليه السلام:

ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل التجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فانهم جماع من الكرم، وشعب من العرف

* * *

ولكن هؤلاء القادة يستمدون من وسطهم العائلي تصورات القوة والاستعلاء لمكان مالهم من مركز مرموق في المجتمع، ويستمدون من وظيفتهم الجديدة ما يعزز هذه التصورات ويمدها بالحرارة والفعالية وينزع بها الى التحقيق نظراً الى ما توفر لهم من الهيمنة على الجيوش والسلاح، ويستمدون من ثقافتهم ما يزين لهم الفعل ويبرر لهم العمل - هذه الينابيع الثلاثة الوجدان الطبقي عند العسكريين تعمل دائماً على إثارة هذا الوجدان وبعثه. وهنا يظهر وجه الخطر فيهم، وقد وضع الامام العلاج الواقي من هذا الخطر.

فالى جانب الصفات السابقة يجب ان تتوفر فى القائد صفات أخرى منها الثقافة الدينية، وهذه الثقافة لا يكفي فيها أن تكون علماً، بالواجبات الدينية فقط وانما يجب أن تكون وعياً لهذه الواجبات بحيث تكون في جهاز القائد النفسي قوة دافعة محمله على أن يسير على هديها في حياته العملية، ولا تبلغ هذه الثقافة هذا المدى في تأثيرها إلا اذا استحالت في القائد الى طاقة شعورية محركة. ومنها أن يكون أميناً لا تمتد يده الى ماليس له حليما لا يحمله الغضب على فعل مالا نحمد عقباه، واسع الصدر يجد المذر موقعاً في نفسه، رحمها بالضعيف لا يتخذه موضوعاً لاظهار مدى سلطنه ...

ص: 41

وهكذا، فالى جانب الثقافة الدينية التي يجب ان تبلغ من نفس القائد مرتبة الطاقة الشعورية يجب أن يكون على مستوى أخلاقي عال يصده عن الافساد، ويمسكه على الجادة، ويأخذ بعنقه الى الهدى.

قال عليه السلام:

... فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك و انفاهم جبياً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطىء عند الغضب، ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء، وينبو على الاقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.

* * *

و بعد أن نهج الامام القواعد التي يجب أن تتبع في أختيار أفراد هذه الطبقة أخذ في بيان الاسلوب الذي يجب أن تعامل به.

يرى الامام انه لا يجوز للحاكم أن يعتمد على التربية وحدها، وعلى الخلق الشخصي وحده فيا يرجع الى ضمان اخلاص هذه الطبقة. فهو بقدر ما يحرص على ان يكون القادة العسكريون ذوي تربية عالية وخلق متين يحرص كذلك على توفير ما يتوقون اليه من الناحيتين: المادية والمعنوية.

فهؤلاء القادة يتوقون الى أن يروا أن اعمالهم التي يقومون بها تلاقي التقدير الذي تستحقه عند الحاكم، ويتوقون الى أن يروا أن عين من فوقهم ترعاهم وتتعاهد أعمالهم وتوفيها ما تستحق من جزاء. وهؤلاء الفادة، كغيرهم من الناس، خاضعون للضرورات الاقتصادية، وربما كانت حاجتهم الى المال اكثر من حاجة غير هم اليه، وإذ كانوا كذلك فلا بد للحاكم من مراعاة حالتهم الاقتصادية.

ص: 42

ولا يجوز له أن يعتمد على الخلق والتربية في ضمان اخلاصهم وتمسكهم بمثلهم العليا، فان الحاجة تدفع الى الاجرام. ولا بد له من تتبع مآثرهم والاشادة بها، ومدحهم والثناء عليهم بما ابلوا من بلاء حسن وأتوا من فعل عظيم.

فأما حين تغفل عنهم عينه، فلا يتفقد أحوالهم، ولا يوليهم منه جانب اللين و الرأفة - حين يجدون هذا منه يشعرون بأن أعمالهم لا تجد ثوابها وان جهدهم يذهب أدراج الرياح، و يعظم في أعينهم الصغير و يصغر العظيم، وتنعدم ثقتهم بالحاكم، ويذهب وده من قلوبهم، فلا يمحضونه النصح، ولا يخدمونه بصدق، لأنهم لا يجدون في أنفسهم ما يدفعهم الى خدمته وهو متخاذل عنهم مقصر معهم، ويدفعهم هذا الموقف النفسي الى استقال دولته واستطالة مدته، والتبرم بحكمه، فماذا يمنعهم، وهذا موقفهم منه، عن أن ينتقضوا عليه ويكيدوا له ويواجهوه بما لو أحسن السياسة لاتقاء؟

قال عليه السلام:

ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدها، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم،به ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به، وإن قل، فانه داعية لهم الى بذل النصيحة لك وحسن الطن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها فان لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، و للجسيم موقعاً لا يستغنون عنه ... فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. وان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية وانه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح لهم في آمالهم، و واصل في حسن الثناء عليهم، وتمديد ما أبلى ذوو

ص: 43

البلاء منهم، فان كثرة الذكر الحسن افعالم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله.

و تأمل الفقرة الاخيرة: ... فان كثرة الذكر لحسن أفعالهم تز الشجاع و تحرض الناکن ... ما تضمن معرى عمياً، فبدلا من أن يوجه اللوم إلى الناكل الشكونه مما قد يراك في الضغن و النية السيئة بدلا من هذا يبعث الى العمل عن طريق المنافسة، فحين يسمع الثناء على ذوي البلاء الحسن من أفرانه، وحين يرى ان العمل يجد صدى مستحباً عند الرئيس يعبر عنه بالتقدير، يندفع الى العمل بباعث نفسي فيجد فيه متعة ولذة يدفعانه الى إتقانه، بدل أن يزاوله مكرهاً، لو دفع اليه عن طريق اللوم فلا يجد فيه لذة ولا يشعر نحوه بأي سرور نفسى يدفعه إلى التجويد والاتقان.

وعلى الحاكم أن يكون يقظاً في تتبع أفعالهم، فينسب الفعل الى صاحبه، ولا يتجاوز به الى غيره، ولا يقصر في جزائه، فان غفلتة عنهم تشعرهم بأن أعمالهم لا تجد ثوابها الحق، ولا تلقى التقدير الذي تستحق.

قال عليه السلام:

ثم اعرف لكل امرى، منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرى. الى غيره، ولا تقصر به دون غاية بلائه.

والمقياس في الجزاء والنواب وحسن الأحدوثة نفس العمل، لا السلالة ولا الغنى ولا أي شيء آخر.

قال عليه السلام:

ولا يدعونك شرف امرى. الى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً

ص: 44

ولا ضعة امرىء الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

* * *

و المشاركة الوجدانية من الامور التي يجب توفرها بين القائد و جنوده. فحينما تتوفر المشاركة الوجدانية بين القائد وجنوده ويشعرون بانهم ليسوا تحت سلطان جبار يسومهم العذاب و يتخذهم سبلا الى إظهار سلطانه و وسائل لخدمة مآربه، و انما هم تحت رعاية أب بار يعمل الخيرهم، ويسعى لاسعادهم، ويحدب عليهم، ويرأف بهم، ويوجههم نحو مافيه صلاحهم ... حينما يستقر في أعماقهم هذا الشعور يعملون بإخلاص وإتقان وحرارة و إيمان، و يقبلون على عملهم بشوق رغبة منهم في إبهاج قائدهم وإشاعة الزهو والفرح في قلبه، فأن القائد بجنوده، وكلما كان عملهم رائعاً ومتقناً دلّ ذلك على حسن توجيهه و واسع خبرته و عظيم معرفته. وليس بخاف ما يعود به هذا على الدولة من القوة والتماسك.

و كما ان المحبة و العطف و الخلق الحسن شروط لازمة فى حصول هذا الشعور عند الجنود فان تأمين الناحية الاقتصادية شرط لازم ايضاً. فلا يسع جندياً أن يخلص لعمله وهو يسمع، بقلبه، صراخ زوجته و أطفاله من الجوع أو العري أو المرض، لذلك أرشد الامام الحاكم الى ان طبقة العسكريين يجب أن تتألف ممن يولون كلا الناحيتين: الاقتصادية والمعنوية عظيم اهتمامهم، وان خير قوداه خبر هم لجنوده، وأحدبهم عليهم، وأرفقهم بهم، وأرعاهم لشؤونهم في السراء والضراء، فان هذا هو السبيل الوحيد الى توليد هذه المشاركة الوجدانية التي تعود على الدولة باجلّ الفوائد وأعظم الخيرات.

ص: 45

قال عليه السلام:

و ليكن آثر رؤوس جندك عندك من و اساهم فى معونته، و أفضل عليهم من جدته بما يسمهم و يسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون هماً واحداً في جهاد العدو.

راجع عهد الاشتر: ٢٧/٤ - ٣٠ و لأجل التوسع في معرفة موقفه من الجيش و قادته راجع قسماً من كتاب له الى امرائه على الجيش ١٤/٤ - ١5 ووصيته لشريح بنهالي. عندما وجههه على مقدمته الى الشام 5١/٤ وكتابه الى العمال الذين يطأ الجيش عملهم: 55٤ - 56 وفقرات من كتابه الى أمراء الاجناد لما استخاف: ٨٤/٤.

- 5 -

القضاة.

السلطة الفضائية من أعظم سلطات الدولة، بها يفرق بين الحق والباطل، وبها ينتصف اللمظلوم من الظالم. وحين تجنح الظروف بهذه السلطة الى الاسفاف فانها لا تنزل الى الحضيض وحدها وانما تجر معها المجتمع كله أو بعضه.

حين تسفّ تصيرّ في عون الظالم وتعضد المجرم، وحيث انها تنطق باسم العدالة فانها تسكت كل فم، وتطفىء جذوة الحياة في كل إنسان يتصدى لها. وماذا يحدث حينئذ؟ يحدث أن يستشري الفساد، و يعظم الجور، وتمم الفتنة، و يكون المظلوم في الخيار بين أن يرفع أمره إلى هذه السلطة فيسلب حقه باسم العدل بعد ان سلبته إياه القوة، و بين أن يسكت حتى تحين الفرصة فيستعيد حقه عن طريق العنف، و في بعض هذا شر عظیم.

ص: 46

وإن الامام عليه السلام كرر هذه السلطة حق قدرها، فيختم ليقدر وصاياه الى عامله فيما يتعلق بها بقوله:

... فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فان هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الاشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا.

و هذا ما لم نشاهده منه في غير هذه الطبقة من الطبقات التي يتألف منها جهاز الحكم، مما يدل على انه كان بعي كيف ان القضاء حين يصير الى غير أهله ينقلب الى اداة للظلم: ظلم الضعفاء، ويصير مؤسسة ترعى مصالح الاقوياء فحسب.

وقد تحدث كثيراً عن هؤلاء الذين يتسنمون مناصب القضاء وليسوا لها بأهل، فيتحولون بهذا المنصب الى أداة للشر والافساد.

قال عليه السلام:

... وآخر قد تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من خلال، ونصب للناس شركاً من حبائل غرور وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يؤمن من العظائم ويهوّن كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات وفيها وقع. ويقول: و أعتزل البدع و بينها اضطجع، فالصورة صورة انسان، والقلب قلب حيوان.

وقال عليه السلام:

... ورجل قمش جهلا، موضع في جهال الامة، عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قدسماء أشباه الناس عالماً وليس به، فاستكثر من جمع ماقلّ منه خير مما كثر، حتى اذا ارتوى من ماء آجن، واكتنز

ص: 47

من غير طائل، جلس بين الناس قاضیاً ضامناً تخليص ما التبس على غيره، فان نزلت به احدى المهمات هيأ لها حشواً رئاً من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات فى مثل نسج العنكبوت.

ولأجل تفادي هذا المصير السيء لسلطة القضاء، وضع عليه السلام نظاماً يجب أن يتبع في تأليف هذه الطبقة، يضمن أن تكون على مستوى عال من الكفاءة للمهمات المناطة بها.

* * *

تؤتى السلطة القضائية من ناحيتين، الأولى: ناحية القاضي نفسه فاذا كان غير كهفء لمنصبه أسف بهذا المنصب، ولم يؤد حقه المفروض. والثانية: ناحية المنصب: نفسه، فما لم يكن مستغلا في حكمه لا يخضع لتأثير هذا وإرادة ذاك، لم تكن هناك سلطة قضائية بالمعنى الصحيح، وانما تكون السلطة القضائية حينئذ أداة لا لباس رأي فلان ثوب الحق وإسباغ مسحة الباطل على دعوى فلان. ولا تؤتى السلطة القضائية من غير هاتين الناحيتين.

و قد رسم الامام في عهده الى الاشتر ثلاثة أمور ينبغي أن تتبع في انتقاء أفراد هذه الطبقة و معاملتهم، واتباع هذه الامور يكفل لهم أن يمارسوا مهمتهم بحرية، وأن يؤدوا هذه المهمة بإخلاص.

* * *

هل يكفي في صلاحية الرجل للقضاء أن يكون على معرفة بمواد القانون الذي يقضي به مدون اعتبار التوفر ميزات أخرى فيه؟

ص: 48

إن الجواب السديد على هذا السؤال هو النني، فلا يكفي في القاضي ان يكون على علم بمواد القانون فحسب، لأنه اذا لم تتوفر فيه غير هذه الصفة يكون عالماً بالقانون: ولا يصلح أن يكون قاضياً، لأن منصب القضاء يتطلب من شاغله، الى جانب علمه بالشريعة، صفات أخرى فصلها الامام فى عهده، و أناط اختيار طبقة القضاة بتوفرها، وهذا يعني ان فاقدها ليس جديراً بهذا المنصب الخطير.

يجب أن يكون القاضي واسع الصدر كريم الخلق، وذلك لأن منصبه يقتضيه أن يخالط صنوفاً من الناس والواناً من الخلق، ولا يستقيم له أن يؤدي مهمته على وجهها إلا اذا كان على مستوى أخلاقي عال يمسكه عن التورط فيما لا تحمد عقباه.

و يجب أن يكون من الورع، وثبات الدين، وتأصّل العقيدة، و الوعي لخطورة مهمته وقيمة كلمته، بحيث يرجع عن الباطل اذا تبين له انه حاد عن شريعة العدل في حكمه، ولم يصبها اجتهاده، ولم یؤده اليها نظره، فلا يمضي حكماً تبين له خطأه خشية قالة الناس.

و يجب أن يكون من شرف النفس، ونقاء الجيب، وطهر الضمير، بحيث (لا تشرف نفسه على طمع) فى حظوة أو كرامة أو مال، فضلا عن أن يتأصل فيه الطمع ويدفعه الى تحقيق موضوعه، و ذلك لأن القاضي يجب أن يجلس للحكم ضميراً نقياً، و روحاً طاهراً، و عقلا صافياً، ونفساً متعالية عن مسافّ الاغراض، وألّا يشغل نفسه بعرض من أعراض الدنيا لأن ذلك ربما انحرف به من حيث لا يدري فأدان من له الحق، وبرأ من عليه الحق. لتأثره بهاجس نفسه، وهاتف قلبه، ومطمح هواه.

ص: 49

ويجب أن يكون من الوعي لمهمة بحیث لا يعجل في الحكم، ولا يسرع في إبرامه، وانما عليه ان يمضي في دراسة القضية ويقتلها بحثاً ويستعرض وجوهها المختلفة، فان ذلك أحرى أن يهديه الى وجه الحق وسنة الصواب، فاذا ما استغلق الامر واشتبه عليه فلا يجوز له ان يلفق للقضية. حكماً من عند نفسه، و إنما عليه أن يقف حتى ينكشف له ما غمض عنه، وينجلي له ما اشتبه عليه.

هذه الصفات يجب ان تتوفر في الفاضي، ويجب أن يناط اختيار الرجل لمنصب القضاء بما اذا توفرت فيه، و بذلك يضمن الحاكم ألا يشغل منصب القضاء إلا الأكفاء في عملهم، ودينهم، وبصرهم بالامور.

قال عليه السلام:

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك: ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى فى الزله، ولا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكشفي بأدنى فهم دون أقصاء، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشف الامور، واصر مهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء.

* * *

وهنا، كما في كل موطن، يضع الامام بين عينيه التأمين الاقتصادي ليضمن الاستقامة والعدل وحسن السيرة.

فالقاضي مهما كان من سمو الخلق، وعلوّ النفس، وطهارة الضمير،

ص: 50

إنسان من الناس يجوز عليه أن يطمع في المزيد من المال، والمزيد من الرفاهية، واذا جاز عليه هذا جاز عليه ان ينحرف في ساعة من ساعات الصف الانساني دفعه الحاجة الى قبول الرشوة، ويدفعه العدم الى الضعف أمام الاغراء، واذا جاز عليه ذلك أصبحت حقوق الناس في خطر، فلا سبيل المظلوم الى الانتصاف من الظالم وتغدو الحكومة حكومة الاقوياء

والاغنياء.

هذه أمور قدرها الامام حق قدرها، وأدرك مدى خطرها، فوضع الضمانات لتلافيها. وذلك يكون اولا: بأن يتعاهد الحاكم قضاء قاضيه، وينظر فيها أصدره من الاحكام، فان ذلك كفيل بان يمسك القاضي عن الانحراف، ويستقيم به على السنن الواضح لأنه حينئذ يعلم ان المراقبة ستكشف أمر الحكم الجائر، ووراء ذلك ما وراءه من عار الدنيا و عذاب الآخرة. وثانياً: بأن يعطى المزيد من المال لينقطع داعي الطمع من نفسه فيجلس للقضاء وليس في ذهنه شيء من أحلام الثروة والمال.

قال عليه السلام:

... ثم اكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، و تقل معه حاجته الى الناس.

* * *

والقاضي، بعد، إنسان يخاف: يخاف على ماله أن ينهب، ويخاف على مكانته أن تذهب، ويخاف على كرامته ان تنال، ويخاف على حياته أن يتدي عليها بعض من حكم عليهم من الأقوياء، فاذا لم تكن لديه ضمانات تؤمنه كل ذلك اضطره الخوف الى ان يصانع القوى لقوته، والشرير لشره وحينئذ يطبق القانون من جهة واحدة. يطبق على الفقراء والضعفاء الذين

ص: 51

يؤمن جانبهم.

هذا الخوف ينشأ من عدم تأمين مركز الفضاء وصيانته ضد الشفاعات وينشأ من زجه في المساومات السياسية وغيرها، وحينئذ تكفي كلمة من قوي او غني ليسلب القاضى مركزه ومكانه.

هذه الناحية وعاها الأمام عليه السلام وأعد علاجها، فيجب أن يكون القاضي، لكي يأمن ذلك كله، من الحاكم بمكانة لا يطمع فيها أحد غيره، ولا تتاح لأحد سواه، وبذلك يأمن دسَّ الرجال له عند الحاكم، ويثق بمركزه و بنفسه، وتكسبه منزلته هذه رهبة في قلوب الاشرار يقوى بها على حملهم على الحق وردهم اليه حين ينحرفون عنه ويتمردون عليه.

قال عليه السلام:

... وأعطه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فان هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الاشرار يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا.

هذه هي الضمانات الثلاث التي وضعها الامام عليه السلام، مبيناً فيها النهج الذي يحسن ان يتبع في انتخاب أفراد هذه الطبقة، وشارحاً كيفية معاملتهم ليؤدوا مهمتهم على نحو نموذجي.

وقد سجل الامام بما شرعه هنا سبقاً عظيما على إنسان اليوم، وذلك لأن استقلال مركز القضاء وعدم تأثره باي سلطة أخرى، وتأمين الناحية الاقتصادية للقاضي، ونظام التفتيش القضاني، جهات تنبه لها الامام وجعلها واقعاً يخلف في حياة المجتمع آثاره الخیرة، في عصر كانت سلطة الفضاء

ص: 52

أداة يديرها الحاكمون والمتسلطون كما يحبون.

* * *

ولا شيء ادعى الى ثقة الناس بالقضاء من نفوذ حكم القاضي على جميع الناس، حتى على من تربطهم بالحاكم الأعلى قرابة قريبة أو صداقة حميمة، فان ذلك خليق بأن يطمئن الرجل العادي، ويدخل في روعه انه حينما يدخل مجلس القضاء لا يواجه بنظرة احتقار. وان الحاكم الأعلى لأحرى الناس بالمحافظة على ذلك والحرص عليه، فاذا ما اعتدى بعض خاصه على بعض الناس وجب عليه ان يرده الى الحق حين یروغ عنه، ويرده الى الجادة حين يؤثر العصيان.

قال عليه السلام:

والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبة ذلك بما يثقل عليك منه، فان مغبة ذلك محمودة.

راجع: عهد الاشتر: ٣٠/٤ - ٣١و٤٢. وراجع كلاماً له (علیه السلام) فى صفة من يتصدى للحكم بين الامة وليس لذلك باهل: ١ / 65 - 68 و بعض خطبة له في صفات الفساق: ١/ ١٨٤.

- 6 -

الولاة

إنهم رجال الادارة، وأيدي الحاكم التي تمتد في اطراف بلاده، والأداة التي يستعين بها على تنفيذ أمره وامضاء ما يريد امضاءه من الشؤون. و هم المرآة التي ينظر بها الرعية اليه، واعمالهم تنسب اليه وتحمل

ص: 53

عليه، ويناله خيرها وشرها.

والوجدان الطبقي لهذه الطبقه ينزع بها نحو التسلط الثاني. من تصورات القوة و الهيبة والنفوذ، ويصبح هذا الوجدان خلراً وببلا اذا عبّر عن نفسه في غير موضعه، وجرى في غير أقنیته.

لهذا وذاك: لمكان الخطر فيهم، و مبلغ الفائدة منهم، احتاط لهم الامام و احتاط منهم، فوضع الشروط التي ينتخبون على أساسها، و الطريقة التي يعاملون بها، و (الكوابح) التي تزعهم عن أن يسيئوا سلطانهم وان يخرجوا به عما انشىء لأجله من منقمة الرعية الى استغلاله في سبيل المنافع الخاصة و المصالح الشخصية.

* * *

لا يدخل في هذه الطبقة كل من شاء له الحاكم أن يدخل، وإنما يدخل فيها من خبر المجتمع عن كتب، فعرف حاجاته، وتبين نقائصه، فانسان كهذا إذا ولي عملا مضى فيه على بصيرة، فلا يرتجل الخطط ارتجالا دون أن یعي حاجات المجتمع، ويلبي في خططه ومناهجه هذه الحاجات.

والى جانب التجربة و الخبرة العملية يجب ان يتوفر له مستوى عال من الاخلاق، فهو، كما قلنا، المرآة التي ينظر بها الشعب الى الحاكم، ولذلك فينبغي أن يكون على خلق رفيع بمكه عن الشطط ومجانبة العدل، ويستقيم به على الجادّة، ويؤم به قصد السبيل. فالحياء خلق يجب ان يتوفر فيه، و الحياء هنا ليس على معناه المبتذل، و انما هو الحياء من النفس

... من تلويتها بالظلم والعدوان والنهاون في القيام بالواجب، وهذا الخلق يدفع بصاحبه دائما إلى التعالي والنسامي. ويجب ان تتوفر فيه صفة القناعة بإن

ص: 54

لا يلوث نفسه برذيلة الطمع التي توشك ان تنقلب الى حقيقة خارجية حين تجد لها محلا في نفس الانسان، وصدى في تصوراته.

والى جانب هذه الميزات يجب ان يجمع بعد النظر، واصالة الفكر، وجودة الفهم، فهذه الصفات ضرورية لمن انيط به أمر جماعة من الناس واعتبر مسؤولا عن أمنهم ونشاطهم الاجتماعي.

ولم يكن في زمن الامام عليه الاسلام مدارس تعد الموظفين الاداريين و تلقتهم الثقافة الادارية، لذلك أرشد الامام الحاكم الى اختيار هؤلاء من بين ابناء الأسر المحافظة على التقاليد، الآخذة ابنائها بطراز عال من

التربية، العاملة على تنشئتهم تنشئة نموذجية

قال عليه السلام:

... وتوخ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة، و القدم في الاسلام المتقدمة، فأنهم اكرم اخلاقاً، وأصح أعراضاً، و أقل فى المطامع إسرافاً، وأبلغ في عواقب الامور نظراً

* * *

ويخضع هؤلاء الولاة في ولاياتهم للاختبار، فحين ينتقيهم الحاكم من توفرت فيهم الشروط السابقة يجب عليه أن يوليهم اختباراً، فيرى، وقد عرف نظرياً مدى كفاءاتهم، الى كفاءاتهم في المجال العملي، فاذا اثبتوا انهم اكفاء حقاً، وانهم يعون مسؤوليات عملهم وآلياته تبتوا و إلا عزلوا، واستبدل بهم غيرهم. لهذا المبدأ، مبدأ الاختبار، يجب ان يخضع اختيار الولاء، أما أن يوليهم الاعمال تحياً اليهم، ودون أن يستشير في أمرهم، ودون أن يعرف مدى كماء انهم، فذلك جور عن الحق، وانحراف

ص: 55

عن الجادة، و خيانة للامة في مصالح فان مصالح الاية أمانة في يد الحاكم يجب أن يسلمها الى اكفاء ولاته.

ومن هنا نعلم ان القوانين الحديثة التي تنص على وجوب خضوع الموظف الاداري الحديث العهد بالوظيفة لفترة اختبار نطول و تقصر، لم تأت بجديد، فقد أدرك الامام قبلها بقرون و قرون هذه الحقيقة و سجلها في قانونه العظيم.

قال علية السلام:

ثم انظر في امور عمالك فوّلهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثره، فانهما جماع من شعب الجور والخيانة

* * *

وليس بكني في حسن الظن بهم و الركون البهم مراعاة الدقة في انتخابهم، فان الوجدان الطبقي لهؤلاء ينزع بهم نحو التسلط و إظهار القوة، وحين يجري هذا الوجدان في غير أقنيته يصير خطراً على الرعية، لأنه يدفع صاحبه حينئذ إلى الانحراف و الزيغ.

لأجل هذا يقرر الامام ان على الحاكم ألا ينفل عن تعقب هذه الطبقة و مراقبتها، فيلزمه بانتخاب رقباء من أهل الدين و المعرفة والامانة يبثهم في أطراف البلاد، ويجعلهم عيوناً له على عماله، على عماله، يراقبونهم في أعمالهم، ويرصدون مبلغ ما يتمتع به هؤلاء الولاة من خبرة في الادارة وقدرة على التنظيم، ومعرفة بوجوه الاصلاح، ثم يرفعون ذلك كله الى الحاكم فينكل بالمنحرف الذي خان أماتته، ويستأديه ما حاز لنفسه من أموال المسلمين، ويجعله عبرة لغيره، ويشجع الصالح في نفسه، الصالح في

ص: 56

عملة. ويرشد المخطىء الى وجه الصواب.

إن هذا التدبير يمسك الوالي عن الاسراف، ويحمله على العدل في الرعية، لأنه حين يعلم ان ثمة عيناً ترقب أفعاله يحذر من الخروج عن الجادة، ويحرص على اتباع ما يصلح بلاده. و هذا التدبير الذي نهجه الأمام هو نظام التفتيش المعمول به في أربعة انحاء المعمورة.

قال عليه السلام:

... ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والامانة عليهم، فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الامانة، والرفق بالرعية. وتحفظ من الاعوان، فان أحد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذتة بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، و وسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.

و لقد كان الامام (عليه السلام) يحرص أشد الحرص على اتباع هذا الاسلوب مع ولأته، ففي نهج البلاغة طائفة كبيرة من كتبه الى عماله تدور كلها حول هذا المعنى، فيها تنديد بخيانة، وعزل عن ولاية، وزجر عن ظلم الرعية، وفيها توجيه وإرشاد ونصيحة.

قال عليه السلام:

... وان عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك امانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك ان تفتات في رعية، و لا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسامه الیّ

ص: 57

وقال:

بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد اسخطت ربك، وعصيت امامك، واخزيت امانتك. بلغني انك جردت الارض فاخذت ماتحت قدميك، واكلت ما تحت يديك، فارفع الى حسابك.

وقال:

بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد استخطت إلهك، واغضبت امامك: انك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم و خيولهم، واريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة ويراً النسمة لئن كان ذلك حقاً لتجدن بك علىّ هواناً، و لتخفن عندي ميزاناً

وقد كانت شرور هذه الطبقة هي التي سببت الثورة على عثمان، فقد ولىّ على البلاد الاحداث من ذوي قرابته، ممن لا خبرة لهم في الحكم ولا عاصم لهم من دين، ولا ورع لهم عن المحارم: فظلموا الرعية، وامتصوا دمائها، وكانت عاقبة ذلك وبالا.

وعلى النقيض من هذا كانت سياسة الامام مع ولاته، فهو ينتخبهم انتخابا، ثم يوليهم اختباراً، ثم يراقبهم، ويحملهم على الاصلاح ماوجد الى ذلك سبيلا.

* * *

والعامل الاقتصادي أداة يستخدمها الامام هنا - كما في كل موطن - لأجل ضمان استقامة الولاة على ما سنه لهم من شرائع العدل. ولذلك لم يُغفل الامام (عليه السلام) ما للعامل الاقتصادي من عظيم الاثر في إصلاح هذه الطبقة وإفسادها، فقد تدفع الحاجة أحدهم الى الخيانة والظلم، وهم

ص: 58

- كما عبر عنهم الامام في بعض كتبه - خزان الرعية، ووكلاء الامة، وسفراء الأئمة). فلو ضيق عليهم الحاكم في الرزق، ولم يرفّه عليهم في النعمة، كان حرمانهم مدعاة إلى أن تطمح أعينهم الى ما اثنمنوا عليه من مال، وذلك داعية الرغبة في الخيانة، واختلاس شيء من اموال الامة.

لهذا أشار الامام على حاكم مصر بأن يوسع على الولاة في الرزق لئلا يتخذوا الحاجة مبرراً للخيانة.

قال عليه السلام:

ثم أسبغ عليهم الارزاق، فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم ان خالفوك، وتلموا اما نتك.

راجع عهد الاشتر: ٣١/٤ - ٣٣. وراجع كتاباً منه الى الاشعت ابن قيس عامل اذربایجان: 3 / 137 - 138. وكتاباً منه الى عبد الله بن عباس عامل البصرة: ١5٠/٣ - ١5١. وكتاباً منه الى بعض عماله: 3 / ١5١ - ١5٢. وكتابين منه الى زياد بن ابيه ١5٢/٣ - 15٣. وكتابين منه الى بعض عماله: ١5٣/٣ - ١56. وكتاباً منه إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامل أردشير خرة: ٢٠٧/٣ - ٠٢٠٨ وكتاباً منه الى عثمان بن حنيف الانصاري عامل البصرة: ٣/٤ - ٩. وكتاباً منه الى عماله على الخراج4/ ١5 - ١٧. وكتاباً منه الى الاسود بن قحطبة صاحب جند حلوان 4/ 54 - 55. وكتاباً منه الى كميل بن زياد عامل هيت: 4/ 56 - 57. وكتاباً منه الى فثم بن العباس عامل مكة 6٨/٤ - 6٩. وكتاباً منه الى المنذر بن الجارود العبدي: ٧٤/٤ - ٧5.

ص: 59

الكتّاب.

الكتاب وأعوانهم هم الهيئة الوزاية، ووكلاؤها، ومديروها. والى هذه الطائفة يرجع أمر الدولة كله: سلمها، وحربها، واقتصادها، وكل ما يلمّ به من خير أو شر. فهي الجهاز الأعلى الذي ينظم النشاط الاجتماعي، ويشرف على توجيهه. وعلى قدر ما تكون عليه هذه الطائفة من الصلاح والاستقامة، تصلح الدولة، وتستقيم ويعظم شأنها.

وقد نص الامام (عليه السلام) في عهده على من يصلح أن يلحق بهذه الطائعة ومن لا يصلح لذلك، وأفاض في ذكر الصفات التي يجب ان تتوفر في الوزير، وبين الاسلوب الذي يحسن بالحاكم ان يتبعه في الأخذ منه والسماع عنه.

* * *

من جملة ما قدمناه بين يدي هذا البحث ملاحظة ذكرنا فيها أن الامام كتب هذا العهد وهو يطمح الى انشاء جهاز جديد للحكم في مصر، جهاز واعٍ لمسؤولياته، تقدميٍ في برامجه و مشروعاته، ليستجيب للحاجات التي يفتقر اليها المجتمع. وقد رأيناه فى البحوث المتقدمة محافظاً السمة في عهده، فهو دائماً يؤكد ان جهاز الحكم يجب أن يكون سليما، واعياً، تقدماً، عاملا لمصلحة المجتمع.

وما هو، بالنسبة الى طائفة الوزراء ومن يتعلق بهم، ينص على هذا المعنى ويؤكده تأكيداً وافياً.

فلا يجوز أن يدخل في هذه الطبقة رجال كانوا وزراء للظالمة والاشرار

ص: 60

وذلك لأن تأليف هذه الطبقة من هؤلاء يستتبع عواقب وخيمة تعود بالضرر على الدولة. فهم، وقد استمرءوا فعل الظلم وتعودوا على مقارفته لا يعفون عن العودة اليه والارتكاس فيه. واذا كانوا ذوي أنفس شريرة مست اعمالهم المجتمع كله نظراً الى سعة سلطانهم، وعظيم قدرتهم، ملاك القوى كلها مجتمع عندهم، وضرر آخر ينجم عن دخولهم في هذه الطبقة، فالشعب الذي عرفهم بالجور، وذاق منهم مرّ الظلم تذهب ثقته بالحكم المهيمن عليه حين يراهم قد عادوا الى مراكزهم، ويعتبره حكماً لمصلحة طبقة خاصة، ومتى ذهب ايمان الشعب بحاكميه أهمل من حقوق الحاكمين عليه ما يجب ان يؤديه، لاعتقاده أنه حين يلبيهم فيما يطلبون لا يقوم بعمل يعود بالنفع عليه.

وقد أصبح من المعطيات البديهية في علم الاجتماع ان ما يثير الشعوب ليس الظلم نفسه وانما الشعور بالظلم، وسيطرة أشخاص مثل هؤلاء على دفة الحكم يوقظ في الشعب تصورات الظلم الذي ذاقه على أيديهم في عهودهم السابقة، وهذا كاف لأن يولد في نفسه الشعور بالظلم وان لم يكونوا ظالمين. وهكذا نحدث بين الحاكم والمحكوم هوة تبعد احدهما عن الآخر، و تسلب ثقة كل منهما بالآخر، وفي بعض ذلك ما يجر الدولة الى مصير و بيل.

قال عليه السلام:

إن شرّ وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآنام، فلا يكونن لك بطانة، فانهم أعون الأئمة، واخوان الظالمة.

ولا يجوز ان يناط اختيار افراد هذه الطبقة بالفراسة وحسن الظن

ص: 61

فان الرجال يتضعون الصلاح، ويتظاهرون بالمقدرة والأمانة، ليظفروا بمثل هذا المنصب، فيخدعون الفراسة، وينتزعون حسن الظن بتصنعهم دون أن يكونوا على شيء من الصلاح و الكفاءة.

إن اختيار أفراد هذه الطبقة يجب ان تلاحظ فيه اعتبارات متعددة.

يجب أن يكونوا على معرفة تامة بمحيطهم وبحاجاته، ليصدروا في إدارته عن وعي.

ويجب ان يكونوا الى جانب المعرفة أكفاء، ذوي مقدرة على تصريف ما أنيط بهم من امور.

ويجب ان يكونوا _ الى جانب هذا وذاك - ممن يعرفهم الشعب بالحب له، والحدب عليه، ورعاية مصالحه و تيسير حاجاته، والسهر على رفاهيته و سعادته، فإن هذه الطبقة حين تتألف من مثل هؤلاء يطمئن الشعب الى الحكم ويستريح إلى أعمال الحاكم.

ويعرف ذلك كله بالنظر الى سابق مأ ولوه من أعمال الصالحين من الحكام: هل أحسنوا إدارته؟ وهل برهنوا فيه على دراية بأساليب الاصلاح؟ وهل كانت للشعب فيهم ثقة؟ فاذا اجتمعت فيهم هذه الصفات: من قدرتهم وكفائتهم، الى معرفتهم بمحيطهم، الى حب الشعب لهم، وإيمانه بهم، حقَّ لهم أن يدخلوا في هذه الطائفة، وحقّ على الحاكم ان يؤلفها منهم.

قال عليه السلام:

... ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك، وحسن الظن منك، فان الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم، وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والامانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا

ص: 62

للصالحين قبلك: فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالامانة وجهاً، فان ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره.

* * *

لم يكن مبدأ انفصال السلطات الثلاث: (التشريعية والتنفيذية، والقضائية) مبدأ معترفاً به في الدولة الاسلامية. بل لم يكن للدولة الاسلامية في عهودها الاولى وزارة بالمعنى المفهوم لهذا اللفظ. لقد كانت السلطات كلها تتجمع في يد الحاكم الأعلى، فهو المرجع الأول والاخير في كافة الشؤون.

ولا أحسب أن دولة في عالم اليوم لا تأخذ بمبدأ فصل السلطات، إما حقيقه أو ظاهراً، وحجة فلاسفة الحكم على رجحان هذا المبدأ هي ان تركه يؤدي الى تجمع السلطات كلها في يد واحدة، وذلك يجر الى طغيان الفرد. أما حين تنفصل السلطات فلا يمكن ان يحصل الطغيان لأن كل واحد ممن يملكون سلطة معينة يترك الطغيان خشية ان تعارضه السلطات الاخرى.

ونقول: ان هذا المبدأ قد يكون معقولا حين يكون القانون الذي تسير عليه سلطتا التنفيذ و القضاء قانوناً وضعياً يمكن ان يكون المحكم في وضع مواده و تفسيرها هو الاهواء والشهوات واما حين يكون القانون دينياً ليس لأي سلطة مها بلغت من النفوذ والقوة ان تحرفه، وتتلاعب فيه وتجعله في صالح فريق من الناس دون آخرين وحين يكون هذا القانون معروف الحدود مفصل المواد فلا ضرورة تدعو الى فصل

ص: 63

السلطات لأن أي انحراف عنه يعرف فيعول المنحرف ويقوم الشاذ (1)

على ان هذا لا يمكن ان يؤخذ به على إطلاقه: أي كلما كان القانون وضعياً وجب اتباع مبدء فصل السلطات وذلك لأن الحاكم الأعلى إذا كان عادلا وكفواً لم يعد تجمع السلطات في يده بأي ضرر لان الطغيان - وهو المحذور الذي من اجله وضع هذا المبدأ - مأمون من قبل انسان كهذا ولا يغني فصل السلطات شيئاً حين يكون القائمون عليها فاسدين وشريرين لان هذا المبدأ لا يمنعهم من التعاون على الشر والطغيان وبدل ان يعتدي الحاكم على حقوق الناس ويعرف بالظلم والعدوان يمكنه هذا المبدأ من الاعتداء على حقوق الناس باسم القانون والمصلحة العامة وكلنا يعرف كيف تكون سلطات التشريع - وهي اعلى السلطات - في بعض البرلمانات مصدر المساومة على حقوق الشعب او الجماعات او الافراد.

قدمت هذا الحديث لأخلص منه الى القول بأن الظن يذهب ببعض الكتاب الى ان الامام عليه السلام قد شرع في عهده الى الاشتر مبدأ فصل السلطات في خلال حديثه عن الوزراء ويجعل ذلك مفخرة من مفاخر الامام لأنه اهتدى الى هذا المبدأ قبل فلاسفة الحكم في الغرب بمآت الاعوام (2)

*******************

(1) نقول هذا في القانون الديني حين يتولى الأمر حاكم كالامام علي عليه السلام، لا حين يتولاه ملوك كملوك الامويين والعباسيين وغيرهم من الذين استعبدوا الناس باسم الاسلام، والاسلام منهم بريء.

(2) لعل مونتسكيو ١6٨٩ - 1755م هو اول من تكلم في مبدا فصل السلطات، وقد عقد للحديث عنه فصلا في كتابه روح الشرائع 228/1 - ٢٤٢. وتابع الموضوع من الوجهة التاريخية في ٢٤٣ - ٢٧٠

ص: 64

وهذا وهم لا واقع له في كلام الامام. فقد راينا اولا ان مبدا فصل السلطات إذا صح في المجتمعات التي تحكم بقوانين وضعية فانه لا يصح في المجتمعات التي تحكم بقوانين سماوية. وقد راينا ثانياً انه حتى في المجتمعات التي تحكم بقوانين وضعية لا يعود هذا المبدا بالنفع المقصودمه في كثير من الاحوال. وثالثا ان الامام تكلم في هذا الموضع عن الوزارة والوزارة عبارة على السلطة التنفيذية فكيف يشرع مبدأ فصل السلطات في داخل إحدى السلطات مع ان هذا المبدأ يجب ان يشرع في تشكيل الدولة الع__ام؟ ورابعاً انه هو لم يأخذ بهذا المبدأ في حكمه فكيف يأمر به احد عماله؟

الذي اراه هو ان الامام نظر فراى ان طائفة الوزراء هي اعظم اجهزة الدولة أهمية، لأن جميع الشؤون تناط بها، وترجع اليها، وتصدر عنها، في السياسة والادارة والحرب.

ولا يصح ان تناط هذه المهام بشخص واحد أو بمجموعة من الاشخاص، فان الاحاطة بدقائق كل هذه المهام ومعرفة اسرارها لا تتاح في العادة، للشخص الواحد، ولو اتيحت لواحد فانيط به أمرها لما أحسن التصرف، واوقع في الخطأ وسوء التدبير، لأن اضطلاعه بها يرهقة و يبهظه فاما ان يصرفها كلها فيقع في الخطأ، وينأى عنه بعد النظر واصالة الرأي وسلامة التدبير. وإما أن يهمل بعضها ويصرف بعضها الآخر فيقع الاضطراب في اعمال الدولة بسبب إهماله. وان أنيطت المهام بجماعة من

ص: 65

الناس دون تحديد المهمة الملقاة على عاتق كل منهم وقعت البلبلة و شاع الاهمال، فينقض احدهم ما ابرمه الآخر، ويصرف احدهم ما امسكه صاحبه، و يمضي اثنان امرين متضادين، ويهمل كل واحد منهم بعض المهمات اتكالا على رفاقه.

فاحسن الوسائل لضمان سير أعمال الدولة على مستوى عال من حسن التدبير، وإصابة الهدف هو ما قرره الامام عليه السلام، وهو ان يناط بكل واحد من هؤلاء الوزراء بعض مهات الدولة، ويراعى في إلحاق من اختير للوزارة لعمل من الاعمال ان يكون ذا اختصاص بذلك العمل وذا خبرة بدقائقه واسراره ليؤدي ما استعصى منه على خير وجه.

قال عليه السلام:

واجعل لرأس كل امر من امورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها. ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه الزمته.

وفي هذه الفقرة الأخيرة «ومهما يكن ...» قرار الامام ان الحاكم مسؤول عما يكون في وزرائه من العيوب، وذلك لأنه - وقد اختار - بحب ان بتحمل مسؤولية اختاره.

* * *

وعلى رأس هؤلاء جميعاً رئيسهم، وهو من يقال له (كاتب الكتاب) ومهمة هذا الوزير هي الاشراف على من دونه من الوزراء، ومراقبة أعمالهم. ومهمته أيضا هي تولي السياسة العليا للدولة مع الحاكم، فهو ضد الحاكم في رسم الخطط السياسية، وإعلان الحرب وعقد معاهدات

ص: 66

الصلح، والتعرف على نيات من يخاف منهم على أمن الدولة وكيانها، فهو مع الحاكم الأعلى، المقلان اللذان يدبر ان عميلة الحكم كلها.

هذا الوزير يشترط فيه الامام شروطاً لا يصلح بدونها:

فيجب أن يمتاز عن بقية الوزراء بأن يكون خيرهم، وذلك بان يكون أكثر منهم إلماماً بشؤون الدولة وإمكاناتها، ليتسنى له ان يوجه كلا منهم إذا انحرف، ويفهم عنه إذا قال.

ويجب أن يكون عارفاً بمركزه وأنه لا يخرج عن كونه وزيراً يستمد الصلاحية ممن استوزره، فلا تبطره الكرامة التي حصل عليها، فتدفعه الى إشاعه خلافه مع الحاكم بين الناس، لأن ذلك يشعر الناس بأن في جهاز الحكم خللا، وربما سبب شيوع ذلك تحفز المشاغب الى إظهار شغبه اغتناماً لفرصة الانشقاق. ان الامام يطلب من الوزير ان يسلم بوجهة نظر الحاكم في كل ما يقول وإلا كان ببغاء ولم يكن وزيراً، ان عليه ان يجاهر برأيه حين يرى الحق في جانبه، ولكن ذلك يجب ان يبقى سراً بينه وبين الحاكم، ولا يجوز ان يذاع في الناس.

ويجب أن يكون على وعي لكنه السياسة التي تسير عليها الدولة فيقبع في أوامره التي يصدرها الى الولاة وفي مباحثاته السياسية هدى سياسة الدولة، ولا يغفل عنها فيلزم نفسه بما يتنافى وسياسة دولته التي يمثلها

ويجب أن يكون عارفاً بأحابيل السياسة وألاعيبها، فيحافظ على التزامات الدولة السياسية التي تعود عليها بالنفع والقوة، ويعرف وجه الحيلة في اخراج الدولة من المازق السياسية التي يكيدها بها أعداؤها.

ويجب أن يكون الى جانب هذه جميعاً أجمع وزرائه لوجوه صالح

ص: 67

الأخلاق، لأن المهام التي تناط به تتطلب قوة في الدين تمسكه على الجادة وشعوراً بالمسؤولية يحمله على الاخلاص والانفان، وعنة تعصمه من الاغراء

قال عليه السلام:

ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم. واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترىء بها عليك في حضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، واصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذلك ويعطي عنك، ولا يضعف عقداً اعتقده لك، ولا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فان الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

وفي هذه الفقرة الأخيرة: «ولا يجهل ...» يشترط الامام في الوزير أن يكون واقعياً، ينظر الى الأمور نظرة جدية، ويعرف واقعه تمام المعرفة، فإذا كان مركزه ضعيفاً احتاط لنفسه بما يحتاط به الضعيف ولا يهمل الاحتياط غروراً منه واستعلاء، واذا كان قوي المركز وجب عليه ان يمثل دور القوي. ولا يهمن امام خصومه فيعطيهم من نفسه ما لو شاء لمنعه، ثم لا يلحقه من وراء ذلك شيء.

* * *

قلنا ان الوزير الذي يصوب كل ما يقوله الحاكم حتى اذا كان مخطئاً فيه ليس وزيراً وإنما هو ببغاء تقمصت اهاب وزير. وظيفة الوزير هي ان يتعاون مع الحاكم الأعلى على ادارة جهاز الحكم ادارة صحيحة، وعليه اذا أخطأ الحاكم في الرأي ان يرده الى الصواب

ص: 68

وعليهما أن يتعاونا على معرفة أصلح الوجوه فيما يأخذان ويدعان من الامور، لذلك يجب أن يعطى الوزير حرية الرأي بحيث لا يقيده في هذا المجال شيء، لأنه كل ما كان أوسع حرية عظمت فائدته، ويجب إن ينال الوزير من الحضوة بمقدار ما يكون صريحاً في رأيه، معالنا الحاكم بالحق راداً له الى الصواب فكلما ازداد قولا بالحق وايثاراً للصدق ازداد كرامة و رفعة. وأما حين يتبين الوزير في الحاكم أنه لا يطلب النصح وإنما يطلب الموافقة على رأيه فقط فانه ينقلب الى ببغاء، وحينئذ يسير الحاكم بالدولة معصوب العينيين لأن أحداً لا يجرو أن يقول في وجهه كلمة الحق.

قال عليه السلام:

وليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيها يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع ... ثم رضهم على ألا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فان كثرة الاطراء تحدث الزهو وتدني من العزة.

راجع عهد الأشتر: ٢٣/٤ - ٢٤ و ٣٤ - ٣6.

- 8 -

الزراع.

هذه الطبقة من أعظم الطبقات الاجتماعية وأبلغها أثراً في حياة المجتمع

ففي زمان الامام عليه السلام كانت هذه الطبقة أضخم الطبقات الاجتماعية، وكانت مركز الكثافة في المجتمع، كما أن مركز الكثافة فيه هي طبقة العمال في العصر الحديث.

ص: 69

وكانت المجتمعات القدمة مجتمعات زراعية في الدرجة الأولى، فكان كيان الأمة الاقتصادي يقوم على الأرض ومنتجاتها، لأن الصناعة لم تكن اذ ذاك على حال تسمح بان يقوم عليها الصرح الاقتصادي للامة، لضعفها وضيق نطاقها. ولم نكن التجارة وحدها كذلك لتسمح باقامة هذا الصرح في كثير من البلدان، لعدم انتظام التجارة العالمية اذ ذاك، ولضعف المواصلات، ولعدم وجود طرق تجارية كافية ومامونة في جميع الاوقات.

وإذن فقد كان الكيان الاقتصادي يقوم في الدرجة الأولى على الارض ومنتجاتها، والرفاهية الاقتصادية منوطة بأن تتاح للارض أفضل الفرص التي تمكنها من أن تعطي: عطاء كثيراً، ومنوطة بان تتاح للزارع أفضل الوسائل التي تعينه على صيانة أرضه، وخدمتها، والحصول منها على نتاج وفير.

وقد برهن الامام عليه السلام في عهده الى الاشتر أنه على وعي تام لمدى أهمية هذه الطبقة في الكيان الاجتماعي، ثم للعمليات الاجتماعية التي يعتبر نشاط هذه الطبقة ضرورياً لاستمرارها.

* * *

يقرر الامام عليه السلام أن النشاط الاقتصادي كله يتوقف على ما يدفعه أهل الخراج من الأموال. فسكان المدن على أقسام: الجنود المقاتلة، وأصحاب الحرف والصناع، وأصحاب التجارات، والذين لا يستطيعون عملا يرتزقون منه، أو لديهم أعمال لا يكفيهم ريعها. وبوزع قسم كبير من اموال الخراج على الجنود، وعلى الفقراء، وعلى من لا

ص: 70

يكفيه عمله من ذوي الا عمال و بهذه القوة الشرائية التي يحدثها هذا المال تستمر العمليات الاجتماعية، فتنشط حركة التجارة و الصناعة، لأن في أهل المدن حاجة الى الطعام والكساء والآنية والوقود وغيرها، يحصلون عليها من التجار والصناع والعمال، وبهؤلاء حاجة الى الزراع فيشترون منهم المواد الحيوانية والنباتية وغيرها، لأجل أن يلبوا حاجات المدن المتجددة، وبالزراع حاجة الى الكساء والآنية والسلاح وما اليها، فيحصلون بهذا المال الذي يصير اليهم على ما يريدون.

وهكذا يتوقف ازدهار النشاط الاقتصادي على طبقة الزراع، و اذن فاضطراب امور هذه الطبقة لن يعود عليها بالضرر وحدها، وإنما يمتد بآثاره الضارة الى المجتمع كله، فيشل نشاطه، ويؤدي به الى ازمات اقتصادية حادة ينجم منها التفسخ الاجتماعي. قال عليه السلام:

وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس عيال على الخراج واهله.

* * *

وتعتمد هذه الطبقة اعتماداً مطلقاً على الارض، وعلى العناصر الطبيعية، وعلى سواعدها.

فيجب ان تصان الأرض لتبقى في حالة جيدة، ولتستفيد من العناصر الطبيعية الى أقصى مقدار ممكن، فيجب أن تشق الترع، و تبنى القناطر و السدود، وتحفر الابار، لتتوفر للارض حاجاتها من المياه و ينتظم نظام الري، ويجب شق الطرق الزراعية التي تمكن هذه الطبقة من الاتصال ببعضها، وتسهل قضاء المهام الزراعية و الاستعانة بالعمال الزراعيين.

ص: 71

وصيانة الأرض ليست أمراً یعود النفع على هذه الطبقة وحدها، وأنما يعود بالنفع على الدولة كلها، فقد رأينا مالنشاط طبقة الفلاحين من تغلغل حيوي في العمليات الاجتماعية، فصيانة الأرض و الحال هذه من المصالح العامة، فيجب الانفاق عليها من الاموال العامة.

فأما حين تهتم الحكومة بالجباية فقط و تهمل أمر الاصلاح و العمارة حين تتجه هذا المتجه يصير بها الأمر الى ان تخرب البلاد وتهلك العباد ثم لا تجد مورداً تجبي منه الى المال لعدم وجود انتاج صحيح لأن الخراج كثرة و قلة متصل بحالة الأرض، فعلى مقدار ما تأخذ الأرض تعطي وعلى مقدار ما تعطي تكون قدرة أهلها على إجابة الحاكم إلى أداء ما يفرضه عليهم من خراج.

قال عليه السلام:

... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ... و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا.

* * *

وطبقة الفلاحين اكثر الطبقات كدحاً، و أشقها عملاه فعند من عداهم من الطبقات و الطوائف وقت مخصص من اليوم للعمل، وأوقات أخرى للراحة والتسلية، بخلاف الفلاحين فان عملهم يعتد طول اليوم، و على مدار العام. وهذا العمل اما في مركز الانتاج و هو الحقل، واما في بيوتهم باعداد البذار و الآلات و ما اليها. و حتى في الاوقات التي

ص: 72

ينقطعون فيها عن العمل هنا وهناک لاينقطعون عنه في احاديثهم وتصوراتهم وطبيعة عملهم تفرض عليهم هذا اللون من الحياة، وهذا المقدار من الجهد فغيرهم من الناس يستطيع أن يتحكم بعمله فيختار الوقت الملائم لادائه ثم ينقطع عنه، أما الفلاح فعمله ينحصر في مساعدة العناصر الطبيعية على أن تؤدى وظيفتها على الوجه الأكل، فهو عبد لهذه العناصر وعليه ان يكون يقظاً دائماً ليعمل ما يجب عمله، ولما كان عمله متصلا بهذه العناصر فان اي تقصير منه يعود عليه بضرر كبير، لأنه لا يستطيع أن يتحكم في الطبيعة البيولوجية ويسخرها حسب هواه.

هذا العمل المرهق يجب ان يقابله مستوى من المعيشة ومقدار من الدخل يشعر ان هذه الطبقة بأنها حين تعمل لا تستغل لصالح الآخرين وإنما تعمل لنفسها في الدرجة الأولى.

ويجب أن يشعر الفلاح بأنه سيد أرضه وأن لا أحد يمكن ان ينازعه في هذه السيادة.

وحيث كان من اللازم مراعاة حال الفلاح وتمكينه من ان بحيا على مستوى لا يشعر معه بالاضطهاد و الاستغلال، وحيث كان من اللازم إشعاره بانه سيد ارضه - لهذا وذاك يجب ان يكون مسموع الكلمة فيما يتصل بأرضه وبقدرتها على الانتاج، فاذا اشتكى ثقل الخراج لعدم تناسبه مع إنتاج الارض اوشكى آفة المت بالارض فأثرت على انتاجها او ذهبت به فلذلك لا يستطيع دفع ما فرض عليه ان المال، اذا شكى شيئاً من هذا كان من اللازم ان يسمع كلامه فيوضع عنه من المال مقدار ما يصلحه.

وقد يذهب الظن بالبعض الى ان هذه المعاملة تؤثر على مالية الدولة

ص: 73

و تضعفها و لكن هذا الظن بعيد عن الصواب، لأن هذه الوضيعة التي يحصل عليها الفلاح تعود على الدولة نفسها بفوائد عظيمة تزيد في ازدهارها ورفاهيتها. وذلك لأن هذا المال يصرف في إصلاح الأرض و عمارتها، ويصرف في سد حاجات الفلاح نفسه من مسكنه و ملبسه و مرافق حياته الاخرى فيكون في ذلك تزيين للبلاد بما اتاح لها هذا المال من العمران و يكون في ذلك شعور هذه الطبقة بالطمأنينة والرضى مما يدفعها وهي اكثر طبقات المجتمع عدداً واعظمها انتاجاً إلى المحافظة على الحكم القائم والدفاع عنه لأنه يحفظ لها مصالحها. ولدينا شاهد من التاريخ على هذا فقد كان نابليون الثالث (امبراطور فرنسا) ممن حدبوا على هذه الطبقة ورعوا مصالحها، وحموها من عتاة الظلمة، وأشعروا الفلاح الفرنسي انه سيد أرضه وان امرها منوط به وحده، وقد كان موقفه هذا مما دفع بالفلاحين الى أن يخصوه باصواتهم في الانتخابات دائماً لما لمسوه من رعايته لمصالحهم وفهمه لموقفهم.

وهذه النتيجه «عطفهم على الحكم القائم» مع عمران أرضهم تجعلهم على استعداد للمعونة حين تطلب منهم، لحسن ظنهم بالحكم القائم ورغبتهم في استمراره من جهه، ولأن حالهم المالية تسمح لهم بالمساعدة لوفرة الانتاج.

فهذا المال الذي وضع زاد في عمران البلاد، ومن ثم زاد في إيرادها ومن ثم جعلها تحتمل من الضرائب فوق ما كانت تحتمل وهي أقل عمراناً، وحمل الفلاحين على حب الحكم القائم وبذل المعونة له حين يشكو العجز و تأييده حين يشكو الخذلان.

ص: 74

قال عليه السلام:

فان شكوا نفلا أو علة، أو انقطاع بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو اجف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثفلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم، فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فیهم، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم، ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما اذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فان العمران محتمل ما حملته.

* * *

ولهذه الفقرات وجوه أخرى من الدلالة، عظيمة القيمة، بالغة الأهمية

فمن الشروط الاساسية لنجاح العمل وازدهاره أن يقبل العامل عليه بهمة و نشاط، وأن يشعر نحوه بالحب و الرغبة. و أن يحس حين يزاوله أنه ينمي به شخصيته الانسانية، ويؤكد قدرتها على الابداع - إذا كان هذا هو موقف العامل النفسي من عمله ازدهر العمل وتقدم، ولا يمكن يقف العامل من عمله هذا الموقف إلا إذا شعر بأن عمله له، وبأنه يعود عليه بالنفع والفائدة.

ومن هنا اعتبرت الملكية الخاصة من أعظم الاسباب الدافعة الى ازدهار العمل، لأن هذا اللون من الملكية يدفع العامل الى بذل طاقته كلها مع شعوره بالسرور لأنه يعمل لنفسه.

ويتغير هذا الموقف حين يكون العمل للغير ولا يرجع الى العامل

ص: 75

من ثمراته شيء يذكر فأنه حين ذاك یشعر بالكراهية نحو عمله، و يتهاون فيه ولا يتحرى كماله واتقانه ويتحرى الفرص للتهرب منه وهذا يضعف سير العمل، ويهبط به، ويسري هذا الموقف النفسي الى صاحب العمل نفسه فيتمنى العامل هلاكه، ليتخلص منه.

هذه الملاحظات تفيدنا هنا. فحينما توضع على الفلاحين الضرائب الفادحة التي لا تتناسب مع دخلهم، مع إهمال عمارة الأرض وصيانتها يشعر هؤلاء الفلاحون أنهم لا يعملون لأنفسهم ولا يجنون من وراء كدحهم المرهق شيئاً ذا قيمة وإنما يعملون لغيرهم، ويستغلون لهذا الغير استغلالا بشعاً وذلك يخلق في نفوسهم كراهية عملهم و التذمر منه.

إن هذه المعاملة التي تحدث هذا الشعور وتدفع الى هذا الموقف تخلف في المجتمع آثاراً ضارة قد تقوض المجتمع من أساسه.

هذه المعاملة تدفع بأضخم طبقة في الأمة الى انحلال أخلاقي فضيع فهذا الفلاح الذي يستغل الحاكم جهده دون ان يعوضه عليه شيئا يريد ان يعيش، وهو يتوسل إلى غايته هذه بالكذب والغش والتهريب والسرقة فبدلا من ان يعيش من ارضه بجهده يضطر الى العيش من جيوب الآخرين بسلاحه، وينقلب قاطع طريق، مجرماً، عدواً للمجتمع، بعد أن كان المفروض فيه أن يكون لبنة تزيد صرح المجتمع قوة ومناعة.

ومن جملة آثارها أن تنتقل الأيدي الفتية الشابة الى بلاد أخرى هرباً من الظلم، وطلباً للقمة العيش. فمن لم يصبر على الظلم أما أن يتحول الى قاطع طريق وإما أن يهاجر، وهذا يسلب من البلاد زهرة شبابها، فان الذين يهاجرون هم الاقوياء المغامرون، ذوي المستوى الاخلاقي العالي

ص: 76

الذي يمنعهم من الاجرام. و إلام يودي هذا؟ انه يؤدي الى هبوط الانتاج، فهذه الأيدي الفتية هي التي تدير عمليته، و حين تنقطع عن العمل فلابد ان يصاب الانتاج بالشلل.

ومن جملة آثارها أن تنتقل رؤوس الأموال الكبيرة الى خارج البلاد فان أصحاب الثروات يستغلون أموالهم عن طريق الزراعة في المجتمعات الزراعية، فيعمرون الأرض، ويحيون مواتها، ويصلحون نظام الري، ويوجدون عملا للكثيرين. ولكن غاية هؤلاء هي الربح، فاذا ما رأوا ان الضرائب والمظالم تذهب بثرواتهم فضلا عن ارباحهم آثروا تجميد اموالهم أو نقلها الى بلد آخر يأمنون فيه العدوان، وينجم عن هذا تعطیل شبان كثيرين يتجهون الى الهجرة أو الى الاجرام، وتزيد البلاد خراباً، ويزيد الكيان الاقتصادي ضعفاً.

ومن جملة آثارها ان تتحد الأمة على بغض الحكم القائم، ثم لا تلبث أن تثور عليه وتجعله أثراً بعد عين.

هذه الكوارث الاجتماعية تنشأ من عدم التبصر في إمكانات الانتاج و حالة المنتجين. وقد وضع الامام عليه السلام من المبادىء ما يعصم اتباعه من التردي، فبين ان على الحاكم قبل ان يفكر في وضع الضريبة ان يلاحظ حالة الارض فيعمرها ويصلحها، وأن يراعي حالة العامل النفسية و المعيشية، فيضمن له العيش في مستوى لائق لئلا يشعر بالاضطهاد وعندما يفرغ من ذلك كله يحق له ان يضع الضريبة التي تتناسب مع مستوى الانتاج ومقدرة المنتجين.

قال عليه السلام:

ص: 77

وانما يؤتى خراب الأرض من إعواز اهلها، وإنما يعوز اهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع، و سوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.

* * *

ولا يكني هذا وحده في ازدهار هذه الطبقة وتقدمها، فقد يكون الحاكم محسناً اليها رؤوفاً بها، ومع ذلك ينالها الظلم، ويلحق بها الحيف.

إن هذه الطبقة بحاجة الى الحماية من طبقة الخاصة والنبلاء فهؤلاء يظلمون، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يفيئون الى حق، اعتزازاً بقوتهم وغنائم وصلتهم بالحاكمين، ولذلك فيجب ان تحمى هذه الطبقه منهم بقطعهم عنها، ويكون ذلك بألا يجعل الحاكم لهم سبيلا عليها ولا صلة بها، فلا يقطعهم الحاكم أرضاً تتصل بأرض من هم دونهم قوة وقدراً لأنهم يستغلون المرافق العامة في سبيل منافعهم الخاصة، ويعتدون على ارض غيرهم فيلحقونها بارضهم، ويعفيهم الجباة من الضرائب مراعاة لمننزلتهم، ويضعون ما رفعوه عنهم على اعناق غيرهم ممن ليس له مثل منزلتهم، وذلك أفدح الظلم وأقبحه.

فإذا ما حدث شيء من ذلك وتعدى أحد هؤلاء على بعض الناس فظلمه بأن وضع عليه خراجه، أو سلبه ارضه، أو حرمه الانتفاع بالمرافق العامة، وجب على الحاكم ان يؤد به ويرده الى العدل كائناً من كان.

قال عليه السلام:

ثم ان الوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة انصاف في معاملة، فاحم مادة أولئك بقطع مادة تلك الأحوال. ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة

ص: 78

تضر بمن يليها من الناس في شرب او عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن فى ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فان مغبة ذلك محمودة.

راجع: عهد الأشتر: ٣٣/٤ - ٣٤ و ٤١ - ٤٢. وراجع كتاباً منه الى عماله على الخراج: ٤ / ١5 - ١6

- 9 -

التجار والصناع.

اذا كانت الزراعة هي ينبوع النشاط الاقتصادي في العصور القديمة فان التجارة هي المظهر الأكمل لهذا النشاط في جميع العصور.

وإذن، فطبقة التجار تشكل وحدة اجتماعية عظيمة القيمة، بعيدة الأثر في الكيان الاجتماعي. ولو ان اضطرابا ألم بنشاط هذه الطبقة لاضطرب المجتمع كله فتحدث المجاعات في بعض الاطراف بينما تتكدس المواد الغذائية في أطراف أخرى، وبينما توجد في بعض المناطق سلع كثيرة للاستهلاك توجد مناطق أخرى تعاني نقصاً في سلع الاستهلاك.

و هؤلاء التجار - في كلام الامام - على قسمين: منهم المقيم المستقر بماله و تجارته. ومنهم المتجول المضطرب بماله بين البلدان يرصد حاجة كل بلد فيتجر فيه بالسلمة التي يفتقر اليها.

وأما الصناع فيجب ان ندخلهم في طبقة التجار ونفهمهم على أنهم منها هنا وذلك لأمرين، الأول: أن لكل من هؤلاء الصناع عملا

ص: 79

خاصاً مستقلا يتجربه وحده أو يشارکه غيره فهو يتمتع بنتيجة عمله وليس مستخدماً عند غيره كما هو حال العامل الآن. الثاني: ان الوجدان الطبقي عند التجار والصناع واحد كما سنرى والميزان في عد طائفتين من الناس طبقة واحدة هو وحدة الوجدان الطبقى فيما.

* * *

هناك تلازم وتيق بين الازدهار الاقتصادي وبين التجارة فكلما قشطت حركة التجارة ارتفعت نسبة الانتاج وكلما ضعف امر التجارة هبطت هذه النسبة وتبعتها في الهبوط المكانة الاقتصادية للأمة. ونضرب لهذا مثلا بحالة المقاطعات الفرنسية في عصر الاقطاع، ثم بحالة هذه المقاطعات بعد ضعف امر الاقطاع ونشوء البرجوازية.

ففي عهد الاقطاع الذي ساد اور با منذ انهيار امبراطورية شرلمان الى ما بعد الحركة الاولى للحروب الصليبية ضعفت الحركة التجارية في اوربا ضعفاً عظيما فتبعها الانتاج في الهبوط، واكتفى سكان كل اقطاعية بانتاج ما يلزمهم ويكفيهم من المواد الغذائية واقتصروا منها على انواع خاصة تسد حاجتهم ولا تستدعيهم بذل جهد كبير فلم يكن شيء سوى سد الحاجة مطلباً لهم. نعم كانت ثمة استثناءات خاصة في السلاح والثياب والاثاث للزعيم، وكانت هذه تنقل من اقاليم بعيدة نسبياً. وهكذا كانت المقاطعات الفرنسية، الاوربية كلها، تجنح في الاقتصاد نحو سياسة الاكتفاء الذاتي، وعدم انتاج ما يزيد على الحاجة.

ولكن ما ان النهبت شرارة الحروب الصليبية التي ذهبت بكثير من النبلاء والاقطاعيين، وما ان حدثت تطورات اجتماعية أخرى كالنزوح

ص: 80

من الريف الى المدينة، وتأييد الملك، واختراع المدفع الذي ذهبت بقيمة الحصون ... ما ان حدث هذا حتى عادت التجارة فنشطت نشاطاً عظيما، ونشأت طبقة البراجوز بين التجارية التي يتنقل افرادها بين البلدان واستتبع ذلك ارتفاع مستوى الانتاج، فزرع الزراع انواعاً جديدة لم يكن ليزرعها لولا طلب التجار لها، واشترى اشياء جديدة و ملابس وأسلحه، وآنية، وادوات زينة لم يكن ليقدر على شرائها لولا نشاطه الجديد، وتفنن الصانع في صنعه، فلم يعد يصنع ما يد الحاجة فقط، وأنما أخذ يصنع ما يرضي حاسة الجمال أيضاً. وقامت المشاريع الصناعية الكبرى فنشأت البرجوازية المالية والبرجوازية الصناعية. وهكذا ارتفع مستوى الانتاج بسبب نشاط الحركة التجارية.

وعندما نبحث عن أسباب التدهور التجاري الذي حل بفرنسا وغيرها من دول اوربا في عصر الاقطاع نجد أسباباً مختلفة: منها ع_دم وجود الطرق التجارية الصالحة في جميع الاوقات بين مختلف انحاء البلاد ومنها قطاع الطرق، وعصابات اللصوص والقتلة التي تترصد القوافل التجارية ومنها عدم وجود سلطة مركزية تبث الأمن، وتضرب على أيدي المفسدين في الأرض، لأن السلطة المركزية في عصر الاقطاع كانت واهنة، وكان السلطان الفعلي بأيدي الاقطاعيين وكان هؤلاء في حالة حرب دائمة فهم في شغل عن تأمين السبل والضرب على أيدي المفسدين. ومنها الرسوم الكمركية الفاحشة والضرائب الباهظة التي تفرض على البضاعة عند حدود كل مقاطعة وعند كل جسر ومعبر مما يرتفع بثمن السلعة الى

مبلغ كبير لا يقوى عليه الفرد المحدود الدخل.

ص: 81

هذه الأمور أضعفت الحرکة التجارية وحصرتها في نطاق جديد الضيق. ولكن الوضع تغير عند ما حدثت التطورات الاجتماعية التي أشرنا اليها. فقد استتبع ضعف شأن الاقطاعيين تحول الشعب الى تأييد الملك فاشتد ساعد لسلطة المركزية، وعند ذلك ضربت هذه السلطة على ايدي اللصوص وقطاع الطرق ومهدت السبل التجارية وامنتها ووحدت الضرائب فاتسع مجال التجارة ونجم عنها الازدهار الاقتصادي الذي أشرنا إليه.

وما نشك في أن الامام كان على وعي لهذا كله يوم كتب للاشتر عهده الذي عهد اليه. فقد استوصاه بالتجار خيراً وأمره بأن يوصي بذلك ولاته وعماله، وما هذا الخير الذي اراده لهم إلا تسهيل مهمتهم ليؤدوا خدماتهم للمجتمع على الوجه الأكمل، فلا يجوز ان تكون المكوس والضرائب باهظة تستصفي الربح كاء أو تبقي منه شيئاً لا ي__د الحاجة، ولا يحمل صاحبه على المخاطرة، لأن ذلك يلجئه الى ان يجمد ماله فلا ينميه بالتجارة، ويلحق بالمجتمع من ذلك ضرر كبير ينشأ من توقف حركة العرض والطلب التي ينجم عنها هبوط المستوى الاقتصادي.

ويجب ان تكون الطرق التجارية صالحة في جميع الاوقات ليتيسر للتجار التنقل بين اطراف البلاد، وليتمكنوا من تلبية الرغبات في جميع الأنحاء، ولستطيعوا استنزاف الفائض الانتاجي من منطقة فيسدوا به حاجة منطقة أخرى تعاني نقصاً فيه.

ويجب أن يستتب الأمن، لئلا یمسك الخوف التاجر عن التنقل وبقعد به الفرق من أن يذهب ضحية العدوان.

ص: 82

قال عليه السلام:

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات و أوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله، و المترفق ببدنه، فأنهم مواد المنافع، واسباب المرافق، وجلا بها من المباعد والمصارح، في برك و بحرك، وسهلك و جبلك، وحيث لا يلتم الناس لمواضعها، ولا يجترؤن عليها فانهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى عائلته، وتفقد امورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك.

* * *

ذهب «سان سيمون» الى ان الوجدان الطبقي الذي يميز طبقة الصناع والتجار هو الانتاج، وإنماء الثروة الفردية عن طريق تشكيل المادة على نحو ينتفع به الانسان، أو عن طريق الاتجار بهذه المادة. وهم بهذا يخالفون طبقة الحاكمين لأن هؤلاء يجعلون مظهر سلطانهم على الأنسان (كان سيمون يكتب هذا فى سنة 1818) أما التجار والصناع فقد جعلوا سلطانهم على المادة، ولذلك فهم طبقة مسالمة لا يخشى منها شر بخلاف من كان سلطانهم على الانسان، فانهم ينزعون الى الشر والتسلط.

وهو يرى ان البرجوازية الصناعية والتجارية قد حفقت انقلاباً هائلا في نظرة الانسان الي وسيلة جمع المال، وبدلت المفاهيم الاقتصادية التي سيطرت على العقل الانساني آلاف السنين، فبينما كانت هذه المفاهيم، تقضي بان أحسن الوسائل الجمع المال هي السيطرة على طائفة من الناس واستخدامها، نرى هذه الطبقة الناشئة تؤكد ان السبيل الأفضل لذلك هو السيطرة على المادة وتسخيرها لحاجات الأنسان بواسطة قوى العلم

ص: 83

ويرى سيمون أن من الضروري للتقدم الانساني أن تتاح لهذه الطبقة جميع فرص النمو لتعم ثورتها المباركة على النظرة التقليدية لوسائل جمع المال (1)

ولا يصعب علينا أن نتبين روح هذه النظرية في عهد الامام، فقد رأيت أنه قد أوصى الحاكم بالتجار والصناع، وأمره أن يرعى شؤونهم ويتفقد أحوالهم ويفسح لهم في المجالات ليتسنى لهم أن يساهموا مساهمة خصبة في رفع مستوى الانتاج وإنماء الحياة الاقتصادية.

وتأمل في قوله: ... فانهم سلم لا تخاف بافته وصلح لا تخشى غائله، فانه يؤكد فيه وجوب العناية بهم و الرعاية لهم لأنهم لا يخشى منهم شر فطبيعة عملهم و الوجدان الذي يدفعهم الى هذا العمل فيها خير المجتمع و رفاهه، وأما قوله: وتفقد امور هم بحضرتك وفي حواشي بلادك بعد أن أمره و أمر عماله برعايتهم فانه يشبه أن يكون أمراً بانشاء دائرة خاصة تعنى بشؤون التجار.

قلت: اننا لا يصعب علينا أن نتبين روح هذه النظرية في عهد الامام ولكن في هذا العهد ملاحظة عميقة واعية غفل عنها سان سيمون و أولتها الابحاث الاجتماعية الحديثه عناية كبيرة.

و ذلك انه اذا كان من الحق أن نعترف بأن طبقة التجار والصناع طبقة محبة للمسلم طبقة يعود نشاطها على المجتمع بالخير، فان من الحق أن نعترف ايضاً انها تصير في بعض الأحيان ذات نشاط عدواني مضر بالمجتمع فعند ما تستحكم «العقلية التجارية» في التاجر والصانع الى

*******************

(1) دكتور محمد ثابت الفندي: الطبقات الاجتماعية ص: ٤٧ - 5١

ص: 84

حدانها تدفع بها الى التماس الثروة من أقرب الطرق - عند ما يحدث هذا تجنح هذه الطبقة الى التسلط والسيطرة على الانسان بصورة غير مباشرة، ولكنها بالغة الضرر، وذلك بالاحتكار والتوسل به الى السيطرة على الأسواق والتحكم بالاسعار وبالتطفيف في الموازين وبالغش وبيع الاصناف الرديئة وبكل طريق يضمن ريحاً وفيراً في مقابل رأسمال قليل.

عند ما يحدث هذا الانحراف في عمل هذه الطبقة تصير خطراً.

واذن فكما تجب معونتها تجب مراقبتها ايضاً لئلا تنحرف انحرافاً يضر بالشعب، ويحرم الفقير من بلغة عيشه، فحينما ترتفع الاسعار وتبقى الاجور كما هي تحدث أزمة عند من لا تفي اجورهم بالاسعار الجديدة.

هذه الظاهرة، ظاهرة انقلاب هذه الطبقة الى خطر، لاحظها الامام وتقدم الى عامله بان يلاحظها، وبين له العلاج. فعند ما يحدث الانحراف يتعين على الحاكم بان يقوم بتدبير زجري يرجع الأمور الى نصابها، وذلك إما بمنع المحتكر من الاحتكار واجباره على البيع بالسعر المعقول، وإما بتعميم المادة المحتكرة على تجار عديدين يبيعونها بالسعر العادي، فإذا ما احتكر تاجر بعد النهي عوقب ليرتدع. وامر عامله أن يجعل الاسعار على مستوى لا يعجز عنه أوساط الناس، ولا يخسر به التاجر. وأمره ان يضبط المكاييل والموازين لئلا يبخس البائع المبتاع.

قال عليه السلام:

واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، و احتكاراً للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فأمنع من الاحتكار فان رسول الله صلى الله عليه وآله منع

ص: 85

منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بمواز بن عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة من بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه من غير إسراف.

راجع: عهد الأشتر: ٤ / ٣6 - ٣٧.

- 10 -

العمال ومن لا يستطيعون عملا.

هذه الطبقة، طبقة الفقراء تتألف ممن لا يستطيعون عملا لعاهة فيهم لا يقدرون معها على العمل، أولا يستطيعونه لكبر السن وضعف البنية، أولا يستطيعونه لصغر السن كالايتام الذين لا كافل لهم، أو يستطيعون ويعملون، ولكن عملهم لا يمدهم بالكفاية، ولا ييسر لهم مستوى لائقاً من العيش.

هذه الطبقة تتألف من هذه الطوائف، وإذا لم تلاق عناية من المجتمع ينحرف قويها الى طريق الجريمة، ويموت ضعيفها جوعاً، و هي في الحالين سبة وخطر على المجتمع. و اذن فلابد من تدبير يحمي المجتمع منها، و يدفع البؤس عن افرادها، ويحول قويهم الى خلية إنسانية عاملة وينهض بهم الى مستوى الحياة الحرة الكريمة.

و قد سن الامام (عليه السلام) قانوناً تعامل به هذه الطبقة استجاب فيه الى احكام الاسلام.

و في كلام الامام عن هذه الطبقة نرى تشريعاً عمالياً ناضجاً الى أبعد الحدود، ومستوعباً تمام الاستيعاب، وهو على نضجه الكامل

ص: 86

واستيعابه النام، سابق للتشريعات العمالية الحديثة باكثر من الف ومائتي عام

ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهرت طلائع الثورة الصناعية في انكلترا، وهي أول بلد اوربي شهد الانقلاب الصناعي الحديث. وقد تمت للثورة الصناعية عناصرها المكونة حين اخترع البخار كقوة محركة، وعمم في صناعة المحركات. واستتبع ذلك اتساع نطاق الصناعة و تركزها في المدن، وحينئذ حدثت الهجرة من الريف الى المدينة فقد باع الفلاحون ارضهم من كبار الملاك، وانتقلوا الى المصانع الجديدة كعمال، وعند ذلك ظهرت طبقة العمال الى الوجود على نحو فعال، وانتقلت مراكز الكثافة في المجتمع من الفلاحين اليها، ومن ه_ذا الحين بدأت هذه الطبقة تستشعر الظلم أفدح وأقسى ما يكون، فلم يكن لمطامع أصحاب المصانع حد ولا غاية، وكان العامل يعمل اكثر ساعات قهاره باجر زهيد، فاذا ما استغنى عنه صاحب العمل، أوحلت به آفة، أو اعتراه وهن أو بلغ سناً لا يقوى فيها على العمل، طرد من عمله.

وبدا كأن هذا الوضع الشائن سيستمر الى الأبد - وبدا كأن الكيان الاقتصادي القائم على هذا الاستغلال سيبقى منيعاً وبدا كأن واقع العمال التمس امر لا مفر منه ولا معدى عنه. ولكن شيئاً من هذا لم يستمر فقد نبهت هذه المظالم الوعي العمالي ودفعتهم الى تحسين مستواهم الاقتصادي عن طريق الصراع. وقد عملوا كثيراً، وقد أخفقوا كثيراً، ولكنهم وفقوا أخيراً إلى تخفيض ساعات العمل ورفع الأجور والتعويض عند الصرف من العمل، والضمان الاجتماعي باعانة مالية تدفع للعامل المتعطل من صندوق الدولة.

ص: 87

ونقدم هنا ملاحظات:

الأولى: ان هذا لم يتم إلا بجهود العمال أنفسهم فلا المجالس التشريعية ولا أصحاب العمل انتبهوا إلى حالة العمال واهتموا بتحسينها، ولم يستجب اصحاب العمل لمطالب العمال، ولم تسن التشريعات الملائمة إلا بعد صراع دام عقوداً من السنين.

الثانية: ان هذه الاعانة التي تعطى للعامل المتعطل إنما تعطى له بشكل الإحسان وصدقة، لا باعتبارها حقاً له.

الثالثة: ان هذه التشريعات لا تشمل بعض الحالات، فمن يعمل ولا يكفيه عمله لا يدخل فيها، ومن يعمل ويحصل على اجر مناسب ولكن عرض له ما جعله مفتقراً الى المزيد من المال لا يدخل فيها وكذلك لا يدخل فيها الايتام، ومن لا كافل لهم ولا يستطيعون العمل لصغر السن أي لا تعتبر الدولة نفسها مسؤولة عنهم.

واذا رجعنا الى عهد الامام لنقارن بينه وبين النتائج التي خرجنا بها، فماذا يجد؟

تلاحظ أولا: ان التشريعات الكافلة للطبقة العاملة ومطلق من لا يستطيع العمل للمرض أو لكبر السن أو لصغره - هذه التشريعات صدرت من فوق، من طبقة الحاكمين، ومغزى أن تكون التشريعات الالحامية لطبقة العمال قد صدرت من فوق من دون أن يحدث من هذه الطبقة تحسس يلجى الى هذا، كبير القيمة، فهو يدل على ان الامام كان يفكر في هذه الطبقة ويعمل لخيرها.

وثانياً: ان ما تدفعه الدولة الى هؤلاء ليس إحساناً منها اليهم، وإنما

ص: 88

هو حق لهم عليها، يجب أن تؤديه. وعهد الامام صريح في هذا كما سترى. و مغزى هذه الملاحظة عظيم، فعند ما يأخذ المعوز ما يأخذه على انه إحسان، يشعر بالدونية، اما حين يأخذه على انه (حق) فانه لا يشعر بشيء من هذا.

وثالثا: ان التشريع الذي سنه الاسلام وذكره الامام يشمل كل حالة عجز، فمن لا يستطيعون عملا لمرض أو هرم أو صغر سن، أو يعملون ولكن أجرهم لا يكفيهم - هؤلاء جميعاً تكفلهم الدولة، وتعتبر نفسها مسؤولة عنهم.

وعهد الامام صريح في ان على الحاكم ان ينشيء لهذه الطبقة دائرة خاصة ترعى شؤونها، فهو يقول: ففرغ لأولئك ثقتك من اهل الخشية والتواضع، فليرفع اليك امورهم، وقد جرى عليه السلام على هذا فيما نقل ابن ابي الحديد اذ قال: وكان لأمير المؤمنين علي (علیه السلام) بيت سماه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم.

واذن، فبالرغم من سبق عهد الامام على التشريعات العمالية الحديثة باكثر من الف ومائتي عام نلاحظ انه أوعى الحاجات هذه الطبقة وأرعى الشؤونها، وأشمل لطوائفها من هذه التشريعات. نعم تمتاز هذه التشريعات بانها اكثر تفصيلا من عهد الامام، وبانها تشتمل على ملاحظات لم ترد في هذا العهد، ولكن ذلك لا يكسبها ميزة حقيقية، فالعبرة بروح التشريع

و بشموله، ولا شك، بعد ما عرفت، في أن عهد الامام اشمل.

قال عليه السلام:

ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين

ص: 89

والمحتاجين، واهل البؤسى والزمني، فان في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الاسلام في كل بلد، فان الذي للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقمه. ولا يشغلنك عنهم بطر، فانك لا تعذر بتضييعك التافه لاحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك، لهم وتعتمد امور من لا يصل اليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحتقره الرجال، ففرغ لأولئك تفتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله سبحانه يوم تلقاه فإن هؤلاء من الرعية أحوج الى الانصاف من غيرهم. وكل فاعذر الى الله في تأدية حقه اليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه. وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العافية، فصبروا أنفسهم ووثقوا، إصدق موعود الله لهم.

ونستطيع أن نتصور عظيم اهتمامه (ع) بهذه الطبقة حين تتأمل قوله «ثم الله الله ... وقوله: فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، يأمر واليه بان يتواضع لهم لئلا يشعروا بالذل من جهة و ليضرب لأغنياء رعيته مثلا من نفسه في معاملته لهذه الطبقة، وقوله: فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم. واما قوله: فان في هذه الطبقة قانعاً ومعترا وقوله: وتفقد امور من لا يصل اليك منهم و قوله: وتعهد اهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه فانها تنطوي على مضمون عظيم

ص: 90

القيمة، فهؤلاء الذين يمنعهم الحیاة شرف النفس من اظهار فقرهم ومن نصب انفسهم للمسألة يموتون جوعاً اذا لم يبحث عنهم الحاكم ويرعى امورهم ولذلك أمر الامام واليه بأن يتفقد هؤلاء وأمثالهم، ويوكل بهم من يتفقدهم.

ولا أظن ان حكومة من الحكومات الحديثة بلغ فيها التشريع العمالي، والتأمين الاجتماعي من النضوج والوعي للمسؤولية الاجتماعية الى حد أن تؤلف هيئة تبحث عن ذوي الحاجة والفاقة فترفع حاجتهم باموال الدولة، كما نرى ذلك في عهد الامام.

ولا أظن أن قلوب المشرعين وعقولهم اجتمعت على ان تخرج للدنيا تشريعا عماليا فأفلحت في ان تخرجه انبض من تشريع الامام بالشعور الانساني العميق.

راجع عهد الأشتر: 4 / 37 - 38.

- 11 -

كنا فيما تقدم نتحدث عن آراء الامام في المجتمع باعتبار تركيبه الداخلي، أعني الطبقات الاجتماعية. والآن نريد ان تتحدث عن رأي الامام في المجتمع كوحدة عامة، فلا ننظر اليه من داخل كما صنعنا في بحت الطبقات، وانما تنظر اليه من خارج باعتباره وحدة إنسانية عامة لا تلحظ فيها الفروق. وكنا نتحدث عن آراء الامام في إصلاح المجتمع عن طريق التأمين الاقتصادي و إصلاح جهاز الحكم، ونتحدث الآن عن آراءه في اصلاح المجتمع عن طريق العوامل النفسية ذات الأثر في الجماعة الانسانية

* * *

ص: 91

للاجتماع الانساني مظهران: مظهر حقيق، ومظهر مزيف.

أما المظهر الحقيقى الاجتماع الانساني فهو ذلك الذي يبدو الناس فيه وقد شاعت بينهم الألفة، وجمعتهم المحبة، وقاربت ما بينهم وح_دة الوسائل والغايات. وهو ذلك الذي يعى فيه الأفراد المسؤلية، ويشعرون ان القانون الذي يجب ان يسود هو قانون: حتي وواجبي. وهو ذلك الذي يعى فيه الأفراد ان الغاية من الاجتماع الانساني هي التعاون على إيجاد الفرص المناسبة التي تمكن كل فرد من اظهار قدرته، وتحقيق ذاته على نحو فعال مجد، وليس عملا يراد منه ايجاد الفرص المناسبة لطائفة: الناس على حساب آخرين.

وأما المظهر المزيف الاجتماع الانساني فهو ذلك الذي يبدو فيه الافراد (مجتمعين) فحسب، فلا توحد بينهم ألفة، ولا تلم شتاتهم محبة، ولا يلتقون على هدف صحيح. وهو ذلك الذي يسمي فيه كل فرد الى امتلاك كل ما يستطيع دون وعي لحاجات الآخرين ودون اهتمام لمصائرهم. وهو ذلك الذي يسود فيه قانون الكلمة الواحدة، قانون: حقي، فقط. ان هذا الطراز من الاجتماع أحق بان يسمى (تجمعا) ذئبيا من أن يسمى اجتماعا: إنسانيا.

هذان مظهران للاجتماعي الانساني ويحسن بنا أن نلتمس الاسباب التى تسوق الى هذا وذاك.

* * *

روح العدوان غريزة أصيلة في نفس الانسان. وإنما كانت أصيلة فيه لأنها ضرورية لحياته، فلولاها لما كان في الانسان ما يحفزه الى

ص: 92

الى حماية نفسه من كواسر السباع وفواتك الهوام، ولما كانت له القدرة على الصيد ولا على أي عمل يتطلب صراعاً مع كائن حي آخر في سبيل حفظ الحياة.

وأوقات الحاجة الى هذه الغريزة هي حين تتعرض الحياة الانسانية لخطر فاتك سواء كان من الانسان أو الحيوان. ولكن لا يمكن أن يودع في النفس الانسانية جهاز يولد هذه الغريزة في أوقات الخطر ويعدمها في اوقات الأمان. وحيث لا يكون هذا الجهاز فيجب ان يبقى وجود هذه الغريزة مستمراً في جميع الأوقات.

وهي في اوقات الخطر تعمل عملها الذي يسرت له وأودعت في الانسان لأجله. وأما في أوقات الامان فان وجودها يصبح مشكلة خطيرة قد تمتد بآثارها الى كافة الخليات الاجتماعية في المجتمع.

قني المجتمعات التي تدين بحضارة لا تجعل للانسان هدفاً سامياً الحياة، ولا تعامه إلا ان يبالغ في إرواء شهواته ونزعاته، تعبر هذه الغريزة عن نفسها في عدوان بعض الافراد على بعض، لأنها - كغريزة - لا بدلها من التعبير عن نفسها، وحيث لا تقدم لها الحضارة موضوعاً للتعبير يصرفها ويحولها عن الافراد لابد أن تعبر عن نفسها في هؤلاء الافراد، وحينئذ ينقلب المجتمع الانساني الى مجتمع ذئبي تناحري، ذي غرائز عدوانية ضارية تعبر عن نفسها باستمرار.

هذه هي الاسباب التي تذهب بروح الاجتماع الانساني وتسبغ عليه مظهراً اجتماعياً مزيفاً.

وجاء الاسلام والمجتمع الانساني كله في واقع تعس نشأ من أن

ص: 93

الحضارات التي كان يدين بها كانت حضارات لا تتجاوز بالانسان مدى الحس. وكان المجتمع العربي يماني الأزمة في أحد مظاهرها، فقد كان يقوم الى جانب ما يمانيه من جدب روحي، على اساس قبلي. وكان هذان العاملان: الجدب الروحي والروح القبلية يثيران غريزة العدوان أعتى وأخرى ما تكون.

وقد عاج الاسلام هذه المشكلة، أولا، بان حارب عناصر الفساد والانحلال في الارث الثقافي المهلهل الذي دعت اليه تلك الحضارات، وجاء بلون ثقافي جديد حري بان يعيد تكوين الانسان الروحي من جديد، وجعل للحياة الانسانية هدفاً أعلى من إرواء الحس باللذة، جعل لها الفضيلة هدفاً، وأمر الانسان بالمسير اليه. وثانيا، بان وجه غريزة المقاتلة الى موضوعين احدهما أعداء الاسلام الذين يكيدون له، ويبغون عليه، ويريدون اطفاء نور الله فيه. والثاني هو الشيطان، هذا الكائن الذي هو أعدى أعداء الانسان يزين له الظلال، ويحبب اليه الانحراف ويدفعه عن طريق الاغواء والاغراء الى تشويه شخصية الانسانية وتلويثها وقد أكد الاسلام عداوة الشيطان للانسان تأكيداً مطلقا، وأكد الوجوب الاحتراز منه والحذر من مكائده والتحصن من شباكه تأكيداً مطلقا، وبذلك وجه غريزة القتال والعدوان الى موضوع يستفيد منه المجتمع أعظم العائدة، فالانسان، منذ اليوم، يكافح الشيطان من أجل أن يسو ... من اجل ان يحقق الانسان.

وقد أحرز النبي صلى الله عليه وآله نصراً باهراً حين استطاع، عن طريق الإسلام، أن يجمع العرب على رمز يوحد بينهم في الوسائل

ص: 94

والغايات، وان يكوّن من الشراذم العربية امة عربية. ولكن الظرف الزماني لم يسعفه على استئصال الروح القبلية من نفس العربي فما أن قبضه الله اليه حتى حدث ما بعث هذه الروح من جديد ... حتى ولي الخلافة عثمان فعبرت عن نفسها بسبب سياسته تعبيرات شديدة، فلما ولي الامام الحكم جوبه بهذا الواقع، واقع المجتمع العربي المسلم الذي ساقته الروح

القبلية الى مصير وبيل، فنصب نفسه لمحاربة هذه الروح.

* * *

وقد كانت طريقته فى العلاج فذة رائعة، سنقف في فصل آت على جانب منها يتناول التثقيف الفردي وتعليم أصحابه روح الأسلام، اما هنا فنتحدث عن كفاحه للروح القبلية باعتبارها نزعة هدامة.

ولا بد انه عليه السلام تكلم كثيراً في هذا الموضع، لأن واقعه كان يدعوه الى ذلك، ولئن لم يصل الينا كل ما قال أو اكثره فان ما في نهج البلاغة يغني في مقام التعرف على آراءه في هذه المسئلة، وثمة خطبة من طوال خطبه خصصها لمحاربة هذه النزعة في مجتمعه، وقد ذكر الشريف مختاراً منها، ونحن ذاكرون طرفاً مما اختار نستشهد به على ان الامام كان يعي العمليات الاجتماعية، وكان يعي ما وراء هذه العمليات من دوافع نفسية تحمل عليها وتدفع اليها.

* * *

تكرر ذكر الشيطان في نهج البلاغة كثيراً: قصة آدم (علیه السلام) وإغراء الشيطان له. الشيطان أخطر عدو للانسان، يزين له المعصية، ويسوفه التوبة، ويدفعه الى مقارفة الاثم، حتى اذا حق الحق تبرأ منه وتركه

ص: 95

بين يدي عذاب غليظ. من جملة مهام الانبیاء الكبرى ان يحذروا الناس من إغواء الشيطان. وقد كان يهدف من ذلك الى تأكيد عداوة الشيطان في النفوس لتنصرف اليه غريزة العدوان.

وأعظم خطبة تظمنت ذلك، وتجلى فيها غرض الامام الاجتماعي هي خطبته القاصمة. ففيها صرح الامام بان الاجتماع الانساني الحق لا يمكن أن يجتمع مع النزعة القبلية. وفيها يصرح بان النزعة القبلية إن هي إلا إرث شيطاني يزينه الشيطان لأولياءه. وفيها يبين ان الشيطان أحق بالمحاربة من هؤلاء الضعفاء الذين يقع عليهم الظلم ويلحقهم الحيف بسبب النزعة القبليه. وفيها يضرب الامثال التي تشهد لدعاواه والتي تدل على ان النزعة القبلية، بمالها من آثار سيئة، هي التي محقت المجتمعات القديمة.

قال عليه السلام:

الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلها حمى وحرماً على غيره، واصطفاها لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيها من عباده. ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه، وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب،: إني خالق بشراً من طين، فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجعون إلا إبليس ... اعترضته الحمية، فأفتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله قعد والله امام المتعصبين. وسلف المستكبر بن، الذي وضع اساس العصبية ...

وبعد أن بين ان الله ابتلى خلقه بهذا لينفي عنهم التكبر والخيلاء، وبعد أن أمرهم أن يعتبروا بما صار اليه إبليس حين تكبر، قال:

ص: 96

فاحذروا عباد الله ان يعديكم بدائه، وان يستفزكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب، وقال «رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين»، قذفاً بغيب بعيد، ورجماً بظن مصيب، صدقه ابناء الحمية وإخوان العصبية، وفرسان الكبر والجاهلية، حتى إذا انقادت له الجامعة منكم، واستحكمت الطماعية منه فيكم، فنجمت الحال من السر الخفي الى الأمر الجلي، استفحل سلطانه عليكم، ودلف بجنوده نحوكم فأقحموكم ولجات الذل وأحلوكم ورطات القتل، وأوطأوكم اتخان الجراحة ... فأصبح أعظم في دينكم جرحا، واورى في دنياكم قدما من الذين اصبحتم لهم مناصبين، وعليهم متألبين فاجعلوا عليه حدكم وله جدكم، فلعمر الله لقد فخر على اصلكم، ووقع في حسبكم، ودفع في نسبكم، وأجلب بخيله عليكم ... فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، واحقاد الجاهلية، فأنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزغاته ونفثاته، واعتمدوا وضع التذال على رؤسكم، والقاء التعزز تحت اقدامكم، وخلع التكبر من اعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم ابليس وجنوده ولا تكونوا كالمتكبر على ابن امه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما الحقت العصبية بنفسه من عداوة الحسد.

ثم يضرب لهم الشواهد، ويبصرهم عبر التاريخ. فهذا الواقع الاجتماعي المزري جر أنما قبلهم الى الانهيار، وجدير بهم ان يعتبروا بمن قبلهم ممن غفلوا عن عدوهم الكامن في اعماقهم، وصرفوا باغرائه

ص: 97

وايحاءه عدوانهم الى إخوانهم في الدين والانسانية:

فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائمه ومثلاتة، وانعضوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذوه من طوارق الدهر ... واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الافعال وذميم الاعمال فتذكروا في الخير و الشر احوالهم واحذروا ان تكونوا امثالهم، فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل امر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الاعداء له عنهم، ومدت العافية فيه عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للالفة، والتحاض عليها والتواصي بها. واجتنبوا كل امر كسر فقرتهم، وأوهن منتهم من تضاغن القلوب و تشاحن الصدور، وتدار النفوس، وتخاذل الايدي. ثم يضرب لهم الامثال يحال بني إسرائيل كيف جمعتهم الدعوة الواحدة ولم شعثهم الهوى الجميع، فعظم امرهم ثم اختلفوا فذهب ريحهم ووهنوا وذلوا. وضرب لهم الامثال بحال العرب قبل الاسلام كيف كانوا ثم كيف اتحدوا بالاسلام فاصبحوا يطاعون في بلاد كانوا فيها أذلة ضعفاء ثم ذكر ان أعظم ما امتن الله به عليهم هو انه جمعهم والف بين قلوبهم وجعلهم اخوانا، قال:

فان الله سبحانه قد امتن على جماعة هذه الامة فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة لانها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر

* * *

ص: 98

ورؤساء القبائل هم أصحاب المصلحة في استشراء العصبية القبلية والتفكك الاجتماعي، فلو وعى الناس الحياة الاجتماعية الصحيحة وراعوا المصلحة العامة وحدها لما يتميت لهؤلاء الرؤساء قيمة، لأن وجودهم منوط بهذه العصبية، وقد عرف الامام عليه السلام ذلك، فوجه اليهم صفعة مدوية حين صرخ بالناس:

ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذي تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله ما صنع بهم مكابرة لقضائه ومغالبة لآلائه، فانهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية، فاتقوا الله.. ولا تطيعوا الادعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم وخلطتم بصحتكم مرضهم، وادخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفوق واحلاس العقوق اتحذهم ابليس مطايا ظلال وجندا بهم بصيول على الناس وتراجمة ينطق على السنتهم، استراقاً لمقولكم، ودخولا في عيونكم، ونفثا في اسماعكم فجعلكم مرمى نبله، وموطىء قدمه، ومأخذ يده»

وعلى هذا النسق العالي من البيان الشامخ یمضي الامام صلوات الله عليه في بيان أمراض المجتمع. ويكشف عن أسبابها النفسية، ويبرهن بذلك على وعي خارق للعمليات الاجتماعية وأسباب انحرافها وطرق اصلاحها وننصح بالرجوع الى الخطبة القاصعة و قرائتها بامعان، فقد لا يعطي ما قدمناه فكرة صحيحة عنها.

راجع في التحذير من الشيطان:

١/ ٢٨ - ٣٠ و ٣٠ - 31 و 37 - 38 و 5٣ - 5٤ و 55 و ٧٣

ص: 99

- ٧٤ و ١٢٤ و ١٣6 و ١٤٠ و 172 و 181 و ١٩٤.

2/ ٧٣ و ٧٤ و ٧٨ و ٨5 - ٨6 و ٩١ - 92 و 99 - 100 و 102 و 111 و 189 - 190 و 201 0

3/ ٢٣ - ٤٨ (الخطبة القاصمة) و 5٧ و ١٤٣ و 15٠ و 208

٤ / ٤5 - ٤6 و 5٠ و ٧٧ و 79 - 80 و 168.

ص: 100

الحاكم

صفاته. مفوق. واجباته. طبيعة الحكم

ص: 101

ص: 102

هل الامامة أمر محتم فلا يجوز أن يمضي على المسلمين. وقت دون امام يسير بهم على كتاب الله وسنة الرسول؟ أم أنها أمر جائز وليس فرضاً، فإذا شاء المسلمون أقاموا إماماً، وإذا لم يريدوا فليس في الشريعة ما يلزمهم بذلك، بل الأمر في ذلك منوط بهم وموكول اليهم؟

اختلفت الفرق الاسلامية بين هذين المبدأين، فذهبت الكثرة العظمى من المسلمين إلى أن الامامة أمر محتم، فهو مذهب أهل السنة جميعاً، ومذهب الشيعة جميعاً، ومذهب الكثرة الغالبة من المعتزلة والكثرة الغالبة من الخوارج. أما الجواز فقد ذهب اليه «الهشامبة» من المعتزلة اصحاب هشام بن عمرو الفوطي، فهم يقولون: «يجوز عقدها في أيام الاتفاق والسلامة أما في أيام الفتنة فلا» وهو كذلك مذهب «المحكمة الأولى من الخوارج» فانهم أجازوا ألا يكون في العالم امام أصلا ... وكذلك «النجدات» ... و «المجاردة» من الخوارج أيضاً (1)

واذن فالمسلمون جميعاً مجمعون على وجوب نصب الحاكم، ومن رأيت خلافه فهو شاذ لا يعتنى به، وتشهد للوجوب النصوص الكثيرة الصريحة فيه.

وبعد، فلو لم تكمن ثمة نصوص نقضي بوجوبه لكفى العقل في الالزام به، فالحكم من ضرورات الاجتماع، لأن النشاط الانساني، وقد تشابك بفعل الحياة الاجتماعية لابد له من هيئة تشرف عليه وتنظمه وتشق له القنوات، وتوجهه الوجهة الصحيحة المستقيمة، وبدون هذه الهيئة يتسبب هذا النشاط فيطفى لون منه على لون و يتجه اتجاهات

*******************

(1) راجع كتابنا: نظام الحكم والادارة في الاسلام ص 70 - 71

ص: 103

غير محمودة تؤول به فى النهاية الى الضمور ومن ثم تنتهي بالمجتمع الى الانحلال

والحكومة في الأصل مؤسسة اجتماعية لأن طبيعة الاجتماع تقتضيها كما رأينا، ولكنها في الاسلام، تتخذ بالاضافة الى صفتها الاجتماعية، طابعاً دينا أيضاً وذلك لأن المجتمع الاسلامي مجتمع ديني في الدرجة الأولى أي ان الذي يستلهم في التنظيم الاجتماعي: الاقتصادي والسياسي والعسكري هو الدين وحده.

وها هو الامام عليه السلام يقرر هذه الحقيقة، راداً على الخوارج يوم نادوا «لا حكم إلا لله»، قائلا: كلمة حق يراد بها باطل، نعم انه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله وانه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في امرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل.

فقوله «انه لا بد للناس من امام ...» تقرير لهذه الضرورة، التي يفرضها واقع الاجتماع الانساني، ولا معدى عنها بحال من الاحوال. ولئن كانت امرة الامام الفاجر - حين لا يوجد العادل - شر، فهي على ما فيها من شر خير من الفوضى التي تمزق أواصر الاجتماع.

وغير خفي ان الامام لم يقصد في كلمته الآنفة الى بيان الحكم الاسلامي وانما قصد فيها الى بيان ضرورة الحكم في قبال دعوى الخوارج الفوضويين.

- 1 -

وإذا كانت الامامة أمراً لازماً فهل يصح ان يتولاها كل من قدر على بلوغها دون نظر الى صفاته الشخصية و كفاءاته أم أن من يصح له

ص: 104

ان يلي منتب الامامة يجب ان تتوفر فيه شروط خاصة بمتاز بها عن غيره من الناس؟

المسلمون على اتفاق فيما بينهم على ان منصب الامامة لا يليه إلا من توفرت فيه شروط مميزة واختلفوا في أمور أخرى فذهب بعض الى اشتراطها وذهب آخرون الى عدمه.

ونحن نعرض لذكر هذه الشروط مع الاشارة الى ما اختلف فيه على نحو مجمل:

اشترطوا في الامام ان يكون مسلماً، ذكراً، بالغاً، حرا، عاقلا. وخالف في اشتراط الحرية المحكمة الأولى من الخوارج. ويظهر من ابن حزم في الفصل ان شرط الحرية ملغى عند الخوارج وجمهور من المعتزلة وبعض المرجئة.

واشترط أيضاً العلم بالشريعة الاسلامية. واهل السنة على خلاف في هذا الشرط، فبعضهم اشترط الاجتهاد، وبعضهم لم يشترط الاجتهاد واكتفى بعلم المقلد وبعضهم، وهم الحنفية، لم يشترط العلم على الاطلاق كما تدل عليه عبارة الشيخ قاسم بن فلطو بغا في حاشيته على شرح المسامرة واشترطوا الكفاءة الجسمية والنفسية.

واشترطوا العدالة. والمسلمون على خلاف فى هذا الشرط. ويظهر من عبارة ابن حزم ان الذين اشترطوه هم الخوارج والزيدية والروافض - الشيعة - وجمهور المعتزلة و بعض أهل السنة. والحق ان العدالة ليست شرطا عند اهل السنة فمنهم من لا يشترطها على الاطلاق، ومن يشترطها يجعلها شرط ابتداء لا شرط استدامة أي يجب ان يكون عادلا عندما يلي الحكم فقط ولا يشترط ان يبقى عادلا فهم مون على ان الامام

ص: 105

لا يعزل بالفسق.

واشترطوا لنسب. وهو ان يكون الأمام من قريش، والذين اشترطوه هم اهل السنة جميعاً والشيعة جميعاً و جمهور المرجئة، وبعض المعتزلة. (1)

والحق ان أهل السنة يتساعلون جداً في مسألة شروط الامام. فمن أهم الشروط العلم و العدالة وعم لا يشترطونها، بل يحرمون الخروج على الحاكم الجائر. ففي حاشية لباجوري على شرح الغزي «يحرم الخروج على الامام الجائر إجماعاً، و تجب طاعة الامام و لو جاراً»

أما الشيعة فهم يحتاطون لهذا الامر أعظم الاحتياط مبالغة في التحرز من ان يلي امر الامامة من لا يصلح له.

وأهم ما يشترطونه في الامام شرطان هما العصمة والنص. أما العصمة فهي الامتناع عن المعصية كبيرها وصغيرها مع عدم الخطأ في تبليغ الاحكام جليلها و دقيقها. و اما النص فهو عبارة عن تعيين الامام من قبل سابقه المعصوم نبياً كان أو إماماً، ولهم على دعواهم ه_ذه ادلة ليس هنا محل إيرادها. أما الانتخاب أو العهد من امام غير معصوم أو الاستيلاء على منصب الامامة بالقهر والغلبة من دون انتخاب أو عهد، وغير ذلك من، من الطرق التي يعتمدها أهل السنة لتعيين الامام فهي طرق لا يرى الشيعة أنها تصلح لهذه المهمة لأنها تجعل اهم منصب في الدولة عرضة للاهواء والشهوات (٢)

*******************

(1) نظام الحكم و الادارة في الاسلام، ص: 90 - 102

(2) المصدر السابق، ص 75 - 88

ص: 106

هذه لمحة عن الشروط التي يجب أن تتوفر في الامام، فاذا رجعنا الى نهج البلاغة لم نجد فيه تفصيلا دقيقاً لهذه الشروط، فليس فيها بين أيدينا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام قسم مستقل تعرض فيه لبيانها وانما ذكر منها، في عرض كلامه، طائعة وأهمل طائفة.

فاشترط في الامام أن يكون كريم النفس لئلا تدفعه الطماعية وشدة الحرص الى العدوان على أموال المسلمين. واشترط فيه أن يكون عالماً لأنه قائد المسلمين الأعلى فيجب ان يهديهم ولو كان جاهلا لأظلهم. واشترط فية أن يكون لين العريكة رحب الصدر واشترط فيه ان يكون عادلا في اعطاء الاموال فيسوي بين الناس في العطاء ولا يفضل قوماً على حساب آخرين استجابة لشهوات نفسه وميول قلبه. واشترط فيه ان يكون نزيهاً في القضاء فلا يرتشي لأن ذلك مؤذن بذهاب العدل في الاحكام. واشترط فيه ان يكون عاملا بالسنة فيجري الحدود ولو على أقرب الناس اليه، ويعطي الحق من نفسه كما يطلبه من غيره.

قال عليه السلام:

... وقد علمتم أنه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيظلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع، ولا المعطل السنة فيهلك الامة.

و قال:

لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا

ص: 107

يتبع المطامع

وقال متحدثاً عن الامام:

من نصب نفسه الناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تاديبه بسيرته قبل تاديبه بلسانه، و معلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم).

وهذه الكلمات تقوم على فلسفة للحكم عند الامام عليه السلام تتلخص فى أن الحكم، و هو ضرورة اجتماعية، أقيم لصالح المجتمع، ولا يمكن أن يعمل الحكم لصالح المجتمع إلا إذا كان على رأسه إنسان كامل الصفات، واع المهمته، أما حين يكون الحاكم إنسانا غير واع للمسؤولية وغير عامل على إصلاح المجتمع ورفع شأنه فان الحكم ينقلب الى وسيلة للظلم. وستتضح لنا الخطوط الكبرى لهذه الفلسفة فيما يأتي.

راجع: ١ / ١٣ - ٢ / ١٨ - ٤ / ٩٨ و ١١٩

- 2 -

حقوق الرعية على الحاكم تستمد معناها من طبيعة الحكم الذي يمارسه الحاكم. فهناك حكم يقوم لأجل عائلة من العائلات الكبيرة و حينئذ يعمل الحاكم لأجل هذه العائلة، ويسخر جميع مرافق الدولة لها ولمن يقوم عليه سلطانها وهناك حكم يقوم لصالح طبقة من الطبقات وحينئذ يعمل الحاكم لأجل هذه الطبقة، ولا ينيل الرعية شيئاً إلا اذا كان فيه ما يعود بالخير على هاتيك الطبقة التي يقوم من أجلها الحكم. ومرة يقوم الحكم من اجل الرعية وحدها وحينئذ يعمل الحاكم للرعية وحدها. وفي هذا اللون من الحكم توجد المرعية على الحاكم حقوق يصح ان نتحدث عنها

ص: 108

فأي لون من الوان الحكم بشر به نهج البلاغة ووضع قواعده الامام؟

إذا رجعنا الى نهج البلاغة وجدنا ان الحكم الذي كان يمارسه الامام عليه السلام و الذي كان يحمل عماله على ان يمارسوه هو هذا الحكم الذي يقوم من اجل الرعية وحدها. وقد تقدم منا في حديثنا عن المجتمع والطبقات الاجتماعية في نهج البلاغة أن عرضنا الى طرف من ذلك، فرأينا كيف ان الامام في عهده العظيم الى مالك الاشتر قد وضع الاسس المتينة لانشاء جهاز حكم يعمل للشعب وللشعب فقط، غير ملق.

بالاً الى منافع طبقة خاصة تسعد على حساب الشعب وتنعم مجهوده وسنعرض في حديثنا هذا طرفاً من الشواهد التي تدل على ان الحكم الذي مارسه الامام (علیه السلام) ودعا الى ممارسته هو الحكم من أجل الشعب وما تقدم في بحث الطبقات الاجتماعية وما سيمر هنا يؤلف هيكلا يكاد ان يكون كاملا لفلسفة الحكم عند الامام عليه السلام.

* * *

من ضرورات الحكم الصالح المشاركة الوجدانية بين الراعي والرعية إذ بها يستطيع الحاكم أن يتعرف على آمال المحكومين وآلامهم ومطامحهم وأن يمي حاجاتهم ومخاوفهم، فيعمل الخيرهم و يضع كل شيء مما يصلحهم موضعه. ويشعرهم ذلك برعايته لهم وحياطته لأمورهم وعمله لصالحهم فيدعمون حكمه بحبهم وإيثارهم له ويؤازرونه في السراء والضراء على السواء. ولا يحصل شيء من هذا اذا ما أغلق الحاكم دونهم قلبه وأغمض عنهم عينه إنه حينذاك لا يعرف شيئاً من امورهم ليعمل على الاصلاح وتكون عاقبة ذلك أن يفقد حبه في قلوبهم ويشعرون بانه شيء غريب

ص: 109

عنهم مفروض عليهم كالحشرة الطفیلیة التي تعيش على دماء الحيوان الذي تلتصق به.

قال عليه السلام:

... وأشعر قلبك الرحمة المرعية والحبة لهم والالطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تفتنم أكلهم، فانهم صنفان: اما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل و تعرض لهم الملل ويؤتى على أيديهم فى العمد و الخطأ، فأعطهم من عنوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه.

ولكي تحصل هذه المشاركة الوجدانية ولكي تؤتي أكلها يجب على الوالي أن يخالط الرعية وأن يمكنهم من مخالطته ومطالعته بما يريدون، لأن احتجابه عنهم سبب لجهله باحوالهم، وسبب لانصراف قلوبهم عنه وتفاقم موجدتهم عليه.

قال عليه السلام:

... فلا تطوان احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب. ولكي يبقى ما بين الوالي ورعيته من وشائج الود، ويبقى ما للوالي في قلوب الرعية من جميل الأثر وحسن الظن، يجب عليه ان يبدد من

ص: 110

اذهانهم كل ما يتوهمون فيه الظلم و الحيف فيبين لهم خطته ويشرح لهم نهجه ليؤيدوا سياسته عن قناعة بها وإيمان بصلاحها وجدواها. ويجب عليه ألا يمن على رعيته بما يفعل، فان منصبه يفرض عليه أن يخدمهم، و او من عليهم لذهب جميل اثره من قلوبهم. وعليه ان يتجنب الكذب فيما يعطي من عهد و التزيد فيما يصف من عمل، فإن الكذب داعية المقت والتزيد اخو الكذب.

قال عليه السلام:

وان ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم باصحارك، فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك واعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

وإياك والمن على رعيتك باحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أوان تعدهم فتتبع موعدك يخلفك، فان المن يبطل الاحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.

و السبيل الأقوم الذي يؤدي الى تأكيد حب الحكم في نفوس الرعية و يحملها على عضدها و الدفاع عنها هو ما أشار اليه عليه السلام بقوله:

واعلم أنه ليس شيء بأدعى الى حسن ظن راع برعيته من إحسانه البهم، وتخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن ويقطع نصباً طويلا، وأن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وان أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده.

ص: 111

ولم كل هذا؟ لأن الحكم إنما أقيم الصالح الشعب، ولذلك فيجب أن يرعى مصالح الشعب، ويجب ان يستلهم في اعماله حاجات هذا الشعب. أما هذه الطبقه، طبقة الخاصة والنبلاء، التي تحسب أن كل شيء مسخر لها وما عليها إلا أن تدعو فتجاب و تأمر فتطاع، هذه الطبقة ليس لها في حكومة الامام امتيازات، فهي و سائر الناس سواء وعلى الحاكم، حين تتعدى حدودها و تطلب ما ليس لها، أن يردها إلى قصد السبيل.

قال عليه السلام:

أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك، فانك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ... وليكن أحب الامور اليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فان سخط العامة يجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء، واكره للانصاف، وأسأل بالالحاف، وأقل شكراً عند الاعطاء وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند مامات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للاعداء العامة من الأمة، فليكن

صفوك لهم، وميلك معهم.

وهكذا حكم الامام عليه السلام بأن الحكم إنما اقيم من أجل الشعب فيجب ان يبقى خالصاً للشعب وللشعبه وحده.

ص: 112

وإذا كان الحكم قد اقيم من أجل الشعب فهذه الأموال التي تجي منه لم تجب لتنفق على إرواء شهوات طائفة من الناس يومها دهرها وبغيتها لذتها، وهي تتمتع بحياة فارغة لاهية، إنما جي هذا المال من ليرد عليه في صورة خدمات عامة، ومؤسسات عامة، هذا هو مصرف أموال الدولة. وأمير المؤمنين عليه السلام صريح في هذا فقد تكرر منه أمره الى عماله بصيانة مال الامة، وصرفه في موارده وعدم التفريط به.

قال عليه السلام:

... فانظر الى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه الى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة و الخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا

راجع:

٣ / ١٣٧ - ١٣٨ و ١5٢ و ١5٧ - ١٨5 و ١5٩ - ١6٠ و ٢٠٣ - ٢٠6 و 207 و 4/ 6 و ١5 و 19 - 20 و 21 - ٢2 و ٢٤ - ٢5 و ٤٠ - ٤١ و ٤٢ و 6٨ - 6٩.

- 3 -

وإذا كان الامام عليه السلام قد وضع أسس هذا اللون من الحكم و مارسه، ودعا الى ممارسته، فللحديث عن حقوق الرعية محل في هذا البحث كما أسلفنا. ولم يغفل الامام الحديث عن هذه الحقوق بل عرض لها بالذكر في مواطن كثيرة، فما هي حقوق الرعية على الوالي؟

لقد تحدث مرة عن هذا الحقوق فقال:

ص: 113

و يجمع به الفيء. ويقاتل به العدو و تأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر.

وقال:

... فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا.

و قال:

... انه ليس على الامام إلا ما حمل من أمر ربه الا بلاغ في الموعظة: والاجتهاد في النصيحة، والاحياء للسنة، واقامة الحدود على مستحقيها: واصدار السهمان على أهلها.

في هذه النصوص أجمل الامام حقوق الرعية على الراعي في توفير الأمن فى الداخل و الخارج، وتأمين الحياة الاقتصادية، والتعليم والتوجيه الاجتماعي، واقامة العدل.

ولا يضرنا إجمال هذه النصوص بعد ان عرفنا أن أطول وثيقة كتبها عليه السلام وأجمعها لحقوق الرعية هي عهده الى الاشتر، ففي صدر هذا العهد أجمل هذه الحقوق إجمالا ثم فصلها بعد ذلك تفصيلا. أجملها فقال: هذا ما أمر به عبد الله على أمير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه حين ولاه مصر: جبایة خراجها، وجهاد عددها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها.

ثم فصلها بعد ذلك، فأفاض أولا في بيان وظيفة العسكریين وواجباتهم والسبيل الذي يحسن بالحاكم أن يتبعه للاستفادة منهم، ثم فصل الكلام في جهاز الحكم: الولاة والوزراء والقضاة، فوضع أسس الحكم العادل

ص: 114

التقدمي الواعي. وتكلم بعد ذلک عن الزراع والتجار والصناع والفقراء، قبين حقوقهم على الحاكم من توفير المجالات لهم، واعداد أحسن الفرص لنجاحهم في اعمالهم. ثم تحدث عن حالة البلاد العمرانية فافاض في الحديث وبين خطورة هذه الناحية في أمن الرعية ورفاهها واطراد تقدمها.

في هذا العهد نظر الامام عليه السلام الى المجتمع كله بما فيه من طوائف وطبقات، وبين فيه حقوق هذا المجتمع كلها، ولا نرى ما يدعونا إلى تفصيل الكلام في ذلك هنا بعد ان تبين من خلال حديثنا عن الطبقات الاجتماعية، لأنه حينما تحدث عن الطبقات لم يتناولها على نحو تجريدي، وإنما تناولها بالحديث باعتبار مالها من حقوق، وقد قدمنا ملاحظة بين يدي ذلك الحديث قلنا فيها:

... لم يفرغ آراءه الاجتماعية كلها في قالب علمي مجرد، وإنما قدم بعضها مفرغاً في التجربة العملية التي قام بها، ولا يسلبها قيمتها، كحقيقة موضوعية، أنها مفرغة في قالب تجريبي اجتماعي يسبغ عليها بدل جمود الحقيقة العلمية المجردة، حيوية و حركية تنشآن من حيوية الجماعات وحركتها

راجع: ١ / ١٣ و ١٠5 و ٢ / ٢6 و ٤ / عهد الأشتر ١٨ - ٤٨ - ٤٠

- 4 -

تحدت الامام عليه السلام عن طبيعة الحق فلاحظ أنه لا يمكن أن يكون لأحد حق على غيره إلا ويكون عليه لغيره واجب، وهناك تقابل دائم بين الحق والواجب فحينما يكون الحق يتبعه الواجب. ولكن الناس - غالباً - يريدون استيفاء حقوقهم دون أن يؤدوا ما عليهم من واجبات

ص: 115

غير عاملين انه حينما يتمرد الانسان علی واجبه فلا يأتي به يسقط حقه الذي يدعيه.

قال عليه السلام:

... فالحق أوسع الاشياء في التواصف و أضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده، و لعدله فى كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه جعل حقه على العباد ان يطيعوه، وجعل جزائهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه وتوسما بما هو المزيد من أهله.

وقال:

... ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافاً في وجوهها ويوجب افتراضها بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.

وننبه هنا الى ان هذه الحقوق، حقوق الامام، ليست امتيازات على سائر الناس يحصل عليها الامام بسبب الحكم، وذلك لأن الحكم، عند الامام، لا يسبب للحاكم أي امتياز شخصي أبدا. وها هو يخاطب الأشتر، عامله على مصر، بقوله:

وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فانه ماخوذ مثك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك المظلوم.

وقال عليه السلام مخاطباً أصحابه في صفين

ص: 116

... وأن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر، ويوضع امرهم على الكبر، وقد كرهت ان يكون جال في ظنكم اني احب الاطراء واستماع الثناء، ولست - بحمد الله - كذلك ولو كنت احب ان يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو احق به من العظمة والكبرياء وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا نثنوا علي بجميل بلاء لاخراجي نفسي الى الله واليكم من التقية في حقوق لم افرغ بعد من ادائها، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا في بما يتحفظ به عند اهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة.

و إذا لم تكن حقوق الحاكم من هذا الباب فما هي طبيعتها إذن؟

حقوق الحاكم كما يجعلها الامام في نهج البلاغة هي امور يعطاها لأنها ضرورية لاستمرار الحكم وصلاحه فهذه الحقوق هي:

... واما حقي عليكم: فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم

وهي:

... ولي عليكم حق الطاعة وألا تتكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات الى الحق.

و هي:

... فلا تكفوا عن مقالة تحق أو مشورة بعدل.

وتكاد نرجع كل هذه الحقوق الى الوفاء بالبيعة، فان الامام يبايع على السمع والطاعة. وإذا لم يسمع المحكومون حين يدعوهم ولم يطيعوا حين

ص: 117

يأمرهم، ولم ينصحوا له ولم يثبتوا على ولائه لم يستطع الامام أن يسير أداة الحكم على نحو صالح.

راجع: ١ / ١٠5 و ٣ / ٩٣ و ٩٤ و 96 - ٩٧ و ١5/٤ و ٤٧

- 5 -

ولا يمكن أن يصلح شيء من أمور الدولة إلا اذا وجد جو صالح للعمل، ويوجد هذا الجو بتحقق الرغبة المشتركة بين الحاكم والمحكومين في اصلاح ما يفتقر الى الاصلاح وتقويم ما يحتاج الى التقويم من شؤون الناس وشؤون البلاد. والذي يعبر عن هذه الرغبة المشتركة هو تعاون الوالي مع الرعية على القيام بذلك كله، ويتحقق التعاون بينهما بان يقوم كل منهما بما عليه من واجبات بعد ان يتلقى كل منهما ما له من حقوق. فعلى الرعية ان تعطي الوالي ما له عليها من حقوق فتطيعه اذا أمر، وتجيبه إذا دعا، وتنصحه اذا كان في حاجة الى ذلك، وعلى الوالي اذا حصل على ذلك كله أن يستغله في إصلاح شؤون رعيته. أما حين لا تبذل الرعية للوالي طاعتها ولا تمحضه نصيحتها، ولا تلبي دعوته اذا دعا، وأما حين تفعل ذلك كله ولكن الوالي يستغله في رعاية مصالح نفسه ويهمل مصالح رعيته فان ذلك مؤذن بشيوع الظلم، وسيطرة الظلمة، و فساد الدولة. قال عليه السلام:

... وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فاذا أدت الرعية الى الوالي

ص: 118

حقه وادى الوالي اليه كمر الحق بينهم، وقامت مناهج الدين و اعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح - بذلك - الزمان، و طمع في بقاء الدولة، و یئست مطامع الاعداء. و إذا غلبت الرعية واليها أو اجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثرت الادغال فى الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى وعطلت الاحكام، وكثرت على النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل و لعظيم باطل فعل، فهناك تذل الأبرار و تعر الاشرار وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون فيه.

وقال في التعاون بين الراعي و الرعية:

... ولكن من واجب حقوق الله على العباد: النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على اقامة الحق بينهم، وليس امرؤ - وان عظمت في الحق منزلته و تقدمت في الدين فضيلته - بفوق ان يعاون على ما حمله الله من حقه. ولا امرؤ - وان صغرته النفوس واقتحمته العيون - بفوق ان يعين على ذلك أو يعان عليه.

راجع: 3/ ٩4 - ٩5

ص: 119

المغيبات

ص: 120

في ناس هذا العصر من اذا وقعت أبصارهم على هذا العنوان طاف على ثغورهم شبح ابتسامة، ولاح في أعينهم بريق الهزء، و اتسمت معالم وجوههم بإمارات الاستنكار. ولم كل هذا ...؟ لاننا في هذا العصر الآلي لا نستطيع - إذا أردنا أن نحترم أنفسنا و عقولنا - أن تؤمن بوجود إنسان يعلم الغيب، إنسان تنقشع من أمام عينيه حجب القرون وتنطوي المسافات فيقرأ المستقبل البعيد أو الخاطر المحجوب كما يقرأ في كتاب مفتوح، ويعي حوادثه كأنها بنت الساعة التي هو فيها.

وكل إنسان يقول هذا فلابد أن يكون واحداً من إثنين: اما مجنونا، و إما جاهلا بما قدر للعقل الانساني أن يعيه من نظام الكون ... وقد لا يقولون هذا بالسنتهم ولكنهم يقولونه بوجوههم و أيديهم.

- 1 -

في ناس هذا العصر من يقول هذا.

وطبيعة الثقافة المنحرفة التي يلقاها إنسان هذا العصر في كل مكان هي التي تدفع بهؤلاء الى أن يقفوا هذا الموقف ويتجهوا هذا المتجه في انكار كل دعوى تذهب الى ان في الانسان شيئاً آخر وراء غدده وخلاياه.

الثقافة الحديثة هي التي تفرض على الانسان مثل هذا الموقف فهذه الثقافة تعتبر الانسان آلة - آلة دقيقة الصنع فقط، و هي تخضع في عملياتها لقانون الآلة وحده، فلا شيء وراء الغدد و الاعصاب يمكن أن يعتبر موجهاً للنشاط الانساني وباعثاً له.

هذه النظرية، نظرية الانسان الآلة، وجدت أول تعبير لها على

ص: 121

لسان ديكارت في فلسفته حينما اعتر الانسان آلة و أنشأ ثنائية النفس و الجسد، ثم وجدت تعبيراً أشد صراحة على لسان توماس هوبس في فلسفته الميكانيكية، والذي جرد الكائن الانساني من كل قوة غير مدركة. وبينما كان ديكارت يعترف بنشاط داخلي سماه «الافكار الباطنية» نرى هوبس قد تذكر لهذا وارجع مضمون الفكرة الى الخبرة الحسية وحدها.

و بين القرنين - الثامن عشر و التاسع عشر - ساهمت علوم أخرى غير الفلسفة في تأكيد هذه النظرية.

ومهما تكن حظوظ هذه العلوم من قوة التأثير وضعفها في صياغة هذه النظرية وإقرارها فلا مراء في أن علم النفس المعاصر من أعظم العلوم أثراً في تأكيدها. فقد بدأ علم النفس عهده التجريبي في أواخر القرن التاسع عشر (1879) على يد فلهلهم فونت الذي أسس سيكولوجيا الاستبطان، والذي حاولت مدرسته إحلال كلمة (شعور) المرادفة للحس في العمليات النفسية محل كلمة «روح» التي هي إرث كنسي وغير مدرك. وبعدها تتابعت المدارس النفسية: السلوكية، التحليل النفسي، علم النفس التحليلي، علم النفس الفردي، الجشطلت، القصد. وكلها تتنكر للروح، ولأي قوة غيبية أخرى، وترد السلوك الانساني الى إفرازات الغدد، وعمليات الجهازين الحشوي والعصي، واللاوعي، والغرائز.

وقد بلغ التعصب لهذه العلوم ذروته في القرن التاسع عشر، ففيه إستحوذ الغرور على العلماء المحدثين، وظنوا أنهم قد تمكنوا من اكتشاف جميع القوانين الميكانيكية التي تسير الكون، وذهبوا الى ان كل دعوى

ص: 122

يراد فيها اثبات أن ثمة قوى غير مدركة تهيمن علينا و تتحكم فينا هي دعوى خرافة ذهب زمنها - خرافة صنعها الانسان يوم كان أفق تفكيره غائماً وضبابيا الى حد يثير الأشتاق.

ولعل من الخير لما أن نتبين الاساس الذي يقوم عليه انكار الروح في الثقافة الحديثة.

* * *

الميزة الكبرى للحضارة الحديثة التي هي معطى للثقافة الحديثة أنها حضارة التجريب، فكل شيء يجب أن يخضع للتجربة المعملية ليصح أن يؤمن به، فاذا لم يخضع للمتجربة لم يصح ان يؤمن به كما لو خضع لها وكشفت زيفه. وقد عاد هذا الاتجاه التجريبي على الحضارة بما لا يتصور مدى خصبه من النتائج، ولكن الخطأ وقع حين داخلت العلم العزة بنفسه فادعى أن بوسعه ان يدخل الانسان الى المعمل ويجعله موضوعاً للتجريب. ولبس الانسان موضوع التجريب هنا هو هذه الكتلة من اللحم والعظم المشدودة الى بعضها بجهاز من العصب، وإنما هو النفس الانسانية. فقد ادعى العلم الحديث أن بامكانه ان يفحص صحة الدعوى الكبرى القائلة بوجود الروح و النفس ليثبت صحتها او بطلانها عن طريق التجربة المعملية.

وقد اضطلع بهذه المهمة علمان تجريبيان، هما الفيزيولوجيا والسيكولوجيا هذان العامان ادخلا الانسان الى المعمل ليريا احق ما يقال من ان وراء هذه التشكيلة الدقيقة من الغدد والخلايا والأجهزة العصبية والحشوية شيئاً يسمى نفساً وروحاً او ان هذه خرافة من جملة خرافات الكنيسة الكاثوليكية؟

ص: 123

و لقد كانت النتيجة بطبيعة الحال - وهذا شيء كان من الممكن ان نجزم به سلفاً _ هي ان لا روح ولا نفس ولا شيء وراء جسم الانسان. واذيعت هذه النتائج على انها «حقائق» اثبتها العلم التجريبي و آمن بها الناس، لأن العلم التجربي والتطبيقي، الذي اخضع الأمراض لسلطانه، وكشف عللها ووضع ادويتها والذي لا يزال يفجؤنا كل يوم بجديد لا يمكن ان يستعصي عليه شيء تافه كالانسان.

وعلى هذا النحو المسرحي حلت المشكلة - اعقد واعضل مشكلة ربضت على العقل الانساني منذ القدم - واعتبر امر الروح الانسانية قد انقضی.

وهنا نقول كلمتنا في المسألة.

نحن نؤمن بالعلم قوة في يد الانسان و سبيلا إلى إنماء الحياة الانسانية وإغنائها. ونحن نؤمن بالتجربة منهجاً للمبحث افضل من جميع المناهج الأخرى. ولكننا نؤمن بالعلم الى حد محدود، ونؤمن بالتجربة منهجاً للبحث فيما هو قابل للتجربة.

إن الميدان الأصيل للعلم التجريبي هو الموضوع القابل لأن يقع تحت ادوات التجريب: يد الانسان وعينه وحاسة الشم فيه وموازين الحرارة والضغط والمشارط وانابيب الاختبار وما اليها. فكل موضوع خارجي يصلح ان يقع تحت اداة التجريب يصلح ان يكون ميداناً للعلم الذي يستخدم هذه الاداة، ويمكن ان يتوصل فيه بواسطتها الى نتائج معتمدة أسبياً.

ونتساءل: هل الروح من هذا القبيل؟ وهل يمكن ان تقع موضوعاً

ص: 124

صالحاً لأداة التجربة المعملية؟ اللهم لا. فالباحثون عنها لا يجرمون على القول بانها شيء ذو كيان يمكن ان يصل اليه الحس اوما يصطنعه الانسان من ادوات.

ونتساءل كرة أخرى إذا كانت الروح شيئاً لا يمكن أن يقع موضوعاً لأداة التجربة فكيف يصح أن تتخذ هذه الاداة سبيلا الى البت في أمرها؟

نعم، إن «أساطين» السيكولوجيا - وخاصة السلوكيون - والفيزيولوجيا ذوي الضمائر «العلمية النزيهة» يقولون لنا إن باستطاعتهم أن (يختبروا) وجود الروح عن طريق مراقبة الانفعالات التي تطرأ على مختلف أجهزة الانسان بفعل السوائل الكيماوية المختلفة.

و نتساءل ثالثة: هل عواطف الانسان ومطامحه وأفكاره تتجمع كلها في بضعة من عصب تنفعل بالسوائل الكيمائية التي تراق عليها لنحكم بان لا روح ولا شيء سوى هذه البضعة الخاصة للفعل الكيماوي؟ وهل يمكن أن يعتمد على نتيجة هذه مقدماتها في تقرير موقفنا من الحياة والكون، وفي تحديد مصيرنا الذي نريد؟

إن العلم التجريبي نفسه يأبى علينا الأخذ بنتيجة هذه مقدماتها، فنتيجة كهذه لا يمكن أن تسمى نتيجة علمية بحال.

واذن، فلا دليل يمكن ان ينهض على ان الروح الانسانية لا واقع لها، واكثر من دليل يدل على ان الروح الانسانية أعظم واقعية من بعض الاشياء التي تحسبها واقعية.

ما هو الواقعي؟

ص: 125

أهو الشيء الذي تدركه در اقد أصبح هذا التفسير الساذج «للواقعي» شيئاً بعيداً عن المفهوم العلمي الحديث، ولو شئنا أن نفسر الواقعي بهذا التفسير لوجب علينا أن نكفر بأشيع الحقائق في حياتنا الحاضرة واعني بها الكهرباء. «فالكهرباء ... كما يقول يعقوب فام - في البراجماتزم - لا صورة ذهنية لها عندنا ولا شكل نستطيع أن نراه بعين العقل أو نتخيله، ومع ذلك فمدلوله له وجود ذاتي مستقل في هذا النظام الموضوعي للكون. وبعبارة أخرى: الكهرباء موجود حقيقي وان كان الذهن لا يستطيع أن يتخيلها لاننا نشاهد آثارها وعملها في الحياة اليومية.

واذن، فليس الواقع هو ما تحسه، وانما الواقع هو ما يعمل على صياغة حياتنا بآثاره وان لم يبلغ علمنا مدى كنهه. وإذا كان هذا هو الواقع فما الذي يمنع ان تكون الروح حقيقة من الحقائق الجمة التي تصنع حياتنا بآثارها؟ إن جهلنا بحقيقتها لا يبرر نكران وجودها. وقد عرفت ان الذين ينكرونها يبنون نكرانهم على ما لا يصلح ان يكون أساساً للموقف العقلي الذي التزموه تجاه الروح، فالأداة التي اصطنعوها لمعرفة الروح قاصرة عن ان تنيلهم ما أرادوا.

لقد حرص القدماء فلم يهدهم حدسهم هم الى شيء، واقد جرب المحدثون قلم تهدهم تجربتهم الى شيء، ويقف الانسان مكتوف اليدين أمام غياهب الأسرار، و يردد حكم القرآن في اعتراف بالعجز: ويسئلونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (1)

*******************

(1) سورة الاسراء: آية ٨6

ص: 126

و نخلص من هذا كل الی القول بأن منكري «الغيبات» ليسوإ سوى طائفة من الناس تنظر الى الانسان من احد جوانبه وتبني أحكامها على ما ترى غير حاسبة أن تمة غير هذا الجانب وأن حكمها على الانسان قبل الاحاطة به من أقطاره - في الحدود التي تبلغها المعرفة - ضرب من الخبط العشوائي الذي لا يليق بمن يدعي العلم ويستهديه فيما يفعل أو يقول، وهؤلاء أشبه بمن يحكم بان لون الهرم أحمر لمجرد أنه رأى ضلعاً واحداً من أضلاعه بهذا اللون قبل أن يرى بقية الأضلاع.

وحيث قد عرفنا ان في الانسان قوى وراء جهازه العصبي والحشوي ووراء غدده وخلاياه لا ندركها بما لدينا من وسائل المعرفة، فلا مبرر لانكار «إمكان» أن يكون لدى إنسان من الناس، بسبب ما يتمتع به من سمو روحي ونقاء داخلي - وهذه صفات قابلة للتفاوت - قدرة على معرفة ما يخبئه الغد وتضطم عليه أحشاء المستقبل.

وإذا كان «يمكن» أن يوجد إنسان كهذا فلنقم بنقلة تثبت أن إنسانا كهذا «موجود بالفعل».

- 2 -

منذ القدم لاحظ الناس في بعض الأفراد شيئاً خارقاً للعادة، وكان ذلك الشيء هو الاطلاع على حادث وقع في مكان يبعد عن مكان الرائي بمئات الاميال، أو قراءة أفكار الغير المجهولة، أو التنبؤ بما سيقع لبعض الناس في الغد القريب أو البعيد. وقد اعتبر القدماء هذه الظواهر شيئاً صادقاً ولكن لا سبيل الى تعليله، وانتهت المسألة عند هذا الحد. وغبرت القرون و الناس يؤمنون بهذا حتى نجمت طلائع الثقافة الحديثة، فجرفت

ص: 127

فيما جرفته من مخلفات القرون هذه الخرافة، استناداً الى ان الروح لا واقع لها فلا شيء من هذا يمكن ان يكون موضع ايمان وإذعان.

ولكن ظاهرة كهذه لا يمكن ان تذهب وتنسى بمثل هذه السهولة فليس امراً عادياً ان يتمتع إنسان من الناس بقوى خارقة تتجاوز كل قانون عامي معروف.

وهكذا عادت هذه الظاهرة ففرضت نفسها على العلماء من جديد، وجعلت موضوعاً للبحث العلمي عند علماء مشهورين مشهود لهم بدقة النظر امثال: سیر اوليفرلودج دوليم كروكس والفرد رسل ولاس وهؤلاء الثلاثة من أعضاء الجمعية العلمية الملكية، ودليم جيمس، وشارل ريشيه وهنري سدجوك، وهاز دريش وهنري برجسون واستاذ علم النفس في جامعة كمبریج والدكتور ميرس ورتشارد هودسون، وتشارلس اليوث نورثون استاذ بجامعة هارفارد، ووليم ر. ليوبولد استاذ علم النفس والفلسفة في جامعة بنسلفانيا، والفلكي الفرنسي المشهور كاميل فلامريون وتوماس هكسلي ... وغيرهم، وهذا العدد في تعاظم يوماً بعد يوم.

وكانت أول خطوة جدية في سبيل التثبت من صدق هذه الظاهرة هي تأليف جمعية المباحث النفسية في بريطانيا سنة ١٨٨٢ وقد اشترك فيها عدد جم من العلماء و الفلاسفة، فأصدرت مجلة تنطق بلسانها. وكان أول رئيس انتخب لها هو البرفيسود هنري سدجوك.

وقد انتهجت هذه الجمعية في بحثها طريقة جمع الوثائق وفحصها فاذا سمع الباحثون بشخص ما في بقعة من بقاع يمتلك موهبة خارقة أرسلوا اليه ملاحظين معتمدين يقومون بدراسة ما يقوم به ذلك الشخص

ص: 128

ويضعونه تحت المراقبة الدقيقة يقدمون عنه تقريراً بما شاهدوه. وقد كان لنجاح هذه الجمعية صداه في انحاء العالم فأسست لها فروع في أقطار أخرى كفرنسا وأمريكا وهولندا والدانمارك والنرويج وغيرها.

وقد اكتشف الباحثون الذين اشتملت عليهم هذه الجمعيات وغيرهم أن في الانسان ملكات نفسية خارقة أهمها ثلاث: تناقل الأفكار ورؤية الأشياء من وراء حاجز أو عن بعد، والتنبؤ.

وقد تعزى إصابة الانسان في التنبؤ الى الصدفة، ولكن جمعيات المباحث النفسية أثبتت كذب هذه الدعوى بصورة قاطعة، فقد اثبت السير اوليفر لودج عضو جمعية المباحث النفسية البريطانية والعالم الطبيعي المشهور ان قدرة الانسان على التنبؤ أعلى جداً من مستوى الصدفة حسب قانون الاحتمالات.

وعلى اثر اطلاع البروفيسور راين على حلم عجيب ذي تفاصيل عجيبة دقيقة تحقق فى الخارج بحذافيره أسس فى سنة 1930 فرعاً في جامعة ديوك فى ولاية كارولينا الشمالية فى امريكا لدراسة القوى النفسية دراسة مختبرية وقد ايده وساعده في عمله وليم مكدوجل الباحث النفساني المشهور. وقد اتخذ راين في بحثه طريقاً غير طريق جمعيات المباحث النفسية. فبينما كانت تلك الجمعيات تهتم بذوي المواهب الخارقة وحدهم اهتم هو بفحص الفرد العادي لمعرفة مقدار ما لديه من قوى خارقة. وقد اثبتت التجارب المتعددة التى أجراها راين وغيره أن الانسان يملك في الغالب قدرة على الحدس معدل يفوق معدل الصدفة قليلا أو كثيراً.

وذلك هو ما اثبته اختبار جامعة «كولورادو» الذي أجري على

ص: 129

ثلاثة شخص.

وقد اثارت تجارب راین ضجة كبرى في الأوساط العلمية، حتى لقد حاول بعض الباحثين ان يجري تجاربه سراً مخافة ان ينفضح أمره بين زملائه فيكون موضع السخرية منهم. ويروي راين ان أحد الباحثين في أمريكا توصل في تجاربه الى نتائج هامة، ولكنه امتنع عن نشرها وقال: ان عائلتي تريد طعاماً. أي أنه يخشى نشر أبحاثة فتعزله الجامعة التي يعمل فيها وتبقى عائلته بغير طعام.

وقد كان من آثار هذه الضجة ان اجتمع مؤتمر الاحصاء الرياضي في امريكا و ناقش الناحية الاحصائية من ابحاث راين، ثم اذاع البلاغ التالي:

ان أبحاث راين لها ناحيتان تجريبية وإحصائية. والرياضيون لا يستطيعون أن يقولوا شيئاً عن الجانب التجريبي منها. أما الناحية الاحصائية، فقد أظهرت الابحاث الرياضية الحديثة ان التحليل الاحصائي فيها صحيح. واذا كان من الممكن ان تهاجم ابحاث راين فانها ينبغي ان تهاجم من ناحية اخرى غير الناحية الرياضية.

ويظهر ان الرأي العلمي أخذ يتجه حديثاً الى الاعتراف بحقيقة هذه القوى الخارقة وقد ادلى البووفيسور تولس استاذ علم النفس بجامعة كمبردج ببيان في هذا الصدد قال فيه:

ان هذه الظاهرة يجب أن تعتبر حقيقة ثابتة كأية حقيقة أخرى توصل اليها البحث العلمي، فلنترك اذن أمر البرهنة على وجودها في سبيل اقناع المرتابين، ولنتوجه عوض ذلك نحو الاستمرار على دراستها

ص: 130

بقدر الامكان فاننا باطلاعنا على طبيعتها إطلاعاً أوفى نجد الصعوبات التي تكتنف التصديق بوجودها قد قلت الى حد بعيد (1)

- 3 -

واذ قد اعتبرت هذه الظاهرة شيئاً واقعاً لا سبيل الى نكرانه فقد اتجه العلماء الى تبين القانون العلمي الذي يمكن إدراجها فيه، والى معرفة ماهية هذه القوى ومصادرها في الانسان.

وقد وضعت لأجل هذا فرضيات كثيرة تعتمد كل واحدة منها وجهة نظر معينة في المسائل الطبيعية، ولكن لفرضية سينل من بين هذه الفرضيات مؤيدين كثيرين، ويبدو أن عدداً كبيراً من العلماء الطبيعين يميلون اليها، وذلك لما فيها من بساطة وملائمة للنظريات الفيزيائية الحديثة.

فالراي السائد بين الفزيائيين يتجه الى اعتبار الكون كله مؤلفاً من امواج كهربائية، وما المادة إلا امواج كهربائية قدكورت في حيز ضيق.

وعلى هذا الاساس يبني سينل فرضينه، فهو يرى ان كل مادة في الكون تبعث ذبذبات وأمواجاً اثيرية خاصة لا تدركها الحواس الخمس «وهذه حقيقة قررها البرفيسور دنكان استاذ الطبيعة في جامعة نيويورك سابقاً.

ويؤيد فرضية سينل هذه أن الابحاث الحديثة اكتشفت انواعاً

*******************

(1) هذا البحث مقتبس من الدكتور علي الوردي: خوارق اللاشعور ص ١65 - ١٧6. ولأجل التوسع في الموضوع يحسن بالراغب مراجعة: على أطلال المذهب المادي باجزائه الأربعة للباحث محمد فريد وجدي فقد أفاض افاضة طبية في الناحية الوصفية للمسألة.

ص: 131

معينة من الامواج الكهربائية تنطلق من دماغ كل إنسان. ويذهب الدكتور دايفس الى القول بان كل فرد يطلق من رأسه أمواجاً دماغية خاصة به دون غيره.

واذن، فسبب هذا الاحساس الخارق هو أن منطقة معينة من جسم الانسان تتلقى أمواجاً كهربائية يتأثر بها الانسان من حيث لا يشعر.

وقد اعترض على هذا التفسير، أولا: بان الامواج الكهربائية تضعف ببعد المسافة وقد اكتشف الباحثون أن الاحساس الخارق لا يتأثر بالمسافة. وثانياً: بان التنبؤ يدخل في جملة الظواهر الخارقة عند الانسان كما عرف وهذا ينافي فرضية الأمواج اذلا يتصور صدور أمواج من شيء لم يوجد بعد.

وقد أجيب عن الاعتراض الأول بان سرعة الامواج الكهربائية تختلف باختلافها طولا وقصراً، فالموجة القصيرة لا يؤثر عليها البعد والغرب، وقد تكون الامواج التي يطلقها الدماغ ويتلقاها من أقصر الامواج الكهربائية.

وأما التنبؤ فيمكن أن يبنى على نظرية ألبرت اينشتاين في الزمان.

يختلف تصورنا التقليدي للفضاء عن تصور إينشتاين له. فالفضاء - كما نتصوره فراغ ذو ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع، بينما يذهب اينشتاين الى أن للفضاء اربعة ابعاد: الطول، والعرض، والارتفاع، والزمان. واذن، فللزمان، في النظام الموضوعي للكون، كيان حقيقي وليس عبارة عن اختراع اقررناه لنقيس اعمالنا. وهو، لذلك، بعد للفضاء لا يفترق عن الابعاد الثلاثة الأخرى، غير اننا لا نعيه لأن ادواة

ص: 132

الادراك عندنا قاصرة عن ادراكه.

ومعنى هذا ان التنبؤ عن حوادث المستقبل لا يختلف في جوهره عن الاحساس باشياء موجودة في الوقت الحاضر، فالنفس البشرية التي تستطيع ان تخترق حاجز المسافة المكانية بما تملك من قوى خارقة تستطيع ايضاً ان تخترق حاجز المسافة الزمانية بهذه القوى. انها قد تبصر شيئاً مغیبا عنها في ثنايا المستقبل بنفس السهولة التي تبصر بها شيئاً مغيباً عنها في احد الابعاد الثلاثة الأخرى من الفضاء.

والامواج الكهربائية على مختلف انواعها تتحرك في فضاء ذي اربعة ابعاد: اي الأبعاد الثلاثة مضافاً اليها بعد الزمان، والقرائن التي تدل على هذا هي:

اولا: كشفت الأبحاث الفزيائية الحديثة ان شعاع الضوء يظهر على شكل موجات تاره وعلى شكل دفقات متتالية تارة اخرى. وقد حار العلماء في تفسير هذا الازدواج العجيب في شخصية الشعاع الضوئي. ومن المحتمل اننا حين نرى الضوء على شكل دفقات متتالية إنما نستبين منه قمم الموجات فقط اما البقية المختفية من الموجات فتذهب في الزمان اي في البعد الرابع، لأن امواج الضوء تتحرك في فضاء ذي اربعة ابعاد.

ثانياً: كشفت الأبحاث الذرية عن ان الالكترون يقفز داخل الذرة من مدار الى آخر ولا يلتزم مداراً ثابتاً. وهو حين يقفز من مدار الى آخر لا يمر بالمسافه التي تفصل بين المدارين، إنه يختفي من مدار ليظهر في المدار الآخر، فأين يذهب اثناء الغز؟ إنه فى الظاهر يذهب في الزمان الذي هو بعد رابع، لأنه يسبح في فضاء ذي اربعة ابعاد

ص: 133

ثالثاً: لا يخضع الألكترون في سیرة كانون، وانما هو يسير سيراً عشوائياً في الظاهر. وهناك طائفة كبيرة من العلماء يفسرون هذه الحركة العشوائية في سير الالكترون بانها ناتجة عن قصورنا عن مراقبة حركته على نحو صحيح، وذلك أننا، في نظر هؤلاء العلماء، تراقب ظل الالكترون فقط ولا نستطيع أن نراقبه نفسه لأنه يتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد ونحن نراقبه من خلال ابعادنا الثلاثة، فهذه العوضى التي نراها في سير الالكترون إنما ترجع الى أننا لا نراه نفسه وأنما نرى ظله، لأن ما يتحكم في سيره كامن في الزمان الذي هو بعد يخضع الالكترون في سيره.

فهذه الفرضية، فرضية سير الامواج الكهربائية في فضاء ذي أربعة أبعاد، لا نجد صعوبة في قبولها بناء على ما جاء به اینشتاین من مفهوم جديد للزمان والمكان. وعلى هذا، فالتنبؤ بحوادث المستقبل ليس مستحيلا لأن الأمواج الخفية التي تساعدنا على الاحساس الخارق لا الصعب عليها أن تتصل بالمستقبل وتكشف ما يحدث فيه، فهي تتحرك في كون ليس فيه مستقبل ولا ماض (1)

* * *

واذن فهذه الظاهرة التي تشمل الرؤية عن بعد و انتقال الافكار والتنبؤ، أمر واقع لا سبيل الى نكرانه، كما اعترف بذلك جمهرة من

*******************

(1) هذا البحث مقتبس من الدكتور على الوردي: خوارق اللاشعور، ص: 179 - 199

ص: 134

العلماء الأثبات مرت عليك اسماء بعضهم. وقد عرفت أيضاً أن العلم الحديث يتجه الى البحث عن ماهية هذه الظاهرة وحقيقتها. وقد رأيت الفرضية التي يفسرون بها هذه الظاهرة، وهي، لو صحت، لا تبين لنا حقيقتها وماهيتها، فالعلم لا يعرف عن ماهية هذه الامواج النفسية شيئاً وانما توضح آليات عملها ومجالاته.

واذ كان العلم الحديث يقبلها كحقيقة موضوعية لا مراء فيها، واذا كان العلماء المحدثون يسعون الى الكشف عن حقيقتها والتعرف على آلياتها فهل يبقى بعد ذلك مجال لنكرانها لأننا لا نعرف ماهيتها؟ اللهم لا لأننا سنكون حينئذ كذلك الاعمى الذي ينكر وجود النور لأنه لا يراه.

واذ كانت هذه الظاهرة حقيقة واقعة، واذ كانت القوانين العلمية الحديثة لا تاباها، فلا حرج علينا اذن في أن ندرسها عند امير المؤمنين عليه السلام، كما تبدو لنا في نهج البلاغة وغيره.

- 4 -

قد دلت الأبحاث الحديثة كما عرفت على أن كل انسان يملك مقداراً من هذه القوة الخارقة التى تكشف له عما اضطمت عليه أحشاء المستقبل ولكن الناس اذا تساووا في نوع هذه القوة فانهم يختلفون في مقدارها

فقد ثبت أن هذه الحاسة توجد عند بعض الناس بقوة تثير الدهشة بينما توجد في بعض آخر على حال من الضعف والوهن لا تكاد تبين معه فما السبب في هذا التفاوت؟

لقد تبين للباحثين أن قوة هذه الحاسة تتناسب تناسبا طردياً مع

ص: 135

الدرجة الصفاء الروحي والنقاء الداعي التي يتمتع بها الشخص، فكلما كان الانسان صافي النفس نقي الضمير منعتقا من أسر التقاليد الاجتماعية الضارة متفلتا من قيد الضرورة وما اليها خالي النفس من العقد والاحقاد والمطامع كانت هذه الحاسة فيه قوية بالغة القوة، وكلما كان الانسان مشوش النفس موزع الضمير مستغرقا في حواسه أسيراً لضرورات جسده وشهوانه غارقا في مجتمعه كانت هذه الحاسة فيه ضامرة لا تكاد تبين (1)

فهذه الحاسة لا تنشط إلا في ساعات الصفاء العقلي والروحى والوجداني، فعند ذلك تبلغ أقصى قوتها. فاذا شئنا أن نبحث عن هذه الظاهرة فى حياة الامام عليه السلام طالعتنا فيه على أتم وأكمل ما تكون، فلقد بلغ من الصفاء الروحى حداً لم يدانه فيه إنسان على الاطلاق ولم يزد عليه فيه إلا النبي صلى الله عليه وآله.

و تاريخ حياته عليه السلام سلسلة ذهبية من هذه الظواهر الرائعة الفاتنه. وإذا صح أن تجرداً وصفاء وقتيين يقوم بها إنسان عادي يتيحان له اطلاق قواه الخارقه فما قولك فيمن كانت حياته كلها تجرداً روحيا وصفاء لا يعدله في بني الانسان صفاء.

إن هذه الظاهرة التي تبدو لأعيننا في تاريخ حياته لتدل على انه كان يدخل في وسعه أن يطلق قواه الخارقة حتى أراد، وأن يعي ما غاب عنه في أحشاء الزمان وطوايا المكان متى شاء.

ويصدق قولنا هذا ما أثبته المؤرخون وتسالموا عليه من إخباراته بالمغيبات وصدق ما أخبر به ووقوعه بعده بازمان.

*******************

(1) الدكتور على الوردي: خوارق اللاشعور.

ص: 136

* * *

لم يعن الشريف رحمه الله، حين آلى على نفسه أن يجمع كلامه عليه السلام، بهذه الناحية عناية تستحق الذكر، فما في نهج البلاغة من اخباراته بالمغيبات لا يبلغ عشر ما نسب اليه وصح عنه.

وهذه الطائفة التي ذكرها الشريف من إخباراته تجىء على أقسام: غرق البصرة، تسلط الظالمين على على الكوفة، تغلب معاوية على الخلافة مصير الخوارج ونهاية أمرهم، مروان وخلافته، حرب الزنج، الحجاج الأتراك، بنو أمية: ظلمهم ونهايتهم، خروج المهدي عجل الله تعالى فرجه فتن تشمل الدنيا وتهلك الحرث والنسل.

في هذه العناوين ينحصر ما ذكره الشريف في نهج البلاغة من الاخبار بالمغيبات، وسنتكلم في كل واحد من أولئك على حدة. ذاكرين بعد ذلك ما أهمله الشريف ولم يمن به.

* * *

لقد تحدث الامام (علیه السلام) عن علمه بالمغيبات في مناسبات كثيرة منها قوله

... فاسئلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعتها، وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتا، ولو قد فقدتموني، ونزلت بکم کرائه الامور وحوازب الخطوب الأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين

وقد ذكر عليه السلام أنه استقى علمه هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله

ص: 137

فقد أتى في كلام له، بعد أن هرم أصحاب الجمل في البصرة، على ذكر بعض ما يلم بالبصرة من الخطوب، فذكر فتنة الزنج وذكر التتر، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت ياأمير المؤمنين على الغيب، فضحك الامام وقال للرجل: ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدد الله سبحانه بقوله: «إن الله عنده الساعة ...» الآية ... فهذا على الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم عامه الله لنبيه فعلمنيه، ودعا لي بان يعيه صدري وأضطم عليه جوانحي.

وقال مخاطباً أصحابه في موقف آخر:

والله لوشئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا في برسول الله صلى الله عليه وآله، ألا وإني مفضيه الى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقا، وقد عهد الي بذلك كله، و بمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إلي.

وقال:

أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي، ولا يستهوينكم عصياني، ولا تتراموا بالابصار عند ما تسمعونه مني، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إن الذي انبأكم به عن النبي الأمي صلى الله عليه وآله، ما كذب المبلغ ولا جهل السامع.

في هذه النصوص يصرح الامام عليه السلام بان عامه بالمغيبات جاءه

ص: 138

عن طريق رسول الله (ص)، والذی يوقفنا في هذا هو اننا لا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى الى الامام بكل حادثة من الحوادث المقبلة على نحو التفصيل لأن الظرف الزماني الذي جمع بين النبي والامام لا يسع شيئاً مثل هذا حتى لو فرضنا أن الامام قد اختص باوقات فراغ النبي كلها، فهو عليه السلام يقول: فو الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا انبأتكم بناعقها ... ويقول: « ... فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض ...» ويقول: ... والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولج_ه وجميع شأنه لفعلت ... وقد عهد إلي بذلك كله وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومال هذا الامر، وما ابقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في اذني وافضى به إلي.

فهذا علم واسع بالغ السعة متراحب الآفاق، ومهما يكن الظرف الزماني الذي قضاه الامام مع النبي طويلا، ومهما تكن الاوقات الخاصة التي يفرغ فيها النبي للامام وحده طويلة وكثيرة، فان ذلك كله لا يسع الافضاء ببعض هذا العلم الى الامام على نحو التفصيل، بحيث يتناول لتعليم الجزئيات الدقيقة والتفصيلات الكثيرة، فضلا عن ان يسع الافضاء اليه بكل هذا العلم على هذا النحو من الافضاء.

وإذ كانت الحال على هذا فلا نستطيع ان نتصور ان النبي قد افضى الى الامام بكل حادثة من الحوادث المقبلة الى قيام الساعة على نحو التفصيل ولكن الامام عليه السلام يصرح بما لا يدع مجالا للشك بأنه قد استقى عامه هذا من النبي صلى الله عليه وآله: فكيف السبيل الى ملائمة هذا

ص: 139

الذي يقوله الامام مع ما تبين لنا من عدم استيعاب الطرف الزماني للافضاء بكل هذه العلوم؟

الذى اراه هو ان النبي صلى الله عليه وآله لم یمض الى الامام بالمغيبات على نحو التفصيل الذي يلم بجميع الجزئيات فقد رأينا ان العقل يحيل ذلك لأن الزمان مهما يطل لا يتسع له، وإنما المضى اليه بهذه المغيبات على نحو الاجمال لا التفصيل.

فقد راينا ان نشاط هذه القوى الخفية الودعة فى الانسان والتي تَصلِهُ بالمجهول المحجوب فى احشاء الزمان أو ثنايا المكان، يتوقف على الحالة العقلية والروحية والوجدانية التى يكون عليها الانسان، فكلما كان الانسان على حال رفيعة من الصفاء العقلي والطهارة الروحية والنقاء الوجداني كانت هذه القوى الشط وابلغ في النفوذ الى المغيب المحجوب، والذي نراه بالنسبة إلى الأمام عليه السلام هو ان النبي قد اخبره بالمغيبات على نحو الاجمال ثم هداه الى اقوم السبل التي تؤدي به الى ارفع درجات هذه الحالة الروحية التي تنبح لفواه الخفية ان تعمل عملها الخارق فيعي بسببها تفصيل ما اجمله له رسول الله صلى الله عليه وآله.

و بذا التفسير وحده تستطيع ان نلائم بين علم الامام الواسع بالمغيبات الذي يسنده الى الرسول وبين الظرف الزماني الضيق نسبياً الذي جمع بينه وبين الرسول، وليس هذا التفسير اعتباطياً فلدينا عليه شاهد مقبول.

وهذا الشاهد الذي نعني هو ان النبي صلى الله عليه وآله خلى بالامام فادخله في توبه و ناجاه في اللحظات القليلة الاخيرة التي قبض بعدها فلما فرغ من نجواه خرج الامام من عنده فسأله الناس عم افضى به اليه

ص: 140

فقال: علمني ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب، فمها كانت اللحظات التي خلا بها النبي مع الامام كثيرة لا نستطيع ان تتصور كيف أفضى اليه فيها بألف باب من العلم على نحو التفصيل، لأنها مهما طال مداها لا تتسع للافضاء ببعض هذا العدد الكبير، فلابد من القول بانه أفضى اليه بهذه الألف باب على نحو الاجمال وذلك باعطاء الظوابط الكبرى التي تشمل كثيراً من الأبواب. ولعل قوله: «ينفتح لي من كل باب ألف باب أبلغ دلالة على ما نقول من أنه عامه على نحو الاجمال لا على نحو التفصيل، وأنه اتكل في معرفة الجزئيات والتفاصيل الى ما يتمتع به الامام من مواهب تسعفه في معرفة ما غاب وتهديه الى شريعة الصواب.

* * *

قلنا ان إخباراته التي ذكرها الشريف تجيء على أقسام، منها إخباره بما يلم بالبصرة من الخطوب.

فأخبر بعد فراغه من أصحاب الجمل، عن غرق البصرة كلها بقوله:

... وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جائمة.

وقد صدقت الحوادث هذه النبوءة، فقد ذكر ابن ابي الحديد أن البصرة غرقت مرتين: مرة في أيام القادر بالله ومرة في أيام القائم بأمر الله، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزاً كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين ... وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل

ص: 141

البصرة يتناقله خافهم عن سلفهم. (1)

وأخبر عن هلاك البصرة بالزنج فتعمال مخاطباً الأحنف بن قيس بعد حرب الجمل:

يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ولا قمقمة لجم ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بإقدامهم كأنما أقدام النعام. ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة من اولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم. أنا كابّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها

هذه النبوءة صدقتها الحوادث، ففي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر المدعو علياً بن محمد بن عبد الرحيم وجمع الزنوج وخرج بهم على المهتدي العباسي واستشرى أمره، وكاد يبيد البصرة ويفني أهلها، واستمرت الحرب بينه وبين السلطة المركزية خمسة عشر عاماً، فقد قتل في سنة سبعين ومائتين: وقد كتب ابن ابي الحديد فصلا كبيراً عن هذه النبوءة (٢)

ولا يفوتنا التنبيه على تنبئه عليه السلام، فى النص الآنف، ما ستكون عليه حال البصرة من الناحية العمرانية وأخبر عن هلاك البصرة بالتتر فقال:

... كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق ويكون هناك استمرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت اقل من المأمور.

*******************

(1) ابن ابي الحديد: شرح النهج: ١/ ٨٤.

(2) المصدر السابق: ٢/ ٣١٠ - ٣6١.

ص: 142

هذه النبوءة تحققت بظهور التتار واكتساحهم للممالك حتى وصلوا الى العراق فلقيت البصرة منهم اعظم البلاء واشنعه، فقد تكدست الجثث في الشوارع والأزقة وحل بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الاحداث في زمن ابن ابي الحديد فكتب عنها فصلا كبيراً (1)

وقد تنبأ عليه السلام بما سيحل بالكوفة من الظالمين فقال:

كأني بك باكوفة تمدين مد الاديم العكاضي، تعركين بالنوازل، وتركبين بالزلازل، واني لأعلم انه ما اراد بك جبار سوء إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل.

وقد صدقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب على الكوفة سلسلة من ولاة الجور وأعوان الظلمة أذاقوها الصاب وساموها العذاب، فزياد ابن أبيه، وعبيد الله بن زياد، والحجاج، ويوسف بن عمرو، والمغيرة ابن شعبة، وخالد بن عبدالله القسري وأضرا بهم ... كلهم أقاموا الحكم في الكوفة على ركام من الجماجم وانهار من الدماء. (2)

* * *

وقد تنبأ عليه السلام بتغلب معاوية على الخلافة وسيطرته على الكوفة وأنه سيأمر أهل الكوفة من الشيعة بسب الامام والبرائة منه، فقال:

أما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن

*******************

(1) المصدر السابق: ٣6١/٢ - ٣٧١

(2) المصدر السابق: ٢٨6/١ - ٢٨٧

ص: 143

يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وانه سيامركم بسبي والبرائة مني، أما السب فسبوني فانه لي زكاة ولكم نجاة، واما البراءة فلا تتبرءوا مني فاني ولدت على الفطرة، وسبقت الى الايمان والهجرة.

هذه النبؤة تحققت بتمامها، فقد غلب معاوية بعد صلح الحسن و امر الناس بسب الامام صلوات الله وسلامه عليه والبرائة منه، وقتل طائفة من عظماء اصحابه (علیه السلام) لأنهم ثبتوا على ولائه فلم يتبرؤا منه، منهم حجر ابن عدي الكندي وجماعته. وقال قوم إن المعني بهذا الكلام زياد بن ابيه، وقال قوم انه المغيرة بن شعبة، وكل ولي الكوفة و امر بالسب والبرائة (١).

* * *

وتنبأ عليه السلام بما سيصير اليه امر الخوارج من بعده فقال:

... اما إنكم ستلقون من بعدي ذلا شاملا وسيفاً قاطعاً واثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة.

وقال لما قتل الخوارج وقيل له: هلك القوم باجمعهم:

كلا والله، إنهم نطف في اصلاب الرجال و قرارات النساء، كما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين.

وقد صحت نبوءته، فلم يمض زمن طويل حتى نجم امرهم مرة اخرى واستمرت بينهم وبين السلطات المركزية المتعاقبة حروب طاحنة، وكانت نهايتهم ان صاروا قطاع طرق ولصوصاً سلابيين.

وقد تنبأ بعدد من يقتل من اصحابه وبقدر من يبقى من الخوارج

*******************

(1) ابن ابي الحديد: شرح النهج: 1/ ٣55

ص: 144

قبل أن يشتبك معهم في النهروان، فقال:

مصارعهم دون النطفة، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة.

فلم يقتل من اصحاب الامام الاثمانية، ولم ينج من الخوارج إلا تسعة. (١)

* * *

وقد كثر كلامه عما سيحل بالناس من بني امية وظلمهم، وكأنه يعد بذلك انفس الناس لتلقي فادح الظلم، وقد تنبأ بخلافة مروان بن الحكم وبما سيحل بالامة منه ومن اولاده، وتنبأ عن نهاية بني امية متى تحين.

قال متنبأ بمصير الخلافة الى مروان:

اما ان له إمرة كلمة الكلب انفه، وهو ابو الاكبش الأربعة، وستلقى الامة منه ومن ولده يوماً احمر.

وقد تم كل ما قال، فقد كانت إمرة مروان قصيرة جداً إذ لم تزد على تسعة اشهر، وقد كان له من الابناء اربعة هم: عبد الملك، وعبد العزيز، وبثر، ومحمد. ولي عبد الملك الخلافة، وولي محمد الجزيرة وولي عبد العزيز مصر، وولي بشر العراق. وقد حل بالمسلمين منهم ظلم عظيم (2)

وقال في ظلم بني امية:

... والله لا يزالون حتى لا يدعو الله محرماً إلا استحلوه، ولا عقداً

*******************

(1) المصدر السابق: 1/ 279 - 380 و ٤٢٤ - ٤٢٧ و ٤٤5 - ٤٤6

(٢) المصدر السابق: 5٣/٢ - 6٠

ص: 145

إلا حلوه، وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله ظلمهم، ونبا به سوء رعيهم، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة احدكم من احدهم كنصرة العبد من سيده اذا شهد أطاعه واذا غاب اغتابه.

ولا يجهل احد مبلغ ما نزل بالناس من ظلم بني امية و انتهاكهم للحرمات واستهتارهم بالفضيلة حتى صار خلفاؤهم مثلا في الظلم والفسق والتهتك (١)

وقد تحدث عليه السلام كثيراً عن نهاية بني امية وان الامر سيصير الى اعدائهم بعدهم في الوقت الذي يحسب الناس فيه انهم مخلدون.

قال عليه السلام:

حتى يظن الظان ان الدنيا معقولة على بني امية، تمنحهم درها و توردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظان لذلك، بل هي مجة من لذيذ العيش بتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة

وقال:

يابني أمية عما قليل التعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم.

هذه النبوءات بزوال ملك بني أمية على يد العباسيين، وما يصنعه العباسيون من القتل والتشريد قد تحققت بحذافيرها. (2)

*******************

(1) المصدر السابق: ٢ / ٤66 - ٤6٧. وراجع المصدر السابق ١٩٣/٢ - ١٩٤ و ٤٠٨ - ٤٠٩ في شأن عبد الملك بن مروان و الفتن في زمانه

(٢) المصدر السابق: ١٣٢/٢ - 133 و 178 و 200 - 202 و ٤66 - 467

ص: 146

وقد تنبأ بولاية الحجاج و بما سيحل بالعراق من بلوائه فقال:

أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم، إيه ابا وذحة.

وقال فيما رواه ابن ابي الحديد من تتمة خطبة أخرى تنبأ فيها بولاية الحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمر و الثقفي:

... وستليكم من بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط والحديد. وسياتيكم غلاما ثقيف: أخفش و جعبوب، يقتلان ويظلمان وقليل ما يمكثان.

قال ابن ابي الحديد:

... الأخفش الضعيف البصر خلفة، والجعبوب القصير الدميم، وهما الحجاج و يوسف بن عمرو وفي كتاب عبد الملك الى الحجاج: قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرتين. ومن كلام الحسن البصري (ره) يذكر فيه الحجاج: أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله. وكان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمرو كان يغضب اذا قيل له قصير. (1)

راجع:

58/1 و 120 و 130 - 131 و 132 و ١5٠ - ١5١ و ١٨6.

٣/٢ - 5 و ١٢ - ١٣ و 16 - 18 و 19 و ٢٤ - ٢5 و ٣٢ - ٣5 و 5٨ - 5٩ و 75 - 77 و ٩٠ - ٩١ و ١٠٣ - ١٠٤ و ١٠٨ - ١٠٩

و ١١١ - ١١٤ و ١٣٢ و ١6٠ - ١6١ و ١٧٤.

١٠/٣ - ١١ و ١5.

*******************

(1) المصدر السابق: ٢/ ١٣٢ - ١٣٣ و ٢5٧ - ٢5٨.

ص: 147

4 / 135 و 181 و 206

- 5 -

قلنا ان الشريف رحمه الله لم يذكر في نهج البلاغة كل ما صح عن أمير المؤمنين من اخباره بالمغيبات، ولكن ابن أبي الحديد قد سد هذا النقص حين أفاض في ذكر ما صح عنه عليه السلام في هذا الباب. ومما يحسن ذكره هنا أن ابن ابي الحديد لم ينقل كلما وقع اليه من اخبار الامام بالمغيبات، بل حقق فيما وقع اليه من ذلك فطرح المشتبه أمره، وذكر ما صح عنه عليه السلام.

قال ابن أبي الحديد:

... وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب اليه وما لا يجوز أن ينسب اليه، ووجدت في كثير منها اختلالا ظاهراً. وهذه المواضع التي انقلها ليست من تلک الخطب المضطربة بل من كلام وجدته متفرقاً في كتب مختلفة (1)

و علل ابن أبي الحديد هذه الظاهرة الفذة في الامام بقوله:

واعلم أنه غير مستحيل ان تكون بعض الأنفس مختصة بخاصيته تدرك بها المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه الكفاية (٢) ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات، لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية. فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام لا على أن يريد به عموم

*******************

(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج 5٠٨/٢

(٢) تقدم منه كلام في هذا في 1/ ٤٢5 و ٤٢6 - ٤٢٧

ص: 148

العالمية بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات، مما اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهله امامه ... (1)

* * *

ولا بن أبي الحديد هذا نص طويل ذكر فيه طائفة كبيرة من إخبارات الامام بالمغيبات، نذكره لطرافته ولما له من الصلة يبحثنا هذا، على أن نتبعه بذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في هذا النص وذكره في مناسبات أخرى. قال:

وهذه الدعوى ليست منه عليه السلام ادعاء الربوبية ولا ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول ان رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، ولقد امتحا اخباره فوجدناه موافقاً فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة. كاخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته. وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام، وما قاله في كربلاء حيث مر بها. وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده. وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمر. وما أخبر به من امر الخوارج بالنهروان. وما قدمه الى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب. وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. واخباره بعدة الجيش الوارد اليه من الكوفة لما شخص عليه السلام الى البصرة لحرب أهلها. وإخباره عن عبدالله بن الزبير وقوله فيه: خب ضب، يروم أمراً ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش وكاخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج ...

*******************

(١) المصدر السابق 5٠٨/٢.

ص: 149

وكاخباره عن ظهور الرايات السوي من خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون بني رزيق يتقديم المهملة وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده واسحق بن ابراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية. وكاخباره عن الأمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر و الداعي وغيرهما في قوله عليه السلام: وان لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره الله إذا شاء، دعاؤه حق، حتى يقوم باذن الله فيدعو الى دين الله، و كاخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة و قوله إنه يقتل عند احجار الزيت، وكقوله عن أخيه ابراهيم المقتول بباخمرا: «يقتل بعد ان يظهر و يُقهر بعد أن يَقهر» و قوله فيه أيضاً: «يأتيه سهم غرب تكون فيه منيته، فيا بؤساً للرامي ثلت يده ووهن عضده و کاخباره عن قتلى وجّ وقوله فيهم: هم خير أهل الأرض. و كاخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وتصريحه بذكر كتامة، و هم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله، وهو يشير الى ابي عبدالله المهدي، وهو أولهم: ثم يظهر صاحب القيروان الغض النض ذو النسب المحض المنتخب من سلالة ذي البداء المسجى بالرداء وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة، رخص البدن، تار الأطراف، وذو البداء اسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السلام وهو المسجى بالرداء لأن اباه أبا عبدالله جعفر أسجاه بردائه لما مات وأدخل اليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره. وكاخباره عن بني بويه. قوله فيهم: لا ويخرج من ديلمان بنو الصياد إشارة اليهم، وكان أبوهم صياد السمك، يصيد منه بيده ما يتفوت هو وعياله بثمنه، فاخرج الله

ص: 150

تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الامثال بملكهم. وكقوله عليه السلام فيهم: ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء، فقال له قائل: فكم مدتهم ياأمير المؤمنين؟ فقال: «مائة أو تزيد قليلا» وكقوله فيهم: والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة، وهو اشارة الى عز الدولة بختيار بن معز الدولة ابي الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده في الحرب، وكان ابنه عز الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وطرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه. فأما خلعهم للخلفاء، فان معز الدولة خلع المستكني وربت عوضه المطيع، وبهاء الدولة ابا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر. وكانت مدة ملكهم كما أخبر به عليه السلام. وكاخباره عليه السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر الى أولاده، فان علي بن عبدالله لما ولد أخرجه ابوه عبدالله الى على عليه السلام، فاخذه وتقل في فيه وحنكه بتمرة قد لاكها، ودفعه اليه وقال: خذ اليك ابا الاملاك ... وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى مما لو أردنا استقصاءه لكسرنا كراريس كثيرة، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (١)

وقال:

... والمراد بقوله فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الارض ما اختص به من العلم مستقبل الأمور ولا سيما في الملاحم والدول وقد صدّق

*******************

(1) المصدر السابق ١٧5/٢ - ١٧6

ص: 151

هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكرر لا مرة ولا مائة مرة حتى زال الشك والريب في أنه اخبار عن علم وليس على طريق الصدفة والاتفاق (1)

* * *

ونأخذ الآن في ذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في النص السابق واتى على ذكره في مناسبات أخرى.

1 - ... لما شجر هم - الخوارج - علي عليه السلام بالرماح قال اطلبوا ذا الثدية فطلبوه طلباً شديداً حتى وجدوه فى وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فاتي به واذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور، فكبر علي عليه السلام وكبر الناس معه (2)

٢ - قال عليه السلام لمن قال له: أخبرنى بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر، بعد كلام: وان فى بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله صلى الله عليه و آله. قال ابن ابي الحديد: و كان ابنه، قاتل الحسين عليه السلام طفلا يحبو وهو سنان ابن أنس النخمي (٣)

3 - وخطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين اني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له فقال عليه السلام: و الله ما مات ولا موت حتى يقود جيش ظلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: يا امير المؤمنين انا حبيب بن حمار واني لك شيعة ومحب، فقال: أنت حبيب بن حمار؟

*******************

(1) المصدر السابق

(2) المصدر السابق ٢٠5/١

(٣) المصدر السابق 1 / 208

ص: 152

قال نعم، فقال له ثانية: و الله انك لحبيب ابن حمار؟ فقال اي والله، قال اما و الله انك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب، واشار الى باب الفيل مسجد الكوفة. قال ثابت - و هو راوي الحديث - فو الله ما مات حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد الى الحسين بن علي عليه السلام، و جعل خالد بن عرفطة على مقدمته و حبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل (1)

4 - ... كان جالساً في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي علي_ه السلام: يامن قتل الرجال و سفك الدماء و ايتم الصبيان و أرمل النساء، فقال علي عليه السلام: و انها لهي هذه السلفلقة الجلعة الجعة، وانها لهي هذه الشبيهه الرجال و النساء التي ما رأت دماً قط، قال يزيد الأحمسي - وهو راوي الحديث - فولت هاربة منكسة رأسها، فتبعها عمرو ابن حريث، فلما صارت بالرحبة قال لها: والله لقد سررت بما كان منك اليوم الى هذا الرجل فادخلى منزلي حتى أهب لك واكسوك، فلما دخلت منزله أمر الجواري بتفتيشها و كشفها و نزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته أن لا يكشفها وقالت: انا والله كما قال، لي ركب النساء وانثيان كأنثي الرجال، وما رأيت دماً قط، فتركها وأخرجها ورجع الى مجلسه مع الامام (علیه السلام) فحدث بذلك (2)

5 - قام أعشى باهلة وهو يومئذ غلام حدث الى علي عليه السلام وهو يخطب ويذكر الملاحم فقال: ياأمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث

*******************

(1) المصدر السابق نفس الصفحة

(2) المصدر السابق ٢٠٨/١ - ٢٠٩

ص: 153

بحديث خرافة، فقال علي عليه السلام: ان كنت آتما فيما قلت ياغلام فرماك الله بغلام ثقيف، ثم سكت، فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثفيف يا امير المؤمنين؟ قال غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك حرمة إلا انتهكها الضرب عنق هذا الغلام بسيفه، فقالوا كم يملك يا امير المؤمنين؟ قال: عشرين ان بلغها، قالوا فيقتل قتلا أم يموت موتاً؟ قال بل يموت حتف الأنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه، قال اسماعيل بن رجاء _ وهو الراوي - فو الله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد حضر في جملة الاسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بين يدي الحجاج فقرعه ووبخه واستنشده شعره الذي يحرض

فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس (١)

9 - قال عليه السلام لعمرو بن الحمق الخزاعي في حديث: ياعمرو انك لمفتول بعدي، وان رأسك المنقول، وهو أول رأس نقل في الاسلام، والويل لقاتلك، أما انك لا تنزل بقوم إلا أساموك برمتك إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فانهم لن يسلموك ولن يخذلوك. قال شمير بن سدير الأزدي - وهو الراوي - فو الله ما مضت الايام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً حتى نزل في قومه من بني خزاعة فاسلموه فقتل وحمل راسه من العراق الى معاوية بالشام وهو اول راس حمل في الاسلام من باد الى بلد (2)

7 - دخل جويرية بن مسهر العبدي على علي عليه السلام يوماً وهو

*******************

(١) المصدر السابق ٢٠٩/١

(٢) المصدر السابق ٢٠٩/١

ص: 154

مضطجع وعنده قوم من اصحابه، فناداه جويرية: ايها النائم استيقظ فلتضربن على راسك ضربة تخضب بها لحيتك. قال حية العرني - وهو الراوي - فتبسم امير المؤمنين عليه السلام وقال: واحدثك ياجوبرية بامرك، أما والذي نفسي بيده لتنلن الى العقل الزنيم فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر، قال حية العرني، فو الله ما مضت الايام على ذلك حتى اخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصليه الى جانب جذع ان مكعبر وكان جذعاً طويلا فصلبه على جذع قصير الى جانبه (1)

8 - قال الامام لميثم التمار يوماً بمحضر من خلق كثير من اصحابه وفيهم الشاك و المخلص: ياميثم انك تؤخذ بعدي وتصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتى يخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة تقضي عليك فانتظر ذلك، والموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، انك لعاشر عشرة أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، يعني الأرض، ولأرينك النخلة التي تصلب على جذعها، ثم اراه اياها بعد ذلك بيومين، وقد تحققت هذه النبوءة بحذافيرها كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في حديث طويل يضيق به المقام (2)

9 - روى ابراهيم بن العباس النهدي في سند ينتهي الى زياد بن النضر الحارثي أنه قال: كنت عند زياد وقد أني برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي عليه السلام، فقال له زياد: ما قال له لك خليلك انا فاعلون بك؟ قال تقطعون يدى ورجلي وتصلبوني، فقال زياد

*******************

(1) المصدر السابق ٢٠٩/١ - ١١٠

(2) المصدر السابق ٢١٠/١ - ٢١١

ص: 155

اما والله لأكذبن حديثه، خلو سبيله، فلما اراد ان يخرج قال ردوه لا نجد شيئاً أصلح مما قال لك صاحبك، انك لا تزال تبغي لنا سوء ان بقيت اقطعوا يديه و رجليه. فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم فقال فقال اصلبوه خنقاً في عنقه، فقال رشيد قد بقي لكم عندي شيء ما اراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال نفسوا عني اتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه فقال: هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين أخبرني بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه (1)

10 - حدث سعد بن وهب، فقال في حديث ... فانيته - يعني علياً عليه السلام - في كربلاء، فوجدته يشير بيده ويقول: ههنا ههنا فقال له رجل: وما ذاك ياأمير المؤمنين؟ فقال: نقل لآل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ينزل ههنا، فويل لهم منكم وويل لكم منهم، فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا امير المؤمنين؟ قال ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار (2)

١١ - ذكر ابن ابي الحديد تتمة خطبته في الملاحم تنبأ فيها الامام بان السلاح سيحمل على الظهر بقوله « ... وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم ...» وكأنه يشير بذلك الى البندقية وما اليها من الأسلحة الحديثة، وتنبأ فيها بولاته الحجاج ويوسف بن عمر (٣)

12 - قال ابن الحديد « ... ومن عجيب ما وقعت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم وهو يشير الى القرامطة: ينتحلون

*******************

(١) المصدر السابق 1/ ٣١٠ - ٢١١

(٢) المصدر السابق 1/ 278

(3) المصدر السابق ١٣٣/٢

ص: 156

لنا الحب والهوى ويضمرون لنا البغض والقلى، وآية ذلك قتلهم وراثنا وهجرهم أحداثنا. قال ابن ابي الحديد: وصح ما أخبر به، لأن القرامطة قتلت من آل ابي طالب خلفاً كثيراً واسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني. وفي هذه الخطبة قال، وهو يشير الى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة: كأني بالحجر الاسود منصوباً هنا، ويحهم ان فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأسه، يمكث هنا برهة، ثم ههنا برهة، وأشار الى البحرين، ثم يعود الى مأواه وام مثواه. ووقع الامر في الحجر الاسود بموجب ما أخبر به (1)

*******************

(1) المصدر السابق 5٠٨/٢، وذكر ابن ابي الحديد في ٢/ 49 - 50 عن المدائني في كتاب صفين خطبة للامام في الملاحم خطبها بعد النهروان.

ص: 157

الوعظ

ص: 158

يحسب بعض المثقفين من الشئة هذا الجيل أن الاسلام كالمسيحية في التنكر للدنيا والتزهيد فيها واعتبارها أذى كبيراً لا يجمل بالمرء أن يصيب منه قليلا ولا كثيراً. والكتب الموضوعة للتبشير بالحضارة الغربية، عدوة المسيحية وكل دعوة روحية، تساعد على تركيز هذه الفكرة عن الاسلام في نفوس هؤلاء. وتسهم إسهاماً كبيراً في تركيزها ايضاً البرامج التعليمية المدخولة التي تهمل دور الاسلام العظيم في إنفاذ العالم وتقدمه، وإن عرضته فأنما تعرض إسلاماً مشوهاً خالياً من الحياة.

كل هذا جعل هذه الناشئة تنظر الى الاسلام نظر ذعر وتخوف مبعثهما الجهل لا العلم والعمى لا البصر، وتوجّه هذه النظرة أيضاً الى التراث الاسلامي في ميادين الفلسفة والاخلاق والادب. ونهج البلاغة من جملة هذا التراث الذي ينظر اليه على هذا النحو، فهذا الكتاب، عند ناشئة الجيل يحتوي على طائفة من الخطب قيلت فى النزهيد بالدنيا والتنفير منها، و النعي على المتمسكين بها و الآخذين بنصيب من مباهجها و أفراحها، وهو لذلك كتاب لا يلائم روح عصرنا هذا لأنه يشلّ في الانسان رغبته في العمل ويعطل حسّ الحياة فيه و يدفعه الى القناعة بحياة ذليلة واهنة مظلمة شوهاه.

ولم لا؟ ألم تصدر هذه الخطب و الاقوال من رجل ركل الدنيا بقدمه وخرج عنها، ودعا الناس الى یركلوها بإقدامهم ويخرجوا عنها؟

هذه نظرة طائفة كبيرة من شباب الجيل الى نهج البلاغة

والأسلوب الوعظي الذي يتناول فيه كثير من الوعاظ في المساجد و المحافل مهمتهم يدعم نظرة ناشئة الجيل الى نهج البلاغة ويعززها، فهم يتناولون مهمتهم على نحو خاطىء لأنهم يعتمدون في وعظهم اعتماداً مطلقاً

ص: 159

على التنفير من الدنيا وعلى ذمها و التزهيد فيها و اعتبارها أذى كبيراً يحول بين الانسان و بين أن يصبح انساناً حقاً، و يجدون في نهج البلاغة على الخصوص معيناً لا ينضب من الشواهد على ما يقولون.

إننا إذ نرجع الى مبادىء الاسلام لنتعرف على وجهة نظره الى الدنيا نجد هذه المبادى. تشجع الاقبال على الدنيا، وتحترم العمل، و تمجد العامل، وتعنى بنشاط الانسان الدنيوي كما تعنى بنشاطه الأخروي، يدل على ذلك ما شرعه الاسلام من قوانين تتناول جميع ألوان نشاطه الدنيوي.

و الامام عليه السلام هو أعظم أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فهماً للإسلام ووعياً لأسراره فلا يعقل أن يقول شيئاً بخالف روح الاسلام العامة ونظرته الشاملة إلى الانسان. ولكننا نرجع الى نهج البلاغة فنجده مكتظاً بالتنفير من الدنيا وردع الناس عنها، فكيف تلائم بين ما نراه في نهج البلاغة وبين ما نعرفه عن الامام عليه السلام.

الذي أراء هو أن الوعاظ و الناشئة جميعاً راحوا ضحية خطأ كبير سبب لهم سوء الفهم و سوء التأويل لما جاء في نهج البلاغة من ذم الدنيا.

فعند ما نريد أن نفهم نصاً من النصوص يتضمن رأياً في الانسان و في مصيره يجب علينا اولا أن نفهم الثقافة التي صدر عنها هذا النص، نفهم الواقع التأريخي الذي صدر فيه النص، فاذا تم لنا من ذلك ما أردنا وضعنا النص في إطاره التاريخي الخاص و أحطناه بظروفه النفسية المعينة و فسرناه من وجهة نظر الثقافة التي ألهمته قائله، فحينئذ يتهيأ لنا أن نفهم النص فهماً صحيحاً. أما حين نجرد النص من إطاره التاريخي، ثم ننظر

ص: 160

اليه بغير الروح التي صدر عنها فان امانا بالفهم الصحيح يكون عقيما لأننا حينئذ لن نحصل على الفهم الصحيح ابداً.

وهنا يكمن الخطأ الكبير الذي انزلق اليه من حسب نهج البلاغة صورة مصغرة للمسيحية في تحقير الحياة الدنيا و التنفير عنها. إن هؤلاء حينما ذهب بهم الوهم هذا المذهب كانوا على جهل بالمثل الأعلى للحياة في الاسلام، و كانوا على جهل بنظرة الروح العربية الأصيلة الى الحياة و الموت و المال من جهة ثانية، وكانوا على جهل بالواقع التاريخي الذي صدر فيه القسم الوعظي من نهج البلاغة من جهة ثالثة.

فعلينا لكي نفهم القسم الوعظي من نهج البلاغة فهماً صحياً أن نضى بفهم هذه الامور الثلاثة، وسيكون هذا سبباً في دراسة الواقع الاجتماعي في زمان الامام دراسة موسعة.

- 1 -

و نبدأ بالمثل الأعلى للحياة في الاسلام.

لقد عرفنا ان المثل الأعلى للحياة في الاسلام هو التقوى. وقد فهمنا أن التقوى هي الفضيلة في أرفع معانيها، وعرفنا ان الانسان المتقي هو الانسان الذي وعى وجود الله و أمره و نهيه في كل ما يلم به من فعل أو قول. و جعل من نفسه خلية إنسانية حية تعمل بحرارة و إخلاص على رفع مستوى الكيان الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدر في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيها شرع من أحكام.

هذا هو المثل الأعلى للحياة في الاسلام، فما الذي يحول بين الانسان و بين بلوغه؟

ص: 161

الذي يحول بين الانسان و بين بلوغ هذا المثل الأعلى هو أن تففر حياته من الشعور بالله كطاقة نفسية فاعلة، و يتبع ذلك بصورة حتمية أن يفقد الدين ماله من انر توجيهي في حياة الانسان، واذا فقد الانسان هذين (الشعور بالله والدين) لم تعد الجماعة التي يعيش فيها تعني بالنسبة اليه شيئاً، ولا يعود يستلهم في سلوكه سوى ذاته هو، والنتيجة الطبيعية لهذا هي أن يصبح إنساناً فردياً أنانياً.

اذا استوى وجود الانسان على هذا النحو كان بعيداً عن النقوى، وكان واقعه حائلا بينه وبين التقوى.

وقد قلنا إن وجه الفائدة في جعل التقوى مثلا أعلى للحياة هو اشتقاق مفهوم الطبقة الذي يستتبع حكماً تقويمياً لطائفة من الناس من التقوى بدلا من أن يشتق هذا المفهوم من الاقتصاد أو الحرب، وبذلك تكون الطبقات ظاهرة اجتماعية تمود على المجتمع بالخير بدلا من أن تكون تعبيراً حاداً عن التفسخ الاجتماعي.

فاذا عدنا لنرى واقع المجتمع الاسلامي في الوقت الذي ولي فيه الامام الحسكم ألفيناه مجتمعاً مريضاً منحرفا أقفرت ظمائر أفراده من الشعور بالله، وفقد الدين قوته الدافعة عندهم، و استشرت الروح القبلية فيهم وعاد المثل الأعلى للحياة عندهم المال والقوة.

ويقتضبنا فهم هذا الواقع أن ظلم بالاسباب التي أدت اليه.

* * *

ولي عثمان بن عفان الخلافة بعد عمر بن الخطاب فكانت خلافته إيذاناً بأقول سياسة و بزوغ عهد سياسي جديد، فلقد اتبع عثمان منذ ولي

ص: 162

الحكم سياسة خطرة في المال و الولايات، فقد طفق يهب خواصه وذوي رحمه ومن يمت اليه بنسب أو سبب الأموال العظيمة ويخصهم بالمنح الجليلة ويحملهم على رقاب الناس. وولى على البلدان الأسلامية شباناً من بني أمية لا يحسنون الحكم ولا السياسة، ذوي روح تسلطية عاتية لم ينل منها الاسلام لأن إسلام هؤلاء كان غشاء فقط ولم يخالط قلوبهم.

و هكذا كونت هذه السياسة طبقة أريستوقراطية من الاغنياء المترفين الذين لا تزال تعتمل في صدورهم القيم البدوية الجاهلية. وقد امتد نفوذ هذه الطبقة في خلافة عثمان امتداداً هائلا، فسيطرت على الحكم سيطرة مطلقة وحازت الاموال العظيمة التي أفائها الله على المسلمين، والتي كان المفروض فيها أن تذهب الى المعدمين والفقراء، وانتشرت هذه الطبقة في طول البلاد الاسلامية وعرضها حين فتح لها عثمان باب الهجرة والتنقل في البلاد الإسلامية.

والى جانب هؤلاء كانت تمة طبقة أخرى تتألف من الاعراب و أهل البادية و كانت القوى المسلحة في الدولة الاسلامية تتألف منهم، ينضم البهم من دخلوا في الاسلام من الامم الاجنبية، هؤلاء الاجانب و الاعراب، كانوا يلقون في زمن عثمان حيفاً كبيراً من طبقة الأريستوقراطيين الناشئة الطامحة الى مزيد من القوة و الاستعلاء بسبب ما يعتمل في نفوس أفرادها من قيم البداوة.

و كانت عاقبة ذلك أن تضخمت الفروق بين الطبقات تضخماً مرعباً من الناحية المادية و المعنوية.

وانقلبت الأثرة الى طغيان، و انقلب الحقدالى زئير، و تراكم الطغيان

ص: 163

حتى وجدرد فعلٍ طاغ في ثورة المظلومين الذين اثقلهم الظلم الفادح على حكومة عثمان وعلى ولاته، و كانت عاقبة ذلك كله قتل عثمان.

وجاء الناس الى الامام يطلبون منه ان يلي الحكم، ولكنه أبى عليهم ذلك، لا لأنه لم يأنس من نفسه القوة على ولاية الحكم وتحمل تبعاته، فقد كان عليه السلام على تمام الأهبة لولاية الحكم، كان قد خير المجتمع الاسلامي من أقطاره وخالط كافة طبقاته و راقب حياتها عن عن كتب و نفذ الى أعماقها، و تعرف على الوجدان الطبقي الذي يشدها ويجمعها.

و قد مكنه من ذلك كله المركز الفريد الذي كان يتمتع به من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو وزيره و نجيبه و أمين سره وقائد جيوشه و منفذ خططه ومعلن بلاغاته ... هذه المنزلة الفريدة التي لم يكن أحد من الصحابة يتمتع بها أعدته إعداداً تاماً لمهمة الحكم. و قد كان النبي يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلها به إعداده للمنصب الاسلامي ليصل اليه و هو على اتم ما يكون أهلية و استعداداً. ولقد غدا من نافلة القول أن يقال انه عليه السلام هو الخليقة الذي كان يجب ان يلي حكومة النبي في المجتمع الاسلامي.

وإذ لم يقدر له أن يصل الى الحكم بعد النبي فانه لم ينقطع عن الحياة العامة، بل ساهم فيها مساهمة خصبة، فقد كان ابو بكر ثم عمر ومن بعدهما عثمان لا یسعهم الاستغناء عن آراءه في السياسة والقضاء والحرب، وخاصة في خلافة عثمان فقد كان فيها على أتم الصلة بالتيارات التي تمخر المجتمع الاسلامي، لكن عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الامام يقدمه اليه لأن بطانة متعفنة كانت تحيط بهذا الخليفة.

فانت ترى أنه لم يأب الحكم لأنه لم يأنس من نفسه الفوة عليه،

ص: 164

وأنما أباه لأمر آخر: لقد كان يرى المجتمع الاسلامي وقد تردى فى هوة من الفوارق الاجتماعية التي ازدادت بعداً بسبب السياسة الغير الحكيمة التي اتبعها ولاة عثمان مدة خلافته، ولقد كان يرى التوجيهات الدينية العظيمة التي عمل النبي طيلة حياته على إرساء أصولها في المجتمع العربي قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس.

وكان عليه السلام يعرف السبيل الذي يردّ الاشياء الى نصابها، فانما صار الناس إلى واقعهم هذا لأنهم فقدوا الثقة بالقوة الحاكمة التي تهيمن عليهم ... فقدوا الثقة بهذه القوة كناصر للمظلوم وخصم للظالم فراحوا يسعون الى إقرار حقوقهم وصيانتها بانفسهم. و هكذا، رويداً رويداً انقطعت الصلة بينهم و بين الرموز المعنوية التي يجب أن تقود حياتهم. و السبيل الى تلافي هذا الفساد كله هو اشعار الناس أن حكماً صحيحاً يهيمن عليهم لتعود الى الناس ثقتهم الزائلة بحكامهم. ولكن شيئا كهذا لم يكن سهلا قريب الجنى فهناك طبقات ناشئة لا تسيغ مثل هذا، ولذلك فهي حرية أن تقف في وجه کل برنامج اصلاحي وكل محاولة تطهيرية، ولذلك ابي عليهم قبول الحكم، لأنه قدر - وقد أصاب - انه سيلاقي معارضة عنيفة من كل طبقة تجد صلاحها في أن يبقى الفساد على حاله.

لأجل هذا قال للجماهير يوم هرعت اليه تسأله أن يلي الحكم

دعوني والتمسوا غيري، فأنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت و المحجة قد تنكرت، واعلموا اني إن اجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ الى قول القائل و عتب العاتب، وان تركتموني فانا كأحدكم، ولعلي اسمعكم

ص: 165

واطوعكم لمن وليتموه أمركم، وانالکم وزیراً خير لكم مني اميراً.

ولكن القوم أبوا عليه إلا أن يلي الحكم، وربما رأى عليه السلام انه اذا لم يستجب لهم فربما توثب على حكم المسلمين من لا يصلح له فيزيد الفساد فساداً، ورجا ان يخرج بالناس من واقعهم الاجتماعي التعس الذي أحلتهم فيه اثنتا عشرة سنة مضت عليهم في خلافة عثمان الى واقع انبل واحفل بمعاني الاسلام، وهكذا استجاب لهم، فبويع خليفة المسلمين.

ولقد دأب، بعد ان بويع على بيان الهدف الذي ابتغى من وراء ولاية الحكم، وذلك بان يكون في مركز يمكنه من أن يصلح ما يفتقر الى الاصلاح من شؤون الناس، وان يرفع عن المظلومين فادح ما رزحوا تحته من ظلم، فنراء يقول:

... أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر: وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، واسقيت آخرها بكأس أولها، ولأ لفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

وقال:

اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا إلتماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأ من المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك.

وقال:

ولكني آسى أن يلي أمر هذه الامة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا

ص: 166

مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا، فان منهم الذي قد شرب فيكم الحرام، وجلد حداً في الاسلام، وان منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ ...

لأجل هذا كله قبل عليه السلام أن يتولى الحكم.

وما أن بويع حتى عالنهم بسياسته التي ينتهجها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها، وقد عرفت أن هذه السياسة لم تكن شيئاً مرتجلا اصطنعه لنفسه يوم ولي الخلافة، وانما كانت خططاً مدروسة ومنتزعة من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الاسلامي آنذاك، ومعدّة للسير بهذا المجتمع خطوت إلى أمام، ومهيئة لتنيل هذا المجتمع المطامح التي كان يحلم بها ويصبو إليها.

وقد كانت إصلاحاته السياسية تتناول ثلاثة ميادين: الادارة، والمال، والحقوق.

ففيما يرجع الى سياسة الادارة عزل ولاة عثمان على الامصار، هؤلاء الولاة الذين كانوا السبب المباشر فى الثورة لظلمهم و بغيهم وعدم درايتهم بالسياسة واصول الحكم، وولى من قبله رجالا ذوي دين وعقل و بعد نظر وحسن و تدبير.

وفيما يرجع الى الحقوق نادى بان المسلمين جميعاً سواء في الحقوق والواجبات في الاسلام، وقد كانت هناك فروق حقوقية جاهلية نسفها الاسلام ولكن عهد عثمان أعادها، فقريش ذات الماضي العريق في السيادة على القبائل العربية عادت في زمن عثمان فاتلعت جيدها وأعادت تلك الفروق، فغدا أناس ليس لهم ماض مشرف بالنسبة الى الاسلام ونبيه يتعالون على

ص: 167

أعظم المسلمين جهاداً وسابقة وبلاء، لمجرد أنهم قرشيون ... هذه الفروق المعنوية الجاهلية حطمها الامام، فقال:

الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، و القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه.

و فيما يرجع الى سياسة المال وقف موقفاً صارماً، فصادر جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الاموال العظيمة لطبقة الأريستوقراطيين، وقد صرح بذلك في أول خطبة خطبها بعد خلافته، فقال:

أيها الناس! إني رجل منكم، لي مالكم و علي ما عليكم، واني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما أمر به، ألا وان كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاء من مال الله، فهو مردود في بيت المال فان الحق لا يبطله شيء، ولو وجدت قد تزوج به النساء، وملك الاماء، وفرق في البلدان لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق.

وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله في توزيع الاموال هي التسوية بين الفاضل و المفضول، لأن النظر في هذا الامر الى الحاجة لا الى الفضل، ولأن الفضل لين عرضاً يشرى ويباع، ولأن الفاضل يجد عند الله وعند الناس ثواب فضله، ولكن أبا بكر وعمر فضلا بعض الناس على بعض، واذا كانا قد فضلا فأنهما قد فعلا ذلك بحكمة أما عثمان فقد فضل دون مقياس للتفضيل، وبذلك زاد التفاوت بين الطبقات فحشاً وبعداً، فلما جاء الامام عليه السلام عدل عن هذه السياسة وسوى بين الناس في العطاء

ص: 168

و بقدر ما كانت هذه السياسة مصدر جذل وفرح للطبقة المستضعفة الفقيرة الرازحة تحت اثقال من الظلم كانت ايضا صفعة مدوية لقريش و لغرورها وخيلاتها واستعلائها على الناس، فمن أين لها بعد اليوم أن تحوز الاموال العظيمة دون أن تتفرج شفنان تقولان لها: من أين لك هذا؟ وكيف لها بعد اليوم أن تستعلي وتستبد وتفرض على الناس في ظل الاسلام سلطانها عليهم في الجاهلية؟ وكانت هذه السياسة صفعة مدوية لزعماء القبائل العربية الذين كانوا يقبضون ليسكنوا، وكانت هذه السياسة صفعة مدوية لمن مالاً عثمان وولاته على سياستهم من أهل المدينة وغيرهم. وكانت صفعة مدوية لولاة عثمان المعزولين المجردين من السلطان الذين ينتظرهم مصير لا يحسدون عليه عند الحاكم الجديد بما ظلموا وأساءوا السيرة وجاروا على الرعية.

كل هؤلاء أورثهم كرباً شديداً مصير الحكم الى علي بن ابي طالب، و لعلهم قد فكروا أن يساومره على بذل طاعتهم له بأن يغضي عما سلف منهم ويأخذهم باللين والهوادة فيها يستقبلون، فأرسلوا اليه بعض زعماء بني أمیة يقول له:

يا أبا الحسن ... أنك قد وثرتنا جميعاً ... ونحن نبايعك على أن تضع عنا ما أصبناه من المال أيام عثمان ... (1)

ولكنه أبى عليهم ذلك وأصر على أن يحملهم على الخطة التي يريد، والتي يرى الصلاح في اتباعها.

* * *

*******************

(١) شرح النهج ١٧٢/٢

ص: 169

وقد حدث ردّ الفعل عند هؤلاء في حرب الجمل، وما حرب الجمل في واقعها إلا تدبيراً دبره من لم يماش الحكم الجديد أهواءهم من بني أمية وغيرهم من ولاة عثمان إلا ان الحركة في صميمها كانت أموية خالصة.

وقد كان القائمون بهذه الحركة بريدون أن يعطفوا أزمة الحكم الى جانبهم بعد أن صفرت أيديهم من مساعدة الامام لهم على ما يبتغون. ولكن الأمام عليه السلام قضى على الحركة في مهدها، ففر من أخطأه السيف ممن تولى كبرها الى الشام.

* * *

وانتقل الامام، بعد أن فرغ من أمر الجمل، بحكومته من الحجاز الى العراق، واتخذ الكوفة قاعدة الحكمة. والكوفة يومئذ مركز الثقل في المجتمع الاسلامي الناشيء.

وفى العراق استمر الامام على سياسته المالية والادارية التي استنها لنفسه وأذاعها في الناس، فالمساواة في الأعطية أمر مفروغ منه، ومؤاخذة العمال على الصغيرة و الكبيرة ومراقبتهم واذكاء العيون عليهم أمر لازم لا معدى عنه.

وكانت العناصر الاجنبية المسلمة كثيرة في الكوفة، فكانت تضم عدداً كبيراً من الفرس وغيرهم ممن دخلوا في الاسلام وكان هؤلاء يحتلون طبقة اجتماعية منحطة في نظر العرب ذوي النزعة القبل، وكان من العسير على العربي أن يتصور أنه مسار في القيمة لهؤلاء ولذلك كان يطمح الى أن يتميز عليهم، ولكن الامام عليه السلام لم يلق بالا الى كل هذا فالمساواة مبدأ شامل يسري على كل فرد عربياً كان أو عجمياً

ص: 170

لقد كان حرياً بهذه السياسة الواعية لآلام الشعب وآماله، الطامحة الى اسعاده، أن تنجح لو لم تماكها سياسة أخرى. ففي الوقت الذي قامت فيه حكومة الامام في الكوفة قامت حكومة أخرى في الشام برئاسة معاوية ابن ابي سفيان، وبينما كانت حكومة الامام تسير على نهج إسلامي خالص، أي انها كانت تحقق للرعية أقصى قدر مستطاع - في ظروفها الاقتصادية والسياسية والعسكرية - من الرفاهية والأمن و العدالة، كانت حكومة معاوية تسير على نهج آخر في الحكم يقوم على شراء الظائر بالمال وتفضيل طائفة على حساب حرمان طائفة أخرى، وتعطيل السبل وتعكير الأمن، ولم يكن معاوية يبالي في ان ينزل بدافعي الضرائب من الزراع والتجار أفدح الظلم في سبيل ان يحصل منهم على مزيد من المال يغذي به أطماع حفنة من رؤساء القبائل العربية يؤلفون جهازه العسكري المتأهب دائما لقمع أي حركة تحررية تقوم بها جماعة من الناس.

وقد أتت هذه السياسة أكلها جيداً في العراق، فقد كان رؤساء القبائل في العراق يرون سياسة معاوية فيعجبون بها، فهي تلبي ما يطمحون اليه من غنى ووجاهة وارتفاع قدر بينما هم لا يجدون شيئا من هذا في حكومة الامام. وقد كان المجتمع العراقي قبلياً، فلكل قبيلة رئيسها و أشرافها وتفاليدها وأمجادها، والرجل ذو الروح القبلية، كما يثبت علم الاجتماع عالمه قبيلته فهو ينفعل بانفعالاتها ويطمح الى ما تطمح اليه ويعادي من تعادي وينظر الى الامور من الزاوية التي تنظر منها هذه القبيلة وذلك لأنه يخضع للقيم القبلية التي تدين بها هذه القبيلة.

وتتركز مشاعر القبيلة كلها في رئيسها، فالرئيس في المجتمع القبلي هو

ص: 171

المهيمن والمرجع والموجه الاوحدي للقبيلة كلها. فيكفي أن يقول الرئيس كلمة لتصبح قانون القبيلة كلها ويكفي أن يتخذ موقفاً ليكون موقف القبيلة كلها ولا أحسب أن من يتعالون على هذا الأمر يتجاوزون أصابع اليدين كثيراً.

هذه هي طبيعة المجتمع القبلي، وقد أثر الإسلام على هذه الطبيعة بلا شك ولكن التأثير لم يكن حاسماً، فقد وقعت في الحقب السياسية التي خلفت النبي أخطاء سببت عودة الروح القبلية على أشدها.

واذا عرفنا هذا وسعنا أن نفهم الأثر البعيد الذي كانت تتركه سياسة معاوية في المجتمع العراقي أبان ذلك العهد، فهذا المجتمع قبلي يدين لرؤسائه با لطاعة المطلقة، وهؤلاء الرؤساء يطمحون الى مزيد من القوة والسلطان والغنى والمنزلة الاجتماعية ولا يجدون شيئا منها عند الامام بينما هم يجدونها عند معاوية كما يشتهون.

ويقول هؤلاء الرؤساء إن حكومة معاوية خير من حكومة علي وهي خير لهم بلا اشكال، وتسمع القبيلة كلها مقالة زعيمها فتدين بها، غير واعية أن حكومة معاوية ان كانت خيراً لرؤسائها فحكومة على خير لها، وذلك لأن هذه تستن المساواة سياسة لها بينما تستن تلك سياسة الاثرة، وهم لا يعون هذا لأنهم ينظرون الى الامور بالمنظار الذي ينظر به الرؤساء.

على هذا النحو كانت سياسة معاوية تؤثر في العراق، وقد وعى ذلك جماعة من المحصلين للامام فقالوا له: «ياأمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الاشراف من العرب و قريش على الموالي و العجم واستمل من تخاف خلافه من الناس (1) ناظرين الى ما يصنع معاوية،

*******************

(١) شرح النهج ١ / ١٨٢

ص: 172

ولم يكن رؤساء القبائل العربية في العراق يطمعون باكثر من هذا، ولكن الامام اجابهم قائلا:

أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجما، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله.

وقد صارت الشام ملاذاً لمن يغضب عليه الامام الخيانة خانها في عمله أو جريرة جرها على نفسه ومطمحاً لمن يريد الغنى والمنزلة فيجد عند معاوية الاكرام والرفعة والعطاء والمنزلة الاجتماعية وقد كتب مرة الى عامله سهل ابن حنيف في شأن قوم من أهلها لحقوا بمعاوية.

وانما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون اليها، وقد عرفوا العدل و رأوه، وسمعوه و وعوه، و علموا أن الناس عندنا أسوة فهربوا الى الأثرة فبعداً لهم وسحقاً.

وقد وصف عليه السلام سياسة معاوية بقوله:

طبيب دوار بطبه، قد احكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة اليه: من قلوب عمي وآذان صم والسنة بسكم، متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة ...

وهكذا فعلت سياسة معاوية فعلها في مجتمع الامام، فتمالاً رؤساء أصحابه على الخيانة، وتخاذلوا عن نصره فلا يجيبونه حين يدعوهم ولا ينصرونه حين يستنصرهم.

وقد ظهر اثر هذه السياسة على أشده بعد صفين، فين انتهت مهزلة التحكيم كما شاء دهاء عمرو بن العاص و غباء ابي موسى الاشعري أوسوه نيته

ص: 173

دأب معاوية على إرسال جيوش صغيرة سريعة الى البلدان الداخلة فى حكم الامام فتضرب ضربتها وتقتل وتنهب وتروع الآمنين دون أن يعترضها معترض فاذا ما دعا الامام رؤسا، أصحابه الى اللحاق بها تقاعسوا عنه وصموا أسماعهم دونه، وأظهر مصاديق هذه الخيانة تجلت يوم سير معاوية جيوشه الى مصر فقد دعا الامام رؤساء اصحابه الى انجاد محمد بن ابي بكر قبل ان تفوت الفرصة وتملك عليهم مصر فلم يجبه منهم مجيب حتى اذا سبق السيف العذل خرج اليه منهم جيش متذائب عدته ثلاثة آلاف كأنهم يساقون الى الموت وهم ينظرون كما وصفهم عليه السلام.

وقد كان عليه السلام يعرف كيف يجعلهم الى صفه لو أراد، فيفضلهم ويعطيهم الاموال ويحملهم على رقاب الناس ويرضي غرورهم القبلي، ولكن ذلك كان ينقلب به الى جبار يدعم ملكه بالسيف بدل أن يكون أبا للرعية تدعم ملكه الغلوب، لقد قال لهم مرة:

... وأني لعارف بما يصلحكم و يقيم أودكم: لكني لا أرى إصلاحكم با فساد نفسی.

هذا هو الواقع الاجتماعي و السياسي الذي كان عليه مجتمع الامام و من الجلي ان مجتمعاً يمارس حياته الاجتماعية و السياسية على هذا النحو مجتمع بعيد عن التقوى بعداً شاسعاً، فالتقوى والقبلية شيئان متضادان، والتقوى و نصرة الباطل شيئان متضادان، و التقوى وحب الاثرة و التكبر شيئان متضادان.

هذا هو الواقع كيف كان بسع الامام أن يعدّ له، هل كان عليه ان يجاري أهواه أصحابه فيبذل لهم ما تطمح اليه أنفسهم؟ لقد قال:

ص: 174

أتأمرونني ان اطلب النصر بالجور ... هل يقتلهم؟ ان ذلك كفيل بإحراج مركزه وإثارة الناس عليه. هل ينفيهم؟ ان ذلك يدفعهم الى المجاهرة بولائهم لمعاوية وبذلك يجرون وراء هم قبائلهم.

لقد كان آمن المواقف معهم ابقاؤهم تحت سمعه وبصره، ان قعدوا عن نصرته لا يستطيعون نصرة عدوه. ثم حاول أن يبدل نظرة الناس اليهم ويبدل نظرتهم الى هذه المطامح التي يطمحون البها بوسيلتين. الأولى وقد كان يتوجه بها إلى الرجل العادي وهي محاربة النزعة القبلية فقد كان عليه السلام يعلم ان قوة هؤلاء الرؤساء مستمدة من ايمان قبائلهم بهم فاذا تزعزع هذا الايمان لم يعد لهم من قيمة. وأما الوسيلة الثانية فهي الموعظة، وهو يبين فيها للرؤساء أن ما يطمحون به وهم من الوهم، وان حاضر هم خير لهم من دنيا يصيبونها عن طريق الخيانة و الغدر ونصرة الباطل، وسنرى ان الالوان الوعظية فى نهج البلاغة تدور حول هذا القطب، وقد كان يتوجه بهذه المواعظ ايضاً الى الافراد العاديين الذين يخشى من أن يفتنهم رؤساؤهم بتحبيب دنيا معاوية إلى أنفسهم.

ولعل هذا يفسر كثرة تكرار الامام لمواعظه فقلما ترى خطبة من خطبه خالية عن الموعظة فقد كان يقصد من وراء هذا التكرار أن يثبت توجيهاته في ضمائرهم لنكتسب هذه التوجيهات قوة الطاقة الشعورية فيأمن زيغهم وانحرافهم.

هذا عن الحالة السياسية والاجتماعية التي كانت تعود عصره عليه السلام وعن صلتها بالقسم الوعظي من النهج

راجع في تعليل طلبه للحكم وسياسته ٤6/١ - ٤٧ و 5٩ و ١١٠ و

ص: 175

١٨6 و ٢١٧ و: 2 / 72 و 80 و 133، و: ١١٣/٣ - ١١5 و ١٢٣ - ١٢٤، و: ٤/٤ - 6 و 5٩.

وراجع في ذمه لاصحابه وتبرمه بهم

٧٩/١ - ٨١ و ٨٤ - ٨٨ و 91 - ٩٤ و ١٠٢ - 105 و 111 - 112 و ١٤٣ - ١٤٤ و ١٤٤ - ١٤6.

2/ 9 - ١١ و ٢٩ و ٣٢ و 6٠ - 6١ و 71 و 161 و 187 - 189 و 196 - 197.

3/ 24 - ٤5 (القاصعة) و 197 - 198.

4/ ١5٢ - ١5٣. وراجع 2/ ٣٢ - ٣٤ و ٧٣/٤ - ٧٤

- ٢ -

في الخلق (1) العربي الأصيل جنبة جديرة بالتنويه حقيقة بالشرح لأنها مفتاح كثير من الخلائق العربية الكريمة. هذه الجنبة التي عنيت هي الواقعية، كما يفهمها العربي ويسير على ضوئها في الحرب ومنع الجارو نصر الضعيف وبذل المال وطلب اللذة.

إن الموت حتم على كل انسان ومصير امكل حي. وموعد الموت مجهول غامض فلا يدرى متى يحل وبأزف، وكما يدخل في الظن أن يكون يعيداً يدخل في الظن كذلك أن يكون قريباً. وماذا بعد الموت؟ انه القبر

*******************

(1) فكرة هذا الفصل مقتبسة من الاستاذ عبداللطيف شرارة في كتابه: روح العروبة، من فصل قيم ادار فيه الحدث حول ظاهرة الكرم العربي وقد نقلنا عنه الشواهد الشعرية الاربعة الاولى وما بقي منها نقلناه عن كتاب البخلاء للجاحظ.

ص: 176

والوحدة والوحشة. و المصير الى القبر لازم فلا مفر منه ولا معدى عنه والدنيا ...؟ أليس التقلب طبعاً أصيلا فيها؟ أليس التلون ملازماً لها؟ فقد ينقلب الحال بالعزيز الى الذل وبالغني الى الفقير وبالصحيح الى المرض وبالسعيد الى الشقاء.

واذا كان هذا كله حقاً فلماذا اصدّ النفس عن اللذة حين تشتهي اللذة؟ ولماذا الفرار من الحرب حين تستعر الحرب؟ ولماذا إمساك اليد عن بذل المال حين يفد صاحب الحاجة الفقير و صاحب الغرم الثقيل؟ ان أيامنا على الأرض معدودة، ونهايتنا بعد الحياة الموت وبعد الموت القبر و بعد ذلك النسيان والفراغ، فلماذا لا نمتع أنفسنا بلذتها ولماذا نمسك أيدينا عن صنع وجود كريم لنا يبقى بعد ذهابنا في قلوب الناس وعلى ألسنتهم بما نصنع من خير و بما نسدي من معروف؟

ان العجز كل العجز والحرق كل الخرق ان يتمرد انسان على واقعه فيظن الخلود لنفسه، ويدفعه ذلك الى إمساك يده عن البذل وإمساك نفسه عن الحرب والظن عليها بلذتها.

هذه النظرة الواقعية ليست شيئاً مرتجلا و انما هي نتاج تفكير يفلسف الحياة والموت وتقلب الانساب بينهما، وهي اكثر ما تكون شيوعاً في الشعر العربي.

إسمع طرفة بن العبد كيف يقول فى تعليل اسرافه في انفاقه و اسرافه في ملاذه، وعدم إمساك يده عن البذل وعدم إمساك نفسه عن اللذة:

أرى قبر نجام نخيل بماله *** كقبر غوي في البطالة مفسد

ألا أيهاذا اللامي أحضر الوغى *** و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟

ص: 177

فان كنت لا تسطيع دفع منيتي *** فدعني أبادرها بما ملكت يدي

ويقول يزيد بن الحكم الثقفي وهو ينصح ابنه:

ما بخل من هو للمنون *** وريما غرض رحیم؟

وبرى القرون أمامه *** همد وا كما همد الهشيم!

وحاتم الطائي يقول لزوجته:

أمادي ما يغني الثراء عن الفتى *** اذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر؟

أماوي إن يصبح صداي بقفرة *** من الأرض لا ماء لدي ولا خمر

تري أن ما انفقت لم يك ضربي *** و أن يدي مما مخلت به صفر

وأياس بن القائف يقول:

يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم *** وترمي النوى بالمقترين المراميا

فاكرم أخاك الدهر مادمتها معاً *** كفى بالممات فرقة وتنائيا

وقال النمر بن تولب:

وحثت على جمع ومنع ونفسها *** لها في صروف الدهر حق كذوب

وكان رأينا من كريم مرزإ *** أخي ثقة طلق البدين وهوب

شهدت وفاتوني وكنت حسبتني *** فقيراً إلى أن يشهدوا وتغبي

أعاذل ان يصبح صداي بقفرة *** بعيداً ناني صاحبي وقربي

تري أن ما أبقيت لم أك ربه *** وأن الذي أمضيت كان نصيبي

وذي ابل يسعى ويحسبها له *** أخي نصبٍ في رعيها ودؤوب

غدت وغدا رب سواه يسوقها *** وبدل احجاراً وجال قليب

وقال ايضاً

قامت تباكي ان سبأت لفتية *** زقاً وخابية بعود مقطع

وقريت في مقرى قلائص اربعاً *** و قريت بعد قرى قلائص اربع

ص: 178

اتبكيا من كل شي هین *** سفه بكاء العين ما لم تدمع

فاذا اتاني اخوتي فدعيهم *** يتعللوا بالعيش أو يلهوا معي

لا تطردبهم عن فراشي انه *** لابد يوماً أن سيخلو مضجعي

هلا سألت بعاد ياء وبیته *** و الخيل والخمر التي لم تمنع

وقال الحارث بن حلزة:

بينا الفتى يسعى ويسعى له *** تاح له من أمره خالج

يترك ما رقحّ من عيشه *** يعبث فيه همج هامج

لا تكسع الشول بأغبارها *** انك لا تدري من الناتج

وقال الهذلي:

إن الكرام مناهبوك المجد كلهم فناهب

أخلف وأتلف، كل شيء ذرّ عنه الريح ذاهب

وقالت امرأة:

أنت وهبت الفتية السلاهب *** وابلا يحار فيها الحالب

وغنماً مثل الجراد الهارب *** متاع أيام وكل ذاهب

وقال تميم بن مقبل:

فأخلف و أتلف انما المال عارة *** وكله مع الدهر الذي هو آكله

هذه الواقعية هي في العربي خلق أصيل كما رأيت. وقد جاء الاسلام فأكدها وهذبها وسما بها، ووجهها وجهة اجتماعية. فاذا كان الموت ضربة لازم علينا، وكنا نعتقد بان وراء دنيانا هذه دنيا أخرى أعظم وأحفل وأنبل أو دنيا أخرى أنكد وأجفى وأبلغ في الايذاء فلماذا لا نعدّ العدة لرحيلنا؟ ولماذا يلهينا حاضرنا الحقير عن مستقبلنا المرقوب؟ ولماذا التكالب

ص: 179

والوحشية؟ ولماذا نصرّ على اخذ الدنيا عن طريق الختل والغدر؟ ولماذا نصر على ظلم اخواننا من الناس في سبيل ان نزيد ذهبنا المكدس درهماً جديداً؟ ولماذا نباغض اخواننا في الدين والانسانية والوطن في سبيل عرض حقير فنفسد حياتنا على أنفسنا و نفسد حياة اخواننا و نعيش غرباء لا تجمعنا عاطفة ولا تصل بين قلوبنا رحمة ولا يتألق في أعيننا الأخوانناحب ... آلا يكفينا أن الموت سيفرق بيننا؟ لأ ... لا ...، أكرم أخاك الدهر ما دمتها معاً.

هذه الواقعية الوادعة المحببة وهذا الشعور الانساني الفياض الدافق كانا غريبين عن نفوس الناس وقلوبهم في مجتمع العراق أيام الامام عليه السلام، وقد كان الامام يعمل على إعادة الشعور بها الى النفوس، وسنجده في بعض الالوان التي احتواها القسم الوعظي من كلامه ينعى على الناس تركها ويحضهم على الرجوع إليها والصدور في سلوكهم عنها.

وثمة لون آخر من كلامه عليه السلام ربما لا يسمى وعظاً، ولكنه يندد فيه بالناس على تركهم لهذا اللون من النظر الى الحياة والموت ويدعوهم الى الرجوع اليه.

قال:

... وقد اصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا ادباراً ولا الشر إلا اقبالا ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً ... اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفراً، أو متمرداً كان بإذنه عن سمع المواعظ و قرا ...

ص: 180

وقال:

... فمن آتاه الله مالا فليعل به القرابة، و ليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير والعاني، و ليعط منه الفقير والغارم، فان فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا و درك فضائل الآخرة.

راجع:

1/ ٧5 - ٧٨ و ١١٤ - ١55

٢/ 4٢ و 5٩ و ٧٧ - ٧٩ و ٩٤ - ٩5 و ١5٩ - 160 و 162 - 163

- 3 -

لا يريد منا الامام عليه السلام أن نقطع أنفسنا عن دنيانا وان تحرمها لذات هذه الدنيا، وان نغل غرائزنا وشهواتنا عن الانطلاق. ان التحرر عن طريق الحرمان شيء عظيم و نبيل ولكن اكثر الناس لا يستطيعونه ولا يقوون على احتماله.

فها هو عليه السلام يقرر في احدى كلماته المضيئة الهادية عقم كل محاولة ترمي الى اقتطاع الانسان من واقعة: واقع جسمه وغرائزه و رغباته كانسان، وواقع حياته ذات المطالب و الحاجات، و واقع كينونته الاجتماعية. يقرر عليه السلام عقم كل محاولة ترمي الى اقتطاعه من هذا الواقع بالننكر لغرائزه ورغباته وحاجات حياته ولكن لماذا ...؟ لأن أسر هذه الغرائز والرغبات مودع في طبيعة الانسان ولا يسعه التفلت من أسرها إلا بالاستحالة الى ذات أخرى.

قال عليه السلام:

الناس ابناء الدنيا و لا يلام الرجل على حب أمة.

ص: 181

كنى بذلك عن ان دوافع الانسان الی اجابة حاجات نفسه و شهواتها مودعة فيه و اذا كانت مودعة فيه فهي جزء من كيانه وهي تسهم فى حبك جزء من نسيح وجوده الانساني، ولذلك فهو يحبها ويقبل عليها ويأخذ بحظ منها ولكن لا لوم عليه في ذلك فهو حينما يقبل عليها انما يلبي باقباله هاتفاً ملحاً لا قبل له بكنم صوته مهما أوتي من عزيمة ومضاء.

وهنا تأتي قصة عاصم من زياد شاهد صدق على ما نقول:

دخل عليه السلام على العلاء بن زياد الحارثي يعوده فلما رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسمة هذه الدار في الدنيا أما أنت كنت في الآخرة لها أحوج؟ و بلى ان شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو اليك أخي عاصم بن زياد. قال: وماله؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: علي به، فلما جاء قال:

يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك و ولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره ان تأخذها؟ انت اهون على الله من ذلك.

فقال عاصم: يا أمير المؤمنين: هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مطعمك ...؟ قال: ويحك إني لست كأنت، ان الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره.

ففي هذه القصة نرى الامام عليه السلام يلوم العلاء على سعة داره و يتخذ لومه سبيلا الى بيان وجوه الانتفاع بها فيشير الى أنه لا حرج على

ص: 182

المرء في ان يجمع بين الدنيا وكم فيمتع نفسه في الدنيا بمباهجها ويبلغ في الآخرة عليا الدرجات.

تم يؤنب عاصما على فعله حين هجر الدنيا ولبس العباءة، فبين له انه بفعله هذا أناني يعمل لنفسه، إذ أن جدوى عمله لو استطاعه و والاه لا ترجع إلا اليه، وأما غيره من الناس فلا يصيب منه نفعاً وخاصة أهله وولده وهم الصق الناس به، وبين أن من الخير له ان يجمع بين العمل لنفسه والعمل لغيره وان يجمع بين الدنيا و الآخرة. والطيبات ... هل حرمها الله؟ كلا ان الانسان مدعو لأن يصيب منها شريطة ألا يستغرق فيها على نحو يلهيه عن الغاية الرقيعة لوجوده.

وقال عليه السلام:

للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرمّ معاشه وساعة بخلي فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل. وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة المعاش، أو خطوة في معاد أو لذة في غير محرم

وقال عليه السلام:

خذ من الدنيا ما أتاك وتول عما نولى عنك فان أنت لم تفعل فاجل في الطلب

هذا موقفه من الدنيا: لا حرج على الانسان ان يطلب الدنيا ويسعى اليها ويصيب من لذاتها، ولكن عليه ان يطلب الدنيا من طريق الحل، ويصيب من لذتها ما يحل ويجعل تم لا يتهالك على الدنيا ولذاتها على نحو غير إنساني بحيث ينقلب من انسان ذي مشاعر نبيلة وامكانات رفيعة عالية

ص: 183

الى مجرد آلة ... آلة بشعة لجمع النقود وتكديسها لتنفق في وجوه غير انسانية. ان هذا ليس جديراً بالانسان أن يفعله، أجمل في الطلب لتعطي لنفسك حقها واربك حقه.

* * *

والفقر ...؟ ما هو موقف الامام منه؟

إن الامام ليكره الفقر و يستعيذ بالله منه، ويأسر الناس بالاستعاذة بالله منه وينعته باقبح النعوت قال عليه السلام:

الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة

الفقر يخرس الفطن عن حجته

الفقر الموت الأكبر

ألا وان من البلاء الفاقة: وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب. ألا وان من النعم سعة المال، و افضل من سعة المال صحة البدن، وافضل من صحة البدن تقوى القاب.

وقال لابنه محمد بن الحنفية:

يابني اني اخاف عليك الفقر فاستعذ بالله منه، فان الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت.

وان إنساناً ينعت الفقر بهذه النعوت لا يمكن ان يقال عنه انه يحبذ الفقر و يكره الغنى، ولقد كان عليه السلام يستعيذ بالله من الفقر ويسأله ان ينتيه فمن دعاء له عليه السلام:

اللهم من وجهي بالبار، ولا تبذل جاهي بالاقتار، فأسترزق طالبي رزقك، واستعطف شرار خلفك، وابتلى بحمد من اعطاني، وافتتن

ص: 184

بذم من منعني، وانت من وراء ذلك كله ولي الاعطاء والمنع انك على كل شيء قدير.

ومن دعاء له عليه السلام:

أللهم اني اعوذ بك أن افتقر في غناك، أو اضل في هداك، أو اضام في سلطانك، أو اضطهدوا لأمر لك و هكذا ترى انه عليه السلام يحارب الفقر حرباً لا هوادة فيها، ويحذر منه، ويستعيذ بالله ان يبتليه به.

ان الدنيا عنده جديرة بالاقبال عليها، والعمل فيها والاخذ بحظ من متعها ولذاتها، وان الفقر عنده أمر مذموم خطر، على الانسان ان يتخلص منه ويستعيذ بالله من بلوائه.

راجع:

3/ 80 - 81 و 92 و ١١5 - ٠١١6

4/ ٨٣ و 56 و 127 و 168 و 188 و 189 و 1٩٤ 0

- 4 -

واذ قد تم لنا أن فلم بالمثل الأعلى للحياة في الاسلام والواقع الاجتماعي الذي كان يعانيه الامام، والواقعية العربية التي احتضنها الدين ورأي الامام عليه السلام في الدنيا والآخرة والغنى والفقر، فلنأخذ سبيلنا إلى دراسة النم الوعظي من نهج البلاغة.

والقسم الوعظي على ضروب وألوان، ففيه مواعظ بالتحذير من اتباع الهوى وطول الأمل، واخرى بالحض على العمل قبل فوات الفرصة، وثالثة بالتذكير بالماضين، ورابعة بتقلب الدنيا.

ص: 185

ماذا يعني اتباع الهوى وطول الامل في الدنيا؟

أما اتباع الهوى فهو يعني ان الانسان يبني مشاريعه على أسس غير عقلية، ومن ثم فهي غير واقعية، وانما هي قائمة على نزوات وشهوات ضخمها الخيال. وأما طول الامل فيعني ان الانسان يغمض عینيه عن أعظم حقيقة هو لا بد ملاقيها وهي الموت.

وإذن فهذا اللون من الوعظ موجه الى الذين يتها لكون على الدنيا تهالكا خطراً يجرهم الى أمرين خطيرين أولهما تزييف الواقع الذي يحيونه، وهذا ما يسميه بطول الأمل، وثانيهما ضمور الحاسة الاخلاقية في النفس إلى حد يجعل الانسان ضعيفاً أمام رغائبه وأهوائه. ويترك الى هذه الرغائب والاهواء أمر صياغة مصيره.

قال عليه السلام:

أيها الناس، ان أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل. فاما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وأما طول الأمل فينسي الآخرة ... ألا وان الدنيا قد ولت حذاء فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء اصطبها صابّها ....

العمل للدنيا على نحو يوجب ضمور الحس الاخلاقي في النفس و على نحو يوجب تزيف الواقع وحسبان الخلود مما يوجب نسيان الآخرة والاندفاع في حياة مادية مجرد الانسان من معناه الانساني لتحيله الى مجرد آلة لجمع النقود - هذا العمل شركله، لأنه يفسد الشخصية الانسانية ويهبط بها، ولذلك فهو عمل منهي عنه، تم نبه الى أن طول الأمل والتزييف للواقع أمر لا مبر له فالدنيا سريعة «حذاء» وهي بالنسبة الى كل شخص، «لم

ص: 186

يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء فلماذا طول الأمل وما مبرره.

وهاتان الأفتان النفسينان، اتباع الهوى و طول الأمل، لا تحلان إلا في نفس الطرحت الواقعية العربية التي هذبها واكدها الاسلام. وقد كان الواقع الاجتماعي في زمن الامام يبعد بين الانسان وبين هذه الواقعية و ينأى به عنها.

وهذا النحو من العمل للدنيا يسبب النفسخ الاجتماعي، فهو لا يقتصر بآثاره الضارة على الفرد وحده، وانما يمتد بهذه الآثار الى المجتمع.

قال عليه السلام:

... قد غاب عن قلوبكم ذكر الاجال، وحضرتكم كواذب الامال فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة والعاجلة أذهب بكم من الآجلة. وانما انتم اخوان على دين الله، ما فرق بينكم الاخبث السرائر وسوء الظمائر، فلا تو ازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادون، مابالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه؟ ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم وقلة صبركم عما زوي منها عنكم، كأنها دار مقامكم، و كأن متاعها باق عليكم. وما يمنع أحدكم ان يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله. قد تصافيتم على رفض الأجل وحب العاجل وصار دين أحدكم لعقة على لسانه.

وقال عليه السلام:

... قد اصطلحتم على الذل فيما بينسكم، ونبت المرعى على دمنكم، وتصافيتم على حب الآمال وتعاديتم في كسب الاموال لقد استهام بكم الخبيث وتاه بكم الغرور.

ص: 187

أرأيت إلى هؤلاء الذين جمعتهم كية فوحدت غرائزهم وقواهم و مداركهم ثم جمعهم الدين و الوطن فوحدا آمالهم وآلامهم واهدافهم ومطامحهم كيف جعلهم العمل للدنيا، على نحو جنوني، يفقدون أجلّ ميزاتهم الانسانية فلا يتوازرون ولا يتناصحون ولا يتبادلون، واستحالت هذه النبالات فى أعماقهم الى غرائز ذئبية فحبتت سرائرهم و فسدت ضمائرهم و انفصمت عرى الود فيما بينهم، وانظر كيف ساقهم ذلك الى الحين الاجتماعي فيغضي أحدهم عن عيب صاحبه لأنه يخشى أن بواجهه بعيه.

وقد عرفت انه عليه السلام لا يتنكر لمن يعمل للدنيا على نحولا يلهيه عن الآخرة ولا يحيله إلى آلة جشعة لا تعرف معنى للشبع ولا للوقوف، وهو في هذا اللون الوعظي لا يدعو الى هجر الدنيا و انما يدعو الى التخفيف من الظراوة في طلبها ويدعو الى النظر اليها من زاوية الواقع وحدة.

وان طائفة من الناس تحيا هذا اللون البشع من الحياة المادية الخالصة التي وصفها الامام عليه السلام في النص الذي قدمنا البعيدة كل البعد عن المثل الأعلى للحياة في الاسلام، فهؤلاء الذين أقفرت ضمائرهم من الشعور بالله وصار دين أحدهم لعقة على لسانه قد انقلب كل منهم الى انانية تمشي فيتنكر لمجتمعه ويسير على هدى شهواته. وان العمل للدنيا على هذا النحو الذي يفقد الانسان أجل ميزاته لهو عمل جدير بان يحارب.

راجع: ١ / ١١5 - 116 و 181

٢/ ٢5 - ٢6 و 5٠ - 5١ و ٨5 - ٨6

٤ / ٨6 و ٩1

ص: 188

- 5 -

والتذكير بالماضين و بما عرض لهم من طوارق الدهر و نوازل الايام، وبما ألمّ بهم من نكبات وآلام وكيف ان كل ما نصبوا أنفسهم لجمعه من مال لم يفن عنهم شيئاً حين حل بهم الموت ... هذا التذكير بالماضين يتخذه الامام عليه السلام وسيلة الى تجسيم الواقع الذي يزيفه الناس ويفرون منه ويتمردون عليه.

و التاريخ عند العاملين الدنيا على نحو جنوبي ينقلب الى مادة للتسلية واللهو بدل ان يكون مستمداً للعبرة ومقيلا من العثرة، وينقلب أيضاً صدى ميتاً لكائنات لا تصلهم بها صلة ولا تشدهم اليها وشيجة فلا تثير مآسيه فيهم طائف حزن ولا تعدهم تجاربه بالبصيرة. ويحاول الامام في هذا اللون من مواعظه أن يصل ما انقطع بينهم وبين التاريخ بصلات الفكر والعاطفة، ووشائج العقل والقلب ليعود التاريخ في أنفسهم مادة غنية بالحياة والحركة فهي توجه وترشد وتمسك بالانسان عن الزيغ والانحراف.

قال عليه السلام:

... وخلف لكم عبراً من آثار الماضين قبلكم، من مستمتع خلاقهم ومستفسح خناقهم، أرهفتهم المنايا دون الآمال، وشد بهم عنها تخرم الآجال، لم يمهدوا في سلامة الأبدان ولم يعتبروا في أنف الاوان ... أولستم أبناء القوم و الاباء واخوانهم و الاقرباء؟ تحتذون أمثلتهم، و تركبون قدتهم، و تطأون جادتهم؟ فالقلوب قاسية عن حف عن حظها، لاهیة عن رشدها، سالكة في غير مضارها، كأن المعنيّ سواها وكأن الرشد في إحراز دنياها ...

وهكذا يقرر عليه السلام صلة التاريخ بهم، وانه ليس غريباً عنهم

ص: 189

فهو تأريخ ابائهم و امثالهم، ويقررا أیضاً ان هذا التاريخ مشغول عن عمله، فهو لا يقوم بدوره في صياغة حياتهم، لأنهم لا يزالون ينتهجون نفس الخطة التي انتهجها من قبل آباؤهم فكأن الدنيا عندهم غاية كل شيء ومنقطع كل غاية.

وقال عليه السلام:

... فقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال و حذر الافلال وأمن العواقب - طول أمل واستبعاد أجل - كيف نزل به الموت، نأزعجه عن وطنه وأخذه من مأمنه محمولا على أعواد المنايا يتعاطى به الرجال الرجال، حملا على المناكب و امساكاً بالانامل. أما رأيتم الذين يأملون بعيداً ويبنون مشيداً ويجمعون كثيراً كيف أصبحت بيوتهم قبوراً وما جمعوا بورا وصارت أموالهم للوارثين وأزواجهم لقوم آخرين.

واذن فلم يغن عن هؤلاء تزبيفهم لواقعهم وغرورهم بأنفسهم وحسبانهم ا أنهم خالدون. لقد دهمهم هذا الواقع وهم يحسبون أنهم في أمان، فهل الأغنت عنهم أموالهم وهل حصنتهم قصورهم؟ لا، لقد ذهبوا، فليكن لك فيما صار اليه أمرهم عبرة تدفعك الى اليقظة، وترخض عنك الغفلة.

ومن البين أن الامام عليه السلام في هذا اللون من مواعظه لا يريد الناس على أن يفروا من دنياهم ويتركوا العمل لها فقد رأيناه يكره هذا اللون من السلبية، إنما يريد إن يحملهم على أن ينظروا الى الحياة من زاوية الواقع وان يصدروا في سلوكهم عن هذه الفلسفة العربية الواقعية الوادعة المصيبة.

راجع: ١ / ٧١ - ٧٢ و 99 - 100 و 168 - 170 و 175 - ١٧6.

ص: 190

2/ ٤6 - ٤٨ و ٨٧ و ١٩4 - 196.

3/ ١١6 - ١١٨ و ١٧٤.

- 6 -

ذكر الامام عليه السلام أن طول الأمل ينسي الآخرة، ومن البين أن الانسان حين ينسى أن ثمة عالماً آخر سيصير اليه فانه يحصر جميع وجوه نشاطه في العمل لدنياه، ولا يتورع في عمله هذا عن سلوك أقبح الطرق الموصلة الى حيازة المزيد من المال و التمتع بالمزيد من القوة وهكذا يدفع طول الأمل الى اتباع الهوى الذي عرفه الامام بانه يصد عن الحق فهو يحمل صاحبه على ركوب كل شيء في سبيل الوصول الى ما يريد.

فاذا تمكن طول الأمل واتباع الهوى من نفس انسان حملاه على طلب الدنيا على نحو جنوني يجعله خطراً اجتماعياً وعلى نسيان العمل للآخرة

فى بعض الألوان الوعظية التي يحتويها القسم الواعظي من نهج البلاغة يحارب الامام عليه السلام هذا الانحراف ويدعو الغافلين عن مصيرهم الى العمل له. فاذا كان طول الأمل غروراً خادعاً وكان اتباع الهوى باطلا وكنا نعلم بأن المصير هو الموت، واننا سنصير بعد الموت الى دنيا أخرى نجزى فيها بما قدمناه من أعمالنا نثاب إن أحسنا وتؤخذ بجرائرنا إن كنا من ذوي الجرائر. واذا كان هذا كله حقاً فلماذا لا نقدم لا نفعنا ما نحرزها به غدا ونحن نعلم اننا حينذاك لا نملك أن نعمل شيئاً فاليوم عمل ولا حساب و غداً حساب ولا عمل، ونحن نعلم أن الموت قد يلم بنا في أي لحظة فلماذا التسويف؟

و من البين أنه عليه السلام لا يدعو الى ترك الدنيا و إنما يدعو الى العمل للآخرة

ص: 191

وكأن الامام يدعو إلى الجمع بين الآخرة و الدنيا، فهو لا ينهى العمل للدنيا وانما ينهى عن الاستغراق في هذا العمل بحيث ينسى الآخرة ويقفر ضمير الانسان من الشعور بالله وينقطع ما بينه وبين مجتمعه من أواصر الود والرحمة و ذلك كله يحول بينه وبين أن يبلغ المثل الأعلى في الاسلام.

قال عليه السلام:

فليعمل العامل منكم في أيام مهله قبل إرهاق أجله، وفي فراغه قبل اوان شغله، وفي متنفسه قبل ان يؤخذ بكظمه، وليمهد لنفسه وقدومه، وليتزود من دار ضعنه لدار اقامته

* * *

وما نشك في ان هؤلاء الذين كان الامام عليه السلام يدعوهم الى العمل الآخرة قبل فوات الفرصة كانوا قوماً يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويصومون رمضان، ويحجون البيت، فماذا كان يريد الامام منهم غير هذا؟

نعم، إن هؤلاء كانوا يأتون كل هذا وزيادة، وقد يحسب السطحيون ان هذا وحده كان لجعل الانسان فاضلا، ولكنه في ميزان الامام اضعف الإيمان. فهؤلاء الذين كان يتوجه اليهم الامام بكلامه هذا كانوا يصلون ويصومون ويحجون البيت ولكن القبلية كانت تعصف عصفاً شديداً، ولكن الاحقاد والمطامع كانت تدفعهم الى التناكر فيما بينهم وكانت تسل من ارواحهم كل خلق إنساني حميد، ولكن سياسة معاوية كانت تستهوبهم فتحملهم على الخيانة وتحملهم على الرضا بالذلة وتحملهم على ان يصيروا عبيداً، ولكنهم كانوا فرديين لا يأبهون للمجتمع ولا يحسبون لآلامه حسابا. كانوا غرباء عن هذه الخلائق ولذلك لم برض عنهم الامام

ص: 192

ولذلك استثارهم الى العمل للآخرة قبل فوات الفرصة، ولم يكن هذا العمل الذي اراده منهم صلاة ولا صوماً ولا حجاً فتلك امور كانوا يأتون بها ولا يقعدون عنها لقد كان العمل الذي اراده هو الفضيلة، هو ان يكون كل منهم خلية اجتماعية حية تكدح في سبيل خير المجموع، هو ان يكونوا احراراً فلا تستعبدهم الشهوات فتحملهم على الانحراف عن الحق ولا تستعبدهم الحياة فتحملهم على الرضا بها مسفةً حقيرة عارية من كل نبالة رفيعة وهدف عظيم. كان يريدهم أن يحطموا أصنام اللحم التي يعبدونها اعني ساداتهم و رؤسائهم ومن له عليهم سلطان لبخلصوا العبادة الله وحده

وقال عليه السلام:

« ... ان من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب ولها يرضى ويسخط أنه لا ينفع عبداً - وان أجهد نفسه وأخلص فعله - أن يخرج من الدنيا لاقياً ربه بخصلة من هذه الخصال لم يقب منها: أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه بهلاك نفس، أو يقر بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجة الى الناس باظهار بدعة في دينه أو يلقى الناس بوجهين، أو يمشي فيهم بلسانين إعقل ذلك فان المثل دليل على شبهه»

قال عليه السلام:

... ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظلمة ولا تداهنوا فبهجم بكم الادهان على المعصية. عباد الله إن انصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، وأن أغشهم لنفسه أعصاهم لربه، والمغبون من غين نفسه، والمغبوط من سلم له دينه، والسعيد من وعظ بغيره والشقى من

ص: 193

الخدع لهواه وغروره. واعلموا أن يسير الرياء شرك، ومجالة اهل الدنيا منساة للإيمان ومحضرة للشيطان - جانبوا الكذب فانه مجانب للإيمان ... ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الاعان كما تأكل النار الحطب، ولا تباغضوا فانها الحالقة، واعلموا ان الامل يهي وينسي الذكر فاكذبوا الامل فانه غرور وصاحبه مغرور.

في كل هذا لا يدع و الامام الى ترك الدنيا و الانعتاق من اسرها وإنما يدعو الى تناولها برفق ويدعو الناس الى ان يكونوا كائنات سامية تجمع الدنيا الى الآخرة فلا تمن في تلك إمعانا يلهبها عن الاستعداد لهذه ولا تفرق في هذه الى حد يعطل فيها شخصية الانسان.

راجع: 1/ 88 - ٩٠ و ١٣٤ - 137 و 176 - 177 و 178 - 179 و 179 - 180 و 191

7/2 و 118 و 128 - 131 و 171 - 172 و 202 - 203 0

٣/ 16 و ١٧ و 6٤ و ٧6 و 91 - 92 و 120 و 121 و 127 - 128

- ٧ -

والقسم الذي يعظ فيه الامام عليه السلام بتفلب الدنيا وعدم قرارها على حال هو اشد الألوان الوعظية، فيما يبدو، حلوكة وتشاؤما، انه يصف فيه الدنيا بالتقلب والمكر والخداع. ويشبهها بالحية السامة ويدعو الى الزهد فيها والانقطاع عنها.

ويلوح، في بادي النظر، ان الامام في هذا القسم يدعو الى ترك العمل للحياة ويدعو الى الاستراحة الى خيالات الموت والقبر، فيشل في الانسان الرغبة في الحياة والاقبال عليها، ويقصد به عن الجهاد من اجلها، ويحيله

ص: 194

الى انسان متذائب واهن القوی.

ولكن قليلا من التأمل والامعان كفيل بأن يبين سفاهة هذا الرأي وخطأه.

فقد سبق منا ان تعرفنا على رأيه في الدنيا والعمل لها فرأيناه يحبذ العمل لها والاقبال عليها والتمتع بطيباتها شريطة ألا يعقد به ذلك عن العمل لآخرته والاستعداد لها، وشريطة ألا ينقلب به العمل للدنيا الى وحش يصيب مجتمعه بالضرر في سبيل ان يزيد ثرائه، ورايناه لا يشجع الانقطاع عن الدنيا والاستغراق في العمل للآخرة وحدها، ويعتبر ذلك انانية لا يجمل بالرجل الكامل ان يمارسها، وسلبية لا تعبير إنساني سامياً فيها، يتبين ذلك كله في موقفه من العلاء بن زياد وأخيه عاصم.

ورايناه يجعل رايه في الدنيا والآخرة في هذه الفقرات:

للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم معاشه وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل و يجمل. و ليس للعاقل ان يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، او خطوة في معاد، او لذة في غير محرم.

هذا هو موقف الامام من الدنيا والآخرة، فهو يشجع على العمل الدنيا في غير إسراف، ويأمر بالعمل للآخرة ولكن في غير إعنات. وهذا هو الموقف الطبيعي المعقول من الدنيا والآخرة، فلا هو يقعد بالمجتمع عن تقدمه ولا هو يحيل الانسان الى آلة حاسبة فحسب.

ولكن هذا الموقف لا يلائم ما يقال عن هذا اللون من ألوان وعظه عليه السلام من أنه يدعو فيه الى الاستراحة الى خيالات الموت والقبر.

ص: 195

واذا شئنا أن نلتمس حلاً صحیحاً لهذا التنافي الذي يلوح بين رأي الامام في الدنيا وبين ما يبدو من هذا اللون الوعظي وجدنا منمتاح هذا الحل في وصفه للزهد و تعريفه له.

فالامام عليه السلام يعرض في هذا اللون الوعظي جملة من الحقائق التي لا مراء فيها بأسلوب وعظي أغني مثير للرهبة في النفس.

فهو يقرر في كلامه ان حياتنا بقدر ما تبدو رتيبة هي متقلبة في عنف و بقدر ما تبدو مسالمة هي نتربص في كتمان، وبقدر ما تبدو جميلة عظيمة فانها تنطوي على حفارات وقبائح كثيرة، ثم يكون ختامها الموت، وهو حتم علينا سواء أرضيناه أم كرهناه.

واذن فهؤلاء الذين يحسبونها مسالمة وادعة دائماً ويعتبرونها جميلة عظيمة دائماً، ويعتبرونها حلوة سائغة دائماً مخدوعون إذ لا واقع لما محسبون فهي في واقعها خليط من السعادة والشقاء والقلق والاطمئنان والشدة واللين، والامام عليه السلام يبتغي في هذا اللون الوعظي ان يعرفهم بواقعها ليزهدوا فيها. والزهد الذي يريده الامام غير الزهد في وعي العامة من الناس، فالزهد في وعي هؤلاء لا يعدو ان يكون موقفاً سلبياً من الحياة يشل في الانسان إمكانات الخلق والابداع عنده ويحيله الى انسان متذائب واهن. وكلمة زاهد في وعي هؤلاء تستدعي صورة كائن أقل ما يقال فيه انه عالة على المجتمع. أما الزهد عند الامام فهو تعبير آخر عن رأيه السابق في الدنيا والآخرة.

قال عليه السلام في صفة الزهد:

أيها الناس: الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع

ص: 196

عند المحارم، فان عزب ذلك عنکم فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم.

فقد رأينا أن طول الأمل ينسي الآخرة ونسيان الآخرة يدفع بالمرء إلى اتباع هواه، وعند ذلك يعود الانسان خطراً اجتماعياً لأن ذلك ينقلب به الى حيوان ذي غرائز طاغية لا كالج لها تطلب المزيد من كل شيء، فقصر الامل عبارة عن وعي الانسان لواقع حياته وان الموت مدركه الآن أو غداً. وهذا الوعى يمسك يده عن الظلم حين لا يستطيع يصل الى اغراضه إلا عن طريق الظلم، ويسل من نفسه الشره والمطامع والاحقاد. والشكر عند النعم، وهو الركيزة الثانية التي يقوم عليها الزهد عبارة عن فعل الخير واسداء المعروف الى الناس، فليس المراد من الشكر هنا الشكر باللسان لأن الشكر باللسان لا يقدم ولا يؤخر في رقي المجتمع وتقدمه. ان الشكر المراد هنا هو الشكر بالفعل. فهذا الذي يعرف الدنيا على واقعها زاهد فيها ولذلك فهو لا يمسك يده عن اصطناع المعروف لأنه يعي ان ما ينفقه في سبل الخير باق له عند الله وعند الناس. أما ما أمسك يده عليه فيصير الى غيره ليتمتع به. والورع عند المحارم وهو الدعامة الثالثة من دعائم الزهد نتيجة طبيعية لفهم الدنيا على واقعها، فاذا كانت الدنيا لا تستقر على حال وكانت خاتمتها الموت لماذا نتهالك عليها على نحو يذهب بما فيها من بهجة فتغدو سلسلة من القلق والتربص والخداع والآلام لماذا لا ناخذ منها بقدر، مترقبين نهايتها سيدة كانت أو شقية فلئن كانت سعيدة فستنقضي ولماذا لا نقضيها على نحو افضل ولئن كانت شقية فستنقضي ايضا ولماذا نزيدها شقاء وتعاسة. حسبنا ما تلقي منها.

ص: 197

هذا هو الزهد، فهل تجد فيه تنفيراً من الدنيا واقصاء عنها، لا، انه بالحري الموقف الصحيح من الدنيا بين موقف المتهالكين عليها على نحو جنزني وبين موقف المباعدين لها على نحو مرضي.

وقال عليه السلام:

الزهمد كلمة بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما أناكم)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد اخذ الزهد بطرفيه.

فأولئك الذين يملك عليهم البابهم فوات شيء كانوا يترقبون الحصول عليه لا يؤمن منهم أن يقارفوا الأثم في سبيل الحصول عليه، وهؤلاء الذين تمتلى أنفسهم بتصورات هذا الفائت لا يعود لديهم من فراغ النفس وصفاء الضمير ما يتيح لهم التسامي الى دنيا أرحب وأنبل واحفل بمثل الخير، وهؤلاء الذين يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم لا يستطيعون أن يشكروا الله على نعمته بافعالهم فليسوا والحال هذه ذوى فائدة للمجتمع.

إن الزاهدين هم الذين ينظرون الى الأمور نظرة واقعية فلا ملك عليهم البابهم فوات ما فاتهم ولا يعمي بصائرهم عن واقع حياتهم فرحهم بما أوتوا.

هذا هو الزهد الذي دعا اليه الامام أصحابه وأرادهم عليه، فهل فيه تنفير عن الدنیا؟ اللهم لا و إنما كما قلنا الموقف الطبيعي بين موقف المتهالكين على الدنيا على نحو جنوني والمباعدين لها على نحو مرضي.

هذا هو الزهد الذي يدعو اليه الامام عليه السلام في هذا القسم الوعظي من كلامه. وهو موقف يوازن بين حاجات الأنسان الجسمية والروحية

ص: 198

وهو موقف يجعل من الأنسان کائناً اجتماعياً ذا جدوى لمجتمعه ينفعه ويغنيه. ويجب أن نعي أن المتهالك على الدنيا، المعدوم من الشعور الأخلاقي، المجرد من الأنسانية، الغير الشاكر، وبعبارة وجيزة الغير الزاهد هو خطر على المجتمع وعالة عليه اكثر من خطر ذلك الزاهد الذي فهم الزهد فهماً خاطئاً فاتخذ من الدنيا موقفاً سلبياً مرضياً.

لأن غاية صنيع هذا انه لا يعمل، وانه يعيش عالة علی أهله وذويه أما ذاك فعمله انه يمتص دماء الفقراء بنشاطه الذي لا يعود على هؤلاء الفقراء في صورة خدمات اجتماعية.

ولا نريد أن تنكر أن هذا اللون من وعظ الامام يظهر الدنيا في صورة كالحة منفرة الى حد بعيد، ولكن هذا لا يدل على رأي الامام في الدنيا بقدر ما يدل على ان معاصريه الذين توجه اليهم بهذا الخطاب كانوا مغرقين في الدنيا إغراقاً خطراً دفعهم الى الخيانة: خيانة مجتمعهم وكيانهم السياسي، ودفعهم الى التناحر فيما بينهم، ودفعهم الى عبادة أصنام اللحم: رؤساء القبائل والزعماء، فانسان يمارس هذا اللون من الحياة لا يمكن انتشاله من واقعه لحظة يتملى فيها مصيره بعين بصيرة إلا بهذا اللون من التعبير والتصوير وقديماً قال علماء البلاغة: ان المخاطب كلما ازداد اغراقاً في الانكار حسن من المتكلم ان يمعن في تأكيد ما يقول.

و هؤلاء الذين كان الامام يتوجه بخطابه اليهم كانوا على هذا الحال أو قريبا منه فقد بلغ من تزييفهم لواقع حياتهم ان خانوا مجتمعهم فمالئوا مع معاوية وباعوه ضمائرهم بالمال، واشعلوا في هذا المجتمع روح القبلية التي دفعت بهیآ ته الى ان يقف كل منها موقفا تناحريا ذا عواقب وخيمة.

ص: 199

وإذن فليس في هذا اللون الوعظي تشویة للحياة الدنيا وابعاد عنها وذم لها اذا تناولها الانسان كما ينبغي ان يتناولها، فلم يصرف فيها إسراءا بحمله على الظلم وينقلب به الى حيوان خطر. وأنما هو كبقية الالوان التي قدمنا فيما سبق ينصح فيه بالنظر الى الدنيا كما هي لا كما تصورها لنا أوهامنا وأحلامنا، فاذا ما تم لنا فهمها دعانا الى العمل فيها على هدي هذا الفهم. وقد رأينا ان موقفه من الحياة هو الموقف الصحيح الذي يدعو اليه الاسلام، أما الوعاظ الذين أخذوا كلامه على ظاهره واما ناشئة الجبل التي انفعلت بايحاآت غربية فهم جميعا مخطئون في فهمهم للقسم الوعظي من نهج البلاغة لأنهم لم يلقوا بالاً إلى المثل الأعلى في الاسلام الذي أراد الامام أصحابه على الصعود اليه، ولم يلقوا بالاً إلى الواقع الاجتماعي الذي حمل الاحمام على ان يفيض في مواعظه هذه الافاضة ويعرض فيها هذه الألوان. ولم يعرفوا الواقعية العربية التي هذبها الاسلام والتي تعبر عن نظرة الامام الى الحياة والانسان.

وفي خاتمة هذه الدراسة نقدم بعض نماذج ه_ذا اللون الوعظي الذي أدرنا حوله هذا الحديث.

قال عليه السلام:

عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وان لم تحبوا تركها والمبلية لأجسامكم وان كنتم تحبون تجديدها، فانما مثلكم ومثلها كفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأموا علما فكانهم قد بلغوه، وكم عسى المجري الى الغاية أن يجري اليها حتى يبلغها، وما عسى ان يكون بقاء من له يوم لا يمدره، وطالب حثيث بحدوه في الدنيا حتى يفارقها؟

ص: 200

فلا تنافسوا في عز الدنيا فخرها ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها. فان عزها وفخرها الى انقطاع وان زينتها ونعيمها الى زوال، وضرائها وبؤسها الى نفاد، وكل مدة فيها الى انتهاء، وكل منة فيها الى انتهاء، وكل حي فيها الى فناء، أوليس لكم في آثار الأولين مزدجر وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر ان كنتم تعقلون؟ أولم تروا الى الماضين منكم لا برجعون؟ والى الخلف الباقين لا يبقون؟ أولستم ترون اهل الدنيا يصبحون ويمسون على احوال شتى فميت يبكى، وآخر يعزى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود، وطالب الدنيا والموت يطلبه وغافل وليس مغفول عنه، وعلى اثر الماضي ما يعضي الباقي.

ألا فاذكروا هادم اللذات ومنغص الشهوات وقاطع الأمنيات عند المساورة للاعمال القبيحة، واستعينها الله على أداء واجب حقه وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه).

وقال عليه السلام:

أما بعد فاني أحذركم الدنيا فانها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وتحببت بالعاجلة وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، نافدة بائدة، اكالة غوالة، لا تعدو - اذا تناهت الى امنية أهل الرغبة فيها والرضاء بها - أن تكون كما قال الله تعالى سبحانه: (كما انزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فاصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا) لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق في سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا ولم تظله فيها ديمة رخاء إلا

ص: 201

إلا هتنت عليه مزينة بلاء، وحرىّ اذا أصبحت له منتصرة ان تمسي له متكرة، وان جانب فيها اعذوذبواحاولي أمر منها جانب فأوبى، لا ينال امرؤ من غضاوتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعبا ولا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها. لا خير في شيء من ازوادها إلا التقوى.

راجع ١ / ١١٨ - ١١٩ و 125 - ١٢6 و ١٣٣ - ١٣٤ و ١6١ - ١6٣ و ١5٨ - ٠١5٩

٢/ ١٣ - ١٤ و ٢٠ و ٤٣ - ٤6 و 49 - 5٠ و 5٣ - 5٤ و ٨٤ و ٠١٠٠

3/ 22 - ٢٤ و 6١ و ١١6.

6٩/٤ - ٧٠ و 111 - ١٣١.

وصف الزهد ومعناه: ١5٧/١ - ١5٨ و: ٤/ ١٩٩ - ٢٠٠.

ص: 202

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.