البعد الفكري والتربوي في نهج البلاغة

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:غفاري، عبدالرسول، 1335 -

عنوان العقد:نهج البلاغه.برگزیده. شرح

عنوان المؤلف واسمه:البعد الفكري والتربوي في نهج البلاغة: دراسة هادفة لنصوص من کلام سیدالبلغاء (من الوجهةالادبیة والفکریة) / تالیف عبدالرسول الغفاري.

تفاصيل النشر:قم: موسسة انصاریان للطباعة والنشر، 1431 ق.علیها السلام 2010 م.علیها السلام 1389.

مواصفات المظهر:200 ص.

شابک:978 - 964 - 219 - 142 - 0

حالة الإدراج: فابا

لسان:العربية.

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق.. نهج البلاغه - نقد و تفسیر

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. نهج البلاغه - مسائل ادبی

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. نهج البلاغه - مسائل لغوی

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق.. نهج البلاغه - تربیت اخلاقی

شناسه افزوده:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق.. نهج البلاغه. شرح

تصنيف الكونجرس:BP38/02 /غ7 1389

تصنيف ديوي:297/9515

رقم الببليوغرافيا الوطنية:2 0 9 2 7 1 5

البعد الفكري والتربوي في نهج البلاغة

دراسة هادفة لنصوص من كلام سيد البلغاء من الوجهة الأدبية والفكرية

تأليف: الدكتور عبد الرسول الغفاري

الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر

الطبعة الأولى 1389 - 1431 - 2010

المطبعة: قدس

الكمية: 2000 نسخة

عدد الصفحات: 200 ص

حجم الغلاف: كبير

رقم الإبداع الدولي: 0 - 142 - 219 - 964 - 978 (ISBN)

جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر

مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر

جمهورية ايران الإسلامية

قم - شارع الشهداء - فرع 22

ص.ب 187

هاتف: 7741744 (251) (98) فاكس: 7742647

البريد الالكتروني: علیه السلام ansarian@noornet.net Int_ansarian@yahoo.com

www.ansariyan.org علیه السلام www.ansariyan.net

ص: 1

اشارة

البعد الفكري و التربوي في نهج البلاغة

دراسة هادفة لنصوص من كلام سيد البلغاء

(من الوجهة الادبيه و الفكرية)

تأليف

العلامة الدكتور عبد الرسول الغفاري

أستاذ مادة علوم القرآن في قسم الدراسات العليا

و عضو الهيئة العلمية بجامعة كاشان

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الانبياء وسيد المرسلين وعلى آله الطيبين الأطهار، و صحبه المنتجبين الأخيار و بعد ...

لقد اهتمّت المؤسسات العلميّة و الجامعات الاكاديمية والمراكز الثقافية والدينية في الجمهورية الاسلامية في ايران بتدريس اللغة العربية و آدابها، انطلاقا من كونها لغة القرآن الكريم. من هنا رحّبت كلية الاداب والعلوم الانسانية في هذه الجامعات في استقبال طلابها في قسم اللغة العربية، كما أولتهم رعاية فائقة خلال تخصيص وحدات دراسية تشمل المواد التالية: المكالمة العربية قسم المختبر الصوتي، علوم البلاغة علم النحو و الصرف، فقه اللغة النقد الادبي تاريخ الادب العربي، دروس من نهج البلاغة ودروس آخرى تكميلية.

ولمّا كانت بعض المواد الدراسية لم تتوفر فيها الكتب المنهجيّة اللازمة التي تنسجم مع الوحدات الدراسية لكل مادة، ثم من الصعوبة أن يختار الاستاذ مصدرا ما مع الاخذ بنظر الاعتبار المادة المقررة، و الساعات اللازمة، و الطرح الخاص لكل فن من حيث الحجم و المحتوى، لذا وجدت من الانسب أن أختار نصوصاً من كلام سيد البلغاء علیه السلام و أشرحها باسلوبي الخاص متَبنّيا الاسلوب المبسّط مع

ص: 5

اختيار المطالب النافعة التي تساهم في ثقافة طلّابنا الجامعيين في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، والحمد لله كانت ثمرة جهودنا هذه المحاضرات التي بين يدي طلّابنا الاعزّاء في ماده (نصوص من نهج البلاغه) وقد اخترت من خطب أمير المؤمنين علیه السلام (ستة) نصوص؛ النص الأول خطبتهُ في معرفة الخالق، تبدأ خطبته بقوله علیه السلام: (كل شيء خاضع له ...) و هي في توحيد الله وبيان قدرته وهي الخطبة رقم (106) من جمع الشريف الرضي، وقد وقع اختيارنا لها لكونها تشتمل على اصول الدين؛ التوحيد و العدل و النبوة، وهكذا تشتمل على أُصول المذهب (الامامة والمعاد)، وجعلناها في الفصل الأول، وأمّا الفصل الثاني فقد اخترنا خطبته التي تبدأ بقوله علیه السلام (بنا اهتديتم في الظلماء)، وهي تؤكّد على دور أهل البيت علیهم السلام في هداية الامّة والفصل الثالث اخترنا من خطبة له علیه السلام في (صفة المتّقين)، اما الفصل الرابع فخصّصناه بخطبته التي يشير فيها الى (صفة المنافقين)، وجعلنا الفصل الخامس مختصّاً بخطبته عند (دفنه لسيدة النساء فاطمة الزهراء علیها السلام)، وجعلنا الفصل السادس مختصّاً بخطبته (الشقشقية)، ثم

الفصل السابع و فيه (شذرات من غرر الحكم) و هي اربعة نصوص مختصرة:

كان اختيارنا لهذه الخطب و النصوص وفق منهج مدروس، ولما فيها من مواعظ ومفاهيم و اصول لا يمكن اغفالها، بل يحتاجها الطالب الجامعي و الاستاذ والحوزوي، بل سائر الناس في حياتهم العملية، فبالإضافة الى كونها مادة تدّرس في الجامعات الاكاديميّة و المعاهد الدينيّة، فهي نصوص اخلاقيّة و ادبيّة تستحق الاهتمام بشرحها وتدريسها وتعميمها في جميع المعاهد و الدراسات العالية.

و قد سلكنا منهجاً يُعين الطالب على فهم النصّ، حيث بدأنا بمتن الخطبة ثم اشرنا الى المصادر التي نقلتها - قبل الشريف الرضي و بعده - ، ثم تبعناهُ بشرح المفردات و تبيان معانيها، ثم ذكرنا الأوجه البلاغية، ثم شرحنا الخطبة بشكل

ص: 6

لا هو بالموجز المخل ولا هو بالمطوّل المُمِل. وختمنا البحث بذكر بعض حِكَم أمير المؤمنين علیه السلام راجياً الانتفاع بكل ما أوردناه، ومن الله التسديد وعليه الاتكال و هو حسبي و نعم الوكيل.

المؤلف

عبدالرسول غفاري

ص: 7

ص: 8

الفصل الاول

اشاره

من خطبة لها علیه السلام

يصف فيها عظمة الله و جلالة قدرته

اولها: (كل شيء خاضع له ...)

ص: 9

ص: 10

تسلسل الخطبة في مصادر النهج

اشاره

لتعميم الفائدة اذكر رقم تسلسل الخطبة في أهم الشروح لنهج البلاغة.

1 - شرح ابن ابي الحديد الخطبة تحت الرقم 108 (1)

2 - شرح ابن ميثم البحراني الخطبة رقم 106 (2)

3 - منهاج البراعة - لقطب الدين الراوندي المتوفّى سنه 573 ه- الخطبة رقم (3)

4 - شرح المجلسي، الخطبة رقم 109 (4)

5 - نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح الخطبة رقم 109 (5).

6 - منهاج البراعة - لميرزا حبيب الله الخوئي، الخطبة رقم (108) (6)

7 - نهج الصباغة - محمّد تقي التستري، الخطبة رقم (105) (7)6

ص: 11


1- انظر شرح ابن ابي الحديد 194/7
2- انظر: شرح ابن میثم 49/3
3- انظر: شرح الراوندي 461/1
4- انظر: شرح المجلسي 378/10
5- انظر شرح صبحي الصالح: 158
6- انظر: شرح الخوئي 306/7
7- انظر: شرح التستري 1 / 166

8 - مصادر نهج البلاغة و اسانيده عبد الزهرة الحسيني الخطيب، الخطبة رقم 107 (1)

9 - في ظلال نهج البلاغة، محمّد جواد مغنية، الخطبة رقم 107 (2)

كل شيٍ خاضع

(3)

وَ مِنْ خُطبَةٍ لَهُ علیه السلام في بيان قدرة الله و انفراده بالعظمة و أمر البعث

قدرة الله

كُلُّ شَيْ ءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ قَائِمٌ بِهِ، غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ. لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ، لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ، وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ، وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ، وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ. كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ. أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا [مُنْجِيَ] مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ. بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ. سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ، سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ مَا أَصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ، وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ، وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الْآخِرَةِ! 06

ص: 12


1- انظر: مصادر النهج للحسيني الخطيب 227/2
2- انظر: شرح مغنية 2 / 141
3- رقم الخطية: 106

الملائكة الكرام

مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.

عصيان الخلق

سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ، خَلَقْتَ دَاراً وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً، ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا وَ لَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا، أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ ءٌ مِنْهَا، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ وَ لَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ حَيْثُ لَا إِقَالَةَ [لَهُمْ] وَ لَا رَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ. فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ

ص: 13

وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ [يُنَعَّمُونَ] يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْ ءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ وَ يَتَمَنَّى أَنَ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ. فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ [فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ] فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ [أُوحِشُوا] أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ.

القيامة

حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ. فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ وَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ وَ قَرَنَ

ص: 14

النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى.

زهد النبي

قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا [مِنْ] عَنْ نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً وَ خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً.

أهل البيت

نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَة.

مصادر الخطبة

اشاره

* رواها ابن عبد ربه المالكي في باب الخطب من العقد الفريد 76/4.

* رواها الزمخشري في باب الملائكة في ربيع الأبرار.

* رواها الآمدي في صفة النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 15

صفة الخطبة وقائلها

في صفة هذه الخطبة قال ابن ابي الحديد من أراد أن يتعلم الفصاحة و البلاغة، ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض فليتأمّل هذه الخطبة، فإن نسبتها الى كلّ فصيح من الكلام - عدا كلام الله ورسوله - نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية؛ ثم لينظر الناظر إلى ماعليها من البهاء، والجلالة والرّواء، و الديباجة، وما تحدثه من الروعة و الرهبة والمخافة والخشية، حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمّم على اعتقاد نفي البعث و النشور لهدّت قواه و أرعبت قلبه و أضعفت نفسه و زلزلت اعتقاده فجزى الله قائلها عن الإسلام أفضل ماجزى به ولياً من أوليائه فما أبلغ نصرته له! تارة بيده و سيفه، و تارة بلسانه ونطقه، وتارة بقلبه وفكره! إن قيل وعظ وتذكير، فهو أبلغ الواعظين و المفسّرين، وإن قيل: عدل و توحيد، فهو إمام اهل العدل والموحدين (1).

وقال العلّامة المرحوم مغنية

إن هذه الخطبة اشبه بمسرحية ترسم حياة الإنسان وما يلاقيه في دنياه من حيرة ومتاعب وما يحلّ به وبأهله عند حضور الموت وبعده، ترسم هذه الخطبة الإنسان وتصوره في جميع مراحله رسماً رائعاً من كل وجه حتى كأن الإمام هو ذلك الإنسان الذي ذاق سكرات الموت، وحمل على الاعواد، وتوسد في القبر، وخرج منه للحساب، ورأى من الجنة والنار مارأى، ثم عاد إلى الدنيا ليخبر أهلها بما حدث معه بالذات ... (2)

ص: 16


1- شرح النهج: 303/7، طبع دار احياء التراث العربي، بيروت.
2- في ظلال نهج البلاغة محمد جواد مغنية: 156/2، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1972م.

صدر الخطبة

في صدارة المواضيع التي تطالعنا في نهج البلاغة هي مسألة التوحيد المتعلّقة بالخالق و ماوراء الطبيعة، و ربما نجد من بين خُطب الامام و رسائله و كلماته الحَكَمِيّة اكثر من خمسين مورداً تناول البحوث التوحيديه؛ منها بيان لآثار الصنع و الابداع الربّاني، فقدّم لنا امير المؤمنين علیه السلام في خُطبه جانبا من جانبا من ذلك الابداع فوصف لنا الخفّاش و الجراد و الطاووس و ...

و إذا اخذنا بنظر الاعتبار الشروط الزمانية و المكانية نجد موارد كثيرة في نهج البلاغة استخدم فيها الامام علیه السلام الجانب العقلي لبيان واجب الوجود وحكمته وقدرته وقيموته على جميع الكائنات، وأنه سبحانه الخالق المبدع المصوّر، وأنّ صفاته عين عين ذاته، لا زيادة ولا تغاير بينها ابدا، فهو منزّه عن الصفات السلبية، ومنزّه عن الجسمية، و الحركة و السكون و الزمان و المكان، والشبيه والشريك، والمحدودية، والمعدودية، والتغيير والتبدّل، والنوم واليقظة، وكل ما من شأنه الضد والنقيض، أنّه منزّه عن كل هذا وما يندرج فيه من صفة الحدوث والامكان.

ولكي يعرض الامام علیه السلام كل هذه البحوث و المواضيع للفكر الانساني اتخذ من التأمل والتحقيق في العالم المحسوس طريقا لإقامة البرهان في اثبات الخالق المطلق الذي لا يقبل التجزأة ولا التكثير وهذا أحد الطرق الذي التجأ اليه الامام علیه السلام لبيان كمال الخالق، وحكمته وتدبيره وعلمه المطلق، وهذا الطريق نفسه و بذلك الاهتمام نجده في القرآن الكريم؛ أنّه النظر في (آيات الله)؛ النظر في المخلوقات وآثار الصنع، وما ذلك النظر إلا للوصول الى المعارف التي اراد القرآن من الإنسان أن يعرفها.

إنّ ما نفهمه من النظر في آثار الصنع أنّه يثبت لنا بشكل دقيق وواضح أنّ لهذا

ص: 17

العالم قوة مدبّرة حكيمة وعليمة، وأنّ هناك يداً قديرة تدير شؤون هذا العالم، و أنّ و راء هذا العالم الدنيوي - الطبيعة المرثية - عالم آخر لا يمكن أن نتحسّسه بالتجربة و المشاهدة، لأنّه من الأمور الغيبيّة، والمدبّر لتلك الأمور هو الله سبحانه المستجمع للكمالات، بل هو الكمال المطلق.

و من الطرق التي اعتمدها امير المؤمنين علیه السلام في البرهان على وحدة الخالق هو الجانب العقلي، و هذا يستلزم من الفرد التفكر و التدبّر في مفاهيم القرآن الكريم. و لو اخذنا مثالاً واحدا لادركنا عمق المعنى فيما يقوله اميرالمؤمنين علیه السلام في المسائل التوحيديه، فيقول علیه السلام: إن وحدة الذات لواجب الوجود ليست وحدة عددية بل هي نوع آخر من الوحدة غير قابلة للتكرار و التكثير، أيّ لا يمكن أن تعرض له ثانٍ. وهذا المعنى لم يأتِ به أيّ عالم أو فيلسوف قبل اميرالمؤمنين ولا بعده، بل إنّ كلامه علیه السلام جاء مطابقا للرؤية القرآنية، قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَ الآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)

وفي نهج البلاغه ترى البعد الفكري بشكل واضح في بيان المسائل التوحيدية مما يدفعنا أن نقول: إنّه فكر لم يسبقه سابق، ولم يلحقه لاحق قال: «الأحد بلا تأويل عدد».

و قال علیه السلام: «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا».

وقال علیه السلام: «لا تصحبه الاوقات ولا ترفده الادوات سبق الاوقات كونه، والعدم وجوده، والإبتداء ازله».

معاني المفردات

اشاره

لم تخلق الخلق لوحشة؛ الوحشة الخلوة مع الهم.

ص: 18

مفزع كل ملهوف؛ فزع التجأ و المفزع الملتجاً. قال تعالى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (1)

الملهوف المتعطّش المظلوم الذي يستغيث واللهف: الحزن.

إليه منقلَبُةُ: أي إلى الله مرجعه و مصيره. قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (2)

ولا يفلتك: لا ينفلتُ منك.

فلا أمد لك: أي لانهاية لك. فلا محيص عنك: أي لاعدول عنك. حاص عن الشي أي عدل وهرب، والمحيص: المهرب.

الناصية: الشعر المترسل في مقدم الرأس أي شعر الجبهة، و قال الأزهري: منبت الشعر. قال تعالى: ﴿مَا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا ...) (3)

نسمة: أي ذي روح أو ذي نفس.

ما اصغر كل عظيمةٍ في جنب قدرتك: كل شيء يتناهى في الصغر إلى عظيم قدرة الله سبحانه، قال تعالى: ﴿إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (4)

الهول: الشيء العظيم.

ما أسبغ: ما أكمل.

المهين: الضعيف، الحقير، ويريد به النُطفة.

المنون: الدهر. والريب صَرْفَهُ، أي لم تفرّقهم صروف الزمان (أي الموت).

تشعّب بمعنى شعب، و تشعّبت اغصان الشجرة أي تفرقت. .

ص: 19


1- النحل: 53
2- السجدة: 11
3- هود: 56
4- ابراهيم: 19 و 20.

كنه الشيء: غايته و حقيقته. خفي الشيء: أي انستر. حقرت الشيء و احتقرته استحقرته أي استصغرته، و حقّرته صغّرته، والشيء الحقير: أي الصغير.

زرى عليه عابَهُ، و الازراء التهاون بالشيء.

البلاء: يكون نعمة و يكون نقمة، و يتعيّن الأول باضافة الحسن إليه، أي ما عبدوك إلا شكراً لنعمتك عليهم.

المأدُبة: الطعام الذي يؤدب إليه الناس، أي يدعى إلى أكله، و هو يصنع في عرس ونحوه، و المراد منها هنا نعيم الجنة. أعشى بصره: اعماه. خرقت: مزّقت.

وَلِه؛ من الوله: الرجل إذا تحيّر من شدّة الوجد. على الغرّة، بكسر الغين بغتة و على غفلة.

ولوجاً: دخولاً، ولج الموت في اعضائهم: أي دخل فيها الموت لفتورها، و ذلك بذهاب الحياة والقدرة والشهوات عنها.

اللّب: العقل (الفكر).

اغمض: لم يفرّق بين حلالٍ و حرامٍ، كأنّه اغمض عينيه فلايميّز.

المصرح: خلاف المشتبه وهو الظاهر البيّن.

تبعاتها بفتح ثم كسر: ما يطالبه به الناس من حقوقهم فيها، وما يحاسبه به الله من منع حقّه منها وتخطّى حدود شرعه في جمعها، والتبعات جمع التبعة وهو الاسم.

المهْنَأ والهني بمعنى: من هنأت الطعام: أي مهنّأته وهو اللذيذ السائغ بلا تنغيص. قال تعالى: (كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيناً بِمَا أَسْلَفْتُمْ ....) (1)

المرء قد غفلت رهونُهُ: أي هلكت نفسه بها، و ان المرتهن استحقه اذا لم يفكّه الراهن فى الوقت المعيّن.

و بمعنى اقرب: إنّ الراهن اعوزته القدرة على تخليص نفسه. وهذا كناية عن 4

ص: 20


1- الحاقة: / 24

تعذّر الخلاص.

أصحر له: من أصحَر إذا برز إلى الصحراء، أي على ماظهر له و انكشف من امره.

الغبطة: من الفرح وهو التمنّي مثل ما عند الغير.

خالط لسانُه سمعه: شارك السمع اللسان في العجز عن أداء وظيفته.

يردّد طرفه يكرّر النظر

التياطاً: التصاقاً به. الاسعاد: الاعانة

مخطّ الأرض: مكان الدفن كناية عن (القبر)، يخطّ اوّلا ثم يحفر.

زورته: زيارته.

أماد السماء: حرّكها علي غير انتظام، و روي: أمار. و مار يمور: إذا جاء وذهب.

فطرها: أي شقّها، صدعها.

ارّج الأرض: أي حرّكها مع رجيج وصوت زلزلها.

أرجفها: جعلها مضطربة، و الرجفة: الزلزلة الشديدة.

نسفها: قلعها. دك: أى دقّ.

إخلاقهم: من قولهم: ثوب خَلق أي بالٍ (قديم) و المراد: أن البِلى يشملهم كما يشمل الثياب البالية.

ثم ميّزهم لما يريد: إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَ امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (1)

الخبايا: جمع خبيّة، وهي الشيء المستور.

انتقم من هؤلاء: اقتصّ منهم.

لا تنوبهم الأفزاع: تنوبهم: تنتابهم. الأفزاع مفردها الفزع بمعنى الخوف.

ظعن: بمعنى سار وارتحل

الأخطار: الاشراف على الهلاك. 59

ص: 21


1- يس: 59

اشخصه: أزعجه. وشخص بمعنى خرج من موضع إلى غيره.

قرن النواصي بالاقدام: كناية عن الاغلال تجمع الاعناق الى الأقدام.

سرابيل القطران: السربال: القميص. القطران: شيء أسود لزج منتن يطلى به الابل.

و قيل هو دواء محرق يتخذ من شجر العرعر يطلى به الإبل الجرباء.

المقطّعات: كل ثوب يُقطّع كالقميص والجبة ونحوها. بخلاف مالا يقطّع كالإزار والرداء. وقيل المقطعات: قصار الثياب و مقطعات النيران: أي ثياباً منها.

باب قد أطبق: أي اغلق.

الكَلَب: الشدّة وهي كناية عن هيجانها. يقال: كَلَبَ الدهر على أهله إذا الحّ عليهم واشتد.

لَجَبٌ: الصياح؛ الصوت المرتفع.

لهب ساطع: أي عالٍ.

قصيف هائل: صوت كأشد ما يكون.

ولا تفصم كبولها لا تفصم: لا تنقطع. وتفصم من الفصم وهو كسر الشي من غير ابانة. الكبول: القيود. مفردها كَبْل

.

حقّر الدنيا: صغّرها. وبالتخفيف أي استصغرها.

أهون بها: لم يعتد بها ولم تكن عزيزة عليه، و هوّنها: اذلّها.

زواها: قبضها.

الرياش: اللباس الفاخر والزينة.

مُعذِراً: مبيّناً لله حجةً تقوم مقام العذر في عقابهم إن خالفوا أمره.

مُختلَفُ الملائكة: محل اختلافهم أي ورود واحد منهم بعد الآخر، فيكون الثاني كأنه خَلَف للأوّل و هكذا.

ص: 22

ينابيع الحُكم: أي الحكمة. وروي بكسر الحاء و هي جمع حكمة.

مضامين مقتبسة من القرآن الكريم

بلاغة أمير المؤمينن علیه السلام لا تنفكَ عن المعاني القرآنية، بل إنّ الكثير من عباراته الشريفة تعود إلى جملة من الآيات البيّنات، منها:

قال علیه السلام: كل شيء خاضع له - و تروى خاشع - استفاد من الآية الكريمة وآيات أخر - (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (1)

و قال علیه السلام: (و كل شيء قائم به) استفاد من قوله تعالى:

﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (2)

و قال علیه السلام: (غنى كلّ فقير) استفاد من قوله تعالى:

(وَ لِلَّهِ خَزَائِنُ السَّماوَاتِ وَ الْأَرْضِ) (3) بل في العبارة اشارة الى آيات عديدة.

وقال علیه السلام: (وعزّ كل ذليل) تنبؤك العبارة الى قوله تعالى:

(أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (4)

وقال علیه السلام: (وقوّة كل ضعيف) في العبارة تلويح الى قوله تعالى:

(وَمَا بِكُم مِّن نُّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (5)

ويشهد لجميع ما تقدم قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ3

ص: 23


1- النحل: / 49
2- الرعد / 33.
3- المنافقون: / 7.
4- النساء: / 139.
5- النحل: / 053

قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (1)

و قال علیه السلام: (من تكلّم سمع نطقه، ومن سكت علم سرّه)

في عبارته اشارة الى قوله تعالى: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ (2)

وهكذا اشارة الى قوله تعالى: (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرُّ وَأَخْفَى) (3)

وقال علیه السلام: (ومن عاش فعليه (رزقه) فى العبارة تضمين لقوله تعالى: ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ...) (4)

و قال علیه السلام: (ولا يسبقك من طلبت) تضمين لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ) (5)

و قال علیه السلام: (ولا يفلتك من اخذت) فيها تضمين لقوله تعالى: ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزِ مُقْتَدِرٍ) (6)

وقال علیه السلام: (ولا ينقص سلطانك من عصاك) في قوله تضمين لمعنى قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحْزُنُكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) (7)

و قال: (ولا يزيد فى ملكك من أطاعك) في عبارته تضمين لمعنى الآية 6.

ص: 24


1- آل عمران / 26 و 27.
2- الرعد / 10.
3- طه /7.
4- هود: /6.
5- الرعد / 11.
6- القمر: / 42.
7- آل عمران / 176.

الكريمة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (1) وكذا قوله تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (2)

و قال علیه السلام: (كل سرّ عندك علانية) فى العبارة تضمين لمعنى الآية الكريمة:

(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)

(3)

وقال علیه السلام: (و كل غيب عندك شهادة) في العبارة تضمين لمعنى قوله تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (4)

و قال علیه السلام: (وأنت المنتهى لا محيص عنك) في عبارته تضمين لمعنى الآية: (وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) (5)

و قال علیه السلام: (ولا منجي منك إلا إليك) في كلامه تضمين لمعنى الآية: (وَظَنُّوا أَن لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) (6)

و قال علیه السلام: (بيدك ناصية كل دابّة) في كلامه تضمين لمعنى الآية: ﴿ مَا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (7)

و قال علیه السلام: (و ما أهول ما نري من ملكوتك، وما أحقر ذلك في ما غاب عنا من سلطانك)، في كلامه إشارة إلى آيات عديدة تكشف عن عظمة الخالق و قدرته المطلقة و لا يعجزه شيء. قال تعالى: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ6

ص: 25


1- فصلت: / 46.
2- نمل:40
3- هود: /5
4- الانعام / 73.
5- النجم: / 42.
6- التوبة: / 118.
7- هود /056

الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (1)

قوله علیه السلام: (حتى إذا بلغ الكتاب أجله والأمر مقاديره) فيه تضمين لقوله تعالى: (وَ إِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا تُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (2)

قوله علیه السلام: (أماد السماء و فطرها) فيه تضمين لقوله تعالى: ﴿ إِذَا السَّماءُ أنفَطَرَتْ) (3) أو من قوله: (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (4) أو قوله تعالى: (السَّماءُ مُنفَطِرُ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (5)

قوله علیه السلام: (و أرجّ الأرض و ارجفها) فيه تضمين لقوله تعالى: ﴿إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً) و هكذا من سورة النازعات قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (6)

قوله علیه السلام: (وقلع جبالها ونسفها) فيه تضمين لقوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً)(7). ومثله في سورة الواقعة والمزمل.

قوله علیه السلام: (وغل الأيدي إلى الأعناق) فيه تضمين لقوله تعالى: ﴿ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (7) و مثله في سورة يس: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (8). 8

ص: 26


1- الطلاق: / 12.
2- الحجر: / 021
3- الانفطار / 1.
4- الطور: /9
5- المزمل: / 18
6- النازعات: / 6 و 7.
7- غافر / 71 - 72
8- یس / 8

قوله علیه السلام: (و قرن النواصي بالأقدام) فيه تضمين لقوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) (1)

قوله علیه السلام: (وألبسهم سرابيل القطران) فيه تضمين لقوله تعالى: ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ

* سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (2)

قوله علیه السلام: (فى عذاب قد إشتدّ حرّه وباب قد أطبق على أهله) فيه تضمين لقوله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمَّ أُعِيدُوا فِيهَا) (3)

الأوجه البلاغية

(غني كل فقير)

أطلق عليه تعالى لفظ الغنى، وهو مجاز إذ أطلق اسم السبب على المسبب. ولابدّ أن يحمل الفقر على ما هو أعم من الفقر المتعارف وهو مطلق الحاجة، كما أن الغنى هو سلب مطلق الحاجة.

(بيدك ناصية كل دابة)

الناصية منبت الشعر واطلاقها على الشعر مجاز من باب تسمية الحال باسم المحل.

(ثم حملوه إلى مخط في الأرض)

المخط: موضع الخطّ، كناية عن القبر يخطّ أولاً ثم يحفر. .

ص: 27


1- ابراهيم: / 41.
2- ابراهيم: / 49 - 50.
3- الحج: / 20.

28

(خلقت داراً و جعلت فيها مأدبة ثم أرسلت داعياً)

في لفظ الدار استعارة للجنة، ولفظ المأدبة للشهوات، والداعي إليه النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وربما قيل لفظ الدار استعارة للإسلام لانّ الدين يجمع اهله ويحميهم كالدار، والإستعارة الثانية وجهها أنّ الجنة مجتمع الشهوات ومنتجع اللذات كالمأدبة، ثم في النص ثمانية منصوبات كلها تمييز للمأدبة.

جاء في الخبر المروي عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «إن الله جعل الإسلام داراً، والجنة مأدبة، والداعي اليها محمداً صلی الله علیه و آله و سلم».

(اقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها)

استعار لفظ الجيفة للدنيا، و وجه المشابه أنّ لذات الدنيا ومُتَعَها في نظر العقلاء واعتبار الصالحين منفور عنها ومهروب منها ومستقذرة كالجيفة، واستعار لفظ الإفتضاح للاشتهار بإقتنائها وجمعها والخروج بها عن شعائر الصالحين، و وجه الإستعارة أنّه لما كان الإقبال على جمع الدنيا و الإشتغال بها عن الله من اعظم الكبائر و المساويء المتعارف قبحها لا جرم أشبه الإشتهار بجمعها و أنكشاف الحرص عليها بالإفتضاح.

و كنّى بأكلها (الجيفة) عن جمعها.

(ومن عشق شيئاً أعشى بصره)

استعار لفظ البصر لنور البصيرة ملاحظة لشبه المعقول بالمحسوس، ولفظ الإعشاء لظلمة الجهل ملاحظة للشبه بالظلمة العارضة للعين بالليل. واسناد الإعشاء إلى الدنيا يحتمل أن يكون حقيقةً لما يستلزمه حبّها من الجهل والغفلة عن أحوال الآخرة. و يحتمل أن يريد بالبصر حقيقة، ويكون لفظ الإعشاء

ص: 28

مستعاراً لعدم استفادتهم بأبصارهم عبرة تصرفهم عن حبّ الدنيا إلى ملاحظة أحوال الآخرة.

(فهو ينظر بعين غير صحيحة)

كنّي بعدم صحتها عما يلزم العين غير الصحيحة من عدم الإنتفاع بها في تحصيل الفائدة. واستعار لفظ المرض للداء الأكبر وهو الجهل استعارة لفظ المحسوس للمعقول.

(فهو يسمع باذن غير سميعة)

كنّي بذلك عن عدم إفادتها عبرة من المواعظ و الزواجر الإلهية.

(قد خرقت الشهوات عقله)

استعار لفظ التخريق لتفرّق عقله في مهمات الدنيا ومشاغلها، و وجه الإستعارة أنّ العقل إذا استعمل فيما خلق لأجله من اتخاذ الزاد ليوم المعاد، والإستدلال منها على وجود الصانع، وما ينبغي له من تعميق الإيمان في النفس، فانّه يكون منتفعاً بهذا العقل واماإن استعمله في شهوات الدنيا فسوف يلازمه الهم والأسف على فوات تلك الشهوات، ويلزم الحرص على جمع المال بايّ طريق كان، فهذا عقله كالثوب المخرّق الذي لا ينتفع به صاحبه.

(و أماتت الدنيا قلبه)

استعار لفظ الإماتة لقلبه، و وجه المشابهة خروجه عن الإنتفاع به الإنتفاع الحقيقي كالميت لا ينتفع به.

ص: 29

(و ولهت عليها نفسه)

الضمير في (عليها) يعود إلى الدنيا، وكنّي بالوله عن شدة المحبة لها، واطلقه مجازاً تسمية الشيء بما هو من غاياته.

(فهو عبد لها)

استعار لفظ العبد لكونه محبّها والمتجرد لتحصيلها، فإن كانت في يده اقبل عليها بالحفظ والإعمار وإن زالت عنه أنصبّ إلى تحصيلها، فهو كالعبد لها بل أخس حالاً.

(ازداد الموت فيهم ولوجاً)

استعار لفظ الولوج لما يتصوّر من فراق الحياة لعضوٍ عضو، فأشبه ذلك دخول الجسم في جسم الآخر.

(والعبء على ظهره)

استعار لفظ العبء للآثام التي تحملها النفس، وفي لفظ الظهر استعارة ترشيحية، إذ استعار لفظ المحسوس للمعقول.

(فهو يعضّ يده)

كناية عمّا يلزم ذلك من الأسف و الحزن والندم على تفريطه في جنب الله حيث انكشف له حال الموت انقطاع سببه من الله قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) (1)

هكذا العاصي المتمرّد على ساحة الرب يتحسّر على ذلك التفريط كما قال تعالى: 7

ص: 30


1- الفرقان: / 27

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (1)

(وألبسهم سرابيل القطران)

استعار لفظ السرابيل للهيئات البدنية المتمكّنة من جواهر نفوسهم. وجه المشابهة اشتمالها عليها وتمكّنها منها كالسربال للبدن و نسبتها إلى القطران إشارة إلى شدة استعدادهم للعذاب.

(مقطّعات النيران)

اشارة إلى تلك الهيئات التى تمكّنت من جواهر نفوسهم ونسبتها إلى النار لكونها ملبوس اهلها، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابُ مِن نَّارٍ ﴾ (2)

(والمرء قد غلقت رهونه)

فيه استعارة تمثيلية، والغرض تشبيه حال هذا المرء المحجوب عن الترقى إلى مدارج الكمال الغير المتمكن من الوصول إليها بجمع تلك الأموال بحال من غلقت عليه أمواله المرهونه في مقابل دين المرتهن في عدم امكان وصوله إليها ومحجوريته عنها، أو أن رهونه استعارة لبعض ما فعله من الأعمال الصالحة، و ذكر (الغلق) ترشيح وتشبيه تلك الأعمال بالرهن باعتبار عدم تمكّنه من الإنتفاع بها و محجوبيّته عنها بما جمعه من الأموال فصارت تلك الأموال حاجبة مانعة عن انتفاعه بها بمنزلة دين المرتهن المانع عن تصرف الراهن في العين المرهونة الموجب لحجره عنها وعن استفادته بها، وإنما صارت تلك الأموال سبباً للحجب .

ص: 31


1- الزمر: / 56.
2- الحج: / 19.

والمنع عن الإنتفاع لكون حق الناس مقدماً على حق الله، لذلك كان أول عقبات القيامة موضوعة للحكم بين الناس وأخذ المظالم. والله العالم بحقائق الأمور.

(في نار لها كلب ولجب)

استعار لأوصاف النار المحسوسة المستلزمة للهيبة والخوف حسّاً للنار المعقولة التي هي في الحقيقة أشدّ - نستجير بالله منها - وإنما عدل إلى المحسوس للغفلة عن صفات تلك النار وعدم تصور اكثر الخلق لها إلّا من هذه الأوصاف المحسوسة.

(لا يظعن مقيمها)

كناية عن التخليد وهذا في حق الكفار.

(ولا يُفادَى أسيرها)

لفظ الأسير و الفدية استعارة.

(ولا تفصم كبولها)

لفظ الكبول استعارة لقيود الهيئات البدنية المتمكّنة من جواهر نفوس الكفّار، فكما لا ينفصم القيد الوثيق من الحديد ولا ينفكّ المكبّل به كذلك النفوس المقيّدة بالهيئات الرديئة البدنية فهي لا تنفكّ عمّا يصيبها من العقاب المؤبّد فلا خلاص من العذاب للزوم الملكات الرديئة لأعناق نفوسهم.

شرح الخطبة

اشاره

جاء في النص المتقدّم بيان لأهم الأمور التي ينبغي على كل فرد أن يعي ما له

ص: 32

وما عليه من الواجبات و الفرائض، وفي مقدّمتها الجانب العقائدي، وهو توحید الله سبحانه وتعالى، وتنزيهه عن كل الصفات السلبية.

في الفقرات الأولى عبارات تؤكد على توحيد الله وتنزيهه وتعظيمه، ولو أنعمنا النظر فيها لوجدنا هناك صفات ثبوتية، وأخرى سلبية، قد أشار اليها اميرالمؤمنين.

امّا الصفات الثبوتية فهي عشرة:

أولاً: خشوع كلّ شيء له. والخشوع في الجوارح والقلب كما في قوله تعالى:

(وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) (1)

وقوله تعالى: ( ... خُشْعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ) (2)

وقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...) (3)

هذا في الإنسان، وفي الجماد بل سائر المخلوقات نوعٌ من الخشوع لله سبحانه، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ...) (4) وقوله تعالى: ﴿ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةٌ ...) (5)

نستخلص من مجموع الآيات الكريمة المتقدّمة أنّ الخشوع يصحبه الخوف و الإذعان، وأنّ فاعله يرى أن من يخشع له إنّما هو فوقه وأنّه أعظم منه، وأنّه يخشع له من دون تكلّف، لهذا يضاف إلى القلب فيقال خشع قلبه، ولا يقال خضع قلبه.

والخضوع هو التطامن والتطأطأ ولا يقتضي أن يكون معه خوف، ولهذا لا يجوز إضافته إلى القلب فيقال خضع قلبه، نعم، يجوز أن يخضع الإنسان تكلّفاً 9

ص: 33


1- طه: 2018/2
2- القمر: / 3.: /3
3- الحديد: 19.
4- الحشر: / 21.
5- فصلت: 39

من غير أن يعتقد أن المخضوع له فوقه، و هذا على العكس من الخشوع كما تقدّم. وقيل إنّ الخضوع في البدن والخشوع في الصوت والبصر.

قال الفيروز آبادي: الخشوع: الخضوع أو قريب من الخضوع أو هو في البدن، و الخشوع في الصوت و البصر. (1)

وقال ابن سيدة الأندلسي: خشع يخشع خشوعاً وتخشّع رمي ببصره نحو الأرض، وخفض صوته (2).

ويناسب هذا التفسير ما جاء في الصحيفة السجادية: «فمثل بين يديك متضرّعاً، وغمض بصره إلى الأرض متخشّعاً» (3) هذه الصفة الأولى من الصفات الثبوتية:

ثانياً: قيام كلّ شيء به، أي ليس شيء من المخلوقات يقوم بذاته في الوجود بل هو مفتقر إليه سبحانه في كل آن. وعليه ثبت أنه القيّوم المطلق، إذن مفهوم القيّوم هو القائم بذاته المقيم لغيره.

ثالثاً: غنى كل فقير. و الفقر هو مطلق الحاجة، كما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجة، وإذا ثبت أنّ كل موجود مفتقر في بدئه ومنتهاه إليه سبحانه ثبت أنّه تعالى رافع حاجة كل موجود، وهو المراد بكونه الغني. و في العبارة مجاز إذ أطلق إسم السبب على المسبب.

رابعاً: عزّكل ذليل العزيز هو الخطير؛ الذي يقل وجود مثله، وتشتدّ الحاجة إليه، و يصعب الوصول إليه هذه ثلاث مواصفات؛ من إتّصف بها كان عزيزاً، ولا يتّصف بها على وجه الإطلاق و الكمال إلا هو سبحانه.

و يقابل العزيز: الذليل، لذا فانّ كل ذليل محتاج إليه. 4

ص: 34


1- القاموس مادة (خ ش ع)، أنظر المفردات للراغب الأصفهاني، مادة الخشوع: 213، والخضوع 215.
2- المحكم: 68/1.
3- الصحيفة السجادية الكاملة: 124

خامساً: وقوة كل ضعيف؛ القوة تطلق على كمال القدرة و على شدة الممانعة و الدفع، ويقابلها الضعيف، و إطلاق لفظ القوة كإطلاق لفظ الغني.

روي أن الإمام الحسن علیه السلام قال: واعجباً لنبي الله لوط علیه السلام إذ قال لقومه: ﴿ لَوْ أَنَّ لي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ) (1)

أتراه أراد ركناً أشد من الله تعالى؟!

سادساً: أنّه مفزع كلّ ملهوف: أي إليه ملجأ كل مضطر في حال الحزن أو الخوف أو الظلم. قال الله تعالى: (إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (2).

و قال تعالى: ﴿ وَ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) (3).

و قال تعالى: (وَ إِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ). (4)

و قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرُّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنيبين) (5). و عليه إنّ وجوه اللهف و الإضطرار غير معدودة، وجهات الحاجة و الإفتقار غير محصورة، ولا يقدر على الإجابة على كثرتها - إلا الله سبحانه القادر المطلق، و أمّا غيره فلا يتّصف بتلك القدرة المطلقة بل إنّ مفزع الناس إليه - لو حصل - فهو المفزع على وجه المجاز لا الحقيقية، وإتّصافه به إضافي لا حقيقي، وخير مثال يجسّد لنا مفزع العباد إلى الله ما روي في كتاب التوحيد، أنّ رجلاً قال للإمام الصادق علیه السلام:

يا ابن رسول الله علیه السلام دلّني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون و حيّروني. فقال (ع): يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ .

ص: 35


1- :هود: / 80
2- النحل: / 53
3- الإسراء: 67
4- الانعام: / 17، يونس: 107.
5- الروم: / 33.

قال بلى.

قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟

قال: بلی

قال علیه السلام فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟

قال: بلی

قال الإمام علیه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث.

سابعاً: من تكلّم سمع نطقه.

ثامناً: من سكت علم سرّه.

هاتان الصفتان تؤكّدان على أنّ الله سبحانه مدرك للمسموعات و المبصرات في الأزل كإدراكه لها في الأبد من غير تفاوت بينهما أصلاً، و يسند هذا المعنى قول الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: (لم يزل الله عزّ وجل ربّنا و العلم ذاته ولا معلوم والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور) (1).

و عليه، فسبحانه محيط بما أظهره العبد و أبداه، خبير بما أسرّه و أخفاه في حالتي نطقه وسكوته قال تعالى: (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (2) و قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً) (3).

تاسعاً: من عاش عليه رزقه.

عاشراً: من مات إليه منقلبه.

ص: 36


1- أصول الكافي بسنده عن أبي بصير
2- فصلت: / 054
3- الطلاق 12

إعلم: أنه سبحانه مبدء للعباد في وجودهم فهو رازقهم، ومنتهى وجودهم إليه وغاية لهم، فهو مرجع العباد في الحياة وبعد الممات كما هو مرجعهم في كونهم أحياء وفي كونهم أموات.

و امّا الصفات السلبية، فهي:

أوّلاً: لم تَرَكَ العيون فيخبر عنك.

لم ترك العيون - إخبار عن الغائب - . فيخبر عنك، إلتفات إلى الخطاب وهذا من محاسن البلاغة كقوله تعالى: (إيّاك نعبد) وهذا الإلتفات يستلزم شدّة عناية المتكلّم بالمعنى المنتقل إليه. فالرؤية - لك - ممتنعة من العيون، و بإمتناع الرؤية يمتنع إخبارها عنك.

في كلامه علیه السلام تنزيه للباري عن وصف المشبّه و إخبارهم عنه بالصفات، إذ لوصحّ إخبار العيون عنك لكانت قد رأتك، لكنّها لم ترك فلم تصحّ أن تخبر عنك، فالنفي يؤكد تنزيهه عن الجسمية و لواحقها المستلزم لإمتناع الرؤية لكذب الإخبار عنه.

ثانياً: لم تخلق الخلق لوحشة: تنزيهه عن الطبع المستوحش والمستأنس.

ثالثاً: ولا أستعملتهم لمنفعة؛ إن جلب المنفعة و دفع المضرّة من لواحق المزاج، و هو منزّه سبحانه عن هذا الجلب و ذاك الدفع أي لم يخلقهم لغرض منفعة تعود إليه.

رابعاً: لا يسبقك من طلبت؛ أي لا يفوتك هرباً.

خامساً: ولا يفلتك من أخذت؛ أي لا يفلت منك أحد بعد أخذه. هذا الوصف و الذي سبقه تأكيد فيهما على كمال قدرته و تمام ملكه، بينما ملوك البشر قد يفلت من قبضتهم الأسير فيهرب وينجو بحيلة و ما شابه.

ص: 37

سادساً: ولا ينقص سلطانك من عصاك، بل علا سلطانه و جلّت قدرته وخفي مكره، وعلى العكس: ملوك الدنيا، فإنّ كمال سلطان أحدهم إنما هو بزيادة جنوده وكثرة مطيعيه و قلّة مخالفيه.

سابعاً: ولا يزيد في ملكك من أطاعك؛ هذه الصفة و التي سبقت فيهما تنزيه له سبحانه من أحوال الزمان.

ثامناً: ولا يردّ أمرك من سخط قضاءَك؛ المراد بالأمر هو الأمر التكويني أي القدر النّازل وفق القضاء الإلهي وهو المشار إليه بقوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (1).

ففي العبارة دلالة على كمال قدرته وعموم سلطانه لإفادته أنّ كلّ ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده، سواء كان محبوباً للعبد أو مبغوضاً له. وعليه، فالساخط للقضاء عاجز عن ردّ الأمر الإلهي.

تاسعاً: أنّ من تولّى عن أمر الله فهو إليه أشدّ فقراً وأنقص ذاتاً، فمن أدبر عن خالقه ولم يرض بقضائه وقدره لا يمكن إستغناؤه عنه وإنقطاع إفتقاره منه.

ومن أجلى المصاديق لتوضيح هذا الإفتقار ما رواه الصدوق في كتابه؛ بإسناده عن سعد الخفاف، عن الأصبغ بن نباته قال: قال أمير المؤمنين علیه السلام لرجل: إن كنت لا تطيع خالقك فلا تأكل رزقه، وإن كنت واليت عدوّه فاخرج من ملكه، وإن كنت غير قانع بقضائه و قدره فاطلب ربّاً سواه.

عاشراً: كلُّ سرّ عندك علانية؛ إشارة إلى كمال قدرته و كمال علمه وإحاطته، لا يحجبه شيء عن شيء وفوق كل شيء، وليس فوقه شيء حتّى يقصر عن إدراكه.

الحادي عشر: كلّ غيب عندك شهادة؛ إنّه محيطٌ بجميع المعلومات فما هو 2

ص: 38


1- يس: / 82

غيب عندنا عنده مكشوف معلوم قد أحاط به، وهذا منتهى كماله.

الثاني عشر: أنت الأبد فلا أمد لك؛ أي أنت الدائم فلا غاية لك يقف عندها وجودك، وهذا يعني إستلزام وجوب وجوده وإمتناع عدمه.

الثالث عشر: و أنت المنتهى فلا محيص عنك؛ أي إليه مصير الخلائق و وقوفهم عنده، وإليه إنتهاؤهم وإيابهم قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) (1). وقال تعالى: (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) (2).

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (3). إنّه سبحانه يجزي كل أحد ما يستحقّه من الثواب والعقاب، فلا محيد عن حكمه ولا مهرب عن أمره.

الرابع عشر: وأنت الموعد فلا منجا منك إلّا إليك؛ موعده الحق، لا تخلّف فيه.

والنجاة به سبحانه لا محيص ولا تبديل فلاعاصم من عذابه إلا هو سبحانه فبإحسانه و لطفه وكرمه يقبل التوبة من عباده والإنابة إليه.

الخامس عشر: بيدك ناصية كل دابّة؛ تأكيداً لقوله تعالى: ﴿ مَا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا) (4)

و هذا تمثيل لغاية التسخير و نهاية التذليل، والعرب إذا أسّرت أحداً وأرادت إطلاقه و المنّ عليه جزّوا ناصيته وذلك علامة لإذلاله وقهره.

السادس عشر: و إليك مصير كل نسمة؛ أي مرجع كل روح.

هذه ست و عشرون صفة من صفاته الثبوتية و السلبية، ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام على وجه بيان قدرة الله و عظمته و كمال علمه و أحاطته بالأشياء، ثمّ نزّهه و قدّسه 6

ص: 39


1- النجم: 42
2- المائدة: 105
3- الغاشية: 26
4- هود / 56

عن الأوهام فقال: (سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك ...) و هو في معرض التمجيد، فالحق كذلك فان ما نشاهده من مخلوقاته في الأرض و السماء و البحار و الهواء مما لا يتناهى إلى حدٍ و لا يمكن أستقصاؤه، بل الذي غاب عن المشاهدة هو أكثر مما نشاهده، و ما وصلت إليه العقول فهو قليل بالقياس إلى ما غاب عنها وحجبت عن إدراكه.

الملائكة

اشاره

لما ذكر علیه السلام أوصاف العظمة و الكبرياء للربّ سبحانه عقّبه بذكر أوصاف ملائكة السماء، و ما هم عليه من القدس و الطهارة و الفضائل الجمة و الكمالات العديدة التي امتازوا بها على المخلوق الأرضيّ من الإنس والجنّ، فهم أعلم

بخالقهم من الإنسان، و هم أشدّ خوفاً من غيرهم وأكثرهم خشية له سبحانه.

و لما كان علیه السلام في صدد بيان عظمة الله تعالى وجلالة قدرته جعل من ذلك التعظيم تعديد مخلوقاته و ذكر الأشرف فالأشرف؛ فبدأ فقرته الثانية بكلمة: (من ملائكة) و (من) هنا لبيان الجنس، ثم أشار علیه السلام إلى أفضلية الملائكة بذكر جملة من أوصافهم فمنها:

1. أعلم الخلق بالله هم وسائط لغيرهم في وصول العلم و الكمالات إلى الخلق.

2. هم أخوف له، لأنهم أعلم بعظمة الله، لأن العلم كلّما كان أكمل كان الخوف أشد و أكد والخشية كذلك، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). وإنما خصّ العلماء بالخشية لأن العالم أحذر لعقاب الله من الجاهل.

3. كونهم أقرب المخلوقات إليه سبحانه، و المراد بالقرب المنزلة و الرتبة منه، لا القرب المكاني، لأنك عرفت إنه منزّه عن المكان.

4. كونهم لم يسكنوا الأصلاب، و لم تضمّهم الأرحام، ولم يخلقوا من ماء

ص: 40

مهين، ولم تتعاقب عليهم حوادث الزمان، إنها صفات أربعة تُعد من مستلزمات الحيوان العنصري أي ممن هو مخلوق مكلّف في الأرض ولا يخفى عليك أنّ العلماء و الفلاسفة و سائر أهل الملل و النحل قد أختلفوا في ماهية الملائكه أختلافاً عجيباً، أما الإمامية و أغلب المسلمين قالوا إنّ الملائكة أجسام لطيفة نورانية أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع و أكثر، قادرون على التشكل بالأشكال المختلفة، و لهم حركات صعوداً و نزولاً، و كان يراهم الأنبياء والأوصياء علیه السلام.

ثم إنّ للملائكة أقساماً لا تحصى، و هم على تفاوت في المراتب و الدرجات فمنهم الكروبيّون، ومنهم الروحانيّون، ومنهم المدبّرون، ومنهم الحافظون و منهم المسبّحون ومنهم الصافّون، ومنهم أمناء الوحي وسفراء الرسل، ومنهم الخزنة للجنان ومنهم الزبانية للنيران ...

قال تعالى حكاية عن بعض الملائكة: ﴿ وَ مَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامُ مَعْلُومُ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (1). في الآية إشارة إلى تفاوت مراتب الملائكة و درجاتهم في العبادة، قيل إنّ المراد بالصافّين أي القائمون صفوفاً في الصلاة و روي أن صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض.

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: مررنا ليلة المعراج بملائكة من ملائكه الله عزّوجل، خلقهم الله كيف شاء، و وضع وجوههم كيف شاء، ليس شيء من أطباق وجوههم إلا و هو يسبّح الله ويحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة؛ أصواتهم مرتفعة بالتسبيح و البكاء من خشية الله، فسألت جبرئيل عنهم فقال:

كما ترى خلقوا، إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ماكلّمه قط ولا رفعوا .

ص: 41


1- الصافات: 166/164.

رؤوسهم إلى ما فوقهم و لا خفضوا رؤوسهم إلى ما تحتهم خوفاً من الله و خشوعاً فسلّمت عليهم فردّوا علىّ ايماءً برؤوسهم ولا ينظرون إلي من الخشوع فقال لهم جبرئيل:

هذا محمّد نبي الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولاً و نبيّاً، وهو خاتم الأنبياء وسيّدهم، قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام، وبشّروني وأكرموني بالخير لي ولأمتي.

قوله علیه السلام: وكثرة طاعتهم لك؛ إنهم مكلّفون مأمورون لا يستنكفون عن عبادته، ثم من خلال الآيات البيِّنات إتّضح إنّ الملائكة المشغولين بطاعة الله على أصناف أربعة:

منهم سجود، و منهم ركوع، ومنهم صفوف لا يتفارقون عن صفّهم، ومنهم مسبّحون لا يملّون من تسبيحهم، قال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) (1) وآيات أخر في هذا المعنى كثيرة.

ثم هناك من يعمل بأمره سبحانه، فبعضهم مكلّف بتدبير ما في السماء و البعض الآخر بتدبير ما في الأرض، كما إنّ بعض الملائكة موكّل بالنار وآخرون بالأرزاق و هكذا، كما نقل في الروايات المعتبرة من أن للموت ملك و هو عزرائيل علیه السلام، و للوحي ملك وهو جبرائيل علیه السلام إذ يأخذ الوحي عن ميكائيل عن إسرافيل إلى أن ينتهي الأخذ عن رب العالمين.

فهؤلاء الملائكة؛ أمناء الوحى، يأخذون بترتيب منازلهم واحداً عن واحد إلى أن ينتهي إلى اللوح المحفوظ عن القلم عن الرب. وهناك روايات أخرى فيها كيفية إنتقال الوحي إلى جبرئيل ثم إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وليس هذا مقام ذكرها. .

ص: 42


1- فصلت: / 38.

ذم الدنيا والتحذير من الركون إليها

يبدأ هذا الفصل من كلامه علیه السلام بتنزيه الله سبحانه و تقديسه - ثانية - وهي لاشكّ عبارات لها دلالة التأكيد على ما سبق من قول في التنزيه، ثم التحذير لأهل الغواية والعصاة والمتمرّدين وتنفير لهم عن الركون إلى الدنيا وزخرفها، وتذكير بما يحلّ بساحتهم من سكرات الموت و ما يتبعه من الندامة و الحسرة على ما فرط به العاصي في هذه الدنيا إذ أقبل على جيفة ينهش منها..

(سبحانك خالقاً و معبوداً)

إسبحك خالقاً، وإسبّحك معبوداً، لمّا كان خالقاً للخلق حيث تفرّد بالإبداع و الايجاد إستحقّ بذلك التفرّد تفرّده بعبادة الكل له، فلا مُوجد غيرك و لا معبود سواك.

(بحسن بلائك عند خلقك)

إنّ وجود الإسلام و الدعوة إليه و إلى الجنة بلاء حسن من الله لخلقه لما في تلك الدار و الدعوة إليها من إبتلاء و إمتحان للعباد، و ما يترتّب على الإبتلاء التمييز بین السعداء المشتاقين إلى الجنة و بين الأشقياء المعرضين عنها.

ثم ذكر صفات الجنة و النعيم الأبدي فيها من الشراب و الطعام و الأزواج و الخدم و ... كلها ترغيب و تشويق للمؤمنين في الطاعة، و ترغيب للعصاة بترك ملاذ الدنيا و شهواتها الفانية و التوجّه إلى ما عند الله سبحانه من النعم الخالدة ...

(فلا الداعي أجابوا و لا فيما رغَّبت رغبوا)

أي لم يمتثلوا أوامرك، ولم يطيعوا نبيّك، ولا فيما رغَّبْت إليه رغبوا أي

ص: 43

ترغيبهم إلى الدار الآخرة الباقية و نعيمها؛ من حور العين، وقصور الجنان و أنهارها وثمارها.

بل عشقوا الدنيا فأعمت أبصارهم، و أمرضت قلوبهم. ومن عَشَقَ شيئاً كان مولعاً به شديد المحبّة له، فأن العشق هو الإفراط في الحبّ والتجاوز عن حد الإعتدال.

و العشق من فعل النفس و هي كامنة في الدماغ و القلب و الكبد، و في الدماغ ثلاث مساكن: التخيل في مقدمه، و الفكر في وسطه، و الذكر في آخره. فلا يكون أحد عاشقاً حتّى إذا فارق معشوقه لم يخل من تخيّله و فكره و ذكره فيمتنع من الطعام و الشراب بإشتغال قلبه و كبده من النوم بإشتغال الدماغ بالتخيل و الذكر و الفكر للمعشوق، فيكون جميع مساكن النفس قد إشتغلت به.

فأهل الدنيا المتفانون في لذائذها المفرطون فى حبّها قد أعمت أبصارهم، حتى قصرت عن النظر إلى أخراهم، و صرفتهم عن آخرتهم، فأصبحوا غافلين عن إدراك عيوبها فلم ينتبهوا عن نومتهم، ولم يعرفوا ما لهذه الدنيا من غدر ومكر وغرر وعدم وفاء.

ذكر علیه السلام مساويء هذه الدنيا و صفاتها، و ما يعقبها من فناء بعد أيام قلائل الله فتكون الحسرة و الندامة حينما يحلّ الموت في وادي النفوس، ثم ذكر سكرات الموت، و حسرة الفوت، و ما فيه من ألم النزع الذي يسري في جميع أعضاء البدن و يستوعب الأطراف.

تروح وتغدو بنات الثرى *** فتمحوا محاسن تلك الصور

تفانوا جميعا فما مخبر *** و ماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا *** أما لك فيما ترى معتبر

(فصار جيفة بين أهله)

إعلم إن أصل كل فرد من أفراد البشر هو من نطفة قذرة، وقد عبر عنها القرآن

ص: 44

الكريم بالماء المهين، أي الحقير، وله تعابير لا تخلو من هذا الوصف أو شبهه، ثم يصير في آخر عمره إلى جيفة كذلك، لذا يقبر تحت التراب خوفاً من سريان رائحته النتنة في الفضاء فيؤدّي إلى تسمّم الجو، و بالتالي إلى إفشاء الأمراض و الأوبئة بين الناس، إذن الإنسان بين جيفتين، و هو يحمل فى أحشائه جيفة ثالثة من تناول الأطعمة و الأشربة.

فإذا كان الإنسان آخره كأوّله، و وسطه كطرفيه، فكيف يجوز له الإغترار بوجوده بعد ما كان عَدَما و يصير إلى عدم؟! و علام هذا التغرّر و التكبر بذاته و التجبر على الآخرين؟!

و أي تنفير أشد من هذا، فكيف يتعلق الواحد منا بهذا البدن العنصري و الهيكل الجسماني؟!

ألا يلتفت الإنسان إلى قذارته في مبتداه و منتهاه؟! و إنه إذا مات يؤول بدنه إلى جسم لا نفع به، بل يصبح نجساً و يتحتّم على من يلامسه الغسل، بل يصبح جسداً مخيفاً ينفر منه أبناؤه و إخوانه و ذووه، و يبقى فريداً وحيداً، لا يسعد باكياً، ولا يجيب داعياً على دعائه إلى أن ينزلوه في حفرته و ملحودة قبره، فيكون رهين عمله و وجد ما قدّم و ما أخّر، فإن كان العمل صالحاً فنعم المؤنس و المعين، وإن كان سيئاً فبئس المصاحب و القرين، وهذا تفسير قوله: (فاسلموه فيه إلى عمله و انقطعوا عن زورته).

أقول: لا يخفى على الحليم الذي لا تغرّه الدنيا و ما فيها من لهو و مُتع، إن شهوات الدنيا يمكن حصرها على أتمّ وجوهها بحب المال، ثم حب البقاء، ثم حب الأولاد والأزواج، و في ذلك صريح قوله تعالى: (الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (1) .

ص: 45


1- الكهف: / 46.

وقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ... ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...) (1).

ومما يوضّح تلك الزينة وإنها من مُتَع الدنيا قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةً وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرُ فِي الأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا.. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (2)

فلا الأولاد يردّوا ضيماً عن ابيهم، ولا المال ينفعه بعد أن تقاسمه الورثة، ولا قواه التي كان يفخر بها في الدنيا ستنفعه في قبره، فكل ذلك قد خرج من قبضته، وهو رهين بعمله وغداً يكون تراباً كما خلق منه ابتداءً.

قال الشاعر:

كم اخرس الموت في قبر وقفت به *** عن الجواب الجواب لسانا ما به خرس

قد كان قصرك معموراً به شرف *** فقبرك اليوم في الأجداث مندرس

وهناك أحاديث كثيرة صدرت عن ائمة أهل البيت علیهم السلام تؤكّد على الزاد و هو التقوى، و الإهتمام بالأعمال الصالحة لأنها الذخيرة النافعة ليوم الوحدة و الغربة، فالسفر طويل، و العواقب تتربّص بالإنسان، والموت حليف كل فرد فبورك مَنْ اتّعظ بالآخرين، وخرج من هذه الدنيا نقي الأردان، و خير ما نسوقه في هذا المقام ما تمثل به الإمام الهادي علیه السلام لما استنشهده المتوكل فقال:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلبُ الرجالِ فما أغنتهم القُلَلُ

واستنزلوا بعد عزِّ عَن معاقِلِهم *** فأودعوا حُفَراً يا بِئْسَ ما نَزَلوا

ناداهُم صارخٌ مِن بعدِ ما قُبِروا *** أين الأسرة والتيجان والحلل؟ 0

ص: 46


1- آل عمران: / 14
2- الحديد: / 20

أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل؟

فأنصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

قد طالما عمّرواً دورا لتحصنهم *** ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

طالما كنزوا الأموال وادخروا *** فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفرا معطلة *** وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

سكرات الموت

عن الفضل بن شاذان القمّي بأسناده عن الأصبغ بن نباته قال: كنت مع سلمان الفارسي و هو أمير المدائن في زمان أمير المؤمنين على علیه السلام؛ قال الأصبغ فأتيته يوماً وقد مرض مرضه الذي مات فيه، قال فلم أزل أعوده في مرضه حتى اشتدّ به الأمر و أيقن بالموت، قال: فالتفت إليّ وقال لي: يا أصبغ عهدي برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول يا سلمان سيكلّمك ميّت إذا دنت و فاتك و قد اشتهيت أن أدري وفاتي دنت أم لا، فقال الأصبغ: بماذا تأمرني يا سلمان يا أخي؟ قال له أن تخرج و تأتيني بسرير و تفرش لي عليه ما يفرش للموتى ثمّ تحملني بين أربعة فتأتون بي إلى المقبرة.

فقال: الأصبغ حبّاً و كرامة، فخرجت مسرعا وغبت ساعة و أتيته بسرير و فرشت عليه ما يفرش للموتى، ثمّ أتيته بقوم حملوه إلى المقبرة، فلما وضعوه فيها قال لهم: يا قوم استقبلوا بوجهي القبلة، فلمّا استقبل بوجهه القبلة نادى بأعلى صوته السّلام عليكم يا أهل عرصة البلاء السّلام عليكم يا محتجبين عن الدنيا.

قال: فلم يجبه أحد فنادى ثانية، السّلام عليكم يا من جعلت المنايا لهم غذاء السلام عليكم يا من جعلت الأرض عليهم غطاء، السلام عليكم يا من القوا أعمالهم في دار الدنيا السلام عليكم يا منتظرين النفخة الأولى سألتكم

ص: 47

بالله العظيم والنبيّ الكريم إلا أجابني منكم مجيب فأنا سلمان الفارسي مولى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فانه قال لي: يا سلمان إذا دنت وفاتك سيكلّمك ميّت قد اشتهيت أن أدري دنت وفاتي أو لا.

فلما سكت سلمان من كلامه فاذا هو بميّت قد نطق من قبره وهو يقول: السلام عليك و رحمة الله وبركاته يا أهل البناء والفناء المشتغلون بعرصة الدنيا وما فيها، نحن لكلامك مستمعون، ولجوابك مسرعون، فسل عمّا بدا لك يرحمك الله تعالى.

قال سلمان: أيها الناطق بعد الموت والمتكلّم بعد حسرة الفوت أمن أهل الجنة بعفوه أم من أهل النار بعدله؟

فقال: يا سلمان أنا ممن أنعم الله تعالى عليه بعفوه وكرمه، وأدخله الجنة برحمته.

فقال له سلمان: الآن يا عبد الله صف لي الموت كيف وجدته وماذا لقيت منه و ما رأيت وما عاينت؟ قال: مهلا يا سلمان فوالله إنّ قرضا بالمقاريض و نشرا بالمناشير لأهون عليّ من غصّة من غصص الموت، و تسعين ضربة بالسيف أهون من نزعة من نزعات الموت. فقال سلمان: ما كان حالك في دار الدنيا؟

قال: إعلم أنّي كنت في دار الدّنيا ممّن ألهمنى الله تعالى الخير و العمل به وكنت اؤدّي فرائضه و أتلو كتابه، وكنت أحرص في برّ الوالدين، وأجتنب الحرام و المحارم، و أنزع من المظالم، و اكدّ اللّيل والنّهار في طلب الحلال خوفا من وقعة السؤال، فبينا أنا في ألذّ العيش وغبطة وفرح وسرور إذ مرضت وبقيت في مرضي أيّاما حتّى انقضت من الدنيا مدّتي وقرب موتي، فأتاني عند ذلك شخص عظيم الخلقة فظيع المنظر فوقف مقابل وجهى لا إلى السماء صاعدا ولا إلى الأرض نازلا، فأشار إلى بصري فأعماه، وإلى سمعي فأصمّه، والى لساني فأخرسه

ص: 48

فصرت لا ابصر ولا اسمع ولا انطق (1) فعند ذلك بكى أهلي واخواني وظهر بخبري إلى اخواني وجيراني.

فقلت له عند ذلك: مَنْ أنت يا هذا الذي أشغلتني عن مالي وأهلي وولدي فقد ارتعدت فرائصي من مخافتك؟

فقال: أنا ملك الموت أتيتك لقبض روحك ولأنقلك من دار الدّنيا إلى دار الآخرة، فقد انقضت مدّتك من الدّنيا، وجاءت منّيتك.

و بينا هو كذلك يخاطبني إذْ أتاني شخصان و لهما منظر أحسن ما يكون و ما رأيت من الخلق أحسن منهما، فجلس أحدهما عن يميني و الآخر عن شمالي فقالا: السّلام عليك أيّها العبد و رحمة الله و بركاته، قد جئناك بكتابك فخذه الآن وانظر ما فيه.

فقلت لهما: من أنتما يرحمكما الله وأيّ كتاب لي أنظره وأقرء؟

فقالا: نحن الملكان اللّذان كنا معك في دار الدّنيا على كتفيك نكتب مالك وما عليك، فهذا كتاب عملك، فلما نظرت في كتاب حسناتي بيد الرّقيب فسرّ لي ما فيه وما رأيت من الخير و فرحت و ضحكت عند ذلك و فرحت فرحا شديدا، و نظرت إلى كتاب السّيئآت و هو بيد العتيد فسأءني ما رأيت وأبكاني، فقالا لي: أبشر فلك الخير.

ثمّ دنى مني الشخص الأوّل فجذب الرّوح فليس من جذبة يجذبها إلّا وهي تقوم مقام كل شدة من السّماء إلى الأرض، فلم يزل كذلك حتّى صارت الروح في صدري، ثمّ أشار إلىّ بجذبة لو أنّها وضعت على الجبال لذابت، فقبض روحي من عرتين أنفي فعلا من أهلي عند ذلك الصّراخ. وليس من شيء يقال أو يفعل إلا وأنا به عالم. .

ص: 49


1- لعل هذا الرجل قد كان عليه من الذنوب ما أراد الله تمحيصها عنه عند الموت، لذا رأى ملك الموت على تلك الصورة كما ترى.

فلمّا اشتدّ صراخ القوم وبكاؤهم جزعا علىّ التفت اليهم ملك الموت بغيض و حنق و قال: معاشر القوم ممّ بكاؤكم؟ فوالله ما ظلمناه فتشكون ولا اعتدينا عليه فتصيحون و تبكون ولكن نحن وأنتم عبيد ربّ واحد، ولو أمرتم فينا كما أمرنا فيكم لإمتثلتم فينا كما امتثلنا فيكم، و الله ما أخذناه حتّى فني رزقه، وانقطعت مدّته، وصار إلى ربّ كريم يحكم فيه ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، فان صبرتم أو جرتم، وإن جزعتم أثمتم، كم لي من رجعة إليكم آخذ البنين والبنات و الآباء و الأمّهات.

ثمّ انصرف عند ذلك عنّي و الروح معه فعند ذلك أتاه ملك آخر فأخذها منه و طرحها في ثوب أخضر من الحرير وصعد بها ووضعها بين يدي الله في أقلّ من طبقة جفن.

فلمّا حصلت الرّوح بين يدي ربي سبحانه سألها عن الصغيرة و الكبيرة، وعن الصّلاة والصيام في شهر رمضان، وحجّ بيت الله الحرام، وقراءة القرآن، والزكاة والصّدقات، وساير الأوقات والأيّام، وطاعة الوالدين، وعن قتل النفس بغير الحقّ، وأكل مال اليتيم ومال الرّبا، والزّنا والفواحش، وعن مظالم العباد، و عن التهجّد باللّيل والنّاس نيام وما يشاكل ذلك، و ما بعد ذلك ردّت الرّوح إلى الأرض باذن الله تعالي.

فعند ذلك أتاني الغاسل فجرّدني من أثوابي، وأخذ في تغسيلي، فنادته الرّوح بالله عليك يا عبدالله رفقا بالبدن الضعيف فوالله ما خرجت من عرق إلا انقطع ولا من عضو إلا انصدع، فوالله لو سمع الغاسل ذلك القول لما غسّل ميّتا أبدا.

ثمّ إنّه أجرى عليّ الماء، وغسّلني ثلاثة أغسال، وكفّنني في ثلاثة أثواب وحنّطني بحنوط و هو الزّاد الذي خرجت به الى الآخرة. ثمّ جذب الخاتم من يدي اليمنى فدفعه إلى أكبر أولادي و قال: آجرك الله في أبيك و أحسن لك الأجر و العزاء.

ص: 50

ثمّ أدرجني في الكفن و لفّني و نادى أهلي و جيراني وقال هلمّوا إليه بالوداع فقاموا عند ذلك لوداعي.

فلمّا فرغوا من وداعي حملت على سرير خشب، وحملوني على أكتاف أربعة، و الرّوح عند ذلك بين وجهي وكفّي واقفة على نعشي وهي تقول: يا أهلي و أولادي لا تلعب بكم الدّنيا كما لعبت بي، فهذا ما جمعته من حلّ و من غير حلّ و خلّفته بالهنائة و الصّحة فاحذروني فيه.

و لم أزل كذلك حتى وضعت للصلاة فصلّوا عليّ، فلمّا فرغوا من الصّلاة و حملت إلى قبري ادليت فيه، ثمّ رفعت روحي بين كتفي و وجهي ادنيت من،قبری و طرحت على شفير القبر، فعاينت هولاً عظيما.

يا سلمان يا عبد الله لما وضعت في قبري خيّل لي أنّي سقطت من السماء إلى الأرض في لحدي، و شرج عليّ اللبن و حثي عليّ التراب و زاروني «واروني ظ» و انصرفوا، فرجعت الرّوح إلىّ فأخذت في النّدم فقلت: يا ليتني كنت مع الراجعين. فعند ذلك سلبت الرّوح من اللّسان، وانقلب السّمع و البصر، فلما نادى المنادي بالإنصراف أخذت في الندم و بكيت من القبر وضيقه وضغطته وكنت قلت: يا ليتني كنت مع الراجعين لعملت عملا صالحا، فجاوبني مجيب من جانب القبر (كَلاً إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُونَ) (1) فقلت من أنت يا هذا الذي تكلّمني و تحدّثني؟ قال: أنا منبه و ما منبّه؟ قال: أنا ملك وكّلني الله بجميع خلقه لأنبّههم بعد مماتهم ليكتبوا أعمالهم على أنفسهم بين يدي الله.

ثمّ إنّه جذبني وأجلسني وقال لي: اكتب عملك ومالك وما عليك في دار الدنيا قلت إني لا أحصيه ولا أعرفه، قال: أو ما سمعت قول ربّك: أحصاه الله ونسوه؟ .

ص: 51


1- المؤمنون / 100.

ثمّ قال لي: اكتب الآن و أنا أملي عليك، فقلت أين البياض؟ فجذب جانبا من كفني فإذا هو رقّ فقال: هذه صحيفتك، فقلت من أين القلم؟ قال: سبّابتك، فقلت من أين المداد؟ فقال: ريقك.

ثمّ أملى عليّ ما فعلته في دار الدنيا من أوّل عمري إلى آخره، فلم يبق من أعمالي صغيرة ولا كبيرة، ثمّ تلى عليّ: (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلّا أَحْصَاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (1) ثمّ إنّه أخذ الكتاب وختمه بخاتم و طوّقه في عنقي فخيّل لي أنّ جبال الدنيا جميعا قد طوّقها في عنقي، فقلت له: يا منبّه ولم تفعل بي هكذا؟ قال: ألم تسمع قول ربِّكَ ﴿ وَّ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (2) فهذا ما تخاطب به يوم القيامة و يؤتى بك و بكتابك بين عينيك منشورا لتشهد به على نفسك.

ثمّ انصرف عنّي فبقيت أبكي على نفسي على حسرة الدنيا و أقول: يا ليتني عملت خيرا حتّى لا يكتب عليّ شرّ. فبينا أنا كذلك و إذا أنا بملك منكر أعظم منظرا و أهول شخصا ما رأيته في الدنيا، و معه عمود من الحديد لو اجتمعت عليه الثقلان ما حرّكوه، فراعني و أفزعني و هدّدني ودنا منّي فجذبني بلحيتي، ثمّ إنه صاح بي صيحة لو سمعها أهل الأرض لماتوا جميعا ثم قال لي: يا عبدالله أخبرني من ربِّك ومن نبيّك وما دينك وما كنت عليه في دار الدنيا؟

فاعتقل لساني من فزعه وتحيّرت في أمري وما ادري ما أقول، و ليس في جسمي عضو إلا فارقني من الفزع و انقطعت أعضائي و أوصالي من الخوف. .

ص: 52


1- الكهف / 049
2- الإسراء / 13 و 14.

فأتتني رحمة من ربّي فأمسك بها في قلبي، وشّد بها ظهري، وأطلق بها لساني، ورجع إليّ ذهني فقلت له عند ذلك:

يا عبد الله لم تفزعني وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أنّ الله ربّي و محمّد نبيّي، و الإسلام ديني، والقرآن كتابي، والكعبة قبلتي، وعليّ إمامي و بعده أولاده الطاهرون أئمتي و المؤمنون اخواني، وأن الموت حقّ، والسّؤال حق، والصّراط حقّ، والجنّة حقّ والنّار حقّ، و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، فهذا قولي واعتقادي، وعليه ألقى ربّي في معادي.

فعند ذلك قال لي يا عبد الله ابشر بالسلامة فقد نجوت منّي، فنم نومة العروس، ثمّ مضى عنّي. ثمّ أتاني شخص أهول منه يعرف بنكير، فصاح صيحة هائلة أعظم من الصيحة الأولى، فاشتبكت أعضائي بعضها في بعض كاشتباك الأصابع، ثمّ قال لی: هات الآن عملك يا عبد الله، و ما خرجت عليه من دار الدنيا، و من ربِّك و من نبيّك وما دينك؟ فبقيت حائرا متفكّرا في ردّ الجواب لا أعرف جوابا و لا انطق بخطاب لما رأيت و سمعت منه.

فعند ذلك صرف الله عنّي شدّة الروع و الفزع وألهمني حجّتي، وحسن التوفيق و اليقين فقلت: ارفق بي ولا تزعجني يا عبدالله، وامهل عليّ حتى أقول لك، فقال: قل.

فقلت: إنّي خرجت من شهادة أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وأنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و الأئمة الطاهرين من ذرّيته أئمّتى، وأنّ الموت حقّ، والقبر حقّ والصّراط حقّ، والميزان حقّ، والحساب حقّ، ومسائلة منكر ونكير حقّ، وأنّ الجنّة وما وعد الله فيها من النّعيم حقّ، وأنّ النار وما وعد الله من العذاب حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور.

ص: 53

ثمّ قال لي: يا عبد الله ابشر بالنّعيم الدّائم والخير المقيم، ثمّ إنّه أضجعني وقال: نم نومة العروس، ثمّ إنّه فتح لي بابا من عند رأسي إلى الجنّة وبابا من عند رجلي إلى النّار ثم قال لي: يا عبد الله أنظر ما صرت إليه في الجنّة وإلى ما نجوت منه من نار الجحيم، ثمّ سدّ الباب الذي من عند رجلي وأبقى الباب الذي هو من عند رأسي فجعل يدخل عليّ من روح الجنّة ونعيمها وأوسع لحدي مدّ البصر (1)، وأسرج لي سراجا أضوء من الشمس والقمر وخرج عنّي.

فهذه صفتي وحديثي وما لقيته من شدّة الأهوال، وأنا أشهد بالله أن مرارة الموت في حلقي إلى يوم القيامة، فراقب الله أيها السائل من رفعة المسائل وخف من هول المطّلع وما قد ذكرته، هذا الذي لقيته وأنا من الصّالحين، ثمّ انقطع عند ذلك كلامه عن سلمان.

فقال سلمان للأصبغ ومن كان معه: هلمّوا إلي واحملوني، فلمّا وصل الى منزله قال: حطوني رحمكم الله فلما حططناه إلى الأرض وشهدناه فقال أسندوني، ثمّ رمق بطرفه إلى السماء وقال: يا من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجعون، وهو يجير ولا يجار عليه بك آمنت وعليك توكلت وبنبيك أقررت وبكتابك صدقت، وقد أتاني ما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد فلقّني جودك، وأقبضني إلى رحمتك، وأنزلني إلى دار كرامتك، فإنّي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، وأنّ عليا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته أئمّتي وساداتي، فلمّا أكمل شهادته قضى نحبه ولقى ربّه رضي الله تعالى عنه.

فقال بينما نحن كذلك إذ أتى رجل على بغلة شهباء متلثّما فسلّم علينا فرددنا السّلام عليه فقال: يا أصبغ اجهدوا في أمر سلمان، فأخذنا في أمره فأخذ معه .

ص: 54


1- ومضى عني وأنا يا سلمان لم أجد عند الله شيئاً يحبّه الله اعظم من ثلاثة: صلاة الليلة شديدة البرد، وصوم يوم شديد الحر، وصدقة بيمينك لا يعلم بها شمالك.

حنوطا وكفنا فقال: هلمّوا فإنّ عندي ما ينوب عنه، فأتينا بماء و مغسل، فلم يزل يغسله بيده حتى فرغ، وكفّنه وصلّى عليه فصلّينا خلفه، ثمّ إنه دفنه بيده.

فلمّا فرغ من دفنه همّ بالإنصراف تعلّقنا به وقلنا له: أنت من يرحمك الله؟ فكشف لنا عن وجه فسطع النور من ثناياه كالبرق الخاطف فاذا هو أمير المؤمنين فقلت له يا أمير المومنين كيف كان مجيئك ومن أعلمك بموت سلمان؟

قال فالتفت إليّ وقال: أخذ عليك يا أصبغ عهد الله وميثاقه وأنّك لا تحدّث به أحداً ما دمت حيّا في دار الدنيا، فقلت: يا أمير المؤمنين أموت قبلك فقال: لا يا أصبغ بل يطول عمرك، قلت له يا امير المؤمنين خذ عليّ عهداً وميثاقاً فانّي لك سامع مطيع إنّي لا أحدّث به حتى يقضي الله من أمرك ما يقضي وهو على كلّ شيء قدير.

فقال: يا أصبغ بهذا عهدني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فإنّي قد صليت هذه الساعة بالكوفة وقد خرجت أريد منزلي فلمّا وصلت إلى منزلي اضطجعت فأتاني آتٍ في منامي وقال: يا علي إنّ سلمان قد قضى نحبه، فركبت بغلتي وأخذت معي ما يصلح للموتى، فجعلت أسير فقرّب الله لي البعيد كما تراني، وبهذا أخبرني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. ثمّ إنّه دفنه وواراه فلم أر أصعدّ إلى السماء أم في الأرض نزل، فأتى الكوفة والمنادي ينادي بصلاة المغرب فحضر عندهم. وهذا ما كان من حديث وفاة سلمان الفارسي @ على التمام والكمال والحمد لله حقّ حمده وقد رويت الخبر على طوله لاقتضاء المقام ذلك من حيث اشتماله على أحوال الميّت وأهوال البرزخ، سائلين المولى سبحانه النجاة بشفاعة النبي وآله الأطهار.

نعود الى ما أنتهينا اليه من شرح الخطبة قال علیه السلام:

(حتى إذا بلغ الكتاب أجله والأمر مقاديره) في هذا المقطع من كلامه علیه السلام و ما بعده بيان لحال العباد في يوم البعث والنشور، إنه المعاد إلى ربِّهم وحشرهم

ص: 55

للحساب، لينال المطيعون أجرهم ما وعدهم الله سبحانه من الجنان والنعيم ومرضاته، وأما العاصون فيجزون بما عملوا ...

إذن هناك أوصاف القيامة: والتقلبات التي تطرأ على الأرض والسماء من الإنشقاق والإنفطار والحركة والإضطراب والزلزال ونسف الجبال.

كلّها تحدث كما قدّرها الله سبحانه، وإنه لواقع بتأكيد من القرآن الكريم. ثمّ صنّف أمير المؤمنين علیه السلام الناس إلى صنفين؛ صنّف أهل الطاعة والسعادة، وهم الأبرار، إنّهم أهل النعيم، وقد وعدهم الله سبحانه الجنّة (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ).(1).

وصفات الجنّة التي وعدها سبحانه لأهل طاعته صفات كثيرة وجميلة، وقد شوّق إليها ربّ العزّة، لذا الجدير بأهل الايمان أن يقرؤوا صفحات تلك الجنّات من خلال القرآن الكريم.

وأمّا اهل المعصية والشقاوة فمنازلهم جهنّم وهي شرّ المنازل فيها غلّ الأيدي إلى الأعناق وسلاسل من النار، قال تعالى: (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (2).

وإن المجرمين معروفون بسيماهم، فقال تعالى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) (3).

وهذا يعني أنّ زبانية جهنّم تجمع بين نواصى المجرمين وأقدامهم بالغل، ثمّ يسحبون في النار ويقذفون فيها، وهناك صفات عديدة لاصحاب النار وما يلاقونه من العذاب قد فصّلتها جملة من الايات البيّنات منها قوله تعالى: (وَتَرَى .

ص: 56


1- الرعد / 35 (مقطع من الآية).
2- غافر / 71.
3- الرحمن / 41 - 42.

الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِن قَطِرَانٍ وَ تَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (1)

وقال تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِعَتْ لَهُمْ ثِيَابُ مِن نَّارٍ) (2).

عن ابن عباس قال: حين صاروا - أهل النار - إلى جهنم لبسوا مقطعات النيران وهي الثياب القصار، وقيل يجعل لهم ثياب نحاس من نار، وهي أشدّ ما تكون حمى، وقيل أنّ النّار تحيط بهم كإحاطة الثياب التي يلبسونها.

ثم أخذ يصف حالات جهنم:

فقال علیه السلام: «في نار لها كلب ولجب ولهب ساطع»، نار صفاتها: الكلب: أي الشدّة. واللّجب: الصوت. واللهب: الاشتعال.

«وقصيف هائل»: أي صوت شديد مخوف.

«لا يظعن مقيمها»: بل كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب النار التي كنتم به تكذبون.

«ولا يفادى أسيرها»: أي لا يؤخذ عنه الفدية فيخلص كأسراء الدنيا ولا تفصم كبولها: أي لا تفك قيودها بل هي وثيقة محكمة. لا مدة للدار فتفنى ولا أجل للقوم فيقضى: أي عذابها أبدي سرمدي.

أنظر أيها المغرور - الذي غرته أيام قلائل بشهوات زائلة حقيرة - إلى ما أنت صائر إليه ومنقلب عنه إلى غيره، فما متاع الحياة الدنيا إلا قليل والعاقبة للمتقين وكن من مصيرك على خوف شديد لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِن مِنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) (3)، فأنت من ورود النار على يقين، ومن النجاة في شك. 2

ص: 57


1- ابراهيم / 49 و 50.
2- الحج / 19.
3- مريم / 71 و 72

قال: «قد حقّر الدنيا وصغّرها».

الضمير في حقّر وصغّر عائد الى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وهنا يصف اميرالمؤمنين علیه السلام زهد النبى كما أنه كما أنه في معرض ذم الدنيا. أما الضمير في «زواها وبسطها» فعائد الى الله سبحانه، أي أن الدنيا ومافيها من زخرف ونعيم قد صرفها وطواها عن النبي كرامة منه لنبيّه، كما أنّه سبحانه بسطها أي الدنيا، فجعلها لغيره إحتقارا منه أو لكونها محتقرةٌ أو لحقارتها زواها عن نبيّه وأبعدها عنه حتى لا يفتتن بها سائر المؤمنين.

ومن صفات زهد النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «فأعرض عنها بقلبه وأمات ذكرها عن نفسه وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه»:

أقول حالات الزهد ومراتبه كثيرة لكن أهمّها أو في مقدمتها: الإعراض عن الدنيا من الأعماق أي من القلب، وألا يحيي ذكر الدنيا فيلهج بزينتها، وأن لا ينظر إليها. جاء في الكافي باسناده عن عبد الله بن القاسم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا أراد الله بعبد خيرا زهّده في الدنيا وفقّهه في الدين، وبصّرهُ عيوبها ومن أوتيهنّ فقد أوتى خير الدنيا والآخرة» (1).

لما انتهى من وصف زهده وقناعته قال علیه السلام: كي لا يتّخذ منها رياشا أو يرجو فيها مقاما» وهذا تعليل لما تقدّم. أما الرياش هو اللّباس الفاخر، والمقام أي الإقامة الطويلة، وربّما يراد من المقام المنزلة كالمنصب وأمثاله.

ثم أشار علیه السلام إلى المهمّة التي من أجلها بعث النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: «بلّغ عن ربّه معذرا ونصح لأمّته منذرا ودعا إلى الجنّة مبشرا».

التبليغ بأمانة وصدق، وقد أعذر من أنذر، وقدّم النصح للناس والإرشاد لهم، ودعاهم إلى الجنّة والنعيم الأبدي. .

ص: 58


1- الكافي 2 / 130، حديث 10.

ثم ختم خطبته علیه السلام بما له من الكلمات النّفيسة واختصاصه برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المستلزم سبقه على غيره، وتقدّمه على الكل؛ فقال: «نحن شجرة النبوّة» هذه الشجرة كنايةٌ عن الرسول ونفسه الشريفة وزوجته الصديقة فاطمة الزهراء علیها السلام و أولادهم الطيبين علیهم السلام.

كيف نسب نفسه علیه السلام إلى شجرة النبوة؟

الجواب يكمن في الخبر الذي دلّ عليه الشيخ الصدوق في كتابه «معاني الأخبار» بإسناده عن جابر قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّوجلّ: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتُ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) (1)

قال علیه السلام: أما الشجرة فرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفرعها على علیه السلام، وغصن الشجرة فاطمة بنت رسول الله علیها السلام، وثمرها أولادها عليهم السلام، وورقها شيعتنا.

ثم قال علیه السلام: إنّ المؤمن من شيعتنا يموت فيسقط من الشجرة ورقة وإن المولود من شيعتنا ليولد فتورق الشجرة ورقة.

وروى الصدوق بإسناده إلى أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو يقول: خلقت أنا وعليّ بن أبي طالب من نور واحد نسبّح الله يمنة العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا أنّ خلق الله آدم علیه السلام جعل ذلك النور في صلبة، ولقد سكن الجنة ونحن في صلبه، ولقد همّ بالخطيئة ونحن في صلبه، ولقد ركب نوح بالسفينة ونحن في صلبه، ولقد قذف ابراهيم علیه السلام في النار ونحن في صلبه، فلم يزل ينقلنا الله عزّوجلّ من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة حتى انتهى بنا إلى عبدالمطلب، فقسمنا فجعلني في صلب عبد الله وجعل عليا علیه السلام في صلب أبي طالب وجعل في النبوّة والبركة، وجعل في علي الفصاحة والفروسية، وشق لنا اسمين .

ص: 59


1- ينظر: سورة إبراهيم / 24 و 25.

عن اسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمّد والله العلي الأعلى وهذا علي.

وفي هذا المعنى قال الشاعر:

يا حبذا دوحة في الخلد نابتة *** ما مثلها نبتت في الخلد من شجر

المصطفى أصلها والفرع فاطمة *** ثم اللقاح علي سيد البشر

والهاشميان سبطاه لها ثمر *** والشيعة الورق الملتف بالثمر

هذا مقال رسول الله جاء به *** أهل الرواية في العالي من الخبر

قوله: «ومحط الرسالة» أي أنّ بيوتهم تنسب إلى بيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم فهو علیه السلام والنبى صلی الله علیه و آله و سلم من بيت واحد؛ إنّهما من قريش فإن موضع الرسالة في بيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم عليه كان ينزل الوحي، وعليه كان ينزل جبرائيل علیه السلام فيبلّغه رسالة السماء، ولم يدّعِ أحد من الشيعة الإمامية أنّ الوحى ينزل على الأئمة.

فأمير المؤمنين وفاطمة وولديهما والأئمة كانوا محدّثون ويسمعون ومفهَّمون، وقد كذب البعض على الأئمة كالغلاة الذين زعموا أن الأئمة يوحي إليهم كالنبي صلی الله علیه و آله و سلم وكلام أمير المؤمنين علیه السلام الواضح عند من يفهم بلاغة الكلام، وهو ليس بعيد على العربي الذي تقلّب في حجر الفصاحة والبلاغة فإن قريش هي قبيلة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم،وعلي، فمحط الرسالة في قبيلة قريش التي منها الإمام علیه السلام وذريته الكرام، كما أن الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم مرسل من الله فكلّما وصل إليه من علوم الرسالة أودعها في أمير المؤمنين، ثم وصل ذلك العلم إلى الأئمة الكرام من ولده علیه السلام، إذن هم موضع الرسالة ومحطها.

روى الشيخ الكليني بسنده عن حمران بن أعين عن أبي عبدالله علیه السلام قال: إنّ جبرائيل أتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم برمّانتين فأكل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أحدهما وكسر الأخرى بنصفين فأكل نصفا وأطعم عليا نصفا، ثم قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يا أخي هل تدري

ما هاتان الرّمانتان؟

ص: 60

قال: لا. قال: إمّا الأولى فالنبوّة ليس لك فيها نصيب، وإمّا الاخرى فالعلم فأنت شريكي فيه.

فقلت: أصلحك الله كيف يكون شريكه فيه؟ قال: لم يعلم الله محمّدا صلی الله علیه و آله و سلم علما إلا وأمره أن يعلّمه عليا (1).

قوله علیه السلام: «ومختلف الملائكة»

أي أنّ بيوتهم علیه السلام محل نزول الملائكة و مجيئهم وذهابهم مرّة بعد أخرى، اما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فظاهر أنّ بيوته كانت مهبط الوحي والتنزيل ومجيء الملائكة ...

وأمّا الأئمة علیهم السلام إنما ينزلون لزيارتهم والتشرف بهم وايصال الأخبار إليهم وفي هذا المعنى روايات كثيرة.

في الكافي بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال: دخلت على عليّ بن الحسين علیه السلام فاحتسبت في الدار ساعة ثمّ دخلت البيت وهو يلتقط شيئا، و أدخل يده من و راء الستر فناوله من كان في البيت، فقلت: جعلت فداك هذا الذي أراك تلتقطه أي شيء هو؟

فقال علیه السلام: فضلة من رغب الملائكة نجمعه إذا خلونا نجعله سبحا لأولادنا، فقلت: جعلت فداك و أنهم ليأتونكم؟ فقال: يا أبا حمزة إنهم ليزاحمونا على تكائتنا (2).

السبح: النوم والسكون.

و في بعض النسخ سيحا أي الكساء المخطّط، و في بصائر الدرجات سحابا و هو خيط ينظم فيه خرز يلبسه الصبيان والجواري. و هناك روايات كثيرة في هذا الباب فليراجع البحار و بصائر الدرجات و غيرها في المصادر المعتبرة. .

ص: 61


1- الكافي كتاب الحجة 1 / 263، حديث 1.
2- الكافي /394/12، حديث 3، ط 3، دار الكتب الاسلاميه طهران.

ثمّ ذكر علیه السلام وصفين آخرين إذ هم «معادن العلم» وهم «ينابيع الحكم» فعلمهم من علم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعلم النبي من الله سبحانه، وأما الحِكَم أو الحُكم فأمّا قصده بالحكمة، فهو ذاك لأنّ منطقهم الصواب، وكلامهم يشفي الغليل ويداوي العليل، وإذا قصده الحُكم، فهو كذلك الفيصل بين الحق و الباطل، فالأحكام الشرعية منبعها بعد القرآن و الرسول هم الأئمة؛ و بكلامهم تقطع الخصومات و تفضّ النزاعات، و يأخذ كل ذي حق حقّه، وموارد هذه الحالات والخصومات كثيرة جدا حيث كان الخلفاء الاوائل ابوبكر و عمر وعثمان يلتجؤون إلى

أمير المؤمنين علیه السلام في حلّ عويصات المسائل وإليه يذهبون في ملمّات الأمور.

ومن راجع أقضية أمير المؤمنين لوجد الكثير من ذلك، وقد ذكرنا طرفا من تلك الحلول وأقضية الإمام علیه السلام في كتابنا الإمام علي رحمة وذكرى فراجع.

ثم ختم سلام الله عليه خطبته الشريفة بقوله: «ناصرنا ومحبّنا ينتظر الرحمة وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السطوة» فنصرتهم واجبة؛ أي أن ندين بولايتهم ونتبرّأ من أعدائهم وشانئيهم، فولايتهم مفروضة على العباد والتبرّأ من مبغضيهم مفروض كذلك.

وفي هذا الباب روايات كثيرة جدا رواها الفريقان من ذلك قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم مخاطبا لعليّ علیه السلام: يا علي لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق أو كافر.

ص: 62

الفصل الثاني

اشاره

من خطبة له علیه السلام

يصف فيها حال العرب قبل الاسلام قوله: (بنا اهتديتم في الظلماء ...)

ص: 63

ص: 64

خطبة (بنا اهتديتم)

اشاره

(1)

وهي من أفصح كلامه علیه السلام و فيها يعظ الناس و يهديهم من ضلالتهم ويقال إنّه خطبها (2) بعد قتل طلحة والزبير فقال علیه السلام:

بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءِ وَ بِنَا أَفْجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ، وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ وَ كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ، رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ. مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ حَتَّى سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ، أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِي جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لَا دَلِيلَ وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لَا تُمِيهُونَ. الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ، عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي، مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ، لَمْ يُوجِسْ مُوسَى (علیه السلام) خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَ دُوَلِ الضَّلَالِ. الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا .

ص: 65


1- لعله يشير إلى الحديث الشريف: «الائمة من أهل بيتي كالنجوم باتهم اقتديم اهتديتم». رواه القاضي النعمان في دعائم الاسلام: 186/1. رواه يوسف بن اسماعيل في الشرف المؤيد: 6. و عن نوادر الاصول للحكيم الترمذي قال: «النجوم امان لاهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض».
2- 88 رقم الخطبة 5 من نهج البلاغة.

عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ، مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ.

مصادر الخطبة

ابن جرير الطبري في المسترشد ص 95 روى آخر الخطبة.

الشيخ المفيد في الارشاد ص 147 مع اختلاف يسير عما رواه الرضي وزيادة يسيرة.

شرحها ابن ابي الحديد المعتزلي في الجزء الأول ص 208 وقال والرواية لها كثيرة.

وشرحها ابن ميثم البحراني في موسوعته الجزء الاول ص 207.

معاني المفردات

1 - السنام: كلّ شيء اعلاه تسنمتم: علوتم يقال تسنّم أي علا، وهو من السنام الذي هو أعلى البعير

2 - السرار: الليلة أو الليلتين من آخر الشهر، يستتر فيها القمر ويختفي.

3 - الوقر: الثقل في السمع.

فقهت الامر: فهمته لم يفقه: لم يفهم، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول شعيب علیه السلام (ولكن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (1).

4 - الواعية الصارخة والصارخ لفظ مشترك بين المغيث والمستغيث واراد به هنا المغيث.

النبأة: الصوت الخفي، السمة: العلامة. .

ص: 66


1- هود / 9.

5 - الخفقان: الاضطراب و الارتعاش.

6 - العواقب: جمع عاقبة، وعاقبة كل شيء آخره وخاتمه.

7 - توسّم: تفرّس والسمة: العلامة، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (1) أي المتفرّسين، وإنما يقال للمتفرّس المتوسم لانه يستدل بالوسم الظاهر على الاسرار الكامنة، والوسيم الأثر، يقال: وسمت الشيء وسماً إذا أثرت فيه بسمة وهي العلامة ويقال للرجل الجميل: الوسيم لحسن وسمه، والميسم الجمال. الحلية: النعت يقال حلية الرجل: صفته المغترّين: المخدوعين: يقال اغتر بالشيء: خدع به.

8 - سترت الشيء: إذا غطيته، وتستر أي تغطّى.

9 - بصّرنيكم، يقال بصّر الشيء تبصيرا أي عرّفه وأوضحه، والتبصّر التأمل والتعرّف. السنن: الطريقة الواضحة، وسنن الحق وجهه وطريقه.

10 - جوادّ المضلة: الجوادُ: جمع جادة وهي معظم الطريق. المضله: ما يضلّ فيه، يقال أرض مضله اي يضلّ فيها الطريق، وضلّ الشيء يضل ضلالاً أي ضاع وهلك.

11 - ولا تميهون: أماه يميه: اذا بلغ الماء وماهت البئر: خرج ماؤها.

12 - أُنطِقُ: من المنطق وهو الكلام.

العجماء: التي لا تفصح في بيانها، وإنما توصف البهيمة به لأنها لا تتكلّم، وكل من لم يقدر على الإيضاح في كلامه فهو أعجم مستعجم.

13 - عزب: بعد وغاب والعزّاب الذين بعدوا عن الازواج، والعازب والاعزب من لا زوج له وربما قرأت غرب بمعنى بعد. .

ص: 67


1- الحجر / 75.

14 - تخلّف عنّي: تأخر.

أُرِيتُهُ الشيء فرّاه: أي أبصرته فبصر. وبصّر الشيء تبصيرا أي عرّفه واوضحه والتبصّر: التأمّل و التعرّف.

15 - لم يوجس من أوجس: بمعنى هجس واحسّ. و أوجس في نفسه خيفة. أي أضمر. و عرف من نفسه خيفة أو جس بها، و التوجّس كذلك. و لا يتخصّص بايجاس الخوف الا ذو عقل حصيف ورأي متين فان الخائف يذهله الفزع عن الإحساس بما في نفسه. والخيفة، المصدر: يقال خاف الرجل يخاف خوفا وخيفة ومخافة فهو خائف.

16 - أشفق من غلبة الجهّال: الاشفاق: رقة القلب، فطورا يعبّر عن الرحمة والحنو، والاسم منه الشفقة وطورا يعبّر به عن الحذر، فقال: اشفقت منه اي حذرته، فاذا كان المعنى الأول استعمل ب-«على»، وإذا كان المراد المعنى الثاني استعمل ب- (من)، والمراد هنا المعنى الثاني ولذا قال من غلبة الجهّال.

دول الضّلال: الدولة - بفتح الدال - في الحرب: أن تداول إحدى الطائفتين علي الاخرى إي غلبت. و الدولة - بضم الدال - في المال اي يتداولونه تكون مرة لهذا ومرة لهذا. قال أبو عبيد: الدولة - بالضم - اسم الشيء الذي يتداول به بعينه. وفي قوله تعالى: «لكيلا تكون دولة بين الاغنياء منكم» قال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالضم في المال. وبالفتح في الحرب.

17 - من وثق بماء لم يظمأ: وثقت بفلان إذا انتمنته. الظمأ: العطش. قال تعالى: (لا يُصِيبُهم ظَمَأُ» اى لا يصيبها عطش. وظمئت الى لقائك: اشتقت اليك.

الأوجه البلاغية في النص

اشاره

الخطبة مع اشتمالها على كثرة المقاصد الواعظة المحرّكة للنفس هي غاية في

ص: 68

الايجاز، وفيها من صور البيان والبديع الشيء الكثير، نقف عند بعضها:

1 - بنا اهتديتم في الظلماء:

فيها استعارة تخييلية مكنّي بها عن الجهل والكفر ممّا لاخلاص بهما ولا مناص مستدعية لتشبيههما - و هما معقولان - بالظلمة.

و وجه الشبه: اشتراكهما في عدم الاهتداء فيهما الى الطريق المسلوك الى المقصد.

2 - و تسنّمتم العلياء:

فيها استعارة تخييلية مرشّحه مستلزمة لتشبيه العلياء المكنّي بها عن الإسلام و هي معقولة بالناقة وهي محسوسة حيث استعار وصفّ السنام للعلياء بلحاظ شبهها بالناقة.

وجه الشبه: اشتراكهما في الانتفاع الحاصل من كلّ منهما اللائق به، وهو عقلي، و تخييل أنها من افراد الناقة. ثم رشّح تلك الاستعارة بكلمة التسنّم الذي هو ركوب السنام، و كنّي به عن علوّهم.

ثم بين الظلماء و العلياء بديع من باب المتوازي والترصيع.

3 - وبنا انفجرتم عن السّرار:

كلمة سرار فيها استعارة تخييلية مرشّحه مستلزمة لتشبيه الهيئة الحاصلة من الظلمة المطبقة فى آخر الشهر لخفاء القمر دون أن يتبدّل بأدنى نور من الهلال.

وجه الشبه: اشتراكهما في الظلمة التي قرب انقضاؤها وتبدّلها بالنور، وهو عقلي، وهذا تشبيه المركب بالمركّب و بذكر انفجرتم رشحها.

اذن من خلال لفظة (السّرار) ادركنا أن القوم - العرب - كانوا في ظلام الجهل و الخمول، و لم يكن لهم ذكر جميل في الجاهلية، و في لفظ الانفجار معنى الخروج من ذلك الجهل الى نور الاسلام و اشتهارهم في الناس، وذلك لتشبيههم

ص: 69

بالفجر الطالع من ظلمة السرار في الضياء و الاشتهار.

4 - وقر سمع لم يفقه الواعية:

كنّي بالواعية عن نفسه علیه السلام، اذ من لوازمه حفظ كتاب الله تعالى والقيام بأوامره و الاجتناب عن نواهيه، فكان منه أن صاح فيهم بالموعظة الحسنة، و ناداهم ثم دعاهم الى الالفة، و حذرهم من الفرقة أو أن يشقّوا عصى الطاعة و الوحدة، فكم و عّظهم ولكن لم يستجيبوا؟!

5 - كيف يراعي النبأة من اصمته الصيحة:

في العبارة استعارتان مكنيتان: استعار لفظ النبأة لدعائه لهم و ندائه الى سبيل الحق. و استعار الصيحة لخطاب الله سبحانه و دعوة رسوله و هي على سبيل الكناية عن ضعف دعائه بالنسبة الى قوة دعاء الله و رسوله لهم، فهم لم يجيبوا داعي الحق و نداءه، أوقل إنّهم لن يجيبوا دعوته. فالاستعارة الأولى ترشيحيّة تخييلية مستدعية التشبيه دعائه علیه السلام ايّاهم الى سبيل الحق بالصوت الخفي و هما محسوسان بحس السمع.

وجه الشبه: اشتراكهما في الضعف الحاصل لهما بالقياس الى دعاء الحق و الصوت العالي و هو عقلي و تخييلي أنه من افراد الصوت.

و الاستعارة الثانية مستلزمة لتشبيه دعوة الله و رسوله ايّاهم بالصوت العالي.

وجه الشبه: اشتراكهما في العلو و هو عقلي، وقد رشّح الأولى بذكر يراعي و رشح الثانية بذكر الإصمام.

6 - ربط جنان لم يفارقه الخفقان:

في العبارة: كناية عن الخوف، كما فيها دعاء للقلوب الخائفة الوجلة التي لاتزال تخفق من خشية الله و الاشفاق من عذابه بالثبات و السكينة، والخفقان من لوازمه اضطراب القلب.

ص: 70

7 - سترني عنكم جلباب الدين:

فيها استعارة تخييلية تصريحيه مرشّحة، لتشبيه الدين وهو عقلي، بالجلباب وهي حسيّة، فهي استعارة للظواهر التي تلبّس بها المخالفون.

وجه الشبه: اشتراكهما في التغطية المناسبة منهما وهو عقلي وبإسناد الستر اليه ترشيح.

8 - اقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلّة:

في جوادّ المضلّة استعارتان إحداهما: مكنّي بها عن كون الاهواء و البدع طرائق مسلوكة الى الضلال مستدعية لتشبيهها و هي معقولة بالجوادّ - وهي محسوسة.

وجه الشبه: اشتراكهما في الإفضاء الى ما هو المنتهى من كلّ منهما اللائق بها.

والاستعارة الثانية: مكنية، كنّي بها عن أنّ الكفر و الجهل ممّا يحصل به الضلال، ولا يهتدي به الى المقصود، مستدعية لتشبيه الكفر وهو عقلي، بالأرض التي يضلّ فيها الطريق وهي حسية.

وجه الشبه: اشتراكهما في عدم اهتداء المتمسّك بهما الى المقصد، وهو عقلي و بالإضافة جاء التشريح.

9 - وتحتفرون و لا تميهون:

استعار لفظ الاحتفار عن مظان العلم، و هي كناية عن الكد. و استعار لفظ الماء للعلم فهاتان استعارتان الأولى مستدعية لتشبيه الباحث عن مظان العلم المتفحّص عنها، و الجاد في ازالة العوائق و الحجب الحائلة دونه بحفر الارض لاستخراج الماء منها وهما محسوسان.

وجه الشبه: اشتراكهما في الطلب و السعي، و هو عقلي وفيها استعارة أخرى لازمة لهذه مستدعية لتشبيه القلوب بالابار.

وجه الشبه: اشتراكهما في المعدنية للمقصود والمحلية، وهو عقلي.

ص: 71

في «لا تميهون» استعارة اخرى كنّي بها عن عدم البلوغ الى العلم الذي هو المقصد، مستدعية لتشبيه العلم بالماء.

10 - انطق لكم العجماء:

في «العجماء» استعارة تخييلية تصريحية مستلزمة لتشبيه الاحوال التي يشاهدونها من فضل الامام و كماله وما صدرت منه من المواقف الرفيعة والمواعظ الحسنة على أنّ تلك المواقف ليس لها لسان تنطق بها، فقد شبهها علیه السلام بالحيوان الذي لا يفصح عمّا اراده، مهما يكن من أمر فان تلك المواقف لهي خير دليل على علوّ مكانه وسموه علیه السلام.

وجه الشبه: اشتراكهما في عدم النطق.

11 - «من وثق بماء لم يظمأ»:

فيها استعارة تخييلية مرشّحة، وكنّي بها عن أنّ الواثق به علیه السلام الملتزم بعلمه ومنهجه يحتاج الى شيء يرويه كما يحتاج الى شيء يخلصه من التعب والهلاك، هذا يستدعي تشبيهين، أحدهما: تشبيه نفسه علیه السلام بالماء وهما محسوسان.

وجه الشبه: اشتراكهما في دفع الأذى بهما.

و الآخر تشبيه المسلمين المحتاجين الى التمسّك بالدين بالعطشان.

وجه الشبه: اشتراكهما في الافتقار إلى ما يسدّ الحاجة لهم، و لتخييل أنّه من افراد الماء. ويقوله لم يظمأ ترشيح.

ولا يخفى عليك أنّ فى كلمة (ماء) استعارة كنّى عن نفسه به لما اشتمل عليه من العلم بكيفية الهداية إلى الله سبحانه فانه الماء الذي لاظماً معه.

ثم بين الجهّال والضلال بديع من باب التوازي والترصيع وفي (اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل): نوع من اللف و النشر، وتقديره: نحن متوافقون على سبيل الحق، و انتم متوافقون على سبيل الباطل.

ص: 72

خصائص الخطبه ومضامينها

الخطاب لمن حضر - في ذلك الوقت - من قريش، المخالفين لامير المؤمنين علیه السلام، والذين كانوا مع طلحة والزبير وإن صدق في حقّ غيرهم ممّن لم يحضر و هم كذلك مخالفون، فالخطبة كانت بعد انتصاره ّ في وقعة الجمل، وهي المعركة التي دارت بين جند امير المؤمنين علیه السلام و الزبير وعائشة في البصرة.

قوله «بنا اهتديتم» اي بدعوتنا ايّاكم الى الحق بما انزل الله سبحانه على الرسول صلی الله علیه و آله و سلم من الكتاب و الحكمة، حصل لكم الاهتداء من ظلمات الجهل لا بغيرنا، فلا يليق بكم و لا باسلامكم أن تنكروا حقنا و ولايتنا و تقدّموا غيرنا علينا فكان ومن قبله الرسول صلی الله علیه و آله و سلم - سبب هداية العرب، و بآل البيت انقذهم الله بعد ما كانوا فى ظلمات الجهل.

ثم يخاطب هذا الجمع الحاشد في ساحة النصر فيقول: و بتلك الهداية وشرّف الاسلام ارتفع قدركم وشرّف ذكركم فلما دخلتم في الاسلام تنوّر باطنكم واشتهرتم بين الناس، ولمّا كان هذا الشرف الذي حصلتم عليه بسبينا فلا يجوز لكم أن لا تطيعونا و تكفروا بنعمتنا تنا - و هى الهداية - ولا تصغوا الى دعوتنا.

ثم قال: وقر سمع ...

لمّا نفروا منه ولم يصغوا الى دعوته التفت من الخطابة الى الغيبة، ودعا عليهم بالوقر والصّمم على كل سمع لا يفقه صاحبه، والدعاء على صاحب الاذن التي لا تعي اذنه العلم، ولا تستفيد من السماع لمقاصد الكتب السماوية، وكلام الانبياء والدعاة الى الله سبحانه، و ربما جاء الدعاء على وجه التوبيخ لهم. ولا يبعد أنه علیه السلام قصد الذي لم يسمع بحاله و لم يعرف فضائله و مكانته من الرسول والرسالة فهو أصم و يقوّي هذا المعنى ما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ تَعِيَهَا أُذُنُ وَاعِيَةٌ) انّها نزلت في الامام علي علیه السلام.

ص: 73

قال رسول الله علیه السلام: سألت الله أن يجعلها أذن علي.

ثم قال علیه السلام: «كيف يراعي النبأة ... الخ».

أي كيف يلتفت الى قولي و يستمع الى كلامي، و يجيب دعوتي من لا يلتفت الى قول الله سبحانه، و لا يسمع كلامه وكلام رسوله على كثرة تكراره على أسماعهم؟! ولمّا كان من شأن الصوت العالي أن يمنع سماع الصوت الخفي، أطلق الصيحة على كلام الله وأسند اليها الإصمام المراد به الاشتغال بها، و الغفلة عما دون ذلك، و هو المقصود من كلام الله و كلام رسوله ألا و هي الإطاعة للوص الذي نصّبه النبي لهم، وقد أورد علیه السلام صيغة السؤال «كيف» على سبيل الإنكار والتهكم لهم.

بعد هذا كأنّما دعاهم الى الثبات، بل وطلب منهم الاتّباع، فدعا للقلوب الخائفة الوجلة من خشية الله التي لم تزغ عن الحق فقال علیه السلام: ربط جنان لم يفارقه ... أي ثبّت الله تلك القلوب الخائفة من هول المطّلع المضطربة خشية منه، و كأنّما دعا هذا الخلق من جند طلحة و الزبير الذين خسروا المعركة الى الهداية فخاطبهم: ما ضركم لو تشبّهتم بأولئك المؤمنين الذين تضطرب قلوبهم مخافة من الله «الله درّ الخائفين المراعين لاوامره الوجلين من وعيده» فليتكم تشبّهتم بهم فرجعتم الى الحق، وقمتم به قیام رجل واحد.

ثم وجّه الخطاب لاولئك الناكثين، فقال: مازلت اترصّد لكم سوء عاقبة عذركم لي، وهذا الترصّد امّا باخبار من الرسول * و امّا بواسطة تحرّكهم المشبوه، فما نطق به كان مصداقا لصحة تفرّسه ومعرفته بعاقبة امر الناكثين لخير دليل على سعة علمه، وبصيرته النافذة في الأمور.

اما قوله علیه السلام: «سترني عنكم جلباب الدين»:

فيه عدّة أوجه، أوضحها: أنّ الدين حال بيني و بينكم وسترني عن أعين

ص: 74

بصائركم، فكان الدين غطاء حائل. لذا تمثّل بعفو الاسلام و رحمته و رأفته، فلم يتبع مدبر، ولم يجهز على جريح.

فأمير المؤمنين علیه السلام هو ادرى بمواطن الضعف و الخلل في القوم، كما هو على يقين من أمره و ما يصلح شأن رعيته، فقال علیه السلام في موضع آخر من خطبة له:

(و أنّي لعالم بما يصلحكم ويستقيم أودكم، ولكن ارى إصلاحكم بافساد نفسي ...) الخ ثم قال: «ولكن لا تعرفون - قدري - لتراكم حجب الأهواء و البدع على مرأى صفائح خواطركم ...

قوله علیه السلام: «وبصّرنيك صدق النية»:

صدق النية أي صفاء باطنه و ما انطوت عليه نفسه من الاخلاص لله، وصفاء مرآة نفسه القدسيّة التي بها ينظر الى بواطن الاشياء و خفاياها، وهذا يؤكّد كلامه في موضع آخر علیه السلام «المؤمن ينظر بنور الله»، وهو علیه السلام كذلك ينظر بهذا النور الذي منحه الله له، فهو عارف بسرائرهم وما انطوت عليه نفوسهم، وكان بامكانه أن يكشف عن نواياهم الخبيثة و لبصّرهم بما هم عليه من النفاق و الضغائن وحب الرئاسة إلا أنّ سجيته تأبى ذلك، هذا من جهة، ومن جهة اخرى حفاظا على المباديء و المثل الاسلامية، و عدم فضح هذه الشخصيات ابقاءً على المنهج الذي رسمه نبي الرحمة، و هو نشر الاسلام في الاصقاع و البلدان، وأنّ الاجيال هي التي ستكشف القناع عن كل زيف و باطل، و هي التي ستحاكم اولئك وإن طال الأمد. فلسان حال اميرالمؤمنينعلیه السلام كأنما يقول لهم: إنّ الدين كان ساترا إياي عنكم وانتم تنظرون إلى ظاهري وليس لكم بصيرة تبصرون بها ما خصّني الله تعالى، فلذا غلت الضغائن عندكم، وركنتم الى الحسد و البغضاء و انحرفتم عني لجهلكم بحالي.

قوله علیه السلام: «اقمت لكم على سنن الحق ...»

ص: 75

تنبيه لهم على وجوب طاعته، واقتفاء أثره، اذ هو النهج الصادق و هو السبيل الى الرشاد، اما السبل الاخرى فهي صائرة الى الهلاك، وقد نهى الله سبحانه عن اتباعها فقال: ﴿وَ لاتَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (1). بل اكّد سبحانه على نهج الحق و الصراط الواضح، فقال و عزّ من قائل: ﴿ وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (3).

فالصراط المستقيم و الطريق الواضح هو امير المؤمنين علیه السلام، قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم مخاطبا لعلي علیه السلام: «أنت الطريق الواضح، و أنت الصراط المستقيم، و أنت يعسوب المؤمنين» (3).

هذا هو علي بن أبي طالب علیه السلام، اما المخالفون له فكانوا يبحثون و يطلبون ماء الحياة، وكانوا يسعون الى الخلاص والنجاة بالبحث والفحص من أودية القلوب لكن ما وجدوه إلّا مع امير المؤمنين علیه السلام.

قوله علیه السلام: «اليوم انطق لكم العجماء ذات البيان»

إنّه حان الوقت كي اخبركم باحوال الامم التي سبقتكم، وما جنوه على انفسهم بفسقهم و عنادهم انهم عتوا عن امر ربِّهم وسلكوا أودية الضلال، فكانت عاقبتهم الخسران و الهلاك.

فهو علیه السلام يلوّح الى مخزون علمه وكمال معرفته بالعواقب، كما إنّه خُبر عن حوادث سالف الازمان وغابر الدهور. و هذا كاشف حاله وفضله بالقياس إليهم، وما يجب لهم من متابعة ليخبرهم عن واقعهم ومصيرهم إذ شأنهم شأن الامم الغابرة، فكلّ من لم يتّبع اوامر الله سبحانه فقد استحق ما استحقّ الاولون، و بين .

ص: 76


1- الانعام: / 153.

لهم ما يوجب عليهم الإذعان لولايته.

قوله: «غرب رأي امري تخلّف عنّي»

في العبارة إشارة الى ذمّ من تخلّف عنه، و الحكم عليه بالسفه. و ربما قصد توبيخ المخالفين و من اعرض عن بيعته او نكثها بعد الإبرام، فقد نبّه علیه السلام على أنه هو الامام الحق الذي وجبت طاعته على كلّ الخلائق بنصّ من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و الجميع لا عذر لهم، بل إنّ المتخلف عنه إذا مات على تلك الحال فقد مات ميتة جاهلية.

ثم قال: «ما شككت في الحق ...»

إنه دليل على وجوب عصمته و طهارته عن الارجاس التي منشؤها ضعف اليقين.

ثم قال علیه السلام: «لم يوجس موسى خيفة ...»

ربّ سائل يقول لماذا لم يقف الامام علي علیه السلام بوجه من غصب الخلافة؟

و بعبارة اخرى لم هذا السكوت أكثر من عقدين من الزمان؟ جواب هذا السائل في صريح قوله علیه السلام: (لم يوجس موسى خيفة على نفسه، بل كان الخوف من غلبة الجهّال على الدين و وقوع اكثر الناس في فتنتهم، و من قيام دول الضلال وغلبتهم). و لا يخفى على اللبيب أن الناس بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم كادت تعود الى جاهليتها، وقد قرأت من قبل حروب الردّة - كما يدّعون - فكم أغرتهم الأموال و المناصب، وتركوا الحق المبين، و ابتعدوا عن سيد الوصيين؟!

ثم ختم كلامه علیه السلام بقوله: «من وثق بماء لم يظمأ»

الماء كما عرفت كناية عنه علیه السلام فمن وثق بالامام و بقوله وفعله وعلمه لم يقع في الضلال، ولم يندم بمتابعته له، بل كان في عين الصواب، و على حاق اليقين، شأنه كشأن الواثق بوجود الماء، فاذا وثق بوجوده فلم يترك نفسه بدون رواء ليقتله حرّ الظماً.

ص: 77

ص: 78

الفصل الثالث

اشاره

من خطبة له علیه السلام

يصف فيها المتقين

ص: 79

ص: 80

خطبة امير المؤمنين علیه السلام يصف فيها المتّقين

اشاره

(1)

روي أن صاحباً لأمير المؤمنين علیه السلام يقال له همّام كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم. فتثاقل علیه السلام عن جوابه ثم قال: «یا همّام اتق الله وأحسن (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) (2)

فلم يقنع همّام بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد الله و أثنى عليه، وصلّى على النبي صلی الله علیه و آله و سلم ثم قال علیه السلام:

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى - خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ. فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ؛ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي8

ص: 81


1- الخطبة رقم [193]: من نهج البلاغة.
2- النحل / 128

الرَّخَاءِ وَ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ [لَهُمْ] عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا.أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا!

وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ.

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ.

ص: 82

إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَ-لُه خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.

يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ؛ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ؛ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ؛ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ؛ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ؛ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ؛ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ؛ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ.

قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ (علیه السلام) وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِك.

مصادر الخطبة

رواها كل من:

1 - أبان بن أبي عياش كما في كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 211

ص: 83

2 - محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه، الصدوق ت 381 ه- في أماليه ص 457 - 460، المجلس الرابع و الثمانون، املاه سنة 368ه-. يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.

انظر طبعة مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1980.

3 - ابن قتيبة في كتاب الزهد من كتاب (عيون الاخبار) م 352/2.

4 - ابن شعبة الحرّاني في (تحف العقول) ص 159 وفي طبعة اخرى ص 107 - 109.

5 - الكليني في اصول الكافي 226/2.

6. وابن عبد ربّه (1) الاندلسي في العقد الفريد 1 / 314.

7 - والمسعودي (2) في مروج الذهب 432/2.

8 - والشيخ الطوسي (3) في أماليه 2 / 185 - 189

و رواها جماعة ممن تأخّروا عن الشريف الرضي، ولكن ليس طريقهم الى الشريف، بل تنتهي الى مصادر هي قبل الرضي، منهم:

9 - سبط ابن الجوزي في (التذكرة) رواها عن مجاهد عن ابن عباس. انظر ص 148 من التذكرة.

10 - محمد بن طلحة الشافعي، رواها في مطالب السؤول 1 / 151، و قد زاد على ما في النهج العبارة الآتية:

اولئك الامنون المطمئنون الذين يسقون من كأس لا لغو فيها و لا تأثيم.

11 - رواها نوف البكالي، قال: عرضت حاجة الى اميرالمؤمنين علي بن .

ص: 84


1- روي شطرا من الخطبة.
2- روی شطرا منها.
3- روى شطرا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام يخاطب بها نوفا.

ابي طالب علیه السلام فاستتبعت اليه جندب بن خُثيم، و كان من اصحاب البرانس المتعبّدين، فاقبلنا إليه فألفيناه حين خرج يؤم المسجد، فأفضى و نحن معه الى نفر متدنين قد أفاضوا في الاحدوثات تفكّها، و هم يلهي بعضهم بعضا، فاسرعوا اليه قياما و سلّموا عليه، فردّ التحية ثم قال: من القوم؟

فقالوا اناس من شيعتك يا اميرالمؤمنين.

فقال لهم خيرا، ثم قال: يا هؤلاء مالي لا أرى فيكم سمة شيعتنا، وحلية أحبّتنا؟

فأمسك القوم حياءٌ، فاقبل عليه جندب و الربيع فقالا له: ما سمة شيعتك یا امیرالمؤمنین؟

فسكت. فقال همّام - وكان عابدا مجتهدا - اسألك بالذي اكرمكم أهل البيت و خصّكم و حباكم، لما أنبئتنا بصفة شيعتك.

فقال: لا تقسم فسأنبئكم جمعيا، ثم ذكر الموعظة بتفاوت يسير مع رواية الرضي، وذكر في آخرها صيحة همّام و موته وغسله.

12 - وروى الخطبة العلامة الكراجكي المتوفى سنة 449 ه- في كنز الفوائد ص 92 - 89.

13 - و ممّن روى الخطبة - متأخّراً عن الشريف الرضي - جماعة كثر، منهم قطب الدین ابو الحسن سعيد بن هبة الله الراوندي المتوفى سنة 573 ه- في كتابه منهاج البراعة 2/ 275، منشورات مكتبة آية الله السيد المرعشي، قم 1406ه-..

شرّاح الخطبة

الخطبة المتّقين شروح عديدة، من أبرزها:

1 - شرح محمّد تقي بن مقصود علي المجلسي المتوفّى سنه 1070 ه-.

قال العلامة محمّد باقر المجلسي في اعتقاداته هو شرح جامع.

ص: 85

2 - شرح محمّد تقي بن حسين علي الهروي الاصفهاني الحائري المتوفى سنة 1299ه-.

3 - شرح السيد علاء الدین کلستانه المتوفّى سنة 1110ه-.

4 - شرح الفاضل الشريف امير آصف القزويني كان حيّا سنة 1136 ه-. ايام محاصرة الافغان لاصفهان و توفي بعدها بقليل.

5 - شرح الشيخ محمّد جواد بن على ابن الشيخ جعفر التستري المتوفّى سنة 1325 ه-.

6 - شرح أبي القاسم الشهير بالعلامة ابن الميرزا احمد شيخ الاسلام الاصطهباناتي.

7 - شرح نعمة الهي؛ احد علماء الهند هو باللغة الكجراتية، طبع في الهند.

8 - شرح العلامة المجلسي المتوفى سنة 1111 ه-، ضمن كتابه البحار الطبعة الجديدة 67 / 315.

و هناك شروح أخر متقدمة على هذه الشروح تاريخيًا لكنها لم تصلنا.

تسلل الخطبة

رقم الخطبة في نهج البلاغه المطبوع هو 193، غير أنّ الشروح التي تطالعنا - و قد ذكرنا بعضها - اعطتها رقما آخرا، مثلاً تجد في مصادر نهج البلاغه للمرحوم العلامة السيد عبد الزهراء الحسيني تحت رقم 191 (1).

و في مصادر نهج البلاغة لعبد الله نعمة تحت رقم 184 (2). 13

ص: 86


1- مصادر نهج البلاغة / 583 - 66. انظر: شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 10 / 134.
2- مصادر نهج البلاغة لعبدالله نعمة، ص 212 مطبعة دار الهدی 1972م، و شرح کمال الدین بحرانی 3 / 413

و في نهج الصباغة للعلامة محمّد تقي التستري تحت رقم 188 (1).

و في منهاج البراعة لميرزا حبيب الخوئي تحت رقم 192 (2).

معاني المفردات

1 - ملبسهم الاقتصاد: يلبسون الثياب المتعارف عليها، لاهي ثمينة جداً، و لا هي رخيصة مبتذلة.

2 - غضّوا أبصارهم: خفضوها و غمضوها.

3 - نزّلت انفسهم منهم بالبلاء: أي أنهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالأمل في الله، كأنهم كانوا في رخاء لا يجزعون و لا يهنون، و إذا كانوا في رخاء كانوا من خوف الله وحذر النقمة، كأنهم في بلاء لا يبطرون ولا يتجبّرون.

4 - اربحت التجارة: أفادت ريحا.

5 - الترتيل: التبيين و الإيضاح.

6 - استثار الساكن: هيّجه وقاريء القرآن يهتدي الى الفكر الصائب الماحي للجهل.

7 - زفير النار: صوت توقّدها.

8 - شهيق النار: الشديد من زفيرها، كأنه تردد البكاء.

9 - حانون على أوساطهم: من حَنَيْتَ العود: عطفته، يصف هيئة ركوعهم و انحنائهم في الصلاة.

10 - مفترشون الجباههم: باسطون لها على الأرض.

11 - فكاك الرقاب: خلاصها. .

ص: 87


1- نهج البلاغة التستري 9 / 65 - 115. 2 منهاج البراعة لميرزا حبيب 106/12 - 168.

12 - القداح: مفردها قِدح بالكسر، و هو السهم قبل أن يُراش و براه: نحتَه أي رقّق الخوف أجسامهم كما تُرقق السهام بالنحت.

13 - خولط في عقله: مازجه خلل فيه، و الأمر العظيم الذي خالط عقولهم هو الخوف الشديد من الله.

14 - مشفقون: خائفون من التقصير.

15 - زُكِّي أحدهم: مدحه أحد الناس.

16 - قصدا: أي اقتصادا.

17 - التجمّل: الاعتناء بالمظهر من زينة و غيرها.

18 - تحرّجا عن طمع: تباعدا عن طمع، وعدّ الشيء حَرَجاً أي إثماً.

19 - استصعبت: لم تطاوعه.

20 - منزورا: قليلاً.

21 - حريزا: حصيناً.

22 - الفُحش: القبيح من القول.

23 - في الزلازل: الشدائد المُرعِدة.

24 - الوقور: الذي لا يضطرب.

25 - لا ينابز بالألقاب: لا يدعو باللقب الذي يكره و يشمئز منه.

26 - صَعِق: غُشَيَ عليه.

من هو همّام؟

كما في شرح عبدالحميد بن ابي الحديد (1)، هو همّام بن شريح بن يزيد بن

ص: 88


1- شرح النهج 10 / 134 ط بيروت.

مرّة بن عمر بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل بن سيف بن سعد العشيرة (1).

و في البحار: هو همّام بن عبادة بن خُثيم ابن اخ الربيع بن خثيم أحد الزهّاد الثمانيه كما رواه الكراجكي في كنزه و هو بسنده عن ابي المفضل الشيباني قال: حدّثنا محمد بن على بن أحمد بن عامر البندار بالكوفة من أصل كتابه، و هذا الحديث بلفظه و هو أتم سياقة، قال حدّثنا الحسن بن علي بن بزيع، قال حدّثنا مالك بن ابراهيم بن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن رجل من قومه، يعني يحيى بن امُ الطويل، أنه اخبره عن نوف البكالي، قال: عرضت لي إلى امیرالمؤمنين حاجة ... الخ (2).

و ما نقله الامام الكراجكي الطربلسي فيه زيادات لم تكن في النهج للشريف الرضي، وهذ يدلّ على أنّ الكراجكي اخذ هذه الخطبة من مصادر هي اسبق من جمع الرضي وصريح عبارته قال: «حدّثنا محمد بن علي بن احمد بن عامر البندار بالكوفة من اصل كتابه ...».

ثم في نهاية الخطبة ذكر صلاة اميرالمؤمنین علیه السلام على جنازة همّام عشية ثم قال: قال الراوي عن نوف، فصرت الى الربيع بن خثيم فذكرت له ما حدّثني نوف، فبكى الربيع حتى كادت نفسه أن تقبض و قال: صدق أخي أنّ موعظة امير المؤمنين علیه السلام و كلامه ذلك مني بمرأىٌ و مسمع ما ذكرت ما كان من همام بن عبادة، يومئذٍ و ما أتاني هنيئة الاكدّرها ولا شدّة إلا فرجها (3).-

ص: 89


1- و وافق ابن الحديد جماعة منهم: كمال الدين ميثم بن علی بن میثم البحراني المتوفى سنة 679 ه-، وكذلك وافقه المجلسي كما في شرحه: 347/20 ط وزارة الارشاد طهران 1418 ه-.
2- كنز الفوائد للكراجكي ت 449 ه-، ص 88/1.
3- كنز الفوائد ابو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي ت 449 ه- منشورات دار الذخائر، قم 1410ه-

هذه الزيادة لم يذكرها الرضي.

قال فيه اهل الحديث والتراجم: همّام من أهل البرانس و بعضهم قال: من الزهّاد وقال فيه المامقاني:

يستدل من كلّ ذلك كون الرجل فوق رتبة العدالة (1).

وقال العلامة السيد محسن الأمين العاملي: همّام بن عبادة بن خثيم صاحب امير المؤمنين علیه السلام هو ابن اخ الربيع بن خثيم احد الزهاد الثمانية (2).

ثم اختلفت الروايات في مكان تلقّي الخطبة والسبب الذي أدّى الى إنشائها.

جاء في اصول الكافي في باب: المؤمن وعلاماته وصفاته عن محمد بن جعفر عن محمد بن اسماعيل، عن عبد الله بن داهر عن الحسن بن يحيى، عن قثم أبي قتادة،الحرّاني، عن عبد الله بن يونس، عن أبي عبدالله علیه السلام قال: قام رجل يقال له همّام - وكان عابدا، ناسكا مجتهدا - الى اميرالمؤمنين وهو يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا المؤمن ... الخ (2) يستدل من هذه الرواية أنّ الامام كان مشغولاً في خطبته و قد قام اليه همّام ثم سأله عن صفات المؤمن.

قال العلامة المجلسي في شأن الاختلاف بين هذا النص في الكافي و ما في النهج: (لكنه منقول في نهج البلاغة باختلاف كثير ... وهما بما في النهج أوفق) (3).

بينما الروايات الأخرى أنّ همّام سأله عن صفات المتّقين. وفي روايات اخرى انه سأله و من معه عن سمات الشيعة. 04

ص: 90


1- تنقيح المقال، عبد الله المامقاني ت 304/3:1353، المطبعة المرتضوية، النجف 1352ه-.
2- اصول الكافي، محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني 226/2، دار التعارف بيروت ط 4, 1401ه-.
3- مرآة العقول، محمد باقر المجلسي ت 1111 ه-، 202/9 ط 2، دار الكتب الاسلامية، طهران. 1363 / 1404

لماذا تثاقل أمير المؤمنين علیه السلام عن جواب همّام؟

يمكن تصوير هذا التثاقل و ارجاعه لاحد الاسباب:

1 - يحتمل أنّ تثاقله علیه السلام عن الجواب لأنّه علم أنّ المصلحة في تأخيره.

2 - ويحتمل أن يكون في المجلس ممّن ليس هو أهل الموعظة، فكَرِه الاجابة و هو حاضر، فلمّا انصرف أجاب.

3 - و يحتمل أن يكون التثاقل لامرٍ هو فيه تشويق للسائل، فيكون أنجع في الموعظة.

4 - وربما كان التأخير ليرتّب المعاني كما ينبغي مراعاة لمقتضى حال السامع و ما هو الأنفع له و لمن يحذو حذوه في السؤال.

و لا يخفى على النبه اللبيب أنّ تلك الوجوه و الاحتمالات المتقدمة بعضها اوجه من البعض الآخر و أقرب الى الصواب، كيفما كان ليس المهم تشخيص أو تقديم بعضها دون الآخر، بل المهم معرفة بعض تلك العلل لذلك التثاقل و الله سبحانه أدرى بخفايا الأمور.

المدخل الى الخطبة:

قوله: يا همّام اتقِ الله و أحسن ...

من الدعائم المهمة في حياة الانسان هو الايمان بالله سبحانه ثم توحیده؛ في الذات والصفات والافعال.

فاذا استقام العبد و اخلص الايمان كان عليه أن يطلب العلم و أن يعمل به، جاء في الحديث عن المعصوم علیه السلام:

أن كمال الدين طلب العلم و العمل به، و أن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، و أن المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وقد ضمنه و سَيَفي

ص: 91

لكم، والعلم مخزون عند أهله، و قد أمرتم بطلبه من اهله فاطلبوه (1).

اذن معرفة الله سبحانه بعد الايمان به مقدمة للتقوى، فاذا علم العبد مكانة الخالق و قدرته و عظمته، كان عليه من بعد هذا ان يتّقيه أي أن يخافه.

و التقوى على مراحل:

اولى مراحلها هي اتقاء الشرك.

ثانيها: اتقاء الذنب و كلّ شيء نهى الله عنه.

ثالثها: اتقاء الكسل في اداء الواجب، و الحذر من تضييع ما أوجبه الله على العبد و مما افترضه سبحانه.

رابعها: اتقاء المكروهات، أي ما ابغضه الله وحثّ على تركه.

اذن كلام الامام علیه السلام يقودنا الى اعداد العُدّة إلى الآخرة، واوّل هذه العدة هي تقوى الله في السّر و العلانية ليأمن القلب عند المحشر وفيما لو وقف العبد امام الرب للسؤال ...

لكن هذه القلوب يلزمها مع الخوف حسن الظن بخالقها و الانس الى رجائه، لا أن يدخلها اليأس.

فمن كان شأنه في الدنيا هكذا سوف يحظى بالنجاة، لان الله سبحانه سينقل من كانت صفاتهم كذلك، سينقلهم من المكابدة الى النعيم بطاعته و السرور بها ... لان هؤلاء الذين قنعوا من الدنيا باليسير منها، فطاب عيشهم في الآخرة و أحسن لهم الله سبحانه بحسن المثوبة، وقد وعد الله عباده على تقواهم بالامن والسلام قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامِ أَمِينِ) (2) و قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ) (3).

ص: 92


1- اصول الكافي 30/1 حديث 4ط الاخوند، طهران..
2- الدخان / 51.
3- الحجر / 45 و 46.

و قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (1).

و نتيجه ما تقدم تجده في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) (3).

استطيع أن أُوجز ما تقدّم بسؤال ثم الجواب عليه:

اقول: ما التقوى؟

الجواب: أنّها الحذر بالمجانبة عما حرّم الله و لما كرهه سبحانه.

و هذا الحذر في خصلتين:

- تضييع واجب.

- ركوب ما حرّم الله و نهى عنه في السّر و العلانية.

و كي نتلافى هاتين الخصلتين يلزمنا:

اوّلاً: القيام بما أوجب الله سبحانه و الامتثال بنية الاخلاص له سبحانه، حتى نرجو ثوابه.

ثانيا: ترك ما نهى الله عز وجل الله ليس لغيره، أي اخلاص النية مخافة عقاب الله سبحانه.

هذا كله يؤدي بالعبد الى الورع، وهو تجنب ما حرّم الله عليه.

فيما تقدّم يظهر جلياً أنّ الخوف اسبق من التقوى.

جاء في الخبر: أنه يقول جل وعزّ في يوم القيامة: «و عزّتي وجلالي لا أجمع اليوم لعبدي أمنين، و لا أجمع عليه خوفين فمن خافني في الدنيا أمّنته اليوم و من أمنني في الدنيا اخفته اليوم، فعليك أخي المؤمن أن تستشعر جيدا قلبك اليوم این؟ 8

ص: 93


1- يونس / 62.

وغدا كيف تجيب ...؟

لانّ قلبك لا يخلو في ذلك الوقت من أن يكون أحد قلبين اِمّا قلبا كان في الدنيا لله تعالى خائفا و امّا قلبا كان في الدنيا غافلاً مغترا آمنا.

ففي الحالة الأولى ترى هذه القلوب مصيرها في الآخرة وهي الى النجاة أقرب و سوف يدخلها الفرح و السرور إن شاء الله، و سوف يحلّ فيها الامن ... لان الله سبحانه سوف لا يجمع على عبده خوفين؛ خوف الدنيا و خوف الآخرة، فإنّه ألطف بعباده وأكرم، نسأل الله سبحانه أن يشملنا بعطفه و كرمه ...

و في الحالة الثانيه ترى هذه القلوب مصيرها في الآخرة و هي الى الهلاك أقرب - اعاذنا الله - و سوف يدخلها الحزن و الغم و الفزع الأكبر و الرعب، بل سوف تغلبها الندامه و الحسرة لانّ هذه القلوب كانت غافلة عاملة بالمعاصي و الذنوب، وكانت كافرة بأوامر الله فهي الى الشرك أو الى الكفر تنسب، و ما كان حالها هذا فلن تنجو من عذاب الله العزيز الجبّار.

شرح الخطبة

في هذا الكلام البليغ ذكر اميرالمؤمنين علیه السلام مائة صفة و خمسة صفات وهي في الحقيقة موعظة بليغة لكل فرد يطلب النجاة من هذه الدنيا و زخرفها، و الفوز بالآخرة و حلاوتها.

إنّه علیه السلام استفتح كلامه في شأن الخالقيّة، فهو سبحانه الذي خلق الخلق و لم يشاركه فيه أحد، و هذا بيان في توحيد الله سبحانه في افعاله و التي منها الخالقيّة ثم قدّم علیه السلام صورة واضحة عن هذه الخالقيه فهو سبحانه لمّا كان خالقا لكل ما في الوجود فهو غني عن الخلق في طاعتهم وآمنا من معصيتهم.

و لمّا كان اشرف ما يتقرب به البشر إلى الله إنّما هو بالتقوي؛ لذا جاء البيان

ص: 94

بشكل جلي و واضح، ثم لمّا كان علیه السلام في معرض صفات المتّقين فلا يبعد أن يَعِضَ علیه السلام بكلامه هذا الجاهلين من الناس.

قد يتصوّر بعض ضعاف العقول بأن الله سبحانه منفعة في طاعة من أطاعه، وله بمعصيته مضرّة ... لذا جاء في صدر الخطبة ما يدفع هذا الوهم، فافتتح كلامه علیه السلام بتنزيهه تعالى عن الانتفاع او الضرر.

قال علیه السلام: فتقسّم بينهم معيشتهم، و وضعهم من الدنيا مواضعهم تقرير لكمال غناه عن العباد فلاهم يجلبون له منفعة و لا يدفعون عنه ضررا بل هو الغني المطلق، و هو مبدء خلقهم. و في عبارة الامام تضمين لقوله تعالى: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) (1).

ثم أخذ علیه السلام في عرض الخطبة، أي بالجواب عما سُئل؛ و هو وصف المتّقين، فوصفهم على وجه الإجمال:

1 - المتقون المستجمعون الفضائل المتعلّقة باصلاح قوّتي العلم والعمل و هذا وصف مجمل يتبعه تفصيل.

2 - منطقهم أي كلامهم: الصواب و هو مختص بفضيلة العدل المتعلقة باللسان.

3 - ملبسهم: فمن صفات المتّقين العدل في الملبوس، فلا هو مترف ولا هو من أهل الخسّة والدناءة.

4 - مشيهم: التواضع، وهو ملكة تحت العفّة تعود الى العدل بين رذيلتي المهانة و الكبر. و التواضع مستلزم للسكون و الوقار. و المعنى مأخوذ من قوله تعالى (2): (وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (3). .

ص: 95


1- الزخرف / 32.
2- من وصايا لقمان لابنه يعظه.
3- لقمان / 19.

وقوله تعالى: ﴿ وَ لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (1).

5 - غضوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم، و الغض عن الحرام هو ثمرة العفّة.

6 - اسماعهم: إنهم خصّوا هذه الحاسة باستماع العلم، و هي فضيلة العدل في قوة السمع. و العلوم النافعة ماهو كمال القوة النظرية، و هذا من العلم الالهي. و ما هو كمال للقوة العملية، و هي الحكمة العملية. فهم دائما شغلوا اسماعهم بالاصغاء و الاستماع الى ماهو نافع من العلوم.

7 - انفسهم في البلاء و الرخاء سواء: أي أنّ نفوسهم لا تقنط من بلاء ينزل بها، و لا تبطر برخاء يصيبها، بل مقامها في الحالين الشكر، و هذا يعني قلّة مبالاتهم بشدائد الدنيا ومِحَنها.

8 - خوفهم من العقاب وتطلّعهم الى الثواب: إنّ غلبة الشوق الى ثواب الله و الخوف من عقابه على نفوسهم الى غايةٍ إنّ ارواحهم لا تستقر في اجسادهم من ذلك لولا الأجال التي كتبت لهم، و هذا الشوق وذاك الخوف اذا بلغ الى حدّ الملكة فانه يستلزم دوام الجدّ في العمل و الإعراض عن الدنيا، ومبدأ كل ذلك هو تصوّر عظمة الخالق، و بحسب ذلك التصوّر تكون قوة الخوف و الرجاء وهما بابان عظيمان للجنة.

9 - عظم الخالق في انفسهم: هناك استغراق من المتقين في معرفة الخالق و محبته، و بحسب تفاوت ذلك الاستغراق يكون تفاوت تصوّر العظّمة، وبحسب تصوّر عظمته تعالى يكون تصوّرهم لأصغريّة مادونه.

10 - فهم والجنة كمن رآها ... .

ص: 96


1- الاسراء: 37.

اشارة الى أن العارف و إن كان في الدنيا بجسده، فهو في مشاهدته بعين بصيرته لاحوال الجنّة و سعادتها واحوال النار و شقاوتها كالذين شاهدوا النار وعذّبوا فيها، وهي مرتبة عين اليقين. فحسب هذه المرتبة كانت شدّة شوقهم الى الجنة، و شدّة خوفهم من النار.

11 - قلوبهم محزونة: الحزن هو ثمرة الخوف الغالب عليهم، و هذا الحزن غير الكآبة، و لا دخل له في تقطيب الوجه أو العبوسة.

12 - وشرورهم مأمونة: لا يصدر عنهم الشر لان مبدأ الشر هو حبّ الدنيا و العارفون بمعزلٍ عنها. بل الذي يصدر عنهم هو الخير و المعروف و الإحسان.

13 - اجسادهم نحيفة: إنّه لكثرة صيامهم و السهر في طاعة الله سبحانه، و هكذا خشونة المطعم و الملبس سبب في نحافة أجسادهم، فهم لم يبالوا بملاذ الدنيا و زبرجها بل هجروها رغبة لما عند الله سبحانه.

14 - حوائجهم خفيفة: لإقتصارهم على الضروري من حوائج الدنيا.

15 - انفسهم عفيفة: و هذه الملكة تعود الى فضيلة القوة الشهويّة و هي الوسط بين رذيلتي حمود الشهوة و الفجور.

16 - صبرهم على المكاره ايّام حياتهم: انّهم تركوا الملاذ الدنيويّه و صبروا على أذى الناس لهم. و فائدة الصبر هي مقاومة النفس الأمّارة بالسوء لئلا ينقاد الى قبائح اللذات قال تعالى: (وَ جَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً) (1).

17 - اعقبتهم راحة ... تجارة مربحة استعار (سلام الله عليه) لفظ التجارة لأعمالهم الصالحة و امتثال أوامر الله و وجه المشابهة كونهم متعوّضين بمتاع الدنيا و بحركاتهم في العبادة مناع الآخرة، 2

ص: 97


1- الانسان / 12

ورشّح بلفظ الربح لأفضليّة متاع الآخرة و زيادته في النفاسة على ما تركوه.

18 - عدم ارادتهم للدنيا مع إرادتها لهم فيها إشارة الى الزهد الحقيقي، وهو ملكة تحت العفّة، و كنّى بارادتها عن كونهم اهلاً لان يكونوا فيها رؤساءاً و أشرافاً كقضاة و وزراء و اشباه ذلك. ويحتمل أن قوله علیه السلام الناظر الى إرادة أهل الدنيا فأرادوهم الى منافعهم الدنيويّة بينما المتّقون نبذوا تلك الدنيا الفانية ليعتصموا بالآخرة الباقية.

19 - لم تأسرهم الدنيا بل فدوا أنفسهم من اسر الدنيا.

و هي اشارة الى من ترك الدنيا و زهد فيها بعد الانهماك فيها و الاستمتاع بها، ففكّ بذلك الترك و الاعراض. و هذا هو انحلال الهيئات الرديئة المكتسبة منها من عنقه.

اقول: لفظ (الأسر) فيها استعارة في تمكّن تلك الهيئات من نفوسهم، ولفظ (الفدية) استعارة لتبديل ذلك الاستمتاع بها بالإعراض عنها و المواظبة على طاعة الله ثم أنّ الزهد في الدنيا كما يكون متأخرا عن إقبالها عليه كذلك قد يكون متقدّما عليه.

20 - صافّين أقدامهم بالليل يتلون القرآن ...

اشارة الى تطويع نفوسهم - الأمّارة بالسوء - بالعبادات و كيف ينتفعون في تلاوة القرآن و ترتيلهم له بفهم مقاصده و تحزينهم لانفسهم به عند ذكر الوعيد ... و لمّا كان داءُهم هو الجهل وسائر الرذائل العملية، فلابدّ من معالجة ذلك الداء الوخيم، و ليس للجهل من دواء إلّا بالعلم، و دواء كل رذيلة هو الحصول على الفضيلة المضادة.

وقوله علیه السلام يحزّنون به أنفسهم: أي يستجلبون بتلاوة القرآن ما هو تأديب للنفس، ومن صور ذلك التأديب أنهم يستثيرون عواطفهم فيركنون الى البكاء خشية من عذاب الله سبحانه، و البكاء يُعدّ دواءٌ لمن اصاب من الذنوب

ص: 98

و المعاصي ما يعلمه وما لا يعلمه، و حالة البكاء هي أجلى صورة للتوبة و الندم على ذلك الاسراف، لهذا تجد المتّقين اذا مرّوا بآية فيها ذكر الثواب مالوا اليها و اطمأنوا بها طمعا في نيله.

21 - فهم حانون على أوساطهم: كناية عن كثرة صلاتهم و ركوعهم.

22 - مفترشون لجباههم ... الخ: اشارة الى كيفية سجودهم وذكر الاعضاء السبعة عند السجود.

23 - يطلبون ... فكاك رقابهم ... اشارة الى غايتهم من عبادتهم تلك.

24 - ومن صفات المتّقين في النهار حكماء (الحكمة الشرعية)، و ما فيها من كمال القوة العلمية و العملية. أو كونهم حلماء، و هي فضيلة تحت ملكه الشجاعة، والشجاعة هي لي الوسط بين رذيلتي المهانة والإفراط في الغضب وانما خصّ الليل بالصلاة لكونه اولى به من النهار.

25 - كونهم علماء ... أراد بذلك كمال القوة النظرية بالعلم النظري وهو معرفة الصانع.

26 - كونهم أبرار ... و البر يعود الى العفيف لمقابلته الفاجر.

27 - كونهم اتقياء و المراد بالتقوى: الخوف من الله سبحانه، وقد أعدّها من، صفات النهار لمخالطتهم الناس فيه.

28 - و قد براهم الخوف ... فيحسبهم الناظر مرضى: شرح لفعل الخوف الغالب بهم، و انما يفعل الخوف ذلك لاشتغال النفس المدبّرة للبدن به عن النظر في صلاح البدن.

شبّه بري الخوف لهم ببري القداح، و وجه الشبه شدّة النحافة. و يتبع ذلك السحنات و الضعف عن الانفعالات النفسانية من الخوف و الحزن حتى يحسبهم الناظر مرضى و إن لم يكن بهم مرض.

ص: 99

29 - قد خولطوا ... يقول الناظر اليهم إنّهم قد أُصيبوا بعقولهم، و ليس الامر كذلك، و العبارة فيها اشارة بليغة الى ما يعرض لبعض العارفين عند اتصال نفسه بالملأ الأعلى و اشتغالها عن تدبير البدن و ضبط حركاته.

30 - فهم لانفسهم متّهمون: إنّ خوفهم من اعمالهم يعود الى شكّهم فيما يحكم به اوهامهم من حسن عبادتهم، و هل هي مقبولة أو أنّها جاءت على وجه المطلوب.

فان هذا الوهم يكون مبدأ للعجب بالعبادة، ثم إنّ العجب من المهلكات. قال علیه السلام ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه. و كذلك خوفهم من تزكية الناس لهم.

مجمل صفات المتّقين السابقة

1 - القوّة في الدين، فلا يدخلهم الوسواس أو خداع الناس.

2 - الحزم في الأمور الدنيوية و التثبّت و العدل في المعاملة مع الخلق.

3 - الايمان في اليقين وهو التصديق بالصانع ... و طرح الحجب المانعة على المشاهدة التقنية.

4 - الحرص في العلم و الازدياد منه.

5 - مزج العلم بالحلم.

6 - القصد في الغنى (فضيلة العدل في استعمال متاع الدنيا).

7 - الخشوع في العبادة، و هو ثمرة الفكر في جلال المعبود وعظمته.

8 - تحمّل الفاقة و الفقر بترك الشكوى الى الخلق.

9 - الصبر في الشدائد و المكاره

10 - طلب الحلال، و منشؤه العفّة.

11 - النشاط فى الهدى و سلوك سبيل الله، ومنشؤه قوة الاعتقاد.

ص: 100

12 - عمل الصالحات على وجل و خوف (خشية أن يقول لي ربّي لا لبيّك) و هذا من كلام الامام زين العابدين علیه السلام في التلبية.

13 - همّهم الشكر في المساء و الذكر في النهار.

14 - يبيت حذراً و يصبح فرحا.

15 - مقاومة المتقي لنفسه الامارة بالسوء.

16 - ذكره للموت لذا قصر أمله.

17 - قلّة زَلَلِهِ و زلل المؤمن هو ترك الأولى.

18 - خشوع القلب.

19 - قناعة النفس.

20 - قلّة الاكل لان البطنة تذهب الفطنة، و من مساويء البطنة زوال الرقة و حدوث القسوة والكسل.

21 - سهولة أمره، فلا يتكلّف لاحد.

22 - صيانة دينه، فلا يهمل شيئا من العبادة و الطاعة.

23 - ميّتة شهوته (لفظ الموت) استعارة لخمود شهوته عما حرم عليه، فهنا إشارة إلى العفّة.

24 - كظم الغيظ.

25 - الخير عمله، فلا يعرف عنه الشر.

26 - عفوه عمّن ظلمه أي تركه الانتقام مع قدرته عليه.

27 - يعطي من حرمه، و هي فضيله تحت السخاء.

28 - يصل من قطعه، وهي فضيلة تحت العفّة.

29 - بَعُدَ فحشه، أي بعيداً عن الكلام غير الانق.

30 - تواضعه مع الناس، و كلامه ليّن حتى في حالة الشدّة.

ص: 101

31 - التزامه بحدود الله.

32 - خيره مقبل و شرّه مدبر، و تقدّم مثله و ربما إن طاعته في ازدياد.

33 - يتحلّى بالوقار عند الزلازل و الامور العظام و الفتن

34 - حبّه لا يصل الى الآثام، أي لم يتبع الهوى و الفجور.

35 - اعترافه بالحق قبل أن يشهدوا عليه لتحرّزه عن الكذب.

36 - الورع في لزوم حدود الله فلا يضيّع اماناته ...

37 - لا ينابز بالألقاب، لأنّ ذلك يثير الفتن و التباغض بين الناس ويخلق فيما بينهم الفرقة.

38 - لا يضار الجار، قال علیه السلام أوصاني ربّي بالجار حتى ظننت أنّه يورثه.

39 - لا يشمت بالمصائب، أي لا يفرح بنزولها على غيره.

40 - لا يدخل في باطل، ولا يخرج عن الحق.

41 - لا يعلوا ضحكه لغلبة ذكر الموت. كما رُوي عمّن شاهده أنّ اكثر ضحكه التبسّم.

42 - صبره في البغي عليه الى غاية انتقام الله له.

(ذلكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُعِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورُ) (1)

القرآن يأمرنا بالتقوى

اكّد سبحانه و تعالى على التقوى، و حثّ الناس عليها، و رتّب فوائد جمة عليها، بل إنّ عنصر التقوى في سيرة البشر من الاسس المهمة في سلامة المجتمع و الفوز بالآخرة، فهي من عناصر النجاج و السعادة، فان آيات التقوى كثيرة جداً حيث وردت صور مشتقاتها في 249 موردا من القرآن الكريم. .

ص: 102


1- الحج / 60.

جاءت بلفظ صيغة الماضي (اتقوا) في (19) موضعاً من القرآن، وجاءت بصيغة الماضي (اتقى) المسند الى ضمير الغائب (هو) في سبعة مواضع.

و جاءت بصيغة الحث و التشويق والتنبيه: (لعلكم تتّقون)، (أفلا تتّقون) (ألا تتقون) في (19) موضعا.

و بلفظ (يتّقون) في (18) موضعا.

و جاءت بصيغة الأمر (اتَّقُوا) في (69) موضعاً، و اما بصيغة الاسم (المتّقون)، (المتّقين) في (49) موضعا.

ثم هناك ايعاز بل تصريح للكشف عن سبب هذا الحث و التأكيد على التقوى انظر الى هذه الصور من التأكيد و ما تتضمّن من اسباب و علل و نتائج، قال تعالى:

اتقوا النار - > التي وقودها

اتقوا يوما - > لا تجزي نفس عن نفس

واتقوا الله - > اليه تحشرون

واتقوا الله - > أن الله بكل شيء عليم.

واتقوا الله - > بما تعملون بصير.

واتقوا الله - > لا تموتنّ إلا و انتم مسلمون

واتقوا الله - > و ذروا ما بقي من الربا

اتقوا الله - > عليم بذات الصدور

اتقوا الله - > ولتنظر نفس ما قدّمت لغد.

ثم خلاصة مجموع تلك الآيات الكريمة قوله تعالى (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (1) (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (2). .

ص: 103


1- البقرة / 197.
2- الحجرات / 13.

ثمرة التقوى

يطالعنا القرآن الكريم بثمار عديدة تشكّل السعادة في الدارين، غير أنّ اغلب الناس هم عنها غافلون إلا ما رحم ربي.

فمن ثمار التقوى قوله تعالى من سورة آل عمران:

(للذين اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ أَزْوَاجُ مُطَهَّرَةُ وَ رِضْوَانُ مِنَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرُ بِالعِبَادِ) (1).

1 - إنّها الجنه و الازواج المطهرة، و رضوان من الله و هو فوق جميع الثمار، المادية و المعنوية.

و في آية 198 انزل سبحانه المتّقين منزلة الابرار و هي المنزله العاليه أنّها الجنة خالدين فيها.

و في آية 172 للمتقين أجر عظيم و هي ثمرة اخرى.

2 - ومن ثمار التقوى تكفير السيئات:

قال تعالى: ﴿ وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (2).

3 - ومن ثمار التقوى أنّها تستلزم الإحسان و الله يحبّ المحسنين قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (3).

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ) (4). .

ص: 104


1- ينظر: آل عمران 15 و 198 و 172.
2- المائدة 65
3- المائدة 93
4- النحل 128.

و ما ارقى هذه المنزله؛ أنّها المعيّة أي القرب المعنوي من الله سبحانه.

4 - ومن ثمارها: البركات قال تعالى:

(وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَ اتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (1).

5 - ومن ثمارها: عقبى الدار، أي العاقبة الحسنة، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ۚ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ۖ وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) (2).

6 - ومن ثمارها الخير، الجنة، الدار الآخرة، بل كل شيء تتشوق اليه نفوس المتّقين، وعليهم السلام من الملائكة ...

قال تعالى من سورة النحل:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (3).

7 - ومن ثمارها: الغرف والمنازل التي تجري من تحتها الانهار.

قال تعالى: (لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) (4). .

ص: 105


1- الاعراف / 96
2- الرعد / 35 انظر: آیه 109 من سورة يوسف.
3- النحل / 30 - 32
4- الزمر / 20.

8 - ومن ثمارها: النجاة من كل سوء.

قال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (1)

9 - ومن ثمارها: الاطمئنان وعدم الخوف يوم الحساب، قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (2)

هؤلاء هم اصحاب الأعراف الذين يدخلون الجنة لا خوف عليهم ... (3)

أقول: خير ما نختم به هذه الفقرة من بحث ثمار التقوى قول امير المؤمنين علیه السلام، قال: لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أو حش من العُجب، ولا عقل كالتدبير ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحُسن الخلق، ولا ميراث كالادب ولا قائد كالتوفيق ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كالثواب ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزهد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة كاداء الفرائض ولا إيمان كالحياء والصبر، ولا حسب كالتواضع ولا شرف كالعلم، ولا عزّ كالحلم، ولا مُظاهرة أوثق من المشاورة.

من صفات المتّقين: الحب في الله

الحب فطرة انسانيه وهبة ربّانية، وهو في الأصل علاقة العبد بربّه، وهو المحور الرئيسي الذي تدور عليه رياضات العباد و أهل العرفان و الصوفية.

و قيل الحب هو صفاء المودّة، لان العرب تقول لصفاء بياض الاسنان و نضارتها حبب الاسنان.

ص: 106


1- الزمر / 61.
2- الاعراف / 35
3- الاعراف / 49.

وقيل الحباب ما يعلو الماء عند المطر الشديد، فعلى هذا المحبة: غليان القلب وفورته عند العطش، و الاحتياج الى لقاء المحبوب.

و المحبّة على أوصاف، فهي عند العرفاء أوّل أودية الفناء والعقبة التي ينحدر منها عن منازل المحبوب، وهي علاقة السائرين الى الله تعالى، وتنعقد هذه العلاقة حسب تفهّم المرء لمعنى العبودية من جانب، وتعقّله لمعنى الربوبية من جانب آخر، اذن هي العلاقة بين العبد والرب.

والمحبة الهية لها مرتكز عظيم في عقيدة التوحيد، وربما اطلق على هذه المحبة بلقاء الله.

ورد عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم انه قال: «من احب لقاء الله، احب الله لقاءه، ومن لم يحب لقاء الله لم يحب الله لقاءه».

الحب

عن الامام الباقر علیه السلام قال لزياد: ويحك هل الدين إلّا الحب الاترى قول الله عزّوجل: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).

والمحبّة لله هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد ادراك المحبة مقام الّأ و هو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها كالشوق و الرضا و الانس.

و المحبة تنأى عن الهوى والودّ والعشق؛ إنّ الهوى عبارة عن سقوط الحب في القلب في اول نشأة في قلب المحبّ لا غير، فإذا لم يشاركه امر آخر وخلص له وصفا سُمّى حبّا، فاذا ثبت سُمّى ودّا، فاذا عانق القلب و الاحشاء و الخواطر لم يبق فيه شيء الّا تعلق القلب به سُمّي عشقا، فلذلك يعبر العشق بإفراط المحبّة قوله تعالى في شأن زُليخا (قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً) (1). .

ص: 107


1- يوسف / 30.

و الحب عبارة عن الميل الى الشيء الملذ، و انما يحصل بعد المعرفة بذلك الشيء و ادراكه بالحواس أو بالقلب، و الحب الالهي لا يحصل إلا بتطهير القلب من شواغل الدنيا و علائقها و التبتل إلى الله بالذكر والفكر، ثم اخراج حب غير الله منه.

إنّ محبة العبد لله عبارة عن صفة تظهر في قلب المؤمن المطيع، شأنه في ذلك التعظيم و الاكبار وغرضه طلب الرضا، وهذا التعظيم ينمو بشكل حبّ حتى يصير متفانيا في طلبه، قلقا ابدا ينشد قربه و لا يسكن الى احدٍ دونه ويعتاد ذكره و يتبرّأ مما سواه.

و لا يمكن أن تقاس محبّة العبد لله بمحبة الخلق لبعضهم البعض، لان تلك ميل الى الاحاطة بالمحبوب و إدراكه، و هذا حكم صفته الاجسام، و محبّو الحق تعالى مستهلكون في قربه لاهمّ لهم الّا رضاه سبحانه.

و هذا يقودنا الى كون الحبّ الالهي ليس دعوى يلفظها اللسان ويتصوّرها الخيال بل للحبّ آيات و شهود وشروط وأهل المحبّة على ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: محبّة العامة، وهو يتولّد من إحسان الله سبحانه اليهم و عطفه عليهم. و في ذلك يقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «جُبلت القلوب على حبّ من أحسن اليها و بغض من أساء اليها».

و شرط هذا الحب: هو صفاء الودّ مع دوام الذكر، لأنّ من أحبّ شيئاً أكثر ذكره.

سُئل الامام الحسن علیه السلام عن المحبّة فقال: بذل المجهود، و الحبيب يفعل ما يشاء.

الحالة الثانية: وهي أعلى من الأولى، وهي تتولّد من نظر القلب الى غناء الله وجلاله وعظمته وعلمه وقدرته، وهو حبّ الصادقين.

الحالة الثالثة: المحبة الصافية التى لا كدورة فيها، و هذه شرطها سقوط المحبّة عن القلب و الجوارح حتى لا يكون فيها المحبّة إلا لله، و تكون الاشياء بالله و لله.

ص: 108

منزلة اللسان من الجسد

روی سعید بن جبير مرفوعا:

«اذا أصبح ابن آدم اصبحت الاعضاء كلّها تشكو اللسان، تقول: أي ابن آدم، اتق الله فينا؛ فإنك إن استقمت استقمنا، و إن اعوجَجت اعوججنا».

و قد قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «من حُسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه.

اذن صون اللسان انّما يكون بعدة أمور منها:

1 - ترك فيما لا يعني شيئا لقائله.

2 - ترك الفضول من الكلام أي الزائد منه. جاء في المأثور: «مَن كثر كلامه کثر سقطه».

4 - ترك الخوض في الباطل، كمجالس الفسّاق وحديث النساء، ومجالس الخمر، وقد اشار سبحانه و تعالى الى كل ذلك بقوله محكياً عن لسان أهل النار: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (1).

5 - ترك المراء و الجدل.

قال علیه السلام: «دع المراء و إن كنت محقاً».

و لا يسعنا التفصيل في مساوي الجدل في هذا المورد إلّا أنّه لا يخفى على ذوي العقول أنّه يورث الضغائن و الحقد و البغضاء ويبعّد الصديق، ويفرّق بين المحبّ و الحبيب والمراء كذلك ...

آفة اللسان و فضل الصمت

تؤكّد النصوص الشريفة على ترك الفضول من الكلام، وتحثّ على الصمت. .

ص: 109


1- المدثر / 45.

سأل عُقبة بن عامر النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا رسول الله ما النجاة؟

قال: «أملك عليك لسانك و ابكِ على خطيئتك، وليسعك بيتُك».

أي تقيّد بالكلام النافع و الزم لسانك، واحذر من الفلتات و الّا سيكون عاقبته الحاق الضرر بك.

وروى سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم إنه قال: «من يتوكّل لي بما بين لحبّيه ورجليه أتوكّل له بالجنة».

و قال ابن مسعود سمعت رسول الله يقول: «أكثر خطايا ابن آدم من لسانه».

6 - ترك المزاح:

لانه يورث الخفّة و زيادته نقصان في العقل و المروءة، كما ورد في الخبر (ما مزح المرء مزحة إلا و مجّ من عقله مجّة).

7 - ترك الكلام البذيء و الفحش منه:

قال علیه السلام: «ايّاكم و الفحش فأنّ الله لا يحبّ الفحش».

و قال علیه السلام: «ليس المؤمن بالطعّان و لا باللعان و لا بالسّباب و لا البذيء».

ومن صفات المتقين

العفو عمن ظلمهم

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفُ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ) (1)

جاءت هذه الآية الكريمة تعليل لما سبق من قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (2). 99

ص: 110


1- الاعراف / 210
2- الاعراف / 199

إنّ شأن المتّقين دائما في تفكّر و تذكّر، فلا يغفلون عن أمر الآخرة و الحساب، فهم على يقين أنّ الله هو ربّهم الذي يملكهم و يربّيهم، يرجع اليه أمرهم، و هو سبحانه الذي يكفيهم مؤنتهم، ويدفع عنهم كيد الشيطان و جنوده ومكر الناس و أذاهم لذا رفع عن المتقين حجاب الغفلة فاذا هم مبصرون.

اذاً طريق ردع النفس عن ارتكاب الذنب هو التذكر اوّلاً، و هذا الطريق خير رادع، ثم العفو و هو يقع في المرحلة الثانية. و من مستلزمات العفو هو الايمان بالله سبحانه، وتذكّره في كل حال، والتقوى التي تردّ صاحبها إذا هَمَّ بالذنب، أو اذا غضب، و ربما ادّى الغضب الى سوق الفرد إلى الانتقام. من هنا امر سبحانه بالعفو، أي المداراة التي تمنع العداوة و تجلب المحبة و الأُلفة.

فما هو المطلوب منّا؟

لكي نتجاوز حالة العدوان المتمثّلة بالقوة الغضبيّة علينا أن نعفو عن الآخرين إذا أساؤوا إلينا، و هذا يستلزم حُسن الخلق، قال تعالى مخاطبا نبيّه الاكرم صلی الله علیه و آله و سلم: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (1).

ثم قال تعالى مخاطبا نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (2)

اذاً الخُلُق الحسن هو صفّة خاتم الانبياء و سيد المرسلين من الاوّلين و الآخرين، و هو أفضل أعمال الصدّيقين، و هو شطر الدين، وهو ثمرة مجاهدة المتّقين، و رياضة المتعبّدين قال صلی الله علیه و آله و سلم: (ثلاثٌ مَن لم تكن فيه أو واحدة منهنّ فلا يُعتدُّ بشيء من عمله: تقوى تحجزه عن محارم الله، و حِلمٌ يكفّ به السفيه، .

ص: 111


1- آل عمران / 159
2- القلم / 4.

وخلق يعيش به في الناس) (1).

سأل رجل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن حسن الخُلُق فتلا قوله عزّوجلّ: (خذ العفو و امر بالعرف و أعرض عن الجاهلين). ثم قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «وهو أن تصل من قطعك، و تعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك (2)».

«و قال صلی الله علیه و آله و سلم: «اثقل ما يوضع في الميزان تقوى الله والخلق الحسن (3)».

«و قال رجل: يا رسول الله أوصني. فقال صلی الله علیه و آله و سلم: اتّق الله حيث كنت. قال: زدني.

قال صلی الله علیه و آله و سلم: اتبع السيئة الحسنة تمحها. قال: زدني. قال صلی الله علیه و آله و سلم: خالق الناس بخلق حسن(4)»

هذه بعض اقوال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فى حسن الخلق و ثماره الطيّبة و على نقيضه الخلق السّيء و أنّ آثاره و خيمة جدا. قيل لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيّئة الخُلق تؤذي جيرانها بلسانها. فقال صلی الله علیه و آله و سلم: لا خير فيها، هي من أهل النار (5).

و مما يناسب هذا المقام أن يلتفت أهل الايمان و من يقتدي بسنّة النبيّ الاكرم صلی الله علیه و آله و سلم و أهل بيته الاطهار إلى تلك المواعظ الجليلة و الوصايا النافعة لان الانتساب إلى أهل البيت علیهم السلام يجب أن يجسّد قولاً وعملاً ويقينا ثابتا.

روى الشيخ الكليني بسنده عن جابر عن أبي جعفر علیه السلام: قال: قال لي: يا جابر أيكتفي من انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلّا من اتقى الله و أطاعه و ما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع، والتخشّع، والأمانة، و كثرة .

ص: 112


1- أخرجه الطبراني في معجمه الكبير و الخرائطي في المكارم عن أم سلمة. انظر المحجة البيضاء: 92/5.
2- الدر المنثور: 3 / 154.
3- اخرجه الترمذي: 168/8 من حديث أبي الدرداء.
4- أخرجه الدارمي: 323/2 من حديث أبي ذر، و احمد في المسند: 228/5
5- أخرجه البزار كما في مجمع الزوائد: 169/8 و البحار: 394/71.

ذكر الله، و الصوم والصلاة و البرّ بالولدين والتعهّد للجيران من الفقراء و أهل المسكنة و الغارمين و الأيتام، و صدق الحديث، و تلاوة القرآن، و كفّ الألسن عن الناس إلّا من خير و كانوا أمناء عشائرهم في الاشياء.

قال جابر: يا ابن رسول الله ما تعرف اليوم أحداً بهذه الصفة.

فقال: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسن الرجل أن يقول: أُحبّ عليا وأتولّاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال: إنّي احبّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فرسول الله خيرٌ من علي ثم لا يتّبع سيرته و لا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه اياه شيئا، فاتقوا الله و اعملوا ما عند الله ليس بين الله و بين أحد قرابة. أحبّ العباد الى الله و اكرمهم عليه تعالى أتقاهم و أعملهم بطاعته. يا جابر: و الله ما يتقرّب إلى الله تعالى الا بالطاعة، و ما معنا براءة من النار و لا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعا فهو لنا وليٌ، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدوٍّ، و ما تنال ولايتنا اِلّا بالعمل و الورع (1).

بعد هذه المقدمة في حسن الخلق نعرّج على تعريف العفو: قيل هو أن تستحق حقا فتسقطه و تبرأ عنه مِن قِصاص أو غرامة.

و قيل هو ضد الانتقام، و هو اسقاط ما يستحقه من قصاص أو غرامة (2).

اذن، اسقاط الحق هو عفو، و هذا شرطه عند المقدرة.

و الشرط الآخر: أن تصفح فلا عتاب و لا تقريع. لأن التقريع كما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في قوله تعالى: ﴿فَاصْفَح الصِّفْحَ الْجَمِيلَ) (3).

قال: «العفو من غير عتاب» (4) و جاء عن الامام الصادق علیه السلام: «عفواً من غير 5

ص: 113


1- الكافي: 74/2
2- جامع السعادات 301/1 و المحجة البيضاء: 318/5، باب العفو
3- الحجر / 85
4- امالي الصدوق: 45

عقوبة ولا تعنيفٍ و لا عَتب» (1).

و مما يزين المرء جمالاً و منزلة عند الله سبحانه: أن تُحسن لمن أساء إليك و هي درجة فوق العفو، فهو لا يكتفي بترك العقاب والعتاب والتقريع، بل يقابل إساءة الآخرين و ظلمهم له بالدعاء لهم و الاستغفار وصنيع المعروف.

روي أن رجلاً قدم على الامام زين العابدين علیه السلام فقال: إنّ فلانا وقع فيك و آذاك.

فقال له الامام علیه السلام: فانطلق بنا اليه، فانطلق معه و هو يرى أنه سينتصرُ لنفسه، فلمّا أتاه قال له: «يا هذا إن كان ما قلته فيّ حقا فالله تعالى يغفرُ لي، وإن كان ما قُلته فيّ باطلاً فالله تعالى يغفر لك» (2).

ويؤكّد هذا الجانب من العفو قوله تعالى: (وَ أَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (3).

و لا يخفى على المؤمن اللبيب انما العفو مادون الحد الشرعي. فالقاتل والسارق يستلزم حدّهما حتى لا تعطّل الحدود، ولا يتهاون فيها الناس، و لا يكون ثلما في الدين، أو وهنا في سلطان الاسلام. جاء عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «تجاوزوا عن الذنب مالم يكن حدّا» (4).

اذن العفو - انّما يصدق - عن الذنوب التي لم تشملها الحدود و احكام القصاص، فهي السيئات التي تخصّنا كأن يُسيء إلينا احدّ بكلمة نابيّة أو فعل مشين فانّ عفونا عن تلك الإساءات لا تترك في الدين ثلمة، و لا تخلّف في سلطان الاسلام وهيمنته وهناً أو ضعفا.

ثم يجوز العفو اذا كان الأمر حقاً خاصاً بالمَعْنيّ لا بالآخرين، فالإنسان ليس .

ص: 114


1- البحار: 357/78
2- كشف الغمة للاربلي: 198 ونور الابصار للشبلنجي: 136.
3- البقرة / 237.
4- تنبيه الخواطر لورّام: 360.

مخوّلاً أن يعفو عن سلطان جائر ظالم للناس، متجاهرا بالفسق و الفساد، ولا من حقّه أن يصفح لمن يُسيء لاهل الكرامة والعزّة، بل كل انسان أبصر بحاله وهو مسؤول عن ذنبه، امّا الآخرون فكلُّ واحد يتحمّل وزره حيث قال سبحانه: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (1).

وفي قوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (2) يتّضح أن كل فرد مسؤول عن احواله و افعاله، و يتحتّم العفو في موارد دون اخرى، فاذا علمت أنّ من جرّاء العفو تحصل مفسدة فالعفو هنا غير جائز، كأن تُغري المسيء في تكرار إساءته، و تشوّق المذنب و العاصي على ارتكاب الافضع والاكبر من الذنوب.

جاء في رسالة الحقوق للامام زين العابدين علیه السلام: «و حقّ من ساءَكَ أن تعفو عنه، وإن عَلِمتَ أن العفو يضرُّ انتصرتَ، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ) (3)

و خير مثال في هذا الباب قصة ابي غرّة الشاعر حضر مع قريش يوم بدر يحرّض قريشاً بشعره على القتال فأُسِرَ في السبعين الذين أُسروا، فلما وقع الفداء على القوم، قال أبوغرّة: يا ابا القاسم تعلم أني رجل فقير فامنُن على بناتي.

فقال علیه السلام: أُطلقُكَ بغير فداء ألا تُكثر علينا بعدها.

قال: لا والله فعاهده على أن لا يعود، فلمّا كان حربُ أُحد دعته قريش الى الخروج معها ليُحرّضَ الناس بشعره على القتال، فقال: إنّى عاهدت محمّدا أن لا اكثر عليه بعد ما مَنّ على.

قالوا: ليس هذا من ذلك، إنّ محمداً لا يسلم منّا في هذه الدفعة، فغلبوه على 1

ص: 115


1- الانعام / 164.
2- الغاشية / 22.
3- الشورى / 41

رأيه، فلم يُؤسَر يوم أُحد من قريش غيره. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ألم تُعاهدني؟

قال ابو غرّة: إنهم غلبوني على رأي، فامنن على بناتي.

قال: لا تمشي بمكّة، و تحرّك كتفيك و تقول: سخرتُ من محمّد مرّتين، المؤمن لا يُلسع من جُحر مرّتين، يا عليّ: اضرب عنقه (1). 0.

ص: 116


1- بحار الانوار: 79/20.

الفصل الرابع

اشاره

من خطبة له علیه السلام

يصف فيها المنافقين

ص: 117

ص: 118

خطبة أمير المؤمنين علیه السلام يصف فيها المنافقين

اشاره

(1)

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَ ذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَ نَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً وَ [لِحَبْلِهِ] بِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً. وَ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ، وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ، وَ خَلَعَتْ [عَلَيْهِ] إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ وَ أَسْحَقِ الْمَزَارِ.

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَ الزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً وَ يَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ وَ يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ؛ قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَ صِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَ يَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَ قَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَ فِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَ مُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ وَ مُقْنِطُو الرَّجَاءِ؛ لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَ إِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَ لِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَ يَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ. إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَ إِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَ إِنْ حَكَمُوا 94

ص: 119


1- خطبة رقم 194

أَسْرَفُوا. قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا وَ لِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا وَ لِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا وَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً وَ لِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً. يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ وَ يُنْفِقُوا بِهِ أَعْلَاقَهُمْ. يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ وَ يَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ وَ أَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَ حُمَةُ النِّيرَانِ: (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُون).

مصادر الخطبة

* الطراز المتضمّن لاسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز، يحيى بن حمزة العلوي 308/2

* غرر الحكم للأمدي / 54

* نهج البلاغه للشريف الرضي رقم 194

* شرح نهج ابن ابي الحديد

معاني المفردات

ذاد: طرد و المصدر الذّياد، و ذاد عنه، حمى عنه.

الغمرة: الشدّة. والغمرة من كلّ شيء: معظمه، و خاض كل غمرة: ارتكب كل مهلكة و تقحّم كل هول والغمرة ما ازدحم وكثر من الماء، وكذلك توصف الجماعة من الناس.

الغصّة: الشجا وجمعها غصص.

تلون: تقلّب. الادنون: الاقربون

تألّب: اجتمع على عداوته. الاقصون: الأبعدون

خلعت العرب أعنتها: اعنتها جمع عنان و هو حبل اللجام اي خرجت عن

ص: 120

طاعته فلم تنقد له بزمام، و العبارة كناية عن سرعة القوم قريش - الى حربه.

الرواحل: جمع راحلة، وهي الناقة. ضربت لمحاربته بطون رواحلها: ساقوا ركائبهم اسراعا لمحاربته.

أسحق المزار: اقصى مكان وابعده.

الضالّون المضلّون: الذين يضلّون انفسهم و يضلون غيرهم.

الزالون المزلّون: كذلك الذين يضلّون انفسهم و يضلّون غيرهم؛ زلّ فلان عن الأمر: أخطأ

يفتّنون: يتشعّبون فنونا، أي يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا.

يعمدونكم: يهدّونكم، يقال عمده المريض إذا هدّه ومنه قولهم للعاشق: عميد القلب و العماد: الامر الفادح.

يرصدونكم: يعدّون المكايد لكم.

قلب دَوٍ: أي فاسد، وفساده من داءٍ أصابه.

الصّفاح: جمع صفحة الوجه، يقول علیه السلام: باطنهم سقيم عليل و ظاهرهم صحيح.

يمشون الخفاء: أي في الخفاء و التستر.

الداء العياء: الداء الذي أعيى الاطباء و لا يمكن منه الشفاء.

حسدة الرخاء: جمع حاسد، أي يحسدون على السعة وإذا نزل بلاء بأحد أكّدوه و زادوه، و اذا رجى أحد شيئا أو قعوه في القنوط و اليأس.

الصريع: المطروح على الأرض، أي أنهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا حتى أو قعوهم في الهلكة.

الشجو: الحزن، أي يبكون تصنّعا متى أرادوا.

يتقارضون كل واحد منهم: يثنى على الآخر ليثني الآخر عليه.

الالحاف: الاستقصاء في السؤال، أي بالغوا وألحوا.

ص: 121

وإن عَذَلو: أي لاموا.

كشفوا: أي فضحوا من يلومونه.

الاعلاق: جمع علق؛ الشيء النفيس، السلعة الثمينة.

يقولون فيشبّهون: يشبّهون الحق بالباطل.

التمويه: التزيين و التلبيس؛ يهوّنون على الناس طرق السير معهم على اهوائهم الفاسدة.

اللّمة: الجماعة من الثلاثة الى العشرة.

الحمّة: الابرة تلسع بها العقرب ونحوها. حمّة النيران لهيب النيران و معظم حرِّها. و بالتخفيف: سمّ العقرب.

الاوجه البلاغية في النص

* (خاض الى رضوان الله كل غمرة)

استعار لفظ الغمرة لمعظم الشرور و المكاره المتكافئة المجتمعة حين بعثته صلی الله علیه و آله و سلم، شبّه ما للشرور من اتساع وطغيان بغمرة الماء، ثم رشح بذلك الخوض، و كنّى به عن مقاساته للمتاعب الكثيرة و ملاقاته للنوائب من المشركين في بدء الدعوة.

* (خلعت العرب اعنتها ... ضربت لمحاربته بطون رواحلها ...)

كنّى بهما عن المسارعة إلى حربه لان اقوى واسرع الحيوانات جريا هي الخيل إذا خلعت اعنتها. واقوى عدّوا: الرواحل اذا ضربت بطونها. و هنا ايماء الى أن هؤلاء جاءوا لمحاربته فرسانا و ركبانا حتى انزلت بساحتها عداوتها أي حروبها و شرورها التي هي ثمرة العداوة.

ص: 122

* (حتى انزلت بساحته عداوتها)

اطلق لفظ العداوة على الحرب مجازا، اطلاق اسم السبب على المسبب. و العداوة سبب الحرب

* (وقد تلوّن له الادنون)

كنّى بتلوّنهم عن تغيراتهم في القول و الفعل بحسب اغراضهم الفاسدة، فيلقون كلا بوجه و لسان غير الآخر، ثمّ ترصّدهم بكل حيلة في هلاك المسلمين.

و الادنون: هم اقرباوه من قريش. و المعني من التلوّن: هو تغيّر قلوبهم.

* (وتجرّع فيه كل غصة)

كنّى بالغصص عن عوارض الغموم له من ملاقاة تلك المكاره.

* (و تألَّبَ عليه الافصون)

اجتماع الاباعد عنه من العرب و انضمامهم من أقصى البلاد الى حربه. و العبارة فيها كناية عن الحرب.

* (يمشون الخفاء ... يدبّون الضراء)

كناية عن كون حركاتهم القوليه و الفعليه فيما يريدونه في خفاء افهام الناس.

* (لهم بكل طريق صريع)

كناية عن كثرة من يقتلونه أو يؤذونه بخديعتهم و مكرهم، وكنّى بالطريق عن كل حيلة احتالوها ومكر مكروه.

ص: 123

* (لهم لكل شجو دموع)

كناية عن توجعهم لكل شجو وتوصّلهم بذلك الى اغراضهم، و إن كانوا لاهل الشجو اعداءً.

* (و لكل ليل مصباحا)

لفظ الليل مستعار لما اشكل من الأمور، و كذلك لفظ المصباح للرأي الذي يدخلونه به ويهتدون الى وجهه كفعل و رأي عمرو بن العاص في رفع المصاحف ليلة الهرير، و دعوتهم أهل العراق أن يحاكموهم الى كتاب الله.

* (ليقيموا به أسواقهم)

استعار لفظ الاسواق لاحوالهم في معاملة الخلق من اخذ وعطاء فان فعلهم ذلك يقيمها بين الناس ويروّجها عليهم.

و لفظ الأعلاق مستعار لما يزعمون أنه نفيس من آرائهم و حركاتهم الخارجة عن أوامر الله.

* (وأضلعوا الطريق و ...)

كنّى بمضائقها عن دقائق المداخل في الأمور، و يتعويجها عن أنّهم إذا ارادوا الدخول في أمر.

* (حمّة النيران)

مستعار لعظم شرورهم. و وجه المشابهة: استلزامها للأذى البالغ.

ص: 124

شرح الخطبة

فتح كلامه عليه السّلام بالحمد باعتبارين؛ الأول هو التوفيق لطاعته المؤدي الى الفوز، و الثاني الطرد عن المعصية، لان ارتكاب الذنب و الأثام والاصرار عليها تؤدي إلى الخسران والهلاك.

ثم سأل سبحانه أمرين هما تمام الشكر والاعتصام بحبله المتين. بعد هذا اردف كلامه علیه السلام بالشهادة وشرح حال المرسّل صلی الله علیه و آله و سلم في أداء الرسالة الغرّاء ثم بيّن تظافر الاقرباء (الادنيين) و الا باعد (الاقصين) على حربه وعداوته. أما اذيّتهم للرسول صلی الله علیه و آله و سلم فهي كثيرة حتى قال صلی الله علیه و آله و سلم (ما أوذي نبي بمثل ما أُذيت) فمن: أذاهم: استهزاء قريش به ورميه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، و صياح الصبيان به و فرث الكرش على رأسه الشريف، و ضرب الحصار عليه و على أهل بيته ومن ناصره في شعب أبي طالب، ثمّ حرّموا عليهم البيع و الشراء و المناكح معه ومع بني هاشم، وتعذيبهم لاصحابه بشتى أنواع التعذيب. ثمّ أجمعوا على قتله و الفتك به حتّى هاجر من مكّة.

قال علیه السلام:

(قلوبهم دويّة و صفاحهم نقيّة)

أي اشتملت نفوسهم على الداء النفساني من الحسد والحقد والمكر والخديعة واعمال الحيلة، اظهار البشاشة والصداقه والمحبّة والنصيحة لهم.

و هذا هو الظابط في النفاق، اظهار ما ليس في القلب.

(يمشون الخفاء ... يدبّون الضراء)

مثلان لمن يختل غيره و يخدعه، وكناية عن حركاتهم القوليه و الفعلية فيما يريدونه في خفاء أفهام الناس.

ص: 125

(وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء).

أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين من الموعظة و الأمر بالتقوى وطاعة الله.

امّا أفعالهم أفعال الفاسقين الضالّين.

العياء: الذي يعجز الطبيب في علاجه.

(حسدة الرخاء):

أي إن رأوا الامر رخاء حسدوه، ومؤكّدوا البلاء: أي إن رأوا به بلاء اکّدوه بالسعاية والتأليب عليه.

(الهم بكل طريق صريع):

كناية عن كثرة من يقتلونه أو يؤذونه بخديعتهم ومكرهم. وكنّى بالطريق عن كل حيلة احتالوها ومكر مكروه.

(الى كلّ قلب شفيع):

أي أنّ من شأن المنافق أن يتخذ الى كل قلب ذريعة و وجها غير الآخر، فيكون صديق الكل حتى المتعادين، يتوصّل بذلك إلى إثارة الفتن و ايقاع الشر بينهم وهو في نفس الأمر عدو الكل.

(مقنطو الرجاء):

إنّهم يواجهوا أهل الرجاء باليأس و القنوط، فهم يستعملون خبثهم عن طريق النصح الظاهر (أنّه نصح مبطّن)، ويُفوّتوا على الراجي أمله حتى يخرجونه من ساحة الخير المرتقب والرحمة المرجوّة.

فهم فاسدون ومفسدون، يتفنّون في أساليب المكر و الخداع، ويغرّروا بالسذّج من الناس والبسطاء فيوقعونهم في الهلكات. كما أنّهم يستميلون القلوب بالملق والتواضع الكاذب.

ومن صفاتهم: اذا وقع إنسان في مشكلة وضاق عليه المخرج لا يساعدونه

ص: 126

على الخلاص، بل يزيدونه ضيقا على ضيق، وتعقيداً على تعقيد.

(يتعارضون الثناء و يتراقبون الجزاء):

أي يثني أحدهم على الآخر، ليثني الآخر عليه، كأنّ كلاً منهم يسلف الاخر دينا ليؤدّيه اليه، و كلّ يعمل للآخر عملاً يرتقب جزاءه عليه.

(إن سألوا ألحقوا ...):

أي الحّوا في السؤال، وهو أمر مذموم. قال تعالى يصف الفقراء و تعفّفهم عن السؤال:

(يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس الحافا ...) (1)

(و إن عذلوا كشفوا ...)

إذا عاتبوا أحداً كشفوا عيوبه، و ربما ذكروا عيوبه بمحضر من لا يأمن شرّه أو لم یکن صالحا في ذلك المحضر.

أي أنهم ليسوا من أهل النصح ولا من اهل الرشاد، لأنّ الناصح إذا أراد أن يعرّض بالذنب فلا بدّ أن يكون عتابه خفيفا و تعريضه لطيفا دون التصريح والأذى.

(اذا ولّوا اسرفوا ...)

إذا ولّى أحدهم ولاية أسرف في الظلم واعدّوا لكلّ حق باطلاً، ولكل حي قاتلاً، أي سببا يميتونه به.

والحي أعم من الانسان، و هيّؤوا لكل باب مفتاحا من الحيل و الخديعة. 3

ص: 127


1- البقرة / 273

(يقولون فيشبّهون ويصفون فيموّهون)

يوقعون بأقوالهم الشبه في القلوب ويوهّمون عليهم الباطل بصورة الحق. بمعنى آخر أنهم يقلبون الحقائق.

فهم يتوصلون الى الطمع باليأس، أي بإظهار اليأس عمّا في أيدي الناس و الزهد فيه كما يفعله كثير من زهاد العصر، و وصفهم بأخذ الشيء بضده أبلغ ما يكون في وصف النفاق و الحيلة.

(قد هوّنوا الطريق)

أي قد عرفوا كيف يسلكون في مقاصدهم من الاراء و الحيل. و أضلعوا الطريق: عوّجوا مضائقها.

و هذا يعني أنّ المنافقين إذا أرادوا الدخول في أمر مضيق أظهروا أنّهم يريدون غيره؛ تعمية على الغير و تلبيسا أن يقف على وجه الحيلة فيفسد مقصودهم.

سمّي النفاق نفاقاً من النّافقاء وهي بيت اليربوع له بابان يدخل من أحدهما و يخرج من الآخر، و كذلك الذي يُظهر دينا ويبطن غيره.

ظاهرة النفاق متى و كيف بدأت؟

1 - برزت هذه الظاهرة في المدينة و بعد ما قويت شوكت المسلمين

2 - نزول سورة (المنافقون» مدنيّة و آياتها 11 آية

قال تعال:

(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)

(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ...)

ص: 128

(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ)

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (1).

ولا يخفى عليك أن المنافق قد تجسّدت في نفسه ذنوب مركّبة.

فالذنوب أقسام

منها: ذنب بحق الله الخالق.

ومنها ذنب بحق الانسان نفسه.

ومنها ذنب بحق الآخرين من الناس أو المخلوقات.

و من الذنوب ما يجمع هذه الثلاث وهو يتمثّل بالمنافق حيث يعصي الله و يذنب تجرّيا و استكبارا ويذنب بحق نفسه فيوردها المهالك؛ إنّه يقترف المعاصي من أجل هذا العرض الزائل من زينة الدنيا، و يذنب بحق الناس و المخلوقات.

و النفاق لا يتصوّر إلا في المجتع امّا في عزلة من الناس فلا يتصوّر.

إذا النفاق داء اجتماعي قديم وجد مع المجتمعات التي تضم القوي و الضعيف، و يتطوّر بنمو المجمتع، و تكثر الوانه و اقسامه واتباعه كلّما حصل التعقيد في المجمتع، و النفاق من امّهات الرذائل الاجتماعية، إنّه مزيج من الخيانة و الغدر والكذب والمكر والضلال والفساد والظلم والاستبداد.

ظاهرة النفاق كما عرفت - برزت في المدينة بشكل واضح و قد حذّر القرآن الكريم من هذه الظاهرة الخبيثة أشدّ الحذر، و اكد للمؤمنين ما لهذه الظاهرة من .

ص: 129


1- المنافقون 1 و 4 و 8.

فساد و خطر بالغ لهذا جاء ذكر المنافقين في سورٍ عديدةٍ منها: في سورة البقرة وآل عمران، والنساء، و المائدة، و الانفال والتوبة و الحج والنور والعنكبوت و الاحزاب والفتح والحديد والمجادلة والحشر والمنافقون، و التحريم ... ولا نبالغ اذا قلنا إنّ الآيات التي صرّحت بسلوك المنافقين و صفاتهم قد ناهزت على المائتين آية و ثلاثة عشرة آية.

ما ورد في ذم المنافقين

لقد ذم الله المنافقين بقوله (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (1).

وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا * بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (2).

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (3).

و هناك آيات كثيرة تربو على المائتين سنأتي على ذكر بعضها في بحثنا هذا إن شاء الله.

اصناف الناس:

هُم ثلاث: إمّا سعداء؛ و هم اصحاب اليمين، و هؤلاء يمكن تقسيمهم الى:

الف - أهل الفضل و الثواب. 5

ص: 130


1- النساء / 143
2- النساء / 137 - 139.
3- النساء / 145

ب - أهل الرحمة.

ج - من شملهم العفو و المعذبون احيانا

و إمّا اشقياء؛ وهم أصحاب الشمال (المطرودون من رحمة الله سبحانه) و الذين حقّ عليهم القول، فهم كالانعام: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (1).

و اصحاب الشمال هؤلاء قد جاء التفصيل في شأنهم و مصيرهم في سورة الواقعة، الآيات: 41 - 72 و 92 - 94.

و إمّا سابقون؛ وهم المقرّبون و هؤلاء على قسمين:

الف - محبّون؛ جاهدوا في الله حق جهاده.

ب - محبوبون؛ أهل العناية الازلية، فهم العرفاء بالله و باليوم الآخر.

أمّا المنافقون فهم من القسم الثاني (الاشقياء) و إن خفي أمرهم على الناس لكن على الله لم يخفَ منهم شيء. قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (2).

إنهم كانوا مستعدّين بحسب الفطرة، قابلين للنور في الأصل و النشأة، ولكن احتجبت قلوبهم بالرّين المستفاد من اكتساب الرذائل و ارتكاب المعاصي، و مباشرة الاعمال البهيميّة و السبعيّة، و مزاولة المكائد الشيطانية، حتى رسخت الهيئات المظلمة في نفوسهم، و ارتكست افئدتهم، فبقوا حيارى تائهين و قد حبطت أعمالهم فهم اسوأ حالا من الكفار. 8

ص: 131


1- . الاعراف 179
2- البقرة 8

قال تعالى يصف حال أولئك: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (1).

و يمكن تفصيل الآية السابقه بالشكل الآتي: (و مِنَ الناس ...) مَنْ أولئك؟

إنّهم: (المنافقون).

ماذا يقول هذا الفريق من الناس ...؟

( ... مَنْ يقول آمنّا بالله و باليوم الآخر)

إنّه ادّعاء من قبلهم، وهذا ادّعاء كاذب، حيث اكّدت الآية الشريفة زيغ ذلك المدّعى؛ قال تعالى:

(و ما هم بمؤمنين)، إنها نتيجة صريحة.

إنّ المنافقين اثبتوا الصلاح و الاصلاح لانفسهم، اذ الدنيا لانفسهم في تنظيم اساب المعيشة وتيسير أمور الدنيا لانفسهم خاصة، وإن كان مؤدّيا الى خسران العاقبة لتوغّلهم في حبّ الدنيا و نيل الجاه و الثروة، و انهماكهم في اللذات و الراحات البدنية.

إنّ المنافقين أعظم جرما، حيث ذكرهم سبحانه في سورة البقرة في ثلاثة عشر آية من آية 8 الى آية 20، بينما ذكر المؤمنين فى أربع آيات، و الكافرين في آيتين. و هذا يذلل على خطر المنافقين الكبير و أثرهم السىء في الامّة.

مكانة المنافق

لقد ساوى القرآن الكريم بين الكافر و المنافق - في الجزاء فجعل مثواهما واحد، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَ الْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (3). 40

ص: 132


1- النساء / 145

من هنا جاء الامر الالهي للنّبي أن يجهاد كلا الفريقين قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (1).

كما حذر سبحانه رسوله صلی الله علیه و آله و سلم من أن يصلّي على أحد منهم، فقال جل ثناؤه: (وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (2).

بل وحتى الاستغفار من قبل الرسول لهم لم يكن منجيهم، قال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (3).

فلا عجب ان تغلّق ابواب المغفره بوجه هذه الثلّة من الناس، لانهم اصرّوا على الكذب من جانب؛ فما يظهرونه خلاف ما يبطنونه، و من جانب آخر اصرّوا على أن يكيدوا المسلمين و يلحقوا الضرر بصاحب الرساله بشتى الوسائل و في كل آنٍ أتيحت لهم الفرصة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا * بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (4).

الايمان لم يستقر في قلوبهم، و أنّ عقيدتهم متزلزلة مضطربة تنأى عن الحقّ، فلاثبات لهم؛ لا في القول و لا في العمل، فهم دائما يستجيبون لنداء الشيطان الكامن في نفوسهم و المستحكم في دمائهم، فلاترى منهم أي عمل صالح يرمّم صدع الشعب أو يسدّ ثغرا من الثغور، فليس لهم نخوة انسانية، و لا يرجى منهم خيراً أو برّا حتى لو قلّ، فهم مذبذبون بين الايمان و الكفر، لا إلى هؤلاء و لا الى هؤلاء. .

ص: 133


1- التوبة / 73.
2- التوبة / 84.
3- التوبة / 80.
4- النساء / 137 - 138.

و مما يؤكّد ضلالتهم وبعدهم عن الايمان و عدم شمولهم للرحمة الإلهية أنّهم ينفرون - بكل احاسيسهم ومشاعرهم - من التوبه و يرفضون الهداية، بينما الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كان يأمل فيهم التوبة و رجوعهم الى الصواب، ولكن من دون جدوى.

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (1).

كيف تصدر منهم التوبة و قلوبهم غارقة في بحر العصيان لا يهمّهم سوى ملذّات الحياة و الشهوات التي اركستهم في الحظيظ!

قال تعالى: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (2).

إنّهم اختاروا الضلال بمحض ارادتهم ... فلا نجاة طالما عاشوا الى أن ماتوا و هم على تلك الحالة.

و لا يخفاك أن المنافقين يتواجدون في كلّ زمان، بل وفي كلّ مكان فهي شريحة مبثوثة بين طبقات المجمتع، ولا تخلو فئة أو طبقة منهم.

فهم يتواجدون بين العلماء، وبين الساسة، وبين التجّار، وبين الكسبة، وبين العمال وبين الطلاب وبين الصغار من الناس، وبين الكبار وبين الرجال وبين النساء. ويشتد خطرهم بين رجال الدين والساسة ومن له نفوذ بين الناس.

إنّ فئة المنافقين تشكل خطرا جسيما على حياة الامّة الاسلامية، لانهم حلقة وصل خفيّة بين الكفار الملحدين والمسلمين، فهم يظهرون الايمان ليتقرّبوا الى المسلمين ويبطنون الكفر والعداء في الوقت نفسه.

من هنا تراهم يصطنعون كل اساليب التجسّس للايقاع بالمسلمين ويستخدمون 8

ص: 134


1- المنافقون / 5.
2- النساء / 88

اشخاصا لهم القدرة على البحث والجدل والكلام، أو من له قوّة في الحجاج و البيان، فقد استقطبوا افراداً من قادة الفكر و من رجال الجامعات و الادب ومن ذوي المواهب و الفِطن حتى بثّوا تلك الأفراد في الاندية و التكتلات الاجتماعية باسمٍ يناسب تلك المؤسسات وما الهدف إلّا استقصاءً لاخبارهم لتنقل الى اسيادهم الكفرة، ومن تلك المحاور ترى أساليب الهجوم المتعددة الاشكال و الالوان من دول الكفر والضلال إنّها اساليب تُعد وتجهّز للإطاحة بدولة الايمان؛ دولة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم واصحابه الاطهار، وهكذا شأن المنافقين في كل عصر.

هل يوجد فرق بين طبيعة الانسان وبين تطبُعه؟

الكذب رأس مال المنافقين، أنّه حالة مرضيه يجلبها الانسان الى نفسه فينطبع بها و التطبع صفه قابلة للزوال لكن إذا تمادى الشخص في الغي والضلال (الكذب) يفقد قدرة التشخيص، بل تنقلب لديه الموازين ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته، والمنافقون باصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق.

و تتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنها أعمال إصلاحية، أضف الى ذلك إنّ المعايير و الموازين عند المنافقين منقلبة و لكي يطلع القاريء على بعض خصوصياتهم نذكر جملة من ارائهم:

* الاعتداد بالنفس، و اعتقادهم أنهم ذوو عقل وتدبير، وإنّ المؤمنين سفهاء.

* يعتقدون إنّ الانصياع للحق سفاهة.

* و يعتقدون إنّ في إتباع الدعوة الالهية حماقة.

* الازدواجية في الشخصية والتلوّن في كل حال.

* التذبذب هو الطريق الناجح للفوز بالمكاسب الدنيوية.

* التقلب مع الظروف سعيا و راء الاهداف الشخصيّة.

ص: 135

صفات المنافق

اشار القرآن الكريم الى الكثير من صفات المنافقين، و اساليبهم الماكرة و نحن نشير الى بعضها تاركين التفصيل الى مناسبة اخرى إن شاء الله.

1 - صفة الاضطراب في العقيدة و الحيرة من امرهم.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) (1).

المنافق يمرّ بثلاث مراحل من الكفر، ويتخلّل هذه المراحل الثلاث إيمان مبطّن مزّيف، لذا فهم في تردّد لا ايمان لهم بل هم مذبذبون، وأنّ قلوبهم طُبعت على المكر والخديعة والفساد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (2).

المنافق له استعداد كامل أن ينقلب و يغيّر ويسالم، فهو يتلون مع تبدّل الظروف والمناسبات والمصالح ولا يشعر بالحرج فيما يؤدّيه.

متى يظهر المنافق انتسابه الى الحق؟

يظهر المنافق الايمان متى ما خاف الخسران المادي أو الأذى الجدي، أو نقصان في الجاه و السلطان، وبمعنى آخر أن القاعدة التي يكمن وراءه المنافق هي قاعدة الربح و الخسارة بكل ابعادها. قال تعالى يصفهم: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (2). 1

ص: 136


1- النساء / 138
2- النساء /141

اذن: الكسب المادي، و الخوف من الاذى و الهروب من شدائد العمل الجهادي؛ أي الخوف من القتل أو من الجراح، أو من المصائب، أو من المشقّة في العمل ... كل هذا يدفع بالمنافق أن يختار المداهنة و المكر حتّى يتمتّع بما يأمل من السلامة والنفع الدنيوي.

قال تعالى يصفهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ (1)

2 - يمشون عكس التيّار.

دائما ترى المنافق يزيّن لك الباطل و ينفّرك من الحق، فهو يأمرك بالباطل و ينهاك عن المعروف قال تعالى:

(الْمُنَافِقُونَ وَ الْمُنَافِقَاتُ بَعْضَهُم مِن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (2).

3 - قلوبهم مع زعماء الكفر وبهم اعتزازهم.

إن الظاهر لا قيمة له وانّما نوايا الإنسان التي تكمن في القلب هي الملاك، والمنافق ميّالاً حسب ذاته الى أهل الكفر، ويبتغي العزّة والمنعة عندهم، قال تعالى يصفهم:

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (3)

وكان زعيم النفاق يومئذ عبد الله بن أبي بن سلول هو الذي القى اللّوم على39

ص: 137


1- النساء 61 - 62
2- التوبة / 67. النساء / 139
3- نساء 139

اصحابه و خاطبهم إنه إن رجع الى المدينة (1) سوف يُخرج النبي و المسلمين منها وعبارته (ليخرجن الأعزّ منّا الاذل) و في هذا نزل القرآن الكريم يكشف سرائر هذا المنافق واصحابه:

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (2).

فكان يعني بالأعزّ نفسه - الخبيثة - وبالاذل: رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. فالمعيار عند المنافق - حتى يكون عزيزاً - هو المال والجاه والسلطة الدنيوية، وعدا ذلك لاوزن له عند المنافق.

4 - جمود القلب و انسلاخهم عن الفهم:

لمّا كان المنافق مرتكس القلب مسلوب الرحمة، بعيدا عن التوبة كل البعد فهذا كلّه يؤدي بالقلب الى الختم أو الطبع ... (ختم الله على قلوبهم).

وقوله تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (3).

من هنا أصبح المنافق من الغباء بمكان ومن البلادة وعدم التفكير ما هو واضح جدا، فانك تجد في قاموس المنافق أن كل خير هو عنده شرّ، وكل قبيح و شرّ هو عنده جميل وحسن فهو لا يوازن الامور بمقياس الشرع أو العقل بل يوازنها بمبدأ الربح و الخسارة.

5 - استهزائهم بالقرآن و التشكيك بما فيه: قلوب المنافقين سوداء حالكة اطبقت على الظلام فهي دائما في تشكيك و استهزاء، وقد كشف القرآن عن .

ص: 138


1- كان مع اصحابه المنافقين في صفوف جيش المسلمين في غزوة بني المصطلق سنة سنة للهجرة على المريسيع ... ماء لهم.
2- المنافقون / 8.
3- المنافقون / 3.

صفتهم تلك، فقال تعالى:

(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا) (1).

إنّه سؤال على وجه الانكار و السخرية، قاتلهم الله.

ثم قال تعالى: ( ... فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (2).

وعلى هذه الوتيرة يهربون من الموعظة و ينسلّوا من بين صفوف المؤمنين، قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ (3).

6 - يسيطر عليهم الجبن و البخل.

لا تراهم في سوح القتال، بل يستخفون وينسلّوا من بين الصفوف نجاة بأنفسهم، فهم في ساعات المحنة والجهاد جبناء، إلّا أنهم يمتلكون في الرخاء ألسنة سليطة جرّدوها على المؤمنين. قال تعالى: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ) (4).

أمّا في البخل فقال تعالى يصفهم:

(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (5) .

ص: 139


1- التوبة / 124.
2- التوبة / 125.
3- التوبة / 127.
4- الاحزاب /19.
5- التوبة / 98.

7 - المنافق تعجبه نفسه و صورته الخارجية.

يتخيل المنافق أن حسن الصورة و جمال الهيكل يكسبه موقعاً اجتماعياً و مكانة سياسية، و هو بذلك يستعلي على الآخرين، كأنما اصاب خير الدنيا كلّها.

قال تعالى: (وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ...). (1)

وهذه صفة عبد الله بن ابي بن سلول؛ أنّه كان فارغ الطول، حسن الجسم، ممتليء العضلات، جميل الصورة في صفاته تلك قلّ أن يشاركه فيها أحد، و كان يظن أنّ هذه السمات من مميزاته التي تُخضع له الناس وتهيّئه للزعامة والملك.

غير أن تلك الصفات الجسديّة لا يقيم لها العقل و الشرع أي وزن بل تصبح وبالاً على صاحبها كالجارية الكاعب الحسناء تختال بحسنها فهي ذات دلال وغنج ولكن سرعان ما يكون ذلك وبالا عليها فتقع في حبائل الجريمة ...

وهذا رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول كان كذلك، وكاد يتوّج بتاج الزعامة على الأوس و الخزرج غير أنّ نفاقه قاده الى الخسران الابدي (2).

ثم يصفه القرآن الكريم و من كان على شاكلته المنافقين: (كَأَنَّهُمْ خُشُبُ مُسَنَّدَةُ). هذه أجسادهم هي كالخشبة وأي نوع من الخشب؟ أنّها عديمة، الفائدة، المسنّدة على غيرها أو على الحوائط أو الحجارة، و تظل هكذا إلى أن تلقى بها في النار.

8 - شأن المنافق الكذب و الخلف في الوعد.

من ابرز الصفات التي طبع عليها المنافق هو الكذب، أنّه الكذب حتى مع .

ص: 140


1- المنافقون / 4.
2- ولا يخفى على المطالع أنّ عبد الله بن ابي بن سلول على ما عليه من صفات و نفاق كان يشتغل بالبغاء و يتاجر به - قوّادا - فقد ورد أنه عندما دخل الاسلام في المدينة كان لعبد الله بن أبي ست جوار: معاذة و مسيلَة و أميمة وعمرة وأروى وفتيلة، كان يكرههن على البغاء، و ضرب عليهنّ ضرائب، فشكت اثنتان منهنّ إلى رسول الله فنزل قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصّنا لتبتغوا عَرَض الحياة الدنيا) «النور: 33».

قرينه، و الخلف فيما يَعِدُ به الآخرين، و في بيان هذه الصفة نزل قرآن مبين، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) (1).

9 - التربّص لكسب النفع المادي.

المنافق دائما يتربّص بالاحوال ليغتنم فرصته الذهبية، ولا فرق بين منافقي هذا العصر و المنافقين زمن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم حيث كان هؤلاء ينتظرون ما يحدث للمؤمنين من خير أو شر، فإن ظهر المؤمنون على اليهود أو الكفار قالوا للمؤمنين ألم نكن معكم فاعطونا نصيبنا من الغنائم. وإن ظهر الكفّار قالوا لهم ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم بأن ثبّطنا عنكم الهمم وأدخلنا على المسلمين ما ضعفت به قلوبهم و توانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا لنا حقّنا ممّا أصبتم.

القرآن يكشف لنا هذا البعد ويفضح المنافقين في موارد عديدة من الآيات، قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) (2). وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) (3).

مع هذا التربص من المنافقين إلا أنّه لن يضرّ المؤمنين قط، قال تعالى:.

ص: 141


1- الحشر / 11 - 12.
2- النساء / 72 و 73.
3- النساء / 141.

(1)

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (1).

10 - التثاقل في اداء الفرائض كالصلاة.

لا توجد عبادة او فريضة من الفرائض إلا و هي عند المنافق ثقيلة ممقوتة. ولمّا كانت الصلاة اليومية جزءا من العبادة أنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا، غير أن المنافق يجعلها ضريبة جسدية، يحاول جاهداً أن يتخلّص منها، ولو خلّي وطبعه لتركها. اما اذا دُعي لها فيكون في حيرة، لانّه اذا صلّى فلا عن عقيدة فيها، من هنا ترى المنافق يتثاقل في أدائها قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى) (2).

و اذا ادّاها فانما يؤدّيها رياءٌ. و جاء عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم إخبارا عن المنافقين: إن اثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر و لو يعلمون ما فيهما لأتوهما حَبْوا (2).

11 - المنافق يتحاكم عند اهل الباطل.

اذا دعى الامر الى الخصومة والتحاكم فان المنافق يختار أهل الباطل ولا يلجأ الى أهل الايمان، وفي ذلك شواهد عديدة حدثت في صدر الاسلام و هي تتكرر على مرّ العصور، نشير الى بعضها تلويحا لا تفصيلاً:

1 - قصة المنافق المغيرة بن وائل مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام في شأن الارض التي ابتاعها المغيرة من الأمام، فدعاه الامام علیه السلام أن يخاصمه الى النبي صلی الله علیه و آله و سلم فرفض هذا المنافق حيث قال: أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم اليه فانه يبغضني، وأنا اخاف أن يحيف علىّ فنزل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ 5

ص: 142


1- التوبة / 52.
2- تفسير القرطبي 276/5

مُذْعِنِينَ * أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (1)

2 - قصة بشر المنافق مع اليهودي، فقال اليهودي لبشر بيني وبينك أبو القاسم. و قال المنافق بيني وبينك كعب بن الاشرف وكان يهوديا (2).

3 - قصة بشر بن ابيرق المنافق الذي ارتكب سرقة و فيه نزلت آيات (3).

منهج النفاق و المنافقين

عرفت أنّ المنافقين تواجدهم في كل زمان ومكان، والنفاق يشكّل منطق الكفر و الالحاد فهو اللسان الناطق، و العقل المفكّر الذي يمدّ الالحاد بخططه و منهجه، سواء حصل ذلك بالتعاون بين فريق المنافقين و فريق الكافرين أو كان ذلك حاصل في قرارة نفس الانسان المنافق، حيث يستمد من نفاقه حجّة لكفره وتبريراً لعدم دخوله في صف المؤمنين.

لهذا و لاسباب موضوعية اخرى شدّد سبحانه على المنافقين، بل من الخطورة بمكان محاباتهم، لذا أوجب سبحانه قتلهم قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (4). 9

ص: 143


1- النور /47 - 052
2- انظر الآيات من سورة النساء: 60 - 65.
3- النساء / 105 - 114
4- النساء / 89

إنّ أسلوب النفاق في كل عصر ينبع من الحضارة السائدة، واليوم تجد النفاق قد صاغه مريدون باسلوب عصري جديد، فالمنافق يأتيك من طرق عديدة؛ مرة يأتيك بالعروبة واخرى بالقومية، ومرّة يأتيك بالتجديد و الاجتهاد، ومرة يقصدك بالانفتاح على الثقافات الاجنبية، و مرّة يحاورك بمنطق العلم دون الدين و اخرى يسعى إليك بتجديد الأحكام و اظهارها بلباس الحداثة، و الى غير ذلك من كلمات يروق له أن يستخدمها عسى وأن يصطاد بها قلوب ضعيفي الايمان.

مهما يكن من أمر فان اساليب النفاق عديدة ومتنوعه منها:

1 - الكذب والأيمان المغلّظة.

2 - قلب الحقائق، كما فعله سمرة بن جندب في قضية نزول آية المبيت ﴿ وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ﴾ (1).

3 - الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

4 - استخدام الخداع و المكر و الحِيَل.

5 - إثارة الخلاف و ايجاد الفرقة بين طرفين أو طائفتين.

6 - استخدام وسائل الدعاية بكل صورها حتى الأساليب الدنيئة منها و المنحطّة.

7 - الشماتة في كل مصيبة تحلّ بالطرف الآخر.

8 - تحبيذ اللهو والفساد والدعوة اليهما.

9 - التنفير عن الطاعات كالعبادة اليومية وما شابه.

10 - تهبيط العزائم في كل عمل فيه رضى الله سبحانه

11 - التجسس ومحاولة الاطّلاع على اسرار المؤمنين.

12 - الرياء فيما يؤدّونه من عمل عبادي أو اجتماعي. .

ص: 144


1- البقرة / 207.

صفات المنافق

روي عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا عاهَدَ غَدَر، واذا خاصَمَ فَجَرَ، فمن كانت فيه خصلة منهم كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها» (1).

و قال صلی الله علیه و آله و سلم: من خالفت سريرته علانيته فهو منافق كائنا من كان (2).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام: «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبّني. و ذلك أنّه قُضى فانقضى على لسان النّبي الأمي صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: يا على لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق» (2)

و عنه: إن لسان المؤمن من وراء قلبه و إن قلب المنافق من وراء لسانه. (3)

و عنه: المنافق لنفسه مداهن وعلى الناس طاعن (4).

وقال الصادق علیه السلام: اربع علامات للنفاق قساوة القلب، وجحود العين، و الاصرار على الذنب، والحرص على الدنيا (5).

وعنه علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ثلاث من كنّ فيه كان منافقا و إن صام وصلّى وزعم أنه مسلم من اذا أئتمن خان، واذا حدّث كذب، واذا وعد أخلف إن الله عزّوجلّ قال في كتابه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (6). 8

ص: 145


1- صفة النفاق: ابوبكر الفريابي (ت 301 ه-)، ص 30
2- نهج البلاغة الحكمة: 45.
3- نهج البلاغة خطبة 176.
4- غرر الحكم: 2008.
5- بحار الانوار: 176/72، ب 103 حديث 4.
6- الانفال / 058

وقال: ﴿ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (1).

وعن أبي حمزة عن علي بن الحسين علیه السلام قال: إن المنافق ينهي ولا ينتهي و يأمر بما لا يأتي، و إذا قام الى الصلاة اعترض.

قلت: يا ابن رسول الله ما الاعتراض؟

قال: الالتفات، فاذا ركع ربض، يمسي و همّه العشاء وهو مفطر، ويصبح و همّه النوم ولم يسهر، وإن حدّثك كذبك، وإن أئتمنته خانك، وإن غبت اغتابك، وإن وعدك أخلفك (2).

وعن الامام الصادق قال: قال لقمان لابنه: لكل شيء علامة يعرف بها و يشهد عليها ... ثم قال: للمنافق ثلاث علامات: يخالف لسانه قلبه، و قلبه فعله وعلانيته سريرته (3)

و عن ابي الحسن الأول علیه السلام: قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: اربع يفسدن القلب و ينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر استماع اللهو والبذاء، وإتيان باب السلطان وطلب الصيد (4).

اقول: ومن اللهو: الغناء فالاستماع اليه ينبت النفاق في القلب. وقد وردت عدّة آيات في تحريم الاستماع اليه:

قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (5). .

ص: 146


1- النور: 7، انظر بحار الانوار: 108/72، ب 99 حديث 8
2- تفسير نور الثقلين: 566/1، حديث 638.
3- الخصال: 1/ 121 باب الثلاثه، حدیث 113
4- المصدر السابق: 277/1، حدیث 63.
5- لقمان / 6.

نقل عن ابن عباس قال: المراد بلهو الحديث هو الغناء (1).

و قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (2).

وقال تعالى: ﴿ وَ إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (3).

قال المفسرون: اللغو هو الغناء.

وقال تعالى: ﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) (4)

قال ابن عباس: سامدون هو الغناء، بلغة حمير و قال مجاهد هو الغناء بقول اهل اليمن (5).

و قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلالاً). (6)

روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنّ رجلاً قال له: إنّ الله كتب عليّ الشقوة أفلا أراني أرزق إلا من دَفّي بكفّي، فاذن لي في الغناء من غير فاحشةٍ؟

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لا اذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت يا عدوّ الله، لقد رزقك الله طيبا، فاخترتّ ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما احلّ الله لك من حلاله، أما إنّك لو قلت بعد هذه النوبة ضربتُك ضربا وجيعا (7). .

ص: 147


1- المرأة المعاصرة: 128.
2- المؤمنون /3.
3- القصص / 55.
4- النجم / 61.
5- المرأة المعاصرة: 128
6- يونس / 59.
7- سنن ابن ماجه: 871/2 كتاب الحدود باب ما جاء في المخنّثين وتفسير الفخر الرازي.

ص: 148

الفصل الخامس

اشاره

ومن كلام له علیه السلام

عند دفن سيّدة النساء فاطمة علیها السلام

ص: 149

ص: 150

خطبة الامام امیرالمؤمنین علیه السلام لما دفن الزهراء علیها السلام

وَ مِنْ كَلامٍ لَهُ علیه السلام

(1)

روي عنه أنه قالها عند دفن سيدة النساء فاطمة علیها السلام، كالمناجي بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عند قبره:

السَّلامُ عَلَيكَ يا رسولَ اللّه ِ عَنّي وَعَن اِبنَتِكَ النّازِلَةِ في جِوارِكَ وَالسَّريعَةِ اللَّحاقِ بِكَ. قَلَّ يا رسولُ اللّه ِ عَن صَفيَّتِكَ صَبري، وَرَقَّ عَنها تَجَلُّدي؛ إلاّ أنَّ لي في التَّأسّي بِعَظيمِ فُرقَتِكَ وَفادِحِ مُصيبَتِكَ مَوضِعَ تَعَزٍّ؛ فَلَقَد وَسَّدتُكَ في مَلحودَةِ قَبرِكَ، وَفاضَت بَينَ نَحري وَصَدري نَفسُكَ. فَإنّا للّه ِ وَإنّا إلَيهِ راجِعونَ. فَلَقَد استُرجِعَتِ الوَديعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهينَةُ.أمّا حُزني فَسَرمَدٌ، وَأمّا لَيلي فَمُسَهَّدٌ إلى أن يَختارَ اللّه ُ لي دارَكَ الَّتي أنتَ بِها مُقيمٌ. وَسَتُنَبِّئُكَ ابنَتُكَ بِتَضافُرِ أُمَّتِكَ عَلى هَضمِها فَأحفِها السؤالَ وَاستَخبِرها الحالَ. هذا وَلَم يَطُلِ العَهدُ وَلَم يَخلُ مِنكَ الذِّكرُ. وَالسَّلامُ عَلَيكُما سَلامَ مُوَدِّعٍ لاقالٍ وَلاسَئِمٍ.فَإن أنصَرِف فَلا عَن مَلالَةٍ، وَإن أُقِم فَلا عَن سوءِ ظَنٍّ بِما وَعَدَ اللّه ُ الصّابِرينَ. .

ص: 151


1- خطبة رقم 193. وفي شروح نهج البلاغة تقديم و تأخير، فراجع.

مصادر الخطبة

اشاره

* اصول الكافي، الشيخ الكليني 1 / 458.

* مجالس الشيخ المفيد ص 160

* دلائل الامامة للطبري الآملي 47 - 48.

* الامالي - للشيخ الطوسي 1 / 108.

* التذكرة - لسبط ابن الجوزي ص 319

* نهج البلاغة للشريف الرضي خطبة رقم 193.

ألاوجه البلاغية في النص

في «وسّدتك» كناية عن إضباعه الله في اللحد، وهو الشق في جانب القبر.

و «ملحودة قبرك» اى الجهة المشقوقة من القبر.

في استرجعت الوديعة و اخذت الرهينة استعارة. استعار لفظ الوديعة والرهينة لتلك النفس وجه الاستعارة الأولى أنّ النفوس في هذه الابدان تشبه، الودائع و الامانات في كونها تسترجع الى عاملها في وجوب المحافظة عليها من المهلكات. او كون المرأة وديعة الرجل، كما يقال: (النساء ودائع الكرام).

و الاستعارة الثانية: أنّ كلّ نفس رهينة على الوفاء بالميثاق؛ ميثاق الله، وهي أن ترجع اليه سالمة من سخطه، عاملة بأوامره، غير منحرفة عن صراطه المستقيم.

«الى أن يختار الله لي دارك» في الدار كناية عن الجنة لانه ممّن بشّر بها.

الشرح:

«السّلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك».

ص: 152

يحتمل أن يكون المراد بالنزول في جواره أي في منازل الجنان على أن منزلها في مثواها الاخير هو كذلك بالقرب من مثوى النبي صلی الله علیه و آله و سلم و لكون إنّ دفنها كان سرّاً، لذا اختلف في مكان دفنها، قال المفيد في المقنعة إنّها في الروضة استنادا الى مرسلة ابن أبي: عمير عن الصادق علیه السلام قال: قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: مابين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، و منبري على ترعة من ترع الجنة. لان قبر فاطمة علیها السلام بين قبره ومنبره.

روى الكليني: أن الرضا علیه السلام سئل عن قبرها فقال: دفنت في بيتها. فلما زادت بنو امية في المسجد صارت في المسجد (1)، و اختاره الصدوق في من لا يحضره الفقيه.

وفي قرب الاسناد، سأل رجل أبا عبد الله علیه السلام عن مدفن فاطمة وعيسى بن موسى حاضر فقال له عيسى: بالبقيع. فقال الامام علیه السلام: بل دفنت في بيتها (2).

«السريعة اللحقاق بك»:

معناه أن فاطمة علیها السلام ماتت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمدة وجيزة قدّرها بعضهم بخمس و اربعين يوما و قيل بثلاثة اشهر كما هو عند بعض رواة الخاصة، وعند رواة العامة اقصاها ستة أشهر.

عن جابر الانصاري قال: قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم لعلي علیه السلام: «يا ابا الريحانتين عن قليل يذهب ركناك»، فلما توفي النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال علي علیه السلام: هذا أحد الركنين. ولمّا توفيت فاطمة علیها السلام قال: هذا هو الركن الآخر (3).

عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة كأن مشيتها مشية النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: مرحبا با بنتي 7

ص: 153


1- الكافي 461/1، حديث 9.
2- قرب الاستاد عبد الله بن جعفر الحميدي، ص 161 ط حجرية طهران ناصر خسرو
3- تذكرة الخواص - سبط ابن الجوزي ص 287

ثم أجلسها عن يمينه، ثم اسرّ اليها حديثا فبكت فقلت: استخصّك النبي صلی الله علیه و آله و سلم و أنت تبكين، ثم إنّه اسرّ اليها فضحكت، فقلت لها: ما رأيت كاليوم أقرب فرحا من حزن، ما اسرّ اليك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم حتى إذا قبض سألتها فقالت: قال صلی الله علیه و آله و سلم: كان جبرئيل يعارضني بالقرآن في كلّ عام مرّة و أنه عارضني به العام مرّتين، و لا أراه إلا قد حضر أجلي و أنّك اوّل أهلي لحوقاً بي و لنعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك. فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامّة فضحكت (1).

قد تسأل ما الذي جرى على بضعة النبي، فاطمة الزهراء علیها السلام حتى ماتت في. ريعان شبابها و هي في عمر الزهور؟!

الجواب:

روى الطبراني و الواقدي في تاريخهما أنّ عمر بن الخطاب جاء الى علي في عصابة فيهم أسيد بن الحصين وسلمة بن أسلم (2) فقال: اخرجوا أو لأحرقنّها عليكم.

و روى ابن حزانة في غرره قال: زيد بن أسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر الى باب فاطمة حين امتنع علي و اصحابه عن البيعة أن يبايعوا، فقال عمر الفاطمة: أخرجي مَن في البيت أو لأحرقنّه و من فيه. قال: و في البيت علي و فاطمة والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فقالت فاطمة: أتحرق على .

ص: 154


1- مسند احمد بن حنبل حدیث 25209، و رواه مسلم 207/12، حديث 4487، و البخاري 454/11، حديث 3353 في صحيحهما، و أبن عبد ربّه الاندلسي في العقد الفريد 1 / 340.
2- و كان فيمن جاء مع عمر: ابوبكر و عثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبه وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى حذيفة و قنفذ ذكرهم العياشي بسنده، وفيهم - ايضا - معاذ بن جبل واسيد بن حصين و بشير بن سعيد. انظر: منهاج البراعة لابن ميثم: 25/3.

ولدي؟ فقال: أي والله أو لتخرجنّ وليبايعنّ (1).

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة في حديث طويل بعد ذكر مطالبة فاطمة أبابكر فى ميراث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و فدك وسهمه من خيير قالت: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي ليلاً و لم يؤذن بها أبا بكر، قالت: فكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي ... (2)

وروى ابن أبي الحديد من كتاب احمد بن عبد العزيز الجوهري بعد ايراد قصة فدك أنّ فاطمة علیها السلام قالت و الله لا كلمتك أبدا. قال: والله لا هجرتك أبدا.

قالت: والله لا دعونّ عليك، قال: والله لادعونّ الله لك، فلمّا حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلّي عليها، فدفنت ليلاً و صلّى عليها العباس بن عبدالمطلب وكان بين وفاتها و وفاة أبيها صلی الله علیه و آله و سلم الا اثنتان وسبعون ليلة (3).

وقال ابن ابي الحديد: و الصحيح عندي أنها ماتت وهي واجدة (4) على ابي بكر و عمر، وأنها أوصت أن لا يصلّيا عليها (5).

روى الصدوق باسناده عن عمرو بن أبي المقدام و زياد بن عبيد الله، عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طويل ذكر فيه علیه السلام غضبها على أبي بكر و عمر، قال علیه السلام: ثم قالت: أشند كما بالله هل سمعتما النبي صلی الله علیه و آله و سلم يقول: فاطمة بضعة منّي وأنا منها، من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي.6

ص: 155


1- انظر تفصيل الحادثة في كتاب الاحتجاج للطبرسي وكتاب سليم بن قيس و مرآة العقول 318/5 - 321
2- صحیح مسلم: 207/9، حديث 3304.:
3- شرح النهج لابن أبي الحديد: 16 / 215.
4- اي ساخطة عليهما.
5- شرح النهج: 050/6

قالا: اللهم نعم.

فقالت: الحمد لله

ثم قالت: اللهم إنّي اشهدك فاشهد و اشهدوا يا من حضرني أنهما قد آذاني في حياتي و عند موتي، والله لا أكلّمهما من رأسي كلمة حتى ألقى أبي فأشكوكما إليه بما صنعتها بي وارتكبتما منّي، فدعا أبوبكر بالويل والثبور وقال: ليت أمّي لم تلدني. فقال عمر: عجبا للناس كيف ولّوك امورهم وأنت شيخ قد خرفت تجزع الغضب امرأة و تفرح،برضاها، وما لمن أغضب امرأة؟

و قاما وخرجا ثم ذكر علیه السلام وصيّتها أن لا يحضرا جنازتها ولا الصلاة عليها وأنّه همّ عمر أن يمضي الى المقابر فينبشها حتى يجد قبرها فيصلّي عليها فنازعه علي علیه السلام و كاد أن تقع فتنة فقعد عن ذلك. (1)

نتابع فصول الخطبة

«قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري»

الصفيّة: الحبيبة و الخالصة من كل شيء وهي الزهراء علیها السلام، وقد تظافرت الروايات في ما كان لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من التبجيل لها و اكرامها و ما كان يكن لها من حبّ. فقد كانت احبّ بناته صلی الله علیه و آله و سلم اليه واكرم من عنده، وسيدة نساء أهل الجنة، وكان صلی الله علیه و آله و سلم اذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلّى فيه ركعتين ثم بدأ ببيت فاطمة علیها السلام فسأل عنها ثم يدور على نسائه، وما فعله صلی الله علیه و آله و سلم ذاك الّا إكراما لفاطمة و إعتناء بها.

«ورق عنها تجلّدي»

أي ضعف صبري لفقدها، ورقّ ذلك التجلّد، لفقدها، ورقّ ذلك التجلّد، ثم المصيبة بفراقك أعظم، وكما

صبرت في تلك على كونها اشدّ فلئن أصبر على هذي أولى. .

ص: 156


1- مرآة العقول: 323/5.

«إلا إنّ لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك»:

قد تقرأ «إلّا إنّ» بكسر الهمزتين و تشديد اللام والنون وقد تقرأ بفتح الهمزتين من (ألا وأن)، و لكلّ منهما توجيه خاص. والفرقة من افتراق القوم.

و التأسّي من تأسّى أي عزّاه فتعزّى و الفادح: الثقيل الصعب، و الفادحة المصيبة الشديدة وكلمة تعزّ بمعنى التصبّر. والتأسّى: الاقتداء. وكأن المعنى أنّ التأسي لي بالسنة التي جعلتها لي وأوصيتني بها في فرقتك أو مطلق سنّتك وطريقتك في الصبر على المصائب يمكن أن يكون داعيا الى الصبر في تلك المصيبة، و بعبارة أخرى أني قد تأسّيت بسنتك في فرقتك يعني صبرت عليها، فالحري أن أصبر في فرقة ابنتك فان مصيبتي بك اعظم.

و نستفيد من عبارته علیه السلام انها كالعذر والتسلية لنفسه الشريفة.

«فلقد و سّدتك في ملحودة قبرك»:

الوسادة: المخدّة و المتكاً، و سّدتك: أي جعلت لك و سادة. في «وسّدتك» كناية عن إضباعه صلی الله علیه و آله و سلم في اللحد. و اللحد: الشق في جانب القبر، و«ملحودة قبرك» أي الجهة المشقوقة من قبرك. و ربما اضاف الملحودة الى القبر لكونها بيانية. و في العبارة تذكير لنفسه علیه السلام و هي كالشرح للمصيبة.

«و فاضت بين نحري وصدري نفسك»:

فاضت أي سالت وجرت نفسك: أي روحك الطاهرة.

كان رأس النبي الشريف حال الاحتضار في حجر أمير المؤمنين علیه السلام و قد اسنده اليه، أي وضعه بين صدره و نحره متكأ عليه و هذا من أشد أوضاع وقوع المصيبة و بالخصوص عند الاحبّاء والمقرّبين.

في الارشاد (1) لمّا قرب خروج نفس النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال لامير المؤمنين علیه السلام: ضع .

ص: 157


1- الارشاد: 1/ 185، ط کنگره جهاني شيخ مفيد، 1413ه-.

رأسي في حجرك فقد جاء امر الله تعالى. فاذا فاضت نفسي فتناولها بيدك و امسح بها وجهك. ثم تلى الآية الشريفة: و هو امتثال لقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (1).

«فلقد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة»:

روى الشيخ المجلسي في البحار في حديث احتضار النبي صلی الله علیه و آله و سلم: ثم بكت فاطمة علیها السلام و اكبّت على وجه النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقبّلته واكبّ علي والحسن والحسين عليهم السّلام فرفع رأسه إليهم، ويد فاطمة في يده فوضعها في يد علي علیه السلام وقال له: يا أبا الحسن هذه وديعة الله و وديعة رسوله فاحفظني فيها وأنّك لفاعل، هذه والله سيدة نساء أهل الجنّة من الأوّلين و الآخرين. هذه و الله مريم الكبرى ... (2).

المراد بالوديعة و الرهينة كما عرفت هي نفس فاطمة علیها السلام، فاستعار الوديعة و الرهينة لتلك النفس الكريمة، لان الارواح كالودایع والرهائن في الا بدان، أو لأنّ النساء كالودایع والرهاين عند الزواج.

«أما حزني فسرمد، وامّا ليلي فمسهّد»

السّرمد: الدائم: فحزنه على فقد النبي و الزهراء علیها السلام لا ينقطع.

السّهد، بالضم: السهر وبضمتين القليل النوم وسهّدته فهو مسهّد على صيغة التفعيل، و الاسناد إلى الليل تجوّزاً.

«إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم»:

أي أنه علیه السلام سيصبر امتثالا لأمر النبي صلی الله علیه و آله و سلم و عملاً بكتاب الله، انه سبحانه يوفّي اجور الصابرين بغير حساب، ثم أنّ الصبره علیه السلام امرا يقتضيه الدين الحنيف و ذلك حفاظا على الشريعة علیه السلام المقدّسة ولئلا يعود الناس الى جهالتهم وضلالتهم، لأنّ .

ص: 158


1- البقرة / 156
2- نهج الصباغة - التستري: 10/5 و بحار الأنوار: 22 / 484.

اعلان الحرب على الغاصبين نذير بردّة الناس، وهمم جديد عهد بالاسلام.

و سيدوم هذا الصبر حتى يقبضه الله اليه، فهي الدار التي انت فيها - يا رسول الله - مقيم، وهي الجنة و الدرجات العالية في الآخرة.

«و ستنبّئك ابنتك بتضافر امتك على هضمها»:

أي ستخبرك الزهراء علیها السلام بما جرى عليها من الظلم و الاعتداء وتجاسرهم على حرمة هذا البيت.

تضافروا على الشيء: تعاونوا عليه، أي اجتمعت كلمة القوم أن يغصبوا حقها و يحملوا الحطب ليضرموا النار على بابها ويسقطوا جنينها.

في العبارة: شكوى الى الرسول تقدّم بها علیه السلام، و بيان عن حاله و حال الزهراء ما لاقوه من الأمة من خذلان وغصب حقوقهما.

«فاحفها السؤال و استخبرها الحال»:

الإحفاء فى السؤال: الاستقصاء فيه و المبالغة والعناية في امره.

و استخبرها الحال: أي حالي وحالها وحال امّتك في ظلمهم لي ولها.

و في بعض المصادر عبارته علیه السلام فيها: «فبعين الله تدفن ابنتك سرّا» أي بعلم الله و مع رؤيته و شهوده قال الراغب في المفردات: فلان بعيني أي احفظه و أراعيه كقولك: هو منّي بمرأى و مسمع، قال تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (1). وقال: (وَأَصْنَع الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) (2)

«دفن ابنتك سرّا» لغاية مظلوميتها من منع ارثها و نحلتها.

«هذا ولم يطل العهد و لم يخل منك الذكر»:

الجملة حالية: أي فعلوا جميع ذلك ولم يبعد ذلك و لم يبعد عهدهم بك و بما 7

ص: 159


1- الطور / 48.
2- هود / 37

سمعوا منك في أهل بيتك مع وجوب رعاية حرمتك.

«و السلام عليكما سلام مودع ...»:

صورة وداع لهما - للنبي صلی الله علیه و آله و سلم و الزهراء علیها السلام - «لا قال و لا سئم ...» امّا وداعي لكما فلا عن كره أو بغض، ولا عن جزع أو ملل.

«فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم ...».

تنزيه لنفسه عما يخطر ببال أحد أنه علیه السلام جزع على هذا المصاب فلازم القبور لشدّة تأسّفه وحزنه.

قبس من فضائل فاطمة علیها السلام

عن علي بن جعفر، عن أخيه، عن أبي الحسن علیه السلام قال: إنّ فاطمة علیها السلام صدّيقة شهيدة (1).

إنّها كانت صادقة في جميع اقوالها وافعالها وكانت كثيرة التصديق لما جاء به النبي صلی الله علیه و آله و سلم و الصدّيقة هي معنى العصمة، و هي داخلت في عموم الآية الكريمة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (2)

روى الخطيب في «عبدالرحمن بن على» عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال: إِنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم مجمع عليّا و فاطمة والحسن والحسين علیهما السلام ثم أدار عليهم الكساء، فقال: هؤلاء أهل بيتي اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. و أم سلمة على الباب، فقالت: يا رسول الله ألست منهم؟ فقال: إنك لعلى خير أو إلى خير (3). 22

ص: 160


1- الكافي 1 / 458 حديث 2.
2- الاحزاب / 33.
3- مناقب علي علیه السلام الحافظ الشافعي ابن المغازلي: 305 و تاريخ الخطيب البغدادي: 10/ 278، و تفسير الطبري: 7/22

وروى سبط ابن الجوزي بسنده عن المسوّر بن مخرمة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها، فمن أغضبها فقد أغضبني (1).

اخرجه مسلم و الترمذي (2).

وروى سبط ابن الجوزي بسنده عن امير المؤمنين علیه السلام، عن الرسول قال صلی الله علیه و آله و سلم الفاطمة علیه السلام: إنّ الله يغضب لغضبك و يرضى لرضاك (3).

و عنه بسنده عن منذر الثوري، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: اذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش يا أهل الموقف غضّوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم لتجوز فاطمة بنت محمّد على الصراط (4).

و فيها وفي ولديها وامير المؤمنين علیه السلام نزل قوله تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (5).

روی سبط ابن الجوزي بسنده عن ابن عباس قال: مرض الحسن و الحسين علیهما السلام فعادهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و معه ابو بكر وعمر وعادهما عامة العرب، فقالوا: يا ابا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا فكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء.

فقال علي علیه السلام لله إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة ايام شكرا، و قالت فاطمة كذلك، و قالت الجارية يقال لها فضة كذلك، فألبس الغلامان العافية و ليس عند آل محمّد قليل ولا كثير، فانطلق علي علیه السلام الى شمعون بن حانا اليهودي فاستقرض منه ثلاثة اصواع من شعير فجاء به الى فاطمة، فقامت الى صاع 7

ص: 161


1- تذكرة الخواص: 279
2- صحیح مسلم: 202/12، حدیث 4482 وسنن الترمذي،12 / 370، حدیث 3802 و 3804.
3- تذكرة الخواص: 279.
4- المصدر السابق.
5- الانسان: 7

فطحنته و خبزته خمسة أقراص لكلّ واحد منهم قرص، و صلّى علي علیه السلام المغرب مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم، فجاء سائل أو مسكين فوقف على الباب و قال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي علیه السلام فقال:

فاطمة ذات المسجد و اليقين *** یا بنت خير الناس اجمعين

أما ترين البائس المسكين *** قد قام بالباب له حنين

يشكوا الى الله ويستكين *** يشكو إلينا جائع حزين

کل امريء بكسبه رهين *** وفاعل الخيرات يستبين

موعده جنة عليين *** حرّمها الله على الضنين

و للبخيل موقف مهين *** تهوي به النار الى سجّين

شرابه الحميم والغسلين

فقالت فاطمة علیها السلام:

اطعمه ولا أبالي الساعة *** أرجو إذا أشبعت ذا مجاعة

أن الحق الاخيار والجماعة *** و اسكن الخلد ولي شفاعة

قال فاعطوه الطعام و مكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء القراح، ولمّا كان اليوم الثاني طحنت فاطمة من الشعير و صنعت منه خمسة اقراص وصلّى على علیه السلام المغرب وجاء الى المنزل فجاء يتيم فوقف على الباب فقال السلام علیکم یا اهل بيت محمّد يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي اطعموني مما رزقكم الله اطعمكم الله من موائد الجنة فقال علي علیه السلام:

فاطمة بنت السيد الكريم *** بنت نبي ليس بالذميم

قد جاءنا الله بذا اليتيم *** قد حرّم الخلد على اللئيم

ص: 162

يحمل في الحشر الى الجحيم *** شرابه الصديد والحميم

ومن يجود اليوم في النعيم *** شرابه الرحيق و التسنيم

فقالت فاطمة علیه السلام:

إني اطعمه ولا ابالي *** و أوثر الله على عيالي

أمسوا جياعا وهم أشبالي

فرفعوا الطعام وناولوه ايّاه، ثم أصبحوا و أمسوا في اليوم الثاني كذلك كما كانوا في الأوّل، فلما كان في اليوم الثالث طحنت فاطمة باقي الشعير و وضعته فجاء على علیه السلام بعد المغرب، فجاء أسير فوقف على الباب و قال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد أسير محتاج تأسرونا ولا تطعمونا اطعمونا من فضل ما رزقكم الله فسمعه على علیه السلام فقال:

فاطم يا بنت النبي احمد *** بسنت نبي سيد مسود

منّي على أسيرنا المقيّد *** من يطعم اليوم يجده في الغد

عند العلى المساجد المسجّد *** من يزرع الخيرات سوف يحصد

فقالت فاطمة علیه السلام:

لم يبق عندي اليوم غير صاع *** قد مجلت كفّي مع الذراع

ابناي والله من الجياع *** ابو هما للخير ذو اصطناع

ثم رفعوا الطعام واعطوه للأسير، فلمّا كان اليوم الرابع دخل علي علیه السلام على النبي صلی الله علیه و آله و سلم يحمل ابنيه كالفرخين، فلما رآهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: وأين ابنتي؟ قال علیه السلام: في محرابها.

فقام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فدخل عليها و لقد لصق بطنها بظهرها، و غارت عيناها من شدة الجوع، فقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: واغوثاه بالله آل محمد يموتون جوعا! فهبط جبرئيل

ص: 163

وهو يقرأ: «يوفون بالنذر ...» الآية (1) ...

روى الاربلي عن مجاهد قال: خرج النبي صلی الله علیه و آله و سلم و هو آخذ بيد فاطمة علیها السلام فقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (2).

لو لم يكن إلّا هذا الحديث الشريف لكفى دلالة على عصمة الزهراء علیها السلام، فلو كانت فاطمة علیه السلام ممّن يقارف الذنوب لجاز ايذاؤها، بل إقامة الحد و التعزير عليها لو فعلت و معاذ الله أن تفعل - و لم يكن رضاها رضي الله سبحانه إذا رضيت بالمعصية، ولا من سرّها في معصية سارّ الله سبحانه ومن أبغضها بمنعها عن معصية مبغضا له جل شأنه، و كل ذلك يناقض عموم الاخبار، كما اسلفنا بعضها، و اليك البعض الآخر:

روى ابن المغازلي في مناقبه بسنده الى علي أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «يا فاطمة إنّ الله ليغضب لغضبك و يرضى لرضاك) (2).

ورواه الكافي (3) في باب مولد فاطمة علیها السلام؛ عن أحمد بن مهران رفعه، و عن احمد ابن ادريس، عن محمد بن عبدالجبار الشيباني، عن القاسم بن محمد الرازي، عن علي بن محمد الهرمزاني، عن الحسين بن على علیه السلام قال: لمّا قبضت فاطمة علیها السلام دفنها امير المؤمنين علیه السلام سرّاً، وعفى على موضع قبرها ثم قام فحوّل وجهه الى قبر الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وقال الذي تقدم. -.

ص: 164


1- تذكرة الخواص - سبط ابن الجوزي: 283.
2- مناقب ابن المغازلي: 351، و رواه ابن الاثير الجزري في اسد الغابة: 522/5 و ميزان الاعتدال: 1 / 535، رقم 2002، و في مجمع الزوائد: 203/9
3- أصول الكافي - محمد بن يعقوب الكليني ت - 329ه- 458/100، ط 4، دار صعب و التعارف، بيروت 1401ه-.

و اعلم إنّ ما جاء في الكافي و الامالي فيه زيادات على النص الموجود عند الشريف الرضي. كما روى كلام الامير المتقدّم الشيخ المفيد في أماليه في المجلس (33) عن محمد بن عبدالجبار، عن القاسم بن محمد الرازي، عن علي بن محمد الهرمزاني، عن على بن الحسين، عن أبيه قال: لمّا مرضت فاطمة علیها السلام وصّت إلى علي علیه السلام أن يكتم أمرها ويخفي خبرها ولا يؤذن احدا بمرضها، ففعل ذلك، وكان يمرّضها بنفسه، وتعينه على ذلك اسماء بنت عميس. فلمّا حضرتها الوفاة وصت امیر المؤمنين أن يتولى امرها ويدفنها ليلا ويعفى قبرها، فتولّى علیه السلام ذلك، ودفنها وعفي موضع قبرها.

فلمّا نفض يده من تراب القبرهاج به الحزن فأرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه الى قبر النبي صلی الله علیه و آله و سلم و قال الذي تقدّم (1).

وروى كلامه علیه السلام - ذاك - الشيخ الطوسي في أواخر الجزء الرابع (2) ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرته (3) ورواه الاريلي في كشف الغمة (4). .

ص: 165


1- امالي الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، ت 413 ه-. ص 281 جامعه مدرسین، قم، 1403ه-.
2- أمالي الشيخ الطوسي.
3- تذكرة الخواص سبط ابن الجوزي، ص 287، مؤسسة اهل البيت، بيروت.
4- كشف الغمة - علي بن عيسى الاريلي: 505/1 المطبعة العلمية قم 1381ه-.

ص: 166

الفصل السادس

اشاره

خطبة أمير المؤمنين علیه السلام

وهي المعروفة بالشَّقْشِقِيَّة

ص: 167

ص: 168

خطبة أمير المؤمنين علیه السلام

(1)

و هي المعروفة بالشَّقْشِقِيَّة

أَمَا وَ الله لَقَدْ تَقَمَّصَها (1) فُلانٌ (2) وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنهَا مَحَلُّ القُطبِ مِنَ الرَّحَا (2)، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ (3)، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ (4)، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً (5) وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً (6)، وَطَفِقْتُ أَرْتَنِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ (7)، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَّة عَمْيَاءَ (8)، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحْ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى

يَلْقَى رَبَّهُ (9)

فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى (10)، فَصَبَرتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذى، وَ في الحَلْقِ شَجاً (11)، أرى تُرَاشى نَهْباً، حتَّى مَضَى الأَوَّلُ (12) لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فلان (13) بَعْدَهُ.

ثم تمّثل بقول الأعشى:

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَ يَوْمَ حَيَّانَ أَخِي جَابِرٍ (14) ة

ص: 169


1- الخطبة رقم: 3 من نهج البلاغة.
2- و في بعض النسخ بدل (فلان) ابن أبي قحافة

فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا (15) في حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لَاخَرَ بَعْدَ وَ فَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا (16)! فَصَيَّرَهَا في حَوْزَة خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا (17)، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ! العِثَارُ (فِيهَا) وَ الأعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ (18)، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِي النَّاسُ لَعَمْرُ اللهِ بِخَبْط وَشِمَاس (19)، وَتَلَوُّنَ وَ اعْتِرَاض؛ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمَحْنَةِ، حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ (20) جَعَلَهَا فِي جَمَاعَة زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ.

فَيَاللَّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى النَّظَائِرِ (21) لكِنِّي أَسفَفْتُ إِذْ أَسَفُوا (22) وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلُ مِنْهُمْ! لِضِغْنِهِ، وَ مَالَ الأخَرُ لِصِهْرهِ (23)، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ (24)، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ (25) نَافِجَاً حِصْنَيْهِ (26) بَيْنَ نَثيلِهِ (27) وَ مُعْتَلَفِهِ (28)، وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ خَضْمَ الأبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ (29)، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ به بطنَتُهُ (30).

فَمَا رَاعَنِي إِلّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِليَّ (31)، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِيءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ (32)، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ (33).

فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَفَسَقَ [وقسط] آخَرُونَ (34) كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً في الأَرْضِ وَ لَا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (35)، بَلَى! وَ اللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيا في أَعْيُنِهِمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا (36)، أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ (37)، لَوْلاً حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ (38)، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلا يُقَارُّوا عَلَى کِظَّةِ ظَالِم (39)، وَلا سَغَبٍ مَظْلُوم لألقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا (40)، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسٍ أَوَّلِها، وَ لأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز!

ص: 170

قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد (41) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه، فلما فرغ من قراءته قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، لو اطَّرَدتْ خُطبتك من حيث أقضيت!

فَقَالَ علیه السلام: هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاس! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ (42).

قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون

أمير المؤمنين؟ بلغ منه حيث أراد.

مصادر الخطبة الشقشقية

اشاره

لقد اعرضنا كشحاً عن نهج البلاغة - جمع الشريف الرضي - وحرصنا أن نذكر الخطبة من مصادر أخرى غير نهج البلاغة، تعود الى القرن الثالث والرابع

الهجريين وهي كالآتي:

1 - الغارت ابن هلال الثقفي، ت 283ه-.

2 - المحاسن والاداب / الرقى، ت 280 ه-.

3 - المواعظ والزواجر / ابن سعيد العسكري، ت 291 عن الغدير 82/7.

4 - نقل ابن الخشاب بعد أن أقسم أنه رأى هذه الخطبة في كتاب قد أولف قبل

الشريف: (200 سنة). ما هو نهج البلاغة للشهرستاني ص 98.

5- العقد الفريد / ابن عبد ربه الاندلسي، ت 328ه-. نقلاً عن البحار م8 /

160ط حجرية.

6 - عبد الله بن محمد بن محمود المعروف بابن كعب البلخي المعتزلي، وفاته

قبل مولد الرضي، ت 317ه-. بنقل ابن ابي الحديد م 1/ 69.

ص: 171

7 - الانصاف في الامامة / ابو جعفر بن قبة، ت 380ه- (المعتزلي) تلميذ ابن كعب المتقدم.

8 - معاني الاخبار الصدوق، ت 381 ه- ص 343

9 - علل الشرائع / الصدوق، ت 381 ه- ص 144.

10 - تحف العقول / ابن شعبة الحرّاني، ت، 380ه-. ص

11 - كتاب الجمل / المفيد، ت 413ه-. ص 92 و 62.

12 - الارشاد / المفيد، ت 413ه-. 1 / 130 و 284 و 286.

13 - المغني / القاضي عبد الجبار، ت 415ه-. بنقل الغدير 83/7.

14 - الامالي / ابو الفتح هلال بن محمد الحفار، ت 414ه-، بنقل الطوسي في

امالیه 393/1

15 - الإفصاح في الإمامة المفيد، ت.413ه-.

16 - نثر الدرر الوزير منصور بن الحسين ابو سعيد الآبي، ت 422ه. بنقل

الاعيان للامين 107/8

ومن المصادر التي كان مؤلفوها قد عاصروا الشريف الرضي أو عاشوا بعده:

17 - نزهة الاديب الوزير منصور بن الحسين ابو سعيد الآبي

18 - الفهرست ابن النديم، ت 438 ه. ص 224.

19 - الشافي / للسيد المرتضى، ت 436ه-. ص

20 - شرح الخطبة الشقشقية المرتضى 436ه-.

21 - الأوائل ابن هلال العسكري، ت 395ه-.

22 - الرسائل العشر / الطوسي، ت 460ه-.

ص 92

23 - الفهرست النجاشي، ت 450 ه. ص 92. / 24

24 - الأمالي / للشيخ الطوسي، ت 460 ه- 392/1.

ص: 172

25 / - مجمع الامثال الميدانيت 518ه-. 197/1. 18ه-

26 - المستقصي / الزمخشري ت 538 ه-. 393/11

27 - شرح نهج البلاغة القطب الراوندي، ت 573ه-.

28 - خطب علي الابراهيم بن الحكم الفزاري.

29 - غرر الحكم / الامدي، ت 588 ه-. 46/3 و 232/6 و 256.

30 - الاحتجاح / الطبرسي، ت 588 ه-. 1 / 191 و 281.

31 - المناقب ابن الجوزي، ت 654ه-.

32 - تذكرة الخواص، يوسف بن خزعلي سبط ابن الجوزي الحنفي، ت 654ه-. ص 133

33 - الفرقة الناجية القطيفي، ت 945ه-.

34 - المجلى ابن أبي جمهور الاحسائي، ت 909 ص 393.

35 - البحار / المجلسي،، ت 1110 ه- طبعة حجرية، 8 / 160.

36 - ما كتبه الوزير ابو الحسن علي بن محمد بن الفرات، كان وزير المعتمد بالله، كتب الخطبة في نسخة و ذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة وأنّ الخطبة قد كانت مكتوبة قبل ابن الفرات بمدّة، الغدير 74/7.

37 - النهاية لابن الأثير، ت 2/ 294.

و قد شرح ابن الأثير جملة من الفاظ الخطبة مثل: (جذذ)، (ملا)، (خضم)، (ابض)، (زیرج)، شنق)، (عفط).

وقد روى بعض هذه الكلمات غير ما اثبته الرضي فيعلم أن لابن الاثير مصادر عثر عليها غير نهج البلاغة جمع الرضي.

38 - لسان العرب / لابن منظور مادة شقشق.

39 - القاموس / الفيروز آبادي 251/3.

ص: 173

شرح الخطبة ومفرداتها

(1) تقمّصها: أي تلبس بها؛ وهي الخلافة، وفلان أراد به أبا بكر ابن أبي قحافة

(2) محل القطب من الرّحى: إشارة الى كون موقعه من بين المسلمين كموقع القطب الذي تدور عليها الرّحى، وأنه المركز الذي تأوي إليه الجموع وتلوذ به الفرسان

(3) ينحدر عنّي السّيل: تشبيهاً لنفسه بذروة الجبل المرتفع، فهو منبع العلم والمعرفة وهذا تمثيل لسمّو قدره، وقربه من مهبط الوحى، وأن علمه ينحدر من ذلك النبع الإلهي فيصيب منه ما شاء الله، لذا فان الخلافة ممتنعة على غيره لا يصلح أحد لها ولا يتمكن منها.

(4) ولا يرقى الى الطير: لا يصل الى مقامه من الفضل والعلم أحد، والعبارة

في غاية البلاغة في الدلالة على الرفعة.

وعبارته هذه اعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها، لأن السيل ينحدر عن الرابية والهضبة، وأما تعذر رقى الطير بما يكون للقلال الشاهقة جداً، بل ما هو أعلى من قلال الجبال: كأنه يقول لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن

يرقى الطير إليها.

قال حبيب الطائي:

مكارم لجّت في علوٍ كأنما *** تحاول ثاراً عند بعض الكواكب

(5) فسدلت دونَها ثوباً: كناية عن إعراضه عن الخلافة، وسَدَلَ الثوب ارخاه.

(6) الكشح ما بين الجنب والخاصرة، والكاشح المعرض عنك حين يوليك كشحه أي جنبه، وهو مثل، لأنّ من جاع فقد طوى كشحه، ومن شبع فقد ملأه،

کش

فجوعه عن الخلافة أي لم يلتقمها.

ص: 174

(7) طفقت جعلت أرتاي افكر يدجذاء أي مقطوعة، ويقولون رحم جذاء أي لم توصل وسن جذاء أي متهمة، والمراد هنا ليس ما يؤيدها، كأنه قال تفكرت في الأمر فرأيت قلة الناصر أو عدمه، لذا وجدت الصبر أولى، وهذا بيان

لعلة الأعضاء

(8) طخية عمياء: الظلمة الشديدة، والغم والحزن، ونسبة العمى الى الظلمة مجاز عقلي، وانما يعمى القائمون فيها، إذ لا يهتدون الى الحق، وهو تأكيد لظلام

الحال واسودادها.

(9) يكدح: يدأب ويسعى ويجد فلا يعطى حقه. (10):أحجى أولى، يقال: هذا أحجى من هذا أى أولى وأحرى وأوجب وألزم، لذا أولع بالصبر ولزمه. ومنه: هو حجي بكذا أي جدير به، وأصله عن الحجا بمعنى العقل، فهو أحجى أي اقرب إلى العقل، وهاتا بمعنى هذه، والمعنى الذي تجسده العبارة هو: أنّه رأى الصبر على هذه الحالة التي وصفها أولى بالعقل من الصولة بلا نصير.

(11) القذى: ما يقع في العين من عود وتراب ونحوه. والشجا: ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه والتراث حقه المغتصب أي الخلافة، والنهب أخذ ، المال وغيره بالغلبة والاعتداء والقهر.

(12) الأوّل: هو ابو بكر بن أبي قحافة أدلى بها، أي بالخلافة، أدلى إليه

بالمال دفعه إليه، حيث صيّر ابو بكر الخلافة من بعده الى قرينه ابن الخطاب.

(13) الثاني: أبو حفص عمر بن الخطاب. (14) الكور: الرحل، يقول: هناك فرق بين يوم بويعت فيه بالخلافة مع ما

فيه من الاختلاف ويوم بويع فيه عمر إذ وجد الأمور أمامه ممهدة.

ما الذي يعنيه البيت المذكور آنفاً الذي استشهد به الامام؟

ص: 175

حيان كان سيّداً في بني حنيفة، مطاعاً فيهم، وكان ذا حظوة عند ملوك فارس، وله نعمة واسعة و رفاهية وافرة وكان الاعشى ينادمه والاعشى هذا؛ اعشى قيس ابو بصیر میمون بن قيس بن جندل وجابر أخو حيان اصغر منه.

ومعنى البيت: أن فرقاً بعيداً بين يومه في سفره وهو على كور ناقته و بين يوم حيّان في رفاهيته. فإن الأوّل كثير العناء شديد الشقاء. و الثاني وافر النعيم وافر الراحة.

(15) الاستقاله: طلب الاعفاء من الأمر. و روى بعض علماء الجمهور أن ابا بكر قال بعد البيعة: اقبلونی فلست بخيركم.

(16) لشدّ ما: أي شديداً جداً. تشطرا: اقتسما. و الضمير في ضرعيها يعود على الخلافة. قالوا أنّ للناقة في ضرعيها شطرين كل خلفين شطر.

و يقال شطر بناقته تشطيرا صَرَّ خلفين وترك خلفين. والشطر أيضاً أن تحلب شطراً وتترك شطراً، فتشطّرا أي اخذ كلّ منهما شطراً، سمّى شطري الضرع ضرعين مجازاً، و هو هنا من أبلغ انواعه، حيث أنّ من ولّى الخلافة لا ينال الأمر إلّا تاماً ولا يجوز أن يترك منه لغيره سهماً، فأطلق على تناول الأمر واحداً بعد واحد إسم التشطير والاقتسام كأن أحدهما ترك منه شيئاً للآخر، و اطلق على كلّ شطر اسم الضرع نظراً لحقيقة مانال كلّ واحد من امر الخلافة.

(17) الحوزة: الجهة. الكَلْم بفتح الكاف وسكون اللام الجرح، كأنّما عنى بقوله هذا: أن خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.

(18) الصعبة من الابل: التي لم تروّض، إنْ أشنق لها راكبها بالزمام خرم انفها وإنْ أسلس زمامها: أي اطلق لها الزمام تقحّم في المهالك فألقته في مهواة.

(19) مُني الناس: ابتلوا و أُصيبوا. الخبط: السير على غير جادة. و الشِماس بالكسر النفار. التلون: التبدل. الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عرضاً في حال سيره طولا.

ص: 176

(20) الضمير في (لسبيله) يعود الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

(21) النظائر: الذي يشبه بعضهم بعضاً دونه.

(22) أسفّ الرجل إذا دخل في الأمر الدني؛ من أسفّ الطائر إذا دنا من الارض، واراد بذلك أنّه لم يخالفهم في شيء.

(23) صغى: مال. الضغن: من الضغينة يريد به سعد بن أبي وقّاص؛ لان علياً علیه السلام قتل اخواله من بني اميّة، أو طلحة لأنّه تيمي. والّذي مال الى صهره عبد الرحمن بن عوف، لأنّه زوج أم كلثوم بنت أبي معيط أخت عثمان لامّه.

(24) هَن بوزن أخ كناية عمّا لا يريد التصريح به، إذ يشير الى اغراض أخر يكره ذكرها.

(25) ثالث القوم: يشير الى عثمان بن عفّان، وكان ثالثاً بعد انضمام كلّ من طلحة و الزبير وسعد الى صاحبه.

(26) الحضن: ما بين الابط و الكشح، يقال للمتكبّر: جاء نافجاً حضنيه، و يقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاماً.

(27) النثيل: الروث.

(28) المعتلف: موضع العلف، و معنى ما تقدم أنّه لاهم له الا ما ذكر.

(29) الخضم: الأكل بجميع الفم أو بكل الاصابع، و القضم الأكل باطراف الاسنان فهو اخف من الخضم.

(30) انتكثَ فتلُهُ: انتقض. وأجهز عليه: أتم قتله. و البطنة: امتلاء البطن من الطعام: وكبتْ به: من كبا الجواد اذا سقط لوجهه.

(31) عرف الضبع: شبّه كثرتهم بكثرة الشعر. و العرف: الشعر النابت على (31) عنق الفرس، فاستعاره للضبع وهو ثخين يضرب به المثل في الكثرة و الازدحام و انثالوا: أي انصبّوا و تتابعوا مزدحمين.

ص: 177

(32) شق عطفاي: العطف بكسر العين الجانب. و تروى عطافي: أي ردائي وذلك أنّ كثرة الزحام عليه و شدة اصطكاك الناس من حوله خدش جانباه. و كان الازدحام لاجل البيعة.

(33) ربيضة الغنم: الطائفة من الغنم. يصف ازدحامهم وجثومهم بين يديه.

(34) الناكثون: أصحاب الجمل لانهم بايعوه فنكثوا بيعته؛ و هم طلحة و الزبير و عائشة و اصحابهم. و المارقون: الخوارج أصحاب النهروان. و القاسطون: معاوية وعمرو بن العاص وأهل الشام أصحاب واقعة صفين. و القاسط: الجائر.

(35) سورة القصص آية / 83.

(36) راقهم زبرجها: أي أعجبهم من زينة الدنيا حسنها وزينتها وما فيها من مُتعٍ و لذّات. و أصل الزبرج: النقش والزينة من وشي أو جوهر.

(37) فلق الحبّة: شقّها. برأ النسمة: خلقها، والنَسَمة محركة النفس وكان كثيراً ما يقسم بهذا القسم، وهو من أقسامه الجميلة.

(38) الحاضر: من حضر لبيعته. الناصر: الجيش الذي يستعين به.

(39) الكظة: امتلاء البطن من الطعام، يريد أنهم لا يقاروا الظالم على استثثاره و اكله الحرام. السغب. شدة الجوع والمراد منه هضم حقه الواجب له.

(40) الغارب: الكاهل، و الكلام تمثيل للترك و ارسال الأمر.

(41) اهل السواد سواد الكوفة أي ضواحيها، وسمّي بالسواد لكثرة زرعه و خضرته.

(42) الشقشقة: شيء يخرجه البعير من فيه إذا هاج و الهدير: صوتها.

ما نقله ابن أبي الحديد في شأن الخطبة

قال: حدّثني شيخي ابو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث

ص: 178

و ستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشّاب هذه الخطبة فلمّا انتهيت الى هذا الموضع (يعني قول ابن عباس: ما اسفت.. الخ) قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: و هل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟ و الله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله صلى الله عليه واله قال مصدق: و كان ابن الخشّاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت أتقول إنها منحولة؟ فقال: لا والله وإني لأعلم انها كلامه كما اعلم انك مصدق، فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرضيّ رحمه الله تعالى؟ فقال أنّى للرضي و لغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب، فقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع في هذا الكلام في خل ولاخمر. ثُمّ قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتبٍ صنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط اعرفها و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي (1).

تسمية الخطبة

سمّيت هذه الخطبة ب-(الشقشقية) و ب-(المقمّصَة) من حيث اشتمالها على لفظ التقمّص في أوّلها. ومن حيث عبارة الإمام علیه السلام التي وردت في آخر الخطبة جواباً لابن عبّاس لمّا سأله بقوله: يا أمير المؤمنين لواطّردت خطبتك من حيث أفضيت!

فقال علیه السلام: هیهات یا ابن عباس! تلك شِقشِقة هَدَرَتْ ...

تكاد أن تكون هذه الخطبة هي السبب الرئيسي في اثارة القوم للشبهات الواهية

ص: 179


1- شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد 1 / 69

حول نهج البلاغة، و التشكيك فيه، و رمي جامعه الشريف الرضي بالكذب و التزوير.

وما رغاء اولئك إلا مكابرة للحق و العناد الذي امات قلبهم واصم اسماعهم.

ثُمّ إن المعركة حول (نهج البلاغة) منذ أن نشبت الى يومنا هذا وإن اصْطبغت بصبغة ادبية في ظاهرها لكنّها مذهبية سياسية في باطنها.

الامام أمير المؤمنين علیه السلام في هذه الخطبة يرى نفسه أنّه أحق بمقام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من منافسيه. و منافسوه يعلمون ذلك حقاً. لكن ماذا يعمل حين لم يجد من يناصره على المطالبة بحقّه؟! لهذا صبر على مضض، وأعرض عن غير رضى. و المرء لابد من أن يحاجج خصمه، ويدافع عن حقّه، و يدلي بأدلّته، وفي كون الإمام أحق بهذا الأمر من غيره امر مستفيض عنه من ذلك قوله علیه السلام لابي بكر لمّا طلبوه ليبايع فقال علیه السلام: (أنا أحق بهذا الأمر منكم و انتم أولى بالبيعة لي). و قوله لأبي عبيدة بن الجرّاح لمّا طلب اليه أن يبايع لأبي بكر: (الله الله يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره و عقر بيته ... ولا تدفعوا أهله عن مقامه، فوالله لنحن أحق الناس به) (1).

و امّا كتابه الى معاوية فهو اكثر صراحة من قبل إذْ جاء فيه: (و ذكرت حسدي للخلفاء، وابطائي عنهم، والكراهية لأمرهم، فلست اعتذر الى الناس من ذلك ...

الى أن يقول: بل عرفت أنّ حقّى هو المأخوذ وقد تركته لهم (2).

بل اعتراف عمر بن الخطاب أكبر دليل على احقيّة الإمام علي بالخلافة من ذلك. ما رواه ابن عبّاس قال: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل و انا على فرس، فقال: أمَ والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليٌّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي و من أبي بكر، فقلت في نفسي لا أقالني الله إن أقلته فقلت: انت .

ص: 180


1- الإمامة والسياسة 11/1.
2- جمهرة رسائل العرب.

تقول ذلك يا أمير المؤمنين وانت وصاحبك وثبتما عليه، وافترعتما الأمر منه دون الناس؟

فقال: إليكم يا بني عبد المطلب أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب.

فتأخرت عنه و تقدم هنيهة فقال: سر لا سرت و قال: أعد على كلامك.

فقلت إنما ذكرت شيئاً فرددت عليك جوابه، ولو سكت سكتنا، فقال: إنا و الله ما فعلنا عن عداوة و لكن استصغرناه و خشينا أن لا تجتمع عليه العرب و قريش لما قد وترها.

قال: فأردت أن أقول كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يبعثه فينطح كبشها أفتستصغره أنت و صاحبك؟

فقال: لا جرم فكيف ترى؟

قال: و الله لا نقطع أمراً دونه ولا نعمل شيئاً حتّى نستأذنه (1).

و بمثل هذا نقل ابن ابى الحديد المعتزلي فقال: قال عمر لابن عباس: يا ابن عباس أمّ و الله إن كان صاحبك يعني علياً علیه السلام أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلا انا خفناه على اثنتين.

قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بداً من مسألته عنه، فقلت يا أمير المؤمنين ما هما؟ قال: حداثة سنّه، و حبّه بني عبد المطلب علیه السلام (2).

ثمّ أي ضير من الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في الدفاع عن حقّه و القوم يعترفون له بهذا الحق المغتصب!

و هل الدفاع عن الحق و التعرض للغاصبين أمر منكر؟!

اليك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم (انا .

ص: 181


1- محاضرات الراغب الأصفهاني 213/2
2- شرح نهج البلاغة 134/1.

فرْطكم على الحوض ليرفعن إليّ رجال منكم حتّى اذا أهويت لاناولهم اختلجوا دوني فأقول: ربي اصحابي فيقال: لا تدري ما احدثوا بعدك) (1).

وروى مثله البخاري عن سهل بن سعد وزاد فيه: (فأقول سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي).

الأبعاد الحسيّة للخطبة

تشتمل الخطبة على الشكوى و التظلّم من القوم و الشيخين بالذات في أمر الإمامة و الخلافة، وقد عرفت أنّها محل خلاف بين الشيعة و مناوئيهم في نسبة الخطبة للإمام علیه السلام أو للرضي، وقد ثبت أنّها وجدت في مصادر قبل أن يولد الرضي بقرنين من الزمان؛ كما هو عن مصدّق بن شبيب النحوي قرأها على استاذه ابي محمّد بن الخشّاب حيث قال: إنّها وجدها قبل أن يخلق ابو الرضي فضلاً عن الرضي ...، و كذا توجد في كتاب الانصاف لابي جعفر بن قبّة، تلميذ ابي القاسم الكعبى أحد أحد شيوخ المعتزلة كانت وفاته قبل أن يولد الرضي، وكذا وجدها بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن علي بن محمّد بن الفرات؛ وزير المقتدر بالله و ذلك قبل مولد الرضي بنيف و ستين سنة. .

ص: 182


1- صحيح البخاري، كتاب بدأ الخلق في باب غزوة الحديبية. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده 1 / 384 و 402 و 406 و 407 و 453 و 455، 2 / 281، 5 / 48 و 50 و 393. و رواه المتقي الهندي في كنز العمال 224/7 عن ابن مسعود وفي ص 225 عن سمرة و 424/6. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة في الوضوء عن أبي هريرة. ورواه في كتاب الفضائل في باب اثبات حوض نبيّنا. ورواه ابن جرير في تفسيره 27/4 بسنده عن قتادة. ورواه ابن ماجة في صحيحه في ابواب المناسك في باب الخطبة يوم النحر عن ابن مسعود. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 364/10 عن سمرة، وص 365 عن ابن مسعود.

الأوجه البلاغية في الخطبة

اوّلاً: قوله علیه السلام: (محلي محل القطب من الرحى) فيه ثلاث صور من التشبيهات:

أ - تشبيه محله بمحل القطب من الرحى / تشبيه المعقول بالمعقول / كونه نظام الدولة.

ب - تشبيه نفسه بالقطب / تشبيه للمحسوس بالمحسوس

ج - تشبيه الخلافة بالرحى/ تشبيه المعقول بالمحسوس.

لمّا كانت حاجة الرحى الى القطب ضرورية قصد أنّ غيره لا يقوم مقامه في أمر الإمامة.

(ان محلي منها محل القطب من الرحا) تشبيه محض، يقول علیه السلام كما أنّ الرحا لا تدور الّأ على القطب و دورانها بغير قطب لا ثمرة له ولا فائدة فيه كذلك نسبتي إلى الخلافة فانها لا تقوم إلّا بي ولا يدور امرها إلا عليّ هكذا. و ربّما إنّه اراد: أنّي من الخلافة في الصميم و في وسطها، كما أنّ القطب وسط دائرة الرحا.

ثانياً: قوله: (ينحدر عني السيل ...) استعار لنفسه و صفين:

أ - الانحدار كون الماء في مرتفعٍ كالجبل.

ب - كنّى عن علوّه و شرفه و علمه بالسيل اذ تفيض منه العلوم و التدبيرات السياسية و الفقهية.

ثالثاً: قوله علیه السلام: (ولا يرقى الىّ الطير ... كناية عن غاية اخرى من العلو.

رابعاً: قوله علیه السلام: (فسدلت ...) كناية عن احتجابه عن طلب الخلافة و الاعراض عنها، استعار لذلك الاحتجاب لفظ الثوب (استعارة المحسوس للمعقول).

خامساً قوله: (طفقت ارتئي ... أن أصول بيد جذّاء ...).

ص: 183

أجيل الفكر في تدبير أمر الخلافة و أردّه بين طرفي نقيض.

استعار وصف الجذّاء لعدم الناصر، وجه الشبه أنّ قطع اليد يستلزم عدم القدرة على التصّرف و هكذا في عدم الناصر.

سادساً: قوله علیه السلام: (طخية عمياء ...).

لمّا كان هناك الالتباس و الحيرة استعار لفظ الطخية لذلك الالتباس (استعارة المحسوس للمعقول) وجه الشبه أنّ الظلمة كما لا يهتدي فيها للمطلوب كذلك اختلاط الأمور، و هكذا وصف الطخية بالعمى على وجه الاستعارة، لان الاعمى لا يهتدي إلى مطلبه وكذا في هذه الظلمة.

سابعاً: ثُمّ كناية عن تلك الشدّة و ما فيها من آثار:

أ - يهرم فيها الكبير.

ب - يشيب فيها الصغير.

حاصل الأمر أن المؤمن يقاسي الشدة من ذلك.

(يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير) يمكن حمل ذلك على الحقيقة و يمكن حمله على المجاز و الاستعارة، و عليه فقد اراد علیه السلام على معنى الحقيقة: طول المدة، أي طول مدة ولاية المتقدمين عليه فانها مرة يهرم فيها الكبير، و مرة يشيب فيها الصغير. و أمّا على المجاز فإنّه اراد بذلك صعوبة تلك الايام حتّى أنّ الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها و الصغير يشيب من أهوالها، كقولهم هذا أمر يشيب له الوليد و ان لم يشب على الحقيقة.

وفي الكلام تقديم و تأخير و تقديره كالآتي:

ولا يرقى اليّ الطير، وطفقت ارتئي ...، فرأيت أن الصبر على هاتا احجي، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، ثُمّ صبرت وفي العين قذى ...

ثامناً: اشار في قوله علیه السلام أنّه اتخذ طريق الصبر فهو اليق بنظام الاسلام لان

ص: 184

مقاومته و مناهضته للغاصبين الامامة بغير ناصر لا تثمر.

تاسعاً: (فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ...).

الواو للحال والجملتان كنايتان عن شدّة ما اضمره من الأذى والغبن الذي لحقه.

عاشراً: (أرى تراثي نهبا ...) وفيها مقاصد:

أ - قد يكون مقصده فدكاً و ما للزوجة بحكم ملك الزوج.

ب - وقد يكون مقصده الخلافة المغتصبة.

ج - في العبارة تلويح إلى زمن الرسول وما كان يحضى بالتقدير.

د - كما في العبارة تلويح إلى ما كان يعانيه علیه السلام بعد وفاة الرسول و ما حصل له من متاعب، ثُمّ شبّه حاله بيومين، أحدهما في زمن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و ما كان يحضى به من التقدير، واليوم الآخر هو بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وما حصل له من المتاعب ثُمّ الاشارة الى تناقض كلام الخليفة الأول فهو يستعفي من الخلافة ولكن عقدها قبل وفاته الى عمر.

الحادي عشر: (لشد ما شطّر ضرعيها) استعار علیه السلام لفظ الضرع للخلافة استعارة مستلزمة لتشبيهها بالناقة، وجه الشبه: هي المشابهة في الانتفاع الحاصل منها.

الثاني عشر: (حوزة خشناء)، كناية عن طباع عمر الخشنة:

أ - غلظة كلامه.

ب - خشونة طبعه.

الثالث عشر: (يكثر الاعتذار والعتاب ...) كناية الى تسرّع عمر في الأحكام.

ثُمّ اقسم بالحبة و النسمة؛ خصّهما بالتعظيم بالنسبة الى الله تعالى لما يشتملان عليه من لطف الخلقة وصغر الحجم من اسرار الحكمة وبدائع الصنع الدالة على وجود الصانع الحكيم.

يكثر الإمام علیه السلام من تشبيه المعقول بالمحسوس فيقول علیه السلام: مجتمعين حولي

ص: 185

كربيضة الغنم شبّههم بالغنم لغفلتهم عن وضع الاشياء في مواضعها، و قلة فطانتهم.

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة و ...

الاصناف الثلاثة الذين خالفوه هم:

أ - أهل الجمل.

ب - أهل صفين.

ج - أهل النهروان. و اوصاف هؤلاء ذكرها النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، ثم وصف حال الثالث من الخلفاء وهو يقرّب بطانته بني أمية، يخضمون (مال الله)؛ الخضم كناية عن كثرة توسّعهم وتصرّفهم بمال المسلمين على يد عثمان.

ص: 186

الفصل السابع

اشاره

شذرات من غرر الحكم

لمولانا أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 187

ص: 188

من حِكَمِه الغرّاء

قال: «من أصلح سريرته أصلح الله علانيته. و من عَمِلَ لدينهِ كفاهُ اللهُ أمر دنياه. ومن أحسن فيما بينه وبين اللهِ أحسنَ اللهُ ما بينهُ و بين الناس) (1).

ويروى هذا الكلام كالآتي:

(من اصلح ما بينه و بين الله اصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظٌ كان عليه من الله حافظ) (2).

في هذا النص يؤكّد علیه السلام على الاصلاح الداخلي؛ إصلاح النفس وتطهيرها من الأثام والمعاصي، وهذا يعني لابدّ من المراقبة المستمرة من قبل الشخص المعني بالاصلاح.

ثم هناك آثار وضعيّة في غاية الأهمية تدر على الفرد و المجتمع بالنفع فيما اذا أخلص وأصلح المرء نفسه في الخفاء، والاصلاح انّما يتم بالتقوى والتقوى -

ص: 189


1- شرح نهج البلاغة، م 4 / 471
2- باب المختار من حكمة و مواعظه شرح ابن ميثم البحراني 285/5 ط2 1404ه-

معناه اصلاح قوّتي الشهوة و الغضب الذين هما مبدَء الفساد بين الناس ولزوم العدل فيهما يثمر ذلك الاصلاح المرتقب بين المرء و الناس.

و من لوازم ذلك الاصلاح الداخلي الورع في الأكل والملبس والمنطق والسكن، بل كل ما يدور حول الانسان من مظاهر و منافع.

هذا فيما يخصّ الدنيا أو قل ما يخص اصلاح السريرة، ولا فرق بين النصّين المتقدمين لان الغاية من اصلاح السريرة هو رضى الله سبحانه وتعالى، ونتيجة ذلك هو صلاح الانسان في العلانية، وهو المنظور اليه طرف الناس.

اما اصلاح الآخرة فهذا يستلزم ترك ما بأيدي الناس و عدم مجاذبتهم دنياهم، ثم لابدّ من الكفّ عن الشره والطمع اللذان يقودان الانسان الى الذل و الهوان و الضعة.

فمن اصلح آخرته كانت دنياه كذلك، لان صلاح الآخرة نتيجة حتمية للتقوى التي كان عليها المرء في دنياه. بل الفرد السوي لا يفسد آخرته باعمار دنياه، كما أنّه لا يفسد دنياه بحماقة يرتكبها، بل يزهد من دون عبث وتفريط، و هذا ما يؤكده القرآن الكريم: (ولا تنس نصيبك من الدنيا).

ومن غرر حِكَمه قال: «الفقيهُ كلُّ الفقيه من لم يُقنِّطِ الناسَ من رحمة الله ولم يُؤيِسْهُم من روحِ الله، ولم يؤمنهم من مكرِ الله».

خصّ في كلامه علیه السلام جنس الفقهاء، العاملون الذين لهم اتصال مباشر بالناس ثمّ كنّى بقوله «كل الفقيه» أي تمامه، وهو ذلك الفقيه الكامل في علمه و اسلوبه الذي جمع الى فقهه الطرق التي يسلكها في هداية الناس، و جذبهم الى ساحة رحمة الله سبحانه.

العلم وحده لا يكفي بل اسلوب العمل امر ضروري في تجسيد العلم و غرزه في النفوس، اذاً هناك سبل مخصوصة يستفيدها العالم الواعظ في ارشاده؛

ص: 190

مخصوصة بوجوه من الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والبشارة والنذارة، فمن تمكّن من هذه السُبل وشوّق الناس الى الانابة والتوبة، كان هو الفقيه كل الفقيه؛ أي العامل بعلمه وحنكته.

فمن لوازم هذا الاسلوب أن لا يقنط الناس من رحمة الله بآيات وعيده و نذارته، ولايؤيسهم بذلك من روحه لما يلزم اليأس من إغراء العصاة بالمعصية واتّباع الهوى الحاضر الذي لا يرجى من نهى النفس عنه ثمرة في الآخرة. و لذلك قال تعالى يأمر نبيّه الاكرم أن يجذب الناس إلى الربّ العزيز الغفّار:

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (1)

ثم اردف سبحانه هذه الآية بقوله العزيز:

(وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ).

ثم قال سبحانه: ﴿ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (3).

ما اروع هذا الخطاب الذي يعلّمنا كيف نؤوب الى الله سبحانه، و ندخل في عبوديته الحقيقية: قل يا محمّد هذا نداء من الله لكم ايّها العباد يا من ارتكب الذنوب و الاثام والمعاصي ... لازلتم أنتم في عبودية المالك الحقيقي: يا عبادي ... نعم نحن عبيدُك يا رب ... يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ....

لا تجعلوا ذلك الاسراف وسيلة للقنوط من رحمة الله.

بل لابد أن يكون لك ايها العبد أختيار جديد يشكّل منعطفا في حياتك قبل أن 6

ص: 191


1- الزمر / 053 2 الزمر / 54 - 056

يدركك الموت فيأتيك العذاب بغتة ....

إنّ الفقيه كلّ الفقيه عليه أن يزرع في قلوب العصاة التوبة و محبة الله حتّى تزول عنه الظلمة الحالكة، و يبدأ بترميم ما افسده انطلاقا من العفو الرّباني والرحمة الالهية التي وسعت كل شيء ... وسعت كل شيء حتّى أنّها سبقت غضبه ... فلماذا لا نستفيد طالما رحمته بعنوان هدية الربّ للعبد، فلنأخذ هذه الهدية المباركة لنغسل بها رين القلوب لأنّها تغفر الذنوب جمعيا ...، إنه هو الغفور الرحيم.

انظر يا عزيزي المؤمن: أنّ في الآية الكريمة تأكيدات عديدة على تلك الرحمة و المغفرة: من ذلك امرنا سبحانه بعدم القنوط.

ثم جاء:

التأكيد الأول: إن الله يغفر الذنوب.

فالتأكيد الثاني: جميعا.

والتأكيد الثالث: إنّ.

و التأكيد الرابع: الضمير المتّصل في إنّه؛ عائد على الرب جلّ ثناؤه.

التأكيد الخامس: الضمير المنفصل (هو).

والتأكيد السادس: الغفور على وزن فعول أي كثير المغفرة مثلها أكول: أي كثير الأكل وخجول أي كثير الحياء و الخجل ...

و التأكيد السابع: الرحيم: على وزن فعيل أي كثير الرحمة، أي أنّ الله سبحانه و تعالى بعد كل تلك المراحل من قبول التوبة فهناك زيادة ... أنّها الرحمة الربانية ...، أنّه سبحانه يعلم في كون الانسان خطّاء؛ كثير المعاصي، كثير الخطأ، كثير الغفلة، له شيطان يغويه، و نفس أمارة بالسوء ...، أنّه يريد منا أن نؤوب اليه في أي لحظة كانت فسوف نجده هو الرب بكل ما تحويه هذه الكلمة من الرحمة الكرم، السخاء الجود، العطف الحنان الرأفة، التودّد ... يا لها من كلمة تبعث

ص: 192

الحياة والامل في النفوس، لنتّجه الى هذه الرحمة الكبرى التي وسعت كلّ شيء لتتسابق اليها قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم.

ثم انتبه يا عزيزي المؤمن: أن العبد ليس من شأنه اليأس، لان اليأس مختص بالكافر قال تعالى: ( ... وَلَا تَيَأْسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (1).

ثم على الفقيه كل الفقيه: أن لا يؤمّن هؤلاء العصاة من مكر الله بالجزم بآيات وعده و بشارته لما يستلزم الركون الى ذلك و الاعتماد عليه من الانهماك في المعاصي واتباع الهوى، قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (2).

و من غرر حِكَمِه قال علیه السلام: «إذا كانت لك إلى الله سبخانه حاجةٌ فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، ثم سَل حاجتك فأنّ الله اكرمُ من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى.»

في هذا النص يعلّمنا اميرالمؤمنين علیه السلام أدب الدعاء و كيف نستفتح حوائجنا. أمر علیه السلام بتقديم سؤال الصلاة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم وهو امر مطلوب محبّذ بل هذا الأمر قد صدر من المولى سبحانه، قال تعالى في كتابه العزيز: (إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلَّمُوا تَسْلِيماً) (3).

فلمّا كان سبحانه (يصلّي) أي (يدعو) وهو نوع من التكريم فيه من الرحمة و الرضوان او رفع المقام النبي صلی الله علیه و آله و سلم مالا يخفى، فهذا الدعاء من الناس ايضا مرغوب فيه محبّذ. .

ص: 193


1- يوسف / 87
2- الاعراف 99 الاحزاب / 56.

و لما كانت الدعوة الأولى مجابة من الله سبحانه بالاتفاق فيجب من كرمه أجابة الدعوة الثانية وهي حاجة العبد. و محال أن يعطي احداها - الصلاة على النبي - و يبخل في الأخرى وهي المسألة من العبد.

و ينبغي على المرء أن يأتي بالصلاة الكاملة لا البتراء. فقد سئل النبي عن الصلاة البتراء فقال علیه السلام أي: تصلّون عَلَى و لا تصلّون على أهل بيتي.

فالصلاة البتراء منهي عنها. بل الصيغة الصحيحة أن تقول: «اللهمَّ صلّى على محمّد وآل محمد».

و الاحاديث في ذلك عديدة و الصلاة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم تذهب النفاق عن القلب، وتزيد في الرزق و تثقل الميزان - ميزان الاعمال - بالحسنات.

و ربّما تسنح لي الفرصة في مناسبة أخرى أن افرد بحثاً في ثواب الصلاة على النبي وآله إن شاء الله.

و من غرر حِكَمِه، قال علیه السلام: ما كان الله ليفتح على عبدٍ باب الشكر ويُغلِقَ عنه باب الزيادة، ولا ليفتحَ على عبدٍ باب الدعاء ويُغلِق عنه باب الاجابة. ولا ليفتح عليه بابَ التوبة ويُغلق عنه باب المغفرة (1).

ثلاث خصال ينبغي على المرء أن يلتزم بها ويدوام عليها:

الخصلة الأولى: الشكر؛ و تصديق ذلك في كتاب الله قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (2).

و الخصلة الثانية: الدعاء في كل آن و على كل حال؛ في الرخاء و الشدّة، وفي العسر و اليسر، وتصديق ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبُ أُجِيبُ 7

ص: 194


1- شرح نهج البلاغة م 4 / 475.
2- ابراهيم /7

دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (1)

وقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (2).

و الخصلة الثالثة: التوبة والإنابة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (3)

هذه الخصال أو الابواب الثلاثة إذا طرقها العبد فانّها تفتح له بلا تردد و بلا شك، بشرط التوجه الحقيقي و الاخلاص فيما يقوم به، لان الاخلاص هو سبب في اعداد النفس لقبول صورة الرحمة الالهية من واهبها؛ فالشكر للزيادة و الدعاء لإجابته، و التوبة لقبولها وإسقاط ثمرة المعصية.

فاحرص ايّها الانسان كل الحرص أن لا تغرّك الدنيا بزهوها و زبرجها، واعلم أنّ الدنيا فانيةٌ، و المال فانٌ، وكل لهو ولعب فانٍ، فما من لذّة الّا وهي فانية ولكن تبقى تبعتها، امّا العمل الصالح فهو مخلّد باقٍ، و اثره ينمو، و حصاده في الآخرة. 7

ص: 195


1- البقرة / 186
2- غافر / 60.
3- النساء / 17

الفهرس

المقدمة ... 5

الفصل الأوّل

من خطبة له علیه السلام: يصف فيها عظمة الله و جلالة قدرته

اوّلها: (كل شيء خاضع له ...) ... 9

تسلسل الخطبة في مصادر النهج ... 11

كل شي خاضع ... 12

قدرة الله ... 12

الملائكة الكرام ... 13

عصيان الخلق ... 13

القيامة ... 14

زهد النبي ... 15

أهل البيت ... 15

مصادر الخطبة: ... 15

صفة الخطبة وقائلها ... 16

ص: 196

وقال العلامة المرحوم مغنية ... 16

صدر الخطية ... 17

معاني المفردات ... 18

مضامین مقتبسة من القرآن الكريم ... 23

الأوجه البلاغية ... 27

شرح الخطبة ... 32

واما الصفات السلبية، فهي: ... 37

الملائكة ... 40

ذم الدنيا و التحذير من الركون إليها ... 43

سكرات الموت ... 47

الفصل الثاني

من خطبة له علیه السلام: يصف فيها حال العرب قبل الاسلام

قوله: (بنا اهتديتم في الظلماء ...) ... 63

خطبة (بنا اهتديتم) ... 65

مصادر الخطبة ... 66

معاني المفردات ... 66

الأوجه البلاغية في النص ... 68

خصائص الخطبه ومضامينها ... 73

الفصل الثالث

من خطبة له علیه السلام: يصف فيها المتقين ... 79

خطبة امير المؤمنين علیه السلام: يصف فيها المتقين ... 81

مصادر الخطية ... 83

ص: 197

شرّاح الخطبة ... 85

تسلل الخطبة ... 86

معاني المفردات ... 87

من هو همام؟ ... 88

المدخل الى الخطبة ... 91

شرح الخطبة ... 94

مجمل صفات المتقين السابقة ... 100

القرآن يأمرنا بالتقوى ... 102

ثمرة التقوى ... 104

من صفات المتّقين: الحب في الله ... 106

الحسب ... 107

منزلة اللسان من الجسد ... 109

آفة اللسان وفضل الصمت ...109

ومن صفات المتقين ... 110

العفو عمن ظلمهم ... 110

الفصل الرابع

من خطبة له علیه السلام يصف فيها المنافقين ... 117

خطبة أمير المؤمنين: يصف فيها المنافقين ... 119

مصادر الخطبة ... 120

معاني المفردات ... 120

الاوجه البلاغية في النص ... 122

شرح الخطبة ... 125

ظاهرة النفاق متى وكيف بدأت؟ ... 128

ص: 198

فالذنوب أقسام ... 129

ما ورد في ذم المنافقين ... 130

اصناف الناس ... 130

مكانة المنافق ... 132

هل يوجد فرق بين طبيعة الانسان وبين تطبّعه؟ ... 135

صفات المنافق ... 136

متى يظهر المنافق انتسابه الى الحق؟ ... 136

منهج النفاق والمنافقين ... 143

صفات المنافق ... 145

الفصل الخامس

ومن كلام له علیه السلام: عند دفن سيدة النساء فاطمة علیها السلام ... 149

خطبة الامام امير المؤمنين علیه السلام لما دفن الزهراء علیها السلام ... 151

وَ مِنْ كَلامِ لَهُ علیه السلام ... 151

مصادر الخطبة ... 152

ألأوجه البلاغية في النص ... 152

الشرح ... 152

الجواب ... 154

نتابع فصول الخطبة ... 156

قبس من فضائل فاطمة علیها السلام ... 160

الفصل السادس

خطبة أمير المؤمنين علیه السلام: وهي المعروفة بالشَّقْشِقِيَّة ... 167

خطبة أمير المؤمنين علیه السلام: وهي المعروفة بالشَّقْشِقِيَّة ... 169

ص: 199

مصادر الخطبة الشقشقية ... 171

شرح الخطبة ومفرداتها ... 174

ما نقله ابن أبي الحديد في شأن الخطبة ... 178

تسمية الخطبة ... 179

الأبعاد الحسيّة للخطبة ... 182

الأوجه البلاغية في الخطبة ... 183

الفصل السابع

شذرات من غرر الحكم: لمولانا أمير المؤمنين ... 187

من حِكَمِه الغرّاء ... 189

ويروى هذا الكلام كالآتي ... 189

ص: 200

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.