القرآن الكريم في الفكر الاستشراقيّ المعاصر مقاربات نقديّة لموسوعة القرآن (ليدن)

هوية الکتاب

القرآن الكريم في الفكر الاستشراقيّ المعاصر مقاربات نقديّة لموسوعة القرآن (ليدن) مجموعة مؤلّفين - الطبعة الأولى - النجف، العراق: العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1442 ه_. = 2021.

648 صفحة ؛ 24 سم - (سلسلة القرآن في الدراسات الغربية ؛ 9)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

ردمك: 9789922625638

.1 القرآن -- دفع مطاعن .2. الاستشراق والمستشرقون. أ. العنوان.

LCC : BP130.1 .Q732021

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة فهرسة اثناء النشر

العتبة العبّاسيّة المقدّسة

سلسلة القرآن في الدّراسات الغربيّة

المركز الاسلامي الله استات الاستراتيجية

في الفكر الاستشراقيّ المعاصر

مقاربات نقديّة لموسوعة القرآن (ليدن)

مجموعة مؤلّفين

ص: 1

اشارة

القرآن الكريم في الفكر الاستشراقيّ المعاصر مقاربات نقديّة لموسوعة القرآن (ليدن) مجموعة مؤلّفين - الطبعة الأولى - النجف، العراق: العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1442 ه_. = 2021.

648 صفحة ؛ 24 سم - (سلسلة القرآن في الدراسات الغربية ؛ 9)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

ردمك: 9789922625638

.1 القرآن -- دفع مطاعن .2. الاستشراق والمستشرقون. أ. العنوان.

LCC : BP130.1 .Q732021

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة فهرسة اثناء النشر

ص: 2

سلسلة القرآن في الدّراسات الغربيّة

القرآن الكريم

في الفكر الاستشراقيّ المعاصر

مقاربات نقديّة لموسوعة القرآن (ليدن)

مجموعة مؤلّفين

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

فهرس الكتاب

مقدّمة المركز...7

المدخل؛ القرآن والدراسات القرآنية في الموسوعات ...11

*القرآن الكريم في الدّراسات الاستشراقيّة المعاصرة ...41

-موسوعة ليدن القرآنيّة في ضوء تحليل المضمون -

د. جميل حمداوي

*موسوعة القرآن ( ليدن) - مقاربات نقديّة في منهجيّتها ومسارات تنفيذها - ...77

.د. محمد علي رضائي إصفهاني

* هيئة القرآن وبنيته - دراسة نقديّة لآراء أنجليكا نويفرت...109

الشيخ محمود سرائب

* لغة القرآن وأسلوبه في موسوعة القرآن (ليدن) عرضًا ونقدًا ...155

د. عبد الرحمن أبو المجد

* اضطراب نصّ القرآن في كلمات أنجليكا نويفيرت ...193

الشيخ د. تحسين البدري

* النّسخ في موسوعة القرآن الكريم ( ليدن) ...249

.د. محمد جواد إسكندر لو

* نقد مقالة «تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر» ...285

د. أحمد عطيّة

الاعتقادات في موسوعة القرآن ليدن (مدخل الإيمان والكفر نموذجًا) ...325

د. نور الدين أبو لحية

ص: 5

* الإنجيل في القرآن ...369

الشيخ د. حاتم إسماعيل

* التحيّز المعرفي في موسوعة ليدن القرآنيّة ( مداخل الأنبياء أنموذجًا) ...413

السيد يعقوب الميالي

* الحضارة والعمران في موسوعة القرآن .. مقاربة تحليلية ونقديّة ...439

د زكي الميلاد

* الدّراسات الفقهيّة في موسوعة القرآن - ليدن - مقاربات نقديّة ...469

التشريعات العباديّة في موسوعة القرآن - ليدن

د. سعد الغنامي

* «التعدّديّة الدّينيّة والقرآن الكريم » - قراءة تحليليّة نقديّة - ...503

الشيخ الأسعد بن علي قيدارة

الاختيار الانتقائيّ والبيان اللّامتوازن للمعلومات في موسوعة القرآن (ليدن) ...627

دحسين لطيفي

ص: 6

مقدمه المرکز

بسم اللهِ الرَّحْمَنَ الرَّحیم

الحمد لله ربّ العالمين، وسلام على رسول الإسلام؛ محمّد صلّی الله علیه و آله و آله الطاهرينو على جميع الأنبياء والمرسلين، وبعد...

إنّ حقيقة القرآن أسمى من أن تدركها العقول، وأوسع من أن تحيطها قوالب الألفاظ ؛ لأنّ الألفاظ موضوعةٌ بإزاء معانٍ مجعولة ومُدرَكَة من قِبَل البشر، في حين أنّ حقيقة القرآن حقيقةٌ إلهيّةٌ تنطوي على أعمق المعارف المعنويّة. وقد قضى الله تعالى أن يُلبس هذه الحقيقة لباس الألفاظ؛ ليتسنّى للناس فهم القرآن ذكر العلامة الطباطبائي قدّس سرّه في صدد تفسيره لقوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْتَهُ قُرْهَنَا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ» (1) أنّ: «الضمير مرجعه للكتاب، و «قُرْءَانَا عَرَبِيًّا»؛ أي مقرؤا باللغة العربية، «ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»؛ غاية الجعل وغرضه. وجَعل رجاء تعقلّه غايةً للجعل المذكور يشهد بأنّ له مرحلة من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كلّ أمرٍ فكريّ وإن بلغ من اللّطافة والدقّة ما بلغ. فمفاد الآية: أنّ الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر، أجنبيّ عن العقول البشريّة، وإنّما جعله الله قرآنًا عربيًّا وألبسه هذا اللباس؛ رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه... وقوله تعالى: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ» تأكيد وتبيين لما تدلّ عليه الآية السابقة من أنّ الكتاب في موطنه الأصلي وراء تعقل العقول. والضمير للكتاب، والمراد بأمّ الكتاب: اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: «بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ» (2) ، وتسميته بأمّ الكتاب

ص: 7


1- سورة الزخرف، الآيتان 3-4.
2- سورة البروج، الآيتان 21-22.

لكونه أصل الكتب السماويّة؛ يُستَنسَخ منه غيره، والتقييد بأمّ الكتاب و«لَدَيْنَا» للتوضيح لا للاحتراز، والمعنى: أنّه حال كونه في أم الكتاب لدينا - حالاً لازمةً - لعلّي حكيم... والمراد بكونه عليَّا على ما يُعطِه مفاد الآية السابقة أنّه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول، وبكونه حكيمًا أنه هناك محكم غير مفصّل ولا مجزّأ إلى سور وآيات وجمل وكلمات؛ كما هو كذلك بعد جعله قرآنًا عربيًّا؛ كما يستفاد -أيضًا - من قوله تعالى : «... كِتَب أَحْكِمَتْ ءَايَنُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (1) . وهذان النعتان - أعني كونه عليًّا حكيمًا- هما الموجبان لكونه وراء العقول البشرية؛ فإنّ العقل في فكرته لا ينال إلا ما كان من قبيل المفاهيم والألفاظ أولاً، وكان مؤلّفًا من مقدّمات تصديقيّةٍ يترتّب بعضها على بعضها الآخر؛ كما في الآيات والجمل القرآنيّة وأمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم والألفاظ، وكان غير متجزّءٍ إلى أجزاءٍ وفصولٍ؛ فلا طريق للعقل إلى نيله. فمحصّل معنى الآيتين: «أنّ الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقامٍ رفيعٍ وإحكامٍ لا تناله العقول لذينك الوصفين، وإنّما أنزلناه بجعله مقروأً عربيًّا رجاء أن يعقله الناس (2).

وبناءً عليه من الضرورة بمكان أن تركّز الأمة الإسلاميّة اليوم على هذا التعريف الذي قدّمه نبي الإسلام صلّی الله علیه و آله للقرآن؛ ليبقى القرآن هو الكتاب المقدّس، والنور، والهدى، والفرقان بين الحقّ والباطل ، والحياة، والميزان والشفاء، والذكر، الذي لا تتمّ له هذه الخصال بشكل عملي؛ إلّا إذا تمّ قبل كلّ شيء استيعابه؛ فهمًا، وتطبيقه؛ عملاً. ولهذا كان حَمَلَة القرآن، يتمتّعون بمكانة مرموقة في المجتمع، حيث أعطى الرسول صلّی الله علیه و آله الأمة التعليم القائل: «أشراف أُمّتي: حَمَلَة القرآن، وأصحاب الليل»(3)؛ فكان استيعاب القرآن؛ علماً وعملاً يشكّل قيمةً واقعيّةً. وللعثور على حلٍّ لكلّ مشكلةٍ حياتيّةٍ يجب الرّجوع إلى القرآن.

ولقد سعى الغربيّون منذ القدم لإبعاد كلام الله عن ميدان الحياة، وإيجاد الفصل بين الدين والحياة الاجتماعيّة، والتفريق بين الدنيا والآخرة.... فإنّ جماعة من المستشرقين قد دأبوا منذ زمنٍ حتى عصرنا الحاضر على وصف القرآن بأنّه

ص: 8


1- سورة هود، الآية 1.
2- انظر الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1417ه_، ج 18، ص 83-84.
3- ابن بابویه، محمد بن علي بن الحسین (الصدوق): معاني الأخبار، تصحیح و تعلیق: علي أکبر الغفاري، لاط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسین بقم المقدّسة، 1379 ه_ ق / 1338 ه_ ش، باب معنی أشراف الأمّة، ح 1، ص 178.

نسيجٌ من السّخافات، وبأنّ الإسلام مجموعةٌ من البدع، وكان نموذج ذلك من المشترقين: «نيكولا ،دكيز ،وفيفش، وفراتشي، وهو تنجر، ويلياندر، وبريدو»، وغيرهم (1). فسعى هؤلاء إلى الغضّ من مكانة القرآن والإسلام، لتقليل أهمّيتهما وزعزعة النّفوس عنهما، وقد عمد قسمٌ من المستشرقين الألمان واليهود، أمثال: «فيل، وجولد سهير ، وبول»، وغيرهم إلى القول بأنّ القرآن حرّف وبدّل بعد وفاة النّبي صلّی الله علیه و آله وفي صدر الإسلام الأول...، كلّ ذلك بهدف عزل الإسلام عن الحياة بإخراج القرآن عن المجال الذّهني والقلبي والعملي للأمّة الإسلاميّة. وفي هذا الزمن المليء بالشّبهات والانزلاقات الفكريّة تبرز أهميّة العودة إلى القرآن، والاهتمام العلمي والبحثي والتحقيقي به، وبالعلوم والدراسات المرتبطة به. وهى المهمّة الملقاة على عاتق المؤمنين بالقرآن، وفي طليعتهم العارفون به، والعلماء، والمبلّغون الدينيّون، روي عن رسول الله صلّی الله علیه و آله: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم؛ فعليكم بالقرآن؛ فإنَّه شافع مشفع، وماحل مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدلُّ على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له تخوم، وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليُجِلْ جال بصره، وليبلغ الصفة نظره؛ ينج من عطب، ويتخلّص من نشب؛ فإنّ التفكّر حياة قلب البصير؛ كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص» (2)

ومن هذا المنطلق سعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى استنفار الجهود والطاقات لإصدار سلسلة دراساتٍ متخصّصةٍ تُعنى بدراسة كل ما أنتجه الغربيون من موسوعات وكتب وبحوث ودراسات حول القرآن الكريم وعلومه، للتعرّف على أهدافه وغاياته ومناهجه في قراءة الإسلام، وأهم مصادره المتمثّلة في القرآن الكريم، ومناقشة

ص: 9


1- بكري، أمين: التعبير الفني في القرآن، لاط، بيروت، دار الشروق، 1972، ص18.
2- الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط ع، طهران، دار الكتب الإسلامية؛ مطبعة حيدري 1365 ه_ ش، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب في تمثّل القرآن وشفاعته لأهله، ح2، ص 599.

هذا الفكر بكلّ أطروحاته غير الموضوعيّة أو العلميّة ونقده ودحض كلّ الشّبهات التي أثاروها حوله؛ لتقديم لصورة الحقيقيّة والواقعيّة عن الإسلام والقرآن للغربيين والمتغربنين معًا. وذلك بأسلوبٍ ومنهجٍ علميٍّ قويٍّ متينٍ.

وهذا الكتاب هو جزءٌ من هذا المشروع الذي صدر منه كتب ودراسات عدّة في موضوعاتٍ حيويّةٍ ومعاصرةٍ. وهو جهدُ مجموعةٍ من الباحثين الذين شاركوا في المؤتمر، الذي عقده المركز تحت عنوان: المؤتمر الدولي الأوّل، «القرآن الكريم في الفكر الاستشراقيّ المعاصر- مقاربات نقديّة لموسوعة القرآن (ليدن) Encyclopaedia of the Quran-»

والمخصّص لنقد مشروع علميّ موسوعيّ يحوي مجموعةً من البحوث والدّراسات المتمحورة حول القرآن الكريم والموضوعات والقضايا المرتبطة به. وقد تمّ تأليفه بأقلام مجموعة من المستشرقين الغربيّين المعاصرين من مختلف دول العالم الغربيّ؛ وإصداره باسم «موسوعة القرآن» (لیدن)(Encyclopaedia of the Quran).

والهدف من هذا المؤتمر النّظر في علميّة الموسوعة ومنهجيّتها وتقويمها؛ بوصفها جهدًا موسوعيًّا يتمحور حول القرآن الكريم، يقدَّم إلى الباحثين والطلّاب الجامعيّن الغربيّين على أنّه نتاجٌ علميٌّ يحكي عن القرآن الكريم ومكانته الدينيَّة والتشريعيّة عند المسلمين، مع ما تعاني منه هذه الموسوعة من مشاكل منهجيّةٍ ومضمونيّةٍ لا يمكن القبول بها؛ ما يستلزم بذل الجهود العلميّة والبحثيّة لنقد هذه الدّراسات الواردة فيها، وتصويب دراسات أخرى وتوجيهها، وإزالة التباسات وشبهات تفرزها دراسات من نوع ثالث اهتّمت بها الموسوعة.

ولا يسعنا إلا أن نتقدّم من الفريق العلميّ والإداري الذي تابع كل خطوات المؤتمر ومراحله بخالص الشكر والتقدير، ولا سيما الإخوة، الشيخ لبنان الزين، السيد مصطفى مكة في بيروت، والأخوة في دار الرسول الأعظم صلّی الله علیه و آله في كربلاء ولا سيما أ.د. عادل نذير بيري ( حفظه المولى) وجميع الإخوة في اللجان العلميّة، وفريق العمل الإداري. والسيد حسن علي المرسومي.

والحمد لله رب العالمين

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

ص: 10

المدخل القرآن والدّراسات القرآنية في الموسوعات الغربیه

اشارة

القرآن و الدّراسات القرآنیّة في الموسوعات الغربیّة (1)

لا جدال أنّ التصنيف الموسوعيّ، فنٌّ مميّزٌ من فنون الكتابة، ظهر متأخّرًا زمانًا عن الفنون الأخرى، وهو يملك من لمواصفات ما يجعله حاجةً ملحّةً للباحثين، والمجتمعات والثقافات، كما يشكّل أساسًا مهمًّا الحوار الثّقافات والحضارات.. فما هي الموسوعة؟ وما مقوّمات التصنيف الموسوعيّ؟ وما هي أشكال الموسوعات وأنواعها؟

وكلمة «الموسوعة» هي ترجمة للكلمة encyclopaedia والمشتقّة من الكلمة اليونانيّة enkyklopaida، والتي تعني نظام تعليم كامل يُغطّي الرياضيات والعلوم والفلسفة والأدب؛ ولذلك أطلق عليها: «الموسوعة، المعلمة، دائرة المعارف، وهو مؤلّفٌ ضخمٌ عادة، يشتمل على مقالاتٍ في مختلف العلوم والفنون، مرتّبة على حروف المعجم في معظم الأحيان، وقد تقتصر الموسوعة على كلّ ما ينبغي أن يعرفه القارئ عن علمٍ من العلوم أو فنٍّ من الفنون، كالموسوعة الطبيّة والموسوعة الموسيقية وهكذا».(2).

وتعدّ الموسوعة كتابًا مرجعًا يحوي خلاصة المعارف البشريّة في فرعٍ أو فروعٍ عدّةٍ، يتمّ تنظيمها على أساس الموضوعات أو حروف الألفباء، ممّا يمهّد لعموم النّاس الوصول إلى العلوم المختلفة بسهولة. ومن بين أوائل

ص: 11


1- الشيخ حسن أحمد الهادي. يُشار إلى أنّ بعض فقرات المدخل مستلة من المقالات بهدف عدم الوقوع في تكرار المضافين بين البحوث.
2- البعلبكي، منیر: قاموس المورد ،طا، دار العلم للملايين بيروت، 1981، ص57.

الموسوعات: إحصاء العلوم للفارابيّ، مفاتيح العلوم للخوارزميّ، جامع العلوم للفخر الرازيّ، مفاتيح العلوم للسكّاكّي، ونفائس الفنون للآمليّ (1) . وتمّ تأليف أوّل موسوعةٍ باللّغة الفارسيّة في بداية القرن الخامس الهجريّ، وكان هدفها الأساس تلخيص المتون العربيّة وتبديلها إلى آثار يستطيع الناطقون باللّغة الفارسيّة فهمها (2).

أمّا بالمعنى الحديث، فإنّ أوّل موسوعةٍ عربيّةٍ هي "دائرة المعارف“ للمعلم بطرس البستاني، وقد عمل على نشر الأجزاء الستّة الأولى منها ثم بعد ذلك حاول مجموعة من آل البستاني إكمالها وتجديدها. ولعل بطرس البستانيّ هو أوّل من أدخل مصطلح دائرة المعارف (Encyclopedia) إلى اللغة العربيّة وحقل العلوم الإسلاميّة، حوالي عام 1876م؛ حيث يقول: «الإنسكلوبيديا (aedio-Encyclopedia): لفظة يونانيّة، معناها دائرة التعليم، وهي في الأصل اسمٌ لمجموع الفنون والعلوم التعليميّة السبعة التي كان أعيان الناس يتعلّمونها في القديم، وهي: الغراماتيق، والحساب، والهندسة، والموسيقى، والهيئة، والمنطق، والبيان. وقد ذكرها كونتلياوس، فقال: هي حدقة أو دائرة المعارف الكاملة. أما كلمة انسكلوبيديا في أيّامنا هذه، فمعناها ملخّص المعرفة البشريّة في باب واحدٍ أو الأبواب كلّها، وهي إمّا أن تكون مرتّبةً ترتيبًا نظاميًّا موافقًا للارتباط المنطقي بين المواضيع، أو ترتيبًا قاموسيًّا موافقًا لنظام الأحرف الهجائية، ولذلك كانت الانسكلوبيديا على نوعين: خاصّة وعامّة نظاميّة بحسب المواضيع، أو قاموسيّة بحسب الأحرف» (3).

وقال العلّامة ده خدا (4) بشأن مفردة دائرة المعارف الآتي: «حاوي العلوم: كتاب يشتمل على مجموع المعارف الإنسانيّة ،والفنون، والثقافات، والعلوم، وخلاصة

ص: 12


1- مرکز فرهنگ و معارف قرآن، دائرة المعارف قرآن کریم، بوستان کتاب، لا.ط، قم، انتشارات دفتر تبلیغات اسلامی، 1382ه_ ش، ص 10؛ انظر : دائرة المعارف بزرگ اسلامی زیر نظر: کاظم موسوی بجنوردى، ص 8 (المقدّمة).
2- انظر: مرکز فرهنگ و معارف قرآن، دائرة المعارف قرآن کریم، م.س، ص 14 و 17 ؛ رضائی اصفهانی، مجله مستشرقان و قرآن، لا.م، 1427 ه_.ق، العدد 1 ، ص 45؛ خراسانی، علی؛ علوی مهر، حسین: دارالمعارف های قرآنی، هفده گفتار قرآن پژوهی (سعید بهمنی)، لا.ط ،تهران وزارت فرهنگ وارشاد اسلامی، 1388ه_ ش، ص 625 .
3- البستاني فؤاد: دائرة المعارف (قاموس عام لكل فنّ ومطلب)، لا ط، بيروت، لا د، 1958م، ج4، ص 500.
4- عالم كبير في اللغة الفارسيّة، صنّف أوسع قاموس في اللغة الفارسيّة.

مبسّطة للمعارف البشريّة، المشتملة على مختلف المجالات العلميّة، ويتمّ ترتيبها في الغالب طبقًا للتسلسل الهجائيّ، من قبيل: دائرة المعارف البريطانيّة، التي طبعت للمرّة الأولى عام 1768م. وقد تقتصر دائرة المعارف على علم بعينه، كما هو الحال بالنسبة إلى دائرة المعارف الكاثوليكيّة، وما إلى ذلك» (1).

وقد بدأت كتابة الموسوعات في أوروبا في القرن السادس عشر بآثار فرانسیس بيكن، كما انتشرت أوّل موسوعةٍ منظّمةٍ على أساس حروف الألفباء - وليس على أساس الموضوعات - في القرن السابع عشر. وكان القاموس التاريخيّ الكبير ل_ لوئي موري في سنة 1674م أوّل أثر في هذا المجال، وقد ذكروا أنّ للموسوعة الألفبائيّة لجمبرز باللغة الإنجليزيّة في سنة 1728م دورًا مهمًّا في تكامل الموسوعات الألفبائيّة (2).

ولقد بدأت الموسوعات القرآنيّة في سيرها التكامليّ من المعاجم والقواميس، ثمّ وصلت إلى مجموعات من المقالات في الموضوعات القرآنيّة وموسوعات موضوعيّة ثمّ ألفبائيّة، وقد تصدّى المستشرقون - إضافة لمجالات المعلومات العامّة - لتدوين الموسوعات في مجالَي علوم القرآن ومعارفه مبكّرًا.

وفي بداية القرن العشرين، ومع توسّع النّشاطات العلميّة التحقيقيّة للمستشرقين، تحت عنوان: التحقيقات الإسلاميّة، فقد تمّ طبع موسوعة الإسلام ونشرها (3) من قبل دار بريل للنشر في لايدن. وقد تُرجمت خلال ربع قرنٍ إلى لغاتٍ عدّةٍ مثل الفرنسيّة والألمانيّة التّركيّة والأورديّة، وإلى الحرف «ع» باللغة العربيّة.

وفي التاريخ الغربي يُرجعون الكتابات الموسوعيّة الأولى إلى اليونان، وأنّ أولى موسوعاتهم تلك التي تُنسب إلى أحد تلاميذ أفلاطون: سبوسيبوس Speusippus في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكنها لم تصل إلينا. كما اهتمّ الرومان بالأعمال الموسوعيّة،

ص: 13


1- دهخدا، علي أكبر: لغت نامه ،لا ط، طهران، مؤسسه انتشارات و چاپ دانشگاه، 1373ه_.ش، ج 24، ص4.
2- م.ن، ص9.
3- Encyclopedia Of Islam.

وأقدم عمل على هذا الصعيد وصل إلينا التي وضعها بلينوس الأرشد في القرن الأوّل للميلاد Pliny the Edder: حول «التاريخ الطبيعي» Historia Naturalis. وأما المصطلح نفسه فقد تأخّرت ولادته، ويذهب عبد الوهاب المسيري إلى أنّ الأديب الفرنسي فرنسوا رابليه (م1553-François Rabelais1490) هو أوّل من استخدم اللفظ بمعنى تعليم . وأما أوّل من استخدمها بالمعنى الاصطلاحي الدقيق الألماني بول سكالينس (Paul scalish) فأطلق اللفظ على عنوان موسوعته سنة 1559م. وظلّت الكلمة غير شائعة إلى أن استخدمها ديدرو في موسوعته،(1) وهو يشير بذلك إلى الموسوعة الفرنسيّة الضخمة: الموسوعة أو المعجم العقلاني للعلوم والفنون والحرف:

.Encyclopedie ou dictionnaire raisonne des sciences des arts et des métiers

وقد ظهرت ما بين عام 1768 و 1771 ، وقد شارك فيها من رواد النهضة فولتير ومنتسكيو ودالمبير.

وفيما بين عام 1768 و 1771 صدرت الموسوعة البريطانيّة Encyclopedia Britanica في ثلاثة مجلّداتٍ، ثم توالت أجزاؤها وطبعاتها إلى أن بلغ عدد مجلّداتها 32 مجلدًا في طبعاتها الأخيرة (وقد قرّرت دائرة الموسوعة التّوقّف عن إصدار طبعات ورقيّة والاكتفاء بالنّسخة الرّقميّة بعد طبعة 2010م). ثمّ صدرت موسوعات أخرى عالميّة مثل الموسوعة الأمريكية (1829-1833م) والموسوعة الإيطاليّة للعلوم والأدب والفن (1929 - (1939) والموسوعة السوفياتيّة الكبرى (1926-1947م)......

وفي تاريخنا العربي الإسلامي، نرصد مصنّفاتِ موسوعيّةً عدّةً وإن لم تسم بذلك: منها كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والحيوان للجاحظ، وإحصاء العلوم للفارابي، وفهرس ابن النديم، ورسائل إخوان الصفاء، والعقد الفريد لابن عبد ربه،......

ص: 14


1- المسيري، عبد الوهاب: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ط 1، الأردن، دار الشروق، 1994، ص 31.

ومن الأعمال الموسوعية الحديثة، ويعتبر من الأعمال الرّائدة أيضًا دائرة معارف القرن العشرين وهي من إعداد محمد فريد وجدي، صدرت عن دار المعرفة (بيروت) بلا تاريخ وتقع في عشرة أجزاء.

ومما يجدر التنبيه له، هو الخلط الحاصل عند الكثيرين بين مصطلح موسوعة ومعجم ودائرة معارف، مع اختلاف نمط الكتابة وغاياتها في كلّ صنفٍ من هذه الأصناف، وتتجلّى أهميّة ذلك فى كونه عاملا مهمًّا في تحديد مدى محافظة الموسوعة على روحها الموسوعيّة وعدم انجرارها إلى الطابع المعجمي القاموسي.

والموسوعة قد يُطلق عليها تسامحًا لفظ معجم؛ لأنّها تشترك في جهة ترتيبها الألفبائي، ولكن المعجم لا يشار إليه بلفظ موسوعة، فالموسوعة في عرضها للمعارف لا تكتفي ببيان معاني المفردات ودلالاتها، وإنّما تسعى لاستقصاء المعارف حول تلك المفردة.

كما تختلف الموسوعة عن دائرة المعارف، فهذه الأخيرة يمكن اعتبارها موسوعةً عامّةً غير تخصّصيّةٍ تغطّى أهم مجالات المعارف أو بعضها، أما الموسوعة بالمعنى الخاص «فهي تلخيص ما توصّل إليه المتخصّصون في مجالٍ معرفيٍّ بعينه.

وتتميّز الموسوعات عمومًا، بأنّها جامعةٌ ومحكمةٌ ومتعدّدةُ الكتّاب والمساهمين، وأن يكتب كلّ واحد فيهم في مجال تخصّصه الدقيق، وإن كان الواقع لا يخلو من «موسوعات» ألّفها أشخاصٌ فرادى، كما تتميّز عادة بهيئة تحرير منسجمة، تعمل على تقرير المقالات لتخرجها منسجمة، ومتناسقة ومتكاملة، تحافظ على الروح الكلية للموسوعة، كما تتميّز عادة بالتوثيق الدقيق للمعلومات التي توردها وتعزيز المقالات بإحالات بيبليوغرافية تُرشد القارئ الذي يريد أن يستزيد في المطالب ويتوسع في الموضوعات. كما تحرص الموسوعات العلميّة الرّصينة على إعداد كشّافات وفهارس ترد عادةً في مجلّدٍ مستقلٍّ أو أكثر، فيها كلّ المداخل التي تساعد الباحثين للوصول إلى مصادر الموسوعة ومؤلفيها، وموضوعاتها، ومفرداتها...

كما تحرص الموسوعات الرّصينة لتجديد معلوماتها وإصدار ملاحق بشكلٍ دوريِّ

ص: 15

لتدارك كلّ ما فاتها، ورصد كلّ ما هو جديد، في مجال اختصاص الموسوعة.

ويعتقد الكثير من الباحثين، أنّ ضوابط الكتابة الموسوعيّة تقتضي الالتزام بالمنهج الوصفي لتقديم معلوماتٍ كاملةٍ للقارئ في هذا المجال، أو ذاك، دون تشويش ذهن القارئ بالسّجالات والمناقشات وإيراد النقود والطروحات المضادة، وإن كان ذلك ضروريًّا أحيانًا، فليكن بعد طرح الموضوع كاملًا وإيصال مراميه للقارئ.

وهذا ما اعتمد عليه بعض المختصين في الدّراسات الاستشراقيّة للرّدّ على بعض الموسوعات التي يتخطّى الكتّاب فيها المنهج الوصفي في معالجة الموضوعات والقضايا؛ ليقدّم الباحثون فرضيات هم يتبنونها: «ورغم أنّ الأسس العلميّة المتّبعة لكتابة وتحرير الموسوعات، تقضي بضرورة اتّباع منهجٍ «وصفيٍّ» بحت، يقدّم كمًّا معلوماتيًّا سرديًّا للقارئ دون تقديم نقدِ أو طرح رأي معيّن إلاّ أنّ المقالات حول القرآن الكريم الواردة في الموسوعات اليهوديّة، احتوت على كثير من الفرضيات الاستشراقيّة حول القرآن الكريم وعلومه، ومصادره، وألفاظه، ومواقفه من اليهوديّة والنصرانيّة» (1).

القرآن في الموسوعات الغربيّة الحديثة:

اشارة

بدأ الاهتمام الغربيّ بالإسلام مبكرًا، منذ الاحتكاكات الحضاريّة الأولى، في بدايات تشكّل الدولة الإسلاميّة الكبرى زمن الفتوحات، وتنامى هذا الاهتمام مع تنامي الصّدام بين المعسكرين الإسلاميّ والغربيّ، خاصّة خلال الحروب الصليبيّة، وسقوط الأندلس، وحملة نابليون على مصر ، والاستعمار الغربي الحديث للعالم الإسلامي...

وفي العصور الحديثة والراهنة، لا يزال يشكّل الشّرق عمومًا والعالم الإسلامي، خصوصّا موضوع اهتمامٍ للغربيين، ولا تزال إشكاليّة «الإسلام والغرب» تمثّل معضلةً لكلا العقلين الغربي والإسلامي.. ولا تزال هذه المعضلة تدفع بأفكار ومشاريع ورؤى إلى السّطح.

ص: 16


1- البهنسي، أحمد: القرآن الكريم وعلومه في الموسوعات اليهوديّة، ط 2 ، الرياض، مركز تفسير للدراسات القرآنية، 2015، ص 14 و 15 .

ويومًا بعد آخر تتنامى القناعة لديهم أنّ هذا الشّرق عمومًا، والإسلام خصوصًا، الذي تمّ تطويعه واحتلال بلاده لعقود، وهم اليوم يهيمنون عليه ثقافيًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا.... ورغم هذا التراكم الكبير للبحوث والدّراسات والرّحلات والمؤسّسات الاستشراقيّة والمراكز التخصّصيّة والجهود الأكاديميّة، لا يزال بحاجةٍ إلى قراءةٍ وفهمٍ!

ولأجل ذلك لن تتوقف حركة البحث العلمي والدراسات عن الإسلام وتراثه ونصوصه ولن نتوقع أن تنحسر هذه الموجة من الانهمام بالإسلام والقرآن وقضاياهما!! بل نتوقّع أن تتصاعد وتزداد، مع تنامي مكانة المسلمين ودورهم في التأثير في السياسات الدولية. وفي هذا السياق نرصد في العقود الأخيرة سيلًا من الدّراسات والنّتاجات العلميّة عن القرآن الكريم، ومن بين هذه النتاجات نذكر التالي:

أوّلاً: دائرة المعارف الإسلاميّة:

لا تزال تعدّ أهمّ عمل موسوعيٍّ ومرجعيٍّ غربيّ عن الإسلام، صدرت الطبعة الأولى منها ما بين (1913 و 1938م) باللغة الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، لدى داري النشر بريل (هولاندا) وبيكار (فرنسا)، وذلك تحت إشراف المستشرق: مارتين تيودور هوستيما (1851-1943م)، وصدرت طبعتها الثانية ما بين (1954 و2005م)، ونشرت باللغة الفرنسية والإنجليزية فقط بعد أن نقّحت موادها القديمة، وجدّدت معلوماتها في ضوء ما استجدّ في مجال الإسلاميّات. ومنذ سنة 2007م، بدأت بإصدار نسخة رقميّة. ونشير هنا أنّه وفي سنة 1953 صدرت نسخةٌ مختصرةٌ للموسوعة، (A Shorter Encyclopedia of Islam) اختصرت على الموضوعات العقديّة والفقهيّة. ترجمت إلى اللّغة العربية الطبعة الأولى سنة 1969م، والطبعة الثانية سنة ،1998م، كما تُرجمت إلى الفارسية والتركية والأوردية، لِمَا لاقته من استحسانٍ في العالم الإسلامي رغم وجود مآخذ كثيرةٍ عليها.

وفي السنوات الأخيرة، أنشئت موسوعاتٌ في العالم الإسلاميّ للرّدّ عليها بعد أن اتّضحت أكثر فأكثر الخلفيّة الاستشراقيّة لمقالات هذه الموسوعة: فقد اعترف بعض

ص: 17

المستشرقين أنفسهم بأنّها: لا تعبّر إلّا عن النّظرة والمفهوم الأوروبيين للحضارة الإسلاميّة. وتُناقض هذه المفاهيم وتختلف اختلافًا كبيرًا عن المفاهيم التي يُؤمن بها ويتّبعها المسلمون أنفسهم. وما ذُكر في هذه الموسوعة لا يتوافق مع التعاليم والمبادئ الإسلاميّة للمراجع الإسلاميّة (1).

فتأسّست دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى في إيران سنة (1983م)، ومشروع دائرة المعارف الإسلاميّة في تركيا سنة (1988م).

وأمّا عن مضامين الموسوعة البريطانية: فقد حوت مقالاتٍ عن أعلام المسلمين وعن البلدان، والقبائل والسلالات، والحرف والعلوم، والمؤسّسات السياسيّة والدّينيّة، والجغرافيا، والتاريخ، والأعراق، والنباتات، والحيوانات، وتضاريس المدن والبلدات الرئيسة، والآثار الرئيسية، وسعت هذه الدائرة الضخمة (أكثر من ثلاثة عشر ألف صفحة) إلى استقصاء المداخل التعريفيّة التي تشكّل نسيج الثّقافة الإسلامية، ومقوّماتها الحضاريّة، رُتّبت المواد فيها حسبَ الألفباء اللاتيني؛ حيث تنسخ المفردات العربيّة بحروفه، وفق مُقابلات إملائيّة بين أحرف اللغات الإسلاميّة ونظائرها الأوروبيّة. فمثلاً ، تكتب كلمة «خلافة» هكذا «Khilafa»، وتوضع مادتها في باب «K». وهذا ما شكّل عائقًا وحاجزًا حقيقيًّا أمام مستعملي الموسوعة. وهذا ما سعت بعض الموسوعات اللّاحقة تدارکه و اعتماد مداخل انجليزيّة، ومن ذلك موسوعة ليدن كما سيأتي.

وقد أوكلت كتابة مقالاتها في الطبعة الأولى إلى نخبةٍ من المستشرقين الأوروبيين والأمريكيين من أهمهم:

لويس ماسينيون (1883 _ 1962) أكبر مستشرقي فرنسا المتأخرين.

جوزيف شخت (1902 (1970) مستشرق هولندي من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق.

ص: 18


1- انظر: ستيفن همفري Stephen Humphreys في كتابه "التاريخ الإسلامي: اطار البحث" Islamic History: A Framework for Inquir

هنري لامنس اليسوعي (1862 - 1937) مستشرق بلجيكي المولد فرنسي الجنسية، من علماء الرهبان اليسوعيين.

رینولد نيكلسون (1868 - 1945) من أكبر مستشرقي إنجلترا المتأخرين، تخصص في التّصوّف الإسلامي والفلسفة.

دافيد صموئیل مرجليوث (1858 - 1940) من كبار المستشرقين، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق.

دانکن بلاك ماكدونلد (1863 - 1943) مستشرق أميركي.

کارل بروکلمان (1868-1956) مستشرق ألماني يعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. عالم بتاريخ الأدب العربي.

فرانتس بوهل (1850_1932) مستشرق دنماركي من أعضاء المجمع العلمي العربي أدوينكا لفرلي، مستشرق أميركي، رئيس تحرير مجلة «العالم الإسلامي» الأمريكية فترة من الزمن، وساهم في بعض مواد الطبعة الثانية بعض الباحثين المسلمين، الذين يتفقون في الرؤية النقدية والتاريخية للإسلام مع نظرائهم الغربيين.

وعلى مستوى المنهج وأسلوب المعالجة يمكن القول إجمالًا: إنّ ما تطرحه الموسوعة في موضوعاتها من أسئلة، يختلف عمّا يطرحه المسلمون عادة، وأنّ المنهج الاستشراقي بمختلف اتّجاهاته هي المتبعة : المنهج الفيلولوجي، المنهج التاريخاني الإسقاطي، الوصفي....

وبدت النّزعة الوضعيّة والغريبية الشكيّة اللتان تنكران الظواهر وتصرّان على نفيها دون حجّةٍ ودليل بدتا جليّتين خاصّة في أغلب المقالات التي تتعلّق بالعقائد: كالألوهيّة ،والنبوّة والوحي، والقرآن... بل غدا إنكار نبوة النبي محمد صلّی الله علیه و آله وإنكار سماوية الإسلام مسلمتان ينطلق منهما المستشرقون في كتابة هذه المقالات وبالتالي لجأوا للبحث عن مصدرٍ آخر لهذه الظواهر فأرجعوها للتراث اليهودي والمسيحي !!!!

ص: 19

وقد كُتبت ردودٌ كثيرةٌ على هذه الموسوعة (1).

فقد شكّلت هذه الموسوعة عملًا مرجعيًّا أثرى أغلب الموسوعات التي أنجزت بعدها: من جهة المضمون والمنهج بما فيها موسوعة ليدن.

ثانيًا: المعجم القرآني: Dictionnaire du Coran

ومن مشاريع الموسوعات والمعاجم القرآنيّة المنجزة حديثًا، أو التي هي قید الإنجاز نذكر:

معجم تاريخي نقدي للقرآن الكريم، باللّغة الفرنسيّة، عمل على إعداده 27 باحثًا مختصًّا في التّراث الإسلامي من بلدانٍ مختلفةٍ : إيران، فرنسا، بلجيكا، إيطاليا، تونس، الجزائر، دولة الكيان الغاصب،.... أشرف على العمل البروفوسور محمد علي أمير معزي، وهو فرنسي من أصلٍ إيراني. وله العديد من الدّراسات حول التشيّع، والتّصوّف.

دام العمل فيه حوالي 5 سنوات، واشتمل على أكثر من 500 مقالة، وصدر سنة 2007 باللّغة الفرنسيّة في 1028 صفحة. وتُرجم إلى اللّغة الإيطاليّة (2007)، وإلى اللغة الإنجليزية (2008).

تناول موضوعاتٍ شتّى في التفسير، والأدب والتاريخ، والعقيدة والقانون والتصوف ....

ومن عناوين هذه الموضوعات نجد: مادة الحرب والسلام، والتسامح والتّعصّب، والتجربة الروحيّة للنبي، الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، والتفسير الصوفي للقرآن، والتفسير السني والشيعي، كما يحتوي القاموس على مواد تتحدّث عن الأخلاق في القرآن، وعن فضل القرآن، وعن مكانة غير المسلمين في القرآن، وعن مخطوطات القرآن، وعن تاريخ العلوم القرآنيّة، وعن قصص الأنبياء، كما تضمّن

ص: 20


1- انظر مثلا: عوض، إبراهيم: الموسوعة الإسلامية أباطيل وأضاليل، محمد أركون في كتابه نقد العقل الإسلامي، د. زينب عبد العزيز ومقالتها في مؤتمر القراءة الغربية للقرآن الكريم (كلية الدعوة الإسلامية ليبيا ديسمبر 2005).

المعجم مفرداتٍ قرآنيّةً: حنيف، وموسى، وعيسى، وثمود، وعاد، الإسراء والمعراج، شريعة مريم هارون، الخضر، يوسف، نوح، ياجوج وماجوج، مكة، غار حراء، أهل الكهف، أهل الكتاب، قابيل وهابيل... ويخصّص القاموس لكلّ مادة من هذه المواد صفحات عدّة لشرحها وإضاءتها من وجهة نظرٍ تاريخيّةٍ محضةٍ بالدرجة الأولى.

ولقي المعجم ترحيبًا كبيرًا في الدوائر الغربيّة، أمّا في الساحة العربية والإسلاميّة تباينت المواقف، فرحّب البعض بالمشروع معتبراً إيّاه خطوةً على طريق التجديد والتحرير الفكري، يقول الباحث هاشم صالح: «القاموس يساعد على تصحيح الصورة عن الإسلام والمسلمين من خلال تقديم تفسيرٍ صحيحٍ وموضوعيٍّ عن القرآن الكريم، ولكنّه يتحاشا المسائل الصّعبة والمحرجة التي قد تصدم الوعي الإسلامي التقليدي، فالتحرير الفكريّ يمرّ من هنا ولا بدّ من دفع ثمنه، وثمنه سوف يكون انهيار العديد من اليقينيات الرّاسخة في الوعي الجماعي منذ مئات السنين والتي ينقضها البحث التاريخي الرّصين الذي يقدّمه لنا هذا القاموس العتيد» (1).

وانتقده البعض الآخر بشدّةٍ معتبرًا إيَّاه حلقةً من حلقات التآمر الاستشراقي الغربي، والذي تحالف هذه المرة مع الغنوصيّة الشيعيّة (إشارة إلى تشيع رئيس تحرير المعجم محمد علي أمير المعزي) للنيل من القرآن والتشكيك فيه.

ثالثًا: دليل أكسفورد حول الدّراسات القرآنيّة:

وهو من تأليف باحثين مسلمين يعملان في مراكز بحثيّةٍ أوروبيّةٍ، ومتخصّصان في الدّراسات القرآنيّة الغربيّة، وهما: مصطفى شاه ومحمد عبد الحليم.

المعجم يتوقع صدورة في نيسان 2020 في حوالي 900 صفحة، وهو بالإنجليزيّة، وجاء في تعريف المعجم:

«القرآن هو النّصّ المقدَّس الأساسيّ في الدين الإسلاميّ، ويُنظر إليه منذ القِدَم على أنَّه كلمة الله الحرفيَّة وتُمثَّلُ أحكامه وبياناته أساسَ المعتقدات والتعاليم

ص: 21


1- قاموس القرآن الكريم بالفرنسية حدث فكري مهم، جريدة الشرق الأوسط، العدد 11214، 11 أغسطس 2009.

الإسلاميَّة. إلى جانب أهميَّته الدينيَّة وكونه الكتاب المقدَّس لأكثر من مليار مسلم حول العالم، يُعتبر القرآن تحفةً مُنقطعة النّظير في اللّغة العربيّة ويُمكن ملاحظة أثره التاريخي كنصّ في جميع أبعاد التراث الأدبيّ العربيّ.

أنتج البحث الأكاديميّ حول القرآن خلال العقود الأخيرة مجموعةً مثيرة للإعجاب من النتاجات الفكريّة التي تتراوح بين الدّراسات التفصيليّة للّغة الفريدة للنصّ وأسلوبه وبنيته مرورًا بالمعالجات الدقيقة لمحتواه ومفاهيمه وسياقاته التاريخيّة. يُعدّ هذا الدليل مرجعًا جوهريّا ونقطة انطلاق لكلّ من يملك اهتمامًا أكاديميَّا بالقرآن، ويُقدِّمُ مراجعات مُفصَّلةً عن مواضيع مؤثّرةٍ في هذا الميدان، بالإضافة إلى نظرةٍ نقديَّةٍ إلى التطوُّرات التي يشهدها الخطاب البحثيّ. یستكشفُ هذا الكتاب التفسير والهرمنيوطيقا القرآنيَّة، ما يجعله مصدرًا أكاديميّا شاملا لدراسة القرآن. تجدر الإشارة إلى أنّه ليس هناك كتاب واحد مُكرَّس لهكذا دائرة واسعة من الدراسة الأكاديمية للقرآن (1).

[1] جاء في الفهرس 57 مدخلًا، ومن الموضوعات التي يُعالجها المعجم:

الأصول الإسلامية والقرآن، الدراسات القرآنية : المسح الببليوغرافي، السياق العربي للقرآن: التاريخ والنص.

المشهد اللغوي في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام: السياق في القرآن، القرآن واليهودية، القرآن والمسيحية، لغة القرآن، مفردات القرآن: المعنى في السياق، بناء الجملة القرآنية، التسلسل الزمني الداخلي للقرآن، هيكل القرآن: الديناميكية الداخلية للسورة، الوحي والنبوءة في القرآن، القانون والقرآن، الأخلاق القرآنية، أنبياء وشخصيات القرآن، السياسة والقرآن، الجهاد والقرآن: التفسير الكلاسيكي والحديث، المرأة والقرآن ترجمات القرآن الكريم: اللغات الغربية، ترجمات القرآن الكريم: اللغات الإسلامية، تقديم القرآن خارج السياق، الثقافة الشعبية والقرآن: السياق الكلاسيكي والحديث، التفسير القرآني المبكر: من التفسير النصي إلى التحليل

ص: 22


1- انظر: موقع الدليل على النت.

اللغوي، التفسير المبكر في القرون الوسطى (800-1000 ) ، التفسير في العصور الوسطى: العصر الذهبي للتفسير، التفسير المعاصر : صعود علم اللاهوت الكتابي، التفسير الشيعي الإثني عشري، المنحا الإسماعيلي في التفسير، تفسير الصوفيّة: الفترات التكوينيّة والفترات اللّاحقة، التأويل القرآني الحديث: الاستراتيجيات والتطوير.

رابعًا: القرآن كموسوعة: The Quran - An encyclopedia

صدرت عام 2005 في مجلد واحد، جاءت في حوالي 800 صفحة، وساهم فيها 43 مختصّا في الدّراسات القرآنيّة والتراثيّة منهم المسلمون وغير المسلمين، وترأّس تحريرها: الدكتور اولیفر لیمان: Oliver Leaman وهو أستاذ الفلسفة وأستاذ للدراسات اليهودية منذ عام 2000، بجامعة كنتاكي (الولايات المتحدة الأمريكية)، وهو يدرس تاريخ الفلسفة الإسلاميّة واليهوديّة والشّرقيّة.

وجاء في تعريف الموسوعة: «القرآن هو مصدر إلهام إحدى الديانات الرئيسيّة في العالم، يتبعه اليوم أكثر من مليار شخص. إنّه يلعب دورًا رئيسيًّا في الإسلام، ومنذ ظهوره قبل أربعة عشر مئة عام كان موضوع نقاش حاد. وقد تمّ تنفيذ بعض هذا من قبل المسلمين والبعض الآخر من قبل جهات معادية أو غير مبالية بالإسلام، مما أدّى إلى مجموعة واسعة جدًا من وجهات النّظر.

والهدف من إعداد القرآن الكريم: كموسوعةٍ، هو تقديم هذا التنوّع في الفكر والمقاربة والمدارس دون أولويّة، من أجل إعطاء تقديرٍ قويٍّ لمدى الاستجابة التي أثارها النّصّ طوال الوقت. وتزويد الطلاب والباحثين بمصدر واحد متين يغطي جميع جوانب النص وتلقّيه:

Authored by 43 international experts, the objective of The" Quran: An Encyclopediais to present this diversity ofthought approach and school in orderto give a strong appreciation of the

ص: 23

range of response that the text has provoked throughout its history. It provides students and researchers Oliver Leama, An encyclopedia, The Quran, pix, 2006 all aspects of the text and its reception" .(1)

وحوت هذه الموسوعة حوالي 600 مدخلًا.

خامسًا: الموسوعة التكامليّة للقرآن الكريم: Intergrated Encyclopedia of the Qur an

يعدّ من الأعمال الموسوعيّة التي كُتبت بعد موسوعة ليدن، وأشرف على إعدادها باحثون مسلمون لم يستسيغوا منهجيّة موسوعة ليدن وطريقة تعاطيها مع المحتوى القرآني، واعتبروا أنه من الضروري تقديم عمل موسوعيّ باللّغة الانجليزية أكثر تكاملاً وموضوعيّةً.

يدير الهيئة العلميّة للموسوعة الدكتور الباكستاني مظفر إقبال، وهو معروف بشدّة انتقاداته لموسوعة ليدن.

وأمّا الموسوعة نفسها: فيرأس تحريرها البروفوسور الباكستاني مظفر إقبال، وهو متخصّص في الدّراسات الإسلاميّة، وله مؤلّفات في نقد الدّراسات الغربية عن الإسلام، يعيش في كندا منذ 1973 ، وبعد حصوله على شهادة الدكتوراة في الكيمياء (جامعة ساسكا تشيوان Saskatchewan، كندا، 1983) توجّه للتخصّص في الدّراسات القرآنيّة وعلاقة الدين بالعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، من مؤلّفاته: الإسلام والعلم، فلسفة العلم والدين في الإسلام والمسيحيّة، وهو أحد مؤسّسي مركز الإسلام بكندا ورئيسه الحالي، ويتولّى رئاسة التحرير لمجلة الإسلام والعلوم (Science Islam) وهي مجلة نصف سنويّة تبحث في الرؤية الإسلاميّة للعلوم.

يعرّف إقبال الموسوعة قائلًا: «ستُقدّم الموسوعة القرآنية المتكاملة للناطقين بالإنجليزيّة بإذن الله تعالى، مرجعًا علميًّا مستمدًا من التّراث العلميّ الإسلاميّ

ص: 24


1- ."with a powerful one volume resource covering

الممتد على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمن، وستمثfل الموسوعة، إن شاء الله تعالى، مزيجًا علميًّا نادرًا من الدّراسات والبحوث القرآنيّة الإسلامية القديمة والمعاصرة بأسلوب يتناوله القرّاء بسهولة. تُوجّه الموسوعة خطابها للمسلمين وغيرهم ممن يحتاج إلى مرجع علميّ معتمد للحصول على معرفة القرآن ورسالته بشكل بحثيٍّ دقيق، كما تخاطب الموسوعة الباحثين الأكاديميين سواء أكانوا من المتخصّصين في الدّراسات القرآنيّة أم يعملون في مجالات أخرى أكثر شمولا»[1].

تتكون الموسوعة من سبع مجلدات، وحدّد فيها حوالي 556 مدخلًا، صدر الجزء الأوّل سنة 2013 في 409 صفحة، وحسب الموقع الإلكتروني للموسوعة لم يصدر أيّ جزء آخر إلى حدّ الآن. الجزء الأول يحوي المفردات التي تبدأ ب A,B: وفيه 47 مدخلًا منها: وريد (Artery and vein)، ضلال (Astray)، ذرة (Atom)، أولو الأمر ،بخل، خشية الله، أيوب، آزر، بابل، بسملة، الأسماء الحسنى، االله، أحمد، زهد، أبوبكر، أبو لهب، عاد،.....

سادسًا: قرآن المؤرخين: Le coran des historiens

من الأعمال القرآنيّة الموسوعيّة الجديدة: مشروع قرآن المؤرّخين، والذي صدر في تشرين الثاني 2019، في ثلاث مجلدات و 3450 صفحة.

أنجز هذا العمل فريق من الباحثين يتألّف من 26 باحثًا في الدّراسات القرآنيّة الغربيّة من مختلف الجامعات الأوروبيّة، وبإشراف الأستاذ محمد علي أمير معزي (سبق التعريف به عند الحديث عن المعجم القرآني) وغيوم دي (Guillaume Dye) أستاذ الدراسات الإسلاميّة في جامعة بروكسل الحرة (بلجيكا).

ودام إنجاز هذا العمل 5 سنوات.

في المجلد الأوّل عشرون مقالةً تدور حول المحاور الآتية:

- القرآن والسياقات التاريخيّة والجغرافيّة لبدايات الإسلام.

[1] - ترجمة لمقالة كتبها : إقبال، مظفر: الموسوعة التكاملية للقرآن، مجلة الاسلام والعلم، عدد 8، صيف 2010.

ص: 25

- القرآن والتقاليد الدّينيّة للعصور القديمة (القرآن واليهوديّة، القرآن والمسيحيّة، المانوية.....

- تكوين القرآن: المخطوطات الغربيّة والمخطوطات القديمة، والنقوش القرآنيّة، الحجريّة القرآن والتشيّع....

في المجلد الثاني: دراسةً تحليليّةً تفصيليّةً لسور القرآن من السورة الأولى إلى السورة 26 حسب ترتيب المصحف.

في المجلد الثالث : دراسة للسّور المتبقّية من السورة 27 إلى السورة 114 بترتيب المصحف.

وفي هذه الدّراسة التحليليّة لآيات القرآن آية آية، حسب موضعها في المصحف، اعتمد الباحثون على الدّراسة الأثريّة والتاريخيّة والفيلولوجيّة لمدلولات الآيات. ويمكن القول إنّ هذا العمل اهتمّ بفترة ما قبل القرآن، والتي أثّرت في تشكّل القرآن وظهوره واكتسابه لمعانيه، ولعلّ هذا السبب في تسميته بقرآن المؤرخين.

سابعًا: مشروع الموسوعة القرآنية برلين corpus coranicum

وهو مشروع بحثيّ من أكاديميّة بلادنبورغ برلين، للعلوم والعلوم الإنسانيّة، وهو يدخل في إطار المشاريع الموسوعيّة الخاصّة بتراث العالم القديم، والقرون الوسطى. وانطلق سنة 2007 تحت إشراف الأستاذة أنجليكا نوفرت (Angelika Neuwirth)، وهي أستاذة بمعهد الدراسات العربية والسامية في جامعة برلين الحرّة. ويشارك فيه اثنا عشر باحثًا من أهل الاختصاص. ويتوقّع الانتهاء من المشروع سنة 2025م.

وفي تعريف المشروع جاء في الموقع الإلكتروني للموسوعة: «إنّ مشروع الموسوعة يستهدف تحقيق مطلبين أساسيين:

أوّلًا: توثيق النّصّ القرآني من خلال مخطوطاته ومن خلال نقله الشفهي (القراءات).

ص: 26

ثانيًا: تقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياق ظهوره التاريخي: أما التفسير فإنّه:

أ): سيتناول القرآن من منظور زمنيٍّ دياكرونيّ تعاقبيّ، أي باعتباره نضّا نشأ بالتدريج في عقدين من الزمن، باحثًا في التطوّرات الشَّكليّة والمضمونيّة والمفهومية، وكذلك ما نشأ على النّصوص الأولى من إعادة تأويل أو تغيير في الدلالة عبر حالاتِ أو إضافات لاحقة.

ب): يعتمد مقاربةً تنظر إلى السورة باعتبارها وحدة، وأنّ السّور المكيّة على الأقل في اتّفاقها الثابت مع الأنماط البنائيّة المعهودة وأشكال الخطاب المناسبة، هي وحدات أدبيّة.

ج) يعتمد التفسير على استقراء واسع للنّصوص الموازية يهوديّة كانت أو مسيحيّة» (1).

وحسب المشرفين على المشروع، فهذا التفسير سيتجاوز الفيلولوجيّة التقليديّة التي قامت على مقولة خضوع القرآن لتأثيرات النّصوص الدّينيّة السابقة عليه، إلى رؤية تقوم على أنّ القرآن لم يقطع مع النّصوص الديّنيّة القديمة، بل انتقى منها أشياءً وعدّلها وأعاد عرضها بما يتناسب مع بيئته القرآنيّة، وربّما أقام مع هذا الموروث للكتب القديمة جدلًا نقديٍّا.

وسيلاحظ المراجع للموقع الإلكتروني أنّ المشروع «يتيح إمكانيّة الوصول للمخطوطات المبكّرة بالصّور والنّصوص. بالتوازي مع نقل النّصّ المكتوب، يتمّ عرض أدبيات القراءة الإسلامية بشكل منهجيّ. هذه هي المرة الأولى التي توفّر فيها Corpus Coranicum قاعدةً نصّيّةً آمنةً تاريخيًّا. بناءً على الفهرسة التاريخيّة الهامّة لتاريخ النّص، يقوم المشروع بإنشاء تعليق زمنيّ أدبيّ باستخدام قاعدة بیانات «نصوص من بيئة القرآن» (TUK) ؛ لأوّل مرّة، يتمّ إعادة بناء تطوّر المجتمع

ص: 27


1- انظر: الموقع الإلكتروني ل_ Corpus Coranicum) https://corpuscoranicum.de)

الإسلامي الأصلي كتفاعل بين النّبيّ وأولئك المرسل إليهم في مكة والمدينة».(1).

الاستشراق والتحقيق القرآنيّ:

نظرًا لزيادة آثار التحقيق القرآنيّ للمستشرقين وانتشارها وتنوّعها، وحدوث المسائل والشبهات في هذا المجال، فإنّ معرفة آرائهم ومواقفهم وكذلك معرفة سوابقهم في التحقيق القرآنيّ ووضعهم الحاليّ فيه والعمل على تحليلها و مناقشتها ونقده تُعدّ ضرورةً بحثيّةً وعلميّةً لا بدّ منها.

فقد تصدّى المستشرقون للتحقيق في مجالي التفسير والعلوم والمعارف القرآنيّة منذ القدم؛ ففي مجال العلوم القرآنيّة اهتمّوا بتاريخ القرآن وتأليفه وتدوينه، وكيفية النزول، ومصاحف الصحابة، وكتّاب الوحي واختلاف القراءات، والحروف المقطّعة، وأسماء السّور، وترجمة القرآن، وإعداد الفهارس والمعاجم، وبلاغة القرآن ومعرفة لغة القرآن، والتحقيق في الآثار القديمة القرآنيّة...، أمّا في مجال معارف القرآن فقد تناولوا المواضيع الآتية: الأصول والعقائد في القرآن، الوحي، القصص، الأديان، الأنبياء وتفسير بعض الآيات (2)، وغيرها من المباحث الموضوعيّة في القرآن. (2)

وكان هدف نشاطات المستشرقين - بدايةً - في الآثار القرآنيّة والإسلاميّة ومصادرها وترجمة القرآن هو الحيلولة دون نفوذ الإسلام إلى أوربا المسيحيّة. ،وعليه، فإنّ آثار هذه المرحلة ومؤلّفاتها تعرض صورةً ناقصةً ومُغرضةً عن النّصوص الإسلاميّة. إلّا أنّ اتجاه المستشرقين في عصر النّهضة بدأ يتّجه ليصبح أكثر توسّعًا وعمقًا في الدّراسات والعلوم والمعارف القرآنيّة، ولكن سرعان ما توسّعت أهدافهم فامتدت هذه الدّراسات إلى الجامعات لتأخذ شكلاً مغايرًا للبحث العلمي بالطعن في القرآن ونبي الإسلام، والدين الإسلامي.... فمنذ النّصف الثاني من القرن التاسع عشر أصبحت تحقيقاتهم تتّجه لتكون بصورةٍ ممنهجةٍ وموجّهةٍ وأكثر اتّساعًا للطعن في النّصوص والمصادر الأصليّة للتّراث الإسلاميّ.

ص: 28


1- انظر: الموقع الإلكتروني ل_ .Corpus Coranicum) https://corpuscoranicum.de)
2- صادقی، تقی: رویکرد خاورشناسان به ،قرآن ،لا.ط، لا.م، فرهنگ ،گستر، 1379 ه_ ش، ص 147.

ونشير فيما يأتي إلى أهمّ التأليفات القرآنيّة للمستشرقين منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين:

- نجوم الفرقان في أطراف القرآن، وهو أوّل معجم لألفاظ القرآن لغوستاف فلوغل (GustanFlagal) من ألمانيا.

- تفصيل آيات القرآن الكريم، وهو أوّل معجم موضوعيّ للقرآن لجولس لابوم (Jules Labum) من فرنسا.

- تاريخ القرآن لثيودور نولدك (Theodor Noldeke) من ألمانيا.

- المناهج التفسيريّة للقرآن لغولدزیهر (Ignaz Gold Ziher) من المجر.

- ترجمة القرآن لآرتور ربري (Arthur John Arberry) من بريطانيا.

- على أعتاب القرآن ومدخل للقرآن، لريجس بلاشر (RegisBlacheve) من فرنسا.

- الكلمات الدّخيلة في القرآن، لارتور جفري (AvtorJeffri) من أميركا.

- مقدّمة القرآن لريتشارد بل (Richard Bell) من بريطانيا.

- مقدّمة القرآن لمونتغمري وات (Montogomery Watt) من بريطانيا.

- جمع وتدوين القرآن لجان برتون (John Berton) من بريطانيا.

- الله والإنسان في القرآن، لايزوتسو (T.Izutsu) من اليابان.

وذكر ماركو شولر (1) - في مدخل «التحقيقات الأكاديميّة للقرآن بعد عصر النهضة» في موسوعة القرآن - أكثر الآثار القرآنيّة تأثيراً في القرنين التاسع عشر، والعشرين فقال إنّ كتاب «مقدّمة تاريخيّة - نقديّة على القرآن» (لغوستاف ویل (Gustav Weil) و «تاريخ القرآن» لنولدكيه (Theodor Noldeke) في

ص: 29


1- Scholer,Marca 2004, Post- Enlighenment Academic Study Of the Quran, Eo, Vol, 4Leiden P.187

أواسط القرن التاسع عشر منحا رونقًا أكبر للتحقيقات القرآنيّة الأكاديميّة، ووضَعا أسسًا جديدةً للتحقيقات بعدهما، كما كتب بلاشر (R.Blachere) وريتشارد بل (Richard Bill) على تلك الأسس ترجمات القرآن مصحوبة مع إعادة تنظيم السّور بنظرة انتقاديّة. إنّ «تاريخ القرآن لنولدكه مع إضافات شوالی، برگشتر اسر، وپرتسل تبدّل إلى متن قياسيّ ومطمئن في أربعة مجلّدات، والذي يُعدّ - إلى زماننا هذا - من أهمّ المراجع في تاريخ القرآن. وقد ذكر شولر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر آثار موير (W. Muiv)، ورادول (A.Rodwell)، غريمه (H Grimme) وهرشفلد (HHircheld)، وقال: إنّهم - من خلال أخذ الأسس التحقيقيّة للمستشرقين الألمان - كتبوا تاريخًا جديدًا للسور بجزئيّات أكثر وتنظيم جديد لمتن القرآن بترتيبهم الافتراضيّ والذي بدا أنّه غير مقنع؛ وذلك لعدم وجود شاهد قاطع على اعتبار هذه الترتيبات الفرضيّة (1).

وقد ذكر المؤلّف أنّ الخصوصيّة الأساسيّة للتحقيقات القرآنيّة في القرن التّاسع عشر هي التوجّه نحو التعامل بمعرفة اللغات مع متن القرآن، وعناصرها الخاصّة، والتوجّه نحو المعنى، ومنشأ المفاهيم القرآنيّة.

ثمّ ذكر أنّ التحقيقات القرآنيّة في القرن العشرين تشكّلت ضمن إطار الخطوط الآتية: جوانب معرفة اللغات للبيان القرآني، القراءات المختلفة، المفردات الدخيلة، ترتيب أجزاء المتن وتاريخه (2). وقد كتب في هذا العصر هرويتس (j. Horowitz) ومنغانا (A. Minganq) و آرنز (K.Ahrens). وجفري (A.Jeffery) بعض الكتب. بدأ النصف الثاني للقرن العشرين بكتب عدّة مؤثّرة لبلاشر (R.Blachere)، جفري (AJeffery)، بل (R.Bell)، وواط (M.Watt) حيث جمعوا فيها نتائج مختلفة في التحقيق القرآنيّ منذ العقود الأولى للقرن العشرين وإلى ذلك الزمان.

وذكر شولر أنّ من الخصائص البديعة لهذا العصر هي: الحبّ المتجدّد للمحتوى الحقيقيّ لمتن القرآن، وتغيير النظرة بشأن معاني المصطلحات والمفاهيم القرآنيّة

ص: 30


1- Scholer, Ibid, 191.
2- Scholler, Marco, Op, Citp.190.

وكشف النسيج العموميّ للبيان القرآنيّ، وإنّ أوّل نتيجة فعليّة لهذه التغييرات هي الرغبة نحو التفاسير. ويمكن لنا أن نذكر في هذا المجال آثار بعض المستشرقين، من قبیل: اشاونس (T.O Shaughaessy)، ایزوتسو (T.Izatsu) جيليو (CI.Gilliot) راشل (W.Reuschel)، تالمن (R. Talmon) وغيرهم (1).

ويذكر ماركو شولر - أيضًا - في مدخل التحقيقات القرآنيّة ما بعد عصر النهضة آثار المستشرقين منذ أواخر القرن العشرين، والتي كتبت حول منشأ القرآن ومصدره. وعدّ شولر ثلاثة آثار مهمّة لجان برتن (J. Burton) مايكل كوك وباتريشيا كرونه (M. Cook and P.crone) وونزبرو (J.Wansbvough) بعدfها نقطة عطف في التحقيق القرآنيّ الجديد، ويعتقد أنّ فرضيّة ونزبرو بشأن منشأ القرآن - مع أنّها مع محلّ تردّد أو أنّها رُدّت مطلقًا - إلّا أنّها صارت موضع اهتمام المجتمع العلميّ، وقد دافع بعض الأفراد، مثل: اندرو ریپین (A.Rippin)، عن الامتيازات التي حصل عليها ونزبرو.

تقول أنجليكا نویورت (A.Neuwirth) حول كتاب «التحقيقات القرآنيّة» لنزبرو: «لقد كان هذا الكتاب موجّهًا لجميع التحقيقات المتطرّفة اللّاحقة حول القرآن. والشخص المذكور أشاع هذا الرأي ونشره، وهو أنّ القرآن لا أساس له، وأنّ شكّك وتردّد. وربّما أنّه يعود إلى الأزمنة المتأخّرة (قرون عدّة بعد ظهور الإسلام). وعليه فإنّ دراسة مثل هذا المتن لا تخلو من فائدة... ولقد كان هذا الكتاب كالبركان في تأثيره على المتابعين. واليوم، وفي الأجواء الجامعيّة في أميركا يؤمن الجميع بأنّ كلام ونزبرو صحيح» (2).

وذكر شولر بشأن كتابي جان برتن ونزبرو حول التحقيق القرآنيّ: إنّ لهذين الكتابين أهمّيّةً خاصّةً في التحقيقات القرآنية ولا سيّما أنّ النتائج الحاصلة من التحقيقات التي قام بها هذان العالمان - اللذان يتكلّمان باللغة الإنجليزيّة - متضادّة

ص: 31


1- Scholer, Marco, Ibido P. 193
2- نویورث، انجلیکا: هفت آسمان، العدد 34، صيف سنة 1386 ه_ ش، ص 22.

بشكل كامل، فبحسب رأي ونزبرو فإنّ القرآن الرسميّ -يعني المتن بشكله الحالي- لم يكن قد اتّخذ هذه الصورة إلى أواخر القرن الثاني الهجريّ ولا يرجع بتمامه إلى زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن ناحية أخرى، فإنّه يظهر من تحقيق برتن أنّ تاريخ تدوين المتن الرسميّ للقرآن يعود إلى ما قبل وفاة النبيّ صلّی الله علیه و آله، ومنذ ذلك الوقت فما بعد انتشر بتلك الصورة وبذلك الشكل.

إطلالة على موسوعة ليدن: الهويّة والخصائص

تبيّن من خلال الاستعراض الموجز للموسوعات القرآنيّة الغربيّة المعاصرة، أنّ أغلب هذه المشاريع صدرت بعد أحداث 11 أيلول 2001 ، وما أعقب ذلك الحدث من تفاقم الإسلامفوبيا في الغرب، وتوجّه أقوى لدراسة الإسلام والقرآن، واهتمام أوسع بالحضارة الإسلامية ونصوصها التأسيسيّة.

وهذا ما شجّع الكثيرين على البحث عن حقيقة الكتاب المقدّس للمسلمين، بعيدًا عن شيطنة الإعلام، وتزويرات السياسيين.

وموسوعة ليدن صدرت فعلًا سنة 2001 في نفس السياق التاريخي للعديد من الأعمال التي عرّفنا بها سابقًا، وإن كان العمل لإعدادها بدأ سنة 1993م، في مدينة ليدن الهولنديّة المشهورة بجامعتها ودار نشرها التاريخيتين.

انطلق العمل على يد السيدة جين دمن ماك اوليف ( Jane Dammen Mc Auliffe)(1) بمساعدة أربعة من الباحثين المتخصصين في تاريخ الأديان والدّراسات القرآنيّة وهم: الفرنسي كلود جيلوت، والأمريكي وليام براهام، واللبنانية الأصل وداد القاضي، واليهودي (الإسرائيلي) أندرو روبين. وللموسوعة فريق استشاريّ

ص: 32


1- من مواليد (1944) ، متخصّصة في الدّراسات اللاّهوتيّة والبحوث القرآنيّة والإسلاميّة، حائزة على باكلوريوس في الفلسفة واللّاهوت من جامعة ترينيتي بواشنطن، وماجستير في الدّراسات الدّينيّة، تابعت الدكتوراه في الدّراسات الإسلامية بجامعة تورنتو. وعملت مدرّسة في جامعة تورنتو، وجامعة إيموري. وتقلّدت منصب عميد كليّة العلوم والآداب جورج تاون، في جامعة جورج تاون (بین 1999_2008)، وعملت خلال هذه المدّة أستاذة في قسم التّاريخ وقسم الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، وهي رئيسة كلية برين ماور (2008-2013)، وعملت عميدًا مشاركًا لكليّة اللّاهوت في كاندر، وأحد أعضاء مكتبة الكونغرس، ورئيسة مكتب البرامج العلميّة بالمكتبة...

من شخصيات عدّة من بلدان مختلفة: نصر حامد أبو زيد (مصر)، محمد أركون (الجزائر) جيرهارد يورينفر (الولايات المتحدة) جرالد هاوتنج (انجلترا) فرید ليمهاوس (هولندا)، انجليك نويروث (ألمانيا). وتشكلّت الهيئة التحريرية من 278 باحثًا، حوالي %20 منهم فقط من المسلمين، حرّروا مقالات الموسوعة.

ويلاحظ أنّ أغلب المقالات المرتبطة بالمفاهيم النبويّة (كمقالة محمد، والمقالات عن الأنبياء جميعًا، عن نساء أهل النبوة...) كتبها باحثون غير مسلمين. وقد اعتمدوا غالبًا في الإحالة على الآيات القرآنيّة على ترجمة انجليزيّة للقرآن الكريم (القاهرة 1924) . (لم يلزموا المحرّرين بترجمة بعينها كما سيأتي التوضيح).

جاءت الموسوعة في 6 مجلّدات صدرت تباعًا: المجلد الأوّل: ويحوي المداخل التي تبدأ من الحرف A إلى الحرف D وصدر في أيلول سنة 2001. المجلد الثاني: ويحتوي المداخل من الحرف E إلى الحرف I وصدر في أيلول سنة 2002 المجلد الثالث: من الحرف J إلى الحرف O وصدر في تشرين الأول سنة 2003. المجلد الرابع من الحرف P إلى الحرف Sh وصدر في كانون الثاني سنة 2004. المجلد الخامس: من الحرف Si إلى الحرف Z وصدر في كانون الثاني 2005. المجلد السادس: وخصص للفهارس وصدر في أكتوبر 2006.

وقد بلغت المداخل في الأجزاء الخمسة حوالي 690 مدخلًا.

وأما إذا أردنا أن نقسّم الموسوعة موضوعيًّا (أقسامها الهيكليّة) فهي تتشكّل من الموضوعات الآتية:

أوّلًا: مقدمة الموسوعة بقلم (دمن ماك اوليف).

ثانيًا: المداخل المتعلّقة بالأعلام والمفاهيم، والأماكن، والوقائع، والأعمال، والقيم التي نجدها في القرآن ولها صلة وثيقة بالنص.

ثالثًا: المداخل ذات الصلة بقضايا الدّراسات والأبحاث القرآنيّة من قبيل تاريخ القرآن، العلم في القرآن.....

رابعًا الفهارس: وهي متنوّعة:

ص: 33

أ- فهرس المؤلفين: وفيه بيان للمؤسّسة الأكاديميّة التي ينتمي إليها المؤلف وعناوين المقالات التي شارك بها، مع تحديد رقم المجلد التي جاءت فيه المقالة.

ب- فهرس المقالات: مرتبة ترتيبًا أبجديًا مع بيان اسم الكاتب أمام كل عنوان.

-ج- فهرس الأسماء (الأعلام، المدن، الوقائع، المؤسسات....): ويحوي على كلّ الأسماء التي جاء ذكرها في الموسوعة مع بيان الجزء والصفحة والعمود لكلّ اسم.

د- فهرس الألفاظ والجمل العربيّة والتي كتبت بالأبجدية الإنجليزية والواردة في الموسوعة مع تعيين المجلّد والصفحة لكلّ عبارة أو جملة.

ه_- فهرس الآيات القرآنيّة: وفيه تتبع لسور القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف ولكلّ آياته آية أية وبيان عنوان المقالة التي وردت فيه الآية ورقم المجلد ورقم الصفحة والعمود.

ونوّهت محرّرة الموسوعة لأهميّة هذه الفهارس: «آمل أن يكون هذا المجلّد الأخيرُ من موسوعة القرآن EQ، مساعدًا لقارئيها لتحصيل الاستفادة القصوى من المجلّدات الخمسة التي سبقته. آمل أن يعينهم على فتح السّبل لتحقيقات حاذقة وبحوث منتجةٍ في مجال الدّراسات القرآنيّة وأكثر. وفي النهاية آمل أن يُمكِّن أولئك الذين يحترمون القرآن بصفته نصًا مقدّسًا يرشد الحياة، وأولئك الذين يقاربونه كإنجاز ثقافيّ على مستوى بالغ الأهميّة، أن يمكّنهم من تعميق فهمهم وتقديرهم لهذا الكتاب المقدّس ذو الأهميّة الاستثنائيّة» (1).

أمّا دار النشر : فهي مؤسّسة بريل بليدن المدينة الهولنديّة: وهي من أقدم المطابع الأوروبيّة التي تخصّصت بنشر کتب التّراث العربي والإسلامي التي كانت تترجم في البدايات إلى اللاتينيّة ثمّ لاحقًا إلى اللّغات الأوروبيّة الحيّة كالألمانيّة، والإنجليزيّة والفرنسيّة، تأسّست سنة 1683م، وتعاونت مع جامعة ليدن (تأسّست سنة 1578م) على تحقيق التراث العربي والإسلامي ونشره. وتعدّ مكتبة ليدن

ص: 34


1- موسوعة القرآن، ليدن، م.س، ج 6 ص ix

من أهم عشر مكتبات في العالم من حيث عدد المخطوطات العربيّة التي لم يتم تحقيقها بعد.

والظّاهر أنّ فريق موسوعة القرآن ليدن، باختياره مكتبة بريل، يطمح لمكانة مماثلة لموسوعتهم في تاريخ التصنيف العلميّ الأوروبي عن الإسلام عموما والقرآن بالخصوص.

الاستفادة من التفاسير دون تحويل الموسوعة إلى موسوعةٍ تفسيريّةٍ:

من الطبيعي أن يكون للمادة التفسيريّة للقرآن حضورًا في موسوعة قرآنيّة، ولكن الهيئة العلميّة حرصت أن يكون للتفسير حضور ولكن دون أن تتحوّل الموسوعة إلى دائرة تفسير. أي أن يستعين الباحثون بآراء المفسّرين وظيفيًّا، وفي سياق تنقيح العناوين القرآنيّة، أو تحليل المفاهيم المرتبطة بالدّراسات القرآنيّة. جاء في مقدّمة الموسوعة: «كل مقالة في الموسوعة تستفيد بشكل مباشر أو غير مباشر من دائرة المؤلّفات فى تفسير القرآن، فقد تطلّب احتواء المشروع التركيز على القرآن وحده، وعليه فإنّ قرّاء الموسوعة لن يجدوا مقالةً مستقلّةً حول الطبري أو الفخر الرازي، ولكنهم سيجدون إحالاتِ متكرّرةً إلى كتب هؤلاء المفسرين» (1).

اعتماد اللّغة الأنجليزية في عنونة المداخل:

على خلاف الموسوعة الإسلاميّة (EI)، التي تعتمد في مداخلها الألفاظ والكلمات العربيّة المكتوبة بالحروف اللاتينية، ما يعرف lemmata (الليما)، اعتمدت موسوعة القرآن الألفاظ الإنجليزية، أي طريقة أخرى : التصنيف المعجمي حسب ترتيب اللغة الإنجليزية، ويبدو أنّ السبب في هذا العدول هو أنّ الموسوعة تتوجّه إلى القارئ الغربي، والطريقة التي تعتمدها الموسوعة الإسلاميّة قد تجعله يُواجه مشكلةً في الوصول إلى بعض المفردات، بينما لا يُواجهها في الموسوعة القرآنيّة ليدن: «على سبيل المثال لا توجد كلمة عربية موازية بالدقّة لكلمة prayer. تدلّ كلمة

ص: 35


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج 6 ص ix.

الصلاة على العبادة التي يؤدّيها المسلم الملتزم خمس مرّات يوميّا، بينما تشير كلمة دعاء إلى نوع من العبادة يكون تشفّعيًّا وأقلّ رسميًّا. أما الذكر، فهو المصطلح المستخدم للدلالة على نطاقٍ واسع للآية من الممارسات الصوفيّة، وهكذا تتضمّن اللغة العربيّة الفصحى والمعاصرة، وغيرها من المفردات المتّصلة. تورد موسوعة الإسلام مقالات عن كلّ مفردة من هذه المفردات الثلاث، ولكن ترد فقرة تحت الكلمة المفتاح "prayer"، وعليه إنّ الباحث أو التلميذ غير العربي الذي يريد اکتساب معلومة عن هذا الموضوع العام سيجد صعوبةً في البحث في موسوعة الإسلام، في حين أنّ هذه العوائق لن تواجهه مع (موسوعة القرآن)" (1).

ولم تستثن الموسوعة من هذه القاعدة في اعتماد الألفاظ الإنجليزية إلّا المفردات العربية التي ليس لها مرادف في اللّغة الإنجليزيّة كزقّوم، وبرزخ، وبسملة....

فنجدها ترد تحت عنوان Barzakhk, Zaqqum, Basmala.

اعتماد التخصّص إلى الحدّ الأقصى:

أكّدت السيدة (ماك اوليف) على التخصّص العلميّ للمحرّرين وكتّاب المقالات، وسعت الموسوعة لعدم الاكتفاء بالتخصّص العام في الدّراسات الإسلاميّة والقرآنيّة، بل التّخصّص ما أمكن حتى في موضوعات المقالات التي يكتبونها: فعلى سبيل المثال مدخل "النساء والقرآن" كتبته السيدة روت رادد التي تخصّصت في مجال الدّراسات الإسلاميّة بموضوع النّساء في الإسلام.

ومدخل "جمع وتدوين "القرآن" كتبه جان برتن مؤلّف كتاب (تدوين القرآن) سنة 1977 الذي يعتبر إلى جانب كتاب (التحقيقات القرآنيّة) لونز برو علامة فارقةً في التحقيق القرآني الحديث.

ص: 36


1- موسوعة القرآن، ليدن، م.س، ج 1، ص12.

الضوابط الشّكليّة

حرصت الموسوعة على تحديد الضّوابط الشّكليّة والالتزام بالشّروط الأكاديميّة للكتابة العلميّة، فاشترطت كما يتّضح جليًا في المقالات على الباحثين تقديم قائمة بيبليوغرافيّة بالمراجع والمصادر.

جاء في مقدّمة الموسوعة : «وبما أنّ موسوعة القرآن قد تمّ تأليفها لتقديم فهم معرفيّ للقرآن وترويجه، فقد حثّ جميع المؤلفين على تقديم قائمة المراجع التي اعتمدوها في أبحاثهم، وسوف يجد القرّاء أنّ هذه الإضافة تفيدهم في دراسة موضوع معيّن بشكل أكبر، فضلاً عن ذلك فإنّ الاستشهادات داخل النصّ بالمصادر الأوليّة والثانوية تساعد الباحثين في ميدان الدّراسات الإسلاميّة مع قيامهم بتتبّع المزيد من الدّراسات المفصّلة حول المواضيع التي تناولتها الموسوعة» (1).

وفي ترقيم الآيات اعتمدت الموسوعة الطريقة المتعارفة في الدّراسات الاستشراقيّة والموسوعات الغربيّة: الاكتفاء برقم السورة ورقم الآية، عوضًا عن كتابة اسم السورة ورقم الآية كما هو متعارف في الأدبيات الإسلاميّة، وتعليل ذلك، وبحسب مديرة المشروع أنّ هذا يسهّل مهمّة أغلب القرّاء الذين لا يعرفون أسماء السّور.

ولم تلزم الموسوعة كتّاب المقالات اعتماد ترجمة بعينها، وفسحت لهم المجال لاختيار الترجمة التي يريدونها للآيات القرآنيّة، والتي يستشهدون بها في مقالاتهم، بل مكّنتهم حتّى من اعتماد الترجمة الشخصيّة للآيات. وكذلك لا توجد معياريّة متشدّدة في الإحالة على المصادر العربيّة الأساسيّة: ككتب الحديث والتفسير العربية الأساسية، فرغم أنّ ورقة تنظيم «نمط الموسوعة» والتي عمّمت للباحثين كتعليمات للمؤلفين أوردت الطبعات المفضّل اتباعها، ولكن عمليّا لم تكن هي دائماً المعتمدة، فلم تكن هذه الطبعات هي المتاحة للباحثين.

ص: 37


1- موسوعة القرآن، ليدن، م.س، ج 6، ص13.

الموسوعة بين الجدل المترقب والقابلية للتطوّر:

نختم هذه النّقاط الأساسيّة في التعريف بالموسوعة وأسسها البحثيّة، بالإشارة إلى مسألة مهمّة وردت في مقدّمة الموسوعة: الاستعداد للمراجعة والتطوير، هذا الاستعداد يستند إلى قناعة موضوعيّة : أنّ هذا العمل لن يخلو قطعًا من نقائص، وثغرات سيسعون إلى تداركها في الطبعات أو النّسخ اللّاحقة، خاصّة وأنّ المشروع في نظرهم: «المحاولة الأولى لتأليف مرجعٍ هامٍ يحتوي القليل من المصادر فقط» (1)

وفي هذا السياق: النقد والمراجعة، تؤكد السيدة (ماك أوليف): «لقد علم محرّرو موسوعة القرآن عند إطلاق هذا المشروع المعرفي، أنّه لا يمكن لهم ادّعاء الشّموليّة التامّة في الطبعة الأولى، ولا بدّ من أنّ العديد من القرّاء والمراجعين يملكون مواضيع ومباحث إضافيّة يقترحون إضافتها، وهذا ما يرحّب به كلّ من الناشر والمحرّرون». وتؤكّد أنّه سيكون هناك طبعة أخرى موسّعة ومحسّنة بالاستفادة من المقترحات.

ترجمات الموسوعة:

ترجمت إلى اللّغة الفارسيّة سنة 2013، ساهم في ترجمتها عشرون مترجمًا، وقد كتبت عنها عشرات المقالات النّقديّة في المجلّات القرآنيّة والاستشراقيّة المختصّة.

حقائق وأرقام عن المقالات والمؤلفين:

اشارة

فيما يلي نورد بعض الحقائق التي يجب ذكرها عن طبيعة المقالات في هذه الموسوعة، وهي حقائق تساعدنا على فهم العديد من التوجّهات في عموم الموسوعة:

1. عدد المقالات: بلغ عدد المقالات حوالي 695 مقالة وعدد المؤلفين 279 باحثًا، أغلبهم ساهم بعدد من المقالات لا يتجاوز الثلاث، وعدد قليل منهم ساهم بأربع مقالات فأكثر : 33 باحثًا فقط كتبوا خمس مقالات فأكثر، تسع منهم فقط كتبوا

ص: 38


1- موسوعة القرآن، ليدن، م.س، ج 6، ص14.

10 مقالات فأكثر، منهم المستشرق اندرو ربین (Andrew Rippin) والمستشرق اوري ربین (Uri Rubin) والمستشرقة انجلیکا نویفرت (Angelika Neuwith) والمستشرق (Roberto Tottonline).

هذا التّنوّع في المؤلّفين والنسبة القليلة للمقالات التي كتبها أغلب الباحثين (عدد الباحثين الذين كتبوا مقالة واحدة حوالي 123 باحثًا) قد توحي بإيجابيّة التّنوّع، والتّعدّد في الأفكار والآراء من جهة، ولكن قد تنعكس من جهة أخرى مشكلة على صعيد التناغم والانسجام بين مضامين المقالات وحفظ الرّوح العلميّة الموحّدة للموسوعة. وهذا ما سنعود إليه في القراءة النّقديّة. كما يتفاوت حجم المقالات فبعضها لا يتجاوز الصفحة الواحدة وبعضها الآخر قد يتعدّى العشرين صفحة، وعدد المقالات التي بلغت صفحاتها عشر فأكثر حوالي: 55 مقالة.

ختامًا

إنّ هذا المشروع العلميّ الموسوعيّ المتمحور حول القرآن الكريم والموضوعات والقضايا المرتبطة به، والذي تمّ تأليفه بأقلام مجموعة من المستشرقين الغربيّين المعاصرين من مختلف دول العالم الغربيّ؛ بالتعاون مع فريق من المستشارين والمحرّرين؛ منهم بعض العرب والمسلمين، وإصداره باسم «موسوعة القرآن» (ليدن) (Encyclopaedia of the Quran)، يستلزم بذل الجهود العلميّة والبحثيّة لنقد هذه البحوث والمقالات الواردة فيه، وتصويب دراسات أخرى وتوجيهها، وإزالة التباسات وشبهات تفرزها دراسات من نوع ثالث اهتمّت بها الموسوعة.

والحمد لله ربّ العالمين

مدير التحرير

ص: 39

ص: 40

القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقيّه المعاصره -

اشارة

د.جميل حمداوي(1)

ملخص البحث:

لقد آثرنا البحث في موضوع (القرآن الكريم في الدّراسات الاستشراقية المعاصرة/ موسوعة ليدن القرآنيّة في ضوء تحليل المضمون. ومن ثم، تهدف دراستي إلى التعريف بموسوعة ليدن أو دائرة ليدن القرآنية، ثم تبيان المواضيع التي تناولتها هذه الموسوعة الاستشراقية، بجرد مختلف موضوعات الموسوعة بتوصيفها وتصنيفها وتحليلها وتقويمها.

كما اهتم هذا الموضوع بنقد تفاسير المستشرقين للقرآن الكريم، كما ورد ذلك في موسوعة القرآن ،بليدن وذلك باستكشاف مجمل الآليات التحليلية والتأويلية واستكشاف مختلف المقاربات المنهجية الاستشراقية التي استند إليها الدارسون الغربيون في تفسيرهم للقرآن الكريم ودراسته مبيّنًا الدّراسات المنصفة والدراسات المغرضة منها بالتوقف عند مجموعة من المحاور القرآنية التي تثير الجدل والنقاش والنّظر. وقد ارتأينا أن نوظف تحليل المضمون لتقويض ما ذهب إليه كتاب الموسوعة القرآنية من آراء وافتراضات و احتمالات بمحاججتهم ومقارعتهم بالأدلة والبراهين المقنعة.

ص: 41


1- باحث ومتخصص في الدراسات الأدبيّة والألسنيات من المغرب.

تصميم الدراسة:

مقدّمة البحث وفرضيّته وإشكالاته.

أوّلًا: التعريف بموسوعة القرآن بليدن.

ثانيًا: مفهوم تحليل المضمون ومنهجيّته

ثالثًا: تفسير القرآن الكريم حسب مقدّمة موسوعة ليدن

رابعًا: شبهات موسوعة ليدن لمعارف القرآن

خاتمة: خلاصات ونتائج

الفرضيّة والمنهج

اشارة

تنطلق دراستي البحثيّة والنّقديّة من فرضيّةٍ رئيسة ألا وهي أنّ موسوعة ليدن للقرآن قد تضمّنت دراسات وأبحاثًا علميّةً وأكاديميّةً موضوعيّةً ومنصفةً، حرّرها مستشرقون وعلماء ودارسون غربيون من جامعات متنوّعة من جهة، وأساتذة وباحثون مسلمون من جهة أخرى. بيد أنّ هذه الموسوعة القرآنيّة قد توفّرت، في الوقت نفسه، على مجموعة من الأبحاث غير الموضوعيّة التي تثير الجدال والخلاف، وتُسهم في تشكيك القرّاء والباحثين والمنقّبين في مواضيع الموسوعة؛ بسبب ما تحتوي عليها من شبهات مغرضة ومضلّلة.

ومن هنا، يتمثّل هدفي في نقد موسوعة ليدن للقرآن، بالتّوقّف عند ما هو علميّ في هذه الموسوعة، وما هو مشكّل ومضلل ومغرض فيها، على أساس أنّ موسوعة ليدن للقرآن قد جمعت العديد من الحقائق والبيانات والمعطيات والمعلومات البحثيّة حول القرآن وعلومه ومباحثه، تحتاج إلى توصيف علميّ، وتحليل نصيّ، وجرد الموضوعات، وتصنيف موادها، وتقويمها وفق منهج نقديّ أكاديميّ وموضوعيّ.

ومن ناحية أخرى، فقد استعنّا بمنهجيّة تحليل المضمون (-Content ana

ص: 42

lysis) باعتبارها تقنيةً وصفيّةً في دراسة الوثائق والإرساليات الدّينيّة والإعلاميّة والخطابات المختلفة بغية فهمها وتفسيرها في ضوء المعالجة الإحصائيّة.

بمعنى أنّ تحليل المضمون أسلوب كيفيّ وكميّ، يُستخدم في تحليل مضامين المواد الشّفويّة والمكتوبة والمصوّرة؛ باستكشاف محتوياتها ومعطياتها وبياناتها، وجردها في مؤشّرات دلاليّةٍ وسيميائيّة، وتجميعها في تيمات معيّنة، بتصنيفها في فئات جامعة وموحّدة ومشتركة. ثمّ معالجة المضامين الدّلاليّة نوعًا وقياسًا لتعقبها مرحلة الفهم والتفسير فاستخلاص النتائج التي تثبت الفرضيّة أو تفنّدها، ثمّ تحديد مختلف الاقتراحات والتوصيات للعمل بها آنيًّا ومستقبليًّا، تنظيرًا، تطبيقًا.

وإذا كان تحليل المضمون قد استخدم منهجيّةً أو تقنيّةً أو أسلوبًا في تحليل المواد والأخبار والإرساليات في علوم الإعلام والدّعاية والإشهار، وكذلك في العلوم القانونيّة ،والسياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة والنّفسيَّة؛ فقد استعمل هذا المنهج بشكل أو بآخر، في مجال اللّاهوت والدّين وتأويل الخطابات الدّينيّة والعقديّة واللاهوتّية تفكيكا وتركيبًا من أجل معرفة التيمات والمضامين والمواضيع والخطابات والقيم والمواقف والرّغبات والميول والسّلوكيات والتّصرّفات والتّوجّهات التي تتضمّنها الكتب السّماويّة، وتأويل خطاباتها الظّاهرة والمضمرة، وتبيان مواقف هذه الكتب من مجموعة من المواقف والقضايا الإنسانيّة والمجتمعيّة.

لذا سنشتغل في بحثنا هذا على موسوعة ليدن (Leiden) للقرآن، أو دائرة معارف ليدن القرآنيّة، بالتّوقّف أوّلاً عند مفهوم الموسوعة، وتعريف موسوعة ليدن للقرآن، وذكر المواضيع التي تناولتها تلك الموسوعة، بجردها، وتصنيفها، وتحليلها، وتقويمها. ثم، تبيان ما هو علميٌّ موضوعيٌّ في تلك الموسوعة، وما هو مشكّك ومضلّل ومغرض فيها. دون أن ننسى التّوقّف عند موضوع تفسير القرآن من خلال مقدّمة الموسوعة، وما يتضمّن ذلك التفسير التّحليليّ من شبهات جليّة وواضحة.

ص: 43

أوّلًا: التّعريف بموسوعة ليدن القرآنيّة

لقد ظهرت موسوعة ليدن، أو دائرة معارف ليدن القرآنية، عام 1993م. وتتضمّن الموسوعة مقدّمة، ثمّ قائمة بالموضوعات الرئيسة التي حرّرها مجموعة من الكتّاب والباحثين والدّارسين من مختلف أنحاء العالم، وأغلبهم أكاديميون وأساتذة الجامعات الغربيّة على حدّ سواء. وقد تكلّف بمقدّمة الموسوعة جان دامين أولايف (-Jane Dam men McAuliffe)، وتتضمّن المقدّمة نظرةً عامّةً عن تفسير القرآن، وظهور العلوم الإسلاميّة... (1)، وهذا يعني أنّ موسوعة ليدن موسوعةٌ قرآنيّةٌ وإسلاميّةً شاملةً، تجمع دراسات متنوّعةً ومختلفةً لمستشرقين وباحثين مسلمين من جامعات غربيّةٍ متنوّعة ومتباينة، تتأرجح بين ما هو نظريّ وتطبيقيّ، وقد تناولت مختلف المواضيع القرآنيّة وفق منهجيّة علميّة موضوعيّة توفّرت فيها صفتان رئيستان، هما: الأكاديميّة من جهة، والرّصانة العلمية من جهة أخرى. كما تضمّنت الموسوعة معلومات وافرةً ومستفيضةً حول المفسرين والعلماء المسلمين في متن الدّراسة وهوامشها الإحاليّة على حدّ سواء.

ثانيًا: منهجيّة تحليل المضمون

اشارة

يُقصد بتحليل المضمون (L'analyse de contenu)، أو التحليل الكيفي (Re Qualitative research- cherches qualitatives)، القيام بدراسة موضوعاتيّة كيفيّة وكمّيّة للمحتويات أو المضامين، بتصنيف الدّلالات الموضوعاتيّة ضمن فئات رئيسة أو فرعيّة، أو ضمن مقولات تصنيفيّة، وتجميعها تحت تيمة أو فكرة معيّنة.

وهناك من يعرّف تحليل المضمون بأنّه منهج يُتيح بصفة عامّة تحليل سلوك الأفراد والشّخصيات ومواقفهم من خلال المواد التي يكتبونها أو يقولونها.كما يتيح دراسة موقف الهيئات والمؤسّسات وسلوكها، كتحليل توجّهات ومواقف حزب سياسيّ -مثلاً- من خلال افتتاحيّة الجريدة التابعة له»(2).

ص: 44


1- تم حذف التعريف بالموسوعة من البحث حرصًا على عدم التكرار حيث أوردنا ذلك في مدخل الكتاب (التحرير)
2- لؤي عبد الفتاح، زين العابدين حمزاوي: أساسيات في تقنيات ومناهج البحث، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ،وجدة، المغرب، السنة الجامعية 2010-2011م، مطبوع جامعي، ص27-28.

وهكذا، يعدّ تحليل المضمون أداةً وصفيّةً لدراسة محتويات الإرساليات والخطابات والنّصوص والملفوظات الشّفويّة والمكتوبة، إما بطريقة كيفيّة، وإمّا بطريقة كمّيّة رمزيّة. بمعنى أنّ تحليل المضمون يهدف إلى اختيار عيّناته من المحتويات الدّلاليّة الإعلاميّة أو الدّينيّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة أو القانونيّة أو الأدبيّة أو التربويّة بغية توصيفها وتصنيفها إلى تيماتٍ رئيسةٍ، وتفريعها إلى فئات أساسيّةٍ وثانويّةٍ. ومن ثمّ، يأتي دور المعالجة الإحصائيّة، باستخدام القياس والترميز الرياضيّ، وتحليل المعطيات المضمونيّة دلالةً وشكلًا، ومقصديّةً . ثمّ استخلاص النّتائج وتأويلها، ثمّ تقديم التّوصيات والاقتراحات.

ومن جهةٍ أخرى، هناك من يُعرّف تحليل المضمون بأنّه دراسةً إحصائيّةٌ وكميّةٌ ورمزيّةٌ للمعاني والمضامين التي تتضمّنها المادّة الأساسيّة. ويمكن القول: إنّ تحليل المضمون هو تصنيف المحتويات والمواد الدّلاليّة ضمن فئاتٍ وتيماتٍ مقولاتيّةٍ، بل إنّه بمثابة تحليلٍ علميٍّ دقيقٍ وممنهج للمادّة المضمونيّة في مختلف الحقول والمعارف والعلوم. وقد ارتبط تحليل المضمون في البداية بعلوم الدّين. والإعلام، والسّياسة، والإشهار.

ويمكن القول أيضًا: إنّ تحليل المضمون هو الذي يهتمّ بدراسة الرّسائل الإعلاميّة والخطابات الاجتماعيّة، وتحويلها إلى فئات وعيّناتٍ قابلة للتلخيص، والمقارنة، والتحليل، والمعالجة، والاستنتاج والتأويل. علاوة على استخلاص العلاقات الارتباطيّة بين الخصائص المعبّر عنها في أيّ مادة اتّصاليّة.

ويعمل تحليل المضمون على استكشاف المميّزات التي تتميّز بها الخطابات الدّينيّة واللّاهوتيّة، بتبيان خصائصها الموضوعيّة والشّكليّة، والسّياقيّة. ويضاف إلى هذا أنّ تحليل المضمون يدرس الإرساليات الدّينيّة والإعلاميّة في سياقها الزّماني والمكاني. ومن ثمّ، فتحليل المضمون هو وصفٌ علميٌ لما يُقال في موضوعِ معيّن، وفي زمان ومكان معيّنين. أي: تسعى هذه الأداة والتقنيّة إلى وصف المحتوى الظّاهري للإرساليّة، باستكشاف مضمرها النّصّي والسّياقي. كما أنّها أداةٌ ناجعةٌ وصالحةٌ للملاحظة غير المباشرة، والوصف، والتحليل، والفهم، والتفسير، والترميز، والتأويل.

ص: 45

علاوة على ذلك، يعمل تحليل المضمون على تحويل المادّة الدّينيّة أو غيرها من المواد إلى مفهومٍ كميٍّ بغية فهمها، وتفسيرها، وتأويلها.

يرتكز تحليل المضمون، باعتباره أداةً عمليّةً، ومنهجًا تحليليًّا، وتقنيةً وصفيّةً، على مجموعةٍ من المقوّمات والمرتكزات الإجرائيّة التي تتمثّل في ما يلي:

1 يعتمد تحليل المضمون على دراسة المحتويات الدّلاليّة للخطابات الشّفويّة أو المكتوبة.

2 جرد الملفوظات المراد دراستها، بتبيان تيماتها الموضوعاتيّة، وتصنيفها في فئاتٍ مقولاتيّةٍ جامعةٍ.

3 التركيز على تكرار الكلمات أو الجمل أو المعاني أو الرموز التي يتضمّنها النّصّ أو الرّسالة الاتّصاليّة.

4 رصد الجوانب الموضوعاتيّة والشّكليّة والوظيفيّة.

5 يرتبط تحليل المضمون بشكلٍ من الأشكال بالرّسالة الإعلاميّة أو الاتّصاليّة.

6 يجمع تحليل المضمون في دراسته للرّسائل الاتّصاليّة والإعلاميّة والخطابيّة بين التحليلين: الكيفيّ والكميّ.

7 ينكبّ تحليل المضمون على استقراء المحتوى ظاهرًا في بعده الاتّصالي، ثمّ يحلّل باطنه ومضمره لاكتشاف المعاني الثّانويّة؛ برصد المقاصد المباشرة وغير المباشرة.

8 ربط مضمون الرّسالة بآثارها السّياقيّة، وبكاتبها، وبظروفها الخاصّة والعامّة.

وعليه إذا كان المنهج التجريبيّ يعتمد على الملاحظة المباشرة في التعامل مع المعطى الميداني، فإنّ تحليل المضمون يستند إلى الملاحظة غير المباشرة؛ لأنّه يعتمد على الوثائق والإرساليات. كما أنّه يُعنى بالتحليل الكمّيّ (ترميز الفئات والمحتويات، وترقيم التيمات)، والتحليل الكيفيّ (رصد الصفات الحاضرة

ص: 46

والغائبة. ويهتمّ أيضًا باستكشاف المحتوى الظاهريّ والضّمنيّ للإرساليّة.

ومن ثمّ، يسعف تحليل المضمون، سواء أكان كميَّا أم كيفيّا، في دراسة خطابات الأفراد أو الجماعات، رسميّة أكانت أم غير رسميّة. ويسمح هذا المنهج كذلك بدراسة التّطوّرات والتّغيّرات للفرد نفسه أو للمجموعة نفسها. وهكذا، يقوم تحليل المضمون على وضع الفرضيات، واختيار العيّنة الملائمة للبحث، وتفريع المحتويات إلى فئات وتيمات أساسيّة وفرعيّةٍ وإبراز المؤشّرات المضمونيّة، وتجريد وحدات القياس، واستثمار الإحصاء، وتمثل اختبار الصدق والثّبات.

وقد ارتبط تحليل المضمون - تاريخيًّا وزمنيًّا - بظهور الإنسان بصفة عامة،(1) واقترن أيضًا بالتّواصل البشريّ بصفةٍ خاصّةٍ. بيد أنّ تحليل المضمون لم يتبلور إجرائيَّا إلا مع علم التفسير والشّرح ، ولا سيما تفسير الكتب السّماوية وتأويلها، وتحليل النّصوص والخطابات فهمًا وتفسيرًا، وتوثيقها في ضوء معايير ومحكات ومؤشّراتٍ نقديّةٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ. ونعلم جيّدًا أنّ علماء الحديث في الثّقافة العربية كانوا يدرسون الحديث في ضوء منهج الجرح والتعديل، بنقد السّند والمتن معًا استعدادًا لتفسيره وشرحه وتأويله، واستخراج منطوقه ومفهومه بغية العمل بالحديث الشّريف، وتمثّل دلالاته وتوجيهاته ونصائحه.

كما اهتمّ علماء القرآن بدراسة مضامين القرآن، واستكشاف مواضيعه وقضاياه ومباحثه على حدّ سواء. ومن ثمّ، يمكن القول: لقد اهتمت الثّقافة العربيّة كثيرًا بتحليل المضمون، كما يتجلّى ذلك واضحاً في تفاسير النّصوص الدّواوين الشّعريّة، وتفسير القرآن الكريم، واستنطاق الخطابات الفلسفيّة والعرفانيّة والكلاميّة. وقد اهتمّ العرب كثيراً بعلوم الآلة من أجل توظيفها في تحليل المضامين، وتسخيرها في تأويل المحتويات، واستنطاق بيانات الوثائق ومعطياتها ظاهرًا وباطنًا.

وقد عملت الثّقافة الغربيّة، بدورها، على استكشاف مضامين الكتب السماويّة، ولا سيّما التوراة والإنجيل، بتحليل دلالات النّصوص والخطابات المختلفة والمتنوعة،

ص: 47


1- Mucchielli, R : L'analyse de contenu des documents et des communications.E.S.F.Paris.1977, p : 11

سواء أكان ذلك التّعامل مع المضامين ذاتيًّا أم موضوعيًّا. وفي القرن التّاسع عشر، «وبالضّبط سنة 1888م بفرنسا، قام أحد الأساتذة الجامعيين بجامعة رين (Rennes) بفرنسا، وهو بنيامين بودون (Benyamin Boudon) باتّباع تحلیل مضمون محتوى الإنجيل، وفي سبيل ذلك، اختار سورةً تمثّلت فى سورة (الهجرة)، وشکّلت بذلك عيّنةً لتحليل المضمون. وبعد ذلك، حاول إعادة إنتاج النّصّ وفق أسلوبٍ تليغرافيٍّ، ولم يحافظ سوى على الكلمات الأساسيّة، والحاملة لمغزى. ثمّ بعد تصنيف وفق تيماتٍ؛ نلاحظ بشكلٍ واضحٍ بروز طريقةٍ لتحليل المضمون، التي رغب فيها الباحث أن تكون علميّةً وموضوعيّةً» (1).

وبعد ذلك، ارتبط تحليل المضمون بالإعلام الاتّصالي، وكان ذلك بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945 م، ثم انتقل إلى مجال الدّراسات الاجتماعيّة والنّفسيّة، بدراسة الآراء والمواقف والسلوكات. وقد تبلور تحليل المضمون فعليًّا مع لاسويل (Lasswell) وهارولد دویت (Harold Dwight) في أثناء دراستهما للإعلام الصّحفي في بدايات القرن العشرين. ويعني هذا كلّه أنّ تحليل المضمون قد اقترن بتطوّر منظومة الاتّصال الإعلامي، فقد «كان للتطوّر الذي عرفته وسائل الإعلام والاتّصال منذ منتصف القرن الماضي، الدّور الأبرز في ظهور تحليل المضمون لإجراء البحوث الاجتماعيّة بالاعتماد على المضامين المختلفة، لما ينقل عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة والمسموعة، من موادّ مختلفةٍ ومتنوّعة المجالات».(2)

وعلى أيّ حالٍ، فقد طبّقت منهجيّة تحليل المضمون في دراسة النّصوص الدّينيّة والكتب السّماويّة، باستجلاء مضامينها ظاهراً وباطناً، في معظم الجامعات الغربية، فقد كان التركيز على الإنجيل، والتوراة، والقرآن الكريم. وقد طبّقت مناهج نصيّة ونقديّة متنوّعة كالأنثروبولوجيا، والبنيويّة، والسيميوطيقا، والهيرمينوطيقا، وتحليل

ص: 48


1- غريب، عبد الكريم: منهج البحث العلمي في علوم التربية والعلوم الإنسانية، ط1، الدار البيضاء، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، 2012م، ص227.
2- لؤي عبد الفتاح، زين العابدين حمزاوي، أساسيات في تقنيات ومناهج البحث، م.س، ص27.

المضمون... بغية تقديم دراساتٍ وأبحاث علميّة أكاديميّة دقيقة حول الظّاهرة الدّينيّة في مختلف الميادين والمجالات.

وعلى العموم، فقد اهتمّ تحليل المضمون بترجمة القرآن دلالةً ومعنًى من جهة، كما اعتنى بدراسة قضايا القرآن ومعارفه من جهةٍ أخرى.

الفرع الأوّل: ترجمة القرآن الكريم:

لقد انكبّ المستشرقون الغربيون كثيراً على تقويم القرآن الكريم، من حيث، تاريخه، وترجمته، وبنيته، ومضامينه، وأسلوبه، ولغته، واتّساقه، وانسجامه، وترتيب سوره، وتبيان مختلف تقنيات قراءة القرآن وتفسيره وتأويله، واختلفوا في ذلک بين باحثٍ مدافعٍ موضوعيّ، وباحثٍ جاحدٍ منكرٍ يخدم الأغراض الدّينيّة، والتّبشيريّة، والاستعماريّة. ومن هنا، فما خلّفه المستشرقون من ترجماتٍ قرآنيةٍ هي، في الحقيقة، عبارة عن تفسيراتٍ وتأويلاتٍ وشروحٍ لمعاني القرآن الكريم، ولیست ترجماتٍ حقيقيّةً لهذا الكتاب؛ لأنّه من الصّعب الحديث عن ترجمةٍ مثاليّةٍ أمينةٍ وصادقةٍ للقرآن الكريم.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن الكريم كتابٌ معجزٌ بلفظه ومعناه ومقاصده التشريعيّة. لذا، يستحيل ترجمة القرآن الكريم وفق المعنى دون اللّفظ؛ لأنّ الإعجاز البيانيّ القرآنيّ يكمن في حرفه، وصوته، ومقطعه، وكلمته، ونظمه، وتركيبه، وإيقاعه، وتنغيمه، ومقاصده، ومعانيه. لذا، تبقى ترجمات المستشرقين نسبيّة وناقصةً وعاجزةً عن المماثلة الكليّة للنّصّ الأصلي. لذا، من الصّعب بمكان الحديث عن ترجمات وفيّةٍ وأمينةٍ ومماثلةٍ للنّصّ المقدّس، بقدر ما يمكن الحديث عن تفسيراتٍ وتأويلات وشروحٍ مبتسرةٍ، خضعت لمقصّ التّصرفّ، والحذف، والنّقص، والزّيادة ،والتّغيير والتّلخيص، والتّحشية، والتقديم، والتّعليق.

ومن ثمّ، يمكن الحديث عن تفسيرات معنويّةٍ شائبةٍ ومغرضةٍ ومضلّلةٍ. بيد أنّ هناك تفسيراتٍ معنويّةً موضوعيّةً لبعض المستشرقين الذين ترجموا القرآن الكريم إلى لغاتٍ أجنبيّةٍ معيّنةٍ، ولكن تبقى تلك الترجمات غير كافيةٍ للإحاطة ببلاغة

ص: 49

القرآن الكريم ونظمه، والتعبير عن جمالياته الفنّيّة والبيانيّة من خلال التأثير في المتلقي بغية إثارته، وإبهاره، وإدهاشه.

إذًا، يشكّل القرآن الكريم، بالنّسبة للمسلمين، عماد الدين، ومنبع القيم والأخلاق، وأساس التّشريع، والمصدر الأوّل الذي نرجع إليه من أجل استنباط الأحكام الأصليّة والفرعيّة، وهو دستور المسلمين في الدنيا والآخرة. وقد وصل إلينا محفوظًا متواترًا بقراءاته السّبع أو العشر مصداقاً لقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحفِظُونَ»(1).

وتتمثّل وظيفة القرآن الكريم في هداية النّاس كافّة، وتبيان شريعة الله، وإخراج الناس من الوثنيّة والضّلال إلى الإيمان والتّوحيد، مصداقًا لقوله تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقومُ» (2)، وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ»(3).

ويتميّز القرآن الكريم بأنّه كتابٌ متّسقٌ ومنسجمٌ لا تجد فيه اختلافًا أو تناقضًا أو كلامًا باطلًا مصداقاً لقوله تعالى: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا». وقوله تعالى أيضًا: «لَا يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (4).

يعدّ القرآن الكريم كتابًا مقدّسًا طاهرًا معصومًا من الشّوائب، وخاليًا من الأخطاء مهما كان نوعها، وينعدم فيه التناقض والاختلاف والاضطراب المنطقيّ، وهو كتابٌ محكمٌ وفق منهجٍ ربّانيٍّ أصيل. فضلًا عن كونه كتابًا معجزًا بنظمه، وبلاغته، وسياقه، وتشريعه، وعالميته، وأخلاقياته الرفيعة...

ويمثّل القرآن الكريم حداثةً حقيقيّةً بقيمه النبيلة، ومثله العليا، وفضائله

ص: 50


1- سورة الحجر، الآية 9، القرآن الكريم برواية ورش عن نافع عن الأزرق.
2- سورة الإسراء، الآية 9.
3- سورة النحل، الآية 89.
4- سورة فصلت، الآية 42.

السامية. وقد جاء هذا الكتاب ليُخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، ويخلّصهم من الوثنيّة والجهل والعصبيّة نحو الهداية، والنّور والتّسامح. ومن ثمّ، يتضمّن الوحي الإسلاميّ، في طيّاته، مبادئ كونيّة وعلميّة ومعرفيّة وأخلاقيّة، ويحوي أسس الحداثة الدّينيّة والأخلاقيّة والعلميّة والمعرفيّة، ويحثّ على استخدام العقل لاستكشاف الطبيعة فهمًا وتفسيرًا وتنبّؤًا، ويسمو بالإنسان ويكرمه، ويدعو إلى المساواة والعدالة والحريّة، ويحثّ على العمل والكسب الشريف، ويحرّم الرّبا والموبقات والمفاسد. كما يحثّ على التّعاون والتّضامن والتّآزر بين أفراد المجتمع الإنساني. ويدعو كذلك إلى التّفاهم والتّسامح والتّعايش، وينبذ الفرقة والحروب والعداوة.

وعليه، وبما أنّ القرآن الكريم هو كتابُ إيمانٍ وهدايةٍ وعلمٍ وثقافةٍ وتشريعٍ، فقد اعتنى العلماء المسلمون بشرحه وتفسيره وتأويله وفق أسباب النّزول من جهة، ووفق مقاصد الشّريعة الإسلاميّة من جهةٍ أخرى. كما انكبّ العلماء المسلمون على دراسة هذه اللغة نحوًا، وصرفًا، وفقهًا، ولسانًا، وإعرابًا، ومعجمًا، وتصويتًا، وبلاغةً، وتداولًا. وقد ارتأوا أنّ فهم اللغة العربيّة هو الذي سيساعدهم على فهم القرآن وتفسيره وتأويله وترجمته إلى الآخرين، بتوضيح معاني الكتاب، وتبيان محتوياته، واستجلاء مقاصده القريبة والبعيدة، واستكشاف بناه التشريعيّة والدّينيّة والعلميّة والثّقافيّة. لذا، كانت علوم الآلة وعلوم العربيّة في خدمة تفسير القرآن وتأويله.

ومن جهةٍ أخرى، فقد سارع المستشرقون الغربيون إلى ترجمة معاني القرآن الكريم للتعرّف إلى هذا الكتاب، وفهم شرائعه وقوانينه، واستكشاف عظمة الدّين الإسلاميّ بعد انتشاره في الأندلس بصفةٍ خاصةٍ، وقد تأرجحت ترجماتهم لمعاني القرآن الكريم بين أعمالٍ مشوّهةٍ وضيعةٍ ومغرضةٍ بنوايا دينيّة صليبيّة من جهة، وأعمالٍ تفسيريّةٍ وتأويليّةٍ تبحث عن الحقيقة العلميّة من جهةٍ أخرى.

ومن هنا، فقد كانت ترجمة القرآن عند المستشرقين الغربيين بصفةٍ عامّةٍ، ومحرّري موسوعة ليدن القرآنيّة بصفةٍ خاصّةٍ، بغرض التّشكيك والمسّ بالإسلام

ص: 51

والمسلمين والطّعن في القرآن الكريم. ومن ثمّ، فهي ترجمةٌ مضلّلةٌ ومنحرفةٌ ومبتدعةٌ تخرج عن ضوابط المنهج العلميّ الصّحيح. وبالتالي، فقد كان المستشرق خاضعًا لتعاليم الكنيسة واللّاهوت والاستعمار والتّبشير على حدّ سواء.

وينطبق هذا الحكم على التّرجمات اللّاتينيّة الأولى للقرآن الكريم التي كانت بطلب الفاتيكان، وكانت ترجماتٍ مدسوسةً ومبيّتةً ومسمومةً بالنّوايا السّيّئة؛ حيث تنسب القرآن إلى محمد صلّی الله علیه و آله، وتعتبر القرآن مجرّد كتابٍ بشريٍّ ينسخ ما يوجد في التّوراة والإنجيل لوجود مضامين ومحتويات متشابهة. وبالتّالي، فالقرآن يعوق التّقدّم والازدهار، وأنّه لا يعرف شيئًا عن المسيحيّة، وما كتب في القرآن عن المسيح هو منقولٌ عن الرّاهب النّصراني المرتد بحيرا الذي لقي الرسول صلّی الله علیه و آله بالشام.

أمّا القصص التي تضمّنها القرآن، فهي منقولةٌ عن الأحبار اليهود بالمدينة. لذا، تتّسم هذه الترجمات الاستشراقيّة اللّاتينيّة للقرآن الكريم بكونها ترجمات مضلّلة ومغرضة تصدر عن نفوسٍ حاقدةٍ عدوانيّةٍ وكارهةٍ للقرآن والنبيّ محمد صلّی الله علیه و آله بسبب ما حقّقه الإسلام من منجزاتٍ وتقدّمٍ وازدهارٍ شرقًا وغربًا، وأيضًا بسبب انتشاره بسرعة ومنافسته الشديدة للمسيحيّة التي بدأت تتراجع بشكل تدريجيٍّ.

وتمتاز هذه التّرجمة الاستشراقيّة الحقودة لمعاني القرآن الكريم بتكريس النّزعة الاستعماريّة، ومعاداة العقليّة السّامية والغضّ من قيمتها على المستوى المعرفيّ والعلميّ، وترجيح كفّة العقليّة الآريّة. ويتجلّى هذا واضحًا في عدم اعتراف بعض المستشرقين بالفلسفة الإسلاميّة، والانتقاص من علم الكلام والتّصوّف الإسلامي، على أساس أنّ العقليّة السامية غير قادرةٍ على التجريد والتركيب، وبناء الأنساق الفلسفيّة الكبرى وجودًا، ومعرفةً، وأخلاقًا، كما يذهب إلى ذلك المستشرق الألماني رينان.

ومن جهةٍ أخرى، فقد تمسّك المستشرقون الغربيون، منذ القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بالدّفاع عن المركزيّة الأوروبيّة، باعتبارها نموذجًا للمعرفة والعلم، والحقيقة. وقد انطلق هؤلاء الدّارسون من مناهج فيلولوجيّة، أو تاريخيّة أو ذاتيّة. ويعني هذا أنّ المستشرق، صاحب المنهج التاريخي، حسب محمد عابد

ص: 52

الجابري،» يفكّر شموليًّا في الفلسفة الإسلاميّة لا بوصفها جزءًا من كيانٍ ثقافيٍّ عام، الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، بل بوصفها امتدادًا منحرفًا أو مشوّهًا للفلسفة اليونانيّة. وبالمثل، يفكّر في النحو العربي ومدارسه، يوجّهه هاجس ربطها بمدارس النحو اليونانيّة في الإسكندريّة أو برغام وبيان تأثّرها بالمنطق الأرسطي، كما لا يتردّد في ربط الفقه الإسلامي، نوعًا من الرّبط، بالقانون الرّوماني وما خلّفه في المنطقة العربيّة من آثارٍ وأعراف»(1).

كما تعكس أيضًا دراسات الباحثين العرب ذات الطابع الاستشراقي مدى التّبعيّة الثّقافيّة والفكريّة للغرب. ومن ثمّ، تعتمد هذه الصّورة على الفهم الخارجي لمفهوم التّراث بصفةٍ عامّةٍ. وفي هذا الصدد، يقول محمد عابد الجابري: «فالصورة العصريّة الاستشراقويّة الرّائجة في السّاحة الفكريّة العربيّة الرّاهنة عن التّراث العربي الإسلامي، سواء منها ما كُتب بأقلام المستشرقين أو ما صنّف بأقلام من سار على نهجهم من الباحثين والكتّاب العرب، صورة تابعة. إنّها تعكس مظهرًا من مظاهر التّبعيّة الثّقافيّة، على الأقل على صعيد المنهج والرؤية»(2).

أمّا المستشرق الفيلولوجي الغربي، فيبحث عن جذور جينيالوجيّة (البحث عن الأصول) للثّقافة العربيّة الإسلاميّة، فيعيدها إلى مصادر يونانيّة أو هندوأوروبيّة. ويعني هذا أنّ «المستشرق المغرم بالتحليل الفيلولوجي، فهو عندما يتّجه إلى الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، بنظرته التجزيئيّة، لا يعمل على ردّ فروعها وعناصرها إلى جذورٍ وأصولٍ تقع داخلها، أو على الأقل مقروءة بتوجيهٍ من همومها الخاصّة، بل هو يجتهد كلّ الاجتهاد في ردّ تلك الفروع والعناصر إلى أصول يونانيّةٍ، أو عندما تعوزه الحجّة إلى أصولٍ هندوأوروبيّة، الشيء الذي يعني المساهمة، ولو بطريقةٍ غير مباشرة، في العمليّة نفسها عمليّة خدمة «النهر الخالد»، نهر الفكر الأوروبي الذي نبع أوّل مرّة من بلاد اليونان»(3).

ص: 53


1- الجابري، محمد عابد: (التراث ومشكل المنهج)، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، ط1، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1986م، ص 80.
2- م.ن، ص81.
3- م.ن، ص 80-81.

أمّا المستشرق الذي يستخدم المنهج الذاتوي في دراساته وأبحاثه، فيميل إلى شخصيّاتٍ معيّنةٍ، فيتعاطف معها دفاعًا ومناصرةً ومآزرةً، من دون أن يُدلي في ذلک بحججٍ موضوعيّةٍ ترجّح وجهة نظره الصائبة، وتقنعنا بأطروحته الفكريّة، أو تصوّراته الحجاجيّة. وفي هذا السّياق، يقول محمد عابد الجابري: «أمّا المستشرق صاحب المنهج الذاتوي فإنّه، على الرّغم من تعاطفه مع بعض الشّخصيات الإسلاميّة، كتعاطف ماسينيون مع الحلّاج، أو هنري كوربان مع السّهروردي، فإنّه يبقى مع ذلك موجّهًا من داخل إطاره المرجعي الأصلي، إطار المركزيّة الأوروبيّة، مشدودًا إليه، غير قادر ولا راغب في الخروج عنه، أو القطيعة معه. إنّه يتمرّد على حاضره الأوروبي، يتمسّك بماضيه، فيعيشه رومانسيَّا عبر تجربة هذه الشّخصيّة أو تلك من الشّخصيات الرّوحانيّة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة. وقد يذهب إلى أبعد من هذا فيطالب، من خلال تلك التجربة، استعادة روحانيّة الغرب مما لدى الشّرق» (1).

و یعني هذا أنّ المستشرق الغربي عندما يطبّق المنهج الذّاتوي في ترجمته لمعاني القرآن الكريم، أو في أثناء تعامله مع التّراث العربي الإسلامي، فإنّه ينطلق من رؤيةٍ لاهوتيّةٍ مسيحيّةٍ محرّفةٍ، أو من رؤيةٍ رومانسيةٍ ساذجةٍ ومثاليّةٍ قائمة على الانبهار بسحر الشّرق، والاندهاش بعجائبه الخارقة، كما تتعشعش في مخيّلته الإثنوغرافيّة أو الفاطاستيكيّة سواء تعجيبًا أو تغريبًا.

وهكذا، نجد المستشرق الإنجليزي جورج سيل (George Sale) الذي ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية يقول: «أما محمد، فقد كان في الحقيقة مؤلف القرآن والمخترع الرئيس له أمر لا يقبل الجدل» (2).

إذًا، ينطلق هذا المستشرق من نزعةٍ دينيةٍ عرقيّةٍ وصليبيّةٍ ولاهوتيّة لتشويه الإسلام والمسلمين، بالطّعن في القرآن الكريم، ونسبة القرآن إلى محمد، على أساس أنّه كتابٌ بشريّ، وليس كتابًا مُنزلًا.

ص: 54


1- الجابري، محمد عابد: (التراث ومشكل المنهج)، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، ط 1، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1986م، ص 81.
2- عبد الخالق، أحمد عمار عبد الجليل: الاستشراق وصناعة الفكر الهدام، دار آمنة للنشر والتوزيع، طبعة 2016، ص121.

ويرى ريجيس بلاشير (R.Blachere)، في مقدّمة كتابه عن القرآن، أنّ الترجمة كانت بدافع الحقد الصّليبي: «من المرجّح أنّ بطرس الموقر - الذي رحل إلى إسبانيا بين 1141 و 1143م - هو الذي فكّر بتأثيرٍ من روما ومن البابا في ترجمة القرآن إلى اللّاتينيّة، فأوعز بذلك إلى روبيرد ريتين (R.de Tetines) الذي تولّى عمل الترجمة بمساعدة بعض الرّهبان، وقد جاءت هذه البادرة بدافع من روحٍ صليبیّةٍ تدلّ على ذلك رسالة بطرس الموقّر الموجّهة إلى (القديس برنار) مع نسخة من الترجمة المنجزة كما كان الدّاعي إلى هذا العمل الحاجة إلى محو أثر الإيمان من نفوس معتنقي الإيمان»(1).

ويعني هذا أنّ الترجمة اللّاتينيّة لمعاني القرآن الكريم كانت بدافعٍ لاهوتيٍّ كنسيٍّ من أجل تفريق المسلمين، والطّعن في دينهم وعقيدتهم وكتابهم المقدّس، باسم البابويّة الحقودة التي غرضها طمس الحقيقة عن الإنسان الأوروبي، وتقييده بترّهات الرّهبان الذين حرّفوا الإنجيل من أجل خدمة أهوائهم ومصالحهم الشّخصيّة.

وعليه تتّسم الترجمة الاستشراقيّة المغرضة بالتشكيك، والتشويه، والتبشير، والأدلجة، والتفكيك الهدام، والتطرف، وإثارة ما يسمّى بالصّراع الدّيني والحضاري.

الفرع الثاني: الدّراسات القرآنيّة:

لقد ظهرت في الغرب مجموعة من الكليات والجامعات والمؤسّسات والمعاهد والمراكز التي تُعنى بدراسة اللّاهوت الدّيني بصفةٍ عامةٍ، ودراسة الكتب السّماويّة بصفة خاصّة، بما فيها القرآن الكريم، وكانت تطبّق مناهج نصيّة ونقديّة في دراسة هذه الكتب الدّينيّة؛ حيث استعان الباحثون الغربيون بعلم التحقيق والتوثيق، ودراسة الكتابة والطباعة، والبحث عن مصادر هذه الكتب السّماويّة، وما تتضمّنها من حقائق وأساطير وخرافات، ودراسة اللغة والأسلوب، والبحث عن علاقتها

ص: 55


1- نقلا عن محمد خروبات: الاستشراق والعلوم الإسلامية بين نقلانية التأصيل وعقلانية التأويل، ط1، مراكش - المغرب، المطبعة والوراقة الوطنية، 2017م، ص 353-354.

بالسياسة، والإعلام، والأدب، والفنّ، والمجتمع، والاقتصاد، والتاريخ، والفلسفة، والبيولوجيا، وغيرها من العلوم والمعارف.

ولم يقتصر البحث القرآني على المستشرقين والموسوعيين الغربيين فحسب، بل ساهم في ذلك مجموعةٌ من الباحثين المسلمين الذين طبّقوا المناهج العلميّة على الكتب السماويّة بما فيها القرآن الكريم، كما هو حال محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وطلال أسد، وخالد أبو الفضل، وإبراهيم أبو ربيع، ونادية أبو زهرة، وأحمد سليم دلال، وسلوى العوا، وأميرة الزين، وتوفيق فهد، وغيرهم... وكان هؤلاء يطبّقون منهجيّة تحليل المضمون، كما يدلّ على ذلك فهرس موسوعة ليدن للقرآن؛ حيث نجد بعض الدّراسات التي تندرج ضمن هذا الاتّجاه المنهجيّ كموضوع (التطبيقات النّقديّة المعاصرة والقرآن) لمحمد أركون، بالتركيز على علاقة الإسلام بالعنف. وهناك موضوع (النقد النصي) لجيمس بيلامي (James.A.Bellamy) أستاذ بجامعة ميشيغان الأمريكيّة، و(البنى الأدبيّة في القرآن) لعيسى بلاطة...

وقد انتشرت مؤسّساتٌ كثيرةٌ بالغرب تعتني بالدّراسات القرآنيّة والدّينيّة واللّاهوتيّة في ضوء تحليل المضمون منذ القرن الخامس عشر الميلادي إلى يومنا هذا، فقد «أُسِّستْ كُلّيّاتٍ مكرَّسة لهذه الدّراسات في أماكن؛ مثل: ليدن 1593، وروما 1627 ، وأوكسفورد 1638. وبعد ذلك، افتُتحت كلّيّاتٌ في جامعاتٍ أوروبيّةٍ رئيسةٍ أخرى، وفي بعض جامعات أمريكا الشماليّة أيضًا. واتّخذتْ لغات؛ من قبيل العربيّة وغيرها من اللغات الإسلاميّة - كالفارسيّة، والتركية - أهمّيّةً مركزيّةً في التعليم؛ لأنّ التمكَّن من هذه اللغات كان مُقدّمةً ضروريّة لدراسة النّصوص وغيرها من المصادر التّاريخيّة، وعليه؛ فقد تشكّل الحقل المعرفيّ للدّراسات الإسلاميّة الحديثة؛ وفقًا لنموذج الدّراسات الكلاسيكيّة على النّحو الذي تطوّرت في عصر النّهضة وبعده، وأصبح (فقه اللغة) الذي يُعتبر دراسةً للثّقافة عبر عدسة النّصوص التي تُنتجها هذه الثّقافة - هو المنهجيّة السائدة. وانطلاقًا من الإدراك بأنّ القرآن هو محور هويّة الإسلام وتطوُّره التاريخيّ، مُنح القرآن اهتمامًا دقيقًا،

ص: 56

وانبثقت الدّراسات القرآنيّة بوصفها فرعًا معرفيًّا رئيسًا ضمن دراسة الإسلام.

هذا، وقد تأثَّرت الدّراسة غير الإسلاميّة للقرآن أو «الغربيّة» بشكلٍ كبير بنظيرها: حقل الدّراسات الإنجيليّة، حيث إنّ النّقد الإنجيليّ في القرنين الثامن عشر والتّاسع عشر - على الأقلّ ذاك النّقد الذي انتقل من المحيط الحاخاميّ أو الرُّهبانيّ إلى المحيط الجامعيّ - قد وضعَ الاعتقادَ بالطابع الإلهيّ للكتابين المقدّسين اليهوديّ والمسيحيّ بين قوسين، كما اتّسع الاستعداد الذي برز في عصر النهضة لتطبيق مبادئ النقد الأدبيّ والتاريخيّ على النصوص اليونانيّة واللاتينيّة القديمة، ليشمل أحد النصوص القديمة الأخرى؛ أي الإنجيل. وقد تبنّى بعضُ الباحثين نظرةً عقليّة؛ فسعى إلى التوفيق بين التعليمات الإنجيليّة والأوامر العقليّة، بينما ركّز آخرون على التناقضات بين الإنجيل وقوانين الاستقامة العلميّة. كما تضاعفت التحقيقات السّياقيّة مع قيام العلماء بالتنقيب في الخلفيّة الثقافيّة والتاريخيّة للنصوص الإنجيليّة، ومع تتبُّعهم للتراث الأدبيّ الذي نمت منه هذه النصوص، مضافًا إلى عمليّة الصياغة التي أخرجت النصوص في شكلها النهائيّ.

ومع توجُّه العلماء المختصّين بفقه اللغة الساميّة والمتعمّقين بالدراسة التاريخيّة - النقديّة للكتاب المقدّس العبريّ والعهد الجديد إلى كتابٍ قديمٍ آخر -القرآن- فقد أهملوا - كما السابق - الافتراضات العقديّة، مُعتبرين أنّها غير مُرتبطةٍ بمهام البحث العلميّ، وعليه؛ تعرّض الباحثون في القرآن - كما الإنجيل - للتحليل النصي واللغويّ. وأُلَّفتْ في القرن التاسع عشر بعض الكتب المهمّة التي ما زالت تؤثّر في ميدان البحث القرآنيّ المعاصِر، فبرزت أسماء؛ من قبيل: كوستاف ویل (Gustav Weil)، وتيودور نولدکه (Theodor Noldke)، وأبراهام جايجر (Abraham Geiger)، وهارتویغ هارشفيلد (Hartwig Hirschield).

وسُرعان ما انضمَّت إليها أسماء أقرانهم في القرن العشرين؛ من أمثال: أجناتس جولدتسيهر (Ignaz Goldziher)، وغوستاف برجستراسر (Gotthelf Bergstra sser)، وأوتو بريتزل (Otto Pretzel)، وریشتارد بیل (Richard Bel)، وأرثر جيفري

ص: 57

(Arthur Jeffery)، ورودي بارت (Rudi Paret). وتجدرُ الإشارة إلى أنّ بعضَ هؤلاء الباحثين قد تعامل مع القرآن؛ بوصفه أوثق مصدر لإعادة بيان حياة محمد وتاريخ المجتمع الإسلاميّ الأوّل (1)».

ويعني هذا أنّ الدّارسين والمستشرقين الغربيين قد تعاملوا مع الكتب السّماويّة، بما فيها التوارة، والإنجيل، والقرآن الكريم، مستعينين باللّغة العربيّة وغيرها من اللّغات الإسلاميّة كالتركيّة والفارسيّة، بالاطّلاع على فقه اللّغة، وعلوم التّاريخ، وعلوم الثّقافة وعلوم الآلة، وعلم الآثار، والأنثروبولوجيا.

وكان الهدف من ذلك هو البحث عن مقاصد هذه الكتب السّماوية وتحليلها وفق المناهج النّقديّة المعاصرة كتحليل المضمون الذي يبدو جليًا في مقالات موسوعة ليدن القرآنيّة، والنّقد النّصّي في كثير من الدّراسات الإنجيليّة في الجامعات الفرنسيّة والنّقد السيميائي كما عند جماعة أنتروفيرن (2)، والنّقد التأويلي الهيرمونيطيقي عند بول ريكور (3)، والنّقد التّاريخي كما عند طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) (4) ، والنّقد النّصّي التّطبيقيّ كما عند محمد أركون.... ومن ثم، فقد كان التركيز على التحليل اللّغويّ، والتّحليل النّصيّ، والبحث في خلفيات النّصّ الدّينيّ واللّاهوتيّ، وعقد المقارنات النّصيَّة بين الكُتب السّماويّة، والتنقيب عن التناقضات والمختلف فيه، أو استكشاف وحدة النّصّ الدّينيّ...

ومن جهةٍ أخرى، فقد اعتنت دائرة المعارف بليدن بدورها، بدراسة القرآن الكريم وفق تحليل المضمون توصيفاً، وتحليلاً، وتقويماً. وفي هذا، تقول مقدّمة موسوعة ليدن للقرآن: «من المفيد أن نُقدِّم وصفًا موجزًا للقرآن لمن لا يملكون معرفةً مُسبقةً به. يبرزُ القرآن في مكتبة الكتب المقدَّسة ككتابٍ أقصر من غيره؛ فحينما نُقارنُ طول القرآن مع كتاب الشريعة البوذية «بالي» أو مع المخطوطات

ص: 58


1- Janne Dammen MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hollande, 2001
2- Groupe D'entrevernes:Analyse sémiotique des textes.ED.Toubkal, Casablanca, 1987
3- ريكور، بول: الوجود والزمان والسرد، ترجمة: سعيد الغانمي، ط1، الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، 1999م.
4- حسين طه في الشعر الجاهلي، ط1، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1962.

السنسكريتيّة أو الصينيّة، نُلاحظ أنّ الاختلافات من حيث الطول كبيرة. كذلك، يضمّ الكتاب المقدَّس العبريّ والعهدان القديم والجديد في المسيحيّة أسفارًا أطول بكثير من القرآن. ويُشكِّلُ القرآن نصًّا موحَّدًا بحقِّ، حيث يتألّف من 114 قسماً، وهذه الأقسام أو الفصول تبدأ جميعها تقريبًا ب_ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وتُسمّى «سُورًا». تتألّفُ السور - بدورها - من الآيات، وقد تضمُّ سورةٌ ما بضع آياتٍ أو مئات منها. هذا الاختلاف في طول السّور جديرٌ بالملاحظة؛ لأنّ القرآن يعتمدُ على الطول معيارًا تنظيميًّا، حيث تُرتَّب سوره - تقريبًا - وفقًا للترتيب التنازليّ في حجم السور. بعبارةٍ أخرى: تأتي السّور الأطول في مقدّمة القرآن، بينما تأتي السور الأقصر في نهايته.

مواضيعُ القرآن ،متنوِّعة ولا يُمكن تبويبها بسهولة، وهي لیست مُنظَّمة بالطريقة التي تُفضِّلها العقول المنهجيّة المعاصِرة. على سبيل المثال: لا تجد سورًا منفصلة تتناولُ كلُّ واحدةٍ منها على حدة البيانات اللّاهوتيّة، أو ضوابط السلوك الشخصيّ والاجتماعيّ، أو الأحكام المخصّصة للصلاة والطقوس الدينيّة، أو قصص الأنبياء، أو التحذير من يوم الحساب ووصف الجنّة والنار، أو التحديات الجدليّة الموجّهة إلى أصحاب العقائد الأخرى؛ ولكنّك تجدُ جميعَ هذه المواضيع - مضافًا إلى غيرها - منسوجةً في السور المختلفة للنصِّ القرآنيّ. في الواقع، فقد ساهم التعقيد الموضوعيّ للقرآن في حثَّ المؤلّفين على إنتاج قسمِ من الكتب الإسلاميّة؛ بهدف استخلاص هذه المواضيع وتبويبها، ترومُ بعض هذه المؤلّفات تقديمَ تصنيفٍ شامل للمادّة القرآنيّة تحت عناوين رئيسة وفرعيّة متعدِّدة، بينما يهدفُ بعضُها الآخر إلى التركيز على موضوعِ مُحدَّد. وعليه؛ يُكمننا أن نعثر في المكتبات الإسلاميّة على كُتب بعنوان «المرأة في القرآن»، أو «المجتمع العادل في القرآن».

وكما يوجد تنوُّعٌ موضوعيٌ في القرآن، وثمّة تنوّعٌ في الأسلوب أيضًا؛ فعلى الرّغم من أنّ القرآن يُوظَّفُ مقدارًا قليلًا نسبيًّا من الأسلوب السرديّ الذي يألفه قُرّاء الكتاب المقدّس العبريّ والعهد الجديد المسيحيّ، إذ تشكّل السّورة الثانية عشرة الحالة الوحيدة لذلك؛ فإنّ لغة القرآن قويّة ودراماتيكيّة في أغلب الأحيان، وهي

ص: 59

تزخر بالصور المفعمة بالحيويّة والتشبيهات المثيرة للعواطف، حيث يجتمعُ القَسَم والحوارات مع الخطاب الإلهيّ المباشَر ؛ سواءً أكان موجَّهًا إلى النبي محمّد صلّی الله علیه و آله، أم إلى المؤمنين برسالته، أم إلى أولئك الذين يرفضونها. تتعاقبُ الفقرات المقتَضَبة والموجَزة مع النصوص الاعتياديّة الأطول، وتمتزجُ الدّعوات والتنبُّؤات مع أحكام

التحريم والإرشادات الهادية لكلِّ الأفعال البشريّة.

قد لا تكونُ القوّة العارمة الكامنة في هذا التنوُّع البلاغيّ مُتاحة لأولئك الذين يقرؤون القرآن مُترجمًا، فالقرآنُ في الإسلام هو القرآن باللغة العربيّة فقط، وحينما يُترجَم فإنّه لا يبقى «كلامَ الله الفعليّ»؛ وإنّما يُصبحُ مجرّد تفسيرٍ للنصّ العربيّ الأصليّ. ولهذا السّبب، يقرأ المسلمون القرآن خلال الصلاة أو الشعائر الأخرى باللغة العربيّة دائماً على الرّغم من وجود ترجماتٍ قرآنيّةٍ عدّة إلى أغلب اللّغات الرئيسة في العالم؛ ومن ضمنها اللغة الإنكليزيّة»(1).

ومن هنا، يتبيّن لنا أنّ موسوعة ليدن القرآنيّة قد التجأت إلى تحليل المضمون في دراسة القرآن الكريم، كما يتبيّن في ما تتضمّنه من دراسات وأبحاث ومقالات لباحثين مسلمين وغربيين على حدّ سواء. فقد توقّفت الموسوعة عند مجموعةٍ من المفردات المرتبة، وعند مجموعةٍ من المواضيع القرآنيّة، والشّخصيات المقدّسة كالأنبياء والرّسل والأولياء الصّالحين والقديسين وصحابة الرّسل والأنبياء. فضلا عن الأمكنة المقدّسة، ومواضيع الفقه والعقيدة والتاريخ الإسلامي، والدّراسات النّصيّة والتّطبيقيّة.

ومن هنا، فقد انكبّت موسوعة ليدن القرآنيّة على كثير من قضايا القرآن الكريم ومباحثه وعلومه في ضوء المقاربة الموضوعاتيّة، أو تحليل المضمون، مثل: الحياة اليوميّة في القرآن، والحواسيب والقرآن، وتعدّد المعاني في القرآن، والتّقيّة والتّشيّع والقرآن والنّسويّة والقرآن، وقرّاء القرآن، وطباعة القرآن، وترجمات القرآن، ومواضيع الدّراسات القرآنيّة قبل القرن الثامن عشر، وتقليد القرآن

ص: 60


1- Janne Dammen MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hollande, 2001

والتّسلسل الزّمني والقرآن، وجمع القرآن ونسخه، والعلم والقرآن... (1).

ولقد تناولت موسوعة ليدن مباحث لم يتناولها المسلمون في مباحث علوم القرآن ومعارفه مثل مواضيع الكتابة والتوثيق والمخطوطات القرآنيّة، ومواضيع الجندر، والمواضيع السوسيولوجيّة، وقضايا التّعدّد الدّيني، وموضوع الأساطير

والسّحر والشعوذة والدواء...

ومن هنا، تسهم موسوعة ليدن في توسيع موضوعات ومباحث علوم القرآن المعاصرة، بالانفتاح على قضايا الرّاهن؛ بتجريب مناهج ومقاربات نصيّة ووصفيّة جديدة. ومن ثمّ، يتبيَّن لنا أنّ موسوعة ليدن قد احتوت على دراساتٍ وأبحاث علميّة أكاديميّة دقيقة خاضعة لعلم التّوثيق، تستعين بالإحالات النّصيّة والهوامش المفيدة والمثمرة.

وفي الوقت نفسه، هناك دراساتٌ استشراقيةٌ مشبوهةٌ من خلال الموضوعات التي عالجتها؛ حيث تثير الشّكّ والتّضليل في مصدريّة القرآن الكريم كتنزيل القرآن، وترتيب سوره، والبحث عن مخطوطاته، واستكشاف طرائق جمعه وحفظه، ودراسة القرآن الكريم وفق ثنائيّة الشّفهي والتدوين، والتّوقّف عند موضوع الحرب والجهاد.

ناهيك عن قضيّة العبوديّة والرقيق، ووضعيّة المرأة في الإسلام كما طرحها المصحف، والبحث عن الثّقافة المادّيّة في القرآن، والإشارة إلى النّقيّة والتّشيّع

ص: 61


1- ومنها الوهابية والقرآن، والجماعة والمجتمع في القرآن، والنسخ المخطوطة من القرآن، والتعليم والتبليغ في القرآن، والعلوم الاجتماعية والقرآن، والتنبؤ في القرآن، والفلسفة والقرآن، والمؤلفات القرآنية في جنوب شرق آسيا، وتلاوة القرآن، وتفسير القرآن في الحقبة القديمة والعصور الوسطى، ولغة القرآن وأسلوبه، والمعارف التقليدية في الدراسات القرآنية، والفن والهندسة في القرآن، والكتب المقدسة والقرآن، والقانون والقرآن، والجزيرة العربية زمن الجاهلية والقرآن، والسياسة والقرآن، والإعلام والقرآن، والحديث والقرآن، والأدب والقرآن، والصوفية والقرآن، ومخطوطات القرآن، وقراءات القرآن، والأدب الفارسي والقرآن، والكتاب والفرقان، واللوح المحفوظ، والوحي والإلهام، وأسماء القرآن، ووحدة النص القرآني، والمصحف، واللاهوت والقرآن، وهيئة القرآن وبنيته، والأساطير في القرآن، والخطابة والقرآن، والسور والآيات، والاستخدامات الشعبية والسحرية للقرآن، والدواء والقرآن، والسيرة والقرآن، والأخلاق والقرآن، وأسباب النزول، والأدوات البحثية للقرآن، والنساء والقرآن، وعلم الآثار والقرآن، والدراسة الأكاديمية حول القرآن بعد عصر التنوير، والأدب التركي والقرآن، والثقافة المادية والقرآن، وتفسير القرآن في مطلع العهد الحديث والمعاصر، والتعددية الدينية والقرآن...

والقرآن والتركيز على مخطوطات القرآن، وتناول موضوع الوهابيّة والقرآن، وتبيان الاستخدامات الشّعبيّة والسّحريّة للقرآن، والبحث في موضوع التعدّديّة الدّينيّة والقرآن، والوحي والإلهام، والصّوفيّة والقرآن، والكتب المقدّسة والقرآن...

ومن هنا، تُظهر لنا هذه الموضوعات وغيرها من القضايا الأخرى المتعلّقة بالقرآن الكريم أنّ موسوعة ليدن لم تكن موضوعيّة وعلميّة إلى حدّ كبير. فقد تناول محرّروها مواضيع خطيرة ولافتة للانتباه، على الرّغم من ادّعائهم للعلميّة والحياد والإنصاف، كالتوقف عند موضوع تنزيل القرآن وترتيب السّور الذي فيه اختلاف وجدال حول عمليّة الترتيب. وما يترتّب عن ذلك من طعن في مصداقيّة صحّة الكتاب. ناهيك عن عمليّة نقل الكتاب هل تحقّق ذلك عن طريق الرّواية الشّفهيّة أم التدوين، علمًا أنّ تدوين الكتاب لم يتحقق تاريخيًّا إلا في المرحلة المتأخّرة؟

ويعني هذا أنّ القرآن مشكوكٌ في صحّته وروايته ونقله، ما دام لم يدوّن في لحظات نزول الوحي. بيد أنّ الواقع يكذّب ترّهات المستشرقين؛ إذ كان هناك رواة ثقات، وحفظة أكفاء. وفي الوقت نفسه، كان هناك مدوّنون وكتبة القرآن؛ والدليل على ذلك النّسخ العديدة التي رجع إليها عثمان بن عفان لتوحيد القراءة القرآنيّة من جهة، وتوحيد المصحف في جميع الأمصار والأقطار العربية والإسلامية من جهة أخرى.

أضف إلى ذلك يرى المستشرقون أنّ القرآن الكريم يحوي أساطير وخرافات وترهات، ويُستخدم من قبل المسلمين في السّحر والشعوذة والطب الشّعبي، وهذا یسيء - فعلًا - إلى الإسلام.

وهنا، يجب التمييز بين القرآن باعتباره نصًا ربّانيًّا سليمًا من الترّهات والتناقضات المخلّة، وواقع المسلمين المعاصر الذي يندى له الجبين؛ بسبب تصرّفاتهم المشينة. فلا ينبغي أن نقيس واقع هؤلاء على القرآن، وما يتضمّنه الدّين الإسلامي من تعاليم شرعيّة نصّيّة وعقلانيّة، ووصايا سمحة ومثالية، وما يحويه من أخلاقياتٍ دمثةٍ كونيّة.

ص: 62

ويرى هؤلاء المستشرقون أيضًا أنّ الإسلام يشجّع العبوديّة؛ والدليل على ذلك أنّه لم يحارب العبوديّة بشكلٍ جذريٍّ، بل تدرّج في ذلك بشكلٍ متوانٍ. وهناك إشارات مضمرة إلى وضعيّة المرأة السّيّئة في الإسلام؛ إذ لم تبلغ درجة التحرّر كما في المجتمعات الغربية.

ويمكن الرّدّ على ذلك أنّ الإسلام قد سوّى بين العبيد والأحرار، فقد كان بلال المؤذّن صحابيًا مقرّبًا من الرسول صلّی الله علیه و آله. وبالتالي، فقد نفر الإسلام من العبودية بمختلف أشكالها وأنواعها، كما يتبيّن ذلك جليًّا في القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلّی الله علیه و آله.

وفيما يخصّ المرأة، فقد كرّمها الإسلام باعتبارها أنثى، وأُمَّا، وأختًا، وبنتًا، وزوجةً، وعمّةً، وخالةً، وجدّةً. وقد أعطى لها جميع الحقوق، وفرض عليها مجموعة من الواجبات، وقد شرّفها بحجابها السّاتر، ودينها الحامي، ولم يجعلها عرضة الاستغلال المادي البشع، ولم يتركها في واجهات المتاجر عاريةً عرضةً لأعين النّاس، يتلذّذون بها اشتهاءً واستهواءً وغريزةً حتى أصبحت المرأة الغربيّة كائنًا لاقيمة له، يباع في الأسواق مثل السّلع المادّيّة الرّخيصة.

ويعني هذا كلّه أن ثمّة دراساتٍ وأبحاثًا كثيرةً في موسوعة ليدن القرآنيّة تتّصف بالموضوعيّة والعلميّة من جهة، وهناك دراساتٌ مغرضةٌ ومضلّلةٌ ومشوّهةً للقرآن والإسلام على حدٍّ سواء.

ثالثًا: تفسير القرآن حسب مقدّمة موسوعة ليدن

اشارة

استهلّت موسوعة ليدن للقرآن بمقدّمة تمهيديّة تناولت تفسير القرآن الكريم، فيها بعض الشّبهات التي تتعلّق مصدريّة القرآن الكريم، وما أثار ذلك من جدالٍ وخلافٍ بين العلماء المسلمين، ولا سيما فيما يتعلّق بقضيّة ترتيب سور القرآن الكريم وآياته الشريفة. ومن هنا، فقد عرف تفسير القرآن الكريم -حسب موسوعة لیدن للقرآن الكريم - مجموعة من المراحل التي يمكن حصرها فيما يلي:

ص: 63

الفرع الأوّل: مرحلة شرح الكلمات والمفردات

لقد استوجب القرآن الكريم الذي أنزل على النّبيّ محمد صلّی الله علیه و آله أن تشرح مضامينه، وتفسّر آياته، فكان من الواجب على المفسّرين والشّرّاح وعلماء الدّين والحديث التّوقّف عند سور القرآن الكريم وآياته بالشّرح اللّغويّ. ومن هنا، فقد شکّل شرح المفردات، وتفسير الكلمات الصعبة، المهمّة الأولى التي ينبغي أن يقوم بها المفسّرون، بالرّجوع إلى الشّعر الجاهلي الذي كان يتضمّن معاني لغة العرب الأصيلة. فضلًا عن جمع القواميس والمعاجم لتسهيل عمليّة الشّرح والتفسير. وفي هذا الصّدد، تقول دائرة المعارف القرآنيّة بليدن: «أنتج القرآن تُراثًا طويلًا من المعرفة، وهذا بحدّ ذاته إشارةٌ أخرى إلى التبجيل الذي يُحيطُ بهذا النصّ. وعلى الرّغم من أنّ تاريخ الإعلان عن النصّ ونقله - مضافًا إلى علاقة هذا التّاريخ بأولى محاولات التفسير - ما زال محلَّ جدالٍ علميّ؛ فلا شكَّ في أنّ الأسئلة عن النصّ نفسه والتدبُّر في معناه كانا حاضرَين في البيئة القرآنيّة منذ ولادته. وكذلك من غير المفاجئ أنْ نُلاحظ أنّ القضايا اللغويّة قد تصدّرت الأولويّة، وتمثّلتْ أولى الجهود الرّامية إلى التحليل أو التفسير بتقديم معاني الكلمات الغامضة وشرحها؛ كما هو الحال مع النّصوص المقروءة؛ حيث برزت قراءاتٌ عدّة، وأدّى عددها المتنامي وتنوّعها في النّهاية إلى اتّخاذ خطواتٍ نحو تنظيمها؛ إذ لم يكن جميعُ المستمِعين الأوائل مُجهَّزين بنحوِ مُتساوٍ لفهم طبيعة الخطاب القرآنيّ الإضماريّة أحيانًا، والتي تطلَّبتْ في بعض الآياتٍ تعليقاتٍ تفسيريّة؛ كما في الفقرات الأخرى ذات الطبيعة لتلميحيّة». (1).

ويعني هذا أنّ القرآن الكريم يتّسم بخطابٍ تلميحيٍّ وإضماريٍّ قائمٍ على التّكثيف والإيجاز، ويتطلّب هذا معرفةً بمضامين القرآن ومعانيه. لذا، يستوجب أن تُفكّك لغته البيانيّة، وتُشرح معانيه بدقّةٍ جليّةٍ. لذلك، اتّجه تفسير القرآن الكريم، أوّلًا، إلى المشكل اللّغويّ، بكشف مفردات القرآن، واستجلاء معانيها. وهنا، ظهر ما يُسمّى بشرح لغة القرآن الكريم.

ص: 64


1- Janne Dammen MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hollande, 2001
الفرع الثاني: مرحلة التعليق على الآيات القرآنيّة

لم يكتفِ المفسّرون بشرح الكلمات القرآنيّة الصّعبة في سياقها اللّغويّ والتّداوليّ عند العرب، بل كانوا يعلّقون على الآيات ويُفسّرونها ببعض الملاحظات والتعليقات المهمّة التي تُضيء النّصّ القرآنيّ، وتشرح حيثيّاته التّاريخيّة والسّياقيّة. ويعني التعليق تقديم ملاحظات حول الآية بشكلٍ تفسيريٍّ وتنبيهيٍّ. ولم يكن «جميعُ المستمعين الأوائل مُجهَّزين بنحوِ مُتساوٍ لفهم طبيعة الخطاب القرآنيّ الإضماريّة أحيانًا، والتي تطلَّبتْ في بعض الآيات تعليقاتٍ تفسيريّة؛ كما في الفقرات الأخرى ذات الطبيعة التلميحيّة» (1).

ويعني هذا أن هناك تعليقات من طبيعة الشروح، وتعليقات تفسيرية، وتعليقات تلميحية في شكل ملاحظات وتلميحات، وتوضيحات.

الفرع الثالث: مرحلة التفسير العلمي

ظهرت مرحلة التفسير العلمي للقرآن الكريم بالإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالقرآن الكريم، بالتّوقّف عند أسباب نزول السّور والآيات، ودراسة العلاقة التناسبيّة بين الآية والمقام التّداوليّ، ودراسة لسانيات النّصّ القرآنيّ، وفهم المعاني الظّاهرة والمضمرة، والبحث عن مدلولات الآيات ومقاصدها المباشرة وغير المباشرة، والتّوقّف عند السّياق القرآنيّ، والاهتمام بالبلاغة الإعجازيّة للقرآن الكريم.

«وسُرعان ما برزتْ أسئلةٌ أخرى؛ منها: متى نزلت بعض الآيات وفي أيّ ظروف؟ مَنْ (أو ما هو) المقصود من إحدى الكلمات أو العبارات الغامضة ؟ إلى مَنْ (أو إلى ماذا) يُشيرُ ضميرٌ محدَّد؟ مَنْ هو المخاطَب في فقرةٍ معيَّنةٍ، وعلى مَنْ تنطبق هذه الفقرة؛ هل على جميع المؤمنين في الحاضر والمستقبل، أم على مجموعةٍ محدَّدة من الأفراد؟ هل معنى الآية مجازيّ أم ينبغي فهمه حرفيًّا؟ هل جميعُ أقسام القرآن قابلة للفهم بشكلٍ متساوٍ، أم إنّ الغموض والالتباس متأصِّلان في بعضها؟ هل ثمّة صِلاتٌ بين الآيات داخل السورة أو بين الآيات المنثورة في مواضع

ص: 65


1- Janne Dam mer MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hollande, 2001

مُختلفة من القرآن؟ هل يُكن لفقرةٍ في مكانٍ آخر من النصِّ القرآني أنْ تُساعدنا في فهم الفقرة التي نبحثها حاليًا؟ هل ثمّة مستوياتٌ أو طبقاتٌ للمعنى في النصّ، و هل هي مُتاحة للأفراد الذين خضعوا لتدريبٍ فكريّ أو روحيّ خاصّ فقط؟ من الواضح أنّ الدافع وراء تعدُّد الأسئلة في ميدان التفسير لم يكن مجرَّد اهتمامٍ علميٍّ بالكتاب المقدَّس؛ ولذا، فقد وُجِّه الإلحاح إلى أصحاب المعرفة الكلّيّة أو الدقيقة بالقرآن؛ لتقديم إجاباتٍ عن الأسئلة المهمّة المتعلّقة بالسّلوك الفرديّ والاجتماعيّ. لقد فُهمت آيات القرآن على أنّها كلام الله المباشر، وعليه؛ فقد كانت الهادية إلى الممارسات الاجتماعيّة والدّينيّة داخل المجتمع الإسلاميّ الوليد؛ ما جعل الفهم الصحيح للنصّ القرآنيّ أمرًا ضروريًّا؛ من أجل تطبيقه بشكلٍ مناسب، على الرغم من أنّ معالم هذا التّاريخ المبكِّر ما زالت موضعَ جدلٍ علميّ» (1).

ويعني هذا كلّه أنّ تفسير القرآن الكريم قد ارتبط بشرح الآيات، واقترن أيضًا بمبحث الالتفات، والاستعانة بأصول الفقه، ودراسة أسباب النزول، والعناية بعلوم البلاغة، والتركيز على النّحو وفقه اللّغة، والتّوقّف عند لسانيات النّصّ القرآنيّ. علاوة على الانفتاح على علم النّفس وعلم الاجتماع الإنسانيّ والسّلوكيّ. بيد أنّ أهمّ علم يستوجبه تفسير القرآن الكريم هو وضع آليات التّشريع الإسلاميّ الفقهيّ والعقديّ والعمليّ.

رابعًا: شبهات موسوعة ليدن القرآنيّة

لقد كان المستشرقون الغربيون، ومحرّرو موسوعة ليدن القرآنيّة، يرون، في دراسة القرآن الكريم، وسيلةً إجرائيّةً مهمّةً للتعرّف إلى الإسلام والمسلمين، بعدما انتشر الإسلام بشكلٍ كبيرٍ في معظم أصقاع العالم، بما فيها البلدان الأوروبية كإسبانيا في مرحلة الدّولة الأندلسيّة، ودول البلقان في عهد الدّولة العثمانيّة.

وقد تأكّد لديهم أنّ القرآن الكريم هو مصدر نهضتهم، ورقيّهم، ومجدهم، ووحدتهم. وأنّه السّبب في توسّعهم وانتشارهم في العالم. وبذلك يهدّد المدّ

ص: 66


1- Janne Dammen MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hollande, 2001

الإسلامي التّوسّع المسيحي، بل يهدّد المسيحيّة حتى في عقر دارها. لذا، قرّر المستشرقون الغربيون أن يدرسوا القرآن الكريم من مختلف جوانبه، بالنّبش في معارفه المتنوّعة، وبحوثه المتعدّدة، ومعالمه الواسعة، بالتّشكيك في القرآن الكريم، والطّعن في مصدريّة الكتاب الذي نقل شفاهيًّا من جيل لآخر، ولم يدوّن إلّا في مرحلةٍ تاريخيةٍ متأخّرةٍ على غرار أحاديث النّبي صلّی الله علیه و آله. ثم، السّعي الجاد إلى دراسة القرآن الكريم في ضوء دراساتٍ مقارنةٍ بالمصادر اليهوديّة والمسيحيّة والبوذيّة، أو مقارنة التّشريع القرآني بالقوانين الرومانيّة.

لذا، يكمن هدف موسوعة ليدن القرآنيّة في إعادة النّظر في القرآن الكريم، وتفسيره تفسيرًا خاضعًا للمؤثّرات الإنجيليّة ،والتوراتيّة، والغرض من ذلك كلّه هو خدمة اللّاهوت والاستعمار والتبشير من أجل القضاء على وحدة العرب، وتمزيق لحمة الأمّة، واستغلال ثروات المسلمين بغية تعريضهم للهيمنة والتّكالب الاستعماري المباشر وغير المباشر.

ومن هنا، فقد بدأ المستشرقون الغربيون في دراسة مواضيع القرآن الكريم تحت «يافطة» العلميّة والأكاديميّة الموضوعيّة، وإن كانت أغراضهم في ذلك مسيئةً ومعيبةً ومضلّلةً ومغرضةً تحرّكهم الأهواء الصليبيّة الحاقدة، وكراهيتهم للإسلام والمسلمين؛ مما جعلهم يتعمدون منهجيّة استشراقيّة ذاتيّة تدّعي الموضوعيّة ،العلميّة واعتماد المناهج المعاصرة في التحليل والتفكيك. بيد أنّ نواياهم كانت عدوانيّةً مقيتةً.

ويبدو أنّ الدّراسات والمقالات والأبحاث التي نشرتها موسوعة ليدن القرآنيّة ليست كلّها بكتابات علميّةٍ منصفةٍ حقيقيّةٍ، بل هي تأويلاتٌ وتفسيراتٌ وتعليقاتٌ وانتقاداتٌ مغرضةٌ لما يتضمّنه القرآن الكريم من محتويات ومضامين. بمعنى أنّها لیست دراسات علمية أمينة للقرآن الكريم؛ لأنّ محرّري الموسوعة كانوا يفسّرون القرآن ويؤوّلونه حسب أهوائهم وأغراضهم.

وينطبق هذا كلّه على ترجماتهم لمعاني القرآن الكريم وتفسيرها؛ حيث يصعب

ص: 67

الحديث عن إعجاز القرآن الكريم، إذا كنّا نركّز على المعنى دون الصياغة الأسلوبيّة والبيانيّة المعجزة. لذلك، يبدو أنّ عناوين تلك الترجمات القرآنيّة فيها مغالطات كبيرة، وبعيدة كلّ البُعد عن ترجمة القرآن الكريم. وفي هذا، يقول محمد خروبات: «فمن جهة البحث العلمي يكون ذلك العمل من قبيل التّصرّف في المعاني التي جاء بها القرآن الكريم، خاصّة وأنّ الترجمة لا تراعي شيئًا سوى المعنى، وحين يستحضر هذا المعنى بطرقٍ معيّنةٍ يتمّ البحث في لغة من اللغات عن الألفاظ التي تتحمل ذلك المعنى، إلى هنا نستنتج استنتاجًا أوّليًّا هو أنّ هذه الأعمال هي تصرّفٌ في معاني القرآن الكريم باسم الترجمة، وأنّ الترجمة في النهاية هي ترجمة لمعاني القرآن وليست ترجمة للقرآن، إذا سلّمنا مبدئيًّا بأنّ هذه الظاهرة التي تزعّمها المستشرقون ترجمة لمعاني القرآن وليست هي القرآن، فإنّ هذا يتنافى مع البحث العلمي الدّقيق، ذلك أنّ محاولات التّصرّف في معاني قرآن المسلمين قد قيّد بضوابط وقواعد من قبل علماء المسلمين حتى يكون التّصرّف في معنى القرآن مضبوطاً، لأنّ الإخلال بهذه الوسائل من شأنه أن يُسيء إلى هذه المعاني بدلًا من خدمتها، وقد سبقت تجارب متعدّدة من قبل أهل الأهواء والمذاهب والتيّارات والفرق المشبوهة والمنحرفة، كلّها تصرّفت في المعنى، واستعملت وسائل تتماشى مع أهدافها وغاياتها في الوجود كانت كلّها محاولات للهدم، ولم تستطع أن تؤثّر في القرآن الكريم لا من قريب ولا من بعيد؛ لأنّ المسلمين تعاملوا مع هذا الإنتاج بمنطق الرّفض والرّد، وصنّفوه ضمن خانةٍ جاهزةٍ في علم التّفسير، وهي خانة (التفسير العقلي غير المقبول)» (1).

ويعني هذا كلّه أنّ ترجمات المستشرقين، أو تفسيرات محرّري موسوعة ليدن للقرآن الكريم، ليست ترجمات بالمعنى الحقيقي لكلمة الترجمة؛ لأنها مجرّد تصرّف في المعاني، وليست بالأحرى ترجمةً حرفيّةً أو لفظيّةً. بمعنى أنّها مقارباتٌ أو قراءاتٌ تأويليّةٌ لمعاني القرآن الكريم، تنطلق من ذات المستشرق التي تخضع، بدورها، للأهواء والاقتناعات والاعتقادات التي تشبّع بها المستشرق الغربي جزئيًّا أو كليًّا.

لذلك، نجد بعض المستشرقين يكتفون ببعض السّور، فيقومون بقراءتها وتأويلها

ص: 68


1- خروبات، محمد، الاستشراق والعلوم الإسلامية بين نقلانية التأصيل وعقلانية التأويل، م.س، ص356.

بمناهج مختلفة، أنثروبولوجية ونقديّة، وسوسيولوجيّة، وسيميائيّة، وموضوعاتيّة، ولاهوتيّة، ويرتّبونها حسب أهوائهم ترتيبًا موضوعاتيًّا، أو ترتيبًا تاريخيًّا، أو ترتيبًا حسب النّزول، وليس كالتّرتيب الذي يوجد في القرآن الكريم، وهدفهم من ذلك هو زعزعة المسلمين. بيد أنّ تلك المقاربات التأويليّة ليست بترجماتٍ للقرآن الكريم، ما دام التّصرّف في المعنى مقيّدًا بشروطٍ محدّدةٍ عند المسلمين، كأن لا يتعارض ذلك التّصرّف والاجتهاد مع مقاصد الشرّع الرّبّاني، وألّا يخلّ بالمعنى الكلّيّ للآية أو السّورة أو الهدف الكلي للشّريعة الرّبّانيّة.

إذًا، لم تكن الترجمات الاستشراقية للقرآن الكريم ترجمات، بل هي تقريب لمعاني القرآن إمّا بطريقة مختصرة ومبتسرة، وإمّا بطريقة التحشية والإسهاب والتعليق عن طريق المقارنات التي ترجّح كفّة اللّاهوت على القرآن، بتزييف الحقائق المعطاة، وتشويه صورة الإسلام، والحكم على القرآن انطلاقاً من المصادر المسيحيّة واليهوديّة المحرّفة والمزوّرة والمشوّهة.

ومن جهةٍ أخرى، لا تكشف هذه الترجمات لمعاني الكتاب، في الواقع، عن حقيقة الإعجاز القرآني الذي يتمثّل في بيانه وبلاغته، وتداوليته، وإيقاعه، وتنغيمه، وتأثيره المدهش بخطاب الترغيب والترهيب. بل تكتفي التّرجمة الاستشراقيّة بإيراد المعنى الحقيقي للقرآن دون المعنى المجازي، بعزله عن سياقه المرجعي، وفصله عن سبب نزوله وتجريده من مقامه التشريعي الكلي.

ومن ثمّ ، فقد كانت الترجمة الاستشراقيّة مغرضةً ومنحرفةً ومضلّلةً يراد بها خدمة اللّاهوت والكنيسة الرّهبانيّة التي حرّفت الإنجيل لخدمة الأغراض الشخصيّة والمآرب الخاصّة. ومن هنا، لم تخرج التّرجمة الاستشراقيّة عن التّرجمات الحرفيّة واللّفظيّة والقاموسيّة والتّفسيريّة التي تقف عند ظواهر النّصوص والآيات والسّور، دون أن تتعمّق في أبعادها الإيمانيّة والأخلاقيّة بغية تمثّل رسائلها المباشرة وغير المباشرة. أي إنّها لم تقف عند لحظة الهداية ورسالة التبشير الموجّهة إلى النّاس كافّة، بل كانت هذه التّرجمات تقف عقبةً أمام هذه الرّسالة النّيّرة الرّشيدة، لتمنع

ص: 69

رحيقها العذب عن المسيحيين المغرّر بهم لكي لا يذوقوا ثمرتها الحلوة، على أساس أنّ الإسلام هو آخر دينٍ سماوي ينبغي أن يتمثّله كلّ إنسانٍ فوق هذه البسيطة لكي ينال رضا الله وجّنته العالية.

علاوة على ذلك، ترى موسوعة ليدن لمعارف القرآن أنّ الحركة التفسيريّة قد نشطت في القرن الأوّل والقرن الثاني للهجرة، وكان التفسير شفهيًّا، يعتمد على الرّواية والسّماع. وقد أثار التفسير جدالًا إشكاليًّا في هذه الفترة الزّمنيّة يخصّ ترتيل القرآن، واختلاف القراءات، وترتيب السّور والآيات، والتشكيك في مصدريّة الكتاب لوجود مادة سرديّة تشبه سرديّة التوراة والإنجيل. وبالتالي، تريد الموسوعة أن تشكّك في مصداقيّة القرآن الكريم بإثارة هذا الجدال والاختلاف حول هذه المسائل.

ناهيك عن كون القرآن سجلًّا من المقتبسات والمستنسخات من الإنجيل، والتوراة، وسير القديسين، والأساطير. وعندما تقول الموسوعة بأنّ القرآن الكريم كتابُ أساطير، فإنّها تعني أنّه كتاب فيه خرافات، وأوهام، وكلام باطل. وبالتالي، يردّد الكتاب ما قاله الإنجيل. وبالتالي، فالإنجيل أصل، والقرآن فرع. وأكثر من هذا، فالإنجيل كتاب حق، والقرآن كلام باطل. وفي هذا، تقول موسوعة ليدن لمعارف القرآن: «حينما نعرضُ بشكل موجَزٍ المراحل المبكّرة التي شهدت الإعلان عن القرآن وتفسيره، لا تسعنا إلا الإشارة إلى الجدليّات وعدم تناولها بشكلٍ مباشر. يعتقدُ عديدٌ من الباحثين أنّ المراحل الأولى للإعلان والتفسير القرآنيّ كانت شفهيّةً وأنّها كانت مرتبطةً بعضها ببعض».

على سبيل المثال، من المحتمل أنّ القارئ كان يتوقّفُ خلال ترتيله للنصّ ويُقدِّم معاني الكلمات التي يجهلها المستمعون، وقد يربط بين قسمٍ من القرآن وغيره أيضًا -، أو ينطق بتوضيحات قصيرة من أجل تفسير الفقرات التي تبدو تلميحيّةً أو إضماريّةً. كانت عمليّةُ سرد القصص إحدى العادات الرائجة خلال القرون الأولى، ويبدو أنّ التلاوة القرآنيّة ترافقتْ بشكلٍ مكثَّف مع سرد روایاتٍ

ص: 70

تستندُ إلى مخزونٍ مُشترك من المادّة الإنجيليّة وسِيَر القدّيسين والأساطير» (1).

وبعد ذلك، تثير الموسوعة إشكال الشفهيّة والتّدوين على أساس أنّ القرآن لم يدوّن إلّا في مرحلةٍ متأخّرةٍ، وأنّه نقل بطريقة الرّواية الشّفهيّة، ولم يدوّن إلّا في مرحلةٍ زمنيّةٍ متأخرة. وهنا، الطّعن واضحٌ وجليٌّ في مصداقيّة النّصّ القرآني، والتّشكيك في روايته. في حين، كان هناك من يدوّن القرآن. وبالتالي، فقد جُمع أوراقًا في مجموعةٍ من المصاحف في عهد أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. وأكثر من هذا فقد كانت رواية القرآن الكريم متواترةً جماعةً عن جماعة. وقد تميّز القرآن بقداسة الحفظ من الله تعالى مصداقًا لقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحفِظُونَ» (2).

إذًا، يثير البحث «عن الصّلة بين مرحلتي النّقل الشَّفهيّ - الفعليّ وبين التّدوين وطرح السّؤال عمّ إذا كانت العمليّة مُتزامنةً أم متتالية؛ جميعَ نقاط الاهتمام المذكورة آنفًا، حيث إنّ أغلب المعرفة التّقليديّة حول هذه الحقبة تُستخرج من مصادر متأخّرةٍ زمنيًّا، وما يُصعَّبُ الأمر أكثر هو النُّدرة في المادّة المدوّنة التي يُمكن نسبتُها بشكلٍ قاطعٍ إلى القرن الإسلاميّ الأوّل. وينظرُ بعضُ الباحثين إلى هذه الحقبة بصفتها فترةً مُثيرةً للاهتمام، حيث شهدت تغييراتٍ دينيّة - سياسيّة سريعة وقد ذكرها المؤرّخون المسلمون المتأخِّرون بشكلٍ وافٍ ومُعتمَد، بينما يعتبرُ باحثون آخرون أنّها كانتْ حقبةً طُبعت بالاقتتال الطائفيّ الشَّديد، ولا يُمكن النّظر إلى تفاصيلها الزّمنيّة والجغرافيّة إلا بشكلٍ ضبابيّ، بينما هناك مجموعةٌ من الآراء البحثيّة التي تقعُ بين هذين الطرفين» (3).

وعليه، فقد احتوت مقالات و دراسات وتفاسير موسوعة ليدن مجموعة من الشبهات الذّكيّة المتوارية عن الأنظار؛ حيث من الصّعب إدراكها بسهولةٍ إلّا بالتّوقّف عند الكلمات والعبارات بشكلٍ متأنّ ، وفحصها بمنهاجٍ علميًّ صارمٍ ودقيقٍ

ص: 71


1- Janne Dammen MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hollande, 2001
2- سورة الحجر، الآية 9، القرآن الكريم برواية روش عن نافع عن الأزرق.
3- Janne Dammer MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hollande, 2001

بغية ردّ الشّبهات، والطّعن في افتراءات المستشرقين الغربيين، ومن والاهم من الباحثين المسلمين الذين كانوا يتزايدون على الإسلام، ويفترون الأكاذيب والأوهام والترّهات باسم المناهج العلميّة النّصيّة والتّطبيقيّة، كما نجد ذلك واضحًا عند محمد أركون (1) وسلمان رشدي (2) على سبيل التمثيل، لا الحصر.

ص: 72


1- Mohammed Arkoun : L'Islam : religion et société. Interviews dirigées par Mario Arosio. Traduit de l'italien par Maurice Borrmans (Paris, Éditions du Cerf. 1970); Essais sur la pensée islamique (Paris, Maisonneuve et Larose, 1973; 2e éd. 1984); La Pensée arabe, (Paris, Que sais- je? PUF, 1975; 7e édition, Paris, Quadrige, PUF, 2008); Lectures du Coran (Paris, Maisonneuve et Larose, 1982; 2e éd. Tunis, Alif, 1991; 3e éd. Paris, Albin Michel, 2016); Pour une critique de la raison islamique (Paris, Maisonneuve et Larose, 1984).
2- استهدف سلمان رشدي، في روايته (آيات شيطانية) (1988)، الإساءة إلى رسول الله محمد صلّی الله علیه و آله.

الخاتمة

وخلاصة القول، لقد اتّجهت دائرة معارف ليدن إلى دراسة القرآن الكريم في ضوء تحليل المضمون الذي يُعنى باستكشاف المضامين والموضوعات والتيمات التي يتضمّنها الخطاب اللّاهوتي بصفةٍ عامةٍ، والخطاب القرآني بصفةٍ خاصةٍ، بالتّوقّف عند مختلف المواضيع والقضايا التي تناولها القرآن على مستوياتٍ عدّةٍ: دينيّة، وسياسيّة، واجتماعيّة، واقتصادية، وتاريخية، وعلميّة، وثقافيّة، وحضاريّة، وعمرانيّة، وبحثيّة، وقانونيّة، وتشريعيّة، وعقديّة، وأدبيّة، وفنّيّة، وجماليّة، وإنسانيّة، وجندريّة، وتوثيقيّة...

ومن هنا، فقد تمثّل محرّرو موسوعة ليدن للقرآن منهجيّةً أكاديميّةً واضحةً، تتأرجح بين النّظريّة والتّطبيق، باستعمال مقاربات نصيّة وعمليّة لتحليل الخطاب القرآني في علاقةٍ وثيقةٍ بالنّصّ في حدّ ذاته من جهة، وفي علاقته الوطيدة بالإنسان والمجتمع والدين من جهةٍ أخرى.

وبذلك، يحضر التفكيك والتقويض والتّركيب في معظم هذه الدّراسات الاستشراقيّة الأكاديميّة الوازنة والقيّمة. كما تتضمّن الموسوعة القرآنيّة، بطريقةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة، آراء تناصيّة وإحاليّة، تعزى لميشل فوكو، وجاك ديريدا،

وإدوارد سعيد، وجيل دولوز، وغيرهم من فلاسفة الاختلاف والتقويض المنهجي...

ومن هنا، فقد تبيّن لنا أنّ موسوعة ليدن القرآنيّة قد استندت إلى منهجيةٍ علميّةٍ وأكاديميّةٍ وبحثيّةٍ دقيقةٍ، فيها نوعٌ من الموضوعيّة الرّصينة والدّقيقة، والحياد العلمي النّزيه، وفيها أيضًا نوعٌ من الإنصاف للمسلمين والقرآن الكريم على حدٍّ سواء.

وفي الوقت نفسه، هناك بعض الدّراسات الأكاديميّة المضلّلة والمغرضة التي تثير

ص: 73

الشّبهات والتشكيك في نفوس القرّاء الذين لم يتمكّنوا بعد من اللّغة العربیة، ومن ثقافة الإسلام وحضارته، أو قد أدركوا حقيقة الإسلام، ولكنّهم لا يستطيعون فهم مقصديات المستشرقين الظّاهرة والباطنة، واستيعاب تلميحاتهم وإشاراتهم المغرضة الذّكيَّة المتوارية عن عقول الكثير من الباحثين والدّارسين للإسلام بصفةٍ عامّةٍ، والقرآن الكريم بصفةٍ خاصّةٍ.

ص: 74

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم برواية ورش عن نافع عن الأزرق.

المراجع باللغة العربية:

1. أحمد عمار عبد الجليل عبد الخالق، الاستشراق وصناعة الفكر الهدام، دار آمنة للنشر والتوزيع، طبعة 2016 .

2. بول ريكور: الوجود والزمان والسرد، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1999م.

3. طه حسين : في الشعر الجاهلي، دار الكتب المصرية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1962.

4. عبد الكريم غريب: منهج البحث العلمي في علوم التربية والعلوم الإنسانية، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2012م.

5. محمد خروبات: الاستشراق والعلوم الإسلامية بين نقلانية التأصيل وعقلانية التأويل، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2017م.

المراجع الأجنبية:

1. Groupe D'entrevernes: Analyse sémiotique des textes.ED.Toubkal, Casablan- ca, 1987

2. Janne Dammen MC Auliffe: Encyclopedia of the Quran, Leiden, Brill, Hol- lande, 2001.

3. Mohammed Arkoun: Essais sur la pensée islamique (Paris, Maisonneuve et Larose, 1973; 2e éd. 1984)

4. Mohammed Arkoun: La Pensée arabe, (Paris, Que sais-je ? PUF, 1975; 7e édition, paris, Quadrige, PUF, 2008).

ص: 75

5. Mohammed Arkoun : Pour une critique de la raison islamique (Paris, Maisonneuve et Larose, 1984).

6. Mohammed Arkoun : Lectures du Coran (Paris, Maisonneuve et Larose, 1982; 2e 1982; 2e éd. Tunis, (Alif, 1991; 3e éd. Paris, Albin Michel, 2016

7. Mohammed Arkoun : L'Islam : religion et société. Interviews dirigées par Mario Arosio. Traduit de l'italien par Maurice Borrmans (Paris, Éditions du Cerf. 1970).

8. Mucchielli, R: L'analyse de contenu des documents et des communica- tions.E.S.E.Paris.1977.

9. Sir Ahmed Salman Rushdie: The Satanic Verses Published 1997 by Picador USA (first published September 26th 1988) (1988).

المقالات

1. محمد عابد الجابري : (التراث ومشكل المنهج)، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986م.

2. المطبوعات الجامعية:

3. لؤي عبد الفتاح وزين العابدين حمزاوي: أساسيات في تقنيات ومناهج البحث، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وجدة، المغرب، السنة الجامعية 2010 - 2011م، مطبوع جامعي.

الروابط الإلكتورنية:

1. محمد سبيلا : (الإسلام وتحديات الحداثة)، موقع محمد سبيلا،

2. http://www.mohamed-sabila.com/maqal12.html

3. موسوعة القرآن، دائرة معارف ليدن القرآنية،

4. Leiden encyclipedie.PDF-Adobe Acrobat Reader DC

ص: 76

موسوعة القرآن ( ليدن) - مقاربات نقديّة في منهجيّتها ومسارات تنفيذها -

اشارة

د. محمد علي رضائي إصفهاني (1)

مقدمة

اشارة

نهدف من هذه المقالة النّظر في علميّة الموسوعة ومنهجيّتها وتقويمها؛ بوصفها جهدًا موسوعيًّا يتمحور حول القرآن الكريم، يُقدَّم إلى الباحثين والطلّاب الجامعيّن الغربيّين على أنّه نتاجٌ علميٌّ يحكي عن القرآن الكريم ومكانته الدّينيّة والتّشريعيّة عند المسلمين - كما تصرِّح رئيسة فريق العمل جين دمن ماك أوليف في مقدّمة الموسوعة نفسها بذلك -، مع ما تُعاني منه هذه الموسوعة من مشاكل منهجيّةٍ ومضمونيّةٍ لا يمكن القبول بها؛ ما يستلزم بذل الجهود العلميّة والبحثيّة لنقد هذه الدّراسات الواردة فيها، وتصويب دراسات أخرى وتوجيهها، وإزالة التباسات وشبهات تفرزها دراسات من نوعٍ ثالثٍ اهتمّت بها الموسوعة...، ومن المناسب في البداية إيجاز الكلام في جولةٍ حول الموسوعة، يليها النّقد والتقويم لمفاصل منهجيّةٍ هامّةٍ وأساسيّةٍ في بنية الموسوعة.

أوّلاً. تعريف دائرة معارف ليدن القرآنيّة:

1. الموسوعة عملٌ بحثيٌّ جديدٌ للمستشرقين:

تعدّ موسوعة القرآن أحدث عملٍ علميٍّ جماعيٍّ للمستشرقين والعلماء في جميع أنحاء العالم، وقد طبعت ونُشرت في سنة 2006م في ستّة مجلّدات وألف مدخل

ص: 77


1- أستاذ وباحث في التفسير وعلوم القرآن والدراسات القرآنية المعاصرة، إيران.

من قبل دار بريل للنّشر في هولندا. وقد قامت بتنقيحها جين دمن مك اوليف [1] حيث جعلتها فى ألف مدخل، وكان هناك 250 مدخلًا أُرجعت إلى المداخل السّابقة.

بدأ العمل بمشروع دائرة المعارف القرآنيّة في مدينة ليدن الهولنديّة على يد السيدة جين دمن ماك أوليف عام 1993م بالتّعاون مع مختلف العلماء، وطبع الجزء الأوّل منها عام 2001م من قبل دار نشر بريل، في ليدن الهولنديّة. وهي تحتوي على الحرف (A) إلى (D). ويشتمل الجزء الثّاني منها على الحرف (E) إلى (I) ، وقد طبع عام 2002م . ويشتمل الجزء الثالث منها على الحرف (J) إلى (O)، وقد طبع عام 2003م. فقد طُبعت فى خمسة أجزاء، فضلًا عن مجلّد سادس للأعلام والفهرس. وقد استعرضت السيدة (جين ديمن ماك أوليف) (,CAULIFFE Jane Dammen في مقدّمة الجزء الأوّل إيضاحات قيّمة حول هذه الموسوعة.

2. الكادر الإداريّ:

يقف على رأس الكادر الإداري في هذه الموسوعة القرآنيّة السيدة جين دمن ماك أوليف الأستاذة في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأمريكية، وأربعة من المتخصّصين في الدّراسات القرآنيّة المشهورين في الغرب، وهم: الفرنسي كلود

[1] جين دمن مك اوليف: هي رئيسة كلّيّة العلوم الاجتماعية في جامعة جورج تاون، وكانت أستاذة التاريخ والآداب العربيّة والتحقيقات الإسلاميّة، كما أنّها تحمل عنوان بروفيسور وتشغل منصب معاون الرئيس في جامعة ايموري (Emory) ورئيسة قسم التحقيقات الدينية وبروفيسور التحقيقات الإسلاميّة في قسم حضارات الشرق الأوسط في جامعة تورنتو. وقد حصلت على البكالوريوس في الفلسفة في كلّيّة التثليت في واشنطن دي سي، والماجستير في التحقيقات الدينيّة، والدكتوراه في التحقيقات الإسلاميّة من جامعة تورنتو.

كان للدكتورة مك اوليف شهرة عالميّة، وتتركّز آثارها حول محور القرآن والتفسير، وتاريخ صدر الإسلام والعلاقات متعدّدة الجوانب بين الإسلام والمسيحيّة. وقد اضطلعت بمسؤوليّة رئيسة لجنة التنقيح في موسوعة القرآن - لايدن بأجزائها الستّة منذ سنة 2000م، والتي تعدّ من أحدث خطوات مك اوليف في مجال الأبحاث القرآنيّة. وتُعدّ هذه الموسوعة أوّل مرجع من نوعها في اللغات الغربيّة. والمؤلّفة هي أحد الأساتذة الأمريكان الخمسة في لجنة التحقيقات الأمريكيّة - البريطانية في مجال الدراسات العليا في عالم العولمة، التي أسّسها غوردن براون رئيس وزراء بريطانيا الحاليّ (2006م).

للدكتورة مك اوليف حضور فعّال في المجامع والمناظرات المتعدّدة بين المسلمين والمسيحيّين، واستخدمت في لجنة الفاتيكان للعلاقة الدينيّة مع المسلمين، وقد كانت عضو الهيئة العلميّة الأكاديميّة الدينيّة الأمريكيّة ورئيسة هذه الأكاديمية في سنة 2004م . وانتُخبت السيّدة مك اوليف في تمّوز عام 2008م الآراء - بعنوان رئيسة كلّيّة براين ماور. واستطاعت هذه الكلّيّة خلال السنة الماضية - ضمن برنامج لجلب المساعدات النقديّة - أن تجمع 232 مليون دولار أمريكي. والسيّدة مك اوليف هي زوجة الدكتور دنس مك اوليف عالم الآداب الإيطاليّة في القرون الوسطى في جامعة جورج تاون، ولها أربعة أولاد.

ص: 78

جیلیوت، والأمريكي وليم جراهام، وداد قاضي من شيكاغو، واندرو ريبين من كندا، وفريق من المستشارين المرموقين من أمثال: نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وجيرهارد بورينغ من أمريكا، وجيرالد هاوتينج من إنجلترا، وفريد ليمهاوس من هولندا، وانغليكا نويورت من ألمانيا، وهيئة تحريريّة من المسلمين وغير المسلمين من مختلف البلدان. وتحظى هذه الموسوعة القرآنيّة بدعم من دار نشر بريل.

3. مجالات موسوعة القرآن - لايدن وأهدافها:

تمثّل موسوعة القرآن أحدث أثر علميّ جماعيّ، وقد كتبها عدد من المستشرقين البارزين من أنحاء العالم في ستّة مجلّدات بين سنتي 2001-2006م وطُبعت من قبل دار بريل للنشر في مدينة لايدن في هولندا. وكانت رئيس لجنة التنقيح في هذه الموسوعة جين دمن مك اوليف (Jane DammenMcauliffe). حيث طرحت برنامج كتابة موسوعة القرآن في سنة 1993م في مدينة لايدن بهدف عرض موسوعة شاملة في مجال التحقيقات القرآنيّة، وقد بدأت العمل بمعاونة أربعة من المستشرقين البارزين.

وقد قام بكتابة مداخل هذه الموسوعة مستشرقون بارزون من جامعات مهمّة في العالم لهم تخصّص في هذا المجال. وعلى سبيل المثال، فإنّ مدخل «النساء والقرآن» كتبته السيّدة روت رادد التي كان مجال تخصصها في التحقيقات الإسلاميّة هو «النساء في الإسلام». وكتب مدخل «جمع وتدوين القرآن» جان برتن مؤلّف کتاب «تدوين القرآن» في سنة 1977م، وفي هذه السنة عُدَّ هذا الكتاب - في مقابل «التحقيقات القرآنيّة» لونزبرو - نقطة تحوّل في التحقيق القرآنيّ الحديث (1).

تتحدّث جين دمن مك اوليف في مقدّمة طويلة نسبيًّا عن ضرورة هذه الموسوعة وأهدافها ودورها ومخطّطها، حيث تقول: «إنّ القرآن يُخطِر في بال مليار مسلم في أنحاء العالم كلمات ربّ العالمين. وإنّ سماع آياته المتلوّة والنظر إلى كلماته المكتوبة بخطّ كبير على جدران المساجد، ومسّ الصفحات التي كتبت

ص: 79


1- Scholler Marco, Pbjt- EnlishTenmentAcade Mic Study Of The Quran, EQ. Vol. 4. Page 187

فيها كلماته يخلق في أذهان المسلمين وقلوبهم شعورًا بحضوره المقدّس...» (1).

ولقد أقدمت جين دمن مك اوليف في سنة 1993م على تدوين هذه الموسوعة ونشرها، واستطاعت بمساعدة بعض العلماء والمستشرقين من أنحاء العالم - الذين أسهموا في صنع هذا الأثر - أن تطبع المجلّد الأوّل من هذه الموسوعة في سنة 2001م.

4. الأهداف والغايات:

تقول مك أوليف بشأن هدفها من تأليفها: «... صمّمنا أن نكتب أثرًا مرجعًا يمثّل أفضل نجاح في هذا القرن في مجال التحقيقات القرآنية، وفي الوقت ذاته أردنا أن تكون هذه الموسوعة باعثة على التحقيق الأوسع في مجال القرآن في العقود القادمة... والهدف الأهمّ كان هو أن نجعل بين طبقة العلماء الأكاديميّين والقرّاء المثقّفين كمًّا كبيرًا من التحقيقات القرآنيّة».(2).

وخلاصة الأهداف المتوخاة:

- إبداع مؤلَّف ومصدر يحقّق أفضل نجاحات القرن في مجال الدراسات القرآنية.

- أن تؤدّي هذه الموسوعة في العقود القادمة إلى حافز نحو دراسات أوسع بشأن القرآن.

- جعل عالم الدراسات القرآنيّة في متناول طبقة المفكّرين الأكاديميين والقرّاء المثقّفين، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفقر العلميّ والمعلومات الناقصة وغير التامة في اللغات الأوروبيّة حول القرآن.

5. الاتجاه:

«وحيث إنّ جميع مقالات هذه الموسوعة - تقريبًا - ترسمٍ بشكلٍ مباشرٍ أو غير

ص: 80


1- McauliffeGane Dammen, 2001, Preface EQ Vol,I
2- Mcauliffe, Ibid

مباشرٍ مجموعةً تفسيريّةً قرآنيّةً، فمع هذا الوصف فإنّ محدوديّة المشروع تحكم بأن يبقى المركز هو القرآن نفسه. وعليه، فإنّ قرّاء موسوعة القرآن سوف لن يجدوا قطعةً مستقلّةً حول الطبري أو فخر الدين الرّازي؛ إلّا أنّهم سيجدون إرجاعاتٍ متعدّدةً إلى آثار هؤلاء المفسّرين. وبالضمن، فإنّ فهرس المواضيع المتراكمة لموسوعة القرآن سيمنح القارئين هذه الفرصة، وهي أنّه في جميع المجلّدات يجدون هذه المراجع ويرصدونها ويتابعونها. مع رجائنا أن نؤلّف أثرًا ليكون مرجعًا ويكون بين يدي المفكّرين المحقّقين والجامعيّين على أساس سلسلة أصولٍ واسعةٍ علميّة - اجتماعيّة وبشريّة. لقد كنتُ مع زملائي مشتركين في هذا الأمل وهو أن نجمع تحقيقًا علميًا دقيقًا بشأن القرآن في موسوعة واحدة بحيث يكون هذا التحقيق مشحونًا بالآراء والمباني الاستدلاليّة المتينة» (1).

ثانيًا: وقفة مع مقدمة دائرة معارف ليدن:

ثانيًا: وقفة مع مقدمة دائرة معارف ليدن(2):

1- مكانة القرآن عند المسلمين: يمثّل القرآن الكريم كلمات الله الحقيقية لأكثر من مليار نسمة من المسلمين الذين يعيشون على هذه الكرة الأرضيّة. إنّ سماع آياته التي يتمّ الترنّم بها ترتيلًا وتجويدًا، والنّظر في كلماته المكتوبة على جدران المساجد وأعمدتها بخطّ قشيب، ولمس النصّ المكتوب فيه، يجسّد حضورًا مقدّسًا في أذهان المسلمين وأفئدتهم. لقد دأبت أجيالٌ متعاقبةٌ لا تحصى على استقبال مواليدها من خلال تلاوة كلمات القرآن في آذانهم. وقد مضت قرون على افتتاح الأطفال تعليمهم الرسميّ بالقرآن وهم يتحلّقون حول أطراف معلّمهم، كي يصوغوا الكلمات العربية، ويكرّروا الكلمات والعبارات، تمهيدًا للتقدّم في حفظ القرآن. وفي الثّقافة الدّينيّة التي تمجّد التعلّم، يحظى الذين يتمتّعون بمستوًى عالٍ من الثّقافة القرآنيّة باحترامٍ كبيرٍ. ويتمّ التّعامل مع حافظ القرآن بكلّ توقير وتكريم. وفي الحقيقة فإنّ هذا التكريم يضطرّ المسلمين إلى التفاعل المستمر مع القرآن سرًّا وجهرًا (3).

ص: 81


1- Mcauliffe, Jane Dammen, EQ, Ibid, P.X
2- اعتمدنا في ترجمة هذه المقدمة على سماحة السيد نقي صادقي، مع الاكتفاء بإجراء بعض التقويمات البسيطة.
3- انظر: دائرة معارف ليدن القرآنية، تحریر: جین دمن مک اولیف، لا ط ،لایدن، مكتبة بريل، لا ت، ج1، المقدمة.

-2- بداية العمل في دائرة المعارف القرآنية : لقد بدأ مشروع العمل على دائرة المعارف القرآنية (EQ) منذ عام 1993م، عندما التقيت بالمحرّر الرفيع بيري بيرمن بغية دراسة إمكان القيام بهذا المشروع. وسرعان ما أعلن أربعة من العلماء الكبار، وهم: وودي كدي، وكلود جيليوت، ووليم جراهام، وأندرو ريبين موافقتهم على الالتحاق بفريق إدارة المشروع. وقد أخذنا على أنفسنا منذ البداية أن ننظر في عملنا في هذه الموسوعة إلى الماضي والمستقبل، فشكّل هذان الوجهان هيكل هذه الموسوعة. وكنا عازمين على إبداع مصدر يحقّق أكبر نجاح في القرآن حول الأبحاث والدراسات القرآنية. وفي الوقت نفسه، كنّا نروم أن تخلق هذه الموسوعة حافزاً لتحقيقٍ أوسع في حقل القرآن في العقود القادمة. وفي سياق تحقيق هذه الرغبة والأُمنية المزدوجة، عقدنا العزم على توسيع قوالب الهجائيّة المطلوبة في دائرة المعارف لتشمل سلسلة أطول وأكثر تفصيلًا من المقالات.

لقد أخذت وزملائي في إدارة المشروع هذه الأمور بوصفها تقارير مختصرة عن الوضع الرّاهن، للتحقيق بشأن البحوث الرئيسة في مجال التحقيقات القرآنية. إنّ ترتيب المداخل في دائرة المعارف بأحجامٍ مختلفةٍ، من قبيل: المقالة، والآراء العابرة، والتحقيقات الأصليّة في حقل الدّراسات القرآنيّة كان هو أفضل ما توصّلنا إليه مما يضمن احترامنا لمعطيات القرون المنصرمة، والترويج لإنجازات هذا القرن في الوقت نفسه أيضًا. وعلى الرّغم من الأهميّة التي توليها هذه الرؤية إلى الماضي والمستقبل بشأن تأليف هذه الموسوعة، يبقى هناك أمر آخر أهمّ، وهو جعل البحوث والدراسات القرآنيّة في متناول طبقة واسعة من العلماء الأكاديميين والقرّاء المثقّفين. إنّ مختلف البحوث الأدبيّة قد أفضت إلى ظهور المعاجم اللغوية، ودوائر المعارف، والتفاسير، والعديد من شرح المفردات التي اختصّت بدراسة المراحل، والمناطق، والمؤلّفين، والأعمال المشابهة. وقد كان الحقل الديني والكتاب المقدّس - التوراة والإنجيل - بشكل خاصّ موضوعًا لمئات الموارد من هذه المؤلّفات، وبطبيعة الحال فقد تضاعف حجم هذه النسبة في الدراسات الحديثة. وقد كانت هذه الكثرة التحقيقيّة بشأن الكتاب المقدّس مغايرة لما عليه الدراسات القرآنيّة؛ إذ بقيت على ما هي عليه في سابق عهدها. كما بقي عدد المصادر القرآنيّة المكتوبة

ص: 82

باللغات الأوروبيّة على ما هو عليه من القلّة والندرة. وإنّ أكثر المعلومات المتوفّرة ناقصة وغير تامّة أو إنّها بقيت حبيسة المصادر المعقّدة التي يصعب فهمها.

وطبيعة الحال، فإنّ العلماء الذين يفهمون اللغة العربيّة الأصيلة بشكلٍ كاملٍ يمكنهم الاستفادة من آلاف الكتب والمصادر الموجودة حول القرآن، ومن بينها: المفردات، والمعاجم اللغوية، والتفاسير. إلا أنّ الذين لا يمتلكون هذه الكفاءة، لا يتمتعون بهذه المزايا إلا نادرًا. فمثلًا، إنّ آخر معجم لغويّ إنجليزيّ - عربيّ يعود تاريخه إلى العام 1873م، وهو يحتوي على معنى الكلمات الإنجليزيّة المطابقة للقرآن المترجَم طبقًا لنظام ترقيم الآيات الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر الميلادي، والذي قلّما يعوّل عليه في الترجمات الراهنة. إنّ العلماء الناطقين باللغة الإنجليزيّة من الذين يبحثون في غير الدراسات الإسلاميّة إذا أرادوا الحصول على شيء حول القرآن سواء من أجل تحقيقاتهم أو تعريفه إلى طلّابهم لن يحصلوا على أي معلومة تنفعهم. وحيث أخذنا هذه الحاجة بنظر الاعتبار عقدت وزملائي العزم على تأليف مداخل باللغة الإنجليزيّة في هذه الموسوعة. وإنّ زملاءنا من المختصّين في الدراسات الإسلاميّة، سيدركون أنّ هذا القرار لم يكن سهلًا، ولم يخلُ من الإبداع.

إنّ دائرة المعارف الإسلامية (Ei) التي مضى عليها مدّة مديدة موضع تداول بوصفها مصدرًا عامًّا وشاملًا في هذا المجال، تستفيد من كلمات مدخلية يُنقل عينها باللّغة العربيّة، أو إنّها تُستعمل مفردات المعجم، وإنّ هذا الاستعمال قد أُخذ بوصفه معيارًا علميًّا تحقيقيًّا. إنّ مثل هذه المنظومة تستدعي دقّةً ضائعةً من خلال الحركة نحو لغات المعجم الإنجليزيّ، فلا يوجد - مثلًا - معادل دقيق لكلمة (prayer) في اللغة العربيّة. فالصلاة تشير إلى عبادة دينيّة خاصّة بالمسلمين يؤدّونها خمس مرات فرضًا في اليوم والليلة. في حين إنّ الدعاء عبادة تحكي عن رجاء وطلب في حدٍّ أقلّ. أما الذكر فهي مفردة تستعمل للدلالة على سلسلةٍ واسعةٍ من الممارسات الصوفيّة، وكلٌّ من العربيّة التقليديّة والمعاصرة تشتمل على موارد من الكلمات ذات الصلة.

وهناك في دائرة المعارف الإسلاميّة شروح حول كلّ واحدة من هذه الكلمات

ص: 83

الثلاث، ولكن لم يرد أيّ شيء بشأن كلمة (prayer). وبالتالي، فإنّ الدّارس أو المثقّف غير العربيّ إذا أراد أن يبحث في هذا العنوان العام، سيمضي وقتًا عصيبًا للإفادة من دائرة المعارف الإسلامية. إلّا أنّه لن يواجه المشكلة ذاتها في تعاطيه مع دائرة المعارف القرآنيّة. ومع ذلك، فإنّ القرار الآخر الذي كان أكثر إثارة للجدل يتعلّق بحدود هذه الموسوعة ومجالها. إنّ القرآن بوصفه كتابًا سماويًّا رئيسًا لعقيدة دينية شاملة، خلق مجموعة هائلة من القوانين؛ فقد أوجد كلّ جيل من أجيال علماء المسلمين العديد من المجلّدات التفسيريّة حول القرآن، وفي حين إنّ أكثر هذه التفاسير مكتوبة باللغة العربيّة، هناك عدد من التفاسير المكتوبة باللغات السائدة في البلدان الإسلاميّة الأخرى. وإنّ الإقبال على هذا النوع من التفاسير القديمة والحديثة واضح من خلال سعة انتشارها وشرائها المتواصل. وإنك لتشاهد عمدة مؤلّفات المفسرين القدامى من أمثال: الطبريّ، والزمخشريّ، وابن كثير، والسيوطيّ في رفوف المكتبات الكبيرة في أسواق العالم الإسلاميّ، إلى جانب الكتب التفسيريّة المعتبرة المعاصرة من قبيل: تفاسير المودودي، وسيد قطب، والعلّامة الطباطبائيّ.

وبالتالي، لا بدّ من دراسة هذا السؤال، وهو: هل يجب الإبقاء على هذه الموسوعة بوصفها دائرة معارف قرآنيّة، أو ينبغي توسيعها لتشمل تفسير القرآن أيضًا؟ وبطبيعة الحال ليس هناك تصنيف واضح للتمييز بين هاتين المقولتين.

إنّ جميع مقالات هذه الموسوعة بشكل مباشر أو غير مباشر هي تقريبًا عبارة عن سلسلة من تفسير القرآن. ومع ذلك، فإنّ محدوديّة المشروع كانت تفرض علينا التمحور حول القرآن. وعليه، فإنّ القارئ لهذه الموسوعة سوف لا يعثر على نصّ مستقل للطبريّ أو فخر الدين الرازيّ، ولكنه سيجد الكثير من الإحالات إلى أعمال ومؤلّفات هذين المفسّرين. علاوة على أنّ فهرسة الموضوعات المتراكمة في هذه الموسوعة سيمنح المستفيدين منها فرصة متابعة جميع المجلّدات في هذا المصدر. فضلًا عن الرغبة العارمة في إنجاز أثر، يشكّل مصدرًا لسلسلة واسعة من الأسس العلميّة والاجتماعيّة والبشريّة، فقد أسهمتُ أنا وزملائي في إنجاز تحقيق علمي دقيق حول القرآن وإضافته إلى هذه الموسوعة القرآنيّة. وهو تحقيق متفرّع عن كثرة المواقف والدعائم الاستدلاليّة في هذا المجال.

ص: 84

إنّ الكلمات المفتاحيّة في الجملة الأخيرة عبارة عن: (Academic)، و(Rigorous). وكما أسلفت ليس هناك اعتقاد علميّ بحت عن التحقيق القرآنيّ. إنّ تحقيقات المسلمين حول القرآن الممتدة عبر قرون من الزمن قد أوجدت مسارًا زمنيًّا متداخلًا مع التحقيق المنجز على يد الأجيال الغربيّة بشأن القرآن ولا شيء من هاتين المجموعتين رغم عدم اكتمالهما لا يمثّل أسلوبًا منسجماً أو أسلوبًا استثائيَّاً فذَّا. هناك مناظرة عنيفة ومتواصلة داخل المجموعة الواحدة وبين المجموعتين حول الأبحاث والدراسات القرآنيّة بين المسلمين والغربيين. وقد شهد هذان العالمان - الغربي والمسلم- تداخلٌا ملحوظًا على المستوى الجغرافي وعلى المستوى العقلانيّ أيضًا. ومن خلال التوسّع الديموغرافيّ السريع للمسلمين في أوروبا وأمريكا الشماليّة وغيرهما من أجزاء العالم، أصبح هذا التضادّ والازدواج العنيف بين المسلمين والغرب أكثر إبهامًا من أيّ وقتٍ مضى. كما إنّ تدويل التحقيق والحياة العلميّة قد أضاف سرعة إلى هذه الوتيرة. وكما تقدّم آنفًا فإنّ علماء المسلمين وغيرهم يعتلون المنابر ويتحدّثون في المؤتمرات عن القرآن بحريّة، ويترك كلّ واحد منهم تأثيراته على الآخر، سواءٌ أكان ذلك المؤتمر منعقدًا في ليدن أو لاهور. إنّ النشرات العلميّة الراهنة قد تمّ تفكيكها على نحو أقل مما كان عليه الواقع قبل جيل، وإنّ عدد العلماء المسلمين الذين يعملون في المؤسسات الأمريكية والأوروبيّة التي تخصّصت في بعض حقول البحث الإسلاميّ قد ارتفعت بشكل تصاعديّ. وإنّ العمق العلميّ الآخر لا يمكن أن يكون مرتبطاً بالهويّة المذهبيّة، وإنّ البحث الجيّد في هذه الأجواء الجماعيّة في طريقه إلى النموّ والازدهار. وقد بذل القائمون على دائرة المعارف القرآنيّة كلّ سعيهم وجهدهم من أجل إثبات الصبغة الجماعيّة في إطار صفحات هذه الموسوعة، ضمن إرادتهم بأن تتمكّن هذه الموسوعة من نشر واستعراض أوسع شعاع ممكن عن البحث العلميّ الدقيق بشأن القرآن.

3- تطبيقات دائرة المعارف القرآنية (EQ) : لقد تمّ إيراد المداخل في دائرة المعارف القرآنيّة وفقًا للنظام الهجائيّ المعروف. إلا أنّ هذه المداخل على نوعين. يشغل الحيّز الأكبر البحوث التي تتحدّث عن النصوص المتنّوعة والمشتملة على مسائل بشأن الأشخاص والمفاهيم والأماكن والقيم والأعمال والوقائع التي يمكن العثور عليها داخل النصّ

ص: 85

القرآنيّ، أو أنّ لها صلة ملحوظة بالنصّ. من قبيل: مدخل (Abraham) (إبراهيم علیه السلام): يبحث عن شخصية موجودة داخل النصّ القرآنيّ، في حين أنّ مدخل (الأدب الإفريقيّ والقرآن) يبحث بشأن ارتباط وعُلقة أدبيّة.

أما النوع الثاني من البحوث التي استعملت في دائرة المعارف، فهي البحوث المتعلّقة بالموضوعات المهمّة في حقل الدراسات القرآنيّة. ولكي نكون قد ذكرنا أمثلة من الجزء الأول، نشير إلى مدخل: (الفنّ والعمارة في القرآن) و (علم التواريخ والقرآن). وهنا طلبنا من العلماء أن تكون كتاباتهم انعكاسًا عن الماضي والحاضر بشأن هذه الموضوعات

البارزة.

كما تقدّم آنفًا، فقد كان لعزمنا على الاستفادة من المفردات الإنجليزيّة فوائده وأضراره، ففي الوقت الذي نضع تحت تصرّف العلماء أثرًا واسعًا جدًّا في الموضوعات، إلا أنّه يمنع المتخصّصين باللغة العربيّة والدراسات الإسلاميّة من العثور على أصل المفردة بصياغتها العربيّة الحرفيّة. وللتغلّب على هذه المشكلة عمدنا إلى إضافة فهرست موضوعيّ جامع يتضمّن الكلمات الإنجليزيّة والمفردات المنقولة إلى العربيّة حرفيًّا في نهاية الجزء الأخير من دائرة المعارف القرآنيّة. وبطبيعة الحال، فإنّ الحكم في تنظيم قوائم المداخل بشأن الأمر الذي يؤسّس للمفردة الإنجليزيّة لم يكن ليستطيع أن يكون سهلًا ومفهومًا بشكلٍ كامل. وبشكل عام، فإنّ سياسة إدارتنا - كما هو الأمر بالنسبة إلى المعاجم اللغويّة المعاصرة والمصادر العامّة - قائمة على أساس استعمال الإنجليزيّة المتداولة. فيما يتعلّق بالاسم العربيّ الخاص، إذا كان له مرادف إنجليزيّ واضح، كان المستعمل ذلك الاسم الإنجليزيّ الواضح، وأما إذا لم يكن هناك مثل هذا المرادف الواضح، تكون صيغته العربيّة هي المتّبعة. ومن أمثلة الحالة الأولى: (آدم)، و(حواء). ومن أمثلة الحالة الثانية (ذو الكفل).

حيث تمّ التأسيس لدائرة المعارف القرآنيّة كي تستعرض فهمًا وشعورًا علميًّا عن القرآن، وتعمل على ارتقائه، فقد طالبنا جميع الكتّاب بأن يعدّوا مدوّنة مكتبيّة خاصّة لبحوثهم . وسيجد القارئ هذه البحوث مدخلّا نافعًا في سياق بحث وتحقيق أكبر حول

ص: 86

موضوع معيّن. علاوة على أنّ نقل الأدبيّات الأصليّة الأولية والفرعيّة الثانويّة، يجب أن يعمل على تطوير العلماء في بحوث أكثر جزئيّة من الموضوعات التي يباشرها في هذا الأثر، وأن تساعده في التحقيقات الإسلاميّة.

يتم استعراض الشواهد القرآنية من خلال بيان رقم السورة يتّبعها رقم الآية، من باب المثال : (30: 46) وإنّ هذا النوع من نقل القول عدول عن التقليد السائد بين المسلمين والقائم على نقل اسم السورة بدلًا من رقمها. وعليه يتم التمثيل بالنسبة إلى المثال السابق ب_ (سورة الروم: 46). إلا أن العدول عن هذه الطريقة والاقتصار على رقم السورة، يسهّل الأمر على أولئك الذين لا يعرفون أسماء السور، ويرومون العثور على عبارة في نصّ مترجم للقرآن. وقد اعتمدنا في ذلك على القرآن المطبوع في القاهرة عام .1924م. وإنّ أكثر التفاسير الإنجليزيّة الراهنة للقرآن تتبع هذا الترقيم.

وهناك استثناء جدير بالملاحظة، وهو أن ترجمة ا. جي. آربري تتبع ترقيم جوستاف فلاغ المطبوع عام 1384 م، وهو ترقيم يمكن أن يحتوي عدة تغييرات إيجابيّة وسلبيّة للآيات بالقياس إلى طبعة القاهرة.

على الرغم من الجهود المبذولة من أجل ضمان صحّة نقل المفاهيم القرآنية في مقالات دائرة المعارف القرآنيّة، إلا أنّ الأسلوب الكتابيّ في هذا المشروع لم يلزم الكتّاب بالتزام ترجمة بعينها، وتركت ذلك لاختيار الكُتّاب أنفسهم، فلهم كامل الحرية في اختيار أي ترجمة يرونها هي الأنسب أو يبادروا بأنفسهم إلى ترجمة النصّ القرآنيّ في مداخلهم. كما لم يمكن التوصل إلى أيّ طريقة لضمان التوفيق الكامل للمرجع مع المصادر الأصليّة في العربيّة التقليديّة، من قبيل سلسلة الأحاديث أو تفاسير القرآن. إن أسلوب الكتابة في دائرة المعارف القرآنيّة وإن كان قد أعدّ فهرسة عن أرجح الطبعات وأغلبها، ولكنها لا تتوفّر دائمًا في مكتبة الجامعة أو المكتبات الشخصيّة. وإن كانت رغبتي تقوم على إمكان تأصيل جميع المصادر من هذا النوع، إلا أنّ الوقت اللازم لهذا الأمر سوف يعيق إصدار هذه الموسوعة لزمن طويل جدًّا.

على الرغم من احتمال تكرار المسائل السابقة، أرغب في التأكيد على أنّ دائرة

ص: 87

المعارف القرآنيّة عبارة عن خطوة أولى. إنّ هذه الموسوعة هي أول مجهود من أجل إيجاد أثر أصيل ومرجع في موضوع قلّ نظيره تقريبًا. ومنذ بداية العمل في هذا المشروع التحقيقيّ، كان العاملون على هذه الموسوعة يدركون استحالة دعوى الجامعيّة بالنسبة للطبعة الأولى. فإنّ أغلب القارئين والمنتقدين سيكون لديهم كثيرمن الانتقادات والمقترحات والآراء التي سننتظرها بفارغ الصبر. وبالتالي، فإنّ هذه الانتقادات والمقترحات ستنفعنا في إصدار الطبعة الثانية بشكل أفضل من الطبعة الأولى.

ثالثًا: تقييم ونقد وومناقشة:

تمهيد

نشرع بالنقد والتقويم في مسألة قد تبدو غريبةً في أن يجود بها مداد مدير المشروع، ولكن قد يكون هناك نوعٌ آخر من التحقيق العمليّ الذي شاع كثيرًا في العقدين الأخيرين. وإنّ ذلك الموضوع هو موضوع طاقة المشروع المدّخرة للبحث والجدل.

تقول: منذ أن تسلّمت مسؤوليّة تأليف هذه الموسوعة، وأنا أتعرّض لسؤال من قبل الصحافة والأصدقاء والمساعدين، مفاده: ألا أشعر بالقلق أو خطورة مثل هذا الموضوع؟ وكان جوابي على الدوام عن هذا السؤال بالنفي، ولكنّني كنت في الغالب أقرن هذه الإجابة بإظهار الأسف من أنّ المبالغة في تصوير المشاعر الإسلاميّة على خلاف ما هي عليه، هي التي تثير أمثال هذه التساؤلات؟ ولكنني في الوقت نفسه لا أنكر خطورة البحث في نصّ تقدّسه ملايين النفوس. وهناك من المسلمين من يعتقد بحرمة حتى لمس هذا القرآن لغير المسلمين، فما ظنّك بقراءته وتفسيره؟! إلا أنّ هذا ليس رأي أكثر المسلمين. وعلى الرغم من أنّ هناك بعض من يميل إلى عدم الاهتمام والتفاعل مع دراسة غير المسلم في القرآن؛ لعدم ارتباطه به، أو لضعفه، أو عدم وعيه الفطريّ به، إلا أنّ هناك من يرحّب بما يكتبه العلماء من غير المسلمين في هذا المجال. ومن جهة أخرى هناك علماء من غير المسلمين جهدوا في أن يكتبوا

ص: 88

عن القرآن بشكل لا يجرح مشاعر المسلمين، ولا ينتهك مقدّساتهم الدينية. وهناك من باشر العمل بتصوّرٍ، مفاده: إنّ هذه الملاحظات لا مجال لها في دائرة البحث العلميّ.

وهناك اختلاف في الشخصيّات والانتماءات المذهبيّة والأيديولوجيّة، والأساليب العلميّة في كلا الاتجاهين. وقد عمدت إلى إدراج الأساليب والآراء المتواترة في تضاعيف دائرة المعارف القرآنيّة، إلا أنّني باشرت هذا المشروع وأنا على يقين من أنّ العلماء - من المسلمين وغير المسلمين - لن يُجمعوا على الموافقة على هذا النهج.

وهناك من المسلمين من فضّل عدم المشاركة في هذا المشروع مخافة أنّ المساهمة في دائرة المعارف القرآنيّة قد يعرّضه للتهمة وسوء الظن أو الشبهة. وهناك من غير المسلمين من أحجم عن المشاركة معنا للسبب ذاته. ومع ذلك، فإنّ هذه الموارد لم تخرج عن دائرة الاستثناءات. فإنّ أكثر العلماء الذين تمّت دعوتهم إلى الإسهام، قبلوا الدعوة بكل رغبة وسرور، مبدين فرحتهم برؤية موسوعة مرجعيّة تسهم في تقدّم واستمرار الأبحاث والدراسات القرآنيّة.

1- فيما يلي مجموعة الملاحظات المنهجيّة والبنيويّة في الموسوعة

1. شبهة مك اوليف بشأن تشتّت الموضوعات القرآنيّة: ذكرت المؤلّفة في المقدمة عشق المسلمين للقرآن وتكريمهم له وبعض المعلومات بشأن البنية الظاهريّة للقرآن وعدد السور والآيات، كما أنّ القرآن الكريم يُعدّ أصغر حجمًا بالمقارنة مع كتب الديانات الأخرى - ككتاب القانون البوذيّ وإنجيل سانسكريت والإنجيل الصينيّ، حتى بالنسبة إلى العهدين-.

ثمّ تقول الدكتورة مك أوليف في مقدّمة موسوعة - القرآن لايدن - بشأن ضرورة كتابة هذه الموسوعة - الآتي: «إنّ محتوى القرآن ومطالبه متنوّعة ولم يتم تصنيفها، وكذلك فإنّه ليس مرتّبًا كما يرى ذلك الذّهن الحديث الذي يتطلّب النّظام. وعلى سبيل المثال، فإنّك لا تجد سورة تختصّ بالمعلومات المرتبطة بالإلهيّات والعقائد أو بالقوانين الشَّخصيّة والاجتماعيّة أو ترى سورة تختصّ بخصائص الدّعاء في الصلاة،

ص: 89

أو قصص الأنبياء، أو إنذارات يوم القيامة، أو خصائص الجنّة والنار، أو المواجهات الجدليّة مع أصحاب الأديان الأُخرى. بل إنّك تجد جميع هذه المطالب وكثيراً من الموضوعات الأخرى التي يزخر بها القرآن منتشرة في السّور المختلفة» (1).

وفي الجواب عن شبهة مك أوليف بشأن تشتّت الموضوعات القرآنيّة، نقول:

إنّ القرآن كتابٌ موحىً من الله تعالى وليس كتابًا بشريًّا، ولغة هذا المتن الإلهىّ الوحيانيّ تختلف عن لغة البشر ، ولأجل فهمه يجب فهم خصائص لغة الدين. إنّ فهم نظم القرآن وكيفيّة ارتباط معاني الآيات يعتمد على فهم بعض المباني والظرائف واللطائف المتعلّقة بالكلام الإلهيّ.

وإنّ الأسلوب البيانيّ للقرآن يكون من خلال الاهتمام بكلّ موضوع في إطار أوسع، إطار يحكي عن مجموعة منسجمة ومرتبطة بذلك الموضوع، وإنّ عدم الاهتمام بهذا الأمر المهمّ يوحي لنا بوجود الاضطراب في السّور القرآنيّة والقرآن الكريم مشحون بهذا الأسلوب (2). في حين أنّ الُأسلوب المتداول عند الناس في بيان المطالب والموضوعات هو التركيز على موضوع خاصّ، وبیان جزئيّاته وتفصيلها؛ ذلك لأنّ دائرة وعي الإنسان محدودة ومقيّدة بالزمان والمكان. وإذا تصدّى للمطالب المتعلّقة بذلك الموضوع فإنّه يكون في إطار معيّن خاصّ. وبالطبع فإنّ القرآن الكريم لو كان من ترشّحات الذهن البشريّ وإنتاجه فعندها يجب أن تُطرح فيه المباحث بأسلوب بشريّ متعارف، ولأجل هذا فإنّ الأُسلوب البيانيّ للقرآن له نظم متفاوت مع النظم البيانيّ للنوع الإنسانيّ، ومن دون فهم مثل هذا الاختلاف والالتفات إليه فإنّ هناك أحكامًا غير صحيحة ستظهر تجاه القرآن، ومن جملتها: عدم النظم في الأسلوب البيانيّ القرآنيّ. ومثل هذه النسب إنّما تكون - عادة - للسبب الآتي، وهو: أنّ الإنسان يعدّ النظم المختلف عن نظمه يساوي عدم النظم.

إنّ البيان القرآنيّ يتحرّك على منصّة الماضي والحال والمستقبل والظواهر

ص: 90


1- Mcauliffe, Jane Dammen Op. CitP.ii
2- گلخانی امیرخیز، ایرج: چشم اندازی بر سبک بیانی، قرآن ،لا.ط، قرآن در آینه پژوهش، دفتر سوم، لام، نشر هستی نما، 1380ه_ ش، ص 88.

والموضوعات المتعدّدة من ناحية الزمان والمكان، ولكنّها على بساط الوجود ترتبط فيما بينها ارتباطًا وثيقًا. وتمام متن القرآن يُظهر هذه الحقيقة ويبيّنها (1).

ومن الأصول الأساسيّة للتعرّف على معاني القرآن هو أنّ القرآن شبكةٌ مترابطةٌ مع بعضها، حيث إنّ كلّ مفردةٍ من هذه الشبكة يكون لها معنًى في ارتباطها بأجزاء المنظومة ومجموعتها، وربّما يكون معناها في المنظومة مختلفًا مع المعنى اللغويّ والعرقيّ لها، أو هو يحتاج إلى التأويل ليكون موافقًا لها. وبحسب تعبير ايزوتسو، فإنّه ليس فقط مطالب القرآن بل حتى كلماته لم تستعمل لوحدها ومنعزلة عن غیرها، بل هي استُعملت بالعلاقة القريبة مع غيرها، وأعطت معناها المحسوس غيرها، بل هي والملموس دقيقًا من مجموع النّظام الارتباطيّ الذي تمتلكه (2).

لقد عدّ المرحوم العلّامة الطباطبائي مجموعة معارف القرآن مثل هرمِ رأسُه «التوحيد». فهو يرى أنّ مجموعة المعارف الإلهيّة تفصيل للتوحيد، والتوحيد إجمال لهذا التفصيل، ويذكر بهذا الصدد أنّ الآيات القرآنيّة بهذه المعارف الإلهيّة التفصيليّة والحقائق الحقّة تعتمد على حقيقةٍ واحدةٍ وهي أصل، وبقيّة المعارف غصونه وأوراقه، وهذا الأصل هو توحيد الله تعالى، وهذا الأصل - بجميع ما فيه من إجمال- يتضمّن جميع تفاصيل المعاني القرآنيّة وجزئيّاتها، وبعبارة أخرى: فإنّ التّوحيد أصل إذا قمنا بتشريحه فإنّه يصير هذه التفاصيل، وإذا جمعنا هذه التفاصيل فإنّها تعود إلى أصلٍ واحدٍ (3)

إنّ وجود كثير من الحقائق - ومن جملتها مثل هذه الخصوصيّات - يؤدّي إلى وجود اختلافات بين لغة القرآن واللّغة البشريّة، ومن جملة هذه الاختلافات أنّه من الممكن من خلال نظرةٍ أوّليّةٍ غير عميقةٍ أن يبدو النّظم العجيب

ص: 91


1- گلخانی امیرخیز، ایرج: چشم اندازی بر سبک بیانی قرآن، لا.ط، قرآن در آینه پژوهش، دفتر سوم، لا.م، نشر هستی نما، 1380 ه_ ش، ص 97.
2- ایزوتسو، توشى هيكو: خدا وانسان در قرآن، ترجمه: أحمد آرام، لا.ط، تهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1368 ه_.ش، ص 4؛ عباس همامی، پژوهش در تناسب آیات و سوره های قرآن، قرآن در آینه پژوهش ص 81.
3- الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا.ط، قم، دفتر انتشارات اسلامی، 1374 ه_ ش، ج 10، ص 139.

للآيات وكأنّه نوعٌ من التّشتّت، وأنّ الارتباط الهندسيّ والمعقّد، والترابط والانسجام في معاني الآيات في نظرة غير تحقيقيّة يبدو كأنّه عدم نظم ظاهريّ.

وعلى سبيل المثال، عندما يكون التوحيد والصفات والأسماء الإلهيّة لبّ جمیع حقائق کتاب الوجود وروحها، وكذلك أصل وجذور جميع حقائق الكتاب السماويّ المنطبق على حقائق الوجود، فمن البديهيّ عندما يبحث عن أصل أخلاقي ( يتعلّق بالأعمال الجوانحيّة) أو أصل عمليّ (يتعلّق بالأعمال الجوارحيّة)، فإنّ أسماء الله وصفاته تُذكر إلى جانبها، أو أنّه إذا كان الحديث عن المجال الاجتماعيّ فمن ناحية النظر إلى العلاقة العميقة لهذه المسائل مع مجال المباحث التوحيديّة فإنّ الكلام ينجرّ إلى الأصل الاعتقاديّ المتناسب معه إلى جانبه.

إنّ من لا يكون له معرفة بروح حقائق الدين وتقارب طبقاته المختلفة لعلّه يظنّ أنّ تفكيك البحوث الاجتماعيّة عن مجال البحوث التوحيديّة والاعتقاديّة وجعلها في مجال واحدٍ مستقلّ ومجزّء يكون سببًا للنظم الظاهريّ، إلّا أنّ هذا النظم الظاهريّ يمكن أن يكون متداولًا في اللغة البشريّة، أمّا بالنسبة إلى خالق البشر الذي ينزل كلامه من العرش إلى الفرش ومن اللّاهوت إلى النّاسوت ينظر إلى جمیع العلاقات الباطنيّة للحقائق بحسب الظاهر متفكّكة ومنفصمة وأنّ كلامه مع جميع العلاقات التكوينيّة والحقيقيّة والباطنيّة.

وإنّ ارتباط الآيات والانسجام بينها - مع أنّها استمرّت بالنّزول خلال 23 سنة - يثير الإعجاب، بل هو من وجوه إعجاز القرآن. إلّا أنّ الوصول إلى وجوه الإعجاز هذه يحتاج إلى تعمّقٍ، ولا يكفي فيه نظرة سطحيّة عابرة. ولأجل تبيين هذا الانسجام والارتباط بين الآيات يمكن الإشارة إلى قضيّة الارتباط بين معاني الآيات في الجمل وداخل السّوَر والارتباط الموضوعيّ بينها، ومن ثمّ رجوع بعض الآيات إلى البعض الآخر وانعطافها على بعضها، وكذلك هدفيّة جميع الآيات واتّصافها جميعًا بوحدة السّياق. فكلّ هذه الخصائص تحكي النّظم في القرآن، وتُعدّ من أبعاد إعجاز القرآن الكريم (1).

ص: 92


1- انظر: بُستي، أبو سليمان: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، لا.ط، القاهرة، دار المعارف، 1968م، ص 27؛ القرطبي، محمد بن أحمد: الجامع لأحكام القرآن ،لا.ط، تهران، انتشارات ناصر خسرو، 1364 ه_ ش، ج 1، ص 54.

يقول آية الله الخوئي قدّس سرّه: «إنّ القرآن أُنزل لهداية البشر، وسوقهم إلى سعادتهم في الأُولى والأُخرى، وليس هو بكتاب تاريخ أو فقه، أو أخلاق، أو ما يشبه ذلك ليعقد لكلِّ من هذه الجهات بابًا مستقلًا . ولا ريب فى أنّ أسلوبه هذا أقرب الأساليب إلى حصول النتيجة المقصودة، فإنّ القارئ لبعض سور القرآن يمكنه أن يحيط بكثير من أغراضه وأهدافه في أقرب وقت وأقلّ كلفة، فيتوجّه نظره إلى المبدأ والمعاد، ويطّلع على أحوال الماضين فيعتبر بهم، ويستفيد من الأخلاق الفاضلة، والمعارف العالية، ويتعلّم جانبًا من أحكامه في عباداته ومعاملاته. كلّ ذلك مع حفظ نظام الكلام، وتوفية حقوق البيان، ورعاية مقتضى الحال. وهذه الفوائد لا يمكن حصولها من القرآن إذا كان مبوّبًا؛ لأنّ القارئ لا يحيط بأغراض القرآن إلّا حين يتمّ تلاوة القرآن جميعه» (1).

وخلافًا للقرآن فإنّ الكتب البشريّة من ناحية سعة الموضوع هي محدودة بالموضوع أو الموضوعات الخاصّة، وكذلك من ناحية الترتيب والتصنيف والتفصيل لها أسلوب معروف؛ ذلك لأنّ اقتضاء المحدوديّة الحاكمة على فكر المؤلّف من ناحية، وتمايز مفاد كلّ فرع من فروع العلم من ناحية أخرى لا يسمح بالتصدّي الموضوعات أُخرى (2) . أمّا القرآن فإنّ أسلوبه يجب أن يتوافق مع هدفه -وهو هداية الإنسان-، ممّا يتطلّب مزج الموضوعات مع اتصافها بكمال الارتباط والانسجام.

وخلاصة الكلام: فإنّ النّظم والهندسة العجيبين بين الحقائق القرآنيّة مع بعضها و مع العلاقات التكوينيّة لعوالم الوجود تؤدّي إلى منع النظرة السطحيّة عن إدراك عمق تلك الحقائق.

يقول العلامة الجوادي الآملي: «إنّ جميع آيات القرآن التي يفوق عددها ستة آلاف آية منسجمة مع بعضها، وهي بمنزلة كلام واحد؛ ذلك لأنّ القرآن

ص: 93


1- الخوئي، أبوالقاسم: البيان في تفسير القرآن ،لا.ط، قم، چاپ علمية، 1394 ه_ ش، ص 93.
2- سعیدی، روشن، محمدباقر: تحلیل زبان قرآن و روش شناسی فهم، آن ،لا.ط، لا.م، انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، 1383ه_. ش ص374.

نزل من مبدأ الحكمة، وبعد الإحكام وكونه حكيمًا تمّ تفصيله» (1).

لقد ورد في كلمات أهل البيت علیهم السّلام - حول عدم التطابق الظاهريّ في مجال محتوى الآيات ومعانيها - مطالب دقيقة فيها إشارة إلى أنّ الاتصال الباطنيّ كامن خلف الانفصال والتفكّك الظاهريّ لفقرات الآيات، ومن جملتها ماروي عن الإمام الباقر علیه السلام : «إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل».

لا ريب في أنّ القرآن الكريم - في المجموع - له لغته الخاصّة ولا يمكن قياسها باللغة الرائجة في مجموعة بشريّة خاصّة. إنّ مثل هذا الانسجام بين الألفاظ، والمعاني استقلال المطالب وترابطها، الوئام التامّ في مجموعة الكلام، الاستفادة من الأساليب المتنوّعة، والاحتواء على المطالب والأسرار العجيبة في عين بساطة اللغة ووضوح البيان الذي هو الفصاحة والبلاغة يُعدّ إعجازًا وفوق قدرة البشر (2).

2. دعوى التّحقيق الدّقيق التي جاءت في مقدّمة هذه الموسوعة:

إنّ دعوى التحقيق الدقيق التي جاءت في مقدّمة هذه الموسوعة لاتنسجم مع ما قام به الكتّاب في بعض المقالات؛ حيث عمد كلود جيليوت في مقالته «تفسير القرآن في المرحلة القديمة» (3) إلى اعتبار كتاب (حقائق التأويل في متشابه التنزيل) للسيّد المرتضى (م 406ه_. ق) من تفاسير المعتزلة، كما عرّف الشيخ الطوسيّ (م: 460ه_ ق)، والشيخ الطبرسيّ (م: 548ه_ ق) بوصفهما مفسّرين شيعيّين معتزلتّين، في حين أنّه لم يلتفت إلى أنّ العالم الإسلامي يضمّ ثلاثة تيّارات كلاميّة رئيسة، وهي:

ص: 94


1- «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير» سورة هود، الآية 1، جوادی آملی، عبدالله: تفسیر تسنیم، لا.ط، لام، نشر اسراء، 1385 ه_.ش، ج 1، ص 394 .
2- هادوی تهرانی، مهدی: مبانی کلامی اجتهاد در برداشت از قرآن کریم، لا.ط، قم، مؤسسه فرهنگ خانه خرد، 1377 ه_.ش ص 298.
3- دائرة معارف ليدن القرآنية، م.س، ج 2، ص 99 - 124. (Exegesis of the Quran: Classical and Medieval, Claude Gilliot)

التيّار الكلامي الأشعريّ.

التيّار الكلامي المعتزليّ.

التيّار الكلامي الشيعيّ.

وإنّ التيّار الثالث وإن كان لا يتقاطع مع التيار المعتزلي في بعض المسائل من قبيل: العقلانيّة، إلا أنّ كلّ واحدٍ منهما تيّارٌ مستقلٌ عن الآخر، وله خصائصه التي تميّزه عنه؛ حيث يذهب الشيعة إلى استمرار النبوّة في الإمامة، خلافًا للمعتزلة الذين لا يوافقون الشيعة في هذه العقيدة الكلاميّة المهمّة، أو إنّ المعتزلة يذهبون إلى القول ب_ (المنزلة بين المنزلتين) التي يرفضها الكلام الشيعيّ (1).

ويبدو أنّ هذا الخطأ الذي ارتكبته دائرة معارف ليدن ناتج عن كتب من قبيل: (التفسير والمفسّرون) للدكتور الذهبي؛ إذ سبقهم في توجيه هذه النسبة إلى السيد المرتضى (2). في حين ليس هناك من يشك في كون السيد المرتضى من كبار علماء الشيعة الإمامية.

وكذلك فى ذات المقالة (التفسير) ذهب (آندرو ريبين) إلى القول بأنّ تفسير أبي الفتوح الرازي من أضخم التفاسير الروائيّة الشيعيّة! في حين أنّ أضخم التفاسير الرّوائيّة الشيعيّة عبارة عن: تفسير العياشي، والبرهان للمحدّث البحراني، ونور الثّقلين للعروسي الحويزي، والصافي للفيض الكاشاني. وأمّا تفسير أبي الفتوح الرّازي فهو عبارة عن ترجمة فارسيّةٍ تقريبًا لتفسير التبيان للشيخ الطوسي (وبطبيعة الحال فإنّه لا يخلو من بعض الإضافات من قبل أبي الفتوح الرازي)، وإنّ أسلوب هذين التفسيرين اجتهادي، وليس روائيًا محضًا، وهذا يتّضح من خلال أدنى تدقيقٍ في هذين التفسيرين.

ص: 95


1- لمزيد من الاطلاع حول مواقف الشيعة والمعتزلة والأشاعرة، راجع الكتب الكلامية من قبيل: أ. الحلي، الحسن بن يوسف: شرح تجريد الاعتقاد، تح_ إبراهيم الزنجاني، ط ،4، قم، منشورات شکوری، 1373 ه_.ش. ب. الإيجي، عبد الرحمن: المواقف، تح_ عبد الرحمن عميرة، ط ا ، بيروت، دار الجیل، 1997م.
2- الذهبي، محمد حسين: التفسير والمفسرون، ط 2، لا م، دار الكتب الحديث، 1976م، ج 1، ص 404.
3. الأخطاء المنهجيّة في التّعريف بالتّفاسير:

أ. ذهب راترود ويلانت في مقالته (تفسير القرآن في المرحلة المعاصرة) (1) إلى القول بأنّ التّفسير العقلانيّ منحصرٌ بالتّفسير الاجتهاديّ لأشخاصٍ من قبيل: السيد أحمد خان الهنديّ (م: 1898م)، ومحمد عبده (م: 1905م)؛ حيث تجْمَعُ هذه التفاسير بين الحضارة والعلم الغربييّن وبين القرآن، والملفت أنّه ينسب في ذات المقالة كتاب (الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن) إلى محمّد أبو زيد (1930م). في حين إنّ هذا الكتاب ليس لأبي زيد، بل هو للسيد أحمد خان الهنديّ، فضلاً أنّ هذا الكتاب يعدّ من التفاسير العلميّة وليس العقليّة، مع الإشارة إلى أنّ التّفسير العقليّ لا ينحصر بالتفسير الاجتهاديّ، بل إنّ مفردة (العقل) في المسائل التفسيرية تستعمل في معنيين:

العقل البرهانيّ، الذي يعمد إلى تفسير القرآن من خلال توظيف البراهين العقليّة، كما في تفسير قوله - تعالى -: «يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِم»(2) بالالتفات إلى البرهان العقليّ القائل باستحالة أن يكون لله جسمٌ، فيتمّ تأويل (اليد) في هذه الآية بالقدرة، ويصرف النظر عن ظاهرها.

العقل الذي هو عبارة عن القوّة المدركة، وقوّة الفكر التي تدخل في مختلف أساليب العمليّة التفسيريّة؛ حيث يتمّ توظيف العقل للتدبّر وفهم الآيات وقرائنها والجمع بينها، والاستنباط منها، والاجتهاد فيها.

النوع الأخير هو الذي يسمى بالتفسير الاجتهادي (3).

وعليه، فإنّ التفاسير العقليّة لا تنحصر بتفسير محمد عبده المصريّ: (1848-1905م)، والسيّد أحمد خان الهنديّ (1898 - 1917م)، بل إنّ لهذا النوع من التفسير

ص: 96


1- دائرة معارف ليدن القرآنية، م.س، ج 2، ص12. (Exegesis of the Quran: Early Modern and contemporary - Rotraud Wielandt).
2- سورة الفتح، الآية 10.
3- لمزيد من الاطلاع، انظر: اصفهانی، محمد علی رضایی: درسنامه روشها و گرایشهای تفسیر قرآن (منطق تفسیر قرآن)، لا ط، لا م، انتشارات مرکز جهانی علوم اسلامی، 1382 ش، فصل: أسلوب التفسير العقلي والاجتهادي.

جذورًا تعود لألف سنة، حيث بدأه الشيخ الطوسيّ والطبرسيّ (م: 548 ه_ ق).

نعم، إنّ تفسير الشيخ محمد عبده يحتوي على إبداعات، منها: الاهتمام بالنزعة الاجتماعيّة في التفسير، وكذلك الاهتمام بالأسلوب العلميّ، ودور العلوم الحديثة في التفسير، وهو واضح من خلال دراسة تفسير الجزء الأخير من القرآن، وكذلك تفسير المنار لتلميذه محمد رشید رضا.

ب. ذهب راترود ويلانت في مقالته «تفسير القرآن في المرحلة المعاصرة» إلى القول بأنّ التفسير العلميّ للقرآن قد بدأ بالفخر الرازيّ (م:606 ه_ ق)، وذلك من خلال استخراج العلوم من القرآن، ثمّ الآلوسيّ (م:1856م) في كتابه (روح المعاني) والطنطاوي في كتابه (الجواهر). فهو هناك يعترف بأنّ التفسير العلمي للقرآن يثبت إعجاز القرآن، ويجعل من القرآن سلاحًا ماضيًّا بيد المسلمين في مواجهة الغرب، ولكنّه لم يلتفت إلى أنّ هذا التفسير العلميّ للقرآن قد بدأ منذ عصر الشيخ الرئيس ابن سينا ( 370 - 428 ه_ ق)، وأنّه كان على نحو الأساليب الثلاثة الآتية:

استخراج العلوم من القرآن اعتمادًا على فهمٍ خاطئ لقوله - تعالى -: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ» (1)؛ إذ یُفهم من ظاهره أنّ جميع العلوم؛ موجودة في القرآن، وهو النهج الذي سار عليه الغزالي (505) (2).

تحميل النظريّات العلميّة على القرآن الكريم، وهو الأسلوب الذي مال إليه المغرمون بالعلوم الحديثة من أمثال: عبد الرزّاق نوفل المصريّ في العديد من كتبه.

استخدام العلوم من القرآن الكريم، وهو أسلوب صحيح، وقد أراد بعضهم من أمثال الشيخ محمد عبده سلوكه.

4. اجترار التُهم التي وجّهها المستشرقون للقرآن الكريم:

على الرّغم من أنّ الأسلوب السائد في هذه الموسوعة يبتعد عن الأبحاث

ص: 97


1- سورة النحل، الآية 89.
2- انظر: الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين، لا ط، بيروت، دار المعرفة، 1402ه_، ج 1، ص289.

السابقة للمستشرقين إلى حدٍّ كبير، إلا أنّ بعض الكُتّاب فيها ينسجون على ذات المنوال الذي نسج عليه من سبقهم من المستشرقين، فكانت مقالاتهم خاليةً من أي إبداعٍ جديدٍ، فهي تكرارٌ لما قاله مستشرقون سابقون، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج من هذا النوع:

قال أندرو ريبين في مدخل (هارون): «لقد أخطأ القرآن في اعتبار أمّ عيسى علیها السّلام أختًا لهارون في قوله: «يَا أُخْتَ هَارُونَ» (1)، في حين أنّ هارون قد توفي قبل قرون من ولادة أمّ عيسى، وقد جاء في الكتاب المقدّس: كان لهارون اخت اسمها مريم، وإنّها كانت تعيش في عصر هارون وموسى وليس في عصر عيسى» (2).

لو أنّ أندرو ريبين كان قد راجع تفاسير الشيعة والسنة المهمّة، لأدرك أنّ هذه العبارة التي وردت في القرآن على لسان أعداء مريم، إنّما هي من الأمثال التي كانت سائدة بين قومها. وفي الحديث عن النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله أنّه قال: «إنّ هارون هذا كان رجلًا صالحًا في بني إسرائيل، يُنسب إليه كلّ من عُرفَ بالصلاح» (3). إنّ هذه الهفوة التي يرتكبها أندرو ريبين في عدم فهم القرآن، وعدم رجوعه إلى التفاسير والروايات التفسيريّة تشكّل خللاً علميًّا لهذه الموسوعة يتحمّلها جميع العاملين والمحقّقين والمشرفين عليها؛ إذ إنّها تحكي عن عدم متابعتهم واهتمامهم بتحقيقات المستشرقين المتقدّمين، وردود المسلمين عليهم، فكلام أندرو ريبين ليس شيئًا جديدًا، بل اجترار لما سبق أن ذكره المسستشرقون المتقدّمون، فإنّ أوّل من ذكر هذه الشَّبهة هو شخص يدعى أدريان ريلاند (1676 - 1718م)، وقد ردّ عليه المسلمون مرارًا وتكرارًا، ومن بينهم: عبد الرحمن بدويّ (1988م) في كتابه (دفاع عن القرآن) (4). والعجيب أن نرى اجترار هذه الشّبهة في هذه الموسوعة حتى بعد

ص: 98


1- سورة مريم، الآية 28.
2- دائرة معارف لیدن القرآنیّة، م.س، ج 1، ص 1 و 2 (Aoron - Andrew Rippin).
3- الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، ط 5، طهران، المكتبة الإسلامية، 1395ه_.ق، ج 6، ص 412؛ الحويزي، عبد علي: تفسير نور الثقلين، ط 2، قم، المطبعة العلميّة، 1383 ه_.ق، ج 3، ص333؛ الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير القرآن المنزل، لا ط، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1364 ه_.ش، ج 13، ص 51.
4- انظر: بدوي، عبد الرحمن: في الدفاع عن القرآن، ترجمة: كمال جاد الله، لا ط، لا م، الدار العالمية للكتب والنشر، لا ت، ص 161.

مرور أربعة عشر عامًا من صدور كتاب عبد الرحمن بدوي، دون أن تتمّ الإشارة إلى الإجابة عنها.

5. التناقضات الدّاخلية في دائرة معارف ليدن القرآنيّة:

يجب في كلّ كتاب ألّا يشتمل على أمورٍ متناقضةٍ، خاصّة فيما يتعلق بالمسائل التاريخيّة التي تنسب إلى الأديان والكتب السماويّة. ولكنّنا نشاهد مثل هذه التناقضات أحيانًا في دائرة معارف ليدن؛ وفق الآتي:

- نقل جوین بول في مقالته «القرآن والحديث» مسائل في تحريف القرآن، منها ما جاء عن السيوطيّ أنّ آية الرجم قد نزلت على النبي محمد صلّی الله علیه و آله، ولكنّها لم تدرج في القرآن.

- إنّ كلمة (أئمّة) تمّ استبدالها ب_ (أمّة) وينسب إلى الشيعة أنّهم يقولون بأنّ سورة الأحزاب كانت في الأصل أطول من سورة البقرة، ولكنّها تعرّضت للتغيير.

- إنّ الشيعة قد فسّروا القراءات السبع للقرآن باستنباط الفتاوى الفقهية (1).

في حين أنّ يونباي عمد في مقالته «التحريف» إلى نفي مسألة التحريف في ذات هذه الموسوعة.

إنّ هذه الظاهرة تثبت:

- التناقض الداخليّ في دائرة معارف ليدن، وهذه الحقيقة تضاعف من مسؤوليّة رئيسة التحقيق في هذه الموسوعة؛ كي تبذل كلّ ما بوسعها من أجل الحيلولة دون جمع البحوث المتناقضة في موسوعة وكتاب واحد.

- إنّ روايات التحريف قد رفضت مرارًا وتكرارًا وانتقدت من قبل الشيعة والسنّة؛ لأنّ كثيرًا منها مخالف للقرآن، وكلّ ما يخالف القرآن فهو ساقط عن الاعتبار، كما

ص: 99


1- دائرة معارف ليدن القرآنيّة، م.س، ج 2، ص 376- 396 (Hadth and the Quran - G. H. A. Juynball).

إنّ سند هذه الروايات مخدوش أيضًا، وإنّ بعضها يشير إلى الموضوعات التفسيريّة واختلاف القراءات.

- وإنّ من بين الذين صنّفوا الكتاب في هذا المجال: سماحة آية الله العظمى قدّس سرّه السيد أبو القاسم الخوئي في كتابه (البيان)، وآية الله الشيخ محمد هادي معرفة قدّس سرّه تنت مؤلّف كتاب (صيانة القرآن عن التحريف)، والدكتور نجار زادكان مؤلف كتاب (سلامة القرآن من التحريف)، وقد أعيد طبع هذا الكتاب الأخير مع بعض الإضافات.

- إنّ مسألة زيادة أصل سورة الأحزاب، وكونها أطول من سورة البقرة نسبت في مصادر أهل السنّة إلى أبيّ بن كعب وعائشة (1)، فلماذا يعمد الكاتب إلى نسبة هذه التهمة إلى الشيعة؟ هذا في حين أنّنا أسلفنا أنّ أصل هذه المسألة باطل وغير صحيح من الأساس؛ إذ يُجمع علماء الفريقين على رفض مسألة التحريف.

- إنّ القراءات السبع للقرآن التي حكيت في بعض الروايات، مخدوشة عند الشيعة من حيث السند والدلالة (2). وحيث إنّها غير متواترة ولا يثبت القرآن بها، لا يمكن أن تشكّل دليلًا على استنباط الحكم الشرعيّ. نعم، هناك اهتمام بقراءة حفص عن عاصم لتطابقها الكبير مع القراءة المتواترة بين جمهور المسلمين، وإنّ المصاحف الراهنة تطبع في العالم الإسلاميّ طبقًا لهذه القراءة.

6. عدم جمع كافّة المعلومات المهمّة في مجالٍ واحدٍ:

إنّ مهمة دائرة المعارف أن تأتي بجميع المعلومات الضروريّة حول موضوع ما بشكل مختصر يغني القارئ عن الرجوع إلى الكتب الأخرى، إلا أنّ دائرة معارف ليدن لم تقم بهذا الأمر؛ حيث جاء في مقالة «فاطمة علیها السلام» للسيدة جين دمن ماك

ص: 100


1- انظر: ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد بن حنبل، ط 3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1415ه_.ق، ج 5، ص 132؛ السيوطي جلال الدين: الإتقان في علوم القرآن، ط 1، بیروت، دار الكتاب العربي، 1424ه_.ق /2003م، ج 2، ص72.
2- انظر: الخوئي، أبو القاسم: البيان في تفسير القرآن، لا ط، قم، المطبعة العلمية، 1394ه_.ق، ص 160؛ معرفت، محمد هادي: التمهيد في علوم القرآن، لا ط، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1417ه_.ق، ج 2، ص 113 وما بعدها؛ حجتي، محمد باقر: پژوهشي در تاریخ قرآن کریم، لا ط، طهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1368ش، مبحث القراءات.

أوليف أنّ مفسّري القرآن يذهبون إلى نزول الآية 61 من سورة آل عمران (آية المباهلة)، والآية 33 من سورة الأحزاب (آية التطهير) في السيدة فاطمة علیها السّلام، ثم نقلت عن تفسير الطبريّ أنّ المراد من (أهل البيت) في سورة الأحزاب هم: محمد وفاطمة وعلي والحسن والحسين علیهم السّلام ولكن ينقل عن عكرمة أنّ المراد منه زوجات النّبي الأكرم صلّی الله علیه و آله (1).

في حين قيل : إنّ الآيات المتعلقة بالسيّدة فاطمة الزهراء علیها السّلام تترواح بين 60 آية إلى 135 آية (2). وبطبيعة الحال فإنّ بعض هذه الموارد في شأن نزول هذه الآيات بحق فاطمة علیها السّلام، وفي بعضها فسّرت السيدة فاطمة علیها السّلام على أنّها من مصاديقه، أو تأويلها، أو بطنه،ا أو تفسيرها، وإنّ بعض الآيات موضع إجماع من قبل المفسّرين من الشيعة والسنّة، من ذلك سورة الكوثر (3)، وآيات النذر في سورة لإنسان (الدهر) (4).

وجدير بالذكر أنّ هناك أكثر من 2400 عنوان كتاب مؤلّف بشأن السيّدة فاطمة الزهراء علیها السّلام (5)، وقد تحدّث الكثير منها عن الآيات القرآنية التي نزلت بحقّ السيّدة فاطمة علیها السّلام.

إِنّ عدم الالتفات إلى هذا التّراث الضخم في مصادر أهل السنّة والشيعة فيما يتعلّق بالآيات المرتبطة بالسيّدة فاطمة الزهراء علیها السّلام، لا يمكن التّسامح معه خاصّة أنّه من قِبل مؤلّفة بوزن رئيسة فريق المحقّقين في دائرة معارف ليدن القرآنية، وقد يعمد بعضهم من أجل ذلك إلى اتّهامها بقلّة المعرفة.

ص: 101


1- دائرة معارف ليدن القرآنية، م.س، ج 2، ص 192-193 (Fatima - Jane Dammen Me Auliffe).
2- انظر: مؤيد، علي حيدر: فضائل فاطمة في الذكر الحكيم، لا ،ط، قم، مكتبة الحيدرية، 1422ه_.ق؛ الحلو، محمد علي: ما نزل من القرآن في شأن فاطمة علیها السّلام، ط 1، لا م، لا د، 1421ه_.ق / 2000 م؛ الشيرازي، صادق: فاطمة الزهراء في القرآن، ط 4 ، لا م، هيئة محمد الأمين صلّی الله علیه و آله، 1421ه_.ق/ 2000م، وغيرها من الكتب.
3- انظر: الرازي، محمد بن عمر: مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، لا ط، بيروت، داراحياء التراث العربي، 1420 ه_.ق، ج 32، ص 128 ؛ الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا ط، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1393 ه_.ق، ج20، ص369.
4- انظر: الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج 20، ص 119؛ مكارم الشيرازي، تفسير المثل، م.س، ج 19، ص 243؛ الحويزي، نور، الثقلين، م.س، ج 5، ص486.
5- خوئيني، اسماعیل انصاری: فاطمه در آئینه کتاب، لا ط، قم، انتشارات الهادى، 1417ق.

ويجب على كاتب دائرة المعارف أن يقدّم تقريرًا كاملًا عن الآراء في خصوص کل موضوع من المواضيع، وإذا نقل موقف شخص يجب أن ينقل إلى جانبه موقف المخالف له. وفيما يتعلق بالمثال المذكور عندما ينقل حديث عكرمة، كان يجب أن يشار إلى ضعفه وضعف راويه، خاصة وأنّ كبار علماء علم الرجال من أهل السنّة والشيعة قد ضعّفوا عكرمة وعدّوه من الخوارج (1). وهناك من وثّق عكرمة، ولكنّه مع ذلك شكّك في إسناد هذه الرواية له (2). ويجب عليه أيضًا الإشارة إلى ضعف مع دلالة الحديث القائل: (نزلت في نساء النبي صلّی الله علیه و آله خاصّة ) (3)؛ إذ إنّ آية التطهير - كما أشار بعض المفسرين - تدلّ على الطهارة من جميع أنواع الذنوب، أي: إنها تدلّ على عصمة أهل البيت علیهم السّلام (4). وهذا لا يمكن أن يصدّق على جميع نساء النبي صلّی الله علیه و آله اللاتي نزلت الآيات 4 - 6 من سورة التحريم في مطالبتهنّ بالتوبة (5).

7. نقل الإسرائيليات دون نقدها:

من باب المثال ؛ قال كرنليا شاك في مدخل (آدم وحوّاء) في مسألة خلق آدم وحوّاء: «إنّ القرآن يقول: يا بني آدم! إنّ الله خلقكم من نفس واحدة [آدم]، وخلق منها زوجها؛ أي إنّ الله -تعالى- قد خلق حوّاء من أسفل أضلاع آدم أو من جانبه الأيسر» (6). وفي ذلك يشير الكاتب إلى قوله - تعالى -: «يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (7).

- ليس في هذه الآية ولا في غيرها من آيات القرآن ما يصرح بخلق حواء من

ص: 102


1- انظر: الذهبي، محمد حسين: ميزان الاعتدال لا ط، بيروت، دار الفکر، 1999م / 1420 ق، ج 3، ص 93 - 96؛ التستري محمد تقي: قاموس الرجال، لا ط، طهران، لا د، لا ت، ج 6، ص 327. الخوارج: هم أعداء علي (عليه السلام) وأهل البيت علیهم السّلام.
2- انظر: الذهبي، التفسير والمفسرون، م.س، ج 1، ص348 - 361.
3- الطبري، محمد بن جرير: جامع البيان عن تاويل آي القرآن، لا ط، بیروت، دار الفكر، 1408 ه.ق، ج 12، ص8.
4- الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج 16، ص 310 - 311.
5- البخاري، محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري، لا ط، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1400 ه_.ق، ج 3، ص314، ح4914 و 4915.
6- دائرة معارف ليدن القرآنية، م.س، ج 1، ص 22 - 26 Adam and Eve - Cornelia Schock.
7- سورة النساء، الآية 1.

الضلع الأيسر لآدم؛ من هنا فإنّ نسبة هذا القول إلى القرآن الكريم مخالف للأمانة في نقل المطالب.

- جاء في التوراة: «فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاعِهِ وَمَلاً مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ فَقَالَ آدَمُ: هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ» (1).

إذًا، فهذه إنما هي من قصص الكتاب المقدّس التي علقت في ذهن (كرنليا شاك) وقد عمدت إلى إسقاطها في مقالتها على القرآن الكريم. ولو أنّ الكاتب نظر في تفاسير المسلمين بشأن آيات خلق آدم لما سقط في مثل هذه الهفوة؛ فإن العلامة الطباطبائي قد صرّح بهذه الحقيقة في الميزان، ورفض أن تكون الرواية التي نقلت هذا الشيء صحيحة، وقال بأنها ذات جذور إسرائيلية (2).

8. نسبة بعض الأمور غير اللائقة إلى الأنبياء علیهم السّلام:

من قبيل ما جاء في مدخل (إبراهيم)، حيث يعدّ آزر أبًا لإبراهيم علیه السلام، كما يتمّ التعريف بإبراهيم في قصّة الطيور معترضًا على الله . وفي ذات المدخل ينسب الشرك وعبادة الأصنام إلى أجداد النبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله وآبائه (3).

هذا في حين أنّ مفسّري القرآن - وخاصّة في مجمع البيان والميزان والأمثل وغيرها من المصادر المتخصّصة بتنزيه الأنبياء، قد أشاروا إلى هذه المسائل في تفسير الآيات 113 - 114 من سورة التوبة، والآية 4 من سورة الممتحنة، والآية 47 من سورة مريم، والآية 86 من سورة الشعراء، وقاموا بتأويلها أو نفيها، وبيّنوا أنّ آزر إنما هو عمّ النبيّ إبراهيم، وإنّ الحديث المنسوب إلى النبي موضوع ، وإنّ هناك الكثير من الشواهد التي تثبت إيمان آباء النبي صلّی الله علیه و آله وأجداده. (4)

ص: 103


1- الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح 2، الآية 22 - 24.
2- الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج 1، ص 147 .
3- دائرة معارف ليدن القرآنية، م.س، ج 1 ، ص 7 (Abraham - Reven Firestone).
4- انظر : مكارم الشيرازي، تفسير الأمثل، م.س، ج8، ص157 - 159.
9. عدم توظيف المتخصصين في دراسة القرآن:

إنّ توظيف مختلف المؤلفين من كافة أنحاء العالم يعدّ من النقاط الإيجابية لهذه الموسوعة. ولكن هناك حاليًّا في الشرق الأوسط - :أي: في مصر ولبنان والعراق وإيران وباكستان وغيرها - كثير من الباحثين والمتخصّصين في الشأن القرآني، وإنّ بعضهم قد الّف عشرات المجلّدات في تفسير القرآن، أو إنّ لهم كتابات موسّعة في علوم القرآن، إلا إنّ أصحاب دائرة معارف ليدن القرآنيّة لم يطرقوا أبواب هؤلاء المشهود لهم، واختاروا من إيران - مثلاً - السادة محمد علي أمير معزّي، ومحسن ذاكري، وهما غير معروفين حتّى على مستوى المجمع العلميّ للقرآن والمحقّقين المتخصّصين في إيران. في حين هناك كثير من الباحثين المرموقين في الشأن القرآني في إيران، من أمثال: آية الله الشيخ مكارم الشيرازي - صاحب تفسير الأمثل -، وآية الله معرفة - صاحب التفسير الأثري الجامع والتمهيد في علوم القرآن-، وعشرات العلماء الآخرين.

ومن طبيعة الحال أن يكون بعض الباحثين في الشأن القرآنيّ في البلدان الآسيوية غير متمكّنين من اللغة الإنجليزيّة بشكلٍ كاملٍ. ولكن، لا يمكن تجاوز مكانتهم العلميّة ومعرفتهم بالمصادر الأصليّة. علاوة على إمكان ترجمة أعمالهم، كما ترجم تفسير الأمثل إلى لغات حيّة عدّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الموسوعة قد استعانت ببعض الكتّاب السائرين على خلاف الاتّجاه العام في دراسة القرآن في العالم المعاصر، بل هناك كثير من الملاحظات العلميّة في أفكارهم وأطروحاتهم الإسلامية والقرآنيّة وقد نقدها المسلمون أنفسهم ولم يوافقوا عليها، من أمثال: نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون.

فكان بإمكان رئيسة المحقّقين في هذه الموسوعة أن تستعين إلى جانب هؤلاء، بالمخالفين لهم ليعملوا على نقد مقالاتهم وآرائهم، ونشر كافة الأفكار في موضع واحد أو على نحو تلفيقيّ؛ لتكتمل الصورة، فتحافظ الموسوعة بذلك على حياديّتها وتبتعد عن الانحياز لجانب دون آخر.

وهناك إشكالاتٌ جوهريةٌ أخرى على دائرة معارف ليدن القرآنية تناولتها أبحاث نخبة من المتخصّصين والباحثين في العالم الإسلامي.

ص: 104

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع العربيّة:

1. القرآن الكريم.

2. بُستي، أبو سليمان: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، لا ط، القاهرة، دار المعارف، 1968م.

3. الخوئي، أبو القاسم: البيان في تفسير القرآن لا.ط، قم، چاپ علمية، 1394 ه_.ش .

4. الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا.ط، قم، دفتر انتشارات اسلامی، 1374ه_.ش.

5. مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (أمين الإسلام)، طهران، المكتبة الاسلامية، ط الخامسة، 1395 ق.

6. مكارم الشيرازي، ناصر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، طهران، دار الكتب الاسلامية، 1364ش، 27 مجلدًا.

7. القرطبي، محمد بن أحمد: الجامع لأحكام القرآن، لا.ط ،تهران، انتشارات ناصر خسرو، 1364 ه_.ش .

8. نور الثقلين، عبد علي بن جمعة الحويزي العروسي، قم، المطبعة العلمية، الطبعة الثانية، 1383 ق، 5 أجزاء.

9. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، دار احياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1415 .

01. الاتقان في علوم القرآن، العلامة جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة الأولى، 1424 ه_، 2003 م.

ص: 105

11. احياء العلوم (الاحياء)، غزالي، أبو حامد، 1402 ق، دار المعرفة، بيروت، أربع مجلدات.

12 اعلام القرآن، عبد الحسين شبستري، مرکز انتشارات دفتر تبلیغات اسلامی، 1379 ش.

13. التفسير والمفسّرون، محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديث، ط الثانية، 1976م.

14 التمهيد فى علوم القرآن، محمد هادي معرفت، قم، مؤسّسه النشر الاسلامی، 1417ق، 6 مجلدات.

15. الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري، لا مكان، دار الفکر، 13 مجلد.

16. دائرة المعارف، قاموس عام لكل فن ومطلب، فؤاد افرام البستاني، بيروت، 1958.

17. دائرة المعارف القرآنية لايدن، رئيسة المحرّرين: جین دمن مک اولیف، مكتبة بريل، ليدن - هولنديا.

18. سيد محمد علي الحلو؛ فاطمه الزهراء فى القرآن، سید صادق حسینی شيرازي، قم، دليل ما، 1390ش.

19. صحيح البخاريي، محمد بن اسماعيل البخارى، بیروت، دار احیاء الثراث العربي، 1400 ق.

20. طبري، أبوجعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تاويل آي القرآن (تفسير الطبري)، دار الفکر بيروت 1408 ق.

21 الفخر الرازي، ابو عبدالله محمد بن عمر، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، داراحياء التراث العربي، بيروت، 1420 ه_.ق.

22 فضائل فاطمه في الذكر الحكيم، شيخ على حيدر مؤيد؛ قم، مكتبة الحيدرية، 1422 ق.

.23 قاموس الرجال، تستری، محمد تقی، تهران، بلاتا، بلامک.

.24 مصطلحات قرآنية، صالح عضيمة، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، لندن، 1994.

.25 ميزان الاعتدال، الذهبي، بيروت، دارالفکر، 1999م - 1420 ق - 1378 ش.

ص: 106

26. قاموس القرآن، السيد علي أكبر القرشي، دار الكتب الإسلامية، 1378 ش.

27. القاموس القرآني، حسن محمد موسى، مطبعة خليل ابراهيم، 1966م، مصر.

المراجع الفارسية

1. ایزوتسو، توشی هیکو: خدا وانسان در قرآن، ترجمه: أحمد آرام، لا.ط، تهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1368 ه_.ش.

2. جوادی آملی، عبدالله: تفسير تسنيم، لا.ط، ،لا.م، نشر اسراء، 1385 ه_.ش.

3. خراسانی، علی؛ علوی مهر، حسین: دارالمعارفهای قرآنی، هفده گفتار قرآن پژوهی، لا.ط، تهران وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامی، 1388 ه_.ش.

4. سعیدی روشن، محمد باقر: تحلیل زبان قرآن و روش شناسی فهم آن، لا.ط، لا.م، انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، 1383 ه_.ش.

5. صادقی، تقی: رویکرد خاورشناسان به قرآن، لا.ط، لا.م، فرهنگ گستر، 1379 ه_.ش.

6. گلخانی امیرخیز، ایرج: چشم اندازی بر سبك بیانی قرآن، لا.ط، قرآن در آینه پژوهش، دفتر سوم، لا.م، نشر هستى نما، 1380 ه_.ش.

7. مرکز فرهنگ و معارف قرآن، دائرة المعارف قرآن کریم، بوستان کتاب، لا.ط، قم، انتشارات دفتر تبلیغات اسلامی، 1382 ه_.ش.

8. نویورث، انجلیکا، هفت آسمان، شماره 34، تابستان 1383 ه_.ش.

9. هادوی تهرانی، مهدی: مبانی کلامی اجتهاد در برداشت از قرآن کریم، لا.ط، قم، مؤسسه فرهنگ خانه خرد، 1377 ه_.ش.

10. پژوهشي در تاریخ قرآن کریم، سید محمد باقر حجتي، تهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1368ش.

11. درآمدی بر تفسیر علمی قرآن، دکتر محمد علي رضايي الاصفهاني، انتشارات اسوه، ط الأولى، عام 1375.

ص: 107

12. درسنامه روشها و گرایشهای تفسیر قرآن (منطق تفسیر قرآن)، محمد علی رضایی اصفهانی، انتشارات مرکز جهانی علوم اسلامی، 1382 ش.

13. فاطمه در آئینه کتاب، اسماعیل انصاري زنجاني خوئيني ،قم، انتشارات الهادى 1417ق.

14. فرهنگ نامه قرآنی، گروه فرهنگ و ادب بنیاد پژوهشهای اسلامی آستان قدس رضوي، مشهد، 1372 - 1376 ش.

15. كتاب مقدس، انجمن کتاب مقدس ایران، 1932 م، تهران ( يشتمل على التوراة والإنجيل وملحقاتهما).

16. لغت نامه قرآن کریم، محمود عادل، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1369 ش.

17. لغت نامه، علی اکبر دهخدا، تهران، مؤسسه انتشارات و چاپ دانشگاه تهران، 1373 ش.

المراجع الأجنبية:

1) Scholer, Marco Post Enlightment Academic Study Of Th Quran EQ Vol. ε. Leiden

ص: 108

هیئة القرآن و بُنیته دراسة نقدیّة لآراء أنجلیکا نویفرت

اشارة

الشيخ محمود سرائب (1)

خلاصة المقال:

تتناول المقالة دراسةً نقديّةً لآراء «أنجيلكا نويفرت» حول «هيئة القرآن وبُنيته»، وتعرّضنا في بداية المقال إلى المعالم والخلفيات الفكريّة لأنجليكا نويفرت، ثمّ تعرّضنا للآراء القرآنيّة لها، ضمن العناوين الآتية: تطوّر في السّور متعدّدة الموضوعات: فهي تؤمن بتطوّر بنية السور القرآنيّة، وتعتبر أنّ بعض السّور قد صيغت مرات عدّة، وكما هو توجّه أكثر المستشرقين تؤكّد «نویفرت» على اقتباس القرآن من الكتب السّماويّة السّابقة. وتميّز بين نوعين من القرآن، وهما: القرآن الشفاهي، والقرآن المدوّن، والمنهج الذي اعتمدته هو منهج النّقد الأدبي والدّراسة البنيويّة للنّصّ القرآني. وترى القرآن نصَّا شعائريًّا، وفي دراسة لها تُحاول أن تثبت أنّ القرآن جزءٌ من التّراث الأوربي كالكتاب المقدّس، وتحلّل نويفرت في دراستها السّور المكيّة بهدف اكتشاف بنيتها التي استخدمها النّبيّ ليكوَّن السّورة.

وفي المقالة مورد النّقد وهي: «هيئة القرآن وبُنيته» تناولنا مقالتها دراسةً ونقدًا؛ أوّلًا من خلال عرض أبرز أفكارها فى هيئة القرآن وبنيته، وثانيًا: نقد المقالة. وقسّمنا النّقد إلى ثلاثة أقسام، وهي: نقد المصادر، نقد المنهج، نقد المضمون.

ص: 109


1- باحث وأستاذ متخصّص في الدراسات القرآنية وتفسير القرآن ومناهجه، لبنان.

کلمات رئیسة:

الهیئة والبنیة،القافیة.

موضوع المقالة:

اشارة

المقالة تناولت بالشّرح والنّقد فكرة بنية القرآن وتأليفه، وتحديدًا السّورة باعتبارها الوحدة التركيبيّة الأساسيّة للقرآن، ولنظريّة نويفرت في التركيب العامّ للسّورة والأجزاء المكوّنة لها.

أوّلًا: تعريف بأنجيلكا نويت (Angelika Neuwirth)

أنجليكا نويفرت (بالألمانية: Angelika Neuwirth) هي مستعربة 1 ألمانية، ولدت في 4 نوفمبر 1943 في نينبورغ في ألمانيا - معاصرة. وهي من أشهر الباحثين الألمان والأوروبيين المعاصرين في الدّراسات القرآنيّة والإسلاميّة. تجيد لغاتٍ عدّة: العربيَّة، الإنجليزيَّة ،الفرنسيَّة، الألمانيَّة، العبريَّة. وهي أستاذة الدّراسات السّامية والعربية في جامعة برلين الحرّة، درست الدّراسات السّامية والعربية والفيلولوجي في جامعات برلين وميونيخ وطهران، عملت كأستاذ ومحاضر في عدد من الجامعات، مثل: برلين وميونيخ وبامبرغ، كما عملت كأستاذة زائرة في بعض الجامعات مثل: جامعة عمان بالأردن، وجامعة عين شمس بالقاهرة. وتتركّز أبحاث «نويفرت» على القرآن، تفسيراته، والأدب العربي الحديث في شرق البحر الأبيض المتوسّط، ولها عدد من الكتابات والدّراسات المهمّة في مجال القرآن و دراساته2 نذكر منها:

- القرآن ومناهج التفسير القرآني

[1]- المستعرب هو شخص يكون متأثر بالعرب من عدة نواحي إما لغوية أو اجتماعية أو اعتقادية والمستعرب غالبا يكون من أصول غير عربية يعيش في وسط عربي. ويسمى عند الإسبان الإسباني «Mozárabe».

[2] - للاطلاع على مقالات أنجليكا نوريث يمكن الرجوع اليها عبر الروابط الآتية: رابط موقع ويكيبيديا باللغة الإنجليزية

:https://en.wikipedia.org/wiki/Angelika_Neuwirth

رابط موقع أكاديميا: 1133978/http://www.academia-net.org/profil/prof-dr-angelika-neuwirth :

ص: 110

- القرآن كنصّ من العصور القديمة المتأخرة، مقاربة أوروبية.

Der Koran als Text der Spätantike: Ein europäischer Zugang, 2010

- دراسات حول تركيب السّور المكّيّة.

Scripture, Poetry, and the Making of a Community: Reading the Qur'an as a Literary Text, 2014

- القرآن من حيث المضمون - تحقيقات تاريخيّة وأدبية في البيئة الأدبيّة

Neuwirth, Angelika; Sinai, Nicolai; Marx, Michael 2010. The Quran

in context: historical and literary investigations into the Quranic milieu. Leiden: Brill. ISBN 9004176888

- النصّ المقدَّس، الشعر وصناعة المجتمع: قراءة القرآن بوصفه نصًّا أدبيًّا

Neuwirth, Angelika 2014. Scripture, Poetry and the Makin of a Community: Reading the Qur'an as a Literary Text. Oxford: OUP. ISBN 9780198701644.5-

- موقع القرآن في الفضاء المعرفيّ للعصور القديمة

Location The Quran In The Epistemic Space Of Late Antiquity

وقد أشرفت «نويفرت» على مشروع (كوربس كورانيكوم) .Corpus Coranicum ومعناه (الجسم القرآني) وهو مشروع بحثي من أكاديمية برلين - براندنبورغ للعلوم والعلوم الإنسانية نحو طبعة نقدية من القرآن. ويهدف هذا المشروع إلى توثيق النّص القرآني من خلال مخطوطاته، ومن خلال نقله مشافهةً (القراءات)، ويرمي إلى استقراءٍ شاملٍ لشهادات المخطوطات الأولى، وكذلك للقراءات القرآنيّة التي تم حفظها والتي وثّقها التّراث الإسلامي. وبما أنّ نظام كتابة المخطوطات القرآنيّة القديمة يتيح - بسبب خلوّه من النقط والإعجام- تعدّدا في الدلالة، فقد تم اختيار الفصل بين نتائج البحث

ص: 111

في المخطوطات، ونتائج البحث الخاصّة بالقراءات القرآنيّة. وعلى وفق ذلك فإنّ التوثيق النّصّي سوف يتّخذ شكل العرض المزدوج والمتوازي للطريقتين معًا. إضافة إلى تقديمُ تفسيرٍ مستفيضٍ يضع القرآن في سياقات ظهوره التاريخي وبالآتي يكون التفسير المروم سيدرس القرآن من منظورٍ تاريخيٍّ (دياكرونيٍّ) تعاقبيٍّ أي؛ باعتباره نصّاً نشأ بالتدريج عبر عقدين من الزمان، باحثًا عن التّطوّرات الشّكليّة والمضمونيّة والمفهوميّة، وكذلك ما طرأ على النّصوص القرآنيّة الأولى من إعادة تأويلٍ أو تغييرٍ في الدّلالة عبر إحالاتٍ أو إضافاتٍ لاحقةٍ. وهذا التفسير يعتمد على مقاربةٍ تنظر للسورة باعتبارها وحدةً، وأنّ السّور المكيّة على الأقل - في اتّفاقها الثّابت مع الأنماط البنائيّة المعهودة وأشكال الخطاب المناسبة - هي وحداتٌ أدبيّةً. ويعتمد هذا التفسير كذلك على استقراءٍ واسعٍ للنصوص الموازية، يهوديّةً كانت أم مسيحيّةً (1).

ثانيًا: الخلفيات الفكرية لأنجيلكا نويفرت:

يتّضح من خلال قراءة مقالة «هيئة القرآن وبُنيته»، بالإضافة إلى مقالات وكتب أخرى «لنويفرت» ككتاب «القرآن بوصفه نصًّا من العصور الكلاسيكية المتأخرة: قراءة أوروبية» أو «دراسات حول تركيب السّور المكية»، يتّضح أنّ هذه الباحثة لم تحيد عن منهج المدرسة الألمانيّة الاستشراقيّة، التي وضعها المستشرق «تيودور نولدکه» (1930م) في كتابه «ملحوظات نقديّة حول التركيب والأسلوب في القرآن»، فكثيراً ما نجدها تختار سورةً محدّدةً مثل سورة يوسف، أو سورة الفاتحة، أو سورة الرحمن، وتكتب عنها، على شاكلة ما دعا إليه نولدكه.

ومن النّماذج التي توضّح مدى تأثّرها بل تبنّيها لآراء نولدكه هو ما قالته في المقالة مورد الدّراسة تحت عنوان canonization and the problem of the Sura as unite (2) (التقديس ومشكلة السّورة كوحدة) وضمن مقال (form and structure of the Quran) فاعتبرت أنّ المشكلة تكمن في تقديس ترتيب وتأليف السّور واعتباره وحيانيًا.

ص: 112


1- لمزيد من الاطلاع حول المشروع: يراجع: سامر: رشواني مشروع الموسوعة القرآنية Corpus Coranicum
2- Nerwrith, Form and structure..., E.Q. vol.2, pp, 246-247.

أمّا الخلفيّة الفكريّة والآراء المسبقة للكاتبة، فإنّ كتابات إنجليكا نويفرت تصبّ في معظمها في المنحى الذي لا يُؤمن بالمصدريّة الإلهيّة للقرآن الكريم، بل يرجع القرآن الكريم إلى شخص النبي صلّی الله علیه و آله والمجتمع الأوّل من المؤمنين، وهذا المنهج هو ما يطلق عليه اسم «تاريخيّة النّص القرآني»، وتعتبر أنّ القرآن تأثّر في صياغته بالتراث اليهودي والمسيحي.

وفي الدّراسات البحثيّة القرآنيّة يلاحظ بأنّها كانت تسعى إلى ترسيخ نتائج بحثيّةٍ حول القرآن تتمايز بها عن بقية المستشرقين حسب نظرها- أو لم تكن متعارفة الدّراسات الاستشراقية، مثل: إنّها تعتبر أنّ القرآن نشأ داخل الجماعة الإسلاميّة أي من خلال الحوار بين النبي والمؤمنين، فهذا الحوار أنتج النّصّ القرآني، بينما كان المستشرقون ينسبون القرآن إلى شخص النّبيّ أو إلى الكتب المقدّسة السّابقة...، وأن القرآن ليس فقط نصًّا إسلاميًّا، بل هو جزءٌ لا يتجزّأ - في رأيها- من الثّقافة القديمة المتأخّرة والنّقاش الذي كان محتدمًا بين تيّاراتها المختلفة. فالنّصّ القرآني على وفق هذه الرؤية هو نتاجٌ لثقافة العصور المتأخرة.

وتؤمن «نويفرت» بأنّ بعض السّور قد صيغت مرات عدّة، كما في سورة ص؛ حيث تعتبر أنّ السّورة قد خضعت لمراجعاتٍ عديدةٍ وقد تمّت صياغتها لا أقل من مرّة واحدة، فهي تعتبر أنّ صورة ابليس لم تكتمل فيها، وترى في سورة ص تطوّرًا لفكرة ابليس ورفضه السّجود لآدم علیه السّلام وهذا يعني تطوّرًا في وصول القرآن إلى مرحلة التقنين، إذ ما يزال يطلق عليه (قرآن) كما في قوله : «ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكرِ».1 وتزعم نويفرت أنّ الصورة لم تكتمل إلا في سورة البقرة. ففي هذه المقالة تحاول نويفرت البرهنة على كيفيّة تحوّل النّصّ القرآنيّ من نصٍّ متلوٍّ بين الجماعة إلى نصٍّ مكتوب . فهي تريد أن تفصل بين مرحلتين للقرآن القرآن الشّفوي أي المنقول مشافهة، والقرآن الكتبي أي المدوّن في المصاحف.

وفي البحث نفسه، ولتُأكّد أنّ بعض القرآن مقتبسٌ من التوراة والإنجيل زعمت

[1]- سورة ص، الآية 1.

ص: 113

أنّ قوله تعالى: «الرَّ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَبِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ» (1). بأن المقصود ب_ (آیات الكتاب) هو ما ذكر في السّورة من أمورٍ مقتبسةٍ من الكتاب المقدّس، أمّا (القرآن المبين) فهو القصص المكملة والتي ليس لها وجود في الكتاب القدس.

فاعتبرت «نويفرت» أن مصطلح (القرآن المبين) هو مكمّل، بينما (آيات الكتاب) مقتبس من الكتب الأخرى، في حين أنّ القرآن نفسه وفي ثلاثة مواضع يُعبّر عن الكتاب بأنّه مبين كقوله تعالى: «الر تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ» (2)،

فهي تحاول في دراساتها إسقاط تصوّر العهدين على القرآن الكريم؛ لأنّها تعتبر أنّ القرآن في بعده المكّي تبليغٌ لما سبق، ولكن بلغةٍ جديدةٍ، تقول: «إنّ القرآن بحسب السّور المكيّة لا يريد تقديم جديدٍ، بل يمنح ما سبق تبليغه لغةً جديدةً) (3).

في مقالة لها تحت عنوان: رؤيتا التاريخ والمستقبل الإنساني: الوعود الإلهية في القرآن والكتاب المقدس (4)، تركّز نويفرت رؤيتها العامّة عن القرآن على أنّه «نصّ شعائريّ ملقى منذ البداية، ولذلك فهو يجمع بين التدوين الذي يفترض الانضباط، والشّفويّة التي تحيله إلى تقليدٍ حي، أو نصٍّ متلوٍّ، Recitation -Text وتوضّح نويفرت في بحث لها معنى الدراسة التاريخية للقرآن، فتقول «إن الدراسة التاريخية للقرآن تعني بحث القرآن في فترة نشأته أي قبل تدوينه، ومن خلال هذا النهج يتم توضيح الإجابة على الأسئلة المطروحة في ذلك الوقت والتعامل المعتقدات الدّينيّة للأديان الأخرى التي تم قبولها جزئيًّا أو تمّ التّفاوض عليها وتعديلها جزئيًا أو التي تم رفضها أيضًا واستبدالها بأخرى» (5). وكنموذج على

ص: 114


1- سورة الحجر، الآية 1.
2- سورة يوسف، الآية 1، وكذا في الآية الثانية من سورتي الشعراء والقصص.
3- أنجليكا نويفيرت، القرآن جزءٌ من أوروبا؟.
4- Two Views of History and Human Future: Qur'anic and Biblical Renderings of Divine Promises 1 .Journal of Quranic studies, vol. 5, issue 1, 2005, pp-16. نقلا عن موقع المجلة: https://www.euppublishing.com/toc/jqs/1/5
5- القط، طارق: هل يعد القرآن جزءًا من العصور القديمة المتأخرة لأوربا؟ قراءة في الاستشراق الإلماني، مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، مجلد 35، العدد 2، 1439ه_، جامعة قطر، ص 122.

شعائريّة القرآن الكريم والترانيم المقدّسة تعطي «نويفرت» نموذجًا، وهو أجزاء من سورة العلق فتقول: تبدأ واحدة من أقدم السّور، سورة العلق 96: الآيات: 1-5، على الشكل الآتي:

«أقرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ (2) أَقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَمَ الْإِنسَنَ مَا لَمْ يَعْلَمَ (5) (1). فتعتبر أنّ هذه الآيات هي آيات إنشاديّة، مأخوذة من مصدر المزمور؛ لقد ظهر الخلق هنا بوصفه الحدث الإلهي الأكثر احتفالًا به.(2).

كما أنّها تعتبر أنّ القرآن جزءٌ من التّراث الأوربي كالكتاب المقدس (3): وأنّ نشأة القرآن هي «نتاج جدلٍ لاهوتيٍّ مع الثّقافة أو الثّقافات التي ظهر فيها». كما يؤكّد كتابها «القرآن بوصفه نصًّا من العصور الكلاسيكيّة المتأخّرة: قراءة (مقاربة) أوروبية». فهي قراءةٌ نسقيّةً تضع القرآن في سياقه الذي نشأ فيه، وتعني كلمة السّياق هنا الثّقافة الشّرق أوسطيّة للعصور الكلاسيكيّة المتأخّرة. وبلغةٍ أخرى إنّها لا تنظر إلى القرآن، كنصٍّ ينتمي إلى التراث الإسلامي فحسب، ولكن كنصٍّ تاريخيٍّ، ووثيقة لتكوّن جماعة جديدةٍ في فضاء تسوده أفكارٌ مسيحيّةٌ ويهوديّة وأفكارٌ فلسفيّةٌ أخرى. وبتعبيرها «كنص يشترك فيه الأوروبي غير المسلم والمسلم».

وتستنكر نويفرت النّظرة التقليديّة الأوروبيّة للنّصّ القرآني التي ترى أنّ النّبيّ محمد هو الطرف الفاعل الوحيد المسؤول عن نشاة القرآن وتشكيل الأمة الإسلامية، معتبرةً أنّ هذه النّظرة أغفلت جانبًا مهمًّا داخل النّصّ القرآني، وهو العلاقة بين المبلّغ والجماعة الإسلاميّة الأولى، وهذا البُعد هو أكبر شهادة على التّطوّر الداخلي للنص القرآني وعلى الظهور التدريجي للكتاب والجماعة المصاحبة له، فالقرآن لا

ص: 115


1- سورة العلق الآيات: 1-5.
2- انظر: نويفرت، أنجليكا: القرآن بوصفه نصًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، ترجمة بدري الحاكيمي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ص 9-10.
3- انظر: بوطیب، رشید: «آنجیلیکا نويفيرت والقرآن الكريم .... آفاق القراءة وحدودها»، وهي قراءة في كتابها: القرآن بوصفه نصاً من العصور الكلاسيكية المتأخرة: قراءة أوروبية. https://ar.qantara.de/

يمكن فهمه بوصفه نصًّا لمؤلف واحد، بل بوصفه نقاشًا جماعيًا يعبّر عن عصر النّبيّ محمد صلّی الله علیه و آله.

فالبحث في الدّراسات القرآنيّة هو جزءٌ من البحث في العصور القديمة المتأخّرة التي يجب أن تأخذ في عين الاعتبار هذا الّتراث اليهودي والمسيحي. وطالما أنّ القرآن نشأ في بيئةٍ مليئةٍ بالتّراث اليهودي والمسيحي والتي تعدّ طبقًا لنويفرت إرثًا أوربيًّا، فإنّ القرآن جزءٌ من العصور القديمة المتأخّرة لأوروبا.

وإن قراءة القرآن بخلفية العصور القديمة المتأخرة يعني انتماء القرآن إلى الثّقافة اليهوديّة والمسيحيّة التي تُعتبر أوروبيّة) (1).

والنتيجة التي يمكن فهمها من دراسات نويفرت المختلفة أنّ النّبيّ ليس وحده المسؤول عن تشكيل النّصّ القرآني، بل للجماعة الأولى التي كانت حوله دورٌ في ذلك، وحيث كانت لهم خلفياتٌ مسيحيّةٌ ويهوديّةً، فقد انعكست داخل النّص القرآني، فهي بهذه النتيجة لا تختلف عن غيرها من المستشرقين في النّظر إلى بشريّة النّصّ القرآني وإن كانت تعتبره نصّا حواريًا وتفاعليًّا مع النّبيّ والجماعة الأولى، فهي لا تنظر إليه كنصِّ أحاديّ الطّرف كما هو سائدٌ في النّظرة الغربيّة للنّصّ القرآني.

مقالة نويفرت في: هيئة القرآن وبُنيته:

اشارة

نتناول بالبحث مقالة «هيئة القرآن وبُنيته» دراسةً ونقدًا، من خلال عرض أبرز أفكارها في هيئة القرآن وبنية القرآن الكريم، ثم النّقد والمناقشة، وسنقسّم النّقد إلى ثلاثة أقسام: نقد المصادر، نقد المنهج، نقد المضمون.

أوّلاً محتوى المقال:

وقد تضمّنت المقالة أفكارًا عدّة، يمكن تلخيصها بالنقاط الآتية:

1. استفادت «نويفرت» من المنهجيّة المعتمدة على النّقد الأدبي ونقد الشّكل ونقد النّوع والنّقد التّحريري، وأبدت إصرارًا على المقصد الأدبي الكائن في النصّ

ص: 116


1- القط، طارق: هل يعد القرآن جزءًا من العصور القديمة المتأخرة لأوربا؟ قراءة في الاستشراق الإلماني، (م.س)، صص 122-124.

نفسه، وعلى الباحث أن يدرس حقيقة تركيب القرآن بوصفها جزءًا ذا معنًى من المقصد الأدبي العامِّ للنصّ.

2. حدّدت نويفرت السّورة باعتبارها الوحدة التركيبيّة الأساسيّة للقرآن، فوفقًا لها، تعمل السورة - وخاصّة السّور المكية - كنوعٍ أدبيٍّ تامِّ الفرادة للقرآن. وفي دراساتها في منتصف التسيعنيات، تصف طوال السّور بأنّها سلاسل تجميعٍ لآياتٍ منفصلةٍ، وقد يكون حصل عندها تغيير في الموقف نوعًا ما بعد أن قدّم «زاهنسير» حول وحدة السّور الطوال، ولكن رغم ذلك ما زالت تصرّ أنّ بعض المواضع في سورة البقرة حتى سورة يونس، ليست ذات بنيةٍ متّسقةٍ، وإنّما نتيجة جمعٍ لم يتسنّ لنا الوصول إلى إعادة تشكيل لها حتى الآن (1).

3. اعتبرت أنّه يمكن عن طريق تحليل السّورة المفردة - من ناحية كلَّ من طولها وبِنيتها ومحتواها وشكلها الأدبي والتسلسل الزمني الخاصّ المقدّر لها- للباحث الحديث أن يقف على الأنماط المميّزة التي يطبّقها على السّور الأخرى، ولذا يتوجّب علينا فهم النصّ من خلال النصّ؛ أي استخدام النصّ أداةً انعكاسيّةً لتحليلٍ ذاته.

4. تصوير القرآن على أنّه صلاةٌ طقوسيّةٌ وتلاوةٌ شعائريّةٌ، مشيرة إلى القرآن باعتباره (Rezitationstext) نصًّا ليتورجيًّا (2). تتّجه «نويفرت» إلى ضرورة فهم قصار السّور القرآنيّة على أنّها كلٌّ شعائريٌّ وُضع بعنايةٍ لغرض التّلاوة في مجلسٍ واحدٍ طبعًا هذا التّوجّه في قبال من يرى أنّ السّور القرآنيّة باعتبارها وحداتٍ كلّ سورةٍ تشكّل وحدةً خاصّةً.

5. اتِّباعها التسلسل الزّمني للسّور الذي أسّسه نولدکه (Nöldeke)، فعمدت نويفرت إلى صوغ تحليلها بتقسيم السّور المكّيّة إلى مجموعاتٍ ثلاث: مبكرة ووسطى ومتأخرة. ثم اتّجهت إلى تحليل تقسيم الآية، وتراكيب القافية، وتراكيب

ص: 117


1- کلار، ماریانا: مقاربات (نقد - نصيّة) لبنية السورة القرآنية : الجمع بين القراءتين التزامنية والتعاقبية لسورة البقرة، ترجمة: حسام صبري، ومحمود نجاح، ص10.
2- الطقس أو الليتورجيّا هو التعبير الحضاري و الثقافي عن إيمان جماعة ما، في زمن ما، ولحدث ما.

الآية والمكوّنات الدّاخليّة للسّورة. حيث طرح ثيودور نولدكه تسلسلاً زمنيًّا شاملًا لأجزاء القرآن في كتابه «تاريخ القرآن» عام 1860م. فيه، 24 سورة مدنيّة، والباقي مكي. ثم قدّم تفصيلًا للسّور المكّيّة من خلال التمييز بين ثلاث فتراتٍ متتاليةٍ (مكيّة مبكرة، مكيّة وسطى، مكيّة متأخّرة) بناءً على الميزات الأسلوبيّة والمحتوى. وتتميّز السّور في الفترة المكّيّة المبكرة بشكلها الشّعري القويّ مع صورٍ جريئةٍ وقوافي قصيرةٍ وإيقاعيّةٍ، وكذلك عن طريق استهلالها بالقسم في البداية. في الفترة المكّيّة الوسطى، ازدادت الآيات طولًا تدريجيًّا، وأصبح اسم الرحمن لله شائعًا. في الفترة المكّيّة المتأخّرة، تصبح الآيات أطول، ويسير الإسلوب باتّجاه النّثر أكثر، وبالتالي يقترب من أسلوب الفترة المدنيّة. بشكل عام، يبدو التسلسل الزّمني لسور نولدكه على الشكل الآتي:

الفترة المكية المبكرة : 96 ، 74 ، 111 ، 106 ، 108 ، 10 ، 107 ، 102 ، 105 ، 92 ، 90 ، 94 ،

93 ، 97 ، 91 ، 80 ، 68 ، 87 ، 95 ، 103 ، 85 ، 73 ، 101 ، 99 ، 82 ، 81 ، 53 ، 84 ، 100 ،

79 ، 77 ، 78 ، 88 ، 89 ،75 ، 83 ، 69 ، 51 ، 52 ، 56 ، 70 ، 55 ، 112، 109 ، 113، 114 ، 1

الفترة المكية الوسطى : 54 ، 37 ، 71 ، 76 ، 44 ، 50 ، 20 ، 26 ، 15 ، 19 ، 38 ، 36 ، 43 ، 72 ، 18 ، 27 ، 17 ، 25 ، 21 ، 23 ، 67

الفترة المكية المتأخرة : 32 ، 41 ، 45 ، 16 ، 30 ، 11 ، 14 ، 12 ، 40 ، 28 ، 39 ، 29 ، 31 ، 42 ،

10 ، 34 ، 35 ،7 ، 46 ، 6 ، 13

الفترة المدنية : 2 ، 98 ، 64 ، 62 ، 8 ، 47 ، 3 ، 61 ، 57 ، 4 ، 65 ، 59 ، 33 ، 63، 24 ، 58 ، 22 ،

48 ، 66 ، 60 ، 110 ، 49 ، 9 ، 5

6. بالنسبة إلى تقسيم الآية، فإنّها ترى القافية وتركيب الجملة كأقفال، في مفهومٍ تدعوه (Reimpotenz) : في بحثها حول تركيب القافية، تميّزت نويفرت عن أسلافها في التّعامل مع القافية القرآنيّة كشيءٍ مختلفٍ كليًّا عن القافية الشّعريّة والسّجع، ووصلت إلى نتائج مهمّة في هذا المجال.

7. تصنِّف نويفرت القوافي الخاصّة بسور الفترة المكيّة المبكرة إلى ثمانين نوعًا مختلفاً من القوافي، وسبع عشرة قافية للفترة المتوسّطة، وثمانٍ للفترة المكية المتأخرة.

8. تتطرّق نويفرت إلى التركيب العامّ للسورة والأجزاء المكونة لها. وعلى الضدّ

ص: 118

من النظرة التقليدية لنزول الوحي بضعَ آياتٍ في المرة الواحدة، تفهم نويفرت أنّه حتى السّور الأطول قد وُجدت كوحدةٍ تركيبيّةٍ واحدةٍ؛ وبالتالي لا يكون طول السّورة وليد الصّدفة، بل إنّ ذلك يعكس عوامل المقاصد التركيبيّة. وتتمثّل المعايير التي اقترحتها لتحديد البنية والعناصر التركيبية فيما يأتي:

. القافية.

. بنية الآية وطولها.

. السمات الأسلوبيّة.

. اللّغة الخاصّة.

. تغير الصوت أو الموضوع.

. الترابط الممكن بين أيٍّ من المعايير المذكورة بالأعلى.

9. تكمن الفكرة في الوصول إلى ملاحظةٍ بواسطة دمج بعض تلك المعايير، وبذلك يتقدّم تحليل الأجزاء المؤسّسة للسّورة، كما أنّه لا يمكن التّغاضي عن أنّ المقارنة لا يجب أن تقام داخل السّورة الواحدة بل بين سورٍ عدّة.

ثانيًا: نقد المقالة:

1. نقد المصادر : من الأمور المهمّة في المقالات العلميّة هي المصادر التي يعتمد عليها الباحث في بحثه، ومن البداهة بمكان أن تكون هذه المصادر ذات صلةٍ، بالبحث، وذات قيمةٍ كونها مصادر أساسيّة، وإنّ تجاهل المصادر الأساسيّة والاعتماد على مصادر ثانويّةٍ أو كتبٍ ومقالاتٍ غير عربيّةٍ كما هو السّائد في أكثر الدّراسات الاستشراقيّة يضعّف البحث كما لا يخفى ويحرّفه عن الوصول إلى مبتغاه.

وقد اعتمدت الكاتبة على نوعين من المصادر كما أوضحت في بداية مقالاتها، هما: المصادر الأوليّة (preliminary) والمصادر الثانويّة: (Secondary)

ص: 119

ومن نقاط الضّعف الواضحة في دراسة أنجليكا في «هيئة وبنية القرآن» أنّها اقتصرت على مصدرٍ واحدٍ من المصادر الأصليّة، وذلك حسب المثبت في الترجمة الفارسيّة للموسوعة، وهو كتاب «التبيان» لابن القيم الجوزية 1. وتمّ تصنيفه تحت عنوان «المصدر الأصلي» وباقي المصادر بعنوان «مصادر فرعيّة». وكتاب «التبيان في أقسام القرآن» هو كتاب من كتب التفسير، ألّفه ابن قيم الجوزية (691 ه_ 751 ه_) يتناول فيه جميع المواضع التي ورد فيها القسم صريحًا أو ضمنا في القرآن الكريم، مبتدئًا بالآيات وعرضها من آخر المصحف إلى أوّله مناقشًا ومبيّنًا تفسير الآيات في السّور القصيرة التي تبتدئ بالقسم حتى نهايتها، وموضّحًا علاقة القسم في السّورة بالمقسم عليه وجواب القسم، وعلاقة القسم بالسّورة نفسها وما ورد فيها من معانٍ. وقد ضمّن المؤلف كتابه هذا اختلافات المفسّرين واللّغويين في الآيات المذكورة عند القسَم مرجّحًا بعض الأوجه على بعض، وقد يستطرد في بعض الآيات فيخرج إلى معانٍ أخرى خارجة عن القسم. ومن الواضح أنّ ما صنّفته من المصادر الأصليّة لا يرتبط بشكلٍ مباشرٍ ببنية القرآن وهيئته وإن أشار أحيانًا إلى ذلك.

ووقعت الكاتبة في نفس إشكالية المصادر عندما تعرّضت لبحث القافية في المقال أي فواصل الآي، ولم تستند على المصادر الأصليّة أيضًا في هذا المجال، مع التّنويه بأهميّة كتاب «التبيان» في بابه وأنّه مفيدٌ للبحث، ولكن تجاهل باقي المصادر يؤدّي إلى ضعفٍ علميًّ في المقالة. ولا يصحّ من النّاحية العلميّة تجاوز الكتب التي ألّفت في مجال مناسبات الآيات كموسوعة «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي، أو ما كتبه فيما بعد السيوطي أو غيرهما. بل قد طرح علم من علوم القرآن الكريم بعنوان «علم المناسبات»، وبغضّ النّظر عن الرأي العلمي في هذه المباحث فإنّ مناسبات السّور وعلاقاتها مع بعضها بالإضافة إلى مناسبات الآيات في السّورة أي روابطها داخل السّورة الواحدة من المباحث ذات الصّلة المباشرة بهئية القرآن الكريم وبنيته، بل هناك من يذهب إلى أكثر من المناسبة إلى نظام القرآن الكريم كما هو رأي عبد الحميد الفراهي. فمن

[1] - دائرة المعارف قرآن، الترجمة الفارسية، ج3، شكل وساختار قرآن، انتشارات حکمت، ص 500.

ص: 120

الواضح أنّ عدم الرّجوع إلى هذه الدّراسات أو المصادر أدّى إلى خللٍ واضحٍ في جسم المقالة ونتائجها التي توصّلت إليها.

ومن المصادر المهمّة في بحث «الفواصل القرآنيّة» كتاب إحكام الراي في أحكام الآي «ابن الصائغ الحنفي»، وقد أطلعنا على الكتاب جلال الدين السيوطي، ويمكن القول إنّ السيوطي نقل في كتابه الإتقان خلاصة كتاب ابن الصائغ (1). وهناك كتب و دراسات أخرى تتعلّق بعدد آي القرآن منها: كتاب «البيان في عد آي القرآن» أبو عمرو الداني، وأرجوزة للشاطبي بعنوان: «ناظمة الزهر في علم الفواصل»، وكتاب: «سعادة الدارين في بيان وعدّ آي معجزة الثقلين» محمد بن علي بن خلف الحسيني.

وإذا أضفنا ما كتبه العلماء حول الفواصل القرآنية في ثنايا كتبهم سنصل إلى عشرات الأبحاث في هذا المجال، على سبيل المثال نذكر أيضًا «معاني القرآن» للفراء المتوفى سنة 207 ه_. ولعلّه أوّل من فتح باب تغيُّر النّطم واختلافه لمناسبة الفواصل، وقد ذكر نماذج متعدّدة على ذلك. ويظهر من هذه النماذج أنّ الفرّاء كان يعتقد أنّ القرآن الكريم كأنّما كان يعمد إلى تحقيق النّسق الصّوتي بغضّ النّظر عن تسجيل ملاحظات على هذه الدّراسة، ولكن النّسق الصّوتي والنّبرة وما شاكل ذلك كانت مطروحةً من مئات السنين، وهي مورد جدل بين العلماء، فقد أنكر على سبيل المثال ابن قتيبة بعض كلمات الفرّاء.

ونرى بحثًا تفصيليًا للفرق بين الفواصل القرآنية والأسجاع عند الرماني في رسالته «النكت في إعجاز القرآن». ولعلّ من أهمّ الأبحاث حول الفاصلة القرآنيّة ما كتبه الزمخشري في كتابه «الكشاف في تفسير القرآن» وبيّن الجمال المعنوي واللفظي للفاصلة القرآنية (2).

أما السيوطي فله كلام عن الفواصل في كتبه المتعدّدة وهي: «التحبير في علم

ص: 121


1- انظر: السيوطي، جلال الدين: الإتقان في علوم القرآن، ط 1، بیروت، دار الكتاب العربي، 1424ه_.ق/2003م، ج 2، ص 99 وما بعدها.
2- انظر: الموارد التي ذكرها الزمخشري في هذا المجال نذكر منها: الكشاف، ج 1، ص 183، وج 2، ص 39؛ انظر: محمد أبو موسی محمد: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، ط 2، مصر، مكتبة وهبة، 1988، ص 367-368.

التفسير» و «معترك الأقران في إعجاز القرآن» و «الإتقان في علوم القرآن»، وإذا أضفنا إلى هذه الدّراسات الكتب التي أهتمّت بمباحث متشابه القرآن وبالتحديد علم المتشابه اللّفظي من قبيل: متشابه القرآن: علي بن حمزة الكسائي. درة التنزيل وغرّة التأويل: الخطيب الإسكاني. والبرهان في توجيه متشابه القرآن: محمود بن حمزة الكرماني. هداية المرتاب وغاية الحفاظ والطلاب في متشابه الكتاب: علي بن محمد السخاوي. ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظي من آي التنزيل: أحمد بن الزبير الغرناطي. كشف المعاني في المتشابه من المثاني: القاضي بدر الدين بن جماعة. وغيرها من الكتب في هذا المجال، وبالإضافة إلى كتب المعاصرين.

والسّؤال الأوّل الموجّه إلى المقال: لماذا تمّ تجاهل كلّ هذه المصادر والرّكون إلى مصدر واحد، وهو بنظرنا لا علاقة له بمورد البحث، والذي هو بنية القرآن والروابط المنطقية بين الآيات والفواصل القرآنية؟ نعم الكتاب أساس في مباحث «القسم في القرآن» وهو جزء من المقالة، فقد تعرّضت الكاتبة لبحث «القسَم» في المقال بعنوان (Oaths and oath clusters introductory and intra-textual sections): وهذا العنوان لا شكّ أنّ المصدر الأصلي له هو كتاب التبيان لابن القيم الجوزية.

2. نقد منهج المقالة:

أ. منهج النّقد الأدبي: إنّ المناهج التي أفرزتها الدّراسات الاستشراقية وبالأخص النّقد الأدبي الحديث، ونظريّة «التناص» [1]، هي من المناهج المهمّة في مجال نقد وتحليل النصوص البشريّة غير الإلهيّة، فالنّصّ البشريّ في هذه الحالة يشكّل مجالًا خصبًا للممارسة النّقديّة في ضوء المناهج الحديثة؛ لأنّ ظروف تشكّل النّصّ تسمح بهكذا نوع من الدّراسات، فعلى سبيل المثال عندما نُعمل المنهج اللّساني

1- فكرة التناص، تعود إلى «كريستيفا». في كتابه «التحدي السميوطيقي» يقرر أن النص يشير إلى نصوص أخرى، وهذه الخاصية يطلق عليها، «التناص»، وهي فكرة «مقترحة من قبل «جوليا كرستيفا»، إنها تتضمن أن أي ملمح في الخطاب يرتد إلى نصوص أخرى.

ص: 122

الحديث في الأمثال الشعبيّة - التي تختلف من بيئةٍ إلى أخرى- سنجد أنّ أمثال المجتمع اللّبناني مثلاً تختلف عن أمثال المجتمعات العربيّة الأخرى فضلاً عن المجتمعات غير العربيّة. وعندما نتأمّل في كيفيّة تشكّل مدلولات هذه الأمثال الشّعبيّة بناءً على الخلفيّة الاجتماعيّة، فإنّنا سنخرج حتمًا بنتائج صحيحةٍ ودقيقةٍ، فكم من مثلٍ أو عبارة أو لفظة أو جملة لها دلالة إيجابيّة في مجتمعٍ ما، بينما هي نفسها لها دلالة سلبيّة في مجتمع آخر، فهناك اتّفاق في دوالٍ معيّنةٍ بينما يكون الاختلاف في المدلولات؛ وذلك لأنّه لا يمكن للنّصّ البشري أن ينفك عن مؤثّرات ساعدت أو أثرت في تشكّله أيًّا كان هذا التّأثّر.

ومن الشّروط البديهيّة لتطبيق أيّ منهجٍ أن يكون النّصّ أو العيّنة مورد الدّراسة قابلةً لذلك، وفي مورد بحثنا لكي نطبّق منهج النقد الأدبي على نص معيّن لا بد أن يكون النّصّ يقبل بطبعه هذا المنهج كأيّ نصّ بشري، ولكن عندما يكون البحث عن النّصّ القرآني فنحن أمام نصٍّ إلهيٍّ؛ لأنّ القرآن الكريم نزل بلفظه ومعناه على رسول الله كما يعتقد المسلمون أصحاب النّصّ أنفسهم، وهذا يعني أنّ المنهج الذي ينطبق على النّصّ البشري لا ينطبق على النّصّ القرآني بتاتًا، خاصّة وأنّ إعمال منهج النّقد هو نوع من التحميل على النّصّ، فالإشكال على المنهج الأدبي النّقديّ هو إشكالٌ فلسفيٌّ معرفيٌّ، بمعنى أنّ طبيعة النّصّ القرآني لا تسمح بذلك، والدليل عندنا على هذه التّفرقة بين القرآن وغيره من النّصوص الأخرى حتى نصوص النّبيّ صلّی الله علیه و آله وأهل البيت علیهم السّلام هو الإعجاز اللفظي والبياني للقرآن الكريم. طبعًا هذا لا يعني أنّنا نوافق أو لا نوافق على دراسة السّنّة النّبويّة بهذا المنهج فهذا بحث آخر.

ولذا لا يصحّ النّظر إلى القرآن والسّنّة المطهّرة على أنّهما جزءٌ من النّصوص الأدبيّة المحضة، بل لا بدّ من مراعاة الوضع الأصلي المقدّس لكليهما، بحيث لا نحكم ولا نقيّم أيًا منهما بالمقاييس الأدبيّة ذات الوضع البشري المحدود، والتي لا يمكننا من خلالها الحكم على النّصّ القرآني، نعم يمكن الاستفادة من هذه الآليات في شرح وتفسير وتحليل وإثبات إعجاز النّصّ المقدّس دون إصدار حكم وتقييم عليه.

ص: 123

ومن الخلط المنهجي والخطورة بمكان اعتبار دراسة النّصّ القرآني ضمن الناتج البشري، أي التّراث الإنساني أو النّظر إليه كأحد إبداعات النّصّ الأدبي الإسلامي كما نرى بالفعل في دراسات بعض الباحثين المعاصرين (1)، فالصحيح أنّ «الدّراسة الأدبيّة للقرآن الكريم والحديث النّبويّ الشرّيف ضرورة قصوى، ولكن على أن يتمّ ذلك في سياقهما الخاصّ من حيث مراعاة وضعهما المقدّس من حيث المصدر والصياغة، وأن تكون الدّراسة من خلال منهج ومصطلحات تتّفق مع طبيعة هذا السّياق وتراعي خصوصياته دون أن تخلط بينه وبين النتاج البشري» (2). تقول المستشرقة الإيطالية، «لورافيشيا فتغليري»: «ليس ثمة أيما نمط لهذا الأسلوب (أي أسلوب القرآن) في الأدب العربي الذي تحدر إلينا من العصور التي سبقته، والأثر الذي يحدثه في النّفس البشريّة إنما يتمّ من غير أيما عون عرضي، أو إضافي، من خلال سموه السليقي، إنّ آياته كلّها على مستوى واحد من البلاغة عندما تعالج موضوعات لا بد أن تؤثّر في نفسها وجرسها، كموضوع الوصايا والنواهي وما إليها» (3).

ب. نقد المنهج البنيوي في دراسة القرآن: المنهج البنيوي باختصار هو النّظر في التصميم الداخلي للأعمال الأدبيّة بما يشمله من عناصر رئيسةٍ تتضمّن الكثير من الرّموز والدّلالات، بحيث يتّبع كلّ عنصر عنصرًا آخر. ويقوم مفهوم البنية (structure): في المنهج البنيوي في النّقد الأدبي على قضايا عدّة متّصلة بالنّقد الأدبي، هي حسب بياجيه:

الوجود الكليّ: فالبنية موجودة في الكلّ لا في الأجزاء، وكان هذا التّصوّر الكليّ، هو جوهر النّظريّة البنيويّة.

التحوّل : أي الحركة الدّاخليّة للبنية، التي تحفظ لها ثراءها داخل النّصّ الأدبي، دون حاجتها للعودة إلى عناصر خارجيّة.

ص: 124


1- ومن هذه الدراسات نذكر الآتي : الأدب الإسلامي سماته وأصوله : محمد حسن بريغش، الأدب الإسلامي وصلته بالحياة: محمد الرابع الحسني الندوي، الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق: صابر عبد الدايم، خصائص القصة الإسلامية: مأمون فريز جرار وغيرهم من النقاد والباحثين الإسلاميين.
2- سيّد عبد الرازق، سيّد: المنهج الإسلامي في النقد الأدبي، ط1، بيروت، دار الفكر المعاصر، 2002م، ص 45 .
3- لورافيشيا، فاغليري: دفاع عن الإسلام، ترجمة: منير البعلبكي، لا ط، بيروت، دار العلم، 1963، ص56.

الذاتيّ: أي التناسق في كيان البنية، من خلال قوانين داخلية لها، تنظّم حركتها وتطوّرها ونموّها. (1)

وقد حاول البنيويّون في المنهج البنيوي في النقد الأدبي التقليل من المعلومات المتصلة بالمؤلف، والبيانات المحيطة به، بحيث لا تصبح نقطة الارتكاز الأساسيّة في دراسة الأدب، إنّما على الدراسة الأدبية الانطلاق من النص ذاته، وبالنظر داخل النص الأدبي فقط، ينظر إلى النص الأدبي في المنهج البنيوي في النقد الأدبي على أنه نص مغلق، وهذا النص يتمتع بقيمة ذاتية، وبالتالي هو مستقل بذاته متحرر من التبعية الخارجية، وهو يقوم على نظام من الانضباط، يظهر من خلال ما تتميز به بنيته من نظام كليّ (2).

وفي مقالة لنويفرت (3) بعنوان: «القرآن والتاريخ»: علاقة الجدل تحاول أن تكتشف العلاقة الحقيقيّة بين القرآن والتاريخ، وتؤكّد أنّه لا بدّ من دراسة القرآن دراسةً بنيويّةً، أي من داخل النص لا من خارجه؛ كي نفهم حقيقة تطوّره، وتنتقد المحاولات الاستشراقية الأخرى التي قام بها أمثال: وانسبرا، ولالينغ، ولوكسمبرغ وغيرهم. وتؤكّد حصول تطوّر ما في النّصّ القرآني، وأنّ قرآن ما قبل التّدوين يستحيل علينا معرفة حقيقته، وكلّ ما يمكننا فعله هو اكتشاف هذا التطوّر من بنية النّصّ نفسه. كما تؤكّد أنّ الاختلاف يتمركز اليوم حول القضيّة الآتية: هل القرآن يمثل حقيقة ما قاله النبي أمام مستمعيه؟ أم أنّه كتابٌ كتب في أزمانٍ لاحقةٍ انبثقت من بيئات الفرق الإسلاميّة ؟

وتعتبر نويفرت أنّ الدّراسة البنيويّة للنّصّ هي أفضل وسيلة لمعرفة تطوّره.

ص: 125


1- عبد الله أحمد جاد الكريم حسن: "البنية والبنيوية"، نقلاً" عن: www.alukah.net.
2- سلطة النص وموت المؤلف، www.alukah.net.
3- مجلة الدراسات القرآنية، المجلد الخامس، عدد 1، عام 2003 م، ص 1-16 . Journal of Qur'anic Studies Qur'an and History - a Disputed Relationship. Some Reflections on Qur'anic History and History in .https://www.euppublishing.com نقلًا عن موقع المجلة .2003 ,the Qur'an.Volume Issue 1pp. 1-18 ,April

وبهذه الطريقة يمكن معرفة مرحلة ما قبل PREHISTORY OF QURANIC .CANONISTION OF THE TEXTأو TEXT

لا يوجد دراسات نقدية بين المسلمين عن تاريخ النّصّ القرآني وتطوّره كما حدث لتاريخ دراسة الكتاب المقدس في أوروبا؛ إذ أدّت الدّراسات الأوروبيّة النّقديّة للكتاب المقدّس إلى نشر الفكر العلماني وتخفيف قبضة الكنيسة و احتكارها لفهم النّصّ التوراتيّ والإنجيلي.

والسؤال كيف يمكن أن نحلّل أو أن ندرس القرآن بواسطة النّظريات التّاريخية الحديثة؟ وتقول: برأيي هناك علومٌ عديدةٌ يجب أن نستخدمها ومنها: التاريخ وعلم الآثار واللّاهوت وغيرها؛ لدراسة القرآن، على أنّه ضمن الإرث الهلينستي (1) والإرث السائد في الشرق الأدنى. والدّراسة يجب أن تركّز على النّصّ وليس على الأحداث التي كانت خارج النّصّ. وهذا الاتّجاه هو عكس الاتّجاه السائد الذي يبحث عن أصول القرآن خارج النّصّ.

كما تعتبر «نويفرت» أنّ الدّراسة البنيويّة للنّصّ هي أفضل وسيلة لمعرفة تطوّره، وما يرتبط ببحثا هي: «البنيويّة في مجال النقد الأدبي»، يرى المنهج البنيوي أنّ بنية العمل الأدبيّ كلّ مكوَّنٌ من عناصر متماسكةٍ، تتوقف هويّة كلُّ منها وفاعليّته على ما عداه، ولا يمكن أن يكون ما هو إلا بفضل علاقاته بما عداه، هذا التّصوّر الكلّيّ يعني أنّ القصيدة على سبيل المثال، ليست مجموعةً من الأبيات، وإنّما هي بنيةٌ كليّةٌ تركبيّةٌ تتشكَّل من بنى جزئيّة هي: الإيقاعية، المعجميّة، التركبيّة،

ص: 126


1- العصر الهلنستي فترة في التاريخ القديم كانت فيها الثقافة اليونانية تذخر بالكثير من مظاهر الحضارة في ذلك الحين. وقد بدأت بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 ق.م، واستمرت حوالي 200 سنة في اليونان وحوالي 300 سنة في الشرق الأوسط. ويستخدم اصطلاح هيلينستية لتمييز هذه الفترة عن الفترة الهلينية وهي فترة الإغريقيين القدماء التي اعتبرت أوج عبقرية وعظمة الفكر والعلوم والفلسفة الإغريقية في ظل الامبراطورية الأثينية. وقد استحدث مصطلح هلنستية المؤرخ يوهان جوستاف دريزن في منتصف القرن التاسع عشر، صاغ المصطلح الهلنستي للإشارة إلى الفترة التي انتشرت فيها الثقافة اليونانية في العالم غير اليوناني بعد غزو الإسكندر في عمله الكلاسيكي «Geschichte des Hellenismus» (تاريخ الهلنستية). نقلًا عن : https://ar.wikipedia.org/wiki/ وما يدعيه هولاء أن الحضارة الإسلامية (لا الدين الإسلامي) مدينة للتراث الهيليني، وأن الإبداع العلمي الإسلامي هو صناعة إغريقية استوردها المسلمون من دون أي إضافة.

المجازيّة، الرمزيّة، ....، في تحكُّم ذاتي، تتعاضد، وفي حركة تشكُّلٍ تُفضي إلى تشكّل بنيةٍ كليةٍ تنطق بالدّلالة. يفيد هذا أنَّ النَّص نفسه، بوصفه بنيةً كليةً تتشكُّل من بنياتٍ جزئيّةٍ، هو موضوع الدّراسة البنيوية.

فلا يمكن في النّقد البنيوي إعطاء أيّ قيمةٍ لأيّ عنصرٍ خارج الوضع الذي يشغله في البنية الكليّة، فالتحليل البنيوي يحدِّد موقع هذا العنصر في هذه البنية وفاعليته في تشكيلها، ويتدرّج تحليل النّصّ الشّعريّ، على مستوى التّزامن كما يأتي:

• البنية الكليّة ومكوِّناتها.

• المكوّن الصوتي، وزن، تنغيم، ونبر.

• المكوّن الصَّرفي، الوحدات الصّرفية وأبنيتها.

• المكوّن المعجمي: الكلمات وهوياتها وحقولها وخصائصها.

• المكوّن التركيبي: الجمل وأنواعها وخصائصها.

• المكوّن المجازي: مختلف أنواع المجاز، والانزياح.

• المكوّن الرمزي: المدلول المفضي إلى مدلول آخر.

• شعريَّة النص والدلالة الكليّة.

تدرس هذه المكوِّنات البنية الأدبيّة الكماليّة الدَّلاليّة. ويفضي هذا النّوع من التّحليل إلى تمييز النّصّ الشّعري، في المقام الأوّل، فإن هيمن المكوَّن الدّلالي - المجازي كان النّصّ شعرًا منثورًا، وإن أحكم بناء هذا النّوع، وتضمَّن عنصر القصد إلى الإحكام كان النّصّ قصيدة نثر، وإن هيمن المكوَّن الصّوتي (وزن وقافية) كان النّصّ نظمًا، وإن هيمن المكونان الصّوتي - المجازي والدّلالي، كان النَّصّ شعرًا (1).

تستخدم نويفرت في المسائل المنهجيّة كلامًا واضحًا غير متوارٍ: «يجب أن ينصبّ

ص: 127


1- انظر: زراقط، عبد المجيد: النقد الأدبي ... مفهومه ومساره التَّاريخي ومناهجه، ط1، بيروت، العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440ھ، صص 150 - 152.

اهتمام المُفسر على النصّ القرآني نفسه في المقام الأول». وتُولي هذه الدراسة (الأدبية) اهتمامًا لشكل النصّ وتكوينه وأساليبه وبلاغته وغيرها من الخصائص التي ترتكز عليها. وهي تُعارِض هذه الدراسات (التاريخية) و (اللغوية)، التي تبدأ خارج النصّ وتفرض عليه هياكل أو قواعد غريبة، وتنتج تفسيراتٍ غير دقيقةٍ على أقلّ تقدير.

وباختصار يقوم المنهج البنيوي على حصر القيمة في النّصّ ذاته بما هو معطى من دلائل، ومن ثَمَّ يدرس هذا النّصّ، ولا يهم مؤلفه وكاتبه ولا مقاصده ولا أوضاعه التي أنتج فيها خطابه، المهم هنا النّصّ الموجود، ندرسه من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه وتراكيبه وجُمله.

ويُلاحظ على المنهج البنيوي في دراسة القرآن العديد من الإشكالات والسلبيات تجعل الاستفادة منه في فهم وتفسير القرآن الكريم غير دقيقة ومن هذه الإشكالات:

1. البنيويّة كما يُفهم من لفظها تعتمد على بنية النّصّ، وبيان العلاقات التي تربط بين كيانه اللّفظي والمادي؛ لتصل إلى حكمٍ أدبيٍّ، فهي وإن كانت لا تُهمل الدّراسة العلائقيّة للألفاظ، فإنّها تُهمل الوحدة الموضوعيّة ودوافع إبداعه وأثر المبدع فيه، ومن هنا تقع في خطر ميكانيكيّة التّحليل.

.2 من الإشكالات التي تواجهها البنيويّة (المغالطة الشكلانيّة)، وتعني عدم الاهتمام بالمعنى أو المحتوى، ورفض الاعتراف بحضور العالم الثّقافي خارج العمل الأدبي، وتلك ناتجة من عدم الاعتراف بأنّ مظاهر البنية المدروسة ليست هي المظاهر الوحيدة، ولا هي وحدها التي تعمل في نظامٍ مغلقٍ دون أن تتأثّر بالعالم الخارجي. وإنّ البنيويّة في إهمالها للمعنى، فهي تناهض وتعادي النّظريّة التأويلية، وإن كانت تسلّم بأنّ النّصّ متعدّد المعاني.

3. إنّ البنيويّة ليست علمًا، وإنّما هي شبه علم يستخدم لغة ومفردات معقّدة ورسومًا بيانيّةً وجداول متشابكة، ومن هذا المنطلق تجاهلت البنيويّة التّاريخ، فهي وإن كانت إجرائيّة فاعلة جيّدة في توصيفها، إلّا أنّها تفشل في معالجتها

ص: 128

للظاهرة الزّمانيّة، ولهذا فقد يكون هذا مقبولاً مع الظّواهر المؤقّتة.

4. على الصّعيد الأدبي تُعرِّف البنيويّة الأدب بأنّه جسدٌ لغويٌّ أو مجموعةٌ من الجمل وهذا تعريف رولان بارت، وهو تعريف يُثير كثير من التّساؤلات، ومنها أن كون اللّفظ مادة الأدب لا يعني بحال أنّ الأدب هو اللّغة، فالحجر مادة التمثال لكن التمثال ليس مجرّد حجر.

5. ولعلّ من أهم المخاطر الناتجة عن البنيوية، أنّها تُلغي التّطوّر وتهتمّ بالنّظام فإنّها تنظر إلى التّاريخ نظرةً سكونيّةً؛ إذ ترى أنّ التّاريخ مسيّر بمجموعةٍ من الأنظمة التي تعجز الإرادة الإنسانيّة عن إحداث أيّ خدش في تشكيلها أو مسارها.

6. إنّ التحليل البنيويّ يقف عاجزًا أمام التّفريق بين الأعمال الأدبيّة الجيّدة والرّديئة، القديمة والجديدة، والسبب في ذلك أنّه تحليلٌ وصفيٌّ صوريٌّ لا يهتم بالقيمة، وهذا بدوره يؤدّي إلى تشويه الأعمال الأدبيّة وإلغاء خصوصيّتها.

7. ليست البنيويّة سوى صورة محرّفة للنّقد الجديد الذي عرفناه من خلال التعامل مع النص، كما لو أنّه مقطوع عن موضوعهِ، مستقل عن موضوع القراءة (1).

ج. نقد منهج المزواجة بين الدياكروني والسانكروني: تطرح «نويفرت» في دراسة النّصّ القرآني منهج المزاوجة المنهجيّة بين الاتجاهين (السانكروني) (2) التزامني و (الدياكروني) التعاقبي أو التّاريخي التّطوري الذي سيطر على الدرس الاستشراقي منذ بداياته والاتّجاه السانكروني هو الذي قدّم الأفكار حول وجود بنيةٍ واضحةٍ للنّصّ القرآني، تحتاج للاستكشاف، بعدما كان النّظر المتّبع من قبل الدياكرونيين هو أنّ النّصّ خالٍ من أيّ نظام. والاتّجاه السانكروني قد وظّفه فردناندديّ سوسير (1913-1857) Ferdinand de saussure ليميّز به الدراسات اللسانيّة - التي

ص: 129


1- المصاروة، ثامر إبراهيم محمد: البنيوية بين النشأة والتأسيس (دراسة نظرية)، صص 50-52.
2- السانكروني تزامنيّ /Synchronic / Synchronique: مصطلحُ تزامنيّ يستخدم في حقل الدراسات اللسانيّة، في تقابل مع لفظ دياكرونيّ. فإذا كان المنهج الدياكرونيّ dichronique يقوم على دراسة الظواهر اللسانيّة أو الوقائع التاريخيّة في تعاقبها الزمنيّ، أو في صيرورتها المتعاقبة، فإنّ المنهج التزامنيّ أو السانكرونيّ هو بخلاف ذلك، منهج يقارب الوقائع اللغوية دونما اعتبار لشروط تكوّنها أو تطوّرها التاريخيّ.

تُعنى «بالعلاقات المنطقيّة والنفسيّة بين الألفاظ المتعايشة، والتي تشكّل نسقًا أو منظومةً» وموضوع اللسانيّات السانكرونيّة. (التزامنيّة): هو محاولةُ وضع المبادئ الأساسيّة التي تنتظم كلّ نسق لسانيّ، والعوامل المشكّلة لكلّ وضعيّة لسانيّة ،محدّدة، وذلك بمنأى عن حركة تشكّلها تاريخيًّا. وبذلك فالتزامنيّ يحيل إلى نظام تجاور الألفاظ، وإلى علاقات التضايف والتزامن القائمة بينها، وليس إلى تعاقبها أو انتظامها في الزمن.

وعليه فنحن أمام ثلاثة اتجاهاتٍ في دراسة بنية السّور القرآنيّة، وهي:

• (السانكروني) - التزامني.

• (الدياكروني) - التعاقبي.

• المزواجة بين الاتجاهين وهو ما يذهب إليه جملة من المستشرقين وعلى رأسهم «نويفرت»، يعني إمكانيّة الدّمج بين العناصر التّزامنيّة والتّعاقبيّة.

ويلاحظ على المنهج التزامني والتعاقبي في دراسة القرآن أنّه من الصّعوبة بمكان الجمع بين المنهجين؛ لأنّ المنهج التاريخي النّقدي (التعاقبي / الدياكروني انطلق من فرضيّة أنّ النصّ القرآني يبدو - من وجهة نظرهم - مركَّبًا من أجزاء ليست متّسقة ولا مرتَّبة بذات الطريقة الخطيّة المعهودة في الكتابات بصورةٍ عامّةٍ، ومِن ثَمّ لجؤوا لذلكم المنهج في مقاربة القرآن باعتباره الأنسب لتتبع تاريخ أجزاء النّصوص والكشف عن مصادرها التي رُكَّبت منها؛ ومن هاهنا دارت المشاغل البحثية لدراسات الاستشراق حول القرآن على البحث في تاريخه وملابسات تدوينه والتطوّرات التي لحقت به، والاهتمام بالنّظر في ترتيب سوره وآياته زمنيًّا، ومحاولة الكشف عن أصوله التي استُقِي منها، والاجتهاد في تبيّن العلاقات بينه وبين البيئة التي نزل فيها ووجوه أثرها، وكذلك الصلات بينه وبين النّصوص السّابقة عليه... إلخ.

ورغم السّيطرة الكبيرة للمنهج التّعاقبي في دراسة القرآن على معظم مفاصل الدرس الغربي للقرآن، حتى إنّ هذه المقاربة الدّياكرونيّة صارت عَلَمًا وعنوانًا

ص: 130

على التّناول الغربي للقرآن بصورة عامّة، إلا أنّه ظهر مؤخّرًا في الدّراسة الغربيّة منهج مختلف، وهو التّناول التزامني (السانكروني)، والذي ينطلق من فرضيّةٍ معاكسة تمامًا للفرضيّة التي ألجأتْ لاستحضار المنهج التاريخي النقدي لدى غالب المستشرقين؛ وهي القول بأنّ النّصّ القرآني كما هو موجود -الآن- نصٌ متّسقٌ وله بنْيَة تحتاج للكشف عنها والبحث فيها لفهمها، ومِن ثَمّ استثمار المنهج التزامني لا التّعاقبي في الكشف عن هذه البنية وفهم أبعادها.

ولعلّ المراد من المزواجة بين المنهجين هو توظيفهما في الكشف عن البنية الموجودة في النّصّ القرآني ولذا ركّزت «نويفرت» على بنية السّورة كوحدةٍ كما أشرنا. ولعلّه من أسباب بروز المنهج التزامني (السانكروني) وتأكيد «نويفرت» على ذلك هو تطوّر مناهج دراسة النّصوص ذاتها في الفكر الغربي - كظهور البنيويّة وغيرها - والتي تهتم باستكشاف بُنَى النّصوص لا دراسة أصلها ومصدرها كالمنهج الدياكروني. إلى جانب تطوّر مناهج دراسة النّصوص الدّينيّة ذاتها في الغرب، ومحاولة استفادتها من المناهج التزامنيّة وتحقيقها الكثير من النتائج اللّافتة للنّظر من خلالها، والتي حفّزت بالتالي المستشرقين لمحاولة تطبيقها على القرآن، خصوصًا في إثر تنامي الرّغبة الأوسع في نقل دراسة القرآن لحقل دراسات اللّاهوت ومحاولة إيجاد منهجٍ أكثر ملاءمةً يستطيع تلافي بعض الإشكالات التي طالما لابست المنهج التّعاقبي في دراسته القرآن.

في هذا السّياق، فإنّ الدّراسة السانكرونيّة للقرآن استطاعت تجاوز فکرتین أساسيّتين لطالما رافقتا الدّراسة الدياكرونيّة للقرآن حتى صارتا معتمَدًا للفكر الاستشراقي في تعامله مع القرآن، وهما:

• تجاوز نظريّة التأثّر والتأثير والبحث عن أصول ومصادر النّصّ القرآني والتي شكّلت إطار الدّرس لكثيرٍ من الكتابات الاستشراقيّة الكلاسيكيّة، على رأسها کتاب جيجر: (ماذا أخذ محمد عن اليهودية؟)، ...

• تجاوز استشكال بُنية النّصّ القرآني من جهة كونها غير خطّيّة وكذلك غير

ص: 131

موضوعيّة، وبالتالي اعتبار الترتيب التّاريخي للقرآن هو المفتاح الوحيد لفهمه عبر ربطه بواقع الدعوة، وأنّ الترتيب الموضوعي للنّص هو المفتاح الوحيد لجعل أفكار النصّ جليّةً للقارئ الغربي، حيث انطلقت الدّراسات السانكرونية في مقابل هذا من تعقد بنية النصّ القرآني في عمليات الاستعادة والتكرار والتوظيف، وكون أسلوبه الذي ربما لا يتفق مع الأسلوب الخطي أو الموضوعي هو أسلوب خاصّ يحتاج للاستكشاف ولدراسة أبعاده ومزاياه بدلًا من محاولة إخضاع النصّ لأسلوب لا يتفق معه (1).

ومن أهم نتائج المنهج التزامني (السانكروني) هو التحليل البلاغي للقرآن ومن خلاله يتم استكشاف نظم النصّ القرآني ومعانيه (2).

د. مناقشة تقسيم القرآن عند «نويفرت»: من الواضح أنّ «نويفرت» تعتمد على تقسيم «نولدكه»؛ ولهذا يمكن العمل على نقد مقالة «نولدكه» ومن خلاله يتبيّن ضعف البناء الذي اعتمدت عليه «نويفرت» في تقسيم السّور، وذلك بالإشارة إلى بعض الأمور التي ذكرها نولدكه وإلا فالنّقد التّفصيلي يحتاج إلى دراسةٍ مستقلةٍ.

فقد قسّم نولدكه كما تقدّم القرآن إلى أربع طبقاتٍ أو مراحل، وقد قام بتقديم أسلوبٍ جديدٍ في ترتيب وتأريخ السّور القرآنيّة متجاهلًا للرّوايات الصّحيحة الواردة في المقام والمنقولة عن صحابة النبيّ والشّاهدة بنفسها على نزول الوحي الإلهيّ والواضحة الدّلالة على زمان نزوله ومكانه متجاهلاً لكلّ مباحث أسباب النّزول، ولا سيما ما صحّ من هذه الأسباب.

وتعتبر محاولة نولدكه من أكثر المحاولات التي سعت إلى تغيير شكل القرآن الكريم من خلال إعادة ترتيب السّور القرآنيّة، أو محاولة تقديم ترتيب تأريخي للآيات القرآنيّة. وهي المحاولات الناتجة عن نظريّة تاريخ النّصّ عند نولدكه

ص: 132


1- الاتجاه السانكروني (التزامني) في دراسة القرآن https://tafsir.net/translation
2- راجع: البلاغة الساميَّة في القرآن: ميشيل كويبرس Michel Capers، ترجمة، خليل محمود اليماني.

وفلهاوزن وجولد تسهير، وسيل، وبل، وهيرشفيلد، وكاشتاليفا (1).

فذكر (نولدكه) خصائص السّور في ضمن طبقاتٍ مختلفةٍ على أساس النحو الآتي:

أ. خصائص السّور النّازلة أوائل الوحى في مكة: «فاعتبر أنَّ السّور المرتبطة بالمرحلة الأولى من الوحي المكيّ تُشير في أغلبها إلى شدّة اضطراب النّبيّ وتشنّجه وقد كان هذا التشنّج والانفعال يبلغ من الشدّة إلى حدّ عدم تمكّن النّبيّ من اختیار كلماته بل كانت تصدر من دون قصد على لسانه» (2). ومن الواضح أنّ هذا الكلام ليس إلّا مجرّد توهّم وإدّعاءٍ فارغٍ من غير دليلٍ، فالقرآن الكريم ذكر ثلاث آیات فقط (3) تذكّر النّبي بعدم الاستعجال، ولا يفهم منها على الاطلاق أنّ النّبيّ لم يكن يمتلك قدرة التّسلّط على اختيار كلماته، وأنّه تخرج منه من فمه بشكلٍ لا إراديٍّ، بل مفاد هذه الآيات يدلّ على أنّ النبيّ كان يكرّر بسرعة ما يلقى إليه. فما ادّعاه من أنّ اضطراب النّبي وانفعاله في أوائل الوحي أمرٌ في غاية الضّعف ولا يمكن القبول به.

وأمّا قوله: «إنّ سور تلك المرحلة من الوحي تشبه الأقوال الغيبيّة للكهنة، ولم تكن بالسّور الطوال أبداً، بل كانت تحوي الجمل القصيرة التي طرأ عليها أسلوب السجع» (4)، ما هو إلا إدّعاء لا صحّة لها على الإطلاق، بل لا يمكن إغفال الاختلاف الموجود بين القرآن والكهانة، إذ إنّ الكهانة فيها التكلّف والكذب والأباطيل والأراجيف وهذا لا وجود له في القرآن الكريم.

فالقول بأنّ لغة القرآن الكريم تشبه إلى حد كبير لغة الكهان والمنجمين، وأسلوبهم، فهذا ما لم يقل به أحد، ولم يقبله حتى صناديد العرب القريشيين، مع كونهم أشدّ النّاس عداوة لمحمد صلّی الله علیه و آله وأحرصهم على الطّعن في القرآن الكريم، ولعلّ قول الوليد بن المغيرة خير دليلٍ على ذلك، فقد رأينا كيف رفض بكلّ حزمٍ وجدّيّةٍ،

ص: 133


1- محمد خليفة حسن: دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم «نقد الكتاب المقدس»، ص 51.
2- نولدکه، تیودور: تاريخ القرآن، منشورات الجمل، 1981، ص 51.
3- - سورة طه، الآية 114؛ سورة القيامة، الآية 16؛ سورة الأعلى، الآية 6.
4- - نولدکه، تاریخ القرآن، م.س.

أن تكون لغة القرآن على شاكلة لغة الكهان، وقال: «والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه» (1). وقد ذكر تخرّصات أخرى في هذا المجال.

ب. خصائص السّور في أواسط المرحلة المكية: حيث يعتبر أنّه في هذه المرحلة قد «قلَّ أسلوب التخيّل بشكل محسوس».

وأسلوب التخيّل هو الاستفادة من أنواع المجاز، ولا دليل على أنّ الاستعارة والتمثيل في القرآن كانت في مرتبة أعلى ثم تدنّت إلى الأسفل وبشكلٍ تدريجيٍّ. بل إنّ القرآن الكريم نزل على أساس مقتضى الحال. وبعبارة أخرى يمكن القول بأنّ الاستفادة من أمثال هذه الأمور شائعٌ ومتداولٌ في كلّ الألسنة والتي من جملتها اللّسان العربيّ الذي نزل القرآن بلغته.

ومما قاله أيضًا: «إنّ هذه السّور ورغم استمرار حالة الحماس والاندفاع فيها إلا أنّها ومن حيث المجموع تعمل وبشكلٍ ملحوظٍ على تخفيف حالة الاضطراب عند النبيّ». وقد ذكر هذا الكلام من دون ذكر دليل أو شاهد على كلامه.

وعدَّ نزول سورة الفاتحة مرتبطًا بالمرحلة الوسطى للوحي المكّي وخصّص لها في مقام الترتيب والتعداد الرقم (48)، مع أنّنا نعلم بأنّ سورة الفاتحة جزءٌ لا ينفك عن الصلاة ومن المسلّم به أنّ الصلاة من أوائل الأحكام الشّرعيّة التي صرّح بوجوبها في صدر الإسلام .

ج. خصائص السّور في المرحلة النّهائيّة للوحي المكي: إنّ سور هذه المرحلة جاءت وبشكلٍ كاملٍ تقريبًا بشكلٍ نثري واحتوى بعضها على التسجيع، وشيئًا فشيئًا بدأت تأخذ لنفسها قالبًا وشكلاً معينًا عادة ما يختم ب_ «ون» و «ين»، وقد قلَّ فيها أسلوب التمثيل والخيال، واتَّخذت آيات الوحي أسلوب الخطابة، وقد تكرّر فيها ذكر قصص الأنبياء والأفكار والعقائد الماضية. وبعض هذه السّور كبيرٌ بشكلٍ لافتِ،

ص: 134


1- ابن هشام السيرة النبوية، ط1، لا م، المطبعة الخيرية، 1329ه_، ج1، ص 283.

وكذلك فإنَّ بعض الآيات في هذه السّور أكبر بالمقايسة إلى آيات السّور في المرحلة السّابقة، وأحيانًا تبرز فيها أطياف من القوّة الشّعريّة. فإنَّ هذه الطائفة من السّور والتي يصل عددها إلى إحدى وعشرين سورةً أيضًا، يمكن اعتبارها مظهرًا لغضب النبي وتألَّمه في مقابل ردّة فعل بعض أفراد قبيلته في مكة على رسالته.

ج. خصائص السّور في مرحلة الوحي المدني: إنّ أسلوب السّور المدنيّة يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ السّور في المرحلة النّهائيّة للوحي المكيّ. وفي أغلب نثرها يشاهد مظاهر الفصاحة وجمالها بكثرة، وتحتوي على بعض الصّور الباهرة والجذّابة وخاصة في تلك الآيات التي تخاطب المجاهدين المؤمنين، إنّ هذه السّور التي يصل تعدادها إلى أربعة وعشرين سورة بترتيبها التاريخيّ واحدة تلو الأُخرى تُبيّن تعاظم القدرة السياسيّة للنبيّ وتشكيل النّطاق الاجتماعيّ للأمّة الإسلامية. وعلى أيّة حال فقد أصبح النبي في مجتمع المدينة قائدًا على المستوى الدينيّ والاجتماعيّ (1).

وإلى غيرها من الكلمات التي لا أرىّ أيّ قيمةٍ علميّةٍ لها، وعلى كلّ الأحوال يمكن مراجعة الكتب والمقالات التي ردّت على نولدكه وأفكاره.

ثالثًا: القَسَم في القرآن:

تناولت نويفرت بحث القَسَم في المقالة، وهو نوعٌ مهمٌّ من الرّوابط في السّور، وسنقصر الكلام في النّقد على النّقاط الآتية:

الأولى: البنية والهيئة التأليفيّة للقرآن.

الثانية: القافية أو الفاصلة القرآنيّة.

الثالثة: القسم في القرآن.

النقطة الأولى: البنية والهيئة التأليفية للقرآن

1. كيفيّة ارتباط آي القرآن (بنية وهيئة التأليف): إنّ ارتباط آي القرآن

ص: 135


1- انظر: اسکندرلو، محمد جواد: تاريخ الآيات والسور القرآنية في دراسات المستشرقين (نقد وتحليل)، مجلة دراسات إستشراقية، عدد 3، السنة الثانية - شتاء 2015م / 1436ه_

بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، يندرج تحته الفنون التالية:

• المناسبات.

• التّناسق الموضوعي.

• الوحدة الموضوعيّة. (1)

يقول الزركشي: «والذي ينبغي في كلّ آيةٍ أن يبحث أوّل كلّ شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها أو مستقلّة، ثم المستقلّة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففى ذلك علمٌ جمٌ، وهكذا فى السّور يُطلب وجه اتّصالها بما قبلها وما سيقت له» (2).

وإن أنواع المناسبات التي تذكر في هذا العلم داخليّة وخارجيّة:

القسم الأوّل: المناسبات الدّاخليّة، وهي الأنواع التالية:

• مناسبات ترتيب آيات السّورة الواحدة، وتعلّق بعضها ببعض، وارتباطها وتلاحمها وتناسقها.

• مناسبة مطلع السّورة للمقصد الذي سيقت له، وذلك براعة الاستهلال.

• مناسبة ختام السّورة لمطلعها.

• مناسبة فواصل الآي للآية التي ختمت بها، ومنه مناسبة أسماء الله الحسنى للآية التي ختمت بها.

• مناسبة موضوع مقطع من الآيات في السورة لمقطع آخر.

القسم الثاني: المناسبات الخارجية، وهي الأنواع التالية:

مناسبة السورة لما قبلها ولما بعدها.

ص: 136


1- على أن (التناسق الموضوعي في السورة القرآنية)، و (الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية)، اصطلاحان حادثان في هذا العصر، لم يأتيا في كلام المتقدمين صراحة.
2- الزركشي، محمد بن عبد الله: البرهان في علوم القرآن، بيروت، دار إحياء الكتب العربية، 1376 ه_، ج 1، ص 37.

• مناسبة ختام السورة لمطلع السورة التالية لها.

• مناسبة مطلع السورة لمطلع السورة التي تليها.

• مناسبة موضوع مجموعة من السور لمجموعة من السور، أو لسورة.

.2 الخطوات المنهجية لعلم المناسبة:

• بیان فضائل كلّ سورة، مكيّها ومدنيّها، وعدد آيها.

• بیان مقصود كلّ سورةٍ ثم علاقة اسمها بالأهداف والمقاصد.

• مناسبة السّورة للسّورة التي تليها.

• المناسبة بين فاتحة السورة وختامها، وختام ما قبلها.

• المناسبة بين خاتمة السورة وفاتحة ما بعدها.

• مناسبة إجمال السورة لتفصيل ما بعدها، وتفصيل السورة لإجمال ما قبلها.

• التناسب بين موضوعات السورة ومحورها (أي الموضوع الذي ترتكز عليه السورة).

• التناسب بين القصص إن وجدت وبين موضوع السورة.

• المناسبة تشمل الوحدة الموضوعيّة لكلّ سورة؛ فضلاً عن وحدة موضوعات السّور.

• هناك مناسباتٌ عامّة لكلّ سورةٍ ومناسباتٌ خاصّة، منها ما هو ظاهرٌ ومنها ما هو خفيٌّ، وأغلبها تناسبات يحكمها الذّوق تتراءى للمجتهد في التفسير القائم اجتهاده على التَّدبّر؛ لأنّ النّظم الترتيبي عند البقاعي أعلى من النظم التركيبي، فيدعو إلى المناسبات الذّهنيّة وليس القواعديّة.

• تناسب السّور في مضامينها، فقد تكون إحدى السّور مقابلة للأخرى على

ص: 137

ما ذكر السّيوطي أنّ سورة الكوثر تقابل ما قبلها من سورة الماعون، وقد تتناسب السّور لاتّحاد الموضوع، وهناك من السّور مما يكون معترضًا بين السّور الأخرى كما يذكر السّيوطي أنّ سورة المائدة وإن جاءت بعد سورة النّساء من حيث الترتيب العثماني ومع وجود المناسبة القويّة بينها وبين النساء، إلّا أنّ لها اعتلاقًا بسورة البقرة وآل عمران، وهذا ما لا يتحقّق في التفسير الموضوعي كوجهٍ من وجوه المناسبات.

• تناسب الآيات فيما بينها تناسبًا ترتيبيًّا وتركيبيًّا؛ لأنّ مهمّة علم المناسبة البحث عن مواطن انقطاع الآي، وإيجاد العلاقات التي تحكم المناسبات بين الآيات.

3. التّناسب الدّلالي بين الآيات:

.أ. التّناسب في الآية الواحدة ويشمل:

• التّناسب بين صدر الآية وخاتمة ما قبلها.

• التّناسب بين صدر الآية وما قبلها من الآيات.

• التّناسب بين جزء الآية وصدرها.

• التّناسب بين ختام الآية وصدرها.

• التّناسب بين ختام الآية ومضمون ما قبلها.

• التّناسب بين ختام الآية وختام ما قبلها.

ب. التناسب بين الآيات في مضامنيها ويشمل:

• إجمال وتفصيل.

• دليل وبرهان.

• سبب ونتيجة.

ص: 138

• احتجاج.

• تكميل وتوضيح.

• سؤال وجواب.

• تأكيد.

• اعتراض.

4. التناسب في النظم المعنوي والتركيبي للآيات ويشمل:

التّناسب في الألفاظ والمعاني.

التّناسب في الصياغة والبناء.

التّناسب في التقديم والتأخير.

التّناسب في التعريف والتنكير.

التّناسب في الحذف والذكر.

.5 التّناسب في التصوير والتناسق الفني ويتناول:

• تناسب هيئة التشبيه.

• تناسب هيئة الاستعارة.

• تناسب الأضداد.

• تناسب التقابل.

• تناسب الفواصل.

• تناسب التكرار. (1)

ص: 139


1- العبيدي، زهراء خالد: بين علم المناسبة والتفسير الموضوعي للقرآن: دراسة منهجية مقارنة، المجلة العالمية لبحوث القرآن (مجلة علمية إلكترونية محكمة تعنى بنشر البحوث القرآنية، تصدر عن مركز بحوث القرآن جامعة مالايا، العدم 2، 2012 ، صص 77- 84.

نظرية التناسب بين الآيات والسور:

رأي «نويفرت» في نظريّة التناسب: تعتبر أنّ المشكلة هي في تقديس الترتيب الموجود في المصحف الفعلي (العثماني) ففي المقال (1) لوحت أنجليكا إلى شبهةٍ مفادها أنّ تقديس ترتيب وتأليف السور واعتباره وحيانيًّا ورسميًا جعل من المسألة مشكلة. فمن جهة يعتبر المسلمون السّورة وحدة وكتلة وترنيمة دينيّة بينما من جهة أخرى تتضمّن أمورًا متفاوتةً بحيث يجعل من الصّعب الإقرار بأنّها كتلةٌ واحدةٌ، فمن المستصعب اعتبارها واحدةً لعدم وجود الرّابط الواضح بين المواضيع، تفتقد التواصل فيما بينها. لكنّها تقرّ بأنّ هذا من مواصفات السّور المدنيّة

الطوال فحسب.

وفي النتيجة ترى كون تقسيم السّور بالنحو المشهور غير ذي فائدة، ولا يعني شيئًا، فهو ليس تقسيماً موضوعيًا. فهي بهذا تلمّح إلى أنّ المشكلة تكمن في تقديس الترتيب والتقسيم المتعارف للقرآن واعتبار كلّ سورةٍ وحدةً غير متعدّدةٍ. وأنّ الدراسات الحديثة ركّزت على مشكلة ترتيبه وتقديس هذا الترتيب.

لكنّها في ذات الوقت تقول: «... رغم ذلك فإنّ بنيته الكليّة ووزنه وأهمّيته الاجتماعيّة وكتلته المعياريّة وما استبطنه من أيديولوجيّة لتحديد الهويّة الاجتماعيّة تفوّقت على بنيته المجهريّة المتنوّعة التي تعود إلى تطوّره خارجًا عن التّواصل الدّيني والتي يحومها الإبهام...» (2).

وتقول كذلك: «حتّى الآن حصل تقدّم قاطع بالنسبة إلى الترتيب العثماني فيما يتعلّق ببنيته، برّزت التطوّرات المشكلة ويخصّ بالذكر الجامع والقاسم المشترك لتصنيف العناصر الفاقدة للرابطة وأحيانًا غير المؤطّرة، نظريًّا تواصلات معزولة، هكذا مواصفات السّور المدنيّة الطوال... هذا مع أنّ البنية المتعدّدة المواضيع وتقنيات الحفظ وقطع معقّدة تشمل السّور الصغار والمتوسّطة نتجت في أكثر

ص: 140


1- Neuwrith, Form and structure of the Quran, E.Q. vol.2, pp., 246 - 247
2- Ibid, pp., 246

الموارد المتعدّدة الخواص والمجموعات المؤلّفة حقيقة، وهي لا تبقى دون نتيجة...

فتارة تجتمع هذه العناصر وتتجانس لتشكّل كتلةً متلاصقةً ومتقاربةً، لكن في نفس المصحف هناك كتلة صنّفت ودوّنت كسورةٍ ذات محتوى ومكوّن غير مترابط من وجهة نظر أدبيّة... وفي النهاية يفقدها ككتلةٍ أدبيةٍ واحدةٍ تواكب رسائلها وخطاباتها وتعكس كلّ واحدة من مراحل التّواصل... وعكس ذلك، أحيانًا تكون هناك أجزاء للنصّ تقع في درجةٍ واحدةٍ وغير متسلسلةٍ انتخبت بشكلٍ اعتباطيٍّ، وبذلك تكون بعض المقاطع مفكّكةً عمليًّا ومسلوبةَ التّرابط، بحيث تفقد وحدات النّصّ معانيها الحقيقية، وقد تستعمل للتكرار فحسب» (1). وفي تعليلها للترتيب الفعلي للقرآن ترى الضغوط السياسيّة والاستعجال في الجمع هو الذي جعل الترتيب الفعلي غير مترابطٍ (2).

مناقشة: هنا وفي سياق النّقاش لما طرحته، يردُ أنّ من وجهة نظر المسلمين الذين يعتبرون أنّه من الخصائص التي انفرد بها النّظم القرآني عن غيره من النّظم تناسب آیاته وسوره، وكونه وحدةً موضوعيّةً جامعةً لأهدافه ومقاصده، ومن يتدبّر خصائص هذا النّظم يبحث عن سرّ ترابط الآية بالآية والسّورة بالسّورة ضمن علمٍ من علوم القرآن الكريم وهو (علم المناسبة)، الذي يوقفنا على بيان الصّلات بين الآيات بعضها ببعض، وبين السّور جميعًا.

فعلم المناسبة إذًا من العلوم القرآنيّة التي تعني لغةً واصطلاحًا «الرّابطة بين شيئين بأيّ وجهٍ من الوجوه في كتاب الله تعالى، وتعني ارتباط السّورة بما قبلها وما بعدها، وفي الآيات تعني وجه الارتباط في كلّ آية بما قبلها وما بعدها» (3).

وقد اختلف العلماء في علم المناسبة بين الآيات والسور، ومن بين هذه الاتّجاهات الاتّجاه الذي يقول بالمناسبة ويمثّل جمهور الذين بحثوا في هذا الموضوع، وهم

ص: 141


1- Neuwrith, Form and structure of the Quran, E.Q. vol.2, pp., -248247
2- Ibid, pp., 247
3- البقاعي، إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور لاط، القاهرة، دار الكتاب الإسلامي، 1984، ج 1، ص 6.

يرون أنّ هذا العلم قد خفي على كثيرٍ من المفسرين لدقّته، يقول الفخر الرازي في تفسيره: «أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والرّوابط» (1). وقال الرازي أيضًا: «علم» المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وهو أمر معقول، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول» (2).

قال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: «ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متّسقة المعاني منتظمة المباني - علم عظيم لم يتعرّض له إلّا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ، ثم فتح الله لنا فيه، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه» (3).

وهذا القول هو الذي درج عليه أكثر المفسّرين قديمًا وحديثًا، فمنهم المقلّ ومنهم المكثر، ومنهم المصرّح بالمناسبة ومنهم الذّاكر لمضمونها من غير تصريح. وقد قسّموا البحث فيها إلى أقسامٍ مختلفةٍ ووجوهٍ متعدّدةٍ، فذكروا المناسبة بين اسم السّورة وموضوعها، والمناسبة بين آياتها، والمناسبة بين الآية وفاصلتها، والمناسبة بين فاتحة السّورة وخاتمتها - كلّ ذلك في إطار السّورة الواحدة، وذكروا أيضًا المناسبات بين السّور المتعدّدة فجعلوها أقسامًا؛ منها: المناسبة بين فاتحة السّورة وفاتحة ما قبلها، والمناسبة بين فاتحة السّورة وخاتمة ما قبلها، والمناسبة بين مضمون السّورة ومضمون ما قبلها، والمناسبة بين خاتمة السّورة وفاتحة ما قبلها، والمناسبة بين خاتمة السّورة وخاتمة ما قبلها.

وهناك من يقول بأكثر من المناسبة أنّه ب_ (النظام) الذي تعتبر المناسبة جزءًا من أجزائه وفرعًا من فروعه، ويمثّل هذا الاتّجاه عبد الحميد الفراهي الهندي، وقد تقدّم الكلام حول منهج الفراهي.

يقول الفراهي في معرض بيان الفرق بين المناسبة والنظام: «قد صنّف بعض

ص: 142


1- الفخر الرازي، ابو عبد الله محمد بن عمر: مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1420 ه_.ق، ج 10 ، ص 140.
2- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج1، ص 35.
3- م.ن، ج 1، ص 36.

العلماء في تناسب الآي والسّور وأما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنّما هو جزءٌ من النّظام فإنّ التّناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئًا واحدًا مستقلًّا بنفسه، وطالب التّناسب ربما يقنع بمناسبةٍ ما وربّما يغفل عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام فيصير شيئًا واحدًا، وربّما يطلب المناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتّصالها، فإنّ الآية التالية ربما تكون متّصلةً بالتي قبلها على بعد منها ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب فأنكروه، فإنّ عدم الاتّصال بين آياتٍ متجاورةٍ يوجد كثيرًا، ومنها ما ترى فيه اقتضابًا بيّنًا وذلك إذا كانت الآية أو جملة من الآيات متّصلة بالتي على بعد منها، وبالجملة فمردانا بالنّظام أن تكون السورة كلامًا واحدًا ثم تكون ذات مناسبةٍ بالسّورة السّابقة واللّاحقة أو بالتي قبلها أو بعدها على بعد ما، كما قدّمنا في نظم الآيات بعضها مع بعض، فكما أنّ الآيات ربما تكون معترضةً، فكذلك ربما تكون السّور معترضةً. وعلى هذا الأصل ترى القرآن كلّه كلامًا واحدًا ذا مناسبةٍ وترتيبٍ أجزائه من الأوّل إلى الآخر. فتبيّن مما تقدّم أنّ النّظام شيءٌ زائدٌ على المناسبة وترتيب الأجزاء» (1).

ويوضح الفراهي هذه الفكرة في كتابه الذي ألّفه لهذا الغرض والمسمّى (دلائل النّظام) حيث يثبت أنّ للترتيب والنّظام حظًّا وافرًا في كلّ مركبٍ لا سيّما في الكلام البليغ ولا سيّما في هذا القرآن الكريم، والذين يزعمون خلاف ذلك فإنّهم قد أخطأوا في زعمهم ولم ينصفوا كتاب الله .

ثم صرّح بعد ذلك بأنّ القرآن الحكيم كلامٌ منظمٌ ومرتّبٌ من أوّله إلى آخره على غاية حسن النّظم والتّرتيب وليس فيه شيءٌ من الاقتضاب لا في آياته ولا في سوره، بل آياته مرتبّةٌ في كلّ سورةٍ كالفصوص في الخواتم، وسوره منظّمة في سلكٍ واحدٍ كالدرر في القلائد، حتى لو قُدّم ما أُخّر أو أُخر ما قُدّم لبطل النّظام، وفسدت بلاغة الكلام بل ربما يعود إلى قريب من الهذيان.

[1]

ص: 143


1- الفراهي، عبد الحميد: دلائل النظام، ط 1، الهند، الدائرة الحميدية بالهند، 1388ه_، ص 75.

السّؤال المهم بغضّ النّظر عن النتائج التي توصّلت إليها نويفرت، لماذا الكاتبة لم تتعرّض لأيّ بحثٍ أو فكرةٍ حول نظريّة هيئة تأليف القرآن عند علماء المسلمين أو نظرية النظام واكتفت بعرض رأيها اعتمادًا على التقسيمات التي اعتمدها نولدكه للسّور القرآنيّة. وهي بهذا لم تقدّم أيّ دليلٍ على أنّ السّور هي أمور متناثرة أو ليست كتلة واحدة، ولم تتعرّض لأيّ من النّظريات الأخرى في هذا المجال، في الوقت الذي توجد فيه دراسات متعدّدة عند المسلمين في مجال تقديم نظريّة الوحدة الموضوعيّة أو النّسقيّة أو البنائيّة أو غير ذلك من الآراء لتبيّن أنّ السّورة القرآنيّة أشبة بكتلةٍ واحدةٍ.

والعبرة ليست في تقديس الترتيب الموجود فعلًا في المصحف، بل في وجود تناسقٍ و تناسبٍ بين الآيات، أي بين بداية السورة ونهايتها ووسطها وبين الآيات أنفسها، فلا بدّ من توجيه النّقد إلى ذلك فعلًا، فمع وجود ذلك يمكن قبول فكرة أنّ السّورة ليست وحدةً متكاملةً.

هذا مع الإشارة إلى أنّ الاهتمام بالوحدة الموضوعيّة للسّورة القرآنيّة من الأبحاث التي أهتم بها القدماء و المعاصرين أيضًا، وكان على الكاتبة أن تطّلع على هذه الأمور وفي حال رفضها لكلّ هذه الدّراسات المتقدّمة والمتأخّرة يحقّ لها طرح نظريّتها في هذا البحث، أما أن تأتي وتطرح ما يحلو لها من دون الاطّلاع والدّراسة الكافية، واعتبار أنّ هذا طرح علميُّ وعلينا التسليم بروحيّتها العلميّة ففي الحقيقة هذا خروجٌ عن إطار وروح البحث العلمي.

فمن القدماء الذين اهتمّوا بهذا النحو من البحث الزمخشري، الفخر الرازي، والشاطبي، وغيرهم، ويعتبر من أبرزهم في هذا المجال برهان الدين البقاعي في تفسيره «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور»، وكتاب «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور»، وفيه يقول البقاعي: «إن من عرف المراد من اسم السورة عرف مقصودها ومن حقق المقصود منها عرف تناسب آيها وقصصها وجميع أجزائها ... فإن كلّ سورة لها مقصد واحد يدار عليه أوّلها وآخرها ويستدلّ عليه

ص: 144

فيها، فترتّب المقدّمات الدّالة عليه على أكمل وجه وأبدع منهج، وإذا كان فيها شيء يحتاج دليلًا استدلّ عليه وهكذا في دليل الدليل وهلم جرا» (1).

يقول الشاطبي في بيان الوحدة الموضوعية في سورة البقرة: «فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النّظم (2)، واحتوت على أنواعٍ من الكلام بحسب ما بثّ فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكّد والمتمّم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال، وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك» (3).

أما في العصر الحديث ممن اعتنوا بهذا النّحو من التفسير الأستاذ سعيد حوى في كتابه «الأساس في التفسير»، وسيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن»، وغيرهما. وتعتبر من أهم الدّراسات في هذا المجال هي دراسة الدكتور محمود البستاني «المنهج البنائي» و «عمارة السورة القرآنية». وأهمية هذه الدّراسة الأخيرة أنّها تبحث عن قوانين تحدّد الأساس الموضوعي الذي يقوم عليه بناء السّورة القرآنيّة من خلال القرآن الكريم كلّه.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ فكرة التفسير الموضوعي للسّورة تستند إلى عددٍ من المفاهيم الجوهريّة التي تشكّل جوهر هذا النّوع التفسيري وغايته، وتحدّد مجاله وموضوعه. والتي لا مجال للتعرض لها في هذه المقالة.

النقطة الثانية: القافية القرآنيّة.

رأي نويفرت في القافية القرآنية: تؤكد «نويفرت» في العديد من دراساتها على أهميّة الإيقاع (القافية) لأيّ دراسةٍ بنيويّةٍ للسّور القرآنيّة. وسبب اختيار مصطلح القافية ينسجم مع النّظرة الشّاعريّة والأدبيّة للنّصّ القرآني.

ص: 145


1- البقاعي، مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، م.س، ج 1، ص 149 - 150.
2- انظر: تفصيل ذلك في: «النبأ العظيم» ص 163 إلى آخر الكتاب، و «النظم في سورة البقرة» لحسين الدراويش، أطروحة دكتوراه عن قسم الآداب في الجامعة الأردنية.
3- الشاطبي، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي (المتوفى 790ه_): الموافقات، ج4، ص268.

فهي تعتبر أنّ هناك سمات شعريّة في النّصّ القرآني، وإلى الأساليب الشّعريّة السّابقة للإسلام والتي تلقي الضوء على سمات قرآنيّة بعينها. وتشير (نويفرت) إلى الرّبط بين فكرة (الأمم الخالية) في القرآن و(الأطلال) في القصيدة الشّعريّة. كما أنّها تلفت الانتباه إلى غير ذلك من الأمثلة، مثل: مقارنة معارضة النبيّ في السورة (17-22 الإسراء)، مع صورة شخصيّة اللائم - في الشعر الجاهلي - الذي ينتقد البطل / الصعلوك على المخاطرة من منظور عملي (1).

ولا بدّ من التنويه أنّ «نويفرت» تشير إلى عدم الدّقّة في التصنيفات المبكرة للقافية القرآنيّة استنادًا للمقطع الأخير فقط من كلّ آيةٍ، وتلاحظ أنّ الأنماط التي تأتي معًا، وبالتالي تتّفق في القافية في السّور المكّيّة المتوسّطة لا تأتي مقترنةً في السّور المكّيّة المبكرة وبالتالي لا تتّفق في القافية.

ويمكن تفصيل الموضوع على الشكل الآتي:

1. السور المكيّة الأولى:

ترى فيها شذوذاً مفاجئًا في السلسلة الإيقاعية (القوافي) يتزامن مع تغيّر بسيط في الموضوع. فهي تقترح على سبيل المثال وحدات فرعيّة موضوعية دقيقة عند الآيات [8-9، 10] من سورة المعارج. «يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجَبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَنثَلُ حَمِيدُ جَمِيمًا».

وكذلك في سورة الطور [9-10 ، 11- 12، 13، 14-16].

«يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءِ مَوْرًا (9) وَنَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلُ يَوْمَيذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوضِ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرُ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبصِرُونَ (15) أَصْلَوهَا فَأَصْبَرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تَجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16).

ص: 146


1- انظر: نویفرت، أنجيليكا: النصّ المقدّس، الشعر، وصناعة المجتمع قراءة القرآن كنصٍّ أدبي، ترجمة أمينة أبو بكر، مركز تفسير للدراسات القرانية.

أما التحوّل العابر في النظام الإيقاعي فيدلّ بالنسبة لها على قرب نهاية وحدة موضوعية.

.2 السور المكية المتوسطة:

ترى أنّ التّغيّرات في النّظام الإيقاعي السّائد يمكن أن يتزامن أو يأتي قريبًا من الفواصل الموضوعيّة. ومثال على السّور المكيّة المتوسّطة [31 و 32] من سورة عبس: «وَفَكِهَةٌ وَأَنَّاً (31) مَنَعًا لَكُمْ وَلأَنْعَمكُم».

3. السور المكية المتأخرة:

وكمثال عليه [5 و 6] من سورة الرعد: «وَإِن تعجب فعجب قَوْهُمْ أَءِ ذَا كُنَّا تُرَبًا أَعِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَبِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَهِمْ وَأَوْلَبِكَ الْأَعْلَلُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأَوْلَيْكَ أصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثلتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذو مَغْفِرَةِ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ».

ويورد بعض الباحثين على هذا التفصيل الذي أوردته «نویفرت» هو وجود الفواصل الموضوعيّة بشكلٍ يفوق مواضع التّحوّلات في القافية التي حدّدتها، ولأنّ تعريفها لما يشكّل تغييرًا في نظام القافية يعتمد في الأساس على القافية السّائدة، وهذه الشذوذات العابرة في القافية في سور المرحلة المكيّة المتوسطة في تقديرها مجردة من أيّ أهميّة بنيويّة.

وتصوغ «نويفرت» نظامها الخاصّ في التّحقّق من وجود الإيقاع القرآني استنادًا إلى ثلاثة معايير وهي:

1. النبرة.

2. الوزن.

3. النمط الصوتي.

ص: 147

للمقاطع الثلاثة الأخيرة في كلمة الروي، مع مراعاة المقطع الأخير في كلمة الروي هل هو مقطع مفتوح أم مغلق.

كما تسير نويفرت على منهج نولدكه في التمييز بين كلمات الروي على أساس التأثير المسجوع للجذر الأخير، وترى أنّ غالبيّة السّور المكّيّة التي نزلت في المرحلة الأولى أو المتوسّطة تفضّل نمطًا سائدًا أو حتى حصريًّا للصائت إما أن تكون انفجاريّةً أو احتكاكيّةً أو شبه متحرّكةٍ أو شبه متحرّكةٍ في الموضع الأخير ولا تتبع نمطًا عشوائيًا إلا في مواضع نادرة جدًا.

وتستعمل نويفرت مصطلحين متقابلين لنولدكه وهما: (تغيير القافية) و(تنوع القافية) لوصف نوعين من التحوّل الصّوتي.(1)

4. الاعتبارات الإيقاعيّة (القوافي) في بنية السورة:

وبعد عرض رأي نويفرت في هذا المجال نتعرّف على رأي علماء المسلمين في مصطلح القافية الذي تطلقه نويفرت على نهاية الآيات؛ ليتّضح بشكلٍ جليٍّ أنّها لم تبحث هذه القضيّة على ضوء ما يطرحه علماء المسلمين، واستندت على تحقيقات المستشرقين، وهذا غاية اللّا موضوعيّة في البحث.

يطلق علماء المسلمين على نهاية الآيات مصطلح الفاصلة القرآنيّة (2). وترد الفاصلة في القرآن الكريم على وجهين: أحدهما على الحروف المتجانسة، والآخر على الحروف المتقاربة.

فالحروف المتجانسة كقوله تعالى : «طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى» (3).

ص: 148


1- انظر: کلار، ماریانا، مقاربات (نقد - نصيّة) لبنية السورة القرآنية، م. س، ص 52 وما بعدها.
2- من الدراسات المهمة حول الفاصلة القرآنية: أبو حسان، محمود: «الدلالات المعنوية لفواصل الآيات القرآنية»، ط1، دار الفتح للدراسات، 2010م.
3- سورة طه الآيات : 1-3.

وأما الحروف المتقاربة فكالميم من النون، كقوله تعالى: «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» (1) او كالدال من الباء، نحو (ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجَبُواْ أَن جَاءَهُم مُنذِرُ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَفِرُونَ هَذَا شَيْءٍ عَجيب» (2) وإنما حسن في الفواصل الحروف المتقاربة؛ لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع، لما فيه من البلاغة، وحسن العبارة (3).

ولقد رفض كثير من العلماء أنّ يطلق وصف السّجع على الفاصلة القرآنية، يقول أبو بكر الباقلاني: «إنّه يوجد في القرآن كلامٌ على معنى السّجع، وليس المراد السجع، لأنّ معاني القرآن لا ترتبط بمواضع عقد السجع، فخرج بذلك أن يكون سجعا» (4).

وجاء في كتاب «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن»: أنّ «الفواصل حروف متشاكلةٌ في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني» والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة فى الدلالة». (5)

وإذا كان علماء الإسلام يرفضون إطلاق كلمة سجع على الفاصلة القرآنية، ويرفضون رفضًا باتًا إطلاق كلمة القافية على الفاصلة أيضًا؛ لأنّ القافية تشكّل عنصرًا هامًا في الشّعر العربي، بل بها يتقوّم الشّعر، ويتميّز عن بقيّة الأجناس الأدبيّة الأخرى، وبما أنّ القرآن في لغته يباين الشّعر في معناه ومبناه، فقد رفض علماء الإسلام إطلاق القافية على الفاصلة القرآنيّة. ويوضّح ابن خلدون سبب هذا الرّفض بقوله: «وأما القرآن وإن كان من النثور إلا أنّه خارج عن الوصفين (أي

ص: 149


1- سورة الفاتحة، الآيتان: 3-4 .
2- سورة ق، الآيتان: 1-2.
3- الرماني والخطابي والجرجاني: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، حققها وعلق عليها: محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام، صص 90 91.
4- الباقلاني، أبو بكر: نكت الانتصار لنقل القرآن، دراسة وتحقيق : محمد زغلول سلام، ص 50.
5- الرماني والخطابي والجرجاني، م. س، صص 89-90.

السجع والمرسل)، وليس يسمّى مرسلًا مطلقًا ولا مسجعًا، بل تفصيل آيات تنتهي إلى مقاطع يشهد الذّوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثني من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية» (1). ويتّضح لنا من هذا كلّه، أنّ القرآن، فعلًا، جنسٌ متفرّدٌ في أدبه ولغته وأسلوبه، ونظمه، وخارجٌ عن قواعد الشّعر العربي وقيوده.

الثالثة: القسم في القرآن:

تقوم نويفرت بتحليل سلسلة الأقْسَام (جمع قَسَم) في مفتتح كثير من السّور المكيّة، والتي تربط بين الأفكار التي استحضرتها الأقسَام وبين الأفكار المقدّمة في هياكل وبُنى تلك السّور.

تشير أنجليكا إلى ظاهرة القسم في القرآن وبعد ما تذكر إحصائيات عن الأقسام في القرآن والسور التي وردت فيها الأقسام، توحي إلى انعدام التّرابط بين القسم وفحوى ما أقسم به وعلاقته بالسّورة بنحوٍ مجملٍ، حيث تقول:

من ثلاثة وأربعين سورة عزاها نولدكه إلى الحقبة الأولى من مكّة تصدّر القسم سبعة عشرة واحدة منها، وفي ثمانية منها ظهر القسم وسط السورة.

يمكن الفصل بين نوعين من القسم، أوّلهما المتصدّر بواو القسم، وثانيهما المتصدّر بعبارة (لا أقسم)، والأوّل تكرّر ثمانية عشرة مرة، خمسة عشر مرة منها متصدرًا السّورة وثلاثة مرّات ضمن السّورة. والثاني تصدّر سورتين وخمس مرات ضمن السّورة.

لم تُناقش الأهميّة العمليّة لما تتصدّر به السّور في مجمل انشائها على أيٍّ من المستويات المنهجيّة. حتّى الآن البحوث في مجال بدايات السور ومقدّماتها أنتجت فرضيات بعيدة المنال حول نوعية نبوّة محمد، كالتي تقول بأنّ السور الأوائل

[1]

10.

ص: 150


1- ابن خلدون: المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، ج 3، ص 1296.

تكشف عن علاقة قريبة عمّا كان يتفوّه به الكهنة قبل الإسلام، وقد تعتبر الشاهد الأكثر وثوقًا على كلام الكاهن نفسه (1).

ثمّ تقول بإمكانيّة تصنيف القسم إلى ثلاثة أصناف هي:

.أ. الصنف الذي يكون على وزن (والفاعلات) (37: 3-1 و51: 4-1 و 77: 4-1و 79: 1-5 و 6-14 و 100: 1-5) وهذا الصنف من القسم لم يصرح القرآن فيه بمرجع القسم وبما أقسم به لكنّه تضمّن معنى الحركة لما أقسم به.

وهنا تشير إلى مسألة تعزوها للمسلمين والغربيين معًا، حيث تقول: وقد عدّ هذا القسم من الموارد التي يصعب حلّها من قبل المفسرين المسلمين وكذا علماء الغرب.

وقد عرض القرآن هنا لغة كنائيّة تختلف عمّا أثرناه في باقي النصّ القرآني. جيء بها لأن تعرف كونها مبهمةً عمليًّا، ليس كثيرًا بسبب ما تضمّنت من بعض الابهامات اللغوية والنّحويّة، بل بسبب الصعوبة المبدئيّة الأكثر، أي أنّ التصريح بها يعدّ نوع تدنيسٍ في مثل الحصن التي في طريقها إلى الهجوم، أو كونها مخالفة لفحوى السورة كوثيقة لحديث ديني في مثل السحب المليئة بالمطر؟

ب. مجموعة الأقسام التي تشير إلى المواقع والأماكن المقدسة وعظمة الخلق مثل: (52: 1-6، 90: 1-3، 95 1-3) الأماكن المذكورة تعود إلى تجلٍّ إلهي محدّد، ولذلك توظّف كرمزٍ وإرشادٍ إلهيٍّ مكّة من الأماكن التي يتحدّث عنها القرآن باستمرار، فقد تطرح لوحدها كما في السورة 90 ، وقد تطرح مقترنة بطور سيناء كموقعٍ ثانٍ، كما في السورة 52 و 95.

وتحكم على هذا الصنف من القسم بقولها: وفي جميع موارد القسم الثلاثة

ص: 151


1- Neuwrith, Form and structure of the Quran, E.Q. vol.2, p 255

المذكورة تفتقد العلاقة الدّلاليّة المباشريّة بين صيغة القسم والفقرة اللّاحقة لها. ويتأخّر حلّ اللغز ولا ينكشف إلّا في نهاية السّورة وتجلّي الإله، كالتّواصل الرّباني الذي يوجب تقديم الأداء يوم الحساب.

ج. مجموعة الأقسام التي تعود إلى الظواهر الكونيّة والأوقات والأزمنة العباديّة في الليل والنهار، ونجدها في بدايات عدد من السور (85 1-3، 86: 1-3، 89: 1-4 91: 1-7، 92: 1-3، 93: 1-2) كما نشاهدها ضمن سورتين: (51: 7-9، 86: 11-12).

ثمّ تشير إلى صنف آخر من القسم وتقول: وفي سورٍ لاحقةٍ تطوّر القسم وأصبح واضح الفحوى مباشرة دون التعليق على نهاية السورة أو ما شابه، ولا نجد لغوًا فيه، لكنّه تحوّل من فاعلي توظيفي إلى جمال وحلية تستفاد لرفع المستوى الجمالي للنصّ، وذلك مثل الموارد التالية: (38: 1 و 43: 2 و 44: 2 و 50: 1 و 68: 1) (1).

ص: 152


1- Neuwrith, Form and structure of the Quran, E.Q. vol.2, p 256- 257.

المصادر و المراجع

القرآن الکریم

1. أنجليكا نويفرت: القرآن بوصفه نصًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، ترجمة بدري الحاكيمي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

2. بوطیب، رشید: «آنجيليكا نويفيرت والقرآن الكريم ... آفاق القراءة وحدودها»، وهي قراءة في كتابها: القرآن بوصفه نصاً من العصور الكلاسيكية المتأخرة: قراءة أوروبية. https://ar.qantara.de/

3. السيوطي، جلال الدين: الإتقان في علوم القرآن، ط 1، بيروت، دار الكتاب العربي، 1424ه_.ق /2003م.

4. ابن هشام السيرة النبوية، ط ا، لام، المطبعة الخيرية، 1329ه_.

5. اسکندرلو، محمد جواد: تاريخ الآيات والسور القرآنية في دراسات المستشرقين (نقد وتحليل)، مجلة دراسات إستشراقية، عدد 3، السنة الثانية - شتاء 2015 م/ 1436 ه_.

6. الزركشي، محمد بن عبد الله: البرهان في علوم القرآن، بيروت، دار إحياء الكتب العربیة، 1376 ه_.

7. العبيدي، زهراء خالد: بين علم المناسبة والتفسير الموضوعي للقرآن: دراسة منهجية مقارنة، المجلة العالمية لبحوث القرآن (مجلة علمية إلكترونية محكمة تعنى بنشر البحوث القرآنية، تصدر عن مركز بحوث القرآن جامعة مالایا، العدد 2، 2012.

8. البقاعي، إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر: نظم الدرر في تناسب الآيات ،والسور ،لاط القاهرة، دار الكتاب الإسلامي، 1984

9. الفراهي، عبد الحميد: دلائل النظام، ط1، الهند، الدائرة الحميدية بالهند، 1388ه_.

ص: 153

10. القط، طارق: هل يعد القرآن جزءًا من العصور القديمة المتأخرة لأوربا؟ قراءة في الاستشراق الإلماني، مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، مجلد 35، العدد 2، 1439 ه_، جامعة قطر.

11. محمد أبو موسى، محمد: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، ط2، مصر، مكتبة وهبة، 1988.

12. سيّد عبد الرازق، سيّد: المنهج الإسلامي في النقد الأدبي، ط1، بيروت، دار الفكر المعاصر، 2002م.

13. لورافيشيا، فاغليري: دفاع عن الإسلام، ترجمة: منير البعلبكي، لا ط، بيروت، دار العلم، 1963.

14. مجلة الدراسات القرآنية، المجلد الخامس، عدد 1، عام 2003م.

15. زراقط، عبد المجيد: النقد الأدبي ... مفهومه ومساره التّاريخي ومناهجه، العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440ه_.

16. كلار، ماريانا: مقاربات (نقد - نصيّة) لبنية السورة القرآنية: الجمع بين القراءتين التزامنية والتعاقبية لسورة البقرة، ترجمة: حسام صبري، ومحمود نجاح.

المصادر الأجنبية:

1. Neuwrith, Form and structure..., E.Q. vol.2

2. Two Views of History and Human Future: Qur'anic and Biblical Renderings of Divine Promises Journal of Quranic studies, vol. 5, issue 1, 2005

ص: 154

لغة القرآن وأسلوبه في موسوعة القرآن (ليدن) عرضًا ونقدًا

اشارة

د. عبد الرحمن أبو المجد (1)

المقدّمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله ومن ولاه، وبعد:

ما من شكّ أنّ كلّ من يُطالع موسوعة القرآن (ليدن)، يلاحظ فيها أخطاءً، عظيمةً، ولا سيّما المتخصّصون الذين يفحصون ويدقّقون. ونشكر إدارة المؤتمر التي انتبهت لهذه الموسوعة، وخصّصت لها مؤتمرًا، يتناول عرض ونقد جلّ ما جاء فيها من أخطاءٍ يجب مواجهتها، خاصّة أنّ الموسوعة شهيرةٌ ، ويُقبل عليها الباحثون الغربيون والمستعربون ودارسو الدّراسات القرآنيّة بثقة، وأوجدت الموسوعة لنفسها مكانةً ونالت شعبيّةً على شبكة الإنترنت، وارتفعت نسبة زيارتها ارتفاعًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، والأمر - والحال كما وصفنا - يحتّم علينا دراستها وفحصها، ببحوثٍ علميّةٍ موضوعيّةٍ رصينةٍ؛ تقيّم نهجها وموضوعيّتها. وفي هذا البحث نتناول لغة القرآن وأسلوبه في موسوعة القرآن عرضًا ونقدًا؛ حيث كنّا نتوقّع من العنوان بأننا سنجد في المضامين شيئًا عن لغة القرآن معناها ومبناها، وكذا أساليبه التي بهرت وأعجزت أرباب الفصاحة، إلّا أنّه لم يبيّن محرّرا المادة عن هذا شيئًا، ولم نجد لغةً ولا أسلوبًا، غير أقوالٍ للمستشرقين، وجدالٍ بينهم، وتفضيلٍ لبعضهم؛ لأجل أن يحسموا الأمر في مفهومٍ عامٍ، وهو أنّ لغة القرآن لغةٌ غير أصيلةٍ، تستقي كثير من أصولها من لغات أخرى، ولا يمكن فهمها إلّا في ضوء اللّغات الأخرى، مع تفضيل فهمها بالسريانيّة، وأنّ أسلوب القرآن لا يرقَ إلى الدرجة الثانية، فضلاً عن التّطاول على فهم المفسرين وذم فهمهم، واعتبروهم يُضلّون ويُضلّلون في استيعاب القرآن؛

ص: 155


1- باحث وأستاذ في الفلسفة الإسلاميّة، كلية دار العلوم جامعة المنيا مصر..

وذلك لأنّهم لم يفهموا المقاصد السريانيّة، التي لا يمكن أن يُفهم القرآن إلَّا في ضوئها. وعلى الرّغم من مقدرتهم العلميّة لم ينجحوا في إخفاء ما في صدورهم من غلٍّ وحقدٍ وكراهيةٍ للعرب والإسلام، ففي ثنايا توضيحهم للسّياق يعملون لغة تقنع الطّالب أنّ لغة القرآن لغةٌ مرقّعةٌ ومعقّدةٌ، تعتمد على استعارة الكلمات، ويدخلها الشّذوذ أكثر من اعتمادها على القواعد، وإذا صادف وذكروا قاعدة تخصّ الأسلوب، إما أن ينالوا منه، أو يقلّلوا من أهمّيته، ويُفهم في السياق أنّهم يلمّحون على عدم جدواه، كما سنبيّن ذلك بالأمثلة، ولم أعثر على بحث ألّفه هؤلاء المستشرقين إلا وفيه أمثال هذه الضغائن تجسدت في كتاباتهم.

يذكرني ما أحدثه جيليو ولارشر من تقطيع مضلّلٍ مخلٍّ، بالنكتة الشهيرة «لماذا دائماً ما يحمل ضباط شرطة شرق فريزيا مقصًا؟ لقطع طريق المجرمين»، وهكذا قطعوا الطريق على القرّاء فلم يسمحوا لهم بقراءة لغة القرآن وأسلوبه، فضلًا عن خطئهم في ترتيب القصاصات (1)؛ حيث لم يرتبوا قصاصاتهم والتي انتزعت ليس من خارج السياق فقط، بل اختاروا التضليل في فهم القرآن، وهو أحد العوامل التي أعاقتهم في تقييم الأصوات المختلفة ولم يرتّبوها بشكلٍ صحيحٍ.

هناك العديد من وجهات النّظر حول لغة القرآن وأسلوبه (2)، فضلاً عن الآراء المتضاربة، فقد عرضوا مجموعةً متنوّعةً من المستشرقين، ومع ذلك لم يسمحوا إلّا بواحدٍ من المسلمين فقط، وهو بيكثال (ت 1935)، بريطاني اعتنق الإسلام، مقابل ثلاثة عشر مستشرقاً، ولا ننكر بأنّ هناك العديد من الأشياء الإيجابيّة التي ينبغي أن تُقال عن محاولتهم في استخدام قدرٍ من المنهجيّة المتّسقة، حرصًا على تزويد القارئ بمجموعةٍ من الآراء المتضاربة والمحيّرة حول القرآن، بحيث لا تزيده إلا حيرةً وارتباكًا، منها ما نقلاه عن المستشرق النمساوي بورجشتال (ت 1856): «أنّ القرآن ليس فقط كتاب الشّريعة الإسلاميّة، بل هو أيضًا تحفةٌ من الفنّ الشّعريّ

ص: 156


1- Abul-Majd, Abdurrahman, Review of language and style of the Qur'ān in Encyclopaedia of the Qur'an. Quranic studies journal, hasn't been published yet.
2- Claude Gilliot and Pierre Larcher, Language and Styleof the Qur'an in Encyclopaedia of the Qur'ān [EQ,]: Updated version, 1st September 2014,, (edited by Jane Dammen McAuliffe (genral editor), Claude Gilliot, William A. Graham, Wadad Kadi, Andrew Rippin, 6 vols., Leiden; Brill, 2001-2006), III, 2003, pp. 109 -35

العربيّ». إنّ تحليل بورجشتال للجانب الشّعري للقرآن معيبٌ؛ لأنّه لا يمكن وصف القرآن ببساطة بالشعر، فضلًا عن أنّ آياته لا تتماشى مع أيّ بحرٍ من بحور الشّعر، والتي ينتظم فيها إيقاع الشعر العربي. لقد فشل جيليو ولارشر في فهم أنّ القرآن ليس شعرًا، بل إنّ «القرآن ليس وزنًا شعريًا، بل آياتٌ بليغةٌ ساحرةٌ بإيقاعٍ تلقائيٍّ»، فليتهم سمحوا للقرآن بالتّحدث عن نفسه: «وَمَا عَلَّمْنَهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْهَانٌ مُّبِينٌ»، (سورة يس ، الآية 69).

وهكذا، في هذا البحث نتناول تعليقاتهم، التي تبدو مرارًا وتكرارًا قلقةً بشأن كيفيّة تأثّر استنتاجاتهم بافتراضاتهم وخلفيّاتهم، فكان ينبغي عليهما أن يقدّما الحقيقة حتى ولو اختلفت مع وجهة النّظر التي حرصوا عليها بإصرارٍ شديدٍ، ذلك لتجنّب هذا التأثير. لقد قرأتُ معظم أوراقهم، والتي انعكست بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ في الموسوعة، ويستطيع أن يؤكّد الباحث أنّ جلّ المادة كتبها جيليو، واستطاع في السّياق أن يلمّع بعض أوراقه وبحوثه، على حساب مادة المضامين، وعندما يتضمّن هذا التفكير في السّياق يمكن للقرّاء وبأنفسهم متابعة العمليّة التفسيريّة وتقييمها بسهولة، ومن المستحسن تحديد نهجهم من حيث نقد إدوارد سعيد للاستشراق، ويجب استخدام طريقة كانتويل سميث القائلة: «يجب على المرء أن يفهم الأديان والشخصيات المؤسّسة لها في ضوء كيف ينظر أتباعها إليها»، فقول سميث هذا هدف إلى كتابة عالم خارجي عن القرآن بما يتوافق مع رؤية المسلمين، هذا المبدأ ينبغي أن يكون منهجًا للدّراسات الاستشراقيّة، وينبغي أن يكون شعارًا.

سبب اختيار مادة «لغة القرآن وأسلوبه» للنقد

وقع اختيارنا لمادة «لغة القرآن وأسلوبه» لجملة أسبابٍ، لعلّ أهمّها: ما تمثله المادّة المتوقّعة من أهميّةٍ في حمل العنوان والتعبير المتوسّع لمضامين لغة القرآن وأسلوبه، فضلًا عن فحص ما كتبه «جيليو ولارشر» في مضامين هذه المادة، في سياق بحوثهما وأوراقهما، هل استمرّ نهجهما كعادته أم أن هناك تغييرًا طرأ يمكن قياسه والوقوف على أبعاد تحولاته ومحاولة تقييم المضامين، والوقوف على حقيقتها، ومعرفة مدى إيجابياتها وسلبيتها؟

ص: 157

تساؤلات البحث:

تنبيه الباحث - بفضل الله - إلى أهميّة الموضوع، وضرورة توفّر دراسة تفصيليّة تهدف إلى دراسة لغة القرآن في الموسوعة بطريقةٍ وافيةٍ؛ لهذا بدأ الباحث في قراءة مادة هذا البحث وفحصها، وفي ضوء ما سبق يمكن أن تتحدّد مشكلة البحث من خلال التّساؤلات الرئيسة التالية:

1. ما لغة القرآن وأسلوبه في موسوعة القرآن (ليدين)؟

2. ما مضامين مادة لغة القرآن وأسلوبه في هذه الموسوعة؟

3. ما مدى موضوعيتها؟

أهداف البحث:

يتطلّع البحث إلى تحقيق أهدافٍ رئيسةٍ؛ منها:

أ- تقويم الأطروحات الاستشراقيّة الواردة في مادة لغة القرآن، وبيان النّقاط الإيجابيّة والسلبيّة مضمونًا ومنهجًا.

ب- حصر جميع شبهات الاستشراق حول لغة القرآن وأسلوبه في الموسوعة.

ت- بناء منهجٍ علميٍّ في مواجهة استدلالات الاستشراق في مادة لغة القرآن وأسلوبه.

منهج البحث: المنهج الوصفيّ التّحليليّ؛ بحسبانه أفضل المناهج لطبيعة هذا البحث.

حدود البحث: يقتصر البحث على حصر شبهات الاستشراق في مادة لغة القرآن وأسلوبه ودحضها، وليته ينجح في تغطية النّقد؛ إذ إنّ الحاجة ماسّة لبحوث وبحوث.

تبويب البحث:

اشارة

يتكوّن البحث من مقدّمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة.

المقدمة: تشتمل على أهميّة البحث، وتساؤلاته، وأهدافه، ومنهجه، وحدوده، وتبويبه.

ص: 158

أوّلًا: لغة القرآن وأسلوبه نظرةً عامّة.

ثانيًا: لغة القرآن وأسلوبه بين التّفوّق والإعجاز

ثالثًا: فرضيات المستشرقين حول لغة القرآن وأسلوبه.

والخاتمة: وتشتمل على نتائج البحث، وتوصياته.

هذا، وأسأل الله «سبحانه وتعالى» التوفيق بتمامها وقبولها والنّفع بها، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

أوّلًا: لغة القرآن وأسلوبه نظرة عامة.

اشارة

كتب المادة المستشرقان الفرنسيان كلود جيليو (1) وبيير لارشر (2)، راجع الباحث الموضوع في الموسوعة طبعة 2003 ، والطبعة الحديثة 2014 بها إضافات وتحديثات، نتناول النسخة الحديثة (3) التي لا تزال في الخدمة، وبشأن منهجيّة الباحث في دحض شبهات المستشرقين، نبدأ بالرّدّ مستشهدين بما أقرّ به بعض المستشرقين بأنفسهم، وإن تعذّر ذلك، ندحض بالاستدلالات النقليّة واللغويّة؛ إذ

ص: 159


1- کلود جيليو ( 1940 Claude Gilliot-) كان أستاذا في جامعة اكس ATX قرب مرسيليا جنوب فرنسا ابتداء من 1989 إلى تقاعده 2006، أشرف على عدد من طلبة الدّراسات العليا من فرنسا والعالم الإسلامي المتخصّصين في تفسير القرآن وفي غيره، وهو في الأصل راهب بدرجة قسيس ،دومنيكاني ظل جيليو حريصًا على المؤتمرات المتخصّصة بالغرب، وحرص أيضًا على مواكبة التظاهرات الثقافية خاصة معرض القاهرة للكتاب، حيث كان ينزل ضيفًا على خلانه في معهد الرهبان الدومنيكان للأبحاث الشرقية»IDEO بمنطقة العباسية، ومجلة هذا المعهد MIDEO حافلة بمتابعاته لجديد المنشورات المتصلة بالتفسير. للمزيد موقع ملتقى أهل التفسير، عبد الرزاق بن اسماعیل هرماس. رابط المصدر : http://vb.tafsir.net/tafsir39923/.V7yA0FsrKM8 له بحوث كثيرة منها: Le Coran, production littéraire de l'Antiquité tardive ou Mahomet interprète dans le «lectionnairearbe» de la Mecque».
2- پیر لارشر، باحث فرنسي، أستاذ اللسانيات بجامعة إكس أون بروفانس مارسيليا، وباحث ومعلم في معهد الدراسات والبحوث حول العالم العربي والإسلامي (IREMAM).
3- Claude Gilliot and Pierre Larcher, Language and Style of the Qur'ān in Encyclopaedia of the Qur'ān [EQ, ], (edited by Jane Dammen McAuliffe (genral editor), Claude Gilliot, William A. Graham, Wadad Kadi, Andrew Rippin, 6 vols., Leiden; Brill, 2001 -2006), III, 2003, pp. 109 -35

تتسلسل المباحث طبقًا لترتيب المضامين، فتناول المبحث الأوّل مواقف عامّة حول لغة القرآن وأسلوبه وأطروحة إلهيّة لغة القرآن.

استعرض الباحثان اللّغة بمعنى طريقة التّحدّث، واتّهماها بأنّها غائبةٌ تمامًا في القرآن، وتعمّدا البحث عن الجذر «ل.غ.و» في القرآن؛ إذ ذُكر في خمس آياتٍ، واللّغو كلُّ ما هو مطروح من الكلام ولا يعتدّ به، بمعنى «الحوار العبثي»، وذكر (اللَّغْوِ) في (سورة المؤمنون، الآية 3)، و«الْغَوْا» في (سورة فصلت، الآية 26)، و«لَغْوًا» في (سورة مريم الآية 62) و «بِاللَّغْوِ» «أي غير المقصود» في القسم (سورة البقرة، الآية 225)، و«بِاللَّغْوِ» (سورة المائدة الآية 89). ثم عرجا على الحقل الدّلالي «للغة» عبر ثلاثة جذورٍ عربيّةٍ : ل-س-ن، والجدير بالإشارة هنا، إلى أنّ الباحثين حصرا معنى اللّغة في طريقة التّحدّث، واستدلا على ذلك من القرآن: «هذا سهل / واضح اللسان / خطاب عربي / وأنه «باللغة العربية / الكلام / اللغة العربية الصريحة الواضحة»، وهذا معنى هذه الآيات وفقًا للتفسير المتّبع في معظم الترجمات، مشكلةٌ عويصةٌ؛ لأنّ مفهوم «اللغة» باللغة العربية - كما هو الحال في اللغة الإنجليزية - متعدّد التّكافؤ يتضمّن مظاهرَ شفويّةً وكتابيّةً، وزعم الباحثان أنّ التّفاعل بين هذين المظهرين للغة في تكوين سور القرآن غير مفهوم تمامًا، وافترضا أنّ هذا الموقف يؤدّي إلى تباينٍ في التفسير وتنافرٍ لسمات معيّنة في لغة القرآن (1).

يلاحظ الحصيف بأنّ طريقة العرض مجحفةٌ؛ حيث يضيّق الباحثان معنى اللغة في القرآن ويختصرانها في اللّغو فقط، ويتوسّعان في الحديث عن اللغو مع ذكر كل الآيات التي تتحدّث عنه، ولكنّهما لم يبذلا مجهودًا لتوضيح المعاني الأخرى للّغة.

1. مواقف عامّة متنوّعة حول لغة القرآن وأسلوبه

أظهر الباحثان تباين وجهات النّظر العديدة والمتعارضة حول لغة القرآن وأسلوبه، وذلك من خلال مجموعةٍ مختارةٍ من اقتباسات العلماء المسلمين وغير المسلمين. فقد وصف بيكثال مترجم معاني القرآن - وهو بريطاني اعتنق الإسلام أنّ

ص: 160


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.110

القرآن «سيمفونيّة لا تقهر، وأصواته تثير الرجال وتحركهم إلى البكاء والنشوة»، و رأی جورج سيل، مترجم إنجليزي (غير مسلم) أنّ: «أسلوب القرآن جميلٌ وعميقٌ عمومًا وخصوصًا».

وأما الباحثان فقد اتّهما القرآن بأنّه يقلّد طريقة النّبوّة وعبارات الكتاب المقدّس إلّا أنّه مختصرٌ، وغالبًا ما يكتنف عباراته الغموض، ومزيّنة بزخرفة الذّوق الشّرقيّ، تنبض بالحيويّة وبأنماطٍ تعبيريّةٍ زاهيةٍ وعاطفيّةٍ، ولا سيّما عندما يتناول وصف جلال الله «تعالى» وصفاته؛ إذ يتناوله بسامية وروعة، واستشهدا بستينجاس الذي يرى: القرآن عملٌ يستدعي مشاعر قويّةً للغاية وإن كانت غير متوافقةٍ على ما يبدو حتى للقارئ البعيد - بعيد عن زمنه، إلّا أنّه يثير العقل - عمل لا يقتصر على التغلّب على حالة الاشمئزاز الذي تستشعره عندما تبدأ في قراءته، ولكنّه يحوّل هذا الشعور المعاكس إلى دهشة وإعجاب. وحاول جاك بيرك إيجاد حل «دبلوماسي في مواجهة اللغة والأسلوب المميزين للقرآن، حيث تحدّث عن «شكله المتشابك»، والتأثيرات السيمفونيّة والارتباطات الداخليّة»، وتظهر هذه الشهادات غير العادية صعوبة في التعبير عن حكمٍ إيجابيٍّ دائمٍ، مثل: «ليس من الضروري أن يكون المسلم حسّاسًا بالجمال الرّائع لهذا النّصّ، وقيمته العالميّة المدهشة».

ومن ناحية أخرى، لاحظ بيل أنّ العلماء الغربيين لفتوا الانتباه منذ فترةٍ طويلةٍ إلى «التجاوزات النّحويّة وانقطاع المعنى في القرآن»، وحقيقة لأنّ نولدكه باعتباره عالم الدّراسات القرآنيّة والسّامية كان مؤهّلًا بالفعل للغة القرآن: «اعتبرها لغةً مصمّمةً معظمها متوسّطة الحجم» على الرغم من أنّ أجزاءً كثيرةً من القرآن بلا شكّ لها قوّة بلاغيّة كبيرة، حتى تأثيرها على القارئ غير المسلم، إلَّا أنّ الكتاب يُعتبر نصًّا جماليًّا، وإن كان لا يَرق بأي حال إلى الدّرجة الأولى، وكتب نولدكه أيضًا في ستراسبورغ «تقريبًا أن المعنى اللغوي العربي السليم منعهم تمامًا من تقليد نقاط الضّعف والوهن في لغة القرآن».

ويرى بارث ذلك بسبب «اضطراب العلاقات» بين السور، واعتقد منغانا أنّ

ص: 161

أسلوب القرآن «يعاني من الإعاقات التي تميّز دائماً المحاولة الأولى بلغةٍ أدبيّةٍ جديدةٍ، والتي تخضع لتأثير أدب أقدم وأكثر ثباتًا»، ويرى نيكولسون المتخصّص في الأدب العربي و «الصّوفيّة»، يرى «أنّ التّرتيب الزائف للمصحف مسؤولٌ بشكلٍ رئيس عن الرأي الذي يتبنّاه النّقّاد الأوروبيون بأنّ القرآن غامضٌ ومجهدٌ وغير مهم؛ وبه مجموعة كبيرة من الروايات الطويلة التي وردت في العهد القديم والوصايا المشجعة، والتي لا تستحق أن تُذكر إذا ما قورنت بكتب العهد القديم(1)».

واستمرّ الباحثان في أسلوبهما الجائر غير المنصف والضاغط الذي يستفزّ القارىء ويعصف بذهنه، بحيث لا يسمح له بتكوين وجهة نظرٍ غير التي يقصدها جيليو، ولم ينصف الباحثان؛ إذ لم يعرضا إلا رأي مسلم واحد، ولم يتطرّقا لما قاله المستشرقون الآخرون المتحمسون، والذين اندهشوا من عمق لغة القرآن واقرّوا بذلك، بل وسّعا المجال لآراء المستشرقين التي جاءت في جملتها انطباعات تضلّل القارئ، ولا يسمحا مطلاقًا بتمرير رأيٍ كرأي كارن آرمسترونغ: «القرآن جميل جدًا، لا يمكن ترجمة جماله، وكما تفسد أصوات شكسبير بالترجمة إلى الفرنسية، كذلك «القرآن» (2). وفي ورقةٍ بحثيةٍ مثل هذه، لا يمكن دحض كل الشبهات فضلاً عن جلّها، وعليه نحاول دحض أهمّ الشبهات لعلّ الورقة تغطي وتطيق.

2. التجاوزات النّحويّة

«يلمّح الباحثان بما توهماه من أخطاءٍ نحويّةٍ في القرآن، و«اضطراب العلاقات» بين السور.. واتّهما أسلوب القرآن بأنّه «يعاني من الإعاقات»، ولا يذكرا ما ذكره ميشيل كويبرس، الذي أقرّ بالتنظيم الدّاخلي للسّور وأنّ الترتيب المصحفي ترتيبٌ صائبٌ ومترابطٌ، وترتب الجمل جنبًا إلى جنب دون التزام، بالتزامن، وقد تُربط بحرف العطف، والأمر يتعلق أيضًا ب_ «الالتفاتات»، القفز من شخص لآخر بقصد تعميق التناظر والعودة لنفس الشخص، ويمكن أن تمتد

ص: 162


1- .Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.111
2- Neal Conan, TALK OF THE NATION, npr News, Washington, November 28, 200610:00 AM ET.

في القفز من قفزة إلى أخرى دون الانتقاليّة (1). وأفضل بحث في الالتفات قدّمه محمد عبد الحليم بيّن فيه وفصّل بشكلٍ يُقارب من فصل الخطاب (2).

ولم يكتفيا بذلك، بل يضيفان يتردّد المثقّفون الغربيون الآخرون بين ردود أفعالٍ تتباين بين الاشمئزاز والجاذبيّة في قراءة القرآن، وفي هذه الفئة غوته يقولا: «القرآن يعيد نفسه من سورة إلى سورة بكلّ ألوان الفخامة والضخامة والجموح، والتكرار الذي يشكّل نصّ هذا الكتاب المقدّس، واتهم القرآن بالبغض، والدهشة والجاذبية، وفي النهاية يفرض عظمته وتبجيله، أسلوب القرآن، وفقًا لمحتوياته وهدفه، صارم، ،وفخم، ورهيب، فيه سامية حقًا (3)».

واصل محرّرا المادة بطريقةٍ تثير التبلبل واختتم برأي جوته، وثمة وقفة عند «سامية» التي جاءت في نهاية الفقرة، ما كان ينبغي تناولها فهي ليست في موضع مدح، وجاءت في ظلّ تقسيمٍ مجحفٍ لا يزال يظهر على استحياء إن تجاوزه البحث العلمي في هذا القرن، على سبيل المثال ذم نيكولاي سيناي 4(4)التقسيم «السامية وغير السامية» بأنّها من نظريات الخردة العنصريّة التي ظهرت في القرن التّاسع عشر ولا يزال يتردّد صداها في المجال الثّقافي (5).

ثم تناولا مفهومين للقرآن: الأول: إلهي يفعل في العالم الإسلامي، والمفهوم الآخر: إنساني «الأنثروبولوجي» يمثّل خارج عالم الإسلام، ويتبنّاه بعض المسلمين، وإن كانوا قلّةً (وعادة لا يعيشون في الدول الإسلاميّة)، أيضًا القرآن يحتفظ بهذا المفهوم،

ص: 163


1- د. عبد الرحمن أبو المجد، حوار ميشيل كويبرس وعبدالرحمن أبو المجد حول نظم القرآن المذهلة! 2014/12/17 ميلادي - 1436/2/24 هجري.
2- Grammatical Shift For The Rhetorical Purposes: Iltift And Related Features In The Qur'an M A S Abdel Haleem, Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 1992, Volume LV, Part 3.https:// www.islamic-awareness.org/quran/text/grammar/iltifaat
3- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'an, p.112
4- البروفيسور نيكولاي سيناي غني عن التعريف لشهرته في الدراسات القرآنية، وفاز مشروعه» التفسير «القرآني المنتظم» بمنحة مجلس الأبحاث الأوروبي (ERC) بقيمة 1,5 مليون جنيه استرليني.
5- NICOLAI SINAI, Review Essay: Going Round in CirclesJournal of Qur'anic Studies 19.2 (2017),p. 109 www.euppublishing.com/jqs

والذين يحصرونه في المفهوم الأوّل، يرون أنّ القرآن خطاب الله الأبدي، بالنسبة لأولئك الذين يحتفظون بالمفهوم الأخير، فإنّ القرآن نصُّ من شأنه أن يفكّك.

3. أطروحة لاهوتيّة لغة القرآن

يقول الباحثان «التوضيح المفهوم، يجب أوّلاً تقديم هذه الأطروحة بطريقةٍ عامةٍ ونظريّةٍ، وبإسهاب أكثر تفصيلًا لبعض النّقاط الواردة فيها، فالصياغة العامة للرسالة الإلهيّة، يقصدا ب_ «الأطروحة الإلهية»، هي الموقف الذي فرض نفسه بشكلٍ قاطعٍ في الإسلام منذ حوالي القرن الرّابع هجري / العاشر ميلادي، وكان موجودًا بالفعل منذ نهاية القرن الثاني / الثامن وبداية القرن الثالث / التاسع، وإن بدأ بمثل هذا الشّكل النّظري الرّسمي، بدأ بالتأكيد بأنّ لغة القرآن اللّغة العربيّة، لكن أيّ لغةٍ عربيةٍ؟

إجابة هذا السؤال في العقيدة الإسلاميّة؛ حيث اتّبعت طريقة القرآن في تفسير ذلك: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (سورة إبراهيم، الآية 4).

يستنتج المفسّرون من هذه الآية أنّ لغة القرآن لغة محمد صلّی الله علیه و آله وأصحابه، لیست أكثر من لهجةٍ حجازيّةٍ، وتحديدًا قريشيّةٍ، هذا التعريف الأوّل، العربيّة القرآنيّة = الحجّة، ينشأ هذا التعريف في النص القرآني وفي المفهوم الإسلامي للقرآن، كما يظهر في أعمال ابن فارس وفي القرآن نفسه، ليست لغة، لكنها الفصحى: «وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا» (سورة القصص الآية (34). ومع ذلك، توضّح هذه الآية:

1. أنّ الفصحى نوعيّة الشّخص الذي يتحدّث.

2. أنّ هناك درجاتٍ في ذلك.

3. نُقلت هذه النّوعيّة إلى اللّغة بشكلٍ مجهول الهويّة، وفي هذه الحالة من

ص: 164

خلال مواصفات (قواعد اللّغة العربيّة المتميّزة؛ هنا لسانًا يشير إلى البلاغة «بشأن» اللغة).

نجد صدًا للتركيبة القرآنيّة في التأكيد التالي لأحد علماء الرأي نقله ابن فارس...: «أنّ» قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة»، لهذا التأكيد لا يوجد مبرّر، باستثناء أنّه تعبيرٌ عقديٌّ: السّبب أنّ الله ... اختارهم وانتخبهم من بين جميع العرب واصطفاهم، ومن بينهم اختار نبيّ الرّحمة صلّی الله علیه و آله، ومرّة أخرى في كتاب النّحويّ ابن جنّي الذي تحدّث عن لغة الحجاز: «إنّها أنقى وأرقى وأصفى وأوفى من كلّ لغات العرب. صحيح، تظهر فكرةٌ ثالثةٌ، تربط الأفضليّة بالأسبقيّة أو العصور القديمة، وهو موجود بالفعل في كتاب سيبويه : «هي اللبغة الأولى والأقدم» بالطبع، يمكن أن يكون هذا الإعلان استيفاء لاحق، إنّه مؤهّل لعالم اللّغة، نظير لمفهوم «فساد اللغة» «اللغة عرضة للفساد»، وهو أمر معترف به ولكن أيضًا لإدانة التغيير اللّغويّ، الذي يحدث كحتميّةٍ تاريخيّةٍ يُنظر إلى تفوّق قريش اللّغويّ على أنّه نتيجة لمكانتها: «لذلك فإنّ لهجتها كانت اللّهجة العربية الأصح والأكثر نقاءً؛ لأنّ قريشًا كانوا بعيدين من كلّ الجوانب عن أراضي غير العرب»، لكن ابن فارس يعتبر هذا التفوّق نتاجًا لاختيار أفضل العناصر في اللّهجات العربية المختلفة، وهو الاختيار الذي أصبح مقنعًا بسبب حقيقة أنّ مكّة كانت ولا تزال مركزًا للحج (1)».

يجادل لارشر بأنّ الفصحى نوعيّة الشّخص الذي يتحدّث، ويوهم بأنّ هذه النّوعيّة نقلت إلى - اللّغة بشكلٍ مجهول الهويّة، وهذا ما يتناقض مع ما ذكره من تمیّزٍ في مواصفات قواعد اللّغة العربيّة المتميّزة. ومن خلال هذا الطرح فإنّ الباحثين يحاولان حصر البلاغة اللّغويّة في لباقة الشّخص تحديدًا لا في عمق اللّغة سعتها ورحابتها، ويجادل المحرّران بأنّ الفُصحى وصفٌ لشخصٍ، والصّواب وصفٌ لِمَا ينطق به الشّخص، فهي صفةٌ للّغة، ولا بدّ من تحقّق شروطٍ في اللّغة لتتّصف بالفصحى، وسياق البحث لا يسمح بتناولها هنا. إذًا يهاجم الباحثان الفصاحة بطريقةٍ مغرضةٍ، ويستشهدان بمغالطةٍ مكشوفةٍ، وهي فصاحة هارون وكأنّه دليلٌ

ص: 165


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.112- 113.

على ما أقرّ به القرآن، ففصاحة هارون هنا تأتي مقارنة بين لغته ولغة موسى علیه السلام فقط، وهذه حالة مقصورة عليهما فقط، لا يمكن تعميمها، لخصوصيّتها.

ثانيًا: لغة القرآن بين التفوّق والإعجاز.

اشارة

تناول الباحثان لغة القرآن وتفوّق اللّغة العربيّة، فضلًا عن امتيازها وآيات الإعجاز، تناولاها بطريقةٍ تستفزّ القارئ، ومن ناحيةٍ أخرى هاجما هذا التّفوّق والامتياز واعتبراه شوفينيّةً زائدةً.

1. لغة القرآن وأسلوبه:

اختار الباحثان بدقّةٍ الاستدلالات، ووصفاها بطريقةٍ تبلبل الفكر وتشوّشه، وتجاهلا الآراء الإيجابيّة جميعها، ومنها ما قالته _ على سبيل المثال _ كارين آرمسترونغ: «القرآن أجمل خطابٍ مذهلٍ، تعجز في نقله التّرجمة، لكنّه بالعربيّة مدهشٌ ومثيرٌ ويحقّق استجاباتٍ كبيرةً، عندما سمع المسلمون الأوائل القرآن، اعتنقوا رسالة النّبيّ صلّی الله علیه و آله لقوّة لفظه فضلًا عن عمق معناه. (1).

ويعدّ قول آرمسترونغ هذا ردًّا على ما طرحه الباحثان من أسئلةٍ ومحاكماتٍ عقليّةٍ: «هل القرآن «واضح»؟ لسان عربي؟ نظرًا لأن القرآن عبارة عن نصٍّ مرجعيٍّ ذاتيٍّ جدًا، وغالبًا ما يُقال : أنّه «وعي ذاتيّ إلى حدّ ما فيما يتعلّق بلغته»، حيث تقدّم التعليقات على لغته الخاصّة، وأسلوبه المتميّز، وربّما لترتيبه، ويدعم هذا الرأي، أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ، التأهيل القرآني الواضح على أنّه «لغةٌ / خطاب / لغة عربية واضحة».

ومع ذلك، يبدو أنّ معظم حالات ظهور «لسان» في القرآن تشير إلى «اللسان» كجهاز صوتيٍّ، مثل ما ذكر في (سورة الزمر الآية 28): «قُرْءَانَّا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»، لغةٌ عربيّةٌ، لا تتلوّى (دون تحريف)»؛ وأقحم الباحثان في السياق استدعاء موسى: «يا سيدي، أنا لستُ بليغًا، حتى الآن، ولا لأنّك تتحدّث مع عبدك،

ص: 166


1- EXCERPTS FROM THE INTERVIEW WITH KAREN ARMSTRONG https://www.pbs.org/muhammad/transcripts/armstrong.html

لكنّني بطيءٌ في الكلام، ولغتي بطيئة»، وقالا بأنّ القرآن أيضًا يروي هذه القصّة، كما يتّضح من (سورة القصص، الآية (34): «وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفَصَحُ مِنِي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِى إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذِبُونِ»، وفي (سورة طه الآية 27) حيث يقول موسى: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِسَانِي»، «وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفَصَحُ مني لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ»، عكس ما هو موجود في سفر الخروج 14:4-5: «أليس هارون أخاك؟ أعرف أنّه يستطيع التّحدّث

جيّدًا وستتحدّث معه، وتضع كلمات في فمه وسأكون مع فمك (1).

تناقضٌ بين أعجميٍّ ومبينٍ:

معظم حالات ظهور «لسان» في القرآن تشير إلى «اللسان» كجهازٍ صوتيٍّ، وهذا ادّعاءٌ مخالفٌ للحقيقة، وقد صاغه الباحثان بأسلوبٍ تغليبيٍّ، وعند حصر مادة لسان ومراجعتها في المصحف يتبيّن بأنّها: ذكرت أربع عشرة مرّة، ولم تُذكر كجهازٍ صوتيٍّ إلّا مرّتان فقط، في الآيتين الأخيرتين:

قال تعالى: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» سورة المائدة، الآية 78.

قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» سورة ابراهيم، الآية 4.

قال تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ، بَشَرٌّ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» سورة النحل، الآية 103.

قال تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيَّا» سورة مريم، الآية 50. قال تعالى: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمَا لُدّا» سورة مريم، الآية 97.

ص: 167


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, P.114

قال تعالى: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِسَانِي» سورة طه، الآية 27.

قال تعالى: «وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَرُونَ» سورة الشعراء، الآية 13.

قال تعالى: «وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» سورة الشعراء، الآية 84.

قال تعالى: «بِلِسَانٍ عَرَبيّ مُّبِينٍ» سورة الشعراء، الآية 195.

«وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ» سورة القصص الآية 34.

قال تعالى: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» سورة الدخان، الآية 58.

قال تعالى: «وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةٌ وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ» سورة الأحقاف، الآية 12.

قال تعالى: «لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» سورة القيامة، الآية 16.

قال تعالى: «وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ» سورة البلد، الآية 9.

أقحم الباحثان في السياق فصاحة هارون ووظّفاها مستشهدين بآيتين، ليؤكّدا بجدلهما بأنّ الفصاحة صفةٌ للشّخص وليست للغة، قال تعالى: «فَإِنَّمَا يَسَرْنَاهُ بِلِسَانِكَ» سورة مريم، الآية 97.

تجدر الإشارة إلى أنّ التعبير نفسه في «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ» سورة الدخان، الآية 58، ترجمه بيكثال - دون سبب واضح - في الآيتين بشكلٍ مختلفٍ، على النحو التالي: «سهل بلغتك»، يصبح هذا الموضوع بمثابة «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ من مُّدَّكِرٍ» سورة القمر، الآيات 17، 22 ، 40: «والمعنى جعلنا القرآن سهل التذكر»، ومثل هذه النّصوص» يمكن أن تدعم الفرضيّة القائلة بأنّ التلميحات اللّغويّة في القرآن ليست باللّغة العربيّة، بل مهمّة التّواصل النّبويّ» (1).

ص: 168


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.115.

يطعن الباحثان طعنةً كبيرةً، ويتحمّسان لفرية مهمّة التّواصل النّبويّ، ويقصدان بذلك أنّ لغة القرآن وأسلوبه من فعل النّبيّ صلّی الله علیه و آله، ويجعلاها في جملةٍ تقريريّةٍ، حتى يبعدان الجدال فيها، لكأنّها حقيقةٌ ثابتةٌ، ويقولان بأنّ الأسباب التي تجعل القرآن يصرّ على جودة لغته وقيمتها حالةٌ جدليّةً ودعويّةٌ، يجب طرح الحجة المتعلّقة بطابعها العربي، أوّلاً: وقبل كل شيء، فيما يتعلق بآية سورة إبراهيم، الآية 4: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ»، يمكن أن تفهم هذه الآية، من خلال التأكيد على لغة هذا الرّسول (محمد) وهذا القوم (العرب)، كإعلانٍ للطبيعة الإثنيّة لهذه المهمّة النّبويّة، ولكن أيضًا كدليلٍ إلهيٍّ على عالميّتها، تتحدّى لغة القرآن العبريّة «اللغة المقدّسة الأخرى»، وربّما أيضًا السريانيّة، أو بشكلٍ عام الآراميّة.

الأسباب التي تجعل القرآن يصرّ على جودة لغته وقيمتها حالةٌ جدليّةٌ ودعويّة، بهذه المغالطة وهذا الاختزال والتبرير يحاول الباحثان جاهدين أن يسلبا القرآن من صفته الإلهيّة، ويحاولا فهم الآية فهمًا خارج سياقها؛ لأنّ حكمها عام، ويحاول المحرّر «جيليو» - باعتباره المحرّر الرئيس - أن يخصّصه، ويقصد بالمهمّة النّبويّة مهمّة جهده في تأليف القرآن، وقد كرّرها ليؤكّد عليها، وسبق أن ذكرها في الفقرة قبل السابقة أنّ «مهمة التّواصل النّبويّ» ليُيسّر الإقناع بها، وعلى الرّغم من أنّ الآية التي استشهد بها ليس فيها تحدٍّ للعبريّة ولا لغيرها من اللّغات، إلّا أنّ جيليو أقحم التّحدّي في السّياق استفزازًا، وهاجم فهم القرآن عربيًّا، مدّعيًا أنّ فهمه بالسريانيّة أعمق وأشمل، واستدلّ بكلمة «يلحدون» قال تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌّ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ». سورة

النحل، الآية 103.

يشرح المفسّرون «يلحدون» بمعنى «مولع بالميل عن الحق (1)»، وهذا هو معنى لحد بالعربيّة، ولا يقتنع بذلك الفهم والتفسير، ويرى أنّ السّياق اللّغويّ والاجتماعيّ الذي تشير إليه هذه الآية يمكن أن يكون على الأرجح متكيّفا مع

ص: 169


1- الطباطبائي، السيد محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1417ه_، ج3، ص 11.

السريانيّة، بمعنى: « للتحدّث بغموض» أو « للتلميح إلى»، مثل الجذر العربي لغز.

ويحاول أن يؤكّد بذلك على تناقض عربيّة القرآن في قوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» سورة فصلت، الآية 44.

ولمّا رأى أنّ ذلك يتناقض مع «لسان عربيّ مبين»، والتي وردت في الآيتين، في قوله تعالى: «بِلِسَانٍ عَرَبِيٌّ مُّبِينٍ» (سورة الشعراء ، الآية 195)؛ وقوله تعالى: «لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبِى مُبِينٌ» (سورة النحل، الآية 103).

ادّعى بأنّ الحاجة ماسّةً لمزيدٍ من التفكير متعلّلًا بالتّرجمة، فترجمات العبارة أحدثت تضليلاً، من وجهة نظره، وارتباكًا في دلالات «مبين»، وخلُص إلى أنّ هناك تناقضًا بين أعجميٍّ التي وردت في آية سورة النحل، الآية 103. والتفسير العربي ل_ «مبين» أعجمي «بربري» أي غير العربي يتناقض مع اللّغة العربيّة الصّافية النّقيّة (1).

وردت «يلحدون» في القرآن الكريم ثلاث مرّات:

قال تعالى: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَابِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (سورة الأعراف، الآية 180).

قال تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» (سورة النحل، الآية 103).

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ مَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (سورة فصلت، الآية 40).

سبق الرَّدَّ على هذه الفرية وفنّدها إبراهيم عوض يلحد مأخوذة من الكلمة السريانيّة : «I'ez» بمعنى «تكلم بإبهام»، يخلط الأمور خلطًا شنيعًا، أين الدليل على أنّ كلمة «يلحد» مأخوذةٌ من السريانيّة؟

ص: 170


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.117.

إنّ الكلمتين لا تتطابقان صوتيًّا، وليس هناك دليل على أنّ العين والزاي في الكلمة السّريانيّة قد تحوّلتا إلى حاء ودال فى العربيّة، وفوق هذا فمعنى الكلمتين مختلفٌ، فالقرآن لا يريد أن يقول إنّ اتّهام المشركين للنّبيّ كان مبهمًا، بل كان منحرفًا عن الحقِّ؛ إذ يتركون الصّواب وينحرفون إلى مثل تلك الاتّهامات الكاذبة، وهذا معنى «اللحد والإلحاد» في اللغة العربيّة. وحتى لو افترضنا أنّ «ل ح د» موجودةٌ فى السّريانيّة وأنّ هذا هو معنى الكلمة فيها (1).

2. سبب اختلاف القراءات

على الرّغم من أنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرفٍ إلّا أنّ الباحثَين حاولا الطّعن في لغة قريش مدّعين بأنّه لا يوجد مجمع صوتيٌّ لطريقة تحدّث لغة قريش؛ لأنّ خطاب / كلام قريش سلسٌ، ليّنٌ، واضحٌ / متميّزٌ، وكلام العرب المتأخّرين غير حضاريّ / متوحّش، غير عادي / غامض، والنتيجة، فإنّ التَّفوّق المزعوم للّهجة الحجازيّة لا أساس له، وسبّب هذا الخيار عواقب وخيمة بين القراءات المختلفة للقرآن، وفي الواقع «لم تحتل لهجة النّبيّ صلّی الله علیه و آله أو موطنها مكانًا معيّنًا» بين القراءات القرآنيّة، ولكن بدلاً من ذلك حاول النحاة والمفسّرون الحفاظ على استقلالٍ علميٍّ معيّنٍ في هذا الصدد، لهذا السبب، انّهم بعض العلماء المسلمين المعاصرين ب_ «تشويه» القراءات القرآنيّة، على سبيل المثال الكتاب الموسوم «دفاع عن القراءات في مواجهة الطبري» كتاب أنصاري ضيفا القراءات المتواترة (2).

ولم يسبّب هذا الخيار عواقب وخيمةً بين القراءات؛ لأنّ أمر القراءات مقنّنٌ ومحسومٌ، ولو لديهما إحاطة كافية ما ذكرا هذه الفرية السّاذجة التي تدلّل على سطحيّة معرفتهم باللّهجة القريشيّة فضلاً عن القراءات، أمّا اتّهام بعض علماء المسلمين المعاصرين ب_ «تشويه» القراءات القرآنيّة، فهو:

أوّلًا: هناك عدم دقّة؛ لأنّ الكتاب ليس للأنصاريّ كما ذكر محرّرا الموسوعة،

ص: 171


1- منينة، طارق: رد على سخافات المستشرق الفرنسي كلود جيليو عن النبي الكريم والقرآن العظيم، د. إبراهيم عوض، ملتقى الانتصار للقرآن الكريم، مركز تفسير، 1437/10/24 - 2016/07/29
2- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān,, P. 117.

بل من تأليف د. لبيب السعيد «دفاع عن القراءات في مواجهة الطبري» وردّ عليه مساعد الطيّار بهدم ما ذهب إليه (1).

3. تفوّق اللّغة العربيّة وامتياز لغة القرآن:

«لم يدّخر العلماء المسلمون جهدًا في تعزيز دراسة القرآن في مختلف علومه، وحتى علماء اللّغة القدماء لم يدّخروا جهدًا في تعزيز تفوّق اللّغة العربيّة المزعوم على اللّغات الأخرى: «ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبيّ، ولكنّه لا يذهب منه شيء إلى عامتها»، تفوّق خطاب قريش وتميّزه، بناءً على الحج وقدرتهم على الاختيار الجيّد وإضافته للهجتهم: «[قال محاوره الوهمي] جاءهم القدر والجمال؛ لأنّ العرب اعتادوا القدوم إلى الحرم للحجّ والعمرة، نساء ورجالًا على حد سواء، فاختارهم بالتعيين والفكر كرامة وجمالًا، وبذلك اكتسبوا تفوّقًا لغويًا فضلًا عن الصّفات التي تميّزوا بها بشكلٍ خاصٍّ، [أجاب الفراء] قلنا: بالطريقة نفسها اعتادوا على سماع لهجات قبائل العرب؛ حتى تمكّنوا من الاختيار من بين كلّ لهجةٍ ما هو الأفضل، وأضافوه إلى كلامهم وهكذا أصبح كلامهم أنيقًا ولم يختلط به أيّ من أشكال الكلام المبتذلة.

باختصار، فإنّ قريشًا من خلال دقّتهم في اختيار ما يسمعون ويضيفون للهجتهم هذا جعلهم أكثر تميّزاً، وكانوا على استعدادٍ ليصبحوا «شعب الله المختار» في اللّغة العربيّة.

عن على العكس من ذلك، نجد الجاحظ باعتباره من علماء العقيدة ومعتزلي المذهب لم يؤكّد تفوّق لهجة قريش، بل أكّد على تفوّق الشّعر العربيّ وتفوّق العرب في كتابة الشّعر ولسان العرب متميّز، فمن المستحيل أن يُترجم الشّعر العربيّ، ولا يمكن نقله إلى لغة أخرى»؛ إذ لا يُمكن نقل ذلك عبر التّرجمة لعمق المعنى، والإيقاع، والترتيب، ولو تُرجم يدمّر كل ذلك. بالطّبع الجميع بما فيهم الجاحظ،

ص: 172


1- الطيار، مساعد: «هل أنكر ابن جرير قراءة متواترة أو ردّها ؟ » هدم ما ذهب إليه د. لبيب السعيد في كتابه. https://vb.tafsir.net/tafsir991/.Xl1aGR8zbIU

على درايةٍ بصعوبة ترجمة الشّعر، ولكن بالنّسبة لعالم العقيدة هذا، فإنّ العرب هم من لديهم شعر بمعنى الكلمة العربيّة «القصيدة » ويتّفقون على قواعده، فالغرض هو تفوق اللغة العربية كافتراض مسبق لتفوّق لغة القرآن. بالطبع، يمكننا أن نستمرّ في اقتباس كلماتٍ لعددٍ من علماء اللّغة والمفسّرين وعلماء الدّين حول تفوّق اللّغة العربية وتفوّق لغة القرآن، وهذه المسألة مستمرّة وممتدّة، استمرّت في كلّ فترات التّاريخ الإسلامي ولا تزال قضيّةً ملحّةً حتى يومنا هذا؛ لكن هذه العيّنات كافية لإلقاء نظرةٍ ثاقبةٍ عن السّمات الرئيسة لهذا الخطاب الدّعويّ (1)».

على الرّغم من أنّه تناول تفوّق اللّغة إلّا أنّه من ناحيةٍ أخرى تناول تفوّق الشّعر العربيّ الجاهليّ، وفي الوقت الذي يمكن ترجمة معاني القرآن يؤكّد على صعوبة ترجمة الشّعر العربيّ، ومن خلال تأكيده هذا يريد أن يقول بأنّ هذا الشّعر أعلى وأسمى من القرآن.

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اتّخذت من الإسلام سربالا.

4. آيات الإعجاز

يرى المتخيّل الدِّينيّ آيات الإعجاز التي ذُكرت في سورة البقرة، الآية 23؛ وسورة يونس، الآية 38؛ وسورة هود، الآية 11؛ وسورة الإسراء، الآية 88؛ سورة الطور، الآيتان 33-34؛ يرى أنّها لعبت دورًا رئيسًا في صياغة مفهوم لغة الأسرار المقدّسة، ولا تزال هذه الآيات تشكّل موضوعًا مهمًّا في علوم الانتصار للقرآن، وأفضل شرحٍ لهذه الآيات يكون في سياق الجدل مع اليهود، لا في سياق اللّغة. يبدو أنّ اعتراض خصوم محمد صلّی الله علیه و آله عبيد الله هنا لم يكن له أيّة علاقة باللّغة، كما ردّ القرآن في قوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ»، فلا تُشير الآية أيضًا إلى اللّغة، وبفحص هذا الإعجاز، نجد ثلاث آیاتٍ ردّت على اتّهام محمد صلّی الله علیه و آله بالتزوير: «افتراه»، في سورة يونس، الآية 38؛ سورة هود، الآية 13؛ و «تقوله»، وردت في سورة الطور، الآية 33، ويشير الإطار إلى اختبار «حكماء النبوّة»: في سورة الإسراء، الآية :88: «قُل لَّبِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ

ص: 173


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān,, p.118

عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»، لم يتأثّر عامّة العرب أبدًا بما جاء به محمد صلّی الله علیه و آله، ولم يجدوا القرآن متماسكًا بشكل خاصٍّ كالتوراة والإنجيل: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتِّلْنَاهُ تَرْتِيلًا»، سورة الفرقان، الآية 32.

5. الترتيل مشكلةٌ أهو اسمٌ أصليٌّ أم اسمٌ مستعارٌ؟

فسّر الكثير من المفسرين القدماء معنى ترتيل: تقرأ بتمهّل، تنطق نطقًا واضحًا، تلاوة جزءٍ تلو الآخر، وفضلاً عن ذلك، يمكن فهمه في سياق آخر على أنّه تلاوةُ أو ترديدُ القرآن في تلاوةٍ نموذجيّةٍ ، وترجم أربري معنى: «ورتل القرآن ترتيلا» (سورة المزمل، الآية 4)، أي ردّد القرآن بشكلٍ متميّزٍ جدًا وتلاوة القرآن بطريقةٍ متساويةٍ.

الآية الأخيرة تؤكّد أيضًا على أنّ «وضع القرآن متميّزٌ»، وربّما تشير إلى جهد محمد في تأليف القرآن، ويمكن أن تشير أيضًا إلى أسلوب القرآن: «معنى الكلمة [في سورة الفرقان، الآية 32] غير معروفٍ تمامًا، لكن من المحتمل أن تشير إلى القافية التي لا يمكن إنكار وجودها (1)».

شرحها بشكلٍ أفضل يكون في سياق الجدل مع اليهوديّة لا في سياق اللّغة.

الآيات التي نوّه عليها هي: قال تعالى: «وَإن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (سورة البقرة، الآية 23).

قال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» سورة يونس، الآية 38، وقال تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» سورة هود، الآية ،11، وقال تعالى: «قُل لَّبِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» (سورة الإسراء، الآية 88).

ص: 174


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.116.

قال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ» (سورة الطور، الآيتان 33-34).

من خلال ما أوردناه يتّضح أنّه لا يوجد دقّة في النّقل؛ لأنّ آية سورة هود قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَيكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» (سورة هود الآية 11)، ليست من آيات الإعجاز.

وبتدبّر هذه الآيات التي ذكرها المحرّر غير آية سورة هود، الآية 11، كلّها في سياق التّحدّي لأرباب الفصاحة واللّغة، وما ادّعاه من أنّ السّياق في مقام تحدي اليهوديّة هو خطأٌ كبيرٌ، ولم يكن اليهود ببلاغة قريش حتى يتوجّه التّحدّي إليهم.

«لم يتأثّر خصوم محمد القريشيون إطلاقًا، لا بلغة القرآن ولا حتى بالنبوءة: اعتبروا القرآن «أَضْغَاثُ أَحْلامٍ «بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (سورة الأنبياء، الآية 5). على الرّغم من الشّكوك الواضحة للمدقّقين الأصليين فيما يتعلّق بتفوّق اللّغة القرآنيّة، فقد فتحت تفسيرات المسلمين وعلماء الدّين والشّريعة والعقيدة الباب واسعًا لتوضيح المشاعر المقدّسة والتعابير الأسطوريّة للّغة العربيّة، والتَّفوّق المزعوم وإعجاز لغة القرآن (1)».

بقوله: «لم يتأثّر خصوم محمد القريشيون إطلاقًا»، فهو يُخالف الحقيقة، فقد تأثر كبارهم فضلًا عن صغارهم، على سبيل المثال لا الحصر: الوليد بن المغيرة أتى إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله فقرأ رسول الله صلى الله عليه و آله عليه القرآن، قرأ عليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فقال له أعد، فأعاد النّبيّ صلّی الله علیه و آله، فقال الوليد بن المغيرة قولته: (والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمرٌ وإنّ أسفله لمغدقٌ وما يقول هذا بشر).

فكأنّما رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال: يا عم إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، فقال: لِمَ؟ قال: ليعطوكه، فإنّك أتيت محمدًا لتعرض ما قبله!

ص: 175


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.117

قال: علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل في القرآن قولاً يبلغ قومك أنّك منکره، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم أحد ألهم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إنّ لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما هو من قول البشر (1)).

وعتبة بن ربيعة؛ كان عتبة بن ربيعة من سادة قريش، كان سيّدًا حليمًا، أرسلته قریش إلی رسول الله صلى الله عليه و آله ليفاوضه، بعد إن استمع النّبيّ صلّی الله علیه و آله إلى عروضه السّخيّة التي لا يقاومها إلّا نبيّ، حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلّی الله علیه و آله: أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم قال: فاسمع منّي، قال: أفعل، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «بسم الله الرحمن الرحيم* حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرُ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ» (سورة فصلت الآيات 1-5).

فلمّا سمعها عتبة أنصت إليه، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلّی الله علیه و آله إلى السجدة منها فسجد وسجد معه عتبة ثم قال له: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلّما جلس، قالوا: ما وراءك، قال: ورائي أنّي سمعت قولاً والله ما سمعت بمثله قط، وما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. قالوا: سحرك بلسانه، قال: (هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم) (2). وغير ما ذكرنا يوجد أدلّة كثيرة وعظيمة،

ص: 176


1- القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2006، ج 19، ص 74.
2- الحلبي، أبو الفرج نور الدين علي بن برهان: السيرة الحلبية، ط 1، بيروت، دار المعرفة، 1400 ه_، ج 1، ص 429.

لكنّ محرّر المادة لا يسمح بتمريرها فضلًا عن مناقشتها.

ثالثًا: فرضيات المستشرقين حول لغة القرآن:

اشارة

تناول المحرّران تحت هذا العنوان، الكلمات الأجنبيّة في القرآن وبإصرار على تأكيدها، ثم أسهبا في عرض بعض فرضيات المستشرقين شرحًا ومناقشةً، ثم دلفا على التأثيرات السريانيّة في لغة القرآن باعتبارها حقائق مسلّم بها، ثم عرجا على القضايا غير اللّغويّة، كالتأثيرات المسيحيّة في القرآن فضلًا عن الطقوس السريانيّة.

1. الكلمات الأجنبيّة:

1. الكلمات الأجنبيّة: «قضيّة وجود كلماتٍ أجنبيّةٍ في القرآن قضيّةٌ قديمةٌ... يؤكّد المحرّران بأنّ القرآن يحتوي على كلماتٍ من جميع اللّهجات العربيّة، فضلًا عن اللّغات الأعجميّة: اليونانيّة والفارسيّة والإثيوبيّة وغيرها»، ومن الممكن أن يكون للأحاديث النّبوية تأثيرٌ لإبراز تفوّق القرآن على كتب الوحي الأخرى: أنزل القرآن على سبعة أحرف» (1).

يتجاهل المحرّران أنّ هذه الكلمات اُستخدمت وعُرّبت، وظاهرة وجود كلماتٍ أجنبيّةٍ لا تخلوا منها لغة، والعرب «كلّ ما أرادوا أن يُعربوه، ألحقوه ببناء كلامهم، كما يُلحقون الحروف بالحروف العربيّة (2)»، وطريقة عرض جيليو ولارش طريقة مغرضة تريد النيل من لغة القرآن، وبطريقةٍ جائرةٍ ذكرا بأنّها لغةٌ فقيرةٌ بحاجةٍ ماسّةٍ لغيرها لفظًا وأسلوبًا.

2. مشاكل قواعد لغة القرآن

«ما الذي يمنعه النحويون، على الرّغم من استخدامه في القرآن» .. تمّ جمعها

ص: 177


1- (Ibn AbiShayba, Musannaf, [ Kitab22. Fada'il al- Qur'an, bab7], vi, 121, no. 29953; Tabari, Tafsir, i, 14, no. 6/Eng. trans. Commentary, i, 13; Suyuti, Itqan, chap. 38, ed. Ibrahim, ii, 126; id, Muhadhdhab, 194, ed. al-Hashimi, 601-). The same words are also attributed to the Khurasani exegete al-Dahhak b. Muzahim (d. 105723/; Ibn AbiShayba, ibid., no. 29952; Suyuti, Muhadhdhab, 194, ed. al-Hashimi, 61).
2- سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان: الكتاب، تحقیق: عبد السلام هارون، ط3، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1998، ج 4، ص304.

بشكلٍ منهجيٍّ خلال النّصف الثاني من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي والثالث ه_. / التاسع م.

تحت عنوان مشاكل قواعد لغة القرآن تناول الباحثان قضيّة وجود أخطاء لغويّةٍ نحوًا وصرفًا في لغة القرآن، وصالا وجالا، في محاولةٍ لهزّ لغة القرآن لُغويًّا، وإعطاء انطباعٍ عامٍّ لدى القارئ بأنّها لغةٌ أضعف من اللّغة العربيّة، لدرجة أنّها تخفق في الالتزام بقواعدها) (1)، ويؤخّرون جمع القرآن إلى النّصف الثّاني من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي، وهذه نظرةٌ غير موضوعيّةٍ وتخالف تاريخ القرآن.

« ... وتكلّم اثنى عشر منهم اللّغة العربية: آدم وشيث بن آدم، وهود، وصالح، وإسماعيل، وشعيب، والخضر» والثلاثة الذين ذكروا في سورة يس، الآية 14، ويونس، وخالد بن سنان العبسي ومحمد، .. ويقال إنّ آدم «تكلم 700000 لغة، وأفضل ما تحدّث به اللغة العربية (2)» (3)).

مصدرهما ما ذكره عبد الملك بن حبيب «المؤرخ القرطبي (4)»، وبالعودة إلى المصدر الذي استقيا منه (5)، لم نجد ذلك، وبفحص الكتاب، تبينّ أنّه حصر ألسن الأنبياء في ثلاثة ألسن: العربية والسريانيّة والعبرية، الأخيرة لسان جميع بني إسرائيل، وتكلم اثنى عشر منهم اللغة العربية: آدم وشيث بن آدم، وهود وصالح، وإسماعيل، وشعيب والخضر» والثلاثة الذين ذكروا في سورة يس: 14، ويونس وخالد بن سنان

ص: 178


1- أحال لغولد تسهیر بوجود 700 خطأ في السياق الثعلبي والبغوي (Tha'labi, Tafsir, ad from 55:4from an anonymous source; Goldziher, Grammar, 45, quoting Baghawi, Ma'alim, presently still only in manuscript form; but thefigure "700" in Baghawi, Ma'alim, iv, 266 has to be corrected) للباحث بمراجعة تفسيري الثعلبي والبغوي.
2- (Tha`labi, Tafsir, ad q 55:4, from an anonymous source; Goldziher, Grammar, 45, quoting Baghawi, Ma'alim, presently still only in manuscript form; but the figure "700" in Baghawi, Ma'alim, iv, 266 has to be corrected!).
3- Ibid, p.119
4- (Abd al-Malik b. Habib, Ta'rikh, 278-; Suyuṭī, Muzhir, i, 301-/Eng. trans. Czapkiewicz, Views, 66 -7'); Goldziher, Grammar, 445-; Loucel, Origine. IV,167 -8).c
5- الأندلسي، عبد الملك بن حبيب السلمي: حققه: عبد الغني مستو، ط1، بيروت، المطبعة العصرية، 1429ه_/ 2008م، ص27-28.

العبسي ومحمد صلّی الله علیه و آله، وهؤلاء ثلاثة عشر شخصًا، لعلّه لم يعدّ الخضر نبيًّا (1).

أحال مصدر هذه الجملة إلى تفسير الثعلبي: «ويقال إن آدم «تكلم 700000 لغة، وأفضل ما تحدث به اللغة العربية»؛ إذ لا تصح ولا تعقل، وأراد المحرّران من ذكرها بأن يؤكّدا للقارئ انطباعًا بأسطوريّة المصادر العربيّة والتنفير مما بها، فضلًا

عن السّخرية منها وضرورة تركها.

خلق نبي ضد منافسيه: (الشعراء، الخطباء، ورواة القصص، إلخ.)

«كان لاستراتيجيّة محمد والأجيال الأولى من العلماء المسلمين فيما يتعلّق بالشّعر والشّعراء .. تفوّق القرآن على الشّعر لا بدّ من إظهاره وتمييزه...

كان لاستراتيجية محمد والأجيال الأولى من العلماء المسلمين فيما يتعلق بالشعر والشعراء.. ليست استراتيجية ولكن مكانة لغة القرآن ينبغي أن ننزّلها منزلتها، واتّهامهما بأنّ في القرآن عدم تناسقٍ لغةً وأسلوبًا ومضمونًا»، فهذا ريموند فارين على سبيل المثال يردّ عليهما بأنّ القرآن عظيم لغةً وأسلوبًا ومضمونًا، وقد أسلم الرجل إقرارًا بأنّ القرآن كتاب الله، ولغته يمتنع تقليدها.

وقد أدرك العلماء أنّ الشّاعر كان منافسًا خطيرًا لرسول الإسلام وللنّصّ الذي قدّمه كوحيٍ .. قال لي ريتشارد سرانو أثناء مناقشة ذلك: «رفض القرآن الشعراء والشّعر شاذة، فهناك قصص كثيرة تؤكّد على مصالحة محمد مع الشّعر والشّعراء، وأكثرها شهرةً قصّة كعب بن زهير، الذي كان عدو النبي جاء معتذرًا بقصيدةٍ، وأهداه محمد عباءته (2)».

على سبيل المثال، حسان بن ثابت كان من أفضل الشعراء في عصر الجاهليّة، لكن عندما جاء الإسلام، سقط شعره وفحولته «... لم يسقط شعره ولا فحولته، ولا مكانته، فكمّ الشّعر الذي أنتجه في صدر الإسلام ووظّفه أكثر مما قاله في الجاهليّة،

ص: 179


1- الأندلسي، عبد الملك بن حبيب السلمي: حققه: عبد الغني مستو، ط1، بيروت، المطبعة العصرية، ص33.
2- Abdelrahman Abulmajd, Richard Serrano and AbdalrahmanAbulmajd are discussing Qur'an recitation and Poetry reading, Published On: 262016/6/ A.D. - 201437/9/ H

ولعلّ بيتًا واحدًا يؤكّد على ازدياد مكانته في الشّعر وفحولته: «فأنا ومن يهدي القصائد نحونا كمستبضع تمرا إلى أهل خيبرا (1)».

فرضيات المستعربين

«البيانات التي جمعها رابين (Rabin) (2)، تؤكّد أنّ اللّغة العربيّة قبل الإسلام لم تكن متجانسةً، ويمكن رؤية تمايزٍ إقليميٍّ فيها بين الشّرق والغرب لغويًّا ونحويًّا، وما يسمّيه العرب «اللّغة الفصحى» لا يتزامن مع اللغة العربية في المناطق الشّرقيّة ولا الغربيّة من شبه الجزيرة العربية (3)».

وقد سبقت الدّراسات العربيّة السّابقة دراسة للمستشرق حاييم رابین (Chain Rabin)، عنوانها: (اللهجات العربيّة الغربية القديمة) خصّ فيها (لغة أهل الحجاز) بأكبر نصيب منها، لم يتجاوز رابين ما جمعه بلاشير، بل أعاد قراءته وتحمّس له، وريجيس بلاشير تأثّر بنهج تيودور نولدکه، فهذا خطٌّ استشراقيٌّ هجوميٌّ، ففكرة تدوين مقاطع الوحي المهمّة التي نزلت في السنوات السّالفة على مواد خشنةٍ من الجلود واللّخاف، لم تنشأ إلّا بعد إقامة محمد في المدينة (4)، واللغة العربيّة قبل الإسلام لم تكن متجانسةً، ويمكن رؤية تمايزٍ إقليميٍّ فيها بين الشّرق والغرب لغويًّا .ونحويًّا وفي الردّ على هذه الادّعات يكفي الإشارة إلى تجانس اللغة، فموسم الحج دليلٌ على تفعيل التّجانس، فضلًا عن عكاظ وغيرها، والمعلّقات كلّها استدلالات تصبّ في تأكيد التّجانس وتفعّله.

ادّعى فيرستيغ أنّ الأفكار اللّغويّة في وقت الخليل وسيبويه تأثّرت بقواعد اللّغة اليونانيّة مباشرةً ومن خلال ترجمة بعض الأعمال (5)، وتمّ مناقشة هذا الادّعاء في

ص: 180


1- السمهودي، أبو الحسن علي بن عبد الله الشافعي: خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، دراسة وتحقيق: د/ محمد الأمين محمد محمود أحمد الجكيني طبع على نفقة السيد: حبيب محمود أحمد، ص 450 .
2- استقاها من بلاشير 4-see Blachère, Histoire, i, 70-5; Versteegh, Arabic.
3- Ibid, p.122.
4- بلاشير، ريجيس: القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ترجمة: رضا سعادة، ط1، بيروت، دار الكتاب 1974 ص 29-27.
5- يقول كيس فيرستيغ: «نحن لا نؤكد أن الفكر اللغوي العربي مبني على قواعد اللغة اليونانية، لكننا نعتقد أن تعليمات

ورقة صليحة حاجي يعقوب، «التأثير اليوناني على القواعد العربيّة فرضية فيرستيغ» وخلصت إلى عدم صحّتها (1)، وفي دراسةٍ للصوتيات العربيّة خطّأت فهم فيرستيغ القائل بتأثيرات الفكر اليوناني (2)، وانتقد فليش فيرستيغ واتّهمه بتجاهل نسق قواعد ابن إسحاق (3).

يردّ الباحث الغربي ريمون فارين (4) على عدم تجانس اللّغة العربيّة؛ حيث إنّه أثبت تجانسها في الجاهليّة عبر الشعر الجاهلي، فيقول: جاء اهتمامي بالدّراسات القرآنيّة عن طريق الأدب العربي، في كليّة الدّراسات العليا في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وركّزتُ على دراسة الأدب العربي الكلاسيكي، وكان تركيزي الأساسي على الشّعر العربي الجاهلي، وبالرّغم من ذلك، فإنّه يجب على كلّ من يدرس الأدب العربيّ الكلاسيكيّ الانتباه إلى القرآن باعتباره النّصّ الأساسيّ في اللّغة العربيّة، وكلّما قرأت القرآن، كلّما ازدادت دهشتي، بسبب سموّ لغته وعمق معانيه، وتدرّج استدلالاته، بهرني وشجّعني واستحوذ عليَّ إلى أن أصبح محور تركيزي الرئيس بحثًا ودراسةً (5).

«الفرق بين الشّعر العربيّ القديم والشّعر العربي الجديد الإعراب، وجوده في اللّغة العامّة، ويختفي في اللّهجات».

بالنسبة للذين يُفكّرون في اللّغة اليونانيّة koine، كالأتيكيّة اليونانيّة، بدأت

قواعد اللغة اليونانية نموذج ونقطة البداية لقواعد اللغة العربية» (1977: 15)

ص: 181


1- Dr. Solehah Haji Yaacob, Dept. of Arabic Language and Literature of Islamic Revealed Knowledgeand Human Sciences, International Islamic University Malaysia.
2- Zeki Majeed Hassan, Barry Heselwood, Instrumental Studies in Arabic Phonetics, p.3, 2011
3- Ibid, p.4
4- أكاديمي أمريكي شهير، تخرج في كلية الآداب، جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، أقام في القاهرة زمناً طويلاً ودرس اللغة العربية، ثم تابع دراستها في جامعة كاليفورنيا في بيركلي حيث تخصص في الشعر الجاهلي القديم، في سنة 2006 نال شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها في مجال دراسات الشرق الأدنى، ومنذ ذلك الحين يقوم بتدريس الأدب العربي في الجامعة الأمريكية بالكويت، ثم اتجه لدراسة القرآن، وقام ببحوث علمية قيمة في التناظر والتناسق، جذبت إليه الأضواء عالميًا.
5- https://www.alukah.net/culture/079776//ixzz6GyZSnPmM Abdur-Rahman Abul-Majd, Raymond Farrin and Abdur-Rahman AbouAlmajd around Structure and Quranic Interpretation, Published On: 182014/11/ A.D. https://www.alukah.net/culture/079776//ixzz6GyZoYP5X

هذه اللّغة العربيّة المشتركة كلغةٍ بين القبائل .. في وسط أو شمال شرق الجزيرة العربيّة. بالنسبة للآخرين الذين يعتبرونها - على غرار نموذج هوميروس اليوناني - لغةً مصطنعةً «كونستسبراش» دون أيّ اتّصال مع الواقع اللّغويّ، لا يوافق المستعربون أيضًا على تفسير الإعراب، بالنّسبة للبعض، فهو بناء جملةٍ، حتى لو أدركوا أنّ وظيفته واهيةٌ ضعيفةٌ، ناهيك عن انعدام وجوده في كثير من الكلمات العربيّة، لارتباطه بقيود الأداء والقافية في الشعر «الصيغ الشّفهيّة» (1).

إنّ القول بأنّ «الفرق بين الشعر العربي القديم والشعر العربي الجديد الإعراب، وجوده في اللغة العامة، ويختفي في اللهجات»، ليس بفرقٍ البتّة.

وحصر اللّغة العربية بين الأتيكيّة اليونانيّة ونموذج هوميروس، فرضيّةٌ لا تصح (2).

الفرضيّة القويّة فرضيّة فولر (3)، التي يخلص فيها إلى أنّ محمدًا صمّم القرآن لأوّل مرّةٍ بلغة مكّة العاميّة، كميزةٍ من بين ميزات الإعراب وكخطاب عربيٍّ مفقودٍ، قبل إعادة كتابته لاحقًا في لغةٍ مشتركةٍ من الشّعر. . وطرح كاهلي (Kahle) (4) فرضيّة فولر مرّة أخرى بشكلٍ معدّلٍ (لا يؤكّد على أنّ القرآن أعيدت كتابته)، ويعترف بدون مناقشة بأنّ تكويد القرآن «السكونتانيّة تُنسب تقليديًّا إلى الخليفة عثمان، والنسخة تمثل اللّغة العربيّة المكّيّة، ولكن بالنّسبة لل_ «قراءات» فهي تعبّر عن تأثير اللّغة الشّعريّة، .. وعلى الرّغم من أنّ فرضيّة فولر تسبّبت في فضيحةٍ في الأوساط الإسلاميّة، فضلًا عمّا أثارته من جدالٍ بين المستعربين إلّا أنّ فرضيّة كاهلي لم تستحوذ على كثيرٍ من الاهتمام (5).

.. تجاوز المستعربون اليوم التمثيل الوحدوي للّغة العربيّة، ويؤيّدون مفهوم

ص: 182


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'an, p.123
2- لم يسعف الوقت الباحث لفحص ذلك واختبار من ناقشوه وقاموا بالرد.
3- (Vollers, Volkssprache, 169; Zwettler, Oral tradition, 1178-, with discussion of this thesis; Versteegh, Arabic, 40- 1)
4- (Kahle, Geniza, 142) (Kahle, Qur'ān, 171-9).
5- Ibid, p.123- 124.

التّعدّد اللّغويّ للّغة العربيّة، وبيّن المستشرق اوينز (Owens) مؤخّرًا أنّ الاندماج الكبير، مرتبطٌ بقراءة «أبو عمرو البصري» .. وهذا يعني أنّ «افتراض فولر بوجود تباینٍ قرآنيٍّ دون إنهاء الحالة، يتلقّى دعمًا معقولًا (1). تتهاوى فرضيّة وانسبرو أمام دراسة سعد الرّشيد (2) الموسومة بعنوان «كتاباتٍ إسلاميّةٍ من مكّة المكرّمة»، حيث برهن الباحث على أنّ النّقوش القرآنيّة التي وُجدت مكتوبةً على الصّخور بمكّة المكرّمة تُسقط بشكلٍ قطعيٍّ نظريّة وانسبرو التي تزعم أنّ القرآن الكريم لم يُنتج بمكّة (3).

3. من اللّغة إلى الأسلوب

الارتباط بين اللّغة القرآنيّة والأسلوب اللّغويّ للقرآن ارتبط بمفهوم «بیان»، وهذا الاسم ذُكر ثلاث مرّاتٍ فقط في القرآن، في سورة الرحمن، الآية 4: «علّمه البيان»؛ وفي سورة القيامة، الآية 19: و «هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ»؛ وفي سورة آل عمران الآية 138، على سبيل المثال: «خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» سورة الرحمن، الآيتان 3-4، وذكر «تیبان» بمعنی (عرض، شرح) مرة واحدة (سورة النحل، الآية 89)، وذكر «مبين» في اثنتي عشرة مرة (4)، وسبع مرات عدّل ب_ «بلاغ» (5)، ومرتان «القرآن» في سورة الحجر، الآية 1، وسورة يس، الآية 29 (6).

تُبيّن نتائج البحث عن عبارة «مبين» بأنّها ذكرت (125) مرّة في القرآن، وذكرت «بلاغ» (15) مرّة، و «القرآن» (50) مرّة، والآية 29 من سورة يس ليس فيها ما ذهب إليه، قال تعالى: «إن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ» (سورة يس، الآية 29)، ولكن ذكر القرآن في الآية الثانية وليس الآية التاسعة والعشرون، قال تعالى: «وَالْقُرْآنِ الحكيم» (سورة يس، الآية 2).

ص: 183


1- (Owens, Idgam al-kabir, 504).
2- الراشد، سعد بن عبد العزيز: كتابات إسلامية من مكة، لا ط، الرياض، مكتبة الملك فهد، 1416ه_ / 1995.
3- http://alsahra.org/?p=19281
4- سورة المائدة، الآية 15، الأنعام، الآية 59؛ يونس، الآية 61؛ سورة هود، الآية 6؛ سورة يوسف، الآية 1؛ سورة الحجر، الآية 1؛ سورة الشعراء، الآية 2؛ سورة النمل، الآيات 1-75؛ وسورة القصص، الآية 2؛ سورة سبأ، الآية 3؛ سورة الدخان، الآية 2.
5- سورة المائدة: 92، وسورة النحل: 35-82، وسورة النور: 54، وسورة العنكبوت: 18، وسورة يس: 17، وسورة التغابن: 12.
6- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.124- 125.

وفي هذا السياق، يمكن تفسير «مبين» على أنّه النّشط من الصّيغة اللّفظيّة (السّببيّة)، أبان، المستخدمة ببساطة مرادف للنموذج اللّفظي الثّاني، بيّن بمعنى «صنع [الأشياء] متميّز / واضح»، ولكن يمكن أيضًا اعتبار أبان سببًا انعكاسيًّا ضمنيًّا، وفي هذه الحالة يتمّ تفسير مُبين على أنّه «يُظهر [نفسه] متميّزًا / واضحًا»، على النّحو الذي اُقترح في سورة الصافات، الآية 117: «الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ» أي (الكتاب المقدّس الواضح). يشير ارتفاع عدد مرات ذكر الجذر «ب-ي-ن» ومشتقّاته إلى أنّ البيان خاصيّة الكلام (1).

(يجب أن نتذكر هنا أنّ «القرآن» ذكر بأنّه عربيٌّ ست مرّات. الإشارة إلى أنّ مبدأ حتميّة القرآن ارتبط بموضوع (البلاغة التي تستمدّ تقريبًا من الإيمان) (2) (3).

ينبغي التأكيد على نقطتين:

الأولى: مبدأ عدم دقّة أسلوب القرآن.. نتيجة تقاطع عنصرٍ نصّيٍّ (ما يسمّى آيات الإعجاز) والمفهوم الإسلامي للقرآن باعتباره خطاب الله (كلام الله).

الثانية: الارتباط ب_ «عدم الثّبات» بالترتيب الأسلوبيّ من خلال التأكيد العقديّ الواضح لصفات الله في البلاغة القرآنيّة: بحيث يتعطّل ويعجز [أيّ شخصٍ يحاول الوصول لتقليده؛ إنّها بِلُغة القرآن «النكات»، وهو من البراهين على عدم حتميّة القرآن؛ القرآن أبعد ما يكون عن الوضوح (4)».

4. موقف المستعربين من أسلوب القرآن:

وصف القرآن بأنّه «خطاب » .. خطابٌ غير سرديٍّ، والسّرد الذي يحتويه،

ص: 184


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.127
2- Ibid, p.127- 128.
3- مع الأسف لم يسعف الوقت بالبحث ومناقشة ذلك.
4- (see the introduction of Tabari, Tafsir, ed. Shakir, i, 8- 12/Eng. trans. in Commentary, i, 8 -12; Gilliot, Elt, 73-8).

غالبًا ما لا يكتمل، يمثّل نوعًا من الجدل كعلاماتٍ؛ فضلًا عمّا فيه من الخرافات والأساطير.

إنّ عدم وجود خيطٍ سرديٍّ، فضلًا عن التكرار في القرآن، لا يُثير ردّ فعلٍ سلبيٍّ، بل يجبر المتخصّص على البحث عن مخطّطٍ تنظيميٍّ آخر للنّصّ، ومشكلة ترتيب النّصّ، ومشكلة بنية السّور، على سبيل المثال انقطاعات النص وامتناعه.. أو غير مكتملٍ أو مقطوع، في هذه الحالة يحتّم على المفسّر أن يُشير إلى آيةٍ أخرى في السّورة نفسها أو في سورة أخرى، يُفترض أن يكون المقطع المقطوع «مأخوذًا منها»، أو رُوي بدقّة، على سبيل المثال: قال تعالى: «وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ» «سورة العنكبوت، الآية 27)، يجب فهمه [مأخوذ] من «وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَبِك لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى» (سورة طه، الآية 75)، ويمكن أن تكون هذه الظّاهرة ذات صلةٍ بالقياس المضمر (1).

كلّا، لأنّ سياق آتيناه أجره على إبراهيم علیه السلام، وسياق «وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَيكَ لَهُمُ الدَرَجَاتُ الْعُلَى» من قول السحرة لفرعون... فالسّياق مختلفٌ، وتلك التي تحيط بمعنى أمّيّ، كما تطبّق على محمد في القرآن (سورة الأعراف، الآيتان 157، 158)؛ «الأمي» رسول بدلاً من رسول «المجتمع»، .. يؤكّد جونز أنّ «فكرة» «الأم» تعني «أمّيّ» ليست مبكرة ولا دقيقة، يمكن أن تعني فقط «الأمّة».(2).

وضّح جونز، على الرغم من ندرة المواد العربيّة القديمة المحفوظة، أنّ أسلوب القرآن مدينٌ بالكثير للأنماط العربيّة السّابقة.. دعمًا لأطروحة جونز هذه، يمكن القول بأنّ القول المنسوب إلى محمد: «هذا الشّعر تعبير قاطع عن خطاب العرب، .. يجادل جونز بأنّ محمدا كان يعلم جيدًا مدى فاعليّة النّثر المُقنع، ولهذا السبب استخدمه في القرآن.(3).

ص: 185


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.127 - 128.
2- (Jones, Language, 33 -7.
3- (Jones, Ora, 57).

مع الأسف لم يُسعف الوقت الباحث لاختبار فرضيّة جونز ومن ناقشوها اعترضوا عليها، وعلى الرغم من أن فرضيّته غير صحيحةٍ؛ لأنّه يدّعي بأنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله ألّف القرآن.

4. التأثيرات المسيحيّة أو السريانيّة القديمة:

لفت بعض العلماء ولسوء الحظ، عددٌ قليلٌ جدًا، الانتباه إلى أهميّة الطبقة التّحتيّة الآراميّة أو السّريانيّة في تكوين القرآن، وهذا مبنيٌّ على فرضيّة أنّ اللّغة السّريانيّة الآراميّة أو السّريانيّة كانت لغة التّواصل الكتابي في الشّرق القريب من القرن الثاني إلى القرن السابع الميلادي، وكانت أيضًا لغةً طقوسيّةً، توغّلت حتى في الخصوصيّات الأسلوبيّة للقرآن، ولاحظ نولدکه و شبراخ ذلك، فضلًا عن كلماتٍ اُستعيرت بعينها من السّريانيّة في القرآن، وقد لاحظها آخرون قبله: لاحظ مينغانا أنّ الأسلوب القرآني يعاني من الإعاقات التي تميّز دائمًا المحاولة الأولى في كتابٍ أدبيٍّ جديدٍ، وتخضع اللّغة لتأثير الأدب الأقدم والأكثر ثباتًا (1)، إنّ «مبدأ» نولدكه (2): على الرّغم من أسلوب القرآن «السّاحق والمُمل والشامل»، إلّا أنّ لغته تأثّرت بالسّريانيّة والتي أثّرت حتى على عبارات القرآن، وقسّم التأثيرات في ستة عناوين مميّزة: الأسماء الصحيحة، والمصطلحات الدّينيّة، والكلمات الشّائعة، والإملاء، وبناء الجمل والمراجع التّاريخيّة الأجنبيّة. ولسوء الحظّ، لم يؤخذ بملاحظاته، على الرّغم من أنّ بعض العلماء أشاروا إليها، وبشكل عام لسببين: أوّلاً: لم يكن لدى منغانا المشغول جدًا بالسريانية وقت لتطوير فرضيّته، وقُوّضت حجّته بشكل أكبر بسبب أنّ المادّة التي جمعها في مقالته عديمة القيمة. ثانيًا: «مبدأ» الإسلاميين حول «كلاسيكيّة» لغة القرآن، وما زال مستمرًّا في فرض نفسه كدليلٍ بديهيٍّ، على الرّغم من الاعتراضات العديدة على أطروحته المزعومة، دون أن تتأثّر فرضيّته بشكلٍ خاص بمقالة مينغانا فضلًا عن مخاوفه، وتناول لوكسنبرغ أطروحة مينغانا حول التأثير السّريانيّ على القرآن وحدّد مجريات الأمور بوضوحٍ بدايةً من تلك المقاطع

ص: 186


1- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'ān, p.129
2- (Nöldeke, Geschichte, 107).

غير الواضحة للمستشرقين الغربيين، وجاءت منهجيّته على النّحو التالي:

أ)- يتحقّق عمّا إذا كان هناك تفسيرٌ معقولٌ في كتب التفسير، وأوّل هذه التّفاسير تفسير الطّبري، وقد يتجاهله إذا لم يؤدّ ذلك إلى حلّ المشكلة.

ب)- يتحقّق مما في القاموس العربيّ الكلاسيكيّ، ولا سيّما «لسان العرب»، فإن سجّل معنًى غير معروفٍ، أو لم يظهر في المعجم شيئًا، يتحقّق مما إذا كان للتعبير العربيّ جذرٌ متجانسٌ في السّريانيّة، ولو بمعنًى مختلفٍ يناسب السّياق. في كثيرٍ من الحالات، وجد لوكسنبرغ أنّ الكلمة السّريانيّة بمعناها أكثر منطقيّةً من المصطلح العربيّ الذي استخدمه القرآن، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الخطوات الأولى في الكشف عن مجريات الأمور في القرآن، ومع ذلك، إن لم توجد هذه الخطوات، يُوصي بتغيير علامةٍ أو أكثر من علامات التّشكيل لمعرفة ما إذا كان ذلك يُؤدّي إلى تعبيرٍ عربيٍّ أكثر منطقيّةً، ووجد لوكسنبرغ أنّ العديد من حالات المعجم تظهر على أنّها قراءةً خاطئةً، وإذا لم تسفر هذه الطريقة عن نتائج، فيجب على المحقّق تغيير نقطةٍ واحدةٍ أو نقاط عدّة، ثمّ التّحقّق ممّا إذا كان هناك جذرٌ سريانيٌّ مماثلٌ له معنًی معقول، إذا لم يكن هناك حلّ حتى الآن، فعليه أن يتحقّق عمّا إذا كانت اللّغة العربيّة عبارةً عن خليطٍ من العبارات السّريانيّة، وهذه العبارات من نوعين: شكليًا مورفولوجيٍّا ودلاليًّا، والاستخدام الشَّكليّ المورفولوجيّ عبارة عن استعارةٍ تحافظ على بنية الكلمة المصدر، ولكنّها تستخدم أشكال اللّغة المستهدفة، ويُعيّن كولك (calque) دلالة المعنى إلى استعارة كلمة لم يكن لها المعنى سابقًا، لكن مرادفًا للكلمة المصدر (1).

يمكن أن نذكر أيضًا تحليل لوكسنبيرغ لسورة العلق، وتعامله مع آية سورة الدخان، الآية 54: «كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ»؛ وسورة الطور، الآية 20: «مُتَّكِبِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ». وبخصوص «عذراء الجنة» المزعومة قد أصاب بالفعل كما أكّد عددٌ من الذين قرأوا هذا الكتاب، بدلاً من

ص: 187


1- (Luxenberg, Lesart, 248- 51; also iscussed in the following reviews of Luxenberg's work: Nabielek, WeintraubenstattJungfrauen, 72; Gilliot, Langue, $ 4; Phenix and Horn, Review, $ 30- 4).

هذه المخلوقات الأسطوريّة «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسُ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ» (سورة الرحمن، الآية 56)؛ هي العنب .. هناك أيضًا حقيقة أنّ سكرتير محمد زید بن ثابت حذق الآراميّة أو السّريانيّة قبل هجرة محمد إلى المدينة المنوّرة .. من ناحيةٍ أخرى، فطريقة لكسمبورغ المطبّقة على نصوصٍ من القرآن قد تكون غامضةً بشكلٍ خاصٍّ، لا يمكن تجاهلها بمجرّد تكرار أطروحة نولدكه وأنتون شبيتالر (1) (2).

واضح أنّ المحرّرين يتحمّسان للكسمبورغ، ويضغطان بإلحاحٍ للدّفع في طريقه.

النتائج: يمكن إيجاز النّتائج فيما يلي:

1. نجح البحث في حصر كلّ شبهات الموضوع غير أنّه لم يتناول جلّها بالنّقد والتّفنيد.

2. جلّ مادة الموضوع غير موضوعيّةٍ وتشدّ القارئ إلى اتّجاهٍ مغرضٍ بعينه.

3. جلّ مادة الموضوع تتباين والمراجع الإسلاميّة، ولا يستشهدون منها إلا ما يعضد وجهة نظرهم ويساندها.

4. في الموضوع أخطاءٌ في المصادر والنّقل عنها.

5. لم تقتصر مادة الموضوع على تناول لغة القرآن وأسلوبه، بل تعدّته إلى التأثيرات المسيحيّة والطّقوس السّريانيّة، فضلًا عن النّقد والتّشكيك في المراجع العربيّة والسّخرية من بعضها.

التوصيات: في ضوء هذه النتائج يمكن تقديم التوصيات التالية:

1. الاستمرار بتناول مضامين الموسوعة عرضًا ونقدًا، فإنّ المؤتمر يمثّل إضافةً علميّةً موضوعيّةً قيّمةً، فضلا عن سدّ العجز في المكتبة العربيّة.

2. التوصية بعمل فريق يُحرّر موسوعة للقرآن الكريم على نفس نهج هذه

ص: 188


1- (see Spitaler, Review of Fück, 'Arabiya.
2- Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'an, p.132

الموسوعة ويتيحها باللّغات العربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة كمرحلة أولى.

3. عمل فريق يقوم برصد النّشاط الاستشراقيّ المُعاصر، والاحتكاك به، والاشتباك معه اشتباكًا إيجابيًا فاعلًا وفي الوقت الذي أوصي به بذلك فإنّي على استعداد لمدّ يد العون لتهيئة وتدريب الفريق تحريرًا وتفنيدًا، وإقامة ورش عمل ومحاضرات لرفع الكفاءة وتحسين مستوى الوعي بالاستشراق المعاصر، والله ولي التوفيق.

ص: 189

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع العربية:

القرآن الكريم

1. الطباطبائي، السيد محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1417ه_.

2. الطيار، مساعد: «هل أنكر ابن جرير قراءة متواترة أو ردَّها؟ هدم ما ذهب إليه د.لبيب السعيد في كتابه.

3. القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2006.

4. الحلبي، أبو الفرج نور الدين علي بن برهان: السيرة الحلبية، ط1، بيروت، دار المعرفة، 1400 ه_.

5. الأندلسي، عبد الملك بن حبيب السلمي: حققه: عبد الغني مستو، ط1، بيروت، المطبعة العصرية، 1429ه_/2008م.

6. السمهودي، أبو الحسن علي بن عبد الله الشافعي: خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، دراسة وتحقيق: د/ محمد الأمين محمد محمود أحمد الجكيني طبع على نفقة السيد: حبيب محمود أحمد.

7. الراشد، سعد بن عبد العزيز: كتابات إسلامية من مكة، لا ط، الرياض، مكتبة الملك فهد، 1416ه_ / 1995.

8. بلاشير، ريجيس: القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ترجمة: رضا سعادة، ط1، بيروت، دار الكتاب 1974.

9. سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان: الكتاب، تحقيق: عبد السلام هارون، ط3، القاهرة،

ص: 190

مكتبة الخانجي، 1998.

10. عبدالرحمن أبو المجد، حوار میشیل کویبرس وعبد الرحمن أبو المجد حول نظم القرآن المذهلة! 2014/12/17 ميلادي - 1436/2/24 هجري/http://albayan.co.uk/4607=aspx?ID.MGZarticle2

11. منينةT طارق: رد على سخافات المستشرق الفرنسي كلود جيليو عن النبي الكريم والقرآن العظيم، د. إبراهيم عوض، ملتقى الانتصار للقرآن الكريم، مركز تفسير.

المصادر الأجنبيّة:

Abdelrahman Abulmajd, Richard Serrano and AbdalrahmanAbulmajd are discussing Qur'an recitation and Poetry reading, Published On: 262016/6/ A.D. - 201437/9/ H.

2. Abd al-Malik b. Habib, Ta'rikh, 27 - 8; Suyuti, Muzhir, i, 30- 1/Eng. trans. Czapkiewicz, Views, 66-7; Goldziher, Grammar, 44 -5; Loucel, Origine. IV, 167 -8

3. Claude Gilliot and Pierre Larcher, Language and Style of the Qur'ān in Encyclopaedia of the Qur'an [EQ, ], (edited by Jane Dammen McAuliffe (genral editor), Claude Gilliot, William A. Graham, Wadad Kadi, Andrew Rippin, 6 vols., Leiden; Brill, 2001-2006), III, 2003.

4. Gilliot and Larcher, Language, Encyclopaedia of the Qur'an

5. Neal Conan, TALK OF THE NATION, npr News, Washington, November 28, 200610:00 AMET

6. Grammatical Shift For The Rhetorical Purposes: Iltifat And Related Features In The Qur'an M A S Abdel Haleem, Bulletin of the School

ص: 191

of Oriental and African Studies, 1992, Volume LV, Part

7. NICOLAI SINAI, Review Essay: Going Round in Circles Journal of Qur'anic Studies 19.2 (2017).

8. EXCERPTS FROM THE INTERVIEW WITH KAREN ARMSTRONG

9. https://www.pbs.org/muhammad/transcripts/armstrong.html

10. Tha`labi, Tafsir, ad q 55:4, from an anonymous source; Goldziher, Grammar, 45, quoting Baghawi, Ma`ālim, presently still only in manuscript form; but thefigure "700" in Baghawī, Ma`ālim, iv, 266 has to be corrected

11. Dr. Solehah Haji Yaacob, Dept. of Arabic Language and Literature of Islamic Revealed Knowledgeand Human Sciences, International Islamic University Malaysia.

12. Zeki Majeed Hassan, Barry Heselwood, Instrumental Studies in Arabic Phonetics, 2011.

13. Vollers, Volkssprache, 169; Zwettler, Oral tradition, 117 -8, with discussion of this thesis; Versteegh, Arabic, 40- 1.

ص: 192

اضطراب نصّ القرآن في كلمات أنجليكانويفيرت

اشارة

الشيخ د. تحسين البدري (1)

الخلاصة

تناول المقال أحد الجوانب اللّغويّة للنّصّ القرآنيّ، وهو الانسجام في جانبه الدّلاليّ والمعنويّ لا اللّفظيّ، أي الجانب الذي له صلة بالتّفسير. وهو جانبٌ مهمٌّ في القرآن، وقد كان وما زال مثار جدل المفسّرين وبعض الفرق والمذاهب الإسلاميّة في السّابق وحتّى الآن، وبخاصّة الأخباريين. كما أنّه مثار جدلٍ ومحفّزٍ مهمٍّ للمستشرقين لأجل نقد هذا

الكتاب وأحيانًا النيل منه. وقد أشار الكثير منهم إلى هذه النّقطة وأحيانًا صرّحوا بها.

وقد أشرنا لأصل هذه الشّبهة وشيئًا من تاريخها، ثمّ أوردنا ما أورده بعض لمستشرقين في هذا المجال، وبخاصة في موسوعة القرآن (E.Q) بعد العمل على ترجمة بعض نصوصها، وبخاصّة من المدخلين المتعلّقين بالآية والسّورة. وهما مقالان للمستشرقة أنجليكا نويفيرت. وبعدها أوردنا الرّدود الواردة ورأينا في هذا المضمار في نهاية المطاف.

ملخّص ما انتهينا إليه هو وجود انسجامٍ في نصّ القرآن. وفيما يخصّ بعض الآيات التي احتُمل عدم الانسجام فيها، فذلك يكون ناشئًا عن النّظرة إلى الموارد المشتبه بها في بعض تفاسيرها والغفلة عن التّفاسير الأخرى التي ترفع منها الشّبهة موضوع البحث.

ص: 193


1- باحث وأستاذ في التفسير وعلوم القرآن. جامعة المصطفى صلّی الله علیه و آله العالميٍّة. قم المقدَّسة.

أو أنّ وضعها في المكان الذي يؤدّي إلى تبلور هذه الشّبهة كان بأمرٍ من الرّسول، فقد كان يحدّد مواقع الآيات، وكان يأمر كتّاب القرآن بأن يضعوا الآيات المحدّدة في محالٍ محدّدةٍ.

من جانب آخر، فإنّ أسلوب الخطاب القرآنيّ هو في الأساس محاكاةٌ لِلِسان القوم ولأسلوب العرب آنذاك في الخطابات الشّفويّة، وقد كان يعتمد التنوّع والتنقّل بين الموضوعات، وكذلك يعود إلى أمورٍ أخرى أدرجناها في الرّسالة.

الكلمات الرئيسة: النّصّ - الخطاب - انسجام النّصّ - وحدة النّصّ.

موضوع البحث

اشارة

الدّراسة تناولت الشّبهة التي طرحها الكثير من المستشرقين من قبيل بلاشير وكارلايل (1) أو أكثرهم كما يذهب إلى ذلك البعض (2)، وهي ما تُدعى ب_ (اضطراب نظم القرآن) أي اضطراب النّصّ القرآنيّ من حيث النّظم المتّبع في التّدوين، وقد يُشار إليها أحيانًا باللّغة الإنجليزيّة ب_ (disconnectedness)(3) أو (incoherence) أو (disjunction in Quranic passages) وذلك فيما إذا كان عدم الإنسجام بين مقاطع آية أو آيات من القرآن، أو فوضويّة القرآن (4)، في إشارةٍ للبعض إلى وجود فوضى في ترتيب الآيات والسّور والموضوعات. وقد تكون هناك عباراتٌ واصطلاحاتٌ أخرى قد أشارت إلى هذه المسألة. والمهمّ هنا أنّهم يشيرون إلى قضيّةٍ شغلت أذهان لا المستشرقين فحسب، بل حتّى بعض المسلمين ممّن يقرأ القرآن دون الإمعان والرّجوع إلى تفاسيره المختلفة.

والذين تصدّوا للإجابة على هذه الشبهة استعملوا أحيانًا اصطلاح (the unity

ص: 194


1- زماني محمد حسن: مستشرقان و قرآن، موسسه بوستان کتاب (مرکز چاپ و نشر دفتر تبلیغات اسلامي حوزه علمیه قم)، (مصدر) فارسی)، ص 327. (بالفارسية)
2- Abd al-Karim Biazar, The covenant in the Quran, p. 6.
3- Mostansir Mir, The unity of the text of the Quran, EQ, p405.
4- أركون، محمد: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، لا ط، الجزائر، لافوميك، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1989 ، ص 68.

of the text of the Quran) كما فعل مستنصر مير (1)، ويُترجم هذا الاصطلاح إلى وحدة النّصّ، واستعملوا أحيانًا (coherence) أي التّماسك والإتّساق أو الانسجام، وأحيانًا أخرى اصطلاحات أو مفردات أخرى (2).

أمّا قدماء ومتقدّمو علماء الاسلام الذين أشاروا إلى هذه الشّبهة - بنحوٍ مباشرٍ غير مباشرٍ - فقد استعملوا مفردات مثل: تناسب ومناسبة (3). واستعمل الطّبرسّي تعبير (النّظم) (4) للإشارة إلى هذا المفهوم، وكذلك الرّازي حيث استعمل تعبير: (وجه النّظم) (5) والآلوسي (6) وإصلاحي في تفسيره (تدبّر قرآن) بلغة الأردو، بل بنى مجمل نظريّته عليه وعلى هذا الاصطلاح. كما استخدم الرّازيّ تعبير: (تعلّق هذه الآية بما قبلها) (7). واستعمل البقاعيّ كأكثر المتأخّرين مفردة (مقصود) و(مقاصد)، من قبيل قوله : «ومقصودها (أي الفاتحة) مراقبة العباد لربّهم... وهكذا اسم كلّ سورة مترجم عن مقصودها؛ لأنّ اسم كلّ شيءٍ تلحظ المناسبة بينه وبين مسمّاه، وعنوانه الدالّ بالإجمال على تفصيل ما فيه» (8)

كما نقل البقاعيّ عن آخرين سبقوه استخدامهم مفردة الغرض، حيث قال نقلاً عنهم: «الأمر الكلّيّ المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنّك

ص: 195


1- وله مقال في دائرة معارف القرآن تحت هذا العنوان.
2- انظر: الدكتور بي ازار شيرازي في كتابه: The convenient in the Quran.
3- انظر: الزركشي، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر: البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي، 1957، ج 1، ص 35؛ السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، لا ط، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394 ه_/ 1974 م، ج 2، ص 288. وغيرهما من الذين تناولوا موضوع التناسب والمناسب في علوم القرآن.
4- الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، حقّقه وعلّق عليه: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، قدّم له: السيد محسن الأمين العاملي، ط 1، لبنان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1415ه_، ق. 1995م، ج 1، ص72 و 113 و 126.
5- الرازي، تفسير، ج 6، ص 3 و 220، ج 7، ص 72 و 101.
6- الآلوسي، أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ط4، بيروت، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، 1405 ه_،ق، 1985 م، ج 5، ص 90، ج 14، ص 77.
7- الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي: التفسير الكبير، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1420ھ، ج 2، ص 33، ج 4، ص 176، ج 5، ص 148، ج 6، ص 41، وغيرها من الموارد.
8- البقاعي، برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر الشافعي: مصاعد النظر بالإشراف على مقاصد السور، قدّم له وحقّقه وعلّق عليه : د. عبد السميع محمد أحمد حسنين، ط 1، الرياض، مكتبة المعارف، 1408 ه_، ق. 1987 م، ج 1، ص 209.

تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدّمات...» (1).

وما اخترناه في دراسة تماسك النّصّ في هذا البحث هو ما يُدعى بوحدة النّصّ (the unity of the text) من وجهة نظرٍ تفسيريّةٍ للخروج بوحدة النصّ القرآني وتضامّه؛ باعتبار أنّ النّصّ إذا كان واحدًا، وصادرًا من واحدٍ لا بدّ أن يحظى بمواصفاتٍ تنشأ من طبيعة وحدة المصدر، والمواصفات هي التّماسك والانسجام ووحدة الموضوع والمقصد أحيانًا.

البحث عن الانسجام الدّلاليّ بحثٌ شموليٌّ

اشارة

إنّ البحث عن الجانب الدّلاليّ للانسجام هو بحثٌ ناشيءٌ عن نظرةٍ شموليّةٍ للقرآن عكس البحث عن الجانب اللّفظيّ منه، ولذلك نجد تناول قدماء المفسّرين والعلماء الجانب اللّفظيّ منه، بينما القليل منهم تناول الجانب الدّلاليّ والمفهوميّ؛ وذلك لأنّ النّظرة الشّموليّة للقرآن كانت غير منظورةٍ، فهي غير مشهودةٍ عن علماء القرآن في الأزمنة الماضية، بينما هي منظورةٌ ومشهودةٌ أكثر عن متأخّري العلماء.

إنّ الدّارج عن علماء القرآن ومفسّريه في العهود الماضية هو نظرتهم الدّقيقة والتجزيئيّة للقرآن، فيتناولون الآية ويسعون للنّظرة إليها نظرةً ،مجهريّةً، فيتناولونها من الجانب النّحويّ والبلاغيّ وعلوم أخرى من هذا القبيل. لكنّهم قلّما يتناولون القرآن من الناحية الشّموليّة، أي النّظرة إليه بالقياس إلى كلّ القرآن ومقاصده وأهدافه، أو بالقياس إلى الآيات والسّور الأخرى بينما نجد هذا حاصلاً في دراسات وتفاسير العلماء المحدثين.

إنّ النّظرة الشّموليّة للقرآن ولّدت في البرهة الأخيرة تفاسير غير معهودةٍ بشكلٍ واسعٍ في الأزمنة الماضية، وهي من قبيل التّفاسير الموضوعيّة، أو التّفاسير النّاظرة إلى جوانب خاصّة من القرآن، مثل التّفاسير العلميّة.

ص: 196


1- البقاعي برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر الشافعي، مصاعد النظر بالإشراف على مقاصد السور، ص 17 – 18.
أوّلًا: اصطلاحات البحث
اشارة

1 - انسجام

استخدم في الإنجليزية وفي علم اللّغة النّصّي اصطلاحان في هذا المجال: Coherence ويستخدم هذا الاصطلاح للإشارة إلى الرّوابط الدّلاليّة (المعاني) أو العلاقات التي تربط معاني الأقوال في الخطاب أو معاني الجمل في النّصّ، بينما يستخدم Cohesion للإشارة إلى الرّوابط الشّكليّة (اللّفظيّة). ويمكن تعريفه بالنّحو الآتي:

«احتواء النّصّ لأدوات الرّبط اللّفظيّة واللّغويّة (الشّكليّة) التي تربط بين جميع أجزائه وكذلك الرّبط الدّلالي بين معاني النّص ومفاهيمه، منتجًا معنًى أو معانٍ عقلائيّةٍ معتدٍّ بها».

ونريد من أدوات الرّبط اللّفظيّة واللّغويّة هو الإشارة إلى الأدوات التي تُستخدم في اللّغة للرّبط بين أجزاء الكلام، من قبيل: واو العطف، لكن، بل، وما شابه.

ونريد من الرّبط الدّلاليّ هو وجود علائق معنويّة تربط بين أجزاء النّصّ، من قبيل وحدة الموضوع ووحدة المقام والمقصد وما شابه ذلك.

وعليه، مفردتا التناسب والمناسبة اللّتين اُستخدمتا قديمًا من قبل علماء القرآن، يُعدّان جذورًا لاصطلاح الانسجام الذي درج استخدامه في هذا العصر.

2 - النّصّ

النّصّ كلام غير مقيّدٍ بحجمٍ خاصٍّ، وقد يكون جملةً أو جمل عدّة أو مقطعًا أو بحثًا كاملًا من قبيل كتاب، فهو شاملٌ لجميع الأحجام المتقدّمة. على أن يكون بين جمله ترابطٌ وانسجامٌ معقولٌ موضع قبول العقلاء من المخاطِبين والمخاطَبين.

وبتعبيرٍ آخر: النّصّ هو فكرةٌ مقدّمةٌ بواسطة مفردات لغةٍ خاصّةٍ، فهو فكرةً ولغةٌ، ودور اللّغة هنا هو الوسيط، نحترز بها عن وسائل التّعبير الأخرى، من قبيل

ص: 197

التّمثيل والفنون التّشكيليّة وغير التّشكيليّة، فإنّ بإمكانها أن تعبّر عن الفكرة لكن بغير اللّغة.

3 - الخطاب

تعدّدت البُحوث التي أُدرجت تحت عنوان الخطاب، سواء من ناحية علماء الإسلام أو علماء المنطق أو علماء اللسانيات، فتدارسوا في هذا المجال أمورًا، منها: تعريفاته، ومنها: فرقه عن النّصّ، ومنها: مواصفاته (1).

ومع غضّ النّظر عن التّعاريف المتقدّمة وما يُراد منها بالدّقّة، فإنّ المراد من الخطاب في كلمات علماء اللّغة واللّسانيات المعاصرين هو الكلام الشّفويّ الذي يُلقى كمحاظرات أو ما شابه ذلك (2). وهذا المعنى هو المراد في بحثنا.

القرآن نصٌّ أم خطابٌ؟

كون القرآن نصًّا أو خطابًا كان وما زال موضع نقاش من تعرّض لدراسة نصّ القرآن. وقد ذهب البعض إلى عدم الفرق بينهما، وآثر استخدام أحدهما، وهو النّصّ، مكان الآخر (أي الخطاب) للدلالة على التّحليل اللّغويّ (3). وهناك اختلافاتٌ غير قليلةٍ في هذا المجال (4)، نحيلها إلى محالها. لكن أبينّ رأيي من خلال إيضاح أمور عدّة:

ص: 198


1- انظر: المرتضى، علي بن الحسين الموسوي البغدادي: رسائل الشريف المرتضى، تقديم: السيد أحمد الحسيني، إعداد: السيد مهدي الرجائي، نشر : دار القرآن الكريم، قم ، 1405 ه_ ج 2، ص 270؛ المرتضى، علي بن الحسين الموسوي البغدادي: الذريعة إلى أصول الشريعة، تصحيح وتقديم: الدكتور أبو القاسم كرجي، انتشارات دانشکاه تهران، ج 1، ص8؛ الطوسي، محمد بن الحسن بن علي: العدة في أصول الفقه، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي، مؤسسة البعثة، قم، ط1 ، 1417 ه_ ق/ 1376 ه_،ش، ج 1، ص 7 - 8 و 28 - 41؛ الآمدي، الإحكام، ج 1، ص95؛ الحلي، نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى الهُذلي المعروف بالمحقق الحلي: معارج الأصول، إعداد السيد محمد حسين الرضوي الكشميري، ط 1، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1403 ه_، ص49.
2- انظر: مداس، أحمد: لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري، ط2،إربد/ الأردن، عالم الكتب الحديث، جدارا للكتاب العالمي، عمان/ الأردن، 1430 ه_ / 2009م، ص 10.
3- انظر: الفقي، صبحي إبراهيم: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق دراسة تطبيقية على السور المكية، لاط، مصر، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 2000م، ص36.
4- البدري، انسجام النص القرآني، ص 49 -53.

أوّلاً: لا شكّ بوجود بعض الاختلافات الطّفيفة بين الخطاب الشّفويّ والنّصّ المكتوب، وبخاصّة في مجال التوظيفات اللّغويّة في مثل التّعجّب والاستهزاء أو ما شابه ذلك، واعتماد لغة الإشارة التي تتزامن مع الخطاب غالبًا. فإنّ التوظيفات المزبورة تبين في الخطاب الشّفويّ بنحو الإشارة أو تغييرٍ في نبرات الصّوت وتقاطيع الوجه وما شابه، بينما في النّصّ المكتوب بشكلٍ آخر ومن خلال استخدام علامة أو تعبير خاصٍّ. وفي النّتيجة لا نجد التأثير الواضح أو المهم فيما لو قلنا بأنّ القرآن خطابٌ أو نصٌّ إلاّ من حيث أسلوب الطّرح، فإنّ النّصّ المكتوب يختلف في أسلوب الطّرح عن أسلوب الخطاب، وكذلك احتمال وجود قرائن تخفى علينا، استخدمها الخطيب من خلال الإشارة أو بشكلٍ آخر. ومن الطبيعي أن يستدعي هذا دقّة المفسّر للكشف عن القرائن الحاليّة التي تحكي المراد النّهائي للآية.

ثانيًا: لا يبدو لنا حاجة لوضع قواعد تفسّر الخطاب بنحوٍ آخر غير قواعد تفسير النّصّ إلاّ فيما يخصّ القرينة التي يمكن أن تكون مقاليّة أو حاليّة. والقرينة المزبورة يمكن استكشافها من خلال بعض الشّواهد التّاريخيّة والمتزامنة مع النّصّ. فإنّه لا يمكن أن نقول بأنّا نجهل بالكامل القرائن المزبورة، وذلك باعتبار وجود شواهد تاريخيّة بعضها تقترن مع النّصّ، كما في بعض الرّوايات، ففيها حكاية بعض الإشارات التي استخدمها الرّسول عند اطلاقه الكلام. وأمّا فيما يخصّ الآيات فإنّ بعض الرّوايات حكت تلك القرائن لكنّها قد لا تكون حاكيةً لجميع تلك القرائن ولجميع الآيات. فهنا قد يصعب استكشافها واليقين بها.

ثالثًا: الاختلاف المهم الذي يمكن أن يُشهد في التمييز بين الخطاب والنّصّ هو لفظي فحسب، فالتعبير الذي يمكن أن يستخدم في الخطاب يختلف أحيانًا عن التعبير الذي يستخدم في النّصوص المكتوبة. وذلك الاختلاف جزئيٌّ وليس كليًّا، فلا يمكن القول بأنّ تعابير الخطاب تختلف بالكامل عن تعابير النّصوص، بل تشترك أحيانًا وتختلف أحيانًا أخرى.

رابعًا لا شكّ أنّ القرآن في بداية نزوله كان خطابًا شفويًّا ثمّ تحوّل نضًّا فيما

ص: 199

بعد. لكن ممّا لا شكّ فيه أيضًا أنّ السّور والآيات المشهودة حاليًّا تعدّ نصوصًا، وإن قد تكون متأثّرة بأصلها الخطابي والشّفوي، لكنّ إثبات كونها خطاباتٍ بحتةً ولا يمكن عدّها نصوصًا، ممّا يحتاج إلى دليل.

خامسًا: يوجد بعض آثار خطابيّة وشفاهيّة النّصّ القرآني المعهود، وذلك مشهود أكثر في الآيات التي اعتمدت في تفسيرها شأن النّزول، ويصعب فهمها دون الرّوايات والآثار التي وضّحت شأن النّزول، ما يعني امتلاكنا الشّواهد والقرائن الحاليّة والمقاليّة لتفسيرها وتوضيحها.

سادسًا: إنّ الموارد المتأثّرة بخطابيّة القرآن غالبًا ما تتوافر لدينا في مجالها قرائن من روايات أو آثار أو أدلّة عقليّة، ويرفض احتمال قرائن أخرى ليست في متناول أيدينا بانعدام الدّليل عليها. وبرغم أنّا نحتمل هذا في بعض الآيات والسّور إلا أنّه لا إطلاق للقول بوجود قرائن لم تصل إلينا، فهذا القول يحتاج إلى دليلٍ على انعدام القرائن المذكورة. وباعتبار انعدام الدّليل على هذا الأمر نقول بعدم وجود قرائن معدومةٍ.

وخلاصة الكلام هنا أنّ القرآن نصُّ وإن كان خطابًا في الأصل، ويمكن القول بأنّه نصّ وخطابٌ، مع أنّه لا فرق مهمًّا يُذكر في مجال تحليل كلّ من النّصّ والخطاب، ونتعامل مع القرآن تعاملنا مع أي نصٍّ مع غضّ النّظر عن أصله. لكن يختلف في شؤون من قبيل منهج الطّرح الذي يستخدم في البيان على نمط الخطاب.

4 - وحدة النّصّ (Unity of the text)

وقد يكون هذا الاصطلاح أهمّ اصطلاح وذا صلةٍ، لذلك نراه جديًرا بأن يستوقفنا هنا ونقول فيه : درج لدى العقلاء أن يكون كلامهم - مهما صغر - ذا وحدةٍ موضوعيّةٍ، أي متمركزاً على موضوعٍ محدّدٍ غير متعدّد المواضيع والمجالات. ويعدّ هذا مبدأً تسالمت عليه البشريّة، ويُهمل الكلام الذي لا يحظى بهذا المبدأ.

وبناءً على هذا، فإنّ هناك شبهاتٍ طُرحت حول القرآن، تناولت هذه المسألة

ص: 200

معتبرةً القرآن لا يحظى بوحدةٍ موضوعيّةٍ في سوره بل في الآية الواحدة. وانعدام هذا المبدأ في حقيقته يسلب النّصّ الانسجام اللّازم، ولذلك يُعدّ من مصاديق البحث ومجالاته في انسجام النّصّ. وينبغي تناوله بشيءٍ من التفصيل عند البحث في النّماذج التي يُدّعى كونها فاقدةً لهذا المبدأ.

إنّ وحدة النّصّ اصطلاحٌ يشترك مع الانسجام في ضرورة التناسق والتّناغم في النّصّ، لكن يختلف في أنّ زاوية النّظر في كلٍّ منهما تختلف عن الأخرى، فمصطلح وحدة النّصّ ناظرٌ إلى كون الأسلوب أو المنهج في صياغة النّصّ بمجمله صدر من واحدٍ يعتمد طريقة أو طرائق معيّنة، والانسجام ناظرٌ إلى ذلك وإلى أمورٍ أخرى تقدّم الحديث عنها.

لا بدّ في الانسجام من رعاية وحدة النّصّ وعدم إثنينيّته أو تعدّديّته في المستويات الآتي ذكرها، للخروج بنتيجة صدوره من واحدٍ يحمل مواصفات الفكر الواحد والأسلوب الواحد وأمور أخرى تبدو لنا من مستلزمات وحدة النّصّ والانسجام في النّهاية، فإنّ الانسجام والتّناغم يستلزم الأمور المذكورة، ودونها لا يصدق الانسجام أو لا يصدق بمستواه الرّفيع والكامل على أقلّ تقدير.

إنّ النّصّ إذا كتب من قبل أكثر من شخصٍ واحدٍ وجدنا فيه غالبًا عدم انسجامٍ ولو في بعض المستويات. ومن هذا القبيل مقالات الموسوعات التي تُكتب من قبل أكثر من واحد، فإنّ الاختلاف والإثنينيّة أو التّعدّديّة واضح فيها. لكن في شؤونٍ ليست مهمّة بالنسبة إلى الموسوعة، وذلك من قبيل عدم الانسجام في الصياغات الأدبيّة وفي طريقة التّدوين وما شابه. ومع أنّه غالبًا ما يكون هناك منسّق يسعى للتوفيق بين المقالات المختلفة إلاّ أنّ الاختلاف والإثنيّة أو التّعدّديّة تبقى فارقًا بين المقال والآخر.

كلّ كاتبٍ لنصٍّ خاصٍّ، مثل مقال أو كتاب، يسعى لأن يتّخذ نمطًا واحدًا من الكتابة من نواحٍ عديدة. وتصوّراتي في هذا المضمار أنّ وحدة النّصّ حقيقتها عبارة عن مستوياتٍ من الوحدة يراعيها الكاتب، وهي مثل: الهدف أو المقصد،

ص: 201

والموضوع، ومستوى الخطاب والشريحة المراد خطابها، ومنهج ترتيب البحوث والفصول، والمستوى الأدبي.

وتتعزّز هذه المستويات من الوحدة فيما إذا كان الكاتب واحدًا، أما إذا تعدّد الكُتّاب فاحتمالات تبلور الاضطرابات النّصّيّة تزداد، وأقلّها الاختلاف في المستويات الأدبيّة؛ فإنّا قد لا نجد اثنين من البشر يتّفقان في المستوى الأدبي. وكأنّ المستوى الأدبي والقلم بمثابة البصمة الوراثيّة التي قد لا يتّفق اثنان فيها.

وفي ما يخصّ القرآن فإنّ وحدة مستواه الأدبي أمرٌ مشهودٌ، ولا أتصوّر هناك من يشكّ فيه، وله مستوى خاص، بحيث يمكن للقارىء أن يميّز النّصّ ما إذا كان آية من، القرآن أو نضًّا عاديًا، وقد تحقّقت هذه الوحدة من أوّله إلى آخره تقريبًا.

لم نلحظ القرآن كموسوعةٍ ذات موضوعاتٍ وأساليبَ ومناهجَ وصياغاتٍ أدبيّةٍ مختلفةٍ ومكتوبةٍ من قبل عدّة كُتّاب، وقام بجمعها شخصٌ واحدٌ، فإنّ هذا غير مشهودٍ كما هو مشهود في الموسوعات. وهذا شاهد على رعاية الوحدة النّصيَّة في هذا الكتاب، وعدم تدوينه من قبل أكثر من مدوّنٍ وكاتبٍ واحدٍ؛ لكون الوحدة النّصيّة قد رُوعيت على العموم.

والدّليل على اعتبار هذه الأمور من الوحدة هو كون ذلك شأن الكتاب الذي يصدر من الإنسان العربي والعقلائيّ. كما أنّ انعدام هذه الأمور تؤدّي إلى اضطرابٍ في النّصّ، فهي في حقيقتها مناشىءٌ لاضطراب النّصّ واختلاله.

ثانيًا: شبهة اضطراب النّصّ القرآنيّ
اشارة

1 - الشّبهة تاريخيًّا

هناك شواهد تاريخيّة تدلّ على أنّ القرآن وأتباعه ليسوا حديثي العهد مع شبهة اضطراب القرآن، وإن اختلف شكلها وكيفيّة طرحها.

من الصّعب تحديد بداية طرح هذه الشّبهة وأوّل من طرحها، لكنّ من المسلّم في ذلك أنّها كانت مطروحةً في القرون الأولى للإسلام، بل في القرن الأوّل منه، بدليل

ص: 202

وجود رواياتٍ تحكي مناظرةً ونقاشًا دار بين الإمام علي وزنديق معاصر له، ورواية أو روايات أخرى أشارت بشكلٍ ضمنيٍّ إلى هذه الشّبهة، سنوردها لاحقًا.

يرى أحمد أبو زيد أنّ بعض الرّوايات الواردة في تحديد شأن نزول الآيات، مثل تلك التي وردت في تحديد شأن نزول الآية الثّالثة من سورة المائدة وغيرها من الآيات، هي في الواقع تعكس بنحوٍ غير مباشرٍ تبلور شبهات في أذهان الصّحابة

دعتهم للاستفسار عن مثل هذه الآية ومعرفة محتواها (1).

كما أنّها كانت مطروحةً في القرن الرّابع كذلك، بدليل طرحها من قبل علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره، وكذلك في القرن السادس بدليل طرحها من قبل الزّركشي (2).

إنّ نفس طرح بحوث التّناسب والمناسبة في النّصّ القرآني من قبل علماء في القرن السادس فما بعده يكشف عن وجود مستشكلٍ أو مستشكلين دعى هؤلاء العلماء لطرح هذا البحث وتناول هذا الجانب من القرآن بالدّراسة. هذا برغم عدم تحديد المستشكل أو المستشكلين.

أمّا في القرون الأخيرة فمن الواضح وجود مستشكلين في هذا المضمار لا على مستوى المستشرقين فحسب، بل على مستوى المسلمين كذلك. وذلك بدليل طرح نظریّات تناولت تحديد مقاصد القرآن أو محوره أو أغراضه. فهذه الخطوات تُنبئ عن وجود شبهة عدم وجود رابطٍ بين الموضوعات المطروحة في القرآن، ما دعى علماء الإسلام لدراسة هذا الكتاب من هذه الجهة.

الرّوايات التي أشارت للشّبهة

هناك رواية وردت في مناظرة جرت بين الإمام علي وزنديق أشار فيها إلى ما بدا له من اضطراب، ففيها ورد قول الزنديق بهذا النحو: «.. وأجده يقول: «وإن

ص: 203


1- أبو زيد، أحمد: التناسب البياني في القرآن دراسة في النظم المعنوي والصوتي، لا ط ،الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مطبعة النجاح، 1992م ، ص 27 - 29.
2- الزركشي، البرهان، م.س، ج 1، ص 40 - 50.

خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء» وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كلّ النساء أيتام، فما معنی ذلك ...» (1).

كما يمكن استفادة هذا الاضطراب من روايات أخرى كذلك (2).

كلمات العلماء في الشّبهة

أشار بعض العلماء والمفسّرين إلى هذه الشّبهة بأنحاءٍ مختلفةٍ.

في التّفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي (3) من أعلام القرن الثالث والرابع من الهجرة أشار إلى موارد من القرآن يبدو فيها الاضطراب، مثل تقديم ما حقّه التأخير، فيقول:

«وأمّا التّقديم والتّأخير فإنّ آية عدّة النّساء النّاسخة مقدّمة على المنسوخة؛ لأنّ في التّأليف قد قدّمت آية عدّة النّساء أربعة أشهر وعشرًا (4) على آية: عدّة سنة كاملة (5) وكان يجب أوّلاً أن تقرأ المنسوخة التي نزلت قبل ثمّ النّاسخة التي نزلت بعده» (6).

وهناك موارد أخرى أشار فيها إلى ما يبدو منه من اضطراب. (7)

ويُشير الشّيخ معرفة، وهو من العلماء المعاصرين، إلى بعضٍ من الآيات التي يبدو منها هكذا اضطراب ويقول:

ص: 204


1- الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب: الاحتجاج، تعليقات وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان، لا ط، النجف الأشرف، منشورات مطابع النعمان، 1386 ه_ ق / 1966 م، ج 1، ص 366.
2- العياشي، أبو النظر محمد بن مسعود بن عياش السلمى السمرقندي: كتاب التفسير، وقف على تصحيحه وتحقيقه والتعليق عليه: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، لا ط، طهران، ج 1، ص 17.
3- هناك تشكيك في صحّة هذه النسبة واختلاف معتد به.
4- سورة البقرة، الآية 234.
5- سورة البقرة، الآية 240.
6- القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: صححه وعلّق عليه: السيد طيب الموسوي الجزائري، ط3، قم، دار الكتاب للطباعة والنشر، 1404 ه_، ج 1، ص 8.
7- القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: صححه وعلّق عليه: السيد طيب الموسوي الجزائري، ط3، قم، دار الكتاب للطباعة والنشر، 1404 ه_، ج 1، ص 12.

«من ذلك ما نجده في سورة الممتحنة، تبدأ هذه السّورة بآيات (1-9) نزلت في العام الثّامن بعد الهجرة بشأن حاطب بن أبي بلتعة، كان قد كاتب قريشًا يخبرهم بتأهّب النّبّي لغزو مكّة، وكان النّبي يحاول الإخفاء.

وتتعقّب هذه الآيات آيتان بشأن سبيعة الأسلميّة عام الست من الهجرة، كانت قد أتت النّبي مسلمةً مهاجرةً، تاركةً زوجها الكافر، فجاء في طلبها، فاستعصمت بالنّبيّ. وصادف مجيؤه صلح الحديبيّة، كان النّبي ّعاهد قريشًا أن يردّ عليهم كلّ من يأتيه من مكّة. فأخذ الزّوج في محاججة النّبيّ قائلًا : اردد عليّ امرأتي على ما شرطت لنا وهذه طينة الكتاب لم تجف، فتحرّج النّبيّ في أمرها، فنزلت الآيتان.

وبعد هاتين الآيتين آيات نزلت بشأن مبايعة النّساء عام الفتح، وهي السّنة التاسعة من الهجرة. وأمّا الآية الأخيرة من السّورة فإنّها ترتبط مع آيات الصّدر تمامًا. ومن ثمّ قالوا: إنّ دراسة هذه السّورة تعطينا خروجًا على النّظم الطّبيعيّ

للآيات، من غير سببٍ معروفٍ».

ويذكر موردًا آخر بقوله:

«وكذلك قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ...» (1) قيل: إنّها آخر آية نزلت على رسول الله ولم يعش بعدها سوى بضعة أيّامٍ أو بضعة أسابيع. والآية مثبتةٌ في سورة البقرة في حين أنّها أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، ونزلت بعدها نيف وعشرون سورة».

ويبرّر الاضطراب في الآية الأخيرة بقوله : «وروي أنّ جبرئيل هو الذي أشار على النّبي بأن يضعها موضعها من البقرة».

كما يذكر موارد أخرى من هذا القبيل (2).

ص: 205


1- سورة البقرة، الآية 281.
2- معرفة، محمد هادي: التمهيد في علوم القرآن، لا ط، قم، مطبعة مهر، 1396 ه_ ق، ج 1، ص 212-217.

2 - كلمات المستشرقين حول هذه الشّبهة

الكثير من المستشرقين طرح هذه الشّبهة بنحوٍ أو آخر، لكن قد لا يصرّح بها ولم يستخدم كلمات واضحة للإشارة إليها. ومع ذلك نجدهم لم يعرضوا لنا دراسةً كافيةً شافيةً في مجال إيضاح شبهتهم على القرآن في هذا المجال. برغم هذا نجد أنّ الشَّبهة قد تناقلها المستشرقون دون أن نعثر على الدّراسات الوافية، وإذا كانت هناك دراسة فهي غير معمّقةٍ ولا تستبطن شواهد ملحوظة.

في هذا المجال نورد كلمات بعض المستشرقين كنماذج على طرحهم لهذه الشّبهة.

أ- جاك بيرك (1)

يقول جاك بيرك (الذي ترجم القرآن إلى الفرنسية): «النّصّ القرآني يقفز أحيانًا بلا مقدّماتٍ من موضوعٍ لآخر، وقد يرجع ذلك إلى عدم الرّبط أو عدم وجود الوحدة العضويّة.... الموجود في الشّعر العربيّ» (2).

ويتعرّض إلى مقصد أو مقاصد السّور، ويستند إلى تفسير الشّيخ شلتوت لسورة التّوحيد ويذهب إلى انعدام الوحدة في النّصّ، ومن الصّعب ایجاد تطابقٍ بین عنوان السّورة ومحتواها، فإنّ السّورة وفقًا لتفسير شلتوت تتضمّن كلّ أفكار القرآن من الرّحمة والثّواب... (3)

ب - كلمات غوستاف لوبون (4)

وردت عن غوستاف لوبون عبارات عدّة تُشير إلى رؤيته تجاه النّصّ القرآنيّ، منها قوله: «القرآن هو كتاب المسلمين المقدّس ودستورهم الدّينيّ والمدنيّ السّياسيّ النّاظم

ص: 206


1- Jacques Augustin Berque.
2- أبو العلا، محمد حسين: القرآن وأوهام مستشرق، لاط، مصر، المكتب العربي للمعارف، ديسمبر 1991، ص 15 و 29.
3- م.ن، ص 14، نقلًا عن مقدمة ترجمته.
4- Gustave Le Bon.

لسيرهم. وهذا الكتاب المقدّس قليل الارتباط مع أنّه اُنزل وحيًا من الله على محمد؛ وأسلوب هذا الكتاب وإن كان جديرًا بالذّكر أحيانًا خالٍ من التّرتيب فاقد السّياق كثيرًا. ويسهل تفسير هذا عند النّظر إلى كيفيّة تأليفه، فقد كُتب تبعًا لمقتضات الزّمن بالحقيقة؛ فإذا ما اعترضت مشكلةٌ محمّدًا أتاه جبريل بوح بوحيٍ جديدٍ حلاً لها ودوّن ذلك في القرآن...» (1).

ت- كلمات ريتشارد بل (2)

تعرّض ريتشارد بل إلى شبهة اضطراب النّصّ القرآني في محالٍّ عدّة من كتابه، وبعباراتٍ مختلفةٍ، فيحكي انطباعه بانعدام الوحدة الموضوعيّة للسّورة، ويقول: إنّه في السّور الطّوال قضايا سياسيّة وتشريعيّة، وهما موضوعان مختلفان، وفي الوقت ذاته نرى تشريعاتٍ في موضوعٍ واحدٍ متناثرةً في محالٍّ مختلفةٍ، كما هو الحال في موضوع الطلاق... ولذلك يتبلور لدينا انطباع بانعدام سورةٍ تتعامل مع موضوعٍ وفق نظام، بل نجد السّورة تتناول مواضيع مختلفةً كما أنّ الموضوع الواحد تناثرت أحكامه وقضاياه في محالٍ مختلفةٍ... (3).

ث - كلمات جولد تسهير (4)

يقول جولد تسهير في مجال هذه الشّبهة: «فلا يوجد كتابٌ تشريعيٌّ اعترفت طائفةٌ دينيّةٌ اعترافًاً عقديًّا على أنّه نصٌّ منزَلٌ أو موحَى به يقدّم نصّه في أقدم عصور تداوله بمثل هذه الصّورة من الاضطراب وعدم الثّبات كما نجد في النّصّ القرآني» (5).

ص: 207


1- لوبون، غوستاف: حضارة العرب، نقله إلى العربية: عادل زعيتر، ط3، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي و شركاه، 1375 ه_، ق/ 1956م، ص 117.
2- Richard Bell.
3- Bill, introduction to the Quran, pp. 72 24 - 32.
4- Ignac Goldziher.
5- جولد تسهير، أجنيتس: مذاهب التفسير الإسلامي، تعليق: عبد الحليم النجار، ط2، بيروت، دار إقراء، ص 4.

ح - كلمات كارلايل (1) ومونتغمري وات(2) وجون ميريل (3)

ينقل مستنصر مير عن كلٍّ من توماس كارلايل ومنتغمري وات تعابيرهم وإشاراتهم للشّبهة المطروحة هنا. وفي هذا المجال استخدم مونتغمري وات كلمات مثل: عدم اعتماد النّظام والمنهج المحدّد (Unsystematic) لتوصيف النّصّ القرآني. واستخدم كارلايل کلمات مثل: مضجر (Wearisome) ومتخلبط (Jumble).

وينقل مستنصر مير كذلك ملاحظة جون ميريل إذ يقول: انعدام الارتباط المنطقيّ في السّور... قد شعر به الكثير من الغربيين، ما أدّى إلى سلب الدّافع عنهم وعدم تشجيعهم على دراسته (4).

وفي فصل من كتابه قارن مستنصر مير بين فرحي ومونتغمري وات، من حيث تفسير فرحي للآيات بنحوٍ يبدو بينها التّناسب واضحًا، بينما تعكس ترجمة مونتغمري وات للآيات المذكورة نوع اضطرابٍ وعدم تناسبٍ بينها. (5)

ج- كلمات محمد أركون (6):

ممّا ورد عن محمد أركون في مجال القرآن قوله: «بالنّسبة لعقولنا الحديثة المعتادة على منهجيّةٍ معيّنةٍ في التّأليف والإنشاء والعرض القائم على المحاجّة المنطقيّة؛ فإنّ نصّ المصحف وطريقة ترتيبه تدهشنا بفوضاها» (7).

ص: 208


1- Thomas Carlyle.
2- Montgamery Watt.
3- John Merrill.
4- Mir, Coherence in the Quran, P., 2...
5- Mir, Coherence in the Quran, PP., 108 - 116.
6- برغم كونه مسلمًا إلّا أنّ منهجه يصنّف ضمن مناهج المستشرقين والغربيين عموماً. ومع الفارق طبعاً هناك كلمات لمحمد عابد الجابري استفاد منها البعض جوانب سلبية حيث تعرّض لموضوع ترتيب القرآن والمشاكل المطروحة في هذا المجال، ووردت عنه العبارة التالية: «من أجل ذلك كان من غير الممكن التعامل مع القرآن كنصّ معماري مهيكل حسب ترتيب ما. إنّه نصّ بياني من نتاج الوحي لا من إنتاج المنطق. والوحي كان ينزل حسب مقتضى الأحوال، والأحوال تتغيّر من جيل لآخر». وقد استفاد البعض معنى سلبياً من هذا التعبير؛ لكونه يشير ولو بنحو غير مباشر إلى أنّ ترتيب القرآن لا يخضع لمنطق إنساني. (انظر: البكاري، بوعلام، الشبه الاستشراقية، ص 247).
7- أركون الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، م.س، ص 86.

خ- كلمات انجليكا نويفيرت

تحت عنوان canonization and the problem of the Sura as unite (1) (التقديس ومشكلة السّورة كوحدة) وضمن مقال (form and structure of the Quran) لوّحت انجليكا إلى شبهةٍ هي أنّ تقديس ترتيب وتأليف السّور واعتباره وحيانيًّا ورسميًّا جعل من المسألة مشكلةً. فمن جهةٍ يعتبر المسلمون السّورة وحدة وكتلة وترنيمة دينيّة بينما هي من جهةٍ أخرى تتضمّن أمورًا متفاوتةً بحيث يجعل من الصّعب الإقرار بأنّها كتلةٌ واحدةٌ، فمن المستصعب اعتبارها واحدةً لعدم وجود الرّابط الواضح بين المواضيع، فهي تفتقد التّواصل فيما بينها. لكنّها تقرّ بأنّ هذا من مواصفات السّور المدنيّة الطّوال فحسب.

وفي النتيجة ترى كون تقسيم السّور بالنّحو المشهور غير ذي فائدةٍ، ولا يعني شيئًا، فهو ليس تقسيمًا موضوعيًّا. فهي تلمحّ إلى أنّ المشكلة تكمن في تقديس التّرتيب والتّقسيم المتعارف للقرآن واعتبار كلّ سورةٍ وحدةً غير متعدّدةٍ. وأنّ الدّراسات الحديثة ركّزت على مشكلة ترتيبه وتقديس هذا التّرتيب.

لكنّها في ذات الوقت تقول: «... رغم ذلك فإنّ بنيته الكلّيّة ووزنه وأهمّيته الاجتماعيّة وكتلته المعياريّة وما استبطنه من أيديولوجيّة لتحديد الهويّة الاجتماعيّة تفوّقت على بنيته المجهريّة المتنوّعة التي تعود إلى تطوّره خارجًا عن التّواصل الدّينيّ والتي يحومها الإبهام...» (2).

وتقول كذلك: «حتّى الآن حصل تقدّم قاطع بالنّسبة إلى التّرتيب العثماني فيما يتعلّق ببنيته، برّزت التّطوّرات المشكلة ويخصّ بالذّكر الجامع والقاسم المشترك لتصنيف العناصر الفاقدة للرّابطة وأحيانًا غير المؤطّرة، نظريًا تواصلات معزولة، هكذا مواصفات السّور المدنيّة الطوال... هذا مع أنّ البنية المتعدّدة المواضيع وتقنيات الحفظ وقطع معقّدة تشمل السّور الصّغار والمتوسّطة نتجت في أكثر

ص: 209


1- Neuwrith, Form and structure..., E.Q. vol.2, pp. 246 - 247.
2- Ibid, P. 246.

الموارد المتعدّدة الخواص والمجموعات المؤلّفة حقيقة، وهي لا تبقى دون نتيجة...

فتارة تجتمع هذه العناصر وتتجانس لتشكّل كتلةً متلاصقةً ومتقاربةً لكن في نفس المصحف هناك كتلة صنّفت ودوّنت كسورةٍ ذات محتوى ومكوّن غير مترابطٍ من وجهة نظر أدبيّةٍ... وفي النّهاية يفقدها ككتلةٍ أدبيّةٍ واحدةٍ تواكب رسائلها وخطاباتها وتعكس كلّ واحدةٍ من مراحل التّواصل...

وعكس ذلك، أحيانًا تكون هناك أجزاء للنّصّ تقع في درجةٍ واحدةٍ وغير متسلسلةٍ انتخبت بشكلٍ اعتباطيٍّ، وبذلك تكون بعض المقاطع مفكّكة عمليًّا ومسلوبة التّرابط، بحيث تفقد وحدات النّصّ معانيها الحقيقيّة، وقد تستعمل للتكرار فحسب.» (1).

وفي تعليلها للترتيب الفعلي للقرآن ترى الضّغوط السّياسيّة والاستعجال في الجمع هو الذي جعل التّرتيب الفعليّ غير مترابطٍ (2). تتعرّض أنجليكا إلى رأي Richard Bell الذي يذهب إلى أنّ السّورة تنقسم إلى مقاطع عدّة (فقرات) قصيرة، ولا يوجد حجم محدّد لكلٍّ من الفقرات، ولا يبدو اتّباعها لنموذج خاص من حيث المقياس في تحديد طول الآية وقصرها، الذي هو طول الموضوع الذي عالجته وقصره.

لكن أنجليكا ترفض نظريّته؛ لأنّها تعتمد على النّصّ المكتوب وتتغافل كليًا مواصفات النّصّ الشّفويّ لمعظم الآيات المكّيّة والتّوظيف الطقوسيّ للنّصّ القرآنيّ، والسّهولة في الحفظ وإعمال تقنية الحفظ في التقطيع المشهود حاليًا... (3)

ه- - ظاهرة القَسَم من وجهة نظر أنجليكا

تشير أنجليكا إلى ظاهرة القسم في القرآن، وبعد ما تذكر إحصائياتٍ عن الأقسام في القرآن والسّور التي وردت فيها الأقسام توحي إلى انعدام التّرابط بين القسم

ص: 210


1- Neuwrith, Form and structure..., E.Q. vol.2, pp. 247 - 248.
2- Ibid. P., 247
3- Ibid. p., 252.

وفحوى ما أقسم به وعلاقته بالسّورة بنحوٍ مجملٍ، حيث تقول:

من ثلاثة وأربعين سورة عزاها نولدكه إلى الحقبة الأولى من مكَّة تصدّر القَسَم سبعة عشرة واحدة منها، وفي ثمانية منها ظهر القَسَم وسط السّورة.

يمكن الفصل بين نوعين من القَسَم، أوَلهما المتصدّر بواو القسم، وثانيهما: المتصدّر بعبارة (لا أقسم) والأوّل تكرّر ثمانية عشرة مرّة، خمسة عشر مرّة منها متصدّرًا السّورة وثلاثة مرّات ضمن السّورة. والثاني تصدّر سورتين وخمس مرّات ضمن السّور.

لم تُناقش الأهمّيّة العمليّة لما تتصدّر به السّور في مجمل انشائها على أيٍّ من المستويات المنهجيّة. حتّى الآن البحوث في مجال بدايات السّور ومقدّماتها أنتجت فرضیاتٍ بعيدةً المنال حول نوعيّة نبوّة محمد، كالتي تقول بأنّ السّور الأوائل تكشف عن علاقةٍ قريبةٍ عمّا كان يتفوّه به الكهنة قبل الإسلام، وقد تعتبر الأكثر وثوقًا على كلام الكاهن نفسه (1).

ثمّ تقول بإمكانيّة تصنيف القَسَم إلى ثلاثة أصنافٍ هي:

أ - الصنف الذي يكون على وزن (والفاعلات) (37: 3-1 و 51: 4-1 و 77: 4-1 و 79: 1-5 و 6-14 و 100 : 1-5) وهذا الصنف من القَسَم لم يصرّح القرآن فيه بمرجع القسم وبما أقسم به لكنّه تضمّن معنى الحركة لما أقسَم به.

وهنا تُشير إلى مسألةٍ تعزوها للمسلمين والغربيين معًا، حيث تقول: وقد عدّ هذا القَسَم من الموارد التي يصعب حلّها من قبل المفسّرين المسلمين وكذا علماء الغرب.

وقد عرض القرآن هنا لغةً كنائيّةً تختلف عمّا أثرناه في باقي النّص القرآنيّ. جيء بها لأن تعرف كونها مبهمةً عمليًّا، ليس كثيرًا بسبب ما تضمّنت من بعض الإبهامات اللّغويّة والنّحويّة بل بسبب الصّعوبة المبدئيّة الأكثر، أي أنّ التّصريح

ص: 211


1- Neuwrith, Form and structure..., E.Q. vol.2, pp. 255.

بها يعدّ نوع تدنيسٍ في مثل الحصن التي في طريقها إلى الهجوم، أو كونها مخالفةً لفحوى السّورة كوثيقةٍ لحديثٍ دينيٍّ في مثل السّحب المليئة بالمطر؟

ب - مجموعة الأقسام التي تشير إلى المواقع والأماكن المقدّسة وعظمة الخلق مثل: (52: 1-6 ، 90: 1-3، 95: 1-3) الأماكن المذكورة تعود إلى تجلَّ إلهيٍّ محدّد، ولذلك توظّف كرمز وإرشادٍ إلهيٍّ. مكّة من الأماكن التي يتحدّث عنها القرآن ،باستمرار، فقد تطرح لوحدها كما في السّورة 90، وقد تطرح مقترنةً بطور سيناء كموقعٍ ثانٍ، كما في السّورة 52 و 95.

وتحكم على هذا الصنف من القَسَم بقولها: وفي جميع موارد القَسَم الثلاثة المذكورة تفتقد العلاقة الدّلاليّة المباشريّة بين صيغة القَسَم والفقرة اللّاحقة لها. ويتأخّر حلّ اللّغز ولا ينكشف إلاّ في نهاية السّورة، وتجلّي الإله، كالتّواصل الرّبّانيّ الذي يوجب تقديم الأداء يوم الحساب.

ج - مجموعة الأقسام التي تعود إلى الظّواهر الكونيّة والأوقات والأزمنة العباديّة في الليل والنّهار، ونجدها في بدايات عدد من السّور (85: 1-3، 89: 1-4، 91: 1-7 92: 1-3، 93: 1-2) كما نشاهدها ضمن سورتين: (51 7-9، 86: 11-12).

ثمّ تُشير إلى صنفٍ آخر من القَسَم وتقول: وفي سورٍ لاحقةٍ تطوّر القَسَم وأصبح واضح الفحوى مباشرة دون التعليق على نهاية السّورة أو ما شابه، ولا نجد لغوًا فيه، لكنّه تحوّل من فاعلي توظيفي إلى جمال وحلية تستفاد لرفع المستوى الجمالي للنّصّ، وذلك مثل الموارد التّالية : (38: 1 و 43: 2 و 44: 2 و 50: 1 و 1:68). (1)

وتقول في مقال (Sura):

اسم السّورة يُؤخذ من كلمةٍ تلتقط من النّصّ، قد تكون كلمةً نادرةً في القرآن مثل سورة (عبس ) أو سهلة التّعلُّم أو لكونها تشكّل الموضوع الأساس الذي تناولته

ص: 212


1- Neuwrith, Form and structure..., E.Q. vol.2, pp. 256- 257.

السّورة مثل سورة النّساء، وأحيانًا الكلمة المستهلّ بها السّورة. ولا يوجد اتّفاقٌ كاملٌ في تسمية السّورة، وقد يكون للسّورة أكثر من اسم؛ وذلك لوقوع التّرتيب وما لحقه من تسميةٍ للسّور في وقتٍ متأخّرٍ، حيث نقّح الخليفة الثالث عثمان بن عفان القرآن (1).

وتقول : إذًا السّورة ذات علاقةٍ بالنّصّ، لكن ليس النّصّ المكتوب بالضّرورة. ويبدو أنّ الأكثر دقّةً كونها تدلّ على النّصّ المقروء، فهي كميّةٌ من النّصّ عُرضت على العموم في مناسبةٍ خاصّةٍ. وعلى أيّ حال، فإنّ استخدام مفردة سورة لتدلّ على كونها تعني (قسم) من القرآن سُمّي باسم خاصٍ فيما بعد عهد الرسول يعدّ موضع تساؤلٍ وشكٍّ قويّ.

يبدو أنّ السّورة في سياق القرآن تعطي - إلى حدٍّ ما - التقسيم الوظيفي المألوف عن اليهوديّة والمسيحيّة.

فيما كان تصنيف النّصوص وتقسيمها التّقليديّ لأغراضٍ عباديّةٍ وطقسيّةٍ بعد إتمام التّصنيف لمجمل النّصّ القرآني. يبدو أنّ ترتيب النّصّ يعود إلى الاستخدام الشّفويّ للنّصّ الذي كان يقرأ على المجتمع في العصر المتقدّم، حيث كانت القراءة ممارسةً متقدّمةً على التّدوين ككتلةٍ واحدةٍ.

هناك عددٌ من السّور تعكس مواصفات وحداتٍ أدبيّةٍ مقصودة، ومتكوّنة لأغراض القراءة، وهناك عددٌ آخر من السّور مطوّلة مع استخداماتٍ مكرّرةٍ، وهناك عدد آخر منها تبدو كذلك عبارة عن تأليفٍ لوحداتٍ غير مترابطةٍ على الأرجح تفتقد البديل في النّقل الشّفويّ.

هذه المشكلة المعقّدة ما زالت تنتظر التقييم والحلول. لم تدرس السّورة بنحوٍ كافٍ كوحدةٍ كليّةٍ متكوّنة من وحداتٍ مترابطةٍ. هذا برغم وجود توجّهاتٍ جديدةٍ حصلت مؤخّرًا مؤكّدةً عمدة على السّورة الثانية عشر من القرآن، أي سورة يوسف

ص: 213


1- Neuwrith, Sura, E.Q. Vol. 5, p., 166

التي تحكي قصّة هذا النّبيّ، من قبيل ما صدر عن مستنصر مير في (Coherence the sura as a unity, The Quranic story of Joseph) ودراسة كذلك لنيويفيرت وغيرها. (1)

وبعد التلميح باحتمال كون السّور كانت تختلف عمّا كانت عليه قبل التّرتيب والنّظم الفعليّ؛ باعتبار أنّها كانت تواصلات شفويّةً غير مكتوبةٍ تقول:

السّور الأوائل في مكّة ينبغي أن تكون متّخذةً النّمط المستخدم عند الكهنة والعرّافين قبل الإسلام الذين يدّعون كونهم يمتلكون قدراتٍ خارقةً للطبيعة. وهذه الصّيغة الأدبيّة تُدعى سجعًا، وتتضمّن وحداتٍ تركيبيّةً قصيرةً، علّمت بإيقاعٍ تعبيريٍّ مؤكّدٍ بشدّةٍ.

ثمّ تشير إلى أنّ السّور المكّيّة اللّاحقة اتّخذت أنماطاً متقدّمةً مختلفةً عمّا كانت عليه برغم بقاء بعضٍ آخر قريبة لنمط الكهنة... (2)

وضمن سعيها للمقاربة بين السّور والنّصوص اليّهوديّة والمسيحيّة وإرجاع نمط بعض السّور إلى ما ورد في المسيحيّة واليهوديّة تقول أنجليكا:

الظنّ بتواجدٍ قويٍّ للنّصرانيّة... واليهوديّة بعد الهجرة على أقلّ تقديرٍ، واطّلاع الرّسول وأتباعه على النّصوص اليهوديّة والنّصرانيّة ممّا لا مفرّ منه لأجل فهم السّور الأوائل، كما أنّه ينبغي تلقّي الوثنيّة في القرآن لا كنظامٍ محدّدٍ في الاعتقاد، بل كقاسمٍ مشتركٍ كبيرٍ ومتنوّعٍ وغير ثابتٍ من العناصر متأثّرةً بقوّة بالفكر التّوحيديّ (3).

وتصف السّور النازلة في مكّة بقولها: السّور المتصدّرة بالقَسَم هي الأكثر رجوعًا إلى نمط الكهنة (4).

ص: 214


1- Neuwrith, Sura, E.Q. Vol. 5, p., 176
2- Ibid, P., 168.
3- Ibid, P., 169. 167.
4- Neuwrith, Sura, E.Q. Vol. 5, p, 172.
وفي مقال (Verse)

باعتبار استخدام المنهج التّوصيفيّ أوردت أنجليكا الكثير من المواصفات للآيات القرآنيّة في مقالها الذي حمل عنوان (verse) بعضها نقرّ به مثل تقسيمها للآيات إلى أحاديّة الموضوع ومتعدّدة الموضوع، وأنّ بعض الآيات ذات فاعليّةٍ توظيفيّةٍ دينيّةٍ خاصّةٍ، مثل استخدام بعض الآيات لعبادات وأدعية خاصّة وأمور أخرى كذلك.

لكنّ الذي يُلاحظ في مقالها هذا هو المقارنة الواضحة والشّاملة للآيات بالأشعار العربيّة والترنيمات التي كان السّحرة والمشعوذون العرب يستخدمونها آنذاك. وكأنّها توحي بأنّ الاثنين يدخلان في ذات الإطار من حيث الشّكل والتّوظيف (1).

ثالثًا: إجابات على شبهة اضطراب النّص
اشارة

في خضم الإجابة على هذه الشّبهة هناك نقاط وبحوث عدّة ذات صلةٍ بالموضوع تُشكّل بمجموعها إجابة على الشّبهة، نطرحها هنا تباعًا وفي بدايتها نورد ملاحظاتٍ إجماليّةً على ما ورد في كلام انجليكا:

1. ملاحظات على مقولات انجليكا نويفيرت

باعتبار عمق القضايا التي تعرّضت إليها أنجليكا وأهميّة ما تطرّقت إليه بشيءٍ من التّفصيل رأينا من المناسب ذكر الملاحظات الآتية:

● من المسلّم به أنّ المضامين التي وردت في كلمات أنجليكا نويفيرت كثيرةٌ، والإجابة عن جميعها يخرجنا عن موضوع بحثنا ونحن نقتصر في هذا المجال على موضع بحثنا ونركّز عليه وهو الاضطراب الذي أشارت إليه بعباراتٍ مختلفةٍ. أمّا الإجابة على مجمل ما ورد في كلماتها فبحاجة إلى دراسةٍ أخرى.

● لقد سعت أنجليكا لاستخدام المنهج التّوصيفيّ وحكاية القرآن كما هو المأثور

ص: 215


1- Neuwrith, Verse E.Q. Vol. 5, pp., 419 -430.

لدينا حاليًّا واحترام ترتيبه. وهذا أمرٌ إيجابيٌّ تُمتدح عليه.

● تعبیرها ب_ problem دون question يكشف عن رؤيتها غير الإيجابيّة تجاه التّرتيب الفعليّ. فإنّها تعتبر الموضوع هنا ليس مسألةً أو قضيّةً مطروحةً للبحث، بل مشكلة.

● استخدام مفردات دارجة لدى المسيحيّة وغيرها مثل canonization أي التقديس أو الرّسميّة، وهو اصطلاحٌ غير دارجٍ لدى المدرسة الإسلاميّة يكشف عن نظرتها المقارنة أو السّعي للمقارنة بين الإسلام وغيره من الأديان، مع أنّ الكثير من الأمور لا يمكن مقارنتها، ومن ضمنها المورد المتقدّم الذي تناولته.

● الأمور التي أوردتها كأسبابٍ للاضطراب المزعوم تعدّ احتمالاتٍ لا يمكن الإقرار بصحّتها إلاّ إذا اقترنت بدراساتٍ توثّقها وتثبّتها بنحوٍ علميّ مقبولٍ، فكلّ واحدٍ من الأسباب يقتضي دراسةً معمّقةً وموثّقةً بآياتٍ تُرجع الاضطراب فيها إلى واحدٍ من الأسباب المزعومة.

● بعد إشارتها إلى التّرتيب العثمانيّ وأنّه التّرتيب التّقليديّ المعتمد لدى المسلمين تقول: يُعرف القرآن ككتلةٍ نصّيّةٍ غير مترابطةٍ مع تنوّعٍ معتدٍّ به في البنية، بحيث لا يسمح بتصنيفه بسرعةٍ ووفق تنوّعٍ أو اعتبارٍ أو مبنًى واحد (1).

وقد عمّمت بهذه النّظرة كلا الجانبين من التّرتيب، أي التّرتيب في الآيات والتّرتيب في السّور، فإذا كان مُرادها التّرتيب في السّور، فنظرتها ناشئةٌ عن عدم اطّلاعها أو نكرانها لكون التّرتيب الفعليّ ليس وحيانيًّا، ولا يعكس وجهة نظر المسلمين جميعهم بل هو ترتيبٌ اجتهاديٌّ من وجهة نظر الكثير من علماء الإسلام. وإذا كان مُرادها التّرتيب في الآيات فإنّ نكران التّناسب والتّرابط بين الآيات باستثناء موارد محدودةٍ يعدّ نكرانًا لواقعٍ واضحٍ.

ص: 216


1- Neuwrith, Sura, E.Q. Vol. 5, p. 247
2. موضوع التّناسب في القرآن

هناك قضيّةٌ طُرحت من قبل علماء القرآن المتقدّمين، وهي مسألة وجود مناسبةٍ أو تناسبٍ في القرآن، وقد دوّنت لأجلها الكثير من المدوّنات والتّفاسير، وهي في الحقيقة مبتنيةٌ على نفس الشّبهة التي يطرحها وطرحها المستشرقون من قبل، أي قضيّة عدم وجود تناسبٍ أو انسجامٍ في القرآن.

الأولى: لم تطرح هذه القضيّة قبل أن يجمع القرآن، بل طُرحت بعد جمعه. وهذا يعني وجود علاقةٍ بين جمع القرآن وترتيبه بالنّحو المشهود مع قضيّة التّناسب بين نصوصه. وهذا يولّد احتمالاتٍ كثيرةٍ، منها: كون ترتيب القرآن ممّا لم يرتضه الكثير من البشر، واحتمالات أخرى أيضًا.

الثانية: طرحت قضيّة التّناسب بعد جمعه بفترةٍ طويلةٍ. وهذا يعني هناك دورٌ لموضوع ابتعاد الأجيال عن اللّغة العربيّة الأصيلة، وهناك علاقة بين الشّؤون اللّغويّة في اللّغة الأصيلة وقضيّة التّناسب في القرآن. وبذلك يقل احتمال انحصار رجوع الأمر إلى سوء ترتيب القرآن، بل قد تكون هناك عوامل عديدة مؤثّرة في هذا الموضوع.

الثالثة: طرح الزّركشي ( ت 794 ه_) والسّيوطي (ت 911 ه_) لعلمٍ سمّوه علم التّناسب أو المناسبة يؤكّد وجود مشكلين وناقدين للقرآن في عهودهما أو كون عدم التناسب من الشّبهات المتبلورة في الأذهان آنذاك.

3. عدم اختصاص الشّبهة بالقرآن

إنّ هذه الشّبهة غير مختصّةٍ بالقرآن، والغموض وما يبدو من عدم انسجام أمرٍ غير خاصٍّ بالقرآن، بل هو شأن مجمل النّصوص وبخاصّة القديمة منها حتّى القصيرة أحيانًا. ولا يبدو وجود نصٍّ طويلٍ - على أقلّ تقدير - وقديم يخلو من مشكلة الغموض والإبهام الذي يجعل منه أحيانًا نصًّا غير منسجم. ولذلك يُبادر لتحقيق النّصوص القديمة والأثريّة، ولو كانت غير مبهمةٍ ولا يعلوها الإبهام وعدم الانسجام لما احتاجت إلى التّحقيق...

ص: 217

إنّ منهج التّحشية والتّعليق سواءً على النّصوص الأدبيّة أو العلميّة يكشف عن حاجةٍ للتفسير، والقضيّة لا تختصّ بالقرآن بل تشمل مجمل النّصوص. وهذا لا لنقصٍ في المتون القديمة بل الأمر يعود إلى أمورٍ لغويّةٍ وثقافيةٍ وغير ذلك كتبت في ظلّها المتون المذكورة، والابتعاد عن تلك الظّروف استدعى الشّرح والتّعليق.

من جانبٍ آخر، فإنّ القضايا التي تضمّنها القرآن إمّا أن تكون قضايا أدبيّةً بحتةً أو تشريعيّةً أو عقديّةً أو اجتماعيّةً أو أخلاقيةً، ومجمل هذه القضايا تعدّ قضايا جدليّة، وطبيعتها تستدعي الجدل والنّقاش وتظلّ هكذا دائمًا مهما كانت، وحتّى لو صيغت بعباراتٍ واضحةٍ جدًا. فإنّ مجمل هذه القضايا كانت وما زالت عرضةً للجدل والنّقاش. وهذا من أسباب اختلاف المفسّرين والعلماء في تفسيرها وتحليلها، ويمكن أن تكون الشّبهة المذكورة ناشئةً عن هذا الجدل لكن تحت غطاء شؤون لغويّةٍ وأدبيّةٍ.

إنّ اختلاف المفسّرين في تفسير الآيات ذات المواضيع الجدليّة ممّا يزيد من الإبهام في هذا المجال ويضع الانسجام المطلوب موضع شكٍّ و ترديدٍ. فالآية التي تتضمّن موضوعًا جدليًّا تكون بحدّ ذاتها أهلاً لتفاسير عدّة قد لا تكون منسجمةً مع الآيات الأخرى بل مع أجزاء الآية ذاتها.

4. جزئيّة شبهة اضطراب النّصّ

لا شكّ أنّ هذه الشّبهة اذا كانت عاكسةً لواقعٍ فهي خاصّة ببعض الآيات أو السّور، ولا تشمل جميع القرآن، وهناك اعترافٌ صريحٌ أو ضمنيٌّ بهذا الموضوع حتّى من قبل المستشرقين. فإنّ سورًا مثل الفاتحة التي تضمّنت البسملة والثّناء لله ومدحه والدّعاء بعدم الزّيغ عن طريقه، تقع في قمّة الانسجام والتّلاحم والوحدة، وهي خير ما يمكن افتتاح كتاب الله بها.

كما أنّ سورة الاخلاص تضمّنت عرض عقائد المسلمين في مجال التّوحيد، وهي أيضًا في قمّة الانسجام من حيث وحدة الموضوع، فإنّها تضمّنت بعض الصّفات الإلهيّة التي ينبغي القول بها لأجل عدم العدول عن التّوحيد. وقد أقرّ بهذا بعض

ص: 218

المستشرقين كذلك، فإنّ لمثل أنجليكا نويفيرت بحثًا في هذا المجال انصبّ بنحوٍ تطبيقيٍّ على سورة يوسف، وقد أقرّت بالانسجام فيها في الإجمال برغم نقودها للقرآن من هذه الحيثيّة.

ومن جانبٍ آخر، فإنّ المشكلة مطروحةٌ في السّور المدنية أكثر من السّور المكّيّة؛ باعتبار كون المدنيّة أكثر تعقيدًا من السّور المكّيّة التي يبدو فيها البساطة المنسجمة مع بساطة المخاطبين آنذاك.

من الملاحظ بوضوح أنّ الذين طرحوا هذه الشّبهة أو أجابوا عنها من المسلمين لم يوردوا إلاّ القليل من الآيات كنماذج على الشَّبهة المزبورة، وكذلك فعل المستشرقون، ممّا يعني أنّ الجميع يقرّ بجزئيّة الشّبهة وعدم عموميّتها لمجمل القرآن.

5. مهارة العرب في الشّؤون اللّغويّة

إنّ مهارة العرب بلغتهم واهتمامهم الوافر بهذا الجانب من الحياة تمنع من عدم اعتبار القرآن معجزةً آمنت به الشّعوب العربيّة آنذاك، لا ككتابٍ سماويٍ فحسب، بل ككتابٍ أدبيٍّ ويحظى بمستوًى عالٍ من البلاغة والفصاحة، ولا يتأتّى هذا الإيمان إلاّ إذا كان ذا محتوًى عالٍ في مجمل زواياه، ولو كان القرآن غير مترابطٍ وفاقدًا للانسجام اللّازم لكان ذلك من أفضل الذّرائع التي يمكن أن يتمسّك بها غير المؤمنين بالإسلام لسلب هذه الدّعوة الحديثة فاعليّتها وتأثيرها على النّاس.

لم نأثر بنحوٍ ملحوظٍ إشكالاً ورد عن عرب عصر النّزول يتناول هذه الشّبهة، وحتّى الرّواية التي تحدّثت عن مناظرة بين زنديق والإمام علي فهي تحكي واقعةً في زمنٍ متأخّرٍ عن عهد النّزول. وهذا يعني أنّها لا بدّ وأن تكون شبهةً طرأت فيما بعد لعلّةٍ أخرى غير نفس النّصّ القرآنيّ.

6. انفراد المستشرقين بالإشكالات الأدبيّة

في مجال الارتباط اللّفظيّ بين الكلمات والجمل والذي يتمّ بواسطة أدوات الرّبط والضّمائر والإرجاعات الإشاريّة، فإنّ الملحوظ في ذلك إشكال المستشرقين

ص: 219

فقط، ولم نشهد بشكلٍ ملحوظٍ إشكالات غير المستشرقين إلاّ بعض ممّن حمل أغراضًا تبشيريّةً أو غير ذلك، وهم قلّة نادرة. وقد لا نجد من بين مئات التّفاسير التي وردت عن علماء الإسلام من أشكل في هذا المجال، ما يكشف عن أنّها مشكلةٌ خاصّةٌ بالمستشرقين. هذا مضافًا إلى وجود أكثر من دراسةٍ تناولت هذا الموضوع. (1)

7. عدم العلم بشأن أسباب نزول بعض الآيات

إنّا لم نأثر شأن نزول جميع الآيات، والذي أثرناه لم يخلو من كثير من الاختلاف والضّعف في النّقل، مع احتمال الدّسّ والكذب في بعضها، كما هو واضح.

وما يترتّب على هذا أنّ الآية التي تبدو مضطربةً هي في الحقيقة إجابةٌ عن قضايا عدّة في وقت واحد، أو عن شأن نزولٍ لا نعرفه أو نعرف جزءًا منه أو ما شابه ذلك من أمور. وممّا يمكن اعتباره دليلاً أو شاهدًا على هذا الكلام - على أقلّ تقدير- هو اختلاف الرّوايات والعلماء في شأن نزول بعض الآيات. وممّا يعنيه هذا أنّ شأن النّزول في بعض الآيات ليس أمرًا يقينيًّا ومحسومًا، بل هناك مجال للشكّ. وأمثلته كثيرة، وبخاصة في الموارد التي اختلف فيها الشيعة والسنة في هذا المضمار، وهي موارد واضحة. ومن هذا القبيل كذلك ما ورد في شأن نزول الآية الثالثة من سورة المائدة، فإنّ التَّعرّف على شأن نزولها يزيل الاضطراب عن الآية.

8. دراسة القرآن بمعزلٍ عن علوم أخرى يقتضيها التّفسير

من أسباب طرح هذه الشّبهة هو عدم علم المستشرقين باللّغة العربيّة وبآدابها وعلومها، وكذلك عدم إلمامهم بالعلوم التي يحتاجها المفسّر لكي يتسنّى له القيام بعمليّة التّفسير الخطرة. وقد أشار إلى هذا العامل بعض المستشرقين.

ومن أسباب طرح هذه الشّبهة كذلك هو دراسة القرآن بمعزلٍ عن السّنة

ص: 220


1- للمزيد راجع المصدرين التاليين: El-Awa, Salwa M.S. Textual relations in the Qur'an, relevance, coherence and structure, Routledge, London and New York, first published 2006. Mustansir Mir, Coherence in the Quran, American Trust Publications, Indianapolis, Ih, 1986.

والأحاديث، فإنّ الدّراسات القديمة للمستشرقين وحتّى الكثير من دراساتهم الحديثة تتناول القرآن بالدّراسة بمعزلٍ عن أيّ شيءٍ آخر، وهو ما يفقدهم الكثير من العلوم والملابسات التي عليهم معرفتها لمعرفة خصائص القرآن ومعانيه ومفاهيمه. وبخاصّة أنّ شأن الأحاديث ذات الصّلة بالتّفسير مهمّ جدًا ويختلف عن شأن باقي العناصر والعلوم التي يمكن أن تُلحظ في التّفسير.

يشير ماركو شولر إلى هذه الحقيقة ويعتبر هكذا دراسة مستحيلة (1).

ويرجع تاريخ إدخال عنصر التّفسير والحديث في دراسة القرآن إلى أواخر القرن العشرين. ما يعني أنّ الدّراسات قبل القرن العشرين كانت فاقدةً لهذا العنصر المهمّ والحسّاس.

كما يشير إلى أهميّة العلاقة بين القرآن والفقه والقانون ويعتبر أنّ التوجّه إليه في دراسات المستشرقين حصل مؤخّرًا (أواخر القرن العشرين) (2).

9. الغفلة عن وجود شبكةٍ مترابطةٍ من الإحالات والعناصر الإشاريّة
اشارة

إنّ للقرآن شبكةً مترابطةً متكوّنةً من عناصر إحالات وإشارات بين السّور، ولذلك نجد فكرة تفسير القرآن بالقرآن آخذةً موقعها من التّفسير. وهذا نتيجةٌ طبيعيّةٌ التماسك النّصّ ووحدة كاتبه، بالطّبع لا نقول بوجود تناسبٍ بين جميع السّور، بل نقول بوجود هكذا شبكة وليس بالضرورة أنّ هذا يعني التّناسب بين أي سورة ولاحقتها.

إنّ عدم تمركز قصص الأنبياء في محلٍّ واحدٍ من هذا القبيل، فإنّ القصّة تجدها متناثرةً في الكتاب، وذلك لأنّ طريقة القرآن هي الإحالة والحذف، كما هو حال جلّ العرب في ذلك الحين، فيتكلّمون ويضربون الأمثال للإشارة إلى موضوع ما، والقرآن يتكلّم عن سننٍ إلهيّةٍ تصيب البشريّة فيذكّر بقوم آخرين سبق وأن تحقّقت فيهم

ص: 221


1- Sholer, Post-Enlightenment Academic..., Vol. 4, 198.
2- Ibid

وأجريت عليهم. فيحذف تفاصيل القصّة ويذكّر بنبيّ ذلك القوم أو القوم ذاته.

إنّ الإحالات الخارجيّة - مضافًا إلى الإحالات ،الدّاخليّة كالضّمائر والإشارة إلى نصوصٍ وقصصٍ ومفاهيمَ سبق ذكرها - قضيّةً مهمّةٌ تُسهم كثيرًا في استيعاب محتوى النّصّ، ودونها لا يمكن فهم النّصّ فضلاً عن انسجامه.

يمكن إدراك هذه الإحالات من خلال دراسة أمورٍ تحوم حول النّص والآية، من قبيل: أحاديث السنّة الواردة ذيل الآية، وشأن نزولها، وسيرة الرّسول والأصحاب، و تاريخ نزول الآية والخلفيات الثّقافيّة وغير الثّقافيّة التي تستبطنها الآية.

إنّ الغفلة عن وجود هكذا شبكة هو من أسباب تصوّر وجود اضطراب في النّصّ القرآنيّ، فإنّ المستشرق قد ينظر إلى نصّ ما نظرةً مجهريّةً ولا يأخذ بالحسبان النّظرة الشّموليّة الكلّيّة. بينما المفروض النّظر إلى أيّ نصٍّ قرآنيٍّ نظرتين: أحدهما: جزئيّة مجهريّة خاصّة بالنّصّ موضع النّظر، وثانيهما: النّظرة الشّاملة للنّصّ في مجمل القرآن، وملاحظة الإحالات التي تعود إليه.

يقول محمود الهواوشة:

«عملت الإحالات بصفة رئيسيّةٍ على ربط سور القرآن عن طريق التّبادل الإحالي، ولا يعني ذلك أنّ كلّ آيةٍ أو مقطعٍ في القرآن يحيل على الآخر إحالاتٍ جزئيّة، إنّه تبادلٌ إحاليٌّ شبكيٌّ، أي أنّ بعضه يحيل على كلّه، وسورة ما تحمل إحالةً تعود على عنصر أو أكثر في سورة أخرى، والأخيرة بدورها تُحيل على غيرها وتعود الإحالة من الأخيرة أو غيرها على الأولى وهكذا، فنصّ القرآن بناءٌ واحد، كلّ ساريةٍ فيه تزيد من قوّة الأخرى، وفي عودة العناصر الإحاليّة على العنصر الإشاري المقامي منتج النّصّ الله سبحانه وتعالى، عامل الإحالة الرئيسي وحدة لنصّ القرآن عدا العوامل الأخرى الدّلاليّة واللّفظيّة».(1)

ص: 222


1- الهواوشة، محمود سليمان حسين: أثر عناصر الاتساق في تماسك النص، رسالة مقدمة إلى عمادة الدراسات العليا للحصول على درجة الماجستير في النحو والصرف، جامعة مؤتة، 2008م، ص 259.
10. كون الأسلوب المعتمد في القرآن هو ذاته المعتمد عند العرب عهد النّزول

إنّ منهج البيان الذي اعتمده القرآن هو في الحقيقة محاكاة لمنهج البيان الذي كان العرب قد اعتمدوه عهد نزول القرآن؛ واعتماد هذا المنهج جاء بناء على الرّؤية القرآنيّة التي ترى اعتماد (لسان القوم) هو السبيل النّاجح لهداية البشر. وقد استخدم منهج المحاكاة غير النّبيّ محمد من الأنبياء، فالنّبي إبراهيم ماشى قومه في التّظاهر بعبادة غير الله لإثبات سقم رؤيتهم، وهكذا النّبي موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، فتكلّموا مع النّاس وخاطبوهم وفق ما كانوا يعتمدونه من منهجٍ كلاميٍّ وعمليٍّ وفكريٍّ، والأمر غير خاصٍّ بالنّبي محمد.

يقول الدكتور محمد زماني: «الأسلوب المعقول والحكيم الوحيد لهداية مجتمع هو التّماشي معهم في لسانهم واستخدام لسان القوم وعرض خطاب الهداية الممتزج بقضايا عاطفيّة وتذكيراتٍ رحيمة تعكس عطف الله على الإنسان، والنّصائح والمواعظ، والإرشادات الأخلاقيّة والسّلوكيّة، والتّرغيب والتّرهيب، والتّحليل العقليّ، وأخذ العبر من الأقوام السّابقة، والالتفات إلى أسرار الكون الخفيّة والآيات الكونيّة والطّبيعيّة وما شابه ذلك؛ وذلك لأنّ الفراغات والآلام الرّوحية التي يعاني منها المخاطبون متعدّدة ومختلفة، وعلاجها بحاجة إلى خلطةٍ ذات عناصر متنوّعة» (1).

11. أسباب اختلال وحدة النّصّ جزئيًّا في القرآن
اشارة

الملاحظ في القرآن انعدام بعض مجالات الوحدة المفروض رعايتها في كلّ كتاب، وذلك مثل: تعدّد أسلوب الخطاب، أو طفرات موضوعيّة في السّورة الواحدة، وقد يكون ذلك للأسباب الآتية:

أ. تعدّد الشرائح المخاطبة

باعتبار القرآن كتابًا شاملًا يعمّ في خطابه طبقاتٍ وشرائح مختلفةً من البشريّة. وعلى الرّغم من صغر مجتمع العرب عصر النّزول وبداءته إلاّ أنّه كان يضمّ طبقاتٍ

ص: 223


1- زماني، محمد حسن: مستشرقان و قرآن، موسسه بوستان کتاب (مرکز چاپ و نشر دفتر تبلیغات اسلامي حوزه علمیه قم)، (مصدر فارسی)، ص 331 - 332.

متفاوتةً، فمنها المتعلّمة ومنها غير المتعلّمة، ومنهم ذوي عقولٍ منفتحةٍ وغير المنفتحة وكثير من الشّرائح التي يمكن تصوّرها. فالآيات التي خاطبت اليهود خاطبت في الحقيقة أناسًا متعلّمين قرأوا التوراة. بينما الآيات التي خاطبت قادة العرب آنذاك خاطبت أناسًا جهلة. إنّ صدور آيات صغيرة جدًّا عكست بساطة المسلمين ومستواهم من حيث التعليم، فإنّها صدرت بهذا الحجم لأجل بساطتهم وعدم تعلّمهم وصعوبة حفظهم للنّصوص الطويلة، وعدم تمكّنهم من القراءة والكتابة. بينما نزلت آيات طوال في المدينة حيث تعلّم المسلمون وبلغوا مستوى يتسنّى من خلاله هضم الآيات الطوال.

وأفضل ما يمكن ذكره من شواهد في هذا المجال هو الآيات المكيّة بمجملها، فإنّ لها مواصفات، منها: صغر حجمها، وبساطة محتوياتها، واستخدام الأمور المأنوسة عند المكيين من الحيوانات والشؤون البسيطة، والتعابير ذات الوقع الخاص القريب من الشعر، واحتوائها للسجع وما شابه.

ب. تباعد أزمان نزول مقاطع القرآن

إنّ تباعد أزمنة الخطاب غيّرت الكثير من شؤون الخطاب، كالموضوع ونوعيّة الأمثلة والتّصاوير الأدبيّة المستخدمة لتقريب المفاهيم؛ وذلك بسبب تغيّر الكثير من الأمور السياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة، ما استدعى التّعرّض لمواضيع تنطوي في هذا المجال. فعلى سبيل المثال خطابات القرآن في مكّة كانت ذات محتوًى عقديًّ وأخلاقيًّ بينما تغيّر الخطاب في المدينة ليتّخذ طابعًا سياسيًّا أحيانًا واجتماعيًّا أحيانًا أخرى. كما أنّ المسلمين في المدينة قد تعلّموا القراءة والكتابة وأصبح مستواهم الثقافي والعلميّ أرفع ممّا كانوا عليه في مكّة. وذلك بعد تشكيل حكومة الرّسول هناك وتغيّرت هيكليّة المجتمع المسلم في المدينة. ومن الطبيعي أن نشهد بعض التغييرات في هذا المجال. وهذا أمر لا يختصّ بالقرآن بل هو شأن أيّ كتابٍ نفرض تدوينه في فترةٍ دامت أكثر من عقدين، مع تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة جمّة.

ص: 224

ج. تعدّد شؤون النّزول

من الواضح أنّ الآيات نزلت لشؤون مختلفةٍ، وسعة هذه الشّؤون بسعة مجتمعٍ كاملٍ بما يضمّ من نشاطاتٍ و علاقاتٍ اجتماعيّةٍ وغير اجتماعيّةٍ ومشاكل... ومن الواضح كذلك أنّ الخطاب يتغيّر ويتلاءم وفق الشّأن النازل لأجله الخطاب. فإذا كان الشأن اجتماعيًّا كان الخطاب اجتماعيًّا والأسلوب كذلك، وإذا كان الشأن سياسيًّا أو عسكريًّا كان الخطاب والأسلوب سياسيًّا أو عسكريًّا، وهكذا باقي الشّؤون التي نزلت في حقّها الآيات.

وبناءً على هذا، فإنّ وحدة النّصّ في بعض مستوياته ممّا لا يمكن مراعاته في القرآن بمجمله لطبيعة الشّؤون التي ذكرت. وكذلك السورة؛ لكونها شكلاً مصغّرًا عن القرآن ككل، ففيها آيات نزلت في شؤونٍ مختلفةٍ، كما أنّ فيها آيات مكيّة ومدنيّة، وفيها شؤونٌ اجتماعيّة وعسكريّة وسياسيّة واقتصاديّة، والقضايا المطروحة فيها ليست من نمط واحدٍ لكي نتوقّع منها وحدة النّصّ في جميع المستويات.

أمّا بالنسبة إلى الآيات، التي هي أصغر مقاطع القرآن، فينبغي رعاية جميع مستويات الوحدة. ويُشترط فيها ما يُشترط في النّصّ العقلائي العادي؛ باعتبار أنّ المفروض في أصغر مقطع من كلّ كلام صدر من عاقل أن يضمّ جميع جوانب الإنسجام والوحدة النّصّية، فضلاً عن صدوره من رئيس العقلاء. ومن غير الطبيعي أن يكون هناك مقطع صغير جدًا بمستوى آية خوطب به أكثر من شريحة أو طبقة. وإذا شاهدنا آية تفتقد أحد مستويات الوحدة فعلينا البحث عن سبب

12. مناشيء الشّبهة وأرضيات تبلورها
اشارة

إنّ التعرّف على مناشىء الشّبهة يزيل الكثير من الإبهامات، ويعدّ نوع إجابةٍ على كثيرٍ من التّساؤلات والملابسات التي تحوم حول هذا الموضوع.

هناك أمور عدّة يبدو أنّها عوامل أدّت إلى تبلور هذه الشّبهة. فلا شكّ أنّ هناك ما يدعو إلى تبلور هذه الشّبهة لا في أذهان المستشرقين فحسب بل المسلمين

ص: 225

كذلك، والأمور التالية تبدو عوامل بلورت الشّبهة في الأذهان، على أنّ بعضها يعود للنصّ القرآني ذاته، وبعضها يعود إلى مفسّري هذا النّصّ وعلماء المسلمين، وأخيرها يعود إلى المستشرقين ذاتهم، نتناول هذه العوامل تباعًا:

أ. ما يعود إلى النّصّ القرآني

يبدو من بعض نصوص القرآن عدم التّرابط والانسجام المنطقيّ بين فقرات السّورة الواحدة أو الآية الواحدة.

هناك بعض الآيات يبدو منها انعدام التّرابط بناء على بعض التّفاسير، مثل الآية الثالثة من سورة النّساء والآية الثالثة من سورة المائدة كذلك. وقد أشار إليها بعض علماء المسلمين كذلك، وتناولناها بالبحث في هذا البحث (1).

وهناك بعض السّور نجدها تجمع بين مواضيع شتّى قد لا نجد لها الجامع ببساطة، وهي السّور الطّوال والمدنيّة بالخصوص، مثل البقرة التي ضمّت مواضيع وقصصًا كثيرة.

وقد أرجع بعض المستشرقين مثل موير هذا الاختلال إلى عدم رعاية التّرتيب الطبيعي للقرآن (2).

بينما أرجعه بعض آخر مثل بيل ريتشارد إلى تصحيف النّسّاخ (3).

بينما يرى البعض رجوع الأمر إلى التّضحية بالجانب المعنويّ للقرآن لأجل الجانب البلاغي، مثل السجع، في رعاية الفواصل بين الآيات. وهو ممّا ذهب إليه المستشرق بيل ريتشارد (4)، وهو ما يمكن استفادته من كلمات المستشرقة أنجليكا نويفيرت أيضًا (5).

ص: 226


1- انظر: القمي، تفسير القمي، م.س، ج 1، ص 8 - 12؛ الزركشي، البرهان، م.س، ج 1، ص 40 - 50؛ معرفة التمهيد، م.س، ج 1، ص 212 - 217.
2- The life of Mohammad, p., xxvi - xxviii
3- Bill, introduction to the Quran, pp., 89 - 105
4- Bill, introduction to the Quran, pp., 89 - 105
5- Neuwrith, Vers, E.Q. Vol. 5, p., 198.

وأرجع بلاشر المشكلة إلى التكرار غير المفهوم لبعض الآيات، وذكر مصداقًا له في سورة الرحمن، فقد ظهر له وجود تكرار بين المقطع الذي يبدأ ب_ «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ» والمقطع الذي يبدأ ب_ «وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ» وباعتبار وجود التّشابه الكبير بين أوصاف الجنّتين في المقطعين، فلا بدّ وأنّ هذا ناشيء عن اختلاط الأمر على الصّحابة وغفلتهم ممّا جعلهم يظنون أنّ المقطعين آيتان.

وأرجع بلاشر ونولدكه كذلك الأمر إلى التّرتيب غير الممنهج أو ممنهج وفق أكثر من منهج، ممّا دعاهما إلى السّعي لطرح مقترحٍ خاصٍّ في مجال إعادة ترتيب الآيات والسّور (1).

وممّا يزيد الأمر تشويشًا ويؤكّد الشّبهة كون بعض الأحكام الشّرعية توحي إلى هذه الشَّبهة، مثل الاكتفاء بقراءة آية بعد سورة الحمد في الصلاة لدى بعض المذاهب، أو تسمية بعض الآيات بأسماء محدّدةٍ مثل آية الكرسي وغيرها من الأمور ممّا توحي إلى انفراد هذه الآيات وانفصالها عن مجمل الكتاب ويمكن ملاحظتها لوحدها دون باقي أجزاء القرآن.

هذا المجال، وفي سياق ما ركّز عليه عبد الله محمد دراز من نظريّة حول وحدة السورة، يورد ثلاثة أمور يبدو منها إشارات إلى مناشىء هذه الشّبهة، هي:

1. عناصر معنويّة مختلفة مثل الإيجاز المستخدم في القرآن؛ باعتبار أنّ الايجاز يوجب أحيانًا اختزال المفاهيم بعبارات موجزة وصغيرة جدًا.

2. نزوله تدريجيًّا على مدى سنوات طويلة.

وفي هذا المضمار يقول: «أوَلست تعلم أنّ القرآن - في جلّ أمره - ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة، بل كان ينزل بها آحادًا مفرّقة على حسب الوقائع والدّواعي المتجدّدة، وأنّ هذا الانفصال الزّماني بينها، والاختلاف الذّاتيّ بين دواعيها، كان بطبيعته مستتبعًا لانفصال الحديث عنها

ص: 227


1- Ibid.

على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعًا للتّواصل والتّرابط؟

ألم يكن هذان السّببان قوّتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلكٍ واحدٍ تحت اسم سورةٍ واحدةٍ؟».

ثمّ يورد سببًا آخر، وهو:

3. الطريقة التي اتّبعت في ضمّ نجوم القرآن بعضها إلى بعض وفي تأليف وحدات السّورة من تلك النّجوم (1). فإنّا نعاني جهلًا بهذه الطريقة ولم تتّضح معالمها بالكامل.

ب. ما يعود إلى المفسّرين وعلماء المسلمين

هناك أمور عدّة صدرت من المفسّرين وعلماء المسلمين أثّرت في تبلور هذه الشّبهة، وهي:

الأولى: الآراء المتطرّفة لبعض علماء الإسلام في مجال ترتيب القرآن أو تحريفه أو شؤون من هذا القبيل.

إنّ آراء مثل ما ذهب إليه الأخباريّة من القول بصحّة الرّواية التي قالت بحذف ثلثي القرآن كان محشورًا وسط الآية الثالثة من سورة النّساء.

ومثل أنّ التّرتيب الحالي للقرآن هو ليس التّرتيب الذي أراده الله ورسوله، وأنّ التّرتيب الأصيل قد نال شيئًا من التغيير والتّحريف، وهم من قبيل: السيد علي الميلاني، حيث يقول:

«وترتيب الآيات يختلف عمّا نزل عليه القرآن الكريم، ترون آية المودّة مثلاً وضعت في غير موضعها، آية التطهير وضعت في غير موضعها، ترون آية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» وضعت في غير موضعها، سورة المائدة التي هي بإجماع الفريقين آخر ما نزل من القرآن الكريم، ترونها ليست في آخر القرآن، بل في أوائل

ص: 228


1- دراز، محمد عبد الله: مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن، ترجمة: محمد عبد العظيم علي، مراجعة: د. السيد محمد بدوي، لا ط، الكويت، دار القلم، 1414 ه_، ق / 1993م، ص 142 - 152.

القرآن، ما الغرض من هذا؟ فهذا نوع من التّحريف لا ريب في وقوعه، وقد اتّفق الكلّ على وقوعه في القرآن» (1).

هذه الآراء ساعدت على تبلور هذه الشّبهة، فإنّها توفّر الأرضيّة المناسبة والخصبة لتشكيل هكذا شبهة في الأذهان.

الثانية: تصوير القرآن ككتابٍ غامضٍ لا يمكن فهمه إلاّ بطرقٍ وحيانيةٍ

لقد صوّر البعض القرآن وكأنّه كتابٌ لا يمكن فهمه إلاّ من خلال كلام المعصومين. فقد ذهب إلى هذا الرأي بعض الأخباريين، وقالوا: إنّ التّفسير الحجّة هو التّفسير الصّادر عن المعصوم، أمّا باقي التّفاسير التي يمكن أن تصدر من المفسّرين فهي غير حجّة ولا يمكن الوثوق بها. فإنّ من مفاهيم هذا الكلام هو وجود عدم إنسجامٍ ظاهريٍّ لا يوفّر الأرضيّة المناسبة للمفسّر العرفي لأن يُقدِم على التّفسير. هذا برغم أنّ العرف يرى إمكانيّة فهمه لنصوص القرآن ولو جزئيًّا.

يقول الاسترابادي في هذا المجال: «الصّواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريين وطريقهم، أمّا مذهبهم، فهو: إنّ كلّ ما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعيّة من قبله تعالى حتّى أرش الخدش، وإنّ كثيرًا ممّا جاء به النّبيّ من الأحكام، وممّا يتعلّق بكتاب الله وسنّة نبيه من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطّاهرة وانّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنّسبة إلى أذهان الرّعيّة، وكذلك كثير من السّنن النّبويّة، وأنّه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشّرعيّة النّظرية أصليّةً كانت أو فرعيّة إلاّ السّماع من الصّادقين، وأنّه لا يجوز استنباط الأحكام النّظريّة من ظواهر كتاب الله، ولا من ظواهر السّنن النّبويّة ما لم يُعلم أحوالهما من جهة أهل الذّكر، بل يجب التّوقّف والاحتياط فيهما...» (2).

ص: 229


1- الميلاني، السيد علي الحسيني: عدم تحريف القرآن، ط 1، العراق، مركز الأبحاث العقائدية، 1421 ق، ص 13 - 14.
2- الاسترابادي، محمد أمين، الفوائد المدنية، وبذيله: الشواهد المكية، السيد نور الدين الموسوي العاملي، تحقيق: رحمة الله الرحمتي الأراكي ،ط1، قم، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1424ه_، ص 104 - 105؛ انظر: العيداني، مدخل أخباري. موسوعة أصول الفقه المقارن، ج 1، ص 213 - 224.

بالطّبع لا يريد مجمل القرآن بل مراده الأحكام والمعاني النّظريّة، ومن المسلّم أنّ هناك الكثير من النّصوص في القرآن لا حاجة لنستعين بطرقٍ وحيانيّةٍ وكلمات المعصومين لفهمها. على أنّ في هذا المجال الكثير من الكلام. والمهم هو أنّ عبارات بعض الأخباريين مثل ما تقدّم توحي إلى وجود إبهام. ولا يبعد أن تكون هكذا آراء ونظريات مناشىء لبلورة الشّبهة موضع البحث هنا.

وممّا يزيد دعمًا لهذا الموضوع هو أنّ الكثير من المفسّرين والفقهاء أحيانًا يستفيدون من الآية الواحدة أكثر من استفادة، فيستفيدون استفادات عقائديّة وفقهيّة واستفادات أخرى من آية واحدة. أو قد يوردون احتمالاتٍ كثيرةً تثير استغراب كلّ مطالع. ومن هذا القبيل ما ورد عن العلاّمة الطباطبائي في تفسيره للآية 102 من سورة البقرة. فقد ذكر هناك تفاسير واحتمالات كثيرة للآية وعقّب ذلك بقوله:

«وإذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقت الاحتمالات إلى كميّةٍ عجيبةٍ، وهي ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال» (1).

وقريب من هذا ما ورد فى تفسير الآية 17 من سورة هود، فبعد ما يذكر العلاّمة الطباطبائي الاحتمالات الواردة في تفسيرها يقول: «وأمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها وضمائرها عجيب، فضرب بعضها في بعض يرقى إلى ألوف من المحتملات بعضها صحيح وبعضها خلافه» (2).

وبرغم أنّ هذا يكشف عن شأن فريد في القرآن إلاّ أنّه في الوقت ذاته يزيد من إبهاماته وغموضه، ممّا قد يبلور فكرة عدم الانسجام.

وفي هذا المجال يورد الأستاذ نزال في استطراد علل هذه الشّبهة: «... إكثار الوجوه في التأويل وإكثار الجدل وقال وقيل، وذلك بأنّ النّظم يجري على وحدة،

ص: 230


1- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، لا ط، قم، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، ج 1، ص 234.
2- م.ن، ج 10، ص 187.

فبحسب ما تكثر الوجوه ويتعذّر استنباط النّظم، فمن نظر في هذه الوجوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة تحيّر لا يدري ما يختار منها؟ وأصبح في حجب من النّظم الذي يجري من كلّ جملةٍ في وجهٍ واحدٍ كمن سلك طريقًا يصادف في غلوة طرقًا شتّى... وهو مأخذ لم يطغَ على النّظام فحسب بل طغى على هداية القرآن ومقاصده كذلك» (1).

ت. تبلور مذاهب عقائديّة وفقهيّة وتفسيريّة مختلفة.

ولا شكّ أنّ هذا يؤثّر سلبًا أو إيجابًا على تعدّد التفاسير والاختلاف في المفاهيم القرآنيّة وتأثيرها في النّهاية على الانسجام والنّظم المتوخّى في القرآن.

يقول الأستاذ نزال في هذا المجال: «تحزّب الأمّة في فرق وشيع ألجأهم إلى التّمسّك بما يؤيدهم من الكتاب، فراق لهم تأويله الخاص، سواء كان بظاهر القول أو بإحدى طرق حمل الكلام على بعض المحتملات...» (2)

وكمثالٍ على ذلك يمكن ذكر شاهد بسيط هنا، وهو آية الوضوء التي استفيد منها استفادات كثيرة ومتضادة أحيانًا. ممّا سبّب تعدّد المسالك والمذاهب الفقهيّة في هذا المجال.

ث. ما يعود إلى المستشرقين

هناك الكثير من المستشرقين حمل نوايا غير حسنةٍ وسعى لطرح الشّبهات حول القرآن لا على أساس مبدأ أو مبادىء علميّة بل لأجل إلقاء الشّبهة وتشكيك المسلمين بهذا الكتاب. إنّ من الواضح كون بعض القائلين بهذه الشّبهة سعوا لإسقاط القرآن عن محتواه الأدبي ومضمونه الرّفيع. فبعض المستشرقين كان يحمل نوايا غير طيّبةٍ تجاه الإسلام أو يستهدف التّبشير لدينه أو أفكاره غير الدّينيّة أحيانًا، أو كونه مدفوعًا من قبل قادّة الدول الاستعماريّة. فيتشبّث بما أمكن من شبهات،

ص: 231


1- نزال، عمران سميح: الوحدة التاريخية للسورة القرآنية، لا ط، مأدب، الأردن، دار القراء، 1427 ه_، 2006م، ص 145.
2- م.ن، ص 46.

سعيًا لتسفيه الإسلام والمسلمين وتوفير الأرضيّة اللازمة لدخول الاستعمار أو البقاء عليه لإيفاد ثقافة ومعتقدات أفضل إلى الدّول الإسلاميّة.

وإذا غضضنا النّظر عن هذا الموضوع فإنّ هناك أمورًا عدّةً افتعلها المستشرقون ( عمدًا أو غفلةً) ساعدت على تبلور هذه الشّبهة، وهي من قبيل:

- عدم التّفريق بين النّصوص الشّفويّة ومقتضياتها والنّصوص التحريريّة ومقتضياتها.

برغم عدم تفريق أكثر علماء اللّغة بين النّصّ والخطاب الشّفويّ، وعدم وضع قواعد لتفسير كلٍّ منهما، وكون كلّ منهما أسلوب للبيان، فإنّ من الواضح كون القرآن في الأساس نصًّا شفويًّا حرّر وأصبح نصًّا مكتوبًا لاحقًا، ولم يكن تحريريًّا منذ البداية. وهذا الأمر قد ترك بصماته على النّصّ القرآنيّ وجعل من بعض آياته تبدو علائم الخطاب فيه أكثر من النّصّ المكتوب. ومن مقتضيات النّصّ الشّفويّ في بيئاتٍ بدائيّةٍ مثل العرب قبل الإسلام وصدر الإسلام، حيث كانت جلساتهم تمتلىء بالقصص والكلمات، هو كونه غير متّحدة الموضوع.

إنّ ما لدينا من نصوصٍ عربيّةٍ تعود إلى العهد الجاهلي على مستوى النّثر قليلةٌ جدًا، وهي مثل خطب قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي. وهذا القليل يكفي لمعرفة كيفيّة وأسلوب النّثر والخطب العربية عهد الجاهليّة، فإنّ التّشابه ملحوظٌ، وخطب المذكورين والتي نقلتها مصادر حديثيّة كثيرة تحكي بوضوحٍ التّنوّع في الموضوع

والانتقال في الأفكار، وهي عبارة عن مواعظ متناثرةٍ جمعت في خطبة واحدة (1).

وقد تنبّه بعض المستشرقين إلى وجوه الشّبه بين الصّنفين من النّصوص والأدب، ونلاحظ مثل أنجليكا نويفيرت أنّ مقالاتها، المثبتة في موسوعة القرآن وفي مثل مقال سورة وآية، مليئة بالمقارنة بين أدب العهد الجاهلي والأدب الذي قدّمه القرآن،

ص: 232


1- انظر: الفاخوري، حنا: الموجز في الأدب العربي القديم، ط 2، بيروت، دار الجيل، 1411 ه_/ 1991م، ج 1، ص 62 - 64، و 72 - 88؛ الزيات، أحمد حسن: تاريخ الأدب العربي، ط 8، بيروت، دار المعرفة، 1425ه_ / 2004 م، ص 18 - 24؛ الحسيني، تاريخ الأدب العربي، ج 1، ص 74.

وتُرجع الكثير من أنماط الأدب المستخدم في القرآن إلى العهد الجاهلي.

بعد ما يذكر الفاخوري أصناف النّثر الجاهلي يحلّل ويقسّم الخطب في العهد الجاهلي إلى أصناف عدّة، ويصف الخطب التي تعتمد العقل بالنّحو التالي: «وإنّه ليتجلّى لنا من النّماذج التي أوردناها في فاتحة هذا الفصل أنّ لخطابة الجاهليين أسلوبين هامّين، أحدهما يتّخذ العقل دليلاً ويركب مركب الحجّة المقنعة، فيعمد إلى التفصيل والتعليل وإبراز الشّواهد والأدلّة، كما في خطبة النعمان، ويعتمد العبارة الموجزة والحِكم الوافرة التي تخاطب العقل (خطبة أكثم بن صيفي) والتي تسرد من غير ما ترتيب أو تفسير، كأنّها آيات منزلات لا تقبل ردًّا ولا شكًّا، وكأنّها الدّستور الذي لا يجوز الخروج عنه...» (1).

وجوه الشَّبه واضحةٌ في كلمات الفاخوري، فبعض المواصفات مثل السّرد من غير ترتيبٍ تنطبق على بعض سور القرآن.

ويحلّل الفاخوري أسلوبًا آخر للخطابة الجاهليّة ويصفه كما يلي: «أمّا الأسلوب الثاني فيتّخذ العاطفة وسيلة للإقناع فيعتمد العبارات القصيرة، والسّجع الموسيقي والتّشبيه والاستعارة والصور الشّديدة الوقع، ويكتفي من المعنى بالقليل المكرّر، ويحاول التأثير بكلّ ذلك على عاطفة السّامع وقلبه. ويتجلّي لنا هذا الأسلوب في خطبة قس بن ساعدة التي تضجّ بالحياة، وتتقاذف بها الجمل، ويكثر فيها الاستفهام والنّداء وما إلى ذلك، وتتوالى فيها المعاني من غير ما رابطٍ حقيقيٍّ في ثوب من الخيال قلّما يروق ...» (2).

ويلاحظ هنا كذلك بوضوح وجوه الشّبه بين الأدب القرآنيّ والأدب الجاهليّ في قوله الاكتفاء بالقليل المكرّر، وتوالي المعاني من غير رابطٍ حقيقيٍّ. بالطّبع لا نقول بصحّة كلّ ما يمكن قوله من مقارنةٍ إلاّ أنّ التّشابه واضحٌ وجدير بالاهتمام ويوصلنا إلى كيفيّة محاكاة القرآن لنهج العرب في النّثر.

ص: 233


1- الفاخوري، الموجز في الأدب العربي القديم، م.س، ج 1، ص 86 - 87.
2- م.ن، ص 87.

يقول الدكتور زماني: «إنّه (التفكيك بين النّصّ والخطاب الشّفويّ) موضوعٌ مهمٌّ وحسّاس غفل عنه المستشرقون عند تقييمهم لآيات القرآن. فالخطيب الذي يلقي خطابًا في كلّ مرّة لشريحة بمقتضيات وظروف زمانيّة ومكانيّة خاصّة يستخدم أسلوبًا ونظمًا خاصًّا فى خطابه. وهو أسلوب يختلف بدقّة عن أسلوب النّصّ المكتوب الذي ينبغي أن يعمله الكاتب في كتابه أو مقاله. واستخدام الأسلوب الشّفويّ في النّصّ، أو بالعكس يعدّ ذوقًا سيّئًا جدًا، ويكشف عن عدم تمتّع الشّخص بالفنّ المطلوب، فإنّ كلّ شيء حسن في مقامه.

القرآن ليس نصًّا مكتوبًا ولم ينزل دفعةً واحدةً من قبل الله، بل هو مجاميع من الآيات النّازلة على رسول الإسلام بمناسباتٍ مختلفةٍ، وكان الرّسول يقرأها على النّاس. وعليه، فالقرآن نموذج لمجموعة من الخطابات الشّفويّة، وهو غاية في الفصاحة والبلاغة لكونه قد راعى مجمل مواصفات أسلوب الخطاب».

ثمّ يورد مواصفات الخطاب، ويعدّها كالتالي: 1. اختزال الكلام، 2. التركيب الصّوري لمختلف أصناف البيان، .3 المزج بين الموضوعات، 4. التّكرار المتشابه والمختلف (1).

بلحاظ هذا فإنّ طبيعة الرّسول كصاحب رسالةٍ لا يعنيه سرد القصص وإنشاد الأشعار أو النّصوص الأدبيّة للفت الأنظار فحسب، بل لا بدّ له أن يضمّنها عبرًا ودعوات للتقوى وتذكيرًا بالآخرة وما شابه ممّا يدخل في صلب دعوته ورسالته.

ولأجل هذا نجد في ثنايا القصّة الواحدة المسرودة في سورةٍ واحدةٍ كلمات وأحاديث عدّة بعضها تدعو إلى التّقوى أو تذكّر بقصّة أخرى أو أمور من هذا القبيل التي تدخل في صلب الدّعوة والرسالة. فإنّ سرد القصص لوحدها والإتيان بالنّصوص الأدبيّة العجيبة لوحدها لا يلبّي كلّ متطلّبات الرسالة والإرادة الإلهيّة.

هذا مع أنّه يمكن القول بأنّ للقرآن منهجًا بيانيًّا خاصًّا، قد يكون متأثّرًا بظروفٍ

ص: 234


1- زماني، مستشرقان و قرآن، م.س، ص 327 - 330.

خاصّة كانت حاصلةً عهد نزول النّصّ، فإنّ الواضح في منهجه هو تجزيئيّة النّصّ، وكأنّ النّقطة الأساس في نصوص القرآن هو ملاحظة المقصد الأساس الذي نزل لأجله هذا الكتاب. وهذا المقصد متوافر في كلّ آية من آياته بل أحيانًا حتّى في جميع أجزاء الآية الواحدة...

وهو منهجٌ، ولا يمكن الأخذ عليه، فإنّه طريقةً في البيان، وقد يأتي يوم يميل إليه الكُتّاب من البشر... لأنّها قضيّةٌ ذوقيّةٌ لا أكثر.

- عدم الالتفات إلى أنّ الترتيب المشهود في القرآن لم يكن حسب النزول.

وهذا يُبرّر الكثير من موارد عدم الانسجام الذي قد يُشهد في هذا الكتاب المقّدس. ويبدو أنّ هناك شبه إجماعٍ على هذا من قبل علماء المسلمين. فإنّا نرى السّورة الواحدة قد نزل بعضها في مكّة وبعضها الآخر في المدينة أو أنّ الفاصل بين آية وآية من سورة واحدة قد يكون أشهراً. ومن المسلّم أنّ بعض السّور لم تنزل في محلّ وزمان واحد. ومن المحتمل أنّه خلال هذه الفترة قد تغيّرت بعض المفاهيم الدّينيّة بنسخ وما شابه أو أنّ الظروف قد تغيّرت أو أنّ اللّغة العربية قد أضيف إليها مفردات أو تراكيب محدّدة وفدتها من مدنٍ أخرى دخلها المسلمون وأصبحت لهم تعاملات معها.

أمّا سبب عدم التّرتيب حسب النّزول، ولماذا حصل؟ وما هي ملابسات الجمع المشهود للقرآن؟ فمحلّ ذلك مكان آخر، وهو البحوث التخصصية التي تناولت موضوع جمع القرآن.

- عدم الالتفات إلى أنّ القرآن أخذ عقليات ومستويات مخاطَبين من مختلف الطبقات البشريّة، وعدم تخصيص خطابه بطبقةٍ خاصّةٍ.

باعتبار اختلاف العقليات فإنّ من الطبيعي أن يختلف منهج الخطاب وتتعدّد كيفيّاته. ومن جانب آخر، فإنّ القرآن في الأساس نزل لغير المسلمين وفي ظروف تحدٍّ من الرسول وعناد ومواجهة من قبل العرب وتدريجيًّا تحوّل خطابه إلى المسلمين

ص: 235

ما يشمل المسلمين وغيرهم، وطبيعة خطاب غير المسلمين تختلف عن طبيعة خطاب المسلمين، فإنّه عندما يخاطبهم يسعى لدحض حججهم وآرائهم وينظر إلى هذا الجانب فقط، ولا يسعى لملاحظة الجوانب الأدبيّة أو الخلفيّات الفكريّة التي يحملها المسلمون، والتي تقتضي التّرابط وشؤون أخرى ينبغي لحاظها في النّصوص العاديّة والتي تصدر في ظروفٍ عاديةٍ وطبيعيّةٍ.

وهذا الشأن لا يؤثّر على الجانب اللّغويّ من الخطاب فحسب، بل يؤثّر في المواضيع المطروحة وكيفيّة طرحها، ممّا يبدو وجود نوع اضطراب.

أصبح الخطاب حاليًّا تخصّصيًّا ويسعى المتكلّمون في العصر الحاضر لأن يكون خطابهم ذا طابعٍ خاصٍّ ويُنظر فيه إلى شريحةٍ محدّدةٍ. وكثيرًا ما ينقد النّاقدون القرآن دون لحاظ أنّ الخطاب المزبور من إفرازات هذا العصر، ولا يمكن تعميمه إلى الخطابات التي كانت دارجةً في العصور والقرون السّابقة.

ج. النظرة غير الشّاملة للقرآن

إنّ القرآن جزءٌ من نظام تشريع، ويضمّ مجموعةً من التّعاليم، وهناك السنّة والعقل ومصادر أخرى ينبغي النّظر إليها للحصول على تفسيرٍ صحيحٍ للآيات والرؤية القرآنيّة على العموم. والنّظرة المقتصرة على القرآن وغضّ النظر عن باقي مصادر التّشريع والتّعاليم الإسلاميّة لا يمكنها أن تمنح النّاظر رؤيةً كاملةً عن المحتوى القرآني. فهي بمثابة المفسّر للنّص القرآنيّ في كثيرٍ من الأحيان، كما أنّ القرآن نزل بلحاظ ما يقارنها ويلحقها من نصوصٍ تصدر من الرّسول لتفسيره.

ح. عدم ملاحظة عنصر الثّقافة والظّروف الزّمانيّة والمكانيّة الحاكمة عهد نزول القرآن.

لم تكتب دراسات واسعة تُعنى بتدوين الجزئيّات والملابسات التّاريخيّة والثّقافيّة للآيات، فمن الواضح أنّ القرآن قد نزل في ظلّ ظروفٍ ثقافيّةٍ خاصّةٍ، وما لم يتعرّف عليها القارىء لا يمكنه أن يصل إلى نتيجةٍ مطلوبةٍ في تفسير الآية. ومن ذلك القبيل قوله: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ

ص: 236

«مِنْ أَبْوَابِهَا» (1) فإنّ الذي غفل أو جهل خلفيّة الآية يرى فيها عدم ترابطٍ واضحٍ، فما ربط البرّ بإتيان البيوت من الخلف؟ وقد يتبادر إلى ذهنه أنّ حذفًا قد حصل هنا أو أنّها آيتان غير مترابطتين ربطًا دون لحاظ معانيهما. بينما خلفيّة الآية تحكي قصّة أخرى.

خ. الترجمات الضّعيفة للقرآن إلى اللّغات التي يتكلّم بها المستشرقون مثل الإنجليزية والألمانية.

وفي هذا المجال دوّنت كتب عدّة تناولت بيان جهات ضعف التّرجمات أو تعمّد حشر بعض المفاهيم المغلوطة فيها؛ لأجل النيل والإساءة إلى القرآن (2).

وقد عانى من ضعف الترجمة حتّى المستشرقون، فقد أشار الدكتور موريس بوكاي إلى مساوىء الترجمات قديمها وحديثها وقال: «ويطغى على التراجم الأولى التصرّف الواسع بالنّصّ؛ لأنّ همّ المترجمين كان منصرفًا إلى (محاربة البدعة) أكثر من اهتمامه بدقّة الترجمة وإخلاصها لمضمون القرآن.

إنّ التراجم التي يتداولها الناس حتّى يوم الناس هذا هي غالبًا لا تصلح للاستخدام، وهذا رأي شديد الخصوصيّة أحاول تدعيمه هنا.

لقد رأيت عندما صرتُ أعرف قدرًا صالحًا من العربيّة الفصيحة يسمح لي بالحديث عن قيمة هذه التراجم ومقدار توافقها مع المعارف الإنسانيّة أنّ كثيرًا من المترجمين أخفقوا كلّ الإخفاق في فهم القرآن...» (3).

ص: 237


1- سورة البقرة، الآية 189.
2- انظر المصادر التالية: العبد، عبد الحكيم: في محاولات تقديم القرآن الكريم وترجمته والردّ عليها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007م؛ العرب، د. محمود: اشكاليات ترجمة معاني القرآن الكريم واللغة والمعنى، ط1، مصر، نهضة مصر والنشر ابريل 2006م ،البنداق، محمد صالح المستشرقون وترجمة القرآن الكريم بيروت ط2 منشورات دار الآفاق الجديدة 1403ه_ / 1983م؛ رمضان، نجدة: ترجمة القرآن وأثرها في معانيه مع دراسة تحليلية لثماني ترجمات متداولة بست لغات هي: الانكليزية والفرنسية والروسية والألمانية والتركية والشركسية، دار المحبة، دمشق، 1998م؛ عظیم پور، عظیم: اختلاف ترجمه های قرآن کریم: نژاد حقیقی، بهدخت: تفاوت ترجمه های قرآن از منظر ایدئولوژِیک، و قلیزاده، دکتر حیدر، مشکلات ساختاری ترجمه قرآن کریم.
3- بوكاي، موريس، القرآن والعلم المعاصر، ترجمه وقدّم له وعلّق عليه: د. محمد اسماعيل بصل، د. محمد خير البقاعي، ط1، 237.

كما أشار إلى نماذج من ترجمة الخبير المشهور والمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير وحدّد خطأه فيها (1).

وينقل أبو العلا بعض ما يعاني منه المستشرقون المترجمون على لسان بيرك، حيث يقول:

«نجد بيرك يؤكّد أنّ الالتفات شديد التأصيل في الشّعر العربي في عبقريّة اللغة يستخدمه القرآن في كلّ صفحة ممّا يمثّل صعوبةً بالغةً أمام المترجمين الذين لا تتّسع لغاتهم لتنويعات اللّغة العربيّة ويظهر ذلك في سورة العنكبوت آيات 23، 24 والصعوبة نفسها نجدها في الفاتحة آيات ،1، 2، 3، 4 حيث يذكر اسم الله في صيغة الغائب ثمّ في الآيات 5، 7،6 في ضمير المخاطب والأمثلة كما يقول بيرك لا حصر لها...» (2)

د. التّفاسير المؤكّدة للانسجام

يُضاف إلى ما تقدّم فإنّ كلمات كبار المفسرين من العرب وغير العرب تحكي النّظم الذي يتمتّع به القرآن الكريم، فإنّ تفاسير كبيرة أثرناها عن علماء متقدّمين مثل (التفسير الكبير) للرازي و (التبيان) للطوسي، وفي التاريخ المعاصر مثل: (الميزان في تفسير القرآن) للعلامة الطباطبائي و (في ظلال القرآن) السيد قطب و (التفسير البنائي) للبستاني وغيرها الكثير ممّن تناولت موضوع التّناسب والانسجام في القرآن، وقد ورد بعضها في فهرس المصادر. هذه وغيرها تؤكّد إقرار كبار المحقّقين والباحثين في القرآن لموضوع الانسجام، ولا يمكن القول بأنّ دراساتهم وتفسيرهم للقرآن كان بلحاظ

حمص، دار ملهم للطباعة والنشر، 1995م، ص .

ص: 238


1- م.ن، ص 129 - 134.
2- أبو العلا، القرآن وأوهام مستشرق، م.س، ص 16.

نظرتهم القدسيّة لهذا الكتاب دون الأخذ بنظر الاعتبار الجانب العلميّ فيه.

احتمالات أخرى

والكلمة الأخيرة في هذا المجال هو كون عظمة القرآن وشموخه غير متوقّفةٍ على التّناسب أو الانسجام، فإنّ التّناسب بجانبه اللّفظي والدّلالي ليس أمرًا أساسيًّا فى النّصّ بل هو من جماليات النّصّ، والقرآن جميل حتّى على فرض وجود الاضطراب المزعوم. ولو أنّا قطّعنا القرآن أوصالاً، بأن تكون كلّ آية مستقلّة أو جزء الآية أو الآيات شديدة الارتباط في محلّ واحدٍ لما فقد القرآن جماليته. وكذلك من حيث المحتوى والمعاني العالية التي تضمّنها، فإنّ إفراد الآيات والنّظر إليها بنحوٍ استقلاليٍّ دون النّظر إلى علاقتها بالآيات المجاورة أو كلّ القرآن لا يفرغها

من معانيها ومحتوياتها. ولذلك يكون الإشكال على تناسب القرآن وإنسجامه - إن صحّ- فهو إشكال على جاذبيّته وجماليّته لا على أصل مفاهيمه ومحتوياته. فلو نظرنا إلى كلّ جزء من الآيات التي شكّ في انسجامها مع باقي الآيات بنحو مستقلٍّ ودون النّظر إلى ما يجاوره من أجزاء وآيات، فإنّ محتواه يبقى راقيًا وغير متأثّرٍ بالانسجام وعدمه.

من جانب آخر، فإنّه برغم ما أشكل على النّصّ القرآني بشبهة اضطراب نصوصه، ويُضاف إليها عشرات أو مئات الشّبهات التي طرحها المستشرقون وغيرهم، والتي سعت إلى النّيل من هذا الكتاب والتقليل من شأنه إلاّ أنّه في النّهاية ما زال كتاب رسالة سماويّة، وهو مصدر التّشريع الإسلامي، وتؤخذ منه أحكام الشّريعة ويستكشف منه مقاصدها وأهدافها والأخلاق النبيلة وكلّ ما يمكن استفادته من كتابٍ سماويٍّ، ولا يرى المسلمون بل كلّ من قرأه ودرسه مشكلةً فى مجال النهل منه.

ص: 239

وقد أشارت إلى هذا الجانب المستشرقة أنجليكا نويفيرت، حيث قالت: «... رغم ذلك فإنّ بنيته الكليّة ووزنه وأهمّيته الاجتماعيّة وكتلته المعياريّة وما استبطنه من أيديولوجيا لتحديد الهويّة الاجتماعيّة تفوّقت على بنيته المجهريّة المتنوّعة التي تعود إلى تطوّره خارجًا عن التّواصل الدّينيّ والتي يحومها الإبهام ...» (1).

وهذا يكشف عن أنّ الشّبهات المطروحة في حقّه إذا كانت حقيقيّةً فهي قد نالت شيئًا من التفخيم، وأنّه كتاب تتفتّت أمامه كلّ ما يُقصد منه التقليل من شأنه.

ص: 240


1- Neuwrith, Form and structure..., E.Q. vol.2, p. 246.

المصادر و المراجع

1. الآلوسي، أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 4، 1405ه_، ق . 1985م.

2. ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، زاد المسير في علم التفسير، حقّقه وكتب هوامشه: د. محمد بن عبد الرحمن عبد الله، خرج أحاديثه: أبو هاجر السعيد بن بسيوني زغلول، دار الفکر، بیروت، ط 1، 1407 ه_، 1987م.

3. ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإسلامي، 1404 ه_، ق.

4. ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم المصري، لسان العرب، نشر أدب الحوزة ،ایران، قم، 1405ه_، ق.

5. أبو زنيد، عثمان، نحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية، عالم الكتب الحديث، إربد، ط 1، 1431ه_ . 2010م.

6. أبو زيد، أحمد، التناسب البياني في القرآن دراسة في النظم المعنوي والصوتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، مطبعة النجاح، 1992م.

7. أبو العلا، محمد حسين، القرآن وأوهام مستشرق، المكتب العربي للمعارف، ديسمبر 1991، مصر.

8. الاسترابادي، محمد أمين، الفوائد المدنية، وبذيله: الشواهد المكية، السيد نور الدين الموسوي العاملي، تحقيق: رحمة الله الرحمتي الأراكي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط 1، 1424ه_،

9. الأطرش، محمد أحمد سعيد، الوحدة الموضوعية في القرآن والسورة القرآنية التفسير

ص: 241

الموضوعي ومنهج البحث، دار القمة ودار الإيمان، الاسكندرية، ط 1، 2007م.

10. ایازی، السيد محمد علی، نقدی بر نظریه گفتاری بودن زبان قرآن، مجله پژوهشهای علوم انسانی، فصلنامه دانشگاه قم، سال اول، شماره چهارم، 1379 ه_ ش.

11. ایازی، السيد محمد علی، چهره پیوسته قرآن، نشر هستی، چاپ اول، 1380ه_. ش.

12. بازرگان، عبد العلی، نظم قرآن، انتشارات قلم.

13. بحيري، سعيد حسن، علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 1424 ه_ ، 2004م.

14. البدري، تحسين، معجم مفردات أصول الفقه المقارن، المشرق للثقافة والنشر، طهران، ط 1، 1428ه_، ق. 2007م.

15. البقاعي، برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر الشافعي، مصاعد النظر بالإشراف على مقاصد السور، قدّم له وحقّقه وعلّق عليه: د. عبد السميع محمد أحمد حسنين، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1408ه_ ق. 1987م.

16. البقاعي، برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر الشافعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415ه_، 1995م.

17. البكاري، عبد السلام، والصديق، بوعلام، الشبه الاستشراقية في كتاب مدخل إلى القرآن الكريم للدكتور محمد عابد الجابري، رؤية نقدية، دار الأمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر، الدار العربية للعولم ناشرون، بیروت، ط 1، 2006 م، 1430ه_.

18. البنداق، محمد صالح، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2، 1403ه_/ 1983م.

19. بوكاي، موريس، القرآن والعلم المعاصر، ترجمه وقدّم له وعلّق عليه: د. محمد اسماعيل بصل، د. محمد خير البقاعي، دار ملهم للطباعة والنشر، حمص، ط 1، 1995م.

ص: 242

20. بی آزار شیرازی، عبد الكريم، وحجتى، سيد محمد باقر، میثاق در قرآن کلید همبستگی آیات و بخشهای مختلف قرآن، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، چاپ اول، زمستان 1364 ه_، ش.

21. البيومي، د. محمد رجب، البيان القرآني، دار النصر للطباعة، القاهرة، ربيع الثاني، 1391، مايو 1971.

22. پور مطلوب، عبد الرضا، جلوههای خطابه در قرآن مجید، انتشارات جلوه کمال، چاپ اول، بهار 1384ه_، ش.

23. الجابري، محمد عابد، مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2006م.

24. جولد تسهير، أجنيتس، مذاهب التفسير الإسلامي، تعليق: عبد الحليم النجار، دار إقرأ، ط2.

25. الحائري، محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الناشر: دار إحياء العلوم الإسلامي، مطبعة نمونه، قم، 1404 ه_، ق، 1363 ه_، ش.

26. الحسيني، جعفر الأدب العربي الأدب الجاهلي نقد وتحليل، دار الاعتصام، قم، 1414 ه_

27. الحكيم، السيد محمد باقر، القصص القرآني، المركز العالمي للعلوم الإسلامية، قم، ط 1، 1416 ه_. ق.

28. الحكيم، السيد محمد باقر، تفسير سورة الحمد، نشر مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 1، 1420 ق.

29. الحلي، نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى الهُذلي المعروف بالمحقق الحلي، معارج الأصول، إعداد: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، ط 1، 1403ه_.

30. الخراساني (الآخوند الخراساني)، محمد كاظم بن حسين الهروي، الشيخ محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول، من إفادات الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1404ه_.

ص: 243

31. الخراساني (الآخوند الخراساني)، محمد كاظم بن حسين الهروي، الشيخ محمد علي الكاظمي، كفاية الأصول، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، ط 2، 1417 ه_، ق.

32. دراز، محمد عبد الله، مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن، ترجمة: محمد عبد العظيم علي، مراجعة: د. السيد محمد بدوي، دار القلم، الكويت، 1414 ه_، ق. 1993م.

33. دراز، محمد عبد الله، النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن، دار القلم، القاهرة، ط3، 1390 ه_ ، 1970م.

34. رمضان، نجدة، ترجمة القرآن وأثرها في معانيه مع دراسة تحليلية لثماني ترجمات متداولة بست لغات هي: الانكليزية والفرنسية والروسية والألمانية والتركية والشركسية، دار المحبة، دمشق، 1998م.

35. الزركشي، الإمام بدر الدین محمد بن بهادر بن عبد الله، البحر المحيط في أصول الفقه، تحرير: د. عبد الستار أبو غدة وآخرون، مراجعة: الشيخ عبد القادر عبد الله العاني وآخرون، دار الصفوة، الكويت، ط 2 ، 1413ه_، ق. 1992م.

36. الزركشي، الإمام بدر الدین محمد بن بهادر بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، 1376 ق، 1957م.

37. الزيات، أحمد حسن، تاريخ الأدب العربي، دار المعرفة، بيروت، ط 1425،8ه_، 2004م.

38. شحاتة د. عبد الله، أهداف كلّ سورة ومقاصدها في القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، فرع الصحافة، 1998م، ط 4.

39. صالح، أيمن، القرائن والنصّ، دراسة في المنهج الأصولي في فقه النصّ، المعهد العالي للفكر الإسلامي، فرندن فرجينيا، الولايات المتحدة، ط 1، 1431 ه_، 2010م.

40. طاهري الخرم آبادي، السيد حسن، تحريف القرآن أسطورة أم واقع؟ نقله إلى العربية: تحسين البدري، نشر: مركز التحقيقات والدراسات العلمية التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، قم، ط 1، 1427ه_ . ق. 2006م.

ص: 244

41. الطباطبائي، محمد حسين، القرآن في الإسلام، تعريب: السيد أحمد الحسيني...

42: الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، 1418 ه_، ق.

43. الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، حقّقه وعلّق عليه: لجنة من العلماء و المحققين الأخصائيين، قدّم له: السيد محسن الأمين العاملي، نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان، ط 1، 1415ه_، ق. 1995م.

44. الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، الاحتجاج، تعليقات وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان، منشورات مطابع النعمان، النجف الأشرف، 1386 ه_، ق. 1966 م.

45. الطوسي، محمد بن الحسن بن علي التبيان، تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي، طبع: مكتب الإعلام الإسلامي، ط 1، رمضان 1409 ه_. ق.

46. الطوسي، محمد بن الحسن بن علي، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد رضوان الله عليه، حققه وعلّق عليه: السيد حسن الموسوي الخرسان، نهض بمشروعه: الشيخ علي الآخوندي، دار الكتب الإسلامية، تهران، 1364 ه_، ش.

47. طوسي، محمد بن الحسن بن علي العدة في أصول الفقه، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي، مؤسسة البعثة، قم، ط 1، 1417ه_. ق. 1376 ه_، ش.

48. العاملي، جمال الدين أبو منصور الحسن بن زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي، معالم الدين وملاذ المجتهدين، تحقيق ونشر: مؤسسة الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، بدون رقم الطبعة، 1406ه_، ق. 1365 ه_، ش .

49. العبد، عبد الحكيم، في محاولات تقديم القرآن الكريم وترجمته والرّد عليها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007م.

ص: 245

50. العرب، د. محمود، اشكاليات ترجمة معاني القرآن الكريم واللغة والمعنى، نهضة مصر للطباعة والنشر، ط 1، ابريل 2006م.

51. عظیم پور، عظیم، اختلاف ترجمههای قرآن کریم، با مقدمه دکتر آذرتاش آذرنوش، چاپ محیا 1383ه_ ش، چاپ اول.

52. العموش، الدكتورة خلود، الخطاب القرآني دراسة في العلاقة بين النصّ والسياق، عالم الكتب الحديثة، أربد، الأردن، جدارا للكتاب العالمي، عمّان، الأردن، ط 1 1429ه_ ، 2008م.

53. العياشي، أبو النظر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي، كتاب التفسير، وقف على تصحيحه وتحقيقه والتعليق عليه: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران،

54. الفاخوري، حنا، الموجز في الأدب العربي القديم، دار الجيل بيروت، ط 2، 1411ه_، 1991م.

55. الفاضل التوني، عبد الله بن محمد البشروي الخراساني، الوافية، تحقيق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 1، 1412ه_،ق.

56. فقهی زاده، پژوهشی در نظم قرآن، انتشارات جهاد دانشگاهی دانشگاه تهران، چاپ اول، 137 ه_ ش .

57. الفقي، صبحي إبراهيم، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق دراسة تطبيقية على السور المكية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 2000م.

58. قطب، سيد، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت والقاهرة، ط 24 ، 1415ه_، ق. 1995م.

59. قلیزاده، حیدر، مشکلات ساختاری ترجمه قرآن کریم، مؤسسه تحقیقاتی علوم اسلامی - انسانی دانشگاه تبریز چاپ اول، 1380ه_.ش.

60. القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، صححه وعلّق عليه: السيد طيب الموسوي الجزائري، نشر: دار الكتاب للطباعة والنشر، قم، ط 3، 1404ه_.

61. لوبون، غوستاف، حضارة العرب، نقله إلى العربية: عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية

ص: 246

لعيسى لبابي الحلبي وشركاه القاهرة، ط 3، 1375ه_، ق. 1956م.

62. مداس، أحمد، لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري، عالم الكتب الحديث، إربد/ الأردن، جدارا للكتاب العالمي، عمان/ الأردن، ط 2، 1430ه_، 2009م.

63. المرتضى، علي بن الحسين الموسوي البغدادي، الذريعة إلى أصول الشريعة، تصحيح وتقديم: الدكتور أبو القاسم كرجي، انتشارات دانشگاه تهران.

64. المرتضى، علي بن الحسين الموسوي البغدادي، رسائل الشريف المرتضى، تقديم: السيد أحمد الحسيني، إعداد: السيد مهدي الرجائي، نشر: دار القرآن الكريم، قم، 1405ه_.

65. مركز التحقيقات والدراسات العلمية، موسوعة أصول الفقه المقارن، الناشر: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية - المعاونية الثقافية - مركز التحقيقات والدراسات العلمية، ایران، ط 1، 1430 ه_ ق. 2009م.

66. معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد موجز دراسات مبسطة عن مختلف شؤون القرآن الكريم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، ط 4، 1422 ق.

67. معرفة، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، مطبعة مهر، قم، 1396ه_.ق.

68. المعلوف، المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، بيروت، ط 26 ، 1973م.

69. المودودي، أبو الأعلى، تفهيم القرآن، تعريب: أحمد إدريس، دار القلم، الكويت، ط 1، 1398 ه_،ق، 1978م.

70. الميرزا القمي، أبو القاسم بن حسن بن نظر علي الجيلاني الجابلقي، القوانين المحكمة في الأصول، طبعة حجرية.

71. الميلاني، السيد علي الحسيني، عدم تحريف القرآن، مركز الأبحاث العقائدية، ط 1 ، 1421ق.

72. نزال، عمران سميح، الوحدة التاريخية للسورة القرآنية، دار القراء، مأدب، الأردن، 1427 ه_، 2006 م.

ص: 247

73. نژاد حقیقی، بهدخت، تفاوت ترجمههای قرآن از منظر ایدئولوژیک، نشر سخن، تهران، چاپ اول، 1388ه_ ش.

74. نکونام، جعفر، زبان قرآن گفتاری یا نوشتاری، مجله پژوهشهای علوم انسانی، فصلنامه دانشگاه قم، سال اول، شماره سوم، بهار 1379ه_ ش.

المصادر الإنجليزية

1. Bell, Richard, Introduction to The Quran, Edinburgh, at the university press, first edition, 1953, reprinted 1958, 1963.

2. El-Awa, Salwa M.S. Textual relations in the Qura'an, relevance, coherence and structure, Routledge, London and New York, first published 2006.

3. Jane Dammen McAuliffe, General editor, Encyclopedia of the Quran, Copy- right 2001 by Koninklijke Brill NV,

4. Leiden, the Netherlands.

5. Mir, Mustansir, Coherence in the Quran, A study of Islahi's Concept of Nazm in Tadabbur-I Quran, American Trust Publications, Indianapolis, In, 1406/1986

ص: 248

النسخ في موسوعة القرآن الكريم (ليدن)

اشارة

.د محمد جواد اسکندر لو (1)

خلاصة البحث

يُعتبر (النّسخ) - Abrogation - من المسائل المهمّة والمثيرة للنّقاش في البحوث القرآنيّة. ولمَّا كان المستشرقون يعتقدون بكثرة النّسخ فقد رأوا ذلك تعارضًا في القرآن، والملاحظ في بعض كتابات المستشرقين سعيهم إلى إظهار زيادة عدد الآيات النّاسخة والمنسوخة لإبراز قضيّة كثرة التّعارضات في القرآن.

وبناءً على هذا، طرحوا شبهات في المقام. فخصَّص جان برتون (Burton) في المجلد الأوّل من موسوعة القرآن - ليدن - مدخلاً لبحث النّسخ وقضاياه وشبهاته، ومن بينها: الاختلاف بين أحكام القرآن والفقه، مسألة تحريف القرآن، اختلاف القراءات، الحالات الثلاث للنّسخ ( ولا سيّما نسخ التّلاوة وبقاء الحكم)، ونسيان النبي صلّی الله علیه و آله لوحي القرآن.

تناولنا في هذه المقالة مفهوم النّسخ في اللّغة والاصطلاح، ثمّ تطرّقنا إلى سابقة البحث، ثم تناولنا الشّبهات المذكورة ونقدها بأسلوبٍ وصفيٍّ ونقديٍّ.

وقد أثبتنا أنّ القرآن خالٍ من أيّ تناقضٍ. وكذلك فإنّ النّسخ الاصطلاحي كانت مصاديقه الحقيقيّة قليلةً جدًّا. ثمَّ إِنَّ النّبيّ صلّی الله علیه و آله لم يقع في النّسيان قط، بل تسلّم الوحي القرآني بتمامه وكماله وأبلغه وبيّنه للناس.

الكلمات المفتاحية: النّسخ - النّاسخ - المنسوخ - القرآن - النّبيّ صلّی الله علیه و آله - المستشرقون - جان برتون.

ص: 249


1- أستاذ وباحث متخصص في علوم القرآن والحديث. جامعة قم. عضو الهيأة العلمية في جامعة المصطفى صلّی الله علیه و آله العالمية بقم.

التمهيد:

لقد كانت البحوث القرآنيّة للمستشرقين موضع اهتمام المراكز والمؤسّسات المختلفة، وقد تناولوا القرآن وقضاياه أحيانًا بتأثير خلفيَّاتٍ ومُسبقاتٍ تحكم نظرتهم إليه وإلى العالم. ومن المسائل المهمّة والمثيرة للنّقاش في البحوث القرآنيّة قضيَّة النّسخ. وقد استخدم النّسخ عند المتقدّمين على الأغلب بمعناه اللّغوي وهو (الإزالة)؛ ولهذا فقد أُطلق على المخصّص والمقيّد وكلّ ما كان استثناءً من العمومات (ناسخًا)، في حين أنّ المتأخّرين اعتبروا مفهوم النّسخ أكثر تحديدًا حيث جعلوا بين النّسخ من جهة والعام والخاص والمطلق والمقيّد والاستثناء من جهةٍ أخرى مائزًا واضحًا.

وفي عصرنا الحاضر - وقد اتّضح تدقيق مصطلح النّسخ منذ قرون - فإنّه لا يُحكم بوجود النّسخ إلّا في حالة وجود الاختلاف العميق بين آيتين، بحيث لا يمكن الجمع بين الحكمين في الآية، وبناءً عليه فقد عُرضت موارد قليلة جدًا للنّسخ. ولكنّ المستشرقين - من دون التّفكيك في تعريف النّسخ بين النسخ بمعنى التّخصيص والتّقييد والنّسخ بمعنى إزالة الحكم أو إبطاله أو رفعه - قالوا بالحدِّ الأقصى في عدد الآيات الناسخة والمنسوخة. وحيث إنّهم يعتبرون النّسخ نتيجةً للتعارضات في القرآن، والتّعارض فيه يُعدّ عيبًا.

إنَّ المستشرقين - ولأجل تخطئة القرآن - يحاولون دائماً الإتيان بموارد يمكنهم من خلالها إثبات دعوى التّناقض فيه ليثيروا الشّبهة في كونه من السّماء عن هذا الطريق؛ ولهذا فقد وجدوا في قضيّة النّسخ مستمسكًا لهذه الدّعوى (1).

إِنَّ شبهات المستشرقين فيما يتعلّق بنسخ آيات القرآن من أكثر الشبهات الجدّيّة التي تحتويها مؤلّفاتهم. ولهذا بات من الضّروريّ الإجابة العلميّة المتقنة على هذه الشَّبهات للدّفاع عن حقّانيّة القرآن وصيانة معتقدات المسلمين.

ص: 250


1- معرفت، محمد هادي: شبهات وردود حول القرآن الكريم، مؤسسة التمهيد للنشر، 1423ه_، ص310.

سابقة البحث:

اشارة

يمكن العثور على سابقة بحث النّسخ في الأديان السّابقة على الإسلام، مع أنّه قد نُسب إلى اليهود أنّ وقوع النّسخ محال (1)، ولكن بعضهم مثل العنانية (2) قبِلَ إمكان النّسخ وآخرون قبِلوا وقوعه على الرَّغم من أنَّهم أنكروا نسخ اليهوديّة بواسطة الإسلام (3). ويدلّ الإنجيل والتوراة على وقوع النّسخ. وعلى سبيل المثال ففي التوراة الموجودة ورد أنّ إبراهيم علیه السّلام تزوَّج أخته غير الشّقيقة (4)، وأنّ يعقوب علیه السلام تزوَّح في وقتٍ واحدٍ ابنتَي لايان: لِيَة وراحيل (5)، وأنّ عمران علیه السلام تزوّج عمّته يوكابد (6)؛ والحال أنّه في شريعة موسى علیه السّلام نُهي عن هذه الأنواع الثلاثة من الزّواج (7)، وعلاوة على ذلك فإنّ بعض أوامر التوراة نُسخت في التوراة نفسها وكثير منها نُسخ في الإنجيل (8).

ص: 251


1- الشهرستاني، محمد عبد الكريم: الملل والنحل، لا ط، بيروت، دار المعرفة، 1422ه_، ج 1، ص 211.
2- العنانية: نسبوا إلى رجل يقال له: عنان بن داود رأس الجالوت يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد، وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد، ويذبحون الحيوان على القفا ويصدقون عيسى علیه السلام في مواعظه وإشاراته. ويقولون: إنه لم يخالف التوراة البتة، بل قررها ودعا الناس إليها، وهو من بني إسرائيل المتعبدين بالتوراة ومن المستجيبين لموسى علیه السلام، إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته. ومن هؤلاء من يقول: إن عيسى علیه السّلام لم يدع أنه نبي مرسل، وليس من بني إسرائيل، وليس هو صاحب لشريعة ناسخة موسى علیه السّلام، بل هو من أولياء الله المخلصين العارفين بأحكام التوراة، وليس الإنجيل كتابا أنزل عليه وحيا من الله تعالى، بل هو جمع أحواله من مبدئه إلى كماله، وإنما جمعه أربعة من أصحابه الحواريين فكيف يكون كتابا منزلا؟ قالوا: واليهود ظلموه حيث كذبوه أولًا ولم يعرفوا بعد دعواه، وقتلوه آخرا ولم يعلموا بعد محله ومغزاه، وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة، وذلك هو المسيح، ولكن لم ترد له النبوة ولا الشريعة الناسخة، وورد فارقليط وهو الرجل العالم، وكذلك ورد ذكره في الإنجيل، فوجب حمله على ما وجد، وعلى من ادعى غير ذلك تحقيقه وحده / نقلاً عن موسوعة الأديان الباب الثاني: اليهودية وما تفرع عنها: الفصل الثالث: الفِرَق اليهودية.
3- الفخر الرازي: المحصول في علم اصول الفقه، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1412ه_، ج 3، ص 294.
4- الكتاب المقدس، سفر التكوين ج20، ص13.
5- الكتاب المقدس، سفر التكوين، ج 29، ص 15-30.
6- سفر الخروج، 20/60
7- سفر اللاويين، 18/12/9/18
8- الهندي، رحمت الله: اظهار الحق، القاهرة، دار الحديث، 1413ه_ ج 3، ص 643 - 680.

وكذلك كان النّسخ مورد الاهتمام في القرآن، وقد طُرح في بعض الآيات إلى جانب (الإنساء). وقد وعَدَ الله -تعالى- أنَّه في حالة نسخ آيةٍ أو إنسائها فإنَّه -تعالى- يأتي بخير منها أو مثلها (سورة البقرة، الآية 106).

وبعد القرآن الكريم فإنّه يمكن نسبة بحث النّاسخ والمنسوخ لأوَّل مرَّة إلى الإمام علي علیه السّلام؛ حيث قدّمَ علیه السلام في مصحفه الآيات المنسوخة على الناسخة (1). كما أُشير في نهج البلاغة إلى النّاسخ والمنسوخ في القرآن (2). ثم ألّف قتادة بن دعامه السدوسي (في القرن الهجري الثاني) كتاب ((النّاسخ والمنسوخ)) في كتاب الله؛ وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم المسمعي من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام كتاب النّاسخ والمنسوخ من القرآن.

ولقد أثار موضوع النّسخ انتباه المستشرقين؛ ففي موسوعة القرآن ليدن (E.Q) وموسوعة روتلدج (Routledge) مدخلٌ مستقلٌّ تحت عنوان (Abrogation) يختصّ به.

كما أنّ كلاً من منتغمري وات في كتاب (محمد في مكّة) (Watt. Muhammads Meka) وجولد سهير في كتاب (المذاهب التفسيريّة في الإسلام) و (ديفيد پاوزن في كتاب النّاسخ القرآن) (The Exetical Gener Naikh AL- Quran) وردنسون (Rodinson) في كتاب محمد (Mohomet) ذكروا آراءهم حول النّسخ.

رغم وجود مصادر إسلاميّةٍ كثيرةٍ بحثت في النّسخ، فإنّ رغبتهم لتحليل هذا الموضوع كانت قليلةً.

(Burton, John, Abrogation, Encyclopaedia Of The Quran, Ed. Mcauliff, Jane Dammen, Vol.1 P.ll, Leiden) Brill, 2001 -2006)

ص: 252


1- المفيد محمد بن محمد: المسائل السروية، بيروت، دار المفيد، 1414ه_، ص 79.
2- نهج البلاغة، الخطبة 1، ص 25.

أوّلًا: معنى النّسخ وأنواعه وشروطه:

1. معنى النّسخ:

أ. المعنى اللّغوي: «النون والسين والخاء: أصل واحد؛ إلا أنّه مُختَلف في قياسه. قال قوم: قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه. وقال آخرون: قياسه تحويل شيءٍ إلى شيءٍ. قالوا: النّسخ نسخ الكتاب. والنّسخ: أمر كان يُعمَل به مِن قبل، ثمّ يُنسَخ بحادث غيره؛ كالآية ينزل فيها أمر، ثمّ تنسخ بآية أخرى. وكلّ شيءٍ خلف شيئًا؛ فقد انتسخه» (1) و«النَّسْخُ: إزالةُ شَيءٍ بِشَيْءٍ يَتَعَقَّبُهُ، فَتَارَةً يُفْهَمُ منه الإزالة، وتَارَةً يُفْهَمُ منه الإثباتُ، وتَارَةً يُفْهَم منه الأَمْرَانِ» (2). وعليه، فإنّ المعنى الحقيقي للنّسخ هو الإزالة، وقد استُخدم مجازاً بمعنى النّقل والتّحويل؛ لما فيهما من معنى الإزالة.

ب. المعنى الاصطلاحي: النّسخ هو رفع تشريع (3) سابق - كان يقتضي الدّوام حسب ظاهره - بتشريعٍ لاحِق؛ سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيّة أم الوضعيّة، وسواء أكان من المناصب الإلهيّة أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع، بحيث لا يمكن اجتماع التّشريعين معًا، إمّا ذاتًا؛ إذا كان التّنافي بينهما بيّنًا، وإمّا بدليل خاصّ؛ من إجماع، أو نصٍّ صريح (4).

2. إمكان النّسخ ووقوعه:

تسالم العقلاء في ما بينهم على إمكان وقوع النّسخ في التّقنين؛ بإزالة حكم أو قانون واستبداله بآخر، في ما لو كان الحكم أو القانون الثّاني النّاسخ مشتملاً على مصلحةٍ لا يشتمل عليها الحكم أو القانون الأوّل المنسوخ ، أو في ما لو تبيّن للمقنّن أنّ الحكم أو القانون الأوّل لم يكن مشتملاً على المصلحة المطلوبة؛ ما دعاه إلى تقنين آخر يستوفي تلك المصلحة.

ص: 253


1- انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، جه مادّة > نسخ <، ص 424.
2- انظر: الراغب الإصفهاني، حسين بن محمد: مفردات ألفاظ القرآن، بيروت: دار الشامية 1412ه_ مادّة>نسخ<، ص801.
3- ذهب العلامة الطباطبائي قدّس سرّه إلى أنّ النسخ غير مختصّ بالتشريعيات، بل يعم التكوينيات أيضاً. انظر: الطباطبائي، السيد محمد حسين الميزان في تفسير القرآن، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1390ھ، ج 1، ص252.
4- لمزيد من التفصيل، انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج 1، ص 249 - 253؛ الخوئي، السيد أبو القاسم: البيان في تفسير القرآن، دار نشر (أنوار الهدى)، 1401ه_، ص 277-278.

وخالف في ذلك اليهود والنّصارى في مجال الشرعيّات والتكوينيّات؛ لوجود شبهةٍ لديهم في المسألة؛ حيث ادّعوا استحالة وقوع النّسخ؛ لاستلزامه عدم حكمة النّاسخ، أو جهله بوجه الحكمة، وكلا هذين اللّازمين مستحيل في حقّه تعالى. وحقيقة الأمر في دحض هذه الشّبهة:

أ. أنّ الحكم المجعول من قِبَل الشّارع الحكيم قد لا يُراد منه البعث، أو الزّجر الحقيقيين؛ كالأوامر التي يقصد بها الامتحان، وهذا النّوع من الأحكام يمكن إثباته أوّلاً، ثمّ رفعه، ولا مانع من ذلك؛ فإنّ كلاً من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحةٍ وحكمةٍ، فلا يلزم منه خلاف الحكمة.

ب. قد يكون الحكم المجعول حكمًا حقيقيًّا، ومع ذلك يُنسَخ بعد زمان، لا بمعنى أنّ الحكم بعد ثبوته يُرفع في الواقع ونفس الأمر؛ كي يكون مستحيلاً على الحكيم العالم بالواقعيّات، بل هو بمعنى: أن يكون الحكم المجعول مقيّدًا بزمان خاصّ معلوم عند الشّارع منذ البداية، مجهول عند الناس؛ لمصلحة مرعيّة عند الشّارع، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان؛ لانتهاء أمده الذي قُيِّدَ به واقعًا. والنّسخ بهذا المعنى ممكن قطعًا؛ لبداهة دخالة خصوصيّات الزمان في مناطات الأحكام بما لا يشكّ فيه أيّ عاقل. فالنّسخ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان، ولا تلزم منه مخالفة الحكمة، ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقّه تعالى.

ولا خلاف بين المسلمين في وقوع النّسخ بين الشّرائع السّابقة واللّاحقة؛ كنسخ الشريعة الإسلاميّة للشّرائع السّماويّة السّابقة عليها زمانًا، وداخل الشّريعة الواحدة نفسها؛ كتحويل القبلة.

وقد صرّح القرآن الكريم في آياتٍ عدّةٍ بوقوع النّسخ، منها:

قوله تعالى: «مَا تَنسَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1).

ص: 254


1- سورة البقرة، الآية 106.

-

قوله تعالى: «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (1).

- قوله تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» (2).

وعليه، فإنّ النّسخ ممكن الوقوع، وقد وقع فعلاً، ولكنّه نسخ بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي للنّسخ - أي بمعنى نشأة رأي جديد -، فهو حكمٌ مؤقّتٌ وتشريعٌ محدودٌ واضحٌ أمره للمشرّع منذ بداية تشريعه، ولكن لمصلحة في التكليف أخفى الشّارع المقدّس بيان أمد الحكم عن الناس، ومع انتهاء أمده شرَّع حكمًا آخر مكانه. ولعلّ وجه الحكمة من هذا الإخفاء، يكمن في حثّ المكلّفين على الانبعاث لامتثال الحكم؛ كما لو أنّه حكمٌ مطلق الأمد (3).

3.الفرق بين النّسخ والتّخصيص:

يكمن الفرق بين النّسخ والتّخصيص في النّقاط التّالية:

أ. مقتضى النّسخ انتهاء التّشريع السّابق، بعد أن عَمِل به المكلّفون لفترةٍ من الزمن، بينما مقتضى التّخصيص قصر الحكم العامّ على بعض أفراد الموضوع دون، تمامها، وإخراج بقيّة الأفراد عن دائرة شمول الحكم؛ وذلك قبل أن يعمَل المكلّفون بعموم التكليف. فالنّسخ هو نوع اختصاص للحكم ببعض الأزمان، والتّخصيص نوع اختصاص له ببعض الأفراد.

ب. الرافع للتنافي بين النّاسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما، بحسب الظّهور اللّفظي؛ هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرّافع للتنافي بين العامّ والخاصّ؛ فإنّه قوّة الظهور اللفظي الموجود في الخاصّ، المفسّر للعامّ بالتخصيص.

ص: 255


1- سورة النحل، الآية 101.
2- سورة الرعد، الآية 39.
3- لمزيد من التفصيل، انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج 1، ص 249 - 253؛ ج 12، ص 345-346؛ الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص279-280.

ويُعدّ كلّ من الناسخ والمخصِّص وسيلةً للكشف عن المراد الحقيقي للمشرّع (1).

4. شروط النّسخ:

ذُكِرَت شروط عدّة للنّسخ الاصطلاحي (2)، أهمّها:

أ. وجود تنافٍ ذاتيّ بين الحكمين، بحيث لا يمكن اجتماعهما معًا في الوقت نفسه؛ كما في آيات وجوب الصّفح مع وجوب آيات القتال، أو وجود تنافٍ بينهما ناتجٌ عن دليلٍ قطعيٍّ دلّ على نقض الحكم السّابق بحكٍم لاحقٍ؛ كما في حكم الاعتداد المبيّن في آية الإمتاع إلى الحول: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةٌ لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجِ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (3)، مع حكم الاعتداد المبينّ في آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»

(4)

ب. أن يكون التّنافي كلّيًّا على الإطلاق، لا جزئيًّا وفي بعض الجوانب؛ فإنّ الثاني تخصيصٌ في الحكم العامّ، وليس من النّسخ في شيء؛ فآية القواعد من النساء: «وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (5) لا تصلح ناسخة لآية غضّ البصر: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَابِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَابِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ

ص: 256


1- انظر الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج 1، ص253؛ الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1367 ه_ ج 2، ص 145-146؛ معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص271-272.
2- انظر: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج 1، ص 252-253؛ الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 141؛ معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 272-274.
3- سورة البقرة، الآية 240.
4- سورة البقرة، الآية 234.
5- سورة النور، الآية 60.

أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَابِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (1)، بعد أن كانت الأولى أخصّ من الثانية، والخاصّ لا ينسخ العام، بل يخصِّصه بما عداه من أفراد الموضوع.

ج. عدم تحديد أمد الحكم السابق؛ تصريحًا أو تلويحًا، حيث يرتفع الحكم بنفسه عند انتهاء أمده، من دون حاجةٍ إلى نسخ؛ فقوله تعالى : «... فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ ...» (2) لا يصدق عليه النّسخ عندما تفيء الفئة الباغية وترجع إلى رشدها والتسليم لحكم الله.

د. تعلّق النّسخ بالتشريعيّات (3)، فلا نسخ في ما يتعلّق بالأخبار. فقوله تعالى: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» (4) لا يصلح ناسخًا لقوله: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِيَن وَقَلِيلُ مِنَ الْآخِرِينَ» (5).

ه_. وحدة الموضوع في الحكمين؛ لأنّ تغيّر الموضوع يستلزم تغيّر الحكم؛ فلا نسخ مع تغيّر الموضوع.

و. اشتمال النّاسخ على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة.

5. أقسام النّسخ:

ذكر الباحثون والمحقّقون ثلاثة أقسام للنّسخ هي:

ص: 257


1- سورة النور، الآية 31.
2- سورة الحجرات، الآية 9.
3- يرى السيد الطباطبائي قدّس سرّه أنّ النسخ يتعلّق بالتكوينيّات فضلًا عن التشريعيّات ولعلّ مُرَاده بالنسخ بالتكوينيّات هو البَدَاء. انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج 1، ص 252.
4- سورة الواقعة، الآية 39-40.
5- سورة الواقعة، الآية 13-14.

أ. نسخ الحكم والتلاوة معًا: وهو زوال آية من القرآن ذات حكمٍ تشريعيٍّ، تداولها المسلمون الأوائل وقرأوها وعملوا بحكمها، ثمّ نُسِخَت وتعطّل حكمها وزالت من القرآن. ومن الأمثلة التي أوردوها على وقوع هذا القسم من النّسخ: ما روي عن عائشة أنّها قالت: كان في ما أُنزِلَ من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرّمن)، ثمّ نسخنَ بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلّی الله علیه و آله وهنّ في ما يُقرأ من القرآن. (1)

وهذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن للأمور التالية (2):

- إجماع المسلمين على عدم ثبوت النّسخ بخبر الواحد.

- ابتلاء أغلب هذه الأخبار التي تتحدّث عن وقوعه بالضّعف والإرسال.

- القرآن الكريم لا يثبت بأخبار الآحاد.

- استلزام هذا القسم من النسخ للتحريف بالنّقيصة (3).

ب. نسخ التلاوة دون الحُكم: وهو زوال آية من القرآن قرأها المسلمون الأوائل وعملوا بحكمها، ثمّ نُسِيَت وزالت من القرآن، مع بقاء حكمها معمولاً به. ومن الأمثلة التي أوردوها على هذا القسم من النّسخ: ما رواه زر بن حبيش، قال: قال لي أُبَي بن كعب: كم آية تعدّ سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين وسبعين آية، أو ثلاثة وسبعين آية. قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإنّا كنّا لنقرأ فيها آية الرجم. قلت: وما آية الرجم. قال: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزیز حکیم) (4).

ص: 258


1- انظر: النيسابوري، صحيح مسلم، ج 4، ص 176؛ الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، بيروت، دار إحياء الكتب العربية، 1376 ه_، ج 2، ص39؛ السيوطي، جلال الدين: الإتقان في علوم القرآن، بيروت، دار الفكر، 1416ه_، ج2، ص58.
2- انظر: الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص 285-286؛ معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج2، ص275-279.
3- بمعنى ضياع شيء من القرآن وعدم وصوله إلينا. والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف، فأثبته قوم، ونفاه آخرون.
4- انظر: ابن حنبل : مسند أحمد، ج 5، ص132؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 35؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 66 .

وهذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن للأمور التالية (1):

- منافاة هذا النّسخ لمصلحة نزول الآية؛ إذ لو كانت المصلحة الّتي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكم تشريعيّ ثابت، فلماذا تُرفَع الآية وحدها، مع كونها سندًا للحكم الشّرعيّ المذكور؟

- ابتلاء أغلب هذه الأخبار التي تتحدّث عن وقوعه بالضّعف والإرسال.

- القرآن الكريم لا يثبت بأخبار الآحاد.

- استلزام هذا القسم من النّسخ للتحريف بالنّقيصة.

ج. نسخ الحُكم دون التلاوة: وهو بقاء الآية ثابتةً في القرآن يقرأها المسلمون عبر العصور، مع زوال حكمها بعد أن عمل بها المسلمون فترةً من الزّمن؛ بفعل مجيء النّاسخ القاطع لحُكمها.

وهذا القسم من النسخ هو المعروف بين العلماء والمفسّرين، واتّفق الجميع على جوازه إمكانًا، وإن اختلفوا في وقوعه فعلاً، حيث ذهب البعض إلى أنّ في القرآن آیات ناسخة وآيات منسوخة (2).

6. أنحاء النسخ:

اختُلِفَ في أنحاء نسخ القرآن على أقوالٍ متعدّدةٍ، يمكن إيجازها ضمن التالي:

أ. نسخ القرآن بالقرآن: وقد اتّفق الباحثون والمحقّقون في إمكانيّة وقوع هذا النّحو من النّسخ، واختلفوا في فعليّة وقوعه على أقوال (3)، يمكن إيجازها بالتالي:

ص: 259


1- انظر: الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص 285-286؛ معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص279-282.
2- انظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 37-39؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص58-66؛ الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص286.
3- انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص32؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص56؛ الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 184؛ الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص 286-287؛ معرفة التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 283-285.

- نسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى، مع كون الثانية ناظرة إلى الأُولى ورافعة لحُكمها بالتّنصيص، ولولا ذلك لم يكن موقع لنزول الثانية وكانت لغوًا. مثال: آية النّجوى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةٌ ذَلِكَ خَيْرُ لَكُمْ وَأَظْهَرُ ...» (1) التي أوجبت التصدّق بين يدي مناجاة الرسول صلّی الله علیه و آله، ونَسخَتها آية الإشفاق : «أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ» (2). وهذا النّحو لم يختلف فيه أحد.

- نسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى، من دون أن تكون إحداهما ناظرةً إلى الأخرى، مع وجود تنافٍ بينهما، بحيث لم يمكن الجمع بينهما تشريعيًّا؛ فتكون الآية الثانية المتأخّرة نزولاً ناسخة للأُولى. ويشترط في صحّة هذا الوجه من النّسخ (3):

* وجود نصٍّ صحيحٍ وأثرٍ قطعيٍّ صريح يدعمه الإجماع؛ إذ من الصّعب جدًّا الوقوف على تاريخ نزول آية في تقدّمها وتأخّرها.

* وجود تنافٍ على وجه التّباين الكلّي بين مفاد الآيتين. وهذا لا يمكن القطع به بین آیتین قرآنيّتين سوى عن نصّ معصوم؛ لأنّ للقرآن ظاهرًا وباطنًا ومحكَمًا ومتشابهًا، وليس من السّهل الوقوف على كُنه آية مهما كانت محكَمة.

ب. نسخ القرآن بالسنّة: وقد اختُلِفَ في إمكانيّة وقوع هذا النّحو من النّسخ (4) فذهب البعض إلى عدم إمكانيّة وقوعه؛ نظرًا لكونه مخالفًا للأخبار المتواترة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرّجوع إليه (5). وذهب آخرون إلى إمكانيّة وقوعه؛ لأنّ السنّة وحيٌ من الله؛ كما أنّ القرآن كذلك، ولا مانع من نسخ وحيٍ

ص: 260


1- سورة المجادلة، الآية 12.
2- سورة المجادلة، الآية 13.
3- انظر: الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص 286-287؛ معرفة التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 283-285.
4- انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص32؛ السيوطي ، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص56؛ الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص184-189.
5- انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج 5، ص 275-276.

بوحي؛ لقوله تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى» (1)؛ فلا مانع عقلّي ولا شرعيّ من نسخ الكتاب بالسنّة (2).

وقد اختلف القائلون بإمكانيّة وقوع هذا النّحو من النّسخ، وفي فعليّة وقوعه؛ فذهب بعضهم إلى عدم وقوعه فعلاً (3)، وذهب آخرون إلى وقوعه فعلًا، من قبيل: آية الإمتاع إلى الحَول بشأن المتوفّى عنها زوجها؛ فإنّها بظاهرها- لا تتنافى وآية العِدَد ،والمواريث، غير أنّ السُنّة القطعيّة وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآية العِدَد والمواريث (4). نعم إنّ نسخ مفاد آية بأخبار آحاد غير ممكنٍ في نفسه؛ لأنّ من شروط الدّليل النّاسخ أن يكون بمستوى الدليل المنسوخ (5).

7. شُبهات في النّسخ:

أ. الشّبهة الأولى: إنّ وجود آيةٍ منسوخةٍ في القرآن ربّما يسبّب اشتباه المكلّفين، فيظنّونها آية محكَمة يعملون بها أو يلتزمون بمفادها، الأمر الذي يكون إغراءً بالجهل؛ وهو قبيح.

الجواب عنها: إنّ مضاعفات جهل كلّ إنسان تعود إلى نفسه ولم يكن الجهل يومًا ما عُذرًا مقبولاً لدى العقلاء؛ فإذا كانت المصلحة تستدعي نسخ تشريع سابق بتشريع لاحق، فعلى المكلّفين أن يتنبهوا إلى هذا الاحتمال في التّشريع، ولا سيّما إذا كان التّشريع في بدء حركةٍ إصلاحيّةٍ آخذة في التّدرّج نحو الكمال. وهكذا كان في القرآن ناسخ و منسوخ، وعامّ وخاصّ، ومطلق ومقيّد، ومحكَم ومتشابه، وليس لأحد الأخذ بآية حتّى يتحقّق من أمرها (6).

ص: 261


1- سورة النجم، الآيتان 3-4.
2- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 56؛ الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص 286.
3- انظر: الزرقاني مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص188-190.
4- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 60؛ معرفة التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص283.
5- انظر معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص283.
6- انظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص170؛ معرفة التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص292-293.

ب. الشّبهة الثانية: إنّ الالتزام بوجود آیاتٍ ناسخةٍ ومنسوخةٍ في القرآن يستدعي وجود تنافٍ بين آياته الكريمة؛ الأمر الذي يناقضه قوله تعالى: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» (1).

الجواب عنها: إنّ الاختلاف الذي تنفيه الآية هو الاختلاف الواقعي، لا الظاهري الشّكلي؛ الذي يرتفع في مورد النّاسخ والمنسوخ، بعد ملاحظة زمن نزولهما والمناسبات والمصالح المستدعية لنزول الأولى ثمّ الثانية (2).

ج. الشّبهة الثالثة: ما هي الحكمة وراء ثبت آية في المصحف هي منسوخة الحكم، لتبقى مجرّد ألفاظ مقروءة؟

الجواب عنها: إنّ الحكمة وراء وجود آياتٍ منسوخةٍ تكمن في الوقوف على مرونة الشّريعة ومجاراتها للبيئة الاجتماعيّة، على اختلاف الزمان والمكان، في تدرّجٍ تصاعديٍّ؛ حتى يتسنّى للنّاس الالتزام بها والسّير مع تدرّجها سيرًا يسيرًا غير طفرويّ.

أضف إلى ذلك أنّ الاستفادة من الآية المنسوخة ليست محصورةً في خصوص كونها دليلاً على الحكم الشّرعي فقط، بل لها حقائق عظيمة وبواطن جليلة خافية علينا لا يعلمها إلا الله والرّاسخون في العلم 3.

8. عدد الآيات النّاسخة والمنسوخة:

اختُلِفَ في عدد الآيات النّاسخة والمنسوخة؛ تبعًا لاختلاف الأقوال في إمكانيّة وقوع النّسخ وفعليّة وقوعه وشروطه وأقسامه وأنحائه؛ على أقوال هي:

أ. عدم وجود آیاتٍ ناسخةٍ أو منسوخة في القرآن (4).

[1] سورة النساء، الآية 82.

[2] انظر: معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص293-294.

[3] انظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 152-153، 169 - 170؛ معرفة، التمهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 294-295.

[4] انظر: معرفة، التنهيد في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 295 ج2، ص295.

ص: 262

ب. وجود عددٍ قليلٍ من الآيات النّاسخة والمنسوخة، من هذه الأقوال

- آية النجوى فقط (1).

- 10 آيات، هي: آية النجوى، وآية عدد المقاتلين، وآية الإمتاع، وآية جزاء الفحشاء، وآية التوارث بالإيمان، وآيات الصفح، وآيات المعاهدة، وآيات تدريجية تشريع القتال (2).

- 21 آية، منها: الآيات المتقدّم ذِكْرُها (3).

ج. وجود عدد كبير من الآيات النّاسخة والمنسوخة في القرآن (4).

التعريف بمدخل النّسخ في موسوعة القرآن (ليدن)

(Abrogation) هو عنوان مدخل في المجلّد الأوّل من موسوعة القرآن، (E.Q) كتبه جان برتون (John Burton) في ثماني صفحات (pp. 11-19) وقد بحث في هذا المدخل حول رأي الشّافعي في مجال النّسخ، والنّسخ والعلم الإلهي، المستندات القرآنيّة للنّسخ، شبهات وإشكالات عقائديّة على التّفسير، القراءات المختلفة، النّسخ والفقه والنّوع الثّالث من النّسخ (نسخ الحكم والتّلاوة) تناول (جان برتون) بیان مسألة النّسخ.

يقول في ذلك: (النّسخ أو النّاسخ والمنسوخ) عنوان عام يشير إلى مجموعة الآراء والنّظريات في مجال التّفسير والحديث وأصول الفقه. وقد تأسّست هذه النّظريات بسبب وجود تعارضاتٍ كثيرةٍ وعامّة بين آيتين، أو حديثين، أو حديث وآية، وكذلك بين القرآن والحديث أو الفقه. فالكتاب الإلهيّ يحوي تناقضاتٍ ولا يمكنه أن يقوم بحلّ مشاكل حياة البشر، وعليه فلا بدَّ من حلِّ هذه التّناقضات، ومفتاح حلّ هذه

ص: 263


1- انظر: الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص 373-380.
2- الصالح، صبحي: مباحث في علوم القرآن، ط 10، بيروت، دار العلم للملايين، 1977م، ص273-274.
3- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 60-65 - الزرقاني مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 199-212.
4- انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص58 - 60؛ الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص197.

التّناقضات هو البحث التاريخي فيها على أساس الترتيب الزماني).

فبحسب رأي كثير من المستشرقين فإنّ القرآن نصُّ فيه تناقض. وفكرة النّسخ إنَّما هي طريق حلَّ لهذه المشكلة في القرآن والحال أنّه لا يوجد تعارض في القرآن، كما أنّه لا يمكن أن تكون مسألة النّسخ دليلاً على وجود التّعارض.

وفصل (برتون) الكلام في قضيّة هل أنّ القرآن ينسخ السنّة وبالعكس وذكر آراء الشّافعي في هذا المقام بالتّفصيل، وشرح الأنواع الثلاثة للنّسخ، وتحدَّث عن نسخ التلاوة وبقاء الحكم بتفصيل أكثر. وقد اعتبر الفقه علّة القول بالنّسخ، ثم قال: وعلى سبيل المثال ففي الآية 240 من سورة البقرة يظهر منها تشريع مرحلة مدتها (12) شهرًا لا تستطيع المرأة فيها شرعًا الزّواج مجدَّدًا ويجب عليها البقاء في بيت زوجها المتوفّى وتكون تحت الحماية فيه. وأمّا في الآية 234 من سورة البقرة، فيبدو أنّ هذه المرحلة تقلّصت إلى أربعة أشهر وعشر ليال وقد طُرح هذا الحكم في الفقه. ومنه نستنتج أنّ الآية 234 نزلت لتنسخ الآية 240 أنّ ألفاظ كلتا مع الآيتين موجودة في المصحف. ففي الحقيقة كان تضادّ الفقه مع آيةٍ من القرآن منشأً لفكرة النسخ.

ويعتقد (برتون) أيضًا - من خلال رؤيته لأحكامٍ في الفقه لم ترد في القرآن- بأنّ هذه الموارد دليلٌ على نسخ آيةٍ من القرآن، فيقول: (بالنسبة إلى بعض الموضوعات الخاصّة يعرض الفقه أحكامًا ليست مذكورةً في المصحف العثماني، ويبدو أنّها أُخذت من السنّة... كما أنّ هناك أحكامًا فقهيَّةً تعارض أحكامًا ذُكرت في القرآن. واعتبر بعض العلماء أنّ منشأ هذه الاختلافات هي السنّة. فيما اعتبر بعض آخر منهم أنّه قد تأثّر بالاستنباطات الفقهيّة، فحصل عندهم اطمئنان أنّ سورًا من القرآن نزلت في مقاطع زمانيّة إلّا أنّها قد حُذفت من جميع المصاحف وعلى سبيل المثال فإنّ الحكم الفقهيّ للرجم لا يمكن أن يتلاءم مع الآية الثّانية من سورة النّور... ولكن أكثر الفقهاء قبلوا هذا الحكم، وذلك لأنّه موجودٌ في الفقه الذي ورثوه، واستدلّوا على أنّ هذا المطلب يحكي نسخ حكم المصحف بحكم السنّة. فيما ذكر آخرون أنّ

264

ص: 264

أقوال الإنسان وأفعاله مهما كان له من منزلةٍ ساميةٍ لا يمكن أن تكون ناسخةً لكلام الشّارع، وقد وصل بهم الاستدلال إلى أنّ حكم الرّجم لا بدّ أنه قد نشأ من وحيٍ قرآنيٍّ متأخِّرٍ، فحذفت آية الرجم بهذه البساطة من المصحف الشريف).

وقد اعتبر موارد اختلاف استنباط الفقهاء من آية واحدة دليلاً على النّزول المتعدّد بحيث نُسخ بعضه. فلقد كان (عروة) متحيّرًا في حكم السّعي بين الصفا والمروة. فالآية 158 من سورة البقرة يظهر منها كون السّعي عملاً اختياريًّا، يقول -تعالى-: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطْوّفَ بِهِمَا». وهذا رأيٌ لأهل العراق، في حين أنّ الفقه المدني يعتبر أنّ صحِّة الحجّ واعتباره يتوقّف على أداء السّعي. وعندما تشاور (عروه) مع خالته عائشة، فإنَّها قالت له بأنّ رأيه يستلزم قراءة متفاوتة؛ يعني: (لا معصية في عدم أداء السّعي)، ويحاول (برتون) في بحث نسخ التلاوة وبقاء الحكم الإشارة إلى تأثير بعض الآراء الأصوليّة للشّافعي في ظهور هذا الشّكل من النّسخ. فهو يُبيّن آية الرجم - التي تُعدّ من مصاديق نسخ التلاوة وبقاء الحكم - بالتفصيل ويورد بحوثًا كثيرةً في أنّ مصدر عقوبة الرّجم هل هو القرآن أو السنّة.

يرى (برتون) أنّ القرآن قد جُمع في حياة النّبيّ صلّی الله علیه و آله وأنّ النّسخ أهم سبب أدّى إلى انتقال جمع القرآن إلى ما بعد حياة النّبيّ صلّی الله علیه و آله. ويعتقد (جان برتون) أنّ موضوعات نسخ التّلاوة والحكم، ونسخ التّلاوة وبقاء الحكم، واختلاف قراءة الصّحابة فاقدةٌ للحقيقة الخارجيَّة، وإنّما نشأت في أذهان الفقهاء الذين كانوا في مناظراتهم مع الفقهاء الآخرين يسعون إلى التّمسّك بهذه الأمور لإثبات أنَّ أحكامهم الفقهيَّة التي ليس لها مدرك في نصوص المصحف الفعلي، تستند إلى القرآن، فلو كان النّبيّ صلّی الله علیه و آله قد جمع الآيات القرآنيّة في مصحف، فإنّ الفقهاء المذكورين لم يكونوا قادرين على إيراد القول بأنّ اختلاف قراءات مصاحف الصحابة وحذف النّصوص من المصحف الفعلي في إطار مشكلين من نسخ التّلاوة. وقد رأوا أنّ حلّ القضيّة هو في جعل روايات يحذفون فيها دور النّبيّ صلّی الله علیه و آله من دائرة جمع القرآن وينقلون جمع القرآن إلى عهد ما بعد حياة النّبيّ صلّی الله علیه و آله وقد قاموا فعلاً بذلك، وقد حكى القرن اللّاحق أنّ

ص: 265

بعض الصّحابة والتّابعين كانوا يعتقدون أنّ (السّعي في الحج) عمل اختياري.

ويقول الطبريّ: إنّ رأي هؤلاء ظاهرٌ في أنّه كان مبتنيًا على مصحف ابن مسعود وابن عباس. ثم استنتج برتون أنّ مثل هذا الفهم والاستنباط يجعل وجود وحيٍ مختلفٍ أمرًا ضروريًّا (1).

ويعتقد (جان برتون) أنّ نسيان النّبي صلّی الله علیه و آله هو أحد منطلقات النّسخ. وتناول تحت عنوان (The Quranicevidence) في دراسة الآيات 6و7 من سورة الأعلى مفهوم كلمة (نسي) واعتبره نوعًا من النّسخ، وحاول أن يؤيّد رأيه هذا ببعض الأحاديث. وكتب يقول: «وإنَّ المعنى العام للنّسخ هو التغيير والتّبديل وقد اُضيف إليه الحذف والإبطال ضمن حصيلة النّسخ في القرآن. ومنشأ فكرة النّسخ في القرآن هو التّفسير ويبدو طبقًا لتفسير الآيات 6و7 من سورة الأعلى (2)، والآية 39 من سورة الرعد (3)، والآية 86 من سورة الإسراء (4)، والآية 106 من سورة البقرة (5)-

- حيث استعملت الآيتان الأخيرتان اصطلاح النّسخ ذاته - أنّ هذه الاحتمالات كانت قد طُرحت، وهي أنّ بعض آيات القرآن يمكن أن يكون النّبيّ صلّی الله علیه و آله قد نسيها. وكذلك فإنّ النّبي صلّی الله علیه و آله شخصيًّا لا يمكنه أن يحذف أو يبدّل الآيات، أو تتم السّيطرة على نسيان النّبيّ صلّی الله علیه و آله بحيث تكون الإرادة الإلهيّة هي المعمول بها في القرار النّهائيّ بشأن نصّ الكتاب» (6).

ثانيًا: النّقد والمناقشة:

وفيما يلي نتناول مطالب جان برتون وادّعاءاته في مجال الاختلاف بين أحكام

ص: 266


1- Burton, John, (Abrogation),Encyclopaedia Of The Quran. Vol.1.PP.11 -19, Collection Of The Quran Vol.1 PP.352-360.
2- «سَتُفْرِكُكَ فَلَا تَنسىَ * إلَا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يُخَفَىَ» .
3- «يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُنْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ».
4- «وَليِن شِئْنَا لَتَذْهَبَنَّ بِالنَّى أَوْحَيْنَا إِليكَ ثُمَّ لَا يَجدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا».
5- «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بَخِيرُ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُل شَيءٍ قَدِيرٌ».
6- IBid.PP.14- 15.

القرآن والفقه، وقضيّة تحريف القرآن، واختلاف القراءات، والحالات الثلاثة للنّسخ ونسيان النّبيّ صلّی الله علیه و آله، والتي تُعتبر أهم الشّبهات.

1- لا شكّ أبدًا في أنّ الاختلاف بين أحكام القرآن والفقه أساسًا أمرٌ لا معنى له؛ وذلك لأنّ القرآن هو المصدر الأساس للفقه، وهو أكثر المصادر اطمئنانًا، والذي لم يحصل فيه أيّ تحريفٍ أو تغييرٍ، هذا أوّلاً. ولا شكّ في كون القرآن الكريم المصدر الأوّل للشّريعة المقدّسة، وهو الحجّة القاطعة بيننا وبين الله تعالى، التي لا شكّ ولا ريب فيها، كلام الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلّی الله علیه و آله، وكان يراجعه مع أمين الوحي في كلّ شهر من شهور رمضان للتأكّد من سلامته مبنًى ومعنًى(1)، وقد بلَّغ نبيُّ الإسلام القرآن الكريم تبليغًا كاملاً باتّفاق المسلمين، وأمر بحفظه وكتابته وجمعه حال حياته، وأنّ ما بين الدّفّتين والمتداول بين المسلمين منذ عهد النبي صلّی الله علیه و آله لم يزد فيه ولم ينقص منه، وكما يقول العلامة حسن زاده آملي: «واعلم أنّ الحق المحّقق المبرهن بالبراهين القطعيّة من العقليّة والنّقليّة أنّ ما في أيدي الناس من القرآن الكريم هو جميع ما أنزل الله تعالى على رسوله خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلّی الله علیه و آله وما تطرّق إليه زيادة ونقصان أصلاً».[2].

وثانيًا: إنَّ الأحكام الموجودة في الفقه ولم يتم بيانها في القرآن، إنَّما كان منشؤها أنّ هذه الأحكام فُهمت من الرّوايات، وليس الأمر هو أن تكون جميع جزئيّات الأحكام موجودة في القرآن.

وثالثًا: إنَّ اختلاف الفتاوى ناشئٌ من عوامل متعدّدة، ومن المقطوع به أنّ تعدّد النّزول أو حذف آية من القرآن لم يكن ضمن هذه العوامل.

وأمّا اعتبار المستشرقين الاختلافَ بين القرآن والفقه وكذلك اختلاف فتاوى الفقهاء من أسباب النّسخ في القرآن، فإنَّه يعود إلى أحد السّببين الآتيين:

1- أنَّهم لم يكونوا على اطلاعٍ كافٍ ومناسبٍ بالنّسبة إلى مصادر استنباط الفقه.

[1]- يراجع: صحيح البخاري، ج6 ، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي.

[2]- رسالة في فصل الخطاب في عدم تحريف كتاب رب الأرباب من مجموعة رسائل عربية، ص1.

ص: 267

2 - أنَّهم يعتقدون بتحريف القرآن ويميلون إلى بيان شواهد على أن هناك آية أو حكمًا كان في القرآن ثم حُذف!

أما بالنّسبة إلى مصادر الفقه، فينبغي القول إنَّه مما لاشكّ فيه أنَّ أوّل طريقٍ وأهمّه لفهم الأحكام الإلهيّة واستنباطها هو كتاب الله - تعالى - وهو القرآن الكريم. قال تعالى:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» (1). ولقد كان المسلمون منذ الصّدر الأوّل وما زالوا يرجعون بالدّرجة الأولى إلى القرآن الكريم لاستنباط الأحكام الإسلاميّة.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّه بالإضافة إلى القرآن فإنّ السِّنّة - أيضًا - هي من مصادر الفقه والسنّة قول المعصوم وفعله وتقريره، وقد أخذت بعض الأحكام من السنّة. ومن البديهيّ أنّه لو تمّ بيان حكم في قول الرّسول الأكرم صلّی الله علیه و آله أو ثبت أنه أدّى الوظيفة الدّينيَّة عمليًّا بكيفيَّةٍ خاصَّةٍ أو تمّ التّحقّق من أنّ الآخرين أدّوا الوظيفة الدّينيّة في حضوره، وقد أيَّدها وقرَّرها وأمضاها عمليًّا من خلال سكوته الذي يدلّ على صحّة ذلك العمل، فإنّ كلّ هذه الحالات تكفي الفقيه كي يستند إليها في استنباط الأحكام الشّرعيّة. ففي شأن السّنّة وحجّيتها بشكلٍ عامٍ لا يوجد خلاف بين الفقهاء، وإنّما الخلاف بينهم في جهتين من السّنّة: الأولى: هل أنّ الحجيّة إنّما للسِّنّة النّبويّة فقط أو تشمل السنّة المرويّة عن الأئمة المعصومين علیهم السّلام أيضًا؟

فأهل السّنّة يعتبرون السّنّة النّبويّة فقط حجّة، فيما يستند الشيعة - كذلك - إلى قول وفعل وتقرير الأئمة الأطهار الهلال علیهم السّلام أيضًا بحكم بعض الآيات والأحاديث المتواترة عن النّبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله، والتي رواها أهل السّنة أيضًا، ومن جملتها: قول النّبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً) (2).

ص: 268


1- سورة النحل، الآية 89.
2- أخرجه الترمذي (3788)، والفَسَوي في ((المعرفة والتاريخ)) (536/1)، والشَّجري في (ترتيب الأمالي) (738).

والنّقطة الجديرة بالاهتمام هي أنّ القرآن مصدرٌ أساسٌ لاستنباط الأحكام الشّرعيّة والقوانين الإلهيّة، بحيث إنَّه لا ينبغي أن يكون هناك أيّ حكمٍ يخالف القرآن كما قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه).[1].

فلقد كان المسلمون منذ صدر الإسلام وما زالوا يرجعون في استنباط الأحكام الإسلاميّة إلى القرآن الكريم بالدّرجة الأولى [2].

وعليه، فإنَّ ادّعاء المخالفة بين الفقه والقرآن لا معنى له، بل هو أمرٌ غير منطقيٍّ. وكذلك فإنّ سبب وجود بعض الأحكام في الفقه ولكنّها لم ترد في القرآن واضح أيضًا، وذلك لأنّ تلك الأحكام أخذت من سائر المصادر الأخرى غير القرآن ولا علاقة لهذه المسألة بقضيّة النّسخ.

2- ردّ شبهة تحريف القرآن

إنَّ بقاء القرآن محفوظًا من التّحريف مورد تأييد علماء الفريقين، وأورد علماء الإسلام على عدم تحريف القرآن أدلّةً نقليّةً (القرآن و الرّوايات) وأدلّةً عقليّةً وأدلّةً تاريخيّةً ومن جملة هذه الأدلّة نشير فيما يلي إلى بعضها:

1. شهادة التاريخ

2. ضرورة تواتر القرآن

3. قضيّة إعجاز القرآن وبقاء التّحدّي الذي قدّمه.

.4 الضمانة الإلهيَّة في الآية 9 من سورة الرعد.

5. عرض روايات التحريف على القرآن الكريم وردّها.

6. نصوص أهل البيت علیهم السّلام الدّالّة على عدم تحريف القرآن.

[1]. الكليني، محمد: الكافي، لا ط، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1407ه_، ج 1، ص 69.

[2]. الإيازي، محمد علي: فقه پژوهشی قرآن، قم، دار النشر في مكتب الإعلام الإسلامي، 1380 ه_ ش، ص 235.

ص: 269

7. الرّأي الإجماعي لكبار علماء ،الفريقين، والذي يدلّ شرحه وبيانه على ردّ التحريف (1).

ولكن المستشرقين قبلوا الرأي القائل بتحريف القرآن نظرًا للدّوافع التي عندهم، فقالوا إنَّ القرآن تعرّض للتّحريف بعد وفاة النّبيّ صلّی الله علیه و آله (2).

وأمّا مخالفة حكم الرّجم للآية الثانية من سورة النور (3)، فإنمَّا لانصباب الحكم من كلتا الآيتين على موضوع مختلف، فحكم الرّجم استُنبط ونُقل من السِّنّة وهو خاص بالزّاني الذي كان متزوّجًا وله زوج أوّلاً.

وثانيًا: أن يكون قادرًا على إتيان زوجه بأن لا يكون مسافرًا أو يكون هناك عذر آخر يتنافى ويتعارض مع إمكان الإتيان كالعادة الشّهريّة أو كون الزوج ناشزًا أو عنينًا.

فبعد حصول هذه الشروط يستحقّ هذا الرّجل أو المرأة المتزوّجة بالزّوج الحلال وغير الممنوع منه إذا ارتكب الزنا وأقرّ به أربع مرات في جوّ من الحريّة، أو شاهد عمليّة الزّنا بخصوصيتها أربعة شهود عدول، وشهدوا عند الحاكم بذلك وبهذا فإنّ حكم الرّجم لا يتنافى مع الآية الثانية من سورة النّور وإنما هي تخصّصها.

3- اختلاف القراءات والاستنتاج

وأمّا ما ذكر بشأن اختلاف الاستنتاج فهو كلامٌ عجيبٌ؛ وذلك لأنّ اختلاف الاستنتاج لا يمكن أن يكون أبدًا بمعنى اختلاف النّزول، فالقرآن نصٌّ ثابتٌ، وللعلماء والفقهاء استنباطهم، وأحيانًا يكون الاستنباط مؤيَّدًا بإحدى القراءات، وهم يوردون اسم تلك القراءة.

وأمّا بالنسبة إلى الآية 158 من سورة البقرة: «إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَابِرِ اللهِ

ص: 270


1- معرفت، محمد هادي، صيانة القرآن من التحريف، طهران، وزارة الخارجية، 1379 ه_ ش، ص 35-60.
2- نولدکه، تئودور: تاريخ القرآن، المترجم: تامر، جورج، زوریخ، دار نشر جورج ألمز، 2000م، الجزء 2، ص317-319.
3- «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ» فمع أنّ ظاهر الآية حيث جاء فيها تعبير (لا جناح) يشير إلى أنّ هذا العمل (السعي بين الصفاء والمروة) اختياريّ، ولكنّنا إذا دقّقنا النّظر في شأن نزول الآية يتَّضح لنا أنّ هذا التعبير إنّما جاء من باب (رفع توهّم الحظر)؛ وذلك لأنّ المسلمين في عمرة القضاء طلبوا مهلة ثلاثة أيام من المشركين لإزالة الأصنام من الكعبة ومن جبلي (الصفاء والمروة) ليتمكّنوا من أداء مراسم الحجّ بسهولة. وبعد ثلاثة أرجع المشركون الأصنام، في حين أنّ بعض المسلمين لم يتمكّنوا من أداء السّعي بين الصّفاء والمروة خلال تلك الأيام لأعذارٍ كانت عندهم، ولهذا وقعوا في حرج، فنزلت الآية المذكورة لتقول لهم لا مانع من الساعين بينهما ولا بأس عليهم حتى وإن كانت الأصنام فوقهما. وبناءً على هذا فإنّ مثل هذا التعبير (فلا جناح) لا يتنافى مع وجوب السّعي (1).

وبهذا عُلم أنّ اختلاف الاستنتاج الفقهي من آية - أيضًا - لا علاقة له بقضيّة النّسخ أو التّحريف.

4- مناقشة الحالات الثلاث للنّسخ

في قضيّة النّسخ هناك ثلاث حالات يمكن تصوّرها نبحثها فيما يلي:

أ- نسخ الحكم والتلاوة:

وفي هذه الصّورة يُنسخ كلُّ من الحكم والتلاوة ويُدّعى أنّ الآية التي كانت من القرآن سابقًا فإنّها ليست فيه الآن.

بمعنى أنّ الحكم ولفظ الآية مُحيا من القرآن بعد النسخ (2).

ويرى الزرقاني وجود هذا النّوع من النّسخ إجماعيًّا. وبهذا الصّدد فقد ورد خبرٌ عن عائشة أنّ آية كانت فى القرآن صرَّحت بأنَّ عشر رضعات للطفل الرضيع توجب

ص: 271


1- الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، م.س، ج 1، ص 240؛ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج 1، ص385-388.
2- الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 110.

الحرمة، ثم نُسخت هذه الآية بعد ذلك بآيةٍ أخرى جاء فيها أنَّ خمس رضعات موجبة للحرمة (1).

وذكروا أنَّ الناسخة للعشر قراءة وحكمًا والمنسوخة قراءة دون حكم كانت موجودة حتى ما بعد وفاة النّبيّ صلّی الله علیه و آله وكانت ثابتة في النّصّ القرآني، ولكنه بعد وفاة النبي صلّی الله علیه و آله زالت من القرآن بسبب أكل المعز لها (2).

وقد ذكر الكثير من أهل الاختصاص في هذا المجال (3)، أنّ هذه الاحتمالات والدّعاوى غير مقبولة (4)؛ وذلك لأنّه كيف يمكن لآياتٍ من القرآن التي كانت موردًا للاستنساخ والتّلاوة والحفظ من قِبلَ المسلمين أن تزول كاملاً من الوجود فجأة بعد وفاة النّبيّ صلّی الله علیه و آله بأكلها من قبل مَعز، هذا كلّه علاوة على أنّه يبدو أنّ قبول هذه

الرّواية يستلزم قبول تحريف القرآن أيضًا.

ب - نسخ الحكم وبقاء التّلاوة:

ذكر المتقدّمون موارد عديدةً لإثبات هذا النّوع (5)، كما أنهم ألّفوا كتبًا مستقلّةً بهذا الشّأن، منها: النّاسخ والمنسوخ في كتاب الله العزيز للنحاس، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (6).

والدّليل الأصليّ للموافقين هو وجود شبهة التّنافي في بعض الآيات، والحال أنّ هذا الادّعاء في أكثر موارده ناقشه العلماء المعاصرون، ومن جملتهم السّيّد الخوئي (ره) حيث ناقش جميع الآيات التي ذكرت في المقام (سورة المجادلة آية النجوى

ص: 272


1- الترمذي: سنن الترمذي، ج 2، ص309.
2- ابن ماجة القزويني: سنن ابن ماجة ج 1 ص 626.
3- الباقلّاني، محمد بن طيب: الانتصار للقرآن، بيروت، دار ابن حزم، 1422ه_ ج 1، ص 406-407؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص39-40.
4- انظر: معرفت: صيانة القرآن من التحريف، م.س، ص 165؛ العريضي، علي حسن: فتح المنان في نسخ القرآن الكريم، مصر، مكتبة الخانجي، 1973م، ص223-230.
5- انظر: السيوطي: الإتقان، م.س، ج 2، ص 58-60.
6- انظر: السيد الخوئي: البيان في تفسير القرآن، م.س، ص284.

12) واعتبرها من المحكمات وأنّ حكمها نافذ بسبب عدم وجود التّنافي (1)؛ وعلى سبيل المثال، فإنَّه يعتقد أنّ آيات الصفح (ّالصّفح عن تعرّف المشركين) وآيات الجهاد ليستا متضادّتين، وترتبط كلّ منهما بمقامها الخاص. هذا علاوة على أنّ الصّفح يُعدُّ دائمًا من الأصول الأوّليّة في الإسلام، وأنّه يجب على المسلمين رعاية جانب الصّفح والحلم أكثر من الشّدّة والخسّة وضيق الصدر، وعليه فلا نسخ في ،المورد والصّفح يرتبط بحال المسلمين ،وضعفهم وعدم الصّفح والقتال بحال قوّتهم، وهذا من اختلاف الحكم باختلاف الموضوع (2).

وأما آية النّجوى (سورة المجادلة، الآية 12) فقد ادَّعى نسخها؛ وذلك لأنّه على أساس هذه الآية فقد أمر المؤمنون في البداية أنَّهم كلّما أرادوا السّؤال والحديث الخاصّ مع النّبيّ صلّی الله علیه و آله فإنّ عليهم أن يدفعوا صدقة، ثم أُلغي هذا الحكم الوجوبي (3)، والحال أنّ هذا الأمر إنَّما كان لتربية المسلمين في عهد النّبيّ صلّی الله علیه و آله لئلّا يزاحموا النّبي صلّی الله علیه و آله عبثًا، وقد التفَتَ المسلمون إلى هذه النّكتة بنزول هذه الآية (4)، وفي الوقت ذاته فإنّ هذه النّكتة قائمةٌ دائماً حتى تقتصر مراجعة الرؤساء والمسؤولين على حالات المسائل المهمّة والكبيرة، وليس في كلّ مسألة حتى الصغيرة منها وغير المهمّة. هذا وقد اعتبر السيد الخوئي أنّ آية النجوى (سورة المجادلة، الآية 12) هي المصداق الوحيد لهذا النّوع من النّسخ، ويرى أنّ هذه الآية نُسخت قطعًا وأنّ الآية التي نسختها هي الآية 13 من سورة المجادلة (5).

ت - نسخ التلاوة دون الحكم:

في هذا النّوع من النّسخ محي لفظ الآية وتلاوتها وبقي الحكم (6). وقد نُقل

ص: 273


1- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص286 فما بعد.
2- راجع: الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س ص359 - 360؛ معرفت، هادي، تلخيص التمهيد.
3- انظر: الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، م.س، ج 9، ص 552.
4- ر.ك: سيد قطب، في ظلال القرآن، م.س، ج 6 ، ص 3513؛ معرفت التمهيد، م.س، ج 2، ص 300.
5- الخوئي، البیان في تفسیر القرآن، م.س، ص 286.
6- السيوطي: الاتقان، م.س، ج 2، ص 66.

بهذا الصّدد عن عمر بن الخطّاب بشأن رجم الشّيخ والشّيخة الزّانيين[1] أنّ هناك آية كانت موجودةً في القرآن، وقد حُذفت من دون سببٍ، وكان عمر يقرأها مرارًا وكان يُصرّ على إدراجها في المصحف ثانية، إلَّا أنَّ أحدًا لم يقبل قيامه بذلك العمل (2)، إلا أنّ البعض لم يقبل هذه الرواية ومنهم الزركشي 3. مع أنّ جمهور أهل السنّة قبل هذه الرّواية بل جمهورهم قبل هذا النّوع من نسخ التلاوة.

وأمّا عند الشيعة فإنّ مثل هذا النّسخ محال، وذلك لأنّه يستلزم تحريف القرآن، يقول السيد الخوئي: إنّ نسخ التّلاوة هذا إما أن يكون قد وقع من رسول الله صلّی الله علیه و آله وإما أن يكون ممن تصدّى للزّعامة من بعده، فإن أراد القائلون بالنّسخ وقوعه من رسول الله صلّی الله علیه و آله فهو أمر يحتاج إلى الإثبات. وقد اتّفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد صرّح بذلك جماعة في كتب الأصول وغيرها، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسّنّة المتواترة وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الرّوايتين عنه، بل إنّ جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسِّنّة المتواترة منع وقوعه. وعلى ذلك فكيف تصحّ نسبة النّسخ إلى النّبيّ صلّی الله علیه و آله بأخبار هؤلاء الرّواة؟ مع أنّ نسبة النّسخ إلى النّبيّ صلّی الله علیه و آله تنافي جملةً من الرّوايات التي تضمّنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده. وإن أرادوا أنّ النّسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزّعامة بعد النّبيّ صلّی الله علیه و آله فهو عين القول بالتّحريف. وعلى ذلك فيمكن أن يُدّعى أنّ القول بالتّحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السّنّة؛ لأنّهم يقولون بجواز نسخ التّلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ، بل تردّد الأصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز أن يمسّه المحدث. واختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفةٌ من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التّلاوة. ومن العجيب أنّ جماعة من علماء أهل السّنّة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم، حتى أنّ الألوسي كذّب الطبرسي في نسبة

.[1]. ابن حنبل الشيباني، مسند أحمد، ج 5، ص 183 و 132.

[2] انظر: معرفت، صيانة القرآن من التحريف، م.س، ص 159-161؛ وقد قبل السيوطي هذه الرواية، الإتقان، م.س، ج 2، ص 66-67 .

[3]. الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج 2، ص 35.

ص: 274

القول بالتّحريف إلى الحشويّة، وقال: «إنّ أحدًا من علماء أهل السّنّة لم يذهب إلى ذلك» (1).

رأي برتون:

يسعى (جان برتون) في بحث نسخ التّلاوة وبقاء الحكم إلى الإشارة إلى تأثير بعض الآراء الأصوليَّة للشافعي فبظهور هذا الشّكل من النسخ وتكوُّنه فقد بيّن آية الرّجم بالتفصيل وذكر بهذا الصدد مطالب كثيرة حول هل أنّ مصدر عقوبة الرّجم هو القرآن أو السّنّة.

(Burton ((Abrogation)) Encyclpaedia Of The Quran, Vol.1.P.17)

وعلى كلّ حالٍ فإنّ نسخ التّلاوة وبقاء الحكم يشير إلى هذا الادِّعاء، و هو أنّ بعض الأحكام الفقهيّة منشؤها قرآنيّ، ولا أثر لهذه الأحكام في المتون المنقولة للقرآن (المصحف) علاوةً على أنّه في بعض الموارد نظير عقوبة الرّجم، فإنَّ الحكم المُبيَّن في المصحف يكون على الضدّ منها. والخلاصة، فإنّ هذا الأسلوب من النّسخ يحكي السّعي لعرض توجيهات نظريّة من متنٍ خياليٍّ مجعول. وكما مرّ سابقًا فإنّ نسخ التّلاوة وبقاء الحكم يواجه مشاكل خاصّة، فإذا نُسخت تلاوة آية واقعًا فإنّ الحكم المستنبط منها حكم فاقد للاعتماد على مصدرٍ موثّقٍ موجود، ولهذا فإنّ الكثير من العلماء لم يقبلوا هذا النّوع من النّسخ أبدًا.

5- نسيان النّبيّ صلّی الله علیه و آله باعتباره سببًا لفكرة النسخ

اعتبر (جان برتون) نسيان النّبيّ صلّی الله علیه و آله أحد منطلقات (عوامل) النّسخ، وتصدّى تحت عنوان: The quranic evidence في بحثه للآيتين 6و7 من سورة الأعلى المفهوم كلمة (نسي ) واعتبر ذلك نوعًا من النّسخ وحاول أن يُسند رأيه هذا ببعض الأحاديث، فقال: إنّ المعنى العام للنّسخ هو التغيير والتبديل، وقد أضيف إليها الحذف والإبطال ضمن حصيلة النّسخ في القرآن، ومنشأ فكرة النّسخ في القرآن

ص: 275


1- راجع الخوئي، البيان، م.س ص 285؛ السبحاني، جعفر: النسخ والبداء في الكتاب والسنة، بيروت، دار الهادي، 1418ه_، ص 13-14.

هو التفسير، ويبدو طبقًا لتفسير الآيات 6و7 من سورة الأعلى، والآية 39 من سورة الرعد، والآية 86 من سورة الاسراء، والآية 106 من سورة البقرة - حيث استعملت الآيتان الأخيرتان اصطلاح النسخ ذاته - أنّ هذه الاحتمالات كانت قد طُرحت، وهي أنّ بعض آيات القرآن يمكن أن يكون النّبيّ صلّی الله علیه و آله قد نسيها.

وكذلك فإنّ النّبيّ صلّی الله علیه و آله شخصيًّا لا يمكنه أن يحذف أو يبدّل الآيات، أو تتم السّيطرة على نسيان النّبيّ صلّی الله علیه و آله بحيث تكون الإرادة الإلهيّة هي المعمول بها في القرار النّهائي بشأن نصّ الكتاب.

(Burton "Abrogation", Encyclopaedia Of The Quran, Vol.1.PP.14- 15)

النقد والمناقشة:

إنّ الوارد في سورة الأعلى هو (سنقرئك فلا تنسى) وهو وعدٌ إلهيٌّ بعدم نسيان النّبيّ للقرآن، في الآية (6) شاهد على خلاف المدَّعى. أما قوله تعالى في الآية (7) (إلَّا ما شاء الله) فلا يعني نسيان رسول الله لجزءٍ من القرآن، بل يعني أنَّ قدرة الله مطلقة وأنَّ قضاءه المحتوم لا يقيِّد قدرته، وأنَّ البشر مع القضاء محتاجون إلى

الله تعالى.

وإن الادّعاء بأنّ النّسخ معلول لنسىیان النّبيّ صلّی الله علیه و آله باطلٌ، فهو أجنبيٌّ عن مفهوم النّسخ؛ وذلك لأنّ نسخ التّلاوة غير مقبول، والقول به باطل. ويجدر بنا دراسة الآيات المذكورة بشأن نسيان النّبيّ صلّی الله علیه و آله ليتّضح الأمر بقوله - تعالى - في الآية 106 من سورة البقرة: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

عندما غُيّر حكم التّوجّه إلى القبلة وأوجب الله -تعالى- على المسلمين التوجّه نحو الكعبة، قال اليهود: إذا كانت القبلة الأولى صحيحة فما الدّاعي للأمر الثاني؟ وإذا كان الأمر الثاني صحيحًا فالأعمال السابقة للمسلمين باطلة. فأراد القرآن تسلية قلوب المسلمين وتوضيح الأمر وبيانه، فذكر أنّ الله -تعالى- لا ينسخ حكمًا أو يؤخّر

ص: 276

نسخه إلّا ويجعل مثله أو أفضل منه محلّه (التفسير الأمثل (فارسي) ج 1 ص388).

تحدّثت الآية عن النّسخ والإنساء؛ فأمّا النسخ (ما ننسخ) - هنا - فليس مختصًّا بالأحكام الشّرعيّة وإنما يشمل التكوينات أيضًا) (1).

وفي النتيجة فإنّ قوله - تعالى - يكون معناه: أننا إذا نسخنا آية، فسنأتي بمثلها أو أفضل منها وهذا إشارة إلى الأحكام أو إذا نسخنا معجزة أحد الأنبياء، فإنّنا سنعطي للنّبيّ اللّاحق معجزة أجلى وأوضح.

ويجدر الانتباه إلى أنّه في بعض الرّوايات التي وردت في تفسير الآية المذكورة فإنّنا نرى أن (نسخ الآية) فُسّر بموت إمام ومجيء إمام آخر خلفًا له. وبالطبع فإنّ هذا من باب بيان أحد المصاديق، وليس لأجل تحديد المفهوم الواسع للآية (2).

وبناء على هذا فإنّ أحد مصاديق هذه الآية هو نسخ الآية، سواء أكان بمعنى النّسخ الاصطلاحي أم بمعنى النّسخ المشروط، ومع أنّه يمكن لمنكري النّسخ ادّعاء أنّ هذه الآية هي بشأن نسخ أحكامٍ شرعيّةٍ بأحكامٍ شرعيّةٍ أخرى ولا علاقة لها بحجّة النّسخ في الآيات.

وأما الإنساء في قوله - تعالى - : «نُنسها» فالإنساء في اللغة من مادة نَسَأ بمعنى التأخير (3) أو من مادة نسى بمعنى الإجبار على الترك (4)، أو الإزالة من الذّهن (5). واعتبر صاحب تفسير الأمثل الإنساء بمعنى التأخير فقال: والمقصود هنا أنّه إذا نسخنا آية أو أخّرنا نسخها استنادًا لمصالح، فإنّنا نأتي بأفضل منها أو مثلها. وعليه، فإنَّ (ننسخ) إشارة إلى النّسخ على المدى القصير، و(نُنسها) إشارة إلى النّسخ على المدى البعيد (6).

ص: 277


1- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج 1، ص 252.
2- مكارم الشيرازي، ناصر: التفسير الأمثل (فارسي)، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1371 ه_ ش، ج 1، ص 393.
3- ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، قم، دار نشر (أدب الحوزة)، 1405 ه_، ج 1، ص 167.
4- الفيومي، أحمد بن محمد: المصباح المنير، قم، مؤسسة دار الهجرة، من دون تاریخ، ج 2، ص 604.
5- الراغب الأصفهاني، مفردات الفاظ القرآن، م.س، ص804.
6- الشيرازي، التفسير الامثل، م.س، ج 1 ص393.

وجعل بعض المفسّرين الإنساء بمعنى التّرك، فعدَّ (نُنسها) من مادة النّسيان بمعنى التّرك وليس الغفلة، يعني نتركها من دون تغيير وتبديل ونتركها كما هي (1).

وبحسب هذين الرأيين فلا يُطرح في البين النّسيان أصلاً، ويكون ادّعاء المستشرقين باطلاً تمامًا. واعتبر بعض المفسّرين الإنساء بمعنى (الإذهاب عن العلم والنسيان)؛ يقول العلامة الطباطبائي: (والإنساء إفعال من النسيان وهو الإذهاب عن العلم كما أنّ النّسخ هو الإذهاب عن العين، فيكون المعنى: ما نُذْهِب بآية عن العين أو عن العلم، نأت بخير منها أو مثلها) (2).

وتجدر الإشارة إلى أنّ رأي العلّامة الطباطبائي يبتني على المقدّمات التالية:

1 - إنّ كلمة (آية) في هذه الآية لا تختص بالآيات التشريعيّة، أي: آيات القرآن، بل تشتمل الآيات التكوينيّة أيضًا.

2- إنَّ بعض الأمور ومن جملتها: وجود النّبيّ صلّی الله علیه و آله والأئمّة المعصومي علیهم السّلام من الآيات الكبيرة لله تعالى.

3- إنّ المقصود من نسخ الآية إزالة الآيات التّكوينيّة والتّشريعيّة، وهو معنى أعم من النّسخ الاصطلاحي، وعليه فيكون معنى الآية: عندما يزيل الله -تعالى- آية من آياته فتخرج الآية من المتن من كونها آية، أو يخرجها من ذهن وعلم الإنسان، فإنَّه -تعالى- يأتي بأفضل منها أو مثلها. والإنساء بهذا المعنى لا يشمل النّبيّ صلّی الله علیه و آله وذلك لأن قوله تعالى: «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» مدني. في حين أنّ الله - تعالى - أنزل قوله: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ الله» (سورة الأعلى، الآيتان 6-7) في مكة، وقد ضمنت الآية ووعدت بعدم نسيان رسول الله صلّی الله علیه و آله، ولا شكّ أنّ وعد الله لا يختلف. وتجدر الإشارة إلى أنّ الاستثناء في قوله - تعالى -: «إِلا مَا شَاءَ الله» ليس دليلاً على وقوع النسيان عند رسول الله صلّی الله علیه و آله وإنما يعطي هذا الاستثناء إمكان النسيان عند النّبيّ صلّی الله علیه و آله إذا شاءت الإرادة الإلهيّة.

ص: 278


1- مغنية، محمد جواد، تفسير القرآن الكريم، م.س، ج 1، ص170.
2- الطبطبائي، الميزان، م.س، ج 1، ص 250.

وبعبارة أخرى فإنّها تشير إلى قدرة الله -تعالى- بجعل النّبيّ صلّی الله علیه و آله ينسى (1).

و في الحقيقة إنَّ الله -تعالى- في مقام الامتنان على النّبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله في سورة الأعلى، والاستثناء إنّما كان فقط لإثبات القدرة الإلهيّة وإلّا لم يكن هناك امتنان على النّبيّ صلّی الله علیه و آله وفي النتيجة فإنّ الآية لا تنسب النّسيان إلى النّبي الأكرم صلّی الله علیه و آله بأيّ وجهٍ كان.

وأمّا الآية التّاسعة والثلاثون من سورة الرعد: «يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» فإنّها وردت بشأن نزول المعجزات أو الكتب السّماوية على الأنبياء، وفي الوقت ذاته تطرح قضيّة عموم المحو والإثبات ونسخ الشّرائع مصداقًا لها (2).

وعليه فلا دلالة فيها على أنّ النبي صلّی الله علیه و آله يُصاب بالنّسيان وأنّ هذا النّسيان سبب للنسخ.

وأمّا الآية السادسة والثمانون من سورة الإسراء: «وَلَيِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلٌ»، فهي تقول للنّبيّ صلّی الله علیه و آله: أنتَ لستَ مستقلاً فى الإتيان بهذا القرآن وإنما نحن الذين أتيناك به، وإذا أردنا فإننا نسترجعه منك. وبعبارة أخرى هي لا تدل على أنّ من الممكن أن يأخذ الله -تعالى- هذه الرحمة من النّبيّ صلّی الله علیه و آله عمليًّا، وإنّما تدلّ على أنّ النّبيّ صلّی الله علیه و آله ليس له من ذاته شيء، وإنّما علمه والوحي السّماوي كلّه من قِبَل الله - تعالى-، ويرتبط بمشيئته تعالى (3).

وعليه فهذه الآية أيضًا لا علاقة لها بدعوى المستشرقين. وأمّا الآيتان السادسة والسابعة من سورة الأعلى: «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلّا مَا شَاءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى» فهي في الحقيقة تدلّ على بيان مِنْةٍ إلهيّة للنبي الأكرم صلّی الله علیه و آله، وكلُّ تفسيرٍ يخالف هذا الأمر ليس صحيحًا. وتقول الآية: أنّ الذي أرسلك لهداية النّاس بهذه الآيات هو الذي يحفظها ويحرسها، وهو الذي يبتّ نقش هذه الآيات في صدرك

ص: 279


1- الطبطبائي، الميزان، م.س، ج 1، ص 254.
2- الشيرازي التفسير الأمثل، م.س، ج 1، ص 241.
3- م.ن، ج 12، ص 272.

الطّاهر بحيث لن يصيبها أبدًا غبار النسيان، فهي تعد النّبيّ صلّی الله علیه و آله بعدم النّسيان. وأمّا الاستثناء فهو في مقام بيان عموم القدرة الإلهيّة وإطلاقها كالاستثناءٍ في الآية السابقة تمامًا، وكالاستثناء في الآية 108 من سورة هود: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءٌ غَيْرَ مَجْذُودَ».

وعلى كلّ حال فإنَّ الآيتين المذكورتين تبيّنان ثبوت قدرة الله -تعالى- في جميع الأحوال أنّه -تعالى- ذكر عموم قدرته في بعض الموارد. يقول العلامة الطباطبائي بهذا الصدد: قوله : «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى» وعد من الله - تعالى - لنبيه عل الله أن يُمكنه من العلم بالقرآن وحفظه على ما أنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما أُنزل وهو الملاك في تبليغ الوحي كما أوحي إليه. وقوله : «إِلّا مَا شَاءَ الله» استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها، وأنّ هذه العطّية وهي الإقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء بحيث لا يقدر بعدُ على إنسائك، بل هو باقٍ على إطلاق قدرته له أن يشاء إنساءك متى شاء وإن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الذي في قوله: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءٌ غَيْرَ مَجْذُودَ». وليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي، والمعنى سنقرئك فلا تنسى شيئاً إلّا ما شاء الله أن تنساه وذلك أنّ كل إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء وينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبي صلّی الله علیه و آله بلحن الامتنان مع كونه مشتركاً بينه وبين غيره، فالوجه ما قدّمناه (1).

وعليه، فبحسب التّفسير الصّحيح للآيتين فإنَّهما لا تدلّان على نسيان النّبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله: بل إنّها تنفيان بشكل واضحٍ وأكيدٍ احتمال النّسيان أيضًا. وعليه فإذا كان لشخصٍ فهمٌ خاطئٌ للآية، فإنّه لا ينبغي نسبة ذلك إلى القرآن.

ص: 280


1- الطبطبائي، الميزان، م.س، ج 20 ص 443.

الخلاصة و الاستنتاج

لقد ورد المستشرقون هذا البحث من دون التّوجّه إلى معنى النّسخ، بل على أساس الأفكار المسبقة في أذهانهم والدّوافع الخاصّة لديهم. وجعلوا مسألة النّسخ مُبرِّرًا ومستندًا لهم لأجل طرح الشّبهات المختلفة.

إنَّ البحث والنّقد الذي ذُكر يحكي عن أنّ بعض المستشرقين لم يكونوا واقفين على جزئيّات موضوع النّسخ في القرآن، ولم يلتفتوا جيّدًا إلى القرآن وموضوعاته بعمقٍ، بل كانوا يقيسونه إلى سائر الكتب البشريّة، والحال أنّ القرآن كتابٌ إلهيٌّ وصل إلينا من دون نقصٍ وعيبٍ وتناقضٍ.

وحيث إنّ القرآن هو المصدر الأساس للفقه، فإنّه لا معنى لتصوّر الاختلاف بين الفقه والقرآن، وبالطّبع فإنّ بعض الأحكام تمّ استنباطها من المصادر الأخرى للفقه. وكذلك فإنّ المصداق الخارجيّ للنّسخ الاصطلاحي قليلٌ جدًا، وحصل تبديل الحكم هذه الموارد على أساس حكمةٍ وضابطة خاصّتين.

إنّ الحكمة الإلهيّة والعصمة النّبويّة تنفي تمامًا إمكان النّسيان وجوازه عند النّبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله ليتمكّن من تلقّي القرآن بتمامه وكماله.

وكذلك فإنّ المستشرقين حيث لم يهتمّوا بآراء علماء الشّيعة، فإنّهم من الطبيعي أن يعتبروا - من خلال الآثار القليلة بين أيديهم - فكرة النّسخ شاهدًا على وجود التّناقض في القرآن ثم يفكرون في طريق لعلاج ذلك. ومثل هذا الرأي ينشأ من النّظرة السّطحيّة في تفسير الآيات والذي ينشأ من عدم التّوجّه والمعرفة بالأسلوب الخاص للقرآن وكيفيّة ارتباطه بالسّنّة.

ص: 281

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. نهج البلاغة

2. ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، قم: دار نشر (أدب الحوزة)، 1405ه_.

3. ابن ماجة القزويني، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة، بيروت، دار الفكر، من دون تاريخ.

4. ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد، الأحكام في اصول الأحكام القاصرة، مطبعة العاصمة، من دون تاریخ.

5. الإيازي، محمد علي، فقه پژوهشي، قرآن، قم: دار النشر في مكتب الإعلام الإسلامي: 1380ه_ ش.

6. الباقلّاني، محمد بن طيب، الانتصار للقرآن، بيروت، دار ابن حزم: 1422ه_.

V. الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، بيروت: دار الفكر، 1403ه_.

8. الخوئي، السيد أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، دار نشر (أنوار الهدى): 1401ه_.

9. الراغب الإصفهاني، حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، بيروت: دار الشامية: 1412ه_.

10. الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، بيروت، دار الفكر:1414 ه_.

11 الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، بيروت: دار إحياء التراث العربي: 1367ه_.

12. الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، بيروت: دار إحياء الكتب العربية: 1376ه_.

13 السبحاني، جعفر، النسخ والبداء في الكتاب والسنة، بيروت، دار الهادي: 1418ه_.

14 السيوطي ، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، بيروت، دار الفكر: 1416ه_.

ص: 282

15. سيد قطب، قطب بن إبراهيم، في ظلال القرآن، بيروت: دار الشروق: 1412ه_.

16. الشهرستاني، محمد عبد الكريم، الملل والنحل، بيروت، دار المعرفة: 1422ه_.

17. الشيباني، أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، بيروت، دار صادر، من دون تاریخ.

18. الطبرسي، الفضل بن الحسن، جوامع الجوامع، طهران: دار (دانشگاه) للنشر: 1377 ه_ ش .

.19 الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات:

1415ه_.

20. الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، من دون تاریخ.

21 الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ط 1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: 1390ه_.

22. العريضي، علي حسن، فتح المنان في نسخ القرآن الكريم، مصر: مكتبة الخانجي: 1973م.

23. الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، قم، مؤسسة دار الهجرة: 1410ه_.

24. الفخر الرازي، المحصول في علم اصول الفقه، بيروت، مؤسسة الرسالة: 1412ه_.

25. الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، بيروت: دار الكتب العلمية، من دون تاريخ.

26. الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير، قم، مؤسسة دار الهجرة: من دون تاريخ.

27. الكليني، محمد، الكافي، طهران: دار الكتب الإسلامية: 1407ه_.

28. معرفت، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، قم، مؤسسة النشر الإسلامي: 1415ه_.

29. معرفت، محمد هادي، شبهات وردود حول القرآن الكريم، مؤسسة التمهيد للنشر: 1423ه_.

30. معرفت، محمد هادي، صيانة القرآن من التحريف، طهران، وزارة الخارجية، 1379 ه_ ش .

31. المفيد، محمد بن محمد، المسائل السروية، بيروت، دار المفيد: 1414ه_.

ص: 283

32. مكارم الشيرازي، ناصر، التفسير الأمثل (فارسي) طهران، دار الكتب الإسلامية: 1371ه_ ش.

33. الهندي، رحمت الله، اظهار الحق، القاهرة، دار الحديث: 1413ه_.

34. نولدکه، تئودور، تاريخ القرآن، المترجم: تامر ،جورج، زوریخ، دار نشر جورج ألمز: 2000م.

35. Burton, John, ((Abrogntion)), Encyclopaedia Of The Quran, leiden, Brill, 2001

36. Burton, John ((Collection)) Of The Quran, Encylopaedia Of The Quran, leiden, Brill, 2001

284.

ص: 284

نقد مقالة «تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر» (لراترود ويلانت RotraudWielandt)

اشارة

د. أحمد عطية (1)

في التقديم:

اشارة

تناول ويلانت في مقالته التي حملت عنوان «تفسير القرآن مطلع العصر الحديث والمعاصر» جهود علماء المسلمين التّفسيريّة وآراءهم حول أسلوب تفسير القرآن، منذ أواسط القرن الثّالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي حتى يومنا هذا.

ويبني ويلانت أسباب اختياره لهذه الفترة الزّمنيّة (مطلع العصر الحديث والمعاصر) على فرضيّة أنَّ هذه المرحلة الزّمنيّة تمتّعت بخصائص في مجال تفسير القرآن الكريم تميّزها عمَّا سبقها بشكل ملموس، وهذا صحيحٌ يؤيّده واقع هذه التّفاسير التي حاولت التّخلّص من ربقة الاتّجاه التّقليديّ في التّفسير، والذي ظلّ مسيطرًا على الحياة العلميّة الخاصّة بعلم التّفسير لقرونٍ طويلةٍ. إلَّا أنَّ «ويلانت» بعد بنائه لهذه الفرضيّة التي أكّد من خلالها أنَّ مناهج التّفسير في العصر الحديث اتّسمت بخصائص تختلف عن تلك التي سبقتها يعود ويعرض لأمرين مهمّين:

الأمر الأوّل: إنَّ هذه الخصائص التي اتّسمت بها مناهج التّفسير في العصر الحديث لا يصحّ إسقاطها بأيّ شكلٍ من الأشكال على كافة جهود المؤلّفين المسلمين التّفسيريّة في أواخر القرن التّاسع عشر والقرن العشرين.

وهذا كلامٌ في الحقيقة مقبولٌ عقلاً، فمناهج التّفسير التي ظهرت في العصر

ص: 285


1- باحث ودكتور في الأدب العربي بمرتبة الشرف الأولى، وكبير الباحثين بمركز المخطوطات - بمكتبة الإسكندرية.

الحديث حملت اتّجاهاتٍ عامّةً أو ملامح عامّة يمكن من خلالها أن نقول إنَّ هذا التّفسير ينتمي إلى هذا المنهج أو ذاك، ولكنّه ليس انتماءً صرفًا تتوافق كلّ أجزاء التّفسير فيه مع ما قرّره مؤسّسو هذا المنهج، ولكن من الممكن أن يتداخل مؤلَّفٌ واحدٌ مع أكثر من منهج، فما أُثر من تفاسير عن الشّيخ الإمام محمد عبده - على سبيل المثال- يمكن أن تندرج تحت اللّون الأدبيّ الاجتماعيّ للتّفسير، ويمكن أن يدخل بعضها تحت منهج المدرسة العقليّة في التّفسير، وبعض ثالث تحت ما يُسمّى بالتّفسير البيانيّ للقرآن الكريم... إلى غير ذلك.

الأمر الثَّاني: إنَّ مؤلّفي تلك التّفاسير في مطلع العصر الحديث تحاشوا دائماً الشّطح بعيدًا عن النّماذج والمقاربات التّقليديّة هذا ما يُقرّره ويلانت في بداية مقالته السّابقة، ثم يكمل فيقول: إذ يندر أن يتمايز تفاسير تلك المرحلة عن نظائرها القديمة من حيث الأساليب المستعملة والتّوضيحات المقدّمة، فقد اعتمد أغلب مؤلّفي تلك التّفاسير كثيرًا على المصادر الكلاسيكيّة من قبيل كتب الزّمخشري (المتوفّى 538 ه_) والفخر الرازي (ت 606 هجرية) وابن كثير (ت 774 ه_) دون أن يضيفوا جديدًا عليها، الأمر الذي يدعو دائماً إلى وجود تيّارٍ واسعٍ من التّقليديّة المستمرّة في تفسير القرآن والتي استمرّت حتى اليوم».

إنَّ ما يقصده ويلانت هنا باختصار أنَّ تلك التّفاسير التي لم تدخل تحت الخصائص المميّزة لمناهج التّفسير الحديثة ظلّت تدور في فلك التّفاسير التّقليديّة أو الكلاسيكيّة، وبالتّالي ينشأ عندنا - حديثًا - قسمان أو اتّجاهان كبيران للتفسير؛ اتّجاه يدخل تحت ما يُسمّى بالتّفاسير الحديثة بخصائصه العامّة المميّزة له، واتّجاه لا يدخل تحت هذه الخصائص بل ما زال ينسج على منوال المدرسة التّقليديّة في التّفسير.

وهذا في الحقيقة وهمٌ لا أساس له من الواقع، فمعظم التّفاسير التي نشأت في العصر الحديث تندرج تحت مناهج التفسير الحديثة، حتى وإن توزّعت البنية المعرفيّة لتفسيرٍ ما من هذه التّفاسير بين هذه المناهج، ولكنّه يبقى في النّهاية أنّه يدور في فلكها، ثم إنَّ المصادر التّقليديّة في التّفسير لم تنقطع حتى مع التّفاسير

ص: 286

الحديثة، بل ظلّ المفسّر في تردّدٍ عليها بين الحين والآخر، فالمعنى اللّغويّ للّفظة القرآنيّة، وبعض إيحاءاتها البلاغيّة يعدُّ قاسمًا مشتركًا بين كلّ التّفاسير على السّواء، حتى في أكثر التفاسير تمثيلاً لمبادئ منهٍج ما من مناهج التّفاسير الحديثة، فكتاب «الجواهر في تفسير القرآن الكريم» يمثّل المنهج العلميّ في التّفسير، وهو أحد المناهج الحديثة في تفسير القرآن الكريم، لا يستطيع فيه مؤلّفه الشّيخ طنطاوي جوهري - على الأقل في تناول المعنى اللّغويّ للّفظة القرآنيّة وبيان معناها -التحرّك بعيدًا عن المصادر الكلاسيكيّة حتى وإن شطح بعيدًا بعد ذلك في قضايا أخرى، يقول -على سبيل المثال - في تفسير قوله تعالى من سورة القيامة: «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» [سورة القيامة، الآية 19] فإنَّ البيان المذكور في سورة القيامة فسّر بمعنى إنّنا نبينه بلسانك فتقرأه كما أقراك جبريل، وبمعنى إذا أشكل شيءٌ من معانيه فنحن نبينه لك، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والعجائب»[1].

وهكذا تبقى أثر المصادر الكلاسيكيّة في التّفسير باقية في داخل التّفسير الحديث حتى وإن لم يشرٍ المفسّر إلى ذلك.

إنّ التّيّار الواسع من التّقليديّة في التّفسير المستمر إلى يومنا هذا كما يقول ويلانت، لا أساس له، ولا يمثّل تيارًا في مقابل مناهج التّفسير الحديثة، وحتى ما بقي منه في العصر الحاضر لا يزيد عن كونه محاولاتٍ تدخل تحت الغرض التّعليميّ للشّباب في المعاهد التعليميّة والمدارس، ولعلّ «التّفسير الوسيط» للشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السّابق يدخل تحت هذا اللّون.

ثم يقرّر ويلانت في بداية مقالته السّابقة أنّه سيركّز اهتمامه على التّيّارات التّجديديّة في التّفسير، هكذا بمصطلح «تيّار» ولو قال «المناهج» لكان أولى، فثمّة فرق بين التّيّار والمنهج.

ثم يقول ويلانت: «تتضمّن عناصر التّجديد كلًا من المحتوى والأساليب التّفسيريّة، أمّا المحتوى يجب القول قبل كلّ شيءٍ بأنَّ الأفكار الجديدة حول معنى النّصّ

[1]. جوهري، طنطاوي: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ج 25 ، ص 40.

ص: 287

القرآنيّ غالبًا ما أتت ردًّا على الأسئلة المستحدثة التي أفرزتها التّحوّلات السّياسيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة، نتيجة تأثير الحضارة الغربيّة في المجتمع الإسلاميّ»، وهذا في الحقيقة وهمٌ كبيرٌ أكثر خطورةً من سابقه، حيث يقرّر ويلانت أنَّ الأفكار الجديدة حول محتوى النّصّ القرآنيّ جاءت بسبب تأثير الحضارة الغربيّة في المجتمع الإسلامي، وهذا جهلٌ في الحقيقة بمناهج التّفسير الحديثة التي تتابعت على النّصّ القرآنيّ، ولو صحّ جزءٌ من هذا الكلام لكان أولى به أن يحصره في المنهج العلميّ في التّفسير، فوقفةٌ بسيطةٌ مع مبادئ اللّون الأدبيّ والاجتماعيّ في التّفسير تفنّد هذا الكلام تمامًا، فلم ينشأ هذا اللّون من التّفسير بسبب التّأثير النّاشيء من الحضارة الغربيّة في المجتمع الإسلاميّ، وإنّما بهدف «التّخلّص من كلّ هذه الاستطرادات العلميّة التي حُشرت في التفسير حشرًا، ومُزجت به على غير ضرورةٍ لازمةٍ، والعمل على تنقية التّفسير من القصص الإسرائيليّ الذي كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضّعيفة والموضوعة على رسول الله صلّی الله علیه و آله، أو على أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، وإلباس التّفسير ثوبًا أدبيًّا اجتماعيًّا يُظهر روعة القرآن، ويكشف عن مراميه الدّقيقة وأهدافه السّامية» (1).

ثم يقرّر ويلانت أنّه نتج عن عمليّة تأثير الحضارة الغربيّة في المجتمع الإسلاميّ مسألتان فرضتا نفسيهما في هذه المعمة - على حدّ قوله - ولا أدري ماذا يقصد بهذه المعمة، ولعلّه يقصد بها تلك الأجواء التي نشأت فيها مناهج التّفسير الحديثة، وتشابكها في أمورٍ وافتراقها في أمورٍ أخرى، وهذا التّداخل بينها في بعض التّفاسير، فإن كان يقصد ذلك فهذا وهمٌ ثالثٌ وهِمه «ويلانت» في مقالته هذه، فمصطلح المعمة يحمل في طيّاته بعضًا من الاضطراب الذي تتيه فيه المعالم والحدود، وليس هذا هو الوصف الدّقيق لتلك المرحلة التي نشأت فيها مناهج التّفسير في مطلع العصر الحديث، بل على العكس من ذلك تمامًا، فنشأة هذه المناهج الحديثة يعكس مدى خصوبة العقليّة العربيّة وانفتاحها في تلك الفترة، التي تخلّصت فيها من سيطرة المناهج التّقليديّة على تفكيرها.

ص: 288


1- انظر: الذهبي، محمد حسين: التفسير والمفسرون، لا ط، القاهرة، مكتبة وهبة، بدون تاريخ نشر، ج2، ص363- 364.

على أيّة حالٍ، إنَّ المسألة الأولى التي نشأت بسبب عمليّة التأثير هذه تمثَّلت في: اتّساق رؤية القرآن الكونيّة مع اكتشافات العلم الحديث. والمسألة الثّانية: النّظام السّياسيّ الاجتماعيّ المناسب على أساس الأصول القرآنيّة والذي يمكِّن المسلمين من التّخلّص من الهيمنة الغربيّة.

ويقصد «ويلانت» بهاتين المسألتين أنّهما أحدثتا خللًا واضطرابًا في العقليّة العربيّة في مطلع العصر الحديث، ما دفعها إلى سلوك طريق آخر في فهم النّصّ القرآنيّ وتناوله غير الطريق التّقليدي، وهذا قصور فهمٍ لأسباب نشأة هذه المناهج التّفسيريّة، فاكتشافات الحضارة الغربيّة للعلم الحديث ليست وحدها الهدف نشأة اتّجاه التّفسير العلميّ للقرآن الكريم، بل كان «يرمي إلى جعل القرآن مشتملًا على إشاراتٍ عابرةٍ إلى كثيرٍ من أسرار الطّبيعة التي كشف عنها العلم الحديث» (1) وليس البحث عن توافقٍ للقرآن مع نظريات العلم الحديث، وشتّان بين الأمرين.

إنَّ الهدف الأكبر لمنهج التّفسير العلميّ للقرآن الكريم، هو البحث عن الإشارت العلميّة التي تُؤكّد سبق القرآن الكريم لكلّ تلك النّظريات الحديثة، التي وصلت من خلال التّجربة إلى هذه الاكتشافات العلميّة، وليس البحث عن موافقات القرآن للعلم الحديث، وتلك حقيقةٌ كبرى سجّلتها المؤلّفات التي تحدّثت عن هذا المنهج.

بل أكثر من ذلك لقد أُخذ على هؤلاء الذين فتحوا الباب واسعًا أمام التّفسير العلميّ للقرآن، ووضعوا في تفاسيرهم نظريات العلم الحديث، وراحوا يفسّرون من خلالها بعض آيات القرآن، أُخذ عليهم هذا الشّطط في التّفسير، فما هذا مقصد التفسير العلميّ على الإطلاق، «فيرى الشّيخ محمود شلتوت أنَّ هؤلاء المثقّفين الذين أخذوا بطرفٍ من العلم الحديث نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (2)، فتأوّلوها على نحوٍ زيَّن لهم أن يفتحوا في القرآن فتحًا جديدًا، ففسّروه على أساسٍ من النّظريات العلميّة المستحدثة،

ص: 289


1- انظر: معرفة، محمد هادي: التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، ط2، مشهد، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، 1425 ق/ 1383 ش، ص 1001.
2- سورة الأنعام، الآية 38.

وطبّقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونيّة وظنّوا أنّهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلميّة والثّقافيّة. نظروا في القرآن على هذا الأساس فأفسد عليهم أمر علاقتهم بالقرآن» (1).

أمَّا المسألة الثانية، فتتمثّل في أنَّ النّظام السّياسيّ والاجتماعيّ في المجتمع الإسلامي تحت وطأة الهيمنة الغربيّة فرض على المفسّرين تقديم رؤية أخرى كاشفة عن النّظام الاجتماعي في القرآن، بحيث يمكن اتّخاذه بديلًا قويًّا بدلًا من تلك الهيمنة الغربيّة، وهو في ظاهره يبدو صحيحًا، ولكن الحقيقة أنَّ الاتّجاه نحو النّزعة الاجتماعيّة في القرآن وتفسيرها لم ترتبط في أساسها بهيمنةٍ غربيّةٍ وغيرها، وإنّما نشأت نشأةً ذاتيّةً داخل الأمّة، وإنَّ من يقف على بعض ما كتبه الشّيخ محمد عبده في تفاسيره ليدرك ذلك البُعد الاجتماعي الذي نشأ من قبيل الفهم عن القرآن الكريم، يقول الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى: وتَواصَوا بالصبر» (2) «والصبرُ ملكة في النّفس يتيسّر معها احتمال ما يشقّ احتماله، والرّضا بما يكره في سبيل الحقّ، وهو خُلقٌ يتعلّق به، بل يتوقّف عليه كمال كلّ خلق، وما أُتي النّاس من شيءٍ مثلما أوتوا من فقد الصّبر أو ضعفه. كلُّ أمّةٍ ضعُف الصّبر في نفوس أفرادها، ضعف فيها كلّ شيءٍ، وذهبت منها كلّ قوّة» (3).

إنَّ البُعد الاجتماعيّ هنا عند الشّيخ محمد عبده في تفسيره هذا يبدو واضحًا تمام الوضوح، ولم ينشأ نتيجة التأثّر بالهيمنة الغربيّة، وإنّما انطلاقًا من القرآن الكريم الذي حملت آياتُه مقصدًا اجتماعيًّا مهمًّا.

ثم يتحدّث «ويلانت» في مقالته السّابقة عن أنواع الكتب الحاوية للتّفسير القرآنيّ، ويُقسّمها إلى أنواعٍ عدّةٍ بحسب آليّة التّناول وليس آليّه المعالجة، فالنّوع الأوّل هو التّفسير التّرتيبيّ، الذي يعتمد على تناول القرآن آية آية، وغالبًا ما تبدأ

ص: 290


1- شلتوت، محمود: تفسير القرآن الكريم، ص 11.
2- سورة العصر، الآية 3.
3- رضا، محمد رشید: تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن، لا ط، القاهرة، دار المنار، 1947-1948، ص 96.

تلك التفاسير - كما يقول ويلانت - من بداية السّورة الأولى - اللهم إلّا في التّفاسير غير المكتملة وتستمرّ بشكلٍ متتالٍ حتى نهاية آخر سورة من القرآن وشذَّ عن تلك القاعدة «التّفسير الحديث» لمؤلّفه العالم الفلسطيني محمد عزة دروزه الذي فسّر السّور فيه حسب ترتيب النّزول.

ومن التّفاسير التّرتيبيّة ما يختصّ بجزءٍ من أجزاء القرآن، مثل تفسير الشّيخ محمد عبده لجزء عمَّ. ومنها ما يختصّ باختيار بعض السّور فحسب لغرض إثبات منهجٍ تفسيريٍّ جديدٍ مثل ما فعلته بنت الشّاطئ في «التّفسير البيانيّ للقرآن الكريم».

والنّوع الثاني من التّفاسير هو ما يندرج تحت مُشكل القرآن، أي يختصّ بتناول آیاتٍ مشكلةٍ من القرآن الكريم، مثل «تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، المتوفى 276 هجرية».

ثم هناك نوعٌ ثالثٌ من التّفاسير القرآنيّة هو «التّفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم»، والذي رتِّبت فيه أقسامٌ مهمّةٌ من القرآن على أساس موضوعاتٍ أصليّةٍ، ودراسة الآيات ذات الصّلة بكلّ موضوعِ بإيجاز، ومن الأمثلة على هذا النّوع من التّفسير ما عمله الشّيخ محمود شلتوت في تفسير الأجزاء العشرة الأولى من القرآن الكريم.

ثم يسوي «ويلانت» بين التّفسير الموضوعيّ ونمطين من أنماط الدّراسات القرآنيّة والفكريّة، وهي تلك الدّراسات التي اختصّت بدراسة قضيّة من قضايا القرآن العقائديّة الأساسيّة، أو التي أُلّفت في حقل الكلام أو الفقه الإسلامي والتي تقدِّم استدلالاتها على أساس النّصوص القرآنيّة.

هذا ما ذكره «ويلانت» في تقسيمه الثَّلاثيّ لأنواع التّفاسير في آليّةٍ تناولها للنّصّ القرآنيّ (التّفسير الترتيبي بأنواعه - مشكل القرآن - التّفسير الموضوعي) وهو تقسيم مقبولٌ من ناحية الرّصد العام للتّفاسير القرآنيّة، ولكن تبدو عليه الملاحظات التالية:

ص: 291

أوّلًا: إنَّ الحدود الفاصلة بين هذا التّقسيم الثّلاثي ليست حدودًا مانعةً من التّداخل بين هذه الأنواع الثلاثة من التّفاسير ففي النّوع الأوّل، وهو التّفسير التّرتيبي الذي يدور مع كلّ آية من آيات القرآن الكريم لا نعدم التناول الموضوعي في بعض القضايا القرآنية، ففي تفسير المنار - على سبيل المثال - وهو من التّفاسير التّرتيبيّة التي تناولت القرآن الكريم آية آية، نجد أثرًا واضحًا لدراسة قضيّة قرآنيّة من خلال الوقوف على الآية المثيرة لها، ففي سورة البقرة على سبيل المثال يُعالج التّفسير قضيّة قرآنيّة مهمّة، وهي قضيّة الإيمان بالغيب من خلال الوقوف مع الآية الثّالثة من سورة البقرة، وهي قوله تعالى «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فيعرض المفسّر لمفهوم الإيمان بالغيب * ورأى أستاذه الشيخ محمد عبده في هذه القضيّة * يقول صاحب تفسير المنار «وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ هُوَ الِاعْتِقَادُ بِمَوْجُودٍ وَرَاءَ الْمَحْسُوس * وَقَدْ كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي صَاحِبِهِ مَا نَصَّهُ وَصَاحِبُ هَذَا الاِعْتِقَادِ وَاقِفُ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَقَابِمُ عَلَى أَوَّلِ النَّهجِ * لَا يَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَسْلَكِ * وَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ إِلَى الْغَايَةِ * فَإِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ بأَنَّ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ مَوْجُودَاتٍ يُصَدِّقُ بِهَا الْعَقْلُ وَإنْ كَانَتْ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الجيش إذَا أَقَمْتَ لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُسْتَعْلِي عَنِ الْمَادَّةِ وَلَوَاحِقِهَا * الْمُتَّصِفِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ * سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَخَفَّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَلِي الْمُقَدِّمَاتِ وَخَفِيّهَا * وَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ بِوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ بِذِكْرِ عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهَا * كَعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ مَثَلًا لَمْ يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ تُبُوتِ النُّبُوَّةِ * لِهَذَا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُقَدِمَةِ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ» (1).

وهذا أمثاله كثير في بعض التفاسير الترتيبيّة التي تناولت النّصّ القرآنيّ آية آية، فالآيات تثير عددًا من القضايا القرآنيّة التي تستحقّ معالجاتها أثناء عملية التّفسير، مما يهيّئ تلك المعالجة أن تكون في مضمونها لونًا من ألوان التّفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم.

ص: 292


1- رضا، محمد رشيد: تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، لا ط، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ج 1، ص 107.

ثانيًا: ثم إنَّ اختصاص مشكل القرآن بقسمٍ وحده من أقسام آليات التّناول لآيات القرآن الكريم فيه نظر، فهذا القسم من الممكن أن يمثّل البذور الأولى للتفسير الموضوعي، فالمشكل موضوع يتعلّق بالقرآن الكريم أثاره ظاهر الفهم لآية أو بعض الآيات القرآنيّة، ففي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة - على سبيل المثال- يورد المؤلف بابًا كاملًا حول مجيء اللّفظ الواحد للمعاني المختلفة، فمصطلح القضاء يأتي في القرآن الكريم بمعانٍ مختلفةٍ؛ فقضى بمعنى حتم، وبمعنى صنع، وبمعنى عمل، ثم يورد ابن قتيبة الآيات القرآنيّة الدّالّة على كلّ معنى من هذه المعاني، ويؤيّد كلامه بما ورد في الشّعر العربي (1).

وهذا وأمثاله إنّما كان الباعث عليه معالجة اللّفظة القرآنيّة معالجةً تفسيريّةً، تلك التي مثَّلت إشكالاً ما في فهم النّصّ القرآنيّ عند البعض، واضطرّت عمليّة المعالجة لتصل إلى نتيجةٍ مرجوّةٍ أن تقف على كلّ الآيات القرآنيّة التي وردت فيها اللّفظة القرآنيّة وتحديد معانيها المختلفة، وهذا عين التّفسير الموضوعيّ للقرآن.

ثالثًا: ثم إِنَّ التّفسير الموضوعيّ يدور بطبيعته حول آياتٍ قرآنيةٍ عدّة تتضمّن موضوعًا معيّنًا ، هذا الموضوع الذي تتضمّنه الآيات يطرح قضيّةً قرآنيةً يُعالجها القرآن. إذًا، فالقضيّة التي يتمّ معالجتها مرجعيّتها القرآن الكريم وليس المفاهيم الأساسيّة التي تحظى بأهميّةٍ خاصّةٍ لدى المفسّر كما يقول ويلانت.

رابعًا: إنّ الفكرة العامّة عن التّفسير الموضوعيّ لا تبدو واضحةً تمامًا في ذهن «راترود ویلانت» من حيث بيان المقصود بهذا التّفسير وأهدافه وغاياته وألوانه المختلفه، فغاية ما ذكره عنه في مقالته السّابقة هو أنّه «مع العقود الأخيرة من القرن العشرين ساد عددٌ متزايدٌ من تفاسير القرآن التي رتّبت فيها أقسام مهمّة من القرآن

على أساس موضوعاتٍ أصليّةٍ، ودراسة الآيات ذات الصّلة بكلّ موضوعِ بإيجاز».

ثم قال: «إنَّ المرتكزات النّظريّة لهذا النّوع من التّفسير المعروف ب_ «التّفسير الموضوعي» والتّوضيحات النّظريّة للآيات ذات الصّلة في تلك التّفاسير قد تختلف

ص: 293


1- ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، لا ط، بيروت، دار الكتب العلمية، لا ت، ص 276.

بشكلٍ كلّيٍّ من مؤلّفٍ لآخر كما سنرى لاحقًا. كما أنَّ أساليب تحديد معنى آيةٍ ما في التّفاسير الموضوعيّة تختلف قليلًا مع الأساليب المتّبعة في التّفاسير الترتيبيّة».

إِنَّ غياب مفهوم هذا اللّون من التّفسير في مقالة ويلانت مثَّل إشكاليّةً في فهم الغرض منه، حتى عند القارئ المتلقّي لهذه المقالة، وقد أثَّر ذلك على تناوله الموجز لهذا اللّون من التّفسير، والذي يُعرف بأنّه البحث وراء الحصول على نظرياتٍ قرآنيّةٍ ذات محوريّةٍ خاصّةٍ بمواضيع تمسّ جوانب الحياة الفكريّة الثّقافيّة والاجتماعيّة... بحثًا من زاويةٍ قرآنيّةٍ للخروج بنظريّةٍ قرآنيّةٍ بشأن تلك المواضيع» (1).

ويدور هذا التّفسير الموضوعيّ حول ثلاثة أنماطٍ تمثَّل أنحاء هذا اللّون من التّفسير؛ فمنه المندرج ضمن التّفسير التّرتيبيّ الشّامل في شكل حقولٍ مودعةٍ أثناء التّفسير... ومنه المصدَّر في كلّ بحثٍ إسلاميٍّ، ومكلِّلًا كلّ حقلٍ من حقوله بلُمَّةٍ من آياتٍ مترابطةٍ ومرتبطةٍ بصميم البحث، مما تعارفت عليه الكتب الباحثة عن المعارف والأخلاق والآداب والسنن... ومنه المستقلّ بالبحث والتّنقيب بحثًا وراء العثور على آیات تجمعها وحدات ،موضوعيّة، إمَّا بصورةٍ مستوعبةٍ أو على قدر الحاجة ومدى إلحاح الضرورة (2).

ثم يذكر «ويلانت» بعد ذلك التّيارات الأصليّة في المناهج التّفسيريّة وأبرز شخصيّاتها، وحتى لا تبتعد الدّراسة النّقديّة عن دراسة راترود ويلانت في صورتها الأولى المنشورة في موسوعة ليدن للدّراسات القرآنيّة، فسوف تسير هذه الدّراسة النّقديّة وفق التّرتيب الذي ارتضاه «ويلانت» في دراسته، وستبدأ بعرض ما ذكره «ويلانت» في كلّ اتّجاه من تلك الاتّجاهات التّفسيريّة على سبيل الإجمال، ثم مناقشة ذلك والرّدّ عليه وبيان مواطن الاضطراب والخلل.

ملامح المنهج المتّبع في نقد دراسة «ويلانت»

اشارة

إنّ ملامح المنهج المتّبع في الدّراسة النّقديّة يمكن حصرها فيما يلي:

ص: 294


1- معرفة، محمد هادي، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، م.س، ج 2، ص 1037.
2- م.ن، ج 2، ص 1041.

أوّلًا: تناول كلّ اتّجاه تفسيريّ من تلك الاتّجاهات التي عرضها ويلانت على حدة، مع التزام ما أورده من ترتيبٍ في مقالته السّابقة.

ثانيًا: عرض مجمل لما ذكره «ویلانت» حول هذا الاتّجاه، والذي يمثّل في عمومه وجهة نظره.

ثالثًا: مناقشة تلك الآراء والرّدّ عليها.

أوّلًا: تفسير القرآن من منظور النّزعة العقليّة لعصر التنوير:

هذا هو الاتّجاه الأوّل من اتّجاهات التّفسير التي أوردها «راترود ويلانت» تحت قوله: التّيّارات الأصليّة في المناهج التّفسيريّة وأبرز شخصيّاتها، ويذكر ويلانت في هذا الاتّجاه أنَّ السّيد أحمد خان الهندي (ت 1898م) ومحمد عبده المصري (ت 1905م) إيمانًا منهما بفلسفة عصر التنوير قد صنعا مقاربةً بين النّصّ القرآنيّ ومنجزات الحضارة الأوروبيّة في العصر الحديث، وقامت هذه المقاربة في الأساس على النّزعة العقليّة في تفسير القرآن الكريم، أي إنَّ النّزعة العقليّة في محاولة فهم النّصّ القرآنيّ وتفسيره قامت في الأساس تلبية لفلسفة عصر التّنوير ولصنع مقاربةٍ بين النّصّ القرآنيّ والمنجز الحضاري الحديث، خاصّة المنجز الأوروبي.

ثم ذكر «ويلانت» أنَّ السّبب الذي دفع السّيد أحمد خان إلى القول بهذا الاتّجاه يتمثّل في أمرين؛ الأوّل: تجربة الثّورة الهنديّة المريرة التي دفعته إلى القول إنّه لا يوجد في الدّين الإسلامي ما يحول دون التّعايش السّلمي والتّعاون بين مسلمي الهند والإنجليز. والثَّاني: تأثّره بالمفكّرين الإنجليز المقيمين في الهند، الذي جعله يتبنّى فهمًا حديثًا عن الطبيعة والعالم، والذي دعاه للعمل على إثبات عدم وجود أيّ تناقضٍ بين العلوم الطبيعيّة الحديثة وكتاب المسلمين المقدّس . فالقرآن لا يتعارض مع العلم، الحديث، ومنشأ التّعارض هو سلوك المفسّرين طريقًا خاطئًا في مناهجهم التّفسيريّة.

ثم الذي دفع «ويلانت» إلى القول بدخول محمد عبده ضمن الاتّجاه العقلاني في تفسير القرآن الكريم هو قوله: «إنّه لاستيعاب ما يريده الله من هدايته للبشر

ص: 295

يجب تفسير النّصّ القرآنيّ وفقًا للمعنى الذي كان يفهمه معاصرو الرّسول صلّی الله علیه و آله أي أوائل مخاطبي الوحي، وأنّه على المفسّرين تنقية تلك الإسرائليات المتناقضة مع العقل والوحي وتنقيحها» (1).

ثم يُدخل «ويلانت» ضمن اتّجاهات التّفسير العقلانيّ تفسير محمد أبي زيد المصري، والذي صدر تحت عنوان «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» - بحسب ما قاله ويلانت - والذي بذل فيه قصارى جهده كي يوجّه معجزات الأنبياء كافّة والحوادث ما فوق الطبيعة معهم، والتي ورد ذكرها في القرآن بشكلٍ طبيعيٍّ. ويمكن تحديد ملامح الاضطراب في آراء «راترود ويلانت» فيما يختصّ بالتّفسير العقليّ فيما يلي:

1: اضطراب في التّفرقة بين التّفسير العقلي والتفسير الاجتهادي والتّفسير بالرأي: إنَّ ثمة اضطرابًا في ذهن «ويلانت» بين ثلاثة أنواع من مناهج تفسير للقرآن الكريم هي: التّفسير العقلي، والتّفسير الاجتهادي، والتّفسير بالرأي، حيث يُصدِّر كلامه عند حديثه عن منهج التّفسير العقلي بقوله: «تفسير القرآن من منظور النّزعة العقليّة»، ما يوحي أنّه سيُقصر كلامه على الاتّجاه العقلي في التّفسير الذي يمكن أن يمثّله المنجز التّفسيري للسيد أحمد خان الهندي، وبعض من منجز الشّيخ الإمام محمد عبده.

ثم يبدو أنّه يقترب كثيراً من اتّجاه التّفسير بالرّأي الذي يُراعي فيه صاحبه القرائن العقليّة والنّقليّة عند حديثه عن منهج محمد عبده في تناول النّصّ القرآنيّ تناولًا تفسيريًّا، حيث يقول: «لقد انعكست أبرز معالم رؤية عبده التّفسيريّة بشكلٍ جَلِّيٍّ في تفسيره متعدّد الأجزاء المعروف باسم تفسير المنار، والذي تحوّل إلى معيارٍ استند إليه كثيرٌ من المؤلّفين بعده إلى جانب التّفاسير الكلاسيكيّة».

ثم تبدو ملامح التّفسير الاجتهاديّ الذي يستند إلى رأي صاحبه فقط، واضحة

ص: 296


1- انظر: ويلانت، راترود: تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر، مقالة منشورة في موسوعة ليدن للدراسات القرآنية، وقد وصلتني مترجمة إلى العربية؛ لذا سأكتفي بأن أضع النص المقتبس منها بين علامتي تنصيص دون الإشارة إلى توثيقها في نصها الإنجليزي فليس بين يدي.

عند حديث «ويلانت» عن الشّخصيّة الثّالثة التي مثَّلت عنده التّفسير العقليّ، و هو الكاتب المصري محمد أبو زيد، حيث يقول: «ويبدو أنَّ ما دعا معارضي محمد أبو زيد للاستياء منه يعود لنظرياته أكثر من منهجيّته، فقد كان يسعى لترويج منهجه بتطبيق نظريّاته بطريقةٍ انتقائيّةٍ تمامًا، لقد كان يستدلّ بأنّه استنادًا لأصول الفقه الإسلامي التقليديّة يعتبر الاجتهاد الواسع جائزاً».

ومعلوم الفروق الدّقيقة بين هذه المناهج الثلاثة في التّفسير (التّفسیر بالرأي - التّفسير العقلي - التّفسير الاجتهادي) إن اعتبرنا التّفسير الاجتهاديّ أحد هذه المناهج، ونقصد به ذلك الذي يلتزم فيه صاحبه بالقرائن النّقليّة والعقليّة، وليس الاجتهاد المنفلت من هذه القرآئن، والذي يدخل عند بعضهم ما يسمّى بالتّفسير الإلحادي (1).

«فالتّفاسير بالرأي تُقدَّم شخصيّة المفسّر على التّفسير، وذلك على أساس الذّوق والنّظر الشّخصي دون مراعاة القرآئن النّقليّة والعقليّة، أمَّا بالنّسبة إلى التّفسير العقلي، فإنَّ المفسّر يأخذ بالاعتبار القرائن النّقليّة والعقليّة في التّفسير، وكذلك بالنّسبة إلى التّفسير الاجتهادي، حيث اتّضح أنَّ الاجتهاد على نوعين؛ الأوّل: هو الاستنباط دون مراجعة القرائن العقليّة والنقليّة، وهو ما يعتبر نوعًا من التّفسير بالرأي. والثاني: هو الاجتهاد الصّحيح والمعتبر، وهو الذي يأخذ بالاعتبار القرائن النّقليّة والعقليّة، وهذا التّفسير لا يعتبر من التّفسير بالرأي» (2).

وفي هذا السياق نفسه، يفرّق محمد نوري في دراسته التي بعنوان: «الاتّجاهات العامّة في تفسير القرآن» بين الأنواع الثلاثة من التّفسير (التفسير بالرأي - التّفسير العقلي - التّفسير الاجتهادي) حيث يقول: «التّفسير بالرّأي: والمقصود به هنا يعتمد الإنسان في تفسير الآيات القرآنيّة على رأيه المجرّد من خلال قناعاته الشّخصيّة المسبقة فيوجّه أو يؤوّل الآيات القرآنيّة بما ينسجم معها. وقد تضمّنت

ص: 297


1- انظر: الذهبي، محمد حسن، التفسير والمفسرون، م.س، ج 2، ص283.
2- انظر: أصفهاني، محمد علي رضائي: مناهج التفسير واتجاهاته (دراسة مقارنة في مناهج تفسير القرآن) ط3، بیروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2011، ص 151.

النّصوص الكثيرة النّهي عن هذا التّفسير والتّحذير منه. ونلاحظ أن كثيرًا من المفسّرين وقعوا في هذا المأزق حيث أقحموا قناعاتهم المسبقة في تفسير الآيات وحمّلوا الآيات الكريمة آراءهم الخاصّة وتوجّهاتهم؛ فالمعتزليّ يفسّر الآية بما ينسجم مع منهجه الاعتزالي، والأشعري كذلك، والفيلسوف يجرّ الآيات إلى دعم آرائه الفلسفيّة، والعرفاء والمتصوّفة حوَّلوا القرآن إلى رموزٍ وإشاراتٍ وفق أذواقهم، .وهكذا. ومن أمثلة التّفاسير الإشاريّة: تفسير ابن عربي، تأليف محيي الدين بن عربي - تفسير التّستري تأليف سهل بن عبد الله التّستري. وقد يطلق التّفسير بالرأي في كلمات بعض العلماء على كلِّ جهدٍ عقليٍّ واجتهاديٍّ لتفسير الآيات القرآنيّة وهو غير التّفسير بالرأي المنهجيّ عنه الذي أشرنا إليه، وهو يقوم على النّظر في القرآن واستنطاق الآية الكريمة وملاحظة الآيات الأخرى المرتبطة بها مع الرّجوع إلى النّصوص الواردة في المقام، ويُسمّى هذا التّفسير بالتّفسير الاجتهادي (1)».

أمَّا الدكتور خالد عبد الرحمن العك في كتابه «أصول التفسير وقواعده» فيعتبر التّفسير العقليّ هو نفسه التّفسير بالرّأي، حيث يقول: «وللعلماء تسمية للتفسير العقليّ هي التّفسير بالرّأي، ويطلق الرّأي في اللّغة على: الاعتقاد والعقل والتّدبّر، كما يطلق الرّأي في الاصطلاح على الاجتهاد، ومنه أطلق على أهل الفقه أصحاب الرأي، وعلى ما تقدم فإنَّ التّفسير بالرأي هو التّفسير بالعقل والاجتهاد (2)».

ولكنّه يأتي بعد ذلك ويضع ضابطًا للتفسير بالرأي مما يقرِّبه في رأيه إلى التقسيم الثلاثي السّابق، حيث يقول: «الرأي قسمان: قسمٌ جارٍ على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول، مع موافقة الكتاب والسنة، ومراعاة لسائر شروط التّفسير، فهذا القسم جائز لا شكّ فيه، وعليه يُحمل كلام المجيزين للتّفسير بالرأي. وقسم غير جارٍ على قوانين العربيّة، ولكن ليس موافقًا للأدلّة الشّرعيّة ولا مستوفيًا لشروط التّفسير، وهذا هو مورد النّهي ومحط الذّم (3)».

ص: 298


1- انظر: المكاصيصي، محمد نوري محمد: الاتجاهات العامة في تفسير القرآن، كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة بابل، 2018 (دراسة منشورة على الموقع الإلكتروني للجامعة تحت هذا الرابط : http://www.uobabylon.edu.iq/UOBCOLEGES V179E=lcidr=depid=lecture_view.aspx?fid
2- انظر: العك، خالد عبد الرحمن: أصول التفسير وقواعده، ط2، بیروت، دار النفائس، بيروت، 1406 هجرية، ص 167 .
3- انظر: العك. خالد عبد الرحمن: أصول التفسير وقواعده، ط2، بيروت، دار النفائس، بيروت، 1406 هجرية، ص 171.

والمقصود بموافقة كلام العرب ومناحيهم في القول ومرعاة شرائط التّفسير تلك القرائن النّقليّة والعقليّة التي ينبغي أن يلتزم بها المفسّر الذي يسلك مسلك النّزعة العقليّة في التّفسير، وقد حدّدها الدّكتور الذّهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» حيث يقول: «فالتّفسير بالرأي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسّر لكلام العرب ومناحيهم للقول، ومعرفته للألفاظ العربيّة ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي، ووقوفه على أسباب النّزول، ومعرفته بالنّاسخ والمنسوخ من آيات القرآن الكريم، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسّر (1)».

إنَّ التّفسير العقلانيّ أو التّعقليّ لا ينحصر بالتّفسير الاجتهادي، بل إنَّ مفردة العقل في المسائل التّفسيريّة تستعمل في معنيين؛ الأوّل العقل البرهانيّ الذي يعمد إلى تفسير القرآن من خلال توظيف البراهين العقليّة... والثّاني: العقل الذي هو عبارة عن القوّة المدركة وقوّة الفكر التي تدخل في مختلف أساليب العمليّة التّفسيريّة، حيث يتمّ توظيف العقل للتدبّر وفهم الآيات وقرائنها والجمع بينها والاستنباط منها والاجتهاد فيها، والنّوع الأخير هو الذي يسمّى بالتفسير الاجتهادي» (2).

2: الخلل في تحديد بداية اتّجاه النّزعة العقليّة في تفسير القرآن الكريم:

ذكر ويلانت في بداية حديثه عن هذا الاتّجاه التّفسيري ما يوحي أنّه بدأ بمحاولتي السيد أحمد خان الهندي (ت (1898م) والشيخ محمد عبده المصري (ت 1905م) فقد قدّما باكورة مهمّة - على حد تعبير ويلانت - في تجديد الأساليب التّفسيريّة التي كانت متداولةً لقرون، حيث اتَّخذا مقاربةً تقوم أساسًا على النّزعة العقليّة لتفسير القرآن.

والوقوف بهذا الاتّجاه التفسيري القائم على النّزعة العقليّة في فهم القرآن عند هاتين المحاولتين فيه خطأ كبير، إذ إنَّ «لهذا النّوع من التّفسير جذورًا تعود لألف سنة، حيث بدأه الشيخ الطوسي (ت 460 هجرية) والطبرسي (م : 548 ه_) (3).

ص: 299


1- انظر: الذهبي، محمد حسن، التفسير والمفسرون، م.س، ج1، ص183.
2- انظر: أصفهاني، محمد علي رضائي: جولة في دائرة معارف ليدن القرآنية، مجلة دراسات استشراقية، العدد الأول، صيف 2014، ص 219.
3- انظر: أصفهاني، محمد علي رضائي: جولة في دائرة معارف ليدن القرآنية، مجلة دراسات استشراقية، العدد الأول، صيف

ويسمّى هذا النّوع من التّفسير عند الشيخ محمد هادي معرفة بالتّفسير الاجتهادي، حيث يقول: «وهذه التّفاسير الاجتهاديّة الجامعة من أقدم أنواع التّفسير بعد التّفسير بالمأثور، وتشمل الكلام في جوانب مختلفة من التفسير لغة وأدبًا وفقهًا وكلامًا، حسب تنوّع العلوم والمعارف التي كانت دارجة ذلك العهد، نعم كان قد يغلب على بعض هذه التّفاسير لون التّخصّص الذي كان يتخصّص فيه صاحب التّفسير، من براعة في أدبٍ أو فقه أو كلام، غير أنَّ ذلك لم يكد يخرج بالتّفسير عن كونه من التّفسير الاجتهادي الجامع، وليس من طابع ذي لون واحد» (1).

ثم يعرض الشيخ محمد هادي معرفة لمثالين من هذا النّوع من التفسير هما: التبيان في تفسير القرآن لأبي جعفر الطوسي (ت 460 هجرية)، ومجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي الطبرسي ( ت 548 هجرية) (2).

وفي الحقيقة، إنّ مسألة جذور الاتّجاه التّفسيريّ القائم على العقل تحتاج إلى مزید توضيحٍ ودراسةٍ للرّدّ على ما قرّره «راترود ويلانت» في مقالته السّابقة، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:

-لقد ردَّ البعض جذور هذا الاتّجاه التّفسيريّ القائم على العقل إلى المعتزلة، وقد اشتمل منهجهم في ذلك على خطوتين:

«أمّا الأولى فقصدوا بها تطهير الفكر، وضرورة تجرّده عن الألفة والعادة وعن مختلف الأهواء بالنّسبة لكلّ من أراد أن يصدر أحكامًا يتوخّى فيها الصّواب والإخلاص للحقّ، وفي هذا هدم لنظريّة التّقليد.

أمَّا الثّانية فتحكيم العقل تحكيمًا مطلقًا، فقد آمن المعتزلة بالعقل ورفعوا شأنه ونوّهوا به أيّما تنويهٍ، وصدعوا بمبادئه، وقالوا خُلق العقل ليعرف، وهو قادرٌ على

2014 ص 219

ص: 300


1- انظر: معرفة، محمد هادي، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، م.س، ج 2، ص 849.
2- انظر: م.ن، ص849 وص856.

أن يعرف كلّ شيء؛ المنظور وغير المنظور، وجعلوه الحكم الذي يحكم في كلِّ شيءٍ، والنّور الذي يجلي كلّ ظلمة» (1).

وبهذا نجد أنّه إذا كان الاتّجاه النّقليّ هو الغالب في القرون الأولى - وهو أمر طبيعي فإنّ الاتّجاه العقلي لم يتأخّر كثيرًا عن ذلك، وهو وإن وُجدت بذوره منذ القرن الأوّل إلّا أنّه لم يطغَ على مسار البحث في التّفسير إلا عند ظهور الفرق الإسلاميّة والنحل والأهواء المذهبيّة، وخاصّة عند بزوغ الاتّجاه المعتزلي في التفسير» (2).

ونجد من المستشرقين أنفسهم - وهو جولدزيهر- من يردّ أصول هذا الاتّجاه العقلي في التفسير إلى مجاهد بن جبر المكي (المتوفى حوالي 104 هجرية)، وهو قول مردود عليه، حيث يقول في كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي»: «وليست هذه بحالة مفردة يواجهنا فيها مجاهد ترجمانًا لتفسير القرآن بالمعقول، فقد سبق أن أشرنا إلى أنّه ذكر عند الطبري الذي يرفضه مع ذلك أحيانًا، في سياق مثل هذه الوجوه من التّفسير، وهو يبدي عن ميله إلى التّفسير بالرأي أيضًا في تفسير الآية 65 من سورة البقرة مثلًا» (3).

وهذا القول مردود عليه كما بينَّا من قبل - فإذا كان مجاهد قد عُرف بنزعةٍ عقليّةٍ محدودةٍ لم تتجاوز التأويل في إطار ما عُرف فيما بعد بالمجاز، ويعتبر مصطلح «المثل» من أكثر المصطلحات المجازيّة ورودًا في القرآن الكريم، فإنّنا لا نتّفق مع جولدزيهر الذي أراد أن يجعل من تأويلات مجاهد أساسًا وأصلا للمنحى الاعتزالي في التفسير حتى ليعدّه رائدًا لهم في مسائل كثيرةٍ في التأويل. فمجاهد مثله مثل بعض التابعين كقتادة والسدي أكثروا من تناول مصطلح «المثل» في تفسيراتهم ولم يتجاوزوا بها حدود التأويل المقبول» (4).

ص: 301


1- انظر: الرومي، فهد بن عبد الرحمن بن سليمان، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، ط2، 1403ه_،ج1، ص 53.
2- انظر: عزوزي، حسن: تفسير النص القرآني بين النقل والعقل، مجلة دعوة الحق، العدد 335 محرم - صفر 1419/مايو -يونيو 1998).
3- انظر: جولد تسهر: مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: د. عبد الحليم النجار ،لا ط، مصر، مكتبة الخانجي بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، 1374 هجرية، ص 129.
4- انظر: عزوزي ،حسن تفسير النص القرآني بين النقل والعقل، م.س، ص 3.

لا أريد أن أطيل في مناقشة هذه القضيّة أكثر من ذلك، فغاية الأمر أنّ لهذا الاتّجاه التّفسيري الذي يعتمد على النّزعة العقليّة في التّفسير جذورًا في تراثنا العربي، تتخطّى بكثير مجرّد قصره على بعض محاولات المدرسة العقليّة الحديثة في التّفسير.

3: البُّعد الاجتماعي في تفسير محمد عبده: إنّ تفسير محمد عبده (ت 1905) لم يكن خالصًا للنّزعة العقليّة في تفسير القرآن - إن صحّ التّعبير- بل فيه إشاراتٌ اجتماعيّةٌ مهمّةٌ، الأمر الذي حدا بالشّيخ محمد هادي معرفة أن يُدخل اتّجاهه في التّفسير تحت اللّون الأدبي الاجتماعيّ، حيث يقول: «قد رسم محمد عبده في تفسيره منهجًا تربويًا للأمّة الإسلاميّة، يبعث مقوماتها ويثير أمجادها، وينادي بآداب القرآن من الشّجاعة والكرامة والحفاظ قد حارب جمود الفقهاء وتقليدهم... ومن خصائص هذا التّفسير العناية بمشاكل المسلمين الحاضرة، والتّوجّه إلى معالجة أسباب تأخّر المجتمع الإسلامي، وإلى إمكان بناء مجتمع قويّ، وعودة الأمّة إلى ثورة حقيقيّةٍ قرآنيّةٍ على أوضاعها المتخلّفة، ومواجهة الحياة مواجهةً علميّةً صحيحةً، والعناية التّامّة إلى الأخذ بأسباب الحضارة الإسلاميّة من جديد، ومواجهة أعدائها، وردّ الغزوات الفكريّة الاستعماريّة، التي شُنَّت على الإسلام عقيدةً وتاريخًا وحضارةً ورجالًا، ومناقشتها بالأدلّة العلميّة والوقائع التاريخيّة، وتفنيدها وإثبات بطلانها من ذاتها» (1).

وكذلك فعل الدكتور الذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» فقد أدخل الوجهة التفسيريّة للشيخ محمد عبده تحت ما سماه «اللون الأدبي الاجتماعي للتفسير في عصرنا الحاضر»، حيث يقول: «وإذا كان هذا اللون الأدبي الاجتماعي يعتبر في نظرنا عملًا جديدًا في التفسير، وابتكارًا يرجع فضله إلى مفسّري هذا العصر الحديث، فإنّنا نستطيع أن نقول بحق: إنَّ الفضل في هذا اللّون التّفسيري يرجع إلى مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده للتفسير. هذه المدرسة التي قام زعيمها - ورجالها من بعده - بمجهودٍ كبير في تفسير كتاب الله تعالى، وهداية النّاس إلى ما فيه من خير الدنيا والآخرة» (2).

ص: 302


1- انظر: معرفة، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، م.س، ج2، ص1012.
2- انظر: الذهبي، محمد حسن، التفسير والمفسرون، م.س، ج 2، ص 401.

إنّ حمل محاولة الشيخ محمد عبده في تفسير القرآن الكريم كاملةً على الاتّجاه العقلي في التّفسير فيه إهدار لجوانب أخرى حملها هذا التّفسير بين طيّاته، بل أكثر من ذلك قصدها مؤلّفه قصدًا.

4: الخطأ في نسبة كتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» إلى مدرسة النّزعة العقلية في التّفسير:

يقول «راترود ويلانت» في مقالته موطن الدّراسة (تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر): يمكن جعل الكاتب المصري محمد أبو زيد [يعني أبو زيد الدمنهوري] في عداد ممثّلي التّفسير العقلي، والذي كان يستلهم من نمط نزعةٍ عامّةٍ لعصر التّنوير الأوروبي، وقد أثار تفسيره «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» الذي طبع في العام 1930م كثيراً من الجدل، ليصار إلى منعه من التداول من قبل الحكومة، نتيجة لتحرّكات جامعة الأزهر».

لقد نسب الدكتور محمد علي رضائي إصفهاني هذا الكتاب (الهداية والعرفان إلى تفسير القرآن بالقرآن) إلى السيد أحمد خان الهندي (1) وخطَّأ «ويلانت» في نسبته الكتاب لمحمد أبو زيد المصري، ولكن لم يقدّم أدلّةً على ذلك.

وإدخال هذا الكتاب (الهداية والعرفان إلى تفسير القرآن بالقرآن) إلى دائرة التّفسير العقلي الذي يلتزم فيه صاحبه بالقرائن النّقليّة والعقليّة فيه خطأ كبير، ودليلٌ على اضطراب اتّجاهات التّفسير المختلفة في عقليّة «راترود ويلانت» وقد أدخل الدكتور الذهبي هذا الكتاب تحت اللّون الإلحادي للتفسير في عصرنا الحاضر، وإن لم يذكر اسم صاحبه، وذلك حسب منهجه في الرّدّ على أصحاب هذا الاتّجاه، حيث يقول: «ووجدنا غير هؤلاء جميعًا رجلًا نكس على رأسه، فطوّعت له نفسه أن يخوض في تفسير كتاب الله على ما به من غواية وعماية، وأخيرًا طلع على الناس بكتابٍ مختصر في تفسير القرآن الكريم، تفسيرًا جمع فيه الكثير من

ص: 303


1- انظر: أصفهاني، جولة في دائرة معارف ليدن القرآنية، م.س، ص 219

وساوسه وأوهامه، ثم سوّل له الغرور أن يسمّيه (الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن).(1)

ثم يقول الدكتور الذهبي: «أحدث هذا التفسير - يعني الهداية والعرفان- ضجّةً كبرى في المحيط العلميّ، وقام رجال الأزهر وقعدوا من أجله، ثم ألِّفت لجنة من بعض العلماء لتنظر في هذا الكتاب، ثم لتحكم عليه بما ترى فيه، ثم رفعت اللّجنةُ تقريرها لشيخ الأزهر إذ ذاك، وفيه تفنيد لآراء الرجل وحكم عليه بأنه «أفاك خرَّاص اشتهى أن يُعرف فلم يرَ وسيلةً أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد في الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه، ليستفز الكثير من النّاس إلى الحديث في شأنه وترديد سيرته» (2).

ثم يعرض لنا الدكتور الذهبي ألوانًا من هذا التّفسير الذي قدّمه صاحبه تحت ما أسماه الهداية والعرفان، لتؤكد لنا تلك الأمثلة أنَّ هذا التّفسير بعيدٌ كل البعد عن منهج المدرسة العقليّة في التّفسير.

ثانيًا: ما يدعى بالتفسير العلمي للقرآن:
اشارة

التّفسير العلميّ للقرآن منهجٌ من مناهج تفسير القرآن الكريم، التي يرى «ويلانت» أنها أطلَّت برأسها بقوّةٍ في مطلع العصر الحديث والمعاصر، وإن كان يقرّر أنَّ ثمّة إشارات في الماضي تُشير إلى هذا الاتّجاه التّفسيري كما عند الفخر الرازي.

ويرى «ويلانت» أنَّ الفرضيّة الكبرى التي انطلق منها هذا الاتّجاه التّفسيريّ حديثًا تتمثّل في «أنَّ كافة ما توصّلت إليه العلوم الطبيعيّة الحديثة ورد ذكره في «القرآن»، وأنَّ الهدف الذي يتغيّاه القائلون بهذا الاتّجاه التّفسيريّ هو إثبات أنَّ القرآن سبق علماء الغرب بقرون عدّة؛ لأنّه يشير إلى أمورٍ لم يكتشفها علماء الغرب إلّا في العصر الحديث.

ص: 304


1- انظر: الذهبي، محمد حسن، التفسير والمفسرون، م.س، ج 2، ص390.
2- انظر: م. ن.

ثم إنَّ تفاسير محمد عبده المصري لم تكن بعيدةً عن السّعي لاكتشاف العلوم الحديثة في القرآن، وإن اختلف هدفه في السّعي عن هدف المدافعين عن هذا الاتّجاه التّفسيري، فهو يتوخّى أن يبيِّن لقرّائه بأنَّ آيات القرآن لا تتعارض مع حقيقة المعايير العلميّة الحديثة.

ثم يقدّم ويلانت في مقالته هذه «تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر» قائمةً ببعض مَن مثّلو اتّجاه التّفسير العلميّ للقرآن الكريم من أمثال محمد بن أحمد بن الإسكندراني في مؤلَّفه «كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة فيما يتعلّق بالأجرام السّماويّة والأرضيّة والحيوانات والنّبات والجواهر المعدنيّة»، والشّيخ الطنطاوي الجوهري في كتابه «الجواهر في تفسير القرآن الكريم»، وعبد العزيز إسماعيل في كتابه «الإسلام والطب والحديث»، وحنفي أحمد في كتابه «معجزة القرآن في وصف الكائنات» وعبد الرازق نوفل في مؤلفه «القرآن والعلم الحديث».

هذه مجمل آراء ويلانت التي عرضها تعليقًا على اتّجاه التّفسير العلمي للقرآن الكريم، ويمكن مناقشتها والرّدّ عليها فيما يلي:

1- الخلط بين التّفسير العلمي والإعجاز العلمي للقرآن:

هذا أمرٌ واضحٌ تمام الوضوح فيما كتبه «ويلانت» في هذا المقام؛ إذ يقول: «بينما يسعى المدافعون عن التّفسير العلميّ سبق علماء الغرب بقرون عدّة؛ لأنّه يشير لأمورٍ لم يكتشفها علماء الغرب إلّا في العصر الحديث». وهذا -في الحقيقة- من مقاصد الإعجاز العلميّ في القرآن، وليس التفسير العلمي، وثمّة فروق بين الأمرين تتّضح من خلال ما أورده العلماء من فروقٍ بينهما، «فالتّفسير العلميّ كشف عن معاني الآية ومراد الله - تعالى - منها، أمَّا الإعجاز العلميّ، فهو إخبار القرآن الكريم أو السنّة النّبويّة بحقيقةٍ علميّةٍ أثبتها العلم أخيراً، وثبت عدم إدراكها بالوسائل البشريّة في زمن الرسول صلّی الله علیه و آله (1)».

ص: 305


1- انظر: الوعلان، عبد المجيد بن محمد: الآيات الكونية دراسة عقدية رسالة: مقدمة لنيل درجة الماجستير، قسم العقيدة

وقريب من ذلك بشأن هذه التّفرقة الدّقيقة بين التّفسير العلميّ والإعجاز العلميّ ما ذكرته «موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، والتي جاء فيها: «والفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي هو أنَّ التفسير العلمي كشفٌ عن معاني الآية أو الحديث، في ضوء ما ترجّحت صحّته من حقائق العلوم الكونيّة، أمَّا الإعجاز العلمي فهو إخبار القرآن الكريم أو السِّنّة النبويّة بحقيقة أثبتها العلم التّجريبيّ أخيرًا وثبت عدم إدراكها بالوسائل البشريّة في زمن الرّسول الله صلّی الله علیه و آله» (1).

وتتّضح تلك التّفرقة أكثر في تلك التّعريفات التي أوردها مَنْ أصَّلوا لمناهج التّفسير في العصر الحديث، فيقول الدّكتور الذّهبي في كتابه «التّفسير والمفسّرون» في تعريف التّفسير العلميّ: «نريد بالتّفسير العلميّ التّفسير الذي يُحَكِّم الاصطلاحات العلميّة في عبارات القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفيّة منها» (2).

ولعلّ فيما ذكره الدّكتور أمين الخولي في كتابه «مناهج التّجديد» من تعريفٍ للتفسير العلمي، يضع هذا المصطلح في موضعه الصّحيح، خاصّة وأنَّ د. الخولي صاحب مدرسة لها منهج في تفسير القرآن الكريم، حيث يقول: «هو التّفسير الذي يُحكّم الاصطلاحات العلميّة في عبارة القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفيّة منها» (3).

إنَّ كلّ ما سبق يؤكّد عمليّة الخلط بين التّفسير العلميّ والإعجاز العلميّ في ذهن ويلانت، حيث يسوقهما في المساق نفسه، بل ويبني عليهما أحكامًا في حديثه.

2-اضطراب في فهم الهدف من التّفسير العلميّ للقرآن الكريم:

قال «راترود ويلانت» في مقالته السّابقة - محدّدًا الهدف الذي يسعى إليه

والمذاهب المعاصرة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض، إشراف: عبد الكريم بن محمد الحميدي، الأستاذ المشارك العام الجامعي: 1432 ه_ / 1433 ه_.

ص: 306


1- انظر: النابلسي، محمد راتب: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، 1:14.
2- انظر: الذهبي، محمد حسين: التفسير والمفسرون، م.س، ج 2، ص 474 .
3- انظر: الخولي، آمين: مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، مكتبة الأسرة، 2003م، ص 217.

المدافعون عن التّفسير العلميّ - وهو يتمثّل في وجهة نظره في «إثبات أنَّ القرآن سبق علماء الغرب بقرون عدّة؛ لأنّه يشير إلى أمورٍ لم يكتشفها علماء الغرب إلّا في العصر الحديث».

وهذا كلامٌ عارٍ عن الصحة تمامًا، أو لعلَّ ما أورده هنا لا يمثّل إلّا نقطةً بسيطةً من الهدف الأسمى الذي نشأ من أجله هذا الاتّجاه التّفسيريّ، ولعلّ دراسة جذور التّفسير العلميّ في تراثنا العربي تؤكّد ذلك، والتي يربطها الدكتور «محمد علي رضائي» بعمليّة التّرجمة حيث يقول: «وقد أفضت عمليّة ترجمة بعض أفكار غير المسلمين في مجال مختلف العلوم ونقلها إلى البلاد الإسلاميّة مترامية الأطراف إلى حصول ما يبدو تعارضًا بين ظاهر بعض آيات القرآن والعلوم الحديثة. وقد اختار العلماء المسلمون منذ القرون الأولى للإسلام سلوك طريقين؛ من أجل رفع هذه المعضلة:

الأوّل: الردّ على المطالب الباطلة في هذه العلوم في إطار إرشاد النّاس وهدايتهم؛ إذ كان الكثير من المباني الفلسفيّة والعلميّة المستوردة من الإغريقيين قابلًا للطعن والإشكال. وفاقم الأمر أنَّ هذه المطالب كانت من جهةٍ أخرى معارضةً لدين الإسلام. ومن هنا تمَّ تأليف كتب من قبيل: تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي، ومفاتيح الغيب للفخر الرازي.

الثّاني: تطبيق آيات القرآن على العلوم التّجريبيّة الإغريقيّة؛ لإثبات أنَّ القرآن على حقّ، وأنَّ ما جاء به من المفاهيم العلميّة صحيح. من هنا تمَّ تطبيق الآيات القرآنيّة من قبيل: حمل (السموات السبع) على السّيّارات السّبع في علم النّجوم عند الإغريق. ومن هنا ظهر أسلوب التّفسير العلمي، وبدأ بالتّطوّر التّدريجيّ» (1).

ثم لعلّ بعض التّعريفات المقدّمة لمصطلح «التّفسير العلميّ» تحمل في طيّاتها بعض أهداف هذا النّوع من التّفسير من مثل ما أورده الأستاذ فهد الرّومي في

ص: 307


1- انظر: إصفهاني، محمد علي رضائي: الإعجاز والتفسير العلمي، ترجمة: حسن علي مطر، مجلة نصوص معاصرة، السنة الثانية عشرة، العدد السابع والأربعون، صيف 2017، 1438 هجرية، ص 49.

تعريفه لمصطلح التّفسير العلميّ؛ حيث يقول: «والذي يظهر لي - والله أعلم - أنَّ التعريف الأقرب إلى أن يكون جامعًا مانعًا أن يُقال: المراد بالتّفسير العلميّ هو اجتهاد المفسّر في كشف الصّلة بين آيات القرآن الكريم الكونيّة ومكتشفات العلم التّجريبيّ على وجهٍ يُظهر به إعجازًا للقرآن يدلّ على مصدره وصلاحيّته لكلّ زمانٍ ومكانٍ» (1).

إنَّ الهدف هنا هو إثبات إعجاز القرآن الكريم، وليس إثبات أنَّ القرآن سبق علماء الغرب بقرون عدّة، كما يقرّر «راترود ويلانت» في مقالته السّابقة.

وحتى في العصر الحديث فإنَّ جلَّ ما كُتب في باب التفسير العلميّ للقرآن الكريم لم يكن المقصد منه إثبات تفوّق القرآن وسبقه لما توصّلت إليه الحضارة الغربيّة من مكتشفاتٍ، بقدر ما يهدف إلى إثبات الانسجام بين العلم والدّين، وأنّه لا شبهة تعارضٍ بين آيات القرآن والعلم الحديث، «بل إنّها على العكس من ذلك تثبت المعطيات العلميّة، الأمر الذي من شأنه أن يؤكّد اشتمال القرآن على الإعجاز العلمي أيضًا. من هنا فقد عملوا على توظيف العلوم في فهم القرآن، وألّفوا الكتب في موضوع التّفسير العلمي» (2).

3- خطأ في فرضيّة أنَّ التّفسير العلميّ قائمٌ على أساس أنَّ القرآن يشتمل على العلوم كافّة:

لقد بدأ «ويلانت» كلامه عن التّفسير العلميّ للقرآن الكريم بافتراض فرضيّة ناقصة، لم تشمل كلّ الرؤى التي دارت حول هذا الاتّجاه من التّفسير، وهي الفرضيّة التي تقول باشتمال القرآن على جميع العلوم، يقول «ويلانت»: «ينبغي فهم التّفسير العلميّ في ضوء الفرضيّة القائمة على أساس أنَّ كافّة ما توصّلت إليه العلوم الطبيعيّة الحديثة ورد ذكرها في القرآن، ويمكن العثور على إشاراتٍ صريحةٍ لها في كثيرٍ من الآيات».

ص: 308


1- انظر: الرومي، فهد: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، ط 3، مؤسسة الرسالة، 1418 هجرية، ج 2، ص 549.
2- انظر: أصفهاني، محمد علي رضائي، الإعجاز والتفسير العلمي، م.س، ص 40.

فهذه فرضيّة لا يُؤيّدها الواقع ولا تمثّل إلّا طائفةً بسيطةً ممن قال بهذا الأمر قديمًا، ولا تنسجم إطلاقًا مع الهدف من التّفسير العلمي للقرآن الكريم في العصر الحديث، والذي انطلق من مقصد البحث عن الانسجام بين القرآن والعلم الحديث ردًّا على موجات الإلحاد التي غزت الأمّة الإسلاميّة.

إنَّ موقف العلماء تجاه التّفسير العلميّ للقرآن متفاوتٌ تفاوتًا كبيرًا، فمنهم من عارض هذا الاتّجاه معارضةً مطلقةً، مثل أبي إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات، فالشّريعة في نظره ينبغي أن تكون أميّة؛ لأنّها نزلت في قومٍ أميين، وليس من الحكمة أن يُخاطب القوم بما لا يفهمون، وأن يكلّفوا ما لا يعقلون [1].

وتبع الشّاطبيّ في الرّأي عددًا من العلماء المعاصرين، إلّا أنّهم وإن عارضوا القول بالتّفسير العلمي، فقد أكّدوا على عدم وجود تضاربٍ بين حقائق العلم وحقائق القرآن، ومن أمثال هؤلاء العلماء: الشيخ محمد حسين الذهبي، والشيخ محمود شلتوت، والدكتور أحمد الشرباصي، والسيَّد محمد باقر الصدر، والأستاذ أمين (1).

الخولي، والدكتورة بنت الشاطئ، والدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب (2).

صحيح أنَّ ما قاله «ويلانت» يمكن أن ينطبق على المرحلة التي تلت مرحلة ابن سينا عند التأريخ لجذور هذا الاتّجاه التّفسيريّ، وكان أبو حامد الغزالي (ت 505ه_) على رأس القائلين بهذا الرأي، وتبعه على ذلك السّيوطي (المتوفّى 911ه_)، ولكن تبقى بعد ذلك طائفةٌ ممّن رفض التّفسير العلميَّ رفضًا لا ينكر الإشارات العلميّة في القرآن الكريم، ويثبت في الوقت نفسه أنّه لا تعارض بين القرآن والعلم، وطائفة ثانية حاولت من خلال هذا اللّون من التّفسير البحث عن الانسجام بين النّصّ القرآنيّ ومكتشفات العلم الحديث، ثم طائفة ثالثة قالت بهذا اللّون من التّفسير - التفسير العلمي - لإثبات قضيّة إعجاز القرآن الكريم، من أمثال محمد عبده، والطاهر بن عاشور، ومحمد متولي الشعراوي.

ص: 309


1- انظر: شلبي هند: التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق، ط1، تونس، مطبعة تونس قرطاج، 1985، ص 20.
2- انظر: شلبي، هند، التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق، م.س، ص 36.

ولكن لم يقل أحدٌ من أصحاب الطّوائف الثّلاث باشتمال النّص القرآنيّ على العلوم كافّة، وهي الفرضيّة التي بدأ بها «ويلانت» حديثه في مقالته السّابقة تحت قوله: ما يدعى بالتّفسير العلميّ.

4. خطأ في تحديد الجذور الأولى لمنهج التّفسير العلميّ:

لقد أخطأ ويلانت في تحديد الجذور الأولى لهذا الاتجاه التّفسيري، حيث ردّها إلى الفخر الرازي المتوفى (606ه_) حيث يقول: «طبعًا إِنَّ النّموذج الأصليّ للتفسير العلمي ليس مستجدًّا تمامًا: فقد سبق لعدد من مؤلّفي التّفاسير الكلاسيكيّة، لا سيّما الفخر الرازي، أن طرحوا فكرة أنَّ القرآن يتضمّن العلوم كافّة، ونتيجة لذلك عملوا على استخراج علوم فلك عصرهم من نصّ القرآن... وقد تابع هذا النّوع من التّفسير شهاب الدين الألوسي (ت 1856م) في «روح المعاني»، إلّا أنّه لم يظهر من هذا التّفسير أيُّ معرفةٍ من العلم الغربي الحديث حتى الآن». انتهى كلامه.

وواضح من كلام «ويلانت» السّابق أنَّ البدايات الأولى لهذا اللّون التّفسيريّ تعود إلى الفخر الرازي (606 هجرية) وهذا غير صحيحٍ، فبعض مؤلّفات ابن سينا (المتوفى 428ه_) نرى فيها نماذج من تدوين التّفسير العلمي، يقول الدكتور محمد علي رضائي - بعد أن قسَّم مراحل التّفسير العلمي إلى ثلاث مراحل رئيسة - المرحلة الأولى تبدأ من القرن الثاني تقريبًا، وتستمرّ إلى القرن الهجري الخامس، حيث بدأت بترجمة التّراث الإغريقي إلى اللّغة العربيّة، وسعى عددٌ من المسلمين إلى تطبيق آيات القرآن على علم الهيئة البطليموسية من أمثال ابن سينا، حيث نرى نماذج من تدوين التّفسير العلميّ في مؤلّفات ابن سينا (370 - 428 ه_) (1)».

ثالثًا: تفسير القرآن في ضوء الدّراسات الأدبيّة:

يرصد «ويلانت» في هذا الجزء من مقالته تلك الأراء التي دارت حول التّفسير الأدبيّ للقرآن الكريم، وذكر أنَّ هذا الاتّجاه التّفسيريّ - إن كان يصحّ أن نطلق عليه

ص: 310


1- انظر: أصفهاني، محمد علي رضائي، الإعجاز والتفسير العلمي، م.س، ص 40.

اتّجاها- بدأ مع الشّيخ أمين الخولي، وانعكس في عددٍ من مؤلّفاته، يأتي على رأسها «مناهج التجديد»، ثم يعود «ويلانت» ويقرّر أنَّ طه حسين في كتابه «الصيف» سبق أمين الخولي في الإشارة إلى أنَّ الكتب المقدّسة إرثٌّ أدبيٌّ مشتركٌ.

ثم يذكر ويلانت أنَّ من تلامذة أمين الخولي الذين اقتنعوا بمنهجه وساروا على دربه: شكري عياد - محمد أحمد خلف الله - بنت الشاطئ، ويقف عند «التفسير البياني للقرآن الكريم» لبنت الشاطئ ويرى أنّ منهج أمين الخولي واضح في هذا التّفسير.

ثم يعرض راترود ويلانت لتلك الإشكاليّة التي طرحها تلميذ أمين الخولي (محمد أحمد خلف الله) في رسالته الجامعيّة التي دارت حول (الفنّ القصصي في القرآن الكريم).

ويمكن مناقشة الآراء السّابقة ل_«ويلانت» فيما يلي:

1- خللٌ في تحديد البدايات الأولى لهذا الاتّجاه التّفسيري: سبق وأن بينَّا أن «راترود» ويلانت» يرى أنَّ هذا الاتّجاه التّفسيري بدأ مع أمين الخولي، فقد قال في مقالته موطن الدّراسة النّقدية «تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر»: «بدأ استخدام أساليب الدّراسات الأدبيّة في تفسير القرآن أساسًا مع أمين الخولي (ت 1967)... وهو لم يؤلّف كتابًا ،تفسيريَّا، إلّا أنّه خصّص محاضراته للمواضيع التّفسيريّة، ليتناول في مؤلّفاته التي طُبعت في أعقاب العام 1940 تاريخ التّفسير والوضع الرّاهن لمقدّمات مناهجه».

ولكن الدّراسة التّاريخيّة لهذا اللّون من التفسير -التفسير الأدبي للقرآن الكريم - تثبت أنَّ جذوره أعمق من أمين الخولي ومعاصره طه حسين، «فقد بدأت بذور هذا الاتّجاه في التّفسير تظهر في تفسير محمّد عبده، ومحمّد رشيد رضا، ومحمّد مصطفى المراغي، لكنّ جهودهم في هذا الصدد لا تتعدّى الإشارات واللمحات العابرة» (1).

ص: 311


1- انظر: الشرقاوي، عفت: اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث، لا ط، مصر، جامعة عين شمس، 1972، ص 278.

ولكن بالرّغم من ذلك تبقى إشارتهم في تفسيراتهم المختلفة ممثلةً البدايات الأولى لهذا المنهج في مطلع العصر الحديث، وإلا فبذوره الأولى أقدم من ذلك بكثير كما سنبيّنه فيما بعد، ويؤكّد تمثيلها لتلك البدايات شهادة الشيخ أمين الخولي نفسه، فعندما احتدمت المعركة بينه وبين المعارضين لهذا الاتّجاه الذي تبلور في رسالة تلميذه محمد أحمد خلف الله، وكانت تحت إشرافه، فقال بعد أن رُفضت الرّسالة: «ترفض اليوم ما كان يقرّره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عامًا (1)».

وهذا ما يقرّره الدكتور الذهبي عند حديثه عن هذه المدرسة في كتابه «التفسير والمفسرون»، حيث يقول تحت عنوان: «اللون الأدبي الاجتماعي للتفسير في عصرنا الحاضر»: «يمتاز التّفسير في هذا العصر بأنّه يتلوّن باللّون الأدبيّ الاجتماعيّ، ونعني بذلك أنَّ التّفسير لم يعد يظهر عليه في هذا العصر ذلك الطّابع الجاف الذي يصرف النّاس عن هداية القرآن الكريم، وإنّما ظهر عليه طابعٌ آخر، وتلوّن بلونٍ يكاد يكون جديدًا وطارئًا على التّفسير، ذلك هو معالجة النّصوص القرآنيّة معالجةً تقوم أوّلًا وقبل كلّ شيءٍ على إظهار مواضع الدّقّة في التّعبير القرآنيّ، ثم بعد ذلك تُصاغ المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوبٍ شيقٍ أخّاذٍ، ثم يُطبّق النّصّ القرآنيّ على ما في الكون من سنن الاجتماع ونظم العمران.... وإذا كان هذا اللّون الاجتماعيّ يعتبر في نظرنا عملًا جديدًا في التّفسير، وابتكارًا يرجع فضله إلى مفسّري هذا العصر الحديث، فإنّنا نستطيع أن نقول بحقّ: إنَّ الفضل في هذا اللّون التّفسيريّ يرجع إلى مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده للتفسير. هذه المدرسة التي قام زعيمها ورجالها من بعده بمجهودٍ كبيرٍ في تفسير كتاب الله تعالى، وهداية النّاس إلى ما فيه من خير الدنيا وخير الآخرة» (2).

بل أكثر من ذلك فقد ردَّ البعض جذور هذا الاتّجاه الأدبيّ في التّفسير إلى اتّجاه

ص: 312


1- انظر: خلف الله، محمد أحمد: الفن القصصي في القرآن الكريم، شرح وتعليق: خليل عبد الكريم، لا ط، بيروت، الانتشار العربي، 1999، مقدمة أمين الخولي ص 1.
2- انظر: الذهبي، محمد حسن، التفسير والمفسرون، م.س، ج 2، ص 401.

التّفسير البيانيّ للقرآن الكريم، والذي يعدُّ أحد الاتّجاهات الكبرى في علم التّفسير، والذي يستند إلى دعامتي اللّغة والصورة البيانيّة ليثبت من خلالهما إعجاز القرآن في هذا الجانب، فقد «بدأت حركة التأليف في التّفسير في القرن الثاني الهجري، وبدأ معها جنبًا إلى جنب التّفسير اللغويِّ للقرآن، وليس معنى هذا أنَّ المعاني البيانيّة للقرآن لم تظهر إلّا في هذا الوقت، فالعرب الذين نزل القرآن بلغتهم كان البيان فيهم سجيّة ولهم طبعًا، والمطّلع على تفسيراتهم يجد أنَّ فيها حظًا وافرًا من هذا الاتجاه... ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ حركة التّدوين اللّغوي للقرآن الكريم واكبت حركة التّفسير بالمأثور كما أسلفت، وأوّل من أسهم في تلك الحركة اللّغويّون والنّحاة، حيث ظهر كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة... وظهر كتاب «معاني القرآن» للفرّاء، والفرّاء كما نعلم من أئمّة النّحو الكوفيين... أمَّا أبو عبيدة فيكفينا أن نقف مع كتابه «مجاز القرآن» وسنجد في هذا الكتاب كثيراً من الأساليب البلاغيّة والمباحث البيانيّة التي كانت أساسًا أفاد منه كلّ أولئك الذين جاءوا من بعده، والتي تدلّ كذلك على أصالة نشأة البلاغة العربيّة» (1).

ويمتدّ ذلك الدّرس البياني للقرآن الكريم، والذي يعدُّ أحد الجذور الأساسية لهذا اللّون من التّفسير الأدبي في كتابي «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» للجرجاني.

إذًا، لم يبدأ استخدام أساليب الدّراسات الأدبيّة في تفسير القرآن الكريم بالشيخ أمين الخولي، كما زعم «ويلانت» في صدر حديثه عن هذا الاتّجاه في مقالته السّابقة.

-2- استقاء الملامح العامّة للتفسير الأدبي للقرآن الكريم من مدرسة الشيخ أمين الخولي فقط:

إِنَّ الملامح العامّة لاتّجاه التّفسير الأدبيِّ عند أمين الخولي يمكن الوقوف عليها فيما وضعته الدكتورة بنت الشاطئ من ضوابط للتفسير، التي ستبني عليها كتابها «التفسير البياني للقرآن الكريم»، وعلى هذه المرتكزات والضّوابط اعتمد

ص: 313


1- انظر: عباس، فضل حسن: التفسير والمفسرون (أساسياته واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث، ط 1، عمان، دار النفائس للنشر والتوزيع، 1437 هجرية، ج 1، ص 405-406.

راترود ویلانت في فهم الملامح العامّة لهذا الاتّجاه، والتي يأتي على رأسها «التّناول الموضوعيّ لِمَا يُراد فهمه من القرآن، ويبدأ بجمع كلّ ما في الكتاب من سور وآيات في الموضوع المدروس» (1).

لذلك نجد «ويلانت» يقول في مقالته هذه «تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر»: وقد انتقت بنت الشاطئ بصورةٍ مقصودةٍ عددًا من قصار سور القرآن كي تُظهر ثمرات تبنّيها لمنهج خولي بصورةٍ جليّةٍ، إذ تُشكّل كل من السّور وحدة موضوعيّة».

أي إنَّ منهج أمين الخولي وتلامذته ينطلق في الأساس من قضيّة الوحدة الموضوعيّة التي تعالجها قضيّةً معيّنةً تثيرها بعض الآيات القرآنيّة، ويقوم منهج المفسّر في هذا الاتّجاه على تحديد الموضوع القرآني، ثم جمع الآيات من مختلف السّور القرآنيّة التي تتّفق في الموضوع نفسه، ودراسة تراكيبها اللّغويّة والأسلوبيّة ودراسة أسباب نزولها... إلى غير ذلك من الملامح العامّة لهذا المنهج.

ولكن ثمة تجربة أخرى في باب التّفسير الأدبي تتّفق مع تجربة الشيخ أمين الخولى في المقصد العام وهو بيان الإعجاز البياني للقرآن من خلال دراسة الموضوع الذي عبّر عنه القرآن الكريم، ولكنّها تختلف معها في آليّه التّطبيق، وفهم المقصود من قضيّة الوحدة الموضوعيّة للقرآن، وهي تجربة الشيخ محمد عبد الله دراز، وهذا مما لم يُشر إليه «ويلانت» ولو على سبيل الإجمال.

فقد اهتمّت محاولة الشيخ أمين الخولي وتلامذته في باب التّفسير الأدبي للقرآن الكريم بتتبّع الموضوع في آيات القرآن كلّه، بينما نجد الشيخ دراز يرصد الوحدة الموضوعيّة على مستوى السّورة القرآنيّة وحدها، وهو تناول آخر يختلف عن التّناول الأوّل، حيث يرى الشيخ دراز أنَّ السّورة «بنيةٌ متماسكةٌ، قد بُنيت من المقاصد الكلّية على أُسس وأُصول، وأُقيم على كلّ أصل منها شُعبٌ وفصول،

ص: 314


1- انظر: الاتجاهات الحديثة في تفسير القرآن (التفسير الأدبي، بحث منشور في موسسة تبيان الثقافية والمعلوماتية، إعداد سيد مرتضى محمدي، تحت هذا الرابط https://arabic.tebyan.net/index.aspx?pid=268642

وامتدّ من كلّ شعبةٍ فروع تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حُجُراتٍ وأفنيةٍ، في بنيانٍ واحدٍ، قد وضع رسمه مرّة واحدة ... بل إنّها تلتحم كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كلّ قطعةٍ وجارتها رباطٌ موضعيٌّ من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل، ومن فوقهما تمتدّ شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب، ومن وراء ذلك كلّه يسري في جملة السّورة اتجاهٌ معيّنٌ، وتؤدّي بمجموعها غرضًا خاصًّا، كما يأخذ الجسم قوامًا واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرضٍ واحدٍ، وظائفه العضويّة» 1.

وقد سار الشيخ محمد الغزالي على نفس النّهج الذي سلكه الشيخ درَّاز في التفسير، حيث طبّق منهجه في التّفسير الموضوعي للقرآن الكريم في كتابه «نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم» حيث يقول في مقدّمته: «لقد عنيت عنايةً شديدةً بوحدة الموضوع في السّورة وإن كثرت قضاياها، وتأسَّيتُ في ذلك بالشّيخ محمد عبد الله دراز عندما تناول سورة البقرة - وهي أطول سورة في القرآن الكريم - فجعل منها باقةً واحدةً ملوّنةً نضيدةً، ويعرف ذلك من قرأ كتابه النبأ العظيم، وهو أوّل تفسيرٍ موضوعيٍّ لسورةٍ كاملةٍ، فيما أعتقد»(2).

إذًا، هذا اتّجاه تفسيريٌّ آخر يتّفق مع المقصد نفسه الذي قصده الشيخ أمين الخولي في تناوله الأسلوب الأدبي في تفسير القرآن الكريم، وإن اختلف معه في آليّة التّطبيق، وهو حريّ أن يُشار إليه عند التأريخ لاتّجاه التّفسير الأدبي للقرآن الكريم.

3: اضطراب في فهم الملامح العامّة للتفسير الأدبي للقرآن الكريم:

إنّ الوقوف على مقالة «راترود ويلات» السّابقة يُنبئ عن اضطرابٍ في فهم ملامح الاتّجاه الأدبيّ في التّفسير، والذي اتّضحت معالمه الكبرى فيما دوّنته تلميذة الشّيخ أمين الخولى الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها «التفسير البياني للقرآن

.[1] انظر: دراز، محمد عبد الله: النبأ العظيم، لا ط، الكويت، دار القلم، لا ت، ص 155.

[2] انظر: الغزالي، محمد: نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ط4، القاهرة، دار الشروق، 120 هجرية، ص5.

ص: 315

الكريم»، والذي استهلّته بالحديث عن المنهج الذي ستسلكه في كتابها هذا، وأقرَّت بأنّه نفس المنهج الذي رسّخه الشّيخ أمين الخولي في كتابه «مناهج التجديد» والذي تتلخّص ضوابطه فيما يلي:

1- الأصل في المنهج: التّناول الموضوعيّ لِمَا يُراد فهمه من القرآن، ويبدأ بجمع كلِّ ما في الكتاب من سورٍ وآياتٍ في الموضوع المدروس.

2 - في فهم ما حول النّصّ: ترتّب الآيات فيه على حسب نزولها، لمعرفة ظروف الزّمان والمكان، كما يستأنس بالمرويّات في أسباب النّزول من حيث لابَسَتْ نزولَ الآية، دون ما يفوتنا ما تكون العبرة فيه بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب الذي نزلت فيه الآية.

3 - في فهم دلالات الألفاظ: نقدِّر أنَّ العربيّة هي لغة القرآن، فنلتمس الدّلالة اللّغويّة الأصيلة، التي تُعطي حسَّ العربيّة للمادَّة في مختلف استعمالاتها الحسّيّة والمجازيّة، ثمّ يخلص لِلَمْح الدّلالة القرآنيّة باستقراء كلّ ما في القرآن من صِيَغ اللّفظ، وتدبّر سياقها الخاصّ في الآية والسّورة، وسياقها العامّ في القرآن كلّه.

4 - في فهم أسرار التّعبير: يُحتكم إلى سياق النّصّ في القرآن، بالالتزام بما يحتمله نصَّا وروحًا. وتعرض عليه أقوال المفسِّرين، فيقبل منها ما يقبله النّصّ، ويتحاشى ما أُقحِم على كتب التّفسير من مدسوس الإسرائيليات، وشوائب الأهواء المذهبيّة، وبدع التأويل» (1).

هذا هو ملخّص الملامح العامّة لمدرسة التّفسير الأدبيّ للقرآن الكريم وفق منهج أمين الخولي وتلامذته وعلى رأسهم بنت الشاطئ، ولكن بالتّأمّل فيما كتبه «ويلانت» في مقالته السّابقة يتّضح مدى الاضطراب في فهم ذلك المنهج، حيث يقول: «من طلاب خولي الآخرين كانت زوجته عائشة عبد الرحمن، والتي ألّفت تفسيرها «التّفسير البياني للقرآن الكريم» وفق المعالم الأساسيّة لفكر منهجيّة الخولي، حيث

ص: 316


1- انظر: عبد الرحمن، عائشة: التفسير البياني للقرآن الكريم، ط 7، مصر، دار المعارف، لا ت، ص10، 11.

أشارت في المقدّمة صراحةً لآراء خولي ونظرياته التي اعتمدتها فيه، وقد انتقت بنت الشاطي بصورةٍ مقصودةٍ عددًا من قصار سور القرآن؛ كي تُظهر ثمرات تبنّيها المنهج خولي بصورةٍ جليّةٍ؛ إذ تشكّل كلُّ من تلك السّور وحدةً موضوعيّةً، وبعد أن استعرضت بشكلٍ مجملٍ ترتيب نزول كلّ سورةٍ بيّنت أهميّة موضوعها زمن نزولها مقارنةً مع باقي مراحل الرّسالة النّبويّة، ولتوضيح تلك النّقطة أشارت إلى باقي السّور أو الأقسام ذات الصّلة منها، وبحثت في أسباب نزولها، وهنا تسعى لاستعراض قسم على الأقلّ من الجوّ العام للخلفيّة التّاريخيّة للسّورة التي تبحث فيها. وتبرز أكثر الخصائص الأسلوبيّة جذبًا للسّورة... لتعمل على خلق صلةٍ خاصّةٍ بين موضوع السّورة وتلك الخصائص، استنادًا للآيات المشابهة في السّور التي تهتمّ بالموضوع نفسه أو تحمل الخصائص الموضوعيّة نفسها».

إنّ الانطلاق عند بنت الشاطئ لم يكن من الوحدة الموضوعيّة في السّورة الواحدة ثم محاولة تلمس الشبه الموضوعي بينها وبين غيرها من الآيات، ولكن المنطلق هو تحديد الموضوع القرآني أوّلاً، ثم محاولة جمع الآيات القرآنيّة التي تدخل تحت هذا الموضوع، وشتّان ما بين المنطلقين، ففي المنهج الأوّل الذي ينطلق من السّورة لتحديد الموضوع، ربّما نصل إلى موضوعاتٍ لا حصر لها، ولا نجد لبعضها انعكاسًا في آيات القرآن، ففي بعض الأحيان قد تحمل الآية الواحدة موضوعًا خاصًّا بها، تقول بنت الشاطئ: «والأصل في منهج هذا التّفسير - كما تلقّيته عن أستاذي - هو التّناول الموضوعيّ الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كلّ ما في القرآن منه، ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب، بعد تحديد الدّلالة اللّغويّة لكلّ ذاك... وهو منهجٌ يختلف والطريقة المعروفة في تفسير القرآن سورةً سورةً، يؤخذ اللّفظ أو الآية فيه مقتطعًا من سياقه العام في القرآن كلّه، مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدّلالة القرآنيّة لألفاظه، أو لمح ظواهره الأسلوبيّة وخصائصه البيانيّة» (1).

رابعًا: دراسة القصص القرآني لا تفضي إلى نتيجةٍ واحدةٍ في الأحوال كلّها:

ص: 317


1- انظر: عبد الرحمن، عائشة، التفسير البياني للقرآن الكريم، م.س، ص17، 18.

يقول «ويلانت» في نهاية حديثه عن تفسير القرآن في ضوء الدّراسات الأدبيّة: «وقد ظهر في السّنوات الأخيرة مؤلّفون تناولوا هذا الموضوع -يعني دراسة القصص القرآني - إلّا أنّهم كانوا حذرين نسبيًّا في استنباط نتائجهم خوفًا من أن يلقوا مصير خلف الله».

ومعنى هذا أنّه لولا الخوف من المصير الذي لاقاه محمد أحمد خلف الله نتيجة دراسته للقصص القرآني لخرجت نتائج هؤلاء الدّارسين متّفقةً مع ما وصل إليه خلف الله في دراسته، وهذا وهم لا أساس له، ولا يمكن إثباته من قبل ويلانت، بل هو افتراض ناقٌص لا أساس له، فآراء خلف الله تمّ مناقشتها والرّدّ عليها، كما أنَّ الكثير من الدّراسات التي دارت حول القصص القرآني لم تصل إلى تلك النّيجة التي وصل إليها خلف الله من القول بأنّه لا يشترط الصّدق التاريخيّ في القصّة القرآنيّة ويكفي منها جانبا الموعظة والتأثير في النّفس اللذان قصدهما القرآن قصدًا، بل على العكس من ذلك إنَّ معظم الذين درسوا القصص القرآني أكّدوا على الصّدق التّاريخيّ للقصّة القرآنيّة، ولم يجدوا تعارضًا بين وظيفة القصّة في القرآن وصدقها التَّاريخيّ، ولنأخذ مثالًا واحدًا - خشية الإطالة - من أسماء المؤلّفات التي ذكرها «ويلانت» نفسه في مقاله السابق، وهو من كتاب «القصص القرآني في منطوقه ومفهومه» للدكتور عبد الكريم الخطيب، حيث يقول: «فالقصص القرآني نهج وحده في موضوعه، وفي أسلوب آدائه، وفي مقاصده وغاياته، فهو في موضوعه نسيج من الصّدق الخالص، وعصارة من الحقيقة المصفاة، لا تشوبه شائبة من وهم، أو خيال، إنّه يُبنى من لبنات الواقع، بلا تزويقٍ ولا تمويه. وهذا الواقع لا يتغيّر وجهه حين يعرض هذا العرض المعجز في ذلك الأسلوب القرآنيّ الرّائع... فالإعجاز والرّوعة إنّما يتجلّيان في صدق الآداء، وفي نقل الواقع وما تلبّس به من سرائر النّفوس وخلجات الصّدور... وإنّه ليس النّقل «الفوتغرافي» الذي يقف عند السّطح ولا يتجاوز شيئًا مما وراءه من أبعادٍ وأعماقِ. بل هو نقلٌ حيٍّ للأحداث، حتى

ص: 318

لأنّها تتجسّد في الزّمان والمكان اللّذين حملاها، فتظهر وكأنّها في ساعة ميلادها... لا يختلف يومها عن أمسها، ولا يفقد من يشهدها اليوم شيئًا مما شهده منها الشّاهدون بالأمس من صورٍ وأشكالٍ، ومن مشاعر وأحاسيس، وهذا هو الإعجاز الذي نشهده في كلمات القرآن، وهو أيضًا الرّوعة التي تطلع علينا من عبقريات الفنّ وآياته» (1).

الخاتمة:

نحاول في نهاية هذه الدّراسة التي دارت حول نقد مقالة «راترود ويلانت» التي حملت عنوان: «تفسير القرآن: مطلع العصر الحديث والمعاصر» أن نورد على سبيل الإجمال أوجه هذا النّقد على شكل نتائج أسفر عنها هذا البحث في رحلته النّقديّة التي رصدنا من خلالها عددًا من الأوهام التي وقع فيها «راترود ويلانت» في مقالته السّابقة، وهي أوهام لعلّها ناتجةٌ عن جهله بمناهج التّفسير المختلفة في العصر الحديث ما جعلة يقع في أنواعٍ من الخلط والاضطراب، ونُجمل هذه النّتائج فيما يلي:

- بنی «راترود ويلانت» أسباب اختياره دراسة مناهج التّفسير في فترة مطلع العصر الحديث والمعاصر أنَّ هذه الفترة الزّمنيّة تمتَّعت بخصائص في مجال تفسير القرآن تميّزها عمَّا سبقها بشكلٍ ملحوظٍ، ولكنّه قرّر فيما بعد أنَّ هذه الخصائص لا يمكن أن تنسحب بأيّ حالٍ من الأحوال على كلّ محاولات التّفسير في هذه الفترة.

- إنَّ هذه الخصائص التي ميَّزت مناهج التفسير في العصر الحديث والمعاصر، والتي قال بها ويلانت لیست حدودًا صمّاء تمنع التّداخل بين المناهج المختلفة، و إنّما هي خصائص عامّة تميّز في المجمل العام كلّ منهجٍ من هذه المناهج، وإلّا

ص: 319


1- انظر: الخطيب، عبد الكريم: القصص القرآني في منطوقه ومفهومه (مع دراسة تطبيقية لقصتي آدم ويوسف)، ط2، بیروت دار المعرفة للطباعة والنشر، 1395 هجرية، ص 9.

فقضيّة التّتداخل بين المناهج المختلفة في التّفسير الواحد مطروحة، ولعلّ خير مثال على ذلك ما ورد فيما أُثر من تفاسير عن الشيخ محمد عبده.

- يرى ويلانت أنَّ المدرسة التّقليديّة في التّفسير ما زال لها امتدادٌ واسعٌ حتى يومنا هذا، وقد مثَّلت قاسمًا مشتركًا مع المناهج الحديثة في التّفسير، وهذا ما لم يؤيّده واقع علم التّفسير في العصر الحديث، فمعظم التّفاسير التي نشأت في العصر الحديث تندرج تحت مناهج التّفسير الحديثة، حتى وإن توزّعت البنية المعرفيّة لتفسير ما من هذه التّفاسير بين هذه المناهج، ولكنّه يبقى في النّهاية أنّه يدور في فلكها، ثم إنَّ المصادر التّقليديّة في التّفسير لم تنقطع حتى مع التّفاسير الحديثة، ولكنّها لا تمثّل اتّجاهًا عامًّا قائمًا بذاته.

- لقد وهم راترود ويلانت في قوله : إنَّ الأفكار الجديدة حول معنى النّصّ القرآنيّ غالبًا ما أتت ردًّا على الأسئلة المستحدثة التي أفرزتها التّحوّلات السّياسيّة، الاجتماعيّة والثّقافيّة نتيجة تأثير الحضارة الغربيّة في المجتمع الإسلامي، فلو صحّ جزءٌ من هذا الكلام لكان أولى به أن يحصره في المنهج العلمي في التّفسير، فوقفة بسيطة مع مبادئ اللّون الأدبيّ والاجتماعيّ في التّفسير يفنّد هذا الكلام تمامًا.

- يقرّر راترود ويلانت أنَّه نتج عن عمليّة تأثير الحضارة الغربيّة في المجتمع الإسلاميّ مسألتان، فرضت نفسيهما على مناهج التّفسير التّقليديّة التي كانت سائدةً في تلك الفترة أدّت إلى نشأة مناهج التّفسير الحديثة في مطلع العصر الحديث؛ المسألة الأولى: اتّساق رؤية القرآن الكونيّة مع اكتشافات العلم الحديث. والمسألة الثانية: النّظام السّياسيّ الاجتماعيّ المناسب على أساس الأصول القرآنيّة والذي يمكِّن المسلمين من التّخلّص من الهيمنة الغربيّة. وهذا قصور فهمٍ لأسباب نشأة هذه المناهج التّفسيريّة، فاكتشافات الحضارة الغربيّة للعلم الحديث ليست

وحدها الهدف في نشأة اتّجاه التّفسير العلميّ للقرآن الكريم، بل كان «يرمي إلى

ص: 320

جعل القرآن مشتملًا على إشاراتٍ عابرةٍ إلى كثير من أسرار الطبيعة التي كشف عنها العلم الحديث، ثم إنَّ الاتّجاه نحو النّزعة الاجتماعيّة في القرآن وتفسيرها لم ترتبط في أساسها بهيمنةٍ غربيّةٍ وغيرها، وإنّما نشأت نشأةً ذاتيّةً داخل الأمّة.

- يقسِّم «ويلانت» الكتب الحاوية للتفسير القرآني بحسب آليّة التناول إلى أنواعٍ عدّة؛ التفسير الترتيبي الذي یعتمد على تناول القرآن آيةً آيةً، ومشكل القرآن، والتّفسير الموضوعي؛ وهو الذي رتّبت فيه أقسامٌ مهمّةً من القرآن على أساس موضوعاتٍ أصليّةٍ، إلّا أنَّ الحدود الفاصلة بين هذا التّقسيم الثّلاثي، ليست حدودًا مانعةً من التّداخل بين هذه الأنواع الثلاثة من التفاسير، كما أنَّ اختصاص مشكل القرآن بقسمٍ وحده من أقسام آليّات التّناول لآيات القرآن الكريم فيه نظر.

- إنَّ ثمة اضطرابًا في ذهن «راترود ويلانت» بين ثلاثة مناهج من التّفسير (التّفسير العقليّ - التفسير بالرّأي - التّفسير الاجتهاديّ) انعكس ذلك على آرائه في مقالته السّابقة.

- إنَّ جذور منهج النّزعة العقليّة في تفسير القرآن الكريم أقدم بكثيرٍ من محاولتي السيد أحمد خان الهندي (ت (1898م) والشيخ محمد عبده المصري (ت 1905م) إذ إنَّ لهذا النّوع من التّفسير جذورًا تعود لألف سنة مع أبي جعفر الطوسي (ت 460 هجرية) في كتابه «التبيان في تفسير القرآن»، وأبي علي الطبرسي (ت 548 ه_) في كتابه «مجمع البيان في تفسير القرآن».

- إنَّ ما أثر من تفاسير للشيخ محمد عبده (ت 1905م) ليست خالصةً للنّزعة العقليّة في تفسير القرآن الكريم، وإنّما يدخل بعضها تحت اللّون الأدبيّ الاجتماعيّ في التّفسير.

- لقد امتدّت أوهام ويلانت في مقالته السّابقة إلى إدخال بعض المؤلّفات التّفسيريّة تحت أحد المناهج بشكلٍ لا ينسجم إطلاقًا والملامح أو الخصائص العامّة

ص: 321

لهذا المنهج، فقد أدخل كتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» تحت منهج النّزعة العقليّة في التّفسير، حيث جعله في عداد ممثّلي التّفسير العقليّ بحسب تعبيره، وهو في الحقيقة ينتمي للّون الإلحادي في التّفسير في عصرنا الحاضر.

- الخلط بين التّفسير العلميّ والإعجاز العلميّ للقرآن يبدو واضحًا في مقالة ويلانت السّابقة.

- وَهِم ويلانت في فرضيّة أنّ التّفسير العلميّ قائمٌ على أساس أنَّ القرآن يشتمل على العلوم كافّة.

- إنَّ الجذور الأولى لمنهج التّفسير العلميّ أقدم بكثير من الفخر الرازي (المتوفى 606ه_) فبعض مؤلّفات ابن سينا (المتوفى 428ه_) نرى فيها نماذج من تدوين التّفسير العلميّ.

ص: 322

المصادر والمراجع:

1. د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، مكتبة وهبة، القاهرة، بدون تاريخ نشر.

2. فهد الرومي، اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1418 هجرية.

3. الاتجاهات الحديثة في تفسير القرآن (التفسير الأدبي، بحث منشور في موسسة تبيان الثقافية والمعلوماتية، إعداد سيد مرتضى محمدي. تحت هذا الرابط .https://arabic.tebyan.net/index 4 .0 268642=aspx?pid

4. محمد نوري محمد المكاصيصي، الاتجاهات العامة في تفسير القرآن، كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة بابل، 2018 (دراسة منشورة على الموقع الإلكتروني للجامعة تحت هذا الرابط:

http://www.uobabylon.edu.iq/UOBCOLEGES/lecture_view. V1798=lcidr=depid\=aspx?fid

5. د. خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير وقواعده، دار النفائس بيروت، الطبعة الثانية، 1406 هجرية.

6. محمد علي رضائي إصفهاني، الإعجاز والتفسير العلمي، ترجمة حسن علي مطر، مجلة نصوص معاصرة، السنة الثانية عشرة، العدد السابع والأربعون، صيف 2017، 1438 هجرية.

7. الآيات الكونية دراسة عقدية رسالة: مقدمة لنيل درجة الماجستير، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض إعداد: عبد المجيد بن محمد الوعلان إشراف: عبد الكريم بن محمد الحميدي، الأستاذ المشارك العام الجامعي: 1432ه_ / 1433ه_.

8. الدكتورة عائشة عبد الرحمن، التفسير البياني للقرآن الكريم، دار المعارف، مصر، الطبعة السابعة.

9. هند شلبي، التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق، مطبعة تونس، قرطاج، الطبعة الأولى، 1985م.

10. راترود ويلانت، تفسير القرآن في مطلع العصر الحديث والمعاصر، مقالة منشورة في موسوعة ليدن للدراسات القرآنية

ص: 323

11. حسن عزوزي، تفسير النص القرآني بين النقل والعقل، مجلة دعوة الحق، العدد 335 محرم-صفر 1419 مايو-يونيو 1998).

12. د. فضل حسن عباس، التفسير والمفسرون (أساسياته واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث، دار النفائس للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 1437 هجرية.

13. الشيخ محمد هادي معرفة، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، الطبعة الثانية.

14. د. محمد علي رضائي أصفهاني، جولة في دائرة معارف ليدن القرآنية، مجلة دراسات استشراقية، العدد الأول، صيف 2014.

15. محمد أحمد خلف الله، الفن القصصي في القرآن الكريم، شرح وتعليق: خليل عبد الكريم، لا ط، بيروت، الانتشار العربي، 1999 (مقدمة أمين الخولي)، ص 1.

16. عبد الكريم الخطيب، القصص القرآني في منطوقه ومفهومه (مع دراسة تطبيقية لقصتي آدم ويوسف)، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1395.

17. جولدتسهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة د. عبد الحليم النجار، مكتبة الخانجي بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، 1374 هجرية.

18. أمين الخولي، مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، مكتبة الأسرة، 2003م.

19 محمد علي رضائي أصفهاني، مناهج التفسير واتجاهاته (دراسة مقارنة في مناهج تفسير القرآن)، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، 2011.

20. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، الطبعة الثانية، 1403 هجرية.

21. د. محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، دار القلم، الكويت.

22. محمد الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1420 هجرية.

ص: 324

الاعتقادات في موسوعة القرآن ليدن ( مدخل الإيمان والكفر (نموذجًا)

اشارة

د. نور الدين أبو لحية (1)

ملخّص المداخلة

يتناول هذا المقال مقاربةً نقديّةً لما طرحته المستشرقة كميلا آدنج (CAMILLA ADANG) في مقالتها الخاصّة ب_ "الإيمان والكفر" (BELIEF AND UNBELIEF) في موسوعة القرآن (ليدن)، والتي وردت في الجزء الأوّل منها في حوالي تسع صفحات [ص 218-226]، وهذا عرضٌ مختصرٌ لما ورد فيها، وللانتقادات الموجّهة لها:

1 - عرض مقالة [كميلا آدنج]

2 - النّقد الموجّه لها: قسّمنا النّقد الموجّه للمقالة إلى قسمين:

الأوّل: نقد الجانب المنهجي في المقالة

الثَّاني: نقد أربعة قضايا كبرى، لصلتها الشّديدة بموضوع الإيمان والكفر، ولكون الرّدّ عليها كافيًا في الرّدّ على الفروع المرتبطة بها، بالإضافة إلى نقد بعض المضامين أثناء النّقد المنهجي وعند ذكر الأمثلة، وهذه القضايا هي:

1 - نقد المغالطات المرتبطة بالجبر والاختيار في القرآن الكريم.

2 - المغالطات المرتبطة بالتّسامح في القرآن الكريم.

3- المغالطات المرتبطة بالجهاد في سبيل الله.

4 - المغالطات المرتبطة بالولاء والبراء.

ص: 325


1- كاتبٌ وأستاذٌ جامعيٍّ، الجزائر.

المقدّمة:

اشارة

لم يتوقّف اهتمام المستشرقين عند دراستهم للإسلام، بما يرتبط بتاريخه ونظمه وما أنتجه المسلمون، من أدبٍ وثقافةٍ وعلومٍ، وإنّما راحوا يدرسون القرآن الكريم نفسه، وبنفس الأسلوب والمنهج الذي درسوا به التاريخ والأدب والعلوم، وذلك ما جعلهم يقعون في أخطاء منهجيّةٍ كبيرةٍ؛ ذلك لأنّ الدّراسات المرتبطة بالتّراث والتّاريخ لا تحتاج إلى الكثير من الجُهد؛ فهي قد تتعلّق بأديبٍ من الأدباء، أو فيلسوفٍ من الفلاسفة، أو فترةٍ تاريخيّةٍ، تتوفر فيها المراجع لدراستها، أو نقدها (1)، لكن القرآن الكريم يحتاج في معرفته ومعرفة لغته ومنهجه في طرح القضايا، يحتاج إلى معارف وعلومٍ كثيرةٍ، يفتقر إليها المستشرقون، أو لا يهتمّون بها.

وذلك ليس خاصًّا بالقرآن الكريم فقط، بل بكلّ المصادر المقدّسة للأديان؛ فالمعارف التي يحتاجها من يريد أن يُؤرّخ للأدب الفرنسيّ أو الفلسفة الألمانيّة، أقل بكثير من المعارف التي يحتاجها من يريد أن يدرس الكتاب المقدّس، أو يقدّم أيّ انتقاداتٍ تتعلّق به.

والخطورة الأكبر من ذلك أن سوء تقييم المستشرقين لأيّ فترةٍ أو شخصيّةٍ تاريخيّة، قد يكون تأثيره محدودًا وبسيطًا، وربّما لا وجود له، بخلاف تلك الأحكام التي تمسّ القرآن الكريم، فلها تأثيرها الكبير في جميع المسلمين الذين يعتبرونه كتابًا مقدّسًا، ويبنون على كلّ آيةٍ منه معارفهم وقيمهم وحياتهم.

ولهذا حاولنا في هذا المقال عرض ما كتبه بعض المستشرقين، وهي كميلا آدنج (CAMILLA ADANG) في مقالتها الخاصّة بالإيمان والكفر (BELIEF AND UNBELIEF) في موسوعة القرآن (لیدن)، لنرى كيف طرحت هذا الموضوع؟ وهل استعملت فيه المنهج العلميّ الموضوعيّ الحياديّ، أم إنّها استعملت ما يستعمله المستشرقون الحداثيون عادةً من مناهج؟

ص: 326


1- وطبعا هذا لا يعني توهيننا من الأبحاث المرتبطة بهذا، أو الضرر الذي تحدثه، ولكنه أقل بكثير من الضرر الذي تحدثه المواقف من المصادر المقدسة.

وقد رأينا - عند الجواب عن هذه التّساؤلات - أنها - نتيجةً لعدم التّحقيق وبذل الجهد الكافي في الموضوع أو لأسبابٍ أخرى وقعت في أخطاء كثيرةٍ، منها ما يتعلّق بالجانب المنهجيّ، ومنها ما يتعلّق بالمضامين والموضوعات المطروحة.

وبناءً على ذلك قسّمنا هذا المقال إلى قسمين:

أوّلهما: حول الملاحظات والانتقادات الموجّهة للجانب المنهجي.

ثانيهما: حول الانتقادات الموجّهة للمضامين والمواضيع المطروحة.

وقبل أن نشرع في طرح هذه الملاحظات والانتقادات نحب أن نذكر بأنّ هذه المستشرقة (كاميلا أدانج 1960)، هي مستشرقةٌ هولنديّةٌ متخصّصةٌ في الدّراسات الإسلاميّة والدّراسات السّاميّة واللّغة الإسبانيّة، عملت بجامعة تل أبيب، وهي مهتمّةٌ خصوصًا بالجدال الحاصل بين المسلمين واليهود خلال القرون الوُسطى والحقبة العثمانيّة (1)، ولذلك اهتمّت بشخصيّة ابن حَزم القرطبيّ ومؤلّفاته (2).

ونحب أن نشير إلى أنّ لها ثلاث مقالاتٍ في موسوعة ليدن: [التوراة]، [النفاق والمنافقون]، [الإيمان والكفر]، ونشير كذلك من باب الإنصاف أنّها - مع وقوعها فيما وقع فيه أغلب المستشرقين من الأحكام المسبقة والمتسرّعة - إلّا أنّ لها بعض المواقف الإيجابيّة، مثل استغرابها من موقف أهل الكتاب ورفضهم لنبوَّة رسول الله صلّی الله علیه و آله مع أنَّه مذكورٌ في كتبهم.

ص: 327


1- من مؤلفاتها التي اشتركت فيها مع غيرها مما يتعلق بهذا الجانب [المعتزلة في اليهودية والإسلام] والذي يتناولُ مذهب الاعتزال الذي تأثر به علماء لاهوت اليهود والمسيحيون، وكتاب [تفاعلات وخلافات]، وهو ذو طابعٍ جدلي ويضمّ مجموعةً من المقالات التي تتناولُ نصوصاً جدلية ألفها مسلمون ضدّ اليهودية. ومن كتبها في هذا: [الآراء الإسلامية حول الكتاب المقدّس وكيفية تلقّيه]، و[مؤلّفون مسلمون حول اليهودية والتوراة: من ابن ربّان إلى ابن حَزم]، و[التفاعلات والخلافات بين المسلمين واليهود والمسيحيين في الدولة العثمانية وإيران قديماً]
2- من أبحاثها في هذا الجانب: [أبو محمد القرطبي في مقابل أبو علي الرُندي: جدالٌ حول أنماط نقل القرآن]، و[قراءة القرآن مع ابن حزم: عصمة الأنبياء]، و[إعادة سُلطة النبيّ ورفض التقليد: رسالة ابن حزم إلى من يصيحُ من بعيد]، و[حجّة الوداع: القصة الحقيقية وفقاً لابن حزم]

أوّلًا - ملاحظات وانتقادات حول المنهجيّة المتّبعة:

اشارة

مع أنّ المشرفين على الموسوعات ودوائر المعارف يحرصون عادةً على تبنّي المنهجيّة العلميّة الصّارمة في تحكيمهم للمقالات، إلّا أنّنا للأسف نجد أخطاءً منهجيّةً كبيرةً في مقالة كميلا آدنج، ربّما يكون السّبب فيها عدم وجود محكّمين من علماء المسلمين الذين لهم خبرة بالمواضيع المطروحة، وربّما يكون ذلك مقصودًا من أصحاب الموسوعة، بناءً على توجّهها الأيديولوجي.

وقد رأينا أنّه يمكن تلخيص ما خالف المنهجيّة العلميّة في المقالة في ثلاثة جوانب، نشرحها مع أمثلتها في العناوين التالية:

1 - التلخيص المخل والانتقائيّة في عرض المسائل:
اشارة

على الرّغم من أنّ الطّابع الذي تُكتب به المقالات في دوائر المعارف يميل عادةً إلى الاختصار، لكنّه مشروطٌ بعدم التّأثير في المعاني المطروحة؛ فالاختصار المخلّ من أخطر العيوب؛ لأنّه يشوّه الحقائق، ويُسيء إليها. وعندما نتأمّل ما كُتب في مقالة [کمیلا آدنج] نجد طروحاتٍ كثيرةً جدًا، تُعرض وكأنّها عناوينٌ وليست تحليلاتٍ أو أفكارًا، ذلك أنّها ذكرت أكثر المقولات المرتبطة بالإيمان والكفر، والعلاقة بينهما، في صفحاتٍ محدودةٍ، وهو ما يسّر عليها طرح ما تشاء من شبهٍ من غير مناقشتها مناقشةً علميّةً.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإنّ الباحث المنصف هو الذي يتحدّث عن كلّ المسائل المطروحة بدقّة وموضوعيّة وأمانة، لكنّ الملاحظ من خلال المقالة تلك الانتقائيّة في طرح المواضيع، وخاصّة تلك التي تُثير الشّبه لدى القرّاء. وسنذكر هنا مثالين على هذا المنهج، أحدهما يتعلّق بالتلخيص المخل، والثاني بالانتقائيّة في عرض المسائل:

المثال الأوّل: من الأمثلة على التلخيص المخل قول [كميلا آدنج] عند الحديث عن علاقة الإيمان بالعمل: (فالسور المدنيّة تُشدّد على أهميّة تلاحم مجتمع المسلمين (انظر إلى الجماعة والمجتمع في القرآن). فالمؤمنون إخوة (ق 49: 10؛

ص: 328

انظر إلى أخوة وأخوّة)، وينبغي أن يساعدوا وأن يحموا بعضهم البعض (ق 8: 72، 74؛ 9: 71). ويجب أن يوطّد السلام فيما بينهم في حال اقتتلوا (ق 49: 9 - 10)، وينبغي أن يظهروا الرحمة تجاه بعضهم (ق 48: 29). كما وأنّ إيذاء مؤمن آخر هو سيّئة (ق 48: 29؛ انظر إلى سيّئة، كبائر وصغائر). جميع هذه الآيات تُظهر عرضيًا بأنّ الوضع العام لم يكن بحالٍ جيّدة وعلى انسجام بين المؤمنين في المدينة؛ بل كان هناك أحكامٌ خاصّة تحكم سلوكهم السّليم تجاه النّبي وزوجاته (على سبيل المثال: ق :33 53؛ 49 - 2 - 5؛ 58 - 12 - 13؛ انظر إلى زوجات الرّسول) (1).

من خلال هذا النّص نلاحظ ما يلي:

أوّلًا: لو قمنا بحذف الإحالات الواردة بين قوسين في النّص، وهي كثيرةٌ، يصبح النّصّ مجرّد عناوين قد يُساء فهمها، مثل قوله: (بل كان هناك أحكامٌ خاصّةٌ تحكم سلوكهم السّليم تجاه النّبيّ وزوجاته)؛ فهذا العنوان لا علاقة له بالموضوع من جهةٍ، وهو يثير في الوقت نفسه حساسيّةً لدى القرّاء من غير المسلمين خصوصًا.

ثانيًا: نلاحظ أنّ [كميلا آدنج] تتعمّد في النّصّ كسائر نصوص المقالة عدم ذكر الآيات القرآنيّة، بل تكتفي بتوثيقها، وهو نفس ما يقوم به أكثر المستشرقين في هذه الموسوعة وغيرها، وربّما يتصوّر القارئ أنّ ذلك من باب الاختصار، لكن الحقيقة هي أنّ القارئ عندما يعود للمصدر يجد أنّ الآيات لا تتوافق تمامًا الموضوع الذي يطرحونه، بالإضافة إلى أنّها تتكاسل عادةً عن العودة للمصحف كي تبحث عن تلك الآيات.

ومن الأمثلة على ذلك أنّ الآية التي أشارت إليها عند ذكر زوجات رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم هي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِي إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَظْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ

ص: 329


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص219.

وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا» [سورة الأحزاب، الآية 53].

فالآية الكريمة تشير إلى الكثير من المعاني الأخلاقيّة والآداب الرّفيعة التي يجب على المؤمنين التزامها، لا في بيت رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم فقط، وإنّما في كلّ محلّ، لكنّها لم تلتفت إلّا إلى ما يرتبط بزوجات رسول الله صلّی الله علیه و اله و سلّم مع عدم وجود أيّ علاقةٍ لها بمفهوم الإيمان.

بالإضافة إلى أنّ الآيات التي تحتوي على قوله تعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» في القرآن الكريم كثيرةٌ جدًّا؛ حيث تبلغ 89 آية، وكان في إمكانها أن تذكر الكثير من الشّواهد عنها، خاصّة تلك التي تُعرّف المؤمنين وتذكر أوصافهم، كقوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَبِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» [سورة الأنفال، الآيات 2 - 4]، وغيرها من الآيات الشّبيهة لها (1)، والتي لها علاقة مباشرة بمفهوم الإيمان وصفات المؤمنين.

لكن [كميلا آدنج] تركتها إلى هذه الآية - مع عدم وجود أي علاقة لها بالموضوع -؛ لأنّ المعاني المرتبطة بها تخدم الأهداف الاستشراقيّة أكثر من تلك الآيات.

المثال الثّاني: من الأمثلة على الانتقائيّة ما قامت به [کمیلا آدنج] عند الحديث عن الوثنيين؛ حيث لم تتطرّق إلى ممارساتهم الجاهليّة المتعلّقة بالمرأة والمستضعفين وغيرها، مما ورد ذكره في القرآن الكريم، وإنّما أوردت هذا النّص الممتلئ بالمغالطات، فقد قالت عنهم : (كم وأنّهم ليسوا متأثّرين برسالةٍ آتيةٍ من شخصٍ بشريٍّ مثلهم، شخص لا يصنع المعجزات (انظر إلى معجزات) التي يطلبونها كبرهانٍ (للمعرفة أكثر حول ذلك يمكن العودة إليه؛ ق 17 93-90؛ قارن ق 74: 52) ولأنّهم كانوا يعتبرونه ممسوسًا كما اعتبرت الأمم السّابقة المنذرين الآخرين، فينادون محمدًا

ص: 330


1- في القرآن الكريم خمس آيات تتصدر بهذه العبارة «إِمَّا الْمُؤْمِنُونَ»، وكلها توضح مفهوم الإيمان، وتوضح مصاديقه.

بالكاذب لأنّه يمثّل قصصًا تلقّاها من جهةٍ خارجيّةٍ كإيحاءاتٍ إلاهيّةٍ. وبسبب رفضهم، كانت هذه الأمم قد تعرّضت للعقاب بشدّة (انظر إلى قصص العقاب) في کلٍّ من الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهذا هو ما ينتظر العرب الوثنيين ما لم يتوبوا ويعودوا إلى الله وإلى محمد) (1).

ففي هذا النّصّ نُلاحظ أنّ [كميلا آدنج] تحاول أن تسوق بطريقةٍ غير مباشرةٍ شبهتين تعوّد المبشّرون والمستشرقون تسويقها بطرقٍ شتّى:

الأولى: خلّو نبوّة رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم من المعجزات والبراهين الدّالة عليها، مع أنّ الآيات المذكورة، وهي قوله تعالى: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَابِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا» [سورة الإسراء، الآيات 90 - 93] لا تدل على ذلك، بل هي تُشير إلى أنّه في حال تحقّق المعجزة؛ فإنّ الله تعالى هو الذي يفعل ذلك، لا رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم.

ولو أنّهم رجعوا إلى الآيات السّابقة لتلك الآيات التي أوردوها، لوجدوا التّحدي القرآنيّ واضحًا جليًّا، فقد قال الله تعالى: «قُلْ لَبِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» [سورة الإسراء، الآية 88].

ومثل ذلك غيرها من الآيات التي تتحدّى المشركين، وتذكر أنواع المعجزات التي وفّرها الله تعالى لنبيّه صلّی الله علیه و آله و سلّم ليثبت بها نبوّته للمعارضين لها، ومنها قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» [سورة القمر، الآيتان 1، 2].

ص: 331


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص221.

الثّانية: هي ما کان المشرکون یرمون به رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم من كونه ممسوسًا، وهو

مما یحرص المستشرقون و غیرهم علی إثارته، إمّا بطریقةٍ غیر مباشرةٍ، مثلما فعلت [کميلا آدنج]، أو بطريقةٍ مباشرةٍ مثلما فعل نولدكه (1) من زعمه أنّ الوحي القرآنيّ وحيٌ شيطانيٌّ ناتجٌ عن إملاء الشيطان للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، أو أنّ مصدر الوحي الحالة المرضيّة والهستيريّة، كما عبّر عن ذلك جولد تسيهر بقوله: (خلال النّصف الأوّل من حياته اضطرته مشاغله إلى الاتّصال بأوساطٍ استقى منها أفكارًا أخذ يجترّها في قرارة نفسه وهو منطوٍ في تأمّلاته أثناء عزلته، ولميل إدراكه وشعوره للتأمّلات المجرّدة التي يلمح فيها أثر حالته المرضيّة، نراه ينساق ضدّ العقليّة الدّينيّة والأخلاقيّة القومه الأقربين والأبعدين) (2).

ومثله المستشرق درمنغ الذي عبّر عن هذه الشّبهة بقوله: (لما كانت سنة 610م كانت الحالة النّفسيّة التي يعانيها محمد على أشدّها... ووجد في وحدة غار حراء مسرّة تزداد كلّ يوم عمقا (3)...) (4).

2 - تاريخيّة القرآن الكريم وتطوّر مواقفه:
اشارة

ونقصد بها دراسة النّصّ القرآنيّ، لا باعتباره نصًّا مقدّسًا، أو نصَّا قائمًا بذاته على الأقل، وإنّما باعتباره نتاجًا لواقعٍ تاريخيٍّ محدّدٍ، ولذلك لا يُعبّر عن الحقيقة بحدّ ذاتها، وإنّما يُعبّر عن حالةٍ نفسيّةٍ أو موقفٍ مرتبطٍ بها. وهو من أبرز المناهج المستعملة في الدّراسات الاستشراقيّة والحداثيّة، كما عبّر عن ذلك نصر حامد أبو زيد بقوله في تعريف [التاريخية]: (هي لحظة الفصل بين الوجود المطلق والمتعالي - الوجود الإلهي - والوجود المشروط الزّماني) (5).

ص: 332


1- نولدکه، تیودور: تاريخ القرآن، ترجمة: جورج تامر، لا ط، ألمانيا - بغداد، منشورات الجمل، 2008م، ص89.
2- جولدتسيهر، اجناس: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة وتحقيق: مجموعة مترجمين، دار الرائد العربي، ص 13.
3- بناء على أن المستشرق درمنغ من المستشرقين الذين أنصفوا إلى حدٍّ ما رسول الله صلّی الله علیه و آله؛ فقد فسير بعض الباحثين العبارة التي أوردها في هذا أنه يقصد منها اللذة المعنويّة التي كان يجدها رسول الله صلّی الله علیه و آله وهو يتحنّث في غار حراء، وهذا مما لا حرج فيه.
4- درمنغم، امیل: حياة محمد، ترجمة: عادل زعيتر، ط 2، مصر، دار إحياء الكتاب العربي، 1949م، ص 389.
5- أبو زيد، نصر حامد: النص والسلطة والحقيقة، ط 4، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000م، ص 71.

وهي تقوم على مجموعة أسسٍ منها (1):

أ. الأنسنة: النّزعة الإنسيّة التي ظهرت مع الحداثة الغربيّة، والحركة الإنسيّة، التي تجعل الإنسان سيّدًا للكون، بدلًا من كونه سيّدًا في الكون.

ب. النّسبيّة: ومُفادها أنّه لا وجود لشيءٍ مطلقٍ وحقيقيٍّ ويقينيٍّ، فالكلّ نسبيّ.

د. التّفسير الماديّ للتاريخ، بعيدًا عن كلّ مفاهيم الغيب والوحي.

ه_ . الهيرمينوطيقا: القائمة على البنيويّة والتّفكيك، والذي يخضع لذاتيّة القارئ، دون أيّ اعتبارٍ لمقاصد المتكلّم أو الكاتب (موت المؤلّف).

بناء على هذا، نرى أنّ [كميلا آدنج] تستعمل هذا المنهج في المقالة كلّها؛ لتوهم القارئ أنّ المفاهيم المرتبطة بالإيمان والكفر بدأت سليمةً متسامحةً في الفترة المكّيّة، لكنّها سرعان ما استبدلت المسامحة بالشّدّة، وقامت بإلغاء الآخر، بل المواجهة معه في الفترة المدنيّة خصوصًا، ومن الأمثلة الدّالة على ذلك:

المثال الأوّل:

ما ورد في المقالة من تغيّر موقف القرآن الكريم من اليهود بين الاعتراف بهم والدعوة إلى الاقتداء بتوحيدهم في السّور المكّيّة إلى التّشدّد معهم في السّور المدنيّة بناء على مواقفهم والظروف السياسيّة التي مرّ بها المسلمون في المدينة. تقول [کمیلا آدنج] في ذلك: (إنّ السّور المدنيّة تتضمّن القليل من الإشارة الجدليّة المباشرة ضدّ اليهوديّة أو النّصرانيّة. وعلى العكس من ذلك، يُقدّم كلّ من الإسرائيليين أو اليهود والنّصارى كمثلٍ لكي يُتّبعٍ. هذا لأنّهم يعترفون بأنّه يوجد إلهٌ واحدٌ، خالق الكون الذي يجعل نفسه معروفًا للبشريّة من خلال التنزيلات.. في الفترة المكيّة، كان لا زال المؤمنون يُشجَّعون على أن يسعوا إلى الأخذ بنصح أهل الكتاب، الذين كونهم كانوا منغمسين ولا زالوا في التقليد التّوحيدي، والذين كان يمكن أن يكونوا قادرين على توضيح قضايا لا يفهموها.. هذا الموقف الأوّلي الخيٍّر يتغيّر بعد أن

ص: 333


1- ادريس الطعان، أحمد: العلمانيون والقرآن - تاريخية النص، ط 1 ، الرياض، دار ابن حزم، 2008، ص 305.

ينتقل محمد إلى المدينة.. حيث يصبح على معرفةٍ وثيقةٍ بأتباع الأديان التوحيديّة، لا سيّما اليهود. مع أنّ بعض اليهود قد تحوّلوا إلى الدين الجديد، ورفضت الأكثريّة ادّعاء محمد بالنّبوّة. هذا الأمر مرفقًا بعوامل سياسيّةٍ أدّى إلى تدهور العلاقات بين محمد ويهود المدينة، كما انعكس في كثير من السّور في الفترة المدنيّة؛ فاليهود الآن قد جمعوا مع الوثنيين على أنّهم هم الذين الأكثر عداوةً تجاه المؤمنين) (1).

وتذكر الموقف نفسه عند ذكر المصير الذي ينتظر أهل الكتاب في الآخرة، فتقول: (رغم احتمال المكانة الأرفع للموحّدين السّابقين فإنّ الذين بينهم ممن هم مذنبين بالكفر سوف يشتركون مع الوثنيين بمصيرٍ مؤلمٍ ما لم يصلحوا طرق عيشهم، كما يراها سورةً مدنيّةً (2) تضع الكافرين بين أهل الكتاب على نفس المستوى مثل المشركين واصفًا إيّاهم بأنّهم «هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» في مواجهة المؤمنين الذين «هُمْ خَيْرُ البريَّة» ) (3).

وتذكر الموقف نفسه من النّصارى بأنّ ما ورد حولهم في قوله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ» [سورة المائدة، الآيتان 82، 83] ليس معلّلًا بما ذكره القرآن الكريم عن رقّة قلوبهم وتواضعهم، وإنّما لكون النّصارى كانوا يشكّلون خطرًا أقل من خطر اليهود.

و هي تستدلّ لتغيّر هذا الموقف بقوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» [سورة يونس، الآية 94]، وهي من سورة يونس المكية،

يحكم من خلالها على إيمان أهل الكتاب، ولو من دون اتّباعهم لرسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم،

ص: 334


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص222.
2- سورة البينة من السور التي وقع الخلاف في كونها مكية أو مدنية، والكثير يذهب إلى أنها مكية، ويدلّ على ذلك إيقاع آياتها وطبيعة مضامينها، قال سيّد قطب عنها: (نسق السورة تتضح فيه سمات القرآن المكي)، انظر: السيد قطب: في ظلال القرآن، ج27، ص 668.
3- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص222.

مع أنّ المراد من هذه الآية هو ما نصّ عليه قوله تعالى في سورة البقرة المدنيّة : «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقُ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ« [سورة البقرة، الآية 89]، وقوله: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» [سورة البقرة، الآية 146]، وغيرها من الآيات الكريمة، والتي تذكر أنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم من خلال البشارات الواردة عنه في كتبهم، ولذلك دُعي المشركون إلى سؤالهم حتى يتأكّدوا من ذلك، وليس في ذلك دليلًا على إيمانهم؛ لأنّ الإيمان يعني الإذعان والتّسليم لا

مجرّد الاعتراف.

المثال الثّاني:

ما ورد في المقالة من تغيّر موقف القرآن الكريم من المشركين قبل فتح مكّة وبعدها، حيث تقول: (مع أنّ محمدًا قد حاول حفظ علاقة ودّية مع الكفّار، فقد تغيّر هذا بعد إخضاع مكّة، فالآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا» [سورة التوبة، الآية 28] تُعلن أنّ المشركين نجسون، وتحرِّم عليهم الدّنوّ من الحرم المكّيّ) [1].

ولو أنّها طبّقت المنهج القرآنيّ في التّعامل مع الحقائق والقيم، والذي نصّ عليه قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا» [سورة الفرقان، الآية 32]، لعلمت أنّ الآيات القرآنيّة تتنزّل بحسب المواقف والحاجات المختلفة.

وبما أنّ المسجد الحرام كان في الفترة المكّيّة وأكثر الفترة المدنيّة، قبل فتح مكّة، كان بيد المشركين، لا بيد المسلمين؛ فإنّ إنزال هذا الحكم الشّرعي في ذلك الحين، سيكون محلّ سخريةٍ منهم؛ فكيف ينهاهم عن القرب من المسجد الحرام، وهو تحت سيطرتهم، بل إنّ المسلمين هم المحرومون من الاقتراب منه.

[1]. موسوعة القرآن (لیدن)، ج 1، ص 224.

ص: 335

أمّا تعليل ذلك الحكم، والحكمة المرتبطة به، فهي واضحةٌ، فلكلّ أهل دینٍ شعائرهم الخاصّة بهم، ولذلك لا يصحّ أن يدخل المسجد الحرام من لم يؤمن بتلك الشّرائع، أو يسّلم لها، مثلما لا يقبل المسيحيون واليهود وغيرهم أن يدخل أحد أماكنهم المقدّسة ليؤدّي فيها شعائره الخاصّة به.

المثال الثالث:

ما ورد في المقالة من تغيّر مفهوم [المؤمن] في القرآن الكريم بين شموله لجميع من تحقّق بالإيمان في عصر رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم أو ما قبله، وبين انحصاره في المؤمنين برسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم فقط، كما عبّرت عن ذلك [كميلا آدنج] بقولها: (مع أنّه من حيث المبدأ كلمة [مؤمن] في معناها المطلق تُستعمل لوصف أيّ فردٍ من أتباع الدّين الذي أسّسه محمد - يجب التّشديد في البدء بأنّ كلمة [مؤمن] في القرآن ليس لها ذلك المعنى الحصري- فهي تشمل المؤمنين الذين سبقوا فترة محمد، أي أولئك الذين آمنوا بالأنبياء والرّسل الذين أرسلهم الله قبل ظهور محمد؛ والمثال الأكثر وضوحًا هو [مؤمن] المذكورة في [سورة غافر] الذي كان داعمًا لموسى في محكمة فرعون ومجموعة ثانية من غير المؤمنين تتكون من أفراد بين أهل الكتاب الذين يوصفون في القرآن كمؤمنين مع أنّ أكثر المفسّرين يعتبرونهم متحوِّلين إلى الإسلام. لذلك إذا تحدّثنا بشكلٍ صارمٍ، فإنّ كلمة [مؤمن] وكلمة [مسلم] ليستا قابلتين أن تكونا مترادفتين. ولكن بما يتلو بعده، فإنّ كلمة [مؤمن] سوف تُستعمل بما يعني تابع ملتزم بدین محمد) (1).

وما ذكرته [كميلا آدنج] من تطوّر لفظة [المؤمن] غير صحيح؛ فالقرآن الكريم في جميع مراحل نزوله يقرّ بإيمان من كانوا قبل رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم ما داموا يتّبعون في ذلك من أرسل إليهم من الأنبياء، بل يوجب على المؤمنين من أتباع رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم أن يؤمنوا بما آمن به من قبلهم، كما قال تعالى في سورة البقرة المدنيّة: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ

ص: 336


1- موسوعة القرآن (لندن)، ج 1، ص218.

وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» [سورة البقرة، الآيات 136، 137].

وقال في سورة المائدة المدنية، والتي هي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم: «قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ» [سورة المائدة ، الآية 59].

أما وجوب اتباع رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم و الحکم بالكفر على من لم يتّبعه؛ فهذا وارد فی جمیع القرآن الكريم مكيّه ومدنيّه، فكلّها متّفقة على عالميّة رسالة رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم، كما قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» [سورة سبأ، الآية 28]، وقال: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّتِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (سورة الأعراف، الآية158)، وقال : «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً» (سورة الفرقان ، الآية 1) وقال : «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ» (سورة الأنعام، الآية 90)، وقال: «وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرُ لِلْعَالَمِينَ» (سورة القلم، الآية52)، وقال: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» [سورة الأنبياء، الآية107]

وكل هذه الآيات واردة في السور المكّيّة، وهي تدلّ على أنّ وجوب اتِّباع رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم، ومن كلّ البشر سواء كانوا وثنيين أو أهل كتاب، لم تبدأ الدّعوة إليه من المدينة المنوّرة، وإنّما ابتدأت من مكّة المكرّمة، بل مع أوائل ما نزل فيها من القرآن الكريم، كما ورد في سورة القلم.

3 - إثارة الخلافات المذهبيّة من غير حاجةٍ لها:
اشارة

وهو أسلوب استخدمه [كميلا آدنج] في محالٍ مختلفةٍ، ومن غير دواعٍ علميّةٍ تدعو إلى ذلك، بالإضافة إلى أنّه لم يطبّق في ذلك المنهج العلميّ الذي يستدعي التّحقيق

ص: 337

الخلاف وحقيقته وموضع النّزاع، ولذلك وقع في التّدليس، ومن الأمثلة على ذلك:

المثال الأوّل:

إيرادها للخلاف الوارد بين المدارس الإسلاميّة حول التّقيّة، كما عبّرت عن ذلك بقولها: (في هذا السياق، يجري استعمال تعبير [تقية]، في حين يميل المفسّرون السنّة إلى اعتبار [التقية] كخيار، يعتبر نظراؤهم من الشيعة على أنها واجب عند مواجهة خطر تهديد الحياة (1).

وهي لم تذكر مراجعها من التّفاسير السّنيّة، بل اكتفت بذكر التّفاسير الشّيعيّة، كالتبيان والميزان ،وغيرهما، فالخطأ الذي وقعت فيه هو عدم عودتها للمصادر السّنيّة، وخصوصًا الفقهيّة منها؛ لأنّها هي المحال التي توضع فيها أمثال هذه المسائل.

وعند العودة إليها نجد اتّفاقًا كبيرًا بين أكثر المذاهب السّنيّة والشّيعة في هذا الجانب؛ فكلّهم يتّفقون على أنّ المكره على التّلفّظ بالألفاظ الدّالة على الكفر، يمكنه أن يفعل ذلك، كما عبّر عن ذلك شمس الأئمة السرخسي الحنفي (المتوفى: 483ه_) بقوله: ( والتقيّة أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره، وإن كان يضمر خلافه، وقد كان بعض الناس يأبى ذلك، ويقول: إنه من النّفاق، والصحيح أنّ ذلك جائز لقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةٌ» [سورة آل عمران، الآية 28]، وإجراء كلمة الشّرك على اللّسان مكرهًا مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب النّقيّة، وقد بيّنا أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم رخّص فيه لعمار بن ياسر) (2).

وقال ابن كثير: (وقوله: «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةٌ» [سورة آل عمران، الآية 28] أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرّهم، فله أن يتّقيهم بظاهره لا بباطنه ونيّته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنّه قال: إنّا لنكشّر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم) (3).

ص: 338


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص223.
2- السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة (المتوفى: 483 ه_): المبسوط، لا ط، بيروت، دار المعرفة، 1414ه_ - 1993م، ج 24، ص 45.
3- ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774ه_): تفسير القرآن العظيم، المحقق، سامي بن محمد سلامة، ط 2، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، 1420ه_ - 1999م، ج 2، ص30.

وقال الألوسي (المتوفى: 1270ه_) عند تفسيره للآية: (وفي الآية دليلٌ على مشروعيّة التّقيّة وعرّفوها بمحافظة النفس، أو العِرض أو المال من شرّ الأعداء، والعدو قسمان: الأوّل من كانت عداوته مبنيّة على اختلاف الدّين كالكافر والمسلم، والثّاني من كانت عداوته مبنيّة على أغراضٍ دنيويّةٍ كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التَّقيّة قسمين: أمّا القسم الأوّل فالحكم الشّرعيّ فيه أنّ كلّ مؤمنٍ وقع في محلٍ لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرّض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محلٍ يقدر فيه على إظهار دينه.. إن كان ممن لهم عذر شرعيّ في ترك الهجرة .. فإنّه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة) (1).

وغيرها من الأقوال التي يتّفق فيها السّنّة مع الشّيعة، والخلاف بينهما ليس في هذه النّاحية، وإنّما في النّواحي المرتبطة بالخصوصيات المذهبيّة التي تبنّاها الشّيعة، والتي حرص أئمّتهم على ألّا تكون سببًا في التأثير في علاقات المسلمين بعضهم ببعض، ولذلك أوجبوا على أتباعهم أن يستعملوا التّقيّة، لا للحيلة والخداع، وإنّما لتحقيق الألفة والمودّة بينهم وبين سائر المسلمين، بالإضافة إلى عدم التّعرّض للأذى الذي يمارسه المتطرّفون.

وهو أمر متوافق مع ما ورد في المصادر السّنيّة من ترك رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم البعض الأمور حرصًا على النّاس، كما ورد في الحديث عن عائشة أنّها قالت: سألت رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم عن الحِجرِ، فقال: هو من البيت، قلت: ما منعهم أن يدخلوه فيه؟ قال: عجزت بهم النّفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا، لا يُصعد إليه إلا بسلّم؟ قال: (ذلك فعل قومك، ليدخلوه من شاءوا ويمنعوه من شاءوا، ولولا أنّ قومك حديثو عهدٍ بكفر مخافة أن تنفر قلوبهم، لنظرت هل أغيّره فأدخل فيه ما انتقص منه، وجعلت بابه بالأرض) (2).

ص: 339


1- الألوسي، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، المحقق: علي عبد الباري عطية ،1، بيروت، دار الكتب العلمية 1415 ه_، ج 2، ص 117.
2- البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه صحيح البخاري، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ط 1، دار طوق النجاة، 1422ھ، ج2، ص 179.

ومثله ما وري في مداراة بعض النّاس خشية شرّهم، كما رُويَ عن عروة بن الزّبير أنّ عائشة أخبرته أنّ رجلًا استأذن في الدّخول إلى منزل النّبيّ صلّی الله علیه و آله و سلّم، فقال: (ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة)؛ فلمّا دخل ألآن له الكلام. فقلت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثمّ ألنت له في القول؟ فقال: (إنّ شرّ الناس منزلة عند الله من تركه - أو ودَعَهُ الناس - اتّقاء فُحشه) (1)، فقد صّرح رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم في هذا الحديث بأنّه ترك مصارحة ذلك الشّخص، اتقاء لفحشه، مع أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم لم يخف على نفسه منه، وإنّما حرص على الوحدة وتآلف القلوب، ولو في الظاهر.

بل ذلك ما يدلّ عليه ما ورد في القرآن الكريم على لسان هارون علیه السّلام في حواره أخيه موسى علیه السلام، فقد قال له: «وَلَا تَأْخُذُ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَابِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» [سورة طه، الآية94]، وهذا جواب عن ذلك العتاب الذي تلقّاه من أخيه بسبب عدم شدّته مع السّامري وأصحابه.

وهذا ما ذكره أئمة الشّيعة جميعهم، وأوصوا به أتباعهم، فعن أبي علي قال: قلت لأبي عبدالله الصادق: إن لنا إمامًا مخالفًا، وهو يبغض أصحابنا كلهم؟ فقال: ما عليك من قوله، والله لئن كنت صادقًا لأنت أحق بالمسجد منه، فكُنْ أول داخل وآخر خارج، وأحسن خلقك مع الناس، وقُلْ خيرًا) (2).

وعن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق: (يا إسحاق، أتصلي معهم في المسجد؟ قلت: نعم، قال: (صلِّ معهم؛ فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله) (3)

ص: 340


1- صحيح البخاري، م.س، ج8، ص38، ورواه محدّثو الشيعة باختلاف يسير، انظر: الكليني، محمّد بن يعقوب: أصول الكافي، ط6، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1375 ه_ ش، ج 2، ص 245.
2- الحر العاملي، الشيخ محمد بن الحسن: وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، (آل البيت - نشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم المشرفة سنة 1414ه_) و (الإسلامية - نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان سنة 1403 ه_ - 1983 م)، حدیث رقم 10721.
3- م.ن، حديث رقم 1072.
المثال الثّاني:

ما ورد في المقالة من أنّ هناك خلافًا بين المدارس الإسلاميّة حول الجزم والتأكيد في الإيمان، وربطها للمسألة بإيمان المقلّد، وذلك في قولها: (فوق ذلك، بعض المفسّرين يُصرّحون بأنّه حتى يكون الإيمان صحيحًا، ينبغي أن يكون تأكيدًا حقيقيًّا وليس مجرّد موقف مُكتسب عن طريق الذي يميّز بين الإيمان التقليدي والإيمان التّحقيقيّ) (1)

وما ذكرته من الخلاف بين المدارس الإسلاميّة صحيحٌ، لكنّه لا يرتبط بالجزم واليقين والتّأكّد، ذلك أنّ الجمع متّفقٌ على وجوب اليقين وعدم الشّكّ والرّيب في الإيمان، بدليل قوله تعالى: _إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا» [سورة الحجرات، الآية15]، فالآية الكريمة تشترط في صدق الإيمان ألّا يتخلّله ريبٌ أو شكٌّ.

بل إنّ الله تعالى اعتبر المرتاب والشّاك منافقًا، فقال: «إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» [سورة التوبة، الآية 45].

ولهذا؛ فإنّ كلّ العلماء - سواء أولئك الذي يوجبون الاجتهاد أو لا يوجبونه - متّفقون على اشتراط الجزم وعدم الشّك والرّيب، كما قال تقي الدين السبكي (ت756ه_): (وتارة يكون الجزم من غير ضرورةٍ، ولا دليل خاص، كإيمان العوام، أو كثير منهم: فهو إيمان صحيح عند جميع العلماء، خلافًا لأبي هاشم. ويسمى علمًا في عرف كثير من الناس، وإن كان بعض المتكلّمين لا يسمّيه علمًا) (2).

وقد حكى النووي اتّفاق المتكلّمين على ذلك، فقال: (واتّفق أهل السّنّة من المحدثين والفقهاء والمتكلّمين على أنّ المؤمن الذي يحكم بأنّه من أهل القبلة ولا يُخلّد في النّار لا يكون إلّا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من

ص: 341


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص219.
2- السبكي، أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي (المتوفى: 756ه_): فتاوى السبكي، دار المعارف، ج2، ص 366.

الشّكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلًا إلَّا إذا عجز عن النّطق لخللٍ في لسانه أو لعدم التّمكّن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك فإنّه يكون مؤمنًا (1).

واعتبر الغزالي - وهو من المجيزين لإيمان المقلد - أنّ اليقين في الإيمان، وأنّه قد يتحقّق من غير أدلّةٍ معلومة ظاهرة، ولذلك فإنّ العبرة باليقين وليس بالطريق المؤدّي إليه، فقال: (من ظنّ أنّ مدرك الإيمان الكلام والأدلّة المحرزة والتقسيمات المرتّبة فقد أبعد، لا بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عباده عطيةً وهديّةً من عنده، تارةً بتنبيهٍ في الباطن لا يمكن التّعبير عنه، وتارةً بسبب رؤيا في المنام، وتارةً بقرينة حال رجلٍ متديّنِ وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال.. وأمثالهم أكثر من أن تحصى، ولم يشتغل واحد منهم قط بكلام وتعلّم الأدلّة، بل كان يبدو نور الإيمان أوّلًا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا يزال يزداد وضوحًا وإشراقًا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة، وبتلاوة القرآن، وتصفية القلوب.. والحق الصريح أنّ كلّ من اعتقد أنّ كلّ ما جاء به الرسول واشتمل عليه القرآن حقّ، اعتقادًا جازمًا ، فهو مؤمن، وإن لم يعرف أدلّته) (2).

المثال الثالث:

ما ورد في المقالة من إقحامها لمسألة غياب الإمام المهدي والاختلاف فيها من غير حاجةٍ إلى ذلك، وذلك في قولها عند الحديث عن الإيمان بالغيب: (وشرط مستقلّ عن الإيمان هو الإيمان بالغيب.. إنّ النّظرة المقبولة بشكلٍ شائعٍ هي التي تُشير إلى أشياء غير منظورةٍ، وهي معرفةٌ مخفيّةٌ عن الجنس البشري.. ولمفسِّر شيعي مثل الطوسي (المتوفى عام 460ه_ / 1067م.؛ التبيان، 1، 55) يشمل الغيب (أي المجهول) الفترة لاحتجاب الإمام المُنتظر ومجيء المهدي (3).

ص: 342


1- النووي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف (المتوفى: 676ه_): المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجاج، لا ط، بيروت، دار الكتاب العربي، 1407 ه_ - 1987م، ج 1، ص 49 .
2- الطوسي، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (المتوفى: 505ه_): فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ضمن القصور العوالي)، لا ط، بيروت، دار المعرفة، ص 160..
3- موسوعة القرآن (لندن)، ج1، ص219.

وطرحها المسألة بهذه الطريقة يوهم أنّ هناك خلافًا كبيرًا بين المسلمين في هذا الشأن، وهذا غير صحيح؛ فالمسلمون بفرقهم جميعًا، يؤمنون بالإمام المهدي، ويعتبرونه من البشائر التي بُشّروا بها، والتي نصّ عليها قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا» [سورة النور، الآية 55].

وغيرها من الآيات الكريمة التي تعد المؤمنين بتمكين دينه في الأرض، وهيمنته على الدين كلّه، كما قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا» [سورة الفتح، الآية28].

ومثلها الأحاديث الكثيرة المتواترة في مصادر السنة والشيعة، والتي تتّفق في الكثير من التّفاصيل، والاختلاف بينها لا يعدو في المصداق الذي وردت فيه تلك الأحاديث، وبذلك يكون الإيمان بالإمام المهدي غيبًا لدى الفريقين، سواء أولئك الذين يقولون بولادته واحتجابه، أو أولئك الذين يؤمنون بتأخّر ولادته؛ فكلاهما متّفقان على ضرورة الإيمان به، وإن اختلفوا في درجة تفعيل ذلك الإيمان في الحياة.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإنّ الإيمان بالغيب يقصد به كلّ الحقائق العقديّة الواردة في القرآن الكريم، مما غاب عنّا حضورها، كما قال تعالى بعد إيراده لقصّة نوح علیه السّلام: «تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» [سورة هود، الآية 49].

وقال بعد إيراده لقصّة يوسف علیه السّلام : «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [سورة يوسف، الآية 102].

وقال بعد إيراده لقصّة مريم عليها السلام: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» [سورة آل عمران، الآية 44].

ص: 343

وبذلك يكون إقحامها لذكر الإمام المهدي وغيابه في هذا الموضع خصوصًا نوعًا من إثارة الخلاف في غير محلّه، ومن غير دراسةٍ علميّةٍ واعيةٍ له، قد تزيل الشّبه المرتبطة به.

لكن - مع ذلك، ومن باب الإنصاف - قد يكون لذكرها له في هذا المحلّ نوع من الوجاهة، باعتبار أنّ لهذه القضيّة تأثيرها الكبير في الموقف من الإمام المهدي بين السنة والشيعة؛ فالسّنّة يعتبرونه مجرّد حدثٍ عابرٍ وعاديّ يقع في آخر الزمان، بينما يعتبره الشيعة إمامهم وصاحب عصرهم، ولذلك تتأثّر حياتهم جميعًا بهذا الاعتقاد.

المثال الرابع:

إِنَّ مع قصر المقالة، وعظم الموضوع المرتبط بها، إلّا أنّ [كميلا آدنج] تخوض أحيانًا كثيرةً في قضايا فرعيّةٍ جدليّةٍ لا علاقة لها بالموضوع، وتحتلّ فوق ذلك مساحةً كبيرةً من المقال، والقصد منها ليس سوى بيان اختلاف المسلمين، ولو من غير داعٍ يدعو إلى ذلك.

ومن الأمثلة على ذلك قولها عند ذكر ما ورد في القرآن الكريم من نجاسة المشركين: (لقد فَسّر كل من المدرسة الشرعيّة المالكيّة والمدرسة الشّرعيّة الجعفريّة هذه الآية على أنّها منع غير المسلمين جميعًا من دخول أماكن عبادة المسلمين، وأدّى ذلك إلى أبحاثٍ حول طبيعة النّجاسة عند الكفّار: هل كانوا بالحرف فعلًا قذرين أو طقوسيًّا نجسين لأنّهم لا يتوضؤون؟ هل أنّ نجاستهم حكمًا أو مفهومًا في عقول المؤمنين؟ أو أنّهم نجسون بطبيعتهم وباعثون على الاتّساخ ...) (1).

إلى آخر النّصّ الطويل، وهو ما يُبيّن أنّ الغرض من المقال يتجاوز التّعرّف على حقيقة الإيمان والكفر، والعلاقة بينهما في القرآن الكريم، وإنّما البحث عن أيّ شيءٍ قد يجعل القارئ نافرًا من الحقائق القرآنيّة.

ص: 344


1- موسوعة القرآن (الدن)، ج 1، ص 224.

ولو أنّها تركت أقوال الفقهاء، وراحت تبحث في معنى النّجاسة في القرآن الكريم، وسرّ وصم المشركين بها، أو راحت تبحث في كتب التاريخ لتعرف مدى تنزّه المشركين عن القاذورات والأخلاق المنحرفة، لما احتاجت لكلّ التّفاصيل الفقهيّة التي ذكرتها في غير الموضع المناسب لها.

ثانيًا - ملاحظات وانتقادات حول القضايا المطروحة:

اشارة

بناء على عدم امتثال [كميلا آدنج] لما تقتضيه المنهجيّة العلميّة من شروط البحث العلمي؛ وأوّلها البحث في المصادر الإسلاميّة بأنواعها المختلفة، وسؤال المتخصّصين من المسلمين عن ذلك؛ فقد وقعت في مغالطاتٍ أو أخطاء موضوعيّة كثيرة، ربما يكون سببها الأكبر اعتمادها على ما كتبه المستشرقون قبلها، وخصوصًا في نفس الموسوعة التي كتبت فيها مقالتها، ولذلك تُحيل عليها وعليهم كثيراً .

وبما أنّ هذا المقال لا يتّسع لنقد كلّ المغالطات التي طرحتها بتفصيل؛ فسنكتفي هنا بذكر أربعة نماذج عنها، وهي كلّها مما له علاقة بالإيمان، أو بآثاره.

1 - المغالطات المرتبطة بالجبر والاختيار في القرآن الكريم:

وهي من المغالطات التي يتعمّد المستشرقون عادة إثارتها لتشويه القرآن الكريم والحقائق العقديّة الإسلاميّة، ولهم في ذلك مسلكان:

أ. إما الطرح المباشر للشبهة عبر اختيار ما ينتقونه من الآيات الدّالة على علم الله الواسع وإرادته النّافذة في كلّ شيءٍ، والتي هي من مقتضيات الألوهيّة، ليصلوا من خلالها إلى أنّ القرآن الكريم ينفي الحريّة الإنسانيّة، ويقرّر عقيدة الجبر، بما تحمله من الظلم والجور والتكليف بما لا يطاق ومعاقبة من لا يستحق العقوبة.

ب. الطرح غير المباشر للشّبهة، وذلك بالجمع بين الآيات التي يعتمدها المنهج السّابق بالآيات الدّالة على الحريّة الإنسانيّة، وأنّ الله لا يعاقب أحدًا إلا بعد استحقاقه لذلك عبر الحريّة المتاحة له، ولكنّهم بدل أن يوفّقوا بين هذه الآيات جميعًا يدعون التّناقض بينها.

ص: 345

والأسلوب الثّاني هو الذي استعملته [كميلا آدنج] حين قالت: (وفقًا للقرآن يمكن تقسيم البشريّة إلى قسمين أساسيين، أولئك الذين يؤمنون وأولئك الذين لا يؤمنون. ولكن إلى أيّ مدى البشر أحرار بالاختيار بين الإيمان والكفر؟ في الوقت الذي تشير آيات عدّة في القرآن إلى أنّ النّاس يُعطَون الخيار لأن يختاروا ما إذا كانوا يريدون الإستجابة أم لا لدعوة رسول الله أو رسله، وعلى أنّه في التحليل النّهائي يعتمد مصير الشّخص في الحياة الآخرة على ذلك الشّخص حصرًا (ق 17: 15، 54؛ 18: 29؛ 20: 82؛ 27: 92؛ 34: 50؛ 39: 41) هناك عدد أكبر من الآيات التي تعطي الإنطباع أو لا تترك شكًّا بأنّ الله هو من يقرّر ضلال من يشاء وهداية من يشاء. بكلام آخر، إنّه هو من يقرّر قدر الإنسان (ق 6: 125؛ 7: 178، 186؛ 10: 96، 97، 99 13: 33؛ 28: 50؛ 39: 23، 36، 37: 23؛ 74: 31) هذا التّناقض الظّاهر سمح للجدل في العلوم الدينيّة في الإسلام لاحقًا حول قضيّة اللّاحتميّة (أي الإرادة الحرّة) أو القدريّة (القضاء والقدر) (1).

ثم تذكر - باختصارٍ مخلِّ - الكثير من المغالطات المرتبطة بموقف الفرق الإسلاميّة من الجبر والاختيار، والتي تجافي الحقيقة، ومقصدها منها ليس ذلك الخلاف الحاصل، وإنّما كون التّناقض الذي تزعمه للقرآن الكريم هو السبب في ذلك.

ثم تذكر أمثلة عمّا تتوهّمه جبرًا في القرآن الكريم، فتقول: (يصف القرآن الكافرين على أنّهم أناس في آذانهم وقر (ق 41: 15، 44؛ قارن 16: 108)، الذين أغلق الله على قلوبهم أكنّة وجعل في أسماعهم وقرًا (ق 45: 23؛ 63: 3) كما جعل بينهم وبينه حجاب (ق 6: 25؛ 17: 46؛ 18: 57؛ 41: 5). كما أن قلوبهم قد قست أو صدأت (ق 39: 22؛ 83: 14 وقارن 47: 24). فيقارن الكافرين بأناس صمٌ بكمٌ وعميٌ (ق 2 : 18 ، 171، 6: 39؛ 8: 22) وقد وضع الله أصفادًا على أعناقهم) (2).

وحتى تبدو موضوعيّة، تذكر الاختلاف في التّفسيرات التي فسّرت بها تلك الآيات

ص: 346


1- موسوعة القرآن ( ليدن)، ج 1، ص 224 .
2- م.ن.

التي أوردتها، فتقول : (ما إذا كان ينبغي أن يُنظر إلى هذا على أنّه السّبب أم إنّه النتيجة للكفر هو قضيّة خلاف بين المفسّرين حيث إنّ أجوبتهم تعتمد على توجّهاتهم الفقهيّة. انظر كذلك الحريّة والقدريّة) (1).

وكلّ ذلك غير صحيحٍ، فالمفسّرون -مهما اختلفت مدارسهم حتى الأشاعرة منهم - يتفّقون على أنّ كلّ ما حصل للمشركين من الطبع على القلوب ونحوها ليس سوى نتيجة للران والمعاصي والكبر الذي ملأ قلوبهم، وبذلك هم يعترفون بالحريّة الإنسانيّة، ولا يقولون بالجبر المطلق كما تزعم [كميلا آدنج].

فالفخر الرازي مثلًا -الذي استدلت به [کمیلا آدنج] على الجبر - يقول في تفسير قوله تعالى: ( فالمعنى ليس الأمر كما يقوله من أنّ ذلك أساطير الأولين، بل أفعالهم الماضية صارت سببًا لحصول الرين في قلوبهم) (2)، وبذلك يعترف بأنّ الرين ومثله الختم والطبع لم يكن ليحصل للمستكبرين المعاندين إلا بسبب استكبارهم وعنادهم.

ولذلك كان في إمكان [كميلا آدنج] أن تستنير بما قاله المفسّرون أو علماء الكلام الذين أوضحوا المراد من تلك النّصوص، وجمعوا بينها، لتحلّ التّناقض الذي توهّمته، لكنّها للأسف لم تفعل؛ لأنّ الغرض ليس فهم عقائد القضاء والقدر -كما وردت في القرآن الكريم - وإنّما إثارة الشّبه حولها.

وقد لا يكون ذلك هو الدّافع والسّبب -بناء على حسن الظن - وحينها يكون الدّافع هو تصوّراتها المرتبطة بالله تعالى، والتي تتبنّاها الدّيانات المحرّفة، ولذلك تجعل علم الله تعالى وإرادته وقدرته مثل علم البشر وإرادتهم وقدرتهم؛ وذلك ما يُعسر فهم ما ورد في القرآن الكريم من الجمع بين إرادة الله المطلقة، وإرادة البشر المحدودة، وعدم التّنافي بين الإرادتين.

ص: 347


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص224..
2- أبو عبد الله محمد بن عمر الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606ه_): مفاتيح الغيب (تفسير الرازي، التفسير الكبير)، ط 1، بیروت، لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401 ه_ / 1981م، ج31، ص88.

وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك التّصوّرات التي انحرفت بها الأديان في هذا الجانب في ذكره مقالة: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» (سورة المائدة، الآية 64) أي بخيلة، ثم رد عليهم بقوله تعالى: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» (سورة المائدة، الآية 64)، أي بل هو الواسع، الجزيل العطاء الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه.

ومن هذا المنطلق نرى الفرق بين الرّؤية القرآنيّة لصفات الله تعالى، والتي تتّسم بالتّنزيه والكمال المطلق، وبين الرّؤية التي تبنّتها الأديان نتيجة التّحريفات التي أصابت كتبها، ولهذا فإنّ القرآن الكريم يذكر أنّ يد الله مبسوطة، تتصرّف في الكون تصرّفًا لا تحدّه الحدود، بل لا يحدث في الكون شيء إلّا بعد إذن الله ومشيئته وإرادته.

على خلاف تلك الصّورة التي يصوّر بها الكتاب المقدّس الله تعالى، وكمثالٍ على ذلك ما ورد في سفر التكوين (1/6 - 8): (وحدث لما ابتدأ النّاس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أنّ ابناء الله رأوا بنات الناس أنهنّ حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا... فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسّف في قلبه فقال الرب امحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم).

ويذكر أنّه بعد أن محا الرب الحياة من على وجه الأرض بالطوفان - ما عدا نوح الذي كان من نسل (أبناء الله وبنات الله!) ولم يكن من نسل بنات الناس- ندم الرب مرة أخرى، (وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضًا أميت كل كما فعلت) (سفر التكوين: 20/8 - 22)

وحتى لا ينسى الله عهده مع نوح - كما يذكر الكتاب المقدس- وضع قوسه في السحاب، فعندما يرى المطر هاطلًا يضع قوس قزح، فيذكر أنه قد عقد عقدًا نوح ألا يُغرق الأرض فيكفّ المطر.

ص: 348

ونرى أنّ هذه الصّورة المرتبطة بالله وصفاته في الكتاب المقدّس هي التي تتحكّم في المواقف من القضاء والقدر عند المستشرقين وغيرهم من الذين لم تستطع عقولهم الجمع بين صفات الله المتّسمة بالكمال المطلق، وما أتيح للبشر من حريّة الاختيار والإرادة والقدرة، والتي لا تخرج عن إرادة الله ولا عن علمه وقدرته، أو كما عبّر عن ذلك الإمام علي علیه السّلام بقوله - لمن سأله عن القدر -: (إنّه أمرٌ بين أمرين لا جبر ولا تفويض)، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنّ فلانًا يقول بالاستطاعة وهو حاضر، فقال : (الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول واحدة منهما فترتد)، فقال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: (قل: أملكها بالله الذي أنشأ ملكتها) (1).

2 - المغالطات المرتبطة بالتّسامح في القرآن الكريم:

وقد ورد ذلك في نصوصٍ كثيرةٍ في المقالة، وربّما تكون هي النّتيجة الكبرى، أو الهدف الأكبر منها جميعًا، كما أشرنا إلى ذلك عند ذكر استعمال [کمیلا آدنج] للقراءة التّاريخيّة عند ذكرها للقيم القرآنيّة، وكيفية تطوّرها بحسب الظّروف التي يمرّ بها المسلمون.

وسنكتفي هنا بما ذكرته من الفهام المرتبطة بالموقف من المشركين، وجبرهم على الإسلام، أو قتلهم في حال عدم إسلامهم، فقد قالت: (إنّ التّسامح الذي كان ممنوحًا لأهل الكتاب لم يكن ممنوحًا للمشركين. بالنّسبة لهم كان الخيار بين الإسلام والموت؛ فالآية التي تقول: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» [سورة البقرة، الآية256] والتي في الأوقات الحاليّة غالبًا ما يدلى بها كحجّةٍ عن تسامح المسلمين تجاه الأديان الأخرى، يعتبر من قبل أكثريّة المفسّرين أنّه قد أبطل بمقولة السّيف «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة

ص: 349


1- العلامة المجلسي (ت 1110 ه_): بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار علیهم السّلام تحقيق: عدة من الأفاضل، لا ط، طهران، دار الكتب الإسلامية، ج 5، ص 57.

التوبة، الآية5] ومقاطع أخرى تدعو إلى شنّ حربٍ على المشركين «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهُ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» [سورة البقرة، الآية216]، وهناك مقطع آخر غالبًا ما يُعتبر برهانًا للتسامح وهو «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» [سورة الكافرون، الآية 6] حيث تفسّر كلمة دين إما على أنّها تعني دين أو على أنّها جزاءٌ لإيمان الشّخص، ومعظم المفسّرين يفسّرون هذه الآية على أنّها إيقافٌ جذريٌّ مع الوثنيين من قبل أولئك الذين قبلوا نبوّة محمد) (1).

وهذا النّصّ ممتلئٌ بالمغالطات والانتقائيّة؛ ذلك أنّه كان لصاحبة المقال أن تختار أحد أمرين:

أ. إمّا دراسة الآيات من خلال نصّها الوارد في القرآن الكريم بعد جمع كلّ ما يتعلّق بها، للوصول إلى معناها الحقيقي.

ب. أو استقراء ما كتب في التّفاسير والتّمييز بين الآراء المختلفة الواردة فيها، وهو يحتاج بحثًا أكثر تفصيلًا.

لكنّها لم تفعل كلا الأمرين، وإنّما عمدت إلى خدمة غايتها في إنكار التّسامح القرآني، باختيار بعض الآيات التي لم تضعها في سياقها الصّحيح، واختيار بعض التّفاسير التي رأت أنّها تخدم هدفها.

وبما أنّ أحسن من يعبّر عن أيّ مصدرٍ ويوضّح معانيه هو المصدر نفسه، فسنحاول الرّدّ على ما طرحته من خلال القرآن الكريم، والآية التي أوردتها، والتي يطلق عليها آية السيف، وهي قوله تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة التوبة، الآية 5]، وهي الآية التي ذكر المتشدّدون من المفسّرين أنّها نسخت كلّ آيات الرحمة والحكمة والإحسان في القرآن الكريم.

ص: 350


1- موسوعة القرآن (لندن)، ج1، ص223.

لكنّنا لو عدنا إلى الآية والسّياق الذي وردت فيه من بداية سورة التّوبة، فسنراها منسجمةً مع كلّ ما ورد في القرآن الكريم من الدّعوة إلى التّسامح مع الخلق جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، وأنّها لا تتناقض بأيّ حالٍ من الأحوال مع النّهي عن الإكراه في الدّين.

ذلك أنّها لا تتحدّث عن المشركين جميعًا، وفي كلّ العصور والبيئات، وإنّما تتحدّث عن نوعٍ خاصٍّ منهم، كانوا محاربين لرسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم، وأقيمت معهم العهود، لكنّهم نكثوها، مثلما يفعل المنافقون الذين يتربّصون الفرص، ويظاهرون على المؤمنين.

فسورة التّوبة التي وردت فيها تلك الآية الكريمة تبدأ بقوله تعالى: «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» [سورة التوبة، الآية الأولى]، وبذلك فإنّها تتحدّث عن نوعٍ خاصٍّ من المشركين، وليست من الآيات الني تسنّ قانونًا عامًا كقوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» [سورة البقرة الآية 190].

بالإضافة إلى هذا فإنّ السّياق الذي وردت فيه تدلّ على الأمر بإجارة المستجيرين من المشركين المحاربين حتى يسمعوا كلام الله، ثم يتمّ إيصالهم إلى مأمنهم، أي أن يصلوا إلى قومهم المشركين المحاربين، وهو ظاهرٌ في الدّلالة فيه على أنّه لا وجود للإكراه في الدين، وإنّما سبب القتال هو المحاربة والعداوة، وإلّا فكيف يُجار المشرك، ثم تتمّ حمايته إلى أن يبلغ مأمنه، فلو كان الكفر سبب القتال لما كانت هذه الإجارة والحماية.

وهذا المعنى هو الذي يتّسق مع كلّ ما ورد في القرآن الكريم من آياتٍ حول القتال، والذي لا يتناقض أبدًا مع التّسامح؛ ذلك أنّه لا يتوجّه إلّا للمعتدين؛ فلا توجد آية تدعو إلى القتال إلا ونجد بجانبها ما ينهى عن الاعتداء، أو يبيّن أنّ القتال خاصّ بالمعتدين (1).

ص: 351


1- للمزيد من التفصيل حول الآيات الواردة في القتال وتوجيهها انظر كتاب (حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية للشيخ حسن بن فرحان المالكي)

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصُ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» [سورة البقرة، الآيات 190 - 194].

فالآیات صريحةٌ بأنّه لا يجوز قتال المشرك لشركه، ولا الكافر لكفره، وإنّما يقاتل العداوته ومحاربته المسلمين، كما يُشرع قتال الكافر إذا اضطهد المسلمين وأراد فتنتهم عن دينهم.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» [سورة الأنفال، الآيات 38 - 40].

فهذه الآيات آيات سلامٍ لا حرب؛ فهي تأمر بقتال المشركين الذين يضطهدون من أسلم منهم ليردّوهم عن دينهم عن طريق الإكراه، والأحاديث والسّير متواترة في الدّلالة على هذا المعنى، وقد عبّرت عنهم بكونهم كفارا، ولم تعبّر عنهم بكونهم معتدين، كما عبّرت عن ذلك آيات أخرى، لتبيّن أنّ كفرهم وعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر هو السّبب في ذلك الطغيان والعدوان الذي يمارسونه على المستضعفين.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَاتٍ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَنْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِلانَا فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْحَابِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ

ص: 352

كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» [سورة الأنفال، الآيات 55 - 61].

فهذه الآيات الكريمة واضحةٌ في الدّلالة على أنّ الجهاد لا يشرع إلّا في حقّ أولئك المعتدين من الكفّار الذين ينقضون عهودهم، وليس بعد النّقض إلّا القتال، وما تواتر من السّيرة يدلّ على ذلك.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» [سورة الممتحنة، الآيات 1 - 3].

فهذه الآيات الكريمة ذكرت الأسباب الموجبة لقتال الكفار، وهي محاربة من أراد إخراج الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والمسلمين من ديارهم، ومن استعدادهم لقتال المسلمين إذا ثقفوهم في أيّ مكان، فهم أعداء صرحاء، ومحاربون أصليون، وقتالهم ليس من باب القتال على الدين والعقيدة، وإنّما لمحاربتهم.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَيكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» [سورة الممتحنة، الآيتان 8، 9].

ص: 353

فهذه الآيات من أصرح الآيات التي تذكر أسباب مشروعيّة الجهاد، وأنّه فقط في حقّ الذين يقاتلون المسلمين على دينهم ليردّوهم عنه، ويخرجونهم من ديارهم، أو في حقّ الذين يظاهرون المشركين ويساعدونهم على هذه الأمور.. بل الآيات تأمر بالبرّ والإحسان للمشركين والكفّار الذين لم يظاهروا عليهم عدوًا ولم يحاربوهم ولم يخرجوهم من ديارهم.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: «فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا» [سورة النساء، الآيتان 74-75].

فهذه الآيات واضحةٌ في الدّلالة على أنّ من أسباب تشريع الجهاد محاربة الاضطهاد الديني؛ فكفار قريش أو غيرهم إذا اضطهدوا المسلمين دينيًّا، فالواجب نصرة المستضعفين الذين يجدون أقسى أنواع العذاب لأنّهم اختاروا الإيمان بالإسلام دينًا.

بالإضافة إلى أنّ هناك آياتٍ قرآنيّةً أخرى تُبيّن أنّ الجهاد يجب أن يكون ضدّ كلّ مضطهدٍ حتى الذين يضطهدون اليهود والنصارى، كما قال تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقَّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» [سورة الحج الحج، الآية40].

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا» [سورة الفتح، الآية 16].

فهذه الآية لا تحمل أي دلالةٍ على مشروعيّة الإكراه الدّينيّ، ومبادأة الآخرين بالقتال لإدخالهم في الإسلام، ذلك أنّ المراد بالإسلام هنا - كما هو معهود في اللغة العربية - (الإنقياد).. أي: أو ينقادون.

ص: 354

وهذه الآية تشبه الآية التي تتحدّث عن الأعراب «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِثْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة الحجرات، الآية 14]، :أي استسلمنا وانقدنا إلى نظام الدولة العادلة، فإنّ الإيمان يعني القناعة الدّاخلية، أمّا الإسلام فكلّ من دخل تحت نظام الدّولة العادلة، والتزم نظامها فيدخل في مسمّى الإسلام بالمعنى العام الذي هو (الانقياد)

3 - المغالطات المرتبطة بالجهاد في سبيل الله:

وهي من المغالطات التي يتعمّد المستشرقون إثارتها في كلّ مناسبة، ولو لم يستدع الموضوع الحديث عنها، مثلما فعلت [كميلا آدنج] هنا عندما أقحمت موضوع الجهاد عند حديثها عن الإيمان والكفر.

وقد استعملت منهجها في القراءة التّاريخيّة للقرآن الكريم لتلك الآيات التي تأمر بالجهاد، مدّعيةً أنّها تتناقض مع السماحة التي دعا إليها في مكة المكرّمة، وقد قالت في ذلك: (الآيات المسرودة حتى الآن تقترح تبنّي موقفًا هامدًا تجاه الكافرين، ولكن آيات أخرى يمكن أن تُواجه في أيّ بحث حول الجهاد.. تأكيدًا على أنّ واجب المؤمنين بذل جهدٍ في سبيل الله في خضم صراعهم في مواجهة الكفر أو أن يفرضون القتال ضد الكافرين.. ولكن في ظروف معيّنة، يمكن مسالمتهم) (1).

ثم علّقت على ذلك بقولها: (وذلك ليس بالمستغرب؛ فجميع هذه الآيات هي من الفترة المدينيّة عندما كان محمد في موقع القوّة ولم يعد الواعظ المضطهد الذي كان في مكة سابقًا) (2).

وهي تردّد نفس ما يردّده غيرها من المستشرقين، مثل المستشرق بلاشر الفرنسي الذي قسّم السّور القرآنيّة إلى أربعة أقسام: ثلاث مراحل في مكّة، والمرحلة الرابعة

ص: 355


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص223.
2- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص223.

كلّها في المدينة، ثم قال عن المرحلة المدنية: (واختلف دور محمد في هذه المرحلة بحيث لم يعد ذلك النّبيّ الذي اصطفاه الله لنشر رسالته في الصحراء، ولكنّه أصبح رئيسًا لجماعة دينيّةٍ فرضت عليها الظّروف المحيطة بها أن تتميّز في مظهرها وسلوكها وعبادتها. هذه الجماعة التي عليها مواجهة ليس المشركين فحسب، ولكن ثلاث قبائل يهوديّة منظمة تنظيمًا دقيقًا في المدينة، وخلقت لنبيّها العديد من المشاكل الدّينيّة والدّنيويّة على حدٍّ سواء. كما أنّ علاقة هذه الجماعة مع مشركي مكة لم تلبث أن تحوّلت إلى نزاعٍ مسلّحٍ كان النّصر فيه حليفها أوّلاً، ثمّ كانت الهزيمة من نصيبها في معركة أحد، ثم توالت الحروب سجالاً إلى أنّ انتهت إلى غايتها، وهي عودة النبي إلى مسقط رأسه فاتحًا مكلّلاً بالغار) (1).

ختمت وصفها للسّور المدنيّة بقولها : (كانت العلاقة بين الجماعة الإسلاميّة النّاشئة وبين نصارى الجزيرة العربيّة جيّدة في بدايتها، ولم تسجّل الفترة الأولى من هذه المرحلة أيّ عداءٍ بينهما، بالرّغم من إنكار القرآن لألوهيّة المسيح، وعبادة التثليث، ولكن تغيّر الأمر عندما اصطدمت هذه الجماعة بالإمبراطورية البيزنطيّة، وخاصّة بعد واقعة (مؤتة)، واندلع بينهما ذلك النّزاع المسلّح الذي انتهى هو الآخر إلى غايته بعد حين) (2).

ومثلها المستشرق شير لامانس، الذي لم يكتفِ بذكر التّطور في المواقف، وإنّما راح يشير إلى ما لم يذكره بلغاء العرب في جميع فترات التّاريخ من التّفاوت بين السّور المكّيّة والمدنيّة من حيث الفصاحة والبلاغة، حيث قال: (إنّه من السّهل التّعرف إلى السّور المدنيّة وتمييزها عن السّور المكّيّة في عهديها، سواء من حيث الشّكل أو الموضوع، فمن حيث الشّكل أصبح أُسلوبها يقترب إلى النّثر العادي، كما أنّ النّغم قد تغيّر عمّا كان عليه بمكّة، فأصبح أكثر ثقةً وأكثر تناسقًا، كما أصبحت مجادلة الكفّار نادرةً، إلاّ أنّ الهجوم قد انصبّ في هذه الفترة على اليهود والمنافقين والذين

ص: 356


1- الحاج، ساسي سالم: نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، ط1، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2002م، ج 1، ص 350.
2- الحاج، ساسي سالم، نقد الخطاب الاستشراقي، م.س، ج 1، ص 350.

في قلوبهم مرض، كما أصبحت الخطب والأوامر العسكريّة تحتلّ مكانًا بارزاً) [1]

وقال: (إنّ القرآن الكريم بقسميه المكّيّ والمدنيّ تأثّر في المواقف الحربيّة مع الأمم الأخرى، وخاصّة اليهود والنّصارى والوثنيين، مما جعله أكثر تطوّرًا حتى بالنّسبة لألفاظه ومفاهيمه ونصوصه) [2].

وقد كان الأساس لكلّ هذه المواقف موقف [جولد سيهر] في كتابه (العقيدة والشّريعة في الإسلام) الذي قال فيه: (في بدء رسالته كانت تأمّلات محمد تأخذ طريقها إلى الخارج في شكل أمثالٍ مضروبةٍ للحياة الأخرى، فكانت تفرض نفسها على مخيّلته بقوّة تزداد يومًا بعد يوم. وهذه التّأمّلات هي التي كوّنت الفكرة الأساسيّة التي بنى عليها تبشيره، ولكن إذا كان محمد في حالته الجديدة قد استمرّ في الشعور برسالته وبوجوب تأديتها، فإنّ تبشيره قد اتّخذ إلى جانب هذا اتّجاها جديدًا، فلم يصبح حديثه حديثَ من استولت عليه الرّؤى المشبعة بالدّار الآخرة وما يكون فيها، بل إنّ تلك الحالة الجديدة جعلت منه أيضًا مجاهدًا غازيًا، ورجل دولةٍ، ومنظّم جماعاتٍ جديدةٍ أصبحت تتّسع وتنمو شيئًا فشيئًا) (3).

وكلّ هذه المواقف ناتجةٌ عن عدم القراءة الجادّة والموضوعيّة والحياديّة للقرآن الكريم، والذي ورد فيه تمجيد الجهاد في الفترة المكّيّة قبل الفترة المدنيّة؛ فقد قال الله تعالى في سورة المزمل وهي من أوائل السّور المكّيّة يذكر فضل الجهاد في سبيل الله: «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَهُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة المزمل، الآية 20].

بالإضافة إلى أنّ تلك المفاهيم التي يحملها هؤلاء المستشرقون عن الجهاد قد

[1] الحاج، ساسي سالم، نقد الخطاب الاستشراقي، م.س، ج 1، ص 349..

[2] ،عنایت، غازي: شبهات حول القرآن وتفنيدها، لا ط، بیروت، دار ومكتبة الهلال، 1421ق/ 2000م، ص107.

.[3]. أغناطوس جولدزيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، ترجمة: محمد يوسف موسى وعلي حسن عبد القادر وعبد العزيز عبد الحق، ط2، دار الكتب الحديثة بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، ص 14.

ص: 357

تتناسب مع النّزعة الاستعماريّة الغربيّة، ولكنّه لا يتناسب أبدًا مع ما طرحه القرآن الكريم حوله وحول دوافعه.

فالقرآن الكريم يذكر أنّ دوافع الإذن بالجهاد في سبيل الله، هو ذلك الظّلم الكبير الذي حصل للمسلمين نتيجة تكالب جميع المعتدين عليهم، ولهذا فإنّ غاية الجهاد ليست سوى مقاومة الظّلمة والمستكبرين الذين يريدون استئصال

المؤمنين والمستضعفين، كما قال تعالى: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزُ» (سورة الحج، الآيتان 39 و 40).

فهاتان الآيتان الكريمتان لا تبرّران فقط حقّ المؤمنين في الجهاد لمواجهة الظلمة، والدّفاع عن النّفس، وإنّما تبينان مشروعيّة المقاومة في كلّ الأديان، وهو ما يدلّ عليه الكتاب المقدّس نفسه، والذي يمتلئ بالدّعوة للمواجهة المسلّحة مع الذين يحاربون اليهود.

بل إنّ الله تعالى يأمر بالجهاد، ليس لحماية المسلمين المستضعفين فقط، وإنّما لحماية غيرهم أيضًا، كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» (سورة النساء، الآية 75).

أمّا سبب ورود الجهاد وأحكامه بالتفصيل في السّور المدنيّة خلافًا للسّور المكّيّة؛ فشيءٌ طبيعيٌّ؛ ذلك أنّ القرآن الكريم يتنزّل لتوجيه المؤمنين، وفي الظروف المختلفة، حتى يتسنّى لهم تطبيق شريعة الله فى الأحوال كلّها.

ولذلك كان الموقف القرآني من المعتدين في حال الاستضعاف هو الصّبر وعدم المواجهة، لكنّه في حال حصول القوّة، وتمكّن المؤمنين؛ فإنّ عليهم أن يقاوموا الظّلم

ص: 358

المسلّط عليهم، وهو ما تعتقده جميع العقول، ويفعله جميع البشر، ولذلك دعا القرآن الكريم إلى الإعداد، لا للاستعمار والتّوسّع ، وإنّما لحماية النّفس والمؤمنين من هجمات الظّالمين، كما قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» [سورة الأنفال، الآية 60].

بل إنّه ذكر العدد الذي يمكنه أن يواجه المستكبرين، ويقاومهم، فقال: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفُ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» [سورة الأنفال، الآيتان 65، 66].

وبذلك كان الموقف الطبيعيّ في مكّة المكرّمة، والتي كان المسلمون فيها قلّةً محدودةً مستضعفةً أن يؤمروا بالصّبر، وعدم المواجهة؛ لأنّهم إن فعلوا ذلك، فسيلقون مواجهةً كبيرةً تستأصلهم، لكنّهم عندما تمكّنوا في المدينة، وكانت لهم قوّة وشوكة أذن لهم في القتال دفاعًا عن أنفسهم، وبذلك فإنّ الآيات المرتبطة بالجهاد متناسقةً فيما بينها لا يعارض بعضها بعضًا.

4 - المغالطات المرتبطة بالولاء والبراء:

وهي من المغالطات التي تعمّدت [كميلا آدنج] ذكرها والتّفصيل فيها بطريقةٍ تُوحي بأنّ الإسلام دينٌ عنصريٌّ، يقف موقفًا سلبيًّا من الآخر المخالف له، وهي بذلك تطبّق المفهوم الخاطئ ل_ [الولاء والبراء]، لا كما ورد في القرآن الكريم، وإنّما كما تطبّقه الجماعات التكفيريّة.

وقد قالت في تقريرها لهذه المغالطة: (آياتٌ مختلفةٌ في القرآن تتحدّث عن موقفٍ ليتبنّاه المؤمنون تجاه الكفّار محذّرين إيَّاهم من العلاقات الوثيقة مع الآخرين الذين ليسوا في مقامهم. فأيّ من يرتبط بهم هو واحد منهم.. فالذين كفروا هم أولياء بعضهم لبعض .. أما الجلوس مع من يهزأ من القرآن فهو محرّم.. كما أنّ

ص: 359

النّفقات من الكفّار الذين يستهزئون لا تُقبل.. وكذلك الصلاة عليهم والإقامة على قبورهم ممنوعة.. بعض الآيات تمنع بوضوح إقامة العلاقات مع العرب الوثنيين حتى لو كانوا من أقارب المرء الخاصين. إنّ سبب النّزول (انظر إلى مناسبة النّزول) ليس واضحًا في كلّ حالة من الحالات، وليس هو واضح أيّ صنفٍ من الكفّار الذين تتمّ الإشارة إليهم: هل هم الوثنيون، أم أهل الكتاب أم المنافقين. ليس بالمستغرب إذًا أن يقدّم أدب التّفسير حلولًا مختلفةً عديدةً. فالكفّار في (ق 3: 28) على سبيل المثال يُعرّفون مرّة كيهود ومرّة أخرى كوثنيي مكّة (إبن الجوزي، الزاد، 1، 371) (1).

ولم تكتفِ بذلك، بل راحت إلى الآيات التي تصف تلك المواقف العدائيّة من المشركين مقابل المواقف السّلميّة من المؤمنين لتستثمرها لخدمة هذا الغرض، فقالت: (الكافرون سوف يضحكون ويتغامزون على المؤمنين.. وسوف يحاولون إفسادهم.. لذا ينبغي على المؤمن أن يتجاهلهم ولا يُعِر لغوهم انتباهًا. وفي حالات الخوف حصرًا على حياة المؤمن يمكن المخالطة مع الكافرين.. في هذا السياق، يجري استعمال تعبير [تقية]) (2).

وسنجيب على ما طرحته من خلال النّقاط التّالية:

1. لو أنّ [كميلا آدنج] استعملت القراءة التّاريخيّة للقرآن الكريم التي تعوّدت استعمالها، ثمّ راحت تطبّقها على تلك الآيات الكريمة التي استعرضتها، لفهمت المراد منها بسهولةٍ تامّةٍ، ذلك أنّ تلك الآيات الكريمة تدعو إلى استبدال العلاقات المبنيّة على أسسٍ جاهليّةٍ، بالعلاقات المبنيّة على أسس الإيمان.

فالعلاقات الجاهليّة كانت مبنيّةً على القبيلة، ولذلك كان الولاء والبراء على أساسها؛ كما عبّر عن ذلك شاعرهم بقوله:

وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إِن غوَتْ... غويتُ وإن ترشُد غزيةُ أرشدِ

ص: 360


1- موسوعة القرآن (لیدن)، ج1، ص223.
2- م.ن.

بل كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقال: «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» [سورة الزخرف، الآية 23].

وقد كان لهذا النّوع من العلاقة آثاره السّلبيّة في الحياة الجاهليّة، حيث ملأها بالصّراع والحروب والعنصريّة، فلمّا جاء الإسلام أزال ذلك جميعًا، ودعا إلى الأخوّة بين جميع المؤمنين مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم وأوطانهم، كما قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» [سورة الحجرات، الآية 10]، وقال: «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ» [سورة التوبة، الآية11].

ولهذا استطاع رسول الله له صلّی الله علیه و آله و سلّم عندما دخل المدينة المنوّرة، أن يوقف تلك الحروب التي كانت تحدث كلّ حين بين الأوس والخزرج، والتي امتدّت قرابة 120 سنة بدأت بيوم سمير، وانتهت بيوم بعاث قبل الهجرة النّبويّة بخمس سنوات (1).

2. إن علاقة [الولاء والبراء] بالكفر ليس كما فهمتها [كميلا آدنج] وغيرها من المستشرقين، ذلك أنّ الكفر في القرآن الكريم قد يُراد به الاعتقاد، وقد يُراد به الاعتداء، وذلك ما يدلّ عليه قوله تعالى في الآية الكريمة التي تضع قانون التّعامل مع المخالف في الدين أيًّا كان كتابيًّا أو غير كتابيّ: «وَلَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» [سورة الممتحنة، الآية 8].

فالآية الكريمة من سورة الممتحنة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، تدعو إلى البرّ والقسط بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان المختلفة، بل حتى مع الملحدين لأنّ القيد فيها مرتبطٌ بالمحاربة، ولا علاقة له بالدّين، وهي بذلك تقسّم النّاس إلى معتدين ومسالمين، كما تقسّمهم آيات أخرى إلى مستضعفين ومستكبرين.

ص: 361


1- الشامي، محمد بن يوسف الصالحي (المتوفى: 942ه_): سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1414 ه_ - 1993م، ج3، ص192.

وبذلك؛ فإنّ كلّ آيات الولاء والبراء التي استندت إليها [كميلا آدنج] تفسّر على هذا الأساس؛ فالمقصود منها - كما توضّح الآية الكريمة - هي النّهي عن موالاة المعتدين الذين يقاتلون المؤمنين بسبب دينهم، ويخرجوهم من ديارهم.

ولذلك يرد في القرآن الكريم ربط الكفر بالاعتداء، ليبيّن أنّه هو سبب الاعتداء والدّافع له، فالمؤمن إنسانٌ مسالٌم، كما ورد في الحديث أن رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن: من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) (1).

وقال الإمام علي علیه السّلام في عهده لمالك الأشتر لمّا ولاه مصر: (وأشعر قلبك الرحمة للرّعيّة والمحبّة لهم واللّطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) (2).

3 - إنّ القرآن الكريم مليءٌ بالآيات التي تتحدّث عن تلك المشاعر الطيّبة التي يحملها رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم لغير المؤمنين، والتي تجعله حزينًا عليهم بسبب إعراضهم، حتى نهاه الله تعالى عن ذلك، قال تعالى: «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ» [سورة فاطر، الآية8]، وقال: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» [سورة المائدة، الآية 68].

بل إنّ القرآن الكريم شبّه حال رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم وحزنه عليهم بحال الذي يهلك نفسه من الأسف، فقال: «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» [سورة الشعراء، الآية3] وقال: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» [سورة الكهف، الآية 6].

بل إنّه ذكر أن حرصه الشّديد عليهم، بلغ إلى درجة ودّ فيها لو يجابون لكلّ آية يطلبونها، حتى لو كانوا متعنّتين في طلبهم، فقال: «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ

ص: 362


1- أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سَورة بن موسى بن الضحاك، الترمذي (المتوفى: 279ه_): الجامع الكبير - سنن الترمذي، المحقق: بشار عواد معروف، لا ط، بیروت، دار الغرب الإسلامي، 1998، رقم 2629.
2- الشريف الرضي: نهج البلاغة للامام علي بن أبي طالب علیهم السّلام، شرح: الاستاذ محمد عبده، لا ط، بیروت، دار المعرفة للطباعة، ص 53.

فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِي نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ» [سورة الأنعام، الآية 35].

وقد علّق الزمخشريّ على الآية بقوله : (والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنّه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يودّ أن يجابوا إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالة على أنّه بلغ من حرصه أنّه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون) (1).

4- إنّ ما ورد من النّهي عن مجاراتهم في السّبّ ونحوه، أو الإعراض عنهم تدلّ على أنّ مفهوم الولاء والبراء ليس كما فهمته [كميلا آدنج]، بل هي تدلّ على أنّ الكفّار يمكن أن يعيشوا مع المؤمنين بصفةٍ طبيعيّةٍ، وأن تكون العلاقات بينهم وبين المؤمنين علاقاتٍ مبنيّةً على التّعايش السّلمي، إلّا إذا تحوّلوا إلى السّبّ والجهل؛ فحينها لم يؤمر المؤمنون بقتالهم، وإنّما بالإعراض عنهم.

وكان في إمكان [كميلا آدنج] أن تستنتج من هذه الآيات أنّه في حال عدم وقوع الكفّار في تلك المخالفات، واحترامهم للمؤمنين أن يعاملهم المؤمنون بنفس المعاملة المبنيّة على البرّ والمودّة وتأليف القلوب، لكنّها نتيجة تصوّراتها الخاطئة المرتبطة بالولاء والبراء، اعتبرت الدّعوة إلى الإعراض عنهم دعوةً للمفاصلة لا للتعايش السلمي.

5 - إنّ [كميلا آدنج] غفلت عن ذكر تلك الآيات الكريمة التي تدعو إلى تأليف القلوب وإقامة حوار بين المؤمنين وغيرهم، وهي آياتٌ كثيرةٌ جدًّا، منها قوله تعالى: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَابِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [سورة الحجرات، الآية13].

ص: 363


1- الزمخشري، الكشاف، م.س، ج 2، ص19.

و هي الآية التي تُبيّن أنّ أساس العلاقات بين الخلق هي التّعارف، لا العداوة أو الصراع، مع العلم أنّ هذه السّورة مدنيّة، وهي تخالف بذلك تلك الأوهام التي يتصوّرها المستشرقون حول السّور المدنيّة.

ومنها قوله تعالى في سورة العنكبوت المكية: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» [سورة العنكبوت، الآية46]، وقوله في نفس المعنى في سورة آل عمران المدنية: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» [سورة آل عمران، الآية 64].

تير

بل إنّ القرآن الكريم دعا إلى إعطاء غير المسلمين نصيبًا من الزّكاة - في حال الحاجة إليها - لتأليف قلوبهم، وبثّ قيم المودّة بينهم وبين المؤمنين، قال تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» [سورة

التوبة، الآية 60].

ومثل هذا لا يوجد في أيّ دينٍ من الأديان، ولا في أيّ كتابٍ مقدّسٍ، بل لا يوجد حتى في القوانين الوضعيّة الحاليّة، ولأكثر الدول ديمقراطيّة وسماحة.

6 - إنّ نهي المسلمين عن الصّلاة على المنافقين وغيرهم من الشّعائر التّعبديّة، والتي يوجد مثلها في كلّ الأديان، بالإضافة إلى أنّ الكافر والمنافق لا يؤمن بصلاة المسلمين أصلاً، وهو يذكر عدم حاجته لدعائهم؛ فلذلك لا معنى لصلاتهم عليه.

وهذا لا يُطبّق في الأديان فقط، بل في كلّ المحال والمؤسّسات، ذلك أنّ الصلاة على الميّت هي نوع من التكريم الخاص به، والتّكريم في الواقع لا يتمّ إلّا من الجهة التي ينتمي إليها من يراد تكريمه، فالأستاذ في الجامعة لا يكرّم إلّا من الجامعة التي ينتمى إليها، وهكذا كلّ جهةٍ تكرّم من ينتسب لها دون غيرهم.

ص: 364

الخاتمة:

من خلال هذا العرض لما ورد في مقالة [كميلا آدنج] والانتقادات الموجّهة لها نخرج بالنّتائج التالية:

- إنّ مقالة [كميلا آدنج] حول الإيمان والكفر مع محدوديّة عدد صفحاتها إلّا أنّها حوت الكثير من المغالطات والشّبهات التي تعوّد المستشرقون إثارتها بطرقٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ.

- إنّ [كميلا آدنج] حاولت - عبر استعمالها للقراءة التّاريخيّة للقرآن الكريم - أن توهم القارئ بوجود تناقضٍ بين القرآن المكّيّ والقرآن المدنيّ، واعتبار الأوّل أكثر سماحةً، والثّاني أكثر عنفًا، وهو خلاف الواقع؛ فتقرير الجهاد في المدينة لحماية المستضعفين ليس مخالفًا للسماحة، بل هو ركنٌ من أركانها.

- إنّ [كميلا آدنج] طرحت الكثير من القضايا الفرعيّة التي لا علاقة لها بموضوع المقالة، مثل تعدّد زوجات رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم، أو عدم وجود معجزات حسّيّة له، وكلّ ذلك مخالفٌ للمنهج العلميّ في طرح القضايا في محالها المناسبة لها.

- إنّ [كميلا آدنج] أوهمت القارئ أنّه يعود للمصادر الإسلاميّة، مع أنّ عودته لها محدودة جدًّا، وانتقائيّة، بالإضافة إلى أنّها تفهم من النّصوص خلاف ما يرد فيها.

- إنّ هذه المقالة مثل أكثر المقالات الاستشراقيّة تفتقر للموضوعيّة العلميّة إمّا بسبب رجوع المستشرقين لبعضهم بعضًا، بدل العودة إلى المصادر الإسلاميّة، أو نتيجة الأهداف المبيّتة، والتي تخالف الموضوعيّة العلميّة.

- بناء على النتائج المطروحة نرى ضرورة الاهتمام بما يطرحه المستشرقون والرّدّ التّفصيليّ عليه وخاصّة ما ارتبط بالموسوعات ودوائر المعارف، والتي كثيرًا ما إليها الباحثون عادة باعتبارها أكثر علميّةً.

ص: 365

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. أصول الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط السادسة عام 1375 ه_ ش .

2. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، علیهم السّلام، العلامة المجلسي (ت 1110ه_)، تحقيق عدة من الأفاضل، دار الكتب الإسلامية، طهران.

3. تاريخ القرآن، نولدکه، تيودور، ترجمة، جورج تامر، منشورات الجمل: ألمانيا - بغداد، 2008م.

4. تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774ه_)، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420ه_ - 1999 م.

5. الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم وسننه وأيامه صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422ه_.

6. الجامع الكبير - سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279ه_)، المحقق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، 1998.

7. حياة محمد، در منغم، امیل، ترجمة، عادل زعيتر، ط2، دار إحياء الكتاب العربي، مصر، 1949م.

8. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدین محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، المحقق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1415ه_.

ص: 366

9. سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفى: 942ه_)، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1414ه_ - 1993 م.

10. شبهات حول القرآن وتفنيدها، غازي عنایت، بیروت، دار و مكتبة الهلال، 1421ق - 2000م.

11. العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، أغناطوس جولد تسيهر، ترجمة: محمد يوسف موسى وعلي حسن عبد القادر وعبد العزيز عبد الحق، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى ببغداد، ط2.

12. العقيدة والشريعة في الإسلام، جولدتسيهر، إجناس، ترجمة، تحقيق: مجموعة مترجمين. دار الرائد العربي.

13. العلمانيون والقرآن - تاريخية النص، إدريس الطعان، 1،2008، دار ابن حزم.

14. فتاوى السبكي، أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (المتوفى: 756ه_)، دار المعارف.

15. فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ضمن القصور العوالي) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى : 505ه_)، دار المعرفة - بيروت.

16. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويلن أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.

17. المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483ه_)، دار المعرفة - بيروت، 1414ه_ - 1993م.

18. مفاتيح الغيب (تفسير الرازي، التفسير الكبير)، أبو عبد الله محمد بن عمر الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606ه_)، بيروت، لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1401ه_ / 1981م.

ص: 367

19. المنهاج شرح صحیح مسلم بن حجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676ه_)، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان سنة 1407ه_ - 1987م.

20. موسوعة القرآن (ليدن)

21. النص والسلطة والحقيقة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط 4(2000)

22. نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، ساسي سالم الحاج، بيروت، دار المدار الإسلامي، ط1.

23. نهج البلاغة، الامام علي بن ابي طالب علیه السّلام، جمع الشريف الرضي، شرح الاستاذ محمد عبده، دار المعرفة للطباعة.

24. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (آل البيت - نشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم المشرفة سنة 1414ه_) و (الإسلامية - نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان سنة 1403ه_ - 1983م).

ص: 368

الإنجيل في القرآن

اشارة

الشيخ د. حاتم إسماعيل (1)

مقدمة

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

يُعالج هذا البحث بالدّراسة والنّقد مقالًا عن الإنجيل ونظرة القرآن الكريم إليه، وضعه الباحث سيدني ه_. غريفيث في دائرة المعارف القرآنيّة، التي وضعها عددٌ من المستشرقين، زعموا فيها البحث الموضوعيّ حول مدى مصداقيّة القرآن الكريم، كما تناول البحث فيها عددٌ من الكتّاب المسلمين، وقد لوحظ أنّ هذه المقالة مليئةٌ بالمغالطات، وبعيدةٌ عن الموضوعيّة والبحث العلميّ الرّصين والهادف للوصول إلى الحقيقة، رغم كونها بحثًا مختصرًا ومكثّفًا، فعزم هذا البحث على الكشف عن هذه المغالطات المقصودة وغير المقصودة فيه، فكان بيانًا للحقيقة وانتصارًا للدّين الحنيف.

مدخل

اشارة

لم يتوقّف البحث عند الغربيين جدّيًّا عن إيجاد خللٍ في البنية الفكريّة والاجتماعيّة في الإسلام لأجل إبطاله وتزييفه، تارةً بالحديث عن الخطأ في عقائده وأسسه الفكريّة، وأخرى من خلال ادّعاء الموضوعيّة والبحث العلميّ الهادئ والهادف، بدعوى الوصول إلى الحقيقة، ولكنّه يستبطن محاولة إسقاطه والقضاء عليه، في نفوس المسلمين قبل غيرهم. وقد بدأت هذه الحملات الفكريّة والعلميّة المزعومة، بعدما فشل الأوّلون في القضاء عليه بالقوّة والبطش، مع الحركات

ص: 369


1- أستاذ جامعي وحوزوي، محقّق وباحث في تاريخ الأديان، لبنان.

التّبشيريّة المسيحيّة مع الحروب الصّليبيّة التي أرادت غزو بلاد المسلمين تحت شعار «تحرير الأراضي المقدّسة» من المسلمين، بكلّ عنفٍ وشدّةٍ، وعبر التّضليل الفكريّ، تارة بالمجازر والقتل في المسلمين، وأخرى بمحاولة نشر المسيحيّة بينهم.

ولمّا تبيّن للغرب عدم جدوى هذا النّوع من الحرب في ثني المسلمين عن التّمسّك بدينهم، والذود عنه بكلّ ما أوتوا من قوّةٍ وبأسٍ، بدأت مرحلةٌ جديدةٌ من الحرب على الإسلام، من خلال حركة الاستشراق، التي بدأت في حدود القرن الحادي عشر الميلادي، وبلغت الذّروة في القرن الثّامن عشر، حيث نشطت البعثات الاستشراقيّة تتوافد إلى الشّرق، ودراسة المفاهيم والعقائد الإسلاميّة، وشدّة تأثيرها في نفوس المسلمين. وقد استعانوا لذلك بسرقة المخطوطات العلميّة والدّينيّة ونقلها إلى متاحف الغرب ومكتباته العامّة، إضافة إلى نهب كلّ ما يرتبط بهذه المنطقة، من تراثٍ وأثرياتٍ، ربّما تنفعهم في تحصيل الغاية التي رجوها من سيطرةٍ وغلبةٍ على المسلمين.

ولما فشلت الأساليب القديمة والتّقليديّة في إيصالهم إلى هذه الغاية والهدف عمدوا إلى محاولة تزييف الإسلام، وهدم أركانه، وأهمّها إسقاط القداسة عن القرآن الكريم، وإسقاط شخصيّة الرّسول الأعظم صلّی الله علیه و آله و سلّم في نفوس المسلمين، من خلال إثارة بعض المرويّات التي وردت في كتب الحديث، وأغلبها من الإسرائيليات، والتحاليل يقرّها العقل الحديث، ولا تنسجم مع الفطرة الإنسانيّة، ويمقتها الوجدان الحديث والمعاصر.

وقد شُكّلت لجانٌ وهيئاتٌ من المفكّرين والباحثين الغربيين لتنفيذ هذه المهمّة، وبدؤوا بالدّراسات الإسلاميّة في المجالات كافّة، وكان من جملة هذه الأبحاث والدّراسات - العلميّة الموضوعيّة - بزعمهم، ما يسمّى بدائرة المعارف القرآنيّة. إلّا أنّ ذلك لا يعني خلوّها من بعض الدّراسات الموضوعيّة، والتي تكتسب أهمّيّةً في مجال البحث العلمي.

ص: 370

الإنجیل:

من جملة هذه الأبحاث المنشورة بحث «الإنجيل»، الذي كتبه «سيدني ه_. غرنفيث» الذي حاول فيه تخطئة القرآن الكريم، وإثبات زيف المعلومات الواردة فيه استنادًا إلى الأناجيل الأربعة والاعتقادات التي يؤمن بها المسيحيون وأهل الكتاب عمومًا، تحت عنوان ما يُسمّى البحث العلميّ والموضوعيّ الهادف إلى كشف الحقائق، والوصول إلى النتائج السّليمة التي ينبغي قبولها، والرّكون إليها. إلّا أنّ الحقيقة التي تبرز من طيّات هذا البحث «الإنجيل» رغم كونها تزعم الموضوعيّة، والبحث المجرّد، تظهر بما لا يدع مجال للشّكّ أنّها تنطلق من خلفيّاتٍ دينيّةٍ، ومسلّماتٍ عقائديّةٍ عند الكاتب، ولا تقارب البحث الموضوعي الذي غلّفت به واستترت وراءه.

شروط البحث العلمي:

اشارة

إنّ من أهمّ شروط البحث العلميّ، التَّجرّد من الخلفيّات والمسلّمات المسبقة، والدّراسة الموضوعيّة بمعنى دراسة الموضوع محلّ البحث من حيث هو موضوع بمعزلٍ عن الذّاتيات وتحميله الأفكار المسبقة، والإنصاف في الحكم، خصوصًا في الأمور العقائديّة والقوانين والمسائل الاعتباريّة التي ترتبط بحياة الإنسان في عاجله وآجله، وكلّ ذلك موقوف على سلامة الذّهن ليصحّ الاستنتاج السّليم. وهذه الشّروط وإن كانت صعبة التّحقّق عند البعض، إلّا أنّ ذلك ليس بمستحيلٍ، إذا حاول أن يدرس الظّاهرة بإنصافٍ وحاول التّجرّد من هذه الخلفيّات.

وبعبارةٍ أخرى: يدرس الظّاهرة بما هي ظاهرة، أي ينظر إليها بما موضوعٌ خارجيٌّ بالنّسبة إليه، ويُحلّلها استنادًا إلى الأصول العقليّة التي شكّلت شخصيّته وجبلت عليها طينته، التي يتفق عليها العقلاء، بعيدًا عن خلفيّاته الدّينيّة، ومسلّماته الثّقافيّة التي اكتسبها من البيئة والمحيط الذي نشأ عليه أو يعيش فيه.

وسنحاول في هذا المقام أن ندرس موضوع البحث بتجرّدٍ من خلال تساؤلاتٍ منطقيّةٍ

ص: 371

ومعالجتها بعيدًا عن الخلفيّة الدّينيّة التي ننتسب إليها، ونؤمن بها وأنّها الحقّ.

أوّلًا: معنى الإنجيل:

يقول الكاتب -بحق- إنّ كلمة الإنجيل في المفهوم المسيحيّ هو إعلان البشارة السّعيدة في داخل الجماعة الإنسانيّة، إلا أنّه قد خصّص - تبعًا لعامّة المسيحيين- أنّه عبارة عن الخلاص الذي أتمّه الله تعالى بيسوع. وهنا لا بدّ من الاحتكام إلى نصوص الأناجيل القانونيّة نفسها، لنرى ما إذا كانت تُؤيّد هذه الدعوى وتقرّها، أم إنّ لهذه النّصوص دلالةً أخرى. ذلك أنّ الوثائق الأساسيّة لكلّ مدرسةٍ فكريّةٍ أو دينيّةٍ هي التي يجب أن يرتكز البحث عليها، ليصل إلى الهدف الذي يُراد منها. ولا يصح الاعتماد على الأذواق، والاستئناس بآراء النّاس، بعيدًا عن هذه الوثائق، فإنّه يضيع الهدف والغاية المرجوّة من البحث والدّراسة.

فنقول: إنّ السّيد المسيح علیه السّلام قد أُرسل إلى خصوص بني إسرائيل، ولم يرسل إلى غيرهم بحسب النّصوص الإنجيليّة. فقد جاءته امرأةٌ كنعانيّةٌ ورجته أن يشفي ابنتها المجنونة ... فقال: «إنّي لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (1). وشهد كاتب إنجيل يوحنا بذلك، حيث قال: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله» (2).

كما أنّه أوصى تلاميذه الاثني عشر الذين أرسلهم للوعظ والإرشاد قائلًا لهم: «إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (3).

وهذه النّصوص تدلّ بصراحةٍ على أنّه علیه السّلام لم يكن خلاصًا للإنسانيّة كلّها، بل هو رسولٌ لبني إسرائيل دون سواهم كما صرّح هو بنفسه علیه السّلام.

وقد يُقال: إنّ هذا الكلام صحيحٌ في بداية دعوته، إلّا أنّه في النّهاية وبعد صلبه وقيامته تجلّى لتلاميذه وقال لهم: «دفع إلي كلّ سلطان في السماء وعلى

ص: 372


1- إنجيل متى: 24/15.
2- إنجيل يوحنا: 11/1.
3- إنجيل متى: 10/ 6.

الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس، وعلّموهم جميع ما أوصيتكم به» (1)، وهذا يعني أنّ الخلاص لجميع النّاس وليس لبني إسرائيل خاصّة.

والجواب: إنّ هذا الأمر، ومع غضّ النّظر عن الإشكال العقائديّ فيه، والذي هو مقولة التثليث المعارضة لمجمل دعوته الشّريفة (2)، مضافًا إلى معارضتها مع تصريحه بوظيفته ووصيّته لتلاميذه المتقدّمة، بل تصريحاته المتتالية في أنّه مجرّد رسول، وأنّه من نفسه لا يقدر أن يفعل شيئًا، بل يتبع ما أوصاه به الله تعالى، فإنّ صدورها منه حين التّجلّي وبعد الصّلب والقيامة المزعومين، يدلّ على تجاوزه حدود الدّعوة المكلّف بها، فإنّه قبل حادثة الصّلب وبعدما خطب في تلاميذه الخطبة الأخيرة حتى توجّه في نهايتها إلى الله تعالى قائلًا: «وهذه الحياة الأبديّة أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ وحدك ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (3). وهذا يدلّ على أنّ مهمّته قد انتهت وما يحدث بعدها خارجٌ عن مهمّته وتجاوزٌ لما قد أنيط به؛ إذ لو كانت من مهمّته وحقّه لم يكن لإكمال العمل الموكل إليه أيّ معنى.

وإن كان يمكن حمل العبارة على معنًى آخر، وهو تذكيرهم بالمهمّة الأساسيّة التي بعث علیه السّلام من أجلها، وهي البشارة بملكوت الله الآتي بعد حين.

ويُؤيّد هذا المعنى قوله علیه السّلام لتلاميذه: «و علّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به»، مما يدلّ على أنّ مهمّة التّلاميذ فضلًا عن مهمّته علیه السّلام هي التّعلیم والبشارة باقتراب ملكوت السّموات، وبيان خصائص هذا الملكوت، فقد صرّحت أنّه: «كان يطوف المجامع كلّها ويعظ ويكرز ويبشّر باقتراب ملكوت السّموات» (4).

فمهمّة السّيد المسيح علیه السّلام كانت تعليميّةً ووعظيّةً وتبشيريّةً، ولم تكن خلاصيّة

ص: 373


1- إنجيل متى: 28/ 3-4.
2- تعرضنا لهذه المسألة في كتاب المسيح في الإنجيل - بحث في لاهوته وناسوته، فليراجع ثمة.
3- إنجيل يوحنا: 3/17-4.
4- إنجيل متى: 4/23.

بالمعنى الذي يزعمه المسيحيون، فإنّهم يزعمون أنّه ملك اليهود، بل ملك كلّ العالم. مع أنّه قد نفى هذه الدّعوى عن نفسه حين المحاكمة المزعومة، فقد سأله بيلاطس إن كان ملك اليهود فأجابه يسوع: «مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم لليهود. لكن الآن ليست مملكتي من هنا» (1).

ولو فرضت صحّة هذه الدّعوى، فإنّ الواقع يكذبها؛ إذ لم يملك السّيد المسيح على اليهود ولا على غيرهم. فإنّ موته قبل تحقّق حاكميّته كاشفٌ عن عدم صحّة هذه الدّعوى. بل إنّ هروبه من اليهود، بعدما صنع معجزة الطعام، عندما علم أنّهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا وذهابه إلى الجليل وحده (2)، دالٌ على عدم دعواه أنّه ملك اليهود.

ثانيًا: إنجيل أو أناجيل:
اشارة

من جملة المطاعن التي يذكرها الباحثون الغربيّون، ومن ورائهم عامّة المسيحيين، أنّ القرآن الكريم يتعرّض إلى الإنجيل بلفظ المفرد، وأنّه موحى به من الله تعالى إلى السّيد المسيح علیه السّلام، ولا يتعرّض إلى الحقيقة التي توارثها المسيحيون جيلًا بعد جيلٍ، وهي أنّه علیه السّلام قد كان تعليمه شفويًّا، ولم يأتِ بكتابٍ خاصٍّ، وإنّما تلاميذه هم الذين كتبوا هذه الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة واعتبرتها قانونيّةً، أي شرعيّة وصحيحة، فقد جانب القرآن الكريم الحقيقة من جهتين: إنّه کتابٌ موحی به من السّماء، إلى السّيد المسيح علیه السّلام، وإنّه كتابٌ واحدٌ، وليس أربعة كتبٍ أنشأها تلاميذه بإلهامٍ من الله تعالى.

ونقول:

أوّلاً: إنّ القول بأنّه علیه السّلام لم يأتِ بكتاب منزلٍ وأنّ تعليمه كان شفويًّا، يعني أنّه كغيره من الوعّاظ والكهنة الذين مرّوا في التّاريخ، وفي أحسن الأحوال يكون كسائر

ص: 374


1- إنجيل يوحنا: 18 / 33-36، وقد عالجنا هذه المسألة في كتاب «صلب المسيح في الإنجيل».
2- 1 إنجيل يوحنا: 6/ 15.

الأنبياء الآخرين، وأنّه ليس له أيّة خصوصيّةٍ زائدةٍ عليهم، بل ربّما يكون الأنبياء الآخرون أفضل حالًا منه؛ لأنّهم جاؤوا بتعاليم خلّدها لهم الزّمان بخلافه، فإنّ الفضل يعود إلى الذّين دوّنوا سيرته وأعماله، ولولا هؤلاء لانتهت دعوته واندرست. فتخصيصه بالذّكر دون غيره يبقى بلا مبرّرٍ معقولٍ.

هذا بالإضافة إلى أنّ معنى ذلك أنّ رسالته - على فرض ثبوتها - تبقى مؤقّتةً بزمانٍ معيّنٍ، وهو زمانه علیه السّلام؛ إذ لا يبقى لها مقتضى للاستمرار ووصولها إلى الأجيال اللّاحقة لزمانه علیه السّلام.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأفضليّة تستلزم أن يكون ما يأتي به أفضل وأعظم ممّن سبقه. وما جاء به، بحسب الأناجيل، لا يمكن أن يصل إلى ما جاء به موسى علیه السّلام، فإنّه قد جاء بشريعةٍ وقوانين، تنظّم حياة النّاس من بني إسرائيل، وهو ما تفتقده دعوة السّيد المسيح علیه السّلام بحسب الأناجيل الأربعة.

كما أنّه لا يمكن أن يكون غاية الشّريعة الموسويّة، فإنّه قد أكد علیه السّلام أنّ التّوراة غير قابلةٍ للتغيير والتّبديل إلى أن تزول السّماء والأرض.

مع أنّ القول بأنّ تلاميذه هم الذين دوّنوا تعاليمه في كتب الأناجيل لا يخلو من أن يكون ذلك بإذنه أو بدون إذنه علیه السّلام.

فإن كان بإذنه فقد كان الأحرى به أن يبادر بنفسه إلى الكتابة، إلّا إذا فرضنا أنّه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وهو مخالفٌ لما ورد في الأناجيل، فقد «جاء إلى النّاصرة حيث كان تربّي. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر أشعياء النّبيّ. ولمّا فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه إلخ..» (1)، وهذا يعني أنّه كان يعرف القراءة والكتابة. فتركه لهذا الأمر لا يعدو كونه تفريطًا بالرّسالة التي جاء من أجلها.

وعلى فرض أنّه قد أمرهم بكتابة هذه الأناجيل، فإنّ الصّحيح أن يأمرهم بكتابة

ص: 375


1- إنجيل لوقا: 16/4-21.

الأناجيل أمام عينيه، حتى لا يقع خطأٌ أو تعارضٌ بينها، كما هو حاصل فعلًا، بل حتى لا يحصل تلاعب أو تحريف فيما دعا إليه. خصوصًا وأنّهم غير معصومين عن الخطأ، فإنّه قد منح تلاميذه ذلك دون غيرهم.

وإن كانت كتابة الأناجيل بعد ارتفاعه ونهاية دعوته الشّريفة، فلا بدّ أن يكون كتاّبها من التّلاميذ الذين حمّلهم الأمانة دون سواهم، فقد ورد عنه علیه السّلام أنّه قال لتلاميذه الإثني عشر: «الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء. وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء» (1).

كما أنّه خصّص بطرس بهذا الوسام الرّفيع أيضًا وجعله وصيًّا له، حين قال له: «وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي. وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات» (2). هذا من حيث القدرة.

وأمّا من حيث العلم والمعرفة، فقد قال لتلاميذه: «أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات. وأما لأولئك فلم يعط، فإن من له سيعطى ويزاد. وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه» (3).

وأمّا غيرهم فلا يؤمن على التّلاعب بالتّعاليم بالنّقص أو الزّيادة. والأناجيل الأربعة لم يثبت تاريخ كتابتها ومن هو كاتبها فعلًا، بل من المعلوم أنّ كتّابها ليسوا من التّلاميذ. وأنّها كتبت بعد ارتفاعه بزمنٍ ليس بالقصير.

ثانيًا: إنّ من المعلوم والمتسالم عليه بين المسيحيين أنّ هذه الأناجيل قد كُتبت جميعها باللّغة اليونانيّة، مع أنّ لغة السّيد المسيح علیه السّلام ومخاطبيه اليهود كانت الآراميّة باللّهجة العبرانيّة. وقد كان تلاميذه يحرصون على عدم توجيه الدّعوة إلى غير اليهود، الذين كانوا يصّرون على استخدام لغتهم حفاظًا على الخصوصيّة

ص: 376


1- إنجيل متى: 18/18.
2- إنجيل متی: 17/16-19.
3- إنجيل متى: 11/13-12؛ إنجيل مرقس: 4/ 10-12.

التي يزعمون أنّهم يتمتّعون بها. ولم تدخل اليونانيّة إليهم، إلّا بعدما أعلن بولس اهتداءه إلى الدّين الجديد، بعد ارتفاع السّيد المسيح علیه السّلام سنة 35 للميلاد، أي بعد خمس سنوات، وذهب إلى أنطاكيّة بلد نشأته، وأخذ يبشّر بين اليونانيين، خلافًا لوصيّة السّيد المسيح، مما أثار الخلاف والجدل بينه وبين تلاميذ السّيد المسيح والقطيعة بينهم، وقد صرّح أنّه كان عدوًّا للمسيح ودعوته، كما صرّح أنّ الإنجيل الذي يبشّر به لم يتعلّمه من أحد وإنما أعطاه المسيح إيّاه [1]، مع دنّه لم یرَ المسیح ولم يقبله في حياته. ومعنى ذلك أنّ اللّغة اليونانيّة قد انتشرت بين المسيحيين بعد هذه الفترة بزمن، أي حين دخل قسمٌ منهم في الدين الجديد على طريقة بولس.

فالأناجيل قد كتبت إلى اليونانيين، من أتباع بولس، لا إلى العبرانيين من تلاميذه وغيرهم من المهتدين. وعليه فمن غير المنطقي ألّا يكون للإنجيل أو الأناجيل أصولاً آراميّةً أو عبرانيّةً، وقد تُرجمت إلى اليونانيّة، مع أنّه لا نجد لهذه الأصول عينًا ولا أثرًا في التّاريخ المسيحي.

وعلى فرض حصول التّرجمة، فمن المعلوم والثّابت أنّ التّرجمة مهما كانت دقيقةً، وكان المترجم عالماً بكلا اللّغتين، وبالموضوع المترجم، إلّا أنّه من غير الممكن أن تحافظ على كافّة الخصوصيات الموجودة في لغة الأصل المترجم عنه، وهذا يستلزم حصول التّلاعب بالمعنى المنشأ، سواء عن حسن نيّةٍ أو سوء نيّةٍ، وهو ما اعترف به الآباء اليسوعيّون في «المدخل إلى العهد الجديد» 2.

هذا مضافًا إلى أنّ الكنيسة لم تسمح بترجمة أيّ سفرٍ من أسفار الكتاب المقدّس من اليونانيّة إلى أيّ لغة من اللّغات، قبل حركة الإصلاح الكنسي التي قام بها مارتن لوثر، في القرن الخامس عشر الميلادي. وقد كان الحريّ بها أن تُحافظ على النّسخة الأصليّة، أي الآراميّة أو السّريانيّة، التي هي لغة السّيد المسيح علیه السّلام، للحفاظ على مراداته الواقعيّة. وهذا يعني أنّ الأناجيل ليست بإلهام إلهيٍّ؛ لأنّ المفروض أن يكون قد ألهمهم بلغة الأصل.

[1]. الرسالة إلى غلاطية: 1/ 11-14.

[2]. العهد الجديد، طبعة دار المشرق، بيروت، 1988، ص 13.

ص: 377

ثالثًا: إنّ الأناجيل الأربعة، وخصوصًا الأناجيل الازائيّة منها، أي: إنجيل متى، مرقس، ولوقا، هي في الحقيقة عبارة عن كتب سيرة، تعرّض أصحابها لبعض أعمال السّيد المسيح علیه السّلام، دون أن تستوعبها، فهي قصّة أو رواية مختصرة، ذكر فيها ما كان الكاتب يريد أن يبيّنه ويدعو إليه، دون أن تستوعب حياة السّيد المسيح علیه السّلام. ولیست کتب تعاليم أو مواعظ أو دعوة، إنما تشمل بالعرض خطبتين أو ثلاثة خطب للسّيد المسيح علیه السّلام. مع أنّ دعوته استمرّت ثلاث سنوات، فمن غير الطبيعي أن لا يوجّه للناس إلا موعظتين أو ثلاثة في هذه المدّة، والتأكيد على خصوص المعجزات التي اجترحها، من دون أن تبيّن الغاية من اجتراحها. مع ما فيها من الاختلاف والتّعارض، بل التّناقض في مضامينها.

هذا مع العلم أنّ هذه الأناجيل لم تكتب إلّا للذكرى، كما صرّح لوقا في بداية إنجيله، حيث يقول: «إذ كان كثيرون قد اخذوا بتأليف قصّة في الأمور المتيقّنة عندنا. كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدّامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبّعت كلّ شيء من الأوّل بتدقيق أن اكتب على التّوالي إليك أيّها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحّة الكلام الذي علمت به» (1).

فهو إذًا قصّة أرسلت إلى رجلٍ من بني قومه - اليونانيين - عمّا سمعه وتعلّمه من غیره برسائل متلاحقةٍ، ولم يكتب ليكون كتابًا مقدّسًا كما هو صريحه. وقد اتّفق رجال الكنيسة والمؤرّخون أنّه كان طبيبًا يونانيًّا، اهتدى على يد بولس وأخذ عنه وتأثّر به.

وعليه، فمن المنطقيّ أن يكون كتابه انعكاسًا للرؤية البولسيّة في السّيد المسيح علیه السّلام، أو تكون عبارة عن إعجابه وانبهاره بالمعجزات التي صنعها السّيد المسيح، من جهة كونه طبيبًا، فرأى أنّ تلك المعجزات من سنخ علم الطب التي عجز الأطباء عن تحقيقها في حينه، فإنّ مجمل الإنجيل يسلّط الضّوء عليها أكثر من تعرضه لتعاليمه ومواعظه علیه السّلام.

كما أنّ مرقس هو الآخر كان من تلاميذ بولس، ولم يكن من تلاميذ المسيح، وإن

ص: 378


1- إنجيل لوقا: 1/ 1-4.

اختلفا في ما بعد أواخر الرّحلات التّبشيريّة، حيث امتنع بولس عن أخذه معه في رحلته.

وإذا كان متى قد أخذ من إنجيل مرقس، كما عليه أكثر المؤرّخين من رجال الكنيسة، ظهر أنّ الأناجيل القانونيّة تابعةٌ لتلك المدرسة.

ثالثًا: هل الأناجيل أربعة؟

إنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الأناجيل كانت تزيد على الأربعين إنجيلًا. بعضها منسوبٌ إلى تلاميذ المسيح، وبعضها الآخر منسوبٌ إلى غيرهم، وقد كشفت الآثار قسمًا منها، بعدما ظلّت قروناً لا تُعرف إلّا أسماؤها، من خلال الرّدود التي كان رجال الكنيسة يناقشونها ويعملون على نقض مضامينها.

إلَّا أنّ ذلك لا يعني عدم انتشارها في القرون الأولى للمسيحيّة، فإنّ شدّة الرّدود ومحاولات إبطال مضامينها، تكشف عن مدى انتشارها بين الناس، وتأثيرها فيهم، حتى اضطرّ البابا جيلاسيوس الأوّل سنة 492م إلى إصدار أمرٍ يمنع فيه قراءة بعض الكتب التي كانت معروفةً ومنتشرةً بين النّاس حينها، وقد ذكر من هذه الكتب إنجيل برنابا، الذي أخذ شهرةً واسعةً بعد ترجمته إلى العربيّة في أوائل القرن العشرين الميلادي.

كما تُرجم إلى العربيّة عددٌ من هذه الأناجيل بعد اكتشافها، ونشره دير سيدة النصر عام 2004م، تحت عنوان «الأناجيل المنحولة»، وبقي عددٌ منها غير معروفٍ إلا بعض شذرات منها، نقلها رجال الكنيسة أنفسهم للرّدّ عليها، وقد ذكرها مترجم الأناجيل المنحولة تحت عنوان «أناجيل ضائعة» منها إنجيل العبرانيين وإنجيل الإبيونيين.

وقد ظلّت هذه الأناجيل معمولًا بها حتى عام 325م. حين أقرّ مجمع نيقية، وهو المؤتمر الأوّل الذي انعقد بأمرٍ من الإمبراطور قسطنطين الأوّل وأقرّ أنّ الأناجيل الأربعة المعتمدة فعلًا هي التي تعترف الكنيسة بشرعيّتها وقانونيّتها. رغم أنّها متأخّرةً عن بعض الأناجيل من النّاحية التّاريخية.

ص: 379

والسّؤال الذي لا يوجد له جوابٌ شافٍ، هو أنّه لماذا اختارت الكنيسة هذه الأناجيل الأربعة دون سواها. مع أنّ غيرها أولى بالاتّباع، خصوصًا تلك المنسوبة إلى التّلاميذ أنفسهم. وقد أقرّ رجال الكنيسة أنّ بعض هذه الأناجيل على الأقلّ أسبق من الأناجيل الأربعة من النّاحية التّاريخيّة.

ثم لماذا تمّ اختيارها في القرن الرّابع بعد سيطرة الكنيسة على مقاليد الأمور الدّينيّة بأمر الإمبراطور قسطنطين بعد تنصّره، وهل كان هذا الاختيار تنفيذاً لأوامره، وللعقائد التي تناسب خلفيّاته الوثنيّة.

رابعًا: الإنجيل في الأناجيل:
اشارة

رغم كثرة الأناجيل واختلافها، إلّا أنّ ما يُهمّنا فعلاً في المقام الأناجيل القانونيّة الأربعة، فإنّها التي أقرّتها الكنيسة واعتمدتها، وتابعها على ذلك عامّة المسيحيين بمختلف انتماءاتهم ومذاهبهم، فلا بدّ من الاحتكام إليها في بيان الحقّ الذي يعتمدونه، لنرى ما هي حقيقة الإنجيل من خلالها.

فنقول:

لم ترد كلمة الإنجيل في مختلف أسفار العهد الجديد بصيغة الجمع أصلًا، فقد وردت فيه ستّة وأربعين مرّة كلّها بصيغة المفرد، وما يهمّنا في المقام ورودها في الأناجيل الأربعة؛ لأنّ المفروض أنّها تذكر كلمات المسيح أو تتحدّث عنه، فقد ورد على لسانه علیه السّلام قوله في قصّة مريم المجدلية: «الحقّ أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كلّ العالم يخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها» (1).

وقال علیه السّلام أيضًا: «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول قد كمل الزّمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل (2).

ص: 380


1- إنجيل متى: 13/26؛ إنجيل مرقس: 1/14.
2- إنجيل مرقس: 1/ 14-15.

وكذلك قال علیه السّلام لتلاميذه: «فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها» (1).

وقال علیه السّلام: «الحق أقول لكم ليس أحد ترك بيتا أو إخوة أو أخوات أو آباء أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا لأجلي ولأجل الإنجيل إلا... إلخ» (2). كما قال علیه السّلام: «وينبغي أن يكرز أوّلًا بالإنجيل في جميع الأمم» (3). وورد عنه علیه السّلام قوله كذلك: «اذهبوا إلى العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (4).

إنّ هذه النّصوص الواردة على لسان السّيد المسيح علیه السّلام، وكذلك النّصوص الأخرى الواردة في رسائل القدّيسين، تدلّ على أنّه لا يوجد أكثر من إنجيلٍ واحدٍ، فلا معنى لأن يُعبّر بالأناجيل بصيغة الجمع.

والأمر الجدير بالاهتمام أنّه قد عبّر عن الإنجيل باسم الإشارة القريب، وهو ما لا يصحّ إلّا أن يكون المشار إليه ماثلًا بين يديه، فقال: «حيثما يكرز بهذا الإنجيل، ولا يعقل أن يشير إلى واحدٍ من الأربعة أو الأربعين المكتوبة بعده بزمن. وهو تصديقٌ لما ورد في القرآن الكريم. ولازم ذلك أن يكون الإنجيل الذي يتحدّث عنه ويُبشّر به قد أنزل عليه لا محالة. ثم لماذا حافظ المترجمون على لفظة الإنجيل التي يقولون إنّها كلمةٌ يونانيّةٌ، مع أنّ ديدنهم في التّرجمة حتى لأسماء الأعلام، حيث يترجمونها بمعانيها اللّغويّة، ولا ينقلونها بألفاظها كما تقتضيه الأمانة في التّرجمة.

خامسًا: بشارة الإنجيل:
اشارة

وهنا يرد السّؤال المهمّ، وهو عن مضمون الإنجيل الذي بشّر به السّيد المسيح علیه السّلام، وهل أنّه أتى بدينٍ جديدٍ، أو لم يأتِ بل حافظ على الاعتقادات الأساسيّة في رسالة موسى علیه السّلام.

ص: 381


1- م.ن، 35/8.
2- م.ن، 29/10-30.
3- م.ن، 10/13.
4- م.ن، 15/16.

بداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم قد بيّن بشكٍل صريحٍ وواضحٍ أنّ مهمّة السّيد المسيح علیه السّلام كانت عبارة عن إرجاع بني إسرائيل إلى جادّة الصّواب، واتِّباع التّوراة التي فيها هدًى ونورٌ لهم إذا اتّبعوها. مضافًا إلى البشارة بخاتم الأنبياء محمد صلّی الله علیه و آله و سلّم، قال تعالى : «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَابِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ» (1).

إنّ الأناجيل الأربعة تقرّ هذه الحقيقة القرآنيّة بكلا المهمّتين المذكورتين، والتي جاء بها القرآن لاحقًا؛ وهما التّصديق بما جاء في القرآن الكريم، حيث نقل عنه علیه السّلام قوله: «لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض النّاموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل فإنّي الحقّ أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة حتى يكون الكل» (2).

وتقدّم قوله للمرأة الكنعانيّة: «لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضّالة»، وهذا تصديقٌ للمهمّة الأولى التي صرّح بها القرآن الكريم.

1. البشارة بالنّبي الأعظم صلّی الله علیه و آله و سلّم:
اشارة

وأمّا المهمّة الثّانية، وهي البشارة بالرّسول الذي يأتي من بعده، وهو خاتم الأنبياء صلّی الله علیه و آله فيبدو أنّها كانت المحور الأساسيّ لدعوته الشّريفة. وهذه تحتاج إلى بعض التّوضيح (3)، فنقول:

إنّ الأناجيل الأربعة - وخصوصًا الازائيّة منها - تتحدّث في مختلف إصحاحاتها عن أنّ محور دعوى السّيد المسيح علیه السّلام هي البشارة بملكوت السّماوات، أو ملكوت الله تعالى، وهو عبارة عن حاكميّة جميع العالم بواسطة رسولٍ يأتي ليدعو العالم إلى الله تعالى.

ص: 382


1- سورة الصف، الآية 6.
2- إنجیل متی: 17/5-18.
3- لقد بحثنا هذه المهمة أكثر تفصيلا، في مقالة خاصة، بعنوان «بشارة الملكوت في دعوة المسيح»، ضمن كتاب «مقالات في الدين والفكر، ج 2، ص5».

1- لقد كان هذا النّبيّ معروفًا باسمه وصفته عند بني إسرائيل، كما تدلّ عليه بعض العبارات الواردة، مثل قول الإنجيل: «وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت، فاعترف ولم ينكر وأقرّ إنِّي لست أنا المسيح، فسألوه إذا ماذا. إيليا أنت. فقال لست أنا. النبي أنت. فأجاب لا... فسألوه وقالوا له فما بالك تعمد أن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي» (1).

ومن الواضح أنّ هذا الحوار يكشف عن وجود ثلاثة أشخاصٍ موعودين ينتظرهم النّاس، وهم: المسيح وإيليا والنّبيّ، وأنّهم لم يكونوا قد أتوا بعد.

2- إنّه بعدما صنع معجزة الطّعام وما حصل فيها «فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إنّ هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم» (2).

3- بعدما خطب بالنّاس وانتهى قال كثير من الناس: «هذا بالحقيقة هو النبي، آخرون قالوا هذا هو المسيح. وآخرون قالوا ألعل المسيح من الجليل يأتي» (3). ومن الظّاهر أنّ كلمة «النّبيّ» جاءت معرّفةً ب_ «أل» العهديّة الدّالّة على أنّه كان معروفًا عندهم. إلّا أنّهم كانوا يظنّون أنّه من بني إسرائيل، فأراد السّيد المسيح علیه السّلام أن يظهر لهم الحقيقة، وأنّه ليس إسرائيليًّا، بل هو من نسل إسماعيل. إلّا أنّ ذلك لم يكن سهلًا عليهم، ولا مقبولًا عندهم، فإنّهم لا يستطيعون أن يتصوّروا أن عليهم نسل الأمّة، أبناء الحرّة، ولعلّهم لهذا السّبب عملوا على قتله علیه السّلام، بعدما أيقنوا بالحقيقة التي كشفها لهم في نهاية المطاف، بعدما تبعه الكثيرون في البداية، لمّا رأوا من الآيات والمعجزات الكثيرة التي اجترحها. ولعلّ هذا هو السّبب في تنوّع الآيات التي اجترحها لهم، لِما لهذا الأمر من خطورةٍ وتهديدٍ للمجتمع الإسرائيلي بزعمهم. ولذلك «ذهب الفريسيون وتشاوروا ليصطادوه بكلمة، فأرسلوا تلاميذهم والهيردوسيين قائلين... إلخ» (4).

ص: 383


1- إنجيل يوحنا: 19/1-25.
2- م.ن، 14/6.
3- م.ن، 40/7-41.
4- إنجيل متى: 15/22-16؛ مرقس: 13/12.

كما «جمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعًا وقالوا ماذا نصنع فإنّ هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وامتنا، فقال لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة: انتم لستم تعرفون شيئًا، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها» (1).

فهم إذًا يعرفون صدقه، وأنّه يقول الحقّ، بدليل الآيات الكثيرة التي كان يصنعها لهم، وإقرارهم بصحّتها. إلّا أنّهم حرصًا منهم على رئاستهم ونفوذهم بين النّاس، خافوا على سلطانهم، حتى لا يأتي الرومانيون ويأخذوا المكانة التي حصلوا عليها من الرومانيين أنفسهم، فصدق عليهم قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ» (2).

المهمّة الصّعبة:

أمام هذا الخطر الدّاهم، الذي يُهدّد مصير الدّعوة كلّها، فضلًا عن حياة السّيد المسيح علیه السّلام نفسه، لم يكن من الحكمة أن يصرّح لهم بحقيقة النّبيّ الآتي إلى العالم، رغم قبول النّاس له واعتقادهم أنه هو المراد بهذا النّبيّ بعدما رأوا من الآيات ما أبهر عقولهم، فإنّ من الطبيعي، وهو ما يقتضيه العقل والحكمة أن يمهّد لهم الأمر، ويحاول التّخفيف من وقع الصّدمة على قلوبهم ونفوسهم.

فابتدأ في بيان ذلك عبر استخدام الأمثال والتشبيهات والكنايات، لتقريب فكرة الملكوت إلى أذهانهم، وهو ما حفلت به الأناجيل في كثيرٍ من إصحاحاتها، حتى إذا أوضح ذلك، وقرنه بالآيات والمعجزات الخارقة، التي لم تبقِ مجالًا للشّكّ في صدقه وصحّة كلامه علیه السّلام، صرّح لهم بالحقيقة المرّة، التي كانت أولى بشائرها كناية عن مقيم الملكوت، فإنّه بعدما ذكر لهم تشبيهًا للملكوت، وحاول تقريبه إلى أذهانهم بصورٍ وطرقٍ مختلفةٍ. وبعدما أحسّ أنّه قادرٌ على بيان هذه الحقيقة، بعدما طرد

ص: 384


1- إنجيل يوحنا: 5/47 متی: 3/26-4.
2- سورة النمل، الآية 14.

الباعة والصيارفة من الهيكل، قال للناس: «أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط عليه هو يسحقه» (1).

والحجر الذي رفضه البناؤون وصار رأس الزاوية هو إسماعيل علیه السّلام الذي حاول اليهود إزاحته من طريق تسلّطهم وحرمانه من حق البكوريّة في العهد القديم، مع أنّه كان رجلًا بارًا، وسيجعل الله من نسله أمّةً عظيمةً، فإنّ العهد القديم يصرّح بأنّ الربّ قال لإبراهيم علیه السّلام : «وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. اثني عشر رئيسا يلد. وأجعله أمة كبيرة» (2).

وما ذلك إلّا لأنّه ابن الجارية وهم أبناء السّيدة كما يزعمون، وقد عالجنا هذه المسألة في كتاب «وعد التوراة لمن -قراءة مختلفة». لذلك أنهى السّيد المسيح علیه السّلام كلّ هذا بأنّ ملكوت الله سيعطى لأمّة تعمل أثماره، وإنّ الوقوف بوجهه يعني الهلاك. ثم ما لبث أن بيّن لهم حقيقة الموعود في جملةٍ من النّصوص، وأنّه النّبيّ الخاتم صلّی الله علیه و آله، حين أطلق عليه اسم «البارقليط»، أو «الفارقليط»، والتي تعني أحمد. إلّا أنّهم ترجموها إلى العربيّة بكلمة المعزّي، أو الشّفيع.

2. لماذا أحمد وليس محمدًا:

وقد يقال: لماذا أطلق الإنجيل عليه اسم «أحمد» مع أنّ اسمه الذي عُرف به هو «محمد»، والأمر الطّبيعيّ أن يُسمّى المرء باسمه، بل ربّما أدّى ذلك إلى التّضليل وضياع الحقيقة، وفي أقلّ الفروض إلى الالتباس. مع أنّ القرآن الكريم ينسب إلى أهل الكتاب أنّهم «يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» (3)، وأنّهم «يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل» (4).

ص: 385


1- إنجيل متى 42/21-44.
2- سفر التكوين: 20/17.
3- سورة البقرة، الآية: 146؛ سورة الأنعام، الآية: 20.
4- سورة الأعراف، الآية: 157.

ويمكن الجواب بأنّه لا فرق بين محمد وأحمد من حيث الدّلالة اللّغويّة، فإنّهما مشتقّان من الحمد، والفرق بينهما أنّ محمدًا أو محمود صيغتان للمفعول. وأمّا لفظ أحمد فهي صيغة أفعل التفضيل، أي أنّ الصيغتين الأوليين تدلّان على من وقع عليه الحمد، أما الصّيغة الثالثة فتدلّ على من أكثر حمد الله تعالى.

فالتّعبير عنه صلّی الله علیه و آله بأحمد أنسب من النّاحية اللغويّة؛ لأنّ صيغة اسم المفعول لا يحسن استعمالها، إلّا لمن تلبّس بالوجود فعلًا ليقع عليه الحمد، بخلاف صيغة التّفضيل، فإنّها يصح أن تستعمل في المتلبّس بالوجود وفي غيره. ولمّا كان المراد هو البشارة بالنّبيّ الآتي مستقبلًا، وليس متلبّسًا بالوجود الخارجيّ بعد، كان الأنسب التعبير عنه صلّی الله علیه و آله بأحمد.

مضافًا إلى أنّها تكشف عن الذّات من حيث هي اسم علم، وعلى الصّفة التي تلبّس وتميّز بها النّبيّ الأعظم صلّی الله علیه و آله، خصوصًا وأنّ من المعهود عند أهل الكتاب كثيرًا ما كانوا يترجمون أسماء الأعلام إلى معانيها الصّفتيّة، ممّا يفقد الدّلالة الواقعيّة على الذات المقصودة، فاستخدام لفظة أحمد في التّعبير عنه صلّی الله علیه و آله يحافظ على المعنى المراد بأيّ لغةٍ كانت، حتى في حالة تحريف الاسم. هذا مع أن اسم «أحمد» كان من أسمائه المشهورة صلّی الله علیه و آله فلا مجال للاستشكال على تسميته بذلك.

والذي يدلّنا على ذلك أنّ الآية الكريمة التي عبّرت عن اسمه الشّريف أحمد هي من الآيات المدنيّة، فإنّها قد وردت في سورة الصف المدنيّة باتّفاق العلماء، أي أنّها نزلت بعد هجرة الرسول إلى المدينة المنورة، مع أنّ اسم أحمد كان يطلق عليه صلّی الله علیه و آله قبل ذلك بزمن. فقد ورد عن أبي طالب علیه السلام، الذي تُوفّي قبل الهجرة أنّه قال فيه شعرًا وأسماه «أحمد»، حيث يقول من جملة قصيدة:

فَلَسنا وَرَبِّ البَيتِ نُسلِمُ أَحمَداً *** لِعَزَّاءَ مِن عَضُ الزَمانِ وَلا كَرِبٍ

وورد عنه قوله:

یا شاهِدَ اللَّهِ عَلَيَّ فَاشْهَدِ *** أَنِّي عَلى دينِ النَّبِيِّ أَحمَدِ

ص: 386

و کذلک قال:

ألم ترني من بعد همّ هممته *** بفرقة حر الوالدين حرام

بأحمد لما أن شددت مطيتي *** برحلي وقد ودعته بسلام

ومعنى ذلك انه كان معروفا بهذا الاسم، ومشتهرا به، فلا إشكال من هذه الجهة.

3. ورقة بن نوفل ودوره:
اشارة

لقد اشتهر بين المؤرّخين والباحثين أنّ النّبيّ الأعظم صلّی الله علیه و آله لم يطمئن إلى نزول الوحي عليه، وأنّه قد بعث نبيًّا، إلّا بعد أن طمأنه ورقة بن نوفل، وهوّن عليه الأمر، حينما استعانت خديجة بنت خويلد ابنة عمّه وزوج النّبيّ صلّی الله علیه و آله به لبيان الأمر. فقد وردت رواية عن عائشة، واستخدمت كحقيقةٍ ثابتةٍ لا شبهة فيها، وحاصلها:

«أنّ الملك جاء إلى النّبيّ صلّی الله علیه و آله وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ. فقال صلّی الله علیه و آله: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثانية حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم».

فرجع بها رسول الله صلّی الله علیه و آله يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال زمّلوني زمّلوني، حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة - وقد أخبرها الخبر- لقد خشيت على نفسي.

فقالت خديجة كلّا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءًا قد تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة

ص: 387

ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى.

فقال له ورقة: هذا النّاموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك.

فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: أو مخرجي هم؟ فقال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي» (1).

تساؤلات حول الرّواية:

وقد صارت هذه الرّواية من المسلّمات بين الباحثين والمؤرّخين، بل لقد استفاد منها «سيدني ه_ غريفيث» استفادةً غريبةً، وهي أنّ بعض المسلمين التقليديين يعتقدون أنّ ورقة قد ترجم الإنجيل إلى العربيّة، مع أنّه صرّح أنّ التّرجمة العربيّة للإنجيل تعود إلى القرن الثامن الميلادي حسب الوثائق المسيحيّة. وكيف كان، فلا بدّ من الوقوف عند محطّاتٍ عدّةٍ في هذه الرّواية من خلال مضمونها ودلالاتها؛ إذ هي مليئةٌ بالإشكالات والتّساؤلات.

من هذه التّساؤلات: ألم يكن النّبيّ يعلم أنَّ الذي أتى إليه هو الملك؟ ولماذا غطّه الملك؟ (أي عصره ثلاث مرات)، وهل هكذا ينزل الوحي؟ وهل جبرائيل علیه السّلام بهذه الخشونة والغلظة الشّديدة؟

ولماذا فزع النّبيّ صلّی الله علیه و آله لهذه الدّرجة، أم لم يكن يتمتّع بالشّجاعة الكافية ليدافع عن نفسه، حينما عصره الملك وكادت نفسه تزهق؟

ثم لماذا استغاث بخديجة، حتى هدّأت من روعه أوّلًا؟

ثم لماذا أخذته إلى ابن عمها ليطمئنه ويعلمه أنّه نبي، وهل عجزت عن إقناعه ما قالته له؟

ص: 388


1- البخاري، محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، كتاب بدء الوحي، ج 3، ص13.

وهل عجز - والعياذ بالله- أن يدرك هذه الحقيقة بنفسه، وكيف تتحقّق فيه النّبوّة إذن؟

ثم ما هي حقيقة ورقة بن نوفل هذا وما هو دوره؟

أ. لقاء النبي والملك:

ليس من المعروف ولا المألوف أن يحلّ الضّيف ثقيلًا عن من يتلقّاه، خصوصًا إذا كانت مهمّته المكلّف بها مهمّةً خطيرةً وشاقّة؛ لأنّها ترتبط بالمجتمع الإنساني كلّه، خصوصًا إذا كان الضّيف من الملائكة المكرّمين وأنّه حامل رسالةٍ كبرى من الله تعالى إلى عبدٍ من عباده الصّالحين أرسله رحمةً للعالمين، وهل مثل هذا السّلوك الضّاغط والعنيف والقاسي من مصاديق الرّحمة، وإذا كان الله تعالى يأمره بالرّحمة واللّين مع النّاس، حينما قال له تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (1).

كما أمره الله تعالى بالدّعوة إلى الحقّ عبر سلوك طريق الهداية، التي يمكن أن تجذبهم إلى اتّباعه والاقتداء به، فقال تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» (2).

وكذلك أمر المسلمين باتّباع النّبيّ صلّی الله علیه و آله والاقتداء به، فقال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ» (3).

هذا كلّه فضلًا عن مدح الله تعالى له بقوله تعالى: «وَإِنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (4). وإذا كان كذلك، فلا يتصوّر، ولا يمكن تصديق حصول اللّقاء بين النبيّ صلّی الله علیه و آله والملك المرسل إليه بهذه الصّفة الفجّة والمنفّرة للناس، بل وللنبيّ صلّی الله علیه و آله و سلّم. إذ هذه الطريقة لا تصدر إلّا من الأعداء والخصوم، لا للأولياء والأحباب المصطفين، ومثل هذا التّصرّف ليس عقلانيًّا كما هو ظاهر.

ص: 389


1- سورة آل عمران، الآية 159.
2- سورة النحل، الآية 125.
3- سورة الأحزاب، الآية 21.
4- سورة القلم، الآية 4.

ب أمر النّبيّ بالقراءة وتمنّعه:

إنّ أمر جبرائيل -كما تقول الرواية - النّبي صلّی الله علیه و آله بالقراءة وتمنّع النّبيّ من ذلك، لا يخلو من أن يكون جبرائيل عالماً بعدم معرفة النّبيّ صلّی الله علیه و آله بالقراءة أو لا يعلم. فإن كان عالماً بذلك يكون أمره للنّبي صلّی الله علیه و آله، عبثيًّا، وتكليفًا له بغير المقدور، وكلاهما غير متصوّرين بحقّه، فإنّ المفروض أنّه مرسلٌ من الله تعالى، وهو يعني أنّه يتمتّع بتمام العقل والحكمة، فلا يصدر منه العبث. وفرض صدوره عنه مع معرفته وتكليفه بغير المقدور ينعكس سلبًا على معرفة الله وحكمته نعوذ بالله من ذلك.

وأمّا إذا لم يكن عالماً بذلك فيكون العبث صادرًا من الله عزّ وجل عن ذلك؛ لأنّه بعث رسولًا لا يعرف المهمّة، التي أرسل بها، وهي كلّها محاذيرٌ مستحيلةٌ بحقّه تعالى. هذا بالنّسبة إلى أمر جبرائيل للنّبي صلّی الله علیه و آله بالقراءة.

وأمّا بالنسبة لتمنّع رسول الله صلّی الله علیه و آله عن ذلك، فلا يخلو أمره أيضًا من أن يكون قادرًا على القراءة، ومع ذلك تمنّع عن الامتثال، أو لا يكون قادرًا على ذلك. فإن كان عالماً بالقراءة ومع ذلك تمنّع ولم يمتثل لأمره علیه السّلام، الذي هو أمر الله تعالى، فلا يستحقّ أن يكون نبيًّا من الأساس؛ لأنّ الله تعالى يقول: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» (1).

فإذا لم يكن الرّسول نفسه مطيعًا فكيف نتصوّر أن يعده الله تعالى أن يكون مُطاعًا، بل يستجيب له إذا استغفر لهم؟ بل كيف يأمر النّاس بإطاعته تعالى وامتثال أوامره، وهو تعالى يصف من يفعل ذلك بعدم التّعقّل حين قال تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ ِبالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (2). ثمّ ما هو المبرّر لتمنّعه صلّی الله علیه و آله عن القراءة ثلاث مرات إذا كان قادرًا عليها، إلَّا إذا لم يكن يعلم أن ضيفه هو الملك جبرائيل علیه السّلام. وأمّا إذا لم يكن عالماً بالقراءة في المرّتين

ص: 390


1- سورة النساء، الآية 64.
2- سورة البقرة، الآية 44.

الأوليين، كيف تمكّن من ذلك بعدما كتم جبرائيل أنفاسه في المرّة الثّالثة، فإنّ ذلك يُعيد المشكلة من أساسها حول تمتّع الله تعالى والملك بالحكمة وحسن التّدبير.

ثمّ إنّ السّؤال المهم : هل أتى جبرائيل علیه السّلام بكتاب وأعطاه إيّاه، ثمّ أمره بقراءة ما يحتويه أم لا؟ مع أنّه تعالى يقول: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِي مُبِينٍ» (1).

وقال تعالى: ««وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا» (2).

فإذا كان القرآن قد نزل به الرّوح الأمين على قلبه الشّريف، ونزّله تنزيلًا أي متفرقًا وعلى دفعات، فكيف يتصوّر لقاؤه معه، وجذبه وكتم أنفاسه؟

د. طمأنة خديجة علیهما السّلام له صلّی الله علیه و آله:

ثمّ إنّ الرّواية ذكرت أمرًا غريبًا آخر، وهو أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله، عاد إلى المنزل وفؤاده يرتجف، وأخبر خديجة بنت خويلد علیها السّلام ما جرى معه، ثمّ قال: «لقد خشيت على نفسي»، وطلب منها أن تزمّله، فأخبرته أنّ ذلك مما لا يُخيف، وأظهرت ثقتها العالية بالله تعالى، وحسن ظنّها به، وأبرزت للنّبيّ حسن شمائله.

وهذه تدعو إلى التّساؤل والاستغراب كذلك، فما معنى أن يخشى الرّسول على نفسه، إلّا أن يكون في شكٍّ في أمره، وأنّ خديجة كانت أحسن ثقةً بالله منه، أم إنّ لقاء الملك كان موحشًا إلى هذا الحدّ، وهو الذي كان يتعبّد لله تعالى في غار حراء مدّةً طويلةً لوحده، أم إنّه كان يكره لقاء الملائكة، حاشاه!؟

وما معنى تزمّله صلّی الله علیه و آله؟ فإنّ التَّزمّل إنّما يكون من شدّة البرد. أمّا التّزمّل من الخشية والخوف فليس له معنًى إلّا الاختباء من الخطر القادم، فهل كان النّبيّ صلّی الله علیه و آله يخشى من أن يلحق به الملك، أم إنّ الرّجفة من الخوف تُعالج بالتّزمّل ؟!. إنّ هذا الفعل لا يصدر من عاقلٍ كما هو واضح. فلا معنى لهذا الفعل الذي تذكره الرّواية سوى الانتقاص من مقام النّبيّ الأعظم صلّی الله علیه و آله.

ص: 391


1- سورة الشعراء، الآيات 192-195.
2- سورة الإسراء، الآية 106.

ثم من أين حصّلت خديجة هذه الثّقة بالله، ألعلّها كانت أعلم منه صلّی الله علیه و آله، وأقرب إلى الله تعالى، حتى علمت أنّ الأوصاف التي يتّصف بها الرسول الله صلّی الله علیه و آله، تعني عناية الله تعالى به دونه.

مع أنّ لقاءه مع الملك بنفسه يجب أن يكون مطمئنًّا له صلّی الله علیه و آله، فإنّه أنهى اللّقاء بقوله: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (1). وهو الذي كان يُطيل التّعبّد كما مرّ. ثمّ ما معنى أن تأخذه إلى ورقة بن نوفل، بعدما زمّلته وهدّأت من روعه، وهل لم يطمئن لكلامها حتى اضطرّت إلى أخذه، وقد كان يحتاج إلى نصرانيٍّ یُعرّفه معنی اللّقاء ويُبيّن له حقيقة النّبوّة!؟ بل إنّ قومه سيخرجونه من موطنه.

ماذا عن ورقة بن نوفل؟

أمّا عنّ قصّته صلّی الله علیه و آله مع ورقة بن نوفل فقد ورد فيها مجموعة أمورٍ لا يمكن قبولها ولا تصديقها: منها ما يتعلّق بنفس الحادثة وما جرى بينهما، ومنها ما يتعلّق بحقيقة معرفته بالعبرانيّة والكتاب وتنصّره. ومنها ما يتعلّق بحقيقة وجوده وعدمها.

بين ورقة والنّبي:

أمّا في ما يتعلّق بالمسألة الأولى، وهي في ما جرى بينه وبين النبيّ صلّی الله علیه و آله، فنقول: إنّ في هذه القصّة عددٌ من الأمور لا بدّ من كشف حقيقتها ومعرفة خلفيّاتها:

1- إنّه كان قد تنصّر في الجاهليّة.

2- إنّه كان يكتب من الإنجيل بالعبرانيّة.

3- إنّه كان شيخًا كبيرًا قد عمي.

4- إنّه أخبر رسول الله صلّی الله علیه و آله أنّ ما رآه هو النّاموس الذي نزل على موسى علیه السّلام.

ص: 392


1- سورة العلق، الآيات 1-5.

5- إخباره الرّسولَ صلّی الله علیه و آله بأنّ قومه سيخرجونه من دياره، وأنّه تمنّى أن يكون حيًّا حين يخرجونه فينصره نصرًا مؤزّرًا.

إنّ ورقة ما لبث أن مات وفتر الوحي.

أمّا كونه قد تنصّر من الجاهليّة ويقرأ الكتاب ويكتب الإنجيل بالعبرانيّة فسيأتي الكلام فيه.

وأمّا إخباره النّبيَّ صلّی الله علیه و آله بأنّ ما رآه هو النّاموس الذي أنزل على موسى علیه السّلام، فهو أمرٌ مريبٌ؛ إذ لو كان نصرانيًّا فعلًا فلماذا لم يتحدّث عمّا نزل على عيسى علیه السّلام، خصوصًا وأنّ النّصارى يعتقدون أنّ السّيد المسيح علیه السّلام قد جاء ونسخ ناموس موسى علیه السّلام، وأنّه هو الغاية والخلاص به، فكان الأجدر به أن يقرّب المسألة بالسّيد المسيح علیه السّلام بناءً على ذلك، إذ التّوراة لا تعني شيئًا عند النّصارى (المسيحيين). وقد يُقال إنّه كان يعتقد بآراء آريوس، من اعتماد العهد القديم والاعتقاد بالشّريعة وببشريّة السّيد المسيح علیه السّلام، وأنّه ابن الله على المجاز، فيكون ذكره لناموس موسی علیه السّلام طبيعيًّا ومنطقيًّا.

والجواب: إنّ كونه من أتباع آريوس يستلزم ألّا يقول بأنّ السّيد المسيح ابن الله تعالى عن ذلك، وأنّه نبيّ مرسلٌ، فيكون أحقّ أن يشبّه النّبيّ صلّی الله علیه و آله به لا بموسى علیه السّلام، فإنّه الأقرب عهدًا إليه صلّی الله علیه و آله. مضافًا إلى أنّ إرساله ناموس موسى علیه السّلام إرسال المسلّمات، یعني أنّه صلّی الله علیه و آله كان على اطّلاعٍ ومعرفةٍ برسالة موسى علیه السّلام، مع أنّه تعالى يخاطبه في القرآن الكريم بقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (1). وقال تعالى: «قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهِ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (2). وإذا كان كذلك، فإنّ من غير الممكن أن يرسل ورقة كلامه، دون أن يعترض عليه رسول الله صلّی الله علیه و آله.

ص: 393


1- سورة الشورى، الآية 52.
2- سورة يونس، الآية 16.

هذا بالإضافة إلى أنّ كون ورقة من أتباع آريوس أو المتأثّرين به، يستلزم القول بعدم قدرة الكنيسة، التي كانت مسيطرةً على شؤون الإمبراطوريّة البيزنطيّة من النّاحية الدّينيّة، في القضاء على حركة آريوس، فقد ألقت الحرم الكنسية على آريوس وأتباعه، وأحرقت كلّ الكتب التي تدعو بدعوته، واعتبرتها هرطقةً في الدّيانة المسيحيّة، وذلك قبل بعثة النّبي صلّی الله علیه و آله بحوالي أربعة قرون، فانتفت عن صفحة الوجود بالمرّة.

وأمّا إخباره النّبيّ بأنّ قومه سيخرجونه من مكّة، وتمنّيه أن يكون حينها على قيد الحياة، فأمرٌ غريبٌ في نفسه هو الآخر؛ لأنّه لا يخلو من أن يكون قد أوحي إليه بذلك، أو يكون قد قرأه في أسفار أهل الكتاب.

فإن كان قد أوحي إليه، فمعنى ذلك أنّه كان نبيًّا، ولم ينقل ذلك أحد عنه، مع أنّه كان الأحرى به أن يكون هو الرسول، دون رسول الله صلّی الله علیه و آله؛ إذ هو من بني أسد، أي أنّه عربيٌّ سيرسل إلى بني قومه العرب، وطبقًا للرواية فقد كان ذا مقامٍ سامٍ بينهم. وإن كان قد قرأه في أسفار أهل الكتاب، فلماذا لم يُبيّن لنا في أيّ سفر أو كتاب قرأه واستفاده، بل جزم بحصوله، مع أنّ المسيحيين يعتقدون أنّ هذه الأسفار الموجودة بين أيدينا هي التي كانت في عهد الرّسول صلّی الله علیه و آله.

ويُؤيّد ذلك القرآن الكريم، حيث قال تعالى: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاة فِيهَا حُكْمُ الله» (1) ولا يوجد ما يدلّ على ذلك فيها، خصوصًا الأناجيل الأربعة، التي يعتمدونها.

وأمّا تمنّيه أن يكون على قيد الحياة حين إخراج الرّسول من دياره لينصره نصرًا مؤزّرًا، فلا يمكن أن يصحّ هو الآخر؛ لأنّ الرّواية صريحةٌ بأنّه كان قد شاخ وكفّ بصره، وكلا الأمرين يمنعان من تحقّق ذلك، كما هو ظاهر، فلا يمكن قبول هذا الأمر.

هذا بالنّسبة للحوار الذي جرى بينهما.

ص: 394


1- سورة المائدة، الآية 43.
معرفته بالعبرانیّة:

وتقول الرّواية أنّ ورقة بن نوفل «كان يكتب الكتاب العبرانيّ وكان يكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب».

ونقول: إنّه بمعزلٍ عن ضعف التّركيب في العبارة المذكورة من النّاحية اللّغويّة، فإنّ مضمونها يكشف عن أنّ الرّاوي، أو أحد الرّواة، كان جاهلًا بالكتاب المقدّس وأهله، فإنّه لم يكن موجودًا باللّغة العبرانيّة أصلًا، فإنّ الثّابت أنّ العهدين قد كانا باللّغة اليونانيّة. أما العهد القديم فلا يوجد منه سوى التّرجمة السبعينيّة، وهي ترجمة العهد القديم في القرن الثاني قبل الميلاد، كما أنّه لا توجد منها أيّة نسخة. وأمّا النّسخة العبرانيّة الموجودة فقد نقلت عن النّسخة السبعينيّة في القرن العاشر الميلادي.

وأمّا العهد الجديد فقد كُتب أكثره - والأناجيل الأربعة على الأخص - باللّغة اليونانيّة، وليس بالعبرانيّة أصلًا، وهذا يعني أنّ ورقة لم يكن يقرأ في الكتاب المقدّس أساسًا. ثمّ ما هي حاجته إلى معرفة اللّغة العبرانيّة أصلًا، ما دام عربيًّا من بني أسد، وكان يعيش في مكّة المكرّمة، حسب المفروض من الرّواية، ولم يذكر التّاريخ أنّه غادرها، أو كان فيها قوم من اليهود ليتعلّمها منهم. ولو فرض وجود اليهود أو بعضهم في مكّة المكرمة، لم يكن من فائدةٍ ترجى من تعلّمه لغتهم، طالما أنّه كان ،نصرانيًّا، أي معادٍ لليهود، فقد كان يحتاج إلى اللّغة اليونانيّة؛ لأنّ المفروض أنّها لغة الدّين الذي ينتمي إليه.

هل تنصّر ورقة؟

وأمّا كونه قد تنصّر في الجاهليّة، وأنّه كان يُلقّب بالقسّ، كما يذكر بعض علماء الرّجال، فلم يظهر له وجه يمكن أن يُستند إليه أو يُعتمد عليه، وذلك:

فإنّ تنصّره متفرّعٌ عن أن يكون للنصرانيّة وجودٌ في مكّة قبل الإسلام، وأن يكون قد تعلّمها من الكهنة، فإنّ المسيحيّة مبنيّةٌ على الدّعوة والبشارة، التي كانت

ص: 395

منحصرةً بالكهنة ورجال الكنيسة حينها، وهو مستندٌ إلى حدٍّ كبيرٍ خصوصًا في ماضي الأيّام إلى التّبشير الكنسي، وهو يقتضي وجود معابد وكنس للمسيحيين فيها، وهو ما لا عين له ولا أثر في مكّة أو محيطها، فمن أين تعلّم النّصرانيّة وآمن بها؟

واحتمال أن يكون قد أخذها من خلال هجرته إلى بلاد الرّوم، حيث النّصرانيّة، وإن كان ممكنًا في نفسه، إلّا أنّه مجرّد احتمالٍ لا شاهد له؛ إذ لم يتعرّض المؤرّخون إلى حياته، ولا إلى ترحّله وسفره في بلاد العرب، فضلًا عن الرّوم، بل إنّ كلّ علماء الرّجال، من الشّيعة والسّنّة قد حكموا عليه بالجهالة، لمن راجع كتبهم المختصّة. هذا فضلًا عن وصفه بالقسّ، فإنّ أولى وظائف القسّ أو الكاهن هي الدّعوة والتّبشير بالمسيحيّة، إضافةً إلى إقامة القداديس، وهذا يعني أنّه لا بدّ من وجود كنيسةٍ يعمل فيها، ولم يحدّثنا التّاريخ عن أيّة كنيسةٍ في تلك الديار.

وهل يمكن أن يتقبّل أهل مكّة دعوته أم يحاربونها؟ ولا ذكر لشيءٍ من ذلك عند المؤرّخين أو المحدّثين والرّواة، مع ما نراه من محاربتهم لرسول الله صلّی الله علیه و آله، ومحاولتهم القضاء على دعوته الشّريفة؛ لأنّهم رأوا فيها ما يُهدّد مصالحهم بزعمهم، أم إنّ دعوة ورقة كانت متطابقةً مع ما يزعمونه لأنفسهم.

مضافًا إلى أنّ الدّعوة الإنجيليّة تحارب الغنى وتدعو إلى الفقر وترك الدنيا، فقد نُسب إلى السّيد المسيح قوله: «الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات، وأقول لكم أيضًا أن مرور جمل من ثقب ابرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله» (1).

فلا بدّ أن يكون لهذه الدّعوة منافسةٌ شديدةٌ من قبل أهل مكّة، ويحاربونها بكلّ ما أوتوا من قوّة، وهو يقتضي أن يصل إلينا شيءٌ من ذلك، مهما كان بسيطًا. إلَّا أنّنا لم نجد شيئًا من هذا القبيل.

ودعوى أنّ الدّولة الإسلاميّة التي حكمت في تلك الفترة، منعت من ذلك، باطلةٌ،

ص: 396


1- إنجيل متى: 23/19-24.

فإنّ أهل الكتاب عاشوا فترةً ذهبيّةً في العصر الإسلامي، سواء في الدّعوة إلى دينهم، أو في الحياة العامّة. ويكفي أن نذكر شاهدًا واحدًا على ذلك، وهو أنّ يوحنا الدّمشقي كان أمين المال، أي كان وزيرًا للماليّة، في دولة معاوية بن أبي سفيان، في بداية العصر الأموي.

وكذلك ورد عنه قوله علیه السّلام: «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم» (1).

مدى اعتبار الرّواية: إنّ كلّ ما تقدّم يدعونا إلى عدم اعتبار الرّواية المذكورة، لما فيها من توهينٍ وتصغيٍر لشخص النّبيّ صلّی الله علیه و آله وحكمته وتعقّله، نعوذ بالله من ذلك. مضافًا لمناقضتها لصريح القرآن الكريم، ولما فيها من تحقيرٍ للذات الإلهيّة المقدّسة والملائكة وخصوصًا جبرائيل علیه السّلام.

هذا بالإضافة إلى ضعف سندها، رغم ورودها في صحيح البخاري، فإنّ روّاتها كلّهم متّهمون في نقل الحديث، فقد ذكرها البخاري بقوله: «حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب (الزهري) عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين، قال: أوّل ما بدأ به رسول...»

مع أنّ عائشة لم تُبيّن لنا من الذي أخبرها بذلك، فإنّها لم تكن موجودةً حينها؛ لأنّها إذا كانت قد تزوّجها رسول الله صلّی الله علیه و آله في المدينة المنوّرة، وهي بنت تسع سنين، كما يقولون، فتكون ولادتها بعد السنة الثالثة أو الرابعة من البعثة، ولا ندري من أخبرها بهذه القصّة إن لم تكن قد ولدت يومها.

إلّا أن يقال إنّ الرّواية قد نُسبت إليها من قبل بعض الوضّاعين، من مسلمة أهل الكتاب، ووضع هذا السّند والقصّة، ليقبلها الناس بعد ذلك، وهذا ليس بغريبٍ عنهم، فقد وضعوا كثيرًا من الأحاديث وأسانيدها، ونسبوها إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله، خصوصًا وأنّ الرّواية تجعل من أهل الكتاب حجّةً ومرجعًا للنّبيّ صلّی الله علیه و آله يعتمد عليه، وإلّا لم تصدق نبوّته، وكفى بذلك تعظيمًا لهم وانتقاصًا من مقامه الشّريف صلّی الله علیه و آله.

ص: 397


1- إنجيل متى: 11/6.
حقيقة ورقة بن نوفل:

بقي الكلام حول شخصيّة ورقة بن نوفل، وأنّه موجودٌ واقعيٌّ، أم هو شخصّ مختلقٌ، أبدعته المخيّلة الإنسانيّة لغايةٍ ما.

فنقول: إنّ من المعلوم والمشاهد أنّ عظماء التّاريخ، يظهرون على صفحات الزّمن بشكلٍ واضحٍ، كما يظهر لهم موالون، يقدّمونهم بصورةٍ قدسيّةٍ، وتحاك حولهم القصص والحكايات الخياليّة والواقعيّة، ويبرزونهم على أنّهم صانعوا مجدٍ وحضارةٍ وبطولةٍ ونحو ذلك. في مقابل هؤلاء نجد فئة أخرى تخاصمهم بل تعاديهم، وتبرز لهم المثالب والخطايا، ويحاربونهم بكلّ ما أوتوا من قوةٍ وبأسٍ، بل دهاء وكذب، لأجل إسقاطهم وتزييف إنجازاتهم، بل إسقاط ما يعملون له ويدعون إليه، خصوصًا إذا كان يرتبط بالآخرين، وبالواقع الاجتماعي للناس ومستقبلهم.

غير أنّنا لم نجد لورقة بن نوفل هذا أيّ موقفٍ أو عملٍ يمكن أن يخلّد له، ما منحه الرّواة من الأوصاف، التي تنبّئ عن أهمّيته وخطره في التّاريخ، غير هذه القصّة التي تقدّم ذكرها والحديث عنها. خصوصًا وأنّ الرّواية تظهره شيخًا عجوزًا قد أضرّ بصره وعمي، ولا بدّ أن يكون ذلك بعد تاريخٍ طويلٍ، حافل بالانجازات، وعلى الأخصّ قضيّة تنصّره ومعرفته العبرانيّة والكتاب، فلم يذكر التّاريخ شيئًا منها. بل إنّ كلّ من ترجم له من علماء الرّجال أكّد على أنّه مجهولٌ، لا يعرف عنه شيئًا، سوى هذه الرّواية المختلقة. والأدهى من ذلك أنّ الرّواية المذكورة نفسها قد ذكرت أنّه ما لبث أن مات وفتر الوحي. وهنا لا بدّ من إثارة بعض التّساؤلات:

فلماذا لم يعلن إيمانه برسول الله صلّی الله علیه و آله قبل موته، مع أنّه كان صريحًا في إعلان نبوّته صلّی الله علیه و آله؟ ثمّ لماذا فتر الوحي بعد موته؟ وهل كان الوحي مرتبطًا به أو بحياته، أم أنّ النّبيّ صلّی الله علیه و آله كان محتاجًا إلى تفسير الوحي له لمرّةٍ واحدةٍ فقط؟ والأسئلة كثيرةٌ في هذا المجال!.

إنّ كلّ ذلك وغيره يدعونا إلى الشّكّ في حقيقة وجود هذا الشّخص في زمان النّبي صلّی الله علیه و آله، وأنّه شخصيّةٌ مختلقةٌ لا واقع لها.

ص: 398

خامسًا: القرآن والنّصوص المسيحيّة:

اشارة

يذكر غريفيث في مقام المقارنة بين النّصّ القرآنيّ والنّصوص الإنجيليّة، مجموعة نقاطٍ تُشير إلى عدم دقّة النّقل القرآنيّ لمعلوماته، أو عدم أمانته في نقلها، وعدم دقّته فى بيان عقائد المسيحيين، ما خلاصته:

إنّ القرآن الكريم يذكر بعض القضايا والقصص التي تتعلّق بالسّيد المسيح علیه السّلام، وعقائد المسيحيين على ثلاثة أنحاء: منها ما يناظر المعلومات والسّرديات الواردة في الإنجيل الشّرعي (القانوني). ومنها ما يناظر المعلومات الواردة في الأناجيل المنحولة (المشكوك فيها)، والمعلومات التي كانت متوافرةً في التّقاليد المسيحيّة المبكرة. ومنها ما ليس له ما يناظره في النّصوص المسيحيّة. ويخلص من ذلك إلى أنّ بعض المسلمين، بل عامّتهم، يتّهمون المسيحيين بتحريف الإنجيل الأصلي، الذي يتحدّث عنه القرآن. ولا بدّ من معالجة هذه الإشكاليات الثلاثة، بما يتيحه المقام والوقت لنتبيّن مدى صحّتها أو عدمه، وبيان الحق فيها، فنقول:

1. في تحريف الإنجيل:

لا بدّ من القول أوّلًا، بأنّ التّحريف يعني التّغيير في اللّفظ أو في المعنى. وهذا يستلزم وجود الأصل ليمكن القول بتحقّق التّحريف، فإذا لم يكن الأصل موجودًا فلا معنى للقول بوقوع التّحريف، وإنّما هو تبديلٌ أو

حذفٌ وإلغاءٌ.

والتّحريف تارةً يكون بالزّيادة والنّقيصة في الكلام فيتغيّر المعنى تبعًا له. وأخرى يكون تحريفًا في مراد المتكلّم، مع المحافظة على الأصل من حيث تركيبه اللّغوي.

أ. ثبوت التّحريف:

إنّ القول بوجود أناجيل شرعيّةٍ، وفرضها صحيحةً ومسلّمةً، في مقابل أخرى غير شرعيّةٍ أو مشكوكٍ فيها، لا يخلو من مصادرة على المطلوب، ومجانبة للحقيقة.

فإنّ من المعلوم والذي تسالم عليه المسيحيون، أنّ هذه الأسفار الأربعة قد كُتبت بعد ارتفاع السّيد المسيح علیه السّلام بزمن. ويقول المسيحيون إنّها دوّنت في أواخر

ص: 399

القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني للميلاد. إلّا أنّ هذه الدّعوى تفتقر إلى الدّليل، أو القرائن المثبتة لها، فإنّ الوثائق والأدلّة الموجودة تدلّ على عدم وجود أيّ أثرٍ منها، يعود إلى ما قبل القرن الثالث للميلاد، أي أنّها ترجع إلى فترة ما قبل مجمع نیقیا، الذي انعقد في سنة 325م بقليلٍ أو أثناءها. وهو الذي أقرّ شرعيّة هذه الأناجيل دون غيرها.

كما أنّ أقدم مخطوطة اكتشفت لها هي المخطوطة السينائيّة، التي دير القدّيسة كاترينا في صحراء سيناء، ويرجع تاريخ كتابتها إلى القرن الخامس الميلادي (1)، وفيها اختلافٌ كثيرٌ عن النّسخ الموجودة، من حيث الزّيادة والنّقيصة. مع إقرار الآباء أنّ الأناجيل كانت تزيد على الأربعين إنجيلاً، منع العمل بها واقتناؤها، وأنّ تاريخ كتابة بعضها يعود إلى القرن الأوّل الميلادي، أي أنّها أسبق زمنًا من الأناجيل الأربعة المعترف بها.

وكيف كان، فالكلام تارةً يكون حول إثبات التّحريف، من كتابات المسيحيين أنفسهم. وأخرى عن نسبة التّحريف إلى القرآن الكريم.

ب. اعتراف الكهنة بالتّحريف:

أمّا بالنسبة إلى المسألة الأولى، فمضافًا إلى الإقرار بأنّ مؤلّفي هذه الكتب مجهولون (2)، فيكفي أن نذكر نصّين لهم في إثبات ذلك:

1- لقد اعترف الأب سليم بسترس بالتّحريف من قبل المؤلّفين أنفسهم، حين صرّح بأنّ إنجيل مرقس هم أقدم الأناجيل، وأنّ متى استند إليه في كتابة إنجيله، وقد ورد فيه أنّ بطرس قال للسّيد المسيح عیه السّلام: «أنت المسيح»، فزاد فيها متى قوله: «ابن الله الحي»، وإنّ إضافة متى لهذه العبارة كانت ليعلن أنّ ليس إيمان بطرس في أثناء حياة يسوع، بل إيمان بطرس والرسل والكنيسة الأولى بألوهيّة المسيح من بعد قيامته (3).

ص: 400


1- راجع إسماعيل، حاتم صلب المسيح في الإنجيل، لا ط، بيروت، المركز الإسلامي للدراسات، 1999، ص 14-15.
2- تعرضنا لهذا البحث في كتاب «صلب المسيح في الإنجيل»، ص 13 وما يعدها.
3- بسترس، سليم: اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر، الطبعة الثانية، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ج 1، ص132.

وهذا التّصريح وإن كان جزئيًّا وفي موردٍ واحدٍ، إلّا أنّه يدلّ صراحةً على وقوع أصل التّحريف، كما يكشف عن أخطر تحريفٍ فيه؛ لأنّه ناظرٌ إلى أهمّ معتقدٍ عند المسيحيين. كما أنّه يتضمّن اتّهامًا للتلاميذ بالجهل بما هو مضمون الدّعوة المسيحيّة، بل الأساس فيها، وهو أنّهم لم يعلموا أنّ السّيد المسيح ابنٌ لله تعالى، إلّا بعد صلبه وقيامته، التي لم تثبت يقينًا، إذ التي جاءت بها مريم المجدلية، ولم يصدّقها التّلاميذ أوّل الأمر واتّهموها بالهذيان. وهو منافٍ للأوسمة التي منحهم إيّاها السّيد المسيح علیه السّلام في حياته.

2- وقال الآباء اليسوعيون في المدخل إلى العهد الجديد، إنّه قد زيد فيه وأنقص منه مرّات عديدة على يد النّسّاخ، حتى «كان النّصّ الذي وصل إلى عهد الطّباعة مثقلًا بمختلف ألوان التّبديل ظهرت في عددٍ كبير من القراءات». وخلصوا إلى القول بأنّ غاية ما يهدف إليه علم نقد النّصوص، هو محاولة الوصول أن يقيموا نصًّا أقرب ما يكون إلى النّص الأصليّ، ولا يرجى بحالٍ من الأحوال الوصول إلى النّصّ الأصليّ نفسه (1). وشهادات اللاّهوتيين المسيحيين في تحريف الكتاب المقدّس، والتّلاعب بنصوصه كثيرة جدًا، وإن جادل بعضهم في ذلك، في محاولة إسكات النّقّاد والمسلمين منهم على وجه الخصوص.

2. القرآن وتحريف الإنجيل:

وأمّا بالنّسبة للمسألة الثانية، وهي نسبة تحريف الإنجيل للقرآن الكريم والمسلمين، فنقول:

إنّ القرآن الكريم يتحدّث عن الإنجيل الذي أُنزل على السّيد المسيح عليه السّلام، والمسيحيون لا يعتقدون بنزول كتابٍ باسم الإنجيل على السّيد المسيح علیه السّلام، وإنّما يقولون كما تقدّم أنّ تعليمه كان شفويًّا، وأنّ الذين كتبوا الإنجيل أناسٌ آخرون غيره، وهذا التّوصيف ينطبق على الأناجيل الأربعة، كما على الأناجيل الأخرى.

ص: 401


1- العهد الجديد، الطبعة الثالثة، بيروت، دار المشرق، 1994، ص 13.

وليس معنى ذلك أنّ هذه الأناجيل خاليةٌ من تعاليم السّيد المسيح علیه السّلام، التي أنزلت عليه، وأراد إيصالها إلى بني إسرائيل، وتصحيح تشريعات التّوراة في أذهانهم. بل هي على الرّغم من نسبتها إلى غيره من الرّجال، إلّا أنّها تشتمل على بعض تعاليمه ووصاياه الأخلاقيّة، رغم خلوها من الأحكام والقوانين التشريعيّة، حيث اكتفت بالتّعاليم التّوراتيّة.

فالإنجيل الذي يتحدّث عنه القرآن الكريم مغايرٌ للإنجيل الذي يتحدّث المسيحيّون عنه، فلا يبقى أيّ معنى للقول بأنّ القرآن الكريم يصفهم بتحريف الإنجيل كما يدّعون. مع أنّ القرآن الكريم يطلب منهم الاستناد إلى الإنجيل في شؤونهم كافّة، قال تعالى: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَيكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (1).

وهذه الآية المباركة تدلّ على أنّ كهنتهم يعرفون بنزول الإنجيل على السّيد المسيح من عند الله تعالى، بدليل الآية السابقة عليها، وهي قوله تعالى: «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورُ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (2).

وإذا لم ينطبق عليهم القول بأنّهم حرّفوا الإنجيل، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّه يصدق عليهم أنّهم أخفوه، وكتبوا أسفارًا أخرى أطلقوا عليها اسم الإنجيل ونسبوها إلى الله تعالى؛ إذ يعتقد المسيحيون أنّ مؤلّفي تلك الأناجيل حرّروها بإلهاٍم من الله تعالى، أي بوحيٍ منه تعالى. وفرقٌ واضحٌ بين القول بالتّحريف والقول بنفي نزول کتابٍ على السّيد المسيح أصلاً، وأنّ تعليمه كان شفويًّا، معرّضًا للزّوال لولا هؤلاء الكتبة، والذي يمكن أن يقال فيهم إنّهم مصداقٌ لقوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ» (3).

ص: 402


1- سورة المائدة، الآية 47.
2- سورة المائدة، الآية 46.
3- سورة البقرة، آية 79.

وماذا عن إنجيل برنابا (1)؟

ثمّ تعرّض غريفيث لإنجيل برنابا، وقال إنّ هذا الإنجيل يرجع تاريخه إلى القرن السادس عشر؛ حيث وجدت نسخةٌ منه باللّغة الإيطاليّة، ثم زعم أنّ بعض المسلمين يدّعون أنّه حافظ على الإنجيل الأصلي الذي تحدّث عنه القرآن، مع أنّه

ليس له أصلٌ قديمٌ.

ونقول: إنّ أحدًا من المسلمين لم يكن يعرف شيئًا عن هذا الإنجيل، ولا ورد اسمه على لسان أيّ منهم، قبل أن يترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعادة ويطبع في مصر في أوائل القرن العشرين الميلادي. ومع أنّ الكتاب كان منشورًا ومشتهرًا باللّغة الانكليزية وغيرها، إلّا أنّه لم ترصد أيّة ردّة فعلٍ ضدّه من قبل المسيحيين. حتى إذا صدرت التّرجمة العربية ثارت ثائرة المسيحيين العرب، وحملوا عليه حملةً شعواء، وأخذت مقولة أنّ بعض المسلمين قد كتب هذا الكتاب، نصرةً لدينه ومعتقده، تشقّ طريقها إلى الوجود، فانتشرت بين الباحثين منهم.

والتّبرير الأهم لهذا القول، أنّ نسخته قد اكتشفت في القرن السادس عشر، في مكتبة البابا سكتس الخامس في الفاتيكان، ثم اختلست منه، وقد وجد عليها بعض التّعليقات باللّغة العربية، بأسلوبٍ رديءٍ، يكشف عن قلّة معرفة بالعربيّة. فجعل الباحثون المسيحيون ذلك دليلًا على أنّ كاتب الإنجيل رجلٌ مسلمٌ، خصوصًا وأنّه لم توجد نسخةٌ أخرى من هذا الإنجيل بغير الإيطاليّة، سوى نسخةٍ وجدت في القرن الثّامن عشر في أسبانيا، فاستنبطوا من ذلك أنّه كتابٌ حديث العهد، وليس له جذور تاريخيّة. إلّا أنّ هذا الاستدلال والاستنتاج مجانبٌ للحقيقة التّاريخيّة. فقد ورد أنّ البابا جيلاسيوس الأوّل، والذي تربّع على عرش البابويّة سنة 492 ميلاديّة، أصدر أمرًا منع فيه قراءة بعض الكتب، وذكر من جملتها «إنجيل برنابا» (2).

ص: 403


1- لقد بحثنا هذا الموضوع في ندوة بحثية في كلية اللاهوت في الشرق الأدنى في بيروت، بتاريخ 24 شباط 2011م، وطبع في کتاب مقالات في الفكر والدين، ج 2، ص 185، تحت عنوان «إنجيل برنابا في ميزان الاعتبار.
2- د. خليل سعادة مقدمة ترجمة إنجيل برنابا، ص: ل.

وهذا إن دلّ على شيءٍ، فإنّما يدلّ على وجود الأصل القديم لهذا الإنجيل، أي أنّه يرجع إلى ما قبل الإسلام بأكثر من قرن من الزمن، فلا يمكن أن يكتبه مسلمٌ في الخامس عشر أو السادس عشر، وهذا واضح. واللّافت أنّ بعض آباء الكنيسة، وفي مقام تزييف الأصل القديم لهذا الإنجيل، تعرّض لهذا الأمر البابوي، إلّا أنّه علّق عليه بقوله: «ولكنّه مجرّد اسمٍ فقط. فليس أحد من المسيحيين أو المسلمين أو اليهود، يذكر هذا الإنجيل أو يستشهد به... والدّليل أيضًا على أنّ ذكر إنجيل برنابا في قرار البابا جيلاسيوس مدسوسٌ أنّ تحريم المطالعة لكتاب يدلّ على شهرته و خطره، ولا أحد يعرفه في زمن جيلاسيوس أو قبل القرآن أو بعده، حتى زمن الأخ مارينو - أي مكتشف الإنجيل ومختلسه من مكتبة البابا سكتس الخامس- في أواخر القرن السادس عشر، فأين خطره لتحريمه» (1).

وهذا في الحقيقة من غريب الاستدلال، فإنّ أيّ عاقلٍ لا يمكن أن يتصوّر أن يكون جيلاسيوس قد حرّم قراءة كتابٍ لا وجود له، بل لا يعرف أحدٌ عنه شيئًا في حينه. إلّا أن يكون قد تنبّأ بحدوثه بعد أكثر من عشرة قرون، وهو أمرٌ غير محتملٍ. إلّا أن يكون هذا البابا بمثّل هذه البساطة والسّذاجة.

بل إنّ ذكره كتابًا على فرض وجوده، لا يتمتّع بأهميّةٍ وخطرٍ خاصّين، لا يُحتمل أن يصدر أمرًا بمنعه؛ لأنّ ذلك مدعاة إلى البحث عنه والتّأمّل فيه، وهو يعني انقلاب التّحذير إلى دافعٍ للبحث عنه، وربّما إلى العمل به، وهو في غير مصلحة الكنيسة، كما لا يخفى. مضافًا إلى كونه لا يعرف أحد عنه شيئًا، فهو أمرٌ طبيعيٌّ ومنطقيٌّ؛ لأنّ هذه الأمور والقرارات، تشكّل سرًّا من الأسرار الكنسية، التي لا يتاح الاطّلاع عليها، إلّا لرجال الكنيسة أنفسهم، فإنّه بعد مجمع نيقيا سنة 325 ميلادية، أحرقت ومنعت كثيرٌ من الكتب والأسفار، وألقيت الحرم الكنسية على العاملين بها والمروّجين لها.

ولهذا كشفت الآثار من مقابر الكهنة كثيراً من هذه الكتب الممنوعة والمحرّم

ص: 404


1- الحداد، الأب يوسف: إنجيل برنابا شهادة زور على القرآن الكريم، ط 2، بيروت، المكتبة البولسية، 1990، ص26.

قراءتها والتّداول بها، إذ كانت تدفن معهم عند موتهم، خوفًا من بطش الكنيسة.

وأمّا كونه مدسوسًا في قرار البابا، فهو أشدّ غرابةً، وأكثر سخفًا مما سبق؛ لأنّ معناه أن يكون الذي دسّ مثل هذا الاسم الذي لم يكن له وجود حتى فترةٍ متأخرةٍ، وإمّا أن يكون أحد البابوات، أو أحد أمناء سرّ الكنيسة قام بذلك، لما تقدم من أنّها أسرارٌ ليس لأحدٍ أن يطّلع عليها من خارج الجهاز الكنسي.

يُضاف إلى ما تقدّم، ما ذكرته صحيفة السفير اللّبنانيّة، في العدد 1212، والصادر يوم الاثنين بتاريخ 27 شباط 2012م . الموافق 5 ربيع الثاني سنة 1433ه_: أنّه تمّ العثور على نسخةٍ من هذا الإنجيل باللّغة السّريانيّة يرجع تاريخها إلى ما قبل 1500 سنة، أي أنّها نسخت قبل الإسلام بحوالي قرن من الزّمان، وهي تتّفق في مضامینها مع النّسخة المعروفة منه. وهذا ما دعا البابا بنديكتوس السادس عشر إلى المطالبة بفحص النّسخة المكتشفة.

وهذا يدلّ على أنّ النّسخة أصيّلةٌ ؛ لأنّها محرّرةٌ باللّغة السّريانيّة الآراميّة التي كان السّيد المسيح علیه السّلام يتكلّم بها، كما اعترف بذلك بعض آباء الكنيسة؛ حيث قال إنّه كان يدعو النّاس باللّغة الآراميّة بلهجتها الغربيّة أو السّريانية (1). إلا أنّ ذلك لا يعني الالتزام بوثاقتها، أو قبول ما فيها على أنّه الحقِّ، فإنّ شأن هذا الإنجيل شأن سائر الأناجيل الأخرى من جهة الوثاقة؛ لأنّه ليس الكتاب الذي أنزل على السّيد المسيح علیه السّلام من عند الله تعالى، بل هو واحدٌ من الأناجيل الأربعين التي كتبت سيرة السّيد المسيح وبعض أعماله وعظاته ومعجزاته والتي لا يختلف عن غيره إلّا بما يمكن أن يكون أقرب إلى الحقيقة، بمعنى أنّه أقرب إلى روح دعوة السّيد المسيح علیه السّلام، وليس إنجيل المسيح نفسه.

3. الإنجيل في القرآن:

وهنا يرد السّؤال المهمّ، وهو أنّه طالما أنّ الأناجيل الموجودة -سواء منها المعترف بها

ص: 405


1- الحداد، يوسف درة: القرآن دعوة نصرانية، بيروت، المكتبة البولسية، ص 94.

أو المنحولة والمكتشفة - مغايرةٌ لإنجيل السّيد المسيح علیه السّلام، فأين هو الإنجيل الذي أنزل عليه، وما هو مصيره، وهل هو محفوظ أم زال عن صفحة الوجود؟ وإذا لم يكن محفوظًا فكيف تقوم الحجّة على المسيحيين، والكلام نفسه يجري بالنّسبة إلى اليهود والتّوراة؟

وفي مقام الإجابة عن ذلك نقول: إنّ حقيقة الإنجيل ومضمونه، وكذلك ما يتعلّق بحياة السّيد المسيح علیه السّلام ودعوته، قد ذُكرت في القرآن الكريم؛ ذلك أنّ دعوته علیه السّلام کكلّ دعوةٍ دينيّةٍ، لا بدّ وأن تشتمل على عقيدةٍ وشريعةٍ وأخلاقٍ، ولا بدّ من الالتزام بها، ليصحّ وصف المرء أنّه منتمٍ إليها. ولمّا كان دين الله واحدًا منذ بدء الخليقة، وإليه دعا كل الأنبياء علیهم السّلام، كما قال تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ» (1)، فإنّ مضمون دعوة السّيد المسيح علیه السّلام موجودة في القرآن الكريم.

بيان ذلك:

إنّ العقيدة واحدةٌ عند جميع الأنبياء علیهم السّلام، وهي الإقرار لله تعالى بالألوهيّة والرّبوبيّة للعالمين، وأنّه سبحانه خالقُ كلّ شيء، والإيمان بالرّسل واليوم الآخر. قال تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَا بِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (2).

وأمّا الشّريعة فيمكن أن تختلف وتتغيّر تبعًا لتغيّر المجتمع الذي تنزّل إليه، فإنّ لكلّ مجتمعٍ عاداتٍ وتقاليدَ خاصّةً به، فيُنزّل الله تعالى لهم ما يُصلح حالهم وينسجم مع عقلهم وثقافتهم.

وبالنّسبة للسّيد المسيح علیه السلام فإنّه لمّا أرسل إلى بني إسرائيل، وهم يرون أنفسهم مرتبطين بموسى علیه السّلام، فقد جاء مصدّقًا لما ورد فيها من تعاليم وقوانين، دون أن ينسخها إلّا بعض أحكامها، قال تعالى: «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلَّا لِبَنِي إِسْرَابِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَابِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (3).

ص: 406


1- سورة الشورى، الآية 13.
2- سورة البقرة، الآية 285.
3- سورة آل عمران الآية 93.

إلّا أنّه لمّا انحرف بنو إسرائيل عن جادّة الحقّ عاقبهم الله تعالى، بتحريم بعض الطيّبات عليهم، وهي التي كانت في الأصل حلالًا لهم، تبعًا لما التزم به إسرائيل، قال تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا» (1).

ثم إنّه تعالى لمّا أرسل السّيد المسيح علیه السّلام إليهم، وأراد أن يُخفّف عنهم ويرحمهم، فجاء لهم بالآيات والبيّنات، ورفع عنهم حرمة بعض الطيّبات التي كانت حُرّمت عليهم بظلمهم، قال تعالى: «وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ» (2). ولا تخلو هذه الآية الشّريفة من الإشارة إلى إقناعهم بما يدعوهم إليه من انتظار ملكوت الله بالنّبيّ الموعود. وهكذا تحقّق دين الله الواحد والثَّابت. وأمّا الأخلاق والسّلوكيات الأخلاقيّة، فقد حفظت عبر السِّنّة النّبويّة الشّريفة عن النّبيّ الأعظم صلّی الله علیه و آله.

4. المسيحيّون والقرآن:

ولكنّ المسيحيين لا يؤمنون بالقرآن الكريم، فلا يمكنهم الرّجوع إليه والاحتكام عنده في قضايا السّيد المسيح علیه السّلام، فقد يقال بناء على ذلك إنّه لا حجّة عليهم في إثبات الحقّ والرّكون إليه، مما يفقده الاحتجاج عليهم.

والجواب: إنّ عدم إيمانهم وعدم قبولهم للقرآن الكريم، لا يعني سقوط الحجّة عنهم؛ لأنّ الميزان في إثبات الحقّ هو العقل. وقد خاطب القرآن الكريم العقل أوّلًا وبالذّات، ودعا إلى تحكيمه، للوصول إلى الحقّ، مضافًا إلى الفطرة التي فطر الناس عليها، ولولاهما لم يمكن الوصول إلى أيّة نتيجةٍ مرضيّةٍ. يُضاف إلى ذلك ملاحظة الظّروف والملابسات التي رافقت الدّعوة الإسلاميّة، والتي تُؤكّد صحّة المعلومات القرآنيّة المتعلّقة بالشّؤون كافّة. فإنّ نزول القرآن الكريم في بيئة وقوم لا يعرفون شيئًا عن الأمم والحضارات السّابقة ولا عن مستقبل العلوم التي يبيّن الواقع

ص: 407


1- سورة النساء، الآية 160.
2- سورة آل عمران، الآية 50.

صدقها مع الأيّام، بل مطابقتها مع ما هو موجودٌ عند أهل الكتاب كافٍ في إثبات صدقها وإمكان الرّجوع إليها، بغضّ النّظر عن انتماء النّاظر إلى الإسلام وعدمه. وقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من الأمور التي أحاطت ببعثة السّيد المسيح علیه السّلام، وكثيرٌ منها مبثوثٌ في مختلف الأناجيل القانونيّة وغيرها، وكلّ ذلك لم يكن معروفًا، لانحصار هذه المعرفة بالكهنة ورجال الكنيسة. إذ كانت ترجمة الأناجيل محظورةً حينها، وخصوصًا تلك الأناجيل المسمّاة «منحولة»، والتي كانت مخفيّةً أو ضائعةً، فإنّ فرض عدم صحّتها لا يعني عدم صحّة كلّ ما احتوته من معلومات، سواء عن دعوة السّيد المسيح علیه السّلام أو غيرها. فإنّ الأناجيل القانونيّة لم تتعرّض لشيءٍ من طفولة السّيد المسيح علیه السّلام وحياته قبل بعثته الشّريفة، وولادته الإعجازيّة، بل لم تتعرّض لحياة السّيدة العذراء علیه السّلام. وهي أمورٌ يحتاج إليها الباحث عن الحقّ في إثبات مدى صدق الدّعوى وصحّتها. فإنّ ذكر القرآن الكريم لهذه القضايا، وتفصيلها، رغم إخفائها منذ قرونٍ، وكشفه النّقاب عنها، لهو دليلٌ كافٍ على صحّة ما ورد فيه، لمن أعمل عقله، وتأمّل في ذلك.

ومع ذلك يكفي في البحث عن الحقيقة تأمّل الأناجيل القانونيّة بعين العقل وعدم الانحياز العاطفي، في إلقاء الحجّة عليهم، ولزوم تصديقهم بحقيقة دعوته علیه السّلام، وأنّها تخالف معتقدات المسيحيين في المسائل العقائديّة، التي اعتقد بها ودعا إليها.

ص: 408

خلاصة واستنتاج:

بعد هذه الجولة القصيرة تتبيّن لنا حقائق مهمّة عدّة لمن تأمّل بها، وهي على نحو العموم:

الأولى: إنّ القرآن الكريم حين يتحدّث عن الإنجيل، إنّما يتحدّث عن الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على السّيد المسيح علیه السّلام، ولا يتحدّث عن الأناجيل التي كتبها أناسٌ مجهولون بأشخاصهم وهوياتهم، وتاريخ كتابتهم لهذه الكتب، التي أطلقوا عليها اسم الإنجيل.

الثّانية: إنّ هذه الأناجيل المنسوبة إلى أشخاصٍ آخرين غير المسيح علیه السّلام من أناسٍ ينتسبون إليه، ويدّعون أنّهم يؤرّخون له، قد احتفظت ببعض الحقيقة، وبالتالي فهي لیست خاليةً من تعاليمه ومعجزاته وأعماله، كتبت لإثبات بعض العقائد التي أريد للمسيحيين أن يعتنقوها ويعتقدوا بها على أنّها الحق. ولم تتعرّض لكلّ سيرته علیه السّلام ولكلّ ما يرتبط به وبأعماله، فقد كتب كاتب إنجيل يوحنا: «وآيات أخر كثيرة صنع المسيح قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذ آمنتم حياة باسمه» (1).

الثّالثة: إنّ هذه الأناجيل نفسها، والتي أقرّتها الكنيسة تصدّق القرآن الكريم في إثبات الأصول الكلّيّة للدين، وهي: توحيد الله تعالى، وتنزيهه هن الشّبيه والشّريك، وعن كلّ صفات المخلوقين. كما تثبت النّبوّة والتّصديق بالأنبياء الذين سبقوه، وأنّه رسولٌ أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل، مصدّقًا لما بين يديه من التّوراة، وأنّه لم يخرج عن تعاليم التّوراة في أصول العقائد، وإرجاع بني إسرائيل إلى جادّة الصّواب من خلال

ص: 409


1- إنجيل يوحنا: 20 30-31.

تطبيق تعاليم التّوراة، وإن تغيّرت بعض أحكامها التّشريعيّة. كذلك جاء تأكيده على الإيمان بالحياة الآخرة والحثّ على العمل من أجل الوصول إليها والحصول عليها.

الرّابعة ولعلّها الأصل في دعوته المباركة، وهي البشارة بالرّسول الآتي من بعده، تارة بالإشارة والتلميح، وأخرى بالكناية وثالثة بالتّصريح باسمه الشريف «أحمد». فتارة عبّر عنه بملكوت الله تعالى، وبيان مواصفات هذا الملكوت وتقريبه إلى أذهانهم، وثالثة بذكر اسمه الشّريف بعدما بيّن لهم أنّهم ليسوا هم الذين يقيمون الملكوت، بل نسل إسماعيل الذين حاول اليهود أن يبعدوه عن دائرة الأحداث، فعبّر عنه بالحجر الذي رفضه البنّاؤون وصار رأس الزّاوية، حتى وصل به الحال إلى التّصريح باسمه، مما دفعهم إلى العمل على قتله والخلاص منه. وذلك تصديقٌ لما جاء به القرآن الكريم في الحديث عنه علیه السّلام.

الخامسة: إنّ ما افترضه أعداء الإسلام من نقضٍ على القرآن الكريم، فإنّه لم يكن دقيقًا ولا أمينًا في الحديث عن السّيد المسيح علیه السّلام وهو ناشئٌ عن رؤيةٍ سابقةٍ، وغير موضوعيّةٍ عن الإسلام، وتشتمل على تضليلٍ مستندٍ إلى مسلّماتٍ لا تثبت أمام البحث العلمي. ولعلّ كلّ ذلك من باب تعمّد الكذب، خدمةً للهدف الذي يسعون إليه، ويعملون لأجله بمختلف الوسائل التي يمكنهم استخدامها، لإبطال الدّين الحق، وتضليل النّاس وإبعادهم عنه.

فإذا كان الكذب مدعاةً للفخر من أجل الوصول إلى الغاية المرجوّة والهدف المنشود عندهم، سواء من قبل قديسيهم، أو من قبل المفكرين منهم، فلا يمكن الاطمئنان إلى ما يزعمونه من الموضوعيّة والبحث العلمي لأجل الوصول إلى الحقيقة. اللّهمّ إلّا القليلين منهم وخاصّة من الذين ابتعدوا عن التّعاليم المسيحيّة، ونظروا إليها من الخارج، فأخذوا يبحثون عن الحقيقة بصدق، وهم قلّة.

بل كيف تطمئن النّفس إلى اهتداء بولس المزعوم، بعد ما صرّح بأنّه لم يأخذ الإنجيل

ص: 410

الذي يُبشّر به من أحدٍ من التلاميذ، ولا رأى السّيد المسيح علیه السّلام قبل ارتفاعه، وزعم أنّ

المسيح تجلّى له بعد رحيله بسنوات.

ألا يمكن أن يكون ذلك من جملة أكاذيبه من أجل الهدف الذي سعى إليه جاهدًا من ملاحقة المهتدين من بني إسرائيل؟

والحمد لله رب العالمين.

ص: 411

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم.

2. إنجيل متى

3. إنجيل لوقا

4. إنجيل مرقس

5. إنجيل يوحنا.

6. العهد الجديد، طبعة دار المشرق، بيروت، 1988.

7. العهد الجديد، الطبعة الثالثة، دار المشرق، بيروت، 1994.

8. سفر التكوين

9. البخاري، محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، كتاب بدء الوحي.

10. إسماعيل، حاتم: صلب المسيح في الإنجيل، المركز الإسلامي للدراسات، بیروت، 1999.

11. الحداد، الأب يوسف: إنجيل برنابا شهادة زور على القرآن الكريم، ط2، بيروت، المكتبة

البولسية، 1990.

12. بسترس، سليم: اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر، الطبعة الثانية، بيروت، منشورات

المكتبة البولسية، 198.

13. الحداد، يوسف درة: القرآن دعوة نصرانية، المكتبة البولسية، بيروت.

ص: 412

التحيّز المعرفي في موسوعة ليدن القرآنية (مداخل الأنبياء أنموذجًا)

اشارة

السيد يعقوب الميالي (1)

ملخّص البحث

إنّ المراد من التحيّز المبحوث عنه هنا، هو محاولة الكاتب سوق القارئ إلى فكرةٍ معيّنةٍ، هو يريدها ويسوقها من دون أن يشعر القارئ والمتلقّي بذلك. فالكاتب يفهم الأشياء وفق ما تُمليه عليه منظومته المعرفيّة، ولا يستطيع أن يتخلّص من المرجعيّة الثّقافيّة والمعرفيّة التي ينتمي إليها في فهم الأشياء والأفكار، ويحاول من جهةٍ أخرى أن يقدّم هذا الفهم على أنّه فهمٌ محايدٌ، وهو خلاف الواقع، بل هو متحيّزٌ إلى بيئةٍ معرفيّةٍ ومنهجٍ معرفيٍّ محدّدٍ.

ومثل هذا التحيّز يبرز بشكلٍ واضحٍ في النّتاج الثّقافيّ الغربيّ في نظرته إلى الثّقافة الشّرقيّة بشكلٍ عام وإلى الثّقافة الإسلاميّة بشكلٍ خاصٍّ، وليست موسوعة ليدن القرآنيّة محلّ استثناءٍ من هذا التّحيّز، فرغم أنّ موسوعة ليدن القرآنيّة تتّسم بالموضوعية بشكلٍ ما بالمقارنة مع غيرها من الكتابات الغربيّة في مجال القرآن الكريم، إلّا أنّها لم تخلوا من تحيّزٍ في كثيرٍ من الموارد، بل نجدها متحيّزةً إلى البيئة الثّقافيّة الغربيّة في فهم القرآن الكريم وبشكلٍ واضحٍ.

وقد اتّخذ التّحيّز المعرفيّ في موسوعة ليدن القرآنيّة أنحاءً عدّة:

1. التحيّز في توظيف المعلومات

ص: 413


1- باحث، ومدرس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في التفسير وعلوم القرآن.

2. التحيّز للمعلومة الخطأ

3. التحيّز للرؤية الاستشراقيّة

4. التأكيد على نظريّة التّناص بين القرآن والكتاب المقدّس

5. التحيّز للرؤية اليهوديّة والمسيحيّة

6. التحيّز في استعمال المصطلح

المقدمة

اشارة

يعدّ القرآن المصدر الأساسيّ للتشريعات والمعارف الإسلاميّة، وقد تركّزت الدّراسات في الشّرق والغرب على هذا الكتاب الإلهي؛ من أجل الوصول إلى فهمه وإدراك مضامينه.

ولا شك أنّ تأليف الموسوعات أو دوائر المعارف حول القرآن الكريم عاملٌ مهمٌّ في نشر الثّقافة القرآنيّة، كما ويُسهّل الأمر على الدّارسين والباحثين في الحصول على المعلومة التي تخصّ القرآن الكريم.

وموسوعة ليدن القرآنيّة إحدى هذه الموسوعات التي حاولت أن تقدّم للباحثين بشكلٍ عام وللغربيين بشكلٍ خاص صورةً مغايرةً من الاستشراق نوعًا ما، من جهة الموضوعيّة في تناول الموضوعات التي تمّت دراستها في هذه الموسوعة. وقد شارك في كتابة هذه الموسوعة العديد من الكتّاب الكبار من المسلمين وغير المسلمين.

إلَّا أنّ ما جاء في هذه الموسوعة - وإن ادّعى أصحابها الاتّصاف بالموضوعيّة مقارنةً بكتابات المستشرقين والمنهج الاستشراقي السابق لها - لم يخلو من ترسّباتٍ استشراقيّةٍ متحيّزة للفكر الاستشراقي على مستوى المنهج والمضمون والمصطلح.

فعلى مستوى المنهج من الواضح أنّ التّعامل كان مع القرآن ومعارفه لا على أنّه نصٌّ إلهيٌّ، بل كانت النّظرة التّاريخانيّة للنصّ القرآنيّ حاضرةً في عموم الموضوعات

ص: 414

التي تناولتها الموسوعة، وتاريخيّة النّصّ القرآنيّ هي منهجٌ يحكّمه الاستشراق والمستشرقون في دراسة النّصّ القرآنيّ.

أمّا على مستوى المضمون فقد أسقط الباحثون فيها خلفيّاتهم الفكريّة والفلسفيّة على الكثير من مضامين الموسوعة. أمّا على مستوى المصطلح فالمفروض أن يستعمل المصطلح القرآنيّ لأيّ معنى ذكره القرآن، إلّا أنّنا نجد في كثيرٍ من الموارد استعمال مصطلحات لا تنتمي إلى فكر القرآن، والتّعويض عنها بمصطلحاتٍ تنتمي إلى بيئة أخرى، وعلى سبيل المثال: القصّة في القرآن الكريم فالتّعريف المناسب لها أن يقال: القصص القرآنيّ أو القصّة في القرآن، إلّا أن التّعبير عن هذا المعنى جاء بالأسطورة؟!! (1).

والتّعبير بالأسطورة عن القصص القرآنيّ تعبيرٌ متحيّزٌ يكشف عن النّظرة المسبقة للقرآن والقصص القرآني، ويحمل رسالةً سلبيّةً للقارئ أو المتلقّي بشكلٍ عام عن موضوع القصص القرآني بشكلٍ خاصّ، والقرآن كلّه بشكلٍ عام.

أو تعريف الأنبياء على أنّهم ملوكٌ، كما جاء في تعريف النّبيّ داوود (2)، والنّبيّ سليمان (3)، وتعريف النّبيّ عيسى على أنّه مرشدٌ روحيٌّ وصاحب كراماتٍ يهوديّ (4)، وغيرها من المصطلحات التي لم ترد في القرآن الكريم.

وكلّ هذا نتاج البيئة الثّقافيّة التي كتبت فيها هذه الموسوعة، وهي البيئة الثّقافيّة الغربيّة، وحتّى المشاركون من المسلمين في كتابة هذه الموسوعة فهم الغالب ينتمون إلى الفكر الحداثوي، ولم توجّه الدّعوات للمشاركة في هذه الموسوعة للكثير من العلماء المسلمين الكبار، ومن أصحاب الاختصاص في الدّراسات القرآنيّة الذين لا ينتمون إلى الفكر الحداثوي.

ص: 415


1- دائرة المعارف قرآن، ترجمة للفارسية مؤسسة التبليغ الإسلامي، ط1، طهران، مؤسسة انتشارات حكمت التابعة لمؤسسة التبليغ الإسلامي، 1392ه_. ش / 1434ه_. ق، ج 1، ص 253 وما بعدها.
2- م.ن، ج3، ص9.
3- م.ن، ج3، 368.
4- م.ن، ج 3، ص179.

ونحاول في هذا البحث أن نسلّط الضّوء على ظاهرة التّحيّز المعرفيّ الذي اشتملت عليه موسوعة ليدن، ومقتصرين البحث على المداخل التي تناولت قصص الأنبياء، ولم نتناول بالبحث كلّ قصص الأنبياء (1).

مفهوم التّحيّز

اشارة

المراد من التحيّز: مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النّماذج المعرفيّة والوسائل والمناهج البحثيّة التي توجّه الباحث دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقةً بالمنهج لدرجةٍ يصعب معه التخلّص منها. أي إنّها مجموعةٌ من القيم التي تحدّد مجال الرّؤية ومسار البحث، وتقرّر كثيرًا من النّتائج عند المتلقّي أو الباحث من دون أن يشعر (2).

أو هو تكوين صورةٍ أو خريطةٍ معرفيّةٍ من خلال حذف بعض العناصر، وتضخيم البعض الآخر ومنحها مركزيّة، واستبعاد أو حذف العناصر الأخرى، من أجل خدمة نموذجٍ معرفيٍّ يتبنّاه الكاتب (3).

وبعبارةٍ أخرى إنّ الكاتب يحاول أن يسوق القارئ إلى فكرةٍ معينةٍ هو يريدها، ويسوقها من دون أن يشعر القارئ والمتلقّي بذلك.

فالكاتب يفهم الأشياء وفق ما تمليه عليه منظومته المعرفيّة ولا يستطيع أن يتخلّص من المرجعيّة الثّقافيّة والمعرفيّة التي ينتمي إليها في فهم الأشياء والأفكار، ويحاول من جهةٍ أخرى أن يقدّم هذا الفهم على أنّه فهمٌ محايدٌ، وهو خلاف الواقع، بل هو متحيّزٌ إلى بيئةٍ معرفيّةٍ ومنهجٍ معرفيٍّ محدّدٍ.

ص: 416


1- وذلك لأنّا اعتمدنا على الترجمة الفارسية لموسوعة ليدن القرآنية، التي جاءت تحت عنوان (دائرة المعارف قرآن)، والتي تمت ترجمتها من قبل مؤسسة التبليغ الإسلامي في إيران في خمس مجلدات، وقد صدر منها الطبعة الأولى في أربع مجلدات فقط في سنة 1438ه_، دون المجلد الخامس، وسنتناول مداخل الأنبياء التي وردت في المجلدات الأربع دون المداخل الأخرى التي احتوى عليها المجلد الخامس. وهي الموضوعات والمداخل التي تبدأ بالحروف (ل، م، ن، ه_، و، ي).
2- المسيري عبدالوهاب: إشكالية التحيّز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، ط 2، هيرندن فيرجينيا - الولايات المتحدة الأميركية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417ه_ - 1996 م، ج 1، ص 5 - 6.
3- المسيري، عبد الوهاب: العالم من منظور غربي، لا ط ،القاهرة، دار الهلال 2001م، ص 20 - 21.

ومثل هذا التّحيّز يبرز بشكلٍ واضحٍ في النّتاج الثّقافي الغربي في نظرته إلى الثّقافة الشّرقيّة بشكلٍ عام وإلى الثّقافة الإسلاميّة بشكلٍ خاص، وليس موسوعة ليدن القرآنيّة محلّ استثناءٍ من هذا التحيّز، فرغم أنّ موسوعة ليدن القرآنيّة تتّسم بالموضوعيّة بشكلٍ ما بالمقارنة مع غيرها من الكتابات الغربيّة في مجال القرآن الكريم، إلّا أنّها لم تخلوا من تحيّزٍ في كثيرٍ من الموارد، بل نجدها متحيّزةً إلى البيئة الثّقافيّة الغربيّة في فهم القرآن، وذلك على مستوى المنهج والاصطلاح وكذلك الأخبار والأفكار.

والتحيّز الذي تمّ رصده في موسوعة ليدن القرآنيّة اتّخذ أشكالا عدّة، وسنحاول أن نبيّن مجموعةً من الموارد المتحيّزة التي جاءت بها الموسوعة، وبالخصوص في المداخل التي تناولت الأنبياء علیهم السّلام.

أوّلًا: التحيّز في توظيف المعلومات

في بعض الأحيان تكون معلوماتنا صحيحةً، ولكنّها تحتاج إلى التوظيف الصحيح؛ لأنّ عدم التّوظيف الصّحيح يُذهب الغرض المفيد من هذه المعلومات.

فلقد جاء في موسوعة ليدن القرآنيّة مجموعةً من المعلومات الصّحيحة حول بعض المداخل القرآنيّة، ولكنّ توظيفها كان متحيّزاً لخدمة الرؤية اليهوديّة، وهى أفكارٌ لا يريدها القرآن الكريم وليست غرضًا له، وإن كانت مطابقةً للواقع، وهو ما يُبيّن دور البيئة الثّقافيّة التي كتبت فيها هذه الموسوعة، والأهداف التي وضعها القائمون عليها.

فمثلًا في المدخل الذي يتناول الحديث عن النبيّ إبراهيم علیه السلام وفي أوّل الكلام عنه عرّفت موسوعة ليدن القرآنيّة إبراهيم علیه السّلام بأنّه جدُّ إسرائيل (النبيّ يعقوب) (1).

وهذه المعلومة وإن كانت صحيحةً ومطابقةً للواقع، لكنّها ليست غرضًا للقرآن؛

ص: 417


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص 108.

لأنّ القرآن يعرِّف إبراهيم علیه السّلام على أنّه أحد أنبياء أولي العزم، وهو أبو الأنبياء، وقد وصفه القرآن بأنّه حنيفٌ مسلمٌ، والإسلام الذي ينادي به النبيّ محمّد صلّی الله علیه و آله امتدادٌ لذلك الدِّين الذي جاء به إبراهيم.

فالمفروض أنّ النّبيّ يعقوب هو الذي يُعرّف بإبراهيم بأن يُقال: إنّ يعقوب حفيد إبراهيم لا العكس كما جاءت به موسوعة ليدن القرآنيّة، حيث إنّهم عرّفوا إبراهيم من خلال حفيده يعقوب (إسرائيل). وهذا يكشف عن النّظرة المتحيّزة من خلال توظيف هذه المعلومة بشكلٍ متحيّزٍ توهم القارئ وتوجّهه من دون أن يشعر، فتوحي له أنّ النّبيّ يعقوب أفضل من النبيّ إبراهيم، في حين أنّ القرآن يحترم يعقوب النبيّ ويعرِّفه على أنّه أحد الأنبياء، ولكنّه لا يقدّمه على إبراهيم من حيث الأفضليّة، بل يرى أفضليّة إبراهيم على النّبيّ يعقوب؛ لأنّ إبراهيم من أنبياء أولي العزم، وليس يعقوب منهم.

كما أنّ القرآن يرى أنّ الامتداد الطبيعي لإبراهيم يكون من خلال النبيّ محمّد صلّی الله علیه و آله وليس من خلال يعقوب، كما حاولت الموسوعة الإشارة إلى هذا الشّيء من خلال تعريف النبيّ إبراهيم بأنّه جدّ إسرائيل. ومن هذه الآيات:

● قال تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (سورة آل عمران، الآيتان 67 - 68)

● وقال تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» (سورة الحج، الآية 78)

والمراد من (ملّة أبيكم إبراهيم) أي: دينه؛ لأنّ ملة إبراهيم داخلةٌ في ملّة محمد صلى الله علیه و آله (1).

ص: 418


1- الطبرسي: مجمع البيان، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1415ه_ - 1995م، ج 7، ص 173.

وبعد الحديث عن أنّ إبراهيم جدّ النبيّ يعقوب، في المدخل الخاص بإبراهيم علیه السّلام يُذكر أنّ أكثر الشّخصيات التي تحدّث عنها الكتاب المقدّس هي شخصيّة موسى، وفي القرآن فإنّ إبراهيم وموسى فقط هما النبيّان اللذان صرّح القرآن عنهما بأنّهما أصحاب كتاب (1).

نقول هنا: صحيح أنّ القرآن ذكر أنّ إبراهيم عنده كتاب وكذلك موسى (عليهما السلام) ولكنّه ذكر أنبياء آخرين نزلت عليهم كتب من السّماء، كما في الإنجيل أنزله على النبيّ عيسى، قال تعالى: «وَقَفَيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورُ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة، الآية 46).

وقال تعالى: «ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةٌ وَرَحْمَة» (سورة الحديد الآية 27)

والزبور أنزله على النبيّ داوود علیه السّلام. قال تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا» (سورة النساء، الآية 163).

وفي سورة الإسراء قال تعالى: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا» (سورة الإسراء، الآية 55).

ولكن ما جاءت به موسوعة ليدن حول من ذكرهم القرآن من أصحاب الكتب السّماوية، هو توظيفٌ ناقصٌ من جهة عدم ذكر كلّ الكتب السّماوية التي أشار إليها القرآن، والتركيز على تبيين اثنين وهما إبراهيم وموسى عليهما السلام، وهذا التّوظيف جاء من أجل خدمة وجهة النّظر اليهوديّة، التي تؤكّد على أنّ الامتداد الحقيقيّ لإبراهيم هو عن طريق موسى، وهو مناقضٌ للغرض القرآني الذي يعبّر عن إبراهيم بأنّه حنيف مسلم ، ولم يكن يهوديًّا أو نصرانيًّا، قال تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ

ص: 419


1- دائرة المعارف ،قرآن، م.س، ج 1، ص 108.

يَهُودِيًا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (سورة آل عمران، الآية 67).

ثمّ ينتقل الكلام عن الاشتراك الكبير بين القرآن والكتاب المقدّس وكذلك المتون التفسيريّة لليهود (1).

وهذا الكلام يبدو صحيحًا، أي الاشتراك بين القرآن والكتاب المقدّس في بعض ما احتواه القرآن، وإن تعرّضت التوراة والإنجيل للتحريف، ولكنّ موسوعة ليدن القرآنيّة حاولت أن توظّف هذه المعلومة للقول: إنّ القرآن اقتبس من الكتاب المقدّس، وهو ما يعبّرون عنه بالتّناص أو التّعالق النّصّي، وهو ما سنتناوله في مطلبٍ خاص.

والحال أنّ هذا الاشتراك بين القرآن من جهة والكتاب المقدّس من جهة أخرى يكشف عن أنّ مصدرهما واحدٌ وهو الوحي، وهذا ما عبّر عنه القرآن، قال تعالى: «نَزِّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ» (سورة آل عمران، الآية 3) وليس أنّ القرآن اقتبس من الكتب السابقة.

والملاحظ هنا في تعريف النبيّ إبراهيم علیه السّلام بعد ذكر هذه المقدمات الثلاث وهي: (إبراهيم جد إسرائيل، وإنّ في القرآن اهتمامًا كبيرًا بموسى وإبراهيم كما اهتم الكتاب المقدّس بموسى، والتأكيد على المشتركات الكثيرة بين القرآن والكتاب المقدّس والمتون التفسيريّة لليهود ينتقل الكلام عن إشارة القرآن إلى أنّ النّبيّ محمّد امتدادٌ لإبراهيم علیه السّلام، وإنّ إبراهيم هو مؤسّس شعيرة وآداب الحج التي يتمسّك بها المسلمون (2).

فهنا نلاحظ التّحيّز الواضح في ترتيب المعلومات لخدمة غرض غير الغرضٍ القرآنيّ، فالقارئ حين يبدأ بقراءة أنّ إبراهيم جدّ إسرائيل، وأنّ موسى هو فقط من ذكر في

ص: 420


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص 108.
2- م.ن.

القرآن من الأنبياء على أنّه صاحب كتابٍ، ويشاركه في ذلك إبراهيم، والحديث عن المشتركات بين الكتاب المقدّس والمتون التّفسيريّة اليهوديّة والمسيحيّة من جهة مع القرآن من الجهة الثانية، كلّ هذه الأفكار تزرع في ذهن المتلقّي النّظرة اليهوديّة للقرآن الكريم، أو ما يُعبّر عنه بالإسرائيليات في الثّقافة الإسلاميّة. وكذلك تحاول أن تؤكّد على أفضليّة اليهود ومركزيّة الكتاب المقدّس في الثقافة الدّينيّة، سواء أكانت يهوديّةً أم مسيحيّةً أم إسلاميّةً أو غيرها، فهي تزرع في ذهن المتلقّي كلّ هذه الأفكار من دون أن يشعر المتلقّي بها.

وكلّ هذه الأشياء تكشف عن التحيّز للمرجعيّة الثّقافيّة التي تتبنّاها موسوعة ليدن القرآنيّة من خلال التّركيز على النّظرة اليهوديّة والمسيحيّة للقرآن.

ثانيًا: التّحيّز للمعلومة الخطأ

كثيرًا ما نجد الخلاف بين الرّؤية القرآنيّة مع ما جاء به الكتاب المقدّس، وباعتبار أنّ موسوعة ليدن القرآنيّة تبحث عن الرّؤية القرآنيّة لا بدّ أن تقدّم للقارئ ما يراه القرآن، وبغضّ النّظر عن قبول هذه الرؤية أو عدم قبولها بالنّسبة لكتّاب هذه الموسوعة أو القائمين عليها. ولكن نجدهم يقدِّمون ما جاء في الكتاب المقدّس على الرؤية القرآنيّة في كثيرٍ من الموارد.

ففي الحديث عن الذبيح من ولد إبراهيم تذكر موسوعة ليدن القرآنيّة أنّ الذّبيح من ولد إبراهيم، وهو النبيّ إسحاق من بطن سارة، وليس إسماعيل.

وقد جاء الكلام كالتالي: لقد وقع الخلاف بين المفسّرين المسلمين في أنّ الذّبيح من ولد إبراهيم هل هو إسماعيل أم إسحاق؟ والقول بأنّ إسحاق هو الذبيح يتلاءم مع ما جاء به الكتاب المقدّس (1).

بل إنّ أكثر مفسّري القرآن في أواسط القرن الثاني الهجري كانوا يرون أنّ إسحاق هو القربان الذي قدّمه إبراهيم وليس إسماعيل (2).

ص: 421


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص 109-110.
2- م.ن، ج 1، ص 114.

أمّا الرأي القائل: بأنّ إسماعيل هو الذّبيح فلم يقل به أكثر المسلمين، إلّا في أوائل القرن الرابع الهجري (1).

ولكن عند مراجعة آيات القرآن الكريم نجد أنّ القرآن الكريم نفسه دلّ في موضعين على أنّ الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق:

الموضع الأوّل: في سورة الصافات، وسياق الآيات فيها واضح الدّلالة على أنّ الذبيح هو إسماعيل، ولإيضاح هذا الكلام، فإنّ الله تعالى قال عن نبيه إبراهيم: «وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَا بُنَى إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنْ هَذَا لَهُوَ الْبَلَامُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» (سورة الصافات، الآيات 99 - 111) ثمّ قال بعد ذلك عاطفًا على البشارة الأولى: «وَبَشِّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ» (سورة الصافات، الآية 112)

فهنا بشارتان، البشارة الثانية مصرّح المراد منها وهو إسحاق، وعطف المُبَشِّر به في البشارة الثانية على المبشّر به في البشارة الأولى، وهذا يدلّ على أنّ المبشّر به أوّلاً غير المبشّر به ثانيًا؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة في العربية، والمبشّر به في البشارة الثّانية مذكورٌ وهو إسحاق، فيتعيّن الأوّل إسماعيل؛ لأنّه لو كان المُبشّر به في الأولى هو إسحاق لكان معناه: فبشّرناه بإسحاق، ثمّ بعد انتهاء قصّة ذبحه يقول أيضًا: وبشّرناه بإسحاق، فهذا تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام الله. وهو واضحٌ في أنّ الغلام المُبّشَّر به أوّلًا الذي فُدي بالذِبح العظيم هو إسماعيل، وإنّ البشارة بإسحاق نصّ عليها الله بعد ذلك مستقلّة عن الأولى.

ص: 422


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص 251.

وقد يُقال: إنّ البشارة الثانية بإسحاق هي من باب التأكيد على البشارة الأولى، والمقصود في البشارتين هو إسحاق، ونقول في جوابه: هنا يُحتمل التّأكيد ويُحتمل التّأسيس، ولكنّ النّصّ في كتاب الله إذا احتُمِلَ فيه التّأكيد والتّأسيس وجب حمله على التّأسيس، ولا يجوز حمله على التّأكيد، إلّا إذا دلّ دليلٌ خاصٌّ، والدّليل الخاصّ هنا مفقودٌ، فيقدّم التأسيس على التّأكيد.

الموضع الثّاني: ما جاء في سورة هود، قال تعالى: «وَامْرَأَتُهُ قَابِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ» (سورة هود، الآية 71) فرُسل الله بشّرتها بإسحاق، وإنّ إسحاق يلد يعقوب، فكيف يُعقل أن يُؤمر إبراهيم بذبحه وهو صغير، وهو عنده علمٌ يقينيٌّ بأنّه يعيش حتّى يلد يعقوب. فلو كان إسحاق هو الذّبيح لعلم إبراهيم أنّ الذبّح أمرٌ صوريٌّ؛ لأنّه يعلم أنّ إسحاق سيكبر وسيولد عنده يعقوب، والحال أنّ الذّبح ليس صوريًّا، فلو كان صوريًّا لذهبت قيمة الذبح.

وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السّلام قال: وكان بين بشارة الله لإبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق خمس سنين (1).

كما ونُسب في موسوعة ليدن إلى بعض مفسّري الشّيعة القول بأنّ إسحاق هو الذّبيح وليس إسماعيل (2).

وهذا القول الذي تنسبه الموسوعة إلى الشّيعة لم يُذكر مصدره؟! وهذا يرتقي إلى مرتبة التّدليس المعرفيّ منه إلى التحيّز المعرفيّ. فضلًا عن أنّ الرّوايات الشّيعيّة أشارت إلى أنّ الذّبيح هو إسماعيل وليس إسحاق، ونذكر منها روايات عدّة:

• عن ابن فضّال عن الرضا علیه السّلام أنّه سأله عن معنى قول النبيّ صلّی الله علیه و آله: (أنا ابن الذبيحين). فقال علیه السّلام: يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وعبد الله بن عبد المطلب، أمّا إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشّر الله به إبراهيم (3).

ص: 423


1- المجلسي: بحار الأنوار، ط2، مؤسسة الوفاء، ج 12، ص 130.
2- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص 114.
3- الشاهرودي، اشيخ علي النمازي: مستدرك سفينة البحار، تحقيق: الشيخ حسين بن علي النمازي، لا ط، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین، 1419 ه_، ج 3، ص 425.

• عن ابن سنان عن أبي عبد الله الصادق علیه السّلام قال: سألناه عن صاحب الذبح، فقال: إسماعيل علیه السّلام. وروي عن رسول الله صلّی الله علیه و آله أنه قال: أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل وعبد الله بن عبد المطلب (1)...

• عن الحسن بن علي بن فضال قال: سأل الحسين بن أسباط أبا الحسن الرضا علیه السّلام ، وأنا أسمع، عن الذبيح إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: إسماعيل أما سمعت قول الله تبارك وتعالى: «وَبَشِّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ» (2)؟

أي إنّ البشرى بإسحاق جاءت بعد عمليّة افتداء إسماعيل بالكبش، كما هو معلومٌ في تسلسل آيات سورة الصافات.

• عن ابن عقدة عن جعفر بن عنبسة بن عمرو عن سليمان ابن يزيد عن الرضا عن آبائه عن علي علیه السّلام قال: الذبيح إسماعيل (3).

• عن داود ابن كثير الرقي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام أيهما كان أكبر إسماعيل أو إسحاق؟ وأيهما كان الذبيح؟ فقال: كان إسماعيل أكبر من إسحاق بخمس سنين، وكان الذبيح إسماعيل، وكانت مكة منزل إسماعيل، وإنما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل أيام الموسم بمنى. قال: وكان بين بشارة الله لإبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق خمس سنين، أما تسمع لقول إبراهيم علیه السّلام حيث يقول: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ» إِنّما (سأل الله عزّ وجل أن يرزقه غلامًا من الصّالحين، وقال في سورة الصافات: «فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ» يعني إسماعيل من هاجر، قال: ففدي إسماعيل بكبش عظيم، فقال أبو عبد الله علیه السّلام: ثم قال «وَبَشِّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًا مِّنَ الصّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ» يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق، فمن زعم أنّ إسحاق أكبر من إسماعيل وأنّ الذبيح إسحاق فقد

ص: 424


1- المجلسي، بحار الأنوار، .س، ج 12، ص127.
2- م.ن، ص129.
3- م.ن، ص 129.

كذب بما أنزل الله عزّ وجل في القرآن من نبئهما (1).

• وسئل الصادق علیه السّلام عن الذبيح من كان؟ فقال: إسماعيل علیه السّلام؛ لأنّ الله ذكر قصّته في كتابه، ثمّ قال: «وَبَشِّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيَّا مِّنَ الصَّالِحِينَ» (2).

كما أنَّ الشّواهد التّاريخيّة تُشير إلى أنّ حادثة الذّبح كانت في مكّة، وإسماعيل هو الذي عاش في مكّة وليس إسحاق، فعن الإمام الباقر علیه السّلام قال: أراد أن يذبحه في الموضع الذي حملت أمّ رسول الله عند الجمرة الوسطى، فلم يزل مضربهم يتوارثونه كابرا عن كابر حتّى كان آخر من ارتحل منه علي بن الحسين علیه السّلام في شيء كان بين بني هاشم وبني أميّة (3).

فالملاحظ هنا أنّ موسوعة ليدن تبنّت القول بأنّ إسحاق هو الذبيح، وليس إسماعيل، اعتمادًا على رواية الكتاب المقدّس، والرّوايات الإسرائيليّة الواردة في بعض المصادر الإسلاميّة، وهو ما يخالف النّصّ القرآنيّ، والرّوايات الإسلاميّة الصّحيحة.

ثالثًا: التّحيّز للرؤية الاستشراقيّة

رغم أنّ موسوعة ليدن القرآنيّة حاولت أن تخرج من الرؤية الاستشراقيّة للقرآن الكريم، إلا أنّها لم تكسر قيود الاستشراق والمستشرقين بشكلٍ كاملٍ، بل ظلّ القائمون عليها في كثيرٍ من المداخل ضمن الإطار والنّظرة الاستشراقيّة في فهم القرآن الكريم.

فعند الحديث عن النبيّ إدريس علیه السّلام تصف دائرة المعارف هذا النبيّ بأنّه كان منجّمًا، بل هو أوّل المنجّمين على هذه الأرض! وتنسب هذا الادّعاء إلى الأحاديث الإسلاميّة (4).

وهذه هي الرّؤية الاستشراقيّة للأنبياء؛ حيث تارة ينسبونهم إلى التّنجيم، وتارة إلى السّحر، وأخرى إلى الشعبذة.

ص: 425


1- بحار الأنوار، م.س، ج 12، ص130.
2- الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1406 ه_ - 1986م، ج 2، ص 152.
3- الشاهرودي، مستدرك سفينة البحار، م.س، ج 3، ص 326.
4- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج1، ص199.

وفي الكلام عن حزقيال النّبيّ تنقل موسوعة ليدن القرآنيّة عن بعض التّفاسير الغربيّة الحديثة للقرآن الكريم: «إنّ القرآن من صناعة النّبيّ وليس وحيًا سماويًّا، وإنّه حاول أن يحرّف تاريخ بني إسرائيل؛ وذلك بسبب اقتباسه غير الدّقيق من السّنن اليهوديّة» (1).

وهذه الرّؤية لمحتوى القرآن مخالفةٌ لدعوى النّبوّة التي تنسب القرآن إلى الله تعالى، وأنّه وحيٌ إلهيٌّ أوحاه الله إلى رسوله محمّد صلّی الله علیه و آله. وهذا ما نراه جليًّا عند المستشرقين، فإذا ما رجعنا إلى المستشرق جولد زهير وكغيره من المستشرقين، الذين يرفضون ارتباط النّبيّ بالله تعالى، ويُرجعون القرآن إلى مصادر داخليّة وخارجيّة حيث يرى جولدزهير: أنّ القرآن عبارة عن معارف دينيّةٍ استقاها محمّد بسبب اتّصاله بالعناصر اليهوديّة والمسيحيّة، وغيرها، وتأثّر بهذه الأفكار تأثّرًا وصل إلى أعماق نفسه فصارت عقيدةً انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التّعاليم وحيًا إلهيَّا، فأصبح - بإخلاص - على يقينٍ بأنّه أداةٌ لهذا الوحي (2).

أو نظريّة النّبوغ التي يتبنّاها المستشرق الألماني ثيودور نولدكه، حيث يقول: إنّ محمّدا حمل طويلًا في وحدته ما تسلّمه من الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثمّ أعاد صياغته بحسب فكره، حتّى أجبره أخيرًا الصوت الدّاخلي الحازم على أن يبرز لبني قومه (3).

فهنا نلاحظ توافق بین ما جاءت به موسوعة ليدن القرآنيّة والرّؤية الاستشراقيّة، من جهة أنّ القرآن صناعة النّبيّ وليس وحيًا إلهيًّا.

ولكن القرآن نفسه يخالف هذه الرّؤية، ويؤكّد وحيانيّته، وذلك في كثيرٍ من آياته نذكر منها:

ص: 426


1- دائرة المعارف قرآن، ج 3، ص373.
2- جولدزهير: العقيدة والشريعة في الإسلام، ص6.
3- ثيودور نولدکه تاريخ القرآن، ترجمة: جورج تامر ،ط 1، بيروت، مؤسسة كونراد - أدناور ، 2004م، ص4.

• قال تعالى: «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى» (سورة النجم، الآيتان 3-4)

• قال تعالى: «ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ» (سورة آل عمران، الآية 44)

• قال تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا» (سورة النساء، الآية 163)

• قال تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ» (سورة الأنعام، الآية 19)

• قال تعالى: «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (سورة الأنعام، الآية 106)

• قال تعالى: «تلكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (سورة هود، الآية 49)

• قال تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ» (سورة يوسف، الآية3)

فكلّ هذه الآيات وغيرها تؤكّد على وحيانيّة القرآن الكريم، ولكنّ موسوعة ليدن القرآنيّة تركت هذه الآيات.

رابعًا: التّأكيد على نظريّة التّناص بين القرآن والكتاب المقدّس

والبحث في هذا المطلب يدخل ضمن التحيّز في توظيف المعلومة، بسبب تطابق بعض ما جاء به القرآن مع الكتاب المقدّس من جهة، ومن جهة أخرى يدخل ضمن التّحيّز للرؤية الاستشراقيّة والحداثويّة التي نادت بوجود التّناص بين القرآن والكتب السّابقة له وبالتّالي هو صناعةٌ بشريّةٌ.

والمراد بالتّناص : إنّ (التّناص) و (البين النّصيّة) و (التّعالق النّصّي) مفاهيمٌ يُراد

ص: 427

بها في التأويل الحداثي أنّ النّصّ ليس بنيةً مغلقةً ومنكفئةً على نفسها، ولكنّها تحمل أراد- منشئها أم لم يرد - بصمات نصوصٍ سابقةٍ، وآثار مبدعين آخرين، تسهم في تشكيلها وتعميق رمزيّتها (1).

أو هو تشكيلُ نصٍّ جديدٍ من نصوصٍ سابقةٍ، وأنّ النّصّ أي نصّ- خلاصةٌ النصوصٍ تماهت فيما بينها فلم يبقَ منها إلّا الأثر، ولا يمكن إلّا للقارئ النموذجيّ أن يكتشف الأصل، فهو الدّخول في علاقةٍ مع نصوصٍ بطرقٍ مختلفةٍ يتفاعل بواسطتها النّصّ مع الماضي والحاضر والمستقبل، وتفاعله مع القرّاء والنّصوص الأخرى (2).

وعند الرّجوع إلى موسوعة ليدن القرآنيّة نجد الكثير من المداخل التي تناولتها تؤكّد على وجود التّناص والتّعالق النّصّي بين القرآن الكريم والكتب السّابقة.

ويمكن ذكر مجموعةٍ من الموارد التي استُدِّل بها على وجود التّناص بين القرآن والكتب السّابقة وبالخصوص الكتاب المقدّس:

1. التّأكيد على أنّ هناك مشتركاتٍ كثيرةً بين الرؤية القرآنيّة لإبراهيم من جهة ورؤية الكتاب المقدّس لإبراهيم، وكذلك المتون التّفسيريّة لليهود من جهة أخرى (3).

2. التّأكيد على أنّ إسحاق هو الذبيح من ولد إبراهيم، وأنّ هذه الرؤية تتلاءم مع ما جاء به الكتاب المقدّس (4).

3. ذكروا أنّ بعض الرّوايات الإسلاميّة غير الرّسميّة وتبعًا لروايات الكتاب المقدّس ذكرت أنّ إلياس النبيّ أرسله الله بعد موت حزقيال النبيّ (5).

ص: 428


1- انظر: قطب، الريسوني: النص القرآني من تهافت القراء إلى أفق التدبير، لا ط ،المغرب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص 267.
2- عزّام، محمد: النقد والدلالة نحو تحليل سيميائي للأدب، لا ط، منشورات وزارة الثقافة، 1996م، ص148.
3- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص108.
4- م.ن، ج 1، ص109-110.
5- م.ن، ج 1، ص 351.

4. وفي باب التّفريق بين النبيّ والرسول نجد الكلام التالي: إنّ القرآن يعطي مقامًا أعلى للرسول من النبيّ وهو كما جاء في الكتاب المقدّس (1).

5. عند الحديث عن احترام القرآن الكريم للكتب السابقة أشارت موسوعة ليدن القرآنية إلى أنّ هذا المعنى قد جاء في العهد الجديد (الإنجيل)، وإنّ بولس كان يؤمن بكلّ ما هو موجود في التوراة وكذلك كتب الأنبياء السابقة (2).

6. في الحديث عن قصص الأنبياء في القرآن تؤكّد موسوعة ليدن القرآنيّة على أنّ أكثر هذه القصص استفيدت من الكتاب المقدّس، بعضها جاءت بشكلٍ مضغوطٍ ومختصرٍ، وبعضها الآخر بشكلٍ مطوّلٍ (3).

7. في الحديث عن أيوب علیه السّلام ذكرت موسوعة ليدن القرآنية: إنّ أيوب أحد الأنبياء، ويشترك بهذا الاعتقاد السّنن اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة (4).

8. في المدخل الذي جاء تحت عنوان (بني إسرائيل) فقد ذكروا أنّ تسمية القرآن ليعقوب ب_ (إسرائيل) وأبناءه ب_ ( بني إسرائيل) تناولوا البحث هناك عن إطلاق هذه التّسمية على بني إسرائيل في العهد الجديد، وكذلك في العهد القديم، وهكذا جاء في سفر التثنية (5).

9. ذكروا أنّ بنيامين أخو يوسف وابن يعقوب ورحيل هكذا جاء تعريفه في الكتاب المقدّس (6).

10. وذكروا أنّ حزقيال أحد الأنبياء الذين جاء ذكرهم في الكتاب المقدّس كما جاء في الرّوايات الإسلاميّة، ولم يرد ذكره في القرآن (7).

ص: 429


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج1، ص392.
2- م.ن، ج 1، ص 401.
3- م.ن، ج 1، ص 404-405.
4- م.ن، ج 1، ص 468.
5- م.ن، ج 1، ص 558-559.
6- م.ن، ج 1، ص 563.
7- م.ن، ج 2، ص 488.

وقد اخترنا هذه النّماذج العشرة التي يلاحظ فيها تأكيد موسوعة ليدن القرآنيّة على رؤية الكتاب المقدّس في المسائل التي ذكرناها، والسؤال هنا: لماذا هذا الإصرار على إقحام غير الرّؤية القرآنيّة؟! وبالخصوص الرّؤية اليهوديّة والنصرانيّة؟!!

فالمفروض هو بيان الرّؤية القرآنيّة وبغضّ النّظر عن موقفهم منها من جهة القبول أو الرّفض، إلّا أنّنا نلاحظ الإقحام غير المبرّر لما جاء به الكتاب المقدّس، وهذا الأسلوب يزرع عند القارئ من حيث لا يشعر أنّ اللّاحق منهما - وهو القرآن - متأثّرٌ بالسّابق (الكتاب المقدّس)، وهذا أحد أساليب التحيّز المعرفيّ الذي سارت عليه موسوعة ليدن القرآنيّة.

خامسًا: التّحيّز للرؤية اليهوديّة والمسيحيّة

عند مراجعة موسوعة ليدن القرآنيّة نجدها كثيراً ما تقحم فيها النّظرة اليهوديّة أو المسيحيّة وبشكلٍ صريحٍ في كثيرٍ من المداخل البحثيّة، وفي بعض الأحيان يُقام الدليل على أرجحيّة الرّؤية اليهوديّة على الرّؤية القرآنيّة من خلال الاستشهاد ببعض الأدلّة. ونذكر هنا بعض الأمثلة.

تُعرِّف موسوعة ليدن القرآنيّة النّبيّ عيسى علیه السّلام على أنّه: مرشدٌ وصاحب کراماتٍ يهودي عاش في القرن الأوّل الميلادي، وهو عند المسيحيين ابن الله، ثمّ بعد ذلك يقولون هو في القرآن من الأنبياء (1).

فالرؤية القرآنيّة لعيسى علیه السّلام أنّه نبيٌّ مرسلٌ من قبل الله، ومن أنبياء أولي العزم وليس مرشدًا يهوديًّا.

ومثله ما تذهب إليه موسوعة ليدن القرآنيّة إلى أنّ رؤية القرآن عيسى ليست قطعيّةً وليست واضحةً (2).

ويسوقون في هذا المجال شواهد وأدلّة عدّة، يحاولون من خلالها تضعيف

ص: 430


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج4، ص179.
2- م.ن، ج 4، ص 193.

القول بنجاة عيسى من الصلب، ويحاولون من خلالها إثبات صحّة القصّة المرويّة في الكتاب المقدّس بأنّ عيسى قد صُلب (1).

ولكن الرؤية القرآنيّة لعيسى علیه السّلام قطعيّة وواضحة، حيث إنّ الله تعالى أخبرنا بأنّه لم يمت بل رفعه إليه، قال تعالى: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّه لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا» (سورة النساء، الآيتان 157-158)

وفي موضعٍ آخر عرّفت موسوعة ليدن القرآنيّة النبيّ داوود علیه السّلام بأنّه ملك بني إسرائيل، ولم يأتِ ذكر النبيّ داوود باعتباره ملكَ بني إسرائيل كإشارةٍ عابرةٍ، بل أوّل جملةٍ ذكرت عن النبيّ داوود علیه السّلام في المدخل الخاصّ بالنبيّ داوود كانت عبارة عن تعريفه: بأنّه ملك بني إسرائيل (2).

كما عبّرت عن سليمان: بأنّه ابن داوود الملك، والذي ورث الملوكيّة عن أبيه (3).

وهذا تحيّزٌ واضحٌ للرؤية اليهوديّة دون القرآنيّة؛ لأنّ الرؤية القرآنيّة للنبيّ داوود وسليمان أنّهما نبيّان مرسلان من الله تعالى وليسا ملكين.

وقد يُقال هنا: إنّما عبّرت الموسوعة عن النبيّ داوود والنبي سليمان بأنّهما ملکان مراعاةً للمخاطبين الذين تخاطبهم الموسوعة، وأكثرهم من المسيحيين واليهود. نقول: إنّ المفروض أنّ هذه الموسوعة مختصّةٌ بالقرآن، فالكتابة عن داوود أو سليمان ليس بشكلٍ عام، بل بما حملت الرّؤية القرآنيّة لهذين النّبيين. فيجب

الاهتمام بالرؤية القرآنية دون غيرها.

وجاء في تعريف زكريا التالي: والد يحيى المعمدان في الكتاب المقدّس والقرآن (4).

ص: 431


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج4، ص 190-194.
2- دائرة المعارف قرآن م.ن، ج 3، ص9.
3- م.ن، ج 3، ص 368.
4- م.ن، ج 3، ص 255.

وهذا إقحامٌ واضحٌ للكتاب المقدّس في تعريف شخصيّة النبيّ زكريا علیه السّلام، وهو دليلٌ على التحيّز في بيان الأفكار وبيان المنظومة المعرفيّة التي تنتمي إليها موسوعة ليدن القرآنيّة، فزكريا وإن كان والدًا ليحيى النّبيّ كما في القرآن والثّقافة الإسلاميّة، إلّا أنّ المعمدان مصطلحٌ ليس له علاقة بالثّقافة الإسلاميّة، حيث يُنسب إليه مسألة التّعميد السّائدة فى الثّقافة المسيحيّة. والتّعميد طقسٌ من الطقوس المسيحيّة يقومون بمسح رأس الأطفال بالماء من قبل كاهن الكنيسة، ويعتقدون أنّ أوّل من قام بهذا العمل النّبيّ يحيى عندما عمّد المسيح، وهو صغير، لهذا يسمّونه بالمعمدان، واسمه عندهم يوحنا (1).

والمثال الآخر الذي نستطيع أن نقدّمه في هذا المجال هو الإشارة إلى قصّة داوود مع زوجة أوريا، فقد جاء الكلام على نحو أنّ القرآن لم يشر إلى هذه الحادثة مطلقًا، وهو على خلاف ما جاء في التوراة، كما لم يتطرّق القرآن إلى ذكر آبشالوم أو أي أحدٍ من أبناء داوود ماخلا سليمان (2).

والمتأمّل يجد أنّ هذا المقطع يحاول أن يقدِّم الرؤية اليهوديّة لداوود، وإنّه ارتكب المعصية مع زوجة أوريا، بعد أن أرسله للحرب، وبعبارة أخرى يسوّق هذه الحادثة وكأنّها من المسلّمات التي يجب أن تذكر ولكنّ القرآن أغفلها.!

وقد حاولت موسوعة ليدن القرآنيّة أن تستشهد للقصّة المزعومة بين داوود علیه السّلام وأوريا ببعض تفاسير المسلمين كما نقلوا ذلك عن الطبري (3). وهو مخالفٌ لنصّ القرآن؛ لأنّ الأنبياء مطهّرون من الرذيلة والمعصية، وهذا من الإسرائيليات.

وفي موضع آخر في المدخل الذي يتكلّم عن نبيّ الله إبراهيم، المتكوّن من ستّ صفحات، ورد ذكر اليهود واليهوديّة سبعة عشر مرّة، وذُكر الكتاب المقدّس تسع مرّات، والعهد الجديد مرّة واحدة، ذُكر من خلالها ما لا يقلّ عن اثنتي عشرة فكرةً

ص: 432


1- إنجيل مرقص 4:1.
2- دائرة المعارف قرآن م.س، ج 3، ص10.
3- م.ن، ج 3، ص 10.

من الأفكار والآراء التي تخص الرّؤية اليهوديّة حول إبراهيم علیه السّلام.

فمثلاً عند الكلام عن إبراهيم الخليل علیه السّلام ذكر بأنّه مؤسّس اليهوديّة من وجهة نظر اليهود، وإنّ المسيحيّة مرتبطةٌ ومتفرّعةٌ عن اليهوديّة، وهم كذلك يعتقدون بأنّ مشروعيّة دينهم من إبراهيم علیه السّلام، ثمّ بعد ذلك ينتقل الكلام إلى أنّ إبراهيم في الرؤية القرآنيّة ليس بيهوديٍّ ولا مسيحيّ، بل كان حنيف مسلم (1).

وهذا الإقحام للرؤية اليهوديّة والمسيحيّة لإبراهيم علیه السّلام نوع من أنواع التحيّز المعرفيّ، ففي حين أنّ المفروض أن يركّز الكلام على الرّؤية القرآنيّة لإبراهيم علیه السّلام دون غيرها، والكلام عن الرؤى الأخرى لإبراهيم يجب الابتعاد عنها، ولو من باب الاستطراد؛ لأنّ المفروض أنّ البحث ليس بحثًا مُقارنًا تذكر فيه الرّؤى المختلفة، بل البحث منصبٌّ بالأساس على بيان الرّؤية القرآنيّة.

والأدهى من ذلك هو ألّا تُقدّم الرّؤية القرآنيّة في تسلسل البحث، بل تذكر الرّؤية اليهوديّة والمسيحيّة ثمّ يؤتى بالرؤية القرآنيّة على أنّ إبراهيم لم يكن يهوديًّا ولا مسيحيًّا، بل كان حنيفًا مسلمًا، وكأنّ الكلام منصبٌّ حول الرؤية اليهوديّة والمسيحيّة لإبراهيم، وأمّا النّظرة القرآنيّة لإبراهيم فإنّ ذكرها جاء من باب الاستطراد؛ لذا جاء ذكرها متأخرًا في سياق البحث، وهذا التّسلسل له تأثيرٌ كبيرٌ على المتلقّي.

وفي بعض الأحيان يُذكر ما جاء بالكتاب المقدّس كدليلٍ وقولٍ فصلٍ في ترجيح ما وقع الخلاف فيه عند المسلمين، فمثلًا عند الكلام عن ذي الكفل ذكرت موسوعة ليدن القرآنيّة: أنّ الخلاف قد وقع بين المفسّرين المسلمين في ذي الكفل: هل هو من الأنبياء، أم هو عبد صالح؟ ثم يأتي الخبر على أنّ ذي الكفل لم يرد ذكره في الكتاب المقدّس! وكأنّه جوابٌ وحلٌّ للنّزاع الحاصل بين المفسّرين المسلمين (2).

وهذا أسلوبٌ من أساليب تسويق الرّؤية التي يحملها الكتاب المقدّس على حساب الرّؤية القرآنيّة، وهو ما نعبِّر عنه بالتحيّز المعرفيّ.

ص: 433


1- دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص 110.
2- م.ن، ج3، ص92.
سادسًا: التّحيّز في استعمال المصطلح

عبّرت موسوعة ليدن القرآنية عن بعض القصص القرآنيّ بالأسطورة، وهذا التّعبير يدخل ضمن التّحيّز المعرفيّ في المصطلح، فبينما التّعبير القرآنيّ يعبّر عنها بالقصص يأتي تعبيرهم عنها بأنّها أسطورةٌ، وقد جاء أحد المداخل في هذه الموسوعة تحت عنوان (الأسطورة). وقد كتبوا لهذا المدخل حوالي عشرين صفحة، وهو ما يكشف عن نوعٍ من الاهتمام بهذا المدخل، وهو ما يضع أكثر من سؤال وتعجّب.

حيث ذكرت موسوعة ليدن القرآنيّة الكثير من القصص القرآنيّة على أنّها مجموعةٌ من الأساطير، كما في قصّة آدم وخروجه من الجنّة وبداية نشأة الخليقة، وداوود وسليمان وملكهما الأسطوري، وخروج موسى مع قومه وهروبه من فرعون، وقصّة يوسف مع زوجة العزيز، وقصّة تحطيم إبراهيم علیه السّلام للأصنام، كلّ هذه الموضوعات جاءت ضمن مدخل الأسطورة في القرآن (1).

والسبب الذي دعاهم إلى هذا الاعتقاد، هو نظرتهم الماديّة للنّص القرآني، من جهة أنّ القرآن ابن ثقافة العصر الذي نشأ فيه، فلا بدّ من سلب القداسة عنه، والقول بأنسنته، وهي مجموعة الأفكار التي نادت بها مدرسة الحداثة.

يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد، وهو من روّاد الحداثويين في البلاد الإسلاميّة، وهو أحد الكتّاب في هذه الموسوعة: لقد كان محمّد - المستقبل الأوّل للنصّ ومبلّغه - جزءًا من الواقع والمجتمع، كان ابن المجتمع ونتاجه (2).

وهذا هو شعار الحداثويّة في قراءة النصوص الدّينيّة، وهو يعني فصل القرآن عن مصدره الإلهي، بل إنّ الاتّصال بعالمٍ آخر غير عالمنا إنّما هو مجرّد خرافةٍ وأسطورةٍ، ولهذا فهم يرون أنّ الأساس الثّقافيّ لظاهرة الوحي نابعٌ من اعتقاد العرب بإمكانيّة الاتّصال بالعالم الآخر، كالاتّصال بين البشر والجن، ويتمّ هذا الاتّصال من خلال ظاهرتي الشّعر والكهانة (3).

ص: 434


1- انظر: دائرة المعارف قرآن، م.س، ج 1، ص 253-254.
2- أبو زيد، نصر حامد: مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، لا ط، مصر، الهيئة المصرية للكتاب، 1990م، ص67.
3- انظر: م.ن، ص 33-34.

ويستدلّون بهذا على أنّ ظاهرة الوحي - القرآن - لم تكن مفارقةً للواقع، أو تمثّل وثبًا عليه وتجاوزاً لقوانينه، بل كانت جزءًا من مفاهيم الثّقافة، ونابعةً من مواضعاتها وتصوّراتها. وإنّ العربيّ الذي يدرك أنّ الجنّي يخاطب الشّاعر ويلهمه شعره، ويدرك أنّ العرّاف والكاهن يستمدّان النّبوءة من الجنّ، لا يستحيل عليه أن يصدّق بملكٍ ينزل بكلامٍ على بشر.

وهذا ما دعاهم إلى أن يعبّروا بالأسطورة عن بعض القصص القرآني، ولكنّ القرآن نصٌ مُعجِزٌ، وليس مرتبطًا بالبيئة التي نزل بها، بل عامٌّ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، ولكنّ تفسيره وفهمه يخضع للزمان والمكان دون النّصّ الأصلي.

وهنا يبدو واضحًا الانحياز نحو الرّؤية الحداثويّة للقرآن الكريم؛ لأنّ هناك نظرتين للنص القرآني: الأولى: ترى أنّ النّصّ القرآنيّ نصٌّ إلهيٌّ مُعجِزٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ.

والثّانية: تنظر للقرآن لا على أنّه نصٌّ إلهيٌّ، بل تنظر إليه على أنّه نصٌّ بشريٌّ مرتبطٌ بالزّمان والمكان الذي نزل فيه.

وقد اتّخذ القائمون على موسوعة ليدن القرآنيّة الرّؤية الثانية للنّصّ القرآنيّ، وهذا ما انعكس على محتويات الكثير من المداخل القرآنيّة، ومن ضمنها المداخل التي تناولت الأنبياء وقصصهم، ونعتها على أنّها مجرّد أساطير، وأنّ القرآن قد اقتبس من الكتب السّابقة له كالتّوراة والإنجيل، والواقع أنّ هذه المقولات متحيّزةً للواقع الثّقافيّ الغربيّ، الذي سيطر عليه المنهج التّجريبيّ، والمنهج التجريبيّ يفرض عليهم أن يُفسرّوا كلّ الأشياء تفسيرًا ماديًّا، فما لا يكون خاضعًا للحسّ والتّجربة يجب نفيه وعدم الاعتراف به إن لم يمكن تأويله وفق مناهج الفلسفة الوضعيّة الماديّة. وهم يُصرّحون بهذا الأمر، يقول محمّد أركون: إنّ كلّ شيءٍ يتجاوز الماديات يُعتبر ميتافيزيقيًّا لا معنى لها، وهذه هي العقلانيّة الوضعية التي لا تعترف إلّا بالماديات (1).

ص: 435


1- أركون، محمد: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ط2، بيروت، دار الطليعة، 2005م، هامش صفحة 172.

أمّا حسن حنفي فيقول: أنا مفكّرٌ،وضعيٌّ، وأقصد وضعيٌّ منهجيٌّ، ولست وضعيًّا مذهبيًّا. إنّ كلّ ما يخرج عن نطاق الحسّ والمادة والتّحليل أضعه بين قوسين، لذلك أنتسب كثيرًا إلى الظاهريات (الفينومينولوجيا) .... والوحي بالنّسبة لي فإنّني آخذه على سبيل الافتراض، فالوحي افتراضٌ في البحث العلمي، والتّحقّق من صدقه، أي التّحقّق تجريبيًّا وليس صوريًّا (1).

الخاتمة

1. إنّ موسوعة ليدن القرآنيّة وإن كانت تدّعي الموضوعيّة خلافًا لغيرها في ما كُتب عن القرآن الكريم إلّا أنّها اشتملت على الكثير الأخطاء من جهة وقوع القائمين عليها في التحيّز المعرفيّ، فهم يقدِّمون رؤيةً معرفيّةً لا تنفصل عن واقعهم الثّقافي والبيئة المعرفيّة التي ينتمون إليها في فهم القرآن.

2. التحيّز المعرفي في موسوعة ليدن القرآنيّة على أشكالٍ عدّة: منها ما هو على مستوى الاصطلاح، ومنها في المنهج، وفي توظيف المعلومات.

3. في المداخل الخاصّة في الحديث عن الأنبياء تقدّم موسوعة ليدن القرآنيّة الرؤية اليهوديّة والمسيحيّة على الرؤية القرآنيّة، وهذا يدخل ضمن التحيّز المعرفيّ.

4. التحيّز للرؤية الاستشراقيّة والحداثويّة في كتابة المداخل والموضوعات ،القرآنيّة، ظاهرةٌ واضحةٌ وخاصّة في المداخل الخاصّة بالأنبياء.

5. التحيّز في استعمال المصطلح كإطلاق لقب الملك على بعض الأنبياء تماشيًا مع الثّقافة غير الإسلاميّة كما في النّبيّ داوود وسليمان عليهما السلام، أو كإطلاق لقب المرشد الرّوحي على النبيّ عيسى علیه السّلام، بينما القرآن يسميهم أنبياء.

ص: 436


1- حسن حنفي ومجموعة مؤلفين: الإسلام والحداثة، لا ط، بيروت، دار الساقي، 1990م، ص219.

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم

2. أبو زيد، نصر حامد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، الهيئة المصرية للكتاب، 1990م.

3. أركون، محمد القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2005م.

4. المسيري، عبد الوهاب، إشكالية التحيّز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417ه_ - 1996م.

5. المسيري، عبد الوهاب، العالم من منظور غربي، دار الهلال، القاهرة، 2001م.

6. الطبرسي، مجمع البيان، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 1415ه_ 1995م.

7. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2.

8. الشاهرودي، الشيخ علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، تحقيق: الشيخ حسين بن علي النمازي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1419ه_.

9. الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط 1، 1406 ه_ - 1986م.

10. الريسوني، قطب، النص القرآني من تهافت القراء إلى أفق التدبير، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية.

11. إنجيل مرقص، 4:1

12. جولد زهير، العقيدة والشريعة في الإسلام.

ص: 437

13. دائرة المعارف قرآن، ترجمة للفارسية مؤسسة التبليغ الإسلامي، مؤسسة انتشارات حكمت التابعة لمؤسسة التبليغ الإسلامي، إيران - طهران، ط1 ، 1392ه_. ش، 1434ه_. ق.

14. حسن حنفي ومجموعة مؤلفين، الإسلام والحداثة، دار الساقي، بيروت، 1990م.

15. ثيودور نولدکه، تاریخ القرآن، ترجمة: جورج تامر، مؤسسة كونراد - أدناور، بيروت، ط 1، 2004م.

16. عزام، محمد، النقد والدلالة نحو تحليل سيميائي للأدب، منشورات وزارة الثقافة، 1996م.

ص: 438

الحضارة والعمران في موسوعة القرآن.. مقاربة تحليلية ونقدية

المقدّمه

اشارة

د. زكي الميلاد(1)

مثَّل القرآن الكريم حقلًا دراسيًّا واسعًا في منظومة المعارف الاستشراقيّة، وظلّ هذا الحقل محافظًا على ديناميّته وتراكمه بحثًا وتحقيقًا وتنقيبًا وتصنيفًا وترجمةً، عابرًا بين أزمنةٍ طويلةٍ في أوروبا، متعاقبًا بين أجيالٍ متتاليةٍ، ممتدًّا بين مجتمعاتٍ مختلفةٍ، مسجّلًا أثرًا بارزًا في المدارس الاستشراقيّة المتعدّدة بحسب بلدانها: الألمانيّة

والفرنسيّة والإنجليزيّة والإيطاليّة والهولنديّة والإسبانيّة وغيرها. وقد ارتبط هذا الحقل من ناحية الأشخاص بأسماء لامعةٍ وكبيرة، ظلّت حاضرةً ومؤثّرةً في ساحة المستشرقين المشتغلين بهذا الحقل، يبرز من هؤلاء ويتقدّم الألمانيون الثلاثة:

الأوّل: جوستاف فلوجل (1802-1870م) الذي صنّف أوّل معجم لفهرسة ألفاظ القرآن الكريم، صدر سنة 1842م ، بعنوان: (نجوم الفرقان في أطراف القرآن)، وقد خصّه الدكتور عبدالرحمن بدوي (1917-2002م) في موسوعته بالثّناء والتّبجيل، واسمًا الكتاب بالدّقّة والاستيعاب مادحًا صاحبه قائلًا:«وقد أسدى فلوجل بهذا الفهرس للقرآن خدمةً جلّى للجميع من الباحثين وعامة الناس»(2).

الثَّاني: الدكتور تيودور نولدكه (1836-1930م) الذي اشتهر بكتابه عن تاريخ القرآن الكريم، مقدّمًا رسالة للدكتوراه في هذا الموضوع، ناقشها سنة 1856م بعنوان: (أصل وتركيب سور القرآن)، نال عليها مرتبة الشّرف الأولى في جامعة جوتنجن،

ص: 439


1- كاتب وباحث في الفكر الإسلاميّ والإسلاميَّات المعاصرة، ورئيس تحرير مجلة الكلمة المملكة العربية السعودية.
2- بدوي عبدالرحمن: موسوعة المستشرقين ،طع بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003م، ص 412.

وطوّرها لاحقًا ونشرها في كتاب سنة 1860م بعنوان:(تاريخ النص القرآني)، مسجّلًا به أثرًا بات يؤرّخ له في تاريخ تطوّر الدّراسات التّاريخيّة للقرآن في الفكر الأوروبي، وفي ساحة المستشرقين بصورةٍ خاصّةٍ.

الثّالث: رودي بارت (1901-1983م) الذي عرف بترجمته الألمانيّة الكاملة للقرآن الكريم، صدرت هذه الترجمة في مجلّد وعلّق عليها في مجلد ثانٍ، ظهرت خلال الفترة ما بين (1963-1966م)، جاءت حسب قول بارت:«ثمرة اشتغال عميق بالنّصّ القرآنيّ استمرّت سنوات طويلة»(1)، قاصدًا منها المساعدة على فهم القرآن فهمًا تاريخيًّا.

ويبرز من هؤلاء الأشخاص كذلك، المستشرق المجري أجناتس جولدتسهير (1921-1850م) صاحب کتاب (مذاهب التفسير الإسلامي) الصادر سنة 1920م، الكتاب الذي عدّه مؤلّفه بأنّه فلذة كبده وميّزه المترجم المصري عبد الحليم النجار (ت 1383ه_/ 1964م) في ترجمته العربية للكتاب الصادرة سنة 1955م، قائلًا في المقدمة:«وكتاب مذاهب التفسير الإسلامي عملٌ مبتكرٌ من حيث المنهج وأسلوب البحث، طريف في عرض مناحي الدّراسات القرآنيّة»(2).

وختم المستشرق الألماني يوهان فوك (1894-1974م) الحديث عن جولدتسهير كاشفًا عن أثره وتأثيره قائلًا:«لقد مارس على درب الدّراسات الإسلامية تأثيرًا عظيمًا أكثر ممّا أثر أيُّ معاصر ،له كما رسم مسار وتطوّر البحث العلمي بصورة حاسمة»(3). يُضاف إلى هؤلاء الأشخاص الأسترالي آرثر جفري (1892- 1959م)، والفرنسي ريجيس بلاشير ( 1900 - 1973م)، إلى جانب آخرين كذلك.

ص: 440


1- بارت رودي: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة: مصطفى ماهر ، ط1، القاهرة المركز القومي للترجمة، 2011م، ص119.
2- جولد تسيهر أجناتس مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبدالحليم النجار، لا ط، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013م، ص3.
3- فوك يوهان تاريخ حركة الاستشراق الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين تعريب عمر لطفي العالم لا ط دمشق دار ،قتيبة، 1996م، ص248.

أوّلًا: الاستشراق وتطوَّر الدّراسات القرآنيّة

أسهم هؤلاء الأعلام وغيرهم في ترسيخ حقل الدّراسات القرآنيّة وتدعيمه في الجامعات الأوروبية وفي منظومة المعارف الاستشراقيّة متمثّلين موقعيّة الأعلام الأوروبيين الكبار لهذا الحقل وقد أكسبه جدّية وتتابعًا، بخلاف الوضع لو كان هذا الحقل بلا أعلام كبار من الأوروبيين أنفسهم، فالارتباط بهذا الحقل يسهم في تأكيد الارتباط بهؤلاء الأشخاص، كما أنّ الارتباط بهؤلاء الأشخاص يسهم كذلك في تأكيد الارتباط بهذا الحقل، وذلك من خلال علاقةٍ تفاعليّةٍ تبادليّةٍ.

من جانب آخر، إن ما تركه هؤلاء الأشخاص من تراثٍ متراكمٍ أسهم كذلك في ترسيخ هذا الحقل وتدعيمه فلم يكن حقلًا بلا سند من تراث أو يفتقر إلى تراثٍ مميّزٍ من ،داخله ولو كان هذا الحقل بلا هذا التّراث لكانت له وضعيّة أدبيّة ومعرفيّة مختلفة ومغايرة لما هي عليه، فالحقل المعرفيّ في أيَّ مجالٍ من مجالات المعرفة على أقسامها الاجتماعيّة والإنسانيّة والطبيعيّة، يزداد قوّةً وتألُّقًا بقوّة التّراث المتصل به.

وقد برزت أهميّة هذا الحقل وانكشفت في منظومة المعارف الاستشراقيّة متجلّيًا ذلك في تنوُّع موضوعاته التي غطّت وشملت جميع أو معظم جوانبه تقريبًا، وبقي هذا الحقل متميّزاً بهذه السّمة الجادّة ومتفرّدًا بها، فقد غطّت هذه الموضوعات وشملت الجوانب التّاريخيّة والكلاميّة واللغويّة والبلاغيّة، وامتدّت إلى جوانب فنّيّةٍ وتطبيقيّةٍ تعلّقت بالتّرجمة والتّصنيف والتّبويب والفهرسة وبات كلّ جانبٍ من هذه الجوانب يمثّل حقلًا دراسيًا واسعًا وممتدًّا ومتراكمًا، له أزمنته وأطواره وتحقيباته من جهة، وله أعلامه ورجاله ورموزه من جهةٍ ثانيةٍ، وله تأليفاته ومصنّفاته ومصادره من جهةٍ ثالثةٍ.

ويكفي أن نأخذ الجانب التّاريخي مثالا على ذلك وبرهانًا، فقد استقطب هذا الجانب اهتمام المستشرقين وعنايتهم وفضولهم، ومثَّل لهم حقلًا دراسيًّا جادًّا ومثيرًا، امتدَّ في أزمنته وأطواره وتحقيباته من أوائل القرن التاسع عشر إلى منتصف الثاني

ص: 441

من القرن العشرين(1) وتجدّد بعد ذلك وامتدَّ عابرًا إلى القرن الحادي والعشرين.

وعُرف هذا الحقل الدّراسيّ التّاريخيّ للقرآن بأعلام ورجال يبرز منهم: المستشرق الفرنسي بوتيه (1800 - 1873م) صاحب كتاب (تاريخ القرآن)، والمستشرق الإنجليزي إدوارد سيل صاحب كتاب (التطوّر التاريخي للقرآن)، والمستشرق الألماني جوستاف فایل (1808-1889م) صاحب كتاب (مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن) وهكذا المستشرق الألماني تيودور نولدكه صاحب كتاب (تاريخ النص القرآني)، والمستشرق الألماني جوتهلفبرجشتريسر (1886-1933م) صاحب كتاب (تاريخ القرآن)، إلى جانب آخرین.

مع مطلع القرن الحادي والعشرين تجدّد الاهتمام بهذا الحقل وشهد تطوّرًا وازهارًا مهمًّا، جاء مستفيدًا من حصيلة التراكمات المعرفيّة الممتدّة لسنواتٍ طويلةٍ تزيد على قرن من الزمان في المجال الأوروبي، ومتأثّرًا بعاملٍ موضوعيًّ خارجيًّ متمثّلًا في ديناميات الظّواهر الإسلاميّة بأنماطها المختلفة المعتدلة والمتطّرفة التي أثارت انتباه العالم بشدّة خاصّة تلك الظواهر التي شغلت اهتمام المجتمعات الغربية وظلّت محتكّةً بها في داخلها متحسّسةً منها ومنفعلة، مصوّبة النظر على ما بات يعرف بالظّاهر الإسلاميّة الأوروبيّة.

وتعدُّ (موسوعة القرآن) المنسوبة مكانيًّا إلى مدينة ليدن الهولنديّة أهمّ تطوّرٍ معرفيًّ في حقل الدّراسات القرآنيبة حدث في العالم الغربي مع بداية الألفيّة الجديدة، حدثًا سوف يُؤرّخ له في تاريخ تطوّر هذه الدّراسات القرآنيّة هناك، فقد مثّلت أوّل موسوعة من نوعها متخصّصة في المعارف القرآنيّة، تكوّنت من ستة أجزاء، شملت (694) مادة، صدر الجزء الأول سنة ،2001م واكتملت أجزاؤها سنة 2006م.

بالعودة إلى الوراء فارقت الموسوعة نفسها عن بعض الاتّجاهات بداعي الانفصال، وقاربت نفسها مع بعض الاتّجاهات الأخرى بداعي الاتّصال فارقت نفسها عن اتّجاهات المعرفة بالقرآن في أوروبا القرون الوسطى، تلك التي تشكّلت

ص: 442


1- انظر: الصغير، محمد حسين المستشرقون والدراسات القرآنية، ط1، بيروت، دار المؤرخ العربي د. ت)، ص21.

على خلفية ترجمات القرآن وما أثارت من ردودٍ من المؤلّفين اليهود والمسيحيين؛ إذ كانوا متحيّزين إلى اتّجاهين وصفتهما الموسوعة بالجدليّ والدّفاعيّ.

وبداعي الاتّصال قاربت الموسوعة نفسها مع اتّجاه الدّراسات الاستشراقيّة، الذي ظهر بعد عصر التنوير، بوصفه حقلًا أكاديميًا متميّزاً على حدِّ وصف الموسوعة وبهذا اللّحاظ اعتبرت الموسوعة أن أكثر ما ورد فيها يبتني على العمل الذي بدأ في المراكز الأكاديميّة التي تصدَّت بالدّراسة العلميّة للثقافات والأديان غير الغربية.

في هذا الكلام ما يدعو إلى النّقاش النّقديّ في بُعدين: الأوّل، يتعلّق بالمعرفة الاستشراقيّة وتصويبها كليًّا وإعطائها صفة الحقل الأكاديميّ المتميّز. والثاني يتعلّق بإعلان الموسوعة انتسابها إلى المعرفة الاستشراقيّة بذريعة الصّفة الأكاديميّة.

بشأن الأمر الأوّل، إذا كانت المعرفة الاستشراقيّة بعد عصر التنوير قد تمايزت عن نظيرتها المعرفة الدّينيّة اليهوديّة والمسيحيّة الوسيطيّة - نسبة إلى العصور الوسطى- إلَّا أنّ هذه المعرفة الاستشراقيّة بكلّيّتها لا يمكن إعطاؤها صفة الأكاديميّة وإضافة صفة التميّز إليها بمعنى تقيّد هذه المعرفة والتزامها بمعايير وضوابط البحث العلميّ الصّارم، فقد ظهر على قسم كبيرٍ منها ملامح التّحيّز بدل التّجرّد والتعصّب بدل الإنصاف والتّعالي بدل التّواضع والإجحاف بدل الإخلاص إلى الحقيقة.

وبشأن الأمر الثاني كان من المثير إعلان الموسوعة انتسابها بأيَّ وجهٍ من الوجوه إلى المعرفة الاستشراقيّة، لكونها معرفةً أحاطت بها إشكاليّات والتباسات وانقسمت حولها وتباينت وجهات النّظر ، ومثّلت محطّة خلافٍ ونزاعٍ بين العالمين الإسلامي والغربي، وكان من الأجدى للموسوعة والأسلم لها إمّا أن تنأى بنفسها عن هذا الأمر، أو تتّخذ موقف الصّمت تجاه هذه المعرفة، أو الإعلان عن تجاوزها والقطيعة معها؛ لِما لها من سيرةٍ ملتبسةٍ مع التّبشير الدّيني الصّدامي من جهة، و مع الاستعمار الإمبرياليّ من جهةٍ أخرى، ومع نزعة التفوّق الحضاري الغربي من جهةٍ ثالثة.

من جانب آخر، أراد القائمون على هذه الموسوعة أن ترتقي المستوى الكتاب

ص: 443

المرجعيّ مشدّدين على هذه الصّفة ومؤكّدين عليها، قاصدين إنتاج كتابٍ مرجعيّ يحتوي - في نظرهم - على أفضل إنجازات القرن في مجال الدّراسات القرآنيّة، متأمّلين من هذا العمل أن يستثير مزيدًا من الجهد البحثي حول القرآن خلال العقود الآتية، ليكون عالم الدّراسات القرآنيّة متاحًا لمجموعةٍ واسعةٍ من الباحثين الأكاديميين والقرّاء المثقّفين وطلّاب العلم المتخصّصين في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، معتبرين أنّ المؤلّفات المرجعيّة المتعلّقة بالقرآن المكتوبة باللغات الأوروبية قليلة للغاية، وأغلب المعلومات المتاحة إمّا منحازة أو غير كاملةٍ أو مخفيّة في مصادر يصعب الوصول إليها.

هناك جانبٌ آخر جدير بالالتفات يتعلّق برمزية المكان، فقد عرّفت الموسوعة نفسها قاصدةً الإشارة إلى جهة المكان منتسبةً إلى مدينة ليدن الواقعة على ضفاف الراين جنوب هولندا المدينة التي لها سيرة وإرث في تاريخ حركة الاستشراق، فمن جهةٍ تعدُّ جامعة ليدن من أقدم جامعات أوروبا، وجاءت الموسوعة على ذكرها بوصفها المدينة التي تأسّست فيها أسبق الكليات المعنيّة بدراسة الثقافات والأديان غير الغربية، فكلّيتها ترجع في تأسيسها إلى سنة 1593م ، متقدّمة على روما 1627م، وعلى أوكسفورد 1638م.

عرفت ليدن بوفرة المخطوطات العربيّة، وأشار إلى ذلك عبدالرحمن بدوي عند ترجمته لتيودور نولدكه الذي أقام في ليدن ما بين خريف 1857م إلى ربيع 1858م، وتحدّث قائلاً: «وهنا في ليدن حيث المخطوطات العربيّة الوفيرة، والأساتذة المستشرقون الممتازون: دوزیویونبول ودي فريس وكونن عقد نولدكه الشاب أواصر صداقة قويّة مع هؤلاء المستشرقين، وعكف على قراءة المخطوطات العربية الثمينة»(1).

ويذكر في سيرة المستشرق المجري جولد تسيهر أنّ ليدن مثّلت محطةً في سيرته الفكريّة، فقد قصد«جامعة ليدن وحضر محاضرات أبراهام كونن، واكتشف

ص: 444


1- بدوي عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص596.

هناك المخطوطات الشّرقية بالجامعة التي بنى عليها عمله الأوّل عن الظاهريّة سنة 1884م ، وفي مدينة ليدن أيضًا كوّن صداقته التي دامت طويلا مع الأستاذين المستشرقين الهولنديين: رينهارتدوزي وميشيل يان دي خويه»(1).

يضاف إلى ذلك أنّ أوّل دائرة معارف إسلاميّة استشراقيّة ظهرت في ليدن خلال الفترة ما بين 1913 - 1938م، وصدرت من دار نشر بريل وهي الدار نفسها التي أصدرت هذه الموسوعة القرآنيّة، وليس مستبعدًا أن يكون هذا الأمر مقصودا، فالدّار التي عرفت بدائرة المعارف الإسلاميّة الشهيرة يقع الاختيار عليها لإصدار أوّل موسوعة قرآنيّة استشراقيّة !

وتتابعًا لتطوّرات حقل الدّراسات القرآنيّة وديناميّته في المجال الغربي، فقد صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2005م موسوعة قرآنيّة أخرى تكوّنت من مجلّدٍ واحد فقط، أشرف على تحريرها الدكتور أوليفر ليمن أستاذ الدّراسات الفلسفيّة في جامعة كنتاكي الأمريكيّة.

وفي سياق هذه التطوّرات أيضًا، أعلنت هيئة الأبحاث الأوروبية التي تأسّست سنة 2007م عن إطلاق مشروع حول القرآن الكريم بعنوان: «القرآن الأوروبي: الكتاب الإسلامي المقدّس في الدين والثّقافة الأوروبية 1150-1850م)، يهدف المشروع بحسب إعلان الهيئة «إلى إجراء أبحاثٍ حول نمط ترجمة القرآن وتفسيره واقتباسه في أوروبا المسيحيّة خلال القرون الوسطى مرورًا بمطلع العصر الحديث، من أجل فهم تأثير هذا الكتاب المقدّس على الثقافة والدين في أوروبا، ويتناول المشروع دور القرآن في التّفاعلات المتبادلة مع الإسلام والجدالات بين المسيحيين من ذوي العقائد المختلفة والنقد الموجّه إلى الدين المسيحي خلال عهد التنوير»(2).

حُدّدت مدّة إنجاز المشروع بست سنوات يُشرف عليه أربعة باحثين ينتمون

ص: 445


1- أجناتس جولد تسيهر مذاهب التفسير الإسلامي، م.س، ص10.
2- انظر: مشروع القرآن الأوروبي، نشرة القرآن والاستشراق المعاصر (فصلية تُعنى بالاستشراق المعاصر حول القرآن الكريم تصدر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية بيروت)، العدد الأول السنة الأولى، شتاء 2019م، ص 56

الأربع جامعات أوروبية هم جوهان تولان من جامعة نانت الفرنسيّة، جان لوب من جامعة كنت البريطانيّة، روبرتو توتولي من جامعة نابولي الشّرقيّة الإيطاليّة، مرسيدس غارسيا آرینال من مركز العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في العاصمة الإسبانيّة مدريد.

هذه لمحةٌ موجزةً عن بعض تطوّرات حقل الدّراسات القرآنيّة عند المستشرقين وفي المجال الغربي بصورةٍ عامةٍ، وقد كشفت هذه التطوّرات عن تجدُّد الاهتمام بهذا الحقل الذي احتفظ بنشاطه وديناميّته إلى ما بعد الولوج إلى القرن الحادي والعشرين.

ثانيًا: المعرفة الاستشراقيّة والقرآن إشكاليّات والتباسات

أوضح المستشرق الألماني يوهان فوك، وهو يؤرّخ لتاريخ الدّراسات العربيّة والإسلاميّة في أوروبا، كيف أنّ بدايات المعرفة الأوروبيّة بالقرآن الكريم كانت متأثّرةً بذهنيّة الصّدام الدّينيّ المسيحيّ - الإسلامي زمن الحروب الصليبيّة، ومتحفّزةً بدافع التّبشير الدّينيّ المسيحي، مقدّمًا نصًا تاريخيًا صافيًا وموثّقًا، لا بدّ من التوقّف عنده فحصًا وتأمّلًا لمن يريد أن يتتبّع تاريخ تطوّر المعرفة الاستشراقيّة تجاه القرآن أو لمن يريد أن يستكشف أولى المحطّات في تاريخ تطوّر هذه المعرفة الأوروبيّة والاستشراقيّة.

لأهميّة هذا النّصّ من الناحيتين الفكريّة والتاريخيّة، وكونه يمثّل مدخلًا للحديث عن بدايات المعرفة الأوروبيّة والاستشراقيّة تجاه القرآن، سنعرض له كاملًا، فقد أورده فوك قائلًا: «ولقد كانت فكرة التّبشير هي الدافع الحقيقيّ خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربية، فكلّما تلاشى الأمل في تحقيق نصرٍ نهائيُّ بقوّة السلاح، بدا واضحًا أنّ احتلال البقاع المقدّسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم، بقدر ما أدّى إلى عكس ذلك، وهو تأثّر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر وقبل حدوث واقعة إيديساس في شهر ديسمبر من سنة 1143 ، وهي السنة التي ردّ فيها الصليبيون على أعقابهم،

ص: 446

ظهرت أوّل ترجمة لاتينيّة للقرآن في سنة 1143 . وقد نُسبت إلى مؤلّفها الأب بطرس المبجّل، رئيس دير كلاني الذي ولد في سنة 1092 أو 1094 ومات في سنة 1157. وكان بطرس هذا قد أقلته رحلة عمل إلى إسبانيا في سنة 1141، حيث لم يكتفِ بالإشراف على أتباع طائفته والتوسّط لاستتباب السّلم بين ألفون الثاني ملك قشتالة وألفون الأول الأراجوني، بل وجدها فرصةً سانحةً للتعرّف على الحوار القائم بين الإسلام والمسيحيّة والمعارك الدّائرة بين المسلمين ،والإسبان والشّعار المرفوع لاسترداد بيت المقدس كما جاء في أحد الأناشيد، وسياسة الموحّدين الدّينيّة الذين شنّوا هجماتهم على إسبانيا في تلك السنوات. وقد خرج من ذلك كلّه بقناعة بأنّ لا سبيل إلى مكافحة هرطقة محمد بعنف السّلاح الأعمى، وإنّما بقوّة الكلمة ودحضها بروح المنطق الحكيم للمحبّة المسيحيّة. لكن تحقيق هذا المطلب كان يشترط المعرفة المتعمّقة برأي الخصم أوّلًا، وهكذا وضع خطةً للعمل على ترجمة القرآن إلى اللاتينيّة، وحدث أن تقابل في إحدى ضواحي شبه الجزيرة الإيبريّة مع راهبين أحدهما إنجليزي يُدعى روبرتوسكيتينيسيس، والآخر يُدعى هيرمان الدالماتي، كانا ملمّين باللّغة العربية، ويعكفان على دراسة مؤلّفات عربيّة فلكيّة، وافقَا على ترجمة الكتاب مقابل مبلع مغرٍ من المال، وبحسب ما جاء في مقدّمة التّرجمة، فقد كان روبرتوس مسؤولًا عن ترجمة القرآن في حين قام الآخر بترجمة النبذ المختصرة»(1).

فوك الذي عدَّه الباحث اللّبناني الدكتور ميشال جحا أنّه آخر المستشرقين الألمان الكبار الذين ولدوا قبل بداية القرن العشرين(2)، كشف في النّصّ المذكور عن نمطٍ من أنماط المعرفة المتّشكل تجاه القرآن الكريم، نمطٌ تكوّنت له بنيته المفاهيميّة، ونظمه المناهجيّة، وتحدّدت له غاياته ومقاصده.

بقي هذا النّمط سائدًا في المعرفة الأوروبيّة ومهيمنًا طيلة العصور الوسطى تقريبًا، في ظلّ سيطرة رجال الدين المسيحيين وتحكّم الكنيسة على المعرفة

ص: 447


1- فوك يوهان تاريخ حركة الاستشراق، م.س، ص14.
2- جحا ميشال الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، ط1، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1982م ص214.

الأوروبيّة، ومعظم التغيّرات التي حدثت بعد ذلك من قبيل تعدُّد ترجمات القرآن لم تخرج عن نسقيّة هذا النّمط من المعرفة الملتبسة.

ومع تحوّلات المعرفة في أوروبا بعد العصور الوسطى تشكّل نمطًا معرفيًا جديدًا تجاه القرآن الكريم متركّزًا بصورةٍ رئيسةٍ على البحثين اللّغويّ والتّاريخيّ، متّخذًا من النّقدين الأدبي والتاريخي منهجًا، متأثّرًا بحقل دراسات الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد.

وعن هذا التأثّر ذكرت جين أوليف في مقدّمة الموسوعة قائلة: «وقد تأثّرت الدّراسة غير الإسلاميّة للقرآن أو الغربية بشكلٍ كبيرٍ بنظيرها حقل الدّراسات الإنجيليّة؛ حيث إنّ النّقد الإنجيليّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على الأقلّ، ذاك النّقد الذي انتقل من المحيط الحاخامي أو الرّهبانيّ إلى المحيط الجامعيّ، قد وضع الاعتقاد بالطابع الإلهي للكتابين المقدّسين اليهوديّ والمسيحيّ بين قوسين كما اتّسع الاستعداد الذي برز في عصر النّهضة لتطبيق مبادئ النّقد الأدبي والتاريخي على النّصوص اليونانيّة واللاتينيّة القديمة، ليشمل أحد النّصوص القديمة الأخرى؛ أي الإنجيل. وقد تبنّى بعض الباحثين نظرةً عقليّةً ؛ فسعى إلى التّوفيق بين التّعليمات الإنجيليّة والأوامر العقليّة، بينما ركّز آخرون على التّناقضات بين الإنجيل وقوانين الاستقامة العلميّة. كما تضاعفت التّحقيقات السّياقيّة مع قيام العلماء بالتّنقيب في الخلفيّة الثّقافيّة والتّاريخيّة للنصوص الإنجيليّة، ومع تتبّعهم للتّراث الأدبي الذي نمت منه هذه النّصوص مضافًا إلى عمليّة الصياغة التي أخرجت النّصوص في شكلها النّهائي. ومع توجّه العلماء المختّصين بفقه اللغة السامية والمتعمّقين بالدّراسة التاريخيّة - النّقديّة للكتاب المقدّس العبري والعهد الجديد إلى كتاب قديم آخر -القرآن- فقد أهملوا الافتراضات العقدية، معتبرين أنّها غير مرتبطةٍ بمهام البحث العلمي وعليه تعرّض الباحثون في القرآن كما في الإنجيل للتحليل النّصّي واللّغويّ».

في النّمط القديم كان دافع التّعامل مع القرآن دينيًّا في المقام الأوّل مندفعًا بذهنيّة التّبشير ،والمواجهة منطلقًا من اعتبار أنّ الإسلام مثّل تهديدًا حقيقيًّا

ص: 448

للمسيحيّة مؤثّرًا على وجودها في الشّرق، وعلى امتدادها في العالم.

أمّا في النّمط الحديث فدافع التّعامل مع القرآن كان بحثيًّا ونقديًا في المقام الأوّل، مندمجًا في حقل دراسات الكتب المقدّسة إلى جانب التّوراة والإنجيل مطبقًا عليه منهجيّات النّقد الأدبي والتّاريخيّ، بوصفه - كما ذكرت مقدّمة الموسوعة- محور هويّة الإسلام وتطوّره التّاريخيّ، وكونه أوثق مصدر لإعادة بيان حياة محمد وتاريخ المجتمع الإسلامي الأوّل.

بقي هذا النّمط الحديث سائدًا ومؤثَّرًا إلى اليوم في حقل الدّراسات القرآنيّة الغربيّة، منبعثًا من القرن التاسع عشر الميلادي، عابرًا القرن العشرين ممتدًّا إلى القرن الحادي والعشرين، فقد مثّل رجالات هذا النّمط جيل الرّوّاد الكبار، وعُدّت تأليفاتهم من المصادر المهمّة والملهمة.

وأشارت إلى هذا المعنى مقدّمة الموسوعة قائلةً: «وألّفت في القرن التاسع عشر بعض الكتب المهمّة التي ما زالت تؤثّر على ميدان البحث القرآنيّ المعاصر، فبرزت أسماء من قبيل: كوستاف ویل (Gustav Weil تيودور نولدکه (Theodor Noldke)، أبراهام جايجر (Abraham Geiger)، هارتویغ هارشفیلد (Hartwig Hirschfeld)، وسرعان ما انضمت إليها أسماء أقرانهم في القرن العشرين من أمثال: أجناتس جولد تسيهر Ignaz Goldier غوستاف برجستراسی (Gotthelf ) Bergstrasser)، أوتوبريتزل Otto Pretzel ريتشارد بیل (Richard Bel)، آرثر جيفري (Arthur Jeffery) رودي بارت Rudi Paret).

مع ظلال هذا النّمط الحديث وانعكاساته وتأثيراته الممتدّة والمتطاولة زمنًا ومكانًا في المجال الغربي مع ذلك حاولت الموسوعة القرآنيّة أن تميز نفسها معلنةً تمسّكها بالأكاديميّة الصارمة جاعلةً من كلمتي « صارمة» و«أكاديمية» كلمتين مفتاحيّتين لها وللدراسات التي تضمّها.

وأرادت من هذه الصّرامة الأكاديميّة التّأكيد على ثلاثة أمور هي:

ص: 449

الأمر الأوّل: له علاقة بمحتوى الموسوعة، ويُراد من الصرامة الأكاديميّة هنا - حسب رؤية الموسوعة- أن تنبثق الدّراسات من تنوّعٍ في الآراء والافتراضات.

الأمر الثاني: له علاقة بالتُّراثين الماضيين الإسلامي والغربي في مجال الأبحاث القرآنيّة، ويراد من الصّرامة الأكاديمية هنا تخطّي هذين التّراثين المختلفين لخلوّهما الدّقة، وعدم تمتّعهما بمنهجيّةٍ فريدةٍ، وحسب رأي الموسوعة:«فلا يوجد تراتُ أكاديميٌ واحدٌ في مجال الأبحاث القرآنيّة، وإنّما تشكّل القرون المتمادية من الدّراسة الإسلاميّة للقرآن مسارًا زمنيًّا يتداخل مع أجيال الدّراسة الغربيّة للنص، ولا تشكّل أيّ واحدةٍ من هاتين الفئتين اللّتين تخلوان من الدّقّة، مقاربة موحّدة أو منهجيّة فريدة تتمتّع بالأفضليّة».

الأمر الثالث له علاقة بعالمي الدّراسات القرآنيّة الإسلاميّة والغربيّة المعاصرة، ويُراد من الصّرامة الأكاديميّة هنا، تخطي الجدالات الحادّة حسب وصف الموسوعة وذلك في ظلّ تزايد التّداخل الجغرافيّ والفكريّ بين العالمين المذكورين والاستفادة من هذا التنوّع وثرائه بعيدًا عن الاستقطاب الحاد. وهذا ما عبّرت عنه الموسوعة قائلة: «في عالمي الدّراسة القرآنيّة الإسلاميّة والغربية يمكن أن نجد جدالات حادّة، حيث يتداخل هذان العالمان على نحوٍ متزايدٍ معًا جغرافيًّا وفكريًّا، ومع النّمّو السّريع للسكان المسلمين في أوروبا وشمال أمريكا والمناطق الأخرى من العالم، فإنّ القطبيّة الحادّة للإسلامي والغربي تصبح ضبابيّةً أكثر، وعولمة الأبحاث والحياة الأكاديميّة تسرّع هذا الاتّجاه... وأخذت الأبحاث ذات الجودة بالازدهار في هذه البيئة المتنوّعة بثراء، وعليه فقد سعى محرّرو موسوعة القرآن إلى التقاط هذا التنوّع ضمن صفحات الموسوعة هادفين إلى أن يشكّل هذا الكتاب أكبر نطاق ممكن من الدراسة الأكاديمية الصارمة حول القرآن».

هذا ما سعت إليه الموسوعة حسب تقديرها لنفسها، لكنّها لم تسلم من الجدل والتحفُّظ وإثارة القلق، وقد تنبّهت سلفًا لإمكانيّة حدوث مثل هذا الأمر الجدليّ ،والإشكاليّ، وتطرّقت الموسوعة على لسان جين أوليف في خاتمة مقدّمة الموسوعة

ص: 450

لهذا الشأن قائلة: أريد التّطرّق إلى موضوع «هو احتماليّة وقوع الجدل حول المشروع، فمنذ أن حملت مسؤوليّة موسوعة القرآن سألني الصحفيون والزملاء والمعارف مرارًا عمَّا إذا كنت أشعر بالقلق أو الخطر بسبب انخراطي في هذا المشروع. كان جوابي على الدوام هو لا، وغالبًا ما ترافق مع تعبيري عن الأسف بأنّ التحريف المتكرّر لمشاعر المسلمين قد يثير هذا السّؤال، ومع ذلك فإنّ دراسة نصٍّ يعتبره الملايين مقدّسًا هو وظيفة حسّاسة... هناك بعض الزَّملاء المسلمين الذين فضّلوا عدم المشاركة خوفًا من أن يتسبّب ارتباطهم بموسوعة القرآن بتعريض نزاهتهم للخطر، وهناك بعض الزملاء غير المسلمين الذين رفضوا المشاركة للسبب نفسه. ولكن مع غضّ النّظر عن ذلك، فهذه مجرّد استثناءات، وقد وافق أغلب الباحثين الذين دعوا إلى المشاركة بحماس ونشاط فرحين برؤية كتابٍ مرجعيٍّ يعزّز النّمو المستمر في ميدان الدّراسات القرآنيّة».

هذه بصورةٍ عامة - هي وضعيّات المعرفة الاستشراقيّة المتشكّلة حول القرآن الكريم كانت وما زالت منذ بدايتها إلى اليوم معرفةً تثير الحساسيّة والقلق، وتحيط بها الإشكاليّة والالتباس، ويجري التّعامل معها بنوعٍ من الرّيبة والشّكّ، هذا ما حدث عند المسلمين في جميع أجيالهم وأزمنتهم وأمكنتهم، وعلى اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم العلميّة والفكريّة.

علمًا أنّ هذا الموقف من المسلمين علماء وأدباء ومفكّرين ومؤرّخين ومفسّرين لم يأتِ من فراغٍ أو بدافع العناد ولا نتيجة وهمٍ وانفعال، ولا بضغط الخصومة والمواجهات، ولا بتأثير الاختلاف في الثّقافة والدّين، ولا علاقة له بمعايير التقدّم والتأخّر، وإنما جاء مستندًا إلى إرثٍ طويلٍ وتاريخٍ وسيرةٍ من إثارة الطعون والشّبهات والتّشكيكات والتّهجّمات والمغالطات التي طالت الإسلام دينا ونبيًّا وكتابًا وتاريخًا وحضارة.

لكن، من وجهٍ آخر، يسجل لهذه المعرفة الاستشراقيّة أنّها حفّزت المسلمين على البحث والتحقيق والتنقيب الدّينيّ والفكريّ والتّاريخيّ وفي باقي الميادين الأخرى،

ص: 451

وجعلتهم يقفون على مسائل وقضايا ما كان بالإمكان التّنبه لها، والالتفات إليها، والاقتراب منها، والاشتغال عليها، لولا هذه المعرفة الاستشراقيّة الصّادمة والمستفزّة بطعونها وشبهاتها وإشكالياتها.

وإذا كانت المعرفة الاستشراقيّة قد خلّفت إرثًا معرفيًا كبيرًا بقي متراكمًا لسنين طويلة، فإنّ المعرفة الإسلاميّة خلّفت كذلك إرثًا معرفيًّا موازيًا بقي وما زال متراكمًا، ولولا ذلك الإرث الاستشراقي لما كان لهذا الإرث الإسلاميّ المصاحب من وجود وبقاء وديمومة، مع ما بينهما من فارقٍ يضع المعرفة الاستشراقيّة في موقعيّة الفعل ومنزلة السّبق، بينما يضع المعرفة الإسلاميّة في موقعيّة ردّ الفعل ومنزلة متابعة

السابق!

ثالثًا: الحضارة والعمران.. ثلاث مطالعات

اشارة

تحدّدت في محور الحضارة والعمران ثلاث مقالاتٍ منتخبةٍ من مقالات الموسوعة القرآنية، هي:

1- الجماعة والمجتمع في القرآن إعداد الباحث الأمريكي فريدريك ماثيوسون ديني وردت في المجلّد الأوّل، الصادر سنة 2001م.

2- الحياة اليوميّة في القرآن إعداد الباحث المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد (1943-2010م) وردت في المجلد الثاني، الصادر سنة 2002م.

- الفنّ والهندسة في القرآن، إعداد الباحث الأمريكي من أصل فرنسي الدكتور أوليغغرابار (1929-2011م)، وردت في المجلد الأول.

اتّبعت هذه المقالات الثلاث طريقةً موحدةً من جهة المنهج، متحدّدةً في المنهج المزدوج الوصفي والتحليليّ اللذين يقوم عملهما على تتبّع الظّواهر المندرجة في موضوع البحث وتناولها بالوصف والتحليل الوصف الذي يتناول الظاهرة ضبطاً وتحديدًا من جهة الشّكل والظاهر والتّحليل الذي يتناول الظّاهرة تفسيرا وتحليلًا من جهة المحتوى والباطن، وهما المنهجان المتّبعان عادةً في الموسوعات العلميّة

ص: 452

والأكاديميّة والمفضّلان كذلك في هذا النّمط من الأعمال الموسوعيّة.

ومن ناحية التّصنيف، فقد تعدّدت انتماءات هذه المقالات الثلاثة من جهة الحقل المعرفيّ، فالمقالة الأولى:(الجماعة والمجتمع في القرآن) تنتمي إلى حقل الدّراسات الاجتماعيّة، وتحديدًا إلى علم الاجتماع الدّينيّ، والمقالة الثانية: (الحياة اليومية في القرآن) تنتمي إلى حقل الدّراسات الأنثروبولوجيّة، وتحديدًا إلى الأنثروبولوجيّة الدّينيّة، أما المقالة الثالثة:(الفن والهندسة في القرآن) فتنتمي إلى

حقل الدّراسات الفنّيّة، وتحديدًا إلى الفنّ الدّيني أو الفنّ الإسلامي.

ومن ناحية الإطار الموضوعي، فإنّ هذه المقالات الثلاثة يمكن أن تندرج ضمن إطارٍ متّحدٍ، متحدّدًا في موضوع الحضارة والعمران في القرآن الكريم، متناولةً هذا الموضوع من ثلاثة مداخل هي:

المدخل الاجتماعي، وتعلّقت به المقالة الأولى التي حاولت دراسة مفاهيم الجماعة والمجتمع والأمة في القرآن ومعرفة ما إذا كان القرآن قد أحدث تحوّلًا جوهريًا في بنية هذه المفاهيم إلى جانب العناية بمعرفة أثر القرآن في تغيير وجهة الأمة الإسلامية!.

ثانيًا: المدخل الأنثروبولوجي، وتعلّقت به المقالة الثانية التي حاولت دراسة علاقة الناس العاديين في حياتهم اليوميّة بالقرآن وهل تكشف هذه العلاقة عن أثر القرآن في ازدهار الحياة اليوميّة للناس في المجتمعات الإسلاميّة!

ثالثًا المدخل الفنّي، وتعلّقت به المقالة الثالثة التي حاولت دراسة علاقة الفنّ والهندسة بالقرآن عمرانًا وازدهارًا.

هذا فيما يتعلّق بجانب التركيب لهذه المقالات الثلاث وما بينها من اتّصالٍ، أمّا جانب التّحليل فيتعلّق بفحص هذه المقالات الثلاث بطريقةٍ مفكّكةٍ كلّ واحدةٍ على حدة، باعتبار أنّ كلّ واحدةٍ منها لها بنيتها ونسقها وحكمتها وحقلها الدّلالي.

ص: 453

أ. المقالة الأولى: الجماعة والمجتمع في القرآن

يرى فريدريك ديني أنّ مقالته غطّت الأبعاد الأساسيّة لوجهات نظر القرآن بشأن الجماعة والمجتمع، وحاولت وضعهما في السّياق الاجتماعي والثّقافي لجزيرة العرب قبل الإسلام مع أنّ القرآن - في نظر الباحث ليس كتابًا يفسّر علم الاجتماع لجزيرة العرب القديمة، معتبراً أنّ هذا الموضوع تحتاج دراسته العودة إلى مصادر أدبيّة عدّة من بينها القرآن متطرّقًا إلى سبعة أعمال أدبيّة معاصرة، من بينها كتاب الباحث اللبناني الدكتور رضوان السيد (مفاهيم الجماعات في الإسلام) الصادر سنة 1985م، واصفًا له أنّه يمثّل دراسةً شاملةً في موضوعه.

نوّهت بهذا الكتاب لكونه الكتاب العربي من بين الأعمال السّبعة التي أشار إليها الباحث.

افتتح ديني مقالته لافتًا الانتباه إلى مفارقتين: المفارقة الأولى، رأى فيها أنّ القرآن بوصفه مصدرًا بارزًا للحقائق والمعلومات حول الله، فإنّه أيضًا يمثّل مصدرًا توجيهيًّا في تكوين الجماعة والمجتمع التّقيّين وذلك على الصّعيدين النّظري والعملي.

المفارقة الثانية: رأى فيها ديني أنّ غاية الخطاب القرآنيّ بشأن الأبعاد الاجتماعيّة للتجربة الإنسانيّة مع أنّها تنطوي بشكلٍ أساسيٍّ على توجيه المسلمين وإلهامهم وتنظيمهم نحو التّقرّب من الله وخدمته إلَّا أنّه أيضًا يقدّم وفرةً من المعلومات المتنوّعة حول المجموعات الإنسانيّة التي ينظر إليها من منظوراتٍ دينيةٍ.

تكوّنت المقالة من ثلاثة محاور أساسيّة هي:

1- السّياق العربي القديم للأفكار والمؤسّسات الدّينيّة القرآنيّة.

2- المصطلحات والأفكار الدّينيّة - المجتمعيّة في القرآن.

3- تشكيل الفئة ذات الشأن في القرآن.

المحور الأوّل: هو أشبه بمدخلٍ تاريخيٍّ تمهيديٍّ توقّف فيه الباحث وصفًا

ص: 454

وتحليلًا لتكوين المعرفة بما أطلق عليه السّياق العربي القديم للأفكار والتّشكّلات الاجتماعيّة ما قبل الإسلام وتزامنًا مع ظهوره استند فيه بصورةٍ رئيسةٍ إلى ثلاث دراساتٍ هي:

1- في التّحليل التاريخي لمرحلة ما قبل الإسلام استند الباحث إلى المستشرق الإنجليزي مونتجمري وات (1909- 2006م) بالعودة إلى كتابيه (محمد في مكة) الصادر سنة 1953م، و(محمد في المدينة) الصادر سنة 1956م، واصفًا لهما بالدراسة المثيرة والمؤثّرة، وأنّها وفّرت تحليلاتٍ مفصّلةً عن القبائل والعشائر العربيّة، التي كان لها دور في المراحل التأسيسيّة لتطوّر الأمّة الإسلاميّة.

2- وفي التّحليل التّاريخي لمرحلة الإسلام استند إلى الكاتب ريد أم. دونر.

3- وفي التّحليل التاريخي لتطوّر الأفكار بشأن الأمّة والمجتمع ما قبل الإسلام وعند ظهوره استند إلى الدكتور رضوان السيد بالعودة إلى كتابه:(الأمة والجماعة والسلطة.. دراسات في الفكر السياسي العربي والإسلامي) الصادر سنة 1984م، وقد وصف الباحث هذا الكتاب بالدّراسة الغنيّة، وعدّه مثالًا لافتًا للانتباه لعلم الاجتماع المرتكز على أرضيّةٍ لاهوتيّةٍ؛ إذ لا يلجأ إلى القرآن والوثائق المعاصرة الأخرى وحسب، بل يستشهد أيضًا بالأحاديث والتّفسير القرآني والشّعر والتّاريخ والسّيرة النّبويّة، إضافة إلى العلوم القرآنيّة ونقاشات التّفسير لإظهار كيف أنّ الأمّة تطوّرت مع الوقت إلى جماعة كاريزماتيّة متعدّدة الأبعاد.

المحور الثاني:(المصطلحات والأفكار الدينيّة - المجتمعيّة في القرآن)، فقد مثَّل جوهر موضوع البحث ولبه تتبّع فيه الباحث وصفًا وتحليلاً المفاهيم والمصطلحات التي تتّصل بالجماعة والمجتمع في القرآن متوقّفًا عند مفاهيم الأمة الملة حنيف المسلمين والمؤمنين، عباد الله، مركّزًا على مفهوم الأمة باعتباره المفهوم القرآنيّ الأكثر تطوّرًا للتعبير عن جماعة المسلمين.

المحور الثالث: (تشكيل الفئة ذات الشأن في القرآن)، فهو أشبه بتتمّة للبحث عدّه الباحث استطرادًا، تتبع فيه بعض المفاهيم والمصطلحات مثل: أهل الكتاب

ص: 455

اليهود والمسيحيين الأسلاف الفوريين للإسلام من ناحية التوحيد الدّيني، معتبرًا أنّ انتقاد القرآن لليهود وعلى نحو أقل المسيحيين يكشف عن مسعّى للإسلام المبكر لتحديد نفسه أعلى شأنًا من أخويه السّابقين في المعتقد الإبراهيمي، مع تأكيده على أنّ الخلافات بين الإسلام والديانتين اليهوديّة والمسيحيّة لا تُشبه الجدل الأساسي مع المشركين؛ لأن ثمّة أسس مشتركة رئيسة في المعتقدات التوحيديّة، وفي القسم الأخير من المقالة تطرّق الباحث لقضيّة الزواج والعائلة وختمها بالحديث عمًّا أطلق عليه المجتمع الكامل ويقصد به نموذج مجتمع الآخرة.

هذا من جهة التّوصيف، أمّا من جهة التّقويم فيمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

أوّلًا:من ناحية الخطاب اتّسمت المقالة إجمالًا بالاعتدال والطرح الهادئ، وجاءت خاليةً من التشنُّجات والمواقف الحادَّة، متجنّبةً إثارة الشّبهات والإشكاليات المتحيِّزة والمؤدلجة التي ميّزت نسقًا كبيرًا في منظومة المعرفة الاستشراقيّة، لكنّها بقيت متّصلةً بهذه المعرفة الاستشراقيّة لم تخرج عليها أو تتجاوزها، منتظمةً فی نسقها، منسجمةً مع روحها، مستندةً إلى أعلامها ومراجعها، فهي من هذه الجهة تنتمي

إلى ما يمكن تسميته بالاستشراق المعتدل.

ثانيًا من ناحية المنهج بدا لي أنّ المقالة لا تتَّسم بالقدر الكافي من الإحكام المنهجيّ، ولم تكن بذلك التّرابط والاتِّساق في تناول القضايا والموضوعات، ولم تقدّم ضبطًا معرفيًا للمفاهيم الأساسيّة المعالجة كمفاهيم: الجماعة والمجتمع والأمة، ولم تكن بذلك التركيز، فقد اعتنت ببعض القضايا والمفاهيم التي لم تكن أساسيّة بالنسبة للموضوع، مثل الحديث عن «الحنيف» و «عباد الله»، وأهملت في المقابل بعض القضايا والمفاهيم الأساسيّة، مثل كلمة «الناس» التي تعدّ من الكلمات البلاغيّة المهمّة في القرآن الدالّة على الجانب الإنساني العام الذي يتّسع إلى النّاس كافة بغضّ النظر عن مللهم وأديانهم، كما أهملت الحديث عن فكرة الجماعات متمثّلة في أقوام الأنبياء التي أخذت حيّزًا كبيرًا في بنية الخطاب القرآني.

ثالثًا من ناحية المعرفة لم تقدّم المقالة جديدًا على مستوى المعرفة بالنّسبة

ص: 456

إلى الموضوع المعالج، ولم تتَّسم بالابتكار والتجديد وكلّ ما ورد فيها هو من نمط المعرفة المتداولة في دراسات وتأليفات الآخرين عربًا ومسلمين، والتي من السّهولة الوصول إليها، والقبض عليها والحديث عنها، وهذا لا يعني على الإطلاق أنّ لا قيمة لهذه المقالة من أيَّ وجه من الوجوه.

رابعًا: من ناحية البدائل على مستوى المنهج من الممكن أن نقدّم منهجًا بديلًا في دراسة مفاهيم الجماعة والمجتمع والأمة في القرآن الكريم، وهناك منهجان في هذا الصدد: منهج يتَّصل بالمجال الإسلامي الخاص، ومنهج يتَّصل بالمجال الإنساني العام.

1. المجال الأوّل: من الممكن الحديث عن المفاهيم الثلاثة المذكورة في إطار ثلاثة أطوار اجتماعيّة وتاريخيّة حدثت في الاجتماع الإسلامي.

الطور الأوّل: المرحلة المكيّة وانبثاق مفهوم الجماعة، في هذا الطور جاء الخطاب القرآني والمسلمون متشكّلون في جماعةٍ أول جماعة في تاريخ الإسلام.

الطور الثاني: المرحلة المدنيّة وانبثاق مفهوم المجتمع، في هذا الطّور جاء الخطاب القرآني والمسلمون متشكّلون في مجتمع هو أوّل مجتمع في تاريخ الإسلام.

الطور الثالث: المرحلة المكيّة والمدنيّة وانبثاق مفهوم الأمّة، في هذا الطور جاء الخطاب القرآني والمسلمون متشكّلون في أمّة هي أوّل أمة في تاريخ الإسلام.

2. المجال الثاني من الممكن الحديث عن الاجتماع الإنساني العام في القرآن الكريم من خلال ثلاثة أطوار كبرى هي:

الطور الأوّل: ويتّصل بعالم الفرد ، باعتبار أنّ الاجتماع الإنساني بدأ في صورة فردٍ ولم يبدأ في صورة جماعةٍ أو مجتمعٍ، وفي هذا الطور تقصَّد القرآن لفت الانتباه إلى ثلاث خطيئات مؤثّرة هي: خطيئة إبليس متمثّلة في خطيئة التكبُّر التي جعلته من الكافرين، قال تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(1).

ص: 457


1- سورة البقرة الآية 34.

وخطيئة آدم متمثّلة في خطيئة حس التّملّك والخلود التي تقود الإنسان لأن يكون من الظالمين، قال تعالى:«وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرُ وَمَتَاح إلى حِينٍ»(1).

وخطيئة قابيل متمثّلة في الحسد التي قادته إلى قتل أخيه فأصبح من الخاسرين قال تعالى:«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنى آدَمَ بالحق إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَبِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِى إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إنِّي أُريدُ أَنْ تَبُوءَ بإني وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ بِإِثْمِي فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(2).

الطور الثاني: ويتَّصل بعالم الجماعة وتحدّد باستخدام القرآن الكريم لفظ القوم، منتقلًا من عالم الفرد إلى عالم الجماعة، متحدّثًا عن أقوام الأنبياء، قاصدًا لفت الانتباه إلى قضايا ومشكلات مهمّة ومتعدّدة تتَّصل بحال الجماعة والجماعات فمع قوم شعيب تحدّث القرآن عن مشكلة اقتصادية متمثلة في نقصان المكيال والميزان وقوم لوط تحدّث القرآن عن مشكلة أخلاقية متمثّلة في إتيان الفاحشة، وقوم إبراهيم تحدّث القرآن عن مشكلة عقائدية متمثلة في عبادة الأصنام، وقوم موسى تحدّث القرآن عن مشكلة سياسية متمثَّلة في طغيان فرعون وهكذا في باقي الأقوام الأخرى.

الطور الثالث: ويتّصل بعالم الأمة وجاء مع نزول القرآن الكريم بوصفه خاتمة الكتب السّماويّة، وظهور الإسلام بوصفه خاتم الديانات التوحيديّة، ومع النّبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه خاتم الأنبياء والرسل. في هذا الطور انبثق مفهوم الأمّة وجاء متّصلًا بعالم الإسلام، ونصَّ القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ

ص: 458


1- سورة البقرة، الآيتان 35-36
2- سورة المائدة الآيات: 27-30

أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(1)، وقوله تعالى:«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شهيدا»(2).

وجدير بالإشارة أنّ مفهوم الأمّة الذي تحدّث عنه القرآن الكريم في هذا الطور يختلف عن باقي الاستعمالات الأخرى لمفهوم الأمة التي وردت في العديد من الآيات القرآنيّة، ويراد بهذا المفهوم تلك الكتلة البشريّة الكبيرة التي تحدّدت هويّتها وشخصيّتها، ورسالتها، وتحمّلت تبليغ دين الإسلام إلى الناس كافّة.

ب. المقالة الثانية: القرآن في الحياة اليومية

افتتح الدكتور نصر حامد أبو زيد مقالته منبّهًا إلى مفارقة يرى فيها أنّ موضوع الدين في الحياة اليوميّة حظي باهتمامٍ متزايدٍ من قبل المؤرّخين والباحثين الاجتماعيين، بينما لم يخضع دور النّصّ المقدّس في الحياة اليوميّة للدراسة إلَّا نادرًا، منوّهًا أنّ الحياة اليوميّة لا يمكن استيعابها بذلك المستوى من الوضوح المتصوّر، لكونها تغطّي طيفًا واسعًا من النّشاطات الفرديّة والاجتماعيّة المعقّدة ضمن نطاقٍ ثقافيٍّ محدّدٍ مستندًا إلى تعريفٍ عدَّه مقبولًا عن الحياة اليوميّة متحدّدًا في: نشاطات النّاس العاديين اليوميّة غير العباديّة، قاصدًا أولئك الأفراد الذين لا يتمتّعون بأهميّة أو شهرة ولا يتبوّؤون مناصب في مجتمعهم.

من ناحية المنهج ، يرى الباحث أن مسألة تصنيف ظواهر الحياة اليوميّة أو توثيقها منهجيًّا ستواجه مشكلةً تتمثل فى قلّة المعلومات المستحصلة بشكل عام حول عامّة المسلمين أو نمط حياتهم اليوميّة من خلال دراسة كمًّ هائل من المراجع التّاريخيّة والدّينيّة؛ إذ تميل الدّراسات الأنثروبولوجية - في نظره لمقاربة تلك المجموعة من النّشاطات الدّينيّة ذات الصّلة بالبنى والهياكل الاجتماعيّة والجمعيّة من قبيل الشعائر والمناسك السلوكيات العبادية الاحتفالات بالأولياء المواعظ والخطب وأمثالها أكثر من التعامل مع مضامينها، ما يجعل من النّادر

ص: 459


1- سورة آل عمران الآية .110
2- سورة البقرة، الآية 143

اهتمام تلك الدّراسات بدور القرآن أو وظيفته في أمثال تلك النشاطات الدّينيّة.

ومن ناحية فكرة الموضوع ، يرى الباحث أنّ القرآن انبرى منذ البداية لإعادة بلورة حياة النّبيّ وأتباعه وتشكيلها من جديد ما يفرض ضرورة الاهتمام بجوانب الحياة اليوميّة التي نظّمت حسب تعاليم ،القرآن ومن جهةٍ أخرى زاد دور القرآن في الحياة اليوميّة بالتَّدرّج في أعقاب وفاة النّبيّ واتّسعت مكانته مع انتشار الإسلام في المناطق التي كانت تتمتّع بتقاليد تاريخيّة ودينيّة وثقافيّة مختلفة فتطوّرت وظيفته ومهامُّه، وأصبحت أكبر بكثير مما كانت عليه في عهد المجتمع الإسلامي الأوّل، الأمر الذي يستدعي في نظر الباحث فهم دور القرآن في بلورة حياة المسلمين الأوائل كأرضيّةٍ لازمةٍ لاستيعاب وظيفته المشابهة في العهود المتأخّرة.

ومن ناحية السّياق، تتبّع الباحث كيف نفذ القرآن وأعاد تشكيل الحياة اليوميّة للمسلمين خصوصًا من خلال نظام العبادات، ابتداءً من الصلاة باعتبارها فريضةً يوميّةً تُؤدَّى خمس مرات في اليوم، ويحضر فيها القرآن تلاوة، لذا فهي من أكثر الفرائض التي جعلت القرآن حاضرًا في حياة المسلمين اليوميّة، وهكذا من خلال فريضة الصيام في شهر رمضان الذي يعتني فيه المسلمون بتلاوة القرآن، يضاف إلى ذلك فريضة الحج ومعها العمرة حيث يحضر فيهما القرآن تلاوة وتعلُّقًا.

وتتمّةً لهذا السياق، يضيف الباحث أنّ مكانة القرآن قد تعزّزت في الحياة اليوميّة للمسلمين وذلك بعد أن أصبح القرآن إلى جانب السّنّة النّبويّة مصدرًا لكافّة المعارف الدّينيّة والدّنيويّة للفرد والمجتمع، وهذا ما أكّده الفقهاء أمثال الشافعي وغيره، وأذعن له أيضًا المتكلمون وفلاسفة المسلمين في سعيهم العقلاني للعثور على مرتكزات المعرفة الحقَّة.

ومع تعدّد صور حضور القرآن في الحياة اليوميّة للمسلمين يبقى في نظر الباحث أنّ أبرز حضور له يتمثّل في ،تلاوته متتبّعًا بعضًا من المشاهد المتكرّرة التي تتّخذ من تلاوة القرآن طقسًا وتقليدًا مثل مناسبات إحياء مراسيم الموتى ومناسبات عقود الزواج، إلى جانب مناسبات أخرى، تطرّق لها الباحث عاكسًا فيها خبرته الذّاتيّة ومشاهداته اليوميّة.

ص: 460

وختم الباحث مقالته ملخّصًا مطالعته قائلًا: إنّ القرآن استطاع النّفوذ لكافّة أبعاد الحياة اليوميّة من خلال تنظيم وإعادة بلورة حياة مجتمع المسلمين الأوائل اليوميّة ماديًّا ومعنويًا، وأدَّى انتشار الإسلام خلال فترةٍ قصيرةٍ من الزمن لتقديم القرآن إلى بيئاتٍ مختلفةٍ ثقافيًا واجتماعيًّا ليصار إلى تَبوُّؤ ذلك الكتاب السّماوي مكانةً مميّزةً في تلك البيئات وكما نفذ القرآن بالتّدريج في نسيج اللّغة العربيّة وأمثالها، استطاع أن يترك تأثيره في كافّة اللّغات الأخرى التي ينطق بها المسلمون من غير العرب، وكان التأثير الأوسع للقرآن في كافّة أبعاد الحياة اليوميّة للمسلمين على مستوى اللّغة التي تشكّل حجر أساس الفكر والمجتمع، سواء كانت واسطة اللغة ذات جانبٍ ماديُّ أو سمعيٍّ - بصريٍّ، وسواء على شكل قراءة القرآن أو إسقاط تجلّياتها على الحرف اليدويّة.

هذا من ناحية التّوصيف، أما من ناحية التّقويم فيمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

أوّلًا: من ناحية الخطاب، اتّسمت هذه المقالة كذلك بالاعتدال والطرح الهادئ انسجامًا على ما يبدو بنهج الموسوعة والتزامًا بضوابطها ومعاييرها. وتتأكَّد هذه الملاحظة عند معرفة أنّ الباحث كانت له سيرة في إثارة الجدل حول النّصّ القرآني وطالما لقيت آراؤوه معارضةً شديدةً في الأوساط الدّينيّة، انتهت به لأن يكون لاجئًا خارج بلده.

ثانيًا: من ناحية المعرفة لم تقدّم المقالة كذلك جديدًا على مستوى المعرفة، قد يكون فيها ما يثير انتباه الغربيين خصوصًا من جهة المقارنة الفارقة بين مكانة الكتاب المقدّس في حياتهم اليوميّة الذي شهد تقلُّصًا وتراجعًا إن لم يكن غيابًا، وبين مكانة القرآن الكريم عند المسلمين في حياتهم اليوميّة الذي شهد حضورا واتّساعًا. فإذا كان في المقالة ما يثير انتباه الغربيين ودهشتهم فليس فيها ما يثير انتباه المسلمين ودهشتهم؛ لأنّها من المعرفة المألوفة لهم والمشاهدة في حياتهم العامة.

ثالثًا: من ناحية المصادر، استند الباحث كلّيًّا إلى مصادر المدرسة الإسلاميّة السنيّة في الحديث والتفسير والفقه وأغفل كلّيًّا العودة إلى مصادر المدرسة الإسلاميّة

ص: 461

الشيعيّة التي لها مدوَّناتها واجتهاداتها المؤتلفة والمختلفة مع غيرها من المدارس الإسلاميّة الأخرى. وهذا ما يعرفه الباحث قبل غيره، ويدرك ما لهذه الملاحظة من تأثيرٍ واعتبارٍ في الدّراسات العلمية والأكاديميّة.

كان بإمكان الباحث أن يتجاوز هذه الملاحظة ويتخطّاها، لو أنّه أشار منبّها سلفًا بتقيُّده بإطار المدرسة الإسلاميّة السّنية لضرورات وحيّثيّات منهجيّة أو لاعتباراتٍ أخرى، ومعترفًا في الوقت نفسه للمدرسة الإسلاميّة الشيعيّة باجتهاداتها المقدِّرة لكنّه لم ينبِّه بهذه الملاحظة، ولا أدري إن كان متنبّهًا لها أم لا، وهل سقطت سهوا أم تغافلا الأمر الذي اقتضى تسجيل هذه الملاحظة والتنويه بها.

وتبرز هذه الملاحظة وتتأكّد عند الإشارة إلى بعض المسائل المتفرّقة التي تعدّدت فيها وتباينت وجهات النّظر بين المدرستين الإسلاميتين وبعيدًا عن الاستغراق في هذا الخلاف سنكتفي بالإشارة إلى مسألتين هما:

1- أشار الباحث إلى صلاة التراويح، ناقلًا رأي المسلمين السنة في استحباب إقامتها جماعة كلّ ليلةٍ في شهر رمضان في حين أنّ هذه الصلاة بهذه التّسمية وبتلك الهيئة والكيفيّة في الأداء لم تثبت عند المسلمين الشيعة، ولم يثبت لديهم أنّ الصلوات المستحبّة تقام جماعة.

2- أشار الباحث إلى ليلة القدر، ناقلًا كذلك رأي المسلمين السنة قائلًا: إنّ عامّة المسلمين يعتقدون بأنّ ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، متغافلًا عن رأي المسلمين الشيعة الذين يتّفقون مع باقي مدارس المسلمين في تعيُّنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، لكنهم استنادًا إلى مروياتهم عن أئمة أهل البيت علیهم السلام يلتمسونها مرجَّحة ليلة الثالث والعشرين، مع الالتفات كذلك إلى ليلتين هما ليلة التاسع عشر والحادي والعشرين.

ج. المقالة الثالثة: الفن والهندسة في القرآن

ناقشت مقالة الباحث الأمريكي من أصل فرنسي الدكتور أوليغغرابار ثلاثة محاور أساسية هي:

ص: 462

أوّلًا: الإشارات أو التّلميحات القرآنيّة إلى الفنّ والهندسة، في هذا المحور يرى الباحث أنّ دراسة الفنّ والهندسة في القرآن لا يؤدّي إلى نتيجةٍ كلّيّةٍ، بل إلى سلسلةٍ من الملاحظات المنفصلة قسّمها إلى مجموعتين: الأولى الإشارات المباشرة إلى الأشياء المصنوعة أو الأبنية والثانية، الدّلالات غير المباشرة المرتبطة بصناعة الأشياء

وهندسة المساحات.

وتوقّف الباحث بشأن المجموعة الأولى عند قصّة النّبيّ سليمان وقصة ملكة سبأ كما قصّهما القرآن وكيف أنّهما تحملان العديد من الدّلالات المتعلّقة بالفنون.

بشأن المجموعة الثانية : توقّف الباحث ملتفتًا إلى بعض المفردات القرآنيّة التي تتّصل بالفنون أو تنطبق عليها منها الكلمات الدالّة على التّجمّعات العمرانيّة مثل :كلمات:(قرية مدينة مساكن البلد ،الأمين ،بيت ،دار، قصر، مثوى مصانع ،مسجد ،محراب) من بين هذه الكلمات اعتبر الباحث أنّ المسجد والمحراب أصبحا مصطلحين يدلّان على أمرين بالغي الأهميّة في الهندسة الإسلاميّة.

ويرى الباحث كذلك أنّ في القرآن توجد فئةً من الإشارات إلى الأشياء القابلة للرؤية، لكنّها لم تُشاهد مع الاعتقاد بوجودها، قاصدًا بذلك البيانات المتعدّدة عن الجنّة وما فيها من إشاراتٍ تقع في خانة الهندسة والتصميم، وكيف أنّها أثّرت - في نظر الباحث - في تصميم الحدائق خصوصًا في الهند المغوليّة كما في ضريح السلطان أكبر في سيكاندارا وتاج محل في أغرا.

ثانيًا استخدم القرآن مصدرًا للاقتباسات في عمليّة صناعة الأعمال الفنّيّة وزخرفتها في هذا المحور يرى الباحث أنّ على خلاف الوصيّة الثانية في العهد القديم، ليس هناك في القرآن أيَّة معارضة تجاه الفنّ أو التصوير، كما أنّه ليس هناك دعوة إلى صناعة الأعمال الفنّيّة أو تأسيس ثقافة ماديّة ذات طابعٍ إسلاميٍّ، هذا على المستوى النّظري.

أما على المستوى التّطبيقي فيرى الباحث أنّ الثّقافة الإسلاميّة حينما امتدَّت على أراضٍ شاسعةٍ اضطرّت للتعامل مع التّقاليد الفنّيّة الغنيّة والمتنوّعة للثقافات الأجنبيّة التي قابلتها، ومن ثم لجأت إلى القرآن بقصد الحصول على أجوبةٍ مطورةٍ مباشرةٍ عن شرعيّة

ص: 463

الأنشطة الفنّيّة أو على الأقل إشارات يمكن أن تقود إلى هذه الأجوبة. وليس هناك شك في نظر الباحث من تواصل التّنقيب في القرآن للعثور على أجوبةٍ عن الحاجات الجماليّة والاجتماعيّة للمجتمعات والثّقافات الإسلاميّة أثناء تطوّرها مع الوقت.

ثالثًا: تعزيز القرآن عبر الفنّ في هذا المحور يرى الباحث أنّ القرآن تعزّز في مجتمعات المسلمين منذ الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة عبر الفنّ، وذلك من خلال التنوُّع في أنواع كتابة الصّحف، وفي إضافة معالم صغيرةٍ مزخرفةٍ في منتصف النّصّ أو في الحواشي، وغالبًا ما تكون مجرّدةً أو على هيئة الأزهار، كما وضعت عناوين كبيرة بين السّور واكتسب بعضها تصاميم تزيينيّة، وهكذا من خلال

التنوُّع في أحجام المصحف الصغيرة والكبيرة، وفي أنواع التّجليد الفنّي والفاخر.

هذا من ناحية التّوصيف أمّا من ناحية التّقويم، جاءت المقالة متماسكةً ومحكمةً من جهة المنهج متمكّنةً ومتضلّعةً من جهة المعرفة، عكس فيها الباحث خبرته ودرايته الواسعة والنّاضجة بهذا الحقل، فهو يعدّ من كبار الخبراء والمتخصّصين في مجال الفنّ والعمارة الإسلاميين، وله سيرةٌ طويلةٌ وحافلةٌ في هذا الشأن تدريسًا وتأليفًا وتنقيبًا، جامعًا بين المعرفة النّظريّة والخبرة التطبيقيّة.

على مستوى التّدريس عرف غرابار بسيرته الأكاديميّة في أعرق الجامعات الأمريكية، فقد كان أستاذ العمارة والفن الإسلاميين في جامعة هارفارد طيلة عشر سنوات تقريبًا امتدت خلال الفترة ما بين (1980 - 1990م).

وعلى مستوى التّأليف نشر غرابار مجموعةً من المؤلّفات المتخصّصة عدّت من المراجع المهمّة في حقل الفن والعمارة الإسلاميين يبرز منها: (التفكير في الفن الإسلامي.. جماليّة الزخرفة)، (تكوين الفن الإسلامي)، (الزخرفة.. الأشكال والوظائف في الفن الإسلامي)، (بناء ودراسة الفن الإسلامي) تكون هذا الكتاب من أربعة أجزاء جمعت ثلاثة وثمانين مقالة، إلى جانب تأليفات أخرى.

على مستوى التنقيب فقد كان غرابار كما وصف رجلًا ميدانيًّا أدار وشارك في العديد من البعثات الأثريّة التنقيبيّة شملت مناطق متفرّقة من البلدان العربيّة والإسلاميّة.

ص: 464

الخاتمة

الحضارة والعمران ملاحظات وإضاءات

في الخاتمة نشير لبعض الملاحظات والإضاءات تتمّةً وتجليةً للحديث عن مسألة الحضارة والعمران في القرآن الكريم، فهذه المسألة بحاجةٍ فعليةٍ لاستظهار واستجلاء، والعناية بها بحثًا ودراسة من هذه الملاحظات والإضاءات:

أوّلًا: احتوت الموسوعة القرآنيّة على (694) عنوانًا ومدخلًا شملت العديد من القضايا والمسائل العامة والخاصّة واتصلت بمختلف الجوانب والأبعاد وتفاوتت من حيث الأهميّة والقيمة في حقل الدّراسات القرآنيّة كما تفاوتت من جهة القرب والبعد ومع هذه السّعة التّفصيليّة فى العناوين والمداخل كان من اللافت غياب عنواني الحضارة والعمران فلم يكونا مشمولين في قائمة عناوين الموسوعة على وفرتها وكثرتها، ولا نعلم على وجه التّحديد هل حدث هذا الأمر عن قصدٍ أم عن غير قصد ! وعلى كلا الحالتين فقد مثَّل هذا الأمر نقصًا في الموسوعة، وترك فراغا وسجّل عليها ملاحظة.

ثانيًا: إنّ القرآن الكريم هو الذي كشف للفكر الإنساني نظريّة السنن والقوانين التّاريخيّة والاجتماعيّة الكليّة والثابتة والمطّردة، التي تحكم حركة التّاريخ بكّليته في كلّ أزمنته وعصوره وتوجّه سير المجتمعات والحضارات تقدّمًا وتراجعًا، صعوداً وهبوطاً.

وحين توقّف الشيخ محمد عبده (1266 - 1323ه- / 1849-1905م)، أمام أوّل آيةٍ جاءت على ذكر السّنن الإلهيّة، في قوله تعالى:«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»(1)، اعتبر الشيخ محمد عبده أنّ هذه الإشارة من القرآن الكريم لفكرة السنن هي «إرشاد إلهي» لم يعهد في كتاب سماويّ، ولعلّه أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إِلَّا في القرآن الذي ختم الله به الأديان»(2).

وعلى ضوء هذا البيان الإلهي دعا الشيخ محمد عبده تحويل هذه السنن إلى

ص: 465


1- سورة آل عمران الآية 137
2- رضا محمد رشید تفسير المنار ،طا ،بيروت، دار الكتب العلمية 1999م، ج4، ص 115.

علمٍ يمكن تسميته حسب قوله علم السنن الإلهيّة، أو علم الاجتماع، أو علم السياسة الدّينيّة، أو أيَّة تسمية أخرى لا ضير عنده في ذلك، معتبرًا« أن إرشاد الله إيَّانا إلى أنّ له في خلقه سُنَنًا، يوجب علينا أن نجعل هذه السُّنَن علمًا من العلوم، لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه... والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها»(1).

وبهذا الكشف يكون القرآن الكريم قد قدَّم أعظم فتح علمي وحضاري وعمراني للمجتمعات، وبهذه السُّنن تستطيع الأمم المجتمعات أن تتقدّم أو تتأخّر، ويكون بإمكانها أن تدرك وتفسّر تقدُّمها أو تأخُّرها، ولولا هذه السُّنن لما استطاعت الأمم والمجتمعات أن تنجز خطوة واحدة نحو الحضارة والعمران، وليس بإمكان الأمم والمجتمعات أن تخرج على هذه السُّنن وتتحرّك بدونها، كما ليس بإمكانها مقاومتها أو التخلّي عنها، وتبديلها أو تحويلها، وهذا ما نصَّ عليه القرآن في قوله تعالى:«فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا»(2).

ثالثًا: جاء القرآن الكريم لتأكيد الطبيعة المدنية والحضرية للاجتماع الإسلامي معلنًا ذمَّه الشديد ورفضه الصارم لظاهرة الأعراب مصوّرًا لهم أنهم أشد كفرًا ونفاقًا كفرًا على الصعيد العقيدي، ونفاقًا على الصعيد الاجتماعي، كما في قوله تعالى:«الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَابِرَ عَلَيْهِمْ دَابِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(3).

وقد أتاحت هذه الآيات مجالًا للمفسّرين والعلماء لتكوين تحليلات مقارنة من جهات متعدّدة بين نمط أهل البدو ونمط أهل الحضر، ومن هذه التحليلات المبكرة ما ذكره الفخر الرازي (544-604ه-) في تفسيره الكبير، شارحًا لماذا الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا معلّلًا ذلك قائلًا:«إنهم أشد كفرًا ونفاقًا، والسبب فيه وجوه: الأول: أن أهل البدو يشبهون الوحوش والثاني: استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك

ص: 466


1- رضا محمد ،رشید تفسیر المنار، م.س، ج4، ص114.
2- سورة فاطر، الآية 43.
3- سورة التوبة الآية 97-98

يوجب مزيد التيه والتكبّر والنخوة والفخر والطيش عليهم والثالث : أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدّب، ولا ضبط ضابط فنشؤوا كما شاؤوا، ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فسادًا. والرابع: أن من أصبح وأمسى مشاهدًا لوعظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبياناته الشافية وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساويًا لمن لم يؤاثر هذا الخير، ولم يسمع خبره والخامس: قابل الفواكه الجبليّة بالفواكه البستانيّة لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية»(1).

رابعًا: إن حديث القرآن الكريم الواسع والمتعدّد عن الأقوام السابقة على اختلاف أزمنتها ،وعصورها وتنوّع قضاياها ومشكلاتها، هو حديث في صلب مسألة الحضارة والعمران؛ لأنّه يتّصل بالكشف عن سنن قيام الحضارات وسقوطها.

وحين توقّف الدكتور محمد إقبال (1294-1357ه-/ 1877-1938م) متأمّلًا أمام قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلُ)(2)ذكر قائلاً: «وهذه الآية مَثَل من أمثلة الأحكام التّاريخيّة العامّة يتجلّى فيه التعيين والتّحديد، وهي في صيغتها البالغة الإيجاز توحي بإمكان دراسة حياة الجماعات البشريّة دراسة علمية باعتبارها كائناتٍ عضويّةً، وعلى هذا فمن يزعم أنّ القرآن يخلو من بذور المذهب التّاريخي يكون على ضلال مبين»(3).

وقد اعتبر إقبال أنّ مقدّمة ابن خلدون تدين بالجانب الأكبر من روحها إلى ما استوحاه المؤلّف من القرآن وهي المقدّمة التي تعدّ من من أسبق المحاولات في بناء المعرفة المنظّمة لعلم الاجتماع أو علم العمران البشري كما أسماه ابن خلدون.

هذه بعض الإضاءات المهمة التي تُتمم الحديث عن مسألة الحضارة والعمران في القرآن الكريم.

ص: 467


1- الفخر الرازي: التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، بيروت، دار الكتب العلمية، 2004م، ج 16، ص 132.
2- سورة الأعراف الآية 34.
3- إقبال، محمد: تجديد التفكير الديني في الإسلام لا ط، دمشق، دار وحي القلم، 2015م، ص 176

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم

2. الفخر الرازي، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، بيروت، دار الكتب العلمية، 2004م.

3. إقبال ،محمد تجديد التفكير الديني في ،الإسلام لا ط دمشق دار وحي القلم 2015م.

4. الصغير، محمد حسين المستشرقون والدراسات القرآنية، ط1، بيروت، دار المؤرخ العربي د. ت).

5. بدوي، عبدالرحمن موسوعة المستشرقين ،ط،ع، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003م.

6. بارت ،رودي الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة: مصطفى ،ماهر، ط 1 ، القاهرة المركز القومي للترجمة 2011م.

7. جولد تسيهر ،جناتس، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبد الحليم النجار، لا ط القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013م.

8. جحا ،میشال الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، ط1، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1982م.

9. فوك يوهان تاريخ حركة الاستشراق الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين تعريب عمر لطفي العالم دمشق دار ،قتيبة 1996م.

10. مشروع القرآن الأوروبي، نشرة القرآن والاستشراق المعاصر بيروت المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد الأول السنة الأولى، شتاء 2019م.

11. رضا، محمد رشید، تفسیر المنار، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1999م.

ص: 468

الدّراسات الفقهيّة في موسوعة القرآن - ليدن - مقاربات نقدية التشريعات العباديّة في موسوعة القرآن - ليدن

اشارة

د. سعد الغنامي(1)

الخلاصة

إنَّ البحث في تعاليم الإسلام ومعارفه أخذ دائرةً كبيرةً، ومساحةً واسعةً، في اهتمامات الكتّاب والباحثين والمحقّقين من غير المسلمين كالمستشرقين والغربيين، وقد برزت من خلال مقالات وأبحاث وكتب ودراسات إلى موسوعاتٍ كبيرةٍ، وجديدها ما نراه في موسوعة القرآن الكريم - ليدن؛ حيث تناولت مجموعة من المقالات والعناوين والمداخل التي تطرّقت للتشريعات العباديّة في القرآن الكريم وقد دوّنت هذه المداخل وفق فرضيّاتٍ ومبانٍ وأسسٍ حملها أصحابها عن سلفهم من بشريّة القرآن الكريم وعدم وحيانيّته والتي تعدُّ منشأ طبيعيًّا للوصول إلى نتائج بعيدةٍ عن الرّؤية والنّظرة الإسلاميّة الصّحيحة.

إِنَّ فرض بشريّة القرآن ونظريّة تطوّر الأديان في المجتمعات، إذا اجتمعتا أعطتنا نتيجةً واحدةً هي التّشكيك في تعاليم القرآن والإسلام.

وعند عرض هذه العناوين والمداخل سيظهر لنا على الرّغم من وجود نقاط قوَّةٍ في بعضها إلّا أنَّ الكثير منها جانب الصواب ويمكن وضع علامة استفهامٍ كبيرةٍ عليه وقد تناولنا في هذه المقالة تحليل بعض المقالات التي تناولت التّشريعات العباديّة، وهي كالتالي:

1. البلوغ، وهي للكاتب تشرلزج. آدامز Charles . Adams

ص: 469


1- وباحث وأستاذ في علوم القرآن والحديث العراق.

2. المباح والمحرّم وهي للكاتب جوزيف إ لوري Joseph E. Lowry

3. الأمر والنهي، وهي للكاتب مايكل كوك Michael Cook

4. رمضان وهي للكاتبة : أنجليكا نويفيرت Angelika Neuwirth

وقد عرضنا نقاط القوّة والضّعف فيها مع بيان محلّ الإشكال فيها والرّدّ عليها.

المقدّمة

واجه الدّين الإسلاميّ أعداء كثرَ مذ بزوغ الوحي إلى يومنا هذا، وقد حاولوا ويحاولون إطفاء نور اللّه بأفواههم، ويأبى اللّه إلّا أن يتمَّ وعده، وينصر دينه، فسّخر له رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه على مرّ العصور والأزمان.

اتَّخذ أسلوب العداء وتزييف الحقائق - قديماً - مناحي عدَّة، من خلال التّشكيك في معارف الإسلام والقرآن الكريم، والتلبيس على النّاس فحرَّفوا الكلم عن مواضعه ثم حكموا عليه بالتّناقض وفساد النّظم ،والاختلاف إلى أن وصلت الهجمة إلى عصرنا الحاضر والهجمة المعاصرة على القرآن الكريم أشدُّ ضراوةً من كلِّ ما سبق، وذلك من خلال الفضائيات ومواقع الإنترنت فجاءوا بتهم زائفةٍ وسوَّقوها في مقالاتٍ ودراساتٍ وكتب وموسوعات، ومن خلال الإعلام المرئيّ والمسموع.

إنَّ دائرة معارف المعارف - ليدن - هي أحدث الأعمال الموسوعيّة التي تناولت بیان معارف القرآن الكريم وعرضها وفق نظرةٍ غربيّةٍ، ومن بين تلك العناوين والمداخل التي أدرجت في هذه الموسوعة موضوع التّشريعات والعبادات في القرآن الكريم، فوجهوا سهام الطّعن والتّجريح والتّشكيك والتّزييف، وزعموا أنّها أخذت أو اقتبست عن اليهود والنّصارى وعن الوثنيّة في عصر الجاهليّة.

وفي هذا استخفافٌ وخيانةٌ للعلم والمعرفة؛ لأنَّ مقتضى النظر العلميّ ألّا يدخل الإنسان على الموضوع بفكرةٍ سابقةٍ وإلا فسد مخرجه بفساد مدخله وفسدت نتائجه بفساد مقدّماته، وهو آفة العلم الكبرى التي لا علاج لها.

ص: 470

لا نريد أن نكون في بعدٍ عن الإنصاف، بل لا يمكن فرض ذلك على نحو الموجبة الكلّيّة، وإنّما هناك المنصف ،وغيره وهذا البحث ناظرٌ إلى الذين لهم مداخل وعناوين في هذه الموسوعة - موسوعة دائرة المعارف -ليدن وقد جانبوا الإنصاف والصواب والحقيقة.

إنَّ الفكر الغربي والاستشراقي يكاد يُجمع على تأثّر التشريعات الإسلاميّة والعبادات الدّينيّة بالقانون الرّوماني أو التلمود اليهوديّ أو غيرهما، وإن كان هناك اختلافٌ فى مقدار هذا التّأثّر، فالبعض يذهب إلى أنّ المسلمين نقلوا القواعد العامّة ومنهج التّدوين وبعض المصطلحات من القانون الرّومي أو التلمود، والبعض الآخر من المستشرقين يذهب إلى أنَّ الفقهاء المسلمين تأثّروا بهذا التلمود وذلك القانون في طرف مما كتبوا(1).

فما ينكر أحد أنَّ الفكر الإسلامي سالمٌ من التّأثّر على نحوٍ ما بما يشيع في البيئة من مفاهيم ونظمٍ، وأنَّ هذا اللون من التّأثّر مظهرٌ من مظاهر الفطرة في انفعالها بما يحيط بها، ومن ثم يثري الذّاتيّة أو الأصالة ولا يقضي عليها، ولكن التّأثّر الذي يراه الاستشراق في حديثه عن الإسلام والقرآن وفي حديثه عن التّشريعات العباديّة والفقه الإسلاميّ، هو التّأثّر الذي يعني التّبعيّة.

إِنَّ التّشابه في بعض القواعد والأفكار والألفاظ لا يدلّ بحال على أنّ اللاحق قد نقل عن السّابق؛ لأنَّ مثل هذا التّشابه في بعض هذه الأمور أمرٌ طبيعيٌّ بين الأمم جميعًا، لا فرق بين المسلمين ،وغيرهم، وبذلك لا نستطيع لمجرّد هذا التّشابه الحكم بأنّ هذه الأمّة أخذت عن تلك، بل قد يكون مرجعه إلى ما هو معروفٌ من أنّ العقل الإنسانيّ السّليم يتشابه في كثيرٍ من ألوان التفكير ونتائجه دون الحاجة إلى تفسير هذه الظاهرة، مضافًا إلى أنّ مصدر جميع الأديان السّماويّة ومرجعها واحدٌ، وهو الله رب العالمين.

ص: 471


1- انظر: الدسوقي محمد الاستشراق والفقه الإسلامي مجلة حولية تصدر عن كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة قطر، العدد [5] 1407 ه- - 1987 م، ص 707 .

ومن جوانب خطورة هذه الموسوعة - موسوعة ليدن القرآنيّة - التّصوير المشوّه والتّحريف المتعمد من قبل البعض لحقيقة العبادات الإسلاميّة فيها، وإدراك أهميّة الكشف عن المنطلقات والخلفيّات التي ساقت العديد من الغربيين والمستشرقين إلى هذا الموقف المعادي للإسلام؛ إذ برز من خلال بعض هذه العناوين والمداخل خلفيّاتهم الدّينيّة والفكريّة المختلفة، والتي ينطلقون منها في الطّعن في الإسلام فنجدهم كثيرًا ما يُردّدون مزاعمهم بأنّ العبادات في الإسلام من أصولٍ مختلفةٍ جاهليّةً ويهوديّةً ونصرانيّةً وأنّها قد مرّت بمراحل تطوّرت فيها عبر الأزمان متأثّرين في ذلك بنظرتهم إلى دياناتهم المحرّفة، والتي ساهمت أجيالٌ عديدةٌ في تطويرها وتكوينها، وخضعت لتأثيراتٍ مختلفةٍ عبر العصور(1).

وسنعرض في هذا البحث إلى بعض العناوين والمداخل التي تناولت تشريع العبادات في موسوعة دائرة المعارف القرآنيّة - ليدن، وهي كالتالي:

1.«البلوغ»، وهي للكاتب تشرلز ج. آدامز Charles . Adams j.

2.«المباح والمحرّم»، وهي للكاتب جوزيف إ لوري Joseph E. Lowry .

3.«الأمر والنهي»، وهي للكاتب : مايكل كوك Michael Cook

.4 «رمضان»، وهي للكاتبة : أنجليكا نويفيرت Angelika Neuwirth

وقد عرضنا نقاط القوّة والضّعف فيها مع بيان محلّ الإشكال فيها والرّدّ عليه.

الدراسات السابقة

اشارة

تناول العلماء والباحثون المسلمون موضوع التّشريعات العباديّة وأهمّيتها في مؤلّفاتٍ مستقلّةٍ، ونجد وفرةً يضيق المقام عن حصرها، ولكن لم نجد تأليفاتٍ مستقلّةً في الرّدّ على كتّاب الموسوعة القرآنيّة - ليدن، فيما تناولوه من الطّعن في التّشريعات العباديّة إلّا على نحو مقالات وما قد يدرج في ضمن بعض المقالات

ص: 472


1- انظر: الندوي أبو الحسن علي الحسني الأركان الأربعة (الصلاة) الزكاة، الصوم (الحج) في ضوء الكتاب والسنة مقارنة مع الديانات الأخرى، ط ،الكويت، دار القلم، 1974م ص 63.

والكتب التي تناولت الرّدّ على المستشرقين والغربيين على نحو العموم.

أوّلًا: نظرة في موسوعة القرآن - ليدن

صدر عن المستشرقين الكثير من الكتب والمقالات فيما يتعلّق بقراءة التعاليم العباديّة والتّشريعات في الإسلام والقرآن الكريم، على نحو مقالات في مجلّات أو مقالات تمّ إدراجها في الموسوعات مثل الموسوعة البريطانيّة، وتبدأ هذه المقالات من خلال عرض التّشريعات العباديّة وتوصيفها إلى التّشكيك فيها ونقدها وإسقاطها.

حتى طالعتنا موسوعة ليدن القرآنيّة بمقالاتٍ وعناوين ومداخل حول التّشريعات العباديّة جانبت فيها الصّواب مع اتّهامات ودعاوي لم تسند بشاهدٍ أو دليلٍ.

ونريد هنا بيان نقاط القوّة ونقاط الضّعف في هذه الموسوعة وفق نظرةٍ شاملةٍ لا في خصوص محورٍ خاصٍّ، ومن أهم نقاط القوّة في هذه الموسوعة هي كالتالي:

1. مراعاة الإنصاف في بعض المقالات تجاه المسلمين وحتى الشيعة كما في بحث الانجيل وفاطمة عليها السلام.

2. الاستعانة ببعض الكتّاب المسلمين.

3. الدّفاع عن القرآن كما في بعض المقالات كما في مسألة تحريف القرآن.

4. تتبّع المصادر الإسلاميّة بنسبٍ مختلفةٍ حسب المقالات والعناوين المطروحة.

5. اللّجوء إلى المقارنة مثلا الإسلام والغرب أو القرآن والعهدين

وأمّا أهمّ نقاط الضّعف العامّة في هذه الموسوعة فهي كالتالي:

1. إنَّ دعوى التحقيق الدّقيق المذكورة في مقدّمة الموسوعة لا تنسجم مع المقالات والمداخل والعناوين التي ابتعد الكثير منها عن هذه الدعوى.

2. الضّعف العلميّ لبعض كتّاب موسوعة ليدن وعدم توظيف الأخصائيين في القرآن الكريم، والنظرة السّلبيّة لبعضهم وعدم الإنصاف.

ص: 473

3. إسقاط الرّؤية الغربيّة في التّحليل والكتابة للعهدين على القرآن الكريم ودعوى تأثّر القرآن الكريم بالعهدين.

4. وجود بعض العناوين والمداخل في هذه الموسوعة لا ارتباط لها بالقرآن مثل العراق والأدب الإفريقي والأباضيّة والبهائيّة والطيران ،وغيرها، وفي قبال ذلك لا نجد عناوین ومداخل حول لفظ الله عز وجل ولا التوحيد والحال هي لبَّ القرآن الكريم. وكذلك الاقتصار على بعض المفاهيم دون غيرها مثل ذكر النخل وإغفال العنب والزيتون وكذلك التّعرّض للكلب والجمل وإغفال الحصان، وكذلك ذكر ملكة سبأ وإهمال ذكر الهدهد.

5. إثارة التّناقضات التي يتصوّرها الكتاب الغربيين في القرآن الكريم.

6. الاستفادات الخاطئة من القرآن الكريم، وشرح الألفاظ دون بيان المعارف.

7. النّظرة المادّيّة إلى القرآن وأنّه كتاب تاريخ والتّعامل مع ظاهره فقط.

8. التّناقضات الدّاخليّة في المقالة الواحدة وبينها وبين غيرها من المقالات.

9. الاعتماد على الاسرائليات ونقلها دون نقدها.

10. الاعتماد على الكتاب الغربيين والاقتباس من دائرة المعارف الإسلاميّة البريطانيّة.

11. تغليب الثّقافة الإسلاميّة السّنّيّة على الشيعيّة، وعدم الالتفات لآراء الشّيعة وكتبهم بما يتناسب مع حجم هذه الموسوعة.

12. الخلط بين الإسلام والقرآن وثقافة المسلمين، واتّهام القرآن والثّقافة الإسلاميّة بالتّأثّر بثقافة اليهود والنّصارى وغيرهم كاليونانيين والصينيين.

13. من مجموع (278) كاتبًا يشكّل عدد الكتاب المسلمين 20 بالمئة فقط، وهم يشكّلون إحدى طوائف المسلمين، وباقي الكتّاب فهم من الغربيين والمستشرقين المحمّلين ببشريّة القرآن وتاريخيّة النّصّ القرآني.

ص: 474

14. إِنَّ حجم المقالات غير متناسقٍ فبعضها صفحتين وبعض أكثر.

ثانيًا: التقييم العلمي للعناوين الأربعة

لا بدّ هنا من تقييم المحتوى العلمي لهذه المقالات الأربع، وتقديم إجابةٍ إجماليّةٍ وشاملةٍ، ثم ندخل في بيان الإجابة التّفصيليّة في كلّ مقالة على حدة.

والسّبب الدّاعي لتقديم إجابةٍ شاملةٍ هو وجود الإشكالات المتكرّرة في هذه المقالات والتي اعتمدها كتّابها، وإن انفرد أحدهم عن الآخر في بعضها الآخر، وهي كلّها ظنونٌ وأوهامٌ ساقوها بلباس الحقيقة، وهي بعيدةٌ كلّ البعد عن ذلك.

1. إِنَّ دعوى التّحقيق الدّقيق المذكورة في مقدّمة الموسوعة لا تنسجم مع المقالات والمداخل والعناوين التي ابتعد عنها في هذه العناوين الأربعة.

2. الضّعف العلمي لكتّاب هذه العناوين والنّظرة السّلبيّة لبعض الكتّاب وعدم الإنصاف.

3. إسقاط الرّؤية الغربيّة في التّحليل والكتابة للعهدين على القرآن الكريم ودعوى تأثّر القرآن الكريم بالعهدين.

4. إثارة التّناقضات التي يتصوّرها الكتّاب الغربيين في القرآن الكريم.

5. الاستفادات الخاطئة من القرآن الكريم، وشرح الألفاظ دون بيان المعارف.

6. الاعتماد على الاسرائليات ونقلها دون نقدها.

7. الاعتماد على الكتاب الغربيين والاقتباس من أبناء جلدتهم.

8. تغليب الثّقافة الإسلامية السّنيّة على الشّيعيّة وعدم الالتفات لآراء الشّيعة وكتبهم بما يتناسب مع حجم هذه الموسوعة.

وأمّا نقاط القوّة في هذه العناوين الأربع، فقد أشرنا إليها كما تقدّم، ويجمعها: تتبع المفردة القرآنيّة في سائر آيات الكتاب الكريم، ومن المعلوم أنّ التّتبّع اللّفظيّ

ص: 475

للمفردة القرآنيّة لا يعطي الصّورة الواضحة، ولا يجعل من من صاحبه ذا رأيٍ ورؤيةٍ وصاحب رأي في القرآن الكريم.

الإجابة الإجمالية

وأمّا الإجابة الإجمالية التي يمكن تقديمها في خصوص هذه العناوين الأربع فهي:

* إن الإشكال الأصليّ على هذه العناوين -بل وسائر العناوين في هذه الموسوعة- يصبّ على الفرضيّات التي قامت عليها والمبتنية على عدم الاعتقاد برسالة النبي صلی الله علیه و آله و سلم و عدم وحيانيّة القرآن الكريم ، والنّظر إلى القرآن الكريم كنتاجٍ بشريٍّ جاء في حقبةٍ من التّاريخ.

ولا شكّ أنَّ هذه المواقف التي حملها أصحاب هذه المقالات لا تُعطي أكثر من هذه النّتيجة المضلّلة والباطلة عن التّشريعات العباديّة في القرآن الكريم، وهذا المحمول معهم سواء كانوا على علم به أم لا لا يعدُّ مُبرّرًا للأخطاء التي وقعوا فيها ؛ وهو نتاج عداءٍ سافر للإسلام، ولا غرابة في ذلك، فقد حملت مقالاتهم العديد من الأخطاء والمطاعن والشّبهات التي تُظهر مدى حقدهم الدّفين للإسلام وأهله؛ وقد كانت كتاباتهم تُسَيّرها خلفيّاتهم وتَقودُها ،أحقادهم، وهذا ما ظهر جليًّا في عناوينهم.

إنَّ نفي الحقائق، واختراع المغالطة، وبَثَّ الشُبهات يقع فيها كلّ مغالطٍ، ولا يعجز عنها كلّ مكابر وإنّما ينأى عنها من أنار الله بصيرته بنور الإسلام، وكلّ منصف وصادق مع نفسه ومع الآخرين.

لقد حملَّهم الموقف السّابق مزالق وأخطاء واضحةً يتورّع عن الوقوع فيها من كان له أدنى علم ومعرفةٍ وإنصافٍ، فضلاً عمّن نصّب نفسه ليكتب في موسوعة تحمل اسم القرآن الكريم.

* إنَّ بعض هؤلاء الكتاب يفترضون ما يفترضون من دون أن يقدّموا دليلاً واحدًا على صحّة ما يرونه، إنّهم يريدون الانتصار لوجهة نظرهم دون أن يعنيه

ص: 476

موضوعيّة الدّليل أو سلامته من الوهم أو الخلط أو الاضطراب، ثم يدّعون دراسة القضايا وفق منهجٍ علميٍّ مدروسٍ يتّسم بالأمانة والبعد عن الأهواء.

إِنَّ جميع ما قدّمه هؤلاء الكتاب في مقالاتهم هي عبارة عن مدّعياتٍ ومجرّد ظنونٍ وأوهامٍ لم يحفها دليلٌ معتبرٌ أو شاهدٌ يؤيّد المدّعى، واعتمدوا على كتب سلفهم من الغربيين أو الإرجاع إلى كتب المسلمين وإغفال التّراث الشيعي.

* إنَّ من أهمّ الإشكالات التي يمكن أن تؤخذ على الكتَّاب وأصحاب المقالات والمداخل التي كتبت في هذه الموسوعة، وخاصّة المحور الخامس - التشريعات العباديّة- أنّهم حذفوا حديث النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وسنّته عن الاستدلال وفَصلوها عن القرآن الكريم، وفرضوا لا بدّيّة وجود التّفاصيل الدّقيقة في القرآن في خصوص كلّ موضوع، وهذا الفرض لا صحّة له؛ لأنّ الدين الإسلامي والتّشريعات العباديّة نأخذها من القرآن الكريم وحديث النبي وأوصيائه علیهم السلام.

إِنَّ كون القرآن الكريم هو القانون الأساس للإسلام يقتضي ألّا يتعرّض لكلّ مسألةٍ شرعيّةٍ وفقهيّةٍ وكلّ حكم دينيٍّ، بل يمكن القول إنّ مثل هذا الكتاب ذي الخصائص العالميّة الجامعة والخالدة، وكتاب الهداية لكلّ زمان ومكان عليه فقط أن يرسم يرسم السّياسة العامّة وأهداف الشّريعة، وأمّا بيان الأحكام كمًّا وكيفًا فهو ملقّى على عاتق النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، كما صرح به القرآن الكريم نفسه «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون »(سورة النحل، الآية 44)، وكذلك في قوله تعالى:«وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا» (سورة الحشر الآية). وقد أكمل النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم المهمّة التي أوكلت إليه، ونصب المرجع بعده من خلال حديث الثّقلين.

نعم قد نجد الكاتب كراد هاوتينك قد خالفهم في ذلك، فقال مصرّحًا في مقالته المعنونة ب_ (العبادة) من النادر أن نجد القرآن يتعرّض لتفاصيل الأعمال العباديّة.

* إنَّ الصّوم وما يتعلّق به وشعيرة الأمر بالمعروف والحلال والحرام، واصطلاح

ص: 477

السّحت، رسومٌ وعباداتٌ شُرّعت قبل الإسلام، كما يصرح القرآن بذلك، وعليه فلا مجال للادّعاء عندما نلبس هذه الشّعيرة والعبادة اسمًا ولفظًا عربيًا ليأتي قائلُ ليقول إنّها أخذت من اليهود أو اليونان أو الصين.

إنَّ التّشابه بين الإسلام والأديان الإلهيّة السّابقة في الألفاظ والكلمات ليس دليلاً على النّقل أو الاقتباس، بل هو من دلائل نبوّة محمد صلی الله علیه و آله و سلم لانتفاء تلقّيه معلومات من البشر ولعدم معرفته بالقراءة حتى ينقل عن الكتب السّابقة؛ وإنّ التّشابه دليلٌ على تصحيح الإسلام لمسار التّشريع الإلهيّ، الذي حَرَّفَهُ أهل الديانات السّابقة، وقد جاء الإسلام مُصَدِّقًا لِما قبله ومهيمنًا عليه.

وبنظرةٍ عقليةٍ ونقليّةٍ، نجد الكثير من الأحكام لها أسّ وأساس في الشرائع السّابقة على الإسلام، ولكن القرآن صبغه بصبغته وأمر النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بتبليغه للمسلمين، وهذا الشّيء لا ينكر، فالإسلام رمّم شروط وأجزاء الكثير من الأحكام وبينها بعنوان حكمٍ إسلاميٍّ، وشرّع تشريعاتٍ جديدةً مستقلةً.

* اعتمد الكثير من كتّاب هؤلاء الموسوعة على أبناء جلدتهم في النّقل والاقتباس والحال أنّ القيمة العلميّة لأيّ بحثٍ أو مقالةٍ مرتبطُ بعوامل عدّة، منها وهو أحد أهمّ العوامل النّقل والاقتباس من المصادر الأساسيّة والمعتبرة، كما أنّ الحديث عن معارف وأفكار التّابعين لأحد الأديان لا بدّ أنّ يكون وفق الكتب المعتبرة لديهم، لا أن يأتي أحدهم بمصادر أعدائهم وكتب الغرباء التي لا قيمة ولا اعتبار لها.

* ولكن للأسف نجد أن أصحاب بعض المقالات في موسوعة القرآن - ليدن يعتمدون على كتب المستشرقين والغربيين ممن يشاركونهم الرأي، ومن البديهي أنّ مثل هذه العناوين والمداخل والمقالات لا يمكن ضمّها إلى دائرة (بحث علمي) وإنّما هو نقل لموقف أبناء سلفهم من الإسلام والقرآن الكريم.

الإجابة التفصيلية

ص: 478

وسنعرض هنا فقرات المقالة التي جانب فيها الكاتب الحقيقة، ويمكن أن تُؤخذ عليه كإشكالٍ علميٍّ لا بدّ أن يلتفت إليه ويُصحّحه ونبدأ بالمقالات وفق التّسلسل المتّبع في هذا البحث:

1. مقالة البلوغ : وهي للكاتب تشرلز .ج. آدامز Charles j. Adams

1،1. نقاط قوّة المقالة: تتضمّن تتبّعًا للموارد بشكل جيّد، ويعدّ تقسيمها علميًّا.

2,1. نقاط ضعف المقالة: عدم الإلمام بالموضوع بشكل كامل، مع نقص في سرد المعلومات.

3,1. الإشكالات الواردة على المقالة

الإشكال الأوّل: عدم التّفريق والخلط بين بلوغ الذكر وبلوغ الأنثى

قال الكاتب:(ثمة خلافٌ بين المدارس الفقهيّة حول العمر الذي يتحقّق فيه البلوغ في حالة غياب العلامات الجسديّة المعتادة، ففي حين ترى الأغلبيّة أنّ بلوغ سنّ الخامسة عشر يعني تخطّي البلوغ. وإذا كانت علامات البلوغ ظاهرةً، فإنّ البعض يقدّم سنّ البلوغ إلى ما قد يصل إلى سنّ التسع سنوات، ولكن ليس قبل ذلك).

والجواب عن ذلك:

من الواضح للعيان الخلط في هذه العبارات؛ حيث لم يفرّق الكاتب بين البلوغ عند الذّكر والبلوغ عند الأنثى، وقد اجتمعت كلمة المسلمين على التّفريق بين الذكر والأنثى في البلوغ ،الشّرعي وأدنى مراجعة لتراث المسلمين يمكن التّثبّت من ذلك.

وقد ثبت عن أهل البيت علیهم السلام أنّ سنَّ البلوغ في الذكر خمس عشرة سنة قمريّة وفي الأنثى تسع سنين قمرية(1).

الإشكال الثاني: لا واجبات دينيّة على من بلغ سن السّابعة: قال الكاتب:

ص: 479


1- انظر: مغنية محمد جواد فقه الإمام جعفر الصادق طه، قم، مؤسسة الصادق للسلام، 1427ه- ، ج 5، ص 93 .

(والسابع هو السنّ الذي يجب أن يبدأ فيه الأولاد في أداء الواجبات الدّينيّة، مثل الصلاة (راجع ما يلي)، التي تجب على جميع المسلمين البالغين).

والجواب عن ذلك: اشتبه على الكاتب التّفريق بين الواجب والمستحبّ، أو لعلّه لم يدرك التّفريق بين المصطلحين وذهب عليه الحقّ، وهذا نتيجة طبيعيّة لعدم التّخصّص في الأمور الفقهيّة والتّشريعات العباديّة، وعدم الإطلاع الكافي، وبالتالي قلّة بضاعة الكاتب.

إِنَّ سنَّ السّابعة هو سنُّ التّمييز لدى الولد الذكر والأنثى بالغالب، ويستحبّ في هذا العمر الإتيان بالصلاة وغيرها من العبادات لا بمعنى وجوبها عليهما، وإنّما بمعنى أن يتدرّبا على الإتيان بها، وإذا أتيا بها يحصلا على الأجر والثواب الإلهي. قال الشيخ الطوسي في كتاب النهاية ونكتها:(ويؤمر الصبي بالصلاة إذا بلغ ست سنين تأديبًا، ويؤخذ به إذا بلغ تسع سنين سنةً وفضيلةً، وألزم إلزامًا إذا بلغ حد الكمال فرضًا ووجوبًا)(1).

الإشكال الثالث: التّسوية بين الذكر والأنثى بحكمٍ واحدٍ في حقّ الحضانة: قال الكاتب: (في حال وقوع نزاعٍ بين الوالدين حول الوصاية على الطفل الذي بلغ السبع سنوات، يُعتبر أنّ الطفل قد أصبح قادرًا بما فيه الكفاية للتمييز بين أيٍّ من الوالدين يريد أن يعيش).

والجواب عن ذلك: وهذا أيضًا من قلّة بضاعة الكاتب وعدم الإلمام بالموضوع فإنّ الحضانة في الذكر تختلف عن الحضانة في البنت فإنّه طبقًا لفتاوى أكثر الفقهاء إذا افترق الأب والأم تكون الحضانة للأم في البنت حتى السنة السابعة وفي الذكر حتى السنة الثانية(2).

ص: 480


1- انظر: الطوسي، محمد بن الحسن : النهاية ونكتها ،ط 1، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة 1412ه- ، ج1، ص299.
2- انظر: الحلي جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر: تحرير الأحكام تحقيق إبراهيم البهادري، ط1، قم، مؤسسة الإمام الصادق ع السلام، 1421ه-، ج 4، ص 12.

2. مقالة المباح والمحرّم وهي للكاتب جوزيف إ لوري Joseph E. Lowry

1,2. قوّة المقالة

تتّبع مفردة الحلال والحرام في القرآن الكريم.

2٫2. نقاط ضعف المقالة

أوّلاً: بساطة معلومات الكاتب وعدم الاطلاع الكامل.

ثانيًا: الاعتماد على المصادر الغربيّة وكتب المستشرقين.

ثالثا: عدم الاطّلاع على التّراث العلمي للمسلمين.

رابعًا: الإسقاطات المسبقة على القرآن الكريم.

خامسًا: الجهل بالمشرّع الأصلي للأحكام الفقهيّة.

3,2. الإشكالات الواردة على المقالة

الإشكال الأوّل: القرآن لا يتناول جميع المحرّمات

قال الكاتب:(تقتصر التّعابير القرآنيّة عن الحلّية أو الحرمة على عددٍ قليلٍ نسبيًّا من المسائل الشّرعيّة، كما يتضّح لنا لاحقًا بحسب الفقهاء المسلمين : فهي في الغالب محصورةٌ بالشّعائر، وقانون الأسرة والمأكل والمشرب).

وقال أيضًا:(كما أشرنا سابقًا، تقتصر الإشارة إلى الحلال والحرام في القرآن بشكلٍ كبيرٍ على الشّعائر وأحكام المأكل والمشرب وأحكام العائلة).

والجواب عن ذلك:

لما صار هؤلاء الكتّاب ومن سبقهم من سلفهم بصدد إنكار وحيانيّة القرآن، وأنّ كلام النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وحيٌ يوحى فلا يمكن الخروج بنتيجةٍ أفضل من ذلك، وهو الفصل بين القرآن الكريم وكلام النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ولهذا حذفوا حديث النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسنّته عن

ص: 481

الاستدلال وفصلوها عن القرآن الكريم، وفرضوا لا بديّة وجود التفاصيل الدّقيقة في القرآن في خصوص كلّ موضوع، وهذا الفرض لا صحّة له؛ لأنّ الدين الإسلامي والتّشريعات العباديّة نأخذها من القرآن الكريم وحديث النبي وأهل بیته علیهم السلام.

إنَّ عالميّة القرآن وخلوده يناسب الإشارة إلى الكلّيات العامّة والقوانين المهمّة والضّروريّة، ومن غير المعقول الابتلاء بالجزئيّات المتعلّقة بمسائل خاصّة؛ لأنَّ مصادر الأحكام العباديّة والتّشريعات في الإسلام غير مقتصرةٍ على القرآن الكريم، بل هناك حديث النّبي والأئمّة من أهل البيت علیهم السلام فهي تُبيّن القرآن وتفسّره لنا.

الإشكال الثاني: عدم الاطّلاع على التّراث العلمي للمسلمين

قال الكاتب:(فقد حافظ هذان المصطلحان على أهميتهما في الفكر الملتزم دينيًّا (انظر ASCETICISM الزهد) وبرزا مؤخّرًا في الكتيبات المنتشرة التي تُعنى بالفقه الإسلامي).

والجواب عن ذلك: لا أعلم ماذا يقصد الكاتب من قوله (وبرزا مؤخّرًا في الكتيبات المنتشرة التي تعنى بالفقه الإسلامي) بشكلٍ دقيق، ولكن بحسب ظاهر كلامه، فهو ينمُّ عن شحّة معرفة الكاتب بتراث الإسلام، ولا ينقضي العجب لمن يدّعي التّحقيق والبحث العلميّ المنصف أن يغفل التّراث الإسلامي ليرى تداول هذين المصطلحين في التّراث الرّوائي والحديثي للنّبيّ والأئمّة علیهم السلام والصحابة وكتب العلماء الأوائل ومن تبعهم، ومن البديهي أنّ مثل هذه العناوين والمداخل والمقالات لا يصلح أن توسم أو توصف أو تجعل ضمن دائرة (بحث علمي) وإنّما هي اجترار لمقالاتٍ أصحابها معرفون بمواقفهم من الإسلام والقرآن الكريم ورسوله الكريم صلی الله علیه و آله و سلم.

الإشكال الثالث: الحلال والحرام في الأكل ليس موازيًا للطاهر والنجس

قال الكاتب :(يدلّ مصطلحا حلال وحرام أيضًا على التقديس والتدنيس على، التوالي، ما يُشير إلى وجود رابطٍ مربكٍ بين ما هو مقدّس وما هو نجس).

ص: 482

والجواب عن ذلك:

ما ذكره الكاتب هو من إسقاطات الفكر الغربي، وهو من دعوات الكنيسة في العصور الوسطى للمجتمع الأوروبي بما يعرف بثنائيّة المقدّس والمدنّس؛ حيث اعتبرت الكنيسة أنّ كلّ ما يتّصل بالجسد والدنيا أمورٌ مدنّسة يجب أن يُبتعد ويُترفّع عنها، كما أنّها اعتبرت كلّ ما يتصل بالله والآخرة مقدّسًا يجب التّمسّك به وعليه فلا يجتمع المقدّس والمدنّس(1).

ولذا ظهرت الدّعوة للرهبنة، وهي الطريق الذي ينتقل به من المدنّس إلى المقدّس. وقد برز في قبال ذلك تيّارُ معاندٌ وصل به المسير إلى تدنيس المقدّس وتقديس المدنّس، كما تعيشه الآن الحضارة الغربيّة في العصور الحديثة.

أقول: من الواضح أنّ كلا التّيارين خلاف الفطرة الإنسانيّة، وهما بين الإفراط والتفريط؛ إذ لم يخلق الله سبحانه وتعالى هذه الشّهوات عبئًا، وإنّما حاجاتٌ هي أساسيّةً وطبيعيّةً يجب إعطاؤها حقَّها من الإشباع والإرواء؛ لأنّ هذا هو الهدف من خلقها، كما لا ينبغي أن تعطى تمام الحريّة في ممارسة ما تشتهيه بحيث يؤدّي إلى هلاكها وخرق نظام المجتمع.

وهذان المصطلحان المقدّس والمدنّس - حديثان ومتداولان في علم اجتماع الدّين في الغرب، وقد أظهرا نتائج عديدة ومتناقضة في الفكر الغربي، بدءًا من محرّرها الأوّل دوركهايم في كتابه (الأشكال الأولية للحياة الدّينية).

إنَّ القداسة في الإسلام على نحوين: قداسة لذاتها وقداسة لغيرها، والأولى هي القداسة المطلقة، وهي مختصّة بالخالق سبحانه وتعالى، والأخرى قداسةٌ حادثةٌ نسبيّةً، وهذا يعني أنّ المقدّس لا يتعارض مع الدّنيويّ أو المخلوقات كما

ص: 483


1- انظر دورکهایم امیل الأشكال الأولية للحياة الدينية ترجمة رندة ،بعث ،طا الدوحة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2019 ، ص 65 ؛ إليا مرسيا المقدس والمدنس، ترجمة عبدالهادي ،عباس ط1 ،دمشق دار دمشق للطباعة والنشر 1988 ، ص 13؛ الزاهي نور الدين المقدس ،الإسلامي، طا المغرب دار توبقال للنشر، 2005، ص13.

ذهب الفكر الغربي، بأنّ هناك تعارضًا بين المقدّس والدّنيويّ المدنّس؛ لأنّ المقدّس والمدنّس في الإسلام يرتبطان بالوجود الرّوحي لا بالوجود الطبيعي كما يزعم الفكر الغربي، وهذا المقدّس بمفهومه الإسلامي لا يمتلك تلك القداسة إلّا لمكانةٍ معيّنةٍ عند الله عز وجل، ترتبط بالعلاقة بين الخالق والمخلوقات، أي كونه وسيلة الذي يجعل معنى المقدّس ليس معبودًا في هذه الحالة(1).

إِنَّ المقدّس والمدنّس في الكائن عارضان، فالدّنيويّ هو المجال الذي تلتقي ضمنه وتحته كلّ الحدود، أي أنّه حاضرٌ بحدودٍ متحرّكةٍ داخل المقدّس والمدنّس، لذلك يحمل وضعه المتميّز في الإسلام، لذلك لا يمكن القول إنّ تعريف المقدّس وتحديده يتمّ بالتعارض والتّوازي مع الدّنيويّ، ولا يمكن حلول القداسة المطلقة في الدّنيويّ المحدود كما ذهب إليه الفكر الغربي في تصوّره لازدواجيّة المقدّس(2).

الإشكال الرّابع: القرآن لم يأخذ الحلال والحرام من اليهود

قال الكاتب : (من الممكن أن تكون المصطلحات القرآنيّة قد توازت إلى حدِّ ما مع المصطلحين العبريين «موتر وأسور» الذين يعنيان مباح (هو مرادف للجذر ح ل ل من الناحية السيميائية)، ومُحرّم (راجع ما يلي؛ واسبروغ، QS، 174)).

والجواب عن ذلك:

إنَّ ما يقدمه الكاتب هنا زعمٌ باطلٌ لا يقوم على دليلٍ واضحٍ أو شاهدٍ ساندٍ، وإنّما يرسل الكلام على عواهنه مستدلًّا بكلام سلفه، والحال أنّ ما يطرحه لا يعدُّ إِلَّا تشابهًا فى الألفاظ بعد الترجمة.

إنَّ الإسلام في لغة القرآن ليس اسمًا لدينٍ خاصُّ، وإنّما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كلّ الأنبياء؛ فالإسلام شعارٌ عامٌّ كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخيّة إلى عصر النّبوّة المحمديّة، فأصل التّشريعات السماويّة واحد.

ص: 484


1- انظر محسن عبد الناصر سلطان المفهوم الوجودي للمقدس والمدنس في الإسلام، ص 123 . 4 gjat. June 2014. vol issue. 117
2- انظر: م.ن.

والحلال والحرام معروفٌ في كلّ أمّة، وإن اختلفوا في مقدار المحرّمات وفي نوعها وأسبابها، وقد جاءت الشرائع السماويّة بتشريعاتٍ ووصايا عن الحلال والحرام ارتفعت بالإنسان من مستوى الخرافات والأساطير إلى مستوى إنسانيٍّ كريمٍ.

وكما أشرنا أنّ القرآن الكريم لم يدع تأسيسه للحلال والحرام، وقد جاء ذكر الحلال والحرام في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم منسوبة إلى من سبقه من اليهود والنصارى وعليه فلا مجال للادّعاء عندما نتطرّق لاصطلاح الحلال والحرام اسمًا ولفظًا عربيًا ليأتي قائلٌ ليقول إنّها أُخذت من اليهود.

الإشكال الخامس واضع الأحكام هو القرآن والنّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم.

قال الكاتب:(لقد أدّى التأمّل في الأحكام التّشريعيّة التي وضعها الكثيرون في ما يتعلّق بالنّصوص المُنزلة والتفكّر في نتائجها الفقهيّة التي ربما تكون متباينةً، بعلماء الفقه إلى تبنّي نظريّة التّتابع في الواجبات الشّرعيّة).

وقال أيضًا:

لقد باتت هذه المؤلّفات ومن بينها كتاب القرضاوي، متوفّرةً بيسرٍ وبلغاتٍ أخرى عدا العربيّة. إلى أنّ محتواها مستنبطٌ من تصنيفات الفقه الإسلامي التقليدي التي ظهرت في وقتٍ لاحقٍ، وبالتالي فهي تذهب أبعد بكثير من التّصريح القرآني بالحلال والحرام، حتى إنّها تتناول مجموعةً واسعةً من الأعمال التي قد نصادفها في الزمن المعاصر.

والجواب عن ذلك:

يمكن أن تسجّل هنا ملاحظات على كلام الكاتب:

أوّلاً: يعتقد الكاتب أنّ واضع الأحكام والتّشريعات العباديّة هو (الكثيرون) حسب تعبيره، وهؤلاء الكثيرون لا يمكن أن يكون غير العلماء، والحال أنّ واضعها هو القرآن الكريم والرّسول والأئمّة من أهل البيلات علیهم السلام ودور العلماء هو الاجتهاد واستنباط الأحكام الشّرعيّة من مصادرها المعتبرة، وهي القرآن وحديث النبي صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 485

و روايات أئمة أهل البيت علیهم السلام والعقل والإجماع.

ثانيًا:جهل الكاتب بعمليّة الاجتهاد الفقهيّ عند المسلمين، وجهله بتراث المسلمين بشكل عام وتراث الشّيعة الإمامية الاثنى عشريّة بشكلٍ خاصّ.

يُشير السيد محمد باقر الصدر في مقدّمة كتابه «الفتاوى الواضحة»، إلى وجه الحاجة إلى الاجتهاد فيقول:«والمصدر الأساس للشريعة هو الكتاب الكريم والسنّة الشّريفة، ولو كانت أحكام الشّريعة قد أُعطيت كلّها من خلال الكتاب والسنّة ضمن صيغٍ وعبائر واضحة صريحة لا يشوبها أيّ شكّ أو غموضٍ لكانت عمليّة استخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة ميسورة لكثير من الناس ولكنّها في الحقيقة لم تعطَ بهذه الصّورة المحدّدة المتميّزة الصّريحة وإنّما أعطيت منثورةً في المجموع الكلّي للكتاب والسنّة، وبصورةٍ تفرض الحاجة إلى جهدٍ علميٍّ في دراستها والمقارنة بينها واستخراج النتائج النهائيّة منها، ويزداد هذا الجهد العلميّ ضرورة وتتنوّع وتتعمّق أكثر فأكثر متطلّباته وحاجاته كلّما ابتعد الشّخص عن زمن صدور النّصّ، وامتدّ الفاصل الزّمنيّ بينه وبين عصر الكتاب والسنّة بكلّ ما يحمله هذا الامتداد من مضاعفاتٍ كضياع جملةٍ من الأحاديث ولزوم تمحيص الأسانيد وتغيّر كثير من أساليب التّعبير وقرائن التّفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام ودخول شيءٍ كثير من الدّسّ والافتراء في مجاميع الرّوايات، الأمر الذي يتطلّب عنايةً بالغةً في التّمحيص والتّدقيق، إضافة إلى أنّ تطوّر الحياة يفرض عددًا كثيرًا من الوقائع والحوادث الجديدة لم يرد فيها نصّ خاصّ، فلا بدّ من استنباط حكمها على ضوء القواعد العامّة، ومجموعة ما أعطي من أصول وتشريعات... كل ذلك جعل التعرّف على الحكم الشرعي في كثير من الحالات عملاً علميًّا معقّدًا، وبحاجة إلى جهدٍ وبحثٍ وعناءٍ، وإن لم يكن كذلك في جملةٍ من الحالات الأخرى التي يكون الحكم الشرعي فيها واضحًا كلّ الوضوح»(1). ولهذا فقد فتح باب الاجتهاد في الأحكام الفرعيّة - الشرعيّة - والاجتهاد هو بذل الوسع والطاقة في تحصيل الحكم الشّرعي

ص: 486


1- الصدر، محمد باقر مقدمة الفتاوى الواضحة.

من الأدلّة الواردة في القرآن الكريم والسنة النّبوية والإجماع والعقل، ولا بدّ من توفّر شروط محدّدة في المجتهد تؤهّله للقيام بهذه المهمّة(1).

وعليه فلا عجب لقولك أيّها الكاتب: (تذهب أبعد بكثير من التّصريح القرآني بالحلال والحرام، حتى إنّها تتناول مجموعةً واسعةً من الأعمال التي قد نصادفها في الزمن المعاصر)؛ لأنّ رسالة الإسلام تجري مع الأجيال والمجتمعات، وهو خاتم الأديان ورسالته للناس كافّة وأُرشد الكاتب المحترم إلى مراجعةٍ سريعةٍ ونظرةٍ خاطفةٍ في تراث المسلمين وخاصّة الشّيعة الإماميّة ليرى الكمّ الهائل من كتب أصول الفقه والتأسيس لعمليّة الاجتهاد الفقهي.

3. مقالة الأمر والنهي وهي للكاتب: مايكل كوك Michael Cook

1,3. نقاط قوّة المقالة

أوّلاً: تتبّع الآيات القرآنيّة الوارد فيها ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثانيًا: ذكر الموارد التي جاء في سياقها الأمر بها أو النهي عنها.

ثالثًا: أشار بشكلٍ مفصّلٍ إلى بحث الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في تفاسير المسلمين، بل وتعدّى إلى ذكر علماء الشيعة.

2,3. نقاط ضعف المقالة:

أوّلاً: الرّواسب القبليّة التي يحملها الكاتب حول القرآن الكريم من دعوى التّناقض.

ثانيًا: الاعتماد على مصادر كُتبت بأقلام مستشرقين وغربيين.

ثالثًا: نسب الكاتب الشيخ الطوسي إلى المعتزلة.

رابعًا: الاستشهاد بحديث عمر بن الخطاب وترك حديث النّبيّ والأئمّة من أهل البیت علیهم السلام.

ص: 487


1- انظر: الشريف المرتضى: رسائل الشريف المرتضى تحقيق السيد أحمد الحسيني، لا ط، قم، دار القرآن الكريم، 1405ه- ج 2، ص 262.

3,3. الإشكالات الواردة على المقالة

الإشكال الأوّل: ادّعاء التّناقض في الآيات القرآنيّة

قسّم الكاتب القائمين بالأمر بالمعروف والناهين عن المنكر، إلى الأمّة وإلى الأفراد فتصوّر وجود تناقضٍ، فبعد بیان دور الأمّة في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: (على النّقيض من هذه الموارد تشير آيتان إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باعتباره مهمّةً يقوم بها الأفراد).

والجواب عن ذلك:

لا أعلم أين موضع التّناقض الذي يتكلّم عنه الكاتب، فإذا كانت مهمّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يقوم بها فئتان تارة المجتمع وأخرى الأفراد، فأين التّناقض؟!

إنّ الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضّح لنا الجواب، فإنّه يستفاد منها أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجبٌ على جميع أفراد المجتمع الإسلامي وترك ذلك من الذنوب الكبيرة، وتصبح هذه المسؤوليّة مضاعفةً على رجال الدين والمبلّغين والمؤسّسات. وفي الحقيقة لا مجال للانفكاك بين التّبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. التبليغ هو المجال العملي والواقعي لهاتين الفريضتين الكبيرتين والمبلغون هم دعاة الناس إلى المعروف ومحذّروهم من المنكرات.

ويمكن أن يؤدّيها الأفراد كأفراد والمجتمع كمجتمع وذلك بحسب الظّروف وتحقّق الشروط المعتبرة، فيجب على كلّ فردٍ القيام بها بمفرده مع تحقّق الشروط تجاه الآخرين من الأفراد والمجتمعات. كما يجب على المجتمع الذي يعتبر مسؤولاً عن المجتمع بمكوناته؛ حيث يجب عليه القيام بمعالجة كلّ الاعوجاجات والانحرافات الاجتماعيّة، ويضع حدًّا لها، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافّة.

ويُعتبر القسم الأوّل من وظيفة الأفراد، فردًا فردًا، وحيث إنّ إمكانات الفرد وقدراته محدودةٌ، لذلك فإنّ إطار هذا القسم يتحدّد بمقدار هذه الإمكانات. وأمّا

ص: 488

القسم الثاني، فإنّه يعتبر واجبًا كفائيًا، وحيث إنّه من واجب الأمّة بما هي أمّة، فإنّ حدوده يتّسع، ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلاميّة وشؤونها بطبيعة الحال.

ومع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوّة الواسعة لا يوجد أيّ تنافٍ بين شمول فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من القدرة المحدودة؛ إذ يكون الأمر والنّهي الواسعان من واجب الدولة الإسلاميّة لا الفرد(1).

تحدّث الشّهيد مطهري حول قيمة وضرورة هاتين الفريضتين الإلهيّتين، يقول: «إنّ أصل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هو أساس سائر الفرائض كما يُعبّر عنه الإمام الباقر علیه السلام. ويجعل هذا الأصلُ المسلمين يعيشون بشكلٍ دائمٍ حالةَ انقلابٍ فكريٍّ وإصلاحٍ مستمرٍّ ومواجهةٍ متواصلةٍ مع الفساد»(2) وقال أيضًا: «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هو الأصل الوحيد الذي يضمن بقاء الإسلام. وفي الاصطلاح هو العلّة «المبعثية». وفي الواقع لو لم يكن هذا الأصل موجودًا، لم يكن للإسلام وجود وإذا أردتم العزّة، ورغبتم أن يحسب لكم الآخرون الحساب، فلا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(3).

«ليس الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر موضوعًا يقبل الزّوال، فهو موجودٌ بشكلٍ دائمٍ، وينبغي أن يكون على رأس الأمور. يجب أن يُطرح بشكلٍ دائمٍ حتى لا يعتريه النسيان.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلٌ يخاطب الإنسان: أيّها الشّخص أنت مسؤولٌ أمام الله تعالى من النّاحية الشّخصيّة والفرديّة، بل أنت مسؤولٌ أمامه فيما يتعلّق بالمجتمع»(4).

ص: 489


1- انظر مكارم الشيرازي ناصر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ،طا، قم، مطبعة أمير المؤمنين 1421ه-، ج 2، ص 630-631.
2- مطهري، مرتضى مجموعة الآثار، ج 2، ص 248.
3- مطهري مرتضى: الملحمة الحسينية، ج 2، ص 45-76
4- م.ن، ج 2، ص 51 و 53.

الإشكال الثاني: عموميّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

قال الكاتب :(ثمة آية واحدة تخبرنا عن الفئة المستهدفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ألا وهي اليهود أو النصارى الذين يتّبعون النّبي الأمي).

والجواب عن ذلك:

إنَّ القراءة المتجزّئة للقرآن الكريم، وفصل حديث النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وحديث أئمة أهل البيت علیهم السلام، ولا شكّ لا تعطي أكثر من هذه النتائج، وكأن الكاتب لم يطالع القرآن الكريم ليرى أنّ القرآن يقول وما آتاكم الرسول فخذوه... فنجد عدم علمٍ وعدم إلمامٍ بالموضوع فساق الآيات فقط وكأنّه يقول حسبنا كتاب الله.

ولا أعلم كيف حمَّل الآية الكريمة هذا التحميل وفسَّرها وفق هواه ليدلّل لنا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستهدف اليهود والنصارى فقط، والحال أنّ الآية الكريمة تريد الإشارة إلى أمورٍ خمسة وصف بها النّبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وهي مع ذلك من مختصّات النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلموملّته البيضاء، فإنّ الأمم الصالحة وإن كانوا يقومون بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكره تعالى من أهل الكتاب في قوله:«لَيْسُوا سَوَاءٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَابِمَةٌ» إلى أن قال - «وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

- وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَبِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ » (آل عمران، الآية 114). وكذلك تحليل الطيّبات وتحريم الخبائث في الجملة من جملة الفطريات التي أجمع عليها الأديان الإلهية، وقد قال تعالى:«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ» (سورة الأعراف، الآية 32). وكذلك وضع الإصر والأغلال وإن كان مما يوجد في الجملة في شريعة عيسى علیه السلام، كما يدلّ عليه قوله فيما حكى الله عنه في القرآن الكريم:«وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» (سورة آل عمران، الآية (50) ويشعر به قوله خطابًا لبني إسرائيل:«قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» (سورة الزخرف، الآية (63).

إلّا أنّه رتاب ذو ريبٍ في أنّ الدّين الذي جاء به محمد صلی الله علیه و آله و سلم بكتاب من

ص: 490

عندالله مصدّق لما بين يديه من الكتب السماوية وهو دين الإسلام هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلّ ما يسعه من روح الحياة، وبلغ به من حدّ الدّعوة الخالية إلى درجة الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، وهو الدين الوحيد الذي أحصى جميع ما يتعلّق به حياة الإنسان من الشؤون والأعمال ثمّ قسّمها إلى طيّباتٍ، فأحلّها وإلى خبائث فحرّمها، ولا يعادله في تفصيل القوانين المشرّعة أيّ شريعةٍ دينيّةٍ وقانونٍ اجتماعيٍّ، وهو الدين الذي نسخ جميع الأحكام الشّاقة الموضوعة على أهل الكتاب واليهود خاصّة، وما تكلّفها علماؤهم، وابتدعها أحبارهم ورهبانهم.

4. مقالة رمضان وهي للكاتبة : أنجليكا نويفيرت Angelika Neuwirth

1,4. نقاط قوّة المقالة

1. تظهر قوّة المقالة في كثرة تزييف الحقائق والاتّهامات والدّعاوي الباطلة من دون دليلٍ أو شاهدٍ.

التفريق بين المعتقد السنّي وبين المعتقد الشيعي في صوم عاشوراء.

2. نقاط ضعف المقالة

أوّلاً: تفسير الآيات القرآنيّة وفق آراءه الخاصّة ومن دون دليل.

ثانيًا: دعاوي بلا دليل

ثالثًا: إرجاع معارف القرآن إلى اليهود.

رابعًا:ربط الشعائر والمناسبات الدّينيّة باليهود.

خامسًا: الجهل بتاريخ المسلمين، وسردها اعتمادًا على كتب الغربيين.

سادسًا: سرد الاسرائليات والأخذ بها.

سابعًا: اعتمد الكاتب على أحد معاصريه في النقولات وهو معروفٌ بتعصّبه وحقده وهو واغتندونك.

ص: 491

3,4. الإشكالات الواردة على المقالة

الإشكال الأوّل: يبدأ الصوم من الفجر لا من شروق الشمس

قالت الكاتبة :(هو الشهر التاسع في التقويم الإسلامي، الذي يصومه المسلمون من شروق الشمس إلى مغيبها ويحتفلون فيه بنزول القرآن على محمد).

وقالت الكاتبة مناقضة نفسها في موضع آخر:(حكم بدء الصوم مع

يكشف بوضوح أصله اليهودي).

والجواب عن ذلك

لم تُتعب الكاتبة نفسها لترى التّناقض في كلامها، فتارةً تقول إنّ بدء الصّوم يكون من شروق الشّمس وأخرى تصرّح أنّه يبدأ من الفجر. كما لم تُتعب الكاتبة نفسها لتضع كتبَ أبناء سلفها إلى جنب وتذهب إلى كتب وتراث المسلمين لترى أنّ الصوم عندهم متى يبدأ.

فما أتى به الكاتب هنا لا يمكن إلّا أن يكون التدليس والكذب على أبناء جلدته ممن يكتبون لهم ونقله ممن سبقوه في ذلك. وكان من المفترض أن يردّ على سلفه المدلّسين نراه ينساق معهم.

فهل يعقل أن يكون هذا المقال من أوّل سطر فيه علميًّا محايدًا لتحرّي الحقيقة وبيانها؟ وهنا ألف هل وهل سنغضّ الطّرف عنها.

الإشكال الثاني: لا ربط لرمضان وليلة القدر بأعياد المسيح

قالت الكاتبة :(من الواضح أنّ ثلاثة أعياد مترابطةٌ تاريخيًا - عيد الفصح اليهودي (البيسح)، وعيد الفصح المسيحي (إيستر)، ورمضان- تكشف علاقةً وثيقةً بأعمال العنف؛ إذ إنّ في كلّ عيد يُحتفل بخلاص جماعة ما من تهديد الإبادة).

وللردّ على الادّعاء الذي يكفينا مؤنته الكاتب نفسه حيث يقول: (العلاقة بين عيد الفصح ورمضان أقل وضوحًا. فلا وجود لخط علاقة وراثيّة يمكن استنباطها

ص: 492

على نحوٍ قاطع وليس ثمّة رواية أسطوريّة عن حصول العيد الأوّل في الثاني؛ بل العلاقة عبارة عن تشابهٍ جزئيٍّ).

الإشكال الثالث: الصوم لم يؤخذ من اليهود

قالت الكاتبة :(كانت سابقة الصّوم التي مارسها اليهود في المدينة هي التي أثارت عمليّة دخول الصوم في الأحكام الشعائرية للمجتمع المسلم الأوّل).

وقالت أيضًا: (الشكل الأوّل للصوم المفروض دينيًّا في الإسلام كان في الأصل عادةً مشتركةً مع اليهود ولكن بقي الانصهار الإسلامي بالشّعيرة اليهوديّة محدودًا).

والجواب عن ذلك:

كيف تُريد أن يجعل من الوهم ،حقيقةً ومن الافتراضات والتّخيّلات واقعًا ملموسًا، ومن مجرّد التّشابه بين الألفاظ في عددٍ من اللغات حكمًا على الإسلام بتأثره باليهوديّة؟

فهل من المنهجيّة العلميّة أن تُبنى الأحكام والحقائق على مجرّد التخمينات والفرضيّات؟

وإذا وُجِد التّشابه في بعض الألفاظ في عددٍ من اللّغات؛ فهل مجرّد هذا التّشابه يكون دليلا قاطعًا على أنّ اللّاحق أخذ عن السّابق؟

وهل كان الصوم حكرًا على اليهود ؟

ألم تعرف الأديان السّابقة على اليهوديّة الصّيام؟

إنّ مثل هذه الكاتبة وسلفها يدرسون الإسلام وَفْقَ خلفيّاتٍ ومنطلقاتٍ سابقةٍ: ثم يجمعون استدلالاتهم الواهية لتأكيد نظرتهم العدائيّة السابقة للإسلام، وإلّا كيف يتجاهلون المصدر الإلهي لمشروعيّة الصيام في الإسلام؟ وكيف ينكرون الأمر الإلهي بفرض الصيام على المسلمين؟ وكيف يتجاهلون المصادر الإسلاميّة التي تُبَيِّن ربّانيّة التّشريع الإسلاميّ، ويعتمدون على مزاعم أقرانهم.

ص: 493

مما لا شك فيه هو عموميّة مشروعيّة الصيام في جميع الشّرائع السّماويّة وذلك بسبب وحدة مصدرها، وهذا ما صرّح به القرآن الكريم نفسه، حيث أشار إلى أنّ الصّوم قد كتب على السّابقين على الإسلام قال تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (سورة البقرة، الآية (183).

إنَّ الله تعالى قد أوجب الصيام على من قبلنا، سواءً كان صيامهم مشابهًا لصيام المسلمين لشهر رمضان، أو أنّ التّشابه في أصل وجوب الصّيام، وسواء كان المقصود بهم أهل الكتاب، أو جميع الأمم. وإن ورد اختلاف فإنّما هو بما أحدثته تلك الأمم من التّحريف والتّغيير، وأما أصل الصيام فهو واجبٌ على الأمم جميعها.

وبهذا تشترك الأديان الإلهيّة في هذا التّشريع؛ فالصيام في الإسلام تشريعٌ ربّانيٌّ، فالشّارع الذي شرّع الصيام في اليهوديّة والنصرانيّة، قبل تحريفهما، هو الله جلّ وعلا، الذي شرّع الصيام في الإسلام.

الإشكال الرّابع: تساؤل ليس في محلّه حيث يمكن مراجعة كتب المسلمين لتعرف ذلك

قالت الكاتبة معلقةً على الآية الكريمة:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (سورة البقرة، الآية 183).

ليس معلومًا ما إذا كان هذا الحكم طُبّق فوراً مع هجرة محمد من مكة إلى المدينة.

والجواب عن ذلك:

لماذا غير معلوم عندك أيّها الكاتب المحترم ؟ هل طالعت واطّلعت على تراث المسلمين حتى وصلت إلى قولك ليس معلوما؟

لو كنت قد تصفّحت أيّ كتابٍ من كتب المسلمين التي تناولوا فيها تاريخ مشروعيّة الصّوم لما تجرّأت وقلت هذا الكلام.

ص: 494

إنّ تاريخ مشروعيّة الصوم وتحديده كان في السنة الثانية من الهجرة، وهو مما (1)اتفقت عليه كلمة علماء الأمّة الإسلاميّة. وقد يضيق المقام عن سرد المصادر وحصرها.

الإشكال الخامس: سرد الأحداث التاريخيّة اعتمادًا على مصادر غير المسلمين

قالت الكاتبة :(حيث إنّ حدوثه التقويمي- وصول- النّبي وصحابته (انظر صحابة النبي) إلى المدينة - يُقال إنّه يتزامن مع يوم الغفران اليهودي، يوم الصوم الذي يأتي في اليوم العاشر من الشهر الأوّل (تشري) في التقويم اليهودي (سفر اللاويين 17:59).

والجواب عن ذلك:

إنَّ تشريع الصّوم كان في السنة الثانية من الهجرة كما تقدّم ذكره، وعليه فلا صحّة للوهم والتخمين وتسطير كلام بلا علمٍ ولا درايةٍ من أنّ وصول النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وصحابته للمدينة كان متزامنًا مع يوم الغفران اليهودي.

ثم إذا كانت الحقيقة والحوادث تثبت ب_ (يقال) فلا يبقى حجر على حجر، أين الدليل وأين الشاهد أيها الكاتب المحترم؟

الإشكال السادس: دعوى من نسج الخيال (العلاقة بين ثورة التوّابين ويوم الغفران اليهودي)

فإنّ جماعة التّوابين من الشيعة البدائيين الذين يعتبرون أنّ التوبة والتكفير عن الذنب أمرٌ أساسيٌّ، وثاروا في عام 65ه- / 685م ضدّ الأمويين من أجل التكفير عن ذنبهم لعدم نصرة -الحسين من الممكن أنّها حينما ضحّى أفرادها بأنفسهم، كانت تحت تأثير الجوّ المهيب لليوم البارز في التقويم اليهودي.

ص: 495


1- انظر مغنية محمد جواد الفقه على المذاهب الخمسة، م.س، ص 149.

والجواب عن ذلك:

طرح الآراء والأفكار وتفسير الحوادث التأريخيّة لا تثبت بكلمة من الممكن أو يجوز ويحتمل وغيرها من الكلمات، ومثل هذا التّحليل لثورة التوّابين على حكومة بني أميّة لا يمتّ للحقيقة بصلة.

من أين لك هذا أيّها الكتاب؟ ومن قال لك بوجود جوّ مهيبٍ لليوم اليهودي على المسلمين وعلى شيعة أئمة أهل البيت علیم السلام في ذلك الوقت؟ ومن أخبرك بوجود التأثير؟ ما هي إلا أوهام صنعتها لنفسك ومن قبلك سلفك الذين أضلوا أبناء جلدتك.

الإشكال السابع: دعوى بلا دليل أنّ ليلة القدر هي 27 رجب

قالت الكاتبة: (يؤكّد الأمر القرآني الأولّي أنّ الصوم يكون لأيام عدّة (أيام ،معدودات الآية 184 من السورة الثانية)- على الأغلب عشرة أيام لكن لم يُذكر الشهر بشكلٍ واضحٍ).

وقال أيضًا :(ويقول واغتندونك (الصوم) إنّ فترة الاعتكاف في رجب «اختيرت لصوم الأيام المعدودة لأنّ ليلة القدر التي يرتبط بها نزول القرآن حصلت في تلك المدة. وتلك الليلة التي تقع أصلاً في السابع والعشرين من رجب).

والجواب عن ذلك:

صار الكاتب هنا بصدد تفسير الآية الكريمة وتفسير الأيّام المعدودات بقوّة قوله (على الأغلب)، ولا شك في بطلان زعمه ب(أنّ المسلمين فُرض عليهم صيام عشرة أيام قبل فرض صيام شهر رمضان)، وقد ساقه خياله إلى الوقوع في خطأ آخر بزعمه أنّ الأيّام المعدودات هي عشرة، ثم نقل قول أحد معاصريه وأبناء جلدته، من أنّ الاعتكاف في رجب واختيرت لصوم الأيام المعدودة وهي العشرة أيام. ولا أعلم ما علاقة ليالي الاعتكاف في الإسلام بليلة القدر ؟ إنّه التّخبّط الذي سار عليه من أوّل بحثه إلى آخره.

ص: 496

والأيام المعدودات هي أيام رمضان؛ لأن الله لم يكتب علينا غيرها(1)، ومن ادّعى أنّ صومًا كان قد لزم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الذي هم مجمعون على وجوب فرض صومه - ثم نسخ ذلك - سئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حُجة إذا كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذر.

أما العشر الأواخر من رمضان فهي ليالي عبادة، ويُسَنُّ فيها الاعتكاف، ويقضي فيها المسلم نهاره صائماً، وقد كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يجتهد فيها بالعبادة، وأما ليلة القدر فهي الليلة التي أنزل الله فيها القرآن الكريم إلى السماء الدنيا، وليلة هي خير من ألف شهر في قيامها وليلة تتنزل فيها الملائكة لكثرة بركتها وليلة القدر عند المسلمين تقع في العشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، لا كما ذهب إليه الكاتب.

الإشكال الثامن: أين الغموض في الآيات

قال الكتاب ناقلاً كلام أمثاله من أبناء جلدته في تعليقه على قوله تعالى:«أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (الآية 184) من السورة البقرة).

من وجهة نظر واغتندونك (الصوم ص 182) ينطوي النص «على غموض مماثل ارتبط بتغيير القبلة).

والجواب عن ذلك:

يا ليت الكاتب يوضّح لنا نقطة الغموض التي يراها - هو أو صاحبه- في الآية الكريمة ليرشدنا إليها ويبيّن لنا العلاقة بين من وضع عنه الصوم وبين تغيير القبلة ولكن عمليّة إلقاء الألغاز لا تجعل من الأوهام حقيقةً، كما أنّها لا تحجب الحقيقة لمن يطلبها.

ص: 497


1- انظر: مغنية محمد جواد تفسير الكاشف، ط3، بيروت، دار العلم للملايين، 1981م، ج 1، ص182

الإشكال التاسع: الاعتماد على الاسرائليات

قالت الكاتبة : (فيعكس الطلب من المؤمنين الصيام ما إن يستطيعوا تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود وهو سلوك يهودي لتحديد وقت بدء الصوم من خلال استخدام الخيوط السوداء والبيضاء في شال صلاة العابد الذكر كمعيار).

والجواب عن ذلك:

هذا المدّعى والاقتباس يتردّد في كثيرٍ من الكتب، وعلى ألسنة الغربيين والمستشرقين ومن سلك منهجهم وإثبات النّقل عن التلمود، وقد روّج له كثيرًا ولكن مع تدليس:

أوّلاً: التمييز في التلمود يتحدّث عن اللّون الأبيض والأزرق. والنّصّ كما في مشنا التلمود (بركوت: 21) هو: (من أي وقت بإمكان المرء أن يقرأ الشمع في الصباح؟ من الوقت الذي بالإمكان أن يميز المرء بين الأزرق والأبيض)، واختلفوا في تحديد الألوان وتفسيرها، والحال أنّ القرآن الكريم يتكلم عن تمييز سواد الليل من بياضه.

ثانيًا: إنّ هذا التمييز كان لمعرفة بداية الصلاة وليس الصوم.

ثالثًا: توقيت العبادات في الإسلام قائمٌ على أساس ملاحظة الظواهر الكونيّة وشروق الشّمس وغروبها والفجر ، وهي لغة عالميّة في جميع الشرايع، ولو قلنا جدلاً بوجود التّشابه بين القرآن الكريم والتلمود فإنّ ذلك لا يدلّ على مقتبسٍ ومقتبسٍ منه؛ لأنّها لغةٌ عالميّةٌ.

ص: 498

الخاتمة

اشارة

لقد تناولنا في هذه المقالة تحليل بعض المقالات التي تناولت التّشريعات العباديّة، مثل: البلوغ المباح والمحرّم الأمر والنهي، رمضان، وقد عرضنا نقاط القوّة والضّعف فيها مع بيان محلّ الإشكال فيها والرّدّ عليها.

أدرجت موسوعة ليدن موضوع التّشريعات والعبادات في القرآن الكريم، فوجّهوا سهام الطّعن والتّجريح والتّشكيك والتّزييف، وزعموا أنّها أخذت أو اقتبست عن اليهود والنّصارى وعن الوثنيّة في عصر الجاهليّة.

إنّ القضية الأكثر شبهةً وتحريفاً في الفكر الغربي والاستشراقي، والتي يكادون يجمعون عليها، هي تأثّر التشريعات الإسلاميّة والعبادات الدّينيّة بالقانون الرّوماني أو التلمود اليهوديّ أو غيرهما، ولم يدرك أكثرهم أنّ التّشابه في بعض القواعد والأفكار والألفاظ لا يدلّ بحالٍ على أنّ اللّاحق قد نقل عن السّابق.

من جوانب خطورة هذه الموسوعة التّصوير المشوّه والتّحريف المتعمد من قبل البعض لحقيقة العبادات الإسلاميّة فيها، فنجدهم كثيرًا ما يُردّدون مزاعمهم بأنّ العبادات في الإسلام من أصولٍ مختلفةٍ، جاهليّةً ويهوديّةً ونصرانيّةً...

لا بدّ هنا من تقييم المحتوى العلمي لهذه المقالات الأربع، وإنَّ دعوى التّحقيق الدّقيق المذكورة في مقدّمة الموسوعة لا تنسجم مع كيفية معالجة المقالات والمداخل والعناوين في الموضوعات المبحوثة وهي: البلوغ المباح والمحرّم، الأمر ،والنهي ،رمضان، إذ يؤخذ عليها الضّعف العلمي لكتّاب هذه الموضوعات والنّظرة السّلبيّة لبعض الكتّاب وعدم الإنصاف والاستفادات الخاطئة من القرآن الكريم وشرح الألفاظ دون بيان المعارف.

من الإشكالات المنهجية الكبيرة على هذه المقالات إسقاط الرّؤية الغربيّة في التّحليل والكتابة للعهدين على القرآن الكريم، ودعوى تأثّر القرآن الكريم بالعهدين،

ص: 499

وإثارة التّناقضات التي يتصوّرها الكتّاب الغربيين في القرآن الكريم، والاعتماد على الإسرائيليّات ونقلها دون نقدها.

عدم الموضوعية هي الأخرى من الثغرات الملاحظة في البحث والاستشهاد، إذ يبرز تغليب الثّقافة الإسلامية السّنيّة على الشّيعيّة وعدم الالتفات لآراء الشّيعة وكتبهم بما يتناسب مع حجم هذه الموسوعة.

إنَّ بعض هؤلاء الكتّاب يفترضون ما يفترضون من دون أن يقدّموا دليلاً واحدًا على صحّة ما يرونه، إنّهم يريدون الانتصار لوجهة نظرهم دون أن يعنيه موضوعيّة الدّليل أو سلامته من الوهم أو الخلط أو الاضطراب ثم يدّعون دراسة القضايا وفق منهجٍ علميٍّ مدروسٍ يتّسم بالأمانة والبعد عن الأهواء.

إنَّ من أهمّ الإشكالات التي يمكن أن تؤخذ على الكتَّاب وأصحاب المقالات والمداخل التي كتبت في هذه الموسوعة، وخاصّة التشريعات العباديّة، أنّهم حذفوا حديث النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وسنّته عن الاستدلال وفَصلوها عن القرآن الكريم، وفرضوا لا بدّيّة وجود التفاصيل الدّقيقة في القرآن في خصوص كلّ موضوع، وهذا الفرض لا صحّة له؛ لأنّ الدين الإسلامي والتشريعات العباديّة نأخذها من القرآن الكريم وحديث النبي وأوصيائه صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 500

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. أبو الحسن علي الحسني الندوي الأركان الأربعة (الصلاة الزكاة، الصوم (الحج) في ضوء الكتاب والسنة مقارنة مع الديانات الأخرى، دار القلم ،الكويت، الطبعة الثالثة، 1974م.

2. الدسوقي محمد الاستشراق والفقه الإسلامي مجلة حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة قطر العدد [0] 1407 ه_ -1987

م.

3. دوركهايم أميل، الأشكال الأولية للحياة الدينية، ترجمة رندة بعث المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قطر - الدوحة، الطبعة الأولى، 2019.

4. الزاهي، نور الدين المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، المغرب، الطبعة الأولى، 2005.

5. الشريف المرتضى، رسائل الشريف المرتضى، تحقيق السيد أحمد الحسيني دار القرآن الكريم، قم، 1405ه_ .

6. الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن النهاية ونكتها مؤسسة النشر الإسلامي التابعة الجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة الأولى، 1412ه_ .

7. الطباطبائي محمد حسين الميزان في تفسير القرآن منشورات الأعلمي بيروت - لبنان الطبعة الأولى، 1411ه_.

8. العلامة الحلي جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر، تحرير الأحكام، تحقيق إبراهيم البهادري الناشر: مؤسسة الإمام الصادق للام ، قم ، الطبعة الأولى، 1421ه_ .

9. مرسيا ،إلياد المقدس والمدنس، ترجمة عبد الهادي ،عباس دار دمشق للطباعة والنشر الطبعة الأولى، 1988.

ص: 501

10. مغنية، محمد جواد، فقه الإمام جعفر الصادق علیه السلام، مؤسسة أنصاريان، قم، الطبعة الثانية، 1421ه- .

11. مغنية، محمد جواد الفقه على المذاهب الخمسة، مؤسسة الصادق عللسلام، قم، الطبعة الخامسة، 1427ه- .

12 مغنية محمد جواد تفسير الكاشف دار العلم للملايين بيروت - لبنان الطبعة الثالثة، 1981م.

13. مكارم الشيرازي ناصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مطبعة أمير المؤمنين، قم، الطبعة الأولى، 1421ه- .

المراجع الأجنبية

gjat. June 2014. vol 4 issue. 117 .1

ص: 502

«التَّعدّديّة الدّينيّة والقرآن الكريم » قراءة تحليلية نقدية -

اشارة

الشيخ الأسعد بن علي القيدارة(1)

المقدمة:

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، المبعوث رحمة للعالمين سيّدنا محمد صلی الله علیه و آله و سلم وعلى آله الطيبين الطاهرين علیهم السلام، مصابيح الدّجى، والعروة الوثقى وكلمة التّقوى.

كان نزول القرآن الكريم على الرّسول الأكرم محمد إيذانًا بدخول التّاريخ عصرًا جديدًا، وإعلانًا سماويًّا أنّ زمن الرّسالة الخاتمة قد انبلج، وأن تباشير حضارةٍ جديدةٍ تقطع مع الفصام النّكد بين الأرض والسماء بين العقل والوحي بين الطبيعة والشهادة بين التاريخ والملكوت قد لاحت«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» ( سورة العلق الآيات 1-5) ومنذ نزول آياته الأولى غدا القرآن مركز اهتمام النّاس ومعقد آمال البشرية في الخلاص، بما بشّر به من عاقبةٍ للمتّقين ونصرةٍ للمستضعفين المظلومين؛ ولذلك لا نعرف كتابًا في التاريخ البشريّ صنع التّاريخ، وأثّر فيه، ويُؤثّر في الحاضر، ويهيء فعليًّا للمستقبل كهذا الكتاب، ولا نعرف مدّونةً دينيّةً أو أدبيّةً أو علميّةً ... وقعت موضوع بحثٍ ودراسةٍ في التّاريخ كالقرآن الكريم!

ولما كانت حركة الاستشراق وفي مختلف أطواره: (التّبشيريّة، والاستعماريّة،

ص: 503


1- أستاذ حوزوي وباحث في الفكر والكلام الإسلامي من تونس باحث في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية (العتبة العباسية المقدسة) بيروت.

العلميّة والاستشراق الجديد...)تستهدف تطويع الشّرق كموضوع دراسةٍ لأغراضٍ وغاياتٍ يفرضها الانتماء المدرسي أو القومي أو الاستخباراتي، أو السياسي للمستشرق، فإنّ التّراث الإسلامي عمومًا والقرآن الكريم بالخصوص شكلاً ثابتةً من ثوابت الهواجس الاستشراقيّة واهتمامات المستشرقين في شتّى المراحل، فالقرآن منذ التّراجم الاستشراقيّة الأولى بطرس المبجل (1092-1156م) وقع موضوعًا للبحث من جهاتٍ عدّةٍ تاريخًا، وتفسيرًا، وعلومًا، وترجمةً...

ومع التّحوّلات الكبرى التي عرفتها الحركة الاستشراقيّة في سبعينيات القرن العشرين (مؤتمر باريس 1973 : المؤتمر العالمي للدّراسات الإنسانيّة حول آسيا وشمال إفريقيا) لم تخبو جذوة هذا التّوجّه، بل نراها تتأجّج، خاصّة مع تصاعد الصّحوة الإسلاميّة في تلك الفترة، واحتدام الصّراع بين الشّرق والغرب، وصولاً إلى العقدين الأوّلين من القرن العشرين؛ حيث اتّخذ هذا الصّدام أبعادًا دراماتيكيّةً، مثّلت أحداث 11 أيلول 2001 نموذجًا له.

وخلال هذين العقدين الأوّلين صدر عددٌ مهمٌ من الدّراسات الغربيّة عن :القرآن ،معاجم موسوعات ترجمة مخطوطات تاريخ. واعتبرت موسوعة القرآن ليدن من أهمّ هذه الأعمال والإنجازات.

وهذا البحث يأتي في سياق محاولةٍ لدراسة إحدى مقالات هذه الموسوعة بعنوان (التّعدّديّة الدّينيّة والقرآن)، وهو عبارة عن قراءةٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ للمقالةٍ.

وحرصًا على الموضوعيّة العلميّة، وعلى المعالجة التّحليليّة الرّصينة التي تأخذ بأبعاد القضيّة من جميع جوانبها قسّمنا البحث إلى تمهيدٍ وفصلين تضمّن كلّ فصلٍ مباحث عدّة: تصدّى التّمهيد لتعريفٍ إجماليٍّ بمقالة التّعدّديّة ومكانتها من نسيج الموسوعة، وبالكاتبتين اللّتين ألّفتا المقالة. وفي الفصل الأوّل قدّمنا قراءةً تحليليّةً لنصّ المقالة فأسلوب الكاتبتين اتّسم بنوعٍ من التّعقيد والتّداخل اقتضي تفكيك المقالة وإعادة عرضها بطريقةٍ قريبةٍ لذهن القارئ حتى لا نظلم الباحثتين من جهة، تكون عمليّة النّقد إسقاطاتٍ لا يفهم القارئ سياقاتها. أمّا الفصل

ص: 504

الثّاني فعرضنا فيه القراءة النّقديّة، فانتقدنا معالجات المقالة في المباحث الثلاثة الأولى: للمفردات القرآنيّة حول الدين في المبحث الأوّل، وللمجتمعات الدّينيّة وتفاعلها في المبحث الثاني، وإمكانيّة بناء نظريّةٍ قرآنيّةٍ حول التّعدّديّة في المبحث الثالث وفي المبحث الرّابع انتقدنا الفرضيّات الاستشراقيّة التي بُنيت عليها المقالة. وأدرجنا النّتائج والاستخلاصات في خاتمة البحث.

***

وهذه الدّراسة، لا تخلو قطعًا من هنات ونقائص رغم السّعي الدّؤوب من قبل الكاتب على التزام الحياديّة والموضوعيّة في النّقاش والتّجرّد عن محمولاتنا الفكريّة والنّفسيّة المسبقة السّلبيّة عادة عن الاستشراق.

أسأل الله عز وجل أن يتقبّل هذا العمل خدمةً لكتابه المنزل هدى للعالمين ونرجو أن تكون هذه المشاريع في نقد الموسوعات القرآنيّة الغربيّة، خطوةً حضاريّةً متقدّمةً في تجسيد ثقافتنا القرآنيّة العظيمة التي تؤمن بالآخر ولا تلغيه وتدعوه إلى كلمة سواء:«قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ...» (سورة آل عمران، الآية 64)

أوليس القرآن هو الكلمة السّواء لو كانوا يعقلون؟

فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.

ص: 505

التمهيد

تعريفٌ إجماليٌ بمقالة التّعدّديّة ومكانتها من نسيج الموسوعة

من اللّافت أن يكون أحد عناوين مقالات موسوعة قرآنيّة: التّعدّديّة الدّينيّة فهذا المصطلح حديثٌ أفرزته السّياقات الغربيّة للحداثة والمراجعات اللاهوتيّة في الفكر الغربي. ومن هنا فطبيعة الموضوع، خاصّة مع إيمان الكاتبتين (1)بالتّنوّع الدّينيّ والحوار بين الأديان كما اتّضح لنا من سيرتهما العلميّة، يجعلنا نتوقّع أن تكون المعالجة رصينةً وهادئةً وموضوعيّةً، وتتجاوز النّزعة الاستشراقيّة التّقليديّة وما فيها من عدائيّةٍ وتعصّبٍ وتعالٍ.

يجدر بنا قبل القراءة التّحليليّة لمقالة التّعدّديّة الدّينيّة، والتي تمثّل محور دراستنا هذه، أن نعرّف بالمقالة، وموقعها من الموسوعة وأهمّيتها وعلاقتها بالموضوعات الأخرى، في عملٍ توصيفيٍّ صرف، بمنأى عن القراءة التّحليليّة العميقة والقراءة النّقديّة للشّكل والمنهج والمضمون، التي نرجئها للفصل الثاني ونكتفي هنا بالتّعريف الإجماليّ بالمقالة.

فقد جاءت المقالة في 22 صفحة، في التمهيد أشارت الكاتبتان إلى تضمّن النّصّ

ص: 506


1- التعريف بكاتبتي المقالة : مقالة التّعدّديّة نتاج تأليف مشترك بين السيدة «جين دمين مك أوليف» (Jane Dammen McAuliffe) والسيدة كلير» وايلد Clare Wild ، وهذه المقالة هي الوحيدة المشتركة بينهما، في حين انفردت السيدة اولیف بالمقالات أبرهة والإنجيل والمراء ،والجدال في الجزء الأوّل وفاطمة والقلب في الجزء الثاني. ولم تُساهم السّيدة «كلير وايلد» إلا بهذه المقالة المشتركة ومقالة أخرى من مقالات الجزء الرابع بعنوان: «الثناء». وأما التعريف بالكاتبتين، فيراجع حول التعريف بالسّيدة جين دمين مك أوليف مدخل هذا الكتاب ودرست السيدة كلير» ايلينا وايلد Clare Wild) الدراسات الدينية في جامعة برينستون، والدّراسات العربيّة والإسلامية في المعهد البابوي لدراسة اللغة العربية والإسلام في روما، وحصلت على درجة الدكتوراه في تاريخ الكنيسة السريانية والعربيّة واللاتينيّة من الجامعة الكاثوليكية الأمريكية في واشنطن العاصمة كلية اللاهوت والدّراسات الدّينيّة، وكانت أطروحتها: القرآن في النّصوص العربية المسيحية ( 750-1258) وذلك سنة .2011م وهي تشغل منصب أستاذ مساعد في كلية اللاهوت والدّراسات الدينية بجامعة ( جرونينجن) بهولاندا منذ العام الدراسي (2014-2015) إلى يومنا الحاضر. وترتكز بحوثها على القرآن والنّصوص القديمة، والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين ونصوص الإرهاب وتاريخ المسيحيّة، وتاريخ العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة .... والإسلام المبكر، ولها العديد من المقالات (انظر صفحة الأستاذة على موقع الجامعة). ومن أحدث كتاباتها (2018): تبادل وخفاء المعرفة الدّينيّة في اليهودية المبكرة والمسيحيّة والإسلام وهو تأليف مشترك مع باحثين آخرين. وفيما يرتبط بالموسوعة القرآنية ليدن فقد ساهمت بمقالتين: مقالة بعنوان: «الثناء»، في المجلّد الرّابع، وتتألّف من 4 صفحات والمقالة الثانية هي التّعدّديّة الدّينيّة والقرآن بالاشتراك مع رئيسة تحرير الموسوعة السيدة ماك اوليف.

القرآنيّ إشاراتٍ عديدة للأديان التي كانت سائدةً في زمن نزوله، ورغم اعتقاد المسلمين أنّ النّبيّ صلی الله علیه و آله و سلم هو خاتم النّبيين، إلا أنّ النّصّ القرآني يتحدّث عن فئاتٍ مختلفةٍ، بل يُعبّر بواقعيّةٍ عن خصومٍ وقفوا ضدّه كدين كالمنافقين... وتؤكّد على التّصنيف المتعدّد والمختلف للفئات الدّينيّة.

المطلب الأوّل: استعراضٌ للمفردات القرآنيّة الدّالة على الدين أو على الجماعات الدّينيّة المختلفة : وقد توزّعت هذه المفردات إلى:

أ- مصطلحات عامة: دين وملّة، وعبادة.

ب- مصطلحات يستحسنها القرآن إسلام حنيف، شريعة...

ج- مصطلحات تعبّر عن التّسامح القرآنيّ: أهل الكتاب أهل الذمّة..

د مصطلحات تعبّر عن التّجاذبات والانقسامات الأحزاب الشّيع..

في المطلب الثاني: دراسةٌ للمجتمعات الدّينيّة التي تعرّض لها القرآن: اليهود والنصارى والمجوس الصابئة والحنفاء المشركون والوثنيون.

في المطلب الثالث تعالج المقالة المؤشّرات القرآنيّة للتفاعل بين الأديان من خلال رصد:

أ- الوقائع الحبشة نجران

ب- الخطابة : الجدل والدّفاع

وفي المطلب الرابع: محاولةٌ لاستخلاص الموقف القرآنيّ من التّعدّديّة الدّينيّة.

وفي الخاتمة: تنبيهٌ إلى بعض السّياقات التّاريخيّة لتعاطي المسلمين مع الآخر وموقفهم من الأديان الأخرى، وكيف أثّرت الظروف التّاريخيّة على تشكّل فهم المسلمين للنظرية القرآنيّة في التّعدّد.

هكذا تجلّت لنا خطّة المقالة، ووفقها، ستكون القراءة التّحليليّة التي يتصدّى لها هذا البحث بإذنه تعالى.

ص: 507

الفصل الأوّل: القراءة التحليلية لمقالة «التعدّديّة الدّينيّة والقرآن»

تمهيد

لمّا كانت الموسوعة تتصدّى للتعريف بالقرآن وتشريح مضامينه ومقولاته فلا مناصّ من بحث الموقف القرآنيّ من الدين عمومًا، ونظرته إلى الأديان الأخرى، وهو الكتاب الذي واكب في نزوله التّنجيميّ أطوار الدّعوة، ومراحلها المتعاقبة التي واجه فيها الدين الجديد والرّسالة العتيدة فئاتٍ مختلفةً من مشركين وأحناف فى البيئة المكيّة وأهل ،كتاب ومنافقين إلخ... في بيئة المدينة. وهو الكتاب الذي يمثّل في هويّته الإلهيّة الواقعيّة وفي معتقد المسلمين الوحي السّماوي الذي يحدّد للمسلمين منهجهم في التّعاطي مع مختلف الأديان والملل.

ومن هنا تكمن أهميّة هذه المقالة التي نسعى في هذا الفصل لدراستها دراسةً تحليليّةً وصفيّةً؛ لأنّ النّقد العلميّ والموضوعيّ (الذي نخصّص له الفصل الثاني) لا يمكن أن يُنجز بدون قراءةٍ تحليليّةٍ دقيقةٍ تسبقه. وحتى لا نقع في شباك الانطباعيّة، والمواقف المسبقة والتّحيّز وغيرها من آفات البحث العلميّ.

وراعت مباحث هذا الفصل التّمشّي الذي سلكته المقالة: ففي المبحث الأوّل بيّنّا كيف رصدت المقالة المفردات القرآنيّة المتعلّقة بالدّين، وفي المبحث الثاني توقّفنا عند التّعبيرات القرآنيّة عن المجتمعات الدّينيّة، وأمّا المبحث الثالث فكان محوره التّفاعل بين المجتمعات الدّينيّة، وفي المبحث الرابع عرضٌ لإجابة المقالة عن إمكانيّة بناء موقفٍ قرآنيٍّ من التّعدّديّة الدّينيّة.

ولا يخلو الخطاب في هذا الفصل من إشاراتٍ نقديّةٍ، رغم الطّابع التّحليليّ الطّاغي، وذلك للضرورات المنهجيّة أحيانًا، أو لتهيئة القارئ لعمليّة النّقد في الفصل الآتي. وقد تضمّنت مقدّمة المقالة أفكارًا مهمّةً يجدر بنا الوقوف عندها قبل الشّروع في مبحث المفردات:

فمن المفارقات أنّها افتتحت بالتّنصيص على عقيدة المسلمين في ختم

ص: 508

رسالة النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم للنبوات، ونسخ رسالته لرسالات الأنبياء السّابقين، فهذه الفكرة التي تعدّ في حدّ ذاتها إشكالاً يثيره أنصار التّعدّديّة الدّينيّة، في وجه الفكر الإسلامي التّقليديّ، ويعتبرونها دليلًا على أنّ القرآن لا يؤمن بالتعدّدية وأنّه ينادي بالانحصاريّة الدّينيّة.

لكن فكرة الخاتميّة هذه كانت مدخلًا للمقالة، واعتبرت دليلا على أنّ «القرآن يعبّر عن وعيٍ بالرّسالات السّابقة، أو ببعضها على الأقل، ويُظهر معرفةً بعددٍ من الجماعات الدّينيّة في بيئته(1)».

وربطت الكاتبتان جهود المفسّرين في تحديد الهويّات التّاريخيّة لتلك الإشارات القرآنيّة للأديان الموجودة زمن التّنزيل القرآني، بانخراط علماء المسلمين في تأسيس ما سمّي بعلم أسباب النّزول.

بعد هذه الإشارة العابرة أوردت المقالة خمسة مداخل أخرى للتبرير العلمي لهذه الأطروحة وجعلها جزءًا من موسوعة القرآن:

أ. الفكرة الأولى: حديث القرآن الكريم عن الأفراد والجماعات الذين لم يؤمنوا بنبوّة النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم وتصنيفه لهذه الفئات كالمشركين والوثنيين، ولا يفوتها هنا أيضًا أن تدسّ نقدًا غير مباشرٍ لهذه المناقشات القرآنيّة للمشركين العرب بالاستشهاد بهات (Hawting) وكتابه (idia of idolatry) الذي يرى أنّ القرآن لا يجادل فعلًا عبدة الأوثان وأنّ التّراث الإسلاميّ لا يعكس معرفةً واقعيةً بالدّين الوثني العربي، وإنّما يكشف الجدل القرآني عن صراعٍ مع الموحّدين!!.

ب- الفكرة الثّانية: ما جاء على لسان الباحثين الغربيين منذ قرن ونصف (هكذا جاء في المقالة) من تأثّر القرآن الكريم بالتّراث المسيحي واليهودي، ومن اللافت التّعبير الذي أستخدم لتوصيف هذا التّأثّر أو بالأحرى هذا التّأثير (التّأثير التوحيدي) (monotheistic

.(influence)(2).

ص: 509


1- ترجمة مقالة التعددية الدينية والقرآن: (وثيقة رسمية من وثائق المؤتمر)، ص 1
2- موسوعة القرآن، م.س، ج 4 ، ص 399، العمود (ب)

ب. الفكرة الثالثة: التي تسوقها المقالة كإحدى محدّدات التّمهيد لمقاربة فكرة التّعدّديّة الدّينيّة في القرآن الكريم هي: ما انشغلت به بعض الدّراسات الغربيّة لتشخيص الفئات الدّينيّة التي كانت متواجدةً في بيئة الدّعوة الأولى، وما ذهبت إليه من وجودٍ محتملٍ لجماعاتٍ دينيّةٍ مسيحيّةٍ، ويهوديّةٍ، أو مسيحيّة يهودية، وما خمّنته في تشخيص هويّة زنادقة مكّة من أنّهم المانويون أو المزدكيون.. وأكّدت الباحثتان في هذا السّياق على التّشابه والالتقاء بين الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة واستشهدت هنا بأعمال DONNER للتدليل على هذا التّشابه بين الطوائف.

د- الفكرة الرّابعة: اطّراد الحديث القرآنيّ عن الجماعات المختلفة التي كانت تسكن بيئته وتصنيفه إيّاها بطرقٍ مختلفةٍ اليهوديّة والمسيحيّة والمشركون والحنفاء وتُحيلنا هنا أيضًا الباحثتان إلى روبين Rubin للتعرف على الجماعات الدّينيّة التي كانت في جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام.

ه_ - الفكرة الخامسة: تعدّد معاني لفظ الدّين، واختلافها الدّلالي عن لفظ الإيمان وكذلك عن لفظ الاعتقاد.

وعلى قاعدة هذا الأفكار والإشارات تسوق الباحثتان هدف المقالة: «لذا جاء هذا البحث ليناقش تطوّر الموقف القرآنيّ تجاه التعدّديّة الدينية من خلال النّظر أوّلًا إلى المفردات التي استعملها القرآن... نماذج المواجهة بين الأديان، بين محمد وأتباعه من جهة، وبين غير المسلمين من جهة أخرى... كما سيطرّق القسم الأخير إلى الآيات القرآنيّة التي صاغت المواقف (هكذا بصيغة الجمع) الإسلاميّة تجاه تعدّديّة الأديان راهنا»(1).

المبحث الأوّل: الدّين والمفردات القرآنية
اشارة

بعد هذا التّقديم شرعت الباحثتان في سرد المفردات القرآنيّة : وهي كما أشرنا سابقًا جمّعت في خمس دوائر:

ص: 510


1- انظر: ترجمة المقالة، ص3.
أوّلًا: مصطلحات عامة: دين ملّة عبادة

تهيّئ المقالة ذهنيّة القارئ لقبول مسلّمةٍ عند أرباب الدّراسات الغربيّة والاستشراقيّة للقرآن الكريم: مرجعيّة بعض الألفاظ في اللّغات القديمة، فتذكر أنّ القرآن استخدم حقلًا واسعًا من المفردات العربيّة وغير العربيّة التي تعبّر عمّا يسمّيه المعاصرون (دينا).

"The Qur an uses a range of wordsboth Arabic and Arabized non- arabic...to signify what contemporary readers understand as "religion".(1)

واعتبرت لفظ الدين: أهم المصطلحات العامّة التي استخدمها القرآن الكريم وأشارت إلى تكرار هذا اللفظ أكثر من 90 مرّة(2)، وفي محاولةٍ لإرجاع أصل الدّين إلى جذورٍ في البيئة الجاهليّة استشهدت المقالة بجهود Goldziher، والتأكيد على مفهوم المروءة القبليّة وأهمّيتها الأخلاقيّة والرّوحيّة، والتي تجعلها تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ الدّين، وأنّ العصر الإسلامي كان يقدّر الفضيلة والأخلاق الذّكوريّة في العصر الجاهلي، ولكنّه أضاف إليها صفاتٍ دينيّةً.

وتعترف الباحثتان بالتَّنوّع الدّلالي للفظ الدّين في العربيّة، ولكنّهما يعودان إلى الأصل الفارسي والأكادي للفظ، فتستنتجان أنّ المعنيين الأساسين للفظ الدّين هما: العبادة (الأصل الفارسي)، والحكم (الأصل الأكادي). وتشيران إلى أنّ الأصل السّرياني في الكتابات المسيحيّة لهذه اللّفظة أيضًا يدلّ على هذين المعنيين.

بل تسوقان رأي أحد المستشرقين (Gardet) الذي ادّعى أنّ القرآن استعمل لفظ دين بمعنى الحكم (الجذرالأكادي) في المرحلة المكّيّة، واستعمله بمعنى العبادة والجوانب العمليّة (الجذر الفارسي) في المرحلة المدنيّة !!!

وأضافت الباحثتان إلى الحقل الدّلاليّ للفظ (الدين) اتّساعه وإطلاقه على

ص: 511


1- الموسوعة، م.س، ج4، ص400 العمود (أ).
2- الموسوعة ، م.س، ص 400، العمود (ب).

المؤمنين وغير المؤمنين، بالنّظر إلى الآية الأخيرة من سورة الكافرون «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» (سورة الكافرون، الآية 6).

ومن الإضافات الدّلاليّة التي تحتاج إلى تأمّلٍ تفسير دلالة لفظ الدِّين (بكسر الداء) إلى معنى العبادة بالاشتراك الجذري مع لفظ (الدِّين) بفتح الداء debt ؛ لأنّ في العبادة إرجاع لله حقَّه أي الفرائض والسُنن التي نصَّ عليها القرآن.

ومن المصطلحات العامّة لفظ الملّة الذي اعتبرته المقالة مصطلحًا قرآنيًا لم يكن له أسبقيّة دلاليّة في اللّغة العربيّة، وبناء على ذلك تُرجعه إلى جذرٍ سريانيٍّ، والتي تدلّ على معنى (لوغوس). وقد استخدم كمصطلحٍ تقنيٍّ للدلالة على الدّين.

وحسب المقالة، فإنّ لفظ الملّة ورد في القرآن 15 مرّة، منها 8 مرّات للتعبير عن عقيدة إبراهيم علیه السلام. ولفظ الملّة غير مختصٍّ بالإسلام والمسلمين، فهو يُطلق أيضًا على المشركين والكافرين كما في الآتيتين:«قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ».(سورة الأعراف، الآيتان 88 و 89) وكما في قوله تعالى على لسان يوسف علیه السلام: «إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ». (سورة يوسف، الآية 37).

واستعملت للدلالة على أديان الأنبياء السابقين كالآية 38 من سورة يوسف:«وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَابِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ».

كما استعملت للدلالة على اليهود والنصارى كما في قوله تعالى: «وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَين اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِي وَلَا نَصِيرٍ».(سورة البقرة، الآية (120).

ص: 512

وأرجعت المقالة الآيات الآتية في استخدامها لفظ ملّة إلى دين شعيب، والآيات هي كما أحيلت في نصّ المقالة(1):

- الآية 37 من سورة يوسف.

- الآية 13 من سورة إبراهيم.

- الآية 20 من سورة الكهف.

- الآية 7 من سورة ص.

ولنا كلام حول هذه الدّلالة في الفصل اللّاحق إن شاء الله.

وقارنت المقالة بين لفظ ملّة ولفظ أمّة من حيث صلاحيّة الدّلالة على غير جماعة المسلمين والمؤمنين فقد استخدمت لفظ الأمّة للدلالة على الجماعات غير المسلمة، بل أطلقت حتّى على الطيور والحيوانات واستشهدت بالآية: «وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلّا أمم أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيء ثمّ إلى ربّهم يحشرون». (سورة الأنعام، الآية 38).

المصطلح الأخير في هذه الدّائرة، هو مصطلح العبادة والذي اعتبر التّطبيق العمليّ للدين وتكرّرت صيغته الاسميّة (عبادة ) 9 مرّات في القرآن الكريم، أمّا الصّيغة الفعليّة لفعل عبد ومشتقّاته فعديدة جدًا. ويحتاج هذا الإحصاء إلى تدقيق وأرجعت المقالة معنى عبد إلى صنع وعمل وفعل، والذي اشتقّ منه معنی خدم ولفظ خادم.

وأشارت إلى أنّ كلمة عبادة حالها حال مفردة ملّة، ودين: تستعمل أيضًا للإشارة إلى عبادة الإله الواحد الحقّ، وكذلك للإشارة إلى عبادة ما ليس إلهًا حقٌّ، وتسوق أدلّةً من القرآن على ذلك:

«قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةٌ عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ

ص: 513


1- انظر: الموسوعة ج 4 ، ص 401 العمود (ب)

وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَبِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ». (سورة المائدة، الآية 60).

«قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (سورة البقرة، الآية 76).

«قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَاءٍ مِّن دِينِى فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». (سورة يونس، الآية 104).

وفي تلميحٍ يكشف الخلط بين العبادة والمعاملة جاء في ذيل البحث عن مفردة العبادة:«فالكلمة في الفكر الإسلامي المتأخّر، كما فسّرت، تشمل عبادة الإله الواحد والأركان الخمسة للإيمان الإسلامي، مع أنّ الفرائض الأخرى أحيانًا كالزّواج والختان موجودةٌ في كتب الشّريعة.!!!!

ثانيًا - المصطلحات المستحسنة من القرآن الكريم:

اعتبرت الباحثتان أنّ المصطلحات المستحسنة قرآنيًّا، والتي تنتمي للمجال الدّلالي لمفردة «الدين»، هي: إسلام، وحنفية، وشريعة.

1. لفظ الإسلام:حسب المقالة تتكرّر عبارة إسلام في القرآن الكريم 8 مرّات أبرزها:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا». (سورة آل عمران الآية 5).«إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» (سورة آل عمران الآية 19).

وتزعم المقالة أنّ معنى الإسلام غير واضحٍ في القرآن كما أن التّمييز بين الإسلام والإيمان في القرآن ليس سهلًا وتحاول الباحثتان الخروج من هذه المعضلة المدعاة بالرّجوع إلى المصادر الغربيّة التي لن تزيدها إلا حيرة أو الرّكون إلى ترجمة بعض المرويّات في المقام فلن تزيده إلا بلبلةً !!!! وفي الأخير تلجأ إلى نظريّة برافمن

ص: 514

(BRAVMAN) في كتابه الخلفيّة الرّوحيّة (Spiritual background والتي تفسّر الإسلام كمعنًى يسبق الإيمان: بتحدّي الموت في وجه الصّراع مع الاعداء بينما يدلّ الإيمان على الأمن والاحتماء من القدر والمصير !! (fate).

ولا تكتفي المقالة بهذه الفذلكات، بل تعتبر أنّ غموض اللّغة القرآنيّة هي سبب السّجالات اللاهوتيّة الحاصلة حول حكم غير المسلمين وخاصّة اليهود والمسيحيين وهل هم مؤمنون؟

وفي تحديدٍ غامض لمعنى الإسلام، تبنّت المقالة رأي Smith من أنّ عبادة الإسلام تدلّ على أمرين اثنين:

العلاقة الشَّخصيّة بين الإنسان والله.

المجتمع الذي يؤمن بهذه العلاقة.

ولم تستوعب الباحثتان كيف ينصّ القرآن من جهةٍ على إسلام الأنبياء السّابقين وبالخصوص إبراهيم علیه السلام ، ومن جهة أخرى يصرّ على أنّ طاعة الله لا تتحقّق إلا بطاعة الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم في كلّ ما أمر به القرآن من حلال، ونهى عنه من حرام كما في قوله تعالى:«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا». (سورة النساء، الآية 65).«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًام. (سورة الأحزاب، الآية 36).

وفي ذلك غفلة عن أبسط المفاهيم العقيديّة الإسلاميّة في التفريق بين الإسلام بالمعنى العام والإسلام بالمعنى الخاص (ولنا عودة في الفصل الآتي).

2. كلمة حنيف: تكرّرت هذه المفردة- حسب تتبّع الباحثتين - 12 مرّة، وقد استعملت للدلالة على المؤمن الموحّد المخلص، ومع وضوح دلالة لفظ حنيف في اللّغة العربية تنبري الباحثتان للتشكيك في هذه الدّلالة الواضحة بالعود إلى الجذور السريانيّة، والقول بأنّ الجذر السّرياني للفظ (حنف) لا يخلو من دلالاتٍ

ص: 515

وثنيةٍ !! وتعرض المقالة المناقشات الدّائرة بين المستشرقين الغربيين أنفسهم، حول ترجيح الجذر العربي (مال) كما هو حال روبين (Robin) والتّأكيد على معنى التّخلّي عن الدّين السائد والميل إلى الدّين الذي يريد اعتناقه، ومن يريد أن يبرز التعارض بين المعنى القرآني وبين الجذر السّرياني كما هو حال (Hawting).

وفي هذا السّياق الإشكاليّ، تورد المقالة مناقشة كرون (Crone) وكووك (Cook) للمصطلح الهاجريّة (Harism)، الذين يذهبان إلى أنّ الهاجرين هم مجموعة من اليهود العرب الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ هؤلاء الهاجرين استعاروا لفظ الحنيف من الأصل السّرياني، لكنّهم استعملوه للدلالة على التّمسّك بالتّوحيد الإبراهيميّ غير المتطوّر، كوسيلةٍ لخلق فضيلةٍ دينيّةٍ من وصمة الوثنيّة التي لوَثت ماضيهم(1).

وتنفي الباحثتان وجود إجماعٍ علميٍّ على دلالة لفظ حنيف على مجموعةٍ دينيّةٍ سابقةٍ للإسلام، وتحيل القارئ إلى ممثلين لهذين الاتّجاهين: المثبت والنافي (Rubin) في كتابه (eye) و (Hawting في كتابه (idea of idolatry).

وفي تأخيرٍ يبدو مقصودًا، تُرجئ المقالة رأيَ ايزتسو المعروف ببحوثه اللّغويّة الدّقيقة، والذي يرى أنّ عبارة حنيف تشمل ثلاث دلالاتٍ مهمّةٍ: وهي: الدّين الحقّ الرّاسخ في الفطرة الطبيعيّة في كلّ نفسٍ بشريّةٍ التي تدفعها للإيمان بإلهٍ واحدٍ (أوّلًا)، والتّسليم المطلق لهذا الإله الواحد (ثانيًا)، والنّقيض لعبادة الأصنام (ثالثا).

3. الشّريعة: رغم أهميّة هذا المصطلح وحضوره القويّ في الأدبيات المعاصرة، واختزانه دلالاتٍ كبيرةً في منظومة ما يُسمّى بالإسلام السّياسي، فإنّ المقالة لم تخصّص لهذه المفردة إلّا أسطرًا قليلةً في خاتمة هذه الفقرة التي تتحدّث عن المصطلحات المستحبّة في الإسلام واعتبرت أنّ إطلاق الشّريعة في الأدبيات الإسلاميّة على الفقه يوازي إطلاق الطريق على الدّين في المسيحيّة!!

ص: 516


1- انظر: موسوعة القرآن، م.س، ج 4 ص 402، العمود (ب).

وذكرت أنّ لفظ الشّريعة لم يذكر إلّا مرّةً واحدةً في القرآن الكريم: «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ». (سورة الجاثية، الآية 18) وفسّرت ذلك أنّ الله وضع محمد صلی الله علیه و آله و سلم على الطريق المفتوح والطريق الواضح والطريق الحق.

وبالعود إلى مداخل الموسوعة، لا نجد مدخلًا بعنوان (الشّريعة)، في الوقت الذي نجد ألفاظاً أقلّ أهمّيّة وأقلّ ارتباطًا بالقرآن الكريم كالآداب الإفريقيّة النّسويّة التّعرّي، الزّراعة الأعشاب الطّين....

ثالثًا - مصطلحات تدلّ على التّسامح القرآني أو الصّراع:

في هذه الفقرة تُحاول الباحثتان تسليط الضّوء على المصطلحات القرآنيّة، التي تعبّر عن التّسامح مع الآخرين من جهة، والألفاظ الدّالة على التّجاذب والصّراع من جهةٍ أخرى ففي الجهة الأولى تعرضان المفردتان: أهل الكتاب وأهل الذمّة، وفي الجهة المقابلة تسوقان لفظ الأحزاب، والشّيع.

1. أهل الكتاب وأهل الذمّة: اعتبرت المقالة عنوان «أهل الكتاب» أو «الذين أوتوا الكتاب» أكثر التّسميات عموميّةً وشموليّةً، فيندرج تحته اليهود والمسيحيون ولكن كذلك المجوس، والصابئة الذين يظهران في القرآن مرتبطين مع شعوب أهل الكتاب:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». (سورة الحج، الآية 22) فكلّ هذه الفئات تمثّل أقلياتٍ دينيةً في الدّولة الإسلاميّة. وترصد المقالة اطّراد مصطلح أهل الكتاب في القرآن تكرّر 30 مرّة، وجاء لفظ الإنجيل 12 مرّة.

وتذهب إلى أنّ لفظ أهل الكتاب، وبعد الحقبة القرآنيّة غدا مرادفًا لأهل الذمّة، وأهل الذمّة وهم الأشخاص المحميون الذين يعيشون في كنف الدّولة الإسلاميّة،مع أنّ لفظ الذّمّة فى القرآن لا يدلّ إلا على العهد والميثاق :«كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا

ص: 517

عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلَّا وَلَا ذِمَّةً» (سورة التوبة، الآية ).«لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَبِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (سورة التوبة، الآية 10).

وتشير إلى أنّ القرآن الكريم لا يحدّد من ينطبق عليه هذان المصطلحان بالضّبط (أهل الكتاب وأهل الذمّة). ولكن التّراث الإسلامي، طوّر دلالة هذين المصطلحين وقيودهما ليصبح لفظ الذمّيين يطلق على المجموعات غير الإسلاميّة التي تعيش في البلاد الإسلاميّة.

وتعتبر المقالة أنّ تسمية القرآن لهذه الجماعات الدّينيّة من أصحاب الكتب السّماويّة يوحي باحترام القرآن لهذه الكتب المقدّسة، كما يتضمّن تمييزاً للمجتمعات أو المجموعات التي تنتمي إلى كتابٍ سماويٍّ مدعى، عن غيرها من المجموعات.

بل يترقّى التّمايز لهؤلاء إلى الدّرجة التي يرفعهم القرآن إلى مرتبة الاستشارة في معاني الكتاب المنزل على الرّسول:

«فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» (سورة يونس الآية 94).

وتختم المقالة هذه الفقرة بأنّ القرآن، ورغم المكانة المميّزة التي يمنحها لأهل الكتاب، إلّا أنّه لا يفتأ يعبّر عنهم بالمختلفين في الكتاب كما هو الحال في خلافهم حول إبراهيم ويدعوهم إلى الخروج عن هذا الخلاف والالتقاء حول الكلمة السواء:

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (سورة آل عمران، الآيتان 64 و 65).

2. الأحزاب الشيع التّنوّع الاصطلاحي على مستوى الألفاظ القرآنية، للدلالة على الدّين يأخذ معاه حينما يتخطى الخطاب القرآنيّ المستويات المعهودة، فنجد فيه:

ص: 518

الألفاظ الدّالة على الالتزام الدّيني: أهل كتابي حنيف، مسلم، مؤمن...

الألفاظ الدّالة على السّلبيّة في الالتزام الدّيني: مشرك

الألفاظ المحايدة من جهة الالتزام وعدمه ذمّة ملّة...

الألفاظ الدّالة على الجماعات الدّينيّة: اليهود النّصارى المجوس، الصابئة.

ونراه يطرح مصطلحات تعبّر عن الانقسامات بين أتباع الدّين الواحد: كأحزاب وطائفة، وفريق وشيعة وزبر وطرق، وطريقة . ومن الغريب أن توصّف الباحثتان هذه الألفاظ بأنّها تدلّ على الانقسام العلمانيّ (secular divisions) في إسقاطٍ واضحٍ لمصطلح معاصر على الاستعمالات القرآنيّة ولنقف عند كلّ واحدةٍ من هذه المفردات ونتأمّل في شواهدها القرآنيّة كما جاءت في المقالة:

3. لفظ «حزب»:«وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُل حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (سورة الروم، الآيتان 31 و32). ولم تذكر أيّ شاهدٍ قرآنيٍّ آخر للفظ «حزب»، رغم ورود لفظ حزب مفردًا 10 مرّات، وجاء في صيغة الجمع 11 مرة!!!

4. لفظ:«فرق» واشتقاقاتها:بالإضافة إلى الشّاهد السّابق المشترك (سورة الروم الآية 32)، هناك شواهد أخرى ذكرت منها:

«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» (سورة الأنعام، 159).

«قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» (سورة طه، الآية 94).

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا صِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(سورة التوبة، الآية 107).

ص: 519

5. لفظ «شيع» واشتقاقاتها: وذكرت الشّواهد الآتية:

- الشّاهد السّابق (سورة الأنعام، الآية 159).

-«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَع الْأَوَّلِينَ» (سورة الحجر، الآية 10).

-«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلُّ مُبِينٌ» (سورة القصص الآية 15).

وهذا استقراءٌ ناقصٌ للفظ «شيع» واشتقاقاتها في القرآن الكريم.

7. لفظ«زبر»: والشاهد:«فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (سورة المؤمنون، الآية 53).

8 .لفظ «طرف»: والشاهد عليه:«لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَايِبِينَ» (سورة آل عمران الآية 127).

9. لفظ «طريقة» واشتقاقاتها:وساقت المقالة شاهدًا واحدًا:«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَابِقَ قِدَدًا» (سورة الجن الآية 11)، واكتفت بهذا الشّاهد مع وجود موارد أخرى ذكر فيها لفظ طريقة.

وأكّدت المقالة أنّ هذه الألفاظ تُرجمت عادةً بطرقٍ مختلفةٍ إلى ما يدلّ على الجماعة، والحزب، والفئة والطائفة محملّة بدلالات سلبيّة تؤشّر على الانقسام الدّيني.

وتضيف الباحثتان أنّ تهمة الانقسام الطّائفي كثيراً ما توجّه إلى بني إسرائيل، لكنّهما تعتبران الحديث عن المنافقين في صفوف المجتمع الإسلامي يوازي ذلك الانقسام عند اليهود!!!! وتحيلان القارئ على بحث (المنافقون والنفاق) لروبين في الموسوعة نفسها. وغدا هذا الاتّهام بالانقسام أحد موضوعات الجدل اللّاهوتيّ بين المسلمين والمسيحيين أيضًا.

ص: 520

وکاستخلاصٍ لهذا الرّصد للمفردات المتعلّقة بالدّين في القرآن: تسجّل الباحثتان النّتائج الآتية:

أوّلًا: إنّ مفهوم الدِّين في القرآن مفهومٌ معقّدٌ.

ثانيًا: لا يرسم القرآن خريطةً للفهم الغربي المعاصر للتعددية الدينية.

ثالثًا: يمثّل الإسلام في المنظور القرآنيّ أكثر من إعلان الإيمان، بل يتطلّب أسلوب حياة (كما تقتضيه الشّريعة ونظام العبادات) في المستويين الفردي والجماعي. وهذا ما يجعل الالتزام الدّيني هو أقرب إلى المفهوم القرآنيّ للأمّة، من المفهوم الفقهي أو القانوني أو الطقوسي الذي تألّفه أكثر المجتمعات الأوروبيّة والأمريكيّة

المعاصرة.

رابعًا: القرآن مع إقراره بتعدّد الأديان، فهو يربط هذا التّعدّد بالإرادة الإلهيّة وأنّه لو شاء الله لجعل النّاس أمّةً واحدةً.«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجُمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ» سورة الشورى، الآيتان 7 و 8).

المبحث الثاني: المجتمعات الدّينيّة في القرآن:

في القرآن أسماءٌ عديدةٌ أطلقت على جماعاتٍ ومجتمعاتٍ دينيّةٍ، وهذه التّسميات لا تعبّر عن المفاهيم التّجريديّة، وإنّما تُشير إلى النّاس، والبنى الماديّة والاجتماعيّة لهذه الفئات، فمثلا نقرأ في الآية «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُور يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَبِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (سورة المائدة، الآية 44).

كما تشير الآيات إلى الرّهبان والقسّيسين، وعلى مستوى المؤسّسات تتحدّث الآيات عن الأديرة والصّوامع والصّلوات والبيع والمساجد...

ص: 521

وفي السّياق تشير الباحثتان إلى أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن النّصارى، ولكنّه لايستخدم مفردةً مسيحيّةً :«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِبِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا يَحْزَنُونَ»، (سورة البقرة، الآية 62).كما تشيران إلى أنّ القرآن لا يربط الإسلام بالدِّين دائما وتستشهدان بالآيات:

«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»، (سورة آل ،عمران الآية 19).

«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (سورة آل عمران الآية (85).

«الْيَوْمَ يَبْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ( سورة المائدة، الآية3).

مع أنّ النّصوص القرآنيّة التي تتحدّث عن الإسلام لا تخلو من الإشارة إلى العلاقة بين الله والإنسان:

- «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»، (سورة الصف، الآية7)

«يَحْلِفُونَ باللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلي وَلَا نَصِير» (سورة التوبة، الآية 74).

«يمنّون عليكم أم أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين»، (سورة الحجرات، الآية 17).

ص: 522

وفي سياقاتٍ مشوّشةٍ، ومبعثرةٍ، ومضطربةٍ، تشير الباحثتان إلى جملةٍ من النّقاط:

ظهور مفهوم الإسلام بالمعنى العام المتميّز عن الإسلام بالمعنى الخاص الذي تعرّض لتغيّراتٍ دقيقةٍ في أوضاعٍ مختلفةٍ.

ليس من المستغرب أن نعجز عن تحديد المؤشّرات المرجعيّة للمسيحيّة واليهوديّة؛ لأنّ اليهوديّة والمسيحيّة في العصور القديمة المتأخّرة لم تكونا محدّدتين.

يطّرد ذكر بعض الجماعات الدّينيّة كثيرًا في القرآن كاليهود والنّصارى والمشركين بينما لا تذكر بعض الجماعات إلّا نادرًا: كالصابئة (سورة البقرة، الآية 26) و (سورة المائدة الآية 69) و (سورة الحج، الآية 17)، والمجوس (سورة الحج، الآية (17).

الإشارات القرآنيّة لبعض المجتمعات غامضةً، ولا نعرف إذا كان المفهوم القرآني يشير إلى جماعةٍ دينيّةٍ قائمة فعلًا ومعاصرة للنّصّ، أو تتحدّث عن جماعةٍ سابقةٍ للإسلام، أو إلى مجرّد مفهومٍ لاهوتيٍّ غامضٍ، كحنيف (the enigmatic hanif).(1)

التّمايز الواضح بين المجتمع المسلم الجديد الذي استجاب للنّبيّ محمد ورسالته وبين سائر الجماعات الدّينيّة الأخرى، وتمايزها هي الأخرى بعضها عن بعض. ورغم ذلك فإنّ طبيعة هذه المجتمعات غير واضحةٍ.

في القرآن أحكامٌ تتعلّق بهذه المجتمعات الدّينيّة، وخاصة باليهود والنّصارى.

في القرآن نجد عددًا كبيرًا من الشّخصيات والمفاهيم المألوفة من اليهود والمسيحيين، وهذا بنظر المقالة يعقّد عمليّة التّمايز في البيئة القرآنيّة بين هذه المجتمعات.

وكمؤيّدٍ لهذا التّحليل تسوق المقالة مثالا: اسمته انتشار الشّهادات القرآنيّة للمؤمنين، حين تمتزج صفة الإيمان مع صفة الإسلام، ففي الآية 35 من سورة الأحزاب (إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات...) يُذكر المؤمنون والمسلمون وترى

ص: 523


1- انظر نص الموسوعة باللغة الإنجليزية، ج 4 ، ص 404 العمود (ب)

المؤلّفتان أنّه ليس واضحًا إن كانت الصّفتان تتحدّثان عن فئةٍ واحدةٍ أم عن فئتين مختلفتين!

وانطلاقًا من هذه الإشارة تحيلنا المقالة إلى آراء بعض المستشرقين حول الموضوع الأخير، والعلاقة بين صفة الإسلام والإيمان وتساؤلاتهم حول إمكانيّة اعتبار القرآن اليهودَ والنّصارى من المؤمنين. فتنقل عن اللاهوتيّ المسيحي ثاودورس أبو قرة ت 214ھ / م 814م: «فهل يمكن أن يعتبر اليهود والنّصارى وعلى الخصوص الذين لا يعادون الإسلام مؤمنين»؟

وتصرّح الباحثان في نهاية هذه الفقرة أنّ تنوّع المصطلحات الدّالّة على الجماعات الدّينيّة وخاصّة اليهود والنّصارى والمسلمين تؤكّد التّمييز القرآنيّ فيما بينها وتوضّحان أنّ تاريخ التّفاسير عقّد أكثر فأكثر تحديد المجموعات والموقف منها، وطبيعة السّلوك الذي يجب على المسلمين سلوكه في علاقتهم بهذه المجموعات

المعاصرة.

وقسمّت المقالة المجتمعات الدّينيّة كما تحدّث عنها القرآن إلى ثلاث فئاتٍ:

- اليهود والنصارى.

- المجوس والصابئة والحنفاء.

- المشركون والوثنيون.

1. اليهود والنصارى: عن حديث القرآن ومعرفته باليهود والنّصارى تعرض المقالة مجموعةً من الأفكار المضطربة ،والمتداخلة وسنُحاول عرضها في شكل نقاطٍ تيسيرًا لفهمها، ففي الغالب لا نجد رابطًا منطقيًا قويًا بين ملاحظات الكاتبيتين واستنتاجاتهما حول الآيات القرآنيّة المعنيّة بالموضوع:

- ينطلق النّصّ من التذكير بما مرّ بنا في مبحث المصطلحات القرآنيّة، واستخدام القرآن عبارة أهل الكتاب وبني إسرائيل للدلالة على اليهود والنصارى، وإن كانت دلالة بني إسرائيل على المسيحيين أقل.

ص: 524

- استخدم القرآن لفظ اليهود في صيغة الجمع، ولم يستخدمه في صيغة المفرد إلا في سياق الجدل مع اليهود على نفي يهودية إبراهيم: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، (سورة آل عمران الآية 67).

ويُذكر لفظ اليهود في صيغة الجمع محمّلا عادةً بدلالاتٍ سلبيةٍ :

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». (سورة البقرة، الآية 113).

«لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِنْتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَبِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِي وَلَا نَصِيرٍ». (سورة البقرة، الآية (120).

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ». (سورة المائدة، المائدة 18).

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ». (سورة المائدة، الآية 51).

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». (سورة المائدة، الآية 64).

«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِيسِينَ يَيُطْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا

ص: 525

يَسْتَكْبِرُونَم. (سورة المائدة، الآية 82).

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِتُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ». (سورة التوبة، الآية 30).

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِبِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ».(سورة الحج، الآية17).

تكتفي الكاتبتان بهذه الآيات عن اليهود، وتُضيفان أنّ الشّعائر وأصول عقائد اليهود الذين كانوا يعيشون في بيئة الرّسالة الإسلاميّة لم تكن موثّقةً، إلّا أنّه لا جدال في تواجد المجتمعات اليهوديّة في الجزيرة العربيّة في القرن السّابع الميلادي. وهذا تؤكّده إلى جانب نصوص القرآن، الحديث والسيرة وتذكّرنا المقالة بتحديد القرآن للشخصيّة التي شجّعت اليهود على صنع العجل من الذّهب (السامري): انظر الآيات (85-90) من سورة طه)، وتسوق احتمال إلى أنّ هذه التّسمية قد تكون إشارةً إلى نسبته إلى طائفة السّامريين.

وأمّا عبارة النّصارى وردت مرّات كثيرة بصيغة الجمع، لكنّها وردت مرّة واحدةً بصيغة المفرد (نصرانيًا) في سياق نفي يهوديّة إبراهيم علیه السلام ومسيحيته: انظر الآية السابقة الواردة في فقرة اليهود (سورة آل عمران الآية 67).

- في محاولة لتمييز الموقف القرآني من النّصرانيّة عن الموقف من اليهوديّة تذهب الكاتبتان إلى أنّ الإدانة للمسيحيّة ليست كالإدانة المتكرّرة لليهود، بل إنّ القرآن في بعض الآيات يمدحهم :«وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى». (سورة المائدة، الآية 82).

- وفي سياق الاستشهاد القرآنيّ على ذلك، تسوق المقالة الآيتين 37 و 38 من سورة النور، وهما أجنبيّتان عن المقام:«رِجَالُ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةَ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارَة لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ

ص: 526

أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وربما كان الأولى الاستشهاد بقوله تعالى وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ».(سورة المائدة الآية 83).

- إن القرآن رغم اطراد إشاراته للنّصارى لا نجد فيه وضوحًا فيما يتحدّث به عن طبيعة المسيحيّة العربيّة، التي كانت سائدةً في الجزيرة العربيّة في القرن السّابع الميلادي وتُحيلنا المقالة هنا إلى بعض الدّراسات الغربيّة حول تاريخ المسيحيّة في الجزيرة العربيّة من ذلك رأي هويلاند Hoyland) الذي يؤكّد أنّ:

in the fourth to sixth centuries Christianity Made major inroads into Arabia...it was particularly the inhabitant of north Arabia who were won over to Christianity in large numbers.(1)

«المسيحيّة التي سادت من القرن الرّابع إلى القرن السّادس قامت بغزواتٍ کبری في الجزيرة العربيّة... وكان سكّان شمال الجزيرة العربيّة بشكلٍ خاصّ قد اعتنقوا المسيحيّة بشكلٍ كبيرٍ».

وتشكو الكاتبتان من قلّة المصادر عن التّاريخ الدّيني للجزيرة العربيّة قبيل الإسلام، وترى أنّ الشّواهد عن هذا التّاريخ قليلةً، باستثناء الحوليّات الإسلاميّة التي كُتبت في بدايات القرن الثاني أو الثالث للهجرة.

وفي محاولةٍ لسدّ هذا النقص المزعوم، تحاول المقالة سرد تاريخٍ موجزٍ عن الوجود اليهوديّ والمسيحيّ في الجزيرة العربيّة. فتقدّم نبذةً مختزلةً عن هذا الوجود اليهودي والمسيحي معتمدةً على مصادر غربيّةٍ، مستشهدةً بنصوصٍ إسلاميّةٍ أحيانًا لتدعيم مقولات هذه المصادر الغربيّة، وأهم الأفكار التي ساقتها حول هذا التّاريخ، هي:

ص: 527


1- الموسوعة، م.س، ج 4 ، ص 405 ، العمود ( ب )

الوجود اليهودي ترسّخ في الجزيرة العربية منذ القرن الأوّل للميلاد، وفي القرن السادس تأسّست مملكة، حمير التي ازدهرت لفترةٍ قصيرةٍ، وهنا تُحيلنا المقالة إلى Hoyland والمستشرق اليهودي ميخائيل ليكر Lecker، كما أنّ بعض القبائل اليهوديّة النّاطقة بالعربيّة كانت موجودةً حول المدينة ومحيطها في حياة النّبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وتُشير الباحثتان إلى الدّور البارز الذي لعبته هذه القبائل في «الصّراع مع محمد من أجل تأسيس كيانٍ سياسيٍّ في المدينة بعد هجرته من مكّة، وقد ارتبط عددٌ من الآيات القرآنيّة تقليديًّا بالمراحل المختلفة لهذا الصّراع اليهودي الإسلامي».

s "These Jewish tribes figure prominentlyin Muhammad struggle for the establishment of a political entity in medina after his emigration (hijra) from Mecca. And various quranic verses are traditionally associated with the different stages of this early Muslim- Jewish conflict",(1)

وتورد الآية 15 من سوة المائدة والآيات من 2 إلى 15 من سورة الحشر، التي لها صلةٌ بإخراج قبيلة بني نضير من المدينة، والآية 26 من سورة الأحزاب وقتال بني قريظة ولا تغفل المقالة عن الحديث عن إبادة ذكور بني قريظة الذين شاركوا في الحرب على المسلمين..

ب- الوجود المسيحي في جنوب الجزيرة العربية له شواهدٌ تاريخيّةٌ كثيرةٌ، وإن كان أقل تمركزًا وتماسكًا من الوجود اليهودي.

وتؤكّد المقالة أنّ الطبيعة الدّقيقة للمعتقدات والطّقوس المسيحيّة غير معروفةٍ. ومن هنا اختلفت الدّراسات حول هذا الموضوع وأشارت الباحثتان إلى وجهتي نظر حول طبيعة انتشار المسيحيّة ومجالها في الجزيرة العربية قبل انتشار الإسلام.

ص: 528


1- نص المقالة، ج 4 ، ص 406 ، العمود ( أ)

ولكنّهما أكّدتا أنّ المسيحيين الشّرقيين كانوا منقسمين إلى ثلاث مجموعاتٍ؛ نتيجة المناظرات الكرستولوجيّة ( طبيعة يسوع وعلاقة الناسوت باللّاهوت) فی منتصف القرن الخامس الميلادي.

وهذه المجموعات الثلاث هي:

المجموعة الأولى: الذين التزموا بقرارات مجمع خلق دونيا (451م): يقولون بأنّ المسيح شخصٌ واحدٌ ذو طبيعتين بشريّة وإلهيّة.

مجموعتان غير خلق دونيين لم يلتزموا بمقرّرات مجمّع خلق دونيا وهم النسطوريون: القائلون بالطبيعة الواحدة.

وهذه المجموعات الثلاث كان لها وجودٌ في جنوب الجزيرة العربيّة قبل بعثة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم. ولكنّ القائلين بالطّبيعة الواحدة كانوا المهيمنين سياسيًّا بفضل علاقتهم مع الحبشة، وتذكر كشاهدٍ على ذلك قصّة نجران وشهدائها الذين تحدّث عنهم القرآن باختصار (أصحاب الأخدود)، وفي فقرة الوقائع الدّالة على التّفاعل بين الأديان ستسوق المقالة شواهد أخرى.

استخدم القرآن لفظ «أهل الكتاب» ولفظ بني إسرائيل للدّلالة على المسيحيين وتسجّل المقالة أنّ القرآن لم يستخدم التّرجمة الحرفيّة للعبارة اليونانيّة Christian أي مسيحيّة بالعربيّة، بل استخدم مصطلح ،نصارى وترجّح أنّ هذه التّسمية نسبة إلى المسيح النّاصري، وترى الباحثتان أنّ هذه العبارة التي تفرّد بها القرآن، والتّوصيف القرآنيّ لمعتقدات النّصارى جعلت البعض يتأمّل في الطبيعة الحقيقيّة للمسيحيين الذين كانوا متواجدين في البيئة القرآنيّة وهل كانوا نصرانيّة يهوديّة ؟؟!!!

د- بالإضافة إلى الدّليل الخارجي كما تزعم المقالة على نفي وجود النّصارى اليهود في البيئة القرآنيّة، فإنّه يجب التأمّل في المقصد الجدلي للقرآن في الآيات التي تتحدّث عن الموحّدين الآخرين، حيث إنّ هذه الخطابات مع افتراضها علم المخاطبين بالفئات التي تتحدّث عنها، فسيكون لها حسب ادّعاء الكاتبتين، حرية

ص: 529

المبالغة والتّحريف !!!! وحتى إطلاق الألقاب من أجل إقناع مخاطبيها !!!! وفي هذا السّياق تأتي الإشارات القرآنيّة للتشريعات المخالفة لليهود والنّصارى تغيير القبلة محدّدات الصوم الخاصّة... والتي جاءت بعد أن اتّضح أنّ اليهود والنّصارى يرفضون القبول بنبوّة النّبي محمد كامتدادٍ لنبوّة إبراهيم وموسى وعيسى !!! وكإجراءاتٍ ملموسةٍ لإبعاد أتباع القرآن عن أهل الكتاب!!

وتُحيلنا المقالة هنا إلى المستشرقة Marion Holmes Katz في كتابها Body of text والذي عالجت فيه المنظومة التّشريعيّة الطقوسيّة للإسلام المبكر خاصّة الطّهارة والوضوء، للوقوف على ما أسمته الباحثتان الحجج التّاريخيّة على الاختلاط المسموح أو الانفصال المفروض على المجتمعات!!!

ه- بناء على ما سبق تقرّر المقالة أنّه لا يمكن اعتبار الإشارات المرجعيّة المختصرة لعقائد اليهود والنّصارى في القرآن شهادات واضحةً على عقائد وأعمال معيّنةٍ لهذه .المجتمعات. ولكن بالمقابل هما تعتبران أنّ السّجالات التي ينقلها القرآن وحججهم حول إبراهيم ،والسبت يمكن أن تكون عاكسةً فعلا للنّزاع في بيئة محمد !!

و- في نقطةٍ أخيرةٍ تُشير المقالة إلى أدلّةٍ من الحديث والسّيرة على احتكاك المجتمع الإسلامي الأوّل مع اليهود والنّصارى، ففي هذا المخزون الرّوائي، وفي سرديات السّيرة احتجاجاتٌ على نبوّة محمد نلمس فيها ملامح علم النبوّة التّلمودي المسيحيّ وكما نرصد فيها مناقشاتٍ واستدلالاتٍ تستند إلى نصوصٍ مسيحيّةٍ أو يهوديّةٍ: (الفارقليط النبي الأمي، أحمد...).

2. المجوس والصابئة والحنفاء: تستند الكاتبتان إلى الآية:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ». (سورة الحج، الآية 17)؛ لتستدلّا على أنّ المجوس وهم في نظرهما الزّردشتيين عمومًا، ألحقوا بلائحة أهل الكتاب في المرحلة المدينيّة المتأخّرة.

ص: 530

وشكّلت هذه النّسبة (نسبة المجوس إلى أهل الكتاب) موضوع جدلٍ كبيرٍ في الفقه الإسلامي، وإن عوملوا تقليديًّا كأهل ذمّة (أقليّة دينيّة محميّة) في الدّول الإسلاميّة المتعاقبة.

وتضيف المقالة أنّ المجوس في الأصل هم طبقةً كهنوتيّةٌ إيرانيّةٌ قديمةٌ كانت تربطها صلةٌ وثيقةٌ بالنّخبة الساسانيّة الحاكمة، ولكن لفظ مجوس في القرآن يدلّ على الزّردشتين والدّيانة الزّرادشتية المعروفة باحتفالات النّار، وقرابين الحيوانات والتلاوات الطقسيّة.

وفي عباراتٍ مختصرةٍ جدًّا عن تاريخ المجوسية، تُشير المقالة إلى التّداعيات التّاريخيّة التي شهدتها هذه الدّيانة مع احتكاكها بالدّيانات الأخرى، وكيف ساهمت المانويّة والبوذيّة وكذلك المسيحيّة في إضعاف الدّيانة الزّردشتيّة ومكانتها في المناطق الفارسيّة إبّان الحكم السّاساني.

أمّا تأثير الإسلام فبدأ منذ حياة الرّسول صلی الله علیه و آله و سلم، حيث اعتنق إبّان حياة النّبي أحفاد الجنود الفرس الإسلام في اليمن وفي العام 30 ه_/ 651م سقطت فارس السّاسانيّة بيد المسلمين ومنح المجوس وضع أهل الذّمّة.

وفي طيّات هذه القراءة السّريعة للمجوسيّة في القرآن تغمز المقالة من قناة المفسّرين وتتّهمهم بالتشدّد في تكريس التّمايز بين هذه الفئات، وكأنّها تريد أن تقول إنّ حركة المفسّرين وتوجّهاتهم في التّفريق بين هذه المجموعات يتعاكس مع منحى القرآن في الجمع والتّوفيق بينها.

وكشاهدٍ على ذلك تسوق رأي الطبري (ت 310 ھ / 932م) واستشهاده بقتادة باعتبار المجوس عبدة الشَّمس والقمر والنار.

أما لفظ الصابئة فقد ورد في ثلاث آيات:

-«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِبِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (سورة البقرة، الآية 62).

ص: 531

- «إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِثُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». (سورة المائدة، الآية 69﴾.

-«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِبِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» سورة الحج، الآية 17).

ويلاحظ اقتران عبارة الصابئة في السّياق القرآني دائما بالذين آمنوا، (هم المسلمون الذين آمنوا بالقرآن عند المفسّرين)، وجاءت مرّة واحدة مقترنةً مع المجوس وترى الباحثتان أنّ المراد من الصّابئة في القرآن غير واضحٍ، ولذا اختلفت القراءات في تحديد المراد، وتحيلنا على الموسوعة الإسلاميّة (EI) والآراء المختلفة ل (DeBlois) و (Bosworth) حول الصّابئ والصابئة: ومن الأقوال في تحديد هويّتهم : أنّهم المندائيون أو الكوشطيون (طائفة مسيحيّة يهوديّة سكنت جنوب العراق) أو المانويون وفي كلّ الأحوال فقد اعتبروا مجموعةً منفصلةً عن اليهود والنّصارى والمشركين والمجوس (الزردشتيين). ويبدو أنّهم كانوا ظاهرين ومعروفين بما يكفي لذكرهم في القرآن.

وتنبّه المقالة من الخلط بين الصابئة والسبئيين أي سكان سبأ، وعدم الخلط بين صابئة القرآن وبين مشركي حرّان الذين تبنّوا مصطلح الصابئة للتدليل على أنفسهم في القرن الثالث للهجرة / التاسع ميلادي، في محاولة منهم للحصول على وضع الذميين في الدولة الإسلاميّة.

أمّا اللفظ الأخير: الحنفاء، فقد سبقت الإشارة إلى أنّ النّبي إبراهيم علیه السلام هو المثال الرئيس للحنيف أو المؤمن الموحّد الحقيقي كما تعبّر صاحبتا المقالة، وما كان يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وتلفت الباحثتان الانتباه إلى أنّ لفظ الحنفاء وحنيف لم يأتِ في القرآن في سياق تعداد المجموعات الدّينية، واعتبر مصطلح حنيف مختصًّا بالعرب الموحّدين الذين خالفوا ديانات آبائهم الشركيّة وإن كان المشركون العرب الذين لم يأخذوا إلّا بعض الطقوس من دينات آبائهم قد استعملوا المصطلح. وتُشير المصادر الإسلامية إلى وجود ديانةٍ أو طائفةٍ على ملّة إبراهيم في الجزيرة قبل

ص: 532

الإسلام ويبدو أنّ هناك تواجدًا لهؤلاء الإبراهميين في البيئة المحمّدية كورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة زوجة النّبي. وتستشهد المقالة بسيرة بن إسحاق (ت 150هم 767م) (الترجمة الإنجليزية) لتنقل وصفًا للأحناف وأنّهم المائلون عن عبادة الأصنام التي عكف عليها آباؤهم واتبعوا دين إبراهيم، ولكّنهم لم يكونوا مسلمين بالضرورة. «وبقطع النّظر عن الأحناف قبل الإسلام، فإنّ المطابقة القرآنيّة بين الحنفاء والمؤمنين الحقيقين وليس بالضرورة المسلمين استمرّت على مرّ التّاريخ الإسلامي فيما بعد، رغم أنّهم غير اليهود والنّصارى والصّابئة والمجوس، فإنّ القرآن يشير إلى أنّ الحنيف يمكن أن يتطابق مع المسلم، انظر الآية 67 من سورة آل عمران:«مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ

مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

ومع ذلك فقد زعم جماعةٌ ممّن يسمون أنفسهم صابئة في مرحلة ما بعد القرآن أنّهم حنفاء.

3. المشركون والوثنيون: في هذه الفقرة التي يفترض حسب عنوانها أنّها تخصّ المشركين والوثنيين وأنّها تبحث في الموقف القرآني من هؤلاء، ومعالجة الآيات لشؤون هذه الفئة تجنح المقالة إلى خلط الموضوعات كالعادة وتشبيكها والاستطراد في قضايا أخرى: ولذا طغى موضوع أهل الكتاب وهل هم من أقسام الكفار أم لا؟ مع أنّ المقالة كما رأينا خصّصت فقرة لأهل الكتاب.

يبدأ هذا المقطع بالإشارة إلى التّسمية القرآنيّة للوثنيين وعبدة الأصنام في مكّة والذين لم يكونوا يهودًا ولا نصارى بل مشركين «فالمشركون ومهما كان توجّههم الدّيني هم المكيّون الذين لم يعترفوا بمحمد نبيًّا مرسلًا من قبل الله أو يقبلوا دعوته لعبادة الإله الواحد»(1).

وتفسّر المقالة موقف المشركين هذا الرّافض لرسالة النّبي محمّد بأنّه يتأرجح بين رغبتهم في السّيطرة على مركز الشّرك في مكّة، وبين حماية موقعهم الاجتماعي الذي تحقّق بفضل تجارة القوافل.

ص: 533


1- موسوعة القرآن ليدن م. س ج 4 ص 409 ، العمود (أ)

وتورد المقالة إحدى القراءات لنشوء الإسلام، والتي تُؤكّد على البُعد الاقتصادي: فالنّبي محمد حسب هذه القراءة وجّه رسالةً إلى المهمّشين في مجتمعٍ فاحش الثّراء وشديد التّفاوت بين أغنيائه وفقرائه.

وهذا كان داعيًا للمكّيين من الخشية من المكوّن الاجتماعي لرسالة النّبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهنا تطلق عليه المقالة المكوّن الاجتماعي الأصولي radical social component (1) أن يضعف سيطرتهم على اقتصاد البلاد، وأنّ التخلّص من الأصنام من شأنه أن يعطّل الحجّ الذي كان يدرّ على المكّيين أرباحًا طائلةً.

وتدّعي المقالة أنّ النبي محمد في الأخير اعتمد نفس الآليّة التي أسّسها التّجّار المكّيون لتسهيل نشر الإسلام معتمدةً على رأي كلّ من المستشرقين: Watt في كتابه (محمد في مكة) والمستشرق Crone في مقالته بهذه الموسوعة (التجارة في مكة).

وفي محاولةٍ لتعميق الشّرخ بين القرآن والمفسّرين تتساءل الكاتبتان عن صحّة تصنيف اليهود والنّصارى كمشركين؛ حيث تعترفان بأنّ المفسّرين المتأخّرين صنّفوهم كذلك، رغم وضعهم كأهل كتاب بل هذه التّسمية قد تعود إلى مراحل مبكرةٍ منذ القرن الثاني للهجرة فتستشهد على ذلك بيوحنّا الدّمشقي (ت 135ه- /753م ) .

فالقرآن بحسب المقالة رغم تمييزه بين أهل الكتاب، ومن لا كتاب لهم من المشركين والوثنيين العرب، ورغم تمايز بين الموقف القرآني من اليهود والنصارى وموقف المفسّرين المتأخّرين، فإنّ الذين يرفضون النّبي محمدا والقرآن سواء كانوا مشركين أو أهل كتاب يصنّفون في خانة الكفر والجحود، وتسوق الآيات التي يستشهد بها في هذا السّياق:

«مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ». (سورة البقرة الآية 105).

ص: 534


1- موسوعة القرآن ليدن ،م. س، ج4، ص 409، العمزد (أ)

«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ بَيّنَةُ». (سورة البينة، الآية 1).

«اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهَا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ». (سورة التوبة، الآية 31).

وفي الأخير تستخلص صاحبتا المقالة أنّه لا يوجد موقفًا واحدًا في القرآن في طرق التّعامل مع غير المسلمين أو تصنيفهم، وكذلك الحال في حياة المسلمين عبر الزمن خاصّة في التّاريخ الإسلامي المتأخّر.

وتضيفان أنّ المفاهيم القرآنيّة ليست وحدها هي التي حدّدت موقف المسلمين من معاملة غير المسلمين بل أثّر في ذلك أيضًا المخاوف العمليّة والعقائديّة (pr agmatic,aswell,asdoctrinal,concerns affected the treatment of those who were not muslims)(1) وتستدل الكاتبتان على ذلك: أنّه ورغم الدّلالة التّقليديّة لآيات السّيف والتي تحضّ المشركين على الإسلام وتدعو إلى التّسامح مع

أهل الكتاب:

«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». (سورة التوبة، الآية 5).

«قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ». (سورة التوبة، الآية 29).

فإنّه قد سمح للهندوس الذين هم ليسوا من أهل الكتاب بممارسة طقوسهم ما داموا يدفعون الجزية.

ص: 535


1- موسوعة القرآن، م.س، ج 4، ص 409، العمود (ب)
المبحث الثالث: المؤشّرات القرآنية على التفاعل بين الأديان

في هذا المقطع من المقالة تبحث الكاتبتان عن المؤشّرات القرآنيّة على التّفاعل بين الأديان وعلاقة المسلمين بغير المسلمين منذ المراحل المبكرة للدعوة وبالفعل أكّدت الباحثتان على هذه المسيرة التّفاعليّة للإسلام مع الدّيانات الأخرى في ،محیطه، ومنحت الأولويّة للتّفاعل الإسلامي المسيحي، ومن هنا يتنزّل الحديث عن التّفاعل الذي حصل مبكرًا مع المسيحيّة، وخصوصًا مع المسيحيين القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح والاستشهاد بالإشارة القرآنيّة إلى بيزنطة: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» (سورة الروم، الآيتان 2و3)، وإلى مدينتين مسيحيتين محدّدتين: الحبشة ونجران وترى الباحثتان أنّ المصادر الإسلاميّة التّقليديّة تقول بوجود تبادلٍ سياسيٍّ ولاهوتيٍّ بين المدينتين، من جهة وبين النّبي ،محمد والمجتمع الإسلامي، من جهةٍ ثانيةٍ.

ومن وقائع اللّقاء مع المسيحيّة: ما تزعمه المصادر الإسلاميّة المتأخّرة (بلغة الباحثتين) مع الرّهبان المسيحيين الذين أقرّوا بوجود علامات النّبوّة على محمد وعوض التّركيز على طبيعة هذا اللّقاء وأبعاده، نرى المقالة تجنح للحديث عن طائفة هؤلاء الرهبان: النسطوريين، ادعاء أنّ طائفة المبلغ عن الوحي المقدّس (أي الراهب) تختلف باختلاف الجماعة التي ترتبط بها الرواية !!

«يرجّح أن روايات النسطوري سرجيس بحيرا قد راجت في بيئةٍ يعقوبيّةٍ سوريّةٍ: اي القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح»(1).

وإذا كانت الشّخصيّة المحوريّة للقاء الإسلامي المسيحي قد حدّدت ب- (بحيرا الراهب)، فهناك شخصيّة غامضة مدّعاة للقاء الإسلامي اليهودي : ووجود روايات لأحد النّسّاخ اليهود الذين كتبوا عن النّبي، والذي علّم محمد العقيدة اليهودية أو أثبت نبوّة محمد.!!!

ص: 536


1- موسوعة القرآن ليدن ،م. س، ص 410 ، العمود (ب) ص410،

وفي سياق هذه الوقائع القائمة على تردّدات غريبةٍ، تدّعي الكاتبتان أنّه تبيّن أنّ أفرادًا من أسرة محمد الأولى (خديجة) كانوا مسيحيين أو على الأقل موحّدين على ملّة إبراهيم وأنّهم أكّدوا صحّة نبوّته.

من الوقائع التي تسوقها المقالة، اللّقاءات المباشرة بين المجتمع الإسلامي النّاشئ ،والنّصارى والجدال حول طبيعة المسيح، وفي هذا المجال تورد مرویّات تستحضر آیاتٍ قرآنيّةً تدعم هذه اللّقاءات.

ومن الوقائع أيضًا: الهجرة إلى الحبشة حيث شجّع النّبي محمد بعض أتباعه إلى اللّجوء إليها (سنة 615م) نتيجة الاضطهاد الذي لاقوه، وتنقل الباحثتان اعتمادًا على ترجمة سيرة ابن إسحاق أنّ النّجاشي ملك الحبشة آوى هذه الفئة من المسلمين بعد أن استمع إلى قول المسلمين في عيسى بن مريم واستمع إلى الآيات من 16 إلى 21 من سورة مريم.

من الوقائع أيضًا: اللقاء الإسلامي المبكر مع وفد من مسيحي نجران (مدينة الشهداء)، وتؤكد المقالة أن القرآن لم يسمّ المدينة وإنّما أشار إليها في بعض الآيات:

-«وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةٌ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ». (سورة سبأ، الآية (18)، وفي ذلك نظر حتى في التفاسير التي اعتمدت عليها كتفسير الطبري.

-«إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ». (سورة البروج، الآية 10).

وتنقل الكاتبتان بعباراتٍ غائمةٍ قصّة ،المباهلة حيث تحدّى الرّسول هؤلاء ودعاهم إلى المباهلة؛ لتمييز صاحب القول الصّحيح في النّبي عيسى من صاحب القول الكاذب، وكيف انسحب وفد نجران وتجنّبوا المباهلة دون توضيح أسباب هذا التّراجع، ودون تشخيص وفد النّبي ومن معه ووفد النّصارى، وفي هذا الإعراض عن تفاصيل الواقعة دلالاتٌ يمكن أن ترتبط بمركزيّة الفهم الرّسمي للإسلام السّنّي !!

ص: 537

ومقابل هذا الإعراض عن تفاصيل واقعة المباهلة، باعتبار أنّها من الوقائع التي تشهد لهذا اللقاء الإسلامي المسيحي نجد الباحثتان تخوضان في تفاصيل المعتقد المسيحي لوفد نجران والخلفيّة النسطورية التي كانت سائدةً في تلك المنطقة والجذور التّاريخية لهذا الانتشار ؟؟؟!!!!

1. العلاقة مع اليهود: للعلاقة مع اليهود رغم قصرها (تمركزت في المراحل المكيّة المتأخّرة والمدنيّة المبكرة) خصوصيّةٌ حسب كاتبتي المقالة، فقد احتدم الصّدام بين المجتمع المسلم واليهود خاصّة حينما تحالفت القبائل اليهوديّة مع خصوم المسلمين من المكيين وتصاعد العداء إلى ترحيل بعض هذه القبائل بل وقتال رجال بني قريظة وسبي نسائهم وأطفالهم سنة 727م.

وهكذا حال هذا التّصاعد في المواجهة، دون أيّ موقفٍ تصالحيٍّ على غرار الموقف التصالحي مع النّصارى.

وفي إشارةٍ خفيّةٍ إلى أنّ الموقف من اليهود لم يكن منذ البداية على هذه الشّاكلة: ففي بداية الدّعوة أسلم بعض اليهود، كما أنّ واحدةً من زوجات الرّسول من بني قريضة، وهي بهذه الإشارة تريد أن تهيّئ ذهنيّة القارئ لفرضيّة، ستُذكر بعد قليل وهي أنّ الموقف من الأديان الأخرى عمومًا، واليهود خصوصًا، تطوّر حسب الظروف السّياسيّة. إنّ هذا الموقف تحوّل من المسالمة والانفتاح في البدايات ولكن مع تمكّن المسلمين من عناصر القوّة في المدينة أضحى الموقف منهم

متشدّدًا.

ومع كلّ هذه الوقائع من فصول اللّقاء الإسلاميّ والمسيحيّ من جهة، والإسلاميّ اليهوديّ من جهةٍ أخرى لايخلو الموقف القرآنيّ من نقدٍ شديدٍ لكلتا الدّيانتين، وبالإضافة إلى نقد أهل الكتاب وبني إسرائيل (التي تزيد الإشارة إليهما عن الإشارة لليهود والنّصارى)، فلا يفتأ القرآن الكريم يحدّثنا عن اعتقادات هؤلاء وكيف «ضلّوا عن رسالة الوحي». وتعتقد الكاتبنان أنّ هذه التّعليقات القرآنيّة أنتجت تعليقاتٍ كثيرةً من المفسّرين وحفّز فيما بعد اليهود والمسيحيين الذين يعيشون في ديار المسلمين على كتابة مقالاتٍ دفاعيّةٍ. أمّا المجوس والصّابئة، فمع ورود ذكرهما

ص: 538

للقران فلا یوجد تواصلٌ للرسول محمد معهم.

2.الخطابات القرآنيّة والموقف من الأديان: بعد الوقائع، تنتقل المؤلّفتان لرصد بعض الخطابات القرآنيّة حيال اليهود والنّصارى لتؤسّس لكبرى خطيرةٍ تطرحها طرح المسلّمات: «الموقف القرآنيّ تجاه هذه المجموعات كان يتغيّر وفقًا للوضع السّياسيّ لمحمد والمجتمع الإسلامي ولقبول هذه الجماعات أو رفضها للرسالة»(1).

تحاول الكاتبتان أن تبدّد الانطباع الأوّلي الذي ينطبع في ذهن المتابع للوهلة الأولى بأنّ حدّة العداء لليهود أشدّ وطأةً من الموقف من المسيحيين، فالقرآن يصف اليهود بعبارات مميزة :«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةَ لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» (سورة المائدة، الآية 82). ومن جهةٍ أخرى يُدافع عن عيسي، ويردّ طعن اليهود فيه وفي أمّه:«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةَ لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُيّة لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتَّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا». (سورة النساء الآيات 155-157). ولكن القرآن حسب رأي الكاتبتين رغم ذلك نراه يتّخذ موقفا نقديًّا من المسيحيين أيضًا، فيوبّخهم على الغلوّ ويتّهمهم بابتداع الرّهبانيّة:

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحُ مِنْهُ». (سورة النساء، الآية 171)

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ» (سورة آل عمران الآية 59).

ص: 539


1- موسوعة القرآن ليدن ج4، ص 412، العمود (ب)

«ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةُ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ» (سورة الحديد، الآية 27).

ومع اعتراف الباحثتين بأنّ جدال القرآن مع المسيحيين أقلّ ضراوةً من الجدل مع اليهود، إلّا أنّه في الأخير ينهى المؤمنين عن اتّخاذهم جميعًا أولياء، فالنصارى واليهود أولياء بعض.

-«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».(سورة المائدة، الآية 51).

الوجه الثاني للخطابات القرآنية إزاء اليهود والنصارى هو الدّفاع: فالقرآن تضمّن في آيات عدّة المعاني الآتية:

- التأكيد على نبوّة محمد والردّ على تحدّيات اليهود والنصارى فمن ذلك ردّه على ادّعاء اليهود من أنّ محمداً لا يمكن أن يكون عرقيًا نبيًّا؛ لأنّه لا نبيّ خارج بني إسرائيل، فردّ عليهم القرآن بنبوّة إبراهيم:«مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». (سورة آل عمران الآية 67).

ردّ الحجّة القائلة بأنّ محمداً خالف تعاليم الكتاب المقدّس: وبيان أنّ اليهود هم الذين نقضوا عهد الله وحرّفوا الكتاب ومن الآيات التي تستشهد بها المقالة:

«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَيكَ هُمُ الخَاسِرُونَ». (سورة البقرة، الآية (27). «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِبِينَ». (سورة البقرة الآية 65).

وفي هذا السّياق تعتبر الباحثتان أنّ تغيير القبلة هو جاء في توجّهٍ قرآنيٍّ للتمايز

ص: 540

التّشريعيّ عن اليهود، ورفض مبطّن لممارساتهم ! ولنا عودة لهذه المسألة في الفصل اللّاحق.

وكذلك تشريع صيام شهر رمضان (سورة البقرة، الآية 183) جاء كتبديلٍ لصيام عاشوراء الذي كان يتَّبع فيه النّبيّ محمد اليهود!! وهذه شنشنةٌ مطّردة في كتب المستشرقين ودراساتهم !!!

- إن أهمّ موضوع مسيحيّ ركّز القرآن ردوده عليه هو التثليث:«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» (سورة المائدة، الآية 73). وفي استطرادٍ تبريريُّ عجیبٍ ترجع بنا المقالة إلى الجذر السّرياني لعبارة ثالث ثلاثة أي (ثليثايا)، والقول بأنّها لقبٌ للمسيح!!!.

- تأكيد القرآن على بشارة الكتاب المقدّس بنبوّة النبى محمد تسوقه المقالة في خاتمة الخطابات الدّفاعية القرآنيّة، وتعتبر الإشارة دليلًا على تعاونٍ أو اتّفاقٍ مسيحيّ - إسلاميّ، وتسوق آية سورة الصف شاهدًا على ذلك:«وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَابِيلَ إِلَى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ»

(سورة الصف، الآية 6).

3. الجدل الدّيني في العصر الإسلامي:

تختم الباحثتان هذا المقطع من المقالة ببعض تجلّيات الجدل الإسلامي المسيحي في التّاريخ الإسلامي، وخاصّة في العصر العباسي: فتسجّلان للمسلمين مزيد معرفةٍ وعمقٍ في الإحاطة بالفرق المسيحيّة، والمذاهب اليهوديّة، كما أنّ المسيحيين واليهود كتبوا عددًا من الرسائل تدافع عن دينهم.

وأشارت الباحثتان إلى الإسرائيليات التي دُمج الكثير منها في قصص الأنبياء السّابقين، ولكنّهما اعتبرتا ذلك شاهدًا على الاهتمام والمعرفة العميقة بالكتابات المسيحيّة واليهوديّة، وإلمامًا لمؤلّفي المسلمين بالمعارف اليهوديّة والمسيحيّة!!!!

ص: 541

ورأت أنّ التّفاعل بين المسلمين والمسيحيين هو أحد أسباب تطوّر علم الكلام والتّصوّف؛ حيث ظهرت الكتابات الجدليّة والمناظرات حول خلق القرآن والإعجاز ودلائل النّبوّة في بيئةٍ تعدّديّةٍ دينيّةٍ شارك فيها المسيحيون خاصّة.

وتذهب الباحثتان إلى أن الردّ الإسلامي الكلاسيكي على التعددية الدينية ظهر في تطور علم الفرق والملل والنحل وتسوق أمثلة لمصنفات هذا العلم، والتي نظرت للآخر من داخل الدين أو من خارجه نظرة سلبية: كالفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي (ت (429 ه- / 1037م) والفصل في الملل والنحل لابن حزم الأندلسي (ت456ه- /1064م) والملل والنحل لمحمد عبدالكريم الشهرستاني (ت 548ه- / 1153م).

المبحث الرّابع: هل يحوي القرآن نظريّةً في التعدّديّة الدّينيّة؟:

السّؤال الأخير الذي طرحته المقالة: عن إمكانية استنتاج موقفٍ قرآنيُّ عن التعدّديّة الدّينيّة.

وتؤكّد المقالة مرّة أخرى، صعوبة فهم الموقف القرآني من التعدّديّة، وأنّه لا يوجد موقفٌ واحدٌ من الأديان الأخرى، وأنّ المفسّرين أنفسهم دوّنوا هذه الاختلافات في الموقف من أتباع الدّيانات الأخرى حتّى في حياة النّبي.

وتبني على ذلك اغتنام المفسّرين (بهذا التّعبير) والمفكّرين المتأخّرين هذا التّنوّع في المواقف؛ لبناء آرائهم تأييدًا، أو معارضةً لمعتقدات وأفعال غير المسلمين في المجال الإسلامي، بل الموقف من أصل وجودهم.

و لمعالجة السّؤال الأخير المطروح عن الموقف القرآني: تعرض قضيتين اثنتين:

أوّلًا مختارات من المواقف الإسلاميّة الحديثة من القضيّة وبعض الآيات التي استخدمها المسلمون بشكلٍ مطّردٍ حول الأديان الأخرى.

ثانيًا. الإرشادات القرآنيّة الممكنة لسلوك المسلم تجاه غير المسلمين.

ص: 542

القضيّة الأولى: تعرض الكاتبتان موقفين مختلفين من الأديان الأخرى وأتباعها: فتسوقان رأي القرضاوي الذي يسمح بالتّعدّديّة الدّينيّة ويتسامح مع الأديان الأخرى ما دامت الدّولة الإسلامية بيدها القرار والمسلمون يسيطرون على دوائر القرار، والأقلّيات تلتزم بأحكام الشّريعة لسلوكات غير المسلمين.

ومن جهة أخرى تعرض الرأي المقابل لبعض المفسّرين التّراثيين كابن تيمية ت 128ھ /1328) وسيد قطب (ت1966م) وما أسمتهم بالمتطرّفين المعاصرين، كأسامة بن لادن والرّافض للتعدّديّة الدّينيّة والحاكم بطريقةٍ سلبيةٍ على غير المسلمين.

وتدّعي المقالة أنّه في هذه القراءة : ليس هناك حلٌّ شرعيٌّ وسط أو تعاونٌ مع غير المسلمين أو حتّى مع المسلمين الفاسدين.

وتعتقد الباحثتان أنّ المواضيع القرآنيّة كعقاب الآخرة لغير المسلمين، ومعارضتهم لمحمد واعتبار الإسلام الدّين الصّحيح الوحيد بنظر الله، وأنّ اليهود والنّصارى غالوا في دينهم كلّ ذلك يشكّل قراءةً مجرّحةً بالأديان الأخرى ورفضًا الشرعيّة التّعدّديّة الدّينيّة.

ومع رفض القرآن للتعدّديّة كما صرّحت أخيرًا الباحثتان يطرح سؤالٌ نفسه:ماذا ينصح القرآن المسلمين أن يفعلوا في وجه تعدّد الأديان ؟؟ هذا ما تجيب عنه المقالة في القضيّة الثّانية.

القضيّة الثّانية: من الآيات المهمّة في توجيه الموقف والسّلوك الإسلامي نحو الآخر الديني: الآية:«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ» (سورة الكافرون، الآية 6)، والآية:«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ » (سورة البقرة، الآية 256) والتي عادة ما تساق للاستدلال على التّسامح الدّيني في الإسلام مع غير المسلمين.

مع اعتراف الباحثتين بهذه الحقيقة نراهما كعادتهما تشكّكان في ذلك، بالإحالة على تفاسير فسّرت الآيات بطريقةٍ مختلفةٍ، وأنّها موجّهةٌ إلى القرشيين الذين

ص: 543

استهزؤوا بتوحيد محمد كتفسير مقاتل وتفسير ابن كثير، ومن المراجع التي تحيلنا إليها مقالة في الموسوعة نفسها بعنوان (آيات شيطانية) لشهاب أحمد (1)وفي اعتماد عنوان كتاب المدعو سلمان رشدي (الآيات الشيطانية) كعنوان لإحدى مقالات الموسوعة فيه ما فيه!!!

وتستنتج الباحثتان:«أنّ إحصاء التفاسير الإسلاميّة يكشف أن تعدّد المعتقدات الدّينيّة ليس مقبولاً، لكنّه مقبولٌ كسمةٍ لا غنًى عنها للوجود الإنساني. وعمومًا لا يرى المفسّرون أنّ القرآن يدعو إلى دخول الإسلام بالقوّة، لكن من جهةٍ أخرى لا يوجد دعوةٌ مزيّفةٌ للسلام: الذين لا يبالون برسالة القرآن وعدوا بالعقاب بالآخرة.(2)»

وتؤكّدان أنّ هناك آياتٍ واضحةَ الدّلالة في دعوتها للإسلام، باعتباره الدّين الصّحيح وتنبيهها بالبقاء على مسافةٍ من أتباع الأديان الأخرى!

وتسوق المقالة آياتٍ تعتبرها الأكثر شهرةً في تحديد السّلوك المناسب تجاه غير المسلمين:«وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ لَا يَعْلَمُونَ»، (سورة التوبة، الآية 6).

«قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ». (سورة التوبة، الآية 29).

أما الآيات التي اعتبرت أقل تكرارًا في الاستشهاد:

(سورة المائدة ، الآية 3):«وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا».

(سورة الروم، الآية30):«ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ».

(سورة الروم، الآية 43):«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ لَا مَرَدَّ پلَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَيذٍ يَصَّدَّعُونَ».

ص: 544


1- انظر موسوعة القرآن ،ليدن، م.س، ج4، صص 531-536
2- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج4، ص 415 العمود (ب)

(سورة الزمر، الآية3):«أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ انَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

(سورة الروم، الآية 32):«مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».

(سورة البقرة، الآية 193):«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ».

(سورة النساء الآية 171):«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحق».

(سورة المائدة الآية 77):« قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ».

وتذكر بعض الآيات التي يتوقّف عند دلالتها على هذا المدّعى من ذلك:

(سورة النور ، الآية 2):«وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ» !!! (فما علاقة الآية بالموقف من الآخر!

(سورة غافر، الآية 26):«إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ» وهذه على لسان فرعون في التّحريض على النّبي موسى!

و في كلّ الأحوال تنستنج الكاتبتان من هذه الآيات أنّ القرآن يفصح عن موقفٍ سلبيٍّ من أهل الكتاب، فهم غالوا في دينهم وحّرفوا كتبهم، وهو يحثّ المسلمين على البقاء على مسافةٍ منهم، بل محاربتهم عند الضّرورة. والموقف هو الموقف مع الآخرين من غير المسلمين.

وتعتبر الباحثتان أنّ عاملين اثين (التفاسير المتأخّرة ومبدأ النّسخ) كانا بمثابة العدسات التي ينظر من خلالهما إلى القرآن، وتكرّس بذلك الموقف التّقليديّ تجاه غير المسلمين، وروّجت هذه الثّقافة في أوساط المسلمين.

ص: 545

وهنا تؤكّد الباحثتان على البون الفاصل بين أحكام القرآن والتّفاسير: وتضرب لذلك مثالًا وهو تنصيص القرآن على أنّ غير المؤمنين في الآخرة هم الذين يعاقبون، وإصرار المفسريين المتأخّرين على تصنيف كلّ غير المسلمين في هذه الخانة، حتّى أهل الكتاب، ممّا شجّع على تحميل القرآن موقفًا عدائيًّا من غير المسلمين عمومًا،

بل ومن المسلمين غير الصالحين.

وفي خاتمة المقال يخيب توقّع القارئ، حينما يظنّ أنّه سيجد نفسه أمام استخلاصاتٍ ونتائج واضحةٍ، بعد أن أنهكه الغموض والتردّدات التي طغت على البحث كلّه، وبعد أن أرهقته تداخلات المواضيع وتشابكها، وبعد أن حيّرته خطوات الباحثتين بين ،إقدام ،وإعراض بين نفي فكرة في مكان وإثباتها في مكان ،آخر والتّوقّف في محطّة ثالثة !!

ولكن يا خيبة المسعى !! حتى الخاتمة التي كنّا نأمل فيها كلّ هذا الانقشاع، وجلاء الرّأي، والموقف، لم نعثر فيها إلاّ على مزيدٍ من القضايا الجديدة، والتي عولجت بنفس الأسلوب المتردّد والغامض والجدلي: فقد تعرّضت الخاتمة لقضيّة اعتبار الإسلام دين العرب وربطتها بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب بناء على نجاسة المشركين:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (سورة التوبة، الآية (28).!!!!

كما تطرّقت إلى قضيّةٍ جديدةٍ ثالثةٍ : المسيحيون العرب والنّظرة إليهم، وكيف رفض المسيحيون العرب الجزية؛ لأنّهم عربُ بناءً على التّماهي الذي حصل بين عربي ومسلم.

وفي الأخير تُعيد الفكرة نفسها عن تواجد اليهود والنّصارى في المناطق الإسلاميّة النّاطقة بالعربية، كأقلياتٍ دينيّةٍ محميّةٍ: أهل ذمّة وإلى حدّ ما، المانويين، والزرادشتيين.

ص: 546

أمّا بالنسبة لوضع غير المسلمين في البلاد غير العربية، فتُعيد الباحثتان الحديث عن تجربة الهندوس، وكيف وسّع المسلمون حماية الدّولة لهم، مقابل دفع الجزية.

وتستنج المقالة، إنّه ووفقًا للتمييز القرآني بين المسلمين وغير المسلمين وللتوصية القرآنيّة بالتّسامح مع غير المسلمن، سمح لهؤلاء أن يعيشوا في البلاد الإسلاميّة، ولكن بصفة مواطنين من الدّرجة الثّانية:

In keeping with the quranic differrntiaion between Muslims and non Muslims, and also with the q u ranic

injunctions of tolerance for non- Muslims, these non-Muslims have been allowed to live in Islamic

lands,albeit as “second class citizens[1].(1)

وتنهي الباحثتان المقالة بالتّأكيد على أنّ التّاريخ ما زال مسستمرًا في تشكيل فهم القرآن وتفسيره، وأن الأحداث الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي، كالحروب الصليبيّة والاستعمار، وقيام دولة إسرائيل، والهجمة الامبرياليّة الغربيّة... تؤثّر في توجّهات المفسّرين المسلمين المعاصرين، فيعتبرون أنّ الآيات التي تبدي تسامحًا مع غير المسلمين منسوخةٌ بالآيات التي تتضمّن أحكامًا أشدّ قسوةً.

ص: 547


1- موسوعة القرآن، م.س، ج4، ص 417 العمود (أ)

الفصل الثاني: القراءة النقدية لمقالة «التعدّديّة الدّينيّة والقرآن»

تمهيد
اشارة

هذا الفصل مخصّصٌ للنّقد، والنّقد عمليّةً تتطلّب رؤيةً واضحةً في التّعاطي مع النّصّ بين أيدينا، خاصّة إذا كان نصًّا موسوعيًّا انبنى على خلفيّةٍ غربيّةٍ في دراسة المضمون القرآني والصّعوبة التي تواجهنا في هذه القراءة النّقديّة، هي«تبعثر المقالة وتشتّتها» رغم التّناسق الأوّلي الذي يبدو للوهلة الأوّلى، فقد يتوهّم القارئ في قراءةٍ أولى أنّه أمام نصٍّ محكمٍ تشدّ مفاصله وحدةٌ منطقيّةٌ، ورؤية واضحةٌ، ومسارٌ تسلسليٌ يقود إلى النّظريّة القرآنيّة حول الموضوع (التَّعدّديّة الدّينيّة).

وقد يغريه أكثر هذا الانطباع، مع الالتفات إلى الثّراء البيبليوغرافي، وتنوّع المصادر، فقد عجّت لائحة المراجع بعشرات المنابع الأوّليّة والثّانويّة.

فالمقالة كما رأينا في الفصل الثاني تبدأ من دراسة المفردات المرتبطة بالدّين في القرآن، ثمّ استعراض للمجتمعات الدّينيّة التي تحدّث عنها، فتحليلٌ للعلاقات بين هذه المجتمعات وتفاعلها الدّينيّ، فاستكشافُ النّظريّة القرآنيّة حول التّعدّديّة وكيفيّة توجيه سلوك المسلم نحو الموقف من الأديان الأخرى.

لكن القراءة الفاحصة للمقالة، تجعل القارئ يتفاجأ بالكمّ الهائل من المشكلات الشكليّة والمضمونيّة والمنهجيّة، ويصطدم بحجم التّشتّت والتّلاشي، الذي يستبدّ به وهو يُعيد قراءة المقالة مرّة بعد أخرى !!! وكمّ التّردّدات العديدة، والأفكار التي تتكرّر في أكثر من مقطع من المقالة والإحالات الكثيرة على مصادر غربيّةٍ، بالخصوص، والتي تشوّش ذهن القارئ أكثر مما تساعده على فهم المطالب ومما زاد الأمر تعقيدًا هو الاستطرادات الكثيرة، والانتقالات الفجائيّة من مسألةٍ إلى أخرى بمناسبةٍ وبدونها، والتي تعقد بدورها عمليّة الفهم والمتابعة.

هذا الكمّ الهائل من المشاكل التي يتحسّسها القارئ بعد القراءة التّحليليّة للمقالة تبعث إلى الحيرة والتّساؤل : هل نستطيع فعلا أن ننقد المقالة نقدًا علميًّا موضوعيًّا ؟؟

ص: 548

قد يبدو السّؤال مستغربًا، في سياق الرّؤية التّقليديّة لدراسة الإرث الاستشراقي والدّراسات القرآنيّة الغربيّة؛ لأنّ هذا الإرباك الشَّكليّ على الأقل في هذه الأعمال، يمثّل فرصةً للانقضاض النّقديّ، وإبطال هذه الطروحات، والتّشهير بها وبمجانبتها للمعايير العلميّة التي تدّعيها.

ولكن حرصنا على الضّوابط العلميّة في النّقاش والمصداقيّة الأكاديميّة، والأخلاق البحثيّة التي قد يكون الآخر لم يلتزم بها هي التي تدعونا إلى التّساؤل وهو أدبٌ قرآنيٌّ رفيعٌ قامت عليه ثقافتنا الإسلاميّة:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (سورة المائدة، الآية 8).

إنّ الدّعاية الكبيرة لهذه الموسوعة، والصّدى الكبير الذي لاقته واعتبارها أهمّ عملٍ أكاديميٍّ غربيٍّ أُنجز حول القرآن الكريم في مرحلتنا المعاصرة، يدعونا لمقاربة النّقد بحذرٍ ودقّةٍ خاصّة وأنّ إحدى كاتبتي المقالة: رئيسة تحرير الموسوعة. وما اشتهرت به من تخصّصٍ في الدّراسات القرآنيّة وسمعة أكاديميّة في هذا المجال.

ولا نريد أن نعطي في هذا التّمهيد انطباعًا سلبيًا للقارئ، فالمقالة لاتخلو من نقاط قوّة تفرض علينا الموضوعيّة إبرازها وتسليط الضّوء عليها في سياق هذا الفصل. ولكن أردنا أن نضع القارئ أمام بعض الصّعوبات الشّعوريّة والعلميّة التي واجهتنا ونحن على أعتاب هذه القراءة النّقديّة، لعلّ ذلك يكون عذرًا لنا فيما أخطأنا، أو قصرنا، أو أغفلنا.

وتنظيمًا لهذه القراءة النّقديّة، ومحاولة منّا لعرض هذا التقييم بمنأًى عن التّشابك، والتّداخل الذي اتّسمت به المقالة نفسها، وحتى لانقع في المحذور نفسه، اعتمدنا مسارًا نقديًا يأخذ بعين الاعتبار جميع أبعاد النّقد العلميّ والأكاديميّ الشّكل والمضمون والمنهج من جهة، ويُراعي التّسلسل الذي قامت عليه المقالة في خطواتها الأربع، وبنيتها وتوازن أجزائها فكان المبحث الأوّل لنقد وتقويم بحث المفردات، والمبحث الثاني لنقد وتقويم أطروحات الباحثتين حول المجتمعات

ص: 549

الدّينيّة ،وتفاعلاتها، وخصّص المبحث الثالث لتقويم الإجابة عن السّؤال: هل يمكن أن نستنتج من القرآن موقفًا من التَّعدّديّة الدّينيّة؟ وأمّا المبحث الرّابع فيتصدّى لاستكشاف الفرضيّات المتوارية التي قامت عليها المقالة والسّياقات الاستشراقيّة لمنهجها.

المبحث الأول : نقد وتقويم بحث المفردات القرآنية

مرّ بنا في المباحث السابقة أنّ مقالة التّعدّديّة الدّينيّة تتألّف، إضافة إلى المقدّمة ،والخاتمة من أربعة أجزاءٍ أساسيّةٍ (المفردات القرآنيّة المجتمعات الدّينيّة، التّفاعل بين المجتمعات، نظريّة القرآن وتوجيه سلوك المسلم اتّجاه الأديان الأخرى).

في هذا المبحث: نسوق الرّدود والإشكالات التي سجّلناها على الأفكار والنتائج التي أوردتها الباحثتان حول المفردات القرآنيّة.

في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مقدّمة المقالة تضمنّت نقاطًا عدّة تستوجب التّوقّف والتّأمّل:

أوّلًا: فمن المفارقات أن تبدأ المقالة حول التّعدّديّة بالحديث عن خاتمية الإسلام وأنّ نبوّة محمد تختم الدّيانات في عقيدة المسلمين وترى في ذلك «إدراكٌ واعٍ بالرّسالات السّابقة»، مع أنّ أنصار التّعدديّة يرون (والباحثتان من الواضح أنّهما تتبنّيان التّعدّديّة الدّينيّة وتدافعان عنها) في فكرة الخاتميّة رفضًا للتّعدّديّة وتكريسًا للانحصاريّة الدّينيّة.

ثانيًا: الفكرة الثَّانية التي نسجّل احترازنا ضدّها الرّبط المدّعى بين علم أسباب النّزول ومحاولات المفسّرين تحديد مصاديق الأديان التي أشار إليها القرآن والهويّات الاجتماعيّة للجماعات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم. وكلّنا يعلم أنّ علم أسباب النّزول لا يرتبط تأسيسه حصرًا بهذه القضيَّة، وإنّما تطوّر في أجواء التفسير والمفسّرين الذين كانوا يبحثون عن المناسبات التي نزلت فيها الآيات؛ لأنّ تحديد المعنى الدّقيق لها يتوقّف على معرفة النّزول، وقد اهتمّ الفقهاء بهذا الفنّ

ص: 550

لارتباط الاجتهاد بأسباب النّزول وتحديد هل المراد من الأحكام الواردة في القرآن عموم اللّفظ أم خصوص السّبب؟

ويذهب السّيوطي في تعريفه لأسباب النّزول إلى إخراج الوقائع التّاريخيّة التي تحدّث عنها القرآن، ويحصر الأسباب في العلل المباشرة لنزول الآيات، يقول:«والذي يتحرّر في سبب النّزول أنّه ما نزلت الآية أيّام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أنّ سببها قصّة قدوم الحبشة به، فإنّ ذلك ليس من أسباب النّزول في شيءٍ، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصّة قوم نوح، وعاد وثمود، وبناء البيت ونحو ذلك» (1)ولذلك ذكر في فوائد أسباب النّزول فوائد تعود أساسًا لعموم المفسرين في فهم الآيات وللفقهاء في استنباط الأحكام، ولا نجد فائدةً تعود لعلماء الأديان في هذا السّياق.

يقول السيوطي: زعم زاعمٌ أنّ لا طائل من وراء هذا الفنّ، لجريانه مجرى التاريخ وأخطأ في ذلك، بل له فوائد:

منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

منها: تخصيص الحكم عند من يرى العبرة بخصوص السبب

ومنها.... ومنها: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال قال الواحدي لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها»(2).

وفي المقدّمة أيضًا سعت الباحثتان لتقديم مبرّرات البحث عن التّعدّديّة، فطرحتا خمس مبرّراتٍ لم تعرضاها عرضًا حياديًّا، بل ضمن إشاراتٍ خطيرةٍ بعيدةٍ كلّ البُعد عن روحيّة باحثٍ يريد أن يستكشف النّظريّة القرآنيّة، ولا يوجّه الآيات لأفكاره ،المسبقة، فهذه التضمينات لا نجد لها تفسيرًا في مقدّمة المقالة سوى أنّها ،محمولاتٌ يُلقى بها على كاهل القارئ لتوجيه مساره في فهم الآيات واستنطاقها،

ص: 551


1- السيوطي، جلال الدين الإتقان في علوم القرآن ،ط1، دمشق، مؤسسة الرسالة ناشرون، 2008، ص 76.
2- م.ن، ص 71

وهي من جهةٍ ثانيةٍ تفضح الانحياز المسبق لتوجّهاتٍ تفسيريّة محدّدةٍ في التّعاطي مع الآيات القرآنيّة.

ذكرنا المبرّرات الخمس في الفصل السابق (راجع)، ونكتفي بالتنبيه على التّضمينات الخطيرة التي ستنعكس على تحليلات المقالة ونتائجها:

أ- التّراث الإسلامي لا يعرف معرفةً واقعيةً بالدّين الوثني العربي، بل القرآن لا يجادل فعلًا ،وثنيين بل هم على درجةٍ ما من التّوحيد.

ب- تأثّر القرآن الكريم بالتّراث المسيحي واليهودي (التأثير التوحيدي).

ج- التّشابه الكبير بين الإسلام وبين الفئات المسيحيّة واليهوديّة التي يتحدّث عنها القرآن في بيئته

د- لا يقدّم لنا القرآن معلوماتٍ كافيةً عن المجموعات الدّينيّة، التي كانت تسكن بيئته، ولذا علينا أن نعالج هذا النّقص بالعود إلى بعض الدّراسات في هذا المجال، وهي تحيلنا بالطبع على دراسات المستشرقين كالمستشرق Rubin. ولنا عودة لهذه الأسس التي بنيت عليها الكثير من أفكار المقالة.

1. تنويع المصطلحات: شكليًّا يعدّ العمل الاستقصائي لمفردات القرآن الكريم المرتبطة بالإسلام والأديان، خطوةً مهمّةً في سياق البحث عن الموقف القرآني من التّعدّديّة الدّينيّة. ولكن إلى أيّ مدى نجحت المقالة في الإحاطة بكلّ المفردات القرآنيّة ؟ وهل صّنفتها تصنيفًا علميًّا دقيقًا؟ وهل وُفّقت في استنطاق دلالات هذه المفردات؟ وهل ساعد فعلا هذا العمل في تقريب الموقف القرآني من الأديان الأخرى والتّعدّديّة الدّينيّة؟

لا يوجد أساسٌ واضحٌ في تصنيف المصطلحات القرآنيّة وإنّما وزّعتها الباحثتان إلى أربع مجموعات:

ص: 552

- المصطلحات العامّة: دين ملّة عبادة

- المصطلحات المستحسنة من القرآن إسلام حنيف شريعة.

- المصطلحات المعّبرة عن التّسامح أو الصّراع: أهل الكتاب وأهل الذّمّة من جهة، وحزب وشيع من جهة أخرى.

والباحثتان لا تبدوان متمسّكتين إلى الأخير بهذا التّصنيف، ففي البحث في مصطلح: (الأحزاب الشيع) نراهما تعرضان تصنيفًا، آخر قد يبدو منطقيًا أكثر من التّصنيف الذي اعتمدتا عليه أوّلًا: وهو ما أشارت إليه بالقول:«بالإضافة إلى دلائل الالتزام بالدين الإيجابيّة عمومًا (أهل كتاب حنيف مسلم، مؤمن)، والسّلبيّة (مشرك)، والمحايدة (ذمة ملة)، وكذلك الجماعات الدّينيّة التي يسمّى أتباعها في القرآن (اليهود النصارى المجوس الصابئة) وثمّة عددٌ قليل من المصطلحات التي تشير إلى انقسماتٍ بين أتباع الدين الواحد ... (1)

ولذلك سنرى تشابكًا في المطالب وأحيانًا كثيرةً تكرارا، خاصّةً في بيان علاقة هذه المفردات بعضها ببعض، وكذلك تداخلها مع مسائل المقطع الثاني من المقالة (المجتمعات الدّينيّة)، فكان الأحرى بالكاتبتين أن تدقّقا أكثر في العنونة والتّقسيم حتى لا نقع في هذا المحذور.

2. دلالات المفردات وغياب مصادرها: إذا دقّقنا في مصادر المقالة لا نعثر على مصادرَ أصيلةٍ في مفردات القرآن والاصطلاح ،القرآني، فرغم ثراء المكتبة القرآنيّة على هذا الصّعيد لم تعتمد الباحثتان على المعاجم وكتب المفردات المعهودة في تنقيح دلالات المفردات فقد التفت العلماء من بواكير تاريخ التّدوين والتّصنيف العلميّ لأهميّة البحث في المصطلح القرآني: معاجم مفردات ،فرائد غريب فهي ضروريّةٌ لفهم الآيات واستنطاقها.

ومن هنا لا يخلو تفسير من تفاسير القرآن (مهما كان الاتّجاه التفسيري أو المنهج

ص: 553


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج 4 ص 403 ، العمود (ب)

التفسيري المعتمد) من بحثٍ لغويٍّ أو اصطلاحيّ لألفاظ القرآن الكريم، فهي لازمةٌ من لوازم شرح الآيات واستنطاق معانيها، فالألفاظ هي أوعية المعاني وخزّانها، وفهم دلالاتها مقدّمة لمعاني الآيات، ولذلك كان من شروط المفّسر بالإضافة إلى إتقان اللغة العربيّة، يشترط فيه الإلمام بغريب القرآن. وقد شبّه الرّاغب الاصفهاني الحاجة إلى معاني مفردات القرآن كالحاجة إلى اللّبن في البناء: «وذكرت أنّ أوّل ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللّفظيّة. ومن العلوم اللّفظيّة. تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني مفرداته ألفاظه في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللّبن في كونه من أوائل المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه» (1)وحتى الاتّجاهات التّفسيريّة الحديثة كالتّفسير الموضوعي، يرتبط ارتباطًا عضويًّا بالمصطلح القرآني، ودلالات المفردات القرآنيّة.

وتستمدّ هذه التّصنيفات جذورها ومشروعيّتها من المأثور النّبوي حول شرح بعض المصطلحات أو تيسير معاني بعض الألفاظ من

من ذلك:

- ما ذكره الطبري من أقوال في تفسير قوله تعالى:«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى» (سورة البقرة الآية 238) وما رواه من رواياتٍ في المقام، حيث أورد فيما أورده أنّ النّبي صلی الله علیه و آله و سلم قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر»(2).

- ما جاء في الدر المنثور: أخرج الطبراني عن ابن عباس: سأل رجل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أرأيت قول الله تعالى :«كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ» (سورة الحجر، الآية 90) قال اليهود والنصارى، قال «الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» (سورة الحجر، الآية 91) ما عضين ؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم : «آمنوا ببعض وكفروا ببعض»(3).

وقد يتساءل البعض كيف احتاج العرب إلى هذا البحث في المفردات القرآنيّة

ص: 554


1- الراغب الأصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد : المفردات في غريب القرآن لا ط ،لام مكتبة نزار مصطفى الباز، لا ت، ص4.
2- الطبري، محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن تح عبد الله التركي ،طا القاهرة، هجر للطباعة، 2001، ج 4، ص 350
3- السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لا ط بیروت، دار الفکر، 1993م، 1414 ه-، ج 5، ص 98.

وقد نزل القرآن بلغتهم، وبلسانٍ عربيٍّ مبينٍ؟«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (سورة يوسف، الآية 2).

والجواب عن هذا التّساؤل يكمن في التّنبيه لمسألتين:

أ - «إنّ عرب الجزيرة لم يكونوا متساوين في فهم ألفاظ القرآن الكريم، الذي نزل بلغتهم، لتعدّد لهجاتهم، وتباعد قبائلهم، كما أومأ بذلك ابن قتيبة (ت276ه-) فقال إنّ العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن الكريم من الغريب والمتشابه، بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» (سورة آل عمران الآية 7) ويدلّ عليه قول بعضهم: يا رسول الله إنّك لتأتينا بالكلام عن كلام العرب ما لا نعرفه ونحن العرب حقًّا؟ فقال: إنّ ربي علّمني فتعلّمت»(1).

ب- العوامل الاجتماعيّة والتّاريخيّة عمّقت الحاجة، فكلّما ابتعدنا عن عصر النّصّ، واكتنف دلالة النّصّ المزيد من الغموض. كما أنّ انفتاح المسلمين الأوائل مع إخوانهم من الشّعوب الأخرى والثّقافات واللّغات الأخرى، أثّر على السّليقة اللّغويّة، وأبعد النّاس أكثر عن جذور اللّغة الأمّ وبلاغتها، ولذا نرى أنّ التّصنيف لمعاجم القرآن وقواميسه تتصاعد وتيرتها عبر الأجيال، ولم تتوقّف إلى حدّ اليوم.

ومن أشهر هذه المصنّفات في تسلسلها التّاريخي والتي تعود بداياتها الفعليّة إلى النّصف الأوّل من القرن الثاني للهجرة، مع أولى بوادر حركة التّدوين في تاريخنا الإسلامي، وتذكر المصادر بعض المصنّفات التي لم تصل إلينا كمسائل ابن العباس:

- تفسير غريب القرآن لزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (120ه- ): وهو يرتّب الألفاظ حسب ورودها فى المصحف.

- غريب القرآن لأبان بن تغلب (ت141ه-).

ص: 555


1- الحجيلي، عبد الرحمان المعاجم المفهرسة لألفاظ القرآن الكريم، لاط المدينة المنورة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لا ت ص 266

- تفسير غريب القرآن لعبدالله محمد بن مسلم بن قتيبة (286ه-) وهو مرتّب أيضًا حسب ترتيب السّور في القرآن.

- غريب القرآن لمحمد بن عبد العزيز السجستاني ( ت 330ھ) ويسمّى الكتاب بنزهة القلوب، وهو يرتّب الألفاظ ترتيبًا هجائيًّا دون تجريد الكلمات من الزّوائد.

- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ت502ھ) وهو يرتّب الكلمات هجائيًّا بحسب أصولها.

- تفسير غريب القرآن الكريم: لمحمد بن أبي بكر الرازي (ت668ه-).

- مجمع البحرين ومطلع النيرين في تفسير غريب القرآن والحديث الشريفين لفخر الدين محمد بن علي الطريحي (ت1058ه-).

- غريب القرآن للشيخ نديم الجسر ت (1980م).

- شرح مفردات ألفاظ القرآن الكريم لسميح عاطف الزين. وهو معجم للمفردات اعتمد تفسير مجمع البيان للطبرسي (468-548هت ) أساسًا له، ولذلك سماه «مجمع البيان الحديث».

وهذه نماذج من مصنّفات مفردات القرآن عبر العصور، وإلّا فإنّ أعدادها بالعشرات إن لم تكن بالمئات.

وفي العقود الأخيرة تنوّعت التّصنيفات في الفهارس والكشّافات للألفاظ والآيات القرآنيّة، واتّخذت أشكالًا عديدةً أحصى أهمّها بعض المؤلّفين والمصنّفين(1).

ولقد تعمّقت الحاجة وازدادت إلى وضع فهارس لألفاظ القرآن ومعانيها، وإلى کشّافات موضوعيّةٍ لآيات القرآن الكريم، تسهّل للباحثين الوصول إلى آيات الكتاب بسهولةٍ في مختلف الموضوعات فاتّجهت عناية المسلمين والمستشرقين في الثلث الأوّل من القرن العشرين إلى وضع فهارس لألفاظ القرآن وأطراف ،آياته، وتطوّر

ص: 556


1- انظر مختار عمر أحمد: مقدمة المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن وقراءاته، ط1، سطور، 2002.

التّصنيف في هذا المجال إلى بلوغ تأليف كشّافاتٍ تخصّصيّةٍ في المجالات عينها، كالأعداد والنباتات واصطلاحات الاقتصاد وسنن التاريخ والمجتمع....

وقد ساهم المستشرقون في هذه الحركة التألفيّة، وتطوير منهجيّات الفهارس القرآنيّة خاصّة في مجال الكشافات القرآنيّة بنوعيها اللّفظي والموضوعي: كالمستشرق الألماني جوستاف فلوجل (1802-1870) في كتابه نجوم الفرقان في أطراف القرآن، وهو كشاف لفظي، وقد وقع صاحبه في أخطاء كثيرةٍ نتيجة اعتماده على نسخةٍ من القرآن فيها أخطاء في ترقيم الآيات ورؤوسها، حتى إنّ الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي (1882-1967)، عندما أراد أن يترجم كتاب نجوم الفرقان وجد فيه اضطرابًا كبيرًا في التّرقيم، فاستعاض عن ذلك بتأليف كتابه المشهور «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم».

ومن أعمال المستشرقين المهمّة في كشافات القرآن حسب الموضوعات کتاب تفصیل آیات القرآن الحكيم للمستشرق الفرسي جول لابوم (1806-1876) ، وقد ترجمه للعربية محمد فؤاد عبد الباقي أيضًا.

3. معاني المفردات والاختلاطات: يسجّل المتابع للبحث الدّلالي لمفردات القرآن حول مصطلحات المجموعات الثّلاث الأولى (العامّة والمستحسنة، ومصطلحات التّسامح أو الصّراع) التي تضمّنتها مقالة التعدّديّة الدّينيّة، يسجّل ملاحظاتٍ عديدةً:

- لفظ الدين: من أكثر الألفاظ العامّة شيوعًا في النّصّ القرآنيّ، ويبدو أنّ الباحثتين وإن اعترفتا بالتّنوّع الدّلاليّ لمفردة الدين في اللغة العربيّة، فقد اتّسمت دراستهما بالانتقاء والتّجزئة وإن كنّا قد نجد لهما عذرًا نتيجة التّنوّع الواسع في المعاجم اللّغويّة، وقد أشار الشّيخ عبد الله دراز إلى ذلك:«فالذي يرجع إلى القاموس المحيط، أو لسان العرب أو غيرهما يضلّ في بيداء، ويخيّل إليه أنّ هذه الكلمة الواحدة يصحّ استعمالها فيما شئت من المعاني ،المتباعدة بل المتناقضة: فالدين هو الملك وهو الخدمة، وهو العز، وهو الذل، وهو الإكراه، وهو الإحسان، وهو العادة، وهو العبادة، وهو القهر والسلطان، وهو التّذلّل والخضوع وهو

ص: 557

وهو المعصية، وهو الإسلام والتّوحيد، وهو اسم لكلّ ما يعتقد به، أو كل ما يتعبّد الله به»(1). ولحلّ المشكلة أرجع الدّلالات اللغويّة إلى ثلاثة اشتقاقاتٍ لغويّةٍ: دانه ودان ،له ودان به:

- فإذا قلنا دانه: دينًا كان معناه ملكه وحكمه ،وساسه ومن هذا القبيل قوله تعالى:«مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» (سورة الفاتحة ، الآية 4) وفي الحديث «الكيّس من دان نفسه» (الترمذي)، أي حكمها وضبطها، ومنه اشتقّ الديان: الحكم والقاضي.

- دان له: معناه أطاعه، فالدين هنا هو الخضوع والطاعة والعبادة والورع

وكلمة الدين لله يصحّ أن منها كلا المعنيين: الحكم لله أو الخضوع لله.

- دان به: ومعنى دان بالشيء: ومعناه اتخذه دينًا ومذهبًا أي اعتقده أو اعتاده أو تخلّق به فالدين على هذا هو المذهب أو الطريقة التي يلتزم بها المرء نظريًّا أو ،عمليًّا، ومن هنا يطلق على العقيدة، وكذلك على السّلوك نقول هذا دينيّ وديدنيّ.

وبالتّدقيق في هذا الأصول الاشتقاقيّة الثلاثة للفظ، يلاحظ التّلازم بينها، فالمعنى الثاني ملازمٌ للأوّل ومطاوع له: نقول: دانه فدان له أي قهره على الطّاعة فخضع وأطاع.

وكذلك المعنى الثالث وملازمته للمعنيين الأوّلين: لأنّ العقيدة أو العادة التي یُدان بها لها من السّلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها ويلتزم اتّباعها»(2).

والنّتيجة التي نستخلصها من هذه المحاولة الاستقصائيّة للمدلولات اللّغويّة للفظ الدين:«إنّ كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظّم أحدهما الآخر ،ويخضعله فإذا وصف به الطرف الأوّل كان خضوعًا وانقيادًا، وإذا وصف به الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا، وإذا نظر بها إلى الرّباط الجامع بين الطّرفين،

ص: 558


1- دراز محمد عبدالله الدين ،لاط ،مصر ، الهنداوي، 2016، ص 23
2- انظر: الدراز، محمد عبدالله الدين، م.س.

كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يعبر عنها»(1).

وغياب هذا الفهم العميق لمدلولات لفظ «دین» واشتقاقاته في اللّغة العربيّة اوقع المقالة في اشتباهات:

إرجاع بعض معاني لفظ الدّين الممحّضة في أصول اشتقاقها العربي، كما أشرنا إلى جذورٍ فارسيّة (العبادة) أو جذورٍ أكاديّةٍ (الحكم) أو جذورٍ سريانيةٍ (المعنين الاثنين)!!! فقد أثبتنا أنّ مادة (دين) بكلّ استعمالاتها عربيّة و«أنّ ما ظنّه بعض المستشرقين من أنّها دخيلةً معرّبةً عن العبريّة أو الفارسيّة في كلّ استعمالاتها، أو أكثرها بعيدٌ كل البُعد، ولعلّها نزعةٌ شعوبيّةٌ تريد تجريد العرب من كلّ فضيلةٍ حتى فضيلة البيان التي هي أعزّ مفاخرهم»(2).

ولنا عودة لمناقشة أصل هذا المبنى في إرجاع الألفاظ العربيّة إلى جذورٍ في اللّغات الشّرقيّة القديمة.

ب) من ذلك تعليل الرّبط بين لفظ الدين (بكسرالدال) والدين (بفتح الدال) بحمل معنى الدين على العبادة وأنّ العبادة هي إرجاع حقّ الله، كما أن الدَّين (بفتح الدال) يقتضي إرجاع المدين حقّ الدّائن.

وهذا ينمّ عن جهلٍ بأصول الاشتقاق في اللّغة العربيّة، فكما بيّن الشيخ دراز أنّ الدين (بكسر الدال) فيه إلزامٌ والتزامٌ معنويٌّ، والدِّين (بفتح الدال) إلزامٌ والتزامٌ ماديٌّ، والعربيّة من سننها في التّصاريف أنّها حين تريد التّفريق بين الحسّيات والمعنويات من جنسٍ واحدٍ قد تكتفي بتغييرٍ بسيطٍ في شكل الكلمة مع بقاء مادتها كما هي، مثل : العوج (بفتح العين) والعِوج (بكسر العين)؛ والخلق (بفتح الخاء) والخُلق (بضم الخاء)؛ والرؤية والرؤيا؛ والكبر (بفتح الكاء والباء) والكبر (بكسر الكاف وسكون الباء)(3).

ص: 559


1- انظر: الدراز، محمد عبدالله الدين، م.س، ص32.
2- م.ن، ص.ن.
3- دراز محمد عبدالله الدين م.س.

ج - الرّبط بين الدّين والمروءة الجاهليّة : منساقتان مع هذا الهاجس الاستشراقي الموروث في البحث عن مرجعيّة أخرى لكلّ المعاني الإيجابيّة في الإسلام، تربط الباحثتان الدّين بالمروءة الجاهلية (وإن كان الرّبط هنا بين لفظ الدين عمومًا والمروءة لا بين الدّين الإسلامي خاصّة ،والمروءة ولكنّنا نخال ذلك تمهيدًا لتهيئة ذهن القارئ لتقّبل الرّبط الثّاني المقصود بالأساس)، غافلتين عن الخصوصيّة الإيمانيّة والأخلاقيّة للدين الجديد الذي لم ينسف القيم العربيّة الإيجابيّة، كالصّبر والكرم والشّجاعة... ولكنّه أعاد بناءها ضمن رؤيته الكونيّة التوحيديّة، وفي سياق رسالةٍ عالميّةٍ إيمانيّةٍ تخطّت النّزعة القبليّة الضّيّقة والاستغراق الحسّي في متطلّبات الجسد والشّهوة، ولم ينكر الإسلام هذا الاستيعاب الإيجابي للمروءة العربيّة، ولكنّه أكّد بالمقابل أنّه جاء ليتمّمها «إنّما بُعثت لأتّمم مكارم الأخلاق»، ولذا قاد الإسلام ثورةً ضدّ القيم والعادات الجاهليّة المنكرة، وقد التفت المستشرق الياباني توشيهيكو إيزوتسو لهذه الخصوصيّة القرآنيّة للمفاهيم الأخلاقيّة، وأدرك طبيعة العلاقة بين هذه المنظومة القرآنيّة وبين المروءة العربيّة في زمن الجاهليّة: «ربّما يتمثّل الملمّح الأكثر بروزاً لتطوّر الفكر الأخلاقي في جزيرة العرب القديمة في أنّ الإسلام أعلن أخلاقيّةً جديدةً مبنيّةً تمامًا على الإرادة المطلقة لله، بينما تمثّل المبدأ الرّئيس للحياة الأخلاقيّة الجاهليّة في التّقليد القبلي أو عادة أجدادنا»(1).

4. اشتبهات في سائر المصطلحات: والحال لا يختلف كثيرًا مع بقيّة الألفاظ: أوّلًا: فلفظ «ملّة» أيضًا تبحث له الكاتبتان عن مرجعيّةٍ سريانيّةٍ ليغدو دالًا على (لوغوس) في اليونانيّة! لكن بالعود إلى المعاجم المختصّة لا نجد معنًى للوغس يستقيم مع ظاهر لفظ«ملّة»،«فلوغوس كلمةٌ يونانيّةٌ واسعة المعنى تُشير أساسًا في سياق النّقاش الفلسفيّ إلى المبدأ أو البنية أو النّظام العقلاني، المفهوم الذي يُهيمن على شيءٍ ما، أو مصدر ذلك النّظام الكلمة القريبة تعني «يقول»،«يخبر»،«يعتبر»، لذا فإنّ الكلمة التي كانت في البدء كما ترد في مستهلّ إنجيل

ص: 560


1- إيزوتستو توشيهوكو : المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن تر عيسى علي العاكوب، لا ط دمشق، دارنینوی، 2016، ج 2، ص109.

القدّيس يوحنا تعدّ أيضًا لوجس. يرد الجذر في الكثير من المركّبات الإنجليزية، مثل: Episomologies Biologie وغيرهما ..(1)

وبالمقابل لفظ ملّة نجد معناها واضحًا في المعاجم اللّغويّة ومعاجم القرآن: ففي اللّغة: حقّق علماء اللّغة الجذر اللّغوي للفظ ملّة، فرأوا أنّ الأصل الاشتقاقي لمفردة «ملّة» يمكن أن يكون:

- قول العرب هذا طريق مملّ: أي مسلوك ومعلوم(2).

- من أمللت الكتاب، يقول الراغب الأصفهاني:«وأصل الملّة أمللت الكتاب، قال تعالى:«وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» (سورة البقرة، الآية 282)، «فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهَا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلُّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ»، (سورة البقرة، الآية 282)»(3).

- أصل الملَّة في الْعَرَبيَّة الملّ وَهُوَ أَن يعدو الذُّئْب على شَيْء ضربا من الْعَدو فسميت الملة مِلَّة لاستمرار أهلهَا عَلَيْهَا(4)،

وفي القرآن الكريم استخدام للجذر اللّغوي للفظ ملّة، من ذلك:

«وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِ لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»، (سورة آل عمران، الآية 178).

«وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ، (سورة الفرقان، الآية 5).

«وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا»، (سورة مريم الآية 46) أي دهرا وزمانًا طويلًا(5).

ص: 561


1- هود نشرد تد دلیل اکسفورد للفلسفة تر: نجيب الحصادي، لا ط، ليبيا، المكتب الوطني للبحث والتطوير، لا ت، ج 3، ص838.
2- انظر: ابن منظور جمال الدین محمد بن مكرم :( لسان العرب ،لا ،ط ،بیروت، دارصادر، لات مادة ملل.
3- الراغب الأصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد :( المفردات في غريب القرآن لا ط ،لام مكتبة نزار مصطفى الباز، لات، م.س، ص 610
4- قاله أبو الهلال العسكري في الفروق
5- انظر: تفسير الطبري وابن كثير والميزان

وأمّا معاني الاستعمال القرآني لنفس لفظ (ملّة)، فقد ذكرت المقالة أنّ اللّفظ ورد في القرآن 15 مرّة، منها 8 مرّات للحديث عن دين إبراهيم علیه السلام. ولئن أصابت في إحصاء عدد مرّات ورود اللّفظ في القرآن، فقد وقعت في اشتباهٍ في تعداد موارد الحديث عن ملّة إبراهيم فقد ورد ذلك في 7 آيات وهي:

(سورة البقرة، الآية (130) - (سورة البقرة، الآية (135) - (سورة آل عمران الآية 95) - (سورة النساء الآية 125)- (سورة الانعام، الآية 161) - (سورة النحل، الآية 123) - (سورة الحج، الآية 78).

وأمّا الموارد الأخرى: فهي كالآتي:

- ملّة قوم شعيب: فقط في موردين لا في أربعة مواضع كما جاء في نصّ المقالة(1)، وهما (سورة الأعراف الآية 88) - (سورة الأعراف الآية 89).

- ملّة المشركين زمن يوسف: وردت مرة: في سورة يوسف، الآية 37.

- ملّة آباء يوسف من الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب: سورة يوسف، الآية 38.

- ملّة اليهود والنّصارى: مورد واحد في سورة البقرة، الآية 120.

- ملّة قوم أصحاب الكهف: جاءت في آية واحدة في سورة الكهف، الآية 20.

- ملل قوم الأنبياء السابقين: نوح وعاد وثمود في مورد واحد في سورة إبراهيم، الآية 13.

- ملّة كفار قريش: في آية واحدة في سورة ص، الآية7.

وأمّا الفرق بين معنى الملّة والدّين: فالمقالة ادّعت أنّ «لفظ الملّة استخدم كمصطلحٍ تقنيٍّ للدلالة على الدّين»(2)، ولعلها تقصد الجانب الطقوسي والعملي في الدين، بينما يقود التدقيق في الدّلالات اللّغويّة والاستعمالات القرآنيّة إلى فوارق

ص: 562


1- راجع الفصل الثاني
2- انظر: موسوعة القرآن، ليدن ج4، ص 401. ص401.

أخرى أشار إليها بعض الأعلام من ذلك: ما ذكره الجرجاني في التّعريفات من أنّهما متّحدان ذاتًا ومختلفان ،بالاعتبار فإنّ الشّريعة من حيث إنّها تطاع تسمّى دينًا، ومن حيث إنّها تجمع تسمى ملّة، ومن حيث إنّها يرجع إليها يسمّى مذهب»(1)، وهو من أفضل وجوه التّفريق ومن مؤيّدات هذا الرّأي الصّلة الاشتقاقيّة بين الملّة والملأ هو جماعة من النّاس يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواء.»(2)وفي بعض الآيات مما ذكرنا سابقًا جاء ذكر الملّة في سياقٍ مشتركٍ مع لفظ الملأ، كالآية (سورة الأعراف الآية 88): «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ».

ثانيًا: لفظ«الأمة» يرد ذكره استطرادًا،مع أنّه من المفاهيم المركزيّة في الثّقافة الإسلاميّة (حتى إنّنا لا نجد له مدخلًا في الموسوعة ؟؟؟ وهذا الإغفال المستغرب لمصطلح الأمّة شمل مفرداتٍ ومصطلحاتٍ قرآنيّةً مركزيّةً كالتوحيد والله الإمام الشهادة الطاغوت... وغيرها من المفاهيم القرآنيّة الجوهريّة.

مع أن المقالة ستنتهي في ختام المطلب (دراسة المصطلحات في القرآن حول مع الدين) إلى مركزيّة مفهوم الأمّة في الموقف القرآني من التّعدّديّة الدّينيّة: «ورغم أن القرآن يقرّ بواقع تعدّد الأديان فهو يؤكد أن هذا ما أراده الله ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة» (سورة الشورى، الآيات 9-6)(3).

ثالثًا: ذكرت الباحثتان في معرض حديثهما عن العبادة، كإحدى العبارات المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحقل الدّلالي للفظ الدّين، أنّ كلمة العبادة في الفكر الإسلامي المتأخّر فسّرت بعبادة الإله الواحد والأركان الخمسة للإيمان الإسلامي»(4). واستشكلت على ذلك بالقول: «مع أنّ الفرائض الأخرى كالزواج والختان موجودة

ص: 563


1- الجرجاني، علي بن محمد التعريفات تح ابراهيم الأنباري، دار الريان للتراث، لام، لات مادة دين.
2- الراغب الأصفهاني، المفردات، م.س، ص 612 .
3- موسوعة ليدن: م. س ج 4 ص 404.
4- م.ن، ص.ن.

في كتب الشّريعة»(1). وفي هذه الإشارة شهادة على الجهل الفاضح في التّفريق بين العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام، كما يقسّم الفقهاء الشّرائع الإسلامية» (2). وخلط بين الأعمال العباديّة الحقّة والأعمال التي فيها شائبة العبادة.

رابعًا: من الادّعاءات الغريبة للمقالة أنّ معنى الإسلام غير واضحٍ، وأنّ الحدود بين الإسلام والإيمان غير بيّنةٍ ولذا تلجأ للمصادر الاستشراقيّة وإلى كتاب الخلفيّة الرّوحيّة لبرافمن لعلّها تجد ضالّتها فتصل إلى تفسير الإسلام بتحدّي الموت في وجه الصّراع مع الأعداء، بينما يدلّ الإيمان على الأمن والاحتماء من القدر والمصير !!

بهذه المحاولة الفجّة يحوّل Bravmann لفظ الإسلام من كلمةٍ مفعمةٍ بمعاني السّلام والتّسليم لله إلى التّحدّي والصّراع، ويلبس الإيمان معاني الخوف والاحتماء من المجهول، مع أنّ الإيمان طريقٌ الطمأنينة:

«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَيِنُ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَينُ الْقُلُوبُ»، (سورة الرعد، الآية 28).

ولعلّ الأسباب التي أدّت إلى هذا الخلط العجيب:

- الاستناد إلى المصادر الاستشراقيّة في تحقيق مفاهيم قرآنيةٍ أصيلةٍ.

- عدم امتلاك ثقافة قرآنيّةٍ تفسيريّة عميقة.

- عدم اعتماد المنهج الموضوعي لاستكشاف الدّلالات القرآنيّة.

والخلط بين الإسلام والإيمان والإيهام بأنّ المؤمن يمكن أن يقصد به كلّ من آمن بالله، بما فيهم أهل الكتاب ولو عدنا لكتب المفسّرين، خاصّة تلك التي اعتمدت منهجيّة تفسير القرآن بالقرآن وسعت للجمع بين مدلولات الآيات والخروج في جلّ الموضوعات والمصطلحات بنظريّةٍ متكاملةٍ موحّدةٍ لمَا وقعت الباحثتان في هذه

ص: 564


1- موسوعة ليدن: م. س ج 4 ص 404.
2- انظر : كتاب شرائع الإسلام المحقق الحلي.

الحيرة والاضطراب ولاهتدتا إلى بيانٍ واضحٍ لحقيقة الإسلام والفرق بينه وبين الإيمان وقد يكون سبب هذا الإرباك الخلط بين المنهجية التفسيرية والمنهجية الكلاميّة، فلا يخفى الجدال الواسع الذي حصل في تاريخ الكلام حول حقيقة الإيمان، وهل أن العمل جزء منه ؟ وما حكم مرتكب الكبيرة وهل تخرجه المعصية من حدّ الإيمان؟ فكان الانقسام الحادّ بين المرجئة الذين لا يرون للعمل مدخليًّا في الإيمان والخوارج الذين كفّروا مرتكب الكبيرة، وقول المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين، وذهب الإماميّة والأشاعرة إلى فسق مرتكب الكبيرة لا كفره.

يقول السّيد الطبطبائي:«.. فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه وتعالى من حكمٍ تكوينيٍّ من قدر وقضاء أو تشريعيٍّ من أمرٍ ونهيٍّ أو غير ذلك، ومن هنا كانت له مراتب بحسب ترتّب الواردات بمراتبها»:(1)ويشرح إجمالا هذه المراتب قائلاً: «إنّ لكلّ من الإيمان والإسلام وكذا الشرك والكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، فالمرتبة الأولى من الإسلام إجراء الشّهادتين لسانًا، والتّسليم ،ظاهرًا، وتليه المرتبة الأولى من الإيمان، وهو الإذعان بمؤدّى الشّهادتين قلبًا، وإجمالًا وإن لم يسرِ إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحق ولذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشّرك من بعض الجهات، قال تعالى:«وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ»، (سورة يوسف الآية 106). ولا يزال سلام العبد يصفو وينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كلّ ما يرجع إليه وإليه مصير كلّ أمرٍ، وكلّما ارتفع الإسلام درجةً ورقى مرتبةً كان الإيمان المناسب له الإذعان بلوازم تلك المرتبة حتى سلم العبد لربّه حقيقة معنى الألوهيّة، وينقطع عنه السّخط والاعتراض، فلا يسخط لشيءٍ من أمر، وقضاء، وقدر وحكم ولا يعترض على شيءٍ من إرادته، وبإزاء ذلك الإيمان باليقين بالله وجميع ما يرجع إليه من أمر ، وهو الإيمان الكامل الذي تتمّ به للعبد عبوديّته»(2).

وقد فصل صاحب الميزان هذه المراتب الأربع للإسلام وإزاء كلّ مرتبة منها

ص: 565


1- الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن ،طا ،بیروت، دار ،التعارف، 1997، ج 1، ص 296
2- م.ن، ج 10، ص 84-85.

هناك مرتبة للإيمان في تفسير الآية 130 من سورة البقرة، واستعرض هذه المراتب مفصّلًا بما يرفع هذا الالتباس الحاصل من النّظرة التّجزيئيّة للآيات والتي يتداخل فيها معنى الإسلام والإيمان، وهذا ما حصل للباحثتين على ما يبدو!(1)

خامسًا: الحنيف والسّريانيّة في دراستها لمفردة «حنيف» تحيلنا المقالة إلى المرجعيّة السّريانيّة. وتعبّر عن قلقٍ وتردّدٍ بين ترجيح المستشرق روبين (Robin) للجذر العربي (مال)، وبين محاولة (Hawting) في إبراز التّعارض بين المعنى القرآني والجذر السّرياني(2).

وتجد ضالّتها في مناقشة كرون (Crone) وكووك (Cook) لمصطلح الهاجريّة؛ لإيجاد تفسير موضوعي بين الأصل السّرياني المزعوم للفظ (حنيف) وبين التّوحيد الإبراهيمي(3)، فتدّعي أنّ الهاجرين هم يهودٌ عربٌ، الذين هاجروا من الجزيرة العربية، وقد استعاروا لفظ الحنيف من الأصل السّرياني واستعملوه للدّلالة على التمّسك بالدين الإبراهيمي كوسيلةٍ لإبراز فضيلةٍ دينيّةٍ تعبّر عن تخلّصهم من لوثة الوثنيّة التي سادت تاريخهم(4). ونؤجّل المناقشة الكبرويّة في أصل المبنى الذي سلكته المقالة في الإحالة على اللّغة السّريانيّة إلى المبحث الرابع (إن شاء الله) ونكتفي هنا بالمناقشة الصّغرويّة بإثارة سؤالين فقط رومًا للاختصار :

هل دقّقت الباحثتان مليًّا في الآيات الاثنتي عشرة التي أصابت في إحصائها، والتي تتضمّن لفظ حنيف وحنفاء، والتفتت إلى لازمة (وما أنا من المشركين)؛ حيث تكرّرت هذه اللّازمة في 7 موارد من بين الموارد الثمانية التي جاءت في سياق الحديث عن النبي إبراهيم علیه السلام:

- (سورة البقرة، الآية (135):«وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

ص: 566


1- انظر: الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن ،طا ،بیروت، دار التعارف، ص296-298.
2- انظر: موسوعة ليدن، م.س، ص 402 العمود ( أ)
3- انظر: موسوعة ليدن، م.س. ص.ن.
4- م.ن.

-«سورة آل عمران الآية 67)« مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

-(سورة آل عمران الآية 95):«قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

-(سورة الأنعام، الآية 78 و 79):« قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

-(سورة الأنعام، الآية 161):«قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

- (سورة النحل، الآية 120):«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةٌ قَانِنَّا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

- (سورة النحل، الآية 133):«ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وقد التفت توشيهوكو إيزوتسو إلى هذا التّضاد المفهومي بين الحنيف والمشرك (1)الذي أكّد عليه القرآن الكريم، ولذلك نحى منحًى واقعيًّا في تحديد دلالات الحنفيّة، وقد ساقت الباحثتان رأيه في نهاية الفقرة المتعلّقة بمصطلح حنيف. كما قدّم إيزتسو قراءةً تفصيليّةً لعلاقة الحنفيّة بالدّين الإبراهيمي في الفصل الرّابع من كتابه "الله والإنسان في القرآن"(2).

فلماذا تجاهلت الباحثتان إجماع اللّغويين عبر التّاريخ والمفسّرين في مختلف طبقاتهم على المعنى التَّوحيدي للحنفيّة المنسجم مع الحقل الدّلالي للآيات وبحثتا عن فرضيّاتٍ غريبةٍ كفرضيّةٍ الهاجرية:

وسنكتفي بالإحالة على أحد المعاجم المعاصرة للمفردات القرآنيّة، والذي يتميّز

ص: 567


1- إيزوتستو، توشيهوكو، المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن، م.س. ص315.
2- إيزتسو، توشيهوكو، الله والإنسان في القرآن، تر: هلال محمد الجهاد، ط1، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007.

بالاستقصاء في كتب اللّغة والتّفسير للمفردات القرآنيّة : المعجم في فقه لغة القرآن وسرّ بلاغته(1)، ففي الجزء الرّابع عشر من هذه الموسوعة (صدر منها إلى حدّ الآن 36 جزءًا)، وفي مادة حنف نجد بحثًا مميّزاً، بداية من الصفحة 115 ، أكّد تأصّل مفهوم الحنفيّة في المعجم العربي وإطباق التّفاسير على الميل إلى الحقّ والاستقامة عليه(2).

سادسًا: لفظ الشّريعة: لم تخصّص له الموسوعة مدخلًا رغم خطورته، والمحمولات الكثيرة التي ينوء تحتها؛ بسبب التّوظيف الإيديولوجي الذي مارسته الكثير من الأدبيات الإسلامية ،بالخصوص والتّوظيف السّياسي للجماعات المتطرّفة التي اتّخذت من تطبيق الشّريعة شعارًا لها، والتّشويه الإعلامي لهذا المصطلح الذي غدا في ذهنيّة الإنسان الغربي يُرادف منظومة القوانين المتخلفة للدولة الدّينيّة التي ينادي بها المتطرّفون وما تعنيه من إلغاء الحرّيات، وقطع الأيادي، ورجم النساء وجلد كلّ مخالفٍ ومعاض والإلزام بالصلاة والحجاب وسائر الطقوس !!!!

إذا تخطّينا هذا الإشكال عن تهميش مفردة الشّريعة في الموسوعة فهناك ملاحظات أخرى ندوّنها على تقريب المقالة لمصطلح:«الشريعة»:

أ)- فالقول إنّ لفظ «الشريعة» لم يرد إلا مرّةً واحدةً في القرآن، ليس دقيقًا، نعم كصيغةٍ اسميّةٍ بهذه التّركيبة الخاصّة جاء في آية (سورة الجاثية، الآية 18):«ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»، ولكن الكلمة وردت بجذرها في صيغٍ فعليّةٍ، كشرع في (سورة الشورى، الآية 13)، وشرعوا في (سورة الشورى الآية (21) وورد اللفظ في صيغةٍ اسميّةٍ أخرى أيضًا «شرعة» في (سورة المائدة، الآية 48).

ص: 568


1- هذا الكتاب هو حصيلة جهود المرحوم آية الله واعظ زاده الخراسان وعدد من زملائه. قام مؤلّف هذا الكتاب بترتيب مفردات القرآن وفق الحروف الأبجدية وأورد شرح كل مفردة ضمن أقسام أربعة في البداية يقدم الكاتب شرحا مختصرا حول تركيبة كلّ مفردة وعدد المرّات التي تمّ استخدامها في مختلف السور. ثمّ يتعرض لمعنى المفردة في المصادر اللغوية - حسب ترتيب تاريخ التأليف. ثمّ بعد ذلك يتم التطرّق إلى آراء مختلف المفسّرين منذ صدر الإسلام حتّى الزمن المعاصر- حول تلك المفردة ومن ثمّ يتمّ تحليل تلك المفردة وتأصيلها وبيان المعنى الحقيقي والمجازي لها من الناحية الأدبية. وفي القسم الأخير الذي هو أهم الأقسام يتمّ إطلاع القارئ على الاستعمالات القرآنية لتلك المفردة بناء على تأمّل الكاتب وتحليله للمعلومات.
2- زادة محمد واعظ (الخرسان) : المعجم في فقه القرآن وسر بلاغته ط 2 ،مشهد، مجمع البحوث الإسلامية، 1427ه-.

ب) - كيف تربط الكاتبتان بين معنى الشّريعة في الإسلام والطريقة في المسيحيّة، مستفيدتين ذلك من دلالة الآية السّابقة من سورة الجاثية؟ خاصّة وأنّ مصطلح طريق استخدمه القرآن، فهو لا يرادف الشّريعة: فقد استعمله القرآن في حقّ النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم: (سورة الأحقاف، الآية 30):«قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ»، وكذلك في (سورة الجن، الآية 16)«وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا» ..

وورد اللّفظ للدلالة على طريقة أهل الكفر والضلال (سورة النساء، الآيتان 168 و 169):«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا»، وفي الآية (سورة طه، الآية 63):«قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى».

ومن جهة أخرى، إذا كان لا بدّ من إيجاد الإطار المفاهيمي الأوسع للمفردات الملتصقة بالشّريعة، فالذي يتبادر إلى الذهن ثلاثيّة: الشّريعة والطريقة والحقيقة ولكنّ الكاتبتين مصرّتان على الربط دائماً بين المفاهيم الإسلاميّة واللّاهوت المسيحي واليهودي.

ج) الشريعة ليست الفقه: في هذين السّطرين الذين خصّصتهما المقالة للحديث عن الشّريعة كمفردة يستحسنها القرآن، وبقطع النّظر عن عدم وضوح ملاك الاستحسان القرآني لهذا المصطلح أبت الباحثتان إلّا أن تختم هذه الأسطر القليلة بإثارة قضيّةٍ أخرى من خلال الخلط بين الفقه والشريعة !!

وهذا يُؤكِّد عدم الإحاطة باللّغة العربيّة وبمعجم المصطلحات القرآنيّة والشّرعيّة عمومًا !!!

سابعًا: الألفاظ المعبّرة عن التّسامح أو التّعصّب والانقسام العلماني: في فقرة الألفاظ التي تعبّر عن التّسامح أو تعبّر عن التّعصّب أوردت المقالة مفردات أهل الكتاب وأهل الذمّة من جهة، وسنحيل الملاحظات النّقديّة على دراسة هذين

ص: 569

المصطلحين للمبحث الآتي المتعلّق بالمجتمعات الدّينيّة والتّفاعل بينها في القرآن. فسيعود الحديث هناك عن أهل الكتاب ومن جهةٍ ثانيةٍ أوردت في المصطلحات التي تعبّر عن التّعصّب لفظ حزب ،وفرق وشيع واشتقاقاتها. ولا يملك القارئ، وهو يتأمّل معالجة الباحثين لهذا القسم من المفردات القرآنيّة، إلّا أن يتوقّف عند العديد من المؤشّرات:

- إسقاط مصطلح الانقسام العلماني (secular divisions) فمن الغريب أن توصّف المقالة بهذا المصطلح الحديث القرآني التّجزئة داخل الدّين نفسه، وهذا يؤكّد مرّة أخرى الخلفيّة المؤدلجة التي تنطلق منها الباحثتان في دراسة المفردات القرآنيّة، وانعدام الفهم الدّقيق للاصطلاح القرآني، وموارد استعماله، فلفظ الحزب لا يُستعمل في القرآن للدلالة على النّزاع والتّناحر الاجتماعي والسياسي، بل استخدم مرّات عدّة للدلالة على فئة المؤمنين المخلصين الذين كما في الآية (سورة المائدة الآية 56) و (سورة المجادلة الآية 22).

- الانتقائيّة والتّجزئة في اختيار الشّواهد القرآنيّة ففي لفظ «حزب» اكتفت بشاهدٍ واحدٍ (سورة الروم، الآية 31)، وأغفلت الكثير من الشّواهد، ففي صيغة المفرد ورد لفظ «حزب» 10 مرّات، وبصيغة الجمع ( أحزاب) ورد 11 مرّة. وكذلك الحال في دراسة المفردات: فرق وشيع، تكتفي الباحثتان ببعض الشّواهد دون الإحاطة بجميع الموارد والحال لا يختلف في لفظ طريقة واشتقاقاتها؛ إذ تكتفيان أيضًا بشاهدٍ واحدٍ. (راجع الفصل الأوّل).

- الرّبط بين ظاهرة النّفاق في المجتع الإسلامي وبين الانقسام الطائفي في المجتمعات اليهوديّة، وهو ربطٌ يشي بنزعةٍ تبريريّةٍ لم تجد بدًّا من انتقاد اللّهجة النّقديّة لليهود في الخطاب الدّيني الإسلامي، وتشذرمهم وانقسامهم وجعل دينهم شيعًا، فذكرت المجتمع المسلم بأنّه هو الآخر يعاني من هذا الانقسام!! ولكنّ الملفت أنّ ظاهرة النّفاق في المجتمع المسلم تعبّر عن فئة اجتماعيّةٍ تتّصف بازدواجيّة المواقف، ولم تحمل الرّسالة وإن كانت تتظاهر بذلك، ولا تمثّل طائفةً

ص: 570

دينيّةً منشقّةً عن المجتمع، أو عن الأمّة، استنادًا لمقولاتٍ دينيّةٍ محدّدةٍ ومختلفةٍ أو تفسيرٍ مخالفٍ للنّصّ الدّيني.

المبحث الثاني: المجتمعات الدينية وتفاعلاتها في القرآن في ميزان النقد:

يتوقّع القارئ أن يجد في هذا المقطع من المقالة مقارباتٍ تتماهى أكثر مع روح القرآن الكريم في بيان الموقف من المجتعات الدّينيّة والمجموعات العقائديّة والمؤشّرات القرآنيّة على التّفاعل بين الأديان، بعد أن أعذر نسبيًّا الكاتبتين في الالتباسات التي وقعتا فيها في مقطع المفردات، نتيجة التّعقيدات التي تُحيط بالبحث الاصطلاحي.

ويتوقّع القارئ من باحثتين تخطّتا حسب الفرض النّزعة الاستشراقيّة الكلاسيكيّة، وتسلّحتا بالعدّة ،المعرفيّة ،والمنهجيّة كمناصرتين للتعدّديّة الدّينيّة، والتزمتا النّظرة الإيجابيّة لعموم الأديان والتّركيز على المشترك بين الأديان وتهميش نقاط الاختلاف، بل ربمّا التّبرير العلميّ الإيجابيّ للنصوص المتحيّزة أو الظاهرة في الأحاديّة العقيديّة والانحصاريّة الدّينيّة.

ولكن القارئ يتفاجأ بكمّ الاشتباهات التي تبرز أحيانًا بشكل نافرٍ في بعض المواضع، وتتوارى أحيانًا أخرى وراء عباراتٍ منمّقةٍ مقنّعة، متظاهرة بالموضوعيّة والحياديّة!!

أوّلًا: القرآن لا يُوضّح بدقّة هويّة أهل الكتاب ولا محدّدات المسيحيّة واليهوديّة:

اعتبرت المقالة أنّ عنوان «أهل الكتاب» (1)أو الذين «أوتوا الكتاب» أكثر العناوين شموليّةً، فتحته يندرج اليهود، والمسيحيون، ولكن المجوس، والصابئة، يبدوان مرتبطين بأهل الكتاب. كما يظهر من الآية (سورة الحج، الآية 22) كما اعترفت المقالة بالمكانة المميّزة التي يمنحها القرآن للمجموعات أو المجتمعات التي

ص: 571


1- جاء في المقالة الموسوعة ج 4 ، ص 403 العمود (أ) أن لفظ أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب وأهل الإنجيل تتكرّر أكثر من 30 مرة في القرآن الكريم والأصح أن لفظ اهل الكتاب ورد 31 مرة، ولفظ الذين أوتوا الكتاب فقد تكرر 16 مرّة ولفظ الإنجيل 4 مرات أما أهل الانجيل فقد وردت مرة واحدة في القرآن الكريم

تنتمي إلى كتابٍ سماويٍّ، ولكنّها تفسّر احتجاج القرآن على نبوّة النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم في قوله تعالى:«فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ»، (سورة يونس، الآية 94)، على أنّها رفعٌ لمكانة أهل الكتاب إلى مرتبة الاستشارة في معاني الكتاب المنزل على النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم .«إن تسمية مجموعة معيّنة من أصحاب كتابٍ موحى يدلّ علی

أنّ الكتب المقدّسة لقيت احترامًا، وأنّ المجتمعات التي أعلنت بأنّ لديها نصًّا موحًى مدوّنًا كانت ميزةً عن غيرها، فأهل الكتاب يمكن أن يُستشاروا في معاني الكتاب انظر الآية: (سورة يونس، الآية 94)»(1).

ولكن الآية لا تمنح فعلًا أهل الكتاب هذه المنزلة: وإنّما هي من باب الاحتجاج على أهل الكتاب أنفسهم، فالخطاب وإن كان موجّهًا للنّبي، لكن المقصود هو غيره من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وهو بابٌ وسيعٌ في البلاغة القرآنيّة والأدبيات العربيّة».

والمعنى «فإن كنت» أيّها النّبيّ « في شكّ» وريب « ممّا أنزلنا إليك» من المعارف الرّاجعة إلى المبدإ والمعاد وما قصصنا عليك إجمالًا من قصص الأنبياء الحاكية لسنّة الله الجارية في خلقه من الدعوة أولًا ثمّ القضاء بالحقِّ «فاسأل» أهل الكتاب «الذين» لا يزالون «يقرؤون» جنس «الكتاب» منزلا من السّماء «من قبلك» أقسم «لقد جاءك الحقّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين» المتردّدين.

وهذا لا يستلزم وجود ريبٍ في قلب النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ، ولا تحقّق شلَّ منه، فإنّ هذا النّوع من الخطاب كما يصحّ أن يخاطب من يجوز عليه الرّيب والشّك، كذلك يصحّ أن يخاطب به من هو على يقينٍ من القول وبينه من الأمر على نحو التّكنية عن كون المعنى الذي أخبر به المخبر مما تعاضدت عليه الحجج وتجمّعت عليه الآيات، فإن فرض من المخاطب أو السّامع شكّ في واحدةٍ منها كان له أن يأخذ بالأخرى.

وهذه طريقةٌ شائعةٌ في عرف التّخاطب والتّفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم

ص: 572


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج4 ص 403 العمود (أ)

جريًا على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يُقيم الحجّة على أمرٍ من الأمور، ثم يقول: فإن شككت في ذلك أو سلّمنا أنّها لا توجب المطلوب، فهناك حجّةٌ أخرى على ذلك، وهي أنّ كذا كذا، وذلك كناية عن أنّ الحجج متوفّرةً ومتعاضدةً كالدّعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحدٍ منها، لكن الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمةً عليها على تقدير قيام الكلّ والبعض»(1).

فكيف يُعقل أن يكون نبيٌّ من الأنبياء شاكًّا في معتقده ويعتمد أرباب الأديان السّابقة كمستشارين ليُؤكّدوا له صحّة كتبه، هذا المعنى تكرّر في العديد من الآيات:

-«أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَابيل»، (سورة الشعراء، الآية 197).

-«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، (سورة النحل، الآية 43).

-«وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، (سورة الأنبياء، الآية 7).

-«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَم، (سورة البقرة، الآية 146 و 147).

-«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»، (سورة الأنعام، الآية 20).

ولكن هل فعلًا لم يحدّد القرآن هويّة هذه المجموعات الدّينيّة؟ ولم يشخّص مصاديق هذه العناوين (اليهود والنصارى والمجوس، والصابئة ...)؟

إنَّ الكاتبتين تتعاملان مع القرآن، وكأنّه مصدرٌ في تاريخ الأديان أو تاريخ الأمم، وإنّ تفرّد أسلوب القرآن، وتميّز بنيته وشموليّة اهتماماته، «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ

ص: 573


1- الطبطبائي، محمد حسين تفسير الميزان، م.س، ج 10، ص117.

مِنْ شَيْءٍ ﴾ (سورة الأنعام، الآية 38) أربك المستشرقين وأوقعهم في فرضيّاتٍ بعيدةٍ!! فهل تتوقّع الكاتبتان أن تجدا في القرآن دراسةً لتاريخ اليهوديّة ومذاهبها، والفرقة التي كانت متواجدةً زمن الرّسالة في جزيرة العرب؟!

هل تنتظر الباحثتان أن يحدّثها عن تاريح الافتراق المسيحي وتاريخ الأناجيل وطبيعة الجدل اللّاهوتي الدّائر بين النسطوريين وبين اليعاقبة ؟؟ والمقولات المسيحيّة التي كان يؤمن بها النّصارى زمن الرسالة ؟ هذه التوقّعات قد تكون مشروعةً لمن يبحث في كتابٍ آخر خطّ بالضّوابط العلميّة المعاصرة، ولكنّها خارج مدارات البحث القرآني بلحاظ هويّة النّصّ القرآني وطبيعة أهدافه، وسنخ أسلوبه. وهل أحاطت الباحثتان فعليًّا بكلّ المقاطع القرآنيّة الموزّعة في عشرات السّور الكريمة، حتى تقيّما الطرح القرآني وتُصدرا أحكامًا عليه، فإصدار الحكم على هذا الموقف أو ذاك فرعُ بلوغ الرّؤية القرآنيّة حول هذا الموضوع أو ذاك.

ولو دقّقنا في المادّة القرآنيّة التي تتحدّث عن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) نجدها تُغطّي مئات الآيات في عشرات السّور القرآنيّة ولم تستوعب الباحثتان في مقالتيهما إلّا بضعة آيات في الموضوع !!(1).

ولو راجعنا فهرسة الموضوعات التي تحدّثت عنها الآيات القرآنيّة والمتعلّقة بأهل الكتاب وبني إسرائيل، لوجدنا عشرات العناوين من ذلك: عداؤهم للمسلمين في بعضهم إيمان وأمانة وخير، كفرهم وإعراضهم عن الحق، مثوبة الصالحين منهم، تحريفهم للكتاب وإخفائهم الحقيقة نعم الله عليهم ..... وغيرها من عشرات

الموضوعات والعناوين(2)...

ثانيًا: الموقف السّلبي من اليهوديّة يمكن تعميمه للمسيحيّة رغم ثنائه عليها أحيانًا

ص: 574


1- راجع لابوم، جول تفصيل آيات القرآن الكريم تر محمد عبد الباقي، لا ط، بيروت، دار الكتاب العربي، لا ت، حيث قسم المستشرق لابوم فهرسه لى 18 بابا من ضمنها 3 أبواب تتعلق مباشرة بأهل الكتاب بنو اسرائيل التوراة النصارى، وتضمن كل باب عدة فروع وتحت كل فرع العديد من الآيات.
2- انظر: مرزوق، عبد الرؤوف: معجم الموضوعات والأعلام في القرآن الكريم، ط 1 ، القاهرة، دار الشروق، 1995، ج 2، ص310- 318

ساقت المقالة آياتٍ قرآنيّةً تنتقد اليهود، وهو موقفٌ قرآنيٌّ لا يخفى من اليهود ومؤامراتهم الطويلة ضدّ الرّسالة والدين ،الجديد وإخفائهم حقيقة هذا النّبيّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، بل كانوا ينتظرون ظهروه ولكنّهم لمّا صدع النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم برسالته كذبوه وأنكروا دعوته.

ويبدو أنّ الباحثتين تتفهّمان هذا الموقف القرآنيّ النّقديّ لليهود، فليس القرآن ،وحده، والمسلمون وحدهم يقفون هذا الموقف السّلبي من اليهود، فأغلب شعوب العالم ترتاب منهم، وتدرك خطورة الأدوار التي لعبوها في التآمر على الأمم والجميع تقريبًا يطبق على رفض عنصريّتهم ونظريّتهم الدّونيّة للآخر.

ولكنّ الباحثتين تستغربان من تعميم الخطاب النّقديّ للمسيحيّة؛ حيث لم تمنع بعض الخطابات المادحة للنصارى أن يتوجّه القرآن بالعتاب والنّقد للمسيحيين (راجع الفصل الأوّل):«ورغم أنّ الجدل مع المسيحيين أقلّ انتشارًا وإلى حدّ ما أقلّ ضراوةً من الجدل مع اليهود في التّحليل النّهائي، يعتبر اليهود والنّصارى بعضهم أولياء بعض، ولا ينبغي للمؤمنين أن يتّخذوهم أولياء (سورة المائدة الآية 51)»(1).

ولكن لماذا نريد من القرآن أن يقف موقفًا مغايرًا من المسيحيّة؟

فالقرآن أنصفهم جميعًا، فمدحهم وأثنى عليهم حيث استحقوا ذلك الإطراء، من ذلك قوله تعالى:

«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةَ لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»، (سورة المائدة ، الآية 82)

«لَيْسُوا سَوَاءٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّهُ قَابِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ

يَسْجُدُونَ» (سورة آل عمران الآية 113)

«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقٌّ تِلَاوَتِهِ أُولَبِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ»، (سورة البقرة، الآية 12).

ص: 575


1- موسوعة القرآن، م.س، ج 4 ص 413 العمود (أ)

ونصحهم فذكرهم جميعًا، وأمرهم، ونهاهم، ودعا الجميع إلى كلمةٍ سواء. فهل وقف النّصارى موقفًا غير موقف اليهود من النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم ؟ إنّهم لم يُنصفوا الرّسول والإسلام وتحالفوا مع خصومه وأعدائه، فكان حكمهم حكم اليهود(1): بعضهم أولياء ،بعض، ولذا وجب على المؤمنين ألّا يتّخذوهم أولياء:«يًا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»، (سورة المائدة، الآية51). إنّ القرآن الكريم وفي ضوء هذه المعادلات الاجتماعيّة يكون قد أكّد أنّ مواقفه من المجموعات الدّينيّة لا تحكمها العواطف ولا الانفعالات ولا المصالح والمنافع وإنّما الأساس موازين الحقّ والعدل:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (سورة المائدة، الآية (8).

ثالثًا: كيف يكون الأنبياء السّابقون مسلمين ولا يتحقّق إسلام امرء إلّا بمتابعة شريعة محمد صلی الله علیه و آله و سلم؟

في الدّراسات الاستشراقيّة تجاذبٌ حول انطباق مفهوم الإيمان على عموم أهل الكتاب، لقد سعت الكاتبتان إلى التّمهيد لهذا الطرح من خلال مجموعةٍ من الإشارات:

غموض مفهوم الإسلام وعدم وضوح النّسبة بين الإسلام والإيمان وامتزاج المفهومين معًا، وقد وضحنا سابقًا ذلك).

غموض اللّغة القرآنيّة في بيان الحدود الفاصلة بين الإيمان والإسلام أدّت إلى سجالاتٍ قويةٍ حول حكم أهل الكتاب، وبالخصوص اليهود والنصارى وهل هم مؤمنون؟

تأكيد القرآن على إسلام الأنبياء السابقين كنوح علیه السلام، وموسى علیه السلام وعيسى علیه السلام، وبالخصوص إبراهيم علیه السلام.

ص: 576


1- لمعرفة الشواهد القرآنية راجع معجم الموضوعات والأعلام في القرآن الكريم م.س. مادة أهل الكتاب.

وفي ضوء هذه المقدّمات تطرح الكاتبتان إشكالًا: كيف ينصّ القرآن من جهةٍ على إسلام الأنبياء السّابقين، وبالخصوص إبراهيم علیه السلام، ومن جهةٍ أخرى يصرّ على أنّ طاعة الله لا تتحقّق إلّا بطاعة الرّسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم في كلّ ما يأمر به وما ينهى عنه؟ كقوله تعالى:«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»، (سورة النساء، الآية 65)، وقوله تعالى:«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا»، (سورة الأحزاب، الآية 36).

جاء في المقالة (النّصّ المترجم):«كما يجدر بنا أن نذكر أنّه رغم القول إنّ بعض الناس السّابقين لمحمد (منهم إبراهيم) كانوا مسلمين (اسم الفاعل من الإسلام)، فإنّ القرآن واضحٌ في إصراره على أنّ طاعة الله تستلزم طاعة رسوله محمد»(1).

وفي هذه المقاربة، غفلةٌ عن مفهومٍ أساسيٍّ في الثّقافة القرآنيّة والإسلاميّة عمومًا، وهو التّمييز بين الإسلام بالمعنى العام والإسلام بالمعنى الخاص، فالقرآن الكريم تارةً يستخدم لفظ الإسلام للدّلالة على الدّين الخاتم والرّسالة الخاتمة التي جاء بها النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم ليميّز بينها وبين سائر الرّسالات وسائر الدّيانات كقوله تعالى:«الْيَوْمَ الله أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»، (سورة المائدة، الآية 3)، وقوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ : يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (سورة الصف، الآية 7). وقوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»، سورة آل عمران الآية 85).

وهناك آياتٌ عديدةٌ تتحدّث عن الإسلام بالمعنى العام، وهو الذي ينطبق على كلّ الدّين الإلهيّ المشترك بين جميع النّبوّات السّماويّة، فالدّين في جوهره عند الله واحدٌ، وهو التّسليم لله سبحانه:«وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»، (سورة

ص: 577


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س. ن ج4، ص 402، العمود (أ)

آل عمران الآية 19) وجاء في تفسير هذه الآية الأخيرة:«إنّ الدِّين عند الله سبحانه واحدٌ لا اختلاف فيه ولم يأمر عباده إلا به، ولم يبيّن لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إيَّاه، ولم ينصب الآيات الدّالة إلّا له، وهو الإسلام الذي هو التّسليم للحق الذي هو حقّ الاعتقاد وحقّ العمل. وبعبارةٍ أخرى هو التّسليم للبيان الصّادر عن مقام الرّبوبيّة في المعارف والأحكام، وهو وإن اختلف كمًّا وكيفًا في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنّه ليس في الحقيقة إلّا أمرًا واحدًا وإنّما اختلاف الشّرائع بالكمال والنّقص دون التّضاد والتّنافي، والتّفاضل بينها ،بالدّرجات، ويجمع الجميع أنّها تسليمٌ وإطاعةٌ لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله، فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده وبيّنه لهم، ولازمه أن يأخذ الإنسان بما تبيّن له من معارفه حقّ التبيّن ويقف عند الشَّبهات وقوف التّسليم من غير تصرّفٍ فيها من عند نفسه، وأمّا اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنّصارى في الدِّين مع نزول الكتاب الإلهيّ عليهم، وبيانه تعالى لما هو عنده دين، وهو الإسلام له، فلم يكن عن جهلٍ منهم بحقيقة الأمر وكون الدين واحدًا، بل كانوا عالمين بذلك، وإنّما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذرٍ. وذلك كفرٌ منهم بآيات الله المبيّنة لهم حقّ الأمر وحقيقته لا بالله فإنّهم يعترفون به، ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب، يحاسبه سريعًا في دنياه وآخرته أمّا في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحياة عنه، وأمّا في الآخرة فبأليم عذاب النار»(1).

وبهذا المعنى كان وصف الأنبياء السّابقين بالإسلام ووصيّة أقوامهم أن يكونوا مسلمين:

- «وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»، (سورة البقرة، الآية 132).

- «أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَابِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهَا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، (سورة البقرة، الآية 133).

ص: 578


1- موسوعة القرآن ،اليدن، م.س. ن ج4، ص 402 ، العمود (أ).

- «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِي النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، (سورة البقرة، الآية 136).

- «فَلَمَّا أَحَسٌ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»، (سورة آل عمران، الآية 52).

وهذا المفهوم العام للإسلام والتسليم لله: ينظر إليه القرآن كحقيقة كونيّة وجوديّةٍ تقرّ بها كلّ الموجودات وتعترف، يقول تعالى:«أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ»، (سورة آل عمران، الآية 83). ولنا عودة إلى هذه القضيّة فى المبحث الثالث من هذا الفصل لما نقارب النّظرية القرآنيّة في التعدّديّة الدّينيّة.

رابعا: الالتحام الإسلاميّ المسيحيّ بين الانتقائيّة والانحياز تاريخيًّا: حصل التّفاعل الأوّل بين المسلمين ومشركي مكّة، ولكن المقالة قدّمت التّفاعل الإسلاميّ المسيحيّ، وخاضت فيه وأرجأت البحث في التّفاعل مع المشركين لنهاية المقطع، بل وجيّرت البحث في هذا الالتحام مع المشركين لمناقشة إشكاليّة اعتبار أهل الكتاب من المشركين وفي ذلك إشارةً لأهميّة الجدل المسيحي الإسلامي في التّاريخ وفي نظرة الباحثتين. ولكن هذا الجهد التّحليليّ الذي قدّمته المقالة للحوار الإسلاميّ المسيحيّ، لم يخرج من الأطر الضّيّقة التي حبست الباحثتان نفسيهما فيه من البداية، فمع الادّعاء أنّهما تنظران للتفاعل الدّيني من بابه الانثربولوجي الواسع، الذي يشمل الأعلام والمؤسّسات والبيئة.... لكنّنا نرى انتقائيّةً واضحةً في اختيار الوقائع والأشخاص، وأيضًا انحيازاً واضحًا في تفسير تلك الوقائع وتلك المدارات للجدل والدفاع، كما أطلقتا عليها. ورومًا للاختصار نكتفي بالإشارة لبعض هذه التحيّزات والمقاربات التخمينيّة فاقدة الدّقّة:

أ. لا تجد الباحثتان بدًّا من الاعتراف بأنّ هناك سجالاتٍ دوّنها القرآن قد دارت مع المسيحيين، مع تأكيدها كالعادة أنّ القرآن لا يقدّم صورةً واضحةً عن مسيحيي الجزيرة:«وبالتّالي لا حاجة لاعتبار الإشارات المرجعيّة المختصرة إلى عقائد النّصارى

ص: 579

واليهود شهادات واضحة ودقيقة على عقائد أو أعمال معيّنة لهذه المجتمعات، رغم أنّ المؤشّرات القرآنيّة على الحجج اليهوديّة والمسيحيّة حول إبراهيم والسبت يمكن أن تكون عاكسةً لهذا النّزاع» (1)، فالقرآن دائمًا قاصرٌ على فهم المسيحيّة وطرح أصولها طرحًا محايدًا، بل هذه التّعمية عمّن يقصدهم من أتباع النّصرانية

واليهودية هي غطاءٌ یسمح له أن يزوّر أو يبدّل كيفما يشاء!!! جاء في المقالة: «عدا عن الافتقار إلى دليلٍ خارجيٍّ على وجود النّصارى اليهود في البيئة القرآنيّة يجب التأمّل في المقصد الجدلي للقرآن عند قراءة الآيات التي تُشير إلى الموحّدين الآخرين؛ إذ افترضت المواعظ القرآنيّة للنّبي وجود علم لدى الجمهور بالظاهرة التي تتحدّث عنها فسيكون لها حريّة المبالغة والتحريف حتى إطلاق الألقاب في جهدها لإقناع مستمعيها»(2).

ولكنّ مقالة «المسيحيون والمسيحيّة» التي جاءت في نفس الموسوعة لسيدني (Griffith Sidny) فنّدت هذا الطّرح:«وغالبًا ما كان العلماء الغربيون منهم بالخصوص، يقومون بتفسير بعض أجزاء الخطاب القرآني النّقديّ والاعتراضي للعقائد المسيحيّة التّقليديّة بشكلٍ خاطئٍ، حيث يرى هؤلاء أنّ الخلل الكامن في موقف القرآن من المسيحيين ناتجٌ عن سوء فهم بعض العقائد المسيحيّة، أو بكونه أي الخطاب القرآني، أرجع صدى بعض العقائد الخاصّة بجماعاتٍ مغمورةٍ.... إن هذه التّفسيرات كانت ناتجةً في الغالب عن نهجٍ انفعاليٍّ أو اعتذاريٍّ حيال القرآن، وهي ليست ناتجةً عن فحصٍ تاريخيٍّ دقيق للبيئة التي ظهر فيها النّصّ، أو للذين توجّه إليهم في المقام الأوّل»(3).

ب. إطلاق تسمية النّصارى على المسيح بشكلٍ خفيٍّ تعبّر الباحثتان عن نوعٍ من الامتعاض لإصرار القرآن على استخدام اسم النّصارى وعدم استعمال التّرجمة الحرفيّة للعبارة اليونانيّة: Christian أي مسيحيّة بالعربيّة، وترجع أصل الاشتقاق

ص: 580


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج 4، ص 407، عمود (أ).
2- م.ن.
3- انظر: من مقالة المسيحيون والمسيحية، ج 1، صص 307-316

في عبارة النّصارى إلى النّسبة إلى مدينة النّاصرة في الجليل، التي نشأ فيها المسيح. ومع وجود رأي آخر لأصل التّسمية حاول البعض أن يستدلّ عليه، لم تشر إليه المقالة و هو أن تكون أصل التّسمية: من عبارة أنصاري إلى الله في قوله تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِتِينَ مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَابِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ»، (سورة الصف الآية 14). وقد ذكره صاحب المفردات كأحد وجهي التّسمية: «والنّصارى قيل سمّوا بذلك لقوله تعالى«كونوا أنصار الله....». وقيل سمّوا بذلك انتسابًا إلى قرية يُقال لها نصران، فيقال نصراني وجمعه نصاری»(1).

ومع تضعيف الوجه القرآني للتسمية وتقريب النّسبة المكانيّة؛ لأنّه يصعب تبرير التّسمية من أصلٍ لغويٍّ أو دينيٍّ آخر فلا بدّ أن تكون التّسمية ناشئةً من بيئة القوم الأصليّة، ولكن هذه التّسمية في النّهاية كانت معروفةً وشائعةً بين العرب، ونجدها ماثلةً في الشّعر الجاهليّ، وكان المسيحيون في البيئة العربيّة يطلقون على أنفسهم هذا الاسم والقرآن خاطب العرب بلغتهم ومفرداتهم، وإلى فترةٍ تاريخيّةٍ قريبةٍ كان المسيحيون في الشّرق يتمسّكون بهذه التّسمية.

وبناءً على ذلك لا بدّ أن يكون إطلاق القرآن لهذا الاسم دليلًا يُستدلّ به على موضوعيّة القرآن الكريم واحترامه للأديان، فديدن القرآن أن يلتزم في تسمية الأديان ما سمّت به نفسها وهذا حال القرآن مع سائر الأديان والملل والنحل التي ذكرها كاليهوديّة والمجوسيّة ...والصابئة...

ومن جهةٍ أخرى لماذا يتحسّس البعض من هذه التّسمية، فإن كان المسيح قد ارتضى لنفسه هذه التّسمية، فلماذا لا نقبلها في حقّ أتباعه؟.

ففي الأناجيل، جاء اسم يسوع النّاصري في ثمانية عشر موضعا: نكتفي بذكر بعضها:

- وهكذا كان يسوع الناصري انجيل متى (71 - 26)

ص: 581


1- الراغب الأصفهاني، المفردات م. س ص 640.

- «فسألهم من تطلبون ؟ قالوا: يسوع الناصري»، إنجيل يوحنا (7: 18).

- «فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِي، ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!»، إنجيل مرقس (47: 10)

- فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِي مُجْتَاز، إنجيل لوقا (37: 18).

وتغيب عن الكثيرين خصوصيّة النّظرة القرآنيّة للأديان وموقفه منها: فالقرآن يرى أنّ المسألة الجوهريّة لتقويم الأديان في كينونتها ومآلاتها: ليست مسألةً قشريّةً تعود إلى الأسماء والألقاب، بل الأساس هي المبادئ والمضامين يقول تعالى:«وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِتُهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»، (سورة البقرة، الآيات 111 - 113). فالقرآن الكريم يرفض هذا المنطق الذي كان سائدًا بين الأديان في نفي بعضها البعض وادّعاء انحصار النّجاة والخلاص في الذّات دون الآخرين.

ج. تطوّر الموقف القرآني من المسيحيّة واليهوديّة تحكمه المواقف السياسيّة: في أكثر من موضعٍ أثارت المقالة هذه المسألة (1)بل فسرّت تشريع بعض التّشريعات، كتطوّر في منحى العلاقة مع الأديان الأخرى، ومحاولة لتكريس التّباعد والانفصال عن أتباعها: كتغيير القبلة، وتبديل محدّدات الصوم... بل استفادت من بعض الدّراسات الاستشراقيّة حول المنظومة الطقوسية للإسلام، وبالخصوص الطهارة والوضوء كمحدّدٍ من محدّدات الاتّصال أو الانفصال مع الآخر(2).

وهذا يعبّر عن قصورٍ في فهم فلسفة التّشريع في الإسلام، فهذه التّشريعات تحكمها منظومةٌ متكاملةٌ من الأسس التي تعود إلى مقاصد الشّريعة، والمصالح والمفاسد وضرورات الزمان والمكان كما راعى التّشريع زمن الرّسالة منطق التّدرّج

ص: 582


1- انظر موسوعة القرآن م.س، ، ج4، ص 412 العمود (ب).
2- م. ن ج 4، ص 407 ، العمود (أ) .

في تبليغ الأحكام لقرب النّاس من الجاهليّة واحتياج الانتقال من منظومةٍ قيميّة وقانونيّة إلى منظومةٍ جديدةٍ إلى تدرّجٍ ومرونةٍ، خاصة إذا كانت المنظومة الجديدة منظومةً قائمةً على رؤيةٍ كونيّةٍ مغايرةٍ وتصوّرٍ كونيٍّ جديدٍ.

أمّا أصل الموقف القرآني من الأديان، فهو موقفٌ يستند إلى أسسٍ ثابتةٍ، فالقرآن حافظ على رؤيةٍ موحّدةٍ من أهل الكتاب وأسّس عليها منظومة أحكامٍ من حلّية طعامهم، وحلّيّة الزّواج منهم، ودفع الجزية.... إلخ، أمّا المحاربون منهم وناكثو العهود فلهم أحكامهم الخاصّة أيضًا... وهكذا فإنّ التشريعات التي سنّها الإسلام ليست انفعاليّةً، وتنبع من نزعةٍ براغماتيّةٍ، تسامحت في العصر المكّي وتشدّدت في العصر المدني، وإنّما بعض الأحكام لم يكن لها موضوعيّة في المرحلة المكيّة أو في الفترة المبكرة من العصر المدني.

د: توجيه الحوادث والوقائع: يتجلّى الانحياز في سياقات بعض الشّواهد، التي جاء ذكرها في المقالة كنماذج على التفاعل الإسلاميّ المسيحيّ في القرآن. ولكن ما يُلاحظه القارئ، أنّ هذه السّرديات لتلك الوقائع في كثيرٍ من الأحيان تعاني من خللین بارزین:

- إهمال أو تجاهل تفاصيل مهمّة في الواقعة من شأنها أن تخدم الفكرة والهدف من البحث، وإغراق القارئ في هوامش جانبيّةٍ.

- تغليب الدّور المسيحيّ في العلاقة التّفاعليّة، وإعطاؤه الحيّز الأكبر.

ولنقف سريعًا عند شواهد هذين الخللين في شكل نقاطٍ.

* تعظيم الدّور الذي لعبه الرّاهب بحيرا في الإخبار بنبوّة النّبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم وشهادته بتحقّق العلامات فيه، وكذلك لا تغفل عن دور ورقة بن نوفل المزعوم في طمأنة خديجة والرّسول بأنّ ما عاشه محمد في غار حراء هو الناموس الأكبر الذي جاء لموسى علیه السلام.

* ومن جهةٍ أخرى لا تُحدّثنا الباحثتان عن الحبشة وهجرة المسلمين

ص: 583

الأوائل إليها، نراهما لا تحاولان تفسير الأثر الحاصل وراء هذا اللّقاء المسيحي الإسلامي، وتغفلان عن كثيرٍ من التّفاصيل المهمّة كتقديس القرآن للسيدة مریم علیها السلام وللمسيح علیه السلام وتأثّر النّجاشي بهذا الموقف القرآني، والأقوال التّاريخية في إسلام النّجاشي، ودور جعفر الطيّار في الحوار مع النّجاشي...

* من الوقائع التي تنقلها المقالة: قضيّة المباهلة مع نصارى نجران، فمع أنّ موضوع المباهلة يمثّل قضيّةً مركزيّةً في الجدل الإسلامي المسيحي حول طبيعة المسيح نرى اختزالًا للأحداث وإغفالًا لسبب انسحاب وفد نجران عن المباهلة، وإعراضًا عن الحديث عن أشخاص وفد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، والتي تمثّل الواقعة فضيلةً ومنزلةً إلهيّةً خاصة بهؤلاء (أصحاب الكساء)، وبالمقابل تغرق المقالة القارئ في التّحقيق حول معتقد وفد نجران والخلفيّة النسطوريّة للوفد !!!!

ه_ : المفارقة الكبرى: لما تكون الحنيفيّة فيها شائبة الشّرك والتّثليث هو الإيمان بالمسيح: لمّا يوازن القارئ المدقّق بين مناقشة المقالة لدلالات مصطلح حنيف، كما مرّ بنا (في المبحث السابق)، وربط هذا المصطلح الممحّض قرآنيًا في الإخلاص ونفي الشّرك بمصطلح الهاجريّة، وذلك استنادًا إلى مقاربةٍ فيلولوجيّةٍ مع أصولٍ لغويّةٍ سريانيّةٍ، وفي أحسن الأحوال تعتبره مفهومًا لاهوتيًّا غامضًا، ومن جهة أخرى نراها تُرجع لفظ التثليث «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ»، (سورة المائدة، الآية 73)، إلى أصولٍ سريانيّةٍ؛ ليكون معناها: لقب المسيح !!! جاء في المقالة:«وتركّز الرّد على المسيحيين بشكلٍ رئيسيٍّ على مسألة الثّالوث أو الموضوعات المسيحانيّة الآية (5:73) وراجع Griffith السريانيات من أجل الحجّة القائلة إنّ هذه ترجمة عربية لكلمة سريانية، وهي وفقًا للسانيات الحديثة تفقد معناها الأصلي، أي أنّ الصّفة ثليثايا لقب للمسيح»(1).

إنّنا إزاء هذه المفارقة في الاستخلاصات والنتائج التي تقود إليها هذه المعالجات الفيلولوجيّة المزعومة، لا نملك إلا أن نترحّم على الحياد والتّجرّد العلميين !!

ص: 584


1- موسوعة القرآن ليدن، م. س.،ج4، ص 413 العمود (أ).

خامسًا - اللّقاء الإسلاميّ اليهوديّ: بين تكرار منظومة الأوهام وهفوات المنهج:

لم تختلف كثيرًا معالجة اللّقاء الإسلامي اليهودي عن نظيره الإسلامي المسيحي بلحاظ المشتركات العديدة في القرآن في النّظرة إلى الدّيانتين (أهل الكتاب)، ولكنّنا سنقتصر في بيان الهنات المضمونيّة والمنهجيّة على نقاطٍ ثلاث:

أ. الإسلام لا يعرف اليهوديّة جيّدًا: تعتبر الباحثتان أنّ القرآن في عرضه للعقائد اليهوديّة، هو لا يُبدي معرفةً دقيقةً بأصول اليهوديّة كما مرّ بنا مع المسيحيّة!:«ورغم أنّ أصول وشعائر الجماعات اليهوديّة في بيئة محمد لم تكن موثّقة جيدًا، فإن الدّليل القرآني، وكذلك المصادر الأخرى كالحديث والسيرة، تُشير إلى تواجد المجتمعات اليهوديّة في الجزيرة العربية في القرن السابع»(1). وقد رددنا على الأساس المنهجي لهذا الإشكال سابقًا (في إنكار معرفة الإسلام لعقائد أهل الكتاب عمومًا). لكن نضيف هنا ما جاء في مقالة اليهود واليهوديّة للمستشرق أوري روبين الذي قدّم قراءةً واضحةً لليهود واليهوديّة في القرآن وبيّن تاريخ العلاقة، وكشف حقيقة هذا الادّعاء المزعوم في تقريب القرآن لعقائد اليهود والموقف منهم؛ إذ عزاه للتشكيك الذي حصل في تاريخ القرآن وإرجاع تشكّل القرآن إلى مرحلةٍ متأخّرةٍ على نزوله وتدوينه، كما يعتقد المسلمون،«لكن في ضوء الشّكّ الذي أثاره بعض العلماء حديثًا، والذين أشاروا إلى أنّ القرآن اتّخذ صيتغه النّهائيّة في وقتٍ متأخّرٍ جدًا عن أيّام محمد، وحتى ربّما ليس في الجزيرة العربيّة . انظر : Q.S,Wansbrough؛ وانظر أيضًا: دراسة أكاديميّة ما بعد تنويريّة للقرآن) لم يعد تاريخ العلاقات المفترضة بين محمد واليهود واضحًا»(2).

ب. البحث عن جذر يهودي للإسلام: في اللقاء الإسلامي المسيحي، جمعت كلّ القرائن التي تدعم الفرضيّة الاستشراقيّة برجوع أصول الإسلام إلى ديانات أهل الكتاب، وأكّدت بالخصوص على قصّة بحيرا الرّاهب، وعلى ذلك نرى في اللقاء

ص: 585


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج4، ص 405، العمود (أ).
2- انظر: مقالة اليهود واليهودية لأوري روبين، ج 3 من الموسوعة، صص 21-34.

الإسلامي اليهودي الدعوى تتكرر، وفي هذا السّياق تقول الباحثتان: «الشّخصيّة الأبرز في الرّوايات الإسلاميّة المسيحيّة على السّواء هي الرّاهب بحيرا... توجد روايات لأحد النّساخ اليهود الذين كتبوا عن محمد الذي وفقًا لرأي الرّاوي إمّا أنّه علّم محمدًا العقيدة اليهوديّة أو أثبت نبوّة محمد»(1).

وهذه فرضيّات بائسةً خلنا أنّ التّطوّر المنهجي في الدّراسات الاستشراقيّة قد تجاوزها، ولكن يبدو أنّ وهم: (ماذا أخذ محمد من اليهود؟) للحبر اليهودي أبراهام جيجر (1810 (1874م) لا يزال مهيمناً حتى على هؤلاء المستشرقين الحداثيين !! (1810-1874م) ولنا عود للموضوع في نقد الفرضيّات (المبحث الرابع).

ج. تهميش وثيقة المدينة وتجاهلها: تعتبر وثيقة المدينة أبرز واقعة في تنظيم العلاقات مع الأطراف الدّينيّة والسّياسيّة في مجتمع المدينة، وهي وثيقةٌ وضعها الرّسول في السّنة الأولى للهجرة (الشهر الخامس أو (الثامن) وتتألّف من الكثير من البنود فعدّها البعض 47 بندًا، وبعضهم أرجعها إلى أكثر من خمسين بندا، جاء في سيرة ابن هشام:«وكتب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم: باسمه الله الرحمان الرحيم هذا كتاب من محمد النّبي صلی الله علیه و آله و سلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة دون الناس...»(2).ثم يفضّل بنود هذا العهد، ومن البنود التي يجب الوقوف عندها في هذه الصّحيفة، والتي تفسّر لنا ما حدث من إخراجٍ ليهود بني النّضير في السّنة الرابعة للهجرة وإجلاء يهود بني قينقاع ثم مقاتلة يهود بني قريظة في السنة الخامسة للهجرة. ومن تلك البنود:

- «إنّه من تبعنا من يهود فله النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم».

- «وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد صلی الله علیه و آله و سلم».

ص: 586


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج 4 ، ص 410، العمود (ب)
2- الحميري عبد الملك ابن هشام : السيرة النبوية تح مصطفى السقا لا ط بیروت، دار حياء التراث العربي، لا ت، ج 2، ص 147.

- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين».

- «وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته».

- وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم وإنه يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم».

- «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين».

- «وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها».

- «وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإنّ مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه»(1).

ولكنّ اليهود نقضوا هذا العهد وخانوا مواثيقها فتآمروا مع المنافقين ومع مشركي قريش، بل أسّسوا تحالفًا لغزو المدينة والقضاء على الإسلام، فكانت العقوبة العادلة إخراجهم من المدينة، ولكن بعد ما تبيّن للمسلمين أن مجرّد إخرارج النّضير وقنيقاع لم يردعهما عن التآمر على المسلمين والتّحالف مع قريش في غزوة الأحزاب للهجوم على المدينة في السنة الخامسة للهجرة وبعد أن ثبت أنّ بني قريظة انضمّوا للأحزاب وشكّلوا تهديدًا للمسلمين ولظهر المدينة بعد أن ظنّ المسلمون أنّ تلك الجبهة آمنة من جهتهم للعهد بينهم، لذلك كانت عقوبة هؤلاء أشدّ بعد أن حكّم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فيهم حليفهم من الخزرج سعد بن معاذ، فكان جزاؤهم قتل رجالهم المحاربين وسبي نسائهم وغنيمة ممتلكاتهم، كما تنصّ تعاليم التّوراة، وكما هي شرائع الحرب في العلاقات الدّوليّة السّائدة أنذاك.

ولقد سجّل القرآن الكريم كلّ هذه الخيانات من طرف اليهود، ففي سورة

ص: 587


1- انظر: ابن هشام، السيرة الحلبيّة، م.س، ج 2، ص 142.

الحشر (الآيتان11و 12) حدّثنا القرآن الكريم عن طرد بني النّضير، وفي الآيات 58 و 59 و 60 من سورة الأعراف يحدّثنا عن بني قينقاع، وفي سورة الأحزاب (26 و27) يحدّثنا عن قضيّة بني قريظة.

لقد أغفلت المقالة، أو تغافلت عن أهمّ وثيقةٍ في الفكر السّياسيّ الإنسانيّ القديم التي تعبّر عن إيمانٍ عميق بالتّعدّديّة الدّينيّة ضمن مجتمعٍ سياسيٍّ واحدٍ، وعن التّسامح والتّعايش بين الطّوائف والمذاهب ، ولكن «علينا أن نؤكّد أنّ فشل هذه التّجربة بسبب اليهود لم يلغِ الفكرة المركزيّة التي أنشئت لهذه الصحيفة، وهي تكوين المجتمع السياسي المتنوّع في الانتماء الدّيني وإقامة دولة لهذا المجتمع، على أساس الإسلام، بل إنّ هذا المبدأ التّشريعي السياسي الإسلامي لا يزال قائماً، ويمكن العمل به دائما في كلّ عصر وفي نطاق أيّ جماعة بشرية»(1).

سادسًا: الالتحام مع المشركين: قضيّتان نكتفي بهما في مدار العلاقة والتّفاعل بين المسلمين والمشركين وكلّ واحدةٍ تؤشّر إلى مكمنٍ من مكامن النّهج المعتمد في المقالة:

أ. القضيّة الأولى: في إشارةٍ سابقةٍ تحدّثت المقالة عن تأثّر القرآن الكريم بالتّراث المسيحي واليهودي(2)، ما أطلقت عليه التّأثير التّوحيدي (monotheistic influence)، مع أنّ الدّراسة الموضوعيّة للأصول الاعتقاديّة في الدّيانات الثلاث، تقود إلى الإقرار بأنّ التّنزيه التّوحيدي الذي عبّر عنه القرآن الكريم والتوحيد الخالص الذي دعا إليه لا يمكن أن ترقى إليه الرؤية اللاهوتيّة في المسيحيّة (المسيح ابن الله) واللّاهوت اليهودي (اليهود شعب الله المختار)، فالله في المسيحيّة هو أب الإنسان، والله في اليهوديّة إلهٌ قوميٌّ، ولكنّه سبحانه في عقيدة المسلمين ربّ العالمين وإله النّاس أجمعين ونسبته إلى كلّ الخلق وإلى كلّ الموجودات نسبة واحدة، وهو منزّه عن كلّ شائبة ونقص،«ليس كمثله شيء»،(سورة الشورى،

ص: 588


1- شمس الدين محمد مهدي في الاجتماع السياسي الإسلامي، ط1، بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1992، ص314.
2- موسوعة القرآن ليدن، م.س. ج4، ص 399، العمود (ب).

الآية 11)،«وما قدروا الله حق قدره»، (سورة الزمر، الآية 67).

وفي آياتٍ عديدةٍ يؤكّد القرآن الكريم على أنّ التوحيد في الإسلام هو امتدادٌ للدعوة الإبراهميّة، وأنّ إبراهيم علیه السلام هو ممثّل الحنفيّة المخلصة، وهو الذي سمّى الموحّدين ،بالمسلمين والآيات في سورة البقرة من الآية 124 إلى الآية 141 تحدّثنا عن التّأسيس الإبراهيمي للحنفيّة السّمحاء وتشييد بيت الله الحرام ودعوة النّاس إلى الحجّ، وأيضًا التّبشير بالنّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم والدّعاء لله بأن يُرسل في هذه الأمة نبيًّا :«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، (سورة البقرة، الآية 129).

«فلقد قيل كلّ شيء في هذا المقطع الرّائع، فإبراهيم هو الذي أقام البيت بأمر من الله، وساعده ولده إسماعيل، جدّ العرب، وهو المسلم الأوّل ذاك الذي أسلم لله وجهه آمن به وبه ،وثق وسلّم أمره إلى مشيئة الله... وتختم صلاة الجدّين المؤسسين بالتّمنّي على الله بأن يُرسل من ذرّيّتهما نبيًّا يعلّمه الحقّ، وهذه إشارةً واضحةٌ لمحمد»(1).

وتتوالى الآيات لتؤكّد هذه الحقيقة: التجديد الإبراهي للتوحيد الإلهي وإعادة إقامة البيت الحرام وتجديد قواعده وانتساب الدّعوة المحمّديّة إلى تلك الرّسالة وتلك الأمّة العظيمة، ومن هنا كان النّبيّ يحاجج اليهود خاصّة وأهل الكتاب عمومًا في أنّه أولى من إبراهيم، وأنه علیه السلام أسبق من التّوراة والإنجيل، فكيف يحاججون رسول الله فيه، وهو الذي ينتمي إليه نسبًا وعقيدةً !!! وهذا المقطع من سورة آل عمران يعلن الموقف ويضع الأمور في نصابها:

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزَلَتِ التَّوْرَاةَ وَالإنجيل إلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ مَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا

ص: 589


1- جعيط ،هشام مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام ،لاط، دار الطليعة للنشر، بيروت، لا.ت، ص76

وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (آل عمران، 65-68).

ولكن الغريب أن تحاول الباحثتان من تخفيف حدّة نزعة الشّرك والوثنيّة عند مشركي قريش، وتنقل عن Hawting في كتابه (idia of idolatry) أنّ الجدل معهم يكشف عن صراعٍ مع موحدين!!!(1)

وهذا الاشتباه في الواقع يعود إلى الاختلاط والامتزاج الذي حصل في عقيدة المشركين بين الإرث الإبراهيمي التّوحيديّ وبين عبادة الأوثان:«جاء في كتاب الأصنام:«وكان الذي سلخ بهم (أهل مكة)، إلى عبادة الأوثان والحجارة أنّه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل حجارة من حجارة الحرم، تعظيمًا للحرم وصبابةً بمكة، فحيثما حلّوا وضعوه، وطافوا به كطوفهم بالكعبة، تيمّنًا منهم بها وصبابةً بالحرم وحبًّا له وهم بعد يعظّمون الكعبة ومكة، ويحجّون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل علیهما السلام ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبّوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان، وصاروا على ما كانت عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا (استخرجوا) ما كان يعبد قوم نوح علیه السلام منها، على إرث ما فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسّكون بها: من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة، والوقوف على عرفة والمزدلفة وإهداء البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم ما ليس منه»(2).

ب. القضيّة الثّانية: النّزعة الماديّة الاقتصاديّة التي تتّخذها المقالة في تحليل أسباب الصّدام بين المسلمين والمشركين، وأنّ رفض المشركين لرسالة الإسلام، ناشئٌ من خشيتهم على مركز الشّرك وموسم الحج وعلى مكتسباتهم الاقتصاديّة، ومن جهته تحرّك الرّسول في معادلة الصّراع هذه من منطلق استقطاب الفقراء، والعبيد ،والضّعفاء، الذين همّشهم التّفاوت وطبقيّة النظام الاجتماعي القبلي المكي.

ص: 590


1- موسوعة القرآن ليدن م.س.، ص 399، العمود (أ).
2- ابن السائب الكلبي هشام بن محمد الأصنام، تح: أحمد زكي باشا ،ط3 ،مصر ، دار الكتب المصرية، 1995 ، ص6.

ولا نريد أن نطيل النّقاش في مثل هذا التّحليل الذي يتماهى مع العديد من المسائل التي جاءت في المقالة، والتي تجانب التّفسير الواقعيّ لجوهر الرّسالة المحمديّة (الأخذ بعين الاعتبار العامل الغيبي والتّاريخي والاجتماعي...) وتسقط في تفسيراتٍ وضعيّةٍ تستغرق في أغلب الأحيان في نظريّة العامل الواحد، التي أثبت الفكر الإسلامي بطلانها وقصورها عن تفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية،«فقد جنح جمهورٌ من الكتّاب والمفكّرين إلى تفسير المجتمع والتّاريخ بعاملٍ واحدٍ من العوامل المؤثّرة في دنيا الإنسان؛ إذ يعتبرونه المفتاح السّحري الذي يفتح مغاليق الأسرار، ويمتلك الموقف الرّئيسي في عمليّات التّاريخ، ويفسّرون العوامل الأخرى على أنّها مؤثّراتٌ ثانويّة، تتبع العامل الرئيسي في وجودها وتطوّرها وتقلبها واستمرارها(1).

المبحث الثالث: النظريّة القرآنيّة في التَّعدّديّة الدّينيّة بين الوهم والحقيقة:

بعد أن استغرقت الباحثتان طويلًا، في بحث المفردات، والمجتمعات الدّينيّة وتفاعلاتها في القرآن، خصّصت القسم الأصغر من المقالة للإجابة عن الإشكال الرئيسي للمقالة: هل للقرآن موقف من التّعدّديّة الدّينيّة؟ وما هو؟

ولمّا كانت النتائج دائمًا تتبع أخصّ المقدّمات، فمن الطّبيعي أن نصل في نهاية المطاف إلى طريقٍ مسدودٍ : ففي ضوء التّمشّي الذي سلكته الباحثتان في القسمين الأوّل والثاني من الدّراسة، وبالنّظر إلى كلّ ذلك الرّكام من الإشكالات الفنّيّة والمنهجيّة والمضمونيّة التي رصدناها، كان من الطبيعي ألّا نبلغ نتيجةً دقيقةً وحاسمةً. وهذا يتجلّى بوضوحٍ في التّردّدات والتّناقضات التي تضمّنها هذا المقطع: فمرّة تصرّح الكاتبتان:«لا يوجد موقفٌ قرآنيٌّ واحدٌ من الأديان الأخرى»(2)، ومرة ثانية تصرّح «لا يوجد حكمٌ قرآنيٌّ حيال التّعدّديّة الدّينيّة»(3). ومرّة ثالثة تعتبر أنّ بعض الموضوعات القرآنيّة المرتبطة بالأديان الأخرى تعبّر عن عن«رفضٍ لشرعيّة التّعدّديّة الدّينيّة النّاتجة عنها»(4).

ص: 591


1- انظر الصدر محمد باقر اقتصادنا، ط20، بیروت، دار التعارف للمطبوعات، 1987، ص39.
2- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج 4، ص 414، العمود (أ).
3- م ن ص.ن. العمود (ب). م.
4- موسوعة القرآن ليدن، م.س، ج 4، ص.415. العمود (أ).

ويبدو أنّ الذي عقّد مهمّة الباحثتين أكثر، أنّ جوهر إشكاليّة المقالة تنبع من دراسةٍ قرآنيّةٍ لمفهومٍ معاصرٍ، تبلور حديثًا في الفكر الغربي، واللّاهوت المسيحي بالخصوص، وهكذا دراسة تتطلّب الكثير من التّدقيق في فهم سياقات النّصّ، وحقوله الدّلاليّة، وتنقيح منهج واضح في فهم الآيات القرآنيّة واستنطاقها، وتفسير بعضها في ضوء البعض الآخر،(فالقرآن يصدّق بعضه بعضًا ويفسّر بعضه بعضًا) لاستكشاف الموقف القرآنيّ، حتى لا نتورّط في إسقاطاتٍ بعيدةٍ عن روح النّصّ أو رؤية تجزيئيّة تضّيق الرّؤية القرآنيّة في دائرة دلالات بعض آياته في الموضوع دون غيرها، أو نتورّط في توهّم التّناقض والتّهافت بين ظواهر الآيات كما حصل للباحثتين على ما يبدو.

وهذا الموقف التّقييميّ القلق والمضطرب للنظريّة القرآنيّة في التعدّديّة الدّينيّة جاء محفوفًا بالكثير من الاشتبهات والمصادرات كالنّظرة الاتّهاميّة لمصنّفى الملل والنحل، والنّظرة الاتّهاميّة للمفسّرين وتكريسهم لرؤيةٍ بعيدةٍ عن القرآن، موقف القرآن من العقاب الأخروي لغير المسلمين...

وتوّج المسار أيضًا بقراءةٍ خاطئةٍ للموقف العملي الذي يوجّه الإسلام المسلمين له في التّعاطي مع الأديان الأخرى؛ حيث يبلغ الوهم مداه: «فإنّ المفسّرين المتأخرين يميلون لتصنيف غير المسلمين، كلّهم حتى أهل الكتاب في هذه الخانة مما شجّع على تفسير القرآن على أنّه يمكن أن يؤيّد موقفًا عدائيّا تجاه غير المسلمين وحتى تجاه المسلمين الذين لا يعتبرون مسلمين صالحين»(1). ومن هنا تكون المعالجة التي نطرحها في هذا المبحث قائمةً على ركنين:

الركن الأوّل: لمحةً عن الرؤية القرآنيّة حول التعدّديّة الدّينيّة.

الركن الثاني : الرّدّ على أهم المصادرات المعتمدة

الركن الأوّل: الرؤية القرآنيّة حول التعدّديّة لما كان المقام لا يسمح بالطّرح

ص: 592


1- موسوعة القرآن ليدن، م.س. ج4، ص 414 العمود (ب).

التّفصيلي، سنكتفي بعرض أصول الرّؤية القرآنيّة ومحدّدات النّظرية القرآنيّة للأديان والتّعدّد الدّيني وأسس منظومته الأخلاقيّة والسّلوكيّة في التّعامل مع الآخر.

وسنمهّد لذلك كلّه بتوضيحاتٍ حول أطروحة التّعدّديّة الدّينيّة ونبذةٍ عن تاريخها، حتى لا نقع فيما وقعت فيه المقالة من خللٍ منهجيٍّ: فاستكشاف النّظريّة القرآنيّة في مثل هذه الموضوعات ينطلق من إحاطةٍ بالقضيّة المعاصرة والفهم الدّقيق لأبعادها وأسئلتها التي يفرضها ،واقعها ثم القدوم على القرآن الكريم لنعرض تلك التساؤلات محاولين استنطاقه ومحاورته حول كلّ تلك القضايا والإشكالات ونسعى للإنصات في حيادٍ لكلّ المضامين القرآنيّة، عسانا ندرك جوابه!

1. التعدّديّة: التعريف والجذور: التَّعدّديّة تعني التنوع والتكثّر، ولكلمة التَّعدّديّة معان كثيرةٌ ومختلفةٌ، تختلف باختلاف متعلّقها: فهناك تعدّديّة فلسفية، تعدّديّة سياسيّة، تعدّديّة ثقافيّة، تعدّديّة دينية... وفي الجملة هو المذهب الذي يتقبّل التّنوّع والكثرة. وفي الفلسفة تطلق التّعدّديّة على القول بوجود كائناتٍ متعدّدةٍ يتكوّن منها العالم، متناقضةً في ذلك مع الواحديّة (nomism)، التي تردّ كل الكائنات إلى جوهرٍ أو مبدأٍ واحدٍ وضدّ الثّنائيّة التي تُرجع العالم إلى مبدأين.

أمَّا التَّعدّديّة السّياسيّة : فهو مفهومٌ كرّسته الليبراليّة، وهو يتجلّى في التّكتّلات والتّشكيلات الحزبيّة المتنوّعة في الانتخابات في مختلف مستوياتها الرئاسيّة أو البرلمانيّة أو المحليّة، بحيث تتشكّل الحكومات والمجالس المحليّة بهيئاتٍ تمثل كلّ الاتّجاهات.

2. التعدّديّة الدّينيّة: باستقراء الأديان، نرى أنّ الانحصاريّة في الحقّانيّة والخلاص الفكرة الطّاغية على جميع المتديّنيين، فالاعتقاد الشّائع بأنّ الحقيقة والخلاص في الدنيا والآخرة يتحقّقان في دينٍ واحدٍ فقط، هو الصّراط المستقيم، وربّما استوحى البعض من القرآن هذا المعنى: كقوله تعالى:«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»، (سورة آل عمران الآية 19)،«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»، (سورة آل ،عمران الآية 85) ومن المسيحيّة: ما جاء على لسان يسوع في إنجيل يوحنا: إذ

ص: 593

يقول: «أنا هو الطريق والحقّ والحياة. ليس أحدٌ يأتي إلى الأب إلا بي»، إنجيل يوحنا 6 :14) وظلّ اللّاهوت المسيحي والكنائس عمومًا، وخصوصًا الكنيسة الكاثوليكيّة، تلتزم هذه الرّؤية «لا خلاص خارج الكنيسة» إلى أن تجاوزت هذه النّظرة في المجمع الفاتيكاني الثاني» الذي انعقد (بين سنة 1962 و 1965) حين أعلنت الكنيسة أنّه يمكن تعلّم الحقائق الأساسيّة من دياناتٍ أخرى، وبرّأت في هذا المجمع اليهود من دم المسيح.

وهذا التّطوّر في الموقف الكنسيّ الرسميّ من الأديان الأخرى، عمّق وساند جهود العديد من المفكّرين وفلاسفة الدين ورجالات اللّاهوت الذين بادروا بطرح تصوّراتٍ جديدةٍ في تفسير التَّنوّع الدّينيّ، ومصير المخالفين، وطبيعة الموقف منهم. وهكذا برز رموزٌ عدَّة من رجال اللّاهوت الغربي، وكلّ منهم وضع لبنةً في بناء عقيدة لاهوت الأديان، مساوين بين المسيحيّة وبقيّة الأديان، نذكر منهم: إرنست ترولتش، وهو صاحب فكرة «أنّ المسيحيّة لا تمتلك فكرة الحقيقة المطلقة» (1865 - 1923)؛ کارل بارت (1886-1968) هو صاحب فكرة أنّ الدين يمثل جهدًا بشريًّا لمعرفة الله، ولذلك كلّ دينٍ يحوي صورًا مشوّهةً وأصنامًا بعيدةً عن الله؛ كارل راهنر (1904-1984) صاحب فكرة أنّ الأديان الأخرى تحتوي على قيمٍ أخلاقيّةٍ، وروحيّة وثقافيةٍ، فيمكن أن تكون طريقًا لخلاص أتباعها جاك ديبوي، وهو صاحب فكرة أنّ السيد المسيح حاضرٌ وفاعلٌ في كلّ الأديان، فهو يخصّ كلّ الأديان، بل كلّ الأديان خاصّته؛ وأشهر هؤلاء جان هيك (1934_2012) الذي يرى لكلّ دينٍ خصوصيّته وطريقته المستقلّة فى الوصول إلى السّعادة، ولكن بما أنّ هدف جمیع الأديان واحدٌ، وجميعها تسعى للوصول إلى الحقيقة ومقصدها واحد، لذلك فجميع الأديان يمكن أن تكون على حق، فالأديان هي طرقٌ ومسالكٌ ومشاربٌ إلى نبعٍ واحدٍ ويقرّب الفكرة من خلال مثال في علم الفلك: الأرض كانت على مدى قرونٍ طويلةٍ هي المحور الذي يدور حولها العالم وفق النّظريّة البطلوميّة القديمة، بينما الحقيقة خلاف ذلك، وذلك كان مجرّد تصوّرٍ إنسانيٍّ للقضيّة، ومن ثم ظهر أنّ المحور شيء آخر، والأرض جزء من منظومةٍ تدور حول هذا المحور. وفي مجال

ص: 594

الدين الأمر كذلك، كان المتديّنون وعلى مدى قرونٍ يتصوّرون أنّ دينهم هو محور الحقيقة، وأنّه السّبيل الوحيد للوصول إليها، وأنّ السّبل الأخرى لا بدّ أن تدور في فلك دينهم، ووجدنا الآن أنّ المحور هو أمرٌ آخر ، هو الحقيقة ذاتها (الله) التي تسعى جميع الأديان والمذاهب للوصول إليها.

كما استفاد جون هيك في مقاربته للتعدّديّة الدّينيّة من نسبيّة الفيلسوف كانت (1724-1804) التي تميّز بين الشّيء في ذاته والشَّيء لذاتنا، وبناء عليه فالحقيقة الدّينيّة واحدةً، لكنّها تتمظهر لدى كلّ فردٍ وجماعةٍ بشكلٍ يختلف عن الآخرين.

وتفاعلت هذه الأطروحة في السّاحات العالميّة وتبنّاها في السّاحة الفكريّة الإسلاميّة مناصورن وعاداها مخالفون ودارت سجالاتٌ بين هؤلاء، سعى كلّ طرفٍ فيها إلى أن ينتصر لرأيه، وقُدّمت قراءاتٌ قرآنيّةٌ تدعم هذه النّظريّة، من ذلك جمال البنّا في مصر، وعبد الكريم سروش في إيران (نظريّة الصراطات المستقيمة) والدكتور حسين نصر، بالمقابل أدلى المعارضون بدلوهم وقدّموا احتجاجاتٍ قرآنيّةً لإبطال هذه النّظريّة كالشّيخ السّبحاني والشيخ جوادي آملي في السّاحة الإيرانية والمدرسة الإسلاميّة التقليديّة في مصر...

ونحن في هذه الدّراسة النّقديّة لسنا بصدد استكشاف النّظريّة وعرضها عرضًا كاملًا، وإنّما أردنا أن نلفت الأنظار إلى خصوصيّات الرّؤية القرآنيّة ومنهجيّتها المغايرة ولذلك سنكتفي ببيان بعض النّقاط:

الأولى: الإطار الفكريّ العام القاعدة الفكريّة الأساسيّة (الأصول الكونيّة)

الثّانية: الأسس العقائديّة للتعدّديّة في القرآن

الثالثة: الضّوابط التّشريعيّة والأخلاقيّة

النّقطة الأولى: الإطار العام للموقف من الأديان في القرآن: فالقرآن لا يتعامل مع مثل هذه القضايا الكبرى في التّاريخ، كالموقف من الأديان بخفّة وانفعالاتٍ تتغيّر وفق الظّروف السّياسيّة، كما أشارت المقالة. للقرآن رؤيته الوجوديّة ومفهومه

ص: 595

الفلسفي للكون والحياة والإنسان والتّاريخ، وهو يقدّم موقفه من التّنوّع الدِّيني في سياق هذه الرّؤية الكونيّة وعلى أساس فلسفته للتاريخ والحضارة.

- الأصل الإنساني المشترك الواحد: فآيات كثيرةً أكّدت أنّ البشر أصلهم نفسٌ واحدةٌ، ينحدون من أبٍ وأمًّ واحدةٍ، وهم أخوة في الخلق والإنسانيّة، وينتمون إلى إلهٍ واحدٍ: «هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ»، (سورة الأنعام، الآية (98).

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَابِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»، (سورة الحجرات، الآية 13).

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»، (سورة النساء، الآية 1).

ومن ذلك الآيات (سورة الأعراف الآية 189)، (سورة الزمر، الآية (6).

وعبّر القرآن عن هذا الأصل المشترك بآياتِ تحدّثت عن الأمّة الواحدة:«إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» (سورة الأنبياء، الآية 92)، و«الأمة جماعة يجمعها مقصدٌ واحدٌ والخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات خطابٌ عامٌ يشمل جميع الأفراد المكلّفين من الإنسان والمراد بالأمّة النّوع الإنساني

الذي هو نوعٌ واحدٌ وتأنيث الإشارة في قوله « هذه أمتكم» لتأنيث الخبر»(1).

أ. قانون التّنوّع البشريّ والتّعدّديّة في اللّون واللّسان:«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ».(سورة الروم، الآية 22).

وهذه سنّة من سنن الخلق والإيجاد وآية من آيات الإبداع الإلهيّ كخلق السّموات والأرض واختلاف الليل والنهار، انظر:(سورة آل عمران الآية 190)، (سورة يونس الآية 6) (سورة الجاثية، الآية 5).

ص: 596


1- نظر الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س.

ب. وحدة المجتمع الدّيني الإنساني الأوّل وحتميّة الاختلاف: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةٌ وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، (سورة البقرة، الآية 213).

وهذه الآية مركزيّة في توضيح فلسفة الوحدة الدّينيّة الأصليّة للمجتمع الإنساني أمّة واحدة: على دين التّوحيد كما جاء في الرّوايات، وإنّ الاختلافات ليس منها فكاك فهي حتميّةً تفرضها طبيعة الإنسان ككائنٍ عاقلٍ ومريدٍ ومختارٍ، وكائنٍ اجتماعيٍّ تفرض عليه الحياة الاجتماعيّة تضارب المصالح، مما يتطلّب تنظيم الصّدام الذي يقود إليه هذا التّناقض وشرعنته. وعبّرت آيات عدّة عن سننيّة الاختلاف الدّيني، والحكمة منه:

نوَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (سورة يونس الآية 19).

«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، (سورة هود الآيتان 118 و 119).

«وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، (سورة النحل، الآية 93).

«وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةٌ وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير»، (سورة الشورى، الآية 8).

وإحدى مشكلات المقالة أنّها أغفلت هذه البنية التّحتيّة لأطروحة التّعدّديّة الدّينيّة في القرآن الكريم.

ص: 597

النّقطة الثّانية: الأصول العقائديّة لتعدّد الأديان:

- الإيمان بالرسل: من أركان العقيدة الإسلاميّة التي بشّر بها القرآن: الإيمان بالرّسل والأنبياء وعدم التّفريق بينهم، كما نصّت الآيات على أنّ دين الله واحدٌ، وأنّه الإسلام:«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ»، (سورة آل عمران الآية 19)، وأنّ رسالات الأنيبياء جميعًا مهما اختلفت تسمياتهم التّاريخيّة وانتماءاتهم الاجتماعيّة والقبليّة هي الإسلام الذي يتناغم مع تسليم الكون كله:«أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ»، (سورة آل عمران، الآية 83).

وقد مرّ بنا استعراض الآيات المرتبطة بهذا الأصل، عند مناقشة المقالة في تعريف الإسلام والتمييز بين الإسلام العام والخاص . ولكنّنا نورد هنا فقط الآيات النّاهية عن التفريق بين الرّسل:

«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَابِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، (سورة البقرة، الآية 285).

«وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَبِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا»، (سورة النساء، الآية 152).

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَبِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا» (سورة النساء، الآيتان 150 و151).

- عالميّة الإسلام عموديّة وأفقيّة: الآيات التي أكّدت على كونيّة الإسلام وعالميّته: تعني تمحّض النّبوّات السّابقة في الإسلام فكلّ الأنياء دعوا إلى التّسليم لله والإقرار له بالوحدانيّة والعبوديّة، ويدلّ أيضًا على عموميّة رسالة الإسلام أنّه الدّين الإلهي الأخير لكلّ البشر، وأنّ النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم وريث النّبوّات وخاتم الأنبياء، وأنّ القرآن كتابٌ عالمیٌّ مهيمنٌ على الرّسالات السّابقة:

ص: 598

«قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا»، (سورة الأعراف، الآية 158).

«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (سورة سبأ، الآية 28).

«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ»، (سورة الأنبياء، الآية 107).

وكذلك الآيات (سورة النساء الآية 79)، (سورة الحج، الآية 49)...

أمّا الآيات الدّالّة على عالميّة القرآن الكريم فمنها:

«الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»، (سورة إبراهيم، الآية 1).

«هَذَا بَيَانُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (سورة آل عمران الآية 138).

«إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»، (سورة ص، الآية 87) وآيات أخرى...

- وحدة الدّين وتنوّع الشّرائع: الالتقاء عبر التاريخ بين الأمم حول دين واحدٍ، لا يلغي تعدّد المناهج والشّرائع، وهذا ما نصّ عليه القرآن في آياتٍ عديدةٍ:

«لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا»، (سورة المائدة، الآية 48).

«لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا»، (سورة الحج، الآية 67).

«وَلِكُلِ وِجْهَهُ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخيرات»، (سورة البقرة، الآية 148).

- الأمم الغابرة أتباع الدّيانات السّابقة على سبيل نجاة: في ضوء هذا المعتقد الرّاسخ لمفهوم الإسلام: تكون الدّيانات السّابقة في عصرها حقّانيّة وأتباعها على سبيل نجاة وقد دلّت على ذلك آياتٌ عديدةٌ منها الآيات التي مرّت سابقا في بحث المفردات (سورة البقرة، الآية 63) و (سورة المائدة، الآية 61) و (سورة الحج، الآية (17).

وفي هذا السّياق يرفض القرآن الكريم منطق انحصاريّة الهداية التي يدّعيها

ص: 599

بعض أتباع الدّيانات، كما يرفض منطق انحصاريّة النّجاة والخلاص، ويؤكّد أنّ الله وحده سبحانه هو الذي يفصل بين النّاس يوم القيامة:

- «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»، (سورة البقرة، الآية 113).

«وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»، (سورة البقرة، الآيتان 111 و112).

«قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»، (سورة البقرة، الآية 94).

النقطة الثالثة: الضّوابط السلوكيّة الأخلاقيّة والتّشريعات القانونيّة:

وانطلاقًا من القاعدة الفكريّة المركزيّة للتعدّديّة وأصولها الاعتقاديّة، تتفرّع مجموعةً من الضّوابط السلوكيّة الأخلاقيّة والتّشريعات العمليّة الفرديّة والمجتمعيّة التي نادى بها القرآن، ومن أهمّها:

- حريّة العقيدة كقوله تعالى:

«ولَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى»، (سورة البقرة، الآية 256).

«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، (سورة يونس، الآية 99).

«وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، (سورة الكيف، الآية 369).

- الدعوة إلى الحوار: في مخطابة الآخر يدعو القرآن لاعتماد استراتيجيّة الحوار

ص: 600

والجدال بالتي هي أحسن:

«قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»، ( سورة آل عمران الآية 64).

«وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَالهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (سورة العنكبوت الآية 46).

«ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ، (سورة النحل، الآية 125).

ويتجلّى واضحًا من الآيتين الأوليين، التّوجيه نحو الالتقاء على المشترك الدّيني لتوسيع قاعدة الحوار(الكلمة السواء: وعبادة الله الواحد الأحد) في الآية الأولى، وفي الآية الثانية الإيمان بالمشترك الرسولي (أنزل إلينا وأنزل إليكم)، والإله الواحد.

- الدعوة إلى السّلم:«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، (سورة الأنفال، الآية 61).

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»، (سورة البقرة، الآية 208).

«فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا»، (سورة النساء، الآية 90).

- النهي عن سبّ مقدّسات الآخرين:«وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، (سورة الأنعام، الآية 108).

ص: 601

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِبِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»، (سورة الحج، الآية 17).

- الدّعوة إلى الوحدة وعدم التّفريق في الدين:«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الذِينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»، (سورة الشورى، الآية 13).

«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»، (سورة الأنعام، الآية 159).

«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»، (سورة الروم، الآيتان 31 و 32).

«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (سورة الأنفال، الآية 46).

الركن الثاني: المصادرات والاشتباهات

لم تخلو المقالة خلال استعراض النّظرة القرآنيّة للتعدّديّة والتّوجيه السّلوكيّ للمسلمين من أحكامٍ، وأفكارٍ مسبقةٍ بحاجةٍ إلى مراجعةٍ عميقةٍ، ورومًا للاختصار وحتى لا يطول بنا المقام أكثر، نردّ بعجالةٍ على هذه الأحكام والمواقف:

أ- التّعميم: التعميم مرّة أخرى يُطيح بالموضوعيّة والرّؤية المتوازنة، ففي نقدها للنّزعة الجدليّة في كتب الملل والنّحل تطلق الباحثتان حكمًا عامًا، يتّهم كلّ مصنّفات الملل والنّحل برفض، لا الآخر الديني فقط، ولكن الآخر المذهبي أيضًا.

وإن كان التّحيّز المذهبي يغلب على كثيرٍ من مصنّفات الملل والنّحل، لكنّ الباحث المنصف لا يمكن إلّا أن يشيد بجهود علماء الكلام الإسلامي ومساهمتهم التّأسيسيّة لعلم الأديان المقارن، وقد اعترف الكثير من المستشرقين بهذه الجهود ونوّهوا بالمصنّفات المميّزة التي نأت بنفسها عن الأسلوب الجدلي، وغلب على

ص: 602

طابعها المنهج الوصفي، وجاء في الموسوعة البريطانية : إشادة بجهود المسلمين في دراسة الأديان:

Meanwhile, Islamic theology had an impact on western Christianity, notably upon medieval Scholastic philosophy, in which the values of both reason and revelation were maintained. Muslim

knowledge of other religions was in advance of European knowledge».(1)

حيث تنوّه الموسوعة بسبق المسلمين لدراسة الأديان، وبالجمع بين العقل والوحي عند المتكلمين المسلمين في هذه الدّراسة، الأمر الذي تفتقده الدّراسات الغربيّة للأديان، وها هو المستشرق آدم متز (Adam Mez) يرى أنّ الحسن بن موسى النوبختي (ت 202 ه_ ) صاحب كتاب (الآراء والديانات) رائدًا في التاريخ الإنساني في حقل دراسة الأديان ويقول عنه: «مؤلّف أوّل كتاب له شأنُ في الآراء والدّيانات»(2).

وأشاد المستشرقون بجهود بعض المصنّفات المميّزة في هذا المجال: ككتاب (التثبيت) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415 ه- ) في دراسة النّصرانيّة وكتاب المقالات في أصول الديانات للمسعودي (ت 346 ه- ) ، وكتاب المقالات لأبي عيسى الوراق، وكتاب (ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) لأبي الريحان البيروني ( ت 440) وهو خاص بديانات الهند وله كتاب خاص باليهودية (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وأطرى آدم متز كتاب ما للهند قائلًا:«وجعله كتاب حكاية لمذاهب الهند على وجهها لا كتاب حجاج وجدال ولذلك لم يناقض الخصوم ولم يتحرّج من حكاية كلامهم وإن باين الحقّ فكان هذا الكتاب كتاب بحثٍ

ص: 603


1- The new Encyclopedia Britannica: "study of religion". Vol.15. p.615. by Safra, S.Yannias, James E.Goulka. 15th ed.1998.Chicag رابط المادة: http: //iswy.co/el1mmt
2- متز :آدم الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، تر محمد عبد الهادي أبو ريدة ،طه، بيروت، دار الكتاب اللبناني لات، ج 1، ص 384.

علميٍّ نزيهٍ»(1). وغير هؤلاء كثيرون وقد تصدّى في السّاحة الإسلامية العديد من الأقلام منافحين عن دور المتكلمين المسلمين في تأسيس هذا العلم وأنّه انتقل فيما بعد إلى أوروبا(2).

ب- تخطئة المفسّرين: كما تقع هنا المقالة في التّعميم، فتصدر حكمًا يعمّ كلّ المفسّرين الذين اتّهمتهم بالتّذرّع بأنّ الآيات الدّالة على حريّة المعتقد، والمؤيّدة لثقافة التّسامح منسوخة بآيات السّيف. وبإيجازٍ تذكر الباحثتين أنّ نسخ هذه الآيات وخاصّة آية: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»، مسألة خلافيّة بين المفسّرين، وقد ذهب عددٌ منهم إلى أنّ هذه الآية والعديد من الآيات المشابهة هي أبيّةً عن النسخ، وليس لها القابليّة أن تكون منسوخةً إلى جانب وجود بعض العلماء ممّن أنكر أصل النّسخ في القرآن الكريم، كأبي مسلم الأصفهاني (ت (322ه_) من المعتزلة ابن جنيد الفقيه الإمامي ( ت 381ه_) ، ومن العلماء المعاصرين: الشيخ محمد عبده (1323ه- ) ، والشيخ هبة الدين الشهرستاني (1386ه-)، والشيح محمد أبو زهرة (1395ه- ) ، والشيخ هادي معرفة ،(2006م) ، والسيد مرتضى العسكري (2007م)، والشيخ محمد الغزالي (1996م) ، وغيرهم...

ومن جهةٍ أخرى، ومن منظور أصول الرّؤية القرآنيّة لتنوّع الأديان وتعدّدها كما طرحناها لا تعتبر آيات السّيف ناسفةً لتلك الرّؤية، وكيف تنسفها، وقد شيّدت على قاعدة الرّؤية التَّوحيديّة للكون ،والوجود ،والإنسان والحياة، وعلى أساس المقاصد العليا للدين والشّريعة؟ وبالتّالي فهذه الآيات تكمّل الصورة التي عرضناها وتحدّد للمسلمين الموقف من القوى الكافرة المحاربة وهذا رأي قسمٍ كبيرٍ من المفسّرين والفقهاء، فقد اعتبروا أنّ حكم مقاتلة الكفّار ملاكه المحاربة لا الكفر.

فقد شرع الجهاد بالأصل للدفاع عن النّفس ومن المهم أن نذكّر أنّ القرآن الكريم لم يشرّعه في بداية الدّعوة، بل كانت الآيات في فجر الرسالة، تأمر المسلمين

ص: 604


1- متز آدم: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، تر : محمد عبد الهادي أبو ريدة ،طه، بيروت، دار الكتاب اللبناني، لا ت ص 385
2- انظر: شلبي أحمد: اليهودية، ط12 ، القاهرة، مكتبة النهضة، 1997، ص27-33.

بالكفّ عن القتال والصّبر على أذى المشركين، يقول تعالى:«وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا»، (سورة المزمل، الآية 10)، وتدعو المسلمين لإعلان الموقف العقائدي الواضح دون صدامٍ أو مواجهة:«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، (سورة الكافرون، الآية 6)، ولكنّ المشركين حاربوا المسلمين وحاصروهم وآذوهم، وحاولوا ممارسة كلّ الضّغوط؛ لإرجاعهم عن دينهم باستنفاذ كلّ ما يملكون من نفوذٍ قبليٍّ وعشائريٍّ، وسلطويٍّ، وماليٍّ، ما اضطرّ المسلمين للهجرة مرّتين إلى الحبشة وخروج رسول الله إلى الطائف ناشرًا ،رسالته طالبًا النّصرة، وتُوّجت في الأخير المرحلة المكيّة بالهجرة إلى المدينة ليجد هؤلاء المؤمنون ملاذًا آمنًا يحميهم من بطش قريش واستبدادها بهم، وفي المرحلة المدنيّة نزل الإذن بالقتال والجهاد:«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله». (سورة الحج، الآية 39 و 40)، فأصل تشريع الجهاد،كان للدفاع عن النّفس وردّ عادية الظالمين وحتى لا يفتن هؤلاء المستضعفون المهجّرون عن دينهم وعن الحق الذي أصابوه:«قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، (سورة الأنفال، الآية 39)، ولمّا كان هذا الجهاد الدّفاعيّ مقصده الأساس إحقاق الحقّ وإنصاف المظلومين نهى القرآن عن الاعتداء:«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»(سورة البقرة، الآية 190)، وحتى الموقف من أهل الكتاب الذين لم يأمر القرآن بمواجهتهم إلّا بعد أن نكثوا العهود وانضمّوا إلى المعسكر المعادي المحارب:«لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرَى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدْرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ لَا يَعْقِلُونَ»، (سورة الحشر، الآية 14).

ولمّا كان مقصد الجهاد كما ذكرنا الدّفاع عن المظلومين، لا نجد البتّة في تتبّع الآيات التّعليليّة للجهاد موردًا واحدًا ينصّ على أنّ من هدف الجهاد إخراج الآخرين عن دينهم وإدخالهم عنوةً وبحدّ السّيف في الإسلام، فالأهداف التي نصّت عليها الآيات القرآنيّة هي:

ص: 605

- الدفاع عن الحرمات وردّ العدوان كما في قوله تعالى في سورة الحج، الآية 39)، وقوله تعالى:«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ»، (سورة البقرة، الآيتان 190 و 191)، والآية الأخيرة صريحةٌ في أنّ القتال هو الردّ على اعتداءات المشركين والدّفاع عن الأعراض والدّيار، وعن حقّ المؤمنين أن يعيشوا في كنف دينهم في أمنٍ وسلامٍ، وعدم السماح للمشركين أن يفتنوهم عن دينهم فالفتنة أشدّ من القتل؛ لأنّ مقصد حفظ الدّين أولى في منظومة الإسلام التّشريعيّة من حفظ النّفس.

- الانتصار للمظلومين والمستضعفين: يقول تعالى:«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا»، (سورة النساء، الآية 75)، ويقول أيضًا:«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرُ»، (سورة الأنفال، الآية 72).

- الرّدّ على نكث العهود ونقض المواثيق: يقول تعالى:«وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَبِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَحُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْرَاجَ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، (سورة التوبة، الآيتان 12و13).

- حماية ثغور المسلمين وردّ العدوان المحتمل :يقول تعالى:«وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا»، (سورة البقرة، الآية 217).

ويقول أيضًا:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةٌ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»، (سورة التوبة، الآية 123).

- الدفاع عن أهمّ حقٌّ فطريٍّ من حقوق الإنسان: يعلل السّيد الطبطبائي تشريع القتال: فيرى«أنّ الإسلام دين التوحيد، وهو مبنيّ على أساس الفطرة، وهو القيّم

ص: 606

على إصلاح الإنسانيّة:«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»، (سورة الروم، الآية 30)، فأهم الحقوق الفطريّة الإنسانيّة: هو إقامة هذا الدين والتحفّظ عليه. وبالتالي يكون الدّفاع عنه حقّ فطريٌّ آخر:«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»، (سورة الحج، الآية 40):«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ»، (سورة البقرة، الآية 251). وقال الله تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال:«لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»، (سورة الأنفال، الآية 8)، ثم قال بعد آياتٍ عدّة:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم»، (سورة الأنفال، الآية 24)، فسُمّي الجهاد والقتال الذي يُدعى له المؤمنون محيبًا لهم، ومعناه أنّ القتال سواء كان بعنوان الدّفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالا ابتدائيًّا، كلّ ذلك بالحقيقة دفاعٌ عن حقّ الإنسانيّة في حياتها، ففي الشّرك بالله سبحانه هلاك الإنسانيّة وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقّها إعادة لحياتها وإحيائها بعد الموت»(1).

وبناءً على هذا التّحليل يغدو الجهاد أقرب إلى السّنّة التّاريخيّة الجارية، التي تضطرّ إليه الكثير من المجتمعات الإيمانيّة حينما تواجه تحدي الفتنة عن الدين والتّهجير والمطاردة، وحينما توصد في وجهها أبواب الدّعوة للرسالة الإلهيّة:«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَي قَاتَلَ مَعَهُ رِبْيُّونَ كَثِيرُ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»، (سورة آل عمران، الآيتان 146 و 147).

ج- آراء إشكاليّة: اعتماد آراء شخصيّاتٍ إشكاليّةٍ في العالم الإسلامي لتفسير المواقف المتناقضة من الآخر الدّيني:

ص: 607


1- الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج 2، ص 67.

لم توفّق ماك أوليف ومساعدتها في اختيار الأعلام الذين استشهدتا بآرائهم في الموقف من الآخر: فمن هو بن لادن حتى يكون عنوانًا للطرح الإسلامي؟ فمن العجيب حقًّا أن نستشهد به في دراسةٍ علميّةٍ، والظّاهر أنّ شهرته الإعلاميّة خاصّة وسائر الأشخاص عمومًا في الغرب وفي العالم الإسلامي، وراء الانتقاء، فقد كان (لابن لادن) في فترة إعداد الموسوعة وصدورها حضورًا إعلاميًا لافتًا، خاصّة بعد أحداث (11 أيلول 2001م) المنسوبة لجماعة القاعدة التي يتزّعمها، أمّا شهرة القرضاوي فسبهها التّرويج له كرمزٍ للصحوة الإسلاميّة والاعتدال الدّيني في التّسعينيات والسنوات الأولى بعد الألفين حين بلغت شهرته أوجهها ، وقد أدّت قناة الجزيرة القطريّة دورًا مهمًّا في تلميع صورته وإبرازه كزعيمٍ إسلاميٍّ لا يُضاهى، ففي تلك السنوات كانت له إطلالةٌ أسبوعيّةً مباشرةٌ في برنامج (الشّريعة والحياة)، ولكن بعد تداعيات ما سمّي بالرّبيع العربي، فقدَ هذه الموقعيّة التي مُنحت له، فقد اتّخذ مواقف متطرّفة إزاء بعض الفئات والمذاهب الدّينيّة في البلدان الإسلاميّة وأيّد توجّهات الجماعات التّكفريّة القتاليّة الإجراميّة، وأصدر فتاوى بقتل زعماء سياسيين في بعض البلدان بل أفتى بجواز كلّ من يعمل لمصلحة النّظام السوري من مدنيين وعسكريين وحتى علماء الدين وربط الكثيرون بين هذه الفتوى وبين استشهاد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي علّامة بلاد الشام، في أحد مساجد دمشق. لقد انقلب القرضاوي على مقولات الوحدة والتّسامح والانفتاح إبّان الربيع العربي حتى أطلق عليه خصومه لقب (شيخ الفتنة).

الشّخصيّة الفكريّة الأكثر احترامًا التي تعاطت معها المقالة، هو سيد قطب، ولكن بتصنيفٍ خاطئٍ، اعتمدت فيه على مشهوراتٍ سادت عن فكره، فقد ظُلم كثيرًا في تفسير أطروحاته، ونسبت إليه الكثير من المقولات والآراء، ممّا لم يقله صراحة، لقد وظّفت أفكاره بعض الجماعات المصلحة توجّهاتها التكفيريّة القتاليّة ( ولا نقول الجهاديّة؛ لأنّ مفهوم الجهاد بريء منهم). وفي كلّ الأحوال فإنّ شخصيّة سيد قطب هی شخصيّةٌ جدليّةً أُختلف جوهريًّا في تفسير تراثه وتوجّهاته، ومن جهةٍ أخرى، تُحاكم المقالة الرّجل دون الاستشهاد ولو بنصٍّ واحدٍ له يدلّل على زعمها فيه.

ص: 608

المبحث الرّابع: الفرضيّات المتوارية والسياقات الاستشراقية

تجلّى لنا إلى حدّ الآن في دراستنا لهذه المقالة: حجم الإشكالات الواردة والتّساؤلات التي تفرض نفسها عن واقعيّة الكثير من الآراء، وجدّيّة العديد من المواقف وصحّة الكثير من الأفكار ولكن يبدو أنّ ما تورارى من «هنات ما وراء الخطاب»، لا يقلّ خطبًا!!

فنحن إزاء خطابٍ بُني على فرضيّاتٍ متواريةٍ لم يُصرّح ببعضها، وزوّق بعضها الآخر للقارئ، وسُرّب بعضها مموّهًا مواربةً. وفي هذا المرقى الأخير من قراءتنا النّقديّة، سنتجاوز المنطوق إلى المسكوت عنه، ونسعى لكشف المستور المتخفّي وراء النّصّ، ووراء منابعه ومصادره بالكشف عن هذه الفرضيّات والمنطلقات الاستشراقيّة، التي للأسف لا تزال مهيمنةً على المستشرقين الجدد، والتأمّل في مدّيات أثرها على معالجات القضيّة ومضامينها:

أوّلًا: اعتماد المنهج الفيلولوجي في شرح معاني القرآن.

ثانيًا: الجذور السّريانيّة والآراميّة للغة العربية واستخدام القرآن مفردات من اللغات القديمة.

ثالثًا: للقرآن مرجعيّةٌ لاهوتيّةٌ مسيحيّةٌ ويهوديّةٌ.

رابعًا: النّزعة الوضعيّة والانسياق وراء الأبعاد التّاريخيّة وإنكار المصدر المتعالي للنّصّ.

خامسًا: الاعتماد الأساسيّ على القراءة السّنيّة للإسلام

سادسًا: المراوحة بين المناهج الاستشراقيّة القديمة والتّنكّب عن الفهم!

سابعًا: مركزيّة العقل الغربي ( في فهم التّعدّديّة) وإخضاع القرآن لهذه المركزيّة.

وهي فرضيّاتٌ خلنا أنّه في ضوء فشل الكثير منها، واعتراف المستشرقين الذين اعتمدوها أنفسهم بفشلها(1)، خلنا أنّ الدراسات القرآنيّة الحديثة قد تحرّرت منها،

ص: 609


1- كمثال على ذلك يمكن أن نذكر تجربة نولدكة (ت (1930) وكتابه تاريخ القرآن حيث اعتبر منهجه الفيلولوجي في كتابه هذا حماقة صبيانية، حيث جاء في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب تاريخ ،القرآن منوها بجهود صيقه شفالي الذي تصدّى لإعادة النظر في نسخة كتابه: «قد قام بقدر الإمكان بجعل الكتاب الذي أنجزته بسرعة قبل نصف قرن... أقول بقدر الإمكان لأن آثار الوقاحة الصبيانية لن يمكن محوها بالكلية، من دون أن يعاد تأليف الكتاب من جديد بعض ما قلته حينذاك بقليل أو بكثير من الثقة انعدمن ثقلي به لاحقا».

لقد تهاوى الكثير منها في ضوء الكشوفات الحديثة والبحوث الجديدة، وبعضها الآخر لن يصمد طويلًا أمام منطق التاريخ وتكامل الوعي البشريّ:«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ى الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِ- شَهِيدٌ» (سورة فصلت، الآية 53).

ولمّا كان الوقوف مفصّلًا عند هذه الفرضيّات والإحاطة بها، ممّا يخرج بنا عن الحدّ الذي يسمح به المقام نكتفي بالإشارة إليها، والنّقد العابر والنقض المختزل:

1. الفرضيّتان الأولى والثانية: لقد لمسنا حضور هذا المنهج في مقالة (التعدّديّة الدّينيّة والقرآن) خاصّة في بحث المفردات ومحاولة إرجاع بعض الألفاظ القرآنيّة إلى أصولٍ سريانيّةٍ، أو آراميّةٍ، أو أكاديّة... هذا المنهج طبّق أوّلًا في نقد الكتاب المقدّس عند اليهود والمسيحيّة وتحمّس له المستشرقون لتعميمه على القرآن باعتباره نصًّا أدبيًّا أيضًا، لا يختلف كثيرًا عن النّصّ التّوراتي والمسيحي، بل هو عندهم مقتبس منهما ولذلك عمّموا النّتائج التي خرجوا بها في نقد العهدين على القرآن الكريم. ومن أوائل المستشرقين الذين سلكوا هذا المنهج: المستشرق الاسترالي آرثر جيفري (1892-1959) في كتابه المفردات الدّخيلة في القرآن والتي اعتمدته المقالة في مصادرها وجدّد هذه الدّعوى المستشرق الألماني غونتر لولينغ (1928-1914 ) في كتابه (القرآن الأصلي)، ولكن سطوة هذا المنهج ضعُفت وتعرّض لانتقاداتٍ من المستشرقين أنفسهم، وكشفت دراساتٌ عديدةٌ تهافت الأسس التي قام عليها. ورغم كل المراجعات النّقديّة لهذا المنهج، والتّحوّلات إلى مناهج أخرى في الدّراسات الاستشراقيّة لا يزال البعض يصّر على التّمسّك به وينادي بالعود إليه، كما هو حال جاك بيرك المستشرق الفرنسي في كتابه (إعادة قراءة القرآن) والمدعو (كرستوف لوكسنبورغ) في دراسته (قراءة سريانية آرامية للقرآن مساهمة في تحليل اللّغة القرآنية)؛ حيث ادّعى وجود قرآنٍ أصليٍّ باللّغة السّريانيّة الآراميّة، وأنّ القرآن

ص: 610

المتدوال قد اقتبست فقراته من ذلك القرآن الأصلي، ولذلك كان مزيجًا من الكلمات العربيّة والآراميّة. وتعسّف الباحث في إثبات هذه الفرضيّة عبر تفسير جملةٍ من الآيات القرآنيّة شكّك في عربيّة مفرداتها واعتبر أنّ معانيها لا تستقيم إلّا بإرجاع الكلمات إلى الأصل السّرياني أو الآراميّ، وهذه المزاعم لا تقوى أمام النّقد العلمي الصارم الداخلي لهذه الدّعاوى على أساس الشّعر الجاهليّ والسّياقات القرآنيّة نفسها، وكذلك النقد الخارجي والذي يعتمد فيه على تاريخ اللّغات واشتقاقاتها، والذي تؤكّد بعضها أنّ اللّغة العربيّة هي أم اللغات(1)، وأنّ السرّيانيّة والآراميّة والأكاديّة.. كلّها انبثقت منها وأنّ المفردات التي يُظنّ أنّ القرآن استعملها ولم تُعرف عند العرب، هي في الواقع من الكلمات العربيّة الأم، ولكّنها هُجرت في البيئة العربيّة، واُستخدمت في بيئاتٍ أخرى(2). ومن القرائن الدّالّة على أنّ اللغة العربيّة هي أمّ اللّغات عدد المفردات في اللغة العربيّة التي يفوق ما سواها ولا يمكن أن يُقارن بين العربية وغيرها(3).

.2 الفرضيّة الثالثة: إنّ أوهام مرجعيّة اللّاهوت المسيحي واليهودي للنّصّ القرآنيّ وللدين الإسلاميّ، هي أسخف من أن نقف عندها مطوّلًا، فأساطير مثل أسطورة

ص: 611


1- انظر مقالة الرد على من يزعم أن العربية أصلها من الآرامية أو السريانية أو العربية لمحمد عبد الله الأنصار على موقع مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية: https: //www.m-a-arabia.com/site
2- تعتبر العربية أما لعدة لهجات كاللهجة العربية الأكادية بفرعيها البابلي والآشوري اللهجة العمرية الكنعانية اللهجة العربية السبئية واللهجة العربية النبطية، واللهجة العربية السريانية، واللهجة العربية الآرامية واللهجة العربية البربرية انظر مازن محمد حسن الأصول اللغوية المشتركة بين العربية والآرامية والسريانية، مجلة العلوم الإنسانية كلية التربية جامعة ،بابل، المجلد ،22 العدد 1 آذار 2015، ص 456. كما يشكل اعتراف فقهاء النحو السريان بأن اصل تالعربية هي الأصل من ذلك ما يقوله المطران أقليمس يوسف داود في كتابه اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية ( الصادر سنة 1896 م : « وأشهر اللغات السامية العربية، والعبرانية والسريانية والحبشية بفروعها الكثيرة.. ونما ذكرنا العربية أولا بين اللغات الجزيرية لأن العربية باعتراف جميع المحققين هي أشرف اللغات السامية، من حيث هي لغة وأقدمهن وأغناهن ومعرفتها لازمة لمن يريد أن يتقن تقانا حسنا معرفة سائر اللغات السامية ولاسيما السريانية. وأضاف: إننا لا نعتقد أن الآرامية هي أقدم اللغات السامية كما زعم قوم وأقل من ذلك أنها أقدم لغات العالم كما زعم غيرهم بلا بينة ولا أساس بل نثبت مع العلماء المحققين أن العربية هي التي تقرب إلى ام اللغات السامية أخواتها.» نقلا عن مقالة للدكتور أحمد سعد الدين هل اللة العربية مشتقة من السريانية؟ عن موقع https://www أ/civgrds.com
3- في إحصائية لأحد الباحثين تبلغ عدد كلمات العربية (المفردات المعجمية) 2912 1230 ، بينما تبلغ عدد كلمات الإنجليزية 600000 فقط والفرنسية 150000 والروسية .130000. وتمثل مفردات السريانية والآرامية 0.007 % من كلمات العربية !!

ورقة بن نوفل والرّاهب بحيرا، والمعلم اليهودي، الذي علّم الرسول محمد، تُضحك التّكلى، ولكنّها تستمد شيئًا من حضورها المتبقّي في بعض الدّراسات. إنّها تعود إلى الدّوافع التّبشيريّة لحركة الاستشراق الأولى التي كانت تمتزج أهدافها بالتّبشير وخدمة الاستعمار للعالم الإسلامي، فقد كان الاستشراق أنذاك امتدادًا للحروب الصليبيّة، ولكن بسلاحٍ جديدٍ سلاح الكلمات كما يُعبّر بطرس المبجّل مؤسّس أوّل ترجمة بائسة ومشوّه للقرآن الكريم إلى اللّغة اللاتينيّة، وهكذا فقد قامت الترجمتات الأولى للقرآن والدّراسات الأولى للسيرة النّبويّة على هذه القناعة ولكن يبدو أنّ «هذه التقاليد الاستشراقيّة» لا تزال ساريةً، وأنّ ظلال هذه الأوهام لا تزال تُغطّي قامات حتّى بعض المستشرقين الحداثيين!!!

3. الفرضيّة الرّابعة هي أسّ الكثير من المزالق والانحرافات في الفهم والتّحليل، فالقرآن في عقيدة المسلمين وحيٌ إلهيٌ نزل به الرّوح الأمين على قلب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والمسلمون يتعاطون معه على هذا الأساس ولكنّ المستشرقين ونتيجةً لنزعتهم الوضعيّة ينكرون ويكذّبون نظريّة الوحي، وينساقون وراء فرضيّاتٍ ونظريّاتٍ أخرى بعيدةٍ كلّ البُعد عن الحقيقة المنبلجة كانبلاج الفجر الصّادق، من ذلك النّظريات التّاريخيّة في تفسير ظهور القرآن وتطوّره أيضًا، كما يزعمون ولذلك فإنّ أسلوب الآيات القرآنيّة وإيقاعها ومضامينها، يعود بالأساس إلى الظّروف التاريخيّة التي عاشها الرّسول في مختلف مراحل الدّعوة، وفي الواقع فإنّ المستشرقيين المعاصرين ضلّوا أوفياء لهذه الفرضيّة كلّ ما في الأمر أنّهم لا يصرّحون ،بلوازمها، وهي إنكار الأصل الإلهي للقرآن فنحن نسأل هؤلاء، أيّ المنهجين يعدّ علميًّا وموضوعيًّا أكثر: أن نأخذ بعين الاعتبار البُعدين الميتافيزيقي للقرآن (في ضوء ما يدّعيه المؤمنون بالقرآن من جهة) والبُعد التّاريخي والزّمني، أو أن نقصر فهمنا للآيات على العوامل الزّمنيّة والتّاريخية؟

ألا تفرض الموضوعيّة العلميّة الاعتراف بكلّ هذه المعطيات؟ هل يبّرر عدم تصديقيهم بنظريّة الوحي إنكار العامل الميتافيزيفي؟ أين التّجرّد وأين الموضوعيّة العلميّة التي يدّعونها إذن؟ وهل سيلغي فعلاً هذا الإنكار دور هذا العامل؟!

ص: 612

ولذلك فالواقعيّة تفرض علينا إعادة النّظر: فالذي يُنكر البُعد الزّمنّي للقرآن الكريم يجافي حقيقةً واضحةً في ارتباط آياتٍ عديدةٍ ببيئة النّزول ومسيرة الدّعوة وتكاملها، وتعلّق موضوعاتها بنمط حياة الناس وظروفهم، ولكنّنا من جهةٍ أخرى لا يمكن أن ننكر الجنبة الغيبيّة المتعالية والطّاغية أكثر على النّصّ، فهو يتعاطى مع كلّ هذه القضايا الزّمنيّة من حرب، وسلم وعلاقات دوليّة، وتشريعات عباديّة ومعاملتيّة، وأحكام في فضاءٍ غارقٍ بالحقائق عن الله والملكوت، والملائكة، والآخرة، والسّموات والعرش والخزائن والجنّة والنّار...

وفي المقالة تجلّت هذه الفرضيّة المتوارية في أكثر من موضعٍ من ذلك ربط الموقف من الكتاب بالظّروف الزّمنيّة وتبدّل موازين القوى حصرًا، وربط بعض التّشريعات الأولى كالاتّجاه إلى بيت المقدس، وصيام عاشوراء (كما تقول المقالة) بمرحلة التّقرّب من اليهود أمّا بعد تبيّن موقفهم الرّافض لنبوّة النّبيّ محمد، فقد شرع صيام رمضان وتغيّر اتّجاه قبلة المسلمين (راجع الفصل الأوّل)!!

4. الفرضيّة الخامسة : قد يكون المستشرقون الأوائل معذورين في استنادهم إلى مركزيّة الإسلام السِّنّي في تنقيح الأطروحات الإسلاميّة، فقد تبنّى أولئك القراءة السنّيّة الرّسميّة، التي تعتقد أنّ المذاهب الإسلامية الأخرى، الفقهيّة منها، والكلاميّة هی مذاهب على هامش الإسلام المركزي السِّنّي، ولكن مع التّطوّرات العميقة التي حصلت في العالم الإسلامي وبروز مذاهب إسلاميّة أخرى، احتلّت مكانةً بارزةً في الحياة الفكريّة للأمّة الإسلاميّة، وفي المعادلات السّياسيّة للعالم الإسلامي، كان لا بدّ أن يلتفت المستشرقون لهذا التّحوّل ويتجاوزوا الانغلاق على المصادر السّنيّة والانفتاح، خاصّة على الإسلام الشّيعي، وهذا الذي دعا محمد علي أمير معزّي إلى الدّعوة إلى ضرورة الاعتناء بالمصادر الشَّيعيّة في دراسات القرآن الكريم: فأطلق ما أسماه القرآن الصامت مقابل القرآن النّاطق(1)، قاصدًا بالقرآن الصّامت الإهمال،الذي تلقاه المصادر التّفسيريّة الشّيعيّة في الدّراسات القرآنيّة الغربيّة.

ص: 613


1- له كتاب بعنوان Le coran silencieux et le coran parlant

وفي المقالة طغى في مقاربة الطروحات القرآنيّة والإسلاميّة، منطق الإسلام السنّي المهيمن، وبدت مقولاته وآراء علمائه هي الحاضرة، ولن يشفع تعزيز قائمة المصادر بتفسير الميزان للسيد الطبطبائي ( رغم مكانته وأهمّيته) للادّعاء بأنّ المعالجة هى أكثر توازنًا وأقلّ تحيّزاً للإسلام النّاطق، بل إنّ إهمال الكثير من القضايا وتهميشها ربّما يعود لهذا السّبب (راجع الفصل الأوّل: مثال ذلك: قصّة المباهلة)، وقد لوحظ هذا التّحيّز حتّى في المقالات الأخرى التي كتبتها السّيدة جين ماك دومنيك للموسوعة، ومن ذلك مقالة فاطمة عن السيدة الزهراء علیها السلام؛ حيث تحصر الآيات النّازلة في حقّ الزهراء علیها السلام في حدود المشهور السنّي في المباهلة والتّطهير(حتى الكوثر لا تعترف بنزولها فيها)، وترفض مقولة الكثير من العلماء وبالخصوص الشّيعة منهم بأفضليّة السيدة الزهراء علیها السلام على مريم البتول علیها السلام)(1).

5. الفرضيّة السادسة: من المثير حقًّا أنّ مقالة التّعدّديّة تعكس تنوّعًا مناهجيًّا، فيتراءى لنا المنهج الفيلولوجي في تحليل ،المفردات والمنهج الانتقائي في القراءة التّجزيئيّة للآيات القرآنيّة والمنهج الإسقاطي في إسقاط مفاهيم معاصرة على الآيات (كتفسير مصطلح حزب وفرقة مثلا)، ومنهج التّأثير والتّأثّر في التّأكيد على تأثّر القرآن بالعهدين...

نجد كلّ هذه المنهجيّات، ولكن للأسف لا نرى لمنهج الفهم، وقد كنّا نظنّ أنّه مع تنامي النّزعة الإنسانيّة والانثربولوجيّة عند المستشرقين الحداثيين، وتحرّرهم النّسبي من التّبعيّة الاستعماريّة والاستخباريّة كنّا نظنّ أنّ منهج الفهم سيقوى ويتعزّز، وهذا المنهج يبدو حضوره ضروريّ خاصّة وأنّ المعالجة هي التّعدّديّة الدّينيّة والموقف من الآخر في الدّين والمعتقد، وهذا المنهج يُنسب لمؤرّخ الأديان الألماني يواكيم فاخ (1898 - 1955م) ، ونظرًا لطبيعة موضوع تاريخ الدّيانات التي تستوجب على الباحث أن يحاول أن يفهم الدين كما يفهمه أصحابه.

ويُقارن فاخ بين علم اللّاهوت وعلم الأديان فيرى:«أنّ علم اللاهوت مهتمّ

ص: 614


1- انظر: موسوعة القرآن، م.س، ج 2، ص 192-194.

بفهم وتثبيت الإيمان، أمّا علم الأديان فيهتمّ بدراسة وفهم الأديان الأخرى وهو لا يقضي على القيم الدينية، أو يهملها، ولكنّه يسعى إلى القيم الدّينيّة التي توسّع الشّعور الدّيني وتعمّق الفهم الديني»(1).

وهكذا نادت هذه النّظريّة بضرورة الاتّصاف بسعة الأفق، والتّركيز على المشترك الدّيني، ومحاولة الإحساس بالدين وتجاوز كل الايديولوجيات والافتراضات المسبقة وأن نفهم ظواهر الدّيانات وندرسها في واقعها ولكن للأسف هذا المنهج على أهمّيته تنكبت عنه الدّراسات الاستشراقيّة؛ إذ إنّ الغالبيّة العظمى من المستشرقين تخصّصوا في الدّراسات القرآنية من دون محاولةٍ منهم لفهم الإسلام من داخله، أو فهم الإسلام والقرآن الكريم كما فهمه المسلمون، ومحاولة تفسيره وتحليله من خلال مصادره الأصليّة والمعتمدة إلى الحدّ الذي يمكن القول معه إنّه بات هناك فهمان للقرآن الكريم، الأوّل فهمًا إسلاميًّا يتبعه المسلون والثاني فهمًا استشراقيًّا مغايرًا طوّره المستشرقون»(2).

وهكذا للأسف لم تمثّل نظرية الفهم قضيّةً أو إشكاليّةً بالنّسبة للدراسات الاستشراقيّة، وهذه مفارقةٌ عجيبةٌ، فكيف لمن يتصدّى لدراسة الإسلام وحضارته والقرآن وقضاياه دون أن تكون إشكالية الفهم حاضرة؟؟؟ ولكن إذا عرفنا جذور الحركة الاستشراقيّة في التاريخ وأهدافها وارتباطاتها... انقضى العجب لكن يظلّ السّؤال مطروحًا إزاء الدّراسات الغربيّة المعاصرة للقرآن والتي تدّعي أنّها قطعت مع الاستشراقي الاستعماري والتّنصيري والمخابراتي !!!!

6. الفرضيّة السّابعة: ونُقاربها من خلال هذا السّؤال: هل حقًّا أرادت الباحثتان بناء الرّؤية القرآنيّة للتعدّديّة ؟ أم إنّهما انطلقتا من موقفٍ مسبقٍ ورؤيةٍ ناجزةٍ حول التّعدّديّة كما تفهمانها وحاكمتا القرآن في ضوء ذلك ؟ قد تعيب الباحثتان على المؤمنين عقيدتهم بعصمة القرآن، وأنّنا لا نعدو قوله في الاعتقاد، والتشريع، لكنّهما

ص: 615


1- البهنسي أحمد إشكال فهم النص القرآني في الدراسات الاستشراقية الاستشراق الإسرائيلي أنموذجا)، مجلة دراسات استشراقية، العدد الثاني، خريف 2014، ص 25 و 26.
2- البهنسی احمد اشکال فهم النص القرانی فی الدراسات الاستشراقیه م.س.ص 27

تغفلان أنّهما أيضًا تتسلّحان برؤيةٍ مطلقةٍ تمثّل ميزان الصّواب والخطأ، وتحاكمان القرآن، والمفسّرين والمتكلّمين على أساس التّعدّديّة النّسبيّة التي آمنتا بها، والتي تعتقد بنسبيّة الحقيقة وصوابيّة كلّ الأديان وحقانيتها، وأنّ كلّ الأتباع هي علی سبيل نجاة ( راجع الفصل الأوّل)، لكن لماذا لا يكون للقرآن تفسيره الخاصّ لتنوّع الأديان؟ ولماذا لا يكون للقرآن موقفه من التّعدّد؟ ولماذا لم تسعيا بجدٍّ لفهم نظريّة القرآن لا محاكمتها في ضوء القبليّات؟؟

هل جرّبتا أن تفهما الرّأي القرآني؟ هل جرّبتا أن تصغيا لقول القرآن؟؟

لو بذلتا جهدًا بسيطًا في هذا الاتّجاه لأدركتا عظمة الأطروحة القرآنيّة التي جمعت في رؤيتها للتعدّديّة بين العناصر الآتية:

- الواقعيّة المعرفيّة: أي بطلان النّسبيّة، والإيمان بوجود حقيقةٍ موضوعيّةٍ في الواقع وفي نفس الأمر ، ويمكن للناس أن يدركوها ويمكن أن يخطئوها، أمّا الادّعاء بأنّ كلّ ما أصابه النّاس من مفاهيم وعقائد شتّى هي صحيحة، فهذا لا يقود في النّهاية إلّا إلى السّفسطة وهدم أساس كلّ علم وكلّ معرفة. ففي المنطق القرآني

ليس بعد الحقّ إلا الضلال.«وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ».

- حقّانيّة الدّيانات السّماويّة التاريخيّة (الإسلام العام) ومشروعيّتها، وخاتميّة الدّيانات (الإسلام الخاص): وهذا ما تمّ الاستدلال عليه آنفًا بآياتٍ عديدةٍ. فالدّين الإلهيّ في المنظور القرآني، هو مسارٌ تاريخيٌّ تلبّسٌّ نبوّة الأنبياء في تسلسلهم الزّمني حتى توّج بنبوّة النّبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فالدّين الإلهيّ عبر التّاريخ روحٌ واحدةٌ: ساريةً من آدم إلى محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

- وعدم الملازمة بين المشروعيّة والنّجاة : أو عدم الملازمة بين الحقّانيّة والخلاص: فقد يهلك من يكون صاحب ديانةٍ مشروعةٍ بسببٍ أو بآخر (كفر عملي، تمرّد وعصيان)، وقد ينجو صاحب عقيدةٍ فاسدةٍ لقصوره.

- التّمييز بين القاصر والمقصّر: فالنّاس منهم مقصّرٌ بمعنى أنّه يملك كلّ المؤهّلات

ص: 616

العقليّة والنّفسيّة والماديّة لإدراك الحقّ وبلوغ الدّين الصحيح، فهذا إن أخطأ الطريق الإلهي يحاسب ولا يكون من أهل الخلاص، أمّا من كان قاصرًا بمعنى لا يمكن حسب طبيعة إمكاناته وظروفه المحيطة به أن يصل إلى الحقيقة، فهذا معذورٌ (كالمستضعفين الذين لا يملكون حيلة). ويذهب الكثير من العلماء إلى أنّ أغلب الكفّار هم من القاصرين، عوامهم بل وعلمائهم وهذا رأي الإمام الخميني قدس سره ورأي الشيخ بهاء الدين العاملي (ت 1033ھ) ، والشيخ جواد مغنية (ت1979م)(1).

ولكن للأسف تقف المقالة على مسافةٍ من منهج الفهم، ولولا أن نسيئ الظَّنّ، بجهود الباحثتين لقلنا:«وكأنّ المطلوب هو عدم الفهم لا الفهم !!!».

إنّ هذه المعضلة ستبقى تتوالى ما دامت مركزيّة العقل الغربي مهيمنة وما دام المستشرق يأتي للقرآن في مسعًى للإسقاط والمحاكمة، عندما يأتي هؤلاء بقصد الفهم والإنصات الواعي والحيادي للقرآن وإيحاءته الفكريّة في فضائه الخاص قد

يحقّقون هدفهم.

ص: 617


1- انظر: الخشن حسين أصول الاجتهاد الكلامي، ط1، بيروت، المركز الإسلامي الثقافي، 2015، ص 183-186.
الخاتمة

في مرفأ النّهايات وعقيب هذه الرّحلة التي بدت في إرهاصاتها الأولى مشوّقةً ومشرقةً مع موضوعٍ حيويٍّ، إنسانيٍّ إلى أبعد الحدود، آفاقيٍّ إلى منتهى الآفاق،«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقِّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»، (سورة فصلت الآية 53)، يحّط مسار القراءة التّحليليّة النّقديّة رحلته على استخلاصاتٍ ونتائج لا تتماهى إلى حدٍّ بعيدٍ مع تلك التّوقّعات الرّائقة!! فرغم النّجاحات التي حقّقتها المقالة إلى حدٍّ ما على مستوى الشّكليّات وتقنيات الكتابة العلميّة، لكنّها لا تخلو من نقائص جوهريّةٍ على مستوى المضمون وإشكالاتٍ أساسيّةٍ على مستوى المنهج:

أوّلًا: تميّزت الموسوعة على المستوى العام بكلّ خصائص العمل الموسوعي الأكاديمي، خاصّة على مستوى الشّكليّات وإدارة العمل والتّحرير، من تخطيطٍ ومشاركةٍ واسعةٍ للمحررين وتخصّص الباحثين التّرتيب الالفبائي، المصادر الكشافات.

ثانيًا: لا يمكن أن نتجاوز حدود البحث في نقد المضمون العلميّ للموسوعة ككل، إلّا في حدود المقالة المعنيّة، وإن كان دراسة مقالة التّعدديّة تطلّبت الاطّلاع على بعض المقالات الأخرى، خاصّة تلك التي لها علاقة موضوعيّة بها، وما يمكن القول إزاء هذا الاطلاع الجزئي على الموسوعة، إنّ هناك تفاوت في المستوى وأسلوب ،المقالات كما نسجّل عدم الانسجام في المضامين والتّنافي بين أطروحات الباحثين أحيانًا (سجلنا في بحثنا نماذج لذلك)، وكان يُتوقّع تحقيق الانسجام الفكري بين المقالات ما أمكن، ولا جدال أنّ هناك مقالاتِ منصفةً إلى حد ما، ومنضبطةً علميًّا وموضوعيًّا، وتحرّرت من التَّبعيّة لمشهورات الاستشراق القديم وأساطيره المؤسِّسة. وبالمقابل توجد مقالات غارقة في أوهام الاستشراق.

ثالثا: تمزت المقالة بموضوعها اللّافت: التَّعدّديّة الدّينيّة الذي حمّل الباحثتين

ص: 618

مسؤوليّةً مضاعفةً، فهكذا موضوع يحمل من أبعادٍ مهمةٍ وخطرةٍ ما يحمل: فليس الخطأ في مقاربة موقف القرآن من العديد من الموضوعات التي درستها الموسوعة: كبعض المفاهيم الأخلاقيّة، أو بعض الشَّخصيّات، أو حتّى بعض المفاهيم الاجتماعيّة، كالخطأ أو الاشتباه في تحديد موقف القرآن من الأديان ورؤيته للتعدّد، وهو محور الجدل الأزلي بين بين الأنا والآخر بين الشّرق والغرب، وأحد المزالق الكبرى للاستشراق.

رابعًا: تميّزت المقالة بوفرة المصادر وتنوّعها حتى خلنا أنّ وراء كلِ جملةٍ إحالة وهذا كما يُعبّر عن الثَّراء الببليوغرافي من جهة، ولكنّه من جهةٍ أخرى، ومع حرص الباحثتين الواضح على تحشيد كلّ هذه الإحالات يشوّش ذهن القارئ، ويحول دون وحدة نسيج المقالة.

كما شكّلت هذه التّعزيزات من خارج المقالة بدراساتٍ غربيةٍ في الموضوع أو مقالاتٍ في نفس الموسوعة حاجزاً دون فهم الرّؤية القرآنيّة بمنأى عن إسقاطاتٍ من اليمين واليسار !!

خامسًا: في العديد من الأحيان تستشهد المقالة بآيات قرآنية دون إيراد نصها، وتكتفي بذكر السورة ورقم الآية، وهذا من جهةٍ لا يساعد القارئ على فهم السّياق والتأكّد من التّبرير، الذي تقدّمه المقالة للفكرة، ومن جهةٍ أخرى لاحظنا في بعض ،الموارد تكون الآيات أجنبيّة عن المقام وخارج السّياق (وأشرنا لذلك في صلب

البحث).

سادسًا: التّمشّي المنطقي الذي سلكته المقالة إلى حدّ ما كان مناسبًا: رصد المفردات الدّينيّة ثمّ المجتمعات الدّينيّة التي تحدّث عنها القرآن وتفاعلاتها، فالنّظريّة القرآنية حول التّعدّديّة والتوجيه السّلوكي للموقف من الأديان الأخرى.

لكن المقالة استغرقت كثيرًا في بحث المفردات ولم تخصّص للإشكاليّة الأساسيّة في البحث إلّا صفحات قليلة.

ص: 619

سادسًا: أسلوب المقالة يفتقد إلى السّلاسة والانسيابيّة كما يفتقد إلى جماليّة التّعبير وجودة الحبكة (في اللغة الإنجليزية وتبعًا لذلك النّصّ المترجم)، وزادت الاستطرادات والانتقالات من موضوع إلى آخر وكثرة الإحالات الوضع سوءا، ولذلك خصّصنا فصلًا كاملًا أعدنا فيه عرض المقالة عرضًا منظّمًا لعلّنا نخفّف من وطأة التّشتّت في معالجات المقالة، وكان ذلك خطوةً ضروريّةً لقراءةٍ نقديّةٍ موضوعيّةٍ.

سابعًا: ما لمسناه في بحث المفردات ينبئ عن قصورٍ في فهم المعجم القرآني والمجالات الدّلاليّة لمصطلحات القرآن كما لاحظنا غياب القدرة على الربط بين المفردات والعقبة التي تسري في سائر مفاصل المقالة: إشكاليّة التّعاطي مع التّرجمات القرآنيّة، فالتّعامل مع ترجمةٍ للقرآن باللغة الإنجليزية مهما كانت دقّة الترجمة يمثّل حائلًا دون الفهم العميق لآيات الكتاب، فهذه الترجمات كما قيل هي من قبيل (ترجمة ما لا يُترجم!).

ثامنًا: كما كانت معالجة المفردات تتّسم بالتّجزئة وعدم الدّقّة، ولم يكن بحث المجتمعات وتفاعلها أحسن حالاً: النظرة التّجزيئيّة إسقاطات على النّصّ القرآني الانحياز للانتماء المسيحي بالخصوص التّأكيد على تأثير المسيحيّة واليهوديّة بدرجةٍ أقل على النّبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و على الإسلام، وعلى المفسّرين والمتكلّمين أيضًا.

تاسعًا: لقد صدقت السّيدة جن ماك أوليف حين نسبت الفضل إلى الثالوث في اهتماتها في مجال اللاهوت وفلسفة الدين، فلقد بدت منحازةً لعقيدتها، وهمّشت كلّ ما يرمز إلى تفوّق الموقف الإسلامي، ونقاط القوّة على مستوى الشّخصيّات والوقائع والجدل، بل سعت لتبرير حتّى نقاط الضّعف في الموقف المسيحي (مثال ذلك تفسيرها للتثليث بمرجعيّة سريانية)

عاشرا: انساقت الباحثتان مع الفرضيّات الاستشراقيّة، والتي شكّلت لحوالي قرنين من الزّمان العقليّة الاستشراقيّة الواهمة: كالتّحليل الفيلولوجي بإرجاع القرآن إلى لغاتٍ سريانيّةٍ وآراميّةٍ أو إرجاع الوحي الإلهي إلى مرجعيّاتٍ يهوديّةٍ ومسيحيّة !!! ما زالت للأسف الدّراسات تكرّر هذه الخرافات والأساطير (وقد فنّدنا ذلك)، وكنا

ص: 620

نخال موسوعةً قرآنيّةً في مطلع القرن 21 ستتجاوز هذه الخرافات أو الوقاحات الصبيانيّة بتعبير المستشرق الألماني نولدكة.

أحد عشر:لم تخلو المقالة من التّفسيرات الوضعيّة الغارقة في الأبعاد الماديّة أو الزّمنيّة للظواهر والتي لا تنسجم مع منطق القرآن وروحيّته فكيف نطبّق منهجا لا ينسجم مع موضوع الدراسة؟.

اثنا عشر: أهملت أو تجاهلت المقالة منهج المقارنة في مقام استكشاف موقف الإسلام من الآخر الدّيني فالمقام يقتضي أن نعرض موقف الدّيانات الأخرى من الإسلام في نصوص اليهوديّة وسلوكات أتباعها، وكذلك في نصوص المسيحيّة وسلوك أتباعها، أمّا عن اليهود فنصوصهم في احتقار الأمم الأخرى والدّعوة لقتلهم وتشريدهم أشهر من أن تُذكر وأدوار اليهوديّة المتحالفة مع الصّهيونيّة والماسونيّة في العالم ضدّ الإنسانيّة، وليس ضدّ المسلمين فقط لا تخفى على عاقل أمّا المسيحيّة فنذكّر الباحثتين بتاريخ الحروب الصليبيّة، ودور الكنيسة في قيادة هذه الحروب وكيف كانت مؤسّسة الاستشراق الامتداد المعرفيّ لهذه الحروب والغطاء الإيديولوجي للتبشير والاستعمار وكيف أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة لم تتجاوز موقفها العدائي الصّريح للأديان الأخرى إلّا في المجمع الفاتيكاني الثاني (سنة 1963_1965) حين أصدرت اعترافًا محتشمًا بالدّيانات الأخرى، وبرّأت اليهود من دم المسيح ! فهل يُقاس موقف المسيحيّة هذا بموقف القرآن الذي لا نجد كتابًا دينيًّا في التّاريخ يتحدّث عن الأديان الأخرى أكثر من تاريخه، ويفضّل تاريخ الأنبياء الآخرين أكثر من تاريخ نبيّه لا نجد كتابًا يعترف بالآخرين ويدعو للحوار والجدل بالتي هي أحسن، والسلم، والكلمة السواء، وحتى موقف القوّة والقتال فهو يؤسّسه على منطق الدّفاع عن أهم حقوق البشريّة: التّوحيد وانطلاقًا من أصل العدل والدّفاع عن المستضعفين.

ثالث عشر: سجّلنا أيضًا تغييب منهج الفهم، وعدم اعتماد مركزيّة النّصّ القرآني فالمقالة في أكثر الموضوعات لم تترك القرآن يعبّر عن مقاصده، بل تسلّحت بعدّةٍ استشراقيّةٍ شكلت عائقًا آخر أمام الفهم وربّما هذا التّغييب هو الذي يجيبنا عن

ص: 621

سؤال حيّر الكثير من الباحثين في مجال الدّراسات الاستشراقيّة : لماذا نجح الاستشراق في فهم ديانات الشّرق الأقصى رغم أنّها دياناتٌ معقّدةٌ جدًا ولكنّه فشل في فهم الإسلام رغم بساطته وعقلانيّته؟؟؟

رابع عشر: أكّدت السّيدة جين ماك أوليف في مقدّمة الموسوعة أنّ عملهم قام على ازدواجيّة تجمع بين الماضي والمستقبل، كأفقٍ جديدٍ للدّراسات القرآنيّة، ولكن يبدو للأسف أنّ سلطة الماضي بما تختزنه من إرثٍ استشراقيٍّ ثقيلٍ أبعدت الموسوعة أو على الأقل المقالة عن آفاق المستقبل.

هذه حصيلة قراءتنا التّقويميّة لمقالة التعدّديّة الدّينيّة، وهي كما تتراءى أمام النّاظر تستوجب مراجعةً عميقةً وإعادة نظرٍ فى العديد من الأسس والقواعد، فضلًا عن الأفكار والمواقف، ولكن مع تأكيد السيدة ماك أوليف على الاستعداد الدّائم للتطوير والمراجعة في الطّبعات اللاحقة، فإنّ الموسوعة مدعوّةٌ فعلاً لهذه المراجعة لعلّها تُحقّق هدفها في جعل القرآن متاحًا لفهم الإنسان عمومًا وفي الغرب خصوصًا بما ينفع فعلا هذا الإنسان بتقريب الحقائق منه وإبعاد الأوهام عنه، وإلّا فإنّ هذا العمل لن يكون له نفع في منطق القرآن نفسه:

«وكَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءٌ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ»، (سورة الرعد، الآية 17)

وآخر دعوانا أن الحمد ربّ العالمين

ص: 622

المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم

2- العهد الجديد

3- ابن السائب الكلبي، هشام بن محمد ( الأصنام تح أحمد زكي باشا، ط3، دار الكتب المصرية، 1995.

4 - ابن كثير (إسماعيل بن عمر)، تفسير القرآن العظيم، لا ط دار طيبة، الرياض، 1991.

5 - ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم) لسان العرب دار صادر، بیروت، لا ط، لا ت.

6- ابن هشام: الحميري عبد الملك السيرة النبوية، تح مصطفى السقا دار حياء التراث العربي بيروت، لات.

7- أبو هلال العسكري الفروق في اللغة، ط دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980.

8- إيزوتستو، توشيهوكو، المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن تر عيسى علي العاكوب دار ،نینوی دمشق، 2016.

9 - إيزتسو، توشيهوكو الله والإنسان في القرآن تر هلال محمد الجهاد، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.

10 - البعلبكي، منير قاموس المورد ط 1 ، دار العلم للملايين، بيروت، 1981.

11- البهنسي، أحمد القرآن الكريم وعلومه في الموسوعات اليهودية، ط2، مركز تفسير للدراسات القرآنية، الرياض، 2015.

12- بوفيم، عبدالله اللغة العربية أم اللغات، ط 1،لا ،م، لا ن، 2018.

13 - البويني، عبد الرحمان أحمد اللغة العربية أصل اللغات كلها دار الحسن، عمان، ط1، 1993.

ص: 623

14- الحجيلي، عبد الرحمان المعاجم المفهرسة لألفاظ القرآن الكريم، لاط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لات.

15 - الجرجاني علي بن محمد التعريفات تح براهيم الأنباري، دار الريان للتراث، لام، لات.

16 - جعيط هشام مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام لا ط دار الطليعة للنشر، بيروت لات.

17- الخشن، حسين أصول الاجتهاد الكلامي، ط 1 ، المركز الإسلامي الثقافي، بيروت، 2015.

18- دراز، محمد عبدالله الدين لا ط الهنداوي، مصر، 2016.

19 - الراغب الأصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد ) ، المفردات في غريب القرآن مكتبة نزار مصطفى الباز لام لات.

20 - زادة ، محمد واعظ (الخرسان)، المعجم في فقه القرآن وسر بلاغته ط2، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، 1427ه-

21- السيوطي ، جلال الدين الإتقان في علوم القرآن ،ط 1 مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، 2008.

22 - السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفکر، 1993م، 1414ه-

23 - شلبي، أحمد اليهودية، ط12، مكتبة النهضة، القاهرة، 1997.

24 - شمس الدين محمد مهدي في الاجتماع السياسي الإسلامي، ط1، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، 1992.

25 - صالح هاشم قاموس القرآن الكريم بالفرنسية حدث فكري ،مهم، جريدة الشرق الأوسط، العدد 11214، 11 أغسطس 2009.

26 - الصدر ، محمد باقر ،اقتصادنا، ط 20 دار التعارف للمطبوعات، بيروت ،1987.

ص: 624

27- الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آيالقرآن تح عبد الله التركي، ط1، هجر للطباعة القاهرة 2001.

28 - الطبطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن، ط1، دار التعارف، بیروت، 1997.

29- العالم عمر لطفي، المستشرقون والقرآن دراسة نقدية لمناهج المستشرقين، ط1، مركز الدراسات الإسلامية، مالطة، 1991.

30- عمر أحمد مختار المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن وقراءاته، ط1، سطور، 2002.

31- عوض إبراهيم دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية أباطيل وأضاليل، ط1، مكتبة البلد الأمين، القاهرة، ط1، 1998.

32- لابوم، جول، تفصيل آيات القرآن الكريم تر محمد عبد الباقي لات، دار الكتاب العربي بيروت.

33- متز، آدم، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، تر محمد عبد الهادي أبو ريدة، طه، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لات.

34- مرزوق، عبد الرؤوف، معجم الموضوعات والأعلام في القرآن الكريم، ط1، دار الشروق، القاهرة، 1995

35- المسيري، عبد الوهاب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ط 1، دار الشروق، 1994.

36- هود نشرد ،تد دلیل اكسفورد للفلسفة تر نجيب ،الحصادي المكتب الوطني للبحث والتطوير ليبيا لات.

37- نولدكة تيودور تاريخ القرآن ترجمة جورج تامر ،طع منشورات الجمل كولونيا_بغداد 2008.

38-Jane Dammen McAuliffe, General Editor ,Encyclopedia of the Quran, Brill,Leiden,Bosten,2001

ص: 625

الدوريات والمقالات:

1- اسكندرلو محمد جواد كتابة الموسوعات عند المستشرقين دراسات استشراقية، ع11، ربیع 2017.

2- البهنسي أحمد، إشكال فهم النص القرآني في الدراسات الاستشراقية (الاستشراق الإسرائيلي أنموذجا)، مجلة دراسات استشراقية، العدد الثاني، خريف 2014م.

3- رضائي، محمد علي (اصفهاني)، جولة في دائرة معارف ليدن العدد 1 ، صيف 2014م.

4 - عبد العزيز زينب مقالة القراءة الغربية للقرآن مؤتمر القراءة الغربية للقرآن الكريم (كلية الدعوة الإسلامية ليبيا ديسمبر2005).

5- مظفر ،إقبال الموسوعة التكاملية للقرآن مجلة الاسلام والعلم، عدد8، صيف 2010.

ص: 626

الاختيار الانتقائي والبيان اللامتوازن للمعلومات في موسوعة القرآن ( ليدن )

اشارة

د. حسين لطيفي (1)

الملخص

تُعدُّ موسوعة القرآن (الصادرة عن دار بريل في لايدن) واحدةً من أحدث الجهود الغربيّة التي تصبُّ في دائرة الأبحاث الإسلاميّة والاستشراق. بناءً على ذلك، تظهرُ في هذا العمل الخصائص المعهودة التي تطبعُ هذا الحقل البحثي القديم نِسبياً. رُغم تنوُّع الباحثين الذين ساهموا في تأليف هذه الموسوعة، إلا أنّه يُمكن تحديد الأُطُر المنهجيّة العامّة التي تُشكّل المضمون وتقودُ التحليل في العديد من المقاطع البحثية. تهدفُ هذه الدراسة لتحقيق ذلك من خلال تقديم نماذج عن "الجمع الانتقائي" و"العرض غير المتوازن للمعلومات" المؤدَّييْن غالباً إلى"صياغة تحليلاتٍ مُضلَّلة". تحتجُّ الدراسة بعدها أنّ تطبيق هذه المعايير في مقاربة أي نصٍ وفهمه سواء كان نصاً دينياً قديماً، منظومةً قانونية لدولةٍ علمانية معاصِرة، أو حتى نصاً ناتجاً عن مدرسةٍ فلسفية - ذي توجه إلحادي - سوف يُنتجُ مفاهيمَ خاطئة أو سخيفة. بما أنّ هذه الخصائص - والنقد الموجُّه ضدّها - تعودُ لقرونٍ خلت وتظهرُ في النقاشات حول الاستشراق الغربيّ تسعى هذه الدراسة أن تطرح الفرضيّة الشهيرة بأنّ "النمط العلميّ يقود البحث" كأحد التفاسير الأساسية التي تُبيّن لماذا يقاوم هذا الحقل (الدراسات الإسلامية في الغرب) بعضَ التغييرات أو التصحيحات.

الكلمات المفتاحية: موسوعة القرآن الدراسات الإسلاميّة، الدراسات القرآنية، الاستشراق المنهجيّة الانتقائيّة الموضوعية العلميّة، الافتراضات اللاواعية.

ص: 627


1- باحث وأستاذ في الفلسفة الغربية جامعة طهران وأستاذ زائر في الدراسات الإسلامية في جامعة زيمبابوي وجامعة أروبة اليسوعية، وأستاذ في الدراسات الحوزوية.

Selective Collection and Unbalanced Presentation of

Data in the Encyclopedia of Qur'an (Leiden)

Hossein Latifi(1)

Abstract

The Encyclopedia of Qur'an (Leiden) is among the latest efforts in the West- ern tradition of Islamic Studies and Orientalism. As such, it displays typi-

cal characteristics common in this relatively old field of studies. Despite the diversity of the Encyclopedia's authors, general methodological frameworks

that shape the content and guide the analysis in many of its entries can be outlined. Present study aims at doing so by bringing into light cases of "selec-

tive data collection" and "unbalanced data presentation" which often result in "formation of misleading analyses." The study then argues the applica- tion of such measures in approaching and understanding any literature, be it a religious tradition of the past, legal system of a modern secular country,

or even a philosophical school with atheistic orientation, will only produce wrong, or rather ridiculous misconceptions. Since these characteristics and criticism against them- are as old as centuries in discussions about Western orientalism, the study then tries to suggest the famous hypothesis "scientific

paradigm leads the research" as one major explanation of why this discipline (Islamic Studies in the West) resists against certain changes or corrections. Keywords: Encyclopedia of Qur'an, Islamic Studies, Qur'anic Studies, Ori- entalism, Selective Methodology, Scientific Objectivism, Subconscious Pre-

ص: 628


1- Visiting lecturer of Islamic Studies in the University of Zimbabwe

suppositions

Introduction

The old tradition of western orientalism in general and Islamic studies in partic- ular, has received-almost since its birth-mixed reactions by Muslims; from those who deem the field as the most scientific endeavor ever to understand Islamic tradition which must be adopted and followed by Muslim thinkers too, as the ultimate example of true scientific research method; to those who regard it as a tool and necessary component in the western imperialistic and dominative colonial and post-colonial policies. By examining some of the key methodolog- ical frameworks in the Encyclopedia of Qur'an, the present study argues that beyond political agendas or sincere individual motivations, this field of study,

exemplified now in EQ, suffers from serious deficiencies. As it is common with scientific fields, deficiencies exist and so are critical and peer reviewed approach to rectify them; yet aforementioned deficiencies are difficult to be cured, partly because they are seen by the field's practitioners as values and not problems. The study comprises of two sections and a conclusion. In the first section, random examples of selective data collection in EQ are listed. In the second section, cases of unbalanced date presentation in EQ are discussed and finally, the study arrives at its main conclusion, which is an answer to the question concerning the origin and cause; simply put, why such partial blindness keeps repeating itselffrequently -and against all the long standing criticism- in what is primarily supposed to bea scientific discipline?

What is meant Selective Collection and Unbalanced Presentation? In brief and simple words, in this paper selective collection of research ma- Sime

ص: 629

terials means when a researcher, mainly due to her presuppositions, either intentionally or subconsciously, ignores certain facts which are contrary to her pre-established theory. For example, if a noticeable number of Muslim scholars have a certain opinion, but a researcher turns a blind eye on them; a common case with the exegetical opinions of Shia scholars in EQ, as these opinions are ignored as if they never exist (while the authors remember to

bring into light opinions from even the cult-like groups).

Unbalanced date presentation means when different elements of a theological or philosophical system, or different accounts in a historical narrative, are not

given their due weight in the overall depiction. For example,the weight of the monotheistic doctrine (Tawhid) with its profound and multilayered applica-

tion in the Islamic theology is not similar to anything in other theological systems;to put it beside other elements just like another religious teaching is an unbalanced depiction of Tawhid. Of if there are nine traditionally au- thentic and objectively reliable accounts which narrate a historical incident in a certain way, but there's one remote and suspicious report which has a different approach, to present the one single unreliable report as the most significant and fundamental constituent of one's historical analysis is nothing but unbalanced data presentation.

Cases of Selective Data Collection

Apparition (1:124)

After being defined as "preternatural appearance of a specter or vision" it is stated “There is no specific qur'ānic term for apparition." Simply ignoring the

ص: 630

clear and explicit Qur'anic term "tamaththul" (19:17) and all its subsequent exegetical and philosophical elaborations; not to mention its widespread us- age in Hadith. (Tabatabaei, 1417, p. 14:36) However, the author then takes two other words 'burhan' (proof) and 'Aya' (sign) to trace "apparition" in Qur'an.

Since these two have completely different lexical senses from 'apparition, one might wonder why? Then it turns out according to one interpretation based on Isra'iliyat, the word 'burhan' in 12:24 alludes to something in the form of apparition. This interpretation has precedence in Babylonian Talmud, hence fits the theory of Qur'an's inauthenticity; such a strange negligence of 'ta- maththul' and vivid divergence from 'apparition' to 'proof, just to spotlight an interpretation with precedence in biblical tradition. Then the author goes on to discuss cases of illusions and optical errors in the same entry, whereupon giving the picture that there's no clear distinction between Prophetic visions. and Satanic hallucinations in Qur'an; another Westernpopular theory about Qur'an and the Messenger who brought it.

Al-Aqsa Mosque (1:25)

"Within Muhammad's life-time ... "the farthest (al-aqsa) place ofprayer" might have been in heaven, in Jerusalem (q.v.) or perhaps in a locale near Mecca." according to the author, there's nothing in Islamic exegetical tradi- tion to interpret thequr'anic title "Masjid al-aqsa;" not even enough evidence to determinethe approximate time from which Muslim writers started to as- sociate 'Masjid al-aqsa' to Jerusalem: "Only at a later, unknown time did the

topographical attribution become the proper name of the Aqsa Mosque." then she goes on "No Muslim source records the Haram's first mosque...but

ص: 631

the Gallic pilgrim Arculf saw that the "Saracens" had a rough prayer house, unnamed, in its eastern part ... That mosque has been attributed to Umar b. al-Khaāb" (1:125) and then she lists the renovations and expansions of that building throughout history and who exactly is to be credited for details of the building (or buildings) at each historical stage.

She also makes sure to state that Muslim historians and geographers' de- tailed descriptions of al-aqsa are "sometimes contradictory ... while Hamil- ton's study provides the most complete archaeological record."(1:126) to sum up, since no building called "Masjid" existed in Jerusalem during the reve- lation of Qur'an, this qur'anic term is originally vague; only later-the date and source remain unknown- it has been used to refer to a building that is attributed to the second caliph. Simply put, this part of Qur'an was vague and meaningless for Muslims (or even the Prophet (s) himself) it could mean anywhere in heaven or earth, in Arabia or the Levant, until some Muslims (was it during the second Caliph? Who knows, it's just an attribution!) erect- ed a building in Jerusalem.

One is left wondering whether this masterpiece issimply the result of a petty, unwitting mistake between 'mosque as a building' and 'mosque as a piece of land. A quick survey in early Islamic tradition reveals that "Masjid" is occa- sionally associated with a piece of land' and not necessarily a 'building;' thus, the absence of a building called Masjid in Jerusalem, does not render verse 17:1 and countless other Hadith that contain the title 'Masjid al-aqsa' orig- inally vague. Not to mention the fact that in Islamic historical perspective, places of worship that were built by prophets, are truly Masjids; Adam (a)

ص: 632

built Ka'ba, David(a) specified a piece of land as Masjid al-aqsa (later built by Solomon (a) and known in the biblical tradition as Solomon's temple), and Muhammad (s) built the Masjid in Medina. In fact, the plural title 'Masajid al-anbiya' (Mosques of the Prophets) is applied to the three in early Islamic

tradition, in recognition of their historical divine origin. (al-Jassas, 1405, p. 1:302)

Abrogation (1:11)

In a reversed and negative definition, instead of defining it as the natural re- sult of any flexible any gradual legislative process, "Abrogation" is defined, at

the beginning of its entry as "a concept... which allowed the harmonization of apparent contradictions in legal rulings." Giving the picture that Qur'an had initial contradictions and only later Muslim thinkers came up with a concept called "Naskh" to reconcile them. It is true that from a later perspec- tive, abrogation has that function, but to define abrogation mainly as a kind of justification for discrepancy in a legal text is not a firsthand definition of the concept.

Azar (1:192)

Completely ignoring -either deliberately or unintentionally- the strong Shia in- terpretation of the verses related to Azar, which reject him as Ibrahim's father, the author tries to reconcile the discrepancy between the name of Ibrahim's father in biblical tradition, Terah; and the one in Qur'an, Azar -according to non-Shia interpretation- and states: "The most widely-acceptedview...is that- the name derives from the Hebrew Elyezer,the name of Abraham's servant in

ص: 633

Gen15:2" And then the reader is notified "it also suggests an inability among early Muslims to differentiate Abraham's father from his servant in the biblical account." Clearly, had the author only considered Shia views in this regard he could have saved at least some early -and also later- Muslims from such inabil- ities.Ignoring Shia views in this particular case seems more questionable when we see in other cases, the authors normally spare no effort to find the remotest ideas and present them as mainstream, orthodox Shia beliefs, e.g. the case with the Shia views on Tahrif (Distortion of the Holy Qur'an).(1)]

Cain and Abel (1:270)

It is surprising how the clear difference between Qur'anic and biblical narra- tives of Abel's burial is ignored. The fact that God's sending a raven to teach

Cain how to bury his brother's body, isuniquely Qur'anic -and is absent in all biblical tradition- such a fact is nothing worthy of the author's attention, yet

he feels free to define with full certainty, the passivity of Abel in (Q 5:28) as a Christian element, without any implicit or explicit reference to such a link from Muslim sources. "Abel's inaction and passivity (cf. q 5:28) is evidently a Christian element since, according to Christian tradition, the murder (q.v.) of Abel is considered a prefiguration of the crucifixion of Jesus." (1:271) Ac- cording to this passage, (Qur'an 5:28) contains an evident Christian element, not because there's noteven the slightest clue for such a link from Muslim sources, but only because Christians believe Abel's murder was a foregoing

example of Jesus' crucifixion; not to remind the author and his respected

ص: 634


1- Entry: 'Shi'ism and the Qur'an' (4:593) introduces the belief in textual alteration (omission from and addition to Qur'an) as an early orthodox Shia belief. For a short and simple refutation of such allegation, see: (Ja'fariyan, 2003).

readers that Qur'an explicitly denies the latter (crucifixion story) elsewhere (Q 4:157) altogether.

Friday Prayer (2:271)

Jum'a (Friday) is introduced as the sixth day of the week (whose week? Mus- lim or Jewish?); then it is claimedthat the name "Jum'a" or "Assembly" drives

from a Jewish custom of market-gathering on Fridays. Thus,designation of Friday as a day for congregational prayer for Muslims was a juxtaposition of market activity and collective religious duty." As we continue, we realize that Friday was not set apart as a day of rest, and there is no evidence that its establishment as a day of communal prayer was of a polemical intent; it's only

in later developments that Friday has emerged as a religious rival to Saturday or Sunday.

To address the above claims by order, first it might be useful to know that the pre-Islamic name of Friday, was not Jum'a or Assembly, for the sake of Jewish

market-gathering, rather the day was known as yawm al-uruba, the day of Arabism. Oldest fragments of Ancient Arab poetry use the name al-'Uru- bal(1)], rather than Jum'a(2); in fact, it has been explicitly stated by early Arab lexical experts and writers that prior to Islam, "no one used the name Jum'a for Friday?(3)]

ص: 635


1- Jawad Ali believes this name comes from "EribShebat" meaning the eve before Saturday in Hebrew. 8:468 1993)) this displays clear pre-Islamic Jewish influence, yet no sense of assembly or market- gathering is there. gbligazolçöŸtelvėtḥmės
2- نفسيالفداء لأقوامهمو خلطوا ... يوما لعَرُوبة أزواداً بأزواد (الشافعی ،2006، 3:1356؛ علی 1993، 8:465)
3- ذكر السهيلي في الرَّوْض الأنْف أَنَّ كعب بن لؤي أوّلُ من جَمَّع يوم العَرُوبةِ، ولم تسمَّ العَروبةُ الجُمعة إلا مذ جاء الإسلام ابن منظور (1414 ، 8:58

Also, earliest and oldest surviving accounts accompanying this verse, explic- itly state the 'polemical intent' of this day in comparison to Jewish Saturday (1) or Christian Sunday. It is noteworthy that Friday was not set apart as a day of rest, for there's no concept of "day of rest" in Islam. The belief that God

took rest on a special day after six day creation is directly rejected by Qur'an (50:38). So to expect holiday/rest-day link is rather a wrong expectation in

Islamic tradition. Still, Muslims are encouraged to leave work for the sake of worship-and not rest- on Friday. (62:9).

The author then cites the verse encouraging Muslims to spread and look for the bounty of God after the prayer, as an evidence for the ritual's occurrence

in the proximity of commercial and social pursuits. Just there, he admits. that historical observations confirm that in Arabia, market-gathering would

normally diminish by noon. He seems not to notice the discrepancy in his analysis; if market-gathering diminishes before prayer (noon), then how can

encouraging Muslims to look for bounty of God afternoon prayer have any- thing to do with the claimed market-gathering? Finally we finish the entry with a masterpiece of chronological analysis. The

verse indicating Muslims left Prophet (s) standing, can't be a reference to the sermon and the speech before prayer in Friday -as it has been stated in

traditional interpretation of the verse- because a Hadith used in such inter- pretation, contains the word 'Minbar' or ceremonial pulpit, and such a thing

ص: 636


1- you and your nation have been preferred over other nations by Friday" 70 1400)) "Jews envied us for Friday" 5:75 1994)) and God written [commemoration of] Friday upon previous nations, they disagreed, but we were guided to it" 1:125 1991 )) "get ready for Friday from Thursday eve, like the way Jews get ready for Saturday from Friday eve." 86:197 54:211 1403xo)) 54:21

did not exist at that time; as clear and as genius as that.

Any reader with slightest familiarity with Islam and its history would wonder what the source of such a claim is; that minbar did not exit during the time

of Prophet (s). Then a minbar-related source catches your eyes in the bibliog- raphy; "The Pulpit in Islam" by "S. M. Zwemer?" a 13 page paper which cites

historical and traditional accounts about the existence and use of minbar during the life of Prophet (s). (Zwemer, 1933) Where does it state minbar did

not exit during the life of Prophet (s)? Nobody seems to know. References to minber during the life of Prophet (s) are too many and too diverse(1) to easily fit under the usual label of "later-Muslim-fabrication" by typical west- ern orientalists; this particular subject is not one of those. And besides, one account in the exegesis of the verse (62:11) containing the word 'minbar' (which the author, erroneously, believes indulges anachronism) should not permit him to ignore and disregard other accounts and Hadith that present similar interpretation of that verse (i.e. delivering sermon while standing)

without mentioning minbar.[(2)]

Exegesis of the Qurān: Classical and Medieval (2:99) In this entry we somehow learn that the technical sense of word "Tafsir" has no origin in Qur'an itself and like almost everything else in early Islamic literature, it has been plagiarized from Judo-Christian tradition. And why is

ص: 637


1- مالک بن انس Direct quotes by Prophet (s) include: "whoever makes a false oath on my minbar - [\] my minbar is a garden of paradise" or "my minbar is based on paradise." or "between my" (E:\.or..E 33 house and my minbar is a garden from paradise عبد الرزاق الصنعاني 103 3:182 I had the vision that a أحمد بن حنبل (1ε: 0 EV F..) Jus) "Tyrant from among Umayyad steps on my minbar
2- see أحمد بن حنبل ،2001 (22:256 (مسلم ،1412، 2:590، 2:591) الترمذی (1419 ، 5:250) ( القمل 1404، 2:367)

that? Because the word "tafsir" occurs as 'hapaxlegomenon' in Qur'an and is mostly linked with "unveiling" or "uncovering;" the author replies. An aver- age reader is left wondering what the basis for the claim of 'hapaxlegomenon' is, and more importantly, why the clear connection between the original ety- mological sense (unveiling and uncovering) and the technical one (interpre-

tation) is easily ignored.

Then we go on to know about "ta'wil" as well. This one has been used in Qur'an several times. But again, like any typical contribution in Islamic lit- erature, its meaning and contrast to tafsir is nothing but an echo of Jewish and patristic discussions of fourfold ways of interpretation. The space does. not allow us to mention in detail the great differences between tafsir/ta'wil dichotomy and the fourfold interpretation of scripture mainly initiated by Alexandrian theologians, but a quick survey of the usage of 'ta'wil' in Qur'an and later Muslim exegetical tradition, reveals the unique dimensions of its Is-

lamic conception and consolidation. Let's just treat one example. The author states "It has recently been definitively shown that the verb ta'awwala, from

which the term tawll is formed, originally meant "to apply a verse to a given situation," before it came to mean allegorical interpretation" (2:100) One of the very usages of ta'wil in Qur'an, not only reveals the author's 're- cent discovery' to be pretty old, but also facilitates the consistency of ta'wil's etymological and technical senses and proves the great difference between ta'wil (both in etymological sense and technical practice) and 'the allegori- cal interpretation' as understood in Judo-Christian tradition. As the author has passingly quoted from early Arab lexicons, ta'wil etymologically means

ص: 638

"returning to the beginning." What he failed to note is that 'beginning' in this definition is best understood in the sense of Greek Arche, the first or beginning not just in the temporal or spatial sense, but more in the sense of prototype.

A clear and classic example of both the etymological and technical sense of ta'wil is in Qur'an 12:100, when Yusuf (Joseph) eventually finds himself on

the throne and his family members bowing in respect, he says as quoted in Qur'an "this is the ta'wil (realization) of my dream from before; indeed my

Lord has made it a true one." Ta'wil meanswhen you have a hint, a sign or a signifier (in this case an old dream) and you try to find the prototype or origin from which it had been taken. Once the two match, it's called correct ta'wil.In exegesis of Qur'an, a Muslim who believes Qur'anic verses (again,

bad translation, there is no 'verse' in original Arabic, it's Aya meaning 'sign') so a Muslim who believes these 'signs' were taken from a high position (11:1)

essentially tries to find out the particular prototype matches for those signs. Once the match is found, he claims possessing the correct ta'wil of that sign and returns (applies) the sign to its original prototype. Sometimes the pro- totype match seems so distanced and different from the initial sign, that the process fits under the description of allegory, that is, to treat an unmentioned subject under the guise of another similar; but this is only how it looks to an ignorant eye, from the standpoint of the one who does the ta'wil, the practice is more of match finding and application, not a simple metaphorical assim-

ilation [(1)]

ص: 639


1- for more elaboration, see طباطبایی 1417، 3:31-43)

Of course discussions and complications about ta'wil and its different senses. do not end here, present paper only allows us to know that explicit traces of

this explanation about ta'wil and the connection between its etymological and technical senses can be found in the earliest Muslim traditional and ex-

egetical literature.(1)It remains unknown how the author not just claims the sense of "application of a verse to a situation"to be just a 'recent discovery' but

also why he ignores such classical explanation on their consistency and insists on the disjunction between the etymological and technical senses.

Ambiguous (1:70)

We read in this entry that "Al-Zarkashī (d. 794/1392), on the authority of Nisaburi argues that these passages (Qur'an 3:7; 39:23 11:1) present three different statements on the nature of the Qur'an." This meansZarkashi has accepted the contradiction of these verses, and then "He characterizes the verse that supports the idea of the compound nature." It is present as Zarkashi arbitrarily takes side with one particular verse in this triple contradiction. In sum, the picture is this: Qur'anic verses are contradictory and a Muslim commentator just randomly takes side with one verse. Here we won't go into details of how Muslim exegetical writers dealt with these verses by noting different senses of the word 'Mutashabih, but let's just see in particular what Zarkashi has written. Does he believe these verses pres- ent different statements and then he choose one? He writes "Nisaburi quotes three opinions in this issue: first: all of Qur'an is :see

ص: 640


1- -see: (القمل 144، 1:14)(جصاص 1405، 1:191) 72.

unambiguous because of the verse (11:1); the second: all of it is ambiguous, because of the verse (39:23); and third [opinion] -which is the right one-: some of Qur'an is unambiguous and some of it is ambiguous, because of the verse (3:7).[(1)]

Clearly, Zarkashi and Nisaburi are quoting different 'opinions' based on these verses, and they defend and support the exegetical opinion they regard as the correct one, not 'characterize the verse that supports' one idea, giving the false picture that they refute or dismiss other two verses. They dismiss and refute other two exegetical opinions, not Qur'anic verses.

Unbalanced Data Presentation

Unbalanced data presentation means the non-proportionate distribution of attention to different elements in an attempted analysis; to treat a marginal

piece of data as central and neglect the mainstream, pivotal narrative. In certain fields and areas, such an approach might not be bad in itself, as it gives way to more creative perspectives, nonetheless, in some other areas of research, researchers do not have the liberty to ignore the weight of each element in its original context. Like if I want to study Christianity as a his- torical phenomenon with different social, political, spiritual etc. dimensions, I simply can't treat some lines from apocryphal sources as mainstream Chris- tian beliefs and later claim I have depicted an objective and unbiased pic- ture of Christianity. And the pseudo-scientific saying that "practitioners of

Christianity were and are biased in their treatment of their religion, but my

ص: 641


1- وَقَدْ حَلَى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ لقوله تعالى: كتاب أحكمت آياته ( وَالثَّاني: كُلُّهُ مُتَشَابِهً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ نَزَّلَ أحسن الحديث كتابا متشابها ( وَالثَّالِثُ : - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الكتاب الزركشي (1957-268).

approach to Christianity is objective" does not give credit to my caricatured picture; simply because my research is supposed to give a coherent picture

of that phenomenon based on what is mainstream and what is apocryphal in the view of Christians themselves. By dragging the marginal to the central

and pushing the central to the marginal, not only I'm betraying the initial goal of my research, but -most probably- I'm also tipping the original balance among the elements of that phenomenon in favor of my own, pre-established theories.

After a quick survey of the encyclopedia, we realize that some major topics. and decisive discussions are almost completely ignored, while other minor and marginal ones are discussed rather lengthily. For example, in the entry of Hadith and the Qur'an (2:376) we learn that according to 'western inves-

tigators, the Isnads (chain of transmitters and one of the main means of authentication or falsification of early Islamic tradition) "are better left alone, inasmuch as not only a good number as is generally admitted but, conceivably, all of them may be forged." However, the writer gives us a break by stating that his article will only be 'less radically skeptical. Then we have long discussions on some of the typical favorite topics of orientalists, like the beginning of the revelation and traditions of 'the Seven Letters.Despite

questioning the isnads of all Islamic traditions and considering them as mass fabrication and forgery, orientalists regard some of the reports in these two

particular topics as ultimate historical truths, why? Simply because it fits their theory; sometimes painstakingly, they could find implicit and indirect traces of non-divine origins of Qur'an in them.

ص: 642

And then there's no discussion about Isra'iliyat, the topic under which Mus- lim scholars discuss biblical narratives infiltrating their tradition; a topic that shows an early awareness by Muslims about the originality of their tradition and its borders with Judo-Christian teachings. This topic does not deserve discussion in this voluminous encyclopedia -which has independent, and rather long, entries on dog and donkey and Daruz- simply because it does.

not fit in western and orientalist narrative about Islam. Islam must be intro- duced as a bad copy of biblical tradition, plagiarized by some Bedouin, desert

living Arabs who were not aware of what they were doing; Arabs in their tribal society, who only knew war, wine and women, then all of a sudden, in less than some decades, not just found interest in biblical tradition and pla- giarized its main themes, but also could forge out complete and independent systems of theology, historiography, literature review and so on; and most importantly were aware and conscious about the borders of their tradition with other traditions and would block the infiltration of other traditions by introducing subjects like Isra'ilyat.

The unique thing about Islamic tradition is that unlike Judo-Christian tra- dition, which decides about Canonical and Apocryphal in remote corners. of history and in secret sessions behind closed doors, Islamic tradition and Muslim scholars from the earliest time have put forward the ways and meth-

ods of authentication and falsification of religious teachings' reports (Hadith)in their books. Their debates took place in phrases of transmitted oral ac-

counts or written paragraphs in circulating books, not behind closed doors. Although there has not been an ultimate Church-like authority in Islam, there definitely have been clear technics and methodologies for systematic authen-

ص: 643

tication or rejection of traditional accounts by Muslim scholars. To ignorethe distinction between authentic and fabricated, canonical and apocryphal, and

try to produce so-called genuine and objective researches thereupon, will re- sult in something which is neither a picture of a traditional religion nor that of a historical phenomenon. What happens if we apply the same methods in studying Christianity? to mix canonical and apocryphal texts and come up

with a belief system; is that a real, objective picture of Christianity? or just a mixture of narratives that fit our pre-established theory about Christianity?

Conclusion

So far, some cases of selective data collection and unbalanced data presen- tation have been discussed, but what are the consequences of applying these

methodological frameworks in approaching and understanding any given theological, philosophical or legal system? Particular illustrations of how any

thought-system, be it Christian theology, Buddhist tradition, Kantian phi- losophy, or American legal system look like after applying similar methods

would make the aforementioned deficiencies more visible for a western mind. What would be the result if, exactly like a gossip columnist, a researcher

dedicates major parts of his analysis to problematic marginal issues in these thought systems and depicts them as mainstream? To a large extent, we ob-

serve similar attitudes in the tradition of western orientalism and Islamic Studies; an old fond for controversial, or remote ideas, and at the same time,

negligence of mainstream and coherent theological or philosophical systems. There might be various reasons for such behavior in different levels of its

application; however, one particular condition seems to have the most share of effectiveness. Philosopher of science, Thomas Kuhn has rightly written

ص: 644

"Paradigms guide research by direct modeling as well as through abstracted rules" (Kuhn, 1996, p. 47). This is much true when it comes to Western-de- veloped Studies of foreign cultures and religions, including Islam. Since its emergence, Islam received heavily negative and biased reactions from The West, mostly due to religious motivations common in medieval Europe; how- ever, the strange thing is that, the exact initial biased attitude continued after renaissance and enlightenment throughout colonial and post-colonial period in just different clothing. The main lines of medieval views on Islam, that it has nothing original worthy of attention and it is just a bad and incoherent

plagiarism of other traditions, lived passed all the European social, political, and cultural revolutions and became the main conscious or subconscious

guidelines for any research about Islam in the modern West. Hence, the process of data collection or data presentation in western-developed Islamic studies follows certain general patterns we observed in this paper. And this is dangerous for two reasons; first: like the way selectiveness in western journal- ism plays major role in giving a wrong picture of Muslims to general western minds and further deepens the divisions and paves the way for stereotypes. and the reactive radicalism, also selectiveness in academic researches on Is- lam and its systematic theology or historiography only bears the same fruits on both sides. Additionally, the persistence of this mentality that survived throughout different changes in the West and even gained more strength in colonial period, makes scientific corrections and scholarly modifications very difficult and time-consuming, specially that its practitioners deeply believe they are being unbiased and objective in their approach. Obviously, the prac- tical result of such belief is feeling the liberty to approach Islamic heritage almost like a gossip columnist.

ص: 645

Bibliography

1. al-Jassas, A. b. (1405). Ahkam al-Qur'an. Beirut: Dar Ihya al-Turath al-Arabi.

2. Ja'fariyan, R. (2003). A Study of Sunni and Shii Traditions Cencerning Tahrif,

3. Part 1. al-Tawhid, 3. Retrieved from al-Islam.org. Kuhn, T. S. (1996). The Structure of Scientific Revolutions (3rd ed.). Chicago:

The University of Chicago Press.

4. Tabatabaei, M. (1417). Al-Mizan fi Tafsir al-Qur'an. Qom: Jame Modarresin Publications.

5. Zwemer, S. M. (1933). Pulpit in Islam. The Moslem World, 217229-.

6. Transliteration of Arabic Sources' titles and authors.

7. Usd al-Ghaba by Ibn Athir

8. Al-Musnad by IbnRahwayh

9. Lisan al-Arab by IbnManzur

10. Al-Musnad by Ahmad b. Hanbal

11. Al-Jami' al-Sahih by al-Tirmidhi

12. Al-Burhan by al-Zarkashi

13. Al-Musnad al-Tafsir by al-Shafi'i

14. Al-Tafsir by al-Qummi

15. Ahkam al-Qur'an by al-Jassass

ص: 646

16. Al-Mizan fi Tafsir al-Qur'an by Tabataba'i

17. Al-Musannaf by al-San'ani

18. Al-Mufassal fi Tarikh al-Arab by Jawad Ali

19. Al-Muwatta' by al-Malik

20. Bihar al-Anwar by al-Majlisi

21. Al-Jami' al-Sahih by al-Bukhari

22. Al-Jami' al-Sahih by al-Muslim

المصادر والمراجع

1. ابن اثير، علي بن محمد، أسد الغابة، بيروت، دار الكتب العلميه. 1994.

2. ابن راهویه اسحاق بن ،ابراهیم ،المسند المدينه المنوره، مكتبه الایمان، 1991.

3. ابن منظور محمد بن مکرم لسان ،العرب ،بیروت، دار صادر، 1414ه- .

4. أحمد بن حنبل، المسند، الرسالة، 2001.

5. الترمذي محمد بن عيسى الجامع الصحيح قاهرة، دارالحدیث، 1419ه- .

6. الزركشي، بدرالدين بن عبدالله البرهان في علوم القرآن بيروت، دار احياء الكتب العربية، 1957.

7. الشافعى محمد بن ادريس المسند ،بيروت دار الكتب العلمية 1400ه- .

8. التفسير الرياض دار التدمرية 2006.

9. القمى على بن ابراهيم ،التفسير ،قم، دار الكتاب، 1404ه- .

10. جصاص أحمد بن على احكام ،القرآن بيروت، دار احیاء التراث العربي، 1405ه- .

11. طباطبايي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن قم جامعة مدرسين، 1417ه- .

12. عبد الرزاق الصنعاني ابو بكر بن همام ،المصنف الهند المجلس العلمي، 1403ه-.

ص: 647

13.على جواد المفصل فى تاريخ العرب قبل الاسلام بغداد بمساعدة جامعة بغداد، 1993.

14. مالک بن انس الموطأ ابو ظبي، موسسه زايد بن سلطان آل نهيان للاعمال الخيرية والانسانية، 2004.

15. مجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1403ه- .

16. مسلم بن حجاج الجامع الصحيح، قاهرة دار الحديث، 1412ه- .

ص: 648

هذا الكتاب

هذا الكتاب هو جهدُ مجموعةٍ من الباحثين الذين شاركوا في المؤتمر، الذي عقده المركز تحت عنوان: المؤتمر الدولي الأوّل، «القرآن الكريم في الفكر الاستشراقيّ المعاصر -مقاربات نقديّة لموسوعة القرآن ( ليدن ) - Encyclopaedia of the Quran» والمخصّص لنقد مشروع علميّ موسوعيّ يحوي مجموعةً من البحوث والدّراسات المتمحورة حول القرآن الكريم والموضوعات والقضايا المرتبطة به. وقد تمّ تأليفه بأقلام مجموعة من المستشرقين الغربييّن المعاصرين من مختلف دول العالم الغربي. وإصداره باسم «موسوعة القرآن» (ليدن)(Encyclopaedia of the Quran).

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com

ص: 649

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.