دراسات استشراقية معاصرة للقرآن الكريم : المدرستان الفرنسية والألمانية انموذجا : تحليل ونقد

هوية الکتاب

أبو عيشة، الأمير محفوظ، مؤلف دراسات استشراقية معاصرة للقرآن الكريم : المدرستان الفرنسية والألمانية انموذجا : تحليل ونقد / تأليف الدكتور الأمير محفوظ أبو عيشة - الطبعة الأولى - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1442 ه-. = 2020.

224 صفحة ؛ 24 سم - سلسلة القرآن في الدراسات الغربية ؛ 4)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة .215-224

ردمك : 9789922625775

1. القرآن والاستشراق. 2. الاستشراق والمستشرقون - فرنسا. 3. الاستشراق والمستشرقون المانيا. أ. العنوان.

LCC: BP130 .A28 2020

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

فهرسة اثناء النشر

سلسلة القرآن في الدراسات القريبة

دراسات السيد القبية معاصرة للقرآن الكريم

المدرستاه الفرنسية والألمانية أنموذجاً (تحليل ونقد)

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

«الَّذِينَ آتَيْنَا هُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُ وَ إِن فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»

(سورة البقرة الآية 146)

صدق الله العلي العظيم

ص: 2

سلسلة القرآن في الدراسات القريبة

دراسات السيد الفتية معاصرة للقرآن الكريم

المدرسات الفرنسية والألمانية أنموذجاً

( تحليل ونقد )

الدكتور الأمير محفوظ أبو عيشة

1441/2020

ص: 3

أبو عيشة، الأمير محفوظ، مؤلف دراسات استشراقية معاصرة للقرآن الكريم : المدرستان الفرنسية والألمانية انموذجا : تحليل ونقد / تأليف الدكتور الأمير محفوظ أبو عيشة - الطبعة الأولى - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1442 ه-. = 2020.

224 صفحة ؛ 24 سم - سلسلة القرآن في الدراسات الغربية ؛ 4)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة .215-224

ردمك : 9789922625775

1. القرآن والاستشراق. 2. الاستشراق والمستشرقون - فرنسا. 3. الاستشراق والمستشرقون المانيا. أ. العنوان.

LCC: BP130 .A28 2020

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

فهرسة اثناء النشر

ص: 4

فهرس الکتاب

مقدمة المركز ...7

مقدمة المؤلّف ...9

الفصل الأول

المدارس الاستشراقية والقرآن

المدرسة الفرنسيّة والألمالية أنموذجاً

المبحث الأول : تطوّر الدراسات الاستشراقيّة ...25

المبحث الثانى : مدرسة الاستشراق الفرنسي ...39

المبحث الثالث: مدرسة الاستشراق الألمانيّ...59

المبحث الرابع: الدرس الاستشراقي الفرنسي والألمان القرآن ...69

الفصل الثاني

نماذج من الدراسات الفرنسيّة والألمانيّة حول القرآن الكريم

المبحث الأول : دراسات المستشرق الفرنسي فرانسو ديروش ...85

المبحث الثاني: دراسات المستشرقة الألمانية أنجيلا نويفرت ...115

ص: 5

الفصل الثالث

القرآن الكريم بين رؤية إسلاميّة وأخرى استشراقية

المبحث الأول: رؤية الدرس الاستشراقي للمطوط القرآنيّ...181

المبحث الثاني: الرؤية الإسلامية للمخطوطة القرآنيّ ...189

المبحث الثالث: مزاعم الاستشراق حول الدم القرآني...199

المبحث الرابع: الدراسات الاستشراقية بين الجابيات والسلبيّات ...207

المصادر والمراجع ...215

ص: 6

مقدّمة المركز

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعزّ المرسلين سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذِكْر لله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ)(1)؛ فهو يذكِّر به تعالى؛ بما أنّه آية دالّة عليه،مُوصِلَة إليه، حيّة، خالدة محفوظة بحفظه -تعالى- عن كلّ زيادة ونقيصة وتغيير اللفظ أو في الترتيب، وعن كلّ ما يزيله عن الذِكريّة ويُبطِل كونه ذكراً لله سبحانه، فمهما حاولت أيادي العبث والتحريف والتشويه أن تنال من مكانة القرآن الكريم وعظمته؛ فإنّها لن تفلح أبدًا.

وفي هذا السياق لم تتوقف الحركة الاستشراقية الغربية عن الاهتمام بالقرآن الكريم؛ ترجمةً ودراسةً فظهرت مدارس وشخصيات استشراقيّة متعدّدة، قدّمت ترجمات و دراسات كثيرة للقرآن الكريم بمختلف اللغات الأوروبيّة؛ كالإنكليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة وغيرها...

وقد بلغت جهودهم وأعمالهم البحثيّة مبلغ إصدار موسوعات وإقامة مشاريع بحثيّة مشتركة وقعت في أخطاء فادحة ومغالطات خطيرة، لا تليق بالقرآن الكريم؛ وهو منزّه عنها؛ ما استدعى ردودًا من علماء الإسلام في العقود المنصرمة إلى واقعنا الواقع الراهن.

ومن المشاريع البحثيّة الحديثة المطروحة في الغرب مشروع الموسوعة

ص: 7


1- سورة الحجر، الآية 9

القرآنيّة الألمانيّة (Corpus Coranicum)، الذي بدأ تنفيذه عام 2007م، وتستمرٌ فعاليَّاته حتّى العام 2025م ، وترعاه أكاديميّة برلين - براندنبورج للعلوم Berlin-Brandenburgische) (Akademie der Wissenschaften، وتُشرف عليه المستشرقة الألمانيَّة المعاصرة "أنجليكا نويفيرت“، ويتولّى إدارته تلميذها "مايكل ماركس"، ويتركّز عمل الباحثين فيه على مجالات أربعة هي: دراسة المخطوطات القرآنيَّة والمقارنة بين قراءات القرآن، والتعرُّف إلى الظروف التاريخيَّة والدينيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة في عصر نزول القرآن وكذلك الدراسة التاريخیَّة والأدبيَّة للنصّ القرآنيّ.

وثمَّة مشروع آخر باسم "Coranica“ جاء دعمًا لمشروع ”Corpus coranicum ، وهو مشروع ألمانيّ - فرنسيّ يتألّف من فريقين: فريق ألمانيّ بإشراف أنجليكا نويفيرت، وفريق فرنسيّ بإشراف فرانسوا ديروش. ويهدف هذا المشروع إلى المساهمة في تاريخ النصّ القرآنيّ من خلال عمليَّة جرد لأقدم المخطوطات القرآنيَّة القديمة وتقريرها ودراستها والاهتمام بتحديد تاريخها بدقَّة؛ عبر تقنيّة فحص الكربون المشعّ (C14).

وكما نلاحظ، فإنّ الجهود العلميّة والبحثيّة الاستشراقيّة، ولا سيّما الألمانيّة والفرنسيّة كانت وما زالت نَشِطَة حاليًا؛ كما في العقود السابقة؛ ما يستدعي دراسة هذه الجهود وتقويمها ونقد ما ورد فيها من مغالطات وأخطاء مضمونيّة ومنهجيّة وفنّيّة. ومن هنا يأتي هذا الكتاب ليسلّط الضوء على مدرستين من أبرز المدارس الاستشراقية المعاصرة النَشِطَة حاليًا في مجال الدراسات القرآنيّة وهما المدرستان الفرنسيّة والألمانيّة مع التركيز على أعمال ومشاريع بحثيّة لأنموذجين بارزين معاصرين من هاتين المدرستين وهما المستشرق الفرنسيّ فرانسوا دیروش، والمستشرقة الألمانيّة أنجيليكا نويفيرت.

ونتوجّه بالشكر إلى الكاتب العزيز على ما قدّم من جهد بحثيّ في كتابه وإغنائه المكتبة العربيّة بدراسات نقديّة لآخر ما طرحه الغرب من مشاريع ودراسات عن القرآن الكريم.

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة

ص: 8

مقدّمة المؤلف

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسَلين سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا وبعد...

فإنّ من الضرورة قبل الخوض في غمار قضايا هذه الدراسة أن أضع بين يدي القارئ رؤيةً عامّةً عن الاستشراق ودراسات المستشرقين عن القرآن الكريم، واهتمامهم الزائد بهذا الكتاب الكريم الذي يمثّل آخرَ وحيٍ أوحَاهُ الله - تعالى- من كتبِه المُنزّلة إلى أهل الأرض.

وفي هذه المقدّمة بعض النّقاط أقدّمها تمهيدًا بين يديّ الدراسة وهي التالية:

أوّلًا: دوافع هذه الدراسة

اشارة

تعدّدت دوافع اختيار هذا الموضوع، ومن أهمّها ما يلي:

الدافع الأوّل:

إنّ للقرآن الكريم مَنزِلةً مقدّسةً لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ في شرق الأرض وغربها؛ فهو معجزة نبيّهم الخاتم العقليّة التي تحدّى بها البشريّة كلّها، وهو معجزة باقية شاهدة على صحّة دين الإسلام؛ وهذا من دواعي الاعتقاد الصحيح، مع اشتمال القرآن على ما يريده كلّ مسلم في حياته أو ما يعرف ضرورة عن آخرته. تلك المنزلة دعت إلى عقد هذه الدراسة التي تمثّل بيانًا لمقولات كلّ دارس مُعْرِض في غلوّ وشطَطٍ له أَرَبِّ مغرِب في القرآن وعرضًا لرؤية إسلاميّة

للقرآن، ويمكن تفصيل ما تحلّى به القرآن من صفات ملازمة له تتمثّل في أنّ:

ص: 9

-القرآن مصدر الإسلام الأوّل، فلولاه ما حُفظ للأمّة المسلمة عقيدتها، وشريعتها، ولغتها، وحضارتها، وهويّتها بين سائر الأمم. وإنّ إضعاف هذا المصدر هو إضعاف للأمّة ذاتها، وهذا غرض بعض المستشرقين.

-القرآن معجزة عقليّة خالدة للإسلام جعل الله له قوّة ذاتيّة هيّأت له السيطرة والهيمنة على عقول البشر وقلوبهم، فإن قورن بسائر الكتب السماويّة التي تعرّضت للتحريف تبدو الفروق الواسعة والبون الشاسع في المصداقيّة والتوثيق وإنّ العاقبة له إنّ تحلّى دارسوه

بموضوعيّة ونَصَفة وحياد، وهذا ما يخاف أغلب المستشرقين منه.

- القرآن آخر وحيٍ أوحَاهُ الله - تعالى - من كتبه المُنزلة إلى أهل الأرض، ويجب على هذه الأمّة الخاتمة السّعي في إبلاغه إلى العالمين، وهو وحي الرسالة الخاتمة، وعليه قوام حقائق العقيدة وكلّيّات الشريعة؛ ما يدعو الأمّة المسلمة بعلمائِها، ومفكرِيها، ومثقّفيها إلى الاهتمام بصدّ أيّ عداوة تنبُع عن شغب وعدوان مهما كان حتى وإن تلبّس بثوب زور من العلم، أو

المنهجيّة العلميّة دفاعًا عن القرآن ضدّ منتقديه.

وثمّة صفات أخرى ملازمة للقرآن تدلّ على عظيم ،منزلته وجليل أثره في الأمّة. وتدعو هذه الصفات إلى مزيد من الاهتمام بدراسة كلّ ما يتعلّق بالقرآن من دراسات شرقيّة كانت أو غربيّة بما يدعو إلى دراسة القضايا ذات الاختصاص بالقرآن الكريم، التي تتناول جانبًا من دراسات المستشرقين.

الدافع الثاني:

إن الظهور الجليّ لآثار المدارس الاستشراقيّة، خاصّة الفرنسيّة والألمانيّة منها ولكلّ منهما دراسات متعلّقة بالقرآن الكريم بعضها دراسات حديثة ومعاصرة - هي في الواقع دافع للدّراسة، ومحطّ اعتناء فيها، وأرى من الضرورة أنْ تُخصّص بعض دراسات هذه المدرسة وتلك

لدراسة مقولات كلّ منهما؛ بغية الإسهام في تحليل الافتراءات وتوجيهها بالرّد والنّقد المناسبين المترتّبين على غواشٍ فيها وبيان تمويه الشبهات بدفعها، مع تقديم النّصح المطلوب.

ص: 10

الدافع الثالث :

ضرورة قيام مدارس إسلاميّة لمواجهة المدارس الاستشراقيّة، خاصّة وأن دول العالم الإسلامي تعجّ بكثير من المشكلات في وقتنا الراهن؛ ما شغلها على المستويات كافّة؛ سواء المستوى الإسلاميّ العامّ أو على المستوى الخاصّ المتمثّل في أهل العلم بالقرآن- عن بذل الجهود البحثيّة للدّفاع عن القرآن وحَالَ دون حُسن التخطيط والتنظيم للتعظيم من قُدرات كثير من هيئات الدعوة والفكر الإسلاميَّين ومؤسّساتهما؛ لذا دعت الضرورة إلى إنشاء المراكز البحثيّة التي تعتني بدراسة مقولات الدرس الاستشراقيّ للقرآن؛ مثل: (المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة)(1)، وعنه تصدر إصدارات؛ مثل: مجلّة (دراسات استشراقية)، وهي تُعنى بالاستراتيجيّة الدينيّة والمعرفيّة، ومجلّة نوعيّة هي: (القرآن والاستشراق المعاصر)(2) متخصّصة في مجال الدراسات الاستشراقيّة المعاصرة للقرآن الكريم.

فإنّ عمل المركز يقوم نيابة عن الأمّة بسدّ تلك الثّغرة لالتئام تلك الثلمة، فهذا مقام من فروض الكفاية، وهو منزل صعب ومركَب ،وعِر، ومقام عسِر، وسبيل خطر يحتاج إلى تضافر كثير من الجهود وبذل القدرات والأوقات؛ لضبط ثغرات الفكر الاستشراقيّ، والوقوف على جانب من دراسات المستشرقين المتعلّقة بالقرآن؛ لذا تحتّم القيام بالمشاركة بهذه الدراسة خدمةً للقرآن الكريم، ودفعًا لأوهام بعض المستشرقين.

تلك أسباب ودوافع كافية تدفع الباحثين إلى بذل الجهود في مواصلة دراستها، وبحثها ودفع الشُّبَه؛ لذا سأفرد هذا الموضوع بالدراسة، خاصّة.

ثانيًا:بين يدي الاستشراق

الاستشراق هو طلب دراسة الشّرق، وهو توجُه غربيّ لدراسة علوم الشّرق، وهذا التوجّه ظلّ على مدى قرون مضت وإلى يومنا هذا ، حيث ظهر في صورة مصنّفات اُلّفت حول الشرق،

ص: 11


1- يعمل في مجال الاستراتيجية الدينية، ويهدف لوضع خطط وبرامج استراتيجية في المجال الديني والثقافي بالاعتماد على الماضي ودراسة الحاضر والتطلع نحو المستقبل؛ لتحسين الوضع الموجود ومعالجة المخاطر المحدقة. يراجع موقع المركز على شبكة المعلومات (https://www.iicss.iq/?id=8).
2- تصدر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية بيروت لبنان وهي مجلة متخصصة تُعنى بالدراسات الاستشراقية المعاصرة للقرآن الكريم، صدر العدد الأوّل منها سنة 1440ه- في شتاء 2019م.

أو ترجمات لمصادره الأولى؛ بدءًا بالقرآن وانتهاءً ببعض مصنّفات علماء مسلمين، أو في صورة دراسات حول تفسير القرآن أو شرح لسيرة النبي الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم، وغير ذلك من الجهود الاستشراقيّة.

لكنْ من الملاحَظ أنّ جهود أهل الإسلام لم تكن لتمثّل عُشْر هذا السّيل الجارف من الدراسات الاستشراقيّة، وقد يعود سببُ ذلك إلى تأسيس عشرات الجامعات والمعاهد العلميّة في الغرب تُعنى بدراسة الشرق؛ لغةً وبيئةً ودينًا؛ ما جعل الأمر خارج نطاق الحوار العلميّ المنهجيّ، خاصّة وأنّ الدّرس الاستشراقيّ يقوم باجترار واسترجاع عرض شبهات قديمة بصورةٍ محدثة، وبأسلوب عَرْضٍ وآليّة جديدين، فلو كان سَهْمًا واحدًا لاتّقيتُه، لكنّه سهمُ وثانٍ وثالث، وقد يكون سببُ ذلك أيضًا - الاهتمام المصطنع برجال الاستشراق من خلال استدعائهم إلى جامعات الشرق؛ ليحاضروا طلّاب العلم فيه، مع تمكينهم من عرض رؤاهم فيعرضونها على العقول المسلمة، وهي رؤى بلا أدنى شكّ. تحمل تصوّرات مجرّدة مغايرة للرؤية الموروثة للمسلم تجاه القرآن.

وإنّ دراسة الاستشراق لها أهمّيّة؛ حيث إنّها تدلّ على الموقف الغربيّ من الشّرق عامّة، ومن الإسلام خاصّة وما له من دوافع عديدة ويُلامس الدرس الاستشراقيّ موضوعاتٍ شتّى في الفكر الإسلاميّ تتّصل بهويّة المسلم أو بمسلّماته العقَديّة، وخاصّة حينما يطرق الدّرس الاستشراقيّ منطقةً تُلامس مسلّماتٍ معلومةً ضرورة في دين الإسلام؛ ما يستوجب شدّة الاهتمام بهذا الدّرس، واستيعاب مقولاته، وفهم مقاصده.

قال المستشرق الألماني رودي بارت(1): «وعلم الاستشراق كما هو بين أيدينا اليوم نتيجة نشاط أجيال عديدة من العلماء»(2)، وهذه مقولة إدوارد سعيد(3)، الذي بيّن بوضوح

ص: 12


1- رودي بارت (1901-1983م) مستشرق ألماني ولد سنة (1901) بويتندروف جنوب ألمانيا من أسرة أكثرها قساوسة، دخل جامعة توبنجن تعلم على المستشرق «إنّو لتمن» فحصل على الدكتوراه الأولى سنة (1924) وحصل على دكتوراه التأهيل للتدريس بالجامعة سنة (1926)، وفي سنة (1941) حصل على كرسي علوم الإسلام بجامعة بون وفي (1951) كان أستاذًا للإسلاميات بجامعة توبنجن، ترجم القرآن للألمانية تبعًا للترتيب العثماني المتبع لدى المسلمين مع شرح فلولجي . انظر : بدوي، عبد الرحمن موسوعة المستشرقين ط3، بيروت، دار العلم للملايين، 1993، ص 62-63.
2- انظر: بارت رودي: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية - المستشرقون الألمان منذ تيودور نولدكه، ترجمة: مصطفى ماهر، طبع المركز القومي للترجمة، العدد (1784) سنة (2011)، ص14.
3- إدوارد سعيد ( 935 - (2003م) هو: إدوارد وديع سعيد ، ولد سنة (1935) بمدينة القدس لعائلة مسيحية منظر أدبي وأستاذ جامعي للأدب - المقارن في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو شخصية مؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية وكان يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني وصفه روبرت فيسك بأنه : أكثر صوت فعّال في الدفاع عن القضية الفلسطينية، توفي سنة (2003).

غزارة المنتج الاستشراقيّ، فقال:«تشير التقديرات إلى أنَّ عدد الكتب التي كتبت عن الشرق الأدنى كان يبلغ نحو (60 ألف) كتاب ما بين عامي (1800) و(1950م) بينما كان عدد الكتب التي كتبها الشرقيّون عن الغرب لا يقارن على الإطلاق بهذا الرّقم، ولا شكّ أنّ مثل هذا الخلَل في الميزان بين الشرق والغرب من دوّال التغيّر في الأنساق التاريخيّة إذ كان الإسلام يُسيطر يومًا ما على الشرق والغرب جميعًا ثقافيًّا وعسكريًّا»(1). إذًا، فإنّ

رؤية الاستشراق جادّة لا تلعب متتابعة لا تفتر متّصلة الأجيال بلا كللٍ أو ملل.

ومع توصيف بارت للاستشراق على أنّه دالٌّ على (نشاط أجيال عديدة)، وتوصيف سعيد للاستشراق على أنّه دالٌّ على (التغيّر في الأنساق التاريخيّة)، قد يُفهم منهما نوعٌ من الاستعلاء المرتكز على النشاط المتّصل والجهود المبذولة وتصور الوضع في الشرق بالتأزّم السوداوي أو المأساوي، أو حتى يَشتَمِل على نظرة تشاؤميّة - ولو من جانب بعيد وطرف خفي - والأمر واضح؛ لأنّ عبارتا «سعید» و«بارت» كلتاهما بيان لواقع علاقة الاستشراق بالشّرق الإسلاميّ إلى حدٍّ كبير؛ لذا لا يهمّنا - في قليل أو كثير- أن نعرف إنْ كان أحدهما قال مقولته تلك شامنًا، أو معاتبًا، فالمحصّلة واحدة، ويكفي التعرّفُ على أنَّها حقيقة دالَّة على العلاقة بين الشرق والغرب؛ لأنّ أعمال المستشرقين ملء السّمع والبصر يومًا بعد يوم.

ومهما كان من ترسانة الدراسات الاستشراقية؛ فإنّها لا تضرّ الإسلام بكتابه المعجز ونبيّه الكامل؛ لأنّ النقد لا يضرّ الحقائق؛ بقدر ما يدلّ على افتقاد المنتقد للمنهج العلميّ السليم، والحسّ المنصف، والبحث الموضوعيّ الجادّ، فكلُّ دراسةٍ منصفة جادة وموضوعيّة تصل إلى غايتها من الحقيقة إن سعت إليها، فتراها رأي العين للشمس في وَضَحِ النّهار.

وفي حديث النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم حين قال: «يُوشِكُ الأَممُ أَنْ تَداعَى عليكُم كَمَا تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها»، فقال قائل: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بَلْ أَنتُم يَومَئِذٍ كَثِيرٌ،

ص: 13


1- سعيد إدوارد الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني ط 1 ،القاهرة رؤية للنشر والتوزيع 200، ص 321-322

ولَكِنَّكم غُثاءٌ كَعْثَاءِ السَّيْلِ ولَينْزعَنَّ اللهُ مِن صُدورِ عَدُوِّكم المَهَابَةَ مِنكُم، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ في قلُوبِكُم الوَهْنَ»، فقال قائل: يا رسُولَ الله، وما الوَهْنُ؟ قال: «حبُّ الدُّنيا وكراهيّةُ الموتِ»(1)، أقول: إنّ مفهوم (تَداعي الأكَلَةُ إلى قَصْعَتِها) الواردة في هذا الحديث النبويّ ربما يكون شرحًا واقعيًّا مسبقًا قبل مقولتي (بارت وسعيد) السالفتين؛ لأنّ مفهوم الاستشراق لديهما أقرب لتواصي الدّرس الاستشراقيّ المتواصل لأصول الإسلام ومصادره،

ولأنّ مقولتيهما تؤكّدان على صدق النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، كما أنّهما يُعبّران بأسلوب بليغ عن واقعٍ أليمٍ سوداويّ يعيشه المسلمون.

كما أنّ كلّ من (بارت وسعيد) في مقولتيهما؛ وإن وصَّفا الواقع، لكنّهما يُضعِفان من عزم المسلم، وقد يترتّب على كلّ منهما من الآثار السلبيّة الشيء الكثير على من تستميلهم الأقوال المرسلة ،والبرّاقة فينقصها الإنصاف بينما قول النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم يُبيّن أنّ العلاج في (كراهيّة الدنيا وحبّ الموت)، والمُراد من ذلك وعي الواقع، ورقي الرؤية بإقبال على الآخرة، وابتغاء رضوان الله تعالى مع الإخلاص في العمل، وإيمان موقن بأنّ النبيّ يُوحَى إليه، ويُعلَّم ما لم يكنْ يَعلَم أهلُ عصره، ويُخبَر ليُخبر الناس بما سيكون؛ فيكون كما أخبر.

لقد أتى الدّرس الاستشراقيّ بدراساته وأبحاثه على مدى تاريخه بإنعاش ذاكرة المسلم لاجترار المقالة النبويّة الشريفة، ولا أحبّذ أنْ يظلّ الأمر مجرّد اجترار للمقولة النبويّة دون تقديم جهد واع منظّم، فلن تجدي الذاكرة شيئًا في تغيير الواقع؛ إلا بفعل ناجز نافع؛ لذا أرى ضرورة أن يبقى الأمل في جيلٍ مؤمن بقدراته عارف لمهاراته واع بوجوده، يتعرّف على رؤية الآخر؛ لتحفّزه على إثبات ذاته؛ خدمةً لدينه ووطنه، وحضارته؛ إذ يعمل على تغيير الواقع بما توفّر لديه من وعي بصير مدرِك مع جهد إيجابيّ ناجزٍ.

ثالثا:بين يدي الاستغراب

الاستغراب هو: نوع من العلم المهتمّ بدراسة الغرب من نواحي العقيدة والتشريع ،والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة والثقافة والفكر والأيديولوجيّات.... وهذا العلم يدلّ على التواصل العلميّ بين الشرق والغرب، وهو الوجه الثاني للاستشراق. وقد

ص: 14


1- أخرجه الإمام أبو داود في سننه)، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، رقم: (4297) ، واللفظ له، والإمام أحمد في مسنده)، رقم (22397)، والسهقي في (دلائل النبوة)، (468/6) ، رقم: (2960) ، والحديث حسن صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه، والأكلة) بفتحتين كما ضبطت كذلك بالمد وكسر الكاف الآكلة بوزن فاعلة، وكلاهما جمع آكل.

شهد بذلك المستشرق ستانوود كب فقال: «إنّ كلّ ما لدى العالم القديم الكلاسيكي من علم وتكنولوجيا قد انتقل قبل ذلك بوقت طويل إلى أوروبا عن طريق العرب»(1)، تلك شهادة من أهلها؛ لأنّ الغرب حينما بدأ نهضته العلميّة والثقافيّة والفكريّة توجَّه إلى دراسة العالم الإسلاميّ، وأفاد من معطيات حضارة الإسلام ومنجزات المسلمين؛ ابتداءً من التفكير العلميّ والمنهج العلميّ وتكفي نظريّات المسعودي (283 - 346ه-) ، وأبو ريحان البيروني (362-440ه_) ، وابن النفيس (607-687ه-) ، وابن خلدون (732 808ه-)، وغيرهم كثير من أعيان العلماء الذين أثَّروا في الحياة العلميّة في المجالات كافّة، فمنحوا البشرية معانٍ جديدة، وأناروا مسيرتها العلميّة عبر التاريخ. وفي ذلك كلّه دلالة على مدى تأثّر الغرب في درسه الشرق الإسلاميّ بمختلف معطيات الحضارة الإسلاميّة. لذا، فإنّ من الواجب على المسلمين أنّ ينطلقوا لدراسة الغرب من جميع جوانبه(2)، سواء أقرّ أهل الشرق أو الغرب بذلك أو أنكروا، فلن يغيّر ذلك في التاريخ الإنسانيّ شيئًا.

وجدير بالذكر إيراد بعض الملاحظات في هذا الصدد، وهي:

أولًا: لقد تطرّق بعض المفكّرين من علماء الإسلام من حواضر الإسلام إلى دراسة الغرب ومناهجه ونجحوا إلى حدٍّ ما- في فهم الحضارة الغربيّة، وهم يُعتبرون نواة صحيحة إيجابيّة لعلم ،الاستغراب حيث علِموا مواطن القوّة والضعف ووقفوا على نقاط البراعة والإبداع أو الفشل والاتّضاع، كما رصدوا مظاهر النّجاح والتفوّق أو الإخفاق والتمزّق ولنضرب مثالاً لهؤلاء الإمام عبد الحليم محمود (1910/-1978م) الذي درس في فرنسا، وكذلك الدكتور رشدي فكّار (1928-2000م)(3)، فإنّ هؤلاء وغيرهم قد أجادوا فهم الواقع الغربيّ عبر التسلسل التاريخيّ والفكريّ والمنهجيّ حتّى أفادوا واستفادوا منه المفيد، وبيّنوا للناس رقيّ الرؤية الإسلاميّة للبشريّة.

ص: 15


1- كب ستانوود المسلمون في تأريخ الحضارة، ترجمة: محمد فتحي عثمان ط ،2 السعودية، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1985م، ص 111.
2- انظر: زناتي أنور محمود : (مصطلح الاستغراب، تاريخ الإضافة 2012/12/2، على موقع (https://www.alukah.net/culture/0/47271/).
3- رشدي فكار: (1928-2000م)، مفكر إسلامي وعالم لغوي ،وشرعي، يمثل مدرسة فكرية إسلامية تحسن التعامل مع الغرب، ولد بقرية الكرنك بقنا من صعيد مصر، حفظ القرآن مبكرًا وبحكم تكوينه القروي نشأ على القيم والخلق الحميد وحب الخير للجار أيا كان معتقده وانتماؤه العرقى حصل على دكتوراه في الفلسفة من باريس، وعمل أستاذا زائرًا بجامعة محمد الخامس بالمغرب، أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات عدة، مات سنة 2000 بالمغرب إثر أزمة قلبية مفاجئة . انظر : فكار رشدي نهاية عمالقة الغرب، ط 1 ، مصر ، مكتبة وهبة سنة 1989، ص 141 - 145.

ثانيًا:إنّ علم الاستغراب قد تطرّق إليه بعض العلماء المسلمين الّذين درسوا المناهج الغربيّة، فتأثَّروا بها لدرجة أنّهم أرادوا دراسة علوم الإسلام بتلك المناهج الغربيّة، التي عجزت عن تقديم حلول للإشكالية الغربيّة؛ من حيث تقديم رؤية دينيّة صحيحة تجمع بين فرائض الدين - مطلق دين - وبين مطالب الدنيا، فإنّهم مسلمون بعقليّةٍ غربيّةٍ، أو غرب متأسلمون، فلا يمكن التفرقة بين هؤلاء وبين المستشرقين؛ فالعقليّة واحدة وإن تعرَّبت أسماؤهم، وتشرّقت منابتهم الأولى، لكنّ اتّجاهاتهم الفكريّة تغرّبت وذهبت كلّ مذهب؛ انسلاخًا من

هويّتهم الحضاريّة والدينيّة والعربيّة.

ثالثًا:إن ثمّة رؤية جادّة في علم الاستغراب تدعو إلى دراسة أهل الشرق لعلومَ الغرب بصورة إيجابيّة بمعنى: بناء رؤية صحيحة عن الغرب بموضوعيّة وحياد دون تأثّر؛ حتى تفهم العقليّة الغربيّة وأصول مناهجها العلميّة. ومعلوم أنّ العقليّة الغربيّة ذات إصرار على التّصادم مع الإسلام - وهم معذورون ؛ لأنّ الإنسان ابن بيئته وتصوّرات مجتمعه، كما أنّهم لم يجدوا من يرفع عنهم الجهل بحقيقة الإسلام الحنيف، ثمّ تكون تلك الرؤية الجادة للاستغراب في مقابل الاستشراق، حيث يدرس أهل الغرب علوم الشرق ومصادر الإسلام، ومدى تقدّم

المسلمين من خلال تصوّر خاصّ.

رابعًا: يعتبره البعض علم الاستغراب وليد عَقدٍ أو عقدين سابقَّين، لكن باتساع الرؤية ندرك أنّ الواقع الإسلاميّ يقول: إنّه وُلِد منذ قرابة أكثر من مئتي سنة ماضية، حيث وقعت حملة الفرنسيس على الشّرق، وفيها ما فيها، ثمّ بدأ بعد ذلك إرسال بعثات علميّة من بلاد المسلمين إلى جامعات الحواضر الغربيّة وبدأ دور رائد الاستغراب رفاعة الطهطاوي، ووحيد خان، ثمّ العديد ممّن جاء بعد ذلك من علماء وباحثين.

وكان من الباحثين من حافظ على هويّته الحضاريّة، ورؤيته للغرب بوصفه رجلًا شرقيًّا يدرك أدوار الغرب الخفيّة والظاهرة، وكان منهم من تأثّر بالغرب، فاستغربت رؤيته مع الحفاظ على هويّته الحضاريّة، كما كان منهم من استغربت هويّته منسلخًا من حَوْلِه وطَوْله وقُوّته.

وإلى يومنا هذا ما زال هناك الكثير من العلماء والباحثين الدارسين بالمعاهد والأكاديميّات الغربيّة - وهو أمر غير مستنكر بصفة عامّة، لكنّه توطئة وتمهيد لخلق رؤية استغرابيّة بصفة عامّة.

ص: 16

رابعًا: إشكاليّة الدراسة

الإشكالية الأولى: نحن حيال رؤى عدّة: الأولى: رؤية عامّة للاستشراق من خلال المدرسة الفرنسيّة والمدرسة الألمانيّة لدراسة القرآن بمنهجيّة محدثة تدّعي اتِّخاذ منهجية تاريخية ونقدية لدرس المخطوط القرآني، حتّى تأتي بنتائج غريبة تدلّ على سوء المنهج والغرض من الدّرس الاستشراقي نفسه، وتُحاول نفي ثبوتيّة النّص القرآني الثانية خاصة في أنموذجين؛ الأوّل: من المدرسة الاستشراقية الفرنسيّة، وهو الدكتور (فرانسوا ديروش)، وأنموذج آخر من المدرسة الاستشراقية الألمانية وهي الدكتورة (إنجليكا نويفرت).

فتأتي الدراسة لتعرض تلك الرّؤى محاولة الرّد على دعاوى هذين الأنموذجين؛ لكونهما يُمثلان هاتين المدرستين ولترصد هاتين الرؤيتين الخاصّتين في ضوء رؤية إسلاميّة موضوعية؛ ممّا أجمع عليه علماء الإسلام ونشأ عليها كل مسلم والتي تعتبر عرفًا متعارفًا بمنهجية توثيق القرآن وحفظه وكتابته، وثبوت النّص القرآني بالسند المتصل إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهذه رؤية أهل الإسلام المتوارثة.

وليس يصح في الأفهام شيء * * * إذا احتاج النّهار إلى دليل (1).

الإشكاليّة الثانية: الوقوف على دراسات الاستشراق الخاصّة بالقرآن أمر يحتاج إلى شيء من التأني والدرس الدقيق؛ بغية ضبط الرؤية الاستشراقيّة؛ وهي بلا أدنى شكّ - تنفي كثيرًا من الثوابت وتغاير الرؤية الإسلامية الموروثة بين المسلمين جيلاٌ بعد جيلٍ، خاصّة في مجال جمع نصّ القرآن وتدوينه وتوثيقه.

الإشكالية الثالثة: تختلف أغراض الاستشراق، وتتعدّد الأهواء غالبًا حينما تتعلّق مقولات الدّرس الاستشراقي بالإسلام ومصادره؛ لضرورة النّظر مع التمييز والفصل بين الدرس الاستشراقي العام وبين الدرس الاستشراقي الخاص بدراسة القرآن الكريم، لأهميّة الوقوف على تلك المقولات؛ للرّد عليها.

ص: 17


1- البيت من شعر أبي الطيب المتنبي . انظر : بن عباد الصاحب الأمثال السائرة من شعر المتنبي، تحقيق الشيخ محمد حسن، ط1، بغداد، مكتبة النهضة، 1965م، ص 46.

خامسًا: منهج المستشرقين في الميزان

إنّ الحياد العلميّ يقتضي القول: إنّ الاستشراق بات علمًا متعدد الجوانب له صور مشرقة؛ منها : العلاقة البريئة العلميّة المنصفة، حتّى قيل: «لولا عناية المستعربين بإحياء آثارنا لما انتهت إلينا تلك الدرر الثمينة التي أخذناها من طبقات الصحابة وطبقات ومعجم ما استعجم وفتوح البلدان وفهرست ابن النديم ومفاتيح العلوم وطبقات الأطباء، وأخبار الحكماء، والمقدسي والإسطخري، وابن حوقل وغيرها إلى عشرات من كتب الجغرافيا والرحلات التي فتحت أمامنا معرفة بلادنا في الماضي، وبها وقفنا على درجة حضارتنا، ولولا إحياؤهم تاريخ ابن جرير وابن الأثير وأبي الفداء واليعقوبي والدينوري، لجهلنا تاريخنا الصحيح وأصبحنا في عماية من أمرنا»(1)، وهذه صور مشرقة لا ينكرها إلا جاحد أو معاند ومن دواعي الحياد بيان صور الاستشراق بجميع جوانبه فبقدر موضوعيّة البعض هناك كذلك صور استشراقية متعصّبة فجة بدت في منهجية غير موضوعيّة متعالية، أو رؤية سوداوية أفرزت علاقة سيّئة متوارثة.

وفي تلك الصورتين دلالة كبرى على تعدّد علائق الاستشراق بعلوم الشّرق، وعلى باكورة علاقة الاستشراق بالمخطوط العربي، حيث كان للترجمة والبحث العلمي أثرٌ في نشر المخطوط العربي والإسلامي على السواء.

إنّ المستشرقين «استمدّوا مقوّمات منهجهم في دراسة علوم الشّرق والكتاب والسّنة من مناهج غربيّة مرتكزة على أسسٍ مغايرة لروح السيرة ووقائعها؛ لأنّ معالجة واقعة في السيرة تمتدُ إلى عالم الغيب وترتبط أسبابها بالله تعالى وبالاعتراف بالوحي، وهي في الحقيقة همزة الوصل المباشرة بين الله تعالى ورسوله الخاتم فلا يمكن التعامل معه كما يُتعامل مع الجزئيّات والذرّات والعناصر في مختبر التجارب الكيميائيّة؛ إذ إنّها تجربة من نوع خاصّ، بل شبكة من العوامل والمؤثّرات التي تنحدر عن مملكة محض العقل، وتستعصي على التحليل المنطقي الاعتيادي المألوف» (2)وإن ثّمةخطورةتنعكس

ص: 18


1- النملة علي إبراهيم إسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي والإسلامي ،ط1 الرياض مكتبة الملك فهد الوطنية، سنة 1996، ص 21-22.
2- النعيم عبد الله محمد الأمين: الاستشراق في السيرة النبوية، ط1، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سنة 1997، ص33.

على الفكر الإنسانيّ من تناول الدرس الاستشراقيّ المتعلّق بالقرآن وعلومه وتفسيره، مع إساءة استخدام الاستشراق للمنهج العلميّ؛ لذلك لا يُمكن اعتبار بعض الأحداث مسألة تاريخيّة صرفة تخضع لأساليب النقد والتحليل.

ولا يمكن تناول علوم الإسلام من منطلق مناهج لا تنسجم مع أصل الإسلام، فقد استخدم الدّرس الاستشراقيّ مناهج تُسيء للحقائق العلميّة قبل أن تسيء إلى الإسلام ومنها منهج:( الأثر والتأثير، والمنهج العلماني والمنهج المادي والمنهج الإسقاطي، ومنهج النفي والاعتراض واعتماد الضعيف الشاذ، وتوهين القوي المتواتر )(1) فضلاً عن منهج الشك والتشكيك، ومنهج التجريب.

إنّ المنهج الاستشراقيّ يهدم المعاني الكاملة، ويجزئها حتّى يُعِيد تركيبها مرّة أخرى على ما يهوى من آراء ورؤى. إنّه يبني أفكارًا متهافتةً متداعيةً متهاويةً على أفكارٍ كبيتِ العنكبوت، وهذا ما يريده درس الاستشراق الّذي يقصد إلى أن يكون قائماً على رؤية ماديّة صرفة.

وجدير بالملاحظة أنّ خطورة الدرس الاستشراقي تظهر جليّةً حينما يتعلّق بذات القرآن الكريم في تكوينه وتدوينه، بل ويشتدٌ خطرها أكثر عندما يتمّ ربط تاريخ تدوين القرآن ب (المخطوط القرآني)، الذي أظهرت الدراسات الاستراقيّة المعاصرة ارتباطاً بينهما، فهذه الدراسات من أكثر دراسات الاستشراق خطورة على الإطلاق من وجهة نظري.

كما تدور رؤية الكتٌاب المستشرقين للقرآن بين أمرين أوّلهما: أنّه كتاب غير مرتٌب يحتاج إلى ترتيب معقول يتماشى مع العقليّة الغربيّة. ثانيهما: اعتباره تلخيصًا لأفكار محمد(2)؛ إذ يزعم الدّرس الاستشراقي -من غير مواربة- أنّ القرآن من تأليف النبي محمد، وتلك مسلّمة الاستشراق أضحت مقدّمة لمقولات الاستشراق المدوّنة بكثرة كاثرة أو بقلة عاثرة في مصنّفاتهم شاهدة على مجانبة المنهج العلمي(3)؛ لأنّ الفيصل بين

ص: 19


1- النعيم الاستشراق في السيرة النبوية، م. س ص 36.
2- ستيفانيدز إيمانويلا القرآن خطيًّا دراسة في الترتيب الزمني لسور القرآن في كتاب تاريخ ،القرآن تعریب حسام صبري نشر إلكترونيا على موقع (مركز تفسير للدراسات القرآنية المملكة العربية السعودية، ص4.
3- لدرجة أنه لم يعتبر الدرسُ الاستشراقي القرآن وحي من الله كأحد الاحتمالات العقلية المحتملة.

الدراسات العلميّة هو في استخدام المنهج العلمي بمعياريّة صحيحة من تحليلٍ ونقدٍ فما وافقه يُقبل وما خالفه يُردّ على صاحبه.

كما لا تخفى علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الغرب بالشرق صارت تفرز عن آراء شاذّةٍ تصدر من هنا أحيانًا أو من هناك أحيانًا أخرى تقول: إنّ الشّرقَ شرقٌ، وإنّ الغرب غربٌ، بل صدرت آراء من أرقى مراكز البحث تصف الإسلام - كتابًا ونبيٍّا وحضارة - بأنّه (عدوّ أخضر) حتى انفرطت دعاوى حشدت لحالة من (الإسلاموفوبيا)(1) كحال عام ساد الكثير من الغربيّين في العقود القليلة الماضية، وهو عرَضٌ صار مرضًا ليس عارضًا طارئًا، بل حال ملازم شاخص مؤثّر في العلاقة بين الشرق والغرب، لا شك أنّ ذلك أثّر على أهل الدرس الاستشراقي، وأثّر في سلوكيات كثير من الناس، وأدى إلى وقوع جرائم وأحداث نتيجة تلك الدعاوى، حتى صار أمر التّعادي رأي العين..

سادسًا: المنهج المعتمد في تحليل الدرس الاستشراقي ونقده

إنّه من منطلَقٍ يقينيٌ وإيمانيٌ برسالة النّبي محمدالخاتمة، ووحي الله تعالى له، نتحفّظ على كثير من مقولات الدرس الاستشراقيّ وسوف نعمد في هذا الكتاب إلى تحليله ونقده وفق ما يلي:

.1 إظهار التناقضات في مقالات المستشرقين بين نفي الشيء، ثمّ إثباته ذاته.

.2 بیان وجه انتقاء الدرس الاستشراقي للأدلّة التي تناسب الهوى والغرض، وترك ما سواها.

.3 تعرية المستور من الدرس الاستشراقي؛ إذ يقوم بليٍّ أعناق نصوص بلحن من القول؛ ليستشهد بها على فكرة حالمة، أو يقوم ب(افتكاسة متعالمة).

.4 بیان مصادمة مقالات المستشرقين مع الحقائق التاريخية، أو المبادئ العلميّة

ص: 20


1- الإسلاموفوبيا هو مصطلح محدث يفيد معنى الخوف من الإسلام حيث باتت ظاهرة أوروبية وغربية عامة، وقد يتوصف بها بعض الشرقيين لسبب من الأسباب، وسبب هذا المرض الأساسي: انعدام المعرفة بحقيقة الإسلام وشرائعه المختلفة، وغياب بعض مفاهيم الإسلام عن الثقافة العامة أسباب عديدة لا يتسع المقام لذكرها الباحث).

المعتبرة، أو مع نصوص قرآنيّة أغفل الدرس الاستشراقيّ إيرادها وذكرها إمّا لقصور في الدارس أو إسراعه الخطى نحو فكرته الأساسيّة، أو لخطأ في الدّرس نفسه.

.5 ذهول الدّرس الاستشراقيّ، وغفلته عن منهجيّة الإسلام العلميّة في جمع القرآن؛سواء في (العهد النبوي)، أو في عهد الصحابة من بعده.

.6 سوف أقف بالقارئ الكريم على منزلة المخطوط القرآني اليوم، وما له من صلة سواء أكانت قويّة معتبرة أم ضعيفة ساقطة الاعتبار في توثيق النّص القرآني اليوم، وهو النّص المجموع بين اللوحين المُتّفق على نصّه لفظًا ومعنّى في شرق الأرض وغربها، والذي ظلّ قرابة خمسة عَشَر قرنًا من الزمان مع أنّ المخطوطات القرآنيّة؛ بحسب تقدير الدكتور محمد مصطفى الأعظمي(1) بلغ تقديره من المخطوطات القرآنيّة عددًا كثيرًا(2) ، لا يمكن القطع به؛ إلا بعد عمليّة مسح عامّ لكافّة المخطوطات القرآنيّة بالمكتبات التي احتوت عليها سواء بالشرق أو الغرب، كما لا نستطيع الجزم بوجود مصحف ما منها في مكتبة ما لغياب تاريخ انتقال تلك المصاحف مع أنّ بعض المعلومات المتفرّقة بخصوص ذلك موجودة، وإنّني أؤيد ذلك؛ لأنّه لا يمكن الجزم بأنّ أحد المصاحف المنسوبة إلى عثمان في تركيا مصر، أو غيرهما، والجزم المؤكّد تاريخيًّا أنّ عثمان كتب المصحف الإمام، ثمّ أرسل نسخًا إلى الأمصار وانتسخت منه نسخّا أخرى على مدى العصور الإسلاميّة وتوزّعت على حواضر العالم الإسلاميّ، فكانت ولاية الوالي المسلم تتمّ ببناء المسجد الجامع، وانتساخ المصحف الإمام؛ لذلك كثر عدد المخطوطات القرآنيّة.

ص: 21


1- الأعظمي (1932-2017) هو : محمد مصطفى الأعظمي عالم هندي له مؤلّفات تتعلق بالقرآن منها: تاريخ تدوين القرآن الكريم) و (كتاب النبي) و(النص القرآني الخالد: دراسة مقارنة لسورة الإسراء في (19) مصحفًا مخطوطًا عبر العصور، وهو أهم خدماته المقدّمة، وهو دليل مادي على حفظ الله للقرآن، وقد أثبتت دراسته التطابق التام بين هذه المصاحف عبر العصور؛ ممّا يثبت بالأدلة المادية عدم تحريف القرآن، وهو دليل ينفع غير المسلمين ويرد على المستشرقين شبهاتهم وأباطيلهم.
2- بحسب تقديرات الدكتور محمد مصطفى الأعظمي فإنّ هناك أكثر من (251 ألف نسخة للقرآن بين مخطوطات كاملة أو جزئية بداية من القرن الأول الهجري فصاعدًا انظر قولاج طيار التي المصاحف المنسوبة إلى عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ترجمة: الأستاذ معتز ،حسن تعليق أحمد وسام شاكر إصدار أكتوبر (2014)، ص 7؛ (151.M. M. al-Azami, History of the Qur'anic Text, p)

.7 من الضرورة عرض جانب من جهود علماءالمسلمين في المتابعة الجادّة للدرس الاستشراقي حول (المخطوط القرآني) والرّد على شبهات المستشرقين، حيث تتابعت الدراسات العربية للرّد على درس الاستشراق في هذا الصدد وذاك، وأذكر هنا بعض محاولات الدرس الجاد ومنها جهود الدكتور حميد الله(1) وكذلك جهود الدكتور الأعظمي(2) وأيضًا جهود الدكتور طيار قولاج(3) الذي أعدّ محاضرة؛ ليردّ بها على تساؤلات المستشرقين في برلين حول المصاحف المنسوبة إلى عثمان وعلي، وبيَّن أنّ أهمّ جزء في موضوع تاريخ المصاحف هو مسألة وصول القرآن إلينا، كما أنزل على النبي محمد أمحفوظ هو أم غيرمحفوظ؟ فمن المسلّم به من قِبّل علماء القرآن والمسلمين أنّه ،محفوظ لكن بعض الباحثين من الشّرق والغرب من غير المسلمين يخالفون ذلك لتباين طرق بحثهم،وهم ينطلقون من مسألة أنّ المسلمين ينطلقون مسبقًا من كون القرآن بلغنا محفوظاً كما هو(4)، ومن الضرورة مواصلة دراسة ما افتتحه هؤلاء العُلماء حتّى نقيم الفرض؛ ولئلّا تضيع جهودهم سدّى، كما يواصل الباحثون من المستشرقين الدرس الاستشراقي بدراسات متّصلة ومتواصلة جيلّا بعد جيل.

هذه من الأدوار التي أحاول بذل جهدي للقيام بها في هذه الدراسة؛ لنستبين ونستكشف ونعقّب وننقد وهي بعنوان (دراسات استشراقية معاصرة للقرآن الكريم - نقد المدرستين الفرنسيّة والألمانيّة).

وبعد.. كانت تلك مقدِّمة ضروريّة؛ لنتعرّف من خلالها على الرؤى المختلفة للقرآن، سواء

ص: 22


1- حميد الله: (1908-2002) هو : محمد حميد الله عالم هندي قضى قرابة نصف عمره باحثا ومحققا بأوروبا ودول الشرق الإسلامي متبحر في اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والأردية والتركية، وله مؤلفات قيمة بهذه اللغات يبلغ عددها 175 كتابا له مئات المقالات في القرآن والسيرة والفقه والتاريخ والمواثيق، توفي في الولايات المتحدة سنة (2002م).
2- سبق التعريف به.
3- طيار التي قولاج (1938.... باحث تركي محقق في مجال الدراسات القرآنية وسياسي وعضو بالبرلمان التركي، له كتاب (المصحف الشريف المنسوب إلى عثمان «نسخة طوبقابي سراي، ونسخة متحف الآثار التركية والإسلامية ونسخة المشهد الحسيني) سنة (2007) و 2009م) ، و(المصحف الشريف المنسوب إلى علي بن أبي طالب - نسخة صنعاء)، 2011م.
4- ،قولاج طيار ،آلتي المصاحف المنسوبة إلى عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، م.س.

رؤية الاستشراق الغربي، أو رؤية المسلمين الممثّلة في علماء القرآن على مدار ألف عام، ولندرك مدی أهميّة القضيّة التي يثيرها الدّرس الاستشراقي وخطورتها من خلال دارسيه وباحثيه من مستشرقين ومستغربين على السّواء ،اليوم فمن الصّعب أن يكون الباحث منصفّا موضوعيًّا ومن السّهل الميسور اتِّباع ما تشابه مع التواء الفكر وهذا ديدن بعض الدارسين.

د الأمير محفوظ محمد أبو عيشة

ص: 23

ص: 24

الفصل الأول

اشارة

المدارس الاستشراقية والقرآن

المدرسة الفرنسيّة والألمانية أنموذجاً

المبحث الأوّل: تطوّر الدراسات الاستشراقية.

المبحث الثاني: مدرسة الاستشراق الفرنسيّ.

المبحث الثالث: مدرسة الاستشراق الألمانيّ.

المبحث الرابع: الدرس الاستشراقي الفرنسيّ والألمانيّ للقرآن.

ص: 25

ص: 26

المبحث الأوّل تطوّر الدّراسات الاستشراقيّة

1- بداية ( الاستشراق ) :

إنّ تحديد نقطة البداية لأعمال الاستشراق على وجه التحديد أمر شاقٌ؛ لأنّ الوقوف على نقطةٍ فاصلةٍ لبداية انطلاق أعمال الاستشراق تعدّدت رؤى الدارسين حوله؛ فمن الدراسات ما يعود إلى أنّ بداية الاستشراق كانت أيّام الدولة الأمويّة (1)في القرن الثاني الهجري، حيث إنّه نشط في الشام بواسطة الرّاهب يوحناالدمشقي(2)،ويعتبرالدّمشقي من أوائل من جادل في عقيدة الإسلام، وساعده على ذلك عوامل عدّة أهمّها: تنشئته ،العربيّة، مع تكوينه اللاهوتي.

ومن ناحية أخرى كانت علاقة الغرب بالشّرق على أوجها من الشّحن والشّد والجذب؛ لذا يرجع الكثير من الباحثين بداية الاستشراق إلى نشوب الحروب الصليبية (3)حيث تبدأ مع بداية تاريخ تلك الحروب، وهي علاقة تاريخية بعيدة نسبيًّا، وقد شاركت

ص: 27


1- الدولة الأموية (41-132ه-) قال ابن كثير: "ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها، واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق، ورجع إليه قيس بن سعد أحد دهاة العرب، وقد كان عزم على الشقاق، وحصل على بيعة معاوية عامئذ الإجماع والاتفاق"، وكانت نهايتها في عهد مروان بن محمد بن مروان؛ لنشوب ثورات ووقوع فتن واضطرابات وانقسامات داخلية بين القبائل العربية المختلفة وداخل البيت الأموي. (انظر: ابن كثير : البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط 1 دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، 2003م ج 11، ص 141؛ ج 13، ص 254).
2- يوحنا الدمشقي (56-132ه-) هو منصور بن سرجون بن منصور التغلبي ولد بدمشق عاصمة الأمويين، وادّعى أن الإسلام (هرطقة) منتقدا للإسلام برؤية مسيحية، معتبرًا المسلمين طائفة سماهم (إسماعيليين)، وشكلت مؤلّفاته مرجعًا مهما لجميع لاهوتي القرون الوسطى حيث تلقى تعليمه الكنسي على يد معلّمه قزما الصقلى» كما أنّه في بيئة عربيّة فاهم للغة القرآن وهذا مكمن خطورته. انظر: عبد المحسن عبد الراضي محمد الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي (د/ ط. ت)، ص 7-14.
3- الحروب الصليبية: تطلق على ثماني حملات عسكرية نصرانية منظمة بشكل رئيسي بين القرن الخامس والثامن الهجريين، والقرن الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين للاستيلاء على فلسطين ورغبة في السيطرة على الأماكن المقدّسة وأهميّة موقعها الجغرافي، بوصفها حلقة وصل بين الشرق والغرب، وردّ فعل لفتوحات المسلمين التي جسدت التسامح بين مختلف الأديان. انظر: نخبة من العلماء والخبراء، الموسوعة العربية العالمية، ط2، الرياض، مؤسّسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، 1999، ج 9، ص 290.

الدّول الأوروبيّة عامة، وفرنسا وغيرها في حملة الملك لويس التاسع (1) التي اصطبغت بصبغة فرنسيّة خالصة، وانتهت به بأسر لويس بدار ابن لقمان بالمنصورة في مصر وخروج الملك القبرصي آل لوزنيان ذليلًا مكبّلًا في الأسر في شوارع القاهرة إعلاناً بنهاية المواجهة العسكرية(2)، وبدأالصليبيون في التفكير في وسيلة أخرى غير المواجهة العسكرية مع الشرق؛ حيث لم تجد المواجهة العسكرية نفعًا.

وقد يرى بعض الباحثين أنّ بداية علاقة الغرب بدراسة الشرق تتحدّد من خلال خلفية الاستشراق التاريخية في نشأته الأولى؛ لأنّ الاستشراق مصطلح يُشير إلى الدراسات الغربيّة للشرق، من حيث شعوبه ودياناته؛ رغبةً في اكتشافه؛ لتطويعه لسياسة الغرب وخدمته لأهداف بلاده السياسيّة، سواء في عهد الاحتلال أو ما قبل ذلك أو بعده.

ربّما كان يوحنا الدمشقي أحد المبشرين بدراسة علوم الشّرق، لكنّه ليس نقطة بداية الاستشراق الحقيقيّة، وربّما كانت الحروب الصليبية أحد الأسباب الفاعلة لإنشائه، لكنّهاليست نقطة البداية، وربّما تكون بداية الاستشراق بوقوع الاحتكاك من خلال العلاقات المختلفة بين الغرب والشرق؛ لذلك قال إدوارد سعيد : مرَّت العلاقات الثقافية والمادية والفكرية بين أوروبا والشرق بمراحلَ لا تُعَدّ ولا تُحصى، والخط الفاصل بين الشرق والغرب ترك انطباعًا لا يتغيّر في أوروبا، وبصفة عامة كان الغرب يتحرّك نحو الشرق دون العكس والاستشراق اسم جنس لوصف مدخل الغرب إلى الشرق والاستشراق هو المبحث الذي استطاع الغرب بفضله - ولا يزال - أن يتناول الشّرقَ بالبحث العلمي بصورة منتظمة (3)، بينما نقطة بداية الاستشراق ربّما تُفيد في التأريخ لهذا العلم، وبيان البُعد التاريخي قديماً كان أو وسيطاً أو حديثًا ومعاصرًا.

ص: 28


1- لويس التاسع: (1214-1270م) وقائدًا لحملتين صليبيتين، وحكم فرنسا سنة (1226) ، وهو ابن لويس الثامن وعرف بالقديس لويس فيما بعد، قام سنة (1249م) بحملة صليبية لاسترداد بيت المقدس من المسلمين من سلاطين مصر ، وتوجه إلى دمياط لكنه هزم في أولى مواجهاته في المنصورة سنة (1250م)، ثم افتدى نفسه من الأسر واستقر بالشام من (1250) وحتى (1254م)؛ ليعود بعدها لفرنسا، ثم قام بإعادة تنظيم أجهزة الدولة. انظر: نخبة من العلماء والخبراء، الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج21، ص 237.
2- انظر: أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لا ط، مصر، وزارة الثقافة والإرشاد القومي طبع دار الكتب المصرية، ج6، ص 364-369 قاسم عبده قاسم: «ماهية الحروب الصليبية»، سلسلة عالم المعرفة بالكويت، العدد 149، 1990، ص 150
3- انظر: سعيد إدوارد الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، م.س، ص142.

ربّما كان المستشرق الألماني بارت أكثر تحديدًا لبداية الدّرس الاستشراقي حينما قال: إنّ بداية الدراسات العربية والإسلاميّة تبدأ من القرن الثاني عشر؛ ففي عام (1143م) تمت ترجمة القرآن لأوّل مرّة إلى اللغة اللاتينية بتوجيه من الأب بيتروس فينيرابيليس رئيس دير كلوني وكان ذلك على أرض إسبانية، وفي القرن الثاني عشر أيضًا وفي أسبانيا نشأ أوّل قاموس لاتيني ،عربي، وكان الهدف من هذه الجهود هو التبشير(1) ، وهذا طرح موضوعي من رودي بارت يفرز عن صدق مع النفس في عرض الواقع التاريخي للاستشراق.

ويرى الدكتور محمد البهي أنّه يكاد يُجمِع المؤرّخون أنّ البداية الحقيقيّة للاستشراق بصورة جدّية كانت بعد فترة الإصلاح الديني “(2) ، والإصلاح الديني(3) شأنٌ حديثٌ نسبيًّا بدأ بظهور حركة الإصلاح بأوروبا.

تلك رؤى الباحثين في نقطة بداية الاستشراق، وإنّ لكلّ وجهة نظر أدلتها ودواعيها لذا فهي رؤّى تُحترم.

2-المستشرقون الطلائع:

ربّما تعتبر البداية بأعمال طلائع استشراقيّة في محاولات فرديّة، فمن الواضح أنّ بداية الاستشراق هي ساعة أن صار له تنظيم وتخطيط لعمل علميّ منهجيّ قائم على دراسة علوم الشرق؛ لأنّ بعض المصادر تُشير إلى بعض الأفراد من المستشرقين الذين اعتُبروا طلائع الدرس الاستشراقي، حيث قام المستشرقون بعملية بحث استشراقي، فبدأوا أفرادّا كانوا قلّة، ثمّ ،كثُروا ، وقاموا بدرس سطحيٍّ، ثمّ تعمّق الدرس، وكان محدودًا، ثمّ توسّع ،البحث وهذه طبيعة الجهد البشري.

ص: 29


1- ،بارت ،رودي الدراسات العربية والإسلامية، م.س، ص14.
2- انظر: البهي محمد المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام (دون ،ط، (ت)، الأزهر الشريف الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، ص 11.
3- الإصلاح الديني : حركة دينية نصرانية ظهرت في القرن ال- 16 بأوروبا أدت لوجود البروتستانتية وكان لها أثر على الحياةالسياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا، وهي تنافس الكنيسة الكاثوليكية من دعاتها مارتن لوثر (1483-1546)، وهو لدريتش زوينجلي (1484) 1532) ، وجون كالفن (1509-1564). نالت اعتراف الامبراطورية المقدسة سنة (1555) . انظر : نخبة من العلماء والخبراء، الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج 2، ص 250-252

فكان من الطبيعي أن تُعتبر بداية الاستشراق في القرن العاشر الميلادي، ومع بزوغ بواكير النهضة الأوروبية ظهرت " طلائع المستشرقين وهم طائفة من علماء الغرب؛ جمهورهم من الرهبان التفتوا التفاتةً جادّةً إلى التراث العربي(1) ودرسوا حضارة الشرق من باب التّطلّع الطبيعي للتّعرّف على الآخر ، واستكشاف طبائعه وبيئته وفكره، وكان لهم اهتمام وجهود أوّليّة بالدّراسات العربيّة والعلوم المتولّدة في مدارس الأندلس وأطرافها، وقد وصفهم بعض الباحثين والدارسين ب- (طلائع المستشرقين).

وإنّ صدور هذا الوصف طلائع الاستشراق من نجيب العقيقي(2) الدّارس المتعمّق في الاستشراق، ثمّ تأييده من قِبَل الدكتور الطناحي(3) المطّلع على آثار المستشرقين في تحقيق التّراث لهو دلالة كبرى على دقٌة هذا الوصف وبيان طبيعة الاستشراق في القرن العاشر الميلادي.

وبشيء من التأمّل في مصطلح ( طلائع الاستشراق) نلاحظ أنّ كلمة ”طلائع“، جمع طليعة، وهم: "قوم يُبْعَثُون ليطّلعوا طِلْعَ العدوّ، يُقال للواحد طليعة، وللجماعات في السَّرِيَّةِ الطلائع، يُوَجّهون ليطالعوا العدوّ، ويأتون بالخبر (4) وهو وصفُ دالُّ على الركائز الأوّليّة للأعمال الاستشراقية، وباعتبارهم أفرادًا كانت لهم جهودٌ دراسيّةً متناثرةٌ عن الشّرق وعلومه، وإنّ طلائع الاستشراق جماعة من رجال الدّين والرّهبان والقساوسة ظهر اهتمامهم بالعربيّة وعلوم الشرق، فكانوا يُرسَلُون من قِبَل كبار المسؤولين في الكنيسة الغربيّة؛ ليأتوا بكلّ ما يتعلّق بأخبار الشّرق من سياسة واجتماع واقتصاد؛ فضلًا عن العلوم الشرعيّة المختلفة.

ص: 30


1- ،الطناحي، : محمود محمد مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، ط 1 ، القاهرة مكتبة الخانجي سنة 1984، ص206.
2- العقيقي (1916-1982م) هو: نجيب العقيقي أديب كاتب لبناني نصراني ولد في بلدة كفر دبيان، تعلم في المدرسة الوطنية، وعمل في الصحافة، وعلّم الأدب العربي في الكلية البطريركية بين (1936 1938 ورحل لمصر، واشتغل بتدريس الأدب العربي قسم الثقافة المصرية والترجمة والفلسفة الإسلامية في مدرسة الراهبات الفرنسيسكان كما رشحته وزارة الخارجية اللبنانية للعمل بالإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية فعمل ملحقًا إلى مستشار (1952-1974) توفي بالقاهرة سنة (1982م). (الباحث).
3- الطناحي: (1935-1999م) هو : محمود محمد علي محمد الطناحي المصري من مواليد المنوفية بمصر، ثم انتقل للقاهرة، نشأ فقيرا حفظ القرآن والتحق بالأزهر ونال الثانوية منه (1958) ثم التحق بدار العلوم ونال العالية منها (1962) ، ثم التخصص في ابن معطي وآراؤه النحوية) (1972) ثم نال الدكتوراه في ابن الشجري وآراؤه النحوية سنة (1978) انظر: العلاونة أحمد محمود الطناحي عالم العربية وعاشق التراث ط 1 ،دمشق دار القلم، 2001، ص 17-22 (الباحث).
4- انظر الفراهيدي، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم كتاب العين تحقيق مهدي ،المخزومي، إبراهيم السامرائي، دار الهلال، ج 2، ص 12 .

3- حرکه الترجمه و نماذج للمترجمین:

تُرجع بعض الدّراسات بداية الاستشراق إلى أيّام الدّولة الإسلاميّة في الأندلس وما تبع ذلك من ( حركة الترجمة) بعد سقوط المدن الأندلسيبّة بأيدي الأوروبيّين، حيث كانت سببًا مباشرًا سهَّل على الغرب عمليّة السيطرة على كنوز علميّة قام بتأليفها علماء الإسلام، فقد احتوت معظم الحواضر الأندلسيّة على العديد من المكتبات والمراكز العلميّة التي أصبحت في ما بعد بيد أوروبا، ولا سيّما بعد أن سقطت طليطلة سنة (478ه)، وهي مدينة تمتاز بكثرة مكتباتها.

كما كان لرجال الدين في أوروبا إبّان الحكم الإسلاميّ اطّلاعُ على المعارف الإسلاميّة، ومنهم: الأسقف (الربيع بن زيد) الذي كان قاضي النصارى في قرطبة، ومترجمّا في قصر الحكم المستنصر بالله (ت: 658ه-) ، ويسمّى الربيع عند النصارى الأسقف ريموند الأوّل (1152-1125م)، وكان اطّلاعه واسعًا على العلوم والمعارف الإسلاميّة وهو ما دفعه لجمع طائفة من العلماء من مختلف الأديان؛ لتولّي ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية في مدرسة المترجمين بطليطلة(1).

**

كما أدرك الغرب بوعي ثاقب اللّحظة الفارقة الّتي يعيشونها حيث تفوّق حضارة العرب والمسلمين في الأندلس؛ لذلك فقد أسهم بلاط برشلونة في عملية الترجمة من اللّغه العربية إلى اللّغة اللاتينيّة. فقد قام كلّ من خايمي الأوّل (ت: 1311م) ملك الأراغون، وخايمي الثاني (1267-1327م) بسنّ الصّلات لمترجميهم، حتى أرصد جائزة ماليّة سخيّة قُدَّمت للمترجم (يهوذا بن سنيور) على ترجمته كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) لأبي القاسم الزهراوي الأنصاري الأندلسي الطبيب (325-404ه-) إلى اللّغة اللاتينيّة(2). وإذا أردنا أن نُبيّن نماذج تُعتبر من المستشرقين المعنيّين بالترجمة، فإنّ منهم الرّاهب الفرنسي (جربير دي أورياك) (930-1003م)(3) وهو من رهبان البندكت الذي تعلّم

ص: 31


1- انظر ،شريفي خيرة: الترجمة في الأندلس وأثرها على الحضارة الأوربية بين «900/500ه- إشراف لعرج جبران دراسة مقدمة لقسم العلوم الإنسانية، بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة الطاهر مولاي سعيدة بالجزائر سنة (2017م)، ص 16-19؛ انظر:العزاوي رغد جمال حركة الترجمة في الأندلس وتأثيرها على أوربا، مجلة مركز إحياء التراث العربي العلمي جامعة بغداد العدد الرابع، سنة 2017، ص8.
2- ،شريفي ،خيرة، الترجمة في الأندلس وأثرها على الحضارة الأوروبية بين «900/500ه-»، م.س.
3- جربير دي أورياك: انتخب بابا فرنسي سنة (999) تحت اسم سلفستر الثاني رقم (146) ليخلف أول بابا ألماني، وهو البابا الوحيد الذي تعلم العربية وأتقن علوم العرب وعلى أيدي العرب بأسبانيا، ولما عاد لفرنسا أدخل الأرقام العربية والساعة، ولم يعرف عنه أنه شجع الترجمة

في مدارس ريبول وأشبيلية وقرطبة ، ثم رُسِم حبرًا أعظم باسم سلفستر الثاني (999- 1003م) فكان أول بابا فرنسي

ومن نماذج المستشرقين المعنيّين بالترجمة: (قسطنطين الأفريقي) (ت: 1087م)(1)، والراهب الفرنسي (بطرس المكرَّم) (1092-1156)(2) من رهبان البندكتية رئيس دير كلوني (1123م) الذي انطلقت منه حركة إصلاح عمَّت النصرانية في أوروبا، والأسقف (جوستنياني) (ولد سنة (1470)(3) و(ليونا لأفريقي) (1494-1552م)(4)، وغيرهم من الشخصيّات الّتي تُعتبر طلائع للاستشراق.

وتُعتبر حركة الترجمة من أهمّ النوافذ العلميّة التي فتحت آفاق الدّارسين من الغرب على العالم الإسلاميّ بصورة كبيرة في مختلف المجالات، فضلًا عمّا كان من احتكاك وتعامل بين ملوك الطوائف بالأندلس وبين ملوك أوروبا وقساوستها، وأيٌّا كانت نقطة بداية العمل الاستشراقي المتمثّل في علاقة الغرب بعلوم الشرق من حيث الدراسة والبحث في جميع من العربية إلى اللاتينيّة أو نفوذ العلوم العربية في أوروبا المسيحيّة، ولا نعلم هل اتّصل بعلماء عرب انظر: العقيقي نجيب المستشرقون ط 3 مصر، دار المعارف بالقاهرة 1964م، ج 1، ص 120 ص 151 بدوي عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص178-179.

ص: 32


1- قسطنطين الأفريقي: اسمه الحقيقي مجهول ولد بقرطاجنة، ورحل الخراسان والشام ومصر، ولما رجع إلى تونس وقع أسيرا فاعتنق ،النصرانية والتحق بمدرسة الطب بسالرنه ،(1060) ، وترهب في دير مونتي كاسينو وترجم كتب الطب والفلك من العربية إلى اللاتينية وانتحل بعض ما ترجم ككتاب المقالات العشر لحنين بن إسحاق الطبيب (215-398ه-) عنونه ب- كتاب قسطنطين الأفريقي في طب العيون). انظر کلیفورد بوزورث حسن نافعة تراث الإسلام ترجمة حسين مؤنس ، لا ط، سلسلة عالم المعرفة الكويت 1978، ج2، ص148؛ العقيقي المسشترقون، ج 1، ص 121 م. س.
2- بطرس المحترم فرنسي كاثوليكي وراهب بندكتي رحل لأسبانيا سنة (1141م) عني بالمستعربين أي المسيحيين الذين تحت حكم المسلمين بأسبانيا، ويتكلمون العربية، مدعيا أنه يخدم المستعربين بترجمة القرآن، يقول بدوي: ولا نعرف كيف ذلك بالنسبة للمستعربين وهم ينطقون العربية؟!)، وقد انتهى بالفعل من ترجمة القرآن سنة (1143) وهي أول ترجمة للقرآن من العربية إلى اللاتينية، وظلت معتمدة في أوربا حتى نهاية القرن السابع عشر مع ما فيها من أخطاء، ثم ألف كتابا في الرد على الإسلام بناء على هذه الترجمة بمعاونة سكرتيره، وطبع من مصنفاته سنة (1896) . انظر : العقيقي المستشرقون، م.س، ج1، ص 122؛ بدوي، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 110.
3- الأسقف جوستنياني ولد بجنوى من أسرة نبيلة قرر الانضمام لرهبانية الإخوة المبشرين، فصرفته الأسرة لرحلة إلى بلنسيه ليتعلم العربية ولما عاد انضم لرهبان الدومينكان (1488) ، وتعرّف على المستشرقين أمثال: السير توماس مور)، وأنفق ثروته على جمع المخطوطات العربية والعبرية والكلدانية، ورقاه البابا ليون العاشر أسقف نبيو سنة (1516)، وصحح دليل الحائرين لموسى بن ميمون سنة (1520). انظر: العقيقي، المستشرقون، م.س، ج1، ص136.
4- ليون الأفريقي هو: الحسن بن محمد الوزان الفاسي قام برحلات في أقطار الإسلام حتى غرب أفريقيا، ودون مشاهداته في كتاب ألفه في روما، وقد اتخذها مقراً له ابن أسرة قراصنة البحر المسيحيين (1520) وتسمّى بجيوفاني ليوني نسبة لبابا ليون العاشر. له كتاب وصف أفريقيا ظل لمدة المرجع الوحيد لدراسة السودان (1526) بالعربية والإيطالية. انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 120-137؛ الطناحي، محمود محمد، مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، م.س، ص206-208؛ الزركلي، الأعلام، ط ،15 ، دار العلم للملايين، سنة 2002م، ج 2، ص 217-218.

هذه الاحتمالات والرؤى فإنّه لا شكّ في أنّ العمليّة المنظّمة للاستشراق المنظّم بدأت متأخّرةً عن ظهور مدارس الاستشراق التي تأسّست بعد ذلك، وفي وقت متأخر نسبيًّا.

4- دوافع الاستشراق:

إنّ دراسة المستشرقين علوم الشرق في القرون الأولى كانت بمثابة تمهيد للدرس ،الاستشراقي، وتهيئةللأرضيّة والمناخ العامّ على سبيل إعداد الدّارسين لمعرفة الجانب الممكن؛ لفَهم تركيبة الشرق واستيعاب العقليّة الشرقيّة من خلاله، وبذلك تعدّدت دوافع الاستشراق وأسبابه بين ما يلي:

:أوّلاً: الدافع الاقتصاديّ المادّيّ الذي يسعى إلى نهب الثروات والموارد الطبيعية، وجمع خيراته لصالح شعوب الغرب.

ثانيًا: الدافع السياسيّ؛ حيث إنّ صلة الاستشراق باحتلال دول الشرق الإسلامي أمر يصدّقه الواقع والتاريخ، ويبدو ذلك مع الحملة الفرنسية على الشرق العربيّ والإسلاميّ بالبحث عن أقصر طريق ممكن للدخول إلى عقليّة الشرقي، أو الهيمنة على أرضه بشتّى الطّرق بين الهيمنة والتخويف، أو الاستمالة والتظاهر بحسن النوايا.

ثالثًا: الدافع الدينيّ، وقد تجلّى من خلال معاونة الرّهبان والمبشّرين لأعمال الاستشراق؛ لنشر المسيحيّة بأرجاء المعمورة، واستعادة الأرض التي افتتحها المسلمون الأوائل وهو دافع مشوب بعصبيّة الأخذ بالثأر من دين الإسلام الذي انتقص من أرضٍ كانت تحت هيمنة مسيحيّة. فالاستشراق متّصل بتبشيرٍ مسيحيٌّ، والأمر ليس بحاجة إلى استدلال لوضوحه من خلال النّظر في أهداف الاستشراق الدينيّة، حيث السعي الحثيث لنشر المسيحيّة في الشّرق الإسلاميّ، أو دعوى نصرة مسيحيّي الشّرق من الاضطهاد، فضلًا عن أهداف اقتصاديّة وعلميّة للاستشراق، وغير ذلك من أهداف ظاهرة أو خفيّة مؤثّرة بلا شكّ في علاقة الغرب بالشرق إيجابًا أو سلبًا.

رابعًا: الدافع العلميّ، فربّما ظهر الطابع العلمي حينًا ما على الاستشراق، قال العقيقي: "لم يكن الدافع واحدًا للمستشرقين كافة في جميع البلدان خلال الألف عام

ص: 33

بل كانت هناك دوافع منوّعة متداخلة متطوّرة غلب عليها الطابع العلمي(1)لکنّ فی أحيان أخرى غلبت أغراض ودوافع وأهداف استشراقيّة خرجت عن النطاق العلميّ، فرؤية الأستاذ العقيقي مقتضبة، وقد كفّت دراسات الباحثين بيان ذلك (2)

وأمّا إدوارد سعيد الذي فرّق بين دراسات الاستشراق بصفة عامّة وبين دراسات الاستشراق المختصّة بالإسلام، فيقول: "إنّ جانبًا كبيرًا من تاريخ الاستشراق يحمل في داخله الموقف الأوروبي المُشكِل إزاء الإسلام، وهو جانب في غاية الحساسية(3)“، حيث وصف تاريخ الاستشراق بالموقف المشكِل والحسّاس وهذه صراحة في هذا الوصف وذاك.

فأما كون الموقف الأوروبي مُشكِل فلأنٌ أحكام الدّرس الاستشراقيّ النصرانيّ على دين الشّرق المسلم يُمثّل إشكاليّة في نتائج الدّرس ، ومنهجيّة الاستشراق - وهو ما سبقت الإشارة إليه ؛ ما يدفع إلى عدم قبول الأحكام النهائية، مع تنافر الرؤى واختلاف الاتّجاهات؛ فهو موقف مشكل فعلًا.

وأمّا كون الموقف الأوروبي حسٍّاسًا، فيظهر من جهات عدّة، منها: أنّ الدّرس الاستشراقيّ يدرس مصادر الإسلام بأساليب ومناهج مصطدمة مع رؤية المسلمين، وكذلك ظهرت صلة التبشير بالاستشراق في وجه الإسلام خاصّةً من ناحية التعليم؛ لأنّ الرهبان كانوا يتعلّمون العربيّة؛ لأنّها لغة العلوم في ذلك العصر ، ورأوا ضرورة تعلّمها وتعليمها؛ باعتبارها وسيطّا للاطّلاع على سائر العلوم، فكان تعلّم المستشرق للّغة العربيّة لأحد أمرين أو كلاهما: الأوّل: لأنّها لغة العلم بمفهومه الشامل وهذا دافع علمي الثاني: لأنّ العربيّة كانت وسيطاً لمعرفة اللّغة العبريّة لغة التوارة، وهذا دافع دينيّ.

لذلك كان دور الكنيسة واضحًا في تشجيع الدرس الاستشراقيّ منذ القرن العاشر

ص: 34


1- انظر زقزوق محمود حمدي: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ط2، القاهرة، دار المنار 1989م، ص84-90؛ السباعي مصطفى: الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، ط3، المكتب الإسلامي، 1985، ص15-19
2- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج3، ص1148؛ الميداني، عبد الرحمن حسن حبنكة أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير الاستشراق الاستعمار دراسة وتحليل وتوجيه دراسة منهجية شاملة للغزو الفكري، 8، دمشق، دار القلم 2000م، ص127-134.
3- سعيد، إدوارد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، م.س، ص143.

والحادي والثاني عشر، حيث كان البابا يشجّع على دراسة الشرق والحضارات الشرقيّة وهذا أحد دوافع الكنيسة لإنشاء الكراسي العلميّة للدراسات الشرقيّة؛ حتى تكونت نواة المدارس الاستشراقيّة(1).

إنّ الاستشراق مدخلُ من مداخل الغرب إلى معرفة الشّرق ودراسة علومه، والاطّلاع على شؤونه المختلفة، له بداية مبكّرة في علاقته بالشرق الإسلاميّ، وإن تعدّدت وجهات النّظر فيها، لكنّ الاختلاف هنا لا تعارض فيه ؛ لأنّه اختلاف يُثمّن رؤية واحدة هي: إقبال علماء الغرب على علوم الشرق بالدرس والبحث ولا شكّ أنّ الغرب أدرك أنّ الحرب لا تُجدي نفعًا، فقام بتغيير استراتيجيّة المواجهة، فغيَّر من سياسته تجاه الشرق، وحوّل حرب الدرع والسيف إلى حرب الفكر والعلم والقلم ، حيث كان المستشرقون طلائع على جبهة دراسة الشرق جيلاً بعد جيلٍ، فكان منهم المترجم والباحث، والدارس، والمحقّق...

وكما تعدّدت دوافع الاستشراق بين الدافع الاقتصاديّ، والسياسيّ والدينيّ، والعلميّ، كذلك تعدِّدَت مدارسُ الاستشراق بتعدّد حواضر أوروبا، وسأتناول في ما يلي جانبًا من مدارس الاستشراق في أوروبا، وأخصّ بالذكر مدرسة الاستشراق الفرنسيّ، ثمّ مدرسة الاستشراق الألمانيّ.

ص: 35


1- النبهان، محمد فاروق: الاستشراق تعريفه مدارسه آثاره، لا ط، الرباط، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم إن سيسكو، 2012، ص27.

المدارس الاستشراقيّة

اولاً:انطلاق المدارس الاستشراقیّه:

انطلقت المدارس الاستشراقيّة في بداية حركةٍ استشراقيّة واحدةٍ متلاحمة دون أن يكون لها عاصمة تخصّها، وذلك رغبة من الغرب في استكشاف علوم الشّرق - بشكل عام ،- والشرق الإسلاميّ - على وجه خاص - ؛ وبغية معرفة عالم الشرق الغامض، وما به من حضارات إنسانيّة ذات إشعاعِ روحيٌّ وبُعدٍ إنسانيّ راق، فضلًا عن عداوة في الذاكرة التاريخيّة، التي خلفتها لقاءات الندّ السالفة في ذاكرة التاريخ؛ كلّ ذلك -وغيره- كان بمثابة الدوافع الملحّة التي دفعت مدارس الاستشراق إلى دراسة عالم الشرق بصورة بدت في بدايتها بسيطة، ثم سُرعان ما صارت - بفعل التجربة والخطأ، وبفعل الدراسات التراكميّة - دراسات عميقة تتعلّق بعموم الأصول الكليّة ممّا له صلة بعلوم الشّرق، وبالقدر نفسه كانت دراسات عميقة تتعلّق بخصوص فروع جزئيّة من قضايا درسها المستشرقون.

إنّ ثمّة علاقة بين مدارس الاستشراق لوجود قواسم مشتركة تربط بين جميع الاستشراقية، من حيث الدوافع والأهداف والبيئة والدين، كما أنّ كتابات جميع المستشرقين تشهد بالعوامل البيئيّة والتاريخيّة والثقافيّة التي طبعت حركة الاستشراق ومن ثَمَّ يحدث التمييز بين مدارس الاستشراق"(1).

ثانیا:معیار تصنیف مدارس الاستشراق:

قد اتّجه كثير من الباحثين إلى تصنيف مدارس الاستشراق بحسب بلدان أفراد المستشرقين؛ فثمّة مدرسة الاستشراق الفرنسيّ، ومدرسة الاستشراق الإنجليزيّ، ومدرسة الاستشراق الألمانيّ، فضلًا عن المدرسة البلجيكيّة والإيطاليّة، والأسبانيّة، ثمّ المدرسة الأمريكيّة والروسيّة وغيرها.

واختار التصنيف بحسب الانتماء القطري كثير من الدارسين منهم الأستاذ نجيب

ص: 36


1- انظر نصري أحمد آراء المستشرقين الفرنسيين في القرآن الكريم- دراسة نقدية، ط1، الرباط، المغرب، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، 2009، ص17.

العقيقي، في كتابه "المستشرقون؛ إذ رجّح هذا التصنيف وتحدّث عن كل دولة من الدول الغربية، وذكر كلّ ما يتعلّق بالدراسات الاستشراقيّة فيها، من كراسٍ علميّة،

ومكتبات، ومطابع ومجلات وأسماء المستشرقين (1)، وهناك تصنيفات تقوم على معايير أخرى، لكنّها متشعّبة ومتداخلة.

وجدير بالذكر أنّ هناك تقسيم للمدارس الاستشراقية بحسب المذهب الدينيّ ،والاعتقاديّ، ولا أرى وجهًا لهذا التقسيم الموجّه (2)لسببين:

الأوّل: لأنّ تقسيم مدارس الاستشراق بناءً على المذهب الاعتقادي يحمل في طيّاته اتّهامًا مُسبقًا للدارسين، وحكمًا متقدّمًا بأنّ دراسة المستشرق لها هدف عقديّ دينيّ وهذا الاتّهام أو ذلك الحكم قد يصيب أو قد يخطئ.

الثاني: لما يحمل هذا التقسيم بحسب المذهب الاعتقادي من صرف لدافعِ أهمّ وأعظم للمستشرقين وللحياة الفكريّة بصفة عامّة، وهو (الدافع العلمي)، الذي يثمّنه الإسلام الحنيف، ويدعو إليه، بل ونسعى إلى إظهاره ، لذا فمن أدبيات الإسلام: (وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا )(3) ، وذلك شرط التحلي بسمات من التجرّد والحيادية والموضوعية والإنصاف؛ لذلك آثرت تصنيف مدارس الاستشراق القائم على الانتماء الجغرافي للمستشرق؛ لسهولة الوقوف على مظاهر كلّ مدرسة استشراقيّة.

ثالثا:الموسوعات ومدارس الاستشراق:

يدلّ على وحدة الهدف بين كثير من مدارس الاستشراق اجتماعُهم على استخراج موسوعة دائرة المعارف الإسلامية، فقد شعر المستشرقون في مؤتمراتهم الدولية بالحاجة إلى دائرة معارف الأعلام العرب والإسلام تجمع شتات دراساتهم عنهم بالّلغات الثلاث: الألمانيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة، فدعوا إليها سنة (1895) ، وكلّفوا هوتسما (Houtsma)

ص: 37


1- النبهان محمد فاروق الاستشراق تعريفه مدارسه ،آثاره، م.س، ص 21.
2- انظر: عبد الرحمن حسن حبنكة أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، م.س، ص126-127.
3- سورة الحجرات، الآية 13

من جامعة أوترخت بإنشائها، ومطبعة ليدن بإصدارها، واُستعين بالمجامع ومؤسّسات نشر العلم في أوروبا قاطبة للإنفاق عليها فأمدّتها بالمال سنة (1891)(1).

وأشرف هوتسما (1943) (1851) (Houtsma.M.Th) على تحرير الدّراسات المتعلّقة بالإمبراطوريّة العمانيّة وفارس وآسيا الوسطى والهند الهولنديّة، ثم حلّ محلّه في الإشراف على دائرة المعارف فنسنك (1939- 1881) (Wensinck,A.J) عام 1924). ولقد تولّى تحرير النسخة الألمانية: شاده (1952-1883) (Schaade)، ورتشار هارتمان (Hartmann,R ولد عام (1881، وبوبير (Popper)، كما تولّى تحرير النسخة الفرنسيّة: رینه باسه (1924-1855) (Basset,Rene)، عميد كلية الآداب في الجزائر، فأشرف على جميع الأبحاث المتعلّقة بشمال أفريقيا (الجزائر وتونس والمغرب والسودان)، ثمّ خلفه ابنه هنري باسه. كما تولّى تحرير النسخة الإنجليزية، أرنولد فأشرف على جميع الدراسات المتعلّقة بالبلاد المتّصلة ببريطانيا، ما عدا مصر"(2).

ويتّضح بذلك أنّ المستشرقين مهما تنوّعت بلادهم؛ فإنّهم يعملون عملًا واحدًا، ويعملون على إتمامه، فهدفهم واحد مهما تنوّعت مناهجهم وتعدّدت بلادهم وتحقّق ذلك في "دائرة المعارف الإسلاميّة"، بصفته عملا عامًّا للاستشراق.

ص: 38


1- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 667-669 ج 3، ص 1106-1107.
2- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج3، ص1107

المبحث الثاني: مدرسة الاستشراق الفرنسيّ

1- تعريف بمدرسة الاستشراق الفرنسي:

تُعتبر مدرسة الاستشراق الفرنسيّ من أبرز المدارس الاستشراقيّة، وأقدمها تاريخًا، وأغناها فكرًا، وأخصبها إنتاجًا، وأكثرها وضوحًا في أغراضها، وسبب ذلك يعود للعلاقات الوثيقة التي تربط فرنسا(1) بالعالم العربّي والإسلاميّ؛ قديًما وحديثًا، ومن ذلك أنّ فرنسا كانت موجودةً في معظم علاقات العرب بأوروبا في حالات السّلم والحرب على مدى التاريخ، ولقد كانت فرنسا - في وقت مبكر - من التاريخ الإسلاميّ على علاقة وثيقة بدولة الخلافة العبّاسيّة أيّام شارلمان(2)، مع (هارون الرشيد)(3).

وكان هناك علاقة حرب بين دولة الإسلام في الأندلس من خلال الخلافة الأمويّة في قرطبة وبين الإمبراطوريّة البيزنطيّة، وكذلك كان العرب قد وصلوا إلى حدود فرنسا ،وأخافوهاكما شاركت فرنسا بقيادة (فيليب أوغسطس)(4)ملك فرنسا وأحد قادتها في تلك الحروب مع العالم الإسلاميّ.

ص: 39


1- فرنسا أكبر قطر في أوروبا الغربية مطلة على المحيط الأطلسي والبحر المتوسط عاصمتها باريس الواقعة على نهر السين والمركز الصناعي والتجاري والثقافي وأجمل مدن العالم وعاصمة العلوم والفنون وبها جامعة السوربون من أقدم جامعات العالم أنشأت منذ 8 قرون، اجتاح فرنسا الفرانكيين (الفرنجة) بقيادة شارلمان وأنشأ دولة قوية، ولما قامت الثورة الفرنسية (1792) تحولت للنظام الجمهوري، وكانت فرنسا خلال الحربين العالميتين الأولى (1914)، والثانية (1939) ساحة لقتال حيث حاربت جيوش الحلفاء على أرضها الجيش الألماني الذي احتل فرنسا. انظر: نخبة من العلماء والخبراء، الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج17، ص 319-322.
2- شارلمان (742-814م) يسمى تشارلز الأكبر أشهر حكام العصور الوسطى، وملك الفرنج حاكم إمبراطورية الفرنجة بين (768-800م) واحتل أوربا الغربية ووحدها في إمبراطورية واحدة، وأحيا الفكر السياسي والثقافي الأوربي المندثر بعد سقوط دولة الرومان في القرن الخامس الميلادي، ويعد نشاطه أساس الحضارة الغربية المزدهرة أواخر العصور الوسطى، وحمى الكنيسة، وأدخل نظام الإقطاع الذي استمر 400 سنة بعده. انظر: نخبة من العلماء والخبراء الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج 14، ص 17.
3- الرشيد (148-193ه- / 766-809م) هو هارون الرشيد بن محمد المهدي بن منصور يكنى بأبي جعفر الهاشمي، العباسي، ولد بالري سنة (148)، واستخلف بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي سنة (170ه-) أمه الخيزران، وكان يقتفي آثار جده أبي جعفر المنصور. انظر: الذهبي سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط 3 مؤسّسة الرسالة، 1985م، ج 9، ص 286-295؛ الزركلي، الأعلام، م.س، ج8، ص 62
4- نخبة من العلماء والخبراء الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج9، ص 163.

وكذلك اعتنى الفرنسيّون بدراسة الدين الإسلاميّ، فكتب بودي (حياة محمد) سنة (1671م) وجدّدها (1731م) وهو الكتاب الأوّل الذي تعرّف من خلاله الفرنسيّون على الإسلام وتناول المستشرقون الفرنسيّون ترجمة الراهب الإيطالي ماراتشي 1612 (Marracci,P.L-1700)، (بادوي 1698) بالنقد والتعليق ونقلوا ترجمة الإنجليزي همفري بريدو Prideaux 1648-1724)) للفرنسيّة (1699) ، وفي سنة 1730 طبع الكونت دي بولفلييه (تاريخ العرب وحياة محمد)، فأظهره مظهر النابغة ورسول خير إلى الجزيرة العربية(1).

وفي العصر الحديث تطلّعت فرنسا إلى احتلال أجزاء من الوطن العربي، حيث غزا نابليون مصر، وأقام علاقات سياسية واقتصادية وثقافية معها، كما احتلت فرنسا المغرب العربي، وسوريا ولبنان(2).

يُبيّن باحثون غربيّون من بينهم رينيه جروسیه (1885-1952)(3)، أنّ الملك لويس التاسع كان في مقدّمة كبار ساسة الغرب الذين وضعوا خطوطًا رئيسيّةً لسياسة جديدة شملت مستقبل آسيا وأفريقيا كما كان أوّل ملك ربط فرنسا بسياسة عالميّة.

وقد كان مخطّطهم هذا يقوم على ما يلي:

أولًا: تحويل الحملات الصَّليبيّة العسكرية إلى حملات صَليبيّة سلميّة، وكان سلاح الحملات الجديدة يستهدف الدّسَّ بين العرب بعضهم بعضًا، وإثارة الخلافات بين الأوساط الإسلامية، وخاصّة بين الأمراء المسلمين.

ثانيًا: تجنيد المبشّرين الغربيّين في معركة سلميّة لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره، ثمّ القضاء عليه معنويّاً، واعتبار هؤلاء المبشّرين جنودًا للغرب.

ثالثًا: العمل على إغراء مسيحيى الشرق لتنفيذ سياسة الغرب.

ص: 40


1- نجيب العقيقي المستشرقون، م.س، ج1، ص171.
2- من، ج 1، ص 151 وبعدها.
3- رینیه جروسیه مستشرق فرنسي مؤرخ وأديب ومفكر عين أمينا لمتحف سرنوسكي بباريس من مؤلفاته تاريخ الصليبية) و(مملكة الفرنجة في القدس) سنة 1934 و القديس لويس والأحلاف الشرقية) 1948 ، و الإمبراطورية المغولية)، (إمبراطور البطاح عن السلاجقة و (الدراسات التاريخية والاستشراق) سنة 1937؛ انظر: العقيقي المستشرقون، م.س، ج1، ص271.

رابعًا:العمل على إنشاء قاعدة في قلب الشرق يتّخذها الغرب نقطة ارتكاز له ومركزًا لقوّاته الحربيّة ولدعوته السياسيّة والدينيّة، ومنها يمكن حصار الإسلام والوثوب عليه كلّما أتيحت الفرصة لمهاجمته(1).

وقد عيَّن لويس التاسع لإنشاء هذه القاعدة الأراضي الممتدّة من ساحل البحر الأبيض من غزّة حتى الإسكندرونة، وتشمل فلسطين والأردن والبلاد المقدّسة، ثمّ لبنان وجزءًا من سوريّة، ومن أجل تحقيق هذه الغاية فقد أوفد البابا إنوسنت الرابع سنة (1244م)(2) البعثات إلى المغول على رأس قساوسة الفرنسيسكان(3): جان دي بلان ،کاربان ولوران دي برتغال ودومينك ،داراجون، والقس الدومينيكي أسلان(4). وبذلك يتمّ التحوّل من الغزو العسكريّ إلى الغزو من نوع خاصّ ومختلف أطلق عليه البعض مصطلح الغزو الفكريّ(5).

2- حملة نابليون وعلاقته بالاستشراق الفرنسيّ:

اشارة

قبل الحديث عن حملة نابليون على الشرق، تجدر الإشارة إلى وثيقة تاريخية أرسلت إلى لويس الرابع عشر (1638-1715) ملك فرنسا من العالم والفيلسوف الألماني ليبنتز (Gottfried Wilhelm Leibniz)(6) وأتى فيها:"يا مولاي مشروع غزو مصر، لا يوجد بين أجزاء الأرض جميعها بلد يمكن السيطرة منه على العالم كلّه، وعلى بحار الدنيا بأسرها

ص: 41


1- انظر: عبده ،قاسم ماهية الحروب الصليبية، م.س، ص 150 ؛ السباعي، مصطفى: الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، ط3، بيروت المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، 1985، ص 60-67.
2- إنوسنت الرابع: 12541200م)، شغل منصب البابا سنة (1243) أهمل الاهتمامات الروحية، وانشغل بالنزاعات البابوية مع فرديريك الثاني الإمبراطور الروماني، ثم هرب إنوسنت لفرنسا سنة (1244) ، وحرم فريدريك من عضوية الكنيسة، ثم أعلن تنحيته عن العرش في مجلس عقده في مدينة ليون ومات فردريك سنة (1250م)، وسعى إنوسنت لمركزية السلطة البابوية، وكانت سياساته تهدف إلى جمع الأموال للصرف على الجيوش البابوية في الحملات الصليبية. انظر: نخبة من العلماء والخبراء الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج3، ص294.
3- طائفة الفرنسيسكان أعضاء في منظمات نصرانية مختلفة تنتمي للرومان الكاثوليك أخذوا نظام حكمهم وبرنامج حياتهم من القديس فرانسيس الذي أسس نظام الفراير الصغار لإصلاح الكنيسة سنة (1209م) كما أسّس فرانسيس والقديسة كلير بين سنة (1212-1214م) نظامًا للنساء يُدعى النظام الثاني للقديس فرانسيس، وتوسعت الطائفة، ثم حدث انقسام بين أعضائها الروحانيين دعاة التقليد الصارم بقانون فرانسيس الأصلي وبين الجهاز الرئيسي المسمى بالرهبان وهم دعاة الاعتدال، حتى حسم البابا جون الثاني والعشرون النزاع لصالح الرهبان سنة (1317م). انظر: نخبة من العلماء والخبراء، الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج 17، ص 349. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الطائفة ظهر لها نشاط متنوع في مختلف دول العالم الإسلامي بين مصر والمغرب والجزائر.
4- الغتيت محمد علي الشرق والغرب من الحروب الصليبية إلى الحرب السويس (د) ط ت مصر ، الدار القومية للنشر، ج 1، ص 65-66
5- انظر حبنكة عبد الرحمن حسن أجنحة المكر الثلاثة، م.س، ص 21-25
6- ليبنتز (1646-1716) هو: غوتفريد فيلهيلم ليبنتز عالم في الرياضة والطبيعة وفيلسوف ألماني كان متبحرا في علوم كثيرة.

غير مصر"(1)، ولا شكّ أنّ تلك الأحلام الغربيّة هي إفراز لما بقي من عصبيّة غربيّة تجاه الشرق بهويّته الإسلاميّة، فلم تكن أطماع فرنسا لاحتلال مصر سوى صدى هذه العصبيّة فلم تكن فكرة احتلال مصر وليدة لحظة طيش بين عشيّةٍ وضحاها لدى نابليون (1769- (1821م)، إنّما كانت تلك الوثيقة التاريخيّة - وهي سابقة على بداية حملة نابليون بقرابة مئة سنة - حيث إنّها تمثّل فكرة عامّة سارية في دهاليز الأروقة العليا في فرنسا.

إنّ حملة نابليون على مصر سنة (1798م) وليدة رؤية تلك الوثيقة التاريخيّة؛ لأنّ الوضع في فرنسا ساعد على ذلك إبّان قيام "الثورة الفرنسيّة"(2)التي استمرّت بين (1799-1789) حيث كانت لها تأثيرات عميقة على أوروبا والعالم الغربي انتهت بسيطرة البورجوازيّة، من خلال التحالف مع نابليون المشبع بفكرة التوسّع، وبتصدير الأزمة باتِّباع سياسة توسعية للإمبراطورية الفرنسيّة.

لكن ثمّة تساؤلات تفرض نفسها منها: هل كانت حملة نابليون حملة صَليبيَّة جديدة؟ هل كانت حملة نابليون لخدمة الشرق المظلوم من المماليك؟ هل نتج عن الحملة خروج الشرق من تأخّره ويقظته ودخوله في حالة تقدّم؟ هل كانت يقظة الشّرق على مبادئ حضارة الإسلام ؟ أو مزيج بين مبادئ شرقيّة وغربيّة؟

تتبيّن إجابة تلك التساؤلات من خلال معرفة رؤية الغرب لما سمّي ب-(المسألة الشرقيّة)(3) بصفة عامة حيث تحمل علاقة الغرب بالدولة العلية في الشرق ما تبينّ علاقة الدولة العلية بدول أوروبا، ونحن نتبيّن خصوص موقف فرنسا من الدولة العلية حربها مع روسيا التي قامت بينهما سنة (1796م) فمع أنّ فرنسا كانت حليفة

ص: 42


1- الحفناوي مصطفى: قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة، لا ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015، ج 1، ص 34.
2- الثورة الفرنسية: سببها الضرائب الباهظة التي فرضها الملك لويس السادس عشر، حيث تم إلغاء الملكية سنة (1792) كما قامت الجمعية الوطنية بإعلان الجمهورية وعزل الملك، وإلقاء القبض عليه وعلى أسرته وتمت إعدامات عديدة لمن أطلق عليهم (أعداء الشعب)، وبصعود نابليون للحكم انتهى ما سمي بعهد الإرهاب، حيث أطاح بالحكومة الثورية، واستولى على السلطة. (انظر: نخبة من العلماء والخبراء الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج 17، ص 335).
3- المسألة الشرقية : يقصد منها مسألة النزاع القائم بين بعض دول أوربا وبين الدولة العلية بشأن البلاد الواقعة تحت سلطانها، وبعبارة أخرى مسألة وجود الدولة العلية نفسها في أوربا، بينما يرى البعض أن المسألة الشرقية هي مسألة النزاع المستمر بين النصرانية وتمثله دول أوروبا والإسلام الذي يمثله الدولة العلية أي مسألة حروب صليبية. انظر) كامل مصطفى في المسألة الشرقية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة (2008)، ص 19).

للدولة العلية، لكنّ هذه الصداقة لم تُترجم إلى مساعدتها في الحرب خوفًا من اشتعال الحرب بينها وبين الدول الأوروبيّة(1)، ويجيب التاريخ عن هذه العلاقة التي انتهت بإلغاء الخلافة سنة (1923م) غير محزون عليها من قِبَل أوروبا، وبعد مرور قرابة قرن من خروج الحملة الفرنسية من بلاد الشرق.

* استعانة نابليون بالمستشرقين وإنشاء المطبعة:

بدت الحملة الفرنسيّة على الشرق عامّة، ومصر خاصّة ذات صلة بالاستشراق جليّة في استخدام المترجمين واصطحاب العلماء، وذلك أنّه "لمّا خمدت الثورة رأى مجلس الديركتوار أنّه بحاجة إلى اللّغات الشرقيّة فأقرّها وانتدب دي ساسي أستاذًا للعربية في مدرسة اللّغات الشرقية)(2)، ولقد دعا نابليون المستشرقين للمساهمة في الحركة الاستشراقية الفرنسية إبان حملته على مصر.

من هؤلاء المستشرق الشاب جان جوزيف مارسيل (1854-1776) (Marcel .J.J)(3) شارك حملة نابليون وكان في ركابها مترجمًا، وهو أوّل من ترجم خطاب نابليون في ،المصريين، وقد أمره نابليون بطبع جميع المقرّرات السياسية باللّغات الشرقيّة الثلاث، فلمّا عاد إلى باريس كلّفه بكتابة مصنّف في وصف مصر، وكافأه بأن عيّنه مديرًا المطبعة الجمهوريّة، وقد عُيّن مديرًا للمطبعة التي لحقت بالجيش إلى مصر، ثمّ كان محاضرًا باللّغات الشرقية في معهد فرنسا (1817-1820م)، وعضوًا في معظم الجمعيات العِلميّة(4)، وبذلك فقد شارك بقلمه وعلمه أثناء الحملة وبعدها؛ ما يدلّ على تواصل العمل الاستشراقي بعد حملة نابليون على مصر.

ص: 43


1- انظر كامل في المسألة الشرقية، م.س، ص 42.
2- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 180.
3- جان جوزيف مارسي ولد في باريس هو حفيد غليوم مارسل المؤرخ الفرنسي، وقنصل فرنسا بمصر مات أبوه وتركه في رعاية أمه، وتخرج في جامعة باريس ودرس الجغرافيا على الأب جرنيه أستاذ ولي عهد فرنسا ابن لويس السادس عشر، ودرس العربية على دي ساسي (1790) ولانجلس ثم ولى إدارة مصنع البارود أثناء الثورة، وبعدها زاول الصحافة، وقد عمي في أواخر أيامه، فطبع فيها حل الخطوط العربية القديمة (1828) وتاريخ الحملة الفرنسية على مصر (1830-1836) . انظر: نجيب العقيقي المستشرقون، ج 1، ص 185.
4- انظر: نجيب العقيقي، المستشرقون، م.س، ج1، ص185-186.

ومن هؤلاء كذلك المستشرق جوبير. (1847 - 1779)(Jobert,A)(1) الذي التحق بمدرسة اللغات الشرقيّة، وتعلّم على البارون سلفستر دي ساسي (1838 -1758م) (Sacy,s.de)(2)، وقد كان مترجماً لنابليون في حملته الثانية وأرسلته حكومة الديركتوار في حملة نابليون مترجمًا ثانيًا(3).

ومن هؤلاء الذين قدّموا خدمة للحملة الفرنسيّة في مصر القس رفائيل (1758- (1831م) الذي تولى القيام بالترجمة وأقام مدّة في باريس مدرّسًا للعربية كما اتّصل بمحمد علي الكبير، فجعله ناظرًا لمطبعة ( بولاق)، ثمّ اختير للترجمة في مدرسة الطب(4).

وهذا يُبيّن كيف استغلّت فرنسا في حملتها علماء الاستشراق والترجمة، فمن خلال جهودهم، ومعرفة طبيعة الشرق الجغرافيّة والثقافيّة والسياسيّة عرف كيف يدخل إلى أهل الشرق، وبذلك فقد اصطبغ علم الاستشراق منذ بدايته؛ بوصفه علمًا مستقلاً فی نهاية القرن التاسع عشر بالشعور المزدوج، وهو مزيج من التعاطف الظّاهر لتحقيق المصلحة السياسيّة.

ولا يفوتنا أن نذكّر بأنّ إنشاء نابليون للمطبعة كان فاتحة خير في مصر والشرق الإسلاميّ، حيث أتيح طبع علوم العربيّة والإسلام وإنشاء المدارس العلميّة الجديدة، وإنْ لم تُنشئ فرنسا المطبعة لهذا الغرض، لكن هي مقادير الأقدار لمّا يُكتب الخير بيد أعداء قصدوا شرًّا؛ فقد أراد نابليون في أوّل الأمر كسب صداقة المسلمين؛ ليواصل معركته ضدّ بريطانيا العظمى، وليخدم مصالحه ومصالح فرنسا في الشرق، ولكن أرادت الأقدار خلاف ظنونه.

الجبرتي يكتب عن حملة نابليون:

ذكر العلامة الجبرتي(5) ذلك فبيّن أنّه "كانت الفرنسيس حينما حلت فلولهم

ص: 44


1- نجيب العقيقي المستشرقون، م.س، ج1، ص 183.
2- سلفستر دي ساسي: سوف تأتي ترجمته تفصيلا في نماذج المستشرقين.
3- انظر: نجيب العقيقي، المستشرقون، م.س، ج1، ص 183-184.
4- الزركلي، الأعلام، م.س، ج 2، ص 28
5- الجبرتي: (167 - 1137ه- / 1754-1822م)، هو: عبد الرحمن بن حسن الجبرتي مؤرخ مصري ونسبة الجبرتي إلى (جبرت) وهي الزيلع في بلاد الحبشة، ولد بالقاهرة وتعلم بالأزهر، جعله (نابليون) حين احتلاله مصر من كتبة الديوان وولّي إفتاء الحنفية في عهد محمد علي، وقتل له ولد فبكاه كثيرًا حتى ذهب بصره ، ولم يطل عماه فقد توفي. من كتبه عجائب الآثار في التراجم والأخبار عرف بتاريخ الجبرتي بداية من سنة (1100ه-) وانتهى إلى سنة (1236ه-)، وله مظهر التقديس بذهاب دولة (الفرنسيس) ترجم للفرنسية وطبع بها. انظر: الزركلي الأعلام، م.س، ج 3، ص304.

بالإسكندرية كتبوا مرسومًا، وطبعوه وأرسلوا منه نُسخًا إلى البلاد التي يقدمون عليها تطمينًا لهم، ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأسرى الذين وجدوهم بمالطة، وحضروا صحبتهم، وحضر منهم جملة إلى بولاق وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم أو يومين، ومعهم منه نسخ عدّة، منهم مغاربة، وفيهم ،جواسيس وهم على شكلهم من كفار مالطة، ويعرفون باللّغات"(1).

وقد بيّن الجبرتي نصَّ المكتوب وجاء فيه:"يَا أَيُّها المِصْرِيُون قَدْ قِيلَ لَكُمْ: إِنَّنِي مَا نَزَلتُ بهَذَه الطرق إِلَّا بِقَصْد إِزَالَةِ دِينِكُم فَذَلِكَ كَذِبٌ صَرِيحٌ فَلَا تُصَدِّقُوه، وقُولُوا لِلمُفتَرِينَ إِنَّنِي مَا قَدِمتُ إِلَيْكُم إِلَّا لِأُخلّص حقَّكُم مِن يَدِ الظَّالِمِينَ ، وإِنَّنِي أَكْثَرُ مِن المَمَالِيكَ أَعْبُدُ الله - سبحانه وتعالى - وَأَحْتَرِمُ ،نبيَّه، وَالقُرآنَ العَظِيمَ، وقُولُوا أيضًا لَهُم: إِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ مُتَسَاوُون عِنْدَ اللهِ، وَأَنَّ الشَّيءَ الَّذِي يُفرِّقُهُم عَن بَعضِهِم هُو العَقْلُ والفَضَائِلُ وَالعُلُومُ فَقَط ..."(2)، وهذا المرسوم يُعبرّ عن السياسة الفرنسيّة الأولى التي انتهجتها فرنسا في مصر وهي سياسة الملاينة، كما يظهر مدى معرفة بونابرت طبيعة المماليك، وأسلوب حكمهم في مصر، واستمالته للشعب المصري، وطبيعة ما يُثار من أقوال وحكايات فخاطب أهل مصر بهذا المرسوم؛ ليضمن ترك المقاومة المسلّحة، لكن أدّت الحملة العسكرية الفرنسيّة على مصر سنة (1798م) إلى تشكيل حركة مقاومة مصريّة اتّخذت من مسجد الأزهر مقرّاً لها، وقمع بونابرت هذه الحركة قمعًا شديدًا، وقصف حي الأزهر ومسجده وانتشل المستشرق الشاب جان جوزيف مارسيل مخطوطات من مكتبة الأزهر الشريف بعضها مخطوطات قرآنيّة، يقول الدكتور المقداد:"حصلت فرنسا على مجموعة قيّمة من المخطوطات العربية أثناء حملة نابليون على مصر"(3).

ص: 45


1- انظر: الجبرتي عبد الرحمن بن حسن تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار ، د. ط ت ،بیروت، دار الجيل، ج2، ص182.
2- انظر م.ن، ج 2، ص 182-183.
3- المقداد، محمود تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، سلسلة عالم المعرفة الكويت، العدد (167) نوفمبر 1992، ص47.

3- الكراسي العلميّة لدراسة العلوم الشرقية:

إن التاريخ السياسيّ المتواصل لفرنسا مع الشرق جعلها من أوائل دول أوروبا التي اعتنت بالدراسات العربيّة والإسلاميّة؛ للاستفادة منها، وترجمة آثارها، لذا قامت بإنشاء كراسٍ علميّة لتدريس العربيّة منذ القرن الثاني عشر، وظهرت علاقتها بالتراث العربيّ والإسلاميّ مبكّرًا، إذ أوفدت طلّابها إلى مدارس الأندلس لدراسة الفلسفة والحكمة والطبّ فيها، كما كانت تجربة فرنسا في مصر عاملًا حديثًا لبداية استشراقيّة جديدة، وإطلالة فرنسيّة على الشرق.

وأنشأت فرنسا منذ وقت طويل كراسٍ علميّة في المعاهد والجامعات الفرنسيّة لدراسة اللّغات الشرقيّة؛ منها : اللّغة العربيّة والدّراسات الإسلاميّة، ويوجد في مكتبة باريس الوطنية أكثر من 7 آلاف مخطوط عربي، ونوادر من الآثار الإسلاميّة من نقود وأختام وخرائط، وقد أسهم المسيحيّون اللبنانيون في نقل بعض المخطوطات العربيّة إلى فرنسا، وصدرت في فرنسا مجلات اهتمّت بالتّراث العربيّ والإسلاميّ والتعريف به واستطاع الأدب العربيّ التأثير الأدب الفرنسيّ، كما تأثر بعض المفكّرين الفرنسيّين بما اطّلعوا عليه من تراث العرب وفلسفتهم، من أمثال ابن رشد، وابن خلدون، والنزعات الصوفيّة(1).

وقضى البابا أكليمنص الخامس في مجمع فيينا(2) بإنشاء كراس للعربيّة والعبريّة والكلدانيّة، وأنشأ رجال الدين المسيحييّن جامعة تولوز (1217)، كما أنشأ معهد الآداب للغة العربيّة والتمدّن الإسلاميّ في جامعة بوردو (1441) ثمّ اتّجهت عناية الملك فرانسوا الأوّل (1519) لإنشاء كراس للغة العربيّة والعبريّة، وكذلك الملك لويس الثالث عشر، حتّى أَنشئت (المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحيّة) في باريس سنة (1795م) للسفراء والقناصل والتجار.

كما أنشأت جامعة السوربون (1257م) بدعوة من الأب روبر دي سوربون كاهن

ص: 46


1- النبهان محمد ،فاروق الاستشراق تعریفه مدارسه آثاره، م.س، ص 22-23
2- مجمع فيينا : (1311-1312 هو : المجمع المسكوني الخامس عشر للكنيسة الكاثوليكية عقد بمدينة فيينا الفرنسية دعا إليه البابا كليمنت الخامس بأمر فيليب الرابع ملك فرنسا؛ وقد قرر المجمع إنشاء كراسي أستاذية في اللغات اليونانية والعبرية والآرامية والعربية بجامعات أفينيون وباريس وأكسفورد وبولونيا وسلمنقة. انظر: العقيقي، نجيب، المستشرقون، م.س، ج1، ص152، ج 1، ص115-116.

القديس لويس، وجدّد بناءها الكردينال ريشليو (1626م)، ثم ضمَّها نابليون إلى جامعة باريس (1808م) وكان يتبع لها معهد الآداب حيث اعتنى بالدّراسات الاستشراقية، وأنشئت جامعة ليون (1808م) ، وبها تدرَّس اللّغة العربيّة، والآثار المصريّة، والتمدّن الإسلاميّ(1).

4- تطوّر الاستشراق الفرنسيّ:

من خلال حملة فرنسا أواخر القرن الثامن عشر، وفدت مفاهيم وأفكار أوروبيّة محمَّلة بمعانٍ من الإلحاد، والليبراليّة، والحرّيّة المتفلّتة“...)(2) أفرزها عصر النهضة الأوروبيّة لتثور على الدين كما حملت هجمات المحتلّ الغربيّ في القرن التاسع عشر كثيراً من الأفكار الغربيّة مثل الليبراليّة والعلمانيّة المنتشرة في أوروبا؛ فالمحتلّ هو المحتلّ؛ وإن اختلفت جنسيّته، لكن اتّحدت أفكاره فعمل على إعداد مستشرق معاند للدين، كما عمل على تمهيد الأرض لفكر استشراقيّ علمانيّ ثائر على مسلّمات الدين.

ولقد زرعت حملة فرنسا هذه الأفكار وتلك المصطلحات في العقليّة الشرقيّة؛ وهي إنْ صحّت وصلحت في بيئة فرنسا وأوروبا؛ فهي لا تصلح في بيئة الإسلام وحواضره، أمّا كونها تصلح في الغرب فلأنّ آباء الكنيسة الغربيّة قد تدخّلوا في الشأن العامّ والخاصّ، فساءت العلاقة بينها وبين الدولة بما لها من أسرار كهنوت، كما ساءت علاقتها بالعلم والعلماء، فعصفت بالتجربة العلميّة، وأمّا كونها أفكارًا لا تصلح في حواضر الإسلام؛ فلأنّ الإسلام له رؤية إيجابية للطبيعة والكون والعلوم والحضارة، كما أنّه لا يحمل فكرًا للخاصّة دون العامّة، وإنّما هو فكرٌ واحد واضح بلا غموض أو أسرار أو مصادمة مع الطبيعة والواقع، كما أنّ تبنّي فكرًا مغايرًا من التبعيّة الثقافيّة يدلّ على انهزام حضاريّ في الواقع.

لقد فتحت حملة فرنسا عيون أهل الشرق على تلك المصطلحات التي باتت وأصبحت ذات أريحيّة لديهم، حتّى أطلقت طائفة من أهل الثقافة مقولة أنّ سرّ النبوغ والتفوّق

ص: 47


1- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، ج 1، ص 151-154 باختصار.
2- وغيرها من المصطلحات، وليس هذا مقام الحكم على هذه مصطلحات بقبول أو رفض، لكنها مفاهيم من إفراز عصر نهضة الأوربية التي كانت من خلال المذهب النقدي الذي عمل على نقد الكتاب المقدس، ومن رجاله الراهب الألماني مارتن لوثر (1483-1546)، والفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا (1632-1677م) وغيرهما، فانتقدوا تفسيرات القساوسة، وبدأ ظهور المذهب البروتستانتي، ومن ناحية أخرى بدأ الفكر التجريبي والثورة العلمية في الظهور برعاية من الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650م) والفيلسوف تجريبي الإنجليزي وجون لوك (1632-1704م)، وغيرهما.

يكمن في اتِّباع الغرب وتقليد مناهجه واعتبره أكثرهم الطريق الوحيد للتغلّب على ميراث عصور الخمول ،المتعاقبة وهنا حَدَث انقسام في الفكر الشرقيّ الإصلاحيّ بين طالب لذلك في مفاتيح الثقافة الغربيَّة فقط، أو بين طالب للإصلاح في مفاتيح الثقافة الإسلاميّة، وكلا الطرفين ذميم؛ لأنّ الإسلام لا يرفض أيّ ثقافة موضوعيّة منصِفة، وإنْ صدرت من غير مُسلِم؛ ما استقامت الفكرة، وجاوبت الفطرة لدى الإنسان.

وعلى أيّ حال فقد دخلت أفكارٌ جديدة إلى الشرق الإسلاميّ من خلال حملة نابليون، سواء بقصد من الحملة أو بغير قصد، وسواء رضي أهل الشرق بذلك أو لا، فممّا لا شكّ فيه أنّ الحملة الفرنسيّة كانت عاملًا من أهمّ العوامل المؤثّرة بصورة مباشرة في علاقة الغرب بالشرق، حيث إنّ أهل الشرق رأوا بأعينهم مدى ما بلَغَه الغربُ من تقدّم متعدّد الجوانب؛ سواء في الآليّة العسكريّة، أو التقدّم العلميّ، فضلًا عن مباركة فرنسا وتشجيعها للدراسات الاستشراقيّة؛ لتأكيد رؤية مصالحها الحيويّة في الشرق(1).

وبدأت تلك الأفكار تطلّ برأسها على الشرق من خلال قنوات منها: الاحتلال الغربي والدفع إلى التبعية الثقافيّة، وانتشار التعليم الأجنبي، وإرسال البعثات العلميّة، وانضمام مستشرقين للمجامع العلميّة بحواضر العالم الإسلاميّ.

5- نماذج من المستشرقين الفرنسيّين:

بوستل. ج (2)(151 150م) ,Postel ):وهو من المستشرقين الفرنسييّن الأوائل خدم في مدرسة القديسة بربارة، وتعلّم اللّغات منها العربيّة، وألحقه الملك فرانسوا الأوّل بسفارته في تركيا، وطلب منه شراء المخطوطات العربيّة (1534م) فنفدت جميع ثروته؛ لأنّه اشترى منها لنفسه ما اشتراه للملك، ثمّ عيّنه أستاذا للعربيّة حيث تخرّج على يده طلائع من المستشرقين الأوروبييّن، ثمّ ساح في بلاد المسلمين، وأعجب بالإسلام،

ص: 48


1- العجيب أنّ دعاة التحرّر في أوروبا كانجلترا وفرنسا على سبيل المثال - قبل ظهور أمريكا - وقع فيما بينها صراع وتسابق على بلوغ امتياز أجنبي في الشرق، خاصة مصر في منطقة القناة، ومساعي فرنسا لذلك، فكان فكرة الحرية لها مفهوم عنصري يحمل فكر المحتل الغاصب للأرض والمقدرات
2- وقيل ولد .(1505) انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص171-172؛ بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، ط3، بیروت، دار العلم للملاين 1993، ص135-138.

ثمّ عاد إلى فرنسا وعُيِّن مدرسًا للرياضيّات في جامعة باريس (1551م)، وظهرت له آثار علميّة؛ منها : توافق القرآن والإنجيل (1543م)، وعادات وشريعة المسلمين بواتيه 1560).

فاتيه.ب (1667-1613م) ( Vattier) وهو ومن المستشرقين الأوائل، تعلّم العربيّة وبرع فيها، ونقل الكثير منها إلى الفرنسيّة، وأكثر آثاره العلميّة في التاريخ، وقد ترجم "عجائب المقدور في أخبار تيمور" لابن عربشاه (باريس (1636م)، و"تاريخ ابن مكين".

هربلو.ب 1695 1635م ) (Herbelot,B) ولد في باريس وتعلّم اللّغات الشرقيّة في جامعاتها، واقتنى للمكتبة الوطنيّة مجموعة مخطوطات نفيسة عربيّة وفارسيّة وتركيّة ومن آثاره:"دائرة معارف" في علوم الشرقييّن وتاريخهم وآدابهم وأديانهم ونظمهم وعاداتهم وأساطيرهم، لكنّه وقع في أخطاء ومتناقضات.

فرانسوا بتي دي لاكروي (1651712م) (Petis de La Croix F): درس في قسطنطينيّة وأوفده الملك لرحلات في الشرق، وخلف أباه في أمانة سرّ الملك لويس الرابع عشر لترجمة اللّغات الشرقية، فنشر"تاريخ جنكيز خان" (1710م)، وترجم "تاريخ سلطان العجم“ (1707م)، و"رسائل الانتقاد" للحاج محمود أفندي (1735م)، وغيرها.

أنطوان جالان (1715-1646م ) (Galland): درس العربية في معهد فرنسا، وصحب سفير فرنسا في تركيا (1670)، ولمّا عاد إلى فرنسا انتدب مدرّسًا للعربيّة في معهد فرنسا (1709م)، وأنتخب عضوًا في مجامع علميّة كثيرة، ولقب بأثريّ الملك، ومن آثاره: "كلمات مأثورة عن الشرقيين"(باريس 1694م) ، وترجم "أمثال لقمان“ و”ألف ليلة وليلة" (1704-1708م)، وله أبحاث في النقود العربية نشرت في صحيفة العلماء.

الراهب الفرنسيّ ( جربير) (999-1003): وهو من رهبان البندكت الذي تعلّم في مدارس ،ریبول، وأشبيليّة، وقرطبة، ثمّ رُسِم حبرًا أعظم باسم سلفستر الثاني، حيث طلبت فرنسا الثقافة العربيّة في مدارس الأندلس وصقلية، ثمّ أنشأت لها منذ القرن الثاني عشر مدرسة ريمس (Reims) بأمر من البابا سلفستر الثاني(1).

ص: 49


1- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 120 ، ج 1، ص 151 بدوي عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 178.

دي جين (1800 - 1721م) (Guignes,de) و من آثاره:"تاريخ التتر والمغول والترك نقلًا عن المؤلّفين العرب" باريس (1756م.

هربن (1806(1783م) (Herbin) وقد تخرّج من مدرسة اللّغات الشرقيّة، ومن آثاره: "أصول العربية العامّة"، وهو مصنف جامع (باريس 1803م).

لانجليس. ل (1824-1763م) (Langles) كان جنديًّا، ثمّ تحوّل إلى الأدب والاستشراق، وأخذ العربية على برسفال، واعتنى به "دي ساسي، وعُيّن أستاذًا في مدرسة اللّغات الشرقيّة وله اعتناء بالتاريخ ومن آثاره: تحقيق ترجمة (تاريخ تيمور لنك) (1787م)، وقسم من (نشق الأزهار في عجائب الأمصار) لابن إياس، وغيره.

جوردن.أ (1828-1788م) :(Jourdain,A) تخرّج على يد دي ساسي، ومن آثاره:"تاريخ البرامكة“، وترجمة" منتخبات من حروب الفرنج في بلاد الشام".

کاترمير (1852-1782م) (Quatremere, Et-Marc): أخذ اللغات الشرقيّة على"دي ساسي" وغيره من العلماء، وتخرّج على يده كثيرون، وأدهش العلماء بدقّته في ما نشره من تحقيقات وتصنيفات عن العرب قبل الإسلام وبعده ، ولمّا تُوفّي دي ساسي كان كاترمير إمام الاستشراق الفرنسيّ؛ وله فيه تلاميذ، ومن آثاره:”ترجمة الميداني ومصنّفاته"(باريس (1828م)، و"ترجمة عبد الله بن الزبير"(باريس (1832م)، و"السلوك لمعرفة الملوك للمقريزي"، و"تقويم البلدان لأبي الفداء" (1840م)، و"كتاب الأغاني"، وكذا "الفاطميون“ (1837م)، و"مقدمة ابن خلدون"، وغيرها من المصنفات.

مونك. س (1867-1805م) (Munk,s): وهو ألمانيّ الأصل فرنسيّ الإقامة والشهرة والوفاة تعلّم العربيّة في ألمانيا على فرايتاج، ثمّ رحل إلى باريس فأتقنها على "دي ساسي“ (1828م) وكاترمير، وكان يتقن الألمانيّة والفرنسيّة والعبريّة والعربيّة والفارسيّة ،والسنسكريتيّة، ثمّ قدم مصر بصحبة الوزير كريمييه فجمع مخطوطات كثيرة؛ منها:"تاريخ الهند"للبيروني(1).

ص: 50


1- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 1، ص 191 باختصار؛ الطناحي، محمود محمد، مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، م.س، ص 234-237.

الأب رينودو. ب (1720-1648م) (Renaudot..E)؛ وهو راهب درس اللغات الشرقيّة.

الأب جاك بارتيلمي (1795-1716م) (Barthelemy,p.j.j)؛ وهو راهب اشتغل بآثار

الفينيقيين، ونقود الإسلام.

البارون سلفستر دي ساسي 1838 -1758م) (Sacy,S.de)(1): ولد في باريس، وبدأ درسه بالمنزل، ثمّ التحق بمدرسة القديس مور فلازم الأب بارتارو، الذي حبَّب إليه العربّية، وكان اهتمام العلماء في عصره بضبط ترجمات الكتب المقدّسة ومقابلتها على اللغات الشرقيّة، وعيّنه الملك (1778م) عضوًا في جمعيّة نشر كنوز المخطوطات الشرقيّة في مكتبة باريس الوطنيّة، وكان من طليعة المستشرقين العالميّين لمّا بلغ عمره (32) سنة، ولمّا اندلعت الثورة انزوى بقريته لكتابة أبحاثه ؛ ومنها :"الدروز وديانتهم في لبنان“ ولمّا خمدت الثورة انتدب ساسي أستاذًا للعربيّة في مدرسة اللّغات الشرقية، فألّف كتاب "التحفة السنيّة في علم العربيّة"، نشره سنة (1799م)، ثمّ أعاد نشره بتوسّع وتنقيح سنة (1804م)، فتهافت عليه المستشرقون وفتحت حكومة الثورة المجامع العلميّة وأعادت دي ساسي مع اشتراط ،الإخلاص، فاستعفى فأعفي، وعينته أستاذًا في معهد فرنسا (1806م)، ولقب بالبارون بأمر إمبراطوريّ (1813م) جزاءَ خدماته وأخرج جزأين من ديانة الدروز، ثمّ مرض وتوفّي، وعبّر عنه الطناحي بأنه "يعتبر مدرسة كبرى في الاستشراق تعليمًا، وتصنيفًا، وترجمةً وتحقيقًا، ونشرًا"(2).

البارون دي ديما (1862-1796م) (Dumast Baron Guerrier de): درس في باريس وتعلّم العربيّة، والتحق بالجيش، ثمّ استقال وبحث في الاستشراق. ومن آثاره: "تاريخ أسبانيا" (1836م)، و "حق فرنسا في مسألة الشرق" (1847م)، و"أصل اللغات الشرقية“ (1862م)، وبعض أبحاث في دين الشرق، ونقل عن التوراة العربيّة أناشيد داود وترجمها إلى الفرنسيّة(3)، وغيرهم من المستشرقين.

ص: 51


1- سلفستر دي ساسي : شيخ المستشرقين الفرنسيين عين عضوًا في أكاديمية النقوش والآداب سنة 1785 ثم تبين له أن يهتم باللغة العربية لدراسة الكتاب المقدس وتاريخ الأديان، كان أستاذ اللغة العربية بالمكتبة الوطنية، ثم عيّن أستاذ اللغة العبرية بالكوليج دي فرانس سنة (1799). انظر: بدوي، عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص 334-339.
2- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 183 184 الطناحي، محمود محمد، مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، م.س، ص 234-237.
3- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 188-189.

كما اشترك مستشرقون فرنسيّون في كتابة المقالات في (دائرة المعارف الإسلاميّة) منهم : هيار (1927-1854م ، Heart, C، والبارون كارا دي فو .(Carra de Vaux, Bon) (ولد) 1867م)، ومارسه (18741959م,Marcais) وكور (Cour)، وكذلك ليفي -بروفنسال 1959-1894م Levi-Provengal,E) وفييت (Wiet) (ولد 1887م) وجود فروا - ديمومبين (1957-1962م) (Demombynes,M-Goudefroy)(1).

وقد شهد القرن العشرين ظهور شخصيّات استشراقيّة كبيرة في فرنسا:أمثال: لويس ماسينيون (Massignon )(2)، وهو أكبرهم وأستاذهم جميعًا بشكل مباشر، أو غير مباشر وكذلك ريجيس، بلاشير(3) وكلود كاهين (Cahen,Cl) (ولد 1909م)، وهنري لاوست (Laoust ,H) (ولد 1905م)، وشارل بيلا (Pellat,Ch) (ولد 1914م)، ومكسيم رودنسون (Rodinson,M) ( ولد سنة 1915م)(4)، ويبقى من يأتي من بعدهم جيلاً من بعد جيلٍ يتوارثون دراسة الشرق ويواصلون المسيرة.

أكتفي بهؤلاء المستشرقين الفرنسيين، وسأبيّن جانبًا مما يُستَفاد منها ضمن نقاط أهمّها ما يلي:

أولًا: تمتدّ جذور مدرسة الاستشراق الفرنسيّ حيث طلبت الثقافة العربية من مدارس الأندلس وصقلية، ومدارس أديرة الرهبان على مختلف اتّجاهات الرهبنة، وكانت "نقابة الأساتذة"(5) نواة جامعة باريس (1170م) معنية بالدراسات الشرقيّة، وأقرّ البابا أينوسنت الثالث قوانينها (1210م)، وظلّت على مدى ثلاثة قرون رائدة التفكير الحرّ في أوروبا كلّها.

ثانيًا: بدأ الاستشراق الفرنسيّ الحقيقيّ من قِبَل الحملة الفرنسيّة، وكانت الحملة امتدادًا لجهود من سبق من المستشرقين؛ فالحملة بمثابة عمل عسكريّ قد استعان

ص: 52


1- م . ن ، ج 1، ص 284225 ج 3، ص 1107.
2- انظر بدوي عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص529-535
3- انظر من ص 127 العقيقي نجيب المستشرقون م. س ج 1، ص 155؛ الزركلي، الأعلام، م.س، ج 2، ص 72.
4- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 319-328
5- نقابة الأساتذة نمت جامعة باريس في القرون الوسطى آخر القرن ال- 12 حول كاتدرائية نوتردام» بوصفها مماثلة لغيرها من النقابات مثل: «نقابة التجار ونقابة «الحرفيين فكان يطلق على جامعة باريس اسم «نقابة السادة العلماء»؛ فهذا مصطلح أولي أطلق في القرون الوسطى على الجامعة اللاتينية.

بأعمال الاستشراق في مجالات عديدة؛ كالآثار والترجمة واقتناء المخطوطات - ولا شكّ أنّ بها مخطوطات قرآنيّة - وبذلك يكون من الممكن اعتبار الحملة الفرنسيّة ذات أبعاد فكرية وثقافيّة، فضلًا عن طابعها العسكريّ الاستعماريّ.

ثالثًا:سهولة استعانة بونابرت بالمستشرقين والمترجمين والعلماء؛ ومن هؤلاء: آباء كنسيّين، وبذلك يكون من الممكن اعتبار الحملة الفرنسيّة ذات بُعدٍ تبشيريّ، حيث توحّد فيها هدف (المستشرق والمحتلّ والمبشّر) في صفٍّ واحد.

رابعًا ضرورة التنبيه على تنوّع دراسات هؤلاء المستشرقين بين سائر العلوم والفنون ،المختلفة، فضلًا عن دراسة الإسلام ومصادره، وهو محطّ الفائدة والغرض الأساس للدراسة.

6- تقسيم المستشرقين الفرنسيين :

يمكن تقسيم المستشرقين الفرنسيِّين المعاصرين باعتباراتٍ عديدة: منها اعتبار تخصّص المستشرق في القرآن الكريم والاهتمام به ومنها:عموم درسه للعلوم ومنها:مراعاته المنهجيّة العلميّة والموضوعيّة في درسه أو تحكّم الهوى للمذهب والتعصّب أو بأيّ اعتبار آخر إلى فئتين؛ هما:

الفئة الأولى: مستشرقون لم تقتصر أعمالهم على الدراسات القرآنيّة فقط، ولم يتخصَّصوا في مجال القرآن الكريم، وإنّما كانت لهم بعض الأعمال والمشاركات المحدودة في مجال الدراسات القرآنيّة؛ أمثال: (دينيس غريل) المتخصِّص في مجال التصوُّف، الذي كانت له بعض الدراسات القرآنيَّة؛ تأليفًا ونشرًا، وكذلك (دومينيك أورفوي)؛ وزوجه

(ماري تيريز)، وغيرهم.

الفئة الثانية: هم مستشرقون غلب على اهتمامهم هذا التخصُّص(1)، وأهمّ من يمثِّلها من المستشرقين الفرنسيِّين الأحياء من يلي:

المستشرق الفرنسي دانييل جيماري Daniel Garet) ولد سنة (1933م)، وتخرِّج

ص: 53


1- الاستشراق الفرنسي المعاصر والدراسات القرآنية»، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر (مجلة فصلية متخصصة، تعنى بالاستشراق المعاصر للقرآن الكريم)، تصدر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد الثاني، ربيع 2019، ص92.

من المدرسة الوطنيَّة في بكالوريوس اللُّغات الشرقيَّة الحيَّة في باريس، وابتدأ حياته في مجال البحث عام (1966م) حين التحق بالمركز الوطنيّ للبحث العلميّ (CNRS) في باريس، ومنه إلى المعهد الفرنسيّ للدراسات الأناضوليَّة في إسطنبول التركيَّة، وبعد حصوله على الدكتوراه عام (1981م) في موضوع «نظريَّة الكسب في علم الكلام الإسلاميّ» أصبح أستاذًا فى المدرسة التطبيقيَّة للدراسات العليا (EPHE) في باريس إلى تقاعد عام 1998م، ثمّ ظهرت علاقة جيماري بالقرآن حينما اختار أن يُفرّغ نفسه سنوات عديدة للتفسير المذهبيّ، فتخصَّص في تفسير المعتزلة، وأهمّ كتبه هو كتاب:«قراءة معتزليَّة للقرآن: تفسير أبي علي الجبائي»(1).

المستشرق الفرنسي كلود جيليو Claude Gilliot) ولد سنة (1940م)، عمل بعد تخرُّجه من المدرسة العليا (ENS) فترة في التدريس الثانويّ؛ ليلتحق بعد ذلك بجامعة باريس الثالثة، حيث حصل على الماجستير سنة (1982م)، ثمّ الدكتوراه (1987م ) ؛ ليصبح أستاذًا في جامعة أكس (AIX) قرب مرسيليا جنوب فرنسا؛ من سنة (1989م) إلى سن التقاعد سنة (2006م)، وقد أشرف على عدد من طلبة الدراسات العليا من فرنسا، والعالم الإسلاميّ المتخصِّصين في تفسير القرآن وفي غيره ويعتبر كلود جيليو متفرِّغًا للدراسات القرآنيَّة، ويعدُّ أغزر المستشرقين الأحياء كتابة؛ إذ تربو أبحاثه المنشورة على الخمسين، وجلّها في الدوريَّات وأعمال المؤتمرات بالفرنسيَّة والإنكليزيَّة، والألمانيَّة. ولعلَّ أهمّ ما طبع كتاباته عن القرآن شدَّة اهتمامه بأمَّهات التفاسير، فقد كتب عن تفاسير يحيى بن سلام، وهود بن محكم، وابن أبي زمنين، والطبريّ وغيرهم.

وأبحاثه المنشورة لا تخلو من تحامل مقيت وحقد ظاهر ، وهو في ذلك صورة مجسّدة للاستشراق المسيحيّ الفرنسيّ المتعصِّب؛ إذ إنَّه في الأصل راهب بدرجة (قسِّيس دومنيكانيّ)، ودراساته تكشف عن شدَّة تعصُّبه؛ منها: دراسة نشرها بعنوان:«الشخصيَّة الأسطوريّة لابن عبّاس»، وكغيره من المستشرقين، ظلَّ جيليو باحثًا في (معهد الأبحاث والدراسات حول العالمين العربيّ والإسلاميّ) (IREMAM) ومسؤول تحرير مجلَّة أرابيكا (ARABICA)

ص: 54


1- الاستشراق الفرنسي المعاصر والدراسات القرآنية» مجلة القرآن والاستشراق المعاصر (مجلة فصلية متخصصة، تعنى بالاستشراق المعاصر للقرآن الكريم)، تصور عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد الثاني، ربيع 2019، ص92-93.

السنوات، ومشرفًا على مجلَّة (نشرة الحوليَّات الإسلاميَّة)، وعضوًا في لجنة الإشراف على موسوعة «دائرة معارف القرآن ليدن» وبحكم تخصُّصه فقد اضطرّ أستاذه المشرف (أركون) أن يتخلُّ له عن تدريس مقرّرات التفسير في جامعة باريس الثالثة إلى أن أحُيل أركون للتقاعد سنة (1993م)، وكما ظلَّ جيليو حريصًا على المؤتمرات المتخصِّصة بالغرب، حرص أيضًا على مواكبة معارض الكتب، خاصَّة معرض القاهرة للكتاب؛ حيث كان ينزل ضيفًا على «معهد الرهبان الدومنيكان للأبحاث الشرقيَّة» (IDEO) في منطقة العباسيَّة، ومجلَّة هذا المعهد (MIDEO) حافلة بمتابعاته لجديد المنشورات المتَّصلة بعلم التفسير(1).

بعد هذا السرد الأسماء المستشرقين تبدو لنا علاقة المستشرقين بالقرآن؛ ترجمةً وتفسيرًا وتحليلًا وتحقيقًا لكتب التراث المتعلّق بالقرآن الكريم وتفسيره وتاريخ تدوينه، فقد أفرز الدرس الاستشراقيّ ترجمات عدّة للقرآن باللغة الفرنسيّة كلّها لها وعليها، وعشرات الدراسات حول تفسير القرآن كما لا يخلو من علاقة بينه وبين خدمة أغراض التبشير حتى وقتنا الراهن وهذا يدلّ على ندرة التحلّي بالمنهجيّة العلميّة في كثير من هذه الدراسات.

7- دعامات البيئة التعليمية للدراسات القرآنية في فرنسا:

دعامات البيئة التعليميَّة للدراسات القرآنيَّة في فرنسا أهمّها ثلاث دعامات أساسيّة؛ هي: (التدريب والبحث والتدريس)(2)، تفصيلها في ما يلي:

أولًا: التدريب : بعد مرحلة الباكالوريوس يختار (المستعرب) الفرنسيّ مجالًا معيَّنًا ليقضي فيه جزءًا من حياته الوظيفيَّة قد يكون ذلك عن طريق العمل في تدريس العربيَّة، أو العمل في وظيفة لدى خزانة متخصِّصة في الدراسات الشرقيَّة؛ كخزانة جامعة السوربون، أو في القسم العربيّ في المكتبة الوطنيَّة الفرنسيّة، أو العمل حتّى في الأقسام القنصليَّة لوزارة الخارجيَّة في سفارات فرنسا في إحدى الدول العربيّة. وتطول هذه الفترة أو تقصر؛ تبعًا لهمَّة المعنيِّ بالأمر، وسرعة اكتسابه للمعرفة في مجاله.

ص: 55


1- الاستشراق الفرنسي المعاصر والدراسات القرآنية»، م.س، ص 93.
2- م.ن، ص95-97

ثانيًا: البحث: وهي المرحلة الثانية يلتحق فيها بأحد أقسام الدراسات العليا، والتدريس فيها غير متخصِّص في القرآن ،وحده، أو الفقه أو غيرهما؛ فتكون الدراسات الشرقيَّة في مرحلة الماجستير مختلطة، والتخصُّص يبتدئ في رسالة التخرُّج، وتجدر الإشارة إلى أنَّ رسالة الماجستير تسمَّى في القانون الفرنسيّ المنظّم للجامعات «رسالة التدريب على التهيُّؤ للبحث»، وترجمتها بالفرنسيّة (d'Initiation a la Recherche Mémoire)، فالذي يُنهي مرحلة الماجستير بنجاح هو في أفضل الأحوال (مشروع باحث)، ولن يكون باحثًا إلَّا بالترقّي إلى مرحلة الدكتوراه بنجاح، وبعد اختيار التخصُّص توفّر«البيئة الأكاديميّة الفرنسيّة» لهذا الباحث مجالًا واسعًا للتدريب عبر شبكة كبيرة من المؤسَّسات البحثيّة في باريس، أو في مختلف الأقاليم الفرنسيَّة، أو حتَّى في ما وراء البحار على أنَّه لا يمكن إنهاء هذه المرحلة دون الانخراط الفعليّ العمليّ في أنشطة الجمعيَّات الاستشراقيَّة داخل فرنسا وخارجها؛ لأنَّ هذه الجمعيَّات توفّر للمنخرطين خدمات كثيرة؛ خاصَّة في مجال تتبُّع تطوُّر البحث ضمن التخصُّص ومواكبته.

ثالثًا: التدريس: يختار الباحث خلال الفترة السابقة موضوع الدكتوراه، ويشتغل عليه داخل فرنسا، أو من خارجها على أساس أنه حين يناقش يجب أن يكون قد شارك في المؤتمرات مع الإسهام في النشر الأكاديميّ، وتختلف الأقسام الجامعيَّة الفرنسيَّة في الشروط التي يطلبها كلُّ واحد منها للانضمام إلى التدريس فيه؛ فقسم الدراسات الشرقيَّة في جامعة باريس الثامنة ليس فيه شروط صارمة، لكنَّ جامعة باريس الرابعة على العكس تمامًا. وغالبًا ما يحرص حامل الدكتوراه على منصب يمكن فيه أن يؤسِّس

لمدرسة في تخصُّصه.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ «التدريس الجامعيّ »ليس مكانة علميَّة؛ بل هو أحد شروط الترقّي إلى المعاهد البحثيَّة الكبرى؛ مثل: الأكاديميَّات المتخصِّصة؛ وذلك عند الاقتراب من سنِّ التقاعد أو بلوغه، ومن أشهر هذه المعاهد في باريس:(معهد فرنسا والكوليج دی،فرانس، وأكاديميَّة النقوش والآداب الرفيعة)، ويكون الانتساب لعضويَّتها بانتخاب الأعضاء القدامى للعضو الجديد وليس بالتزكية أو التعيين كما هو الحال في غيرها من الأكاديميَّات لأمن المستشرق الفرنسيّ المقتدر يدخل للتدريس في الجامعة في سنّ ال-(40)،

ص: 56

ثمّ يبلغ سن التقاعد في ال_ (65)؛ ليتفرَّغ إن طال عمره للبحث الأكاديميّ.

وإذا لم يمرّ من جميع المراحل السالفة فلا مكانة له حتّى لو مارس التدريس الجامعيّ وارتقى للأستاذية؛ فعلى سبيل المثال المستشرق جاك بيرك مات في (1995م)، ولم يدخل هذه الأكاديميَّات على الرغم من أنَّه عُيِّن في مجمع اللغة العربيَّة في القاهرة، وكان عضوًا كاملَ العضويَّة فيه، أمَّا في فرنسا فقد قنع بكرسي «معهد العالم العربيّ» لم يكن مؤسَّسة أكاديميَّة وإنما هو مؤسَّسة ثقافيَّة تسير من قِبَل السفارات العربيَّة مع وزارة الخارجيَّة الفرنسية(1).

إنّ من أعمق مدارس الاستشراق في التاريخ هي المدرسة الفرنسيَّة، فقد ظهرت مدرسة الاستشراق الفرنسي بعمق في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب منذ الحروب الصليبية، وحتى الحملة الفرنسية في باكورة القرن التاسع عشر ، وقد حملت الحملة الفرنسية إيجابيات ربّما تبدو في دخول فنّ الطباعة إلى الشرق العربي والإسلامي، كما أفرزت الكثير من السلبيات فأحيت الموات من الحروب الصليبيَّة وإن تظاهر قادتها بمظاهر إسلاميّة، وكانت طبيعة تلك المدرسة ربّما تستمدّ من سمات الشخصيّة الفرنسيّة.

ص: 57


1- الاستشراق الفرنسي المعاصر والدراسات القرآنية»، م.س.

ص: 58

المبحث الثالث:مدرسة الاستشراق الألمانيّ

1.تعريف بمدرسة الاستشراق الألماني:

مدرسة الاستشراق الألمانيّ (1)هي إحدى مدارس الاستشراق الغربيّ؛ حيث يعود اتّصال ألمانيا بالشرق إلى الحملة الصليبيّة الثانية (1147-1149م)، وعودة حجّاجها من الأراضي المقدّسة، ووصفهم لها ونقلهم عنها شيئًا من حضارتها، وقيام الرهبان الألمان بالترجمة عن العربيّة في الأندلس، ومعظم الترجمات إلى اللاتينيّة لغة العلم يومذاك، وتعصّب فردريك الثاني(2) ملك صقلية، ثمّ إمبراطور ألمانيا للإسلام على الكنيسة، حتى مارتن لوثر (1546-1483م) قد انفصل عن الكنيسة سنة (1521م)، وأنكر على البابا رئيسها سلطانه ونادى بالإصلاح.

كما أنّ فردريك الثالث(3) قد اعتنق البروتستانيّة سنة (1560م)(4)، وشاركت ألمانيا بقيادة الملك فردريك بارباروسا ملك ألمانيا(5) في الحروب الصليبية على العالم الإسلامي،

ص: 59


1- ألمانيا: قطر كبير يقع في وسط أوربا، كانت ألمانيا مكونة من ولايات مستقلة أقواها بروسيا تحت قيادة بسمارك، وحاول حكام ألمانيا بعد ذلك من التوسع فيما وراء البحار مما سبب قيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918) حتى حاقت بهزيمة ألمانيا، وفي سنة 1933 تمكن أدلف هتلر من تأسيس النظام النازي، وكان يعتقد تفوق العرق الآري، وله ميول عسكرية مما أشعل الحرب العالمية الثانية (1939-1945) مما أدى لهزيمة ألمانيا وانقسامها إلى قسمين بين (1949-1990) ألمانيا الشرقية الديمقراطية، وألمانيا الغربية الفيدرالية، وفي أكتوبر 1990 تم توحيد ألمانيا تحت جمهوري ألمانيا الفيدرالية (انظر: نخبة من العلماء والخبراء الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج2، ص604-605).
2- فردريك الثاني: إمبراطور ألمانيا بعد وفاة أبيه هنري السادس (ت: 1197م) وتوج على ألمانيا تميز عهده بالصراع مع البابوية من أجل السيطرة على إيطاليا، كما قاد الحملة الصليبية السادسة (28) - 1229م)، وتوج نفسه ملكا على القدس عام (1229م) وحكم مملكة صقلية كما أسس جامعة نابولي 1224م. (انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 110؛ ج 2، ص 678).
3- فردريك الثالث: اعتنق البروتستانتية (1560م)، وأمر تريميليوس وتلميذه يونيوس من جامعة هايدلبرج بعمل ترجمات للتوراة على أساس سرياني وعربي بين (1569-1578م)، واتجه بعض العلماء إلى الكتاب المقدس لتجريح ترجمات التوراة وهي أساسه وجدال الكنيسة الكاثوليكية فيه. (انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 1، ص 115؛ ج 2، ص 678.
4- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 678.
5- نخبة من العلماء والخبراء الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج9، ص 163.

لكن لم تكن مشاركتها بصورة كبيرة مثل دول أوروبية أخرى. وتُعدّ الحروب الصليبية أهمّ عناصر علاقة الغرب بالعالم العربيّ والإسلاميّ.

2- جهود الاستشراق الألماني:

في مطلع القرنين السادس والسابع عشر قام يعقوب كريستمان (1554-1613م) بوضع فهرس المخطوطات الشرقيّة البوستل، وبذلك وجدت العبريّة والكلدانيّة والعربيّة والسريانيّة طريقها إلى جامعات ألمانيا؛ ما أتاح دراسة العربيّة في جامعة هامبورغ، كما اقتنی یوهان كريستوف فولف (1683-1739م) مكتبة للمخطوطات العربيّة(1)، وهذا يدلّ على قدم اهتمام المستشرق الألمانيّ بالمخطوط العربيّ.

وفي مطلع القرن الثامن عشر تعلّم الألمان اللغات الشرقيّة في هولندا، ولمّا رجعوا إلى ألمانيا وعلَّموها في جامعاتها، أخرجوها من نطاق التوراة التي ضرب حولها ردحًا من الزمن إلى ميدان الثقافة العامّة، كما اقتبست ألمانيا من مدرسة اللغات الشرقيّة في فيينا (1753م)، حيث اتّصلت ألمانيا بالشرق اتّصال سياسة وتجارة، كما أنشأت على غرارها مدرسة اللغات الشرقيّة في برلين (1887م)، وجمعت مخطوطاتها في مكتباتها(2).

وفي مطلع القرن التاسع عشر تقدّمت الدراسات الاستشراقيّة في فرنسا بفضل العلّامة دي ساسي، أستاذ العربيّة والفارسيّة في مدرسة اللغات الشرقيّة في باريس، فقصده الألمان؛ كما قصده غيرهم، وتتلمذوا عليه وتأثَّروا به.

ومن أشهر تلامذة دي ساسي من المستشرقين الألمان:

- المستشرق اللغوي إيفالد (18031875م) (Ewald,H) الذي بدأ دراساته الشرقيّة في ألمانيا، ثمّ قصد دي ساسي مع فلايشر، فأخذ عنه وتخرّج على يديه في العربيّة فلمّا رجع إلى ألمانيا أرسى الأسس العلميّة فيها، ومن آثاره: "فتوح أرمينيا وبلاد ما بين النهرين للواقدي، متنًا وترجمةً (جوتنجين (1827م)؛ و" فهرس المخطوطات الشرقيّة“

ص: 60


1- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 678-679.
2- م. ن.

(جوتنجين)، و"قواعد اللغة العربيّة بالألمانيّة"، وعمل أستاذًا للغات الشرقيّة في جامعة جوتنجين، فعدّ كلّ منهما مؤسّسًا للدراسات العربيّة في ألمانيا(1).

. المستشرق (هاینریخ لبرخت فلايشر) (1888-1801م) (Fleischer HL) الذي تخرّج من جامعة ليبزيج، حيث درس فيها اللاهوت، كما ألمًّ بالشرق إلمامة حبّبته إليه وصار أستاذًا للغات الشرقيّة في جامعة ليبزيج، ونشر بالعربيّة تاريخ أبي الفداء“مع ترجمة ألمانيّة، و"فهرست المخطوطات الشرقيّة المحفوظة في خزانة درسدن“، وأسَّس الجمعيّة الشرقيّة الألمانيّة (1844م)(2).

وكان لكلاهما (إيفالد وفلايشر) مدخل لغويّ لدراسة القرآن وللمدخل اللغوي للقرآن أهمّيّته في الدرس الاستشراقيّ الألمانيّ، وهو من أخطر المداخل الاستشراقيّة للدراسات القرآنيّة.

3- كراسي الدراسات الاستشراقية :

لقد أنشأت كراسي علميّة عدّة للغات الشرقية في جامعات ألمانية في وقت مبكر؛

Wurzburg مثل: جامعة هايدلبرج (1386م) (Heidelberg) ، وفور بورج (1402) (burg

1582م)، وليبزيج (1409م) ، وروستوك (1419م) (Rostock)، جرايفسفالد (Greifswald) (1456م)، وميونيخ (1472) (Munchen ، ثمّ 1826م ، وماينس (1476، ثم 1946م)، وتوبنجين (1477م) (Tubingen) وهاله (1502) Halle ثم 1694م)، وماربورج (1527م) (Mabburg) ، وجييسن (1607م) (Giessen) وجوتنجين 1736م) (Gottingen)، وبون (1786) (Bonn ، ثمّ (1818م، وبرلين (1809م) (Berlin) و مونستر (Munster 1780) ، ثمّ 1902م)، كما أسّس زاخاو (Sacha,E) معهد اللّغات الشرقيّة سنة (1887م) في برلين، ثمّ حلّ محلّه معهد اللّغات الشرقية في بون (1960م)، فتابع رسالته، وقرّر مجلس العلوم الألمانيّ إنشاء معهد آخر لمعاونته فيها (1961م)(3).

ص: 61


1- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 703؛ ج 2، ص 683؛ ج2، ص679.
2- انظر العقيقي نجيب المستشرقون م.س ،ج 2، ص 706 ؛ الزركلي، الأعلام، م.س، ج8،
3- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 679-680

وفي ألمانيا 7000 مكتبة ملحقة بالبلديات، و 11000 مكتبة تابعة للكنائس، وتعتبر مكتبة برلين الوطنية ومكتبات جامعات جوتنجين وهايدلبرج وماينس من أغنى المكتبات بالمخطوطات الشرقيّة، ولا سيّما العربيّة(1).

وتعدّ(جمعية المستشرقين الألمان) من أبرز الجمعيّات الاستشراقيّة في العالم، وقد أسّسها المستشرق فلايشر سنة (1845م) في مدينة هاله على غرار الجمعيّتين الآسيويّتين الفرنسيّة والبريطانيّة، وما زالت إلى اليوم تواصل نشاطها في جمع شمل المستشرقين الألمان، وإقامة مؤتمرات دوريّة ودراسة التراث العربيّ ونشر كنوزه وانتقل مقرّها بعد الحرب العالميّة الثانية سنة (1948م) من مدينة هاله إلى مدينة ماينس لكنّها عادت بعد توحيد ألمانيا إلى مقرّها القديم في مدينة هاله، وهذه الجمعيّة تنشر مجلّة مهمّة تُعنى بالدراسات الشرقيّة(2).

وبناء على ذلك، فهذه الكلّيّات والمعاهد والجمعيّات الاستشراقيّة، وتلك المكتبات دعمت عمل الاستشراق على مدى القرون الماضيّة، وقد تأكّد ذلك من خلال دراسات متأنّية وخطى ممنهجة.

3- نماذج من المستشرقين الألمان:

يذكر المستشرق ألبرت ديتريش أنّ أوّل محاولة في ألمانيا لتدريس اللغة العربيّة كانت من جهة يعقوب كريستمان (1554-1613م)(3)، وقد كان لعدد من المستشرقين الألمان أدوارًا ملموسة سوف نتعرف على بعضهم لندرك تواصل جهود المدرسة الاستشراقيّة الألمانية في دراسة علوم الشرق عامّة، والقرآن ،خاصّة، ومنهم من يلي:

* ميخائيليس 1790-1717م) (Michaelis,J).

* جوستاف تيخسن (1815 - 1734م) (Tychsen,O.G).

ص: 62


1- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 681.
2- انظر العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج2، ص 687.
3- المنجد، صلاح الدين المستشرقون الألمان، ط1، بيروت، دار الكتاب الجديد 1978، ص 153-162 انظر: العقيقي، نجيب، المستشرقون م.س، ج2، ص 678.

* سبون 1824-1755م) .(Sbohn)

* مکسیمیلیان ها بیخت (1839 1775) (Habicht,C.M).

* كوزيجارتن (1850 - 1792) Kosegarten,J.GLم).

* إبراهام وليم جوينبول (1887 - 1833) (Juynboll, A.W.Thم).

* دي يونج (1890-1832) (Jong,P.deم).

* فاندن برج (Vanden berg,L.W.E) (ولد سنة 1845م).

* فان فلوتن (1903(166) (Vloten, G.Vanم).

* إدوارد فيلمار (1868- 18000) (Vilmar,Eم).

* أرنولد (1849-1820) (Arnold,Frم).

* فلوجيل (1870-1802) (Flugel,Gم).

* مرقس يوسف موللر (1874 - 1809)(Muller,M.Jم).

* سيمون فايل (1889-1808) (Weil,sم).

* هیل (pHill,R.L) (1875-1950).

* رانکه (1953-1878) (RankeH )(1).

* كارل بروكلمان (1956-186 ,Brockelmann): له إسهامات كثيرة في التأليف والتحقيق؛ أهمّها كتابه الأشهر في الأوساط العربيّة والأجنبيّة "تاريخ الأدب العربي"(2)، والمستشرق فلهوزن (1918-1844م) (Wellhausen.J)؛ وهو مستشرق ألماني مسيحيّ مؤرّخ لليهوديّة وصدر الإسلام من مؤلّفاته: "تحقيق تاريخ

ص: 63


1- انظر العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج2، ص 691-810، باختصار شدید.
2- انظر م.ن، ج 2، ص 783777 بدوي، عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص 98-105 - المنجد صلاح الدين المستشرقون الألمان م.س، ص 153-162.

الطبري" (1887م) ، و"بقايا الوثنية العربيّة“، و”المدينة قبل الإسلام، وتنظيم محمد للجماعة الإسلامية في المدينة"، وعن دستور المدينة أيّام النبي (1889م)، ورسائل النبي والوفود إليه (أحزاب المعارضة في صدر الإسلام سياسيًّا ودينيًّا) (1901م)، و"الدولة العربيّة وسقوطها “، و”الخوارج والشيعة“(1).

* جوزیف شاخت (1969-1902م) (Schacht) : وهو متخصّص في الفقه الإسلاميّ كان ساخطًا على النازيّة عمل في إذاعة إنجلترا وتزوّج إنجليزيّة، وتجنّس بالجنسيّة البريطانيّة، واشتهر بدراسة التشريع الإسلاميّ ونشأته وتطوّره وأثره، ومعظم مؤلّفاته وتحقيقاته هي لتراث الفقه الإسلاميّ(2).

* کارل بيكر (1933-1876م ) .Becker C) تخرّج باللغات الشرقيّة على بتسولد ويليوث بارث، وعُيّن أستاذًا في هامبورغ (1908م) ، وبون (1913م). أصدر مجلة "الإسلام" (1910م) التي صدرت عن معهد اللغات الشرقيّة في جامعة هامبورغ الألمانيّة اهتمّ بالتاريخ الإسلاميّ، وأثر العوامل الاقتصاديّة والتاريخيّة والإغريقيّة والنصرانيّة في الحضارة الإسلاميّة، وعيّن وزيرًا للمعارف (1921م)، من مؤلّفاته:"قواعد لغة القرآن في دراسات نولدكه"(3).

* تيودور نولدکه (1836-1931م): ولد في هامبورغ من أسرة عريقة، وهو شيخ المستشرقين الألمان، تعلّم اللغات السامية (1853م) في جوتنجين، ونال الدكتوراه (1856م) في موضوع (أصل سور القرآن وتركيبها)، ونال عليه جائزة مجمع الآداب في باريس سنة (1858م)، ثمّ نشرها بعنوان (تاريخ النصّ القرآنيّ) سنة (1860م)، ثمّ انتقل ليتعلّم في فيينا وليدن فقابل كبار المستشرقين، ومن ثمّ أتى جوتا الألمانية، وعُيّن أستاذًا للغات الشرقيّين في سترازبورغ، وجعلها مركزًا للدراسات الشرقيّة، وله في النحو العربيّ (قواعد اللغة العربية الفصحى) (1896م)، وله

ص: 64


1- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 724؛ بدوي، عبد الرحمن موسوعة المستشرقين م . س ص 407-410؛ المنجد صلاح الدين المستشرقون الألمان، م.س، ص 107-114.
2- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج2، ص804 - 805 بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 366-368.
3- هو كارل هانتر بيكر ولد بأمستردام. انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص745 النبهان محمد فاروق، م.س، ص30-34.

(القرآن الرسمي في قراءة أهل مصر)(1)، وكتاب (تاريخ النصّ القرآنّي).

* المستشرق برجشتراسر (1886 - 1933م): مستشرق ألماني بروتستنتي لوثري تعلّم فى جامعة ليبستك الألمانيّة؛ وأستاذه (أوجست فشر)، وحصل على الدكتوراه سنة (1912م) بأطروحة تناولت حنين بن إسحاق ومدرسته، وبعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى عُيّن أستاذًا في جامعة برلين، واستقدمته الجامعة المصريّة من 1929- 1931م، فألقى فيها محاضرات في فقه اللغة وأثناء وجوده في مصر حقّق كتاب "طبقات القرّاء" لابن الجزري(2)، كما كان له جهود في القراءات القرآنيّة، حيث حقَّق كتاب "القراءات الشاذّة في القرآن" لابن خالويه ونشر القراءات الشاذّة في كتاب "المحتسب" لابن جني، ودراسة "قراءة القرآن في القاهرة"(3).

* المستشرقة زيجريد هونكه (1913-1999م): ولدت في مدينة كِيل الألمانيّة، وهي ابنة الناشر هاينريش هونكه وزوجة المستشرق الألماني شولتزا، دفعت مغالطات الغرب الكاذبة عن اضطهاد الإسلام للمرأة، وهُوجِمت بسببه، وكتبت (شمس الله تسطع على الغرب)، و(ليس الله كما يزعمون)، و(التوجّه الأوروبيّ إلى العرب والإسلام حقيقة قادمة وقدر محتوم)(4).

وغيرهم كثير من المستشرقين الألمان الذين اعتنوا بدراسة الشرق وكان لهم أدوارهم المؤثّرة، بحيث تنوّعت دراساتهم بين اللغة والتاريخ والأدب والشعر، وسائر العلوم والفنون المختلفة، فضلًا عن دراسة الإسلام ومصادره.

4- الدرس اللغوي الاستشراقي الألماني:

لقد اهتمّ الألمان بدراسة اللغات الشرقيّة؛ نظرًا لمصالحها السياسيّة والاقتصاديّة

ص: 65


1- العقيقي نجيب، المستشرقون، م.س، ج 2، ص 738-740 ؛ بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 595-598؛ المنجد، صلاح الدين المستشرقون الألمان، م.س، ص 115-124.
2- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج2، ص 747-748؛ بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 85-87.
3- انظر بدوي عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص85-87.
4- انظر سالم رمضان عبد الباسط: الألمانية زيجريد هونكه وتصحيح صورة الإسلام في الغرب لا ط طبع القاهرة 2009، ص25-40 باختصار

وروابطها مع الدولة العثمانيّة؛ لذا أنشأت في جامعاتها معاهد اللغات الشرقيّة. وقد أنشأ فلايشر (1801-1888م) (Fleischer HL الجمعيّة الشرقيّة الألمانيّة المعنيّة بنشر التراث العربيّ والإسلاميّ ونشر ذخائره.

وكذلك سار المستشرق هارتمان(1) (1918-1851م) (Hartmann,M) على خطى أستاذه فلايشر؛ فأسّس الجمعيّة الشرقيّة الألمانيّة للدراسات الإسلاميّة، التي أصدرت مجلة "العالم الإسلاميّ"(2). وفي بداية هذا القرن ازداد اهتمام الجامعات الألمانيّة بالدراسات العربيّة والإسلاميّة.

5- تطوّر الاستشراق الألماني:

يشير إدوارد سعيد إلى وضع الاستشراق الألمانيّ فترة ما بين الحربين العالميّتين، فيوضّح أنّ المستشرقين الألمان عادوا للاهتمام بالشّرق من جديد، وكان الهدف الذي قصدوا إلى تحقيقه أنْ يفتحوا الطريق أمام التّراث الحقيقي للشعر الشرقيّ؛ حتّى يشيروا إلى شعر أوروبا، لكنّ الشعور بالقوّة والسيطرة في القرن التاسع عشر أغلق الباب في وجه مطلبهم إغلاقًا حاسمًا، وأمّا اليوم فتبدو لنا بعضُ دلائل التغيير؛ إذ بدأت دراسة الأدب الشرقيّ في ذاته ومن أجله، وبدأنا نفهم الشرق من جديد(3).

أشار العقيقي إلى اشتراك مستشرقين ألمان في كتابة المقالات المختلفة في دائرة المعارف الإسلاميّة، ومنهم: زايبولد (1921 - 1859م) (seybold,G.F) کارل هنریخ بیکر (1933- 1876) (Becker) ، وكارل بروكلمان (1956) - 1868م) (Brockelmmann, G)، وموريتس 1939-1859م) (Moritz,B) ، وريتير ( Ritter) (ولد) (1892م، وميتفوخ (1867-1942م) (Mittooch Eng) وكاله . Kahle ( ولد 1875م)، وفيشير (Fischer 1865) (Aug-1949م)، وإنو ليتمان (1958-1875م) (Littmann) أستاذ اللغات الشرقيّة في توبنجين في الجامعة المصريّة عند إنشائها، وكذلك زوبرنایم (Sobernheim)،

ص: 66


1- اشتغل هارتمان مترجماً في الخارجية الألمانية، ثمّ في قنصلية ألمانيا في لبنان بين (1876-1887م)، وعُين أستاذًا في معهد اللغات الشرقية في برلين.
2- مارتن هارتمان انظر العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 725 ؛ بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 607-608 ص321-322.
3- إدوارد سعيد: الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق ، ترجمة محمد عناني، ط1، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص 321-322

وإرنست هرسفيلد (1948-1879م) (Herzfeld, E.E)، وغيرهم كثير(1).

6- آثار مدرسة الاستشراق الألماني في الدراسات القرآنية:

إن حجم مدرسة الاستشراق الألمانيّ وأثرها في الدراسات القرآنيّة له ثقله بين المدارس الاستشراقيّة الأخرى، فلا تخفى مكانة الاستشراق الألمانيّ وعظيم أثره على دارس الاستشراق ومدارسه؛ إذ تعتبر مدرسة الاستشراق الألمانيّ من أهمّ مدارس الاستشراق، وما

نتج عنها يكاد يفوق مجموع ما نتج عن المدارس الاستشراقيّة الأخرى مجتمعة.

لقد درس المستشرقون الألمان الإسلام من شتّى جوانبه، وتكاد لا تسلم جهة من جهاته وحيثيّة من حيثيّاته إلا ووقعت موقع دراسات المستشرقين الألمان، ولا سيّما القرآن الكريم ومباحثه التي شغلت اهتمام الباحثين الألمان، فاهتمّوا بالقرآن الكريم اهتمامًا بالغًا، بدءًا من طباعته وترجمته، والخوض في بعض مباحث علومه من قبيل جمعه، وتاريخ تدوینه وكيفية ترتيب سوره ،وآياته وبحث القراءات القرآنيّة مرورًا بالدراسات اللغويّة القرآنيّة، ووصولًا إلى تفسيره، سواء على مستوى دراساتهم للتفاسير التي كتبها علماء الإسلام، أو على مستوى محاولاتهم لفهمه وتفسيره، أو على مستوى التفسير الموضوعيّ.

كما درسوا - أيضًا - الكتب العربيّة التي كُتِبَت حول القرآن، فاهتمّوا بعمل الفهارس لها، وجمعوا مخطوطاتها، وتناولوها دراسةً وبحثًا وتحقيقًا، بل لم يسلم مؤلّفوها وكتّابها من الدراسة.

ولم تختلف دوافع المستشرقين الألمان وأهدافهم عندما درسوا الإسلام والقرآن وكذلك وسائلهم عن سائر المستشرقين والمدارس الاستشراقية الأخرى، وإن حاول بعضهم إضفاء طابع من الموضوعيّة على دراستهم(2).

وهناك مدارس استشراقيّة ظهر التواصل في ما بينها في الأهداف والدوافع من خلال الدرس والبحث مثل مدرسة الاستشراق الإنجليزيّ، والأسبانيّ والإيطاليّ، والهولندي وغيرها من المدارس بحيث تتحرّك حركتها العلميّة تلقائيًا، وتتحكّم فيها أجهزة قويّة

ص: 67


1- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 770 ؛ ج2، ص784؛ ج 3، ص1107.
2- مدارس استشراقية - آثار مدرسة الاستشراق الألماني في الدراسات القرآنية»، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر ، م.س، العدد الأول، شتاء 2019، ص 96-97

تراقب حركتها، وترصد مواقفها وتتتبّع بدقّة نتائج بحوثها ودراساتها، ضمن استراتيجيّة غربيّة مدروسة توفّر للغرب حماية مصالحه، وتكرّس سيطرته على الشرق؛ فاستشراق الغد أشدّ من استشراق الأمس، فقد تواصلت تلك المدارس بإنشاء المعاهد والكلّيّات التي تدرّس علوم الشرق ؛ ومنها علوم الإسلام. كما تختلف أهمّيّة مدارس الاستشراق؛ تبعًا لعطاء المستشرقين المنتسبين إليها، ولا يخفى ما للنظام "العالميّ الجديد" من دور استشراقيّ استكشافيّ؛ بغرض التوجيه والمواجهة لكلّ ما يتعلّق بالإسلام أو المسلمين.

ومن أهمّ المدارس الاستشراقيّة وأخطرها حاليًّا مدرسة الاستشراق الفرنسيّ ومدرسة الاستشراق الألمانيّ، حيث يجمع بينهما دراسة القرآن على مستوى مخطوطاته، والبحث فی مسألة تدوينه وتكوينه، وتعدّ المدرسة الألمانيّة أهمّ وأعمق هذه المدارس؛ لعودتها وإحيائها تراث اليهود ذوي الدراسات القرآنيّة ولقد اهتمّت أنجليكا نويفرت بعرض هذا الجانب من الدراسات الاستشراقيّة التي تحمل أسوأ هموم الاستشراق، وأشدّ دوافعه عداوة ضد القرآن؛ وأكثرها خروجًا عن المنهج العلميّ.

وإنّ العاقبة عند علماء هذه الأمّة أن تلملم ما بقي لديها من رمق متحضّر، وتوفّر جهودَها المبذولة في التناحر والتشاحن، وأن توحّد هدفها، وتولي وجهها شطر قبلة الحقيقة الأبديّة التي يصرفها عنها أعداؤها بألوان من الصروف والاعتراض، وليعرف المسلمون المختلفون في التوجهات أنّ هويّتهم في خطر، وأنّ كتابهم قد تكالب عليه أهل الاستشراق بزائف من دعوى البحث والدرس، وما هو بدرس أو بحث وإنّما هو انتهاز لفرصة من حالٍ عامّ يجتاز هذه الأمّة، وصفه النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بأنّه : "حبّ الدنيا وكراهية الموت"، وأنّ أعداء هذه الأمّة يتخطّفون مسلّماتها ومبادئها وأسسها وقواعدها، قاعدة تلو أخرى من كلّ جانب، وتنتقص قواهم بإشعال الضغائن والفتن في ما بينهم، ولا مُعقَّب لأمر الله في أمّة رسوله، ولنا في القرآن سلوى: ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ﴾، ولله الأمر من قبل ومن بعد،وهذا ما سنبيّنه في مبحث (الدرس الاستشراقي للقرآن).

ص: 68

المبحث الرابع:الدرس الاستشراقي الفرنسي والألماني للقرآن

1- إسهام الاستشراق الفرنسي في مجال القرآن الكريم:

نلاحظ مساهمة المستشرقين الفرنسيّين في تحقيق التراث القرآني، ومنهم:

أ- المستشرق الفرنسي بوتيه (1883-1800م) (Pauthier,G) الذي قدّم كتاب (تاريخ القرآن)، وفيه درس الشرق الأقصى، فبحث الصين دينًا وأدباً وفلسفة، وتدرّج منها إلى الكتابة المصريّة، والفينيقيّة وغيرها، ثمّ خصّ القرآن بدراسته وجهده ووقته، فصنّف فيه بحثًا مستفيضًا، ودرس العرب قبل النبي، فإذا فيهم المسيحيّون، ثمّ درسهم قبل تنصّرهم فإذا هم عبّاد أوثان ويهود، فاستطرد في درسهم، ثمّ عكف على القرآن وتأثّره بما تقدّمه من ديانات والظروف التي أحاطت بنزوله، وغايته، والعقائد الموافقة والمضادّة له في غيره من الأديان، وتأثيره في الاجتماع والتمدين ثمّ الأشهر والجمع التي يقدّسها والمذاهب التي نشأت عنه لدى المسلمين، وقد نُشِر في باريس سنة (1840م)(1).

ب - رينيه باسيه (1924) - 1855م) Rene Basset): عُيّن مدرسًا للعربيّة في مدرسة الجزائر العليا سنة (1882م)، ثمّ تولى إدارتها، واختير (عضوًا) في كثير من المجامع العلميّة، كما ترأّس مؤتمر المستشرقين في الجزائر سنة (1910م)، ومن آثاره: (تحفة الزمان أو فتوح الحبشة) لشهاب الدين أحمد بن عبد القادر (عرب فقيه)، وقد نُشِرَ بالعربيّة مع ترجمة فرنسيّة، وله (الخزرجيّة) في العروض و (تاريخ بلاد ندرومة وترارة بعد خروج الموحّدين منها)، وله مقالات بالفرنسيّة في المجلات الشرقيّة في فرنسا والجزائر وتونس وفصول في (دائرة المعارف الإسلاميّة). وتوفي في الجزائر(2).

ج- المستشرق موريس ديموبين غود فروا Gaudefroy Demombnes) (1862-1957م) حصل على الدكتوراه في الآداب سنة (1923م)؛ وهو بعد الستين من

ص: 69


1- انظر العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 194.
2- انظر الزركلي الأعلام، م.س، ج 3 ، ص 39 سركيس، يوسف بن إليان بن موسى معجم المطبوعات العربية والمعربة لا ط، مصر، مطبعة سركيس، (1346ه-/1928م)، ج2، ص20-36.

عمره، من آثاره (النظم الإسلاميّة) سنة (1921م)، وله (الحسبة) و(تعليقات على النظام القضائيّ في البلاد الإسلاميّة) سنة 1939م، و(في نشأة القضاء في الإسلام) سنة 1939م؛ وهي نسخة أهداها لرينيه ديسو، وله (نحو العربيّة الفصحى) بالاشتراك مع ريجيس بلاشير، وله كتاب (محمّد) صدر في باريس (1957م) ، قال عنه بدوي: "وهو في نظرنا أفضل كتاب في اللغة الفرنسيّة عن النبي محمّد يتّسم بموضوعيّة وتعميق وشمول"(1).

د- المستشرق لويس ماسينيون (1962-1883م) (Massignon,L): قدّم أعمالا خادمة للاستشراق، وأعدّ في الحلاج رسالتين للدكتوراه، وهو صاحب نظرة عميقة في الجانب الروحيّ، فقرأ أشعار فريد الدين العطّار الشاعر الفارسي الصوفي، وهي تدور حول مصرع الحلاج، فأعجب بشخصيّة الحلاج وقام بدراسته في رحلته إلى بغداد - العراق سنة (1907م)، ونزل ضيفًا على بيت الشيخ الألوسي ونشر كتابه عن الحلاج، ووكلت إليه إدارةٌ(دائرة المعارف الإسلاميّة) كتابة مادّة عن (الحلّاج)، ومادّة عن (الحلول)؛ فكتبهما سنة (1914م)، كما درس فرقة الشيعة بكلّ تطوّراتها وفروعها، وخاصّة المغالية منها من القرامطة والنصيريّة والإسماعيليّة. وزار المشاهد الشيعية كلّها، وحاضر في الجامعة المصريّة، وألقى محاضرات بعنوان:(تاريخ الاصطلاحات الفلسفيّة) على كثير من طلّابها(2).

ه_ -المستشرق ريجيس بلاشير (1973-1900م) (R.L.Blachere) كان يعمل في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة خبيراً في شؤون العرب والمسلمين، وقدّم للمكتبة الاستشراقيّة (ترجمة القرآن الكريم) إلى اللغة الفرنسيّة، ويشتمل على مقدّمة طويلة وتفسير قصير ولقد رتّب القرآن وفقًا لما ظنّ أنّه ترتيب للسور والآيات وأصدره سنة (1949م)، ثمّ عاد للترتيب المصحفي في طبعة أخرى سنة (1957م) ، ونقله إلى العربيّة الدكتور إبراهيم الكيلاني، وله (قواعد العربيّة الفصحى) و (أبو الطيّب المتنبي) نقله إلى العربيّة الدكتور

ص: 70


1- انظر ،بدوي عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص 271 272 ،الزركلي، الأعلام، م.س، ج 2، ص 144؛ رمضان محمد خير، تكملة معجم المؤلفين، ط1، بيروت، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، (1418ه-/1997م)، ص424؛ رمضان محمد خير، تتمة الأعلام، م.س، ج 2، ص 97.
2- الحقيقي، نجيب، الم مستشرقون، م.س، ج1، ص287-291؛ بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص529-535.

أحمد بدوي، و (معجم عربي فرنسي إنجليزي)(1)، وهو معروف باطّلاعه العميق على اللغة العربيّة والأدب.

و- المستشرق الفرنسي جاك. أ. بيرك (1995-1910م) (Jacques Augustin Berque): وهو من أحدث المستشرقين الفرنسيّين، قدّم ترجمةً للقرآن وتفسيره في كتابه (حينما كنت أعيد قراءة القرآن)(2)، وبينَّ أنّ من أسباب ترجمته للقرآن أنّ كثيرًا من النّاس ينبذون الآن الصورة المادّيّة للحياة المعاصرة، ويرفضون مجتمع الاستهلاك، هذا المجتمع المادّي المحض، ويفضّلون عليه المدنيّة المعاصرة، مدنيّة الإسلام الروحيّة، وينادون بالعودة إليها؛ لذا ترجم القرآن.

وترجمته تتكوّن من ثلاثة فصول: الأوّل: عن جمع القرآن والثاني: عن اللغة والثالث: عن المعنى، كما لا يخفى أنّ عرضه لدراسة القرآن وترجمته يحمل في طيّاته مقولات لا تخالف كثيرًا الطرح الاستشراقيّ؛ من بيان مرحليّة النزول ذي المراحل الثلاث واقتباس القرآن من التوراة خاصّة سفر التكوين(3).

كما عرض بيرك في ترجمته بعض آراء المستشرقين وانجلت ترجمته عن بعض الهنات والأخطاء عبَّر عنها بعض الباحثين بالقول: "إنّ مسلسل التشكيكِ والتزييفِ يواصل حلقاتِه على يد عميد المستشرقين الفرنسيّين جاك بيرك“(4).

2- إسهام الاستشراق الألْمَاني في مجال القرآن الكريم:

كانت المساهمة النظرية العلميّة غنيّةً في وضع منهجيّة؛ لتحقيق التراث العربيّ والإسلاميّ وتأليف ما يُغذّي هذا المجال. ومن إسهامات الاستشراق الألمانيّ في هذا المجال، نذكر ما يلي:

ص: 71


1- انظر بدوي عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 127؛ العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج1، ص 155؛ الزركلي، الأعلام م.س، ج 2، ص 72.
2- جاك بيرك حينما كنت أعيد قراءة القرآن ترجمة: وائل غالي، نشرته مجلة القاهرة، العدد (154) سبتمبر 1995، ص8-9.
3- من ص 8-10
4- انظر: أبو العلا محمد حسين القرآن وأوهام ،مستشرق لاط المكتب العربي للمعارف، لا ت ص 7 ؛ ص 53 وما بعدها. في الفصل الثالث منه بعنوان: أخطاء) عملاقة لمفكر (عملاق فقد بين هذه الأخطاء ثم حلّلها المؤلف، وانتقدها.

أ- كان اهتمام الاستشراق الألمانيّ بأصول الإسلام، فقد أظهر الألماني غوستاف ليبرشت فلوجل (1870-1802م) (Gustav Leberecht Fluegel) اهتمامًا بذلك، فأخرج كتاب (نجوم) الفرقان في أطراف القرآن) طبع أوّل مرّة في ليبزيج سنة (1842م)، وكذلك (ترجمة القرآن)، لكن ما يُؤخذ على ترجمة فلوجل أنّه غيّر ترتيب السور والآيات، وهذا عمل من شأنه أن يخدم الرأي المزعوم بأنّ ترتيب سور القرآن وآياته ليس توقيفيًّا، وهذا مخالف الإجماع المسلمين؛ لذلك عُورضت تلك الترجمة من المستشرق برجشتر، فقال: «إنّ الطبعة المصريّة الرسمية للقرآن سنة (1924م) تُعدّ من الآن فصاعدًا مرجعًا للباحث الأوروبيّ، ومنذ ظهورها لم يعد هناك ما يُبرّر استخدام طبعة فلوجل للنصّ القرآني)، ومع هذا قال بدوي عن هذه الترجمة :« وقد صارت هذه الترجمة هي المعتمدة عند المستشرقين من ذلك العصر إلى اليوم على الأقلّ في ترتيب الآيات القرآنيّة»(1)، فبعد ظهور ترجمة الأزهر للقرآن لا حاجة للتطوّع بترجمة أخرى للقرآن؛ لأنّ من نشأ في معاني القرآن، وتربّى على مقاصد لغته، وتقلّب في مقاصده وهضم ألفاظه قلبًا وقالبًا، هم أدرى الناس بالقرآن لفظًا ومعنّى حقيقةً ومجازًا.

ب- جوستاف فایل (1889-1808م) (Gustav Fail): مستشرق ألمانيّ من أصل يهوديّ، رحل إلى باريس والجزائر؛ ومنها إلى مصر، حيث اشتغل مدرّسًا ومترجمًا مدّة خمس سنوات، وتضلّع في اللغة العربيّة على يد الشيخين محمّد عيّاد وأحمد التونسيّ، ثمّ رحل إلى إسطنبول. وكان من أهمّ آثاره: كتاب (مدخل إلى القرآن أو مقدّمة تاريخية نقديّة للقرآن)، وهو مدخل تاريخيّ نقدي للقرآن عرض فيه لمسألة جمع القرآن والتسلسل التاريخيّ لسوره ،وآياته كما أنّه قام بتقسيم السور المكّيّة إلى ثلاث مجموعات تقسيمًا أخذ به نولدكه في ما بعد وله (التوراة في القرآن) نشر في شتوتغارت سنة (1835م)، وترجم إلى الألمانيّة سيرة النبي لابن هشام في مجلّدين وألحقها بحواشي وتعاليق وشروح

ص: 72


1- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 701 بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 411-412؛ مقبول، إدريس، الدراسات الاستشراقية للقرآن رؤية نقديّة، م.س، ص8؛ فیلد شتيفان ملاحظات على مساهمات المستشرقين في الدراسات الشرقية، م.س، ص 11-13؛ المنيع، ناصر بن محمد المستشرق الألماني برجشتراسر وآثاره في الدراسات القرآنية ومنهجه فيها، مجلة جامعة الملك سعود، عدد يناير سنة 2010، ص 135-136

تاريخية (شتوتغارت بين سنة 1844 - 1864م)، ومختصر تاريخ الشعوب الإسلاميّة من محمّد إلى سليم الأوّل، وهو أوّل تاريخ عامّ يعتمد على المصادر العربيّة شتوتغارت 1866)(1).

ومن المعلوم أنّ التسلسل التاريخيّ لسور القرآن أخذ به كثير من مستشرقي ألمانيا وفرنسا وغيرهم، وهو خلط غير واضح يدلّ على اجترار الدرس الاستشراقيّ بعضه من بعض، كما أنّ دعوى اقتباس القرآن من التوراة دعوى استشراقيّة متوارثة، يقع الردّ عليها بأنّ اليهود في عصر النبي محمّد لم يفضحوا النبيّ لمّا أخذ عنهم، ولمّا خالف قبلتهم، ولمّا خالفهم في كثير من الأحكام الشرعيّة؛ كحكم التوبة من الذنب، وحكم قبلة الصلاة، وحكم الربا، وغيرها.

ج- المستشرق ألويس اشبرنجر (1893-1813م) (Aloys,Sprenger): أصدر كتابه (حياة محمّد وتعاليمه حسب مصادر لم تستخدم غالبيّتها حتى الآن) في برلين بين (1865-1861م)، وهو من ثلاثة أجزاء،«وعلى الرغم من أنّ كتاب اشبرنجر: (حياة محمّد وتعاليمه) أوّل كتاب أوروبي استغلّ معظم المصادر العربيّة المتعلّقة بسيرة النبي، وعلى الرغم من أنّه عاش قرابة أربعة عشر عامًا بين المسلمين في الهند، فإنّ كتابه هذا حافل بالأحكام المسبقة والتصوّرات الزائفة، والأحكام المبالغ فيها؛ ابتغاء المناقضة»(2)، ففي هذا الكتاب كثير من المغالطات المتعلّقة بالإسلام وكتابه ونبيّه، فضلًا عن عصبيّته وعنصريّته الواضحة في أحكامه على بعض المواقف من سيرة النبيّ محمدصلی الله علیه و آله و سلم.

د- تيودور نولدکه (Noldeke) (ت: 1836-1930م) وهو شيخ المستشرقين الألمان في عصره، وقد شارف على التسعين من عمره. انتقد نفسه من خلال مصنّفه (تاريخ القرآن)، فيجيب على من سأله: إن كان قد شعر بالندم؟ فيقول: "إذا كان من

ص: 73


1- انظر ،بارت ،رودي الدراسات العربية والإسلامية، م.س، ص28-29؛ العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 707-708؛ بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 390-391.
2- بدوي عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص 31 بارت رودي الدراسات العربية والإسلامية، م.س،

ندم؛ فلأنّني درست علومًا لم أظفر منها في النهاية بنتائج حاسمة قاطعة"، ووجدنا الحكم بالظّن عند تقسيمه للسور المكّية، حيث اعترف أنّه غير دقيق، فقال: "لا يمكن وضع ترتيب زمنيٍّ تقريبٍّي للسور المكّيّة؛ إلا بقدر قليل جدًّا من الدقّة، وذلك بسبب أنّها نادرًا ما تذكر فيها الأحداث التاريخيّة..."(1).

وهذا يدلّ على صحّة ما ذكرناه كما يدلّ على صدق نولدكه مع نفسه، ومع أن التعميم مطيّة الزلل، لكنّ الأمر المسلَّم بحكم الاطّراد أنّ معظم النتائج السلبيّة التي توصّل إليها المستشرقون في مؤلّفاتهم صدرت عنهم جزافًا من غير جزم دليل، أو حسم قول.

ه_ - الألماني برجشتراسر (1933-1886م) (Bergstrasser, G) حصل على درجة الدكتوراه في أدوات النفي والاستفهام في القرآن سنة (1911م)، وأظهر عمقًا في هذا المجال، وكان ما قدّمه من تحقيق ودراسات قرآنيّة من أظهر إنتاجه العلميّ؛ فحقّق كتاب اللامات لأحمد بن فارس سنة (1924م)، وقراءة الحسن البصري، سنة (1926م)، وقراءة القرآن في القاهرة (1932م)، والقراءات الشاذّة في كتاب المحتسب لابن جنّي سنة (1933م)؛ كما نشر كتاب القراءات الشاذّة في القرآن لابن خالويه، وقد نُشِرَ في مجموعة المنشورات الإسلاميّة بالمعهد الألماني في إسطنبول / رقم (7) ، وطبقات القرّاء لابن الجزري في المجموعة نفسها رقم (8) .

كما نشر برجشتراسر في كتابه (أصول نقد النصوص ونشر الكتب)، وهو مجموعة محاضرات ألقاها في الجامعة المصريّة، بين (1931-1932م)، حيث أظهر فيها اهتمامًا منهجيًّا بتحقيق التراث، إذ كانت له عناية بنشر التراث العربيّ والإسلاميّ، فاهتمّ بجمع النُّسخ، ونقد النصوص مع انتقاد ،شرحها، مبيّنًا منهجًا جادًّا في تحقيق التراث(2).

حضر برجشتراسر للقاهرة أستاذًا في الجامعة المصريّة وفي رحلته قام بالتعرّف على عدد من كبار علماء القراءة المصرييّن؛ كالشيخ المقرئ محمد بن علي الحسينيّ، والشيخ

ص: 74


1- انظر: بدوي عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص595؛ نولدکه تیودور تاریخ القرآن ترجمة: رضا محمد الدقيقي، ط2، سوريا لبنان، وزارة الأوقاف القطرية، ودار النوادر، سنة (2011)، ج 1، ص 39 ، ج 1، ص224.
2- انظر: بدوي عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص 85-87 البكري، محمد حمدي: أصول نقد النصوص جوتهلف برجشتراسر ط2، دار الكتب والوثائق القومية مركز تحقيق التراث، سنة (1995).

المقرئ علي محمّد الضباع. وفي ذات مرةٍ يجد نسخته من طبعة فلوجيل لدى الشيخ ،الحسيني الذي يظنّ بها عليه؛ إلّا بعد تعهّدات طوال بأن يستدرك على تلك الطبعة ويُبيّن ما فيها من الغلط والتحريف، وهو الأمر الذي فعله برجشتراسر بكلّ تفانٍ، حتّى قام بنشر كتاب (التيسير) لأبي عمرو الداني، وكتاب (المقنع في رسم مصاحف الأمصار) مع كتاب (النقط)للداني، وكتاب (متشابه القرآن) للكسائي وكتاب (معاني القرآن) للفرّاء، وغيرها من الكتب المعتنية بالبحث في القرآن الكريم.

و- المستشرق الألمانيّ (أوتّو برتسل) (1942-1893م) (Otto, Pretzel): يرتبط هذا الاسم بالدراسات الخاصّة بقراءات القرآن، وهو إلى جانب جوتهلف برجشتراسر وآرثر جيفري أبرز المستشرقين في هذا المجال.

قرّر المجمع العلميّ البافاري في ميونيخ جمع المصادر الخاصّة بالقرآن الكريم وعلومه وضبط قراءاته لنشرها، فتولّى الأستاذ جوتهلف برجشتراسر المهمّة، وعاونه في بعضها بريتسل، فلمّا توفّي الأوّل (1933م) انتدب المجمع برتسيل لاستكمالها، وقد انجلت تلك المهمّة عن نشر: كتاب (التيسير في القراءات السبع) للإمام أبي عمرو الداني وكتاب (المقنع في رسم مصاحف الأمصار من كتاب النقط) للداني، وكتاب (مختصر الشواذ) لابن خالويه، وكتاب (المحتسب) لابن جني و(غاية النهاية في طبقات القراء) لابن الجزري و(معاني القرآن) للفرّاء النحوي و (الإيضاح في الوقف والابتداء) لأبي بكر بن الأنباري(1).

وصنّف بريتسل كتابًا من (مراجع القرآن وعلومه) و (رسالة في تاريخ علم قراءة القرآن)، واشترك مع برجشتراسر في نشر الجزء الثالث من (تاريخ النصّ القرآنيّ) لنولدكه (1938-1926م)، وله تحقيق (متشابه القرآن) للكسائي ومحقّق (معاني القرآن) لابن منظور، وله أيضًا (تاريخ علم قراءة القرآن)(2).

بهذا يكون برتسل خادمًا وفيًا للتراث القرآني، لتقديمه تلك الأصول القرآنيّة للمكتبة

ص: 75


1- ملحوظة : هناك كتب محققة منسوبة لبرجشتر ومنسوبة كذلك إلى أوتو برتسل ويبدو أن برتسل كان متعاونًا مع برجشتر في دراساته البحثية وخليفته في ريادة الاستشراق الألماني.
2- انظر: العقيقي نجيب ،المستشرقون، م.س، ج2، ص 759-760 بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م س ، ص 82-86.

الإسلاميّة، لكن لماذا خدم برتسل التراث القرآنيّ؟ يبدو الجواب في أنّ بريتسل خدم التراث القرآنيّ؛ ليخدم المشروع المسمّى ب-: (مشروع استعمال أسلوب النقد في نشرالقرآن) سنة (1930م)، فكان معاونًا لجوتهلف برجشتراسر حينما سعى لدى الأكاديميّة البافاريّة في منشن لإنشاء (جهاز نقدي لنصّ القرآن) القسم الفيلولوجيّ التاريخيّ، فهو من حَمَل المسؤوليّة العلميّة بعد برجشتر(1).

ز- من المستشرقين الألمان المستشرق كارل هنريخ بيكر

(1876-1933م ) .Becker, C): اشتهر بتضلّعه في التاريخ الإسلاميّ، وبدراسته عن أثر العوامل الاقتصاديّة والتفاصيل التاريخيّة والعناصر الإغريقيّة والنصرانيّة في الحضارة الإسلاميّة، كما اعتنى بتاريخ مصر الإسلاميّ وأنشأ مجلة الإسلام (1910م)،من آثاره العلميّة: دراسات عن الفتح العربيّ، ومصر في عهد الإسلام (ستراسبورج 1903م)، ومن دراساته ذات العلاقة بالقرآن كتاب (النصرانيّة والإسلام) نُشر في توبنجين سنة (1907م)، وله: (قواعد لغة القرآن) في دراسات نولدكه في مجلة الإسلام عام (1910م)، وقد أفاد الدكتور بدوي أنّه التقى مع الشيخ محمّد عبده أثناء زيارته لمصر سنة (1901م)، وتعلّم العربيّة على يد معلّم مصري، وكان ممّن يميلون إلى النظرة الكلّيّة القائمة على نفوذ البصيرة(2).

ح- رودي بارت (1901-1983م): أولى اهتمامًا كبيرًا بالقرآن الكريم، فقام بمشروع ترجمة للقرآن الكريم إلى الألمانية، وقال عن هذه الترجمة:«هي ثمرة اشتغال عميق بالنصّ القرآنيّ استغرقت سنوات طويلة، وذلك حتى خرج للنور بين (1963) و 1966م)؛ وهو جهد طيّب من حيث الجملة، لكنّ هذه الترجمة جاءت مليئة بأخطاء ناتجة عن عدم فهم النصّ القرآنيّ؛ كما عبّر عن ذلك ألبرت ديتريش، وفيشر(3).

ص: 76


1- بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س؛ مقبول إدريس الدراسات الاستشراقية للقرآن رؤية نقدية، م.س، ص8.
2- العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 745-746 ؛ بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 113-116.
3- بدوي عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص 62-64 ) ،(بارت)، رودي الدراسات العربية والإسلامية، م.س، ص7؛ ناصر بن محمد ،عثمان المنيع آثار مدرسة الاستشراق الألمانية في الدراسات القرآنية)، طبع بحولية مركز البحوث والدراسات الإسلامية، العدد السادس سنة 403-402 (2009-1430)

وبهذا العرض السابق لإسهامات الاستشراق الألمانيّ ندرك تواصل مدرسة الاستشراق الألمانيّ بتقديم العديد من الإسهامات المتعلّقة بالقرآن الكريم بصفة خاصّة ما يدلّ على خصوصيّة تلك الدراسات، لكنّ القرآن واسع الأطناب، عظيم المأخذ،معجز اللّفظ حمالًا للأوجه ريان المعاني غزيرها، وهذا ما لا يقف عليه كثير من المستشرقين الألمان في دراساتهم المتعلّقة بالقرآن المجيد.

3- إسهام الاستشراق في تحقيق التراث الإسلاميّ:

يعتبر من أهمّ إسهامات الاستشراق ما صدر من دراسات لها علاقة بتحقيق التراث العربيّ والإسلاميّ، وربّما كان السبب في ذلك إحالة الكثير من مخطوطات تراثنا الإسلاميّ بل ومخطوطات القرآن الكريم إلى مكتبات غربيّة في حواضر أوروبا، وذلك حال دالّ على واقعنا الثقافي، وعلى أيّ حال فمع أنّ تحقيق الاستشراق لتراثنا العربيّ والإسلاميّ إسهام مفيد وجهد مشكور، فإنّ تساؤلات عدّة تطرح نفسها تدور حول أغراض المستشرقين من تلك الدراسات: هل تحقيق تراث المسلمين ونشره بتحقيق علميّ نزيه وفق منهج علميّ معلوم لذات التراث الإسلاميّ؟ وهل خدم المستشرقون التراث تزلّفا وتواصلاً مع تراث الإسلام وأهله ؟ وهل أراد المستشرقون نشر ألفاظ القرآن ومعانيه في أوروبا والغرب؟ وهل نجح الاستشراق في تقديم القرآن بصورة حسنة إلى الغرب بصفة عامّة وأوروبا خاصّة؟ هل كان للمستشرقين أنفسهم مقاصد ونوايا أخرى؟

حقيقة أقول: لا يمكن الجزم بمقصد واحد من تحقيق المستشرقين للتراث الإسلاميّ حيث تعدّدت مقاصدهم في دراسة القرآن بين مقصد مقبول لموضوعيّة صاحبه بتمام حياد، أو مقصد مردود يحفّه العناد ويكتنفه شرود وأحقاد، ومن صحَّ قصدُه في دراسته، فلا نأمن أن يصيب المنهجية العلميّة السليمة؛ فتسدّد نتائج بحثه، أو يخطئ المنهج فيخفق فيها؛ ما يدلّ على أنّ دراسات الاستشراق معظمها على خطر عظيم، والأشدّ خطرًا حينما تتعلّق بالقرآن الكريم.

كان جلّ اعتناء المستشرقين بنشر الكتب ذات الصلة بالقرآن الكريم من حيثيّات عدّة؛ منها ما يتعلّق بلفظ القرآن وقراءاته ورسمه ومفرداته وأسالي-ه وإعرابه، ومن

ص: 77

حيث تفسير معانيه وتحقيق مقدّمات بعض التفاسير فكان معظم اهتمامهم منصبًّا على ما يلي:

- أولًا: جمع المخطوطات ونشرها وفهرستها.

- ثانيًا: اهتمام خاصّ بالجانب الفيلولوجي مع تنزيل مقتضيات علم الفيلولوجيا (philologie)(1) على القرآن، والاهتمام أيضًا - بالجانب الصوفّي والأدبّي.

- ثالثًا: العناية بوضع معاجم اللغة العربيّة.

- رابعًا: الانشغال بالنصّ القرآنيّ(2).

4-علاقة الاستشراق بالقرآن بين عموم وخصوص :

إنّ علاقة أيّ باحث بالقرآن تكون طبيعية -بغضّ النظر عن كونه شرقيًّا أو غربيًّا- حينما يكون موضوعيًّا ينشد الحقيقة العلميّة، ويبحث عنها في كافّة قضايا القرآن ومسائله؛ بوصفها أصلًا لتدوين النصّ القرآنيّ، ولكلّ الأمور المطروحة المتعلّقة بالقرآن.

ومع ان بعض الكتابات الاستشراقيّة قد شهدت بإحداث القرآن تأثيرات إيجابيّة أصلحت من المجتمع العربيّ والبشريّ؛ خصوصًا في الدراسات الاستشراقيّة المتعلّقة بالسيرة والتاريخ بعد هجرة النبي إلى المدينة،(3) فقد سعت بعض دراسات الاستشراق الحاليّة بالفصل بين القرآن وبين المجتمع والبيئة والتاريخ، في حين اعتبر بعض الدراسات الاستشراقيّة الجماعة عاملّا من عوامل تكوين النصّ القرآنيّ.

ولأنّ بعض المستشرقين صدّروا مسلمة هي: بشريّة القرآن، لذلك أقحموا علائق

ص: 78


1- الفيلولوجيا هو علم اللغة، وهو يعنى بدراسة كل ما يتصل بالنصوص بصورة دقيقة وعلمية من حيث الصيغ والتراكيب والدلالة فضلاً عن الإطار الثقافي للنصوص.
2- الطريحي، سحر جاسم عبد المنعم: الدراسات القرآنية في الاستشراق الألماني في أطروحتها الدكتوراه في جامعة الكوفة، كلية الفقه، بإشراف د. محمد حسين علي الصغير، والتي أجيزت للمنح سنة 2012، ص26.
3- انظر ،دیورانت ويل قصة الحضارة، ترجمة: محمد بدران الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001، ج 13، ص 21 ص 23-24؛ انظر : لوبون غوستاف حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة (2000)، ص102 أرمستروج، لكارين سيرة النبي محمد ترجمة: د. فاطمة نصر، د. محمد عناني، ط2، القاهرة، دار سطور، 1998، ص 113-114.

بشرية بالقرآن وصِلّات فخالفوا الموضوعيّة العلميّة. ومِن الغريب أنّ الاستشراق أخذ يبحث عن صلة تاريخ ما قبل الإسلام ،بالقرآن وأثر البيئة العربيّة في مكّة في بناء القرآن، وأثر الجماعة العربيّة فيه؛ على أنّه منتَج بشريّ أدبيّ ولغويّ، وقصيدة شعريّة من عيون الشعر العربيّ، أو نثر عربيّ، متغافلين عن دور الوحي في القرآن بل وتكلّف الاستشراق عرض دعاوى الاقتباس والتناصّ بين القرآن والتوراة؛ بغية إثبات تأثر القرآن بمعادل مغاير في الكتب السابقة.

ومع هذا العموم فإنّ الموضوعيّة تقتضي القول: إنّ الدّرس الاستشراقيّ يقوم في بعض الأحيان بتخصيص القرآن بدراسات تعتني باهتمام بالغ- بعرض قضاياه المختلفة من حيث بيان جمع القرآن، وتدوينه وكتابته ورسمه ومراحل ذلك من أوّله إلى آخرِه، وبعضهم يعرض للنسخ فيه.

5- علاقة الدرس الاستشراقي بالقرآن بين الانتقائية والمنهجية العلمية:

إنّ دراسة القرآن لها وجوه عديدة، وقد تناول الدرس الاستشراقيّ بعضها، ولم يكن كلّه خطأ أو صوابًا، فإن أصاب في جوانب فقد أخفق في أخرى؛ لأسباب تتعلّق بمدى استيعاب المستشرق لمعاني القرآن أو تتعلّق باستخراج المستشرق بعض الدلالات التي يرى أنْ يلصقها بالقرآن؛ جملةً وتفصيلا، أو تتعلّق بمنهج المستشرق العلميّ الذي اتّبعه في دراسته للقرآن الكريم.

وثمّة تنوّع في الدراسات القرآنيّة بين التشريع واللّغة والفكر والقصّة والمثل، وغير ذلك، وإن أقرب مجال للدرس القرآنيّ هو الدرس اللّغويّ؛ لأنّ القرآن نزل بلغة العرب، فلمّا كانت دراسة المفردة القرآنيّة في الدرس الإسلاميّ باب كبير تناوله علماء الإسلام من جهات عدّة؛ منها: جهة المفردات القرآنيّة العربيّة ذات التنوّع الدلاليّ في باب (مفردات القرآن ودلالتها)، أو جهة أنّها من المفردات المعرَّبة القرآنيّة في باب (المعرَّب)، وجهة غرابة بعض المفردات القرآنيّة في باب غريب القرآن)، وجهة

ص: 79

المفردات العربيّة المبهمة القرآنيّة في باب مبهمات (القرآن)(1)، وغير ذلك من جهات المفردة القرآنيّة التي يضيق المقام بسردها كالحقيقة والمجاز، والاشتراك، والترادف والتضادّ...

وهكذا تلقّف الدرس الاستشراقيّ بأسلوب انتقائيّ المفردات المعرَّبة القرآنيّة من لغات غير عربيّة، محاولاً دراسة المفردة القرآنيّة وتفسيرها؛ ليضع علاقة بينها وبين النصوص الكتابية السابقة، حيث يدخل الدرس الاستشراقيّ إلى القرآن من ناحية اللغة؛ لأنّ بعض المفردات القرآنيّة معرَّبة أو غريبة على ذائقة المستشرق، ثمّ يتكلّف إيجاد علاقات بينها وبين بعض اللغات.

وكانت ترجمة القرآن هي - أيضًا - لها حظها من الدرس الاستشراقيّ، مع قابليّة مفردات القرآن عربيّة الأصل للترجمة إلى لغة أخرى، فقد قام الدرس الاستشراقيّ بترجمة القرآن إلى لغات أخرى، وهذا لم يسلم من الخطأ - غالبًا - لكثرة المفردات القرآنيّة التي لا يقابلها مفردة في اللّغات الأخرى، كما تحتاج المعاني القرآنيّة إلى تفصيل وشرح قد يدركه المستشرق المترجم، أو لا يدركه؛ وقد يسلم قصده من الأحقاد أو لا يسلم منها، لذا فلا بدّ من ضوابط لترجمة القرآن، أو أن يقوم بها العارفون باللغات، والعارفون بمعاني القرآن السليمة حتّى تسلم الترجمة من الأخطاء.

كما قام الدرس الاستشراقيّ بدراسة قضيّة تاريخ جمع القرآن وتدوينه برؤية «تكوينيّة» للنصّ القرآنيّ من خلال مناهج محدثة؛ مثل: المنهج التاريخيّ، والاجتماعيّ كما درس قضايا قرآنيّة أخرى من خلال معارفه المختلفة، فدرس عقائد القرآن وتشريعاته وقيمه، كما درس القرآن من ناحية بعض علومه التي أوردها علماء القرآن المسلمين من قبل وغير ذلك من إسهامات فرعيّة من الاستشراق للقرآن(2).

ص: 80


1- من الممكن الاطلاع على هذه الأبواب العلمية والوقوف عليها في المصنفات في علوم القرآن وعلوم اللغة العربية، فإنها أساسية في فهم جهات المفردة القرآنية مثل كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والبرهان في علوم القرآن للزركشي، والتبيان في مبهمات (القرآن) لبدر الدين بن جماعة، ولقد خصص الراغب الأصفهاني مفردات القرآن بدراسة علمية في كتابه (المفردات في غريب القرآن)، كما اختصّ الإمام السيوطي دراسة المعرَّب في كتابه المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب)، وهو مطبوع
2- هذا ما يجعل الربط بين درس الاستشراق للقرآن اليوم والدرس النقدي للكتاب المقدس وجه مما يلزم إعادة تقييم أعمال الاستشراق في ضوء المقارنة بين الكتب السماوية، ومفاهيمها الأساسية كالوحي والنبوة.

وبالجملة، فإنَّ الدرس الاستشراقيّ للقرآن - الفرنسيّ والألمانيّ - قام على منهجيّة نقديّة تُخرِجُ القرآن عن كونه كتابًا مقدسًا يتّسم بالوحي الإلهيّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ الكتاب المقدّس بعهديه تعرّض لهذا المنهج نفسه منذ عصر التنوير الأوروبيّ، وكأنّ هذا هو الهدف والغرض والدافع من دراسة المخطوط القرآنيّ.

وفي ما يأتي سوف تتناول الدراسة بشيء من التفصيل أنموذجين من المدرستين الفرنسيّة الألمانيّة:

- الأنموذج الأوّل لمدرسة الاستشراق الفرنسيّ متمثّلة بالمستشرق (فرانسوا ديروش)، في طرحه لدراسة المخطوط القرآني وبيان مقولاته التي عرضها.

- الأنموذج الثاني لمدرسة الاستشراق الألمانيّ متمثّلة بالمستشرقة الألمانيّة (إنجيلكا نویفرت)، لبيان مقولاتها التي عرضتها في تدوين النصّ القرآنيّ.

وهذان الأنموذجان هما محور الفصل الثاني، حيث يتطرّق إلى النقاط الآتية:

- أولاً: التعريف بالمستشرق بتقديم نبذة عنه.

- ثانيًا بيان مقولات كلّ منهما، ومحاولة إيراد آراء المستشرق من خلال مؤلّفاته؛ بالاستعانة ببعض المقالات العلميّة والدراسات المعنيّة في هذا الشأن.

- ثالثًا: تحليل المقولات ونقدها عقب عرضها مباشرة.

ص: 81

ص: 82

الفصل الثانى نماذج من الدراسات الفرنسية والالمانية حول القرآن الكريم

اشارة

المبحث الأوّل: دراسات المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش.

المبحث الثاني : دراسات المستشرقة الألمانية أنجيلكا نويفرت.

ص: 83

ص: 84

المبحث الأول (المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش - أنموذجاً )

1- التعريف بفرانسوا ديروش ومؤلّفاته:

فرانسوا ديروش مستشرق فرنسيّ ولد في مدينة ميتز الفرنسيّة سنة (1952م)، تخرّج في المدرسة العليا سنة (1973م)، وحصل على شهادة التبريز في الآداب القديمة، والكتابات القديمة تحديدًا، فهو متخصّص في علم المخطوطات، وقد اشتغل بوجه أخصّ بالمخطوط القرآنيّ. ففي المكتبة الوطنيّة(1) في باريس انكبّ على دراسة مخطوطات القرآن، وفي سنة 2015م حصل على كرسي القرآن في كلّيّة دي فرانس (College de France) و هی كلّيّة عريقة في التاريخ الاستشراقيّ، وكرسي القرآن فيها كرسيّ أكاديميّ متخصّص(2)، كما اختار فرانسوا ديروش المدرسة التطبيقيّة العليا؛ لأنَّها الأفضل في مجال الدّراسات الشرقيّة من جميع أقسام الجامعات الفرنسیَّة الأخرى، ثمَّ إنَّه رغب في تكوين مدرسة علميّة تجتذب طلبة يكونون على منواله في التخصُّص في دراسة البيبليوغرافيا الإسلاميَّة، كما قد انتخب فرانسوا ديروش لأكاديميَّة النقوش والآداب الرفيعة وهو دون سنّ التقاعد، وعمل في أكثر من جمعيّة علميّة(3).

ص: 85


1- المكتبة الوطنية بباريس: أكبر مكتبات أوروبا الغربية عرفت بمكتبة الملك أولاً حيث قام الملك (شارل الخامس) سنة (1368) بإنشاء مكتبة غنية بالمخطوطات ببرج الصيد الملحق بقصر اللوفر، ثم جاء الملك لويس الحادي عشر (ت: 1483م) فعزّز رصيد المكتبة، فيعتبر المؤسس للمكتبة الوطنية، وسنة (1522) نقلت المكتبة لمبنى مستقل جديد في (فونتين بلو) بأمر (آنا) (فرانسوا) وسنة (1537) بأمر الملك بإلزام الناشرين بوضع نسخ من مطبوعاتهم بالمكتبة الملكية، ويعرف ب- ( الإيداع القانوني)، وتدين المكتبة الوطنية بباريس بمجموعتها الأولى لعلماء الحملة الفرنسية على الشرق (1798-1801م، حيث قاموا بنقل المخطوطات العربية والإسلامية من مكتبات القاهرة ومكتبة الجامع الأزهر لباريس، ثم زادت حصيلتها بعد احتلال فرنسا بلاد شمال أفريقيا، وعقب احتلالها لبلاد الشام أعقاب الحرب العالمية الأولى. انظر: نخبة من العلماء والخبراء، الموسوعة العربية العالمية، م.س، ج 17، ص325.3250.17.p
2- أنشأ الملك فرانسوا الأول معهد فرنسا الذي صار كلية دي فرانس سنة (1519) ، وأضاف الملك هنري الثالث كرسيًّا للعربية سنة (1587) وكلف الملك لويس الثالث عشر جبرائيل الصهيوني تنظيم كرسي العربية والسريانية فيه وقلده الأستاذية الأولى عليهما ثم خلفه إبراهيم الحاقلاني. انظر: العقيقي المستشرقون، م.س، ج1، ص 152.
3- الاستشراق الفرنسي المعاصر والدراسات القرآنية»، م.س، العدد الثاني، ربيع 2019، ص94.

ومؤلّفات المستشرق فرانسوا ديروش كثيرة ومتنوّعة؛ منها: (فهرس المخطوطات العربيّة) جزءان في المكتبة الوطنية في فرنسا/ قسم المخطوطات العربيّة سنة (1983م)، وكتاب (التقليد العبّاسيّ - القرآن في ما بين القرنين الثامن والعاشر) نشر في لندن (1992م) و (دليل كوديكولوجيا المخطوطات العربيّة) المكتبة الوطنية في فرنسا (2000م)، و (الكتاب العربيّ المخطوط: مقدّمات في التاريخ) المكتبة الوطنيّة في فرنسا (2004م)، و(القرآن) سلسلة ماذا أعرف ؟ ضمن المنشورات الجامعيّة في فرنسا (2014م)، و(الصوت والقلم) سنة (2016م)، و(المدخل إلى علم الكتاب المخطوط بالحرف العربيّ)(1)، و(القرآن: تاريخ متعدّد (أو أقوال متعدّدة عن تاريخه) - بحث في تشكّل النصّ القرآني - سنة 2019م. كما أنّ له مقالات عدّة ضمنها أفكاره وتجربته مع دراسة القرآن؛ بوصفه مخطوطّا، وغير ذلك من مؤلّفات معنيّة بدراسة القرآن.

2- أهمّيّة دراسات ديروش للمخطوط القرآني وخطورتها:

تبدو أهمّيّة طرح ديروش من جهات عدّة، منها:

أولًا: عقد ديروش سنة (1986م) مؤتمرًا لعلم كوديكلوجيّة مخطوطات الشرق الأوسط في إسطنبول، وقد ساعده عمله في الفترة الممتدّة بين (1979-1983م) في المكتبة الوطنيّة في باريس على أن يطّلع على رصيد من المخطوطات القرآنيّة بالمكتبة فوضع فهرس للمصاحف المخطوطة فيها، كما اهتمّ بدراستها؛ بوصفها أمثل وسيلة لدراسة الحضارة العربيّة الإسلاميّة(2).

ثانيًا: بعد جهود ديروش في درسه للمخطوطات القرآنيّة نجح في تصنيف المخطوط القرآنيّ، ودراسته في رحاب المكتبة الوطنيّة في باريس بمبادرة كلّيّة دي ،فرانس، حيث أُحدِث كرسي (تاريخ القرآن النصّ والنّقل)، وعُهِدَ به إلى فرانسوا ديروش سنة (2015م)؛

ص: 86


1- الشيخ حليمة القرآن أقوال متعددة عن تاريخه بحث في تشكل النص القرآني»؛ المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش)، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر ، م.س، العدد الأوّل، ص 30-31؛ العدد الثالث، ص 45-46 ، نقلًا عن تحليل الخطاب القرآني عند فرانسوا دیروش قرآنیکا المجلة العالمية لبحوث القرآن، تصدر عن جامعة ملايا في ماليزيا المجلد (7)، العدد (1) يونيو 2015، ص151-168.
2- الشيخ حليمة (المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش)، م.س، ص47.

إقرارًا منه بأهمّيّة الموضوع ومركزيّته في الدرس الاستشراقيّ والتاريخيّ المعاصر(1).

ثالثًا: تابع ديروش أعمال المستشرقين السابقين في مجال دراسة المخطوط القرآنيّ، فاطّلع على الدراسات التوثيقيّة السابقة ؛ كمشروع (المدوَّنة القرآنيّة) المعتمد على المخطوطات الألمانيّة في الثلاثينيّات للمستشرق الألماني ،برجشتراس، وتلميذه بريتسل وقد سبقت الإشارة إليه - حيث انطلق في بداية القرن العشرين لإصدار نسخة نقديّة محقَّقة من معاني القرآن الكريم، لكنّه لم يكتمل، ولم يفضِ إلى نتائج تدحض الرواية الإسلاميّة.

كما اطّلع ديروش على مشروع (مخطوطات صنعاء) التي تعود إلى عصر البعثة النبويّة(2)، وهذا يجعلنا نتنبّه عند التعامل مع دراسات ديروش؛ لما لها من دراسات دیروش؛ لما لها من أهمّيّة علميّة حيث إنّها تجربة اكتسبت خبرة من دراسات تراكميّة سابقة.

وقد اعتنى ديروش بدراسة المخطوط القرآنيّ بصورة مادّيّة؛ بمعنى دراسة مادّة المخطوط ونسخِه وخطّه وحَرفه وما احتوى من فنون فقد قطع شوطًا لا بأس به حتّى أعتبر مؤسِّس هذا العلم الجديد؛ ما أتاح له عمليّة التدوين والتأليف، فأصدر ما يزيد على أربعين دراسة في التاريخ الإسلاميّ والكتابة والمخطوطات العربيّة القديمة والقرآن(3) وهذا يعطي كذلك ثقلًا علميًّا لفرانسوا ديروش من خلال دراساته العديدة.

رابعًا: من الواضح تجرّد دوافع فرانسوا ديروش إلى حدّ ما في دراسة المخطوط القرآنيّ، بخلاف ما كان عليه مستشرقون سابقون قاموا ببخس الموروث الإسلاميّ شططًا غريبًا حتّى ادُّعي تأخّر تدوين النصّ القرآنيّ إلى القرن الثالث الهجري. وكانت إسهامات فرانسوا ديروش من أبرز الجهود العلميّة المعاصرة التي دفعت ذلك الافتراء الاستشراقيّ وتمثّل ذلك بقوّة في دراساته التي أكّدت على أنّ المخطوطَتَين القرآنيَّتين اللَّتَين أقام عليهما دراسته تعودان إلى القرن الأوّل الهجريّ(4).

ص: 87


1- انظر دیروش فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص مصاحف الفترة الأموية، ترجمة: مصطفى أغسو لا ط، السعودية، مركز تفسير للدراسات القرآنية ص 3.
2- انظر الشيخ حليمة ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية»، م.س، ص 8؛ الشيخ حليمة «المستشرق الفرنسي فرانسوا دیروش»، م.س، ص 47.
3- انظر الشيخ حليمة المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش»، م.س، ص 45-46.
4- انظر: دیروش فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص مصاحف الفترة الأموية، م.س، ص4.

بعدما تعرّفنا على المستشرق فرانسوا ديروش، وأهميّة دراساته للمخطوط القرآنيّ، وجانب من دراسات مستشرقين سبقوه، يجدر بنا قراءة مقولاته؛ بغية أن نضعها على معيار المنهج العلميّ التحليليّ، لنرى مدى موافقتها أو مخالفتها له.

3- مقولات ديروش؛ تحليلًا ونقدًا وتقويمًا:

اشارة

أتيح لديّ من مؤلّفات فرانسوا ديروش ما يُبيّن أنّ هناك بعض النّقاط التي تُعدّ مادّة خصبة يشرح فيها ديروش مقولاته المرتبطة بالمخطوط القرآنيّ، والتي سوف أقف عليها واحدة تلو الأخرى، مراعيًا فيها الحياد، وموجّهًا إليها ما يناسبها من تحليل ونقد وتقويم أو تعقيب مجرّد.

أ. الْمَقولة الأولى: (الاعتراف بصعوبة الدراسة):

اعترف فرانسوا ديروش بصعوبة تقديم كتاب عظيم أسّس الحضارة عظيمة، وتكمن الصعوبة من وجهة نظره في أنّ القرآن بالنسبة إلى المسلمين كلام الله الواجب اتّباعه من جهة، كما أنّه يُمثّل من وجهة نظر المؤرّخ نصًّا ظهر في القرن السابع الميلاديّ، فهو ليس نصًّا تاريخيًا فحسب، بل هو نصّ عبرت رسالته كلّ الأزمنة(1).

هذا اعتراف دالًّ على موضوعيّة ديروش بصفةٍ عامةٍ، ومن الواجب - من وجهة نظري - استحضار ذلك الاعتراف ذهنيًّا، فيوضع نصب العين على طول دراسة مقولاته؛ لنتعرّف على مدى صحّة نتائج ديروش التي توصَّل إليها، ونسبة إصابة الحقيقة العلميّة التي يرشد إليها المنهج العلميّ الذي هو محطّ أيّ باحث جادّ يطلب الحقيقة وينشد إصابتها في درسه وبحثه.

لقد اقترح ديروش على القارئ أن يستزيد بقراءة كتاب (الإسلام العقيدة السياسة الحضارة) الصادر في باريس سنة (1949م)، والذي أعيد طبعه للأستاذ الفرنسيّ (دومينيك

ص: 88


1- دیروش، فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص مصاحف الفترة الأموية، م.س، ص 15؛ الشيخ حليمة «المستشرق الفرنسي فرانسوا دیروش، م.س، ص ، ص 50.

سوردال) (Sourdel)(1)، وكذا كتاب (التفسير القرآني) للباحث الجزائري علي مراد(2)، الذي صدر سنة (1998م) وحاول فيه رسم لوحة لمختلف المناهج المعتمدة من طرف المسلمين على مرّ العصور.

وقد يتبادر سؤال مفاده: لماذا اكتفى ديروش من بين مصادره بهذين العلمين؟ يبدو أنّه اختار سوردال الفرنسيّ لِمَا له من اهتمامٍ بالعربيّة، من حيث الكتابة والخطّ على وجه خاصّ، ومن الواضح أنّ ديروش قد انتفع بتجربة سوردال وكتابه الذي يحمل دراسة للإسلام دينًا وحضارة والمسلمين؛ بصفتهم حمَلَةً للإسلام؛ حيث إنّهم جماعةً بشريّةً متميّزة، وهذا اتّجاهُ يسعَى ليؤطّره بسِمَةٍ من الموضوعيّة، لكنّ أحكامه ونتائجه لا تخرج عن كونها تعبيراً عن نرجسيّة الثقافة الغربيّة. كما يبدو أنّه اختار الباحث (علي مراد) ليكون جامعًا بين الثقافتين الغربيّة ممثّلة في سوردال والثقافة العربيّة ممثّلة في علي مراد الباحث العربيّ الجزائريّ.

وبناءً عليه، فقد أراد ديروش أن يُوحي إلى القارئ بأنّه سيحدّد نفسه ضمن دائرة لا يخرج منها، حيث يُقدّم قراءته للقرآن بصورةٍ مستمدّة من رؤية موضوعيّة ومنصفة؛ وهي (دائرة نصّ القرآن نفسه)(3)، فهل فعلاً كانت دراسة ديروش بهذه المثوبة ؟ لقد فات ديروش تعميم الرؤية، وتعدّد المصادر، وعدم الانكفاء على أفراد بأعينهم، والاكتفاء بمن ذكرهما لتشمل رؤيتُه تناول علماء المسلمين للقرآن بالدرس، فإنّهم أهل الشأن والاختصاص، فهناك مئات الكتب المترجمة بتحقيق مستشرقين كان يجب عليه الرجوع إليها في درسه.

ص: 89


1- دومينيك سوردال: (1921) -...) حقق وقدّم وعلّق ونشر كتاب الكتاب وصفة الدواة والقلم وتعريفهما لأبي القاسم ابن عبد العزيز البغدادي الكاتب النحوي، ونشر مسرد الأمناء من كتاب (الكتاب) للبغدادي كلاهما بنشرة المعهد الفرنسي بدمشق (1952-1954). انظر: العقيقي المستشرقون، م.س، ج 1، ص 329.
2- علي مراد (1930-2017) باحث جزائري ولد بالأغواط على ضفاف صحراء الجزائر تعلم تعليماً مزدوجًا، فحفظ القرآن في الكتاتيب كما تعلم بالمدرسة الفرنسية، ثم بكلية الآداب جامعة الجزائر، ثم حصل على الإجازة في اللغة العربية سنة (1954) ثم واصل دراساته العليا بجامعة السوربون لينال شهادة التبريز سنة (1956) في نفس التخصص، ثم نال شهادة دكتوراه الدولة في الآداب سنة (1968) عن أطروحة حول الحركات الإصلاحية في الجزائر بين (1925-1940)، ثم تفرغ للتدريس والبحث في مجال التاريخ والدراسات الإسلامية (الباحث).
3- الشيخ حليمة المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش»، م.س، ص48
ب. الْمَقولة الثانية: المخطوطات المعتمدة في الدراسة):

المخطوطات القرآنية محطّ دراسة ديروش وقد قامت دراسته على مجموعتين:

المجموعة الأولى: مجموعة باريس. والثانية: مجموعة سانت بيترسبورغ (Saint Peterspourg) مؤكدًا أنّها تعود إلى القرن الأوّل الهجري، حيث كانت هناك مصاحف مبكرة لها طبيعة في خطوطها، وأنماط كتابتها يمكن أن تسهم في إثراء قضايا علوم القرآن التي تتّصل برسم المصحف والرسم العثمانيّ، ومسائل عدد الآيات، كما تعنى بتاريخ المصاحف وتطوّر كتابتها(1)، ومن هنا نسائل دیروش تساؤلات عدّة؛ من أهمّها:

- هل دَرْس القرآن مخطوطًا له فائدة ؟ الجواب نعم فدراسة المخطوط القرآنيّ له فائدة من ناحية كونه يحمل دلالات على عصره، كما يحتوي على دوال فنّيّة في نوع الخطّ وحجمه بين كبير وصغير ، فضلًا عن التنميق والتزيين والزخرفة في صفحاته وورقاته.

- ما قيمة المخطوط القرآنيّ اليوم بعد مصحف الإمام؟ وما هي القيمة العلميّة في إثبات مغايرة المخطوطات بعضها بعضًا أو اتفاقها في ما بينها؟ وهل إثبات النصّ القرآنيّ يتعلّق بالمخطوطات القرآنيّة اليوم أو قديمًا ؟ ويتحتّم طرح تلك التساؤلات؛ لأنّه لا قيمة علميّة تُذكر في اتّفاق المخطوطات أو اختلافها لأسباب من أهمّها: أوّلًا: عدم ثقتنا في المخطوطة من الناحية الدينيّة؛ لأنّها لا تثبت قرآنًا أو تنفيه، كما أنّ ثبوت القرآن له شروط دوَّنها العلماء، وساروا عليها بعد العرضة الأخيرة على النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وبعد اتّفاق الصحابة على مصحف عثمان الإمام، حيث تتوفّر الثّقة في المصحف الحالي المثبت بنقل متواترٍ جيلًا عن جيل إلى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وهذا ما لا يتوفّر في أيّ مخطوط من المخطوطات القرآنيّة. وثانيًا: القيمة العلميّة للمخطوطات القرآنيّة اليوم تتمثّل في القيمة التاريخيّة ثمّ في قيمته الفنيّة، بوصفه برهانًا دالًّا على عصره من ناحية المستوى الفنّي والرسم والخطّ لا أكثر وهذا ما أقرّ به ديروش، فقال: «تمنح الزخارف مؤشّرًا زمنيًّا مهمًّا إذ إنّها تستعمل المعجم التزييني نفسه الذي نجده في معالم الفترة الأمويّة وأشباهها»(2)،وقال: «رأينا ما يتّصل بالزخرفة والكتابة، ومن زاوية شكليّة حضور

ص: 90


1- دیروش ،فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، م.س، ص7.
2- دیروش فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، م.س، ص13.

هوامش معبّرة؛ وهو تطوّر محسوس رائج للنّسخ المنتمية إلى الطراز الحجازيّ»(1)، وهذا إقرار يُضعف من القيمة الدينيّة للمخطوط، ويبقي لنا فيه قيمة (تاريخيّة الفنّيّة)، وهذا لا يضرّ بثقة المسلم بما بين يديه من المصحف الشريف اليوم، وأنّه هو نفسه القرآن الذي أوحى به جبريل علیه السلام إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، لعدم توقّف ثبوت النصّ القرآنيّ على المخطوط، وإنّما على شروط أخرى؛ من أهمّها: النقل بالتواتر.

- كما يوجَّه إلى ديروش سؤالًا؛ مفاده: لماذا الاكتفاء بما أورده من مخطوطات مع أنّ هناك مخطوطات قرآنيّة أخرى ؟ ربّما يُجيب لوضوحها أو لِمَا اشتملت عليه من آثار فنّيّة في خطها، أو ما تعلّق بها من نقوش ورسومات فنّيّة دالّة على الحالة الفنّيّة في عصرها، وربّما تكون هذه هي الفائدة المعتبرة من دراسة ديروش، حيث تُبيّن الحالة الفنّيّة في العصر الأمويّ.

- وسؤال أخير؛ هو: هل المخطوطات القرآنيّة محلّ الدراسة تمثّل القرآن كله بسوره (114) أو بعض أجزائه ؟ نجد ديروش يُبيّن أنّ إحدى المخطوطات تتكوّن من 64 صحيفة جيء بها من الفسطاط، وأنّه يُشكّل النصَّ حوالي ربع القرآن»(2) وهذا يؤكّد ما سبق أنّ الفائدة المعتبرة من دراسة ديروش هي بيان الحالة الفنّيّة في العصر الأمويّ دون زيادة على ذلك.

ويبقى أنْ توجَّه إليه تساؤلاتٍ عامّة تدور في فلكها الدراسة والبحث؛ بغية أن يضع لها جوابًا أقرب إلى الواقع والصواب من المنطق العقليّ، أو تمثل قضيّة محوريّة معيّنة يريد أن يسبر غورها، ويستقصي أبعادها حتى يُشبع رغبته العقليّة، أو يضيف جديدًا إلى المكتبة العلميّة. ومن التساؤلات الملحّة للطرح على البحث ما يلي:

- كيف كان للمصحف المخطوط (في جانبه المادّيّ)(3) دورُ مهُمٌّ في ترسيخ الإيمان بالدين الجديد داخل الجماعة الإسلاميّة ؟ والمصحف في جانبه المادّيّ يُقصد منه كونه

ص: 91


1- دیروش ،فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، ص 14.
2- م.ن، ص 13.
3- هذا الجانب المادي للقرآن تناوله المسلمون الأوائل بالبحث الشهير عند المتكلمين في مسألة (صفة كلام الله تناولوا فيها الحديث عن حكم المصحف المكتوب هل له قدسية القرآن ككلام لله تعالى القديم الأولي؟ وهو ما جعل المسلمين ينقسمون إلى أهل سنة يفرقون بين کلام الله كصفة وبين المكتوب بالمداد في المصحف، وحشوية مجسمة. أردت فقط التنويه إلى تناول المسلمين لهذا الجانب بالبحث والدرس.

مكتوبًا بين لوحين بألفاظ ثابتة ومادّة الورق ولون المداد وحجم المخطوط، وعدد ورقاته، ونوع الخطّ المنسوخ به ومَنْ الناسخ وديروش بذلك يقوم بنظر مادّيّ مجرّد، ولكن لا يعني ذلك أنّ رؤيته بعيدةٌ كلّ البعد عن مدى تأثير القرآن في الجماعة المسلمة، بل إنّه يبحث عن مدى تأثير القرآن المخطوط في العقول والقلوب المؤمنة به.

- ما مدى علاقة الألواح والمخطوطات القديمة بتحديد زمن تدوين القرآن؛ سواء من حيث قِدَم العصر أو حداثته؟ وما هو تاريخ المصاحف حيث تتبّع ديروش تطوّر المصحف الكريم مع تبنّي رؤية أنّ الوحي كان قديمًا قبل التدوين؟ لما لم يلاحظ بحث ديروش العمق التشريعيّ في القرآن كما لم يبحث عن فنّ الأداء القرآنيّ، وعن أثر تلاوة المسلم له في صلاته، وعن مدى تأثير المصحف في القارئ، وأنّ المسلم يزداد إيمانًا بمجرّد تلاوة القرآن:«اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَتْهُ زَادَتْهُمْ إِيمَنَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» [سورة الأنفال، الآية2]، وعن علاقة القارئ به من حيث التعبّد أو التضرّع لله تعالى؟ إذًا تبدو جليّة علاقة المسلم بكتاب ربّه لدى المسلمين في شتّى ربوع الأرض، وبقدر أقل تبدو الأهمّيّة الفنّيّة والتاريخيّة جليّةً في المخطوطات القرآنيّة التي وقف عليها ديروش.

ج. الْمَقولة الثالثة: انتفاء العلم بمكان نسخ المخطوطات):

قال ديروش في دراسته: "إنّه من المتعذّر علينا حاليًّا أن نعرف على وجه اليقين الأماكن التي جرى فيها نسخ مختلف المخطوطات التي سأعرضها"(1)، كما أكّد قوله هذا، بقوله:«يظلّ مكان النسخ مسألة شائكة من جهة أخرى، فالفرضيّات التي قيلت حول أصل الخطّاطين، ومن ثمّ حول الأماكن التي تعلّموا فيها الكتابة تحظى جميعها بالقبول، ومن الجائز بالمقابل أن يكونوا منحدرين من بيئات مختلفة»(2) وقوله أيضًا:«من الصعب أن نفضي إلى يقين بخصوص أصل هذه المخطوطات، فقد تكون مُستقدمة من مخزن الفسطاط، أو مخزن دمشق، ولا نملك فهرسًا لمخطوطات صنعاء لننظر إن كان

ص: 92


1- دیروش فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، م.س، ص10.
2- م.ن، ص 12.

هذا النّوع موجودًا فيها أم لا»(1) إنّ هذا يدلّ على قيام دراسة ديروش على الاحتمال والظنّ في معرفة مكان النسخ ومعرفة أصل الناسخ والمكان الذي تعلّم فيه الكتابة. ولذا يرد عليه ما يلي:

أوّلًا: لا مجال للظنون والاحتمالات في مقام المنهج العلميّ القويم؛ لأنّ الظنّ والاحتمال لا ينتج يقينًا، ثمّ إن دراسات دیروش تتعلّق بكتاب يعظّمه ملايين البشر، فمن الواجب أن ينحو منحى المبادئ اليقينيّة لدى أهل العلم والاعتبار، وألّا يكون الكاتب - ديروش أو غيره - لاعبًا، أو في مقام العابث.

ثانيًا: عدم معرفة ديروش مكان نَسْخِ المخطوطات القرآنيّة وكتابتها، ومن الممكن الميسور أن يكتب إنسانُ في أقصى الأرض مخطوطاً، ثمّ يذهب به إلى أقصاها؛ ليدخلها على أناس لم يكتبوها، وهذا ما أقرّ به ديروش بقوله: "لا أن يكون المصحف مستجلبًا من مصر، حيث عثر عليه في الفسطاط، أن يكون قد وقع نسخه هنالك»(2)، وهذا إقرار يضعف من القيمة الدينيّة للمخطوط، ويبقي لنا فيه قيمة تاريخيّة فنّيّة.

ثالثًا: ليس القِدَم التاريخيّ أمارة على صحّة المخطوط، فربّما يكون ممّا كُتِبَ قبل الاتّفاق على المصحف الإمام، وفي ذلك تغيير قراءات وتصحيف، ثمّ لا يُؤْمَن أن يكون النّاسخ أمينًا صادقًا قد تلقّى ما كتبت يده عن طريق صحيح؛ عن الصحابة؛ عن النبي، أو لا يكون ذلك؛ لأنّ قيمة درس القرآن من ناحية كونه مخطوطًا يُقبل من ناحية الدلالة على عصر كتابته فقط، ولا قيمة له لنفي نصّ للقرآن أو إثباته، كما أنّه لا قيمة له أو فائدة لإثبات عقيدة أو شريعة أو قيمة خلقيّة، لكن يثبت قيمة جماليّة فنّيّة وتاريخية فقط.

رابعًا: في هذا اعتراف ضمنِيّ لِمَا سبقت الإشارة إليه من أنّ حملة بونابرت الفرنسيّة سرقت مخطوطات الشرق وسلبت الأوطان إرثها، وأنّ هذه المخطوطات القرآنيّة محلّ

ص: 93


1- دیروش فرانسوا ضبط) الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية)، م.س، ص16.
2- دیروش ،فرانسوا ضبط) الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية)، ص.12.

الدراسة، أو غيرها ليست ملكًا لفرنسا(1)، أو ألمانيا، أو غيرهما، وإنّما هذه المخطوطات ملك أوطان سليبة الإرث والحضارة وقد أخذها المحتلّ الغربيّ في غفلة من الزمان، ولو أنصف دارسو المخطوطات لأقرّوا بذلك وأعادوا الأمانة إلى أهلها، ومع هذا، فإنّني أرى إمكانية التعرّف على مكان نسخ المخطوط القرآنيّ، من خلال التتبّع والمقارنة بين سلسلة تاريخ المخطوط وبين مدارس الخطوط في الوطن الأمّ، وهذا جهد مضنيّ لا يقدر عليه ديروش وحده، لذلك اعترف بالعجز.

د.الْمَقولة الرابعة: (القرآن والتجربة الروحيّة - بين إنكار الوحي وإقراره):

سار ديروش في نظرته إلى الوحي القرآنيّ على نهج المستشرقين السالفين، حيث أنكر وحيانيّة القرآن ولم يعترف به كتابًا سماويًا موحىً به، وعبّر عنه بالتجربة الروحيّة(2). وإنّ إنكار ديروش لوحيانيّة القرآن تعدّ تفرقةً بين المتماثلين وهي ثغرة كبرى في منهجيّته؛ لأنّ الوحي سمة القرآن والتوراة والإنجيل على حدّ سواء، وهذه عقيدة أهل الإسلام. لكنّ يبدو أنّ ديروش يتبنّى مفهومًا للوحي مخالفًا لمفهوم الوحي في الإسلام(3)، وهذه المسألة من أصول الرسالات السماويّة التي ينتمي إليها ديروش.

وإنّ التعبير الذي استخدمه ديروش للدلالة عن الوحي هو: «لم تعد تطرح مسألة أصالة التجربة الروحيّة عند الرسول»(4)، وهو إنكار لوحي القرآن وإيماء إلى انّه یرجع الی تجربة روحيّة للنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم. ومع أنّ القرآن بالفعل روح البشريّة كلّها، وفيه تكمن استقامة حياة البشر ، لذلك كان التعبير بأنّه تجربة روحيّة اصطلاحًا غير مناسب وغير صالح في مقام التعبير عن القرآن؛ وذلك لأسباب عديدة منها ما يلي:

أوّلًا: إنّ التعبير بالتجربة الروحية غير مناسب للقرآن؛ لأنّ هذا التعبير قاصرُ على شخص في نفسه حيث لا تتعدّى التجربة صاحبها إلى غيره، أمّا القرآن فهو رسالة

ص: 94


1- ومع هذا فإن المكتبة الوطنية الفرنسية تتيح قدرًا كبيرًا من هذه المخطوطات للتحميل عبر موقعها الرسمي على الشبكة المعلومات العالمية الإنترنت، ويبقى أن تعرب هذا الجانب ليكون أكثر سهولة في البحث على الباحثين العرب.
2- الشيخ حليمة المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش، م.س، ص 51.
3- فلا بد من الإشارة إلى أن مفهوم الوحي في اليهودية والنصرانية يختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الوحي في الإسلام، وهذه مسألة یرجع فيها إلى علاقة الكتب السماوية بالعلم وموقف العلماء منها وآثارها المترتبة - دراسة مقارنة تحليلية د. الأمير محفوظ محمد، بحث منشور بمجلة كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة (مجلة علمية سنوية محكمة)، العدد (28)، الإصدار الثاني (2015-2016، ص245-255
4- الشيخ حليمة «المستشرق الفرنسي فرانسوا دیروش»، م.س،ص 52.

سماويّة يتعدّى أثرها إلى غير من نزلت عليه، فقد تعدّى بالفعل أثر وحي القرآن النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم إلى كلّ مؤمن بالقرآن في حياته وبعد وفاته، وقد بلغ عدد الأتباع في حياته المئة ألف مقتدٍ به أو يزيدون.

ثانيًا: إنّ صاحب التجربة الروحيّة مقيّد ببيئته الاجتماعيّة ونشأته فيها، بينما نجد صلاحيّة العمل بالقرآن في كلّ زمان ومكان، ومن غير صدام بيئة مع أخرى، أو تنشئة مع أخرى؛ ما استقامت فطرة الإنسان.

ثالثًا: التجربة الروحيّة لا يعدو أثرها العاطفة القلبية، فهي عاطفيّة غير عاقلة، بينما كانت القناعة العقليّة والطمأنينة القلبيّة وصفين تحلّى بهما كلّ مقتدٍ متّبعٍ للنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لأنّ أتباع النبي من قبائل متنوّعة وألوان مختلفة، يبلغون حدّ التواتر؛ فيُؤمن تواطؤهم على متابعته لغرض دنيويُّ أو عصبيُّة لقبيلته.

رابعًا: إنّ التعبير بالتجربة الروحيّة فيه قصور؛ لأنّ من تأمّل رسالة وحي القرآن أدرك - ومن أوّل وهلة- أنّها رسالة تُعجز حكماء البشريّة مجتمعين عن وضعها؛ لأنّها تحمل رؤية عامّة شاملة واقعيّة لحياة البشر بصورة متوازنة بين الرّوح والجسد والعقل والقلب والدين والدنيا دون أن يجور جانب على آخر.

خامسًا: إنّ منهج دراسة المستشرقين لوحي الإسلام غير موضوعيّ أو منصف، ومن الحكمة إدراك هذا المنهج؛ فقد خلص ديروش إلى دراسة القرآن من ناحية تاريخيّة، أو من ناحية كونه مخطوطًا تراثيًّا فما باله يحكم على القرآن بأنّه تجربة روحيّة، وهذا يدعو إلى أن نقول: إنّ الغرض الذي تغيّاه ديروش من وصف القرآن بأنّه (تجربة روحية) لا يعدو التمحّل الاستشراقيّ التحليليّ لعمليّة الوحي، حيث يفسّر الوحي بحالة نفسيّة شعوريّة مستعلية، وهو نتاج التجربة الخاصّة للنبي من التركيز والانتباه، ثمّ التعبير عنه في قالب لغويّ بليغ؛ حتى أخرج لنا هذا القرآن وما هذه إلّا مهاترة استشراقيّة، فلا يمكن التعبير عن القرآن بهذه الصورة الاختزاليّة، وإنّ ديروش قد سار مع من سار فيها، مع أنّه مستشرق يدين بالمسيحيّة التي تؤمن بالوحي - على وجه من الوجوه - فلِمَ تغيّر حكمه على القرآن فنفى الوحي عنه ؟!.

ص: 95

ه.المَقولة الخامسة: (الكتابة بين كتب الديانات):

أتساءل مع ديروش: كيف حدث الانتقال من الوحي الشفهيّ إلى النصّ الكتابي؟ في هذه النقطة حاول ديروش أن يُبيّن مشروع ضبط القرآن عن طريق الكتابة من خلال النصّ القرآنيّ، فيقول: «إنّ آيتي سورة آل عمران من القرآن؛ وهي قوله :«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَنَةَ وَالْإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ» [سورة آل عمران الآيتان ،3-4] تشيران إلى أنّ الكتاب الذي أرسل إلى المسلمين يمكن مقارنته تمامًا بالكتب التي تُوجد من قبل عند الديانتين الأخريين»(1)، ثمّ حاول أن يستكشف تاريخ كتابة القرآن في عهد النبي ومواضع ذلك من التاريخ مستبعدًا أن يكون قد كُتِبَ القرآن كاملًا في حياة النبي محمّد حيث يقول: «من المستبعد أن تكون نسخة مكتوبة كاملة قد رأت النّور في حياة النبي وتحت إشرافه»(2).لقد وقع ديروش في مجازفة بتوسّعه في استدلاله على مطلوبه لأسباب، من أهمّها:

- استدل دیروش بقوله:«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ»؛ وأداة التعريف (أل) في كلمة (الْكِتَابَ) يفهم منها جنس الكتاب، فيفيد كلَّه ،وبعضَه، أو يفهم منها شخص الكتاب فيفيد كلّه فقط، ومن الواضح أن ديروش فهم منها (الكتاب نفسه كاملًا)، وهذا أمرُ مستبعد عقلًا، وغير واقع فعلاً أنْ يراد منه اسم الشخص؛ لعدم انتهاء وحي القرآن بعد، كما اعترف ديروش بذلك فقال:«من المستبعد أن تكون نسخة مكتوبة كاملة قد رأت النور في حياة النبي وتحت إشرافه»(3)؛ فيتعينّ إذن أن يُراد بالكتاب ويفهم منه«جنس ما نزل من الكتاب كلًّا أو بعضًا»، وهذا وارد كثيرًا في القرآن؛ كقوله تعالى:«ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ» [سورة البقرة الآية2]، وقوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [سورة البقرة الآية 129]، ومن المفهوم في لغة العرب أن يطلق الكتاب على الشخص كلّه، وعلى الجنس الشامل لبعض سوره وآياته، وعلى الشامل لكلّه كذلك.

ص: 96


1- دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابًا مخطوطاً»، م.س، ص8؛ الشيخ حليمة، المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش»، م.س، ص 51.
2- دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتاباً مخطوطا» م.س
3- م ن.

- إنّ مقارنة كتابة القرآن بكتابة الديانتين الأخريين مقارنةً غير مستقيمة ولا صالحة؛ لاختلافهما في النزول؛ فنزول التوراة والإنجيل هو نزول دفعيّ جمليّ، بينما نزول القرآن بسوره وآياته هو نزول تدريجيّ منجّمًا طيلة مدّة البعثة النبويّة الشريفة، وهذا فرق كبير يحتّم أن يكون وحي التوراة مكتوبًا في حياة النبي موسى علیه السلام، وكذلك وحي الإنجيل مكتوبًا في حياة النبي عيسى علیه السلام بينما النزول التدريجيّ للقرآن منجَّمًا(1)، لا ينفي جملةً كتابة النجوم المنزَّلة من القرآن وإن انتفت الكتابة الكاملة له؛ لعدم انتهاء إرسال وحي القرآن نجومًا بَعد.

- من فوائد نزول القرآن: الردّ على السائلين، وبيان أخبار الأحداث الواقعة؛ لذلك ترتّب على هذا النوع من النزول مئات أسباب النزول، وهو علم مستقلّ، ولا يتوفّر عند

الكتب السماويّة السابقة.

- لا يعني نزول القرآن منجَّمًا أنّ آياته وسوره وأجزائه التي تنزّلت منه لم تُكتَب؛ لأنّ كتابة القرآن كانت كتابة جزئيّة لكلّ ما ينزل مباشرة قبل انتهاء نزول القرآن كلّه

عهد النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وقد اعترف ديروش بذلك، فكُتِبت النجوم القرآنيّة أولاً بأوّل على «العظم الكتفي، وسيقان النخل، وقطع الحجارة وورق البردي، والجلود»،كما اعترف ديروش بأنّه «طالما كان النبي على قيد الحياة فالرسالة القرآنية في تطوّر، وثمّة وحي مستمرّ حال دون نسخة كاملة»(2)؛ فهو يعترف باختلاف طبيعة نزول القرآن عماّ سبق، وديروش يقصد بكلمة (التطوّر)؛ أي زيادة الآيات التي تتنزّل على النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بين الحين والآخر.

- المعلوم لدى علماء المسلمين تحديد بداية أوّل نجم نزل من القرآن في سورة العلق وبيان آخر نجم نزل منه؛ وهذا ما لا يتوفّر مثاله في الكتب السابقة.

ص: 97


1- النزول المنجم للقرآن: هو أن ينزل نجماً تلو نجم من القرآن وليس النزول على النبي جملة واحدة، وهذا أحد علوم القرآن المبينة لكيفية نزول القرآن. انظر: الإمام الزركشي، البرهان في علوم القرآن، م.س، ج 1، ص 228-232 الإمام السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج1، ص 148.
2- انظر ،دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابًا مخطوطا، م.س، ص98.
ه_ .الْمَقولة السادسة:(التشكيك في دافع أبي بكر لجمع القرآن):

- شكَّك ديروش في الدافع الذي دفع أبا بكر لجمع القرآن بين لوحين، فقال:«الحدث الذي يفترض أنّه أثار هذه التخوّفات؛ وهو معركة اليمامة(1) كان في الواقع أقلّ هلاکًا بالنسبة إلى الحفاظ ممّا يفهم من كلام عمر»(2) وهذا مردود لأسباب منها:

- وثق المحدِّثون والمؤرّخون المسلمون لحدث جمع أبي بكر الذي بيَّن فيه عمر الدافع لجمع القرآن وضرورته لأبي بكر ، وهو الخليفة وصاحب القرار الأوّل والأخير، فقال: «إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ»(3). إِذًا كانت دوافع الجمع تدور بين قتل بعض قرّاء القرآن والخشية على ذهاب كثير من القرآن.

- اعتراف ديروش بحقيقة جمع أبي بكر للقرآن وهذا أمر يحسب له؛ إذ أنصف التاريخ، وأمّا اعتبار قتلى اليمامة قلّة أو كثرة، فهذا أمر نسبيّ قد نتّفق مع ديروش فيه أو نختلف، ولن يُضيف جديدًا لحدث الجمع نفسه بعد الاعتراف به، وإن كنت أختلف معه؛ لأنّ معركة اليمامة(4) إحدى المعارك التي خاضها أبو بكر، وكانت ضمن حروب عديدة سمّيت في التاريخ بحروب الردّة لها الأثر نفسه، ولكنّ أشهرها معركة اليمامة.

- قصّة القرآن في عهد أبي بكر(5) تدلّ في جملتها بما لا يدع مجالاً للشكّ - على

ص: 98


1- اليمامة من بلاد اليمن جنوب الحجاز معدودة من نجد كانت تسمى اليمامة بجوی والعرض- بفتح العين وما حولها للبحرين فسميت باليمامة بنت سهم بن طسم ومنازل عاد الأولى الأحقاف، وهو الرمل ما بين عُمان وعدن وكانت مساكن جرهم بتهائم اليمن ثم لحقوا بمكة ونزلوا على إسماعيل، وكانت منازل العماليق موضع صنعاء ثم نزلوا حول مكة. انظر الحموي : شهاب الدين ياقوت: معجم البلدان ط2، بيروت، دار صادر (1995م)، ج 5، ص 442.
2- دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابًاً مخطوطا)، م.س، ص9.
3- أخرجه الإمام البخاري في صحيحه رقم: (4679) من حديث زيد بن ثابت الأنصاري. قوله: (اسْتَحَرَّ) أي اشتد وكثر، وقوله: (المواطن) مواضع المعارك التي يجاهد فيها القراء المسلمون
4- معركة اليمامة وقعت في أواخر سنة (11ه-)، أو أوائل سنة (12ه-)، وكانت لحرب الكذاب مسيلمة كما كانت حروبا مشابهة لأهل الردة من البحرين وعمان انظر تاريخ الطبري، ج 3، ص 343-419 ابن كثير: البداية والنهاية تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، (1418ه- / 1997م)، ج 9، ص474-480
5- استغرق جمع وكتابة القرآن خمسة عشر شهرًا، وانتهى قبل وفاة أبي بكر. انظر العبيد علي بن سليمان جمع القرآن الكريم حفظا الملك فهد لطبع المصحف الشريف بالمدينة المنورة (د. ت) ص 39؛ الزهراني، مرزوق بن هياس آل مرزوق الهادي والمهتدي ط 1 ، طبع على نفق الشيخ جمعان بن حسن الزهراني، (2015م)، ص91.

أمور: أوّلها: سرعة استجابة أبي بكر لمطلب عمر. ثانيها: قرب عهد هذا الجمع من وفاة النبي، فقد كان بعد سنة أو أقلّ من ذلك من وفاة النبي وانتهاء وحي القرآن ثالثها: شدّة حرص كبار الصحابة على المحافظة على نصّ القرآن وتدوينه وتوثيقه وذلك بعد وفاة النبي محمد مباشرة. رابعها: ديناميّة الفكر الإسلاميّ وعدم الوقوف على نمط واحد؛ فلم يكتفِ المسلمون الأوائل بجمع القرآن كلّه جزئيًّا عند كلّ الصحابة خامسها: الجمع للقرآن بين لوحين يعتبر «نقلة نوعية» لتدوين القرآن الكريم وهي غير مسبوقة، أو ثابتة السائر الكتب السابقة؛ لذا فإنّ المقارنة بين القرآن وسائر الكتب السابقة لا تصحّ.

و. الْمَقولة السابعة:(مرحليّة كتاب القرآن):

يكتفي ديروش في هذا السياق بالإحالة على رؤية المستشرق الإنجليزيّ ريتشارد بيل (Bell (R)(1)؛ ومُفادها: أنّ القرآن نزل أوّلاً في مقطوعات صغيرة كوَّنت السور في ما بعد على ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى: قصيرة جدًّا ومبكرة، وهي مرحلة الآيات التي تتحدّث عن آيات الكون وأدلّة قدرة الله، وهي الآيات التي تمثّل المرحلة المكّيّة الأولى.

المرحلة الثانية: هي مرحلة القرآن التي تمثّل من وجهة نظره مجموعة فصول أريد لها أن تُقرأ، وأن تكون بمنزلة القدّاس في الكنائس لأغراض بعيدة، وهي التي هيمنت فيها مفردة (القرآن) وهي تغطي السنوات الأخيرة بمكّة وبداية الإقامة في المدينة إلى حدود غزوة بدر.

المرحلة الأخيرة: هي مرحلة الكتاب ويشار فيها إلى الكتاب ویراد به مجمل التنزيل وهي التي هيمنت فيها مفردة (الكتاب) وندر استعمال كلمة القرآن وفي المقابل تضاعفت إحالات الكتاب التي تمثّل استمرار الوحي(2).

ص: 99


1- ريتشارد بيل مستشرق إنجليزي من رجال الدين وأستاذ اللغة العربية بجامعة إدنبرا مشتهر برجاحة العقل صرف سنين كثيرة في دراسة القرآن وتاريخه دراسة متوالية أكد على العلاقات المسيحية بالنبي، له ترجمة للقرآن) (1941)، بهدف تحليل السور المتفرقة بوضع قوانين النقد الأدبي لها، وله: (محمد والرسل السابقون) (1934)، و(معلومات محمد عن العهد القديم ) بمجلة (الدراسات السامية والشرقية) (1945) وغيره من المؤلفات. انظر: العقيقي المستشرقون، م.س، ج 2، ص 527-528.
2- المكي والمدني أحد علوم القرآن المعتبرة التي يؤسّس من خلاله بيان وتفسير أحكام شرعية في القرآن ولهذا العلم علاقة بأصول الفقه فيه يتبين الأسبق نزولا ليتخصص به العام، وينسخ به المتأخّر المتقدم وغيره. (الباحث).

وتجدر الإشارة إلى أنّ (الكتاب) أحد الأسماء التي تطلق على القرآن الكريم، قال تعالى:«وَهَذَا كِتَبُ أَنزَلْتَهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ»[الأنعام: 92] ونردّ على تلك المرحلية التي ادّعاها ديروش من جهات عدّة، وهي:

أوّلًا: إنّ هذا التقسيم المرحليّ يستمدّه ديروش ممّن سبقه من المستشرقين؛ أمثال: ريتشارد بيل وتيودور نولدكه وغيرهما ، فهو اجترار لأقوالهم من غير تعقّل لما وقعوا فيه من أخطاء، كما أنّه تكرارٌ لا يليق مع أهل العلم.

ثانيًا: إنْ سلّمنا بالقول بهذه المرحليّة، فإنّها تؤكّد على تقسيم القرآن إلى (المكّيّ والمدني)(1)، كما تؤكّد صعوبة تدوين القرآن بين لوحين في العهد النبويّ، وليس في ذلك تقصيراً من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وإنّما ملائمة لطبيعة التنزيل القرآنيّ، كما تؤكّد على ضعف مغايرة كتابة القرآن عن سائر الكتب السابقة، فلا تصلح المقارنة بينهما للنزول المنجَّم؛ وبذلك يكون ديروش يتناقض كلامه - هنا - مع ما سبق عرضه في المقالة الثانية، فكلامه متناقض مع نفسه.

ثالثًا: الغرض من تلك المرحليّة - في ما أرى الإيماء والتلميح إلى تناوب مَن بالمدينة من أهل ذمّة وكتّاب يقرأون التوراة وإشارة لما أثير من أخذ محمّد كتابه من تلك الثقافات الكتابيّة الأولى لدى أهل الكتاب. وينقض تلك المرحليّة من الأساس تداخل ورود مفردة «القرآن» بالمدينة ومفردة «الكتاب» بمكّة ويبدو هذا التداخل في ما يلي:

* وردت مفردة (القرآن) في سور مدنيّة بلا خلاف؛ منها على سبيل المثال: ورود مفردة (القرآن) في سورة البقرة المدنيّة في قوله - تعالى -:«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ» [سورة البقرة الآية 185]، كما وردت في سورة النساء المدنيّة في قوله - تعالى -: « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ» [سورة النساء، الآية82]، وفي سورة المائدة المدنيّة؛ وهي من أواخر السور المنزلة في القرآن، وفيها قوله -تعالى-:

ص: 100


1- انظر ،دیروش ،فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابا ،مخطوطا، ترجمة: سعيد البوسكلاوي، الدراسات والأبحاث قسم الدراسات الدينية، مؤمنون با حدود سنة 2017، ص 6-7 ؛ الشيخ حليمة، المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش) م. س ص 51-52

«يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْتَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ»[سورة المائدة، الآية 101]، وفي سورة الكهف المدنيّة في قوله -تعالى-: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ» [سورة الكهف، الآية54]، وفي سورة الحشر المدنيّة في قوله -تعالى-:«لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» [سورة الحشر ، الآية21]، وغير ذلك من المواضع.

* وردت مفردة (الكتاب) في سور مكّيّة؛ منها على سبيل المثال: ورود مفردة (الكتاب) للدلالة على مجموع الوحي المعصوم في صدر بعض السور ذات الحروف المقطّعة، وكثير منها نزل بمكّة؛ من ذلك ما ورد في صدر سورة يونس في قوله - تعالى -:«الر تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ الْحَكِيمِ» [سورة يونس الآية 1]، وفي صدر سورة يوسف في قوله -تعالى-:«الر تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ» [سورة يوسف، الأية1]، وفي صدر سورة الرعد في قوله -تعالى-:«المَرَّ تِلْكَ عَايَتُ الْكِتَبِ »[سورة الرعد الآية 1]، وفي صدر سورة القصص في قوله -تعالى-:«تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ» [سورة القصص الآية 2]، كما ورد في الحواميم السبع: وهي سور مكّيّات؛ منها قوله - تعالى-:«وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَبٍ» [سورة الشورى الآية14].

* وردت مفردة (القرآن والكتاب) في سورة يونس المكّيّة في قوله - تعالى -:«وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْهَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ» [سورة يونس الآية 37] كما وردت (الكتاب) مرتين في آية واحدة وأُريد بالأولى وحي القرآن، وأريد بالثانية ما أنزل قبله من التوراة والإنجيل في قوله -تعالى-:«وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ فَالَّذِينَ ءَانَيْنَهُمُ الْكِتَبَ» [سورة العنكبوت الآية 47] ، كما وردت (الكتاب) ويُراد بها غير القرآن؛ كما في سورة هود في قوله -تعالى-:«وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ» [سورة هود، الآية110]، وقوله - -تعالى-:«وَعَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ» [سورة الإسراء، الآية 2]، وكذلك قوله -تعالى-:«وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ فِي الْكِتَابِ لَنُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَنَعْلُنَ عُلُوًّا كَبِيرًا» [سورة الإسراء، الآية4].

ص: 101

رابعا:ذهل ديروش عن أنّ دلالة مفردة (القرآن) قطعيّة وغير قابلة للتأويل؛ فمعناها ،قطعيّ، والمراد به هو الوحي المنزّل على النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وذلك في المواضع كلّها الواردة فيها لفظة (القرآن)، وعددها (43) موضعًا. بينما تأتي مفردة (الكتاب) على معانٍ كثيرة منها اللّوح المحفوظ، ومنها عموم الكتاب المنزل من قبل من عند الله كالتوراة، كقوله - تعالى-:«يَيَحْيَى خُذِ الْكِتَبَ» [سورة مريم، الآية12]، وقوله -تعالى-:«وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ» [سورة النور، الآية33]، وفي قوله --تعالى-:«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضُ مِثْلُهُ يَأْخَذُوهُ أَلَمْ مِيثَقُ الْكِتَابِ أَن لَّا

يُوجَد عليهم يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ» [سورة الأعراف الآية 169].

خامسًا: العلاقة المتداخلة عرفًا وعادة بين القراءة والكتابة؛ فمن البديهي أنّ القراءة تكون لشيء مكتوب، وأنّ كلّ قارئ لا بدّ أنْ يكون كاتبًا غالبًا، وما دام القرآن مقروءًا، فلا بدّ أن يكون مكتوبًا بأيّ وسيلة كانت الكتابة حتّى وإنّ كانت وسيلة مناسبة لأهل العصر النبويّ الأوّل، وبطريقة أوّليّة وبدائيّة.

سادسًا: هذا يدلّ - وبصورة قاطعة - على أنّه ليس كلّ ما ورد فيه لفظ (القرآن) يدلّ على مرحلة أوّليّة تدلّ على تدوين أوّليّ قائم على التلقّي الشفهيّ، ولا كلّ ما ورد من لفظ (الكتاب)، يدلّ على مرحلة أخيرة دالّة على استقرار التدوين بالكتابة ل_"يطابق في جوهر التطوّر الذي يقود تعاليم الوحي إلى الكتابة"(1) في زعمه.

بل العجيب أن نرصد تداخل التلاوة مع الكتابة نظريًّا وعمليًّا؛ أما نظريًّا ففي قوله -تعالى-:«اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ» [سورة العنكبوت، الآية 45]، حيث أمر بتلاوة المكتوب والتلاوة هي قراءة القرآن، وأمّا عمليًّا ففي تعظيم الوحي لأدوات الكتابة من المحبرة والقلم والورق وعملية الكتابة نفسها، قال -تعالى-:«وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ» [سورة القلم الآية 1]، وقال -تعالى-:«وَكَتَبٍ مَسْطُورٍ فِي رَةٍ مَّنشُورٍ» [سورة الطور، الآيتان2-3]، فأقسم بها وتلك أدوات يستعملها

ص: 102


1- دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابا مخطوطا، م.س، ص7.

الكتبة في كتابة وحي ،القرآن وغاية ما في الأمر أنّ (الكتاب والقرآن) كلاهما مفردتان تَسمَّى بهما الوحي القرآني للنبي الخاتمّ صلی الله علیه و آله و سلم، وتدلّان عليه، فإن (القرآن) يدلّ على أنّه وحي،مقروء، و(الكتاب) يدلّ على أنّه وحي مكتوب؛ وذلك لارتباط القرآن بالإعجاز؛ أكان مقروءًا أم مكتوبًا.

ز.المقولة الثامنة: دوافع جمع عثمان للقرآن):

قام فرانسوا ديروش بوصف أسباب جمع عثمان ودوافعه بحسب الرواية التقليديّة، وحاول إظهار وجود اختلافات في تلاوة النصّ، فيلفت انتباه القارئ إلى"الصعوبات التي تثيرها النسخ التقليديّة - يقصد المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار - حيث يُبيّن أنّ أقدم المخطوطات القرآنيّة التي تعود للنّصف الثاني من القرن السابع غير قادرة على تقديم الحلّ الموثوق للمشكلة، التي يفترض أن يحلّه مصحف عثمان(1). ونردّ على ذلك من جهات عدّة؛ هي:

أولًا: إنّ دوافع عثمان كانت جادّة، وهي تدلّ على اهتمام الصحابة والتابعين بجمع القرآن؛ باعتباره سببَ جمع المسلمين واتّفاقهم ووحدتهم، لذلك أرسل عثمان سبع نسخٍ من المصحف الإمام إلى الأمصار، ففي كتاب المصاحف: «لمّا كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدًا إلى مكّة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى ،اليمن، وآخر إلى البحرين وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا»(2).

ثانيًا: أمّا الاختلاف حول التلاوة؛ فهو أمر طبيعيّ؛ نتيجة اختلاف اللهجات وطبيعة الخطّ والرسم و.... وهذا لا يضرّ بالإسلام أو بالقرآن في قليل أو كثير؛ ففرق بين النصّ القرآنيّ وقراءة النصّ القرآنيّ ومجرّد الاختلاف في القراءة لا يعني الاختلاف في النصّ

ص: 103


1- انظر ،دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابا مخطوطا، م.س، ص 10
2- أبو بكر بن أبي داود عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني المصاحف، تحقیق محمد بن عبده، ط1، القاهرة، الفاروق الحديثة، (1423ه-/2002م)، ص 133.

ثالثًا: بناء على ما سبق أودّ الإشارة إلى أمور ضروريّة؛ وهي:

إجماع الصّحابة المعاصرين على هذا الجمع العثمانيّ للقراءات، فلم ينكره أحد منهم، والإجماع حجّة، فقد قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص: «أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلّم- مُتَوَافِرِينَ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُم عَابَ مَا صَنَعَ عُثْمَانُ فِي الْمَصَاحِفِ»(1)، ومهما كان من تشكّك في مصحف عثمان ودعوى أنّه لم يلقَ قبولاً من كلّ المسلمين(2)، فهي دعاوى مرسلة لا يشهد بها التاريخ ولا الواقع.

* قصد عثمان جمع القراءات، قال الإمام الباقلاني :" عثمان لم يقصد قصد أبي بكر في جمع القرآن نفسه بين لوحين، وإنّما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروضة على الرسول، وإلغاء ما لم يجرِ مجرى ذلك"(3) ؛ وهذا ما اعترف به دیروش سلفًا.

* من الطبيعي أن يأخذ النّاس فترةً زمنيّة حتّى يستقرّوا على مصحف الإمام؛ قراءة ورسم كتابةٍ؛ لذا فإنّ أيَّ اختلاف عن مصحف عثمان بعد جمع القراءات أمرٌ طبيعيٌّ؛ كالذي جرى في حياة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وإنّ المستشرق ديروش لو تحلّى بمنهجيّته التاريخيّة التي يؤمن بها لِعلم بناءً على ما سبق أنّ هذه طبيعة الأشياء، وهو ما لا ينسجم مع ثقافة ديروش أو غيره من المستشرقين.

* إنّ القرآن الكريم بقراءاته المعتمدة لدى المسلمين هو ما توفّرت فيه شروط؛ وهي:(تواتر النّص القرآنيّ، وصحة النسبة إلى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، والموافقة لرسم مصحف عثمان، وموافقة الأفصح والأفشى من لسان العرب، وشهرة القراءة بين المسلمين).

* هناك جمعٌ حديث صوتيّ للقرآن وقراءاته عاصره المستشرق الألماني برجشتراس -وهو شيخ ديروش- فقد أقرّه وثمَّنه؛ وهو يُسمى ب_ (الجمع الصوتي الأوّل للقرآن)، ثُم

ص: 104


1- بن شبة عمر تاريخ المدينة، تحقيق: فهيم محمد شلتوت لا ط طبع في جدة السعودية سنة (1399ه-)، ج 3، ص1004، فصل: كتابة القرآن وجمعه
2- انظر: الشيخ حليمة «المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش»، م.س، ص51.
3- الباقلاني، القاضي أبو بكر: الانتصار للقرآن تحقيق د. محمد عصام القضاة، ط1، عمان ،بیروت، دار الفتح، دار ابن حزم، (1422ه-) 2001م)، ج 1، ص 5 .

نفذت الفكرة بعدما رحَّب بِها علماء الإسلام وأثنوا عليها؛ لأنّها جمع صوتيّ للقرآن مسموع لذلك كانت تسميته الأولى (الْمُصحف الْمَسموع)، ثُمّ أبدى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت - شيخ الجامع الأزهر آنذاك - ارتياحه ورضاه عنها، حتّى ظهرت في الواقع بأوّل مصحف مرتّلٍ برواية حفص عن عاصم بصوت الشيخ الحُصري سنة (1960م)(1)، ثمّ اشترط الدكتور لبيب السعيد عدم تسجيل شوَّاذ القراءات تسجيلا صوتيًّا؛ لئِلًا تَختلط بِمتواتر القراءات ومشهورها(2).

ح. الْمَقولة التاسعة: تعديلات على القرآن في العصر الأموي:

ادّعى ديروش ما أطلق عليه (مشروع المصاحف) للحجّاج(3) بين سنة (84-85ه-)، فقال: «المراجعات التي بادر الحجّاج إلى القيام بها بين (69-714م) وتطوّر الرسم القرآنيّ إلى حدود القرن التاسع يُبيّن أنّ النصّ لم يبلغ في تدوينه درجة من الدقّة من أجل تحقيق المهمّة المسندة إلى المصحف العثماني»(4)، وقد «عمل الحجّاج على تيسير قراءة رسم النصّ القرآنيّ من خلال إضافة النّقط، وتعديل الرسم في بعض المواضع»(5). ونردّ على ذلك من جهات عدّة؛ هي:

أولًا بالرجوع إلى كتاب المصاحف نجد إيراده لرواية سندها ضعيف(6)، تُسنِد إلى الحجّاج ذلك، لكن لا يُؤسّس عليها علم ظنّيّ أو يقينيّ؛ لأنّ هذه الرواية أحالها السجستاني إلى عبّاد بن صهيب(7)، وهو قد «روى عَن التَّابِعين الصغار تَركه غير وَاحِد

ص: 105


1- انظر السعيد لبيب: الجمع الصوتي الأول للقرآن لا ط مصر، دار المعارف د ت ص 67-98 الرومي فهد بن عبد الرحمن بن سليمان دراسات في علوم ،القرآن ،ط12 حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، (1424ه- / 2003م)، ص99-100
2- انظر السعيد لبيب، الجمع الصوتي الأوّل للقرآن، م.س، ص 221-238
3- الحجاج (40-95ه-/660-714م)، هو الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، أبو محمد قائد داهية سفاك خطيب، ولد ونشأ في الطائف بالحجاز، وانتقل إلى الشام فلحق بروح بن زنباغ نائب عبد الملك بن مروان فكان في عداد شرطته، ثم ما زال يظهر حتى قلده عبد الملك أمر عسكره كان سفاكًا سفاحًا. انظر: الزركلي، الأعلام، م.س، ج 2، ص 168.
4- دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابًا مخطوطًا، فرانسوا ،دیروش، ترجمة: م. س ص 11.
5- انظر ،دیروش فرانسوا ضبط كتابة القرآن حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، م.س، ص 9-10.
6- انظر: السجستاني المصاحف، م.س، ص 156-157 ، باب ما كتب الحجاج بن يوسف في المصحف، كما أورده مرة أخرى تحت عنوان ما غير الحجاج في مصحف عثمان ص 272.
7- عباد بن صهيب هو أبو بكر الكليبي البصري مات بعد (200ه-) أحد المتروكين، وقال البخاري والنسائي وغيرهما متروك، وقال ابن حبان: كان قدريًا داعية ومع ذلك يروي أشياء إذا سمعها المبتدىء في هذه الصناعة شهد لها بالوضع. انظر: العسقلاي، ابن حجر: لسان المیزان، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط1، دار البشائر الإسلامية (2002م)، ج4، ص390؛ الرازي أبو زرعة الضعفاء من رسالة علمية لسعدي بن مهدي الهاشمي، الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، طبع سنة (1402ه- / 1982م)، ج 2، ص 368، ج 2، ص 635 النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني الضعفاء والمتروكون النسائي، تحقيق: محمود إبراهيم زايد ط1، حلب، دار الوعي، (1396ه-)، ص74.

وَبَعْضهمْ رَمَاهِ بِالْكَذِبِ»(1)، وعن عوف بن أبي جميلة(2)؛ وكلاهما ضعيف، لا تقبل مثل هذه الرواية عنه، فلِمَ أخذ ديروش،بالضعيف وترك الصحيح المجمع عليه من

المصحف الإمام.

ثانيًا:عندنا أقوال ثابتة في أوّل من نقّط المصحف:

* قول بأنّ أبا الأَسْوَد الدّوَّلِي(3) هو أوّل من نقط المصحف، ورُويت قصة في ذلك(4) تدلّ على أنّ أبا الأسود الدّؤلي أوّل من نقّط المصاحف.

* قول بأنّ نصر بن عَاصِم اللَّيْثِيّ (5)هو أوّل من نقّط المصاحف، قال أبو عمرو الداني:«أوّل من نقّط الْمَصَاحِف نصر بن عَاصِم اللَّيْثِيّ»(6)، وهذا قول ثانٍ في أوّل من نقّط

ص: 106


1- انظر: الذهبي المغني في الضعفاء تحقيق نور الدين العتر لا ط، قطر، إدارة إحياء التراث الإسلامي، (1987م)، ج 1، ص464؛ العنسي، محمد بن أحمد المصنعي: مصباح الأريب في تقريب الرواة الذين ليسوا في تقريب التهذيب، ط 1 ،اليمن، مصر، مكتبة صنعاء الأثرية الفاروق الحديثة للطباعة والنشر (2005م)، ج 2، ص 122.
2- انظر المكي، أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي الضعفاء الكبير، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، ط1، بيروت، دار المكتبة العلمية (1984م)، ج 3، ص 429؛ الرازي أبو زرعة، الضعفاء، م.س، ج 2، ص 659.
3- أبو الأسود: (..69-ه- ) هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدولي الكناني ولد في الإسلام، فقيه شاعر سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها أيام الإمام علي ورسم له شيئًا من أصول النحو، فكتب فيه أبو الأسود، وأخذه عنه ،جماعة، وتوفي بالبصرة. انظر: الذهبي سير أعلام النبلاء، م.س، ج4، ص 81-86 الزركلي، الأعلام، ج3، 236 كحالة عمر :رضا معجم المؤلفين، لا ط بيروت مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي بدون تاریخ، ج 5، ص 47.
4- كتب مُعَاوِيَة إِلى زِيَاد يطلب عبيد الله ابنه فَلَما قدم عَلَيْهِ كلَّمه فَوَجَدَهُ يلحن فردّه إِلى زِيَاد وكتب إِلَيْهِ كتابًا يلومه فِيهِ وَيَقُول: أمثل عبيد الله يضيع ؟ فَبعث زِيَاد إلى أبي الأسود فَقَالَ: يَا أَبَا الأسود إن هَذِهِ الْحَمْرَاء قد كثرت وأفسدت من ألسن الْعَرَب فَلَو وضعت شَيْئا يصلح بِهِ النَّاس كَلامهم ويعربون به كتاب الله تَعَالَى ؟ فَأبى ذَلِك أَبُو الأسود وكره إجَابَة زِيَاد إِلَى مَا سَأَلَ فَوجه زِيَاد رجلا فَقَالَ لَهُ اقعد في طريق أبي الأسود فَإذا مر بك فاقرأ شَيْئا من الْقُرْآن وتعمد اللحن فِيهِ فَفعل ذَلِكَ فَلَمَّا مر به أبو الأسود رفع الرجل صَوته فَقَالَ: أَنَّ اللَّهَ بَرِى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة:3]، فاستعظم ذَلِك أبو الأسود وقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رَسُوله ثمَّ رَجَعَ من فوره إِلَى زِيَادَ، فقال: يَا هَذَا قد أَجَبْتُكَ إِلَى مَا سَأَلت وَرَأَيْت أن أبدأ بإعراب الْقُرْآن انظر: الداني، أبو عمرو : المحكم في نقط المصاحف، تحقيق: د. عزة حسن، ط2، دمشق، دار الفكر ، دار الفکر، (1407ه-)، ص3-4.
5- نصر بن عاصم : (..89- ه- ) هو : نصر بن عاصم الليثي من أوائل واضعي النحو كان فقيها عالما بالعربية من فقهاء التابعين، وله كتاب في العربية، وهو أول من نقط المصاحف، وكان يرى رأي الخوارج ثم ترك ذلك، وله في تركه أبيات، وقيل: أخذ النحو عن يحيى بن يعمر العدواني، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء ومات بالبصرة. انظر الزركلي، الأعلام، م.س، ج8، ص 24 كحالة عمر ،رضا معجم المؤلفين، م.س، ج 13، ص 89.
6- الداني، أبو عمرو المحكم في نقط المصاحف، م.س، ص7.

المصحف؛ كما بيّن أنّ«النقط لأهل الْبَصْرَة أَخذه النَّاس كلّهم عَنْهُم حَتَّى أهل الْمَدِينَة وَكَانُوا ينقطون على غير هَذَا النقط، فَتَرَكُوهُ، ونقطوا نقط أهل الْبَصْرَة».

* قول بأن يحيى بن يعمر(1) هو أوّل من نقط المصاحف، قال الداني:«أوّل من نقّط المصحف يحيى بن يعمر»(2).

* إذًا، يدور أمر تنقيط المصاحف بين هذه الأقوال الثلاثة، التي تعود إلى ثلاثة من العلماء لهم قدم راسخة في العلم ولا يقاس الحجّاج بأحدهم، فما صلة الحجَّاج بنقط المصحف، مع العلم أنّ تجربته في الحياة كونه رجل حرب، فمهما أوتي من قوّة أو سلطان، لا يتسنّى له أن يعدّل في رسم مصحف عثمان كما يريد أو يحلو له؟! وعلى فرض أنّ الحجَّاج أمر بالقيام بهذا العمل أو ذاك المشروع فمن الذي أمره بالقيام بهذا المشروع؟

ثالثًا: الرجوع إلى مسألة (مشروع الحجاج) نجد أنّ المصحف الإمام كان ينسخ منه الصحابة والتابعون مصاحف خاصّة بهم، لذلك قال قتادة :«بدؤوا فنقطوا ثمَّ خمَّسوا ثمَّ عشروا»(3)، وعقَّب عليه الإمام الداني، فقال: «هذا يدلّ على أَنْ الصَّحَابَة وأكابر التَّابِعِين - رضي اللّه عنهم- هم المبتدئون بالنقط؛ لِأَن حِكَايَة قَتَادَة لا تكون إِلَّا عَنْهُم إِذْ هُوَ من التّابعين، وَقَوله : (بدؤوا إلى آخِره) دَلِيل على أَنْ ذَلِكَ كَانَ عَن اتِّفَاقِ مِن جَمَاعَتِهِمْ، وَمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، أَو أَكْثَرهم فَلَا إشكال في صحته، وَلَا حرج في اسْتِعْمَاله»(4) وهذا يوضّح أنّ المسألة كانت عرفًا عامًّا بين الصحابة دالَّا على أمرين:

أولهما: الإجماع على عمل عثمان.

ثانيهما: الحاجة والضرورة لوقوع اللّحن والعجمة على ألسنة العرب بعد الاحتكاك بالموالي ،وغيرهم وهذا ما أشار إليه أبو عمرو الداني فقال: "فَكَانَ الْأَمر على ذَلِكَ إِلَى

ص: 107


1- ابن يعمر العدواني (ت: 129ه-) هو : يحيى بن يعمر الوشقي العدواني أبو سليمان أول من نقط المصاحف، ولد بالأهواز وسكت البصرة من التابعين عارفًا بالحديث والفقه ولغات العرب من كتاب الرسائل الديوانية، أدرك بعض الصحابة ولأخذ اللغة عن أبيه، والنحو عن أبي الأسود الدؤلي فصيحًا ينطق بالعربية المحضة طبيعة فيه غير متكلف، وبلغته إغراب. انظر: الزركلي، الأعلام، م.س، ج 8، ص177.
2- الداني أبو عمرو المحكم في نقط المصاحف، م.س، ص5.
3- الداني أبو عمرو المحكم في نقط المصاحف، م.س، ص 2.
4- م.ن، ص 2-3 .

أن حدث فِي النَّاس ما أوجب نقطها وشكلها"(1)؛ فالضابط أنّ الصحابة والتابعين كانوا في حاجة إلى تيسير القراءة بالنّقط، فقاموا به في خصوص مصاحفهم حتى عمّم بعمل أبي الأسود الدؤلي لمّا وقع اللّحن، وأمّا بالنسبة لتعشير المصحف وتسبيعه وتربيعه وتخميسه، فهذا كلّه لا يضرّ المصحف ولا يُؤثّر في النّص القرآنيّ في قليل أو كثير، بل يخدم قرًّاء القرآن.

رابعًا: موقف الصحابة والتابعين من النقط والشكل كان بين قولين: الأول: رأي الصحابة والتابعون:«ابن عمر وعبد الله بن مسعود وقَتَادَة ومُحَمَّد»، قال عبد الله:«جرِّدُوا الْقُرْآنَ وَلَا تخلطوه بِشَيْءٍ»(2) كانت تلك الرؤية بسبب الخوف على نصّ القرآن، وخشية الخروج عن مصحف الإمام؛ باعتبار أنّ النقط والشكل خروجٌ عن حدّ المصحف الإمام. الثاني: رأي بعض علماء التابعين مثل:«الحسن وربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن والليث»(3)إباحة نقط المصحف من باب تيسير القراءة ولضرورة اللحن، ويبدو غلبة هذا الاتّجاه؛ لأنّ قتادة مع أنّه ممّن كره نقط المصحف لكنّه أخبر عن الواقع فقال:«بدؤوا فنقطوا ثمَّ خمسوا ثمَّ عشروا»(4)،كأنّ هذا النقط وقع فعلاً فأخبر به، كما أنّ هناك مصاحف للصحابة ومصاحف أخرى دوَّنها أصحابها مشتملة على قراءات شاذّة على سبيل التفسير.

خامسًا: مسألة تعديل الحجّاج بعض الألفاظ أمرٌ مفترى لا أصل له، ولو وقع منه لمّا وافقه عليه علماء التابعين من السّلف ممّن كره النقط والشكل، أو الأئمّة الأعلام؛ خاصّة وأنّ سبب كراهة من كره النقط والشكل هو التخوّف من الزيادة أو النقص في النّص أو مصحف عثمان، وحتّى من استحسن النقط والشكل يكره مخالفة النّص ويحذره.

سادسًا: إباحة مالك النّقط في مصاحف الصغار للتعليم،"قَالَ مَالك: وَلَا يَزَالَ الْإِنْسَانِ يسألني عَن نقط الْقُرْآن فَأَقُول لَهُ: أما الإِمَام من الْمَصَاحِف فَلَا أرى أن ينقط، وَلَا

ص: 108


1- الداني، أبو عمرو المحكم في نقط المصاحف، م.س.
2- من ص 3 باب ذكر من كره نقط الْمَصَاحِف من السلف، ص 10-11
3- الداني أبو عمرو المحكم في نقط المصاحف، م.س، باب ذكر من ترخص في نقطها، ص 12-13
4- م.ن، ص 2.

يُزَادٍ فِي الْمَصَاحِفِ مَا لم يكن فِيهَا وَأما الْمَصَاحِف الصغار الَّتِي يَتَعَلَّم فِيهَا الصّبيان وألواحهم فَلَا أرى بذلك بأسا ، قَالَ عبد الله: وسمعت مَالِكًا وَسُئِلَ عَن شكل الْمَصَاحِف، فَقَالَ: أما الْأُمَّهَات فَلَا أَرَاهُ وَأَما الْمَصَاحِف الَّتِي يَتَعَلَّم فِيهَا الغلمان فَلَا بَأْس(1) وفي كلام الإمام مالك وصفان للمصاحف الأوّل:(الإِمَام من الْمَصَاحِف)، فهذا يدلّ على أنّ هناك مصاحف تقع موقع القدوة والاحتذاء والقيادة وهي المصاحف التي يصطفيها الإمام لنفسه، أو يوردها مكتبته الخاصّة أو العامّة، وهذا يرى فيه الإمام مالك ضرورة التقيّد فيها بالكتب الأولى، وكأنّه يشير إلى مصحف عثمان أو المنسوخ منه وعنه، أو هی المصاحف التي يُرجع إليها الحجّة في النقل الكتابي والشفاهي. وأمّا (الْمَصَاحِف الصغار) فهي مصاحف الصغار الَّتِي يتَعَلَّم فِيهَا الصّبيان وألواحهم تكتب للتعليم، فربّما استخدم فيها النقط والشّكل تيسيرًا عليهم.

ط. الْمَقولة العاشرة: (الدور الموهوم لعبيد الله بن زياد والحجاج الثقفي):

إنّ ديروش يبحث عن دور لكلّ من عبيد الله بن زياد والحجّاج في المصاحف فيقول: «إذا نظرنا من زاويةٍ تاريخيّة؛ فإنَّ ما نَعْلَمه عن الإمبراطورية الأُموية يتطابق تمامًا شهادة المخطوطات يُمكن ربط مشروع ضبط النصّ الذي ارتبط بشخصيّات؛ أمثال: عبيد الله بن زياد أو الحجاج بإدخال الفواصل بين مجموعات الآيات، وتعديلات الإملاء، أو أيضًا بإدخال إشارات خطّيّة محدّدة»(2). ونردّ ذلك من جهات عدّة؛ هي:

أولاً: على فرض صحّة قيام الحجّاج بشيء مع المصحف، فلن يكون هذا بالنقط أو الرسم في كَلِم ،القرآن وإنّما يكون في تسبيع المصحف وتخميسه؛ بغرض تيسير القراءة على القرّاء، دون تدخّلٍ في النّص في قليل أو كثير، وإن كنت أتشكّك في ثبوت ذلك من

الأصل.

ثانيًا: قول ديروش: "تيسير" قراءة رسم النّصّ القرآنيّ من خلال إضافة النقط وتعديل

ص: 109


1- الداني أبو عمرو المحكم في نقط المصاحف، م.س، ص 10-11 ، باب ذكر من كره نقط الْمَصَاحِف من السلف.
2- دیروش فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، م.س، ص29.

الرسم في بعض المواضع"(1)، فيه إيماء إلى وقوع تغيير رسم بعض المواضع؛ ما يُفهم منه زيادة أو نقصان على نصّ القرآن، أو (مصحف الإمام)؛ ورؤية ديروش لمشروع الحجاج رؤية مغالطة من الأساس؛ لعدم صحّة تلك النسبة إلى الحجّاج -كما سبق- (2)فضلاً عن أن تكون تعديلاً لرسم بعض ألفاظ القرآن، فيُردّ عليه بالقول: إنّ مسألة النقط والشّكل لم تخرج عن حدّ الاعتدال، والتحفّظ لكتاب الله، وأنّه كان لحاجة ملحّة، وما وقع من تغيير فمن النسَّاخ، وهذه طبيعة العمل البشريّ، ولا قيمة علميّة، كما لا يضرّ بإجماع المسلمين على نقل نصّ القرآن بالتلقّي والمشافهة وبعد الجمع النبويّ، ثمّ البكريّ، ثمّ العثمانيّ، فمن المستبعد التعديل في عدد كَلِم ،القرآن أو التساهل في لفظه بالتغيير والرسم حتّى لسهولة القراءة المتّفق عليها.

ثالثًا: بالرجوع إلى كتب التاريخ تبيّن أنّ كلَّا من عبيد الله بن زياد(3) والحجاج رجلا حربٍ وفتكٍ، لا علم وقرآن وسنّة، وتخيّل أيّ دور لهؤلاء ضربُ من الخيال يُعاف عن ذكره أهل العلم.

رابعًا: بالرجوع إلى كتاب المصاحف نجده أورد رواية سندها ضعيف، تسند إلى عبيد الله بن زياد في حديث يزيد الفارسي، قال: "زاد عبيد الله بن زياد في المصحف ألفي ،حرف فلمّا قدم الحجّاج بن يوسف بلغه ذلك، فقال: مَن وَلِيَ ذَلِكَ لِعُبَيدِ اللهِ؟قالوا: ولي ذاك له يزيد الفارسي، فأرسل إلي، فانطلقت إليه وأنا لا أشكّ أن سيقتلني، فلمّا دخلت عليه قال ما بال ابن زياد زاد في المصحف ألفي حرف؟ قال: قلت: أصلح الله الأمير، إنّه ولد بكلاء البصرة فتوالت تلك عنّي، قال: صدقت فخلَّا عنّي(4)، فهذا

ص: 110


1- دیروش فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، من، ص29، ص10.
2- انظر: السجستاني المصاحف، م.س، ص 156-157؛ تحت عنوان (باب) ما كتب الحجاج بن يوسف في المصحف)، ص156-157؛ تحت عنوان (ما غيّر الحجاج في مصحف عثمان)، ص 272.
3- عبيد الله بن زياد (67-(ه-)، أبوه زياد بن أبيه، وأمه مرجانة كانت تقول له: قتلت ابن بنت رسول الله فلن ترى الجنة، وهو من رجال دولة الأمويين، وقد جرت لعبيد الله خطوب، وَأَبْغَضَهُ الْمُسْلِمُوْنَ لِمَا فَعَلَ بِالحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَلَمَّا جَاءَ نَعْيُ يَزِيدَ، هَرَبَ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُؤْسَرُ وَاخْتَرَقَ البَرِّيَّةَ إِلَى الشَّامِ وَانْضَمَّ إِلَى مَرْوَانَ، وكان قد كتب إليه عبد الملك: إنْ بَايَعْتَنِي فَلَكَ العِرَاقُ، قال الإمام الذهبي: (قُلْتُ: الشَّيْعِيُّ لا يَطِيْبُ عَيْشُهُ حَتَّى يَلْعَنَ هَذَا وَدُوْنَهُ، وَنَحْنُ نُبْغِضُهُم فِي اللهِ، وَنَبْرَأُ مِنْهُم وَلَا نَلْعَنُهُم وَأَمْرُهُم إِلَى اللهِه). انظر: الذهبي، سير أعلام .549-5453 النبلاء، م.س، ج 3، ص 545-549
4- السجستاني، المصاحف، م.س، ص 271 بَاب ما كتب في المصاحف على غير الخط). المساحة،

أثر لا يُبنى عليه علم؛ لضعف يزيد الفارسي؛ وهو إسحاق بن عبد الصمد بن خالد(1).

خامسًا: بناءً على ذلك، لا يحمل هذا على اختلاف القراءات؛ وإنّما يُحمل على أنّه رأيٌ شخصيٌّ غير صالح، لا تُحمل عليه الأمّة.

سادسًا: في النهاية فإنّ القرآن له نقلان: الأوّل:(نقل شفاهيّ) لم يهتمّ ديروش بالتنبيه إليه. والثاني:(النقل الكتابي) تمسّك ديروش به وسار خلف عرضه، ولقد أقرّ ديروش بذلك، فقال:«لقد بات من الواضح البيّن -بفضل معارفنا التي لا تفتأ تزداد دقّةً، لا بالمصاحف وحدها فحسب بل بالمصادر أيضًا - أنَّ فترة الأمويّين كانت شاهدًا على انقلابٍ حقيقيُّ في مجال النّقل الكتابيّ للنصّ القرآنيّ»(2)، وهذا إن دلّ؛ فإنمّا يدلّ على تقدّم فنّ الكتابة والنسخ والخطّ في عصر الدولة الأمويّة، لا أن تغييرات وتعديلات أدخلت على القرآن في عهد عبد الملك بن مروان(3)، أو غيره من ولاته، حيث سعى لضبط النصّ؛ لأنّ العصر الأمويّ شهد نهضةً كبيرةً في مجال النقل الكتابيّ للنصّ القرآنيّ، وربّما يعبّر عن ذلك تناول الصحابة والتابعين النقط والشكل؛ كما سلف بيانه.

ي.المَقولة الحادية عشرة:(المخطوطات كتبت بالخطّ الحجازي):

أوضح ديروش أنّ المخطوطات القرآنيّة التي بين يديه مكتوبة بخطّ حجازيّ(4). ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم كان يكتب بخطّ حجازي، ومن بعده بخطّ كوفيّ، فهما من الخطوط المعتادة في ذلك العصر، ومن أوّل من اشتهر بالخطّ الحسن في هذا العصر المبكّر«خالد بن أبي الهيّاج» قال ابن النديم:«قال محمد بن إسحاق: أوّل من كتب المصاحف في الصدر الأوّل، ويُوصف بحسن الخطّ خالد بن أبي الهيّاج رأيت مصحفًا

ص: 111


1- يزيد الفارسي: هو: إسحاق بن عبد الصمد بن خالد بن يزيد الفارسي، متهم بالوضع، انظر: العسقلاني ابن حجر، لسان المیزان، م.س، ج1، ص 366-367 بن الحسين أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم ذيل ميزان الاعتدال، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود ط 1 ، بيروت، دار الكتب العلمية (1995م)، ص51.
2- دیروش ،فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، ص 9.
3- عبد الملك (26-86ه-)، هو: عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي أبو الوليد نشأ في المدينة فقيها متعبدًا واسع العلم، وشهد الدار مع أبيه، واستعمله معاوية على المدينة وعمره 16 سنة تولى الخلافة بعد أبيه سنة (65ه-) فضبط أمورها، وفي عهده عربت الدواوين، وضبطت الحروف بالنقط والحركات، وصكت الدنانير العربية. انظر الزركلي، الأعلام، م.س، ج4، ص165.
4- انظر ،دیروش فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، ص 8؛ الشيخ حليمة، المستشرق الفرنسي فرانسوا دیروش)، م.س، ص 51.

بخطّه، وكان سعد نصَّبَه لكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك، ويقال إنّ عمر بن عبد العزيز قال له : أريد أن تكتب لي مصحفًا على هذا المثال ؟ فكتب له مصحفًا تنوَّق فيه، فأقبل عمر يَقلِبُه ويَستحْسِنه، واستكثر ثمنه فردَّه عليه»(1).

وهذا يدلّ على أنّ ممارسة الخطّ والكتابة كلاهما مهنة ممارَسَة في ذلك العصر المبكر نسبيًّا، وإنّ طبيعة تلك الفترة الأولى من الكتابة قبل ظهور فنّ الطباعة بصورة عامّة، فكانت مهنة النسخ والكتابة من المهن التي يتقاضى عليها الأجر الكبير، ويؤكّد ذلك قول ابن النديم:«وكانت تكتب المصاحف بأجرة»(2)، فكان الناسخ يتقوّت من مهنته، ويتقاضى عليها الأجر. وبناءً عليه يجري في تلك المهنة ما يجري على سائر المهن البشريّة من مهارة الناسخ وإتقانه أو ضعفه وتصحيفه وتحريفه ، ولا أرى ضرورة لإثبات ذلك نفيه، فالتاريخ خیر شاهد.

ك. الْمَقولة الثانية عشرة: (أصل كلمة القرآن):

اشارة

حاول دیروش دراسة دلالة كلمة (القرآن) اللغوية، معتبراً أنّها تعود إلى الجذر اللّغوي للفعل (قرأ) التي تكشف الطابع الشفهيّ للوحي(3).

أولًا: أصل كلمة القرآن في اللغة:

إنّ علماء اللغة العربيّة (4)اختلفوا فِي أصل اشتقاق لفظ (القرآن) في اللغة العربيّة، فما اليقين في أن أصل (القرآن) وجذره من الفعل (قرأ)، وقد أختلف في كون القرآن يهمز أو لا؟! ولقد قال جماعة: هو اسم عَلَم غير مشتقّ خاصّ بكلام الله غير مهموز وبه قرأ ابن كثير (45-120ه-) أحد القرّاء السبعة(5)، وهذا أيضًا مرويٌّ عن الإمام الشافعي (150-

ص: 112


1- أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد الوراق البغدادي المعتزلي الشيعي المعروف بابن الندين :(ت: 438ه-): الفهرست، تحقيق: إبراهيم ،رمضان، ط2، بيروت، دار المعرفة، (1417ه- / 1997م)، ص17، وص 63.
2- م.ن، ص 63.
3- دیروش ،فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتابًاً مخطوطا، م.س، ص 6.
4- انظر: ابن منظور لسان العرب، ط 3 ،لبنان، دار صادر، 1414ه-)، ج 1، ص 128-10 مادة (قرأ): الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، ط1، دمشق، بیروت، دار القلم الدار الشامية (1412ه-)، ص 668-669؛ الرازي: مختار الصحاح تحقيق محمود ،خاطر لا ط، القاهرة، دار الحديث، ص526؛ الفيومي: المصباح المنير، لا ط، القاهرة، دار الحديث، (2003)، ص 298.
5- انظر: الزركلي، الأعلام، م.س، ج 4، ص 115.

204ه_)، فكان يهمز قرأت، ولا يهمز ،القرآن، ويقول: القُرَانُ اسم، وليس بمهموز ، ولم يُؤخَذ من قَرَأْتُ، ولكنّه لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل.

وقال قومٌ منهم الإمام الأشعري (260-324ه_) هو مشتقّ من قَرَنْتُ الشيءَ بِالشيء، إِذَا ضَمَمْت أحدهما إلى الآخر، وسمّي به القرآن لقِرَانِ ،السور والآيات، والحروف فيه. وقال الفَرَّاء (144-207ه_)(1)، هو مشتقّ من القرائن؛ لأنّ الآيات منه يصدّق بعضُها بعضًا. وقال آخرون منهم الزَّجَّاج (241-311ه-)، هو وَصْفٌ على فُعْلَان مشتقّ من القُرْءِ بمعنى الجَمعِ، ومنه قَرَأْتُ المَاءَ في الحَوض أي جَمعتُه)(2)، هذه من أقوال العلماء في معنى القرآن لغة، ورجَّح الإمام السيوطي (848-911ه-)، فقال: (والمختار عندي في هذه المسألة ما نصَّ عليه الشافعيُّ)(3).

كما رجَّح الشيخ الزرقاني (ت: 1948)(4) فقال :(هو في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى:«إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ، وَقُرْهَانَهُ (3) فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْهَانَهُ»[القيامة، الآيتان 17-18]، ثمّ نقل من هذا المعنى المصدري، وجُعل اسمًا للكلام المُنزَّل على النَّبيِّ من باب إطلاق المصدر على مَفعولِه، ذلك ما نختاره استنادًا إلى موارد اللّغة وقوانين الاشتقاق وإليه ذهب اللحيَانِي (ت:220ه_).(5)

- ثانيًا: تعدّد دلالة القرآن في اللغة:

يعود اختلاف العلماء في أصل كلمة القرآن إلى تعدّد دلالته في اللغة، فإنّ لكلّ أصلٍ معنى ودلالة تُفيدان مفهوم القرآن. وأرى أنّ القرآن مَصدرُ بمعنى القِرَاءةِ لآية سورة المزمل؛ لأنّها وضعت القرآن موضع المصدر لفعل قرأ، وهو (القراءة)،ولأنّ أوّل آية نزلت من القرآن (اقرأ)؛ للإشارة إلى كونه معجزة مقروءة، كما اتّفق كثير من علماء

ص: 113


1- انظر ،من، ج8، ص 145-146.
2- انظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم لا ط، القاهرة، مكتبة دار التراث، ج 1، ص 146-147.
3- السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 147.
4- الزركلي، الأعلام، م.س، ج 6، ص 210.
5- انظر: ابن الأنباري نزهة الألباء في طبقات الأدباء، تحقيق: إبراهيم السامرائي، ط3، الزرقاء الأردن، مكتبة المنار، (1985)، ص80 السيوطي: بغية الوعاة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، مطبعة عيسى البابي الحلبي، (1965)، ج 2، ص 158-159، ج2 ص 185. انظر: الزَّرْقاني، الشيخ محمد عبد العظيم مناهل العرفان في علوم القرآن، ط3، مطبعة عيسى البابي الحلبي (د. ت)، ج 1، ص 14.

التفسير واللغة على القول بهَمْزِ القُرآنِ فاتّفق صبحي الصالح (1345-1407ه-)(1)مع الزرقاني فقال:«والقول بعدم الهمز في هذه الآراء الثلاثة كافٍ للحكم ببُعْدِها عن قواعد الاشتقاق، وموارد اللغة. وممّن رأى أنّ لفظ (القرآن) مهموز الزَّجَّاج وجماعة»(2)، ومع أنّ الإمام الشافعي حجّة في اللغة، لكن يحمل قوله على تخفيف الهمز، أو تسهيلها، وهي قراءة معتبرة للإمام ابن كثير.

وأخيرًا يمكن القول: إنّ محاولات فرانسوا دیروش اعتمدت على أقوالٍ مرسلةٍ مستنبطة من مخطوطات جزئيّة لا تمثّل القرآن كلّه جملة، ولا تمثّل بعضًا من أبعاضه تفصيلًا كما أنّها شدّت عن مصحف عثمان وخرقت إجماع الأمّة المسلمة، ثمّ قام ديروش بتعميم نتائجه على القرآن بإصدار أحكام عامّة على القرآن كله بناءً على بعض المواضع، لا على استقراء كلّيّ للقرآن كلّه.

ص: 114


1- انظر المرعشلي يوسف: عقد الجوهر في علماء الرُّبع الأوّل من القرن الخامس عشر، بذيل كتاب نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر، ط1، بيروت ،لبنان، دار المعرفة سنة 2006، ج2، ص1855-1857.
2- الصالح، صبحي: مباحث في علوم القرآن، ط24، دار العلم للملايين، 2000، ص18.

المبحث الثاني:(المستشرقة الألمانية أنجليكا نويفرت - أنموذجاً )

1- التعريف بأنجليكا نويفرت ومؤلّفاتها:

المستشرقة الألمانيّة أنجليكا نويفرت (Angelika Neuwrith ولدت سنة (1943م) في مدينة نونبرغ (Nienburg)، درست الدراسات الإسلاميَّة، والدراسات الدلالية وفقه اللغة الكلاسيكيّة في الجامعات الآتية برلين وطهران ،وغوتنغن والقدس وميونيخ وتعتبر

المشرف العامّ على مشروع الموسوعة القرآنيّة (Corpus Coranicum)، وهو مشروع بحثيّ ترعاه أكاديميَّة برلين براندنبرج للعلوم(1)، يهدف إلى تحقيق أمرين أساسيَّين في البحث القرآنيّ أوّلهما: توثيق النصّ القرآنيّ من خلال مخطوطاته، ومن خلال نقله الشفاهيّ (القراءات)، وثانيهما: تقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياق ظهوره التاريخيّ وقد حظي المشروع بتمويل يمتدّ حتَّى عام (2025م).

ولقد عملت نويفرت بعد نيلها شهادة التأهيل لدرجة الأستاذيَّة بين عامي (1977- 1983م) أستاذة زائرة في الجامعة الأردنيّة في عمان، كما كانت بين عامي (1994-1999م) مديرة المعهد الألمانيّ للدراسات الشرقيَّة في بيروت وإسطنبول وفي عام (2011م) عُيِّنت عضوًا فخريًا في الأكاديميَّة الأمريكيَّة للفنون والعلوم وفي عام 2012م) حصلت على درجة الدكتوراه الفخريَّة من قسم الدراسات الدينيَّة في جامعة ييل، وتعمل حاليَّا أستاذة في جامعة فراي في برلين وأستاذة زائرة في الجامعة الأردنيَّة في عمان، وتتركَّز أبحاثها على القرآن ومناهج تفسيره، وعلى الأدب العربيّ الحديث في شرق البحر الأبيض المتوسِّط.

حازت في يوليو (2013م) على جائزة سيغموند فرويد للكتابات العلميَّة؛ تكريماً لها

ص: 115


1- أكاديمية برلين براندنبرج للعلوم تأسست عام (1700) تعتبر واحدة من أهم المؤسسات الألمانية البحثية المستقلة في مجال العلوم: الإنسانية والاجتماعية.

على أبحاثها في القرآن وهي تجيد اللغات «الألمانيَّة والعربيَّة، والعبريَّة، والإنكليزيَّة، والفرنسيَّة»(1).

2- مؤلّفاتها وآثارها العلميّة:

من مؤلّفاتها: (القرآن من حيث المضمون - تحقيقات تاريخيَّة وأدبيَّة في البيئة الأدبيَّة)، و (القرآن بوصفه نصًّا من العصور القديمة المتأخَّرة - مدخل أوروبيّ)، و(النصّ المقدَّس، الشعر ، وصناعة المجتمع: قراءة القرآن بوصفه نصًّا أدبيًّا)، و(موقع القرآن في الفضاء المعرفيّ للعصور القديمة) و (مقالة بعنوان:«الاستشراق في الدراسات الاستشراقيَّة -الدراسات القرآنيّة أنموذجًا» منشورة في مجلَّة دراسات قرآنيَّة، ومقالة بعنوان: «نظرتان للتاريخ والمستقبل الإنسانيّ - تفسيرات قرآنيَّة وإنجيليَّة لوعود إلهيَّة» منشورة في مجلَّة دراسات قرآنيَّة أيضًا، ومقالة (وجهان للقرآن: القرآن والمصحف) منشورة في مجلَّة التقاليد الشفويَّة، ولها مقالات كثيرة جدًّا نشرت في مواقع كثيرة، يمكن الرجوع إليها عبر المواقع الإلكترونيّة؛ منها : موقع ويكيبيديا باللغة الإنجليزيَّة، وموقع أكاديميا(2).

ولها مئات البحوث والمقالات في النظرة البنيويّة والتأويليّة والأدبية، فهي تعدّ رائدة البحث في الدراسات القرآنيّة، كما أنّها تعتبر الأب الروحى لمشروع (الموسوعة القرآنية) .(Corpus Coranicum)

2- مشروع الموسوعة القرآنيّة الألمانيّة:

مشروع موسوعة القرآن (Corpus Coranicum) تشرف عليه المستشرقة الألمانيّة أنجيلكا نويفرت(3)، وهو من المشاريع الموسوعيّة الخاصّة بتراث العالم القديم والوسيط وإدارة هذا المشروع لمايكل ماركس تلميذ أنجيلكا، وطابع هذا المشروع مؤسَّسي له أهداف استراتيجيّة، بدأ الإعداد له منذ سنوات بعيدة، وبدأ تنفيذه الفعليّ منذ سنة

ص: 116


1- شخصيات استشراقية» مجلة القرآن والاستشراق المعاصر، م.س،
2- م.ن، ص 91.
3- انظر: مشروع الموسوعة القرآنية الألمانية - كورانيكا»، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر ، م.س، العدد الثالث السنة الأولى صيف 2109 ص 40-43 باختصا.

(2007م)، ويشارك في المشروع اثنا عشر باحثًا ومحققًا، ومن المقدّر له أن يكتمل عام (p2025).

وقد تلقّى البعض هذا المشروع باعتباره فتحًا علميًّا منتظرًا سينتهي بالخروج بنسخة نقديّة تامّة وعامة وشاملة للقرآن، الأمر الذي سيثير حفيظة المسلمين، ويغذِّي غضبًا عربيًّا تجاه الغرب، بينما يرى آخرون جدّة وأصالة على مستوى المنهج والرؤية؛ إلا على مستوى شمول العمل وسعة مراميه.

وإنّ إزالة اللّبس حول المشروع استدعى قيام بعض القائمين عليه بجولات في البلدان الإسلاميّة للتعريف بالموسوعة وأنّه مشابه لمّا في التّراث الإسلاميّ من البحث في أسباب النزول، وما شابه ذلك، ويهدف المشروع إلى أمرين أساسيّين:

الأوّل: توثيق النصّ القرآنيّ من خلال مخطوطاته ونقله الشفاهيّ.

الثاني: تقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياقات ظهوره التاريخيّ، من خلال ما يلي:

أ- دراسة القرآن من منظور تاريخيّ (دياكروني) تعاقبيّ؛ أي باعتباره نصًّا نشأ في عقدين من الزمن، مع إسقاط ما طرأ على النصوص القرآنيّة من إعادة تأويل أو تغيير في الدلالة عبر إحالات أو إضافات لاحقة.

ب- اعتماد التفسير؛ باعتبار السورة القرآنية؛ فالسور المكّيّة تتسم أنماطها المعهودة بالوحدات الأدبية.

ج- اعتماد التفسير على قراءة النصوص الموازية لنصوص اليهوديّة والمسيحيّة، انطلاقًا من رؤيةٍ استشراقيّةٍ تُؤمن بخضوع القرآن لتأثيرات النصوص الدينيّة السابقة عليه، لكنّه لم ينطبع بالأشكال والمضامين السابقة نفسها، بل عدّلها أو أعاد عرضها أو نقدها(1).

ويُلاحظ على مشروع (الموسوعة القرآنية الألمانية)؛ ما يلي:

ص: 117


1- انظر: «مشروع الموسوعة القرآنية الألمانية-كورانيكا»، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر، م.س، ص-41 42، بالتصرف.

أولًا: هو أحد المشاريع العلميّة الألمانيّة التي توارثها بعض علماء الاستشراق الألمان ویبدو انه يعود إلى فكرة المستشرق الألمانيّ برجشتراسر فهو الذي ابتدأ فيه، ثمّ تبعه تلميذه برتسل - كما سبقت الإشارة إليه - وأحيته الدراسات الاستشراقيّة الألمانيّة، وقد تولّت

المستشرقة إنجيلكا نويفرت إدارة هذا المشروع، ثمّ خلفها عليه تلميذها ميخائيل ماركس.

ثانيًا: توارث علماء الاستشراق الألمان هذا المشروع بصورة تدلّ على الاهتمام العلميّ حيث يرث التلميذ أستاذه؛ لضمان أن تتّصل الفكرة الرئيسة له، ويتوحّد المنهج المتّبع فيه.

ثالثًا:يهدف المشروع إلى الوفاء بأمرين يتعلّقان بالبحث القرآنيّ.

الأمر الأوّل: توثيق النّص القرآنيّ من خلال مخطوطات نقله الشفاهي المسمّى في العلوم الإسلاميّة ب- (القراءات القرآنية).

الأمر الثاني: تقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياق ظهوره التاريخيّ، فعلى خلاف النُّسَخ المتداولة للقرآن في يومنا هذا التي تستند إلى طبعة الملك فؤاد القاهريّة الصادرة سنة (1924/1923م)؛ فإنّ هذا المشروع يرمي إلى استقراء شامل لشهادات المخطوطات الأولى للقراءات القرآنيّة التي تمّ حفظها، ووثّقها التراث الإسلاميّ، ويعتبر هذا المشروع جمعًا لقراءات القرآن المختلفة لأهدافه وسياقه الزمانيّ، وطبيعة ما ينجزه.

وإنّ الهدف الأوّل لهذا المشروع المتمثّل في محاولة توثيق النّصّ القرآنيّ من خلال مخطوطاته أمر خَطِرٌ لأسباب؛ هي:

*عدم توقف توثيق النّصّ القرآني (تدوينا وجمعًا) على المخطوط القرآنيّ، إنّما يتوقّف التوثيق على تلقّي القرآن والمشافهة بلفظه وأدائه بين قارئ للقرآن وسامع له، أو بين مُعلّم ومتعلّم، أو بين والد وولده، وهكذا.

* انتهاء دور النّسخ الأصليّة بمصحف الإمام بعدما وُزّع على الأمصار، وتناوله النُسّاخ والكتبة للأمراء والعلماء.

* عدم الاعتماد على وجود (المخطوط القرآنيّ) في إثبات النّص القرآنيّ؛ لأنّ القرآن يثبت بالنقل الشفاهيّ والنقل الكتابيّ على حدّ سواء، ولعدم ضمان احتواء المخطوط

ص: 118

القرآنيّ على نصّ كامل للقرآن الكريم؛ سواء من ناحية السور نفسها، أو من ناحية آيات السور، وأقصى ما يدلّ عليه (المخطوط القرآنيّ) هو القيمة التاريخيّة والفنيّة، وأعتقد أنّ هذا ما دلّ عليه المشروع، حيث إنّه لم يثبت بعد وجود المخطوطات القرآنيّة المشتملة على نصّ القرآن بصورته الحاليّة، وهذا لا يضرّ القرآن اليوم؛ لثبوت النّصّ القرآنيّ بالنقل المتواتر منذ العهد النبويّ، وإلى يومنا هذا، ولا ندري ربّما لدى المكتبات العامّة في العالم أو المكتبات الخاصّة بالأفراد مخطوطًا قرآنيًّا كاملًا لم تتوفّر إرادة المستشرقين بإظهاره وقد يكون (المخطوط القرآني) كاملًا، ثمّ اعتراه النقص؛ إمّا بفعل الزمن، أو للإعارة، أو لتناول الكتبة والنسَّاخ كتابة بعض السور دون بعض. فالاعتماد على (المخطوط القرآنيّ في إثبات النصّ القرآنيّ يعارض بأنّه لم يعتمد عليه أحد من العلماء قديمًا، وهذا مخالف لفكرة المصحف الإمام التي أجمع عليها الصحابة.

أمَّا الهدف الثاني فهو (تقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياق ظهوره التاريخيّ)؛ فهذه أطروحة جديدة مردودة؛ لأنّها.

* تقوم على منهجيّة تاريخيّة تستعلي على النصّ القرآنيّ، حيث تضع القرآن في سياق جديد غير مسبوق، وهذا غير مقبول؛ لأنّ هذه المنهجيّة نفسَها محدثةٌ ظنّيّة(1).

* تحتاج المنهجيّة التاريخيّة للدرس الاستشراقيّ إلى اختبار صحّتها في ذاتها، فضلًا عن ضرورة إثبات صلاحيّتها لتقديم أحكام جديدة من خلال هذا الدرس الاستشراقيّ الباحث في القرآن؛ إمّا إثباتًا أو نفيًا؛ لذا يستحيل إقامة تفسير قرآنيّ، وفق هذه المنهجيّة الغريبة.

* إنّ حمل الدرس الاستشراقيّ مقولات غريبة على النصّ القرآني، وإرسال أقوال ظنّيّة واعتبارها أصليّة فدون ذلك مهلكة بعيدة لا يحتملها النصّ(2).

* إنّ المخالفة لمنهجيّة أصول علوم إسلاميّة مستقرّة؛ فعلى سبيل المثال: قد ثبت في قواعد (علوم القرآن) أنّ «العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب»، فأسباب النزول

ص: 119


1- ظنية المنهجية تعني ضعف في المنهج فيسقط الاحتجاج به.
2- هذه المقولات ظنية لا تستند ليقين منصوص أو معقول، بل هي مصادمة لمسلمات العقل.

الخاصّة لا تختزل النصّ، وأسباب النزول تشير إلى بيان جانب من مقاصد النصّ ومعانيه كذلك مخالفتها لما ورد في (علم التفسير بالمأثور)، وهو علم قديم يرجع إلى عهد النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، و إلى عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، تلقّاه النّاس بالقبول ومنها مخالفتها لعلم (الفقه بمذاهبه المختلفة)(1). فضلاً عن ذلك فإنّ منهجيّة المستشرق في حاجة ماسّة إلى مقدرة فائقة على فهم القرآن واستيعابه فكيف تتغيّر قواعد وضوابط هذه العلوم الإسلاميّة الأصليّة والرئيسة بتلك المنهجيّة العجيبة ؟! ومن يسمح بذلك؟! وما حجّته ؟! وكذلك كيف يصح حمل القرآن بأحكامه الشرعيّة الثابتة في عقل الأمّة كلّها ووجدانها على تلك المنهجيّة ؟ هذه تساؤلات أتوجّه بها إلى أصحاب الدّرس الاستشراقيّ، ثمّ إلى خصوص المستشرقة إنجيلكا نويفرت، وهذا ما يصعب كثيرا الجواب عليه؛ لأنّ الجواب يحتاج إلى فهم القرآن واستيعاب علومه وتفسيره ثمّ فهم السنّة وعلومها، ثمّ فهم الفقه وأصوله.

* هذه المنهجيّة مخالفة كذلك لِمَا يمكن تفسير النصّ القرآنيّ من خلاله، بمراعاة المنهج اللّغوي وعبقريّة المفردة القرآنيّة وغزارة دلالاتها، والمنهج البلاغي في اللفظ والمعنى(2).

رابعًا: تمّ اختيار الفصل بين نتائج البحث في المخطوطات وهو أعمّ - وبين نتائج البحث الخاصّة بالقراءات القرآنيّة، ووفقًا لذلك، فإنّ التوثيق النصّيّ يتّخذ شكلاً في العرض المزدوج والمتوازي لكلا الطريقتين.

إنّ الفصل بين نتائج البحث في المخطوطات وبين نتائج البحث في القراءات القرآنيّة ربّما يكون في صالح تدقيق الدّرس الاستشراقيّ، أو لسهولة البحث على الدارسين في الموسوعة، لكن أعتقد بضرورة الربط بينهما في بعض الأحيان؛ لأّن بعض نسخ المخطوطات القرآنية مكتوبةٌ وفق قراءة من القراءات القرآنيّة، ولأنّ البحث في المخطوطات القرآنيّة أعمّ من البحث في القراءات القرآنيّة من ناحية.

ص: 120


1- سواء المذاهب السنيّة المشهورة أو غير المشهورة، أو المذاهب الشيعية، أو الزيدية أو الإباضية وغيرها، وتحت كل مذهب أصول كلية استندت عليها آلاف الأحكام الفرعية
2- لا يمكن اعتبار المنهج اللغوي والبلاغي الذي قدمه الدرس الاستشراقي؛ لأنّه يُحمّل النّص القرآني ما لا يحتمل.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ طبيعة البحث في المخطوطات القرآنيّة يختلف عن طبيعة البحث في موضوع القراءات القرآنيّة، وفي تقديري لهذا الفصل بين البحثين أرى أنّه رؤيةً غير صائبة؛ لِمَا يعتور ذلك الفصل من خللٍ بسبب التّداخل المؤكّد بين البحثين ولأنّ من المخطوطات القرآنيّة ما كتبه النُسَّاخ بقراءات القرآن المختلفة، ولأنّ من القراءات ما له حكم القرآن المنزَّل من الوحي والإعجاز والتحدّي وجواز التعبّد بتلاوته، وهي القراءات المشتملة على ضوابط القراءة الصحيحة(1)، ومن القراءات ما هو شاذٌّ، ومنها ما ورد عن طريق الآحاد فليست القراءات القرآنيّة تسير على وتيرة واحدة ؛ فهو علم كبير له علماؤه المحقّقون، وهذا يحتاج إلى جهود مضنية يبذلها العلماء المختصّون في هذا العلم الشريف حتّى يتميّز بعضُها من بعض.

3-مشروع قرآنيكا الألمانيّ الفرنسيّ:

ثمَّة مشروع آخر هو (Coranica) جاء داعمًا لمشروع (Corpus Coranicum)، وهو مشروعٌ ألمانيٌّ فرنسيٌّ يتألَّف من فريقين: فريق ألمانيّ بإشراف أنجليكا نويفرت، وفريق فرنسيّ بإشراف فرانسوا ديروش، وهدف هذا المشروع يدور بين أمرين اثنين: الهدف الأوّل: محاولة دراسة المخطوطات باهتمام خاصّ بتحديد تاريخها بدقَّة، باستخدام تقنيّات علميّة حديثة؛ وهي الكربون المشعّ، وقد سبقت الإشارة إليه، وبيان مدى دقّته وقبوله في مجال الدراسة القرآنيّة: بما لا أرى مزيدًا عليه. الهدف الثاني: دراسة علاقة القرآن ببيئته اللغويَّة والثقافيَّة؛ إذ إنَّ الدراسة المعجميَّة تكشف عن أنَّ القرآن بحسب مشروع كورانيكا استعار على نطاق واسع من اللّغات العظيمة في الشرق الأدنى في العصور القديمة المتأخّرة؛ كاللّغة العبريَّة، واليهوديَّة الآراميَّة، والسريانيَّة، والإثيوبيَّة القديمة والفارسيَّة واليونانيَّة واللاتينيَّة(2).

ومن الواضح أنّ أكثر دراسات إنجيليكا نويفريت اتّخذت القرآن موضوعًا لها، سواءً من الناحية التوثيقيّة للنّص القرآنيّ وما طرح من قضايا ترتبط بتوثيق النّصّ القرآنيّ

ص: 121


1- وهي على سبيل الإجمال (موافقة الرسم العثماني، وموافقة العربية والسند المتصل المتواتر) وسوف أتناولها بالتفصيل فيما بعد في الفصل الثالث
2- انظر: مشروع الموسوعة القرآنية الألمانية - كورانيكا» مجلة القرآن والاستشراق المعاصر، م.س، العدد الثاني، ص 42-43.

أو من الناحية التفسيريّة وما لذلك من مؤثّرات؛ ذلك أنّ شأن دراساتها شأن الدرس الاستشراقيّ العامّ، حيث تدرس القرآن من منظور غربيّ يدور بين اعتبار القرآن نصًّا أدبيًّا تارة أو باعتباره نصًّا تاريخيًّا تراثيًّا قديمًا قابلاً للنقد؛ كسائر نصوص التراث تارة أخرى.

4-مقولات أنجليكا نويفرت بين التحليل والنقد والتقويم.

اشارة

هناك أربعة مداخل عامّة رئيسة لمشروع الموسوعة القرآنيّة، أوّلها: دراسة المخطوطات القرآنيّة، وثانيها: المقارنة بين قراءات القرآن وثالثها: التعرّف على الظروف التاريخيّة والدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في عصر نزول القرآن، ورابعها: الدراسة التاريخيّة والأدبيّة للنصّ القرآنيّ(1). وهذه النقاط خير ما يعبّر عن فكر مدرسة الاستشراق الألمانيّ المعاصر، وعلى رأسها المستشرقة إنجيليكا، التي سنعرض أقوالها قدر الجهد بشيء من التحليل.

لقد حاولت إنجليكا نويفرت بيان (الظروف التاريخيّة والدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في عصر نزول القرآن) وعليه نتناول محاولتها بالتحليل؛ بغية بيان وجه تحليلها هذا في تكوين القرآن ودوره في إيجاد الجماعة المؤمنة، ودور الجماعة المؤمنة معه.

وصفت كارول كرستين دراسة جون وانسبرو (1928-2002م) وبحثه في مسألة تكوين القرآن بأنّها:«مسألة شديدة التخصّصيّة والغموض»، وأنّه «أمرٌ مشكِلٌ للغاية»(2)، وعلى الرغم من ذلك، فقد استمدّت إنجليكا نويفرت كثيرًا من مقولاته.

أ- المَقولة الأولى :(نويفرت وخطابات القرآن والتاريخانيّة:

بيّنت نويفرت أنّ هناك خطابين للقرآن فقالت:«الخطابان معًا لم يتم التمييز بينهما: خطاب تأصيليّ تمّ إنتاجه عن طريق تكوين المجتمع (gemeindebildung)، وعمل مقارن مُنصَبٌ على إعادة كتابة النصوص المقدّسة (fortschreibung haggadic)"(3).

ص: 122


1- «مشروع الموسوعة القرآنية الألمانية - كورانيكا»، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر، م.س، العدد الثاني، ص41.
2- انظر كرستين كارول (عرض كتاب الدراسات القرآنية مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدسة جون وانسبور)، ترجمة: هند مسعد، تم نشر هذا المقال في الدورية الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية مجلد 23 رقم (1) نوفمبر 2006، ص2-3.
3- نويفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، ترجمة بدر الحاكيمي قسم الدراسات الدينية الدراسات والأبحاث 2019 جميع الحقوق محفوظة (ص: 9).

إنّ اعتبار خطاب القرآن يدور بين الخطاب المؤسّس من المجتمع والبيئة الذي عاش فيها النبيّ محمّد، وبين خطاب آخر مقارن بين القرآن والنصوص القديمة أمرٌ غير مقبول؛ لأنّ هذه ازدواجيّة تقوم على تحليلات غير ثابتة واستدلالات غير واثقة؛ لذلك نتوجّه إلى هذه الخطابات بالنّقد والتقويم، وبتحليل ما قامت به المستشرقة إنجليكا نويفرت فى ما يلي:

*(القرآن خطاب نبوي عفوي أو مبلغ كاريزميّ):

لم تخرج نويفرت عن رأيها في أنّ القرآن خارج عن كونه وحيًا سماويًا، ثمّ أوغلت في التحليل، فقالت:«ومع ذلك يتمّ تقديم الشّكل العامّ للتعبير القرآنيّ باعتباره خطابًا نبويًّا عفويًّا»(1)، فأطلقت نويفرت مصطلحًا على القرآن هو (خطابٌ نَبَوِيِّ عَفَوِيّ) وهذا التعبير يُوهم بأن القرآن هو خطاب نبويّ المصدر، وليس إلهيًّا؛ بمعنى أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم هو من أتى بهذا القرآن من عند نفسه، أو أنّه اقتبس ما اقتبسه، ثمّ أوهم جمهوره بأنّه وحيٌ ،إلهيٌّ ، وفي هذا اتّهام ،واضح، نردّ عليها بأمور عدّة:

* يمكن معرفة قدر وضاعة هذا بسؤال هو: كيف أتى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالقرآن من عند نفسه لِمَا لديه من فصاحة وبلاغة عربيّة - كما تزعم نويفرت مع أنّ هناك عربًا أفصح بلاغة وأغزر شعرًا، وأكثر خطبًا ؟ فإثبات تلك الفصاحة والبلاغة بين

سائر العرب لمحمّد يثير التساؤل؛ ولم يُعرف النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالبلاغة قبل ظهور القرآن، فلم يكن شاعرًا أو كاتبًا أو خطيبًا يومًا!

* الزعم بأنّ القرآن (خطاب نبويّ) اتّهامُ ضمنيٌّ لمن سمع القرآن من سائر العرب -المؤمن والمشرك، حيث يتهاوى هذا الزعم من خلال عربيّة العرب وذائقتهم

اللّغويّة، ومعرفتهم الفرق بين كلام الله وكلام البشر !

* لو كان القرآن خطابًا نبويًا فلِمَ ترك العرب كلام مسيلمة الكذّاب، وسجاح وغيرهما ممّن ادّعى النبوّة، وأتى بكلام مدّعيًا أنّه كلام الله تعالى عن ذلك علوًّا؟!

ص: 123


1- نويفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نصَّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، ترجمة بدر الحاكيمي قسم الدراسات الدينية الدراسات والأبحاث ،2019 جميع الحقوق محفوظة، ص 5.

* إمكانيّة الوقوف على فروق جوهريّة بين القرآن والسنّة بأدنى مقارنة بين كلام الله المعجز؛ وهو القرآن وبين كلام النبوّة؛ وهي السنّة؛ حيث تتبيّن الفروق بينهما بالوقوف على خصائص ذاتيّة أساسيّة للقرآن والسنّة؛ لأنّ في الإسلام نصوصًا مقدّسة جليلة هي: القرآن الكريم والسنّة النبويّة، فالذي يعنينا هو بيان الفرق بين القرآن الكريم والسنّة النبويّة:

- إن القرآن له خصائص ذاتيّة؛ منها : أنّه مجموع ما بين دفّتي المصحف، ووحي من الله بلفظه ومعناه معجز بلفظه ومعناه متعبّد بتلاوته، متحدَّى به أصدق الحديث ليس فيه فاضل ومفضول كلّ ألفاظه في قمّة كمال اللغة والبيان، أمّا السنّة فلفظها نبويّ، ولا تُوصف بخصائص القرآن السابقة.

- إنّ اتّحاد القرآن والسنّة كلاهما في أنّهما وحي الله للنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم يفرّق بينهما أنّ وحي القرآن باللّفظ والمعنى، أمّا وحي السنّة بالمعنى دون اللّفظ؛ لذا لم يختلط على الصحابة الفرق بين وحي القرآن والسنّة، فكانوا يقرأون القرآن تعبّدًا في صلاتهم، ثمّ يستوضحون النبيَّ عن معانيه فيبيّنه لهم بالسنّة، ولو أديرت ألسنة البشر ليأتوا بكلمة تقوم مقام كلمة قرآنيّة لتؤدّي غرضَها لَعَجَزُوا عنه، فما أمكنهم ذلك.

- إنّ اتّحاد القرآن والسنّة في الفصاحة يعود إلى أنّ النبيّ أوتي جوامع الكلم، واتّسم ببلاغة وحسن بيان للبشر، لكن لم يغلط أحد من المسلمين في التفرقة بين القرآن وتمييزه عن السنّة، فذائقة العرب والمسلمين تدلّ بوضوح على التفرقة بينهما.

القرآن كلّه متواتر بسند صحيح النسبة إلى الله تعالى، أمّا السنة فمنها المتواتر بسند صحيح النسبة إلى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم و منها الأخبار الآحاد الصحيحة والحسنة والضعيفة. إذًا القرآن قرآن بخصائصه الذاتيّة والسنّة سنّة بخصائصها الذّاتيّة.

- ثمّ إنّ نويفرت صرَّحت فوصفت النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بأنّه: (المبلِّغ الكاريزمي)(1)، وهذا التعبير (المبلِّغ الكاريزمي) عَارٍ عن الحكمة والاتّزان؛ لأنّ وحيَ القرآن أثّر في شخصيّة النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم دون العكس، وكمال شخصيّة النبي تظهر في جانبها الخُلقيّ، والبلاغيّ

ص: 124


1- نويفرت أنجليكا القرآن بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، م.س، ص3.

والعقليّ والحكمة؛ بسبب القرآن دون العكس وهذا التعبير يُسقط هذا الزعم بأدنى نظر وتأمّل في شخصيّة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم.

*(المتحدث القرآني):

تری نويفرت أنّ هناك من يسمّى ب- ( المتحدّث القرآنيّ)، فتقول: يشير المتحدّث القرآنيّ باستمرار إلى الكتب المقدّسة السابقة من خلال تكييفها مع الآفاق المعرفية لجمهوره ومع ذلك يتمّ تقديم الشّكل العامّ للتعبير القرآنيّ باعتباره خطابًا نبويًا عفويًا يبدو انّه قد بقي طوال العصور القديمة المتأخّرة في شبه الجزيرة العربيّة خلافًا لإسرائيل»(1)، وإنّ تعبير (المتحدّث القرآنيّ) مصطلح أطلقته نويفرت لتعبّر عن إنكارها وحي القرآن من الله، وزعمها في أنّ المتكلّم به هو النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم ونردّ عليها بأمور عدّة في ما يلي:

أولًا: مع أنّي لست في مضمار إثبات وحي القرآن بعد إثبات أوصاف ثلاثة للنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم هي:(الرسالة والأميّة، والعربية)(2) الشاهدة بأمانة الدّور الذي قام به النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم تجاه وحي ،القرآن فلم يُبدِّل أو يُغيّر، لكن تعدّدت أوجه حقائق المتحدّث القرآنيّ بين جوانب عديدة من أظهرها جانب التشريع والتكليف بالأمر والنهي وهذه اعتبرها حقائق مستقلّة للمتحدّث القرآنيّ.

ثانيًا:حقيقة (المتحدّث القرآني) من الضرورة أن نبيّن لإنجليكا نويفرت أنّ من تحدّث بالقرآن هو أوّل من أمر بالقراءة، فهو الآمر والمخبر عن عشرات الأخبار الغيبيّة سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، التي وردت في القرآن وصدّقت أخبارها في ما يستقبل؛ ممّا لم يقع فوقع؛ كما أخبر القرآن(3)؛ فكيف لا تصدق أخبار الغيب الماضي وإن خالف الكتب السابقة؟!

ثالثًا: حقيقة (المتحدّث القرآني) هو من كلَّف المسلمين بعشرات التشريعات الإسلاميّة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصيّة، والتي أسّس النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم على

ص: 125


1- نويفرت أنجليكا (القرآن) بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، ص.5
2- سوف أوا في هذه الأوصاف بمزيد توضيح فيما يلي.
3- تكرّر أدلّة الإعجاز الغيبي؛ فكان في أوّل البعثة النبوية خبر سورة المسد بسوء خاتمة عمّه أبي لهب المسد 18-3]، وما ورد في وسط البعثة من خبر سورة الروم من غلبة وانتصار الروم في بضع سنين على الفرس مع أنّ الروم كانت منهزمة منها فتحقق الخبر [الروم:1-6]، وما ورد في خواتيم البعثة من خبر سورة الفتح بفتح مكة قبل حدوث الفتح بعامين كاملين [الفتح: 1] و[الفتح: 27].

ضوئها المجتمع المسلم الأوّل، و(المتحدّث القرآنيّ) هو الذي تحدَّى البشريّة بأن يأتوا بمثل آية من القرآن في لفظه ومعناه، فتحدّاهم النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، به فعجزوا.

رابعًا: حقيقة (المتحدّث القرآنيّ) أنّه هو الغالب على أمره، الفعّال لما يريد، القادر على كلّ شيء، الذي ترك للإنسان حرّيّة القناعة العقليّة والطمأنينة القلبيّة في اختيار الدّين الذي يريده الإنسان ويرضاه، وما للنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم حيال ذلك؛ إلا أن يبلّغ ذلك إلى الناس نظريًّا وتطبيقيًّا.

وبناءً على ذلك فلا داعي للإيهام والتوهيم بانفصال القرآن عن نبوّة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم. أو التلميح إلى أنّ هناك متحدّثاً بالقرآن غير معلوم، وغرض إنجليكا في ذلك التبرير غير المنطقيّ لتحليلاتها في مصدر القرآن الكريم؛ لتبرّر تدخُّل البيئة والتاريخ ودعوى اقتباس القرآن من النصوص القديمة أو مقارنتها بينه وبينها.

*(تاريخانيّة القرآن وتسجيل مواقف أهل مكّة):

هل كان لأهل مكة موقفٌ واحدٌ من القرآن أو مواقف عديدة؟ لقد أوهمت أو توهّمت نويفرت إلى وحدة موقف أهل مكّة من الإنكار؛ لتبيّن ضرورة الوقوف على مراحل تكوين القرآن مع أنّ القرآن سجّل مواقف عدّة لأهل مكّة من وحي القرآن لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه : لماذا تخيّرت نويفرت موقف (الإنكار التامّ) من بين سائر تلك المواقف المحتملة والمعقولة من دون الإشارة إلى بقيّة الاحتمالات الأكثر واقعيّة ومعقوليّة، والأقرب إلى روح الإيمان بالله تعالى؟

وتؤكّد نويفرت على أنّ القرآن في بداياته الأولى كان مجرّد كلام أنكره أهل مكّة فقالت:«لم تكن رسالته [أي القرآن](1) آنذاك خطابًاً موجَّهًا إلى المسلمين- الذين سيصبحون مسلمين فقط من خلال اعتماد الرسالة القرآنيّة نصًّا مقدّسًا - بل بالأحرى إلى طبقة من المتلقّين لم يُسلموا بعد، والذين يُمكن وصفهم بمثقّفي العصور القديمة المتأخّرة، غير أنّ البحث الغربيّ دون تقيّد بالتقليد الإسلاميّ - يعتبر القرآن نصًّا مقدّسًا - كما أصبح في ما بعد، ويفسّره بطريقةٍ غائيّة، كما لو أنّ المعنى والسلطة اللّتين سوف

ص: 126


1- ما بين القوسين من الباحث لبيان وتوجيه قصد صاحبة الكلام من سياقه السابق واللاحق.

تكتسبهما الرسالة القرآنيّة هما طابع كامن ومركوز في الوضع الأصليّ»(1)، فالمستشرقة نویفرت تفرَّق بين موقفين حُرّين مستقلّين: الأوّل موقف من أنكر القرآن. والثاني، موقف من آمن به وصدّقه فإذا بها تدوّن وتسجّل وتُعلي من شأن المنكر الجاحد من دون ذِكرها لموقف المذعن المقرّ بصدق القرآن ،وصحّته، وتلك مفارقة غريبة ويردّ عليها بما يلي:

أولًا: إنّ رأي المستشرقة نويفرت لا يناسب إلا منهجها الوهمي الذي استخدمته، بل ومنهج أساتذتها المستشرقين كذلك، فما إنجليكا إلا فرع من شجرة الاستشراق التي تضرب بجذورها في تاريخ الفكر الغربيّ عامّة، والألمانيّ خاصّة، كما أنّه أنسب المواقف الهواها؛ لأنّه أظهر المواقف دلالةً على موقفها في تحليلها الانتقائيّ المستمدّ من منهجها، فإذا بها تشير نویفرت بقولها:«احترام تاريخانيّة البلاغ الأوّلي للقرآن إلى المستمعين؛ أي الأخذ بعين الاعتبار التفاعل بين المبلِّغ الكاريزمي والمجتمع الناشيء»(2).

ثانيًا: إنّ المواقف المحتملة المعقولة هي (أوّلها: الإيمان التامّ، ثانيها: الإنكار التامّ، ثالثها: التحيّر والاضطراب)، ويؤيّد تلك المواقف السنّة والسيرة والواقع الإنسانيّ من كلّ أمر جديد لم يألفه النّاس، ولم يتعوّدوه، فضرورة النّظر في البدايات الأولى لنزول القرآن وموقف الناس منه، نجد أنّ القرآن لم يصبح مصدرًا للمسلمين في استمداد الأحكام؛ إلا بعد فترة.

ثالثًا: القرآن خطاب إلى البشريّة كلّها منذ باكورة عهده في مكّة المكرّمة، وليس لمن آمن به من المسلمين فقط، فهذا الخطاب العامّ والشامل مثار مدح للقرآن، لا أنّه مثار قدح كما تصوّر،نويفرت، فكلّما عمَّ خطابُه كثرَ أتباعُه مِن كلّ ألوان البشر، وبلدانهم وهذا طبيعة تنوّع أصحاب النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في ما بعد.

رابعًا: عموم الخطاب القرآنيّ بمكّة لا يضرّ ؛ فمن المعلوم أنّ القرآن لم يجبر أحدًا على الإيمان به أو الإذعان له وإنّما ترك النّاس وما يدينون؛ ولأنّ حكمة عموم خطاباته

ص: 127


1- نويفرت أنجليكا (القرآن) بوصفه نصًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 3.
2- م ن.

أن تبلغ رسالته جميع البشر، فيؤمن الجاحد ويذعن الكافر، وإنّ فترة عشرين سنة أو يزيد ليست بطويلة في عمر البشريّة حتّى ينتشر خبر القرآن الموحى بلفظه إلى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بين الناس.

خامسًا: لقد سجّل القرآن نفسه مواقف اتّخذها أهل مكّة من وحي القرآن تنوّعت بين الإنكار التامّ والتذبذب ،والتحيّر والذي يعنينا هنا- إبراز موقف التحيّر والتذبذب والاضطراب من بعض أهل مكّة، فقد ورد في آيات سوره الأوائل ما يدلّ على ذلك على مستوى بعض الأفراد، ومنها قوله تعالى:«إِنَّهُ فَكَرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُيلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ کَیفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ و بَسَرَ (22) أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) [سورة المدثر الآيات 18-23]، وهذا تسجيل لحال أحد المشركين المنكرين للقرآن في بداية وحيه؛ وهو: (الوليد بن المغيرة)، وهذا يدلّ قطعًا على تنبيه وحي القرآن وتسجيله وجه تلقّي المنكرين للوحي القرآني حتّى نتعرّف على طبيعة البيئة الأولى في الأيّام المبكّرة لنزول القرآن وتبيّن البيئة الأولى لنزول القرآن لم يكن تصديقًا مطّردًا أو إنكارًا دائما، وإنّما كان تحيّرًا من البعض، وهذا ما غفلت عنه المستشرقة إنجليكا نويفرت ولقد أبرزه القرآن.

سادسًا: ما أوضحه القرآن ،كذلك هو موقف الإنكار التامّ، ويظهر في قول الله -تعالى-:«وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ» [سورة الحاقة، الآية49](1)، ومن المعلوم أنّ الإنكار للنبوّات سبيل عامّ وسنّة مطردة في جميع الرسالات السماويّة السابقة والأمر شديد الجلاء والوضوح، فلو آمن كلّ أهل مكّة بالنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لقيل إنّها عصبيّة للقبيلة، أو للجنس العربيّ، أو للغة العربيّة.

(القرآن) والخطاب الشعائريّ):
اشارة

تدّعي نويفرت أنّ خطاب القرآن شعائريٌّ، فتقول: «يعتبر الخطاب الأوّل من هذين الخطابين القرآنيّين - هنا - خطابًا شعائريَّاً»(2)وتستدلّ بآياتٍ من صدر سورة العلق وهي:«أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)

ص: 128


1- والآيات الدالة على إنكار المشركين كثيرة منها على سبيل المثال: [سورة يونس الآيات 15 17].
2- انظر نویفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نصَّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 9.

الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5﴾ [سورة العلق، الآيات1-5](1)، تقول نویفرت:«هذه الآيات هي آيات إنشاديّة مأخوذة من مصدر المزمور: لقد ظهر الخلق - هنا - بوصفه الحدث الإلهيّ الأكثر احتفالًا به ومع ذلك، فهي تقترح قراءة جديدة: فما يشكّل الجود الإلهيّ ليس هو الحفاظ على خلقه بشكل أساس؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى المزامير بل هو تزويد مخلوقاته بخاصّيّة الفهم. إنّها المعرفة الإلهيّة التي يمنحها فعل الكتابة المتعالي عبر أداة القلم - والتي يتقاسمها الله بسخاء مع خلقه»(2)، وتلك سفسطة بقول مرسل، بلا نتيجة معقولة أو مقبولة، ونردّ عليها بأمور عدّة، وهي:

أولًا: معنى وصف نويفرت للقرآن بأنّه (خطاب شعائري)؛ أي: خطاب ذو جرس شعريّ، أي: خطاب يعتريه الموسيقى الشعريّة، لذا وصفته بعد ذلك (آيات إنشاديّة) بإضافة بيانيّة، والسؤال: الإنشاد نوع من الشعر، فهل في القرآن نوع من الشعر ؟ الجواب: إنّ القرآن أخبر خبرًا واضحًا بلا لبس أو غموض أنّه ليس بقول شعر، فقال -تعالى-: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا نُؤْمِنُونَ(41)»[سورة الحاقة، الآية41]، وسورة الحاقّة مكيّة النزول، نزلت قبل الهجرة، كما أخبر القرآن أنّ النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم ليس بشاعر، فقال -تعالى-:«وَمَا عَلَّمْنَهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْهَانٌ مُّبِينٌ» [سورة يس الآية69]، وإنّ سورة يس كذلك مكّيّة النزول، نزلت قبل الهجرة.

ثانيًا: تموّه نويفرت بقولها «آيات إنشاديّة مأخوذة من مصدر المزمور» للإشارة إلى استمداد القرآن من المزامير حيث تسير بذلك وفق زيف قولها المسلّم المزعوم بأنّ القرآن نسخةٌ منسلّة من النصوص القديمة، وهذا الكلام مردود؛ لانقطاع صلة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالنصوص ،القديمة، فلم يكن له علم بها إلّا من خلال ما أوحي إليه في القرآن قال تعالى:«تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبل هَذَا» [سورة هود، الآية 49]، فالقرآن مستقل التكوين؛ لأنّه وحيٌ من الله تعالى.

ثالثًا: وبالرجوع إلى مزامير داود تبيّن أنّ عددها (مئة وخمسون) مزمورًا، والسؤال:

ص: 129


1- تولى الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي - رحمه الله بالردّ على مثل هذه الدعاوى، وقد عرض لنماذج أخرى لمستشرقين آخرين، ثم قام بردّها جميعًا في كتابه (دفاع عن القرآن ضد منتقديه)، ص 25-31
2- انظر ،نويفرت أنجليكا (القرآن) بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 10.

هل المماثلة بين آيات سورة العلق وبين مزامير داود خاصّة بموضع معيّن أو مماثلة عامّة بسمة عامّة في (المزامير)؟ فإن كانت المماثلة خاصّة نقول: من أيّ موضع من المزامير كانت المماثلة؟ لم نجد ذلك، ولم تذكرها نويفرت فتبيّن أنّها تقصد المماثلة العامّة، لذا نقول المماثلة العامّة أمرٌ نسبيٌّ لا بدّ فيه من أدلّة متواطئة على تلك المماثلة.

رابعًا: بالرجوع إلى نزول سورة العلق تبيّن أنّ صدر سورة العلق هو أوّل نجم نزل من القرآن على أرجح أقوال علوم القرآن والتفسير، وبه نوع من البديع(1)، وانتهاء مقطع آيتين متتاليتين بالقاف؛ هما : (خَلَق وعَلَق) وانتهاء مقطع ثلاث آيات متتاليات بالميم؛ هي: (الْأَكْرَم والقَلَم يَعْلَم) فهل من أجل ذلك يوصم القرآن بأنّه نشيد من الشعر ؟! هذا تحليل هشٌّ لا حظّ له من التوفيق؛ لأنّ القرآن عربيٌّ نزل بلغة العرب وأساليبهم، واتِّبع فنون القول المختلفة في علوم البلاغة، فقد خاطب بهذا القول قومًا تستهويهم الكلمة وجرسها ليرتقي بفكر القوم، ويعلو بعقلهم، وليس فيه من قريب أو بعيد سمة الشعر من الوزن الشعريّ المعلوم لدى الشعراء، فضلًا عن أن يكون مستمدًّا شيئًا من أناشيد المزامير، فهذا خرص بعيد!

خامسًا: إنّه ليس كل تقارب صوتيّ في الكلمات يدلّ على تقاربٍ في المعنى، ومن رأى أنّ كلّ تقارب صوتيّ تقاربُ معنويٌّ إنّما يتكلّف بقول ما ليس من الحقّ في شيء، كما أنّ السياق له دور في استدرار المعاني النسبيّة التي تُقوّى وتضعّف بناء على قوّة الترابط السياقي وضعفه، بناء على ذلك أقول: إنّ هناك أغراض لا أراها بريئة القصد لدراسات استشراقيّة عديدة(2).

سادسًا: من أجل ما سبق لا أعتقد قيام بحوث نويفرت على إخلاص للدرس العلميّ والبحث الأكاديميّ؛ لأنّ منهجها العلميّ المتّبع لم تستنتج من خلاله النتائج العلميّة الصحيحة، كما أنّها انتقائيّة في اختيار ما تعرضه من نتائج مرسلة غير مدعمة بالدليل العلميّ المعتبر، وأيضًا فهي تُرسل أقوالًا دون تمحيصٍ أو تدقيقٍ علميُّ؛ لذلك أرى يقينًا

ص: 130


1- البديع هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ورعاية وضوح الدلالة، أي الخلو عن التعقيد المعنوي. انظر: الجرجاني، علي بن محمد الشريف التعريفات ط1، بيروت ،لبنان، دار الكتب العلمية (1403ه- / 1983م)، ص 156.
2- مثل دراسة جون والسبورو (John Wansbrough) في كتابه: (دراسات قرآنية) الذي نشر سنة (1977م)، وسوف يأتي الحديث عنه.

أنّ من أغراض إنجليكا في وضعها لمصطلح (الخطاب الشعائريّ) وضع علاقة ارتباط بين القرآن والنصوص القديمة مستدلّةً بهذا الشاهد، أو غرضها إثبات مماثلة هذا الشاهد المستدلّ به لمزامير داود، أو غرضها إثبات تأثير النصوص القديمة على القرآن، وأنّ القرآن نسخة منسلَّة من الكتاب المقدّس، وهذه الأغراض أوهن وأوهَى من بيت العنكبوت وهي في الواقع دعاوى استشراقيّة بعضها من بعض.

لقد أشار الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى بعض تلك النماذج وتولّى الردّ عليها بقوله:«إنّنا نجد ذلك العمى المرضي في مقالة (العناصر اليهودية في القرآن) برلين 1878م، وفي كتابه (مساهمات حول تفسير القرآن) ليبزج 1886م ، ولذلك فهي كتب لا تستحقّ أن ندرسها»(1)، وهذه الأعمال التي أوردها بدوي هي للمستشرق الألماني هرتفيك هيرشفليد(2).

ب- المَقولة الثانية:(الظروف التاريخية والدينية والثقافيّة):

تعدّدت رؤية إنجيلكا نويفرت في (مصدر القرآن الكريم)، كما ادّعت انقطاع القرآن مدّة عقدين وهي تقول: «قبل أن يكتسب القرآن صفة العمل المُؤَسِّس للإسلام، كان لأكثر من عقدين من الزمن تواصلًا شفويّاً، ولم تكن رسالته آنذاك خطابًا موجّهًا إلى المسلمين - الذين سيصبحون مسلمين فقط من خلال اعتماد الرسالة القرآنية نصًّا مقدّسًا - بل بالأحرى إلى طبقة من المتلقّين لم يُسلِموا بعد، والذين يمكن وصفهم بمثقّفي العصور القديمة المتأخّرة(3)، وهذا كلام يعتوره أغلاط أغلاط من جهات عدّة؛

*(سيرة النبي محمّد قبل النبوّة تكذّب دعوى نويفرت):

* ظل النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم قرابة أربعين عامًّا قبل البعثة يعيش بين الناس، يسافر ويقيم، والتاريخ الخليق بالذِكْر هو ما يُعبّر عن شخصيّة النبيّ، فهل كان يطلب رئاسة، أو يسعى لردّ ملك آبائه، أو يطلب مكانة بين الناس ؟ الجواب لم يكن كذلك؛ إنّما كان

ص: 131


1- بدوي عبد الرحمن دفاع عن القرآن ضدّ منتقديه ترجمة كمال جاد الله لا ط، الدار العالمية للكتب والنشر، بدون تاريخ، ص 31.
2- هرتفيك هر شفيلد (1854 - (1934) مستشرق وباحث يهودي في غاية التعصّب ضدّ الإسلام من آثاره: (إسهامات في إيضاح (القرآن) و أبحاث جديدة في تأليف وتفسير القرآن. انظر بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص609-610
3- نويفرت أنجليكا القرآن بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، م.س، ص 3.

رجلًا طبيعيًّا يعيش بين الناس فمن له عقل يُدرك أنّ الناس في مكّة بلدة منشأ النبي محمّد عصلی الله علیه و آله و سلم -علموا من خلال مواقفهم واحتكاكهم به ومعه مدّة عمره قبل النبوّة، أنّه رجل صادق لا يكذب أمين لا يخون فكيف لا يصدّقون أنّه نبيّ يوحى إليه!؟ والقرآن يشير إلى ذلك بقوله - تعالى - :«فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» [سورة يونس الآية 16] وقال :«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا فَتَاوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَالَّا فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَابِلًا فَأَغْنَى(8) [سورة الضحى، الآيات -6-7- ،8 - فالقرآن يُبيّن حياة محمّد قبل البعثة؛ من يُتمّ الأبوين، وعيش مشترك بين الناس، وعون للمحتاجين، فضلاً عن الجانب الأسريّ من إعالة الأهل إذ تزوّج، وإنجاب أولاده قبل البعثة لندرك وقوف القرآن على أثر سيرة النبي وتاريخه قبل البعثة في بيان حقيقة شخصية النبي محمّد ومعرفة أخلاقه وأوصافه، إذ البيئة العربيّة لا أثر لها في تكوين القرآن، وهذا ما انصرفت عنه إنجليكا نويفرت؛ لعلمها يقينًا أنّها إن دخلت مجال البيان لدور شخصيّة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم قبل البعثة لفشلت تحليلاتها.

*(توسّع الإيمان بوحي القرآن يكذب دعوى نويفرت):

* إنّ التاريخ الخليق بالذكر دالٌّ على خطأ تحليل نويفرت؛ لأنّ القرآن نال القبول في قلوب بعض أهل مكّة منذ أوّل أيّام نزول الوحي، ثمّ تتابع إيمان الناس بالقرآن ومعلوم أنّ باكورة إيمان العدد القليل ما لبثت أن تضاعفت أعداده وكثرت وازداد في أيّام الإسلام الأولى. ولا شك أنّ أوّل آيات أنزلت سجَّلها هؤلاء المؤمنون الأوائل.

*(الواقع والتاريخ وزعم نويفرت بقاء القرآن في شبه الجزيرة العربيّة):

* استمرّت نويفرت بالسّير في مضمار تمحّل النتائج المرسلة؛ بغية اتّساق زعمها إنكار وحي القرآن مع ما تقرأه من كتابات المستشرقين السابقين، فتقول: «يبدو أنّه - أي القرآن - قد بقي طوال العصور القديمة المتأخّرة في شبه الجزيرة العربيّة؛ خلافًا لإسرائيل»(1). إنّ هذا الزعم بأنّ القرآن ظلّ خطابًا نبويًّا عفويًّا في شبه الجزيرة، وقبِلَه

ص: 132


1- نويفرت أنجليكا القرآن بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، م.س، ص5.

الناس كذلك؛ هو مخالف تمام المخالفة للواقع والتاريخ لأسباب هي:

* خطاب القرآن العالمي.

* عالميّة رسالة النبي الخاتم.

واقع العرب الذي يشهد له تاريخهم؛ إذ خرجوا برسالة القرآن إلى البشرية كلّها ويمكن تأكيد ذلك بأسباب تفصيليّة؛ هي:

أولًا: يشهد التاريخ بأنّ بقاء القرآن في شبه الجزيرة محض افتراء؛ لأنّ خروج القرآن إلى آفاق الأرض أمرٌ مسَلَّمُ؛ لأنّ القرآن قد عَبَر المكان إلى مختلف جهات الأرض؛ شرقها وغربها، وقرأه المسلمون على مسامع النّاس؛ فمنهم من اهتدى فآمن، ومنهم من أنكر رسالته فلم يجبر عليه، ودخل أوروبا في الأندلس، وبلغ الصين في أقصى الشرق، وإنّ أكثرَ حواضر الأرض اليوم شاهدة بوصول القرآن إليها منذ قرون طويلة حاملًا إلى الناس مفاهيم رسالة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم ومعجزته، ومَنْ لم يدرك هذا في درسه الاستشراقي؛ فإنّه يلام مرّتين: الأولى : لغفلته عمّا شَهِدَ به كبارُ المستشرقين وأقرَّوه(1)، ومرّة أخرى لعدم قراءة التاريخ؛ إذ تعدَّى القرآن جزيرة العرب إلى الناس؛ ليتعرّفوا على وحي الرسالة الخاتمة.

ثانيًا: يشهد الواقع بأنّ القرآن محطّ دراسة الباحثين في شتّى بقاع المعمورة، ومنها أوروبا كلّها، فإنّ عمل الأستاذة إنجليكا نفسه دليل على مغالطتها في دعواها بقاء القرآن في شبه الجزيرة العربيّة، ثمّ إنّ خروجَ القرآن خارج نطاق الجزيرة شأنٌ طبيعيّ؛ لأيّ رسالة تتّسم بالعالميّة بخلاف أيّ رسائل إقليميّة محلّيّة.

ثالثًا: إنّ ترجمة القرآن إلى سائر اللّغات الحيّة حتّى يُقبِل غيرُ المؤمن بالقرآن إلى اقتنائه مترجمًا ليطّلع عليه، وإنّني أتساءل: كيف ترجم أحبار اليهود وآباء الكنيسة القرآن إلى لغاتهم مع بقائه في جزيرة العرب ؟ بل لماذا ترجموه أصلا إلا للاطّلاع عليه ؟

ص: 133


1- انظر ،دیورانت ويل قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران لا ط ،مصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب (2001)، ج 13، ص 261-312 الباب الثالث عشر ،لوبون غوستاف حضارة العرب ترجمة عادل ،زعيتر لا ط ،مصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص 149-318 من الباب الثالث.

بغضّ النظر عمّا إذا كانت الترجمات لمعاني القرآن غير دقيقة أو صحيحة، أو كانت الترجمات غير محايدة وغير منصفة، تحمل الشبهات والزيف، لكنّ ترجمة الغرب للقرآن أمارة دالّة شاهدة على خروجه من جزيرة العرب، وتعدّيه حدود المكان والزمان معًا.

رابعًا: منح الله العقل للإنسان؛ ليُميّز بين صحيح الأشياء وسقيمها، ومن الواجب على الإنسان المنكر للشيء - لم يصدّقه ولم يؤمن به أنْ يكون إنكاره عن قناعة عقليّة تورث طمأنينة القلب، وإنّ إنجليكا نويفرت لم تقرأ القرآن حتّى يتبيّن لها الحقّ من الباطل، ولو اتّخذت قرارها ببحث القرآن ودراسته بجدّيّة وموضوعيّة وحياد دون تأثّر بآراء من سبق لأنصفت عقلها، ومارست حقّها في البحث والنّظر في القرآن ومعارفه العلميّة وأحكامه التشريعيّة، سواء آمنت مصدّقة بوحي القرآن أو أنكرته فهذا حقّها، والقرآن كتاب حكمة للإنسانيّة، وهو يمثّل رسالة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بغضّ النّظر عن إيمانك به، أو إنكارك له؛ فلسنا في مباراة عقديّة دينيّة، فما أنزل الله كتبه السماويّة جميعًا ليتقاذف أتباع دياناتها بعضهم بعضًا، فإنّك إن فعلت، فلا محالة تستمتعي - إن أردت بحكمة القرآن؛ كتابًا من الكتب الكائنة بين أيدي البشريّة أمانةً مستودعة فيها، قبل أن يفوت أوان الدنيا، وإنَّكِ إذا فعَلتِ ذلك فسَوف تجدين فيه بغيتك المرتجاة، ونجاتك من كلّ معضلة.

خامسًا: هذا هدي النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم في علاقة المسلم بالرسالات السابقة، فقال:«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ»، «وقُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(1)، وانتفاء التصديق والتكذيب؛ لاحتماليّة تصديق شيء ممّا حصل فيه تحريف، أو تكذيب شيء ممّا بقي من غير تحريف وعموم الإيمان بالله ربّ العالمين الخالق المطلق لهذا الكون واجب، والإيمان بما أنزل من كتاب واجب؛ لأنّ هذا قاسم مشترك بين جميع الرسالات السماوية وتلك رؤية النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم. وبناء عليه ليس هناك مضرّة أن تبدو قواسم مشتركة بين أصول الرسالات السماويّة، أو اتّحاد الرسالات في القيم المتتابعة في دعوات الرّسل، وليس من المعقول أن يقف.

ص: 134


1- أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن بَابُ قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ [البقرة الآية: 136] رقم: (4485) (30/6) من حديث أبي هريرة رضى الله عنه.

ولا أدري كيف يكون القرآن باق في جزيرة العرب، وهو في شتّى بقاع أرض الله العامرة؟ بل كيف يكون القرآن (خلافًا لإسرائيل) والتوراة قد امّحى أصلها، ولم يبَق منها سوی ذر الرماد من بقية باقية من أصل مندرس منطمس.

سادسًا: إنّ وجه إنكار قريش على النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم من وجه معلوم؛ هو إنكارهم دعوى إتيان الوحي من ليل أو نهار، لذا وصفوا القرآن بأنّه كهانة وأساطير الأوّلين(1)، فدعوی نویفرت هو عين دعوى كفّار قريش، فتأكّد أنّ وجه إنكارهم هو خصوص (دعوى النبوّة والوحي)؛ لأنّهم أنكروا الوحي من الله، فلمّا كان إنكارهم الوحي من الله أيقنّا مخالفة زعم نويفرت للواقع.

ولو قال النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم العرب و المنكرين (هذا ،كلامي، وأنا منكم - شرفي شرف لكم) لاحتفوا به احتفائهم بشاعرهم وناثرهم وخطيبهم وساجعهم، ولو كان النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم من أغنى قريش لآمنوا به، لذا قال الله تعالى -: ﴿ وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِلَ هَذَا الله الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» [سورة الزخرف، الآية 31-32] ، وأهل مكّة هم من قال ذلك؛ كذلك كان حال أهل الكتاب في المدينة؛ ذلك أنّهم استعظموا النبوّة أن تكون في بيت إسماعيل من العرب، وفضح الله تلك المقاصد والنوايا وسيأتي توضيح ذلك.

- أوصاف النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم شاهدة على الاتّصال الشفاهيّ للقرآن:

إنّ دعوى انفصال التواصل الشفاهيّ لمدّة عِقدَيْن للقرآن(2)؛ لأنّ رسالته كانت موجَّهة إلى الناس الذين كانوا يعارضونه ويكفرون به، ثمّ صار منهم مسلمين، فتلقّوه بالقبول فهذا الكلام يدلّ على عين التكلّف، خاصّة إن عرفنا مدى تأثير القرآن في قلوب الكفرة، فضلًا عن أثره على المسلمين.

ص: 135


1- ذكر القرآن وصف قريش للقرآن بالأساطير في مواضع هي: [الفرقان الآية: 5] و[الأنعام الآية: 25] و [الأنفال الآية: 31] و[النحل الآية: 24] و[المؤمنون الآية: 83] و [النمل الآية (68] و [الأحقاف الآية: 17] و [القلم الآية: 15] و[المطففين، الآية 13].
2- نويفرت أنجليكا القرآن بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، م.س، ص 3.

وثمّة صفات شاهدة بالحفظ والبلاغ، إمّا تتعلق بشخصيّة محمّد بوصفه ممنوحًا له؛ كما منح غيره من الأنبياء والرسل (عله)، أو تتعلّق بخصوص مدى ثقافته وتعليمه، أو تتعلّق بعموم ثقافة مجتمعه العربي، وهي

كما يلي:

*(الوصف الأوّل): وصف النبي محمّد ب_

(الرسالة)(1) والنبوّة ولوازمها وما يترتّب عليها فكانت رسالة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم يلزمها وجوبًا البلاغ؛ مهما كان من إنكار المنكر، فلا يضرّ ذلك استكمال وحي القرآن؛ لأنّ مهمّة النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم البلاغ لوحي القرآن بلفظه دون شطط أو غلوّ أو زيادة أو نقصان(2)، ويلزم وصف الرسالة ثبوت العصمة حتّى يبلغ ما أمره الله ببلاغه؛ والعصمة سواء من أذى الناس وضرهم، أو من النسيان(3) ويلزمها كذلك ثبوت أمانة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم عند أداء الوحي، وصدقه في الأداء، والتبليغ حيث عصمته من التقوّل على القرآن، ومن قبل ذلك يقينه في صحّة الوحي القرآني(4)، وإنّ هذه الأوصاف كلّها وغيرها تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ في صحة بلاغ النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لوحي ،القرآن كما تدلّ على دقته في البلاغ؛ لأنّ القرآن وحي رسالة خاتمة، ومعجزتها في الوقت نفسه.

* (الوصف الثاني): (أميّة النبي)؛ لأنّ صاحب وحي القرآن نبيًّ أميًّ غير قاريٍ ولا كاتب؛ وهذا ما ثبت في سيرته الحيّة، وعلاقاته مع كَتَبة الوحي، ومكاتبات الملوك، وكلّ من يكتب له ويقرأ تلك الرسائل المتبادلة، ففي القرآن«وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبِ وَلَا تَخطُهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لَاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ» [سورة العنكبوت، الآية 48]، فلما كان الوحي يتنزّل على النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم أراد حفظه بتكرار ما أوحي إليه، وهذا الشأن الطبيعيّ؛ والحال المعتاد لمن يحفظ لكنّ الله أراد من النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم الاكتفاء

ص: 136


1- إن وصف الرسالة يختلف عن وصف النبوة بالأمر بالبلاغ والتكليف به ويشتركان في الوحي والإلهام؛ فكل رسول نبي لوجود الوحي وليس كلّ نبيّ رسول لعدم وجود الأمر بالبلاغ، والنبي محمد رسول نبي أوحي إليه وأمِرَ ببلاغ الوحي، وكذا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى علیه السلام.
2- دليل وجوب البلاغ [سورة آل عمران الآية: 20] [المائدة الآية: 67] [المائدة الآية 92] [النحل :الآية 82] [النور، الآية: 54] [العنكبوت الآية +18] [الشورى الآية 48] وغيرها من القرآن
3- دليل العصمة من الناس ليتم البلاغ ما ورد في [سورة المائدة، الآية: 67] ودليل العصمة من النسيان ما ورد في [سورة الأعلى الآية: 6].
4- دليل أمانة النبي محمد من التقول على الله ما لم يقل ومن الافتراء أو تغيير ما أوحي إليه من وحي القرآن في [سورة يونس الآية: 16]؛ سورة الحاقة، الآيات: 44-47].

بما يُوحى إليه، من دون معالجة منه، فقال له:«وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُةٌ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (سورة طه، الآية114]، وقال كذلك:«لا تُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» [سورة القيامة، الآية ،16]، فالقرآن دلّ على نوع إعجاز في شخص النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم التي وعت واستوعبت القرآن؛ حفظًا في الصدر؛ رواية بلفظه ومعناه؛ بقدرة الله تعالى، دون معالجة من النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم(1) ومعلوم أنّ دلالة الأمّيّ بين من لا يعرف القراءة والكتابة، وهو الراجح ، والبعض يعتبر النسبة إلى الأمّة؛ أي الأمّة الأمّيّة؛ وهم العرب وبعض المستشرقين يطلقون الأمّيّين إطلاقًا موازيًا للوثنيّين في مقابل أهل الكتاب أهل العلم بالكتاب الأوّل(2)، كما"حفظ النبي القرآن ودوّنه بمواد الحفظ الأوّليّة وبطريقة أوّليّة تناسب عصره ، وذلك على قطع الجريد والحجر والورق، كما سبق بيانه فكان يستدعي الكتبة، فيكتبون ما أنزل عليه من آيات السور.

* (الوصف الثالث) (عربيّة النبي)، فالإنسان العربيّ عامّة كان اعتماده على الحفظ معروف بحافظة قويّة، وذائقة عربيّة مستوعبة تستهويه اللّغة العربيّة بأساليبها

اللفظيّة والمعنويّة وهم عرب ينقدون الكلمة، ويزنونها بميزان الحكمة وبراعة البيان وقد أيقنوا - وهم كفار - أنّ القرآن قول مغاير لقول البشر، فليس من جنس أنواع القول العربيّ من نثر أو شعر أو كهانة مسجوعة، فالإنسان العربيّ حالة كفره بالقرآن أدرك مفارقة القرآن لكلام البشر ، ومعلوم أنّ العربيّ القرشيّ كانت له مواقف عدّة على إعجاب بعض المشركين وتعجّبهم من ذلك؛ كالوليد بن المغيرة، وأبي جهل بن هشام(3)، ومن خلال هذه الأوصاف الثلاثة يمكن الوقوف على أمور في غاية الأهمّيّة؛ منها ما يلي:

- التعرّف على تاريخ النبي محمّد الأوّل.

- معرفة اتّصال وحي القرآن في أيّامه الأولى بالبيئة العربيّة، وليس انقطاعه عقدين

ص: 137


1- انظر: بدوي، عبد الرحمن دفاع عن القرآن ضد منتقديه، م.س، ص 12-13.
2- بدوي، عبد الرحمن دفاع عن القرآن ضد منتقديه، م.س، ص-14 17.
3- أدلة ذلك كثيرة في السيرة؛ مثل: اعتراف الوليد بن المغيرة بذلك للنبي، ونزلت بسببه آيات في سورة المدثر، وهي من أوائل القرآن المنزل، ومثل استراق أبي جهل بن هشام وأبي سفيان بن حرب السمع للقرآن حينما كان يتلوه النبي محمد بليل في بيته وهو يختلي لربه تعبدًا بتلاوة ما أنزل عليه من قرآن

من الزمان، أو (طبقة من المتلقّين) كما تزعم نويفرت، فلم ينقطع وصل القرآن بالمتلقّين ليومين؛ فضلًا عن عقدين.

- ندرك كذلك أنّ القرآن بيّن علاقة النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بوحي القرآن؛ كما بيّن طبيعة بيئته الأولى.

ج- المقولة الثالثة:(مصدر القرآن الكريم):
اشارة

من خلال ما سبق ندرك أنّ نويفرت ترى أنّ القرآن يتأثّر بالبيئة العربيّة، وأنّه خطابٌ عفويٌّ للنبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، كما أنّ المتحدّث القرآنيّ أشار إلى الكتب المقدّسة السابقة، وبناءً على ذلك، فإنّ رأي نويفرت المتعلّق بمصدر القرآن الكريم يتأرجّح بين مقولات عدّة؛ هي: إرجاع ذلك إلى البيئة العربيّة وكون المتحدّث القرآني هو النبي ،محمّد ودخالة النصوص القديمة في تكوين القرآن. هكذا ترى نویفرت؛ لذا قالت:«يشير المتحدّث القرآني باستمرار إلى الكتب المقدّسة السابقة من خلال تكييفها الآفاق المعرفيّة لجمهوره، ومع ذلك يتمّ تقديم الشّكل العامّ للتعبير القرآنيّ، باعتباره خطابًا نبويًّا عفويًّا يبدو أنّه قد بقي طوال العصور القديمة المتأخّرة في شبه الجزيرة العربيّة؛ خلافًا لإسرائيل»(1)،وتقول:«عصر نشأة القرآن يتزامن تقريبًا مع الفترة التي تمّ فيها تحريرُ ونشر المدوَّنات التفسيريّة الكبرى للتقاليد ،التوحيديّة من قبيل التلمودين في اليهوديّة»(2)، وهذه الفقرة وتلك بها شبهات عدّة أظهرها ما يلي:

*الإشارات القرآنية للكتب السابقة بين الحقيقة والافتراء):

بعدما عرفنا المتحدّث القرآنيّ الحقيقيّ؛ بخلاف ما توهّمته نويفرت فماذا تعني بقولها: «المتحدّث القرآنيّ يشير باستمرار إلى الكتب المقدّسة السابقة من خلال تكييفها مع الآفاق المعرفيّة لجمهوره»(3)؟ فقضيّة إشارة القرآن إلى الكتب السابقة مسلّمة عند المستشرقة إنجليكا نويفرت، لذا قالت بعد ذلك: استمرّت النسخة القرآنيّة في الاستفادة

ص: 138


1- نويفرت أنجليكا القرآن بوصفه نيًّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، م.س، ص5.
2- م.ن، ص.ن.
3- انظر: من صن. م.ن، صن.

من سلطة النصّ القديم»(1).

أما إشارة القرآن إلى الكتب السابقة، فأمرٌ طبيعيٌّ؛ لوحدة المصدر بين القرآن والكتب السابقة، لكنّ نويفرت تتّهم القرآن بأنّه يُكيّف حديثه عن الكتب السابقة الآفاق المعرفيّة لجمهوره، وهي تقصد أنّه ذو وجهين يعمل بهما الوجه الأوّل: يتّفق مع الكتب السابقة ويندمج معها إن كان جمهور المخاطَبين كتابيًّا، والوجه الآخر: ينفصل عن الكتب السابقة ويعاديها إن كان جمهور المخاطَبين غير كتابيّ، وهذا الكلام لا يليق مع مؤلّف صغير يتحسّس طريقه، أو صحفيّ يتدرّب على الكتابة والبحث؛ فكيف يليق مثل تلك المَغامِز في كتاب أخصّ سماته أنّه أُحكمت آياته ثمّ فصِّلَت، كتاب تعظّمه أمّة تضرب بجذورها ألف وخمسمئة عام في التاريخ وحديث القرآن عن الكتب السابقة محدَّد في نقاط هي:

أولًا: القول إنّ القرآن ذو وجهين أمرٌ مرفوض جملةً وتفصيلا، ويشهد لكذب الوجه الأوّل صراحة القرآن في انتقاد يهود المدينة عند حدث تحويل القبلة؛ إذ وصفهم بسفاهة المنطق فقال:«سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَهُمْ عَن قِبْلَيْهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمِ» [سورة البقرة، الآية 142]، وجه الاستدلال في هذه الآية: أنّه كيف يمالئ اليهود بوجه - كما تدّعي نويفرت مع كونه ينكر عليهم موقفهم هذا من تحويل القبلة، ثمّ يصفهم بوصف أقلّ دلالاته سفاهة الفهم وسوء المنطق ؟! والإنسان السفيه غير حكيم بالمرّة!

ثانيًا: يشهد لكذب الوجه الثاني أن نجد القرآن يُطالب أهل مكّة بسؤال (علماء بني إسرائيل) عن مدى صحّة القرآن، وذلك في قوله تعالى:«أَوَلَوْ يَكُن لَّمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَوا بَنِي إِسْرَءِيلَ(197) وَلَوْ نَزَّلْتَهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ(198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا مُؤْمِنِين (199) [سورة الشعراء، الآية 197- 199]، وجه الاستدلال في هذه الآيات: أنّنا لم نجد القرآن يشتم أهل التوراة هنا بل يصفهم بالعلم عند المشركين من أهل مكّة، وهذا خلاف ما ادّعته نويفرت؛ لأنّ إقرار القرآن بمعرفة خصوص (علماء) بني إسرائيل

ص: 139


1- م.ن، ص 11.

بصحة القرآن، وصدق وحي النبيّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لأنّهم أهل العلم بأيديهم حلّ المعضلات والمشكلات. وصدقت رؤية القرآن فقد آمن عددُ من علماء بني إسرائيل بالنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لمَّا هاجر إلى المدينة، فلو اقتبس أو تناصّ القرآن مع التوراة في شيءٍ؛ لأنكر عليه هؤلاء العلماء الذين آمنوا به، وإلّا فما بال من جَحَد رسالته منهم كان ساكتًا صامتًا إذا صحَّ اقتباسه شيئًا منها، إذن لاتّخذوه مغمزاً للنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، لكنّ معاصري النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم من اليهود لم يتّهموه بشيءٍ من ذلك، لا قولًا ولا فعلًا، ويشهد التاريخ أنّهم عادوه وأنكروا وحي القرآن لأسباب قريبة الشّبه أو هي أسباب إنكار كفّار مكّة للقرآن نفسها.

ثالثًا:إنّ الفارق لكبير بين وحدة الأحكام العامة والعقائد الرئيسة للرسالات السماويّة وهذا مقبول لا يرفضه عاقل؛ لوحدة مصدر القرآن والتوراة وصحف إبراهيم. أمّا دعوی اقتباس جملة كاملة من ألفاظ التوراة، ثمّ يسكت عنها؛ فلم يقل به أحد من المسلمين، وهو غير مقبول بالمرّة!

رابعًا:إنّ حال أهل الكتاب في المدينة أنّهم استعظموا النبوّة أن تكون في بيت إسماعيل من العرب، وفضح الله تلك المقاصد والنوايا ، فقال :القرآن:«لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَبِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» [سورة الحديد، الآية 29]؛ وذلك لأنّ من أهل الكتاب من أراد معاداة الله فأحبّ إطفاء نور الوحي ونوى كتمان حديثه، والتشغيب عليه، ومن أجلى ما ورد في وحي القرآن عن ذلك قوله - تعالى-:«ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»[سورة البقرة، الآية 105]، فقد شدَّد القرآن الكريم النكير على عموم أهل الكتاب عامّة وبني إسرائيل على الخصوص في مواضع كثيرة؛ في مواضع تستحق الإنكار لمخالفتها أمانة حفظ كتاب نبيّها وخيانتها؛ إذ حرّف الأحبار التوراة وحرّف الرهبان الإنجيل، فبدّلوا في كتبهم المقدّسة بأهوائهم، ولو سكت القرآن عنها ولم ينكر عليهم لضاعت فائدة هيمنته على الكتب السابقة ولو اقتبس منها شيئًا كيف سكت أعداؤه من اليهود وكانوا معه في مجتمع واحد ؟ ثمّ كيف يتّهمهم بتحريف التوراة ثمّ يقتبس منها ؟! أمر في غاية العجب، يدلّ على المغالطة

ص: 140

الكبيرة التي تدّعيها نويفرت.

خامسًا: القرآن واضح في حكمه على الكتب السابقة؛ فحينما يأتي بحُكم مماثل لغيره من الكتب السابقة في المواعظ والنصائح والأحكام العامّة، فلا ضير، وفي القرآن إشارة إلى ذلك؛ منها ما ورد في قوله - تعالى -:«أَمْ لَمْ يُنَتَأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى»[سورة النجم، الآية 36 - 37](1)، وقوله -تعالى-:«إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى مُحُفِ إِبْرَاهِيمَ و وَمُوسَى»[سورة الأعلى، الآية 19-18]، ثمّ إنّ هذا الوضوح يدلّ على وحدة من أوحى بأصل التوراة وصحف إبراهيم، وهو نفسه من أوحى بالقرآن للنبي محمّد، وهذا يدلّ على الصراحة ويدلّل عليه موقف النبي نفسه من أهل الكتاب، ولا يدلّ على شيءٍ من الاقتباس (2)؛ كما تدّعي نويفرت (3) ؛ لأنّ الاقتباس دعوى مجرّدة تحتاج إلى دليل على 31) مستوى الدلالة اللفظيّة خاصّة، وسوف أتناولها بمزيد إيضاح في ما يأتي.

ومن ناحية أخرى هناك نماذج لأحكام شرعيّة عامّة يشابه حكم القرآن الشرّعي فيها لإخبار القرآن عن حكم شريعة التوراة، ولكلّ منهما نصّ قرآنيّ مستقلّ؛ ومن ذلك (القصاص)، فقد قصَّ الله قصة ابنَي آدم وبيَّن أنّه من أجل ذلك كتب حكم القصاص على بني إسرائيل، وحكم القصاص مستقرّ في شريعة الإسلام بدليل مستقلّ(4)، ومن هذا القبيل كذلك (الوصايا العشر) التي أخذ الله ميثاق بني إسرائيل عليها(5)، فالوضوح القرآنّي يبدو في التفرقة بين حكم القرآن الشرعيّ للأمّة، وبين إخبار القرآن عن حكم شرعيّ لبني إسرائيل، ومن هنا كان

ص: 141


1- اختلف منهج المفسرين في اعتبار المماثلة هل أول السورة قبل آيتي النجم أو اعتبار المماثلة ما بعدهما إلى قوله: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذْرِ الأولى ) [النجم: 56] انظر: بن عاشور محمد الطاهر التحرير والتنوير لا ط تونس الدار التونسية 1984، ج27، ص 131؛ ج27، ص 157؛ ،رضا محمد رشيد تفسير المنار لا ط مصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ج 1، ص394.
2- الاقتباس من الفعل قَبَس والقبس شعلةٌ من نار يقال : قَبَسْتُ منه نارًا أَقْبِسُ قَبْسًا فَأَقْبَسَني، أي أعطاني منه قَبَسًا، وكذلك اقْتَبَسْتُ منه نارًا، واقْتَبَسْتُ منه عِلمًا أيضًا، أي استفدته أقْبَسْتُ الرجل عِلمًا، وقَبَسْتُهُ نارًا. انظر: الجوهري، الصحاح تاج اللغة، ج3، ص960؛ أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي أبو الحسين: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون لا ط دار الفکر، (1399ه-1979م)، ج 5، ص 48.
3- انظر ،نویفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نيًّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 11.
4- ورد حكم القصاص للأمة الخاتمة في [سورة البقرة، الآيتان 178 - 179]، وورد إخبار القرآن عن القصاص في شرع اليهود في [سورة المائدة، الآية (32] عقب قصة ابني آدم عليه السلام (الباحث).
5- وردت أحكام الوصايا العشر للأمة الخاتمة مرتين مرة في اسورة الأنعام الآية 151-152]، وفي [سورة الإسراء الآيات: 31-38]، بينما ورد خبر القرآن بميثاقه ووصاياه لبني إسرائيل في اسورة البقرة الآية: 83-84]، (الباحث).

اختلاف فقهاء المذاهب الفقهيّة في الشريعة هل يعمل بالأدلّة القرآنيّة المُخبِرة عن (شرع من قبلنا) هل يعمل بها أو لا ؟(1)وهذا من مواطن اختلاف فقهاء الشريعة.

*(عصر نشأة القرآن والتلمود):

تُبيّن نويفرت أنّ «عصر نشأة القرآن يتزامن تقريبًا مع الفترة التي تمّ فيها تحريرُ ونشرُ المدوَّنات التفسيريّة الكبرى للتقاليد التوحيديّة من قبيل التلمودين في اليهوديّة وكتابات آباء الكنيسة في المسيحيّة»(2)، وفي ذلك دعاوى عدّة، هي:

لیست نشأة القرآن في عصر متزامن مع فترة تحرير المدوّنات التفسيريّة للتلموديّين، ولكتابات آباء الكنيسة، فهذا باطل لأسباب واضحة هي:

أولًا: التلمود كلمة عبريّة؛ بمعنى الدراسة، وهو كتاب تعليم الديانة اليهوديّة، وتدوين نقاش أحبار اليهود وحاخاماتهم وربّانيهم المنتمين لفرقة الفرّيسيّين حول شريعة اليهود، وأخلاقهم وأعرافهم، وعددها (63) سفرًا)، ألّفت في القرنين الأوّل والثاني الميلاديّين، وأطلق عليها (المشنا)؛ أي التكرار؛ بمعنى أنّها تكرار للشريعة ثمّ شرحت المشنا في (الجمارا)؛ أي الشرح والتعليق، وهذا الشرح ألّف بين القرنين الثاني وأواخر القرن السادس الميلاديّين، ومن المشنا والجمارا؛ أي المتن والشرح تتألف التلمود(3). فكيف يُقارن بين القرآن العربيّ والتلمود العبريّ، فشتّان بينهما، وتكوين التلمود كان سرًّا بينما مراحل تدوين القرآن رسميًّة وجهرًا.

ثانيًا: إنّ كان تكوين التلمود سابقًا أو لاحقًا على تدوين القرآن، فمن المعلوم أنّ تكوينه تعدِّى خمسة قرون والغريب «أنّ اليهود تدّعي أنّها موحاة إلى موسى، فقد تسلّم موسى تفسيرات وشروحًا للقانون، أو ما يُدّعى بالقانون الشفويّ، وأنّ موسى نقل

ص: 142


1- انظر: الأبياري علي بن إسماعيل: التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه، تحقيق د. علي بن عبد الرحمن بسام الجزائري ط 1 ، الكويت دار الضياء، 1434ه- / 2013م، ج2، ص 417-420؛ خلاف، عبد الوهاب علم أصول الفقه، لا ط، القاهرة، مكتبة الدعوة بدون تاريخ، ص 93.
2- نويفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نيًّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص5.
3- انظر وافي عبد الواحد الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام ،ط6 ، مصر ، دار نهضة مصر ،2004، ص24؛ مؤلف مجهول أمريكي الجنسية: التوراة غياتها وتاريخها، ترجمة: سهيل الديب لا ط دار النفائس، بدون تاريخ، ص82-84.

هذا إلى جوشوا Joshua)، وهذا نقله إلى الشيوخ السبعين وهؤلاء بدورهم نقلوه إلى الرسل الذين انتهوا بنقله إلى كبير اليهود ، ومن الواضح وجود مدارس لتعليم الأدب المقدّس في فلسطين وبابل وفي القرن الثاني بعد الميلاد كان الرَّابي جيهودا Jejuda) الذي لاحظ تناقض معرفة اليهود، وبدا أنّ قانونهم الشفويّ بدأ يندثر في عالم النسيان وعى جيهودا هذا الواقع فبادر إلى جمع اللوائح في كتاب دعي ميشناوات (Seher Mischnaioth )(1)، وهذا يدل على أنّ التلمود نشأ على مدى قرون بعيدة، وهذه طبيعة العمل البشريّ التراكميّ، بينما لم يستغرق تدوين القرآن وجمعه سوى فترة نبوّة النبي محمّد؛ أي قرابة ثلاث وعشرين سنة، حيث بدأ تدوينه بالفعل منذ عصر النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم نفسه وبأدوات أوّليّة، ثمّ جاء عصر الصحابة فجمعوا القرآن بين لوحين بعد فترة وجيزة من رحيل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ، ثمّ عصر عثمان، وثمّ الإجماع على المصحف الإمام الذي جمع القراءات.

ثالثًا: كيف يقارن القرآن بالتلمود مع العلم أنّ القرآن وحي منزل، والتلمود أقوال جماعة اليهود؛ وهم جمع من البشر؛ سواء من الأحبار أو علماء اليهود ؟ هذا فارق يفسد المقارنة وينسفها من الأصل.

رابعًا: انقطاع العلاقة بين التلمود والقرآن، حيث إنّه وجد ذِكْر للمسيحيّة في التلمود ولم يوجد ذِكْر للقرآن فيه؛ ما يدلّ على انقطاع علاقة التلمود بالقرآن(2).

خامسًا: إنّ هذه المقارنة تقع بين جمع القرآن على مدى 23 سنة، وبين تكوين التلمود في قرابة خمسة قرون، فشتان بين جمع القرآن المعلوم المحدَّد في محتواه حيث له بداية ونهاية، وبين تكوين التلمود غير المعلوم ولا محدَّد في محتواه هذا يؤكّد على أنّ المقارنة مجرّد دعوى مرسلة دليلها العصبيّة وحاديها التعصّب !

وبعد، فإنّ الرؤية الاستشراقيّة حول مصدر القرآن تعدّدت لحالة التيه التي أوقع الاستشراق

ص: 143


1- انظر: الأب آي بي بارانايتس فضح التلمود تعاليم الحاخامين السرية، إعداد زهدي الفاتح، ط 4 دار النفائس، 1991، ص 22-23.
2- م. ن ص 22-24 وافي عبد الواحد الأسفار المقدسة، م.س، ص 24؛ التوراة غاياتها وتاريخها، م.س، ص 82-84

نفسه فيها؛ فمن أجل أنّه تائه في درسه وبحثه القرآنيّ، فقد ضلَّ الطريق الواضح الجليّ، والسبيل السوي، فلم يقف على أرضية صلبة، فإذا بالدرس الاستشراقيّ يزعم مصدر القرآن الكتابات السابقة، أو التلمود خاصّة، وهي دعاوى مرسلة عارية عن أدلّة تعتمد عليها، أو حجج تسندها.

د-المَقولة الرابعة : (تحليل إنجيلكا لتشكيل القرآن وعالميّته):

بعدما قامت إنجليكا نويفرت بمزاعم حول تكوين القرآن الأوّل؛ إذ ادّعت أنّ القرآن قام بالتفاوض فقالت:«التفاوض القرآنيّ مع النصوص القديمة غير مذكور في التقليد الإسلاميّ، ولا الأعمال الغربيّة على الرغم من التشابه بين سورة الإخلاص والعقيدة اليهوديّة؛ لأنّ مسح الذاكرة القرآنيّة من إشراك المجتمعات الأولى في المناظرات بين أهل النظر الجامع لحقبة العصور القديمة المتأخّرة من الوعي الجماعيّ بمنطق أن ما قبل تاريخ الإسلام عفا عليه الزمن»(1).

*(دعوى التفاوض القرآنيّ):

اعتبرت نويفرت أنّ:«القرآن وثيقة ناتجة عن عمليّة تواصل وتفاوض مستمرّ مع تقاليد العصور القديمة المتأخّرّة»(2)، وقالت إنّ «التفاوض القرآنيّ مع النصوص القديمة غير مذكور في التقليد الإسلاميّ، ولا الأعمال الغربيّة»(3). ويُردّ عليها أنّ هذا التفاوض القرآنيّ فيه نظر من جهات هي:

أولاً: إنّ (التفاوض القرآنيّ)(4) مع النصوص القديمة يطرح سؤالاً هو: كيف كانت طبيعة المفاوضة القرآنيّة مع النصوص القديمة ؟ ومعلوم أنّ التفاوض أخذٌ وردٌّ بعطاء، فإن أخذ من النصوص القديمة فماذا أعطاها ؟ وهل كان التفاوض بالأخذ والاقتباس منها دون إثبات؟ وما هو ردّ فعل أصحاب النصوص القديمة تجاه هذا التفاوض في عصره؟

ص: 144


1- انظر نويفرت، أنجليكا القرآن بوصفه نضًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، م.س، ص 12.
2- م.ن، ص 9.
3- م.ن، ص12.
4- التفاوض يدل على المفاعلة من تَفاوَضَ الشريكان في المال إذا اشتركا فيه أجمعَ وهي شركة المفاوضة وفاوَضَهُ في أمره، أي جاراه، وتفاوض القومُ في الأمر، أي فاوَضَ فيه بعضُهم بعضًا، انظر الجوهري، الصحاح تاج اللغة، م.س، ج 3، ص 1099.

هل سكتوا أو أنكروا أو تركوه يأخذ بلا رقيب أو حسيب؟ ولن نجد جوابًا على سؤال من هذه الأسئلة الضروريّة!

ثانيًا: كيف كان التفاوض بين الوحي الصحيح وبين ما فيه بقيّة باقيّة من أثر الوحي؟ وكيف يتفاوض القرآن مع النصوص القديمة مع اختلافهما في مفهوم الوحي؟ وهذا أمر واقع فعلماء التوراة يؤمنون بإمكانية الوحي بغير نبوّة، وأنّ ما يجري على لسان النبي وحي والنبي في بني إسرائيل نبي باختيار الشعب لا بعصمة أو بمعجزة؛ فهذا إقرار أرميا(1) بتحريف مفهوم الوحي عند اليهود فيقول في السفر المنسوب إليه: «إذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلًا ما وحي الربّ؟ فقل لهم أي وحي ؟! إنّي أرفضكم هو قول الربّ؛ فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول وحي الربّ أعاقب ذلك الرجل وبيته هكذا تقولون الرجل لصاحبه والرجل لأخيه بماذا أجاب الربّ؟ وماذا تكلّم به الربّ؟ أمَّا وحي الربّ فلا تذكروه بعدُ؛ لأنّ كلمة كلّ إنسان وحيُه إذ قد حرَّفْتُم كلامَ الإله الحيّ ربِّ الجنود»(2)، والكلام ينصّ صراحة على تحريف كلام الإله في العهد القديم ويعتبر «كلمة كلّ إنسان وحيه»، وهذه جملة في غاية الخطورة تدلّ على أنّ كلّ إنسان يسعى من رأسه، وهذه بداية الانفلات!

الثالثة: كذلك بالنسبة لكتاب النصارى هل أوحى الله للمسيح إنجيلًا واحدًا أو أربعة أناجيل ؟ قطعًا كان إنجيلًا واحدًا، مع أنّنا في الواقع نجده مشتملًا على أربعة أناجيل، هي (متّى ومرقس ولوقا، ويوحنا)، فأيّها صحيح النسبة للمسيح ؟ فإن عيّنوا واحدًا منها للمسيح قلنا : لا يوجد واحدًا من الأربعة سنده متّصل بالمسيح، فهي منقطعة السند بالمسيح، فكيف تُنسَب إليه ؟ وكيف تدّعون وحي كاتبها ولم تعرف نبوّة لكاتب واحد منها بالتالي تكون صحّة دعوى وحي الأناجيل دعوى فيها نظر.

بينما كان وحي القرآن بلفظه ومعناه بدلالة التحدّي بهما مع ثبوت الإعجاز عن الإتيان بمثله في الواقع بالفعل. ومن المُستقَر كذلك وقوع أوجه اختلاف عديدة بينهما؛

ص: 145


1- أرميا من أنبياء بني إسرائيل، نحو عام (627) ق.م) وإرميا اسم عبري بمعنى ( الله يؤسس)، انظر: بطرس عبد الملك جون ألكسندر طمسن إبراهيم مطر: قاموس أعلام الكتاب المقدس لا ط شركة كومبو ،برايل، د ت ص 39 السامرائي نعمان عبد الرزاق الماسونية واليهود والتوراة، لا ط دار الحكمة، (دت)، ص96.
2- العهد القديم - سفر أرميا - [الإصحاح 23/ 33 - 36)].

من أهمّها: استقلال وحي القرآن عن شخص النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، واستقلاله عن النصوص القديمة، حيث إنّ له حقّين الأوّل: حقّ التصديق للصواب من الحقّ فيها والثاني: حقَّ الهيمنة بالتعديل والنفي والإثبات بموجب أنّ القرآن نزل بعدها ، فهو آخر وحي سماويّ منزّل من عند الله تعالى(1).

- دانیال بويارين والتفاوض القرآنيّ:

تبيّن نويفرت أنّ التفاوض القرآنيّ «لا تتم مناقشته في الأعمال الغربيّة بجديّة»(2)كما تُبيّن أنّ دانيال بویارین (Daniel Boyarin)(3) قد أكّد مرارًا على أنّ التلمود(4) مُشبَع بالبلاغة اليونانية؛ مثل: كتابات آباء الكنيسة ، وقد ظهر القرآن في ظروف مماثلة، وتمّ إيصاله إلى جمهور ذي أفق ثقافيّ ربّما يغطّي التقاليد العربيّة والكتابيّة المتأخّرة المتراكمة؛ لذلك كان على هذا النصّ المقدّس الجديد أن يُوفّر للأسئلة المثارة من قبل التفاسير الكتابية إجابات مقنعة من وجهة نظر البلاغة ، وصياغتها في لغة تتّفق مع معايير الشعر العربيّ القديم(5). وهنا يُطرح سؤالُ: أيّ مماثلة بين القرآن وبين الكتابات القديمة؟

(القراءة بين القرآن (والتوراة أنموذج استشراقي للمشابهة:

يُذكَر أنَّ لفظة «القرآن» جاءت من اسم الفعل في العبريةً؛ بمعنى: قراءة أو تلاوة أو تسميع، وهذا اللفظ العبريّ جاء منه - أيضًا - كلمة المقِرا؛ أي الشريعة المقروءة في اليهودية التي تشير إلى التسمية اليهوديّة لكتابهم المقدَّس المعروف في الأوساط العربية ب- (العهد القديم)(6).

لقد سبق الردّ على فرانسوا ديروش في هذا الصدد، حيث تعدّدت أقوال علماء

ص: 146


1- آيات القرآن شاهدة بذلك فأخبر عن التصديق والهيمنة في [المائدة الآية: 48] كما بين واصفًا ما أورده من القصص بأنه الحق في [آل عمران الآية: 62] و [الأعراف الآية: 176] ، و[يوسف الآية : 3] ، كما بين موقف النبي محمد من أخبار غيب ماض بوحي القرآن في سور [آل عمران الآية: 44] و[هود الآية : 49] ، و[يوسف الآية : 102].
2- انظر نويفرت أنجليكا القرآن بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 13.
3- دانیال بورین باحث في علوم التلمود
4- انظر: وافي علي عبد الواحد الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام ط ،6 مصر ، دار نهضة مصر، 2004، ص24.
5- نويفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نيًّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص5.
6- البهنسي أحمد صلاح كتاب مصادر يهودية في القرآن للمستشرق شالوم -زاوي عرض وتقديم)، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر) م.س العدد (3)، طيف 2019، ص15.

العربية حول أصل كلمة القرآن بين القرن والاقتران والقراءة والقرء، كما تعدّدت دلالة مفردة القرآن، وكانت علاقة القرآن بمفهوم القراءة إحدى هذه الدلالات(1)، ويبدو أرجحها القراءة؛ لأنّ أوّل الوحي فيها.

أما بالنسبة لزعم اقتباس القرآن؛ بمعنى القراءة من اللفظ العبريّ (المقرا) فهذا أمر غير مقبول؛ لأنّ أوجهًا عديدة تُبرز الفرق بين القراءة الإسلاميّة للقرآن وبين القراءة اليهوديّة للتوراة بصورة جليّة وواضحة؛ منها ما يلي:

أولًا: إنّ القراءة أمرٌ شرعي واضح في القرآن قال - تعالى-:«أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»[سورة العلق، الآية 1] ، وأزعم امحاء مثل هذا التشريع من التوراة.

ثانيًا: اختلاف اللغة الأصلية للتوراة العبريّة أو السريانيّة عن لغة القرآن العربيّة فاختلاف اللغات لا بدّ أن يُؤدّي إلى اختلاف جذر الكلمة، وإن قيل: إنّ العبريّة والعربيّة يرجعان إلى أصل لغويّ واحد، فربّما يتّحد الجذر، وحتّى إن اتّحد الجذر اللّغوي لكون اللغتين العبريّة والعربيّة يعودان إلى أصل واحد، فإنّ الاستعمال الشرعيّ والدينيّ لكلّ من المفردتين قد اختلف على سبيل القطع.

ثالثًا: إنّ دلالة القراءة للقرآن وردت بمعنى: التلاوة والترتيل لآيات القرآن والتلاوة والترتيل لا تكونان إلا بلفظ وحي القرآن المقروء، وهذا دليل على أمور:

- من الضرورة التنبيه على خصوص قراءة القرآن وتلاوته دون بقيّة النصوص المقدّسة في الإسلام؛ كالحديث النبويّ والحديث القدسي مع العلم أنّ هذه نصوص مقدّسة في الإسلام، وليس لها مزية التعبّد بالقراءة؛ كما للقرآن، لذا قال - تعالى -:«فَأَقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَان»[سورة المزمل، الآية 20].

- إن المقصود القرآنيّ خصوص قراءة وحي القرآن في الصلاة على سبيل التعبّد، فتلاوة القرآن (الفاتحة وما تيسّر من القرآن بعدها) أحد أركان الصلاة، ولا تقبل إلا به، قال - تعالى-:«أتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ وَأَقِمِ الصَّلَوةُ»[سورة العنكبوت الآية 45] ؛ الأمر في تلاوة القرآن بالصلاة تعبّد يجب فيه الاتِّباع، وقال النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 147


1- وقد سبق بيان ذلك عند الحديث عن المقولة الحادية عشرة لفرانسوا ديروش فلتراجع.

في حديث المسيء صلاته: «ثم اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ»(1)، والنبي قرأ القرآن في الصلاة؛ فالمسألة مستمدّة من أدلة الشرع الإسلاميّ؛ قرآنًا وسنّةً، وفي أوائل ما أنزل من القرآن تعلّق الوحي بالترتيل في الصلاة ، قال - تعالى -:«يَأَيُّهَا الْمُزَمَلُ (1) قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2)نِصْفَهُ أَوِ أنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا(4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا

ثَقِيلًا ﴾ [سورة المزمل، الآية 1-5].

وأمّا بالنسبة لعلاقة قراءة التوراة في الصلاة، فلا يوجد فيها اقتران صلاة اليهود بقراءة التوراة، لكنْ وُجد في أسفار العهد القديم تحديد عدد الصلاة ومواقيتها، ففيها (جَثَا دانيال على ركبتيه ثلاث مرّات في اليوم) [سفر دانيال الإصحاح 6 فقرة (10)]، والصلاة عندهم صراخ ودعاء وتضرّع للربّ، ففي سفر المزامير:(أصرخ والربّ يخلصني * مساءً وصباحًا وظهرًا) [مزمور 55 فقرة (17)] وهي واجبة عندهم ، ولم يظهر فيها قراءة شيء من النصوص

المقدّسة لديهم، وكانت الصلاة مركّبة غالبًا من النثر، ثمّ من النظم، وتتلى بغناء ابتداء.

- إنّ مقصد القرآن من القراءة عموم التلاوة والترتيل للّفظ الموحى به من عند الله -تعالى-، حيث اقتران وحي القرآن بقراءة لفظه الموحى به؛ كهيئة تعبّدية مستقلة على سبيل التعبّد لله -تعالى- بتلاوة كلامه، قال -سبحانه-:«وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ »[سورة الكهف، الآية 27]، وقال: «وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا» [المزمل: ،4] وهذا إن توفّر للتوراة؛ فلغرض العلم والتعليم فقط، أمّا قراءة القرآن؛ فلأغراض علميّة وتعليميّة وإيمانيّة؛ لأنّ قراءة القرآن لأغراض عدّة؛ منها: أنّها دليل أحكام الشرع، ومعجزة ،الرسالة ووحي نبوّة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلمه.

رابعًا: لقد أثبت الدارسون تأثير التعاليم الإسلاميّة في الشعائر اليهوديّة في مظاهر عدّة؛ منها: الطهارة بغسل اليدين قبل صلاة اليهود واستقبال القبلة عندهم وغير ذلك(2)، وهذه نقطة في غاية الخطورة، فأنجيلكا ومن اتّبعتهم من المستشرقين يصحّ

ص: 148


1- متفق عليه رواه الشيخان البخاري ومسلم
2- انظر: درويش هدى الصلاة في الشرائع القديمة والرسالات السماوية دراسة مقارنة، ط1، معهد الدراسات الأسيوية، جامعة الزقازيق عيد للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ،2006، ص99؛ فيدر نفتالي: التأثيرات الإسلامية في التعاليم اليهودية، ترجمة: محمد سالم الجرح، لا ط، القاهرة، مركز الدراسات الشرقية، 1965، ص15.

فيهم المثل (رمتني بدائها وانسلت)، فمن تأثّر بالآخر؟ هل الإسلام تأثّر باليهوديّة أم الحقيقة والواقع يشهدان على تأثّر اليهوديّة بالإسلام ؟ إنّ موسى بن ميمون شاهد علی تأثّره بالإسلام، حتّى أسلم بعض اليهود، وما زالوا على مدار التاريخ.

دعوى نويفرت (دور الجماعة في تشكيل القرآن):

بعد ما أفرغت نويفرت ما في جعبتها من دعوى أنّ القرآن خطاب نبويّ عفويّ وتمّ الردّ عليها، انتقلت بعد ذلك إلى دعوى أخرى؛ وهي دعوى دور الجماعة البشريّة في تشكيل القرآن وتكوينه، فقالت: «القرآن وثيقة ناتجة عن عمليّة تواصل وتفاوض مستمرّ مع تقاليد العصور القديمة المتأخّرة، جعله يحقّق نجاحًا مزدوجًا: لقد أدّى إلى ظهور كلّ من القانون والجماعة المؤمنة على حدّ سواء، علاوة على ذلك، فهو لم يسهم في تشكيل هذه الجماعة الجديدة وحسب، بل يشهد أيضًا على عمليّة تكوينها، وقد تمكّنوا من تحقيق إجماع بشأن المواقف اللاهوتيّة والتفسيريّة، وشكّلوا تدريجيًّا هويّة جماعيّة، ضمن عمليّة يمكن إعادة بنائها تقريبًا»(1).لقد وقعت نويفرت في تناقض عجيب، ويمكن أن نردّ عليها بما يلي:

أولاً: تكلّف العلاقة بين تكوين القرآن مع تكوين الجماعة، فما علاقة الجماعة بتكوين القرآن ؟ وإنْ سلّمنا جدلًا بوجود علاقة بينهما، فربّما يكون في أنّ القرآن يتنزّل نجمًا تلو نجمٍ مع التشكيل التدريجيّ؛ كذلك تتشكّل الجماعة، إذ تقول:«وشكّلوا تدريجيًّا هويّة جماعيَّة»، وهل تدرّج نزول القرآن يلائم التدرّج في تكوين الجماعة ؟ إنّ هذه العلاقة فيها تكلّف؛ لأنّ تكوين الجماعة المؤمنة يتحقّق بأمرين؛ هما:

-أولهما: قبول تشريع القرآن.

-ثانيهما: العمل وفق هذا التشريع، فإن قبل الإنسان وحي القرآن ولم يعمل به، فما يغني عنه شيئًا.

ثانيًا :قولها :«تحقيق إجماع بشأن المواقف اللاهوتيّة والتفسيريّة»؛ فهل الأمّة

ص: 149


1- انظر نويفرت أنجليكا (القرآن) بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص9.

شكَّلها القرآن أم شكَّلت الأمّةُ قرآنَها ؟! فتمثّل هذه الأقوال السابقة شيئًا من التناقض في تحليلها لفعل الكتب السابقة في القرآن أو فعل الجماعة المسلمة في القرآن، فأيَّ منهما مؤثّر ومتأثّر؟ في الواقع هذا الخلط أدَّى بنويفرت إلى الوقوع في الأغلاط؛ لأنّ دور الجماعة لا يعدو أن يكون كتابة وحي القرآن بعد نزوله منجّمًا على قلب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأمّا صلة وحي القرآن بالكتب السابقة فهذا أمر منصوص عليه؛ لأنّ القرآن إمّا مصدّق لما بين يديه، أو مفضِّل لكلّ شيء، أو مهيمن على ما سبق تعديلاً لما فيها(1).

ثالثاً:يبدو قول إنجليكا نویفرت«تشكيل هذه الجماعة الجديدة وتكوينها» إشارة إلى دور القرآن في تشكيل الجماعة الجديدة وهي تقصد بها جماعة الصحابة من المهاجرين، ممّن هاجروا مع النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم من أهل مكّة إلى المدينة، والأنصار الذين ناصروا النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وعاهدوه على السمع والطاعة، وأكّدت ذلك بقولها (يحقّق - أي القرآن - نجاحًا مزدوجًا: لقد أدّى إلى ظهور كلّ من القانون والجماعة المؤمنة على حدّ سواء)(2)؛ وهي -هنا- تبينّ نجاح القرآن في أمرين أوّلهما: ظهور القانون وتقصد به الشريعة الإسلاميّة التي تستمدّ أحكامها من القرآن وثانيهما: ظهور الجماعة المؤمنة، ثمّ قولها:«وشكّلوا تدريجيًّا هويّة جماعيّة»؛ أي شكّلت الجماعة المؤمنة هويّة الأمّة؛ فظهرت بعد استقرار مصادرها وبيئتها الفكريّة والثقافيّة العامّة وعقائدها حينما بدأت تستقرّ عقائد الإسلام في أنفس الصحابة.

*(النسخة القرآنية وتغيير العقيدة اليهوديّة):

قالت نويفرت: «لقد غيَّرت النسخة القرآنيّة العقيدة اليهوديّة؛ من أجل جعلها عقيدة عالميّة؛ إذ لم تعدّ خطابًا موجّهًا بشكل حصريّ إلى إسرائيل، بل إلى جميع المؤمنين، ومع ذلك من خلال الوجود المسموع للعقيدة»(3)؛ لتبين كيفيّة انتقال دعوة القرآن منالإقليميّة إلى العالميّة، ويمكن التوجّه إليها بما يلي:

ص: 150


1- أما كونه مصدقًا ففي سور [المائدة: ،48 ويونس ،37 ويوسف: 111] ، وأما كونه تفصيلاً ففي سورتي [يونس: 37، ويوسف: 111]، وأما كونه مهيمنا ففي سورة [المائدة: 48].
2- انظر: نویفرت أنجليكا القرآن بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص9.
3- م.ن، ص 11.

أولًا:ما علاقة استفادة القرآن من النصّ القديم بعالميّة القرآن؟ فهي لن تقدر على الجواب؛ لأنّ عموم رسالة القرآن مؤكّد في عشرات الآيات القرآنيّة المنزلة بالسور المكّية قبل هجرة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بمعنى أنّه قبل ظهور دور لليهود في أحداث السيرة النبويّة.

ثانيًا: ورد في السور المكّية ما يدلّ على عالميّة القرآن؛ ففي مواضع من السور المكّية ورد التصريح بنصّها الواضح بلا لبس أو غموض، فقال - تعالى -: «قُلْ يَتأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا »[سورة الأعراف الآية 158]، وقال: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَلَمِينَ » [سورة الأنبياء، الآية 107]، وفي موضع آخر، قال -تعالى-: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ »[سورة سبأ، الآية (28] .

وهذه المواضع الثلاثة اجتمعت فيها أمور أوّلها: مكّية سورها (الأعراف، والأنبياء، وسبأ)، ودلالة مكّيّة هذه السور قدّم اعتبار عالميّة رسالة القرآن على استقلاليّة القرار القرآنيّ والله فعّال لما يريد، ولو سايرت المفهوم الاستشراقيّ لقلت: قبل أيّ مؤثّرات خارجيّة، ففي ذلك دلالة على استقلاليّة البناء القرآني وثانيها: توفّر كلمات دالّة على مفهوم العموم؛ وهي: (النَّاسِ الْعَالَمِينَ، جَمِيعًا، كَافَّةً) مع اقترانها برسالة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم و الخطاب له، ومن المستغرب أن يخاطب المتكلّم نفسَه، وهذا لا يصدر من عاقل، فكيف يصدر عن نبي مؤيَّد بالوحي ؟ وثالثها: انفرد موضع الأعراف بنداء عامّ للناس، وانفرد موضعا الأنبياء وسبأ بنفي واستثناء وهو أسلوب دالّ على القصر عند علماء البلاغة ورابعها: أضاف موضع سبأ بعموم البشارة والنذارة النبويّة، مع

انتفاء علم كثير من الناس بعموم رسالة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم.

ثالثًا: لست أشكّ في دخول أهل الكتاب في عمومات الخطابات القرآنيّة المكّيّة، وهي عشرات الآيات التي تخاطب الناس أجمعين بأسلوب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، أو حثّ ل- ( النَّاسِ) على فعل شيء من الخير والفضائل، أو زجر ل_ (النَّاس ) عن وصف ذميم أو فعل القبيح )(1)،

ص: 151


1- وأبين ذلك في بعض مواضعها ومنها: سورة يونس آيات ،[2 و 57 و99 و 104 و 108]، وفي سورة الإسراء الآيات [89 و 94 و 106]، وفي سورة الفرقان الآية [50] وفي سورة العنكبوت الآيتان ،[2 و 10] وفي سور الروم الآيات 301 و 33 و 36 و 41] فضلا عن سور الأعراف والأنبياء وسبأ كما سبق بيانها وغير ذلك من سور القرآن.

وكان ذلك العموم للرسالة قبل لقاء النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بأهل الكتاب في المدينة.

رابعًا: يدلّ ما سبق على قلّة تدقيق الدرس الاستشراقيّ وتحقيقه للقرآن، وإرسال أقوال المستشرقين ،السابقين فرسالة القرآن عالميّة في مكّة قبل الهجرة للمدينة أصلا، كما يدلّ على تکذیب دعویى نويفرت السالفة حيث قالت:«غيَّرت النسخة القرآنية العقيدة اليهوديّة؛ من أجل جعلِها عقيدةً عالميّة»، وفي تعبير (النسخة القرآنية) إيماءُ إلى أنّ القرآن له نُسَخ عديدة، وهذا أمر لا يُقبل في وصف القرآن بتعدّد نُسَخه؛ لأنّ قرآن اليوم هو نفسه ما أُنزل على النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، بسنده المتّصل المتواتر إليه.

خامسًا: إنّ دعوة القرآن عالميّة منذ أوّل خطاب قرآنيّ في (اقرأ)، وإن معرفة عموم رسالة القرآن منذ أنْ كان بمكّة؛ لتؤكّد ضعفَ تحليل المستشرقة إنجليكا نويفرت؛ لأنّ القرآن لم يبدأ بدعوة محلّيّة خاصّة، ثمّ اكتسب العالميّة على حساب نصوص الكتب القديمة؛ كما يُفهَم من تحليل نويفرت.

وبناءً على ما سبق، ندرك مغالطة نويفرت في قولها «استمرّت النسخة القرآنيّة في الاستفادة من سلطة النصّ القديم، والتي تشكّل استراتيجيّة سياسيّة، ويبدو أنّ النسخة الجديدة عبارة عن تَحَدًّ موجّه بشكل خاصّ إلى المستمعين اليهود، الذي على الحركة الجديدة أن تكسبه خلال السنوات المدنية الأولى»(1).

وهذا فيه نظر وخطر؛ لِمَا يأتي من تساؤلات: فما هي حقيقة (سلطة النصّ القديم) - كما تزعم - على القرآن ؟ وما مداها ؟ وهل استمرّت - على فرض وجودها - أو انقطعت ؟ ومتى ثبتت استفادة القرآن من النصّ القديم ؟ فضلا عن استمراره في تلك الاستفادة المدّعاة ؟ ولقد سبق أنّ هذه الاستفادة؛ سواء من تفاوض أو تناصّ أو اقتباس كلّ ذلك دعاوى استشراقيّة مرسلة، إنّما هي ظنون أوهام أو ترّهات أحلام أو سوانح أقلام؛ لأنّ من أنزل التوراة، وأقام الإنجيل قد نزّل القرآن ليكون للعالمين نذيرًا، وكلّ قرين بالمقارن يقتدي، ولم تثبت (سلطة النصّ القديم) بدليل قاطع، وإنّما ثبتت هيمنة القرآن على ما سبق.

ص: 152


1- انظر: نویفرت أنجليكا، (القرآن بوصفه نضًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 11.
* تحليل إنجيلكا لرؤية التقليد الإسلاميّ للقرآن):

يسقط قول نویفرت:«لم تعدّ خطابًا موجّهًا بشكل حصريّ إلى إسرائيل، بل إلى جميع المؤمنين»(1)، بأنّ التقليد الإسلاميّ يقوم على إقرار تامّ بوحدة مصدر القرآن و(التوراة الأصليّة) التي كلّم الله ربّ العالمين موسى علیه السلام، ثمّ كتبها موسى علیه السلام على الألواح، وذلك مذكور في القرآن نفسه وفي السنة وهو أحد أركان عقيدة الإيمان لدى أهل الإسلام، ولأنّ الخطاب القرآنيّ عن بني إسرائيل خطاب مترامي الجنبات؛ لكثرة القضايا المتعلّقة بهذه الطائفة، وكثرة أغلاطهم وخطاياهم، فمن الممكن القيام بحصره في أنّه؛ إمّا أن يكون خطابًا لمن عاصر النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، منهم أو لمن كان عاصر النبي موسى علیه السلام

،أو بيان لمن كان قبل موسى علیه السلام كقصّة يوسف وأبيه يعقوب والأسباط، أو بيان لمن بَعده؛ كقصّة يوشع وداود وسليمان ويونس وأيوب - عليهم السلام-، ومواضع تلك القصص لا تخفى على دارس جاد، أو باحث مجتهد.

ولمّا كان حديث نويفرت قد انصبّ على (الخطاب الحصريّ) لبني إسرائيل، فأخُصّ بالذكر خطاب القرآن لمن عاصر النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم من بني إسرائيل بالتفصيل، حيث يمكن أن يحصر في أنّ يكون بيانًا لأحوال بعض أفرادهم؛ مدحًا لمن يستحقّ من اليهود؛ ولو لم يكن مؤمنًا بالنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، أو قدحًا لمن يستحقّ؛ ولو كان مؤمنًا بالنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وإنّ من أوضح الأمثلة على ذلك بما ورد في القرآن ففيما ورد في سورة النساء، حيث قال -تعالى-:«لَيْسَ بِأَمَانِيكُمْ وَلَا أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَبِ مَن يَعْمَلْ

ءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدُ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا» [سورة النساء، الآية 123] فهذا منتهى الإنصاف بلا إجحاف في حقّ، أو إسفاف في باطل(2).

وقد يرد النقد القرآنيّ شديدًا على طوائف اليهود وقاسيًا عليها؛ لسوء تصرّفاتهم؛

ص: 153


1- م.ن، ص 11.
2- العجيب أن القرآن برّأ ساحة أحد اليهود في سورة [النساء الآيات 105-116]، ونزلت في طعمة بن أبيرق أحد الأنصار الذي سرق درعا واستأمن عليه أحد اليهود ، ثم وجد عنده، فبرأ القرآن اليهودي وآخذ الأنصاري، كما أنزلت آية السرقة في نفس القصة في سورة [المائدة الآية: 38]، هذا موضع.

مثل: ما ورد في سورة الحشر والأحزاب(1)، أو بيانًا لسوء عقائدهم وأحوالهم مع نبي الله موسى الكليم علیه السلام، وهذا حديث يطول على طول القرآن وعرضه(2).

ويبيّن القرآن تاريخهم وأحوالهم في جزيرة العرب بشكل عامّ؛ وذلك بتناول عددًا من القضايا المهمّة؛ مثل: تاريخ نزولهم إلى مصر، ثمّ تاريخ خروجهم منها ، ثمّ تاريخهم منذ تأسيس مملكتهم سنة 1095) (ق.م) وحتّى انقسامهم، ومنذ وفاة سليمان إلى خراب أورشليم؛ وصولًا إلى سنة (70م)، ثمّ يتطرّق إلى مسالك اليهود في الكيد للإسلام والمسلمين على مرّ التاريخ، ثمّ يُحدّثنا عن تأديبهم في عدد من الوقائع ، ثمّ الحديث عمّا أنعم الله به على بني إسرائيل من المنن والنعم وجحودهم لها وكفرهم بها، كما يصوّر القرآن رذائلهم ودعاويهم الباطلة التي روّجوها عن الله وردّ القرآن عليهم وتوعّدهم عليها ، فقد قال - تعالى -:«لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم ذَالِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُم خَلِدُونَ (80)»[سورة المائدة، الآية 78-80]، فأيّ صلة لبني إسرائيل بالقرآن بعدما لعنهم القرآن، ثمّ تبيح عقلا أو عرفًا أو شرعًا بعد ذلك أنّ يقتبس من نصوصهم السابقة شيئًا ويصمتون عليه ؟!.

ص: 154


1- قبحت سورة النساء تصرفات اليهود في مواضع أخرى [النساء الآيات ،37، 49 51 52 ، 60] وهذه مواضع عدة يتسع المقام بتفصيلها نزلت في يهود المدينة ممن عاصر النبي محمد وفي كعب بن الأشرف، وفي حيي بن أخطب وفي [سورة الحشر :الآية 152 نزلت في يهود بني النضير وفي [سورة الأحزاب الآية: 26-27] انظر: النيسابوري، علي الواحدي: أسباب نزول القرآن تحقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان ط2، الدمام السعودية، دار الإصلاح، (1412ه- / 1992م)، (ص: 181، و 195)؛ (ص: 156)؛ (ص: 418416؛ ابن كثير: تفسير القرآن العظيم :تحقیق محمد حسين ط1، بيروت ،لبنان، دار الكتب العلمية (1419ه-)، ج6، ص 355.
2- هذا أمر يحتاج إلى دراسة مستقلة، وأحيل القارئ الكريم، ممن يريد معرفة خطاب القرآن الحصري لمن عاصر النبي من بني إسرائيل على كتاب (بنو إسرائيل في القرآن والسنة للإمام الدكتور محمد سيد طنطاوي، ط دار الشروق القاهرة، سنة (2000م)، وكتاب (الرسالة الخالدة)، عبد الرحمن ، زام، ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة التعريف بالإسلام، القاهرة، سنة 1964، (ص82-87).
ه_ :المقولة الخامسة : (مشابهة القرآن للعقائد السابقة

تقول نويفرت: «إنّ القرآن هو نتيجة عمليّة التفاعلات التي لا تختلف بالضرورة عن تلك التي أسهمت في تشكل الوثائق التأسيسيّة لليهوديّة والمسيحيّة، فاعتبار القرآن - بالنظرة المعهودة - بوصفه نصًّا ناجزًا مدوّنًا؛ يعني فصله عن النصوص السابقة للعصور القديمة المتأخّرة، فالمشنا ،والإنجيل بطريقة مماثلة، نشأ نتيجة عمليّات تتضمّن فحصًا وتفاوضًا للتقاليد السابقة في المجتمع، فإنكار مثل هذا التكوين «الطبيعي»،للقرآن يعود إلى جوهريّته، أو بشكل أوضح إلى السؤال عن كتابته المقدّسة المأصولة من العصور القديمة المتأخّرة. هذا التغيير في المنظور له نتائجه»(1)، وهذا ادّعاء نويفرت حول مشابهة القرآن للنصوص القديمة، وأوردت نماذج حاولت من خلالها إثبات تلك المشابهة، وسوف أبيّن تلك النماذج لندرك مدى صوابيّة المشابهة أو خطأها، وذلك في ما يلي:

-(التوحيد بين القرآن والنصوص القديمة):

تقول نويفرت: إنّ مفهوم «التفاوض القرآنيّ مع النصوص القديمة غير مذكور في التقليد الإسلاميّ، ولا الأعمال الغربيّة»(2)، ويُردّ هذا من نواحٍ؛ هي:

أوّلًا: من المستقرّ لدى علماء مقارنة الأديان وفلسفاتها أنّ الرسالات السماويّة الثلاث تمتاز بأنّها وقعت بوحي مستقلًّ عن الآخر ،ضرورة، وأيّ نصوص هي التي تفاوض القرآن عليها ؟ فتُبيّن نويفرت مثالاً لمشابهة سورة الإخلاص من القرآن مع التوحيد اليهوديّ من حيث مشابهة قوله: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» [سورة الإخلاص، الآية 1]، مع قوله:«اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبِّ وَاحِدٌ» [ التثنية : 4-35](3)، ولا يقال: إنّ القرآن اقتبس التوحيد 6: من التوراة؛ لأنّ القرآن دعوة للتوحيد، وهذه الآية الكريمة بسورة الإخلاص لا تشبه أيّ موضع من سفر التثنية.

ثانيًا: أمّا بالنسبة لدلالة (الأحد والواحد)، فإنّ نويفرت لا تدرك أسرار اللغة العربيّة

ص: 155


1- انظر نويفرت أنجليكا القرآن بوصفه نضًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص3.
2- انظر: م.ن، ص12.
3- نويفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نصًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 13.

فى مفرداتها، حيث إنّ دلالة كلمة (الواحد) تختلف عن دلالة كلمة (الأحد)، و«الواحد المفرد، ويوصف به غير الله تعالى، وأحد مطلقًا لا يوصف به غير الله تعالى»(1)، ومعلوم أنّ كلمة (واحد) تفيد معنى أنّه واحد في ذاته وصفاته؛ بانعدام عموم التعدّد؛ بتثنية وتثليث، وأمّا كلمة (أحد) يفيد معنى الواحد السابق؛ بالإضافة إلى أنّه لا يقبل التركيب من أجزاء، وهذا محلّ الإضافة القرآنيّة التي ذهلت عنها إنجيلكا نويفرت؛ لأنّ اليهود يؤمنون بأنّ الله قابل للتركيب من أعضاء كسائر الخلق تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ثالثًا: من المعلوم على سبيل التسليم أنّ دعوة جميع أنبياء الله ورسله إلى التوحيد الخالص لله ربّ العالمين فلماذا يعترض أهل الاستشراق على توحيد القرآن؛ وهو في الأصل دعوة كلّ نبي ورسول ؟ ومن هنا يتبّين بوضوح أنّه ليس مماثلة أو اقتباس؛ إلا في خیال نویفرت، ومن اتّبعتهم من أساتذتها المستشرقين؛ لأنّهم ببساطة يؤمنون بانتظار قدوم نبي بعد موسى يدعو للتوحيد، وكانوا يقرأون وصفه في كتابهم المقدّس، ويحدّثون العرب عنه، ويتوقّعون أن يكون من أحد بطون إسرائيل بيت يعقوب بن إسحاق، فجاء من بيت إسماعيل والعرب، فأنكروا رسالته عصبية للبيت والقبيلة.

رابعًا: لا شكّ أنّ أصل اليهوديّة تؤمن بتوحيد الله تعالى، لكنّ التصوّر العقديّ لتوحيد الله تعالى غير مستقيم؛ فإنّهم يؤمنون بالتشبيه والتجسيم والصعود والنزول، وقد طلبوا من موسى رؤية الله جهرة بالعين المجرّدة، فهذا توحيد مَشُوب بجسميّة ماديّة ألحدت عن التوحيد الحقيقيّ لله ربّ العالمين؛ لذلك عارضهم القرآن وخالفهم في هذا التصوّر المغاير للتوحيد الخالص، فقال:«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» [سورة الشورى، الآية 11]، وهو التنزيه الإلهيّ عن مماثلة الخَلق بقوانينه المادّيّة، كما قال -تعالى-:«سُبْحَنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» [سورة المؤمنون، الآية 91؛ سورة الصافات، الآية 159]، وقال :«سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» [سورة الطور، الآية 43؛ سورة الحشر، الآية 23]، فهذا تنزيه لله بوصفه عمّا لا يليق وعن إشراك إله معه، سبحان ربّي عمَّا يقولون علوا كبيرًا.

ص: 156


1- انظر: الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، م.س، ص858.

خامسًا: تدَّعي نويفرت أنّ هذا التفاوض القرآنيّ«غير مذكور في التقليد الإسلاميّ»(1)لكن أيَّ نصوصٍ قديمة تدَّعي وإنّ العهد القديم، أو ما يسمُّونه كذلك اليوم مخالف تمام المخالفة ل_( التوراة الأصليّة)، فهي نصوص حرّفت عن الأصل المنزَّل على موسى علیه السلام مبدّل بأيدي الرهبان ورجال الدين اليهود عبر القرون في السبي وقبله وبعده، فالنصوص القديمة مشكوك في صلتها بالنبي موسى علیه السلام، ولقد أخبر القرآن عن تحريف اليهود لكتابهم المقدّس عند كتابتهم له(2)، وهذا لا يشهد بالتفاوض مع النصوص القديمة قيد أنملة، وإنّما شاهد بهيمنة القرآن عليها، لكنّ القوم يغيّرون الحقائق الواقعيّة، ويُزيّفون التاريخ، ويشبّهون على الناس بزيف وضلال ما في أنفسهم ساء ما يحكمون.

-(القرآن) والعقيدة النيقاويّة):

-(القرآن) والعقيدة النيقاويّة):(3):

تدّعي نويفرت مشابهة سورة الإخلاص من القرآن مع العقيدة النيقاويّة، أو الإيمان النيقاويّ، وضربت مثالاً لتلك المشابهة بقوله - تعالى -:«لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ» [سورة الإخلاص، الآية 3]،«حيث تؤكّد العقيدة النيقاويّة التي تعتقد بأنّ المسيح مخلوق من مادّة مجانسة للإله»(4)، وهذا خلط غير مقبول بالمرّة؛ لِمَا يلي من أسباب:

أولاً:من العجب أن يُدَّعى التوحيد في عبادة مثلّثة، فتلك طامة كبرى، فلا يوجد بعد تعظيم معبودات ومألوهات ثلاث؛ كما هو واضح في الإيمان النيقاوي؛ إلا تحقيق التثليث؛ فأنّى لهم بالتوحيد أو دعوى الإيمان بربّ واحد ؟!.

ص: 157


1- انظر نويفرت، أنجليكا القرآن) بوصفه نصًا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 13.
2- قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتُرَوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [سورة البقرة، الآية 79] ، وقال : مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [سورة النساء، الآية46]، وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ فَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ) [سورة المائدة، الآية 13] وقال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) سورة المائدة الآية 41].
3- الإيمان النيقاوي مثلث حيث يقول: نؤمن ب- إله واحد (الآب وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله (الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور إله من إله نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساوي الآب في الجوهر، ونؤمن ب- الروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب).
4- انظر نويفرت أنجليكا (القرآن) بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 13.

ثانيًا: تدور نويفرت بين أمرين اثنين كليهما خروج عن حدّ الصواب؛ لأنّ الإيمان النيقاوي ليس وحيًا سماويًّا؛ كنصّ الآية، وهذا يعصف بالمقارنة والمشابهة من الأساس، فهل نویفرت ترى كلام القساوسة وحيًا مقدّسًا ؟ فإنّ هذا ما أزرى به القرآن فقال«اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهَا وَحِدَ الَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» [سورة التوبة الآية 31]، فاعتبارها كلام الأحبار وحيًا خروجٌ عن المنطق العقليّ المستقيم، أو ترى أنّ كلام القرآن ليس بوحي؟ فإنكارها وحي القرآن خروجٌ عن اعتباره عند المسلمين، وهذا خروج عن حدّ الموضوعيّة والإنصاف العلميّ؛ وعلى كلا الأمرين لا تصحّ المشابهة والمقارنة بين نصّ الآية الكريمة وبين مقرّرات الإيمان النيقاوي.

ثالثًا:من أعجب العجب أن تدّعى مشابهة بين قول الله:«لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» وبين العقيدة النيقاوية؛ لأنّهما متقابلان متعارضان تعارض التوحيد والتثليث؛ فالقرآن دعوة للتوحيد وآمر به وقائم علیه فلم تُخالف آيةَ الإخلاص نصوص القرآن الأخرى، وهذه الآية الكريمة وصف واحد محدَّد لموصوفٍ واحدٍ هو الله ربّ العالمين، ولقد أكّدت ذلك آيات قرآنيّة أخرى؛ كقوله -تعالى-:«قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَنَةٌ، هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» [سورة يُونُس، الآية68]، وقوله - تعالى-: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَنَا» [سورة الأَنْبِيَاء، الآية22]، وأمّا الإيمان النيقاوي فهو مثلث معلوم من نصوصه التي أجمع عليها القساوسة.

- دعوى الاقتباس على مستوى الآراء العقديّة:

ليس من شكّ أنّ دعوى اقتباس القرآن بعض العقائد الكتابية السابقة دعوى تنبعث من مسلّمة الفصل بين المتماثلين، وقطع الصّلة بين المشتركين، فالقرآن والتوراة والإنجيل كتب سماويّة أوحى الله بها إلى أنبيائه على التوالي موسى علیه السلام، فعيسى علیه السلام فمحمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وكون القرآن يدعو إلى العقائد الأساس ذاتها لا يدلّ على الاقتباس؛ بقدر ما يدلّ على نقاط الصواب في هذه الكتب السابقة؛ لذا فإنّ الدرس الاستشراقيّ الذي تبنّته

ص: 158

نويفرت يزعم أنّ «الآراء العقديّة، تشمل أربعة عناوين كبيرة هي الخلق والقصاص؛ بما في ذلك الدينونة الأخيرة والقيامة وشكل الوحي، وعقيدة الأرواح. وفي هذه العناوين الكبيرة الأربعة توجد تفاصيل يمكن النظر إلى تبنّيها من قبل النبي محمّد»(1).

والردّ على ذلك بالآتي:

أولًا: علاج تلك المعضلة بعدم الفصل بين المتماثلين وضبط المنهجيّة العلميّة.

ثانيًا: هذه الدعوى - في الحقيقة - دليل صحّة القرآن؛ لما تدلّ عليه من وحدة الوحي للكتب السماويّة، فبنظرة أعمق ندرك تصوّر علاقة القرآن بالكتب السابقة من الهيمنة عليها؛ إمّا للتأييد، أو للتفنيد، أو لتعديل بعض المعارف التي حرّفتها الكتب السابقة، ولا شكّ أنّ القضايا الكبرى التي أشارت إليها نويفرت داخلة ضمن الهيمنة القرآنيّة.

ثالثًا:على سبيل المثال، فإنّ (قضيّة الخلق) أوجدَت فروقًا جوهريّة بين عرض القرآن لقضيّة الخلق، وبين عرض التوراة والإنجيل لها، حيث ظهر تفوّق العرض القرآنيّ لمسألة الخلق(2)، وكذلك قضيّة (شكل الوحي) ومفهومه في الكتب السابقة يختلف عن شكل الوحي ومفهومه في القرآن الكريم، فهناك مفهوم لغويّ للوحي يعمّ الوحي للنحل ولأمّ موسى وللشياطين إلى أوليائهم وهناك مفهوم عقديّ عليه مدار صحّة النبوّة وقَبُول

الرسالة.

رابعًا: قضيّة الحساب يوم القيامة هي من أصول العقائد الإيمانية في جميع الرسالات السماويّة، ففي القرآن إشارة إلى هذا العموم:«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَرَى وَالصَّبِعِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» [البقرة: 62]، فالقضية واحدة في جميع رسالات الله؛ لأنّ إقرار الثابت يشهد لصحّة القرآن، دون العكس.

خامسًا: إنّ عناد الإنسان يبدو جليًّا في تدخله في أمور لا سلطان له عليها كقضيّة

ص: 159


1- انظر: جاجير أبراهام الإسلام واليهودية، ترجمة نبيل فياض ط1، بغداد ،بیروت، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، 2017، ص135.
2- انظر: محمد، الأمير محفوظ، علاقة الكتب السماوية بالعلم وموقف العلماء منها وآثارها المترتبة - دراسة مقارنة تحليلية، م.س، .288-272

(شكل الوحي)، فالله هو الذي يوحي إلى أنبيائه ورسله بما يريده ويرضاه، ولا دخل لأيّ إنسان - حتى النبي -المرسل في طبيعة هذا الوحي سواء أكان الوحي كلامًا لله مباشرة؛ كما التوراة، أم كان عن طريق ملك الوحي جبريل الأمين؛ كما القرآن فلا دخل لبشر في ذلك، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.

وفي ما يلي بيان لشبهات بعض المستشرقين التي أخذت عنهم إنجليكا نويفرت.

و- الْمَقولة السادسة : ( عرض إنجيلكا لرؤية الأعمال الغربية للقرآن):
- عرض نويفرت مقولة أبراهام جايجر (1810 - 1874م):

تنقل إنجيلكا نويفرت كلام جايجر وتستدلّ به استدلالًا عرضته وتناولته بصورة جديدة، والغرض منه تبيّنه قائلة:«اقترح أبراهام جايجر إعادة تقييم حاسمة للقرآن، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتصوّر جديد لمحمّد؛ باعتباره باحثًا مخلصًا عن الحقيقة، وكانت نتيجة عمله مع ذلك متناقضة بشكل واضح، فالنقد التاريخيّ لا يعدو أنّ يكون سعيًا وراء النصّ الأصليّ»(1)، وهذا اتّهام جدید اتّهمت به نویفرت القرآن الكريم بأنّه انتحل من النصوص القديمة، وهو منحى خطير؛ نردّ عليه بما يلي:

أولاً: أبراهام جاجير(Abraham Geiger)(2) نشر عام 1833م كتاباً بعنوان: (ماذا استعار محمد من اليهوديّة) طالبًا إعادة تقييم حاسمة للقرآن، فما دواعي هذا التقييم ؟ وهل من ضرورة إلى ذلك إلا أوهام جايجر نفسه.

ثانيًا: اعتبر جايجر أنّ النبي محمّد جاء بتصوّر جديد؛ باعتباره باحثًا عن الحقيقة، ويبدو خلط جايجر واضحًا في (مفهوم النبوّة)؛ فحقيقة محمّد أنّه نبيًّ اصطفاه الله دون

ص: 160


1- نويفرت أنجليكا القرآن) بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص7.
2- أبرهام جايجر (1810-1874م) هو : حبر يهودي ألماني ولد بفرنكفورت على نهر الماين سنة (1810) تعلم علوم اليهودية على يد أخيه سولمون جايجر، ثم تعلم اللغة العربية واليونانية بجامعة بون، وأدخل إصلاحات في الصلوات في كنيسة اليهود وأصدر المجلة العلمية للاهوت اليهودي) بين (1835 حتى 1847، وكان يكتب فيها عن كبار علماء اليهودية، ودعا لعقد أول اجتماع للأحبار الإصلاحيين سنة (1837) بمدينة فيزبادن وصار حبرًا للجماعة الإصلاحية بالطائفة اليهودية في فرنكفورت سنة (1863)، ثم صار حبرا لجماعة برلين سنة (1870)، أنشئت (المدرسة العليا لعلوم اليهودية) في برلين سنة (1872) ، وقد صار جايجر مديرًا لها حتى وفاته. انظر: بدوي، عبد الرحمن موسوعة المستشرقين ،مس، ص 222 223 بدوي، عبد الرحمن، دفاع عن القرآن ضدّ منتقديه، م.س، ص 23.

اختيار منه، فالنبوّة في الإسلام اصطفاء يقع من غير ترقّب أو انتظار، أمّا دعوى جايجر أنّ محمدًا (باحث مخلص عن الحقيقة) فهذا شأن فلسفيّ جزئيّ يشترك فيه مئات البشر، حيث يختار الإنسان لنفسه القيام بالبحث والنظر والتأمّل، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن النبوّة، ومعلوم دعوة الإسلام والنبي محمّد للنظر والتأمّل وتعقّل الأمور، فالفرق بين الكلّ ،والجزء أو العامّ والخاصّ، أو المطلق والمقيّد.

ثالثًا:حكَم جايجر على عمل النبي محمّد بالتناقض، فلِمَ ذلك؟ وكيف يحكم على أحد من الأنبياء بالتناقض ؟ وأين موطن التناقض ؟ فهذا اتّهام يخاطب به الرجل نفسه أو قومَه؛ لأنّ واقع وحي القرآن للنبي الدعوة للتدبّر في الآيات، والبحث عن مواطن الاختلاف من تناقض أو تضارب لإثبات تنزّه القرآن عن ذلك، فقال:«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» [سورة النساء، الآية82]، إنّه إذًا يتحدّى، فلا القرآن أو النبي محمّد في السنّة يؤثر عنه مخالفة واحدة لحقائق العلم أو الطبيعة أو الكون؛ لذا فإنّ حكم جايجر على النبي محمّد متعسّف وعارٍ عن الدليل؛ لذا فإنّ اعتماد نويفرت كلام جايجر ونقله عنه يدلّ على ضعف أدلّتها، وقلّة بضاعتها، وطلبها المعونة ممّن سبقها من المستشرقين الألمان، وأنّى لها ذلك؟

الْمُعرَّب بين أبراهام جايجر وآرثر جيفري:

رجعت نویفرت إلى مقولة قديمة لأبراهام جايجر وآرثر جيفري؛ لتتعرف على بعض ملامح ما قالاه خاصّة في بعض المفردات القرآنيّة التي ادّعى جايجر أنّها مواضع اقتبسها القرآن من التوراة.

«يُقَدِّم جايجر القرآن نفسه على أنّه مختارات أدبيّة لعددٍ لا يُحصى من التقاليد الكتابيّة والحاخاميّة التي استعارها مؤلّف القرآن من اليهوديّة؛ ليُؤلّف كتابًا لترشيد مجتمعه كأيّ انحراف عن النصّ الأصليّ»(1). يبدو أنّ المستشرقين قد قرأوا الدرس العربيّ لعلوم القرآن فانتحلوا منها ما يخدم تطلّعهم إلى النيل من القرآن الكريم.

ص: 161


1- انظر: السيد رضوان: قراءة القرآن في الغرب منذ قرنين وإلى الزمن الحاضر إبحار بحثي مجلة التأويل تصدر عن رابطة المحمدية للعلماء مركز الدراسات القرآنية عدد (1) 2014، ص 129.

لقد أورد جايجر بعنوان: (مفاهيم مستعارة من اليهوديّة) أربع عشرة كلمة، فزعم أنّ اشتقاقاتها عبريّة في الأصل لا عربيّة، وهي على التوالي:(تابوت، والتوراة أو الشريعة، وجنّة عدن أو الجنّة وجهنّم أو الجحيم، وأحبار ودَرَس وربّاني والسبت والسكينة وطاغوت وفرقان وماعون، ومثاني، وملكوت»(1).

وهذه المفردات نماذج أشار من خلالها جايجر إلى اقتباس القرآن لها، وقد لوحظ من خلال سياقها العامّ دقّة اختيارها في ما له علاقة بالكتاب الأوّل من التابوت والتوراة والربّاني ،والسبت وبقيتها له علاقة بصورة ما بما ورد في العهد القديم؛ بغية إثبات استلال القرآن منها ، وبعد تدقيق النظر ندرك أنّ القرآن يُورد معاملة الأمم السابقة مع نبيّها إيجابًا أو سلبًا، فلو تتبّعنا هذه المواضع موضعًا تلو الآخر لتبيّن لنا مدى معالجة القرآن لها أنّه لم يوردها تعظيمًا لها، وإنّما أورد هذه المواضع لتدور في جملتها بين إخبار عنها لبني إسرائيل في عهد موسى أو نقد وتقييم لها، أو بيان وجه الصواب فيها.

أمّا كتاب آرثر جيفري(2)، والمسمّى ب- (المفردات الأجنبيَّة في القرآن)، فهو يعتبر موردًا كذلك للمفردات المعرَّبة، وهو عمل مرجعيّ لهذه الدراسة، حيث يُعاد النظر في المعايير التي دفعت جيفري إلى التعبير عن مشاركة القرآن للّغات الأخرى في بعض المفردات بمصطلح «استعارة»، ولقد نال هذا الكتاب (المفردات الأجنبيّة في القرآن) قبولًا واسعًا لدى المستشرقين، حيث بنى جيفري دعواه التي قدّمها في هذا الكتاب على كتابات الإمام السيوطي التي سبق ذكرها في هذا البحث، وأضاف للكلمات التي أوردها السيوطي وغيره عددًا آخر من الكلمات، ووصل بها إلى نحو (256) كلمة، وادّعى أنّها ليست عربيّةً الأصل استنادًا إلى البحوث اللغويّة والدراسات التاريخيّة والأثريّة الحديثة(3).

ص: 162


1- انظر ،أبراهام جايجر، الإسلام واليهودية، م.س، ص90-110.
2- آرثر جفري (1892-1959م)، مستشرق أسترالي ولد في ملبورن بأستراليا، وتخرج من جامعة ملبورن سنة (1918م)، حصل على رسالة الماجستير سنة (920م)، ثم عمل أستاذا بمدرسة الدراسات الاستشراقية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سنة (1921م) وحصل على الدكتوراه سنة (1929م) ورحل لجامعة كولومبيا عام 1938م) وعمل بها أستاذا بقسم لغات الشرق الأوسط والأدنى، وتزوج من إيلسا سكرتيرة مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة سنة (1923م)، وتوفي بكندا. انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 3، ص1013.
3- انظر بن أبي المكارم ثمامة فيصل هل في القرآن كلمات أعجمية ؟ دراسة تحليلية لآراء العلماء العرب والمستشرقين، جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية (فرع لكناو)، (ص: 11).

وتوالت أعمال المستشرقين الألمان، خاصّة اليهود في الكتابة في هذا الموضوع بشكل متواصل، وأبرز من كتبوا في هذا الاتّجاه كلّ من إجناتس جولد زيهر (1850-1921) (Ignaz Goldziher)(1)، وجوزيف هوروفتش (1874) (Horowitz - 1931) ومن آثاره (الصلات العربيّة اليهوديّة في الجاهليّة) سنة (1929م)، و(اشتقاق لفظ القرآن)(2)، وهارتويغ هيرشفيلد (1934-1854) (Hirschfeld, H)(3)، وهاينريش شباير (1897) (peer,H-1935م) من آثاره: القصص الكتابيّ في القرآن (جريفنانيخن 1939م)(4)، ويوحنا يعقوب رايسکه(5)( 1774-1716م) (Johann Jacob Reiske).

ولقد انتهج المستشرق الإسرائيلي أندريه شالوم زاوي منهج الاستشراق الألماني، في كتابه ( مصادر يهوديّة في القرآن) (6)الذي يعدُّ من المؤلَّفات النادرة التي تركِّز على تحليل الآيات القرآنيَّة ونقدها؛ إذْ شمل جميع سور القرآن الكريم، رادًّا عددًا كبيرًا من آياته إلى مصادر دينيَّة يهوديّة قديمة ومتأخّرة، والدرس الاستشراقيّ في هذا الكتاب يحتوي على قِسْمَين عن القرآن الكريم الأوَّل: ترجمة لمعانيه إلى اللغة العبريَّة، والثاني: نَقْد للآيات القرآنيّشة وردّها إلى مصادر يهوديَّة وأخرى أجنبيَّة غير أصيلة»(7)، وهذا التوجّه الاستشراقيّ القديم نسبيًّا قد أدّى إلى ظهور هذه المدرسة الاستشراقيّة المحدثة.

وبالجملة، فقد تتبّع هؤلاء الصِيَغَ القرآنيّة للموضوعات البيبليّة والأدبيّات اليهوديّة الشعبيّة بعد أزمنة العهد القديم وبذلك فقد أخرجوا القرآن من السياقات المكرَّرة التي كان قد وُضع فيها في مواجهة الجاهليّة العربيّة، ووسَّعوا آفاق تأمّله باتّجاه المشرق الكلاسيكي الأوسع(8).

ص: 163


1- الزركلي، الأعلام، م.س، ج 1، ص 86.
2- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 743-744.
3- م.ن، ج2، ص749-750.
4- م.ن، ج 2، ص 750.
5- انظر: الزركلي، الأعلام ،م. س ج 8 ص 265؛ بدوي، موسوعة المستشرقين، م.س، ص298-303
6- صدر هذا الكتاب عن دار نشر «دافير» الإسرائيلية في مدينة القدس سنة (1983).
7- انظر: البهنسي، أحمد صلاح كتاب مصادر يهودية في القرآن للمستشرق شالوم -زاوي- عرض وتقديم»، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر)، م.س، العدد (3) صيف 2019، ص14.
8- رضوان السيد: قراءة القرآن في الغرب منذ قرنين وإلى الزمن الحاضر، مجلة التأويل، م.س، ص130.
ملاحظات ضروريّة:

جدير بالذِكر قبل تناول موضوع هذه الشبهة أن نطرح ملاحظات عدّة لها أهميّة بالغة؛ لنتعرّف على تعلّقاتها بالدرس الإسلاميّ للقرآن وهي كما يلي:

أولًا: الْمُعرَّب عند علماء الإسلام:

تلقَّف المستشرقون، وخاصّة اليهود منهم، هذا الموضوع، وأدخلوه في دراساتهم اللّغوية والاستشراقيّة، وأقاموا عليها مناهجهم المختلفة فقضيّة (المعرَّب من الألفاظ) من أخصّ القضايا العلميّة التي شغلت العقليّة المسلمة منذ قرون عديدة، والذائقة العربيّة قديمًا وحديثًا، كما شغلت علماء علوم القرآن واللّغة العربيّة على جهة الخصوص فلهذه القضيّة نوع تعلّق بعلوم القرآن وعلوم اللغة العربيّة في الوقت نفسه.

لقد تنبّه علماء القرآن إلى هذه المفردات التي لا يوجد لها أصل اشتقاقيّ في لغة العرب، وأطلقوا عليها مصطلح خاصّ بها هو (المعرَّب)، ويعنون به ما دخل لغة العرب من خلال المخالطة أو الاستعمال، ولقد تناول الإمام السيوطي هذا الموضوع بالدرس في مصنّف خاصّ به، هو:«المُهذَّبُ فِي مَا وَقَعَ فِي القُرآنِ مِنَ المُعرَّب»، وقال فيه: «اختلفت الأئمّة في وقوع المعرَّب في القرآن فالأكثرون ؛ ومنهم الإمام الشافعي، وابن جرير وأبو عبيدة، والقاضي أبو بكر ، وابن فارس على عدم وقوعه فيه؛ لقوله -تعالى-:«قُرْءَانًا ووصل عَرَبِيَّا»[يوسف: 2]،وقوله :«وَلَوْ جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ عَايَتُهُ أعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ » [سورة فصلت، الآية44]، وقال غيرهم: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيّرت بعضها بالنّقص من حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرّت مَجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحدّ نزل بها القرآن.

وقال آخرون: كلّ هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متّسعة جدًّا، ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الجلَّة أي من العلماء ، وقد خفي على ابن عباس رضي الله

ص: 164

عنهما معنى فاطر، وأجابوا عن قوله - تعالى -:«قُرْءَانًا عَرَبِيَّا» بأنَّ الكلمات اليسيرة غير العربيّة لا تخرجه عن كونه عربيًّا، فالقصيدة الفارسيّة لا تخرج عن لغتها بلفظة عربيّة موجودة فيها، قال الشافعي - رحمه الله في الرسالة: (لا يحيط باللغة إلا نبي)(1).

وعن قوله :«اعْجَمِيٌّ وَعَرَبِىٌّ» بأنّ المعنى من السياق أكلام أعجمي ومخاطب عربيّ، واستدلّوا باتّفاق النحاة على أنّ منع صرف نحو إبراهيم للعلميّة والعجمة، ومورد هذا الاستدلال بأنّ الأعلام ليست محلّ خلاف فالكلام في غيرها: موجَّه بأنّه إذا اتّفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس»(2).

ولقد انتهى الإمام السيوطي إلى أنّ ورود المعرّب في القرآن لا يخرجه عن عربيّته، وأنّ كلام الإمام الشافعي يدلّ عليه (3)، وكذا ما ورد عن ابن عباس من أن القرآن نزل بكلّ لسان ولغة، فقد قام الإمام السيوطي بترجيح وجود المعرَّب في القرآن بناء على استدلال الإمام الطبري في تفسيره كما قال في الإتقان:«المراد بإعرابه معرفة معاني ألفاظه»(4)وقد عبّر عنه علماء القرآن بمصطلح (إعراب القرآن)، وليس المراد بالإعراب بمصطلح أهل النحو، إنّما المراد به هنا :(إبانة حروفه وإجادة ترتيله وتَحسين حلاوته وعدم اللحن فيه، على الوجه المتلقّى تواترًا عن النبي محمّد مع التفكّر والتدبّر، أو إعراب القرآن: معرفة معانِي ألفاظه؛ لأنّ القراءة مع فقده ليست قراءة ولا ثواب فيها إلا لمن كان

ص: 165


1- سيأتي تخريج ما يدل عليه من كتاب الرسالة.
2- السيوطي جلال الدين المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب تحقيق التهامي الراجي الهاشمي لا ط صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين مملكة المغرب ودولة الإمارات العربية (د) ت ص 58-60 الجوزي جمال الدين أبو الفرج: فنون الأفنان في عيون علوم القرآن ط 1 بیروت لبنان دار البشائر ،(1987م ص 341 القيعي محمد عبد المنعم الأصلان في علوم القرآن، ط4 (1996م)، ص 299 وبعدها تحت عنوان (الإعراب وغير المشهور من اللغات الحلبي نور الدين محمد عتر علوم القرآن الكريم، ط 1 ، دمشق، مطبعة الصباح (1993م)، ص 259 بعنوان (المعرب من القرآن)
3- لفظ الإمام الشافعي الدال عليه ولعل من قال: إن في القُرَآن غيّر لسان العرب وقُبِلَ ذلك منه ذَهَبَ إلى أن من القُرآن خاصا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه). انظر: القرشي الإمام الشافعي المطلبي: الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، ط1، مصر، مكتبه الحلبي (1940م)، ص 42.
4- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج2، ص3.

شبه أمّيّ فهو مأجور بتلاوته، وإنْ أخلَّ بِموازين اللسان العربيّ؛ لأنّ ذلك مبلغ علمه»(1)، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: «أَعْرِبُوا القُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ»(2)، وهذا الأثر يدلّ على ضرورة معرفة كلّ مفردة من مفردات القرآن بها غرابة من أي وجه من الوجوه، ومنها المُعرَّب بالقرآن.

ثانيًا: نقاط مهمّة:

- إنّ هذا الموضوع (المعرَّب من الألفاظ) له تعلّقات عدّة بالاستشراق؛ من أهمّها: البحث عن أمثلة تناصّ القرآن أو اقتباسه من النصوص القديمة، وقد سبق تناولها بالعرض والتحليل والنقد، ولا أعيد ما سبق، فلهذا الموضوع نوع تعلّق بخصوص دعوی اقتباس بعض المفردات الأعجمية أو تناصّها.

- إنّ تناول أبراهام جايجر بالدراسة المشابه بين القرآن وبين الكتب المقدّسة عند اليهود، ومعظم إنتاج جايجر العلميّ يدور حول موضوعات يهوديّة، وأهمّ كتبه هو:«الكتاب الأصلي وترجمات الكتاب المقدس» سنة 1857م؛ ويعنينا من إنتاجه هنا كتابه:«ماذا أخذ محمد من اليهودية ؟ » (سنة 1833م)، وستتوالى الكتابة في هذا الموضوع عند المستشرقين الأوروبيّين بشكل متواصل، ومن أبرز من كتب في هذا الاتّجاه: جولد تسيهر(Ignaz Goldziher)(3)، وهرشفلد(4)، وهو روفتش وغيرهم، كما أقرّ هؤلاء أنفسهم بأنّ كتاب جايجر حافل بالأخطاء، وبالآراء المتحيّزة غير القائمة على أسانيد وثيقة، وفيه نزعة مغالية إلى

ص: 166


1- انظر: الجرمي، إبراهيم محمد معجم علوم القرآن ،ط1 ،دمشق دار القلم (2001م)، ص 40.
2- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1166) وأبو يعلى الموصلي في مسنده (436/11)، رقم: (6560) وقال : ومدار إسناد حديث أبي هريرة على عبد الله بن سعيد وهو ضعيف، والحاكم بمستدركه (477/2) ، والبيهقي في شعب الإيمان (548/3) ، وقال : العراقي في تخريج أحاديث الإحياء سنده ضعيف. انظر الشافعي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، ط1، الرياض، دار الوطن للنشر ،(1999م)، ج 6، ص 344، رقم (5988).
3- إجناس جولد تسيهر: 19211850) مستشرق مجري موسوي يلفظ اسمه بالألمانية اجناتس جولد تسيهر تعلم في بودابست وبرلين وليبسيك، ورحل لسورية سنة 1873م، فتعرف بالشيخ طاهر الجزائري وصحبه مدة وانتقل لفلسطين، فمصر، فلازم بعض علماء الأزهر وعيّن أستاذا بجامعة بودابست عاصمة المجر، وتوفي بها، أشهر كتبه العقيدة والشريعة في الإسلام)، وكتاب (مذاهب التفسير الإسلامي). انظر الزركلي، الأعلام، م.س، ج 1، ص 84.
4- هر شفیلد سبق التعريف به. التعريف به.

تلمّس أشباه ونظائر بين المشنا وبين القرآن على أسس واهية واعتبارات شكليّة(1).

إذَا، واقع هذه الشبهة أنّهم حاربوا بالقرآن بباب من أبواب علوم اللّغة القرآنيّة.

الردّ على شبهة جايجر بالتحليل والنقد:

يُردّ على هذه الدعوى من خلال ما يلي:

أوّلًا: من المعلوم أنّه من المُحال أنْ يشتقّ الأعجميّ من العربيّ، أو أن يشتقّ العربيّ من الأعجميّ؛ لأنّ اللّغات لا تشتقّ الواحدة منها من الأخرى، سواء أكانت على سبيل المواضعة في الأصل أم على سبيل الإلهام، وإنّما يقع الاشتقاق في اللغة الواحدة بعضها مِنْ بعض؛ لأنّ الاشتقاق نتاج وتوليد ومحال أن تنتج النوق؛ إلا حورانًا، وتلد المرأة إلا إنسانًا؛ ومن اشتقّ الأعجميّ من العربيّ كان كمن ادَّعى أنّ الطير من الحوت(2).

ثانيًا: مسألة اقتباس القرآن مفردة واحدة من التوراة أمر مرفوض لا يقبله المسلم؛ جملةً وتفصيلاً، ولقد أورد علماء القرآن واللّغة نماذج عدّة وأمثلة شتّى لمفردات جرت على ألسنة العرب والعجم، وهذه أمارة تدلّ على عالميّة القرآن، وكذلك تدلّ على الإعجاز اللّغويّ في المفردة القرآنيّة ونحن ندرك أنّ اللّغة بنت المحاكاة، ومن علَّم آدم الأسماء كلّها نزّل القرآن بالألسنة كلّها؛ لذلك فمن المحال أن توجد مفردةٌ معرَّبةٌ غير مفهومة؛ لأنّ الله - تعالى - قد يسَّر القرآن للذِكر؛ حيث يسهل إدراك المفردات على مَنْ قرأ القرآن.

ثالثًا: إنّ تعريب المفردات القرآنيّة المعرَّبة يقع بالاستعمال العربيّ لها، وإنّ اللغات الإنسانيّة تتلاقح وتتلاقى ولا يضرّ تناول لغةٍ مفردة من لغة أخرى؛ ما دام أهل اللغة قبلها قد تناولوها بالاستعمال، ودرجت على الألسنة، وتواصلوا بها فهمّا وإفهامًا، وتعليمًا وإعلامًا، فما زالت مجامع اللغة العربيّة تقوم بتعريب بعض المصطلحات العلميّة من أسماء الآلات والنظريّات، فضلا عن أسماء الأعلام ، وهذا يدخل في باب الثقافة العامّة في لغة البشر، أمّا في لغة القرآن الكريم فلا يوجد عند الله - تعالى - ثقافة عربيّة أو أعجميّة.

ص: 167


1- انظر: بدوي، عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، م.س، ص 222 223؛ بدوي، عبد الرحمن دفاع عن القرآن ضد منتقديه، م.س، ص 23.
2- انظر: (الکلیات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (ت: 1094ه-)، تحقيق عدنان درویش محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت، (د: ت)، ص117.

رابعًا: إنّ هذا الباب المسمّى ب-(الْمُعرَّب) له صلة موصولة من خلال باب (غريب القرآن) فلا بدّ من معرفة المعرَّب والغريب خدمة لتفسير القرآن والمعرَّب نوع من غرائب القرآن وهو ألفاظ قرآنيّة وقعت من غير لغة العرب ولقد تعرّض له العلماء كثيرًا في كتب علوم القرآن وكتب التفسير وكتب اللغة وألّفت فيه كتب وبحوث مفردة، ولقد أحصاها العلماء ، ومن أمثلة المعرَّب قوله - تعالى -:«عَلَى الْأَرَابِكِ» [سورة الكهف، الآية 21] والأرائك هي: السّرُر بالحبشيّة، ومنه قوله:«مِنْ إِسْتَبْرَقِ» [سورة الرحمن الآية 54] (الإستبرق): الديباج الغليظ بلغة العجم، ومنه قوله :«يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ» [سورة النساء الآية 51]، و(الْجِبْتِ): الشيطان بلغة الحبشة، أو الساحر.

خامسًا: هناك فائدة مستفادة من إيراد المعرَّب في القرآن وغريبه ومتشابهه وحروفه المقطعة -بصفة عامّة - فلو كان القرآن الكريم على نمط سياق واحد لما تميّز، وهذا من التفصيل القرآنيّ حتّى يمتحن القرآن العقليّة الإنسانيّة، ويتمّ به الإعجاز والتحدّي، ويعلو في دیوان كمال الحكمة، وتفقُّد ينابيع اللّغة التي تسعى إلى تحقيق فهم القرآن، فلا يستوي من يعلم هذه المفردات المعرَّبة أو الغريبة أو المتشابهة في القرآن مع من لا علم له بها، ففي كلّ عصر يبدو تميّز أهل العلم بالقرآن عن بقيّة العلماء بمعرفة هذه المواطن.

سادسًا: من فوائد إيراد المعرَّب في القرآن أنّه لو علمت البشريّة كلّها حكمة إيراد المعرَّب والغريب، والمتشابه البعيد والقريب من القرآن لوقف الناس على حكمة الحكيم الخبير، فهذا من عطاء القرآن ومن حكمة الله تعالى، ومن أوضح حكمه في هذه المواطن:"الحثُّ على زيادة التفكّر والتدبّر في آيات القرآن الكريم، وظهورُ التفاضل والتفاوت بين العلماء، وزيادةُ الأجر والثواب؛ لأنّ الأجر على قدر المشقّة، فمعرفة المتشابه أشقّ

وأصعب، وحمْلُ النّاس على تلقّي العلم جثيًّا على الرُّكَبِ مِن الرَّاسِخِين في العلم"(1)، وقد يكون من المهمّ أن نتساءل: ما مدى إثبات إعجاز القرآن في باب المعرَّب والغريب ؟

سابعًا: ومن حكمة الله -تعالى- كذلك في إيراد المعرَّب والغريب، إظهارُ عجز المسلم أمام القرآن، واضطراره للإيمان بمن أنزله -سبحانه- ؛ لتوقّف فهم القرآن على الإيمان بالله؛

ص: 168


1- انظر: الرومي فهد عبد الرحمن بن سليمان: دراسات في علوم القرآن الكريم ط ،12 حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، (2003م)، ص 405

فمن أنزل القرآن هو أعلم به، قال - تعالى -:«الرَّحْمَنُ عَلَمَ الْقُرْهَانَ»[سورة الرحمن، الآية 21]، وقال :«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَبِ» [سورة البقرة الآية 269] ، فلا بدّ من الإيمان بالله؛ لأنّه لم تنقطع حاجة العالَم بالله بمجرّد انتهاء وحي القرآن؛ لأنّ الله يوجِّه من يشاء من العلماء إلى سلامة فهم القرآن.

الردّ على اقتباس القرآن من النصوص القديمة:

ويردّ على ذلك بما يلي:

أوّلًا كيف يتسنّى اقتباس القرآن من العهد القديم مع اختلاف اللغة، فالقرآن عربيّ والتوراة عبريّة أو سريانيّة أو لاتينيّة ؟ فضلًا عن انقطاع الواسطة بين النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وبين صاحب التوراة ؟بل وانقطاع الواسطة بين النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وبين التوراة نفسِها ؟وعلى فرض وقوع شيء من تلك الوسائط فلم يُؤثَرْ جلوس النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم على يد معلّم عربي أو أعجميّ (1)؟ فضلاً عن أمّيّة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم(2) التي تحليل دون ذلك على فرض وقوعه لانقطاع الترجمات ؟ ولقد أشار العلماء إلى غرابة تلك الدعوى.

من ذلك قال الدكتور بدوي:«لكي نفترض صحّة هذا الزعم فلا بدّ أنّ محمّدًا كان يعرف العبريّة والسريانيّة واليونانيّة ولا بدّ أنّه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كلّ نصوص التلمود، والأناجيل المسيحيّة، ومختلف كتب الصلوات وقرارات المجامع الكنسيّة، وكذلك بعض أعمال الأدباء اليونانيّين وكتب مختلف الكنائس والمذاهب المسيحيّة؛ فهل يمكن أن يعقل هذا الكلام الشاذّ لهؤلاء الكتّاب، وهو كلام لا برهان عليه، وإنّ حياة النبي محمّد قبل ظهور رسالته وبعدها معروفة للجميع»(3)، فمن العجب توجّه المستشرق إلى الاستدلال على ذلك الزعم، فدونه مفاوز وعقبات

ص: 169


1- ورد إخبار القرآن عن هذا الزعم الذي افتراه مشركو مكة على سبيل التندر بمزاعمهم حيث ادعوا أن النبي محمد يجلس على يد معلم فيتعلم على يد أحد يعلمه من باب إيراد مزاعم المشركين إشكالية عرض القرآن لها فأوردها في [سورة النحل الآية 103]، و[سورة فصلت: الآية 45].
2- كما ورد إخبار القرآن الكريم بوصف النبي محمد بالأمية في [الأعراف: 157 - 158]، وغير ذلك من المواضع كما استدل عليها في [سورة العنكبوت الآية 48] فثبت الوصف والاستدلال عليه.
3- انظر: بدوي، عبد الرحمن دفاع عن القرآن ضد منتقديه، م. س ص 24.

وأعجب العجب أن تساير أنجيلكا نويفرت جايجر في هذا السبيل

مع علّته!

ثانيًا: إنّ القرآن انتقد الكتاب المقدّس لدى أهل التوراة والإنجيل وهو أكثر من نقد أحوال اليهود مع نبيّهم موسى كما أخبر بتحريفهم وتبديلهم للتوراة(1)، فالقرآن فيه أمثلة عديدة على ذلك، ولقد اعترف جايجر نفسه بأنّه «لا يجوز لنا بأيّ حال من الأحوال أن ننسب لمحمّد ميلًا خاصًّا إلى اليهود واليهوديّة، بل إنّه في حياته، وكذلك في الكتابات التي تركها وراءه؛ شرائعَ للأجيال القادمة، هناك آثار من الكراهيّة لليهود واليهوديّة علی حدّ سواء»(2) هذا اعتراف دالّ على تناقض جايجر مع نفسه؛ فكيف يزعم بأنّ محمّدًا أخذ عن التوراة، ثمّ يعترف بأنّه لم يؤثر عنه ميلٌ لليهود ؟! أيأخذ ويتعبّد ممّن اختلف معه ؟ ثمّ كيف ينسب إلى الله ما لم يقل ؟ مع ضرورة الإشارة إلى أنّ قلب النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لا يعرف الكراهيّة لأحد قط.

ثالثًا:إنّ جايجر تغافل عن تشريع الإسلام في علاقة المسلم بأهل الكتاب(3) ومنهم اليهود حتّى يحكم عليه، وربّما لم يقرأ ذلك أصلًا، فزعمُه (كراهيّة النبي محمّد لليهود واليهوديّة) مغالطة لا تغفر له؛ لأنّ النبيّ محمّد عاهد أهله بالمدينة، ومنهم اليهود في (صحيفة المدينة)(4)، ولم يُؤثر عنه ظلماً ليهوديّ عاهده، ولكنْ غَدَره طوائفُ يهود الصحيفة، ولم يصونوا معاهدة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، فعامل الناس بقدر ما خالفوا العهد معه؛ فالمسألة ،إذًا ليست مجرّد كراهيّة شخصيّة - كما زعم جايجر - بقدر ما هي خيانة عظمى قام بها بعض يهود المدينة.

رابعًا: كان النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ینهى أمّته ألا تصدّق أهل الكتاب، ولا تكذّبهم، كما كان

ص: 170


1- ورد إخبار القرآن الكريم بتحريف اليهود التوراة عند كتابتهم لها في [سورة البقرة: الآية 79] [سورة النساء الآية 46]، [سورة المائدة: في الآية 13 41].
2- إبراهام جايجر، الإسلام واليهودية، م.س، ص 45-46.
3- هذا جانب له أهمية؛ ففي القرآن والسنة أدلة على حسن معاملة مع الحفاظ على الدماء والأموال والأعراض والنساء وذرية أهل الكتاب ما داموا لا يناصبون عداوة أو يحملوا سلاحًا في حرب المسلمين أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة: 8]، كما دعت السنة لاحترام المعاهدين، ونهى عن أذاهم والنبي جنازة اليهودي خير شاهد على ذلك.
4- انظر: محمد الأمير محفوظ: «قراءة صحيفة المدينة في ضوء فقه المواطنة»، مجلة كلية أصول الدين بالمنوفية، جامعة الأزهر، العدد 7 سنة (2018)، ص 7 ، مباحث سنة (2018)، ص 7 مبحث حقوق المواطن وواجباته. عث حقوق المواطن وواجباته.

يأمر أتباعه بعموميّة الإيمان بما أنزل الله من كتاب منزل قبل القرآن(1)، أمّا النهي عن التصديق فمن أجل موثوقيّة تبديل اليهود لكتابهم، ولتعدّد رواية الإنجيل بين أربعة أشخاص، وأمّا النهي عن التكذيب فلِمَا بقي في الكتب السابقة من مسحة من الحقّ ،والصدق وأمّا الإيمان بالكتب المنزلة فالتصديق بالكتب المنزلة على إبراهيم وموسى وداود وعيسى ومحمد من أصول الاعتقاد الإسلاميّ، فمن أنكر أيّ كتاب ثبت تنزيله من الله - تعالى - فكأنّه أنكرها كلّها.

خامسًا: قال الدكتور بدوي عن كتاب جايجر:«يعدّ هذا الكتاب أوّل كتاب في ،موضوعه كتبه الباحثون الأوروبيّون المحدثون، ولقد أقرّ هؤلاء أنفسهم بأنّ كتاب جيجر حافل بالأخطاء والآراء المتحيّزة غير القائمة على أسانيد وثيقة، وفيه نزعة مغالية إلى تلمّس أشباه ونظائر بينالمشنا(2) وبين القرآن على أسس واهية وعبارات شكليّة»، ثمّ أشار الدكتور بدوي إلى ردّه على بعض هذه الأوهام في كتابه (دفاع عن القرآن ضدّ منتقديه)، وأنّه لم يعد لكتاب جيجر أيّ قيمة علميّة اليوم(3).

- عرض نويفرت لجهود جون وانسبرو ( 1928 - 2002م):
اشارة

تعرِضُ نویفرت رؤية جون وانسبور عن القرآن فتقول: «الدراسات النصيّة التي بدأها جون وانسبور (John Wansorough )(4) في كتابه: دراسات قرآنيّة، الذي نشر سنة (1977م) حيث قدّم مع ذلك بشكل كبير نقدًا تاريخيًّا معتبِرًا النصّ القرآنيّ ليس عبارة عن رسالة للنبي محمّد بل عبارة عن تجميع مجهول ومتأخّر، فقد رفض وانسبرو بشدّة الإطار التاريخيّ المطبق على نحو تقليديّ على القرآن ولم يتصوّر النصّ على أنّه تعبير عن الذات صادر من المجتمع الذي نشأ في مكّة والمدينة، ولكن اعتبره تمظهرًا لمجتمع

ص: 171


1- أخرجه الإمام البخاري في صحيحه أرقام (4485، 7362 (7542 ونصه : لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا .. الآيَةَ [البقرة: 136]» من حديث أبي هريرة.
2- المشنا : القسم القسيم من التلمود وقد سبقت الإشارة إليه.
3- انظر بدوي عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، م.س، ص223.
4- جون إدوارد وانسبور (1928-2002م) مؤرخ الأميركي في جامعة لندن كلية الدراسات الشرقية والإفريقية من خلال انتقاده الأساسي لمصداقية التقاليد الإسلامية الكلاسيكية حول بدايات الإسلام ومحاولة تطوير نسخة بديلة ذات مصداقية تاريخية أكثر عن أصل الإسلام، أسس وانسبرو ما يسمى بالمدرسة «التنقيحية» للدراسات الإسلامية شبكة المعلومات العالمية.

إسلاميّ- موجود سلفًا - في نصّ مكتوب لمنحه أسطورة الأصول»(1)، ومعلوم أنّ منهج وانسبرو هو الأنثروبولوجيا (2)حيث محاولة انتظام العقائد والأعراف والتقاليد وتغيّرها في مجتمع تسوده موجِّهات دينيّة أو اجتماعيّة أو عرقيّة، وتمتاز هذه البنى والتقاليد بكونها ظاهرة وباطنة ذات طبيعة تكراريّة ثابتة وحركة انزياحات واضحة، مثل أنظمة الحرام، والحلال والزواج والقرابة السلطة.... وبطبيعة الحال، فإنّ رؤية هذا المنهج للقرآن تستبعد الوحي وتعتبره أحد المعطيات الاجتماعيّة، ويُردّ على هذا من جهات عدّة منها ما يلي:

أوّلًا: إنّ نقل نويفرت لهذه المقولات تقوم على تناول القرآن بصورة صمّاء لا تؤمن بوحيانيّة القرآن وتقديسه، لذلك أوجّه إليها تساؤلات: لمن يُنسب النصّ القرآنيّ إذا لم يكن عبارة عن كونه رسالة للنبي محمّد ؟ مع العلم أنّه لم يصدر عن النبي محمّد يومًا دعوى أنّه مؤلّف القرآن أو مصدره، وإذا بوانسبرو يُبيّن أنّ القرآن (تجميع مجهول ومتأخّر) أي مصدره مجهول وأنّ جمعه جاء متأخّرًا، فما الدليل على ذلك؟ وأي معنى علميّ في وصف القرآن ب- ( تجميع مجهول ومتأخّر) ومن جمَّعه ؟ ولماذا قام بذلك؟ وما مدى هذا التأخّر ؟

ثانيًا: أمّا بالنسبة لجهالة تجميع القرآن، فمن المعلوم أنّ جهالة الجاهل بشيءٍ من الأشياء، أو جهالته بحكم من الأحكام ليست مبرّرًا مقبولا يتذرّع به لإنكار ذلك الشيء، أو هذا الحكم فمن جهل أمرًا قال لا أعلم، ولا ينكره؛ لأنّ الجهل لا يعتبر دليلًا للنفي؛ لأنّ عدم الدليل ليس علمًا بالعدم، ومثال ذلك: رؤية الله التي استحالت على النبي موسى فلم يقدر عليها، فهل هذا يدلّ على عدم وجود الله تعالى؟!.

ثالثًا: إنّي لأتساءل: هل رأى وانسبرو ربَّه إذ أوحى التوراة إلى موسى؟ وهل عاين تلك الحالة من الوحي والتكليم الذي وقع لموسى ؟ هل قَدَر على معرفة كيفيّة وقوع الوحي ؟ أو هل قَدَر على تفسير الوحي تفسيرًا علميًّا ؟ لا يمكن لأحد من البشر قط لا "وانسبرو“ أو غيره أن يعلم

ص: 172


1- انظر نويرفت أنجليكا القرآن بوصفه نصّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص 8.
2- الإنثربولوجيا هو علم الإنسان وهو العلم الذي يسعى لدراسة مجرى التطور الإنساني من الناحيتين البيولوجية والثقافية والقوانين والمبادئ التي تحكم هذا التطور والارتباطات التي بين الجوانب الطبيعية المختلفة للإنسان، وبين عادات الشعوب في الماضي والحاضر والأنماط التي تميز مجتمعان معلنة.

يقينًا كيفيّة هذا الوحي الذي هو منحة وهبة من الله -تعالى- لمن يشاء من عبادة، وإنّ أدلّة المقرّ المعترف بصدق النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم هي المعتبرة المعنيّة بالنّظر؛ لأنّ المسألة هي في الواقع مسألة إنكار أو تصديق، التي جعلها القرآن أمر اختيار وإرادة حرّة بلا إكراه، وقناعة وانسبرو هدته إلى ذلك، فهو حرّ في اختياره، وكذلك نحن أحرار في ما نختار.

رابعًا: أمّا بالنسبة لتأخير تجميع القرآن على اعتباره(تمظهرًا لمجتمع إسلاميّ موجود سلفًا في نصًّ مكتوب لمنحه أسطورة الأصول)؛ فخلط وانسبرو بين المجتمع الإسلاميّ المتوقّع حصوله، وبين المجتمع الموجود سلفًا، الواقع فعلًا في صورة المجتمع العربيّ في الجاهليّة قبل الإسلام؛ من عقائد وعادات وأخلاق وسلوكيّات الوارد معالمه في السور المكّيّة، وهذا خلط مقصود؛ لأنّ هناك فارق كبير بين مجتمع واضحة معالمه في الواقع، وبين مجتمع جديد نرسم صورته المتوقّع حصولها بالفعل.

وعلى سبيل المثال (سورتا الماعون وقريش) حيث تُبيّن كلًّ منهما جانبًا من ذلك، فتُبيّن سورة الماعون أنّ عقيدة المجتمع هي التكذيب بالدين الحقّ وأنّ أخلاقه دفع اليتيم وعدم إطعام المسكين والمراءاة بالعمل الحسن ومنع الماعون وهي صورة من صور نشدان تعاون الأفراد اجتماعيًّا، كما تُبيّن سورة قريش صورة التقدّم الاجتماعيّ حيث إيلاف قريش(1)، وصورة التقدّم الاقتصاديّ من حيث قيام قريش برحلة الشتاء والصيف؛ لكسب أموالها على مدار العام كما تحثّ على الإخفاق العقديّ، حيث لا يعبدون ربّ البيت؛ وإنْ عظّموا البيت وقدّسوا الحرم بأمن من دَخَله.

خامسًا: يدَّعي وانسبرو أنّ القرآن أظهر المجتمع الجديد في صورة المجتمع الجاهليّ السالف، والذي يطلق عليه (العصر الجاهليّ)(2)، وهذا أمر غالطَ فيه وانسبرو مغالطة كبرى

ص: 173


1- الإيلاف من أَلِفْتُ الشَّيْءَ آلَفُهُ، وَالْأُلْفَةُ مَصْدَرُ الإِثْتِلافِ، وَالإلْفُ وَالألِيفُ: الَّذِي تَأْلَفُهُ، وَكُلُّ شَيءٍ ضَمَمْتَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَقَدْ أَلَّفْتَهُ تأليفًا، وقوله تعالى: (لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ ﴾ [قريش: 1] يقول تعالى أهلكت أصحاب الفيل لأُولف قريشاً مكة، ولِتُؤلّف قريش رحلة الشتاء والصيف، أي تجمع بينهما، إذا فرغوا من ذِهِ أخذوا في ذه. انظر الرازي، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون ،لاط، دار الفكر سنة (1979م)، ج 1، ص 131؛ الجوهري، تاج اللغة، م.س، ج4، ص1332.
2- يعتبر مفهوم العصر الجاهلي في الدراسات الاجتماعية والتاريخية أوسع من مفهوم العصر الجاهلي في الأدب العربي؛ لذا قال الدكتور شوقي ضيف: يدل) على الأطوار التاريخية للجزيرة العربية في عصورها القديمة قبل الميلاد وبعده. ولكن من يبحثون في الأدب الجاهلي لا يتسعون في الزمن به هذا الاتساع، إذ لا يتغلغلون به إلى ما وراء قرن ونصف من البعثة النبوية) . انظر : ضيف شوقي: تاريخ الأدب العربي ط1، مصر، دار المعارف، (1960م)، ج 1، ص 38؛ ج 1، ص97. وقد بيّن علاقة اليهودية والنصرانية بالجزيرة العربية.

واتّبعته إنجليكا نويفرت؛ فليس كلّ ما كان عليه الناس في الجاهليّة مردودًا، وليس كلّه مقبولًا، حيث إنّ لأهل الجاهليّة سماتٍ وصفات وسلوكيّات جاء الإسلام ،فأيّدها وأقرَّهم عليها بتشريع جديد، ومن هذه الصفات والسمات التي أنكرها وغيَّرها عقائد وسلوكيّات أوضحها الإشراك بالله تعالى. كما أنّ المجتمع السالف أوسع مفهومًا من مفهوم العصر الجاهليّ في الأدب العربيّ، حيث يدخل فيه ما بين موسى وعيسى من غير بني إسرائيل، ثمّ ما بين عيسى ومحمّد، وهذا يدلّ على الرؤية العنصرية القائمة على التعصّب من وانسبرو.

سادسًا: تحكم نويفرت على نتائج وانسبور قائلة:"على الرغم من أنّه ابتكار تأويليّ نفيس أحدث انقسامًا في المجتمع العلميّ، ليس عن طريق إثارة ما يسمّى بالتقليديّين ضدّ المشكّكين فحسب، بل أيضًا عن طريق تهميش المجتمع العلميّ المسلم، وهو وضع مضحك لا يزال قائماً حتّى اليوم»(1)، فجهود وانسبرو؛ أوّلاً: وصفت عمل وانسبور بأنّه (تأويليّ نفيس) لتشير بذلك إلى رواج كتبه بين بعض المستشرقين، نافيًا وجود نصًّ أصليًّ للقرآن وموهمًا تناول التفسير ما يجب أن يتّخذ أصلاً. ثانيًا: أنّه (أحدث انقسامًا في المجتمع العلميّ)، وهذا يدلّ على خلل في المقدّمات أو خطأ في النتائج التي توصّل إليها. ثالثًا: إنّه (وضع مضحك) لخروجها عن حدود المنهجيّة العلميّة والعقل والمنطق، وهو يدلّ على منهجيّة وانسبرو؛ لأنّه قال ما لم يقل به أحد من المستشرقين قبل وأقلّ وصف يليق بها أنّها أوهام لا يقبلها منطق أو عقل، ولا يتحمّلها عقل رابعًا: إنّه (لا يزال قائمًا حتى اليوم) وهذا يدلّ على أحد أغراض الاستشراق وأهدافه أن تظلّ الساحة العلميّة مضطربة محيّرة.

ومع أنّ وانسبرو أحد أهمّ مصادر إنجليكا نويفرت التي اعتمدت عليها في دراساتها القرآنيّة ومقولاتها حول القرآن فهو يقدّم تحليلاته للكتاب الإسلاميّ المقدّس في أربعة أقسام هي:(الشريعة والوحي، وعلامات النبوة وأصول اللغة العربيّة الكلاسيكيّة، ومبادئ التفسير) وهو الإطار الذي يُغرّر بإشارة أوّليّة حول شموليّة حجّته التي ينبغي قراءتها على خلفيّة دراسته الأوسع في مجال الدراسات السامية ووجهة نظره عن التقاليد الإسلاميّة الناشئة، كما

ص: 174


1- نويفرت، أنجلين، (القرآن بوصفه نصا من نصوص العصور القديمة المتأخرة)، م.س، ص8.

هو موضّح في كتاب (الأوساط الطائفيّة)؛ واعتماده على الإنجازات في التفسير الإنجيليّ منذ القرن التاسع عشر فصاعدًا.

ويرمي وانسبرو بذلك إلى إيهام وصرف عن التصوّر الحقيقيّ لفهم نصّ القرآن لحساب تفسيره معتبرًا أنّ تفسير القرآن الماضي والحاضر وفي كلّ عصر هو الأصل، وليس النصّ هو الأصل، وهذا وضع مناف للعقل والمنطق.

- علاقة نويفرت بالاستشراق اليهودي

إنّ نويفرت اعترفت«بأنّه ما لا يمكن تجاهله أنّ الاتّجاه المحدَّد في الدراسات القرآنيّة والمؤسّس على علوم الدين اليهوديّ في حِقَب التاريخانيّة النقديّة عانى من عَطَبٍ أو ضعفٍ كبير»(1)، ويمكن دفع هذه المقولة من خلال تفصيل أوجه إنكار نبوّة النبي محمّد؛ لأنّ ترك المستشرقين الإيمان بوحي الرسالة الخاتمة للنبي الخاتم لوجوه الأوّل: استبعاد أن تكون رسالة الله على بشر أيّ بشر، فيرون أنّها تكون على ملك من الملائكة(2). الثاني: أن يكون هذا القرآن الغريب العجيب نزل على محمّد بشخصه، فهم ينكرون كون الرسالة لشخص النبي محمّد نفسه، فلو كانت لغيره ربّما آمنوا بسهولة(3). الثالث: أنكروا وحي القرآن بسبب ما تملك المستشرقين من كِبرٍ وحالة من الاستعلاء والتعالي على أن يتّبعوا رجلًا من عشيرة بني هاشم بالذات(4).

ومن الملاحظ مسايرة نويفرت لرؤية الاستشراق اليهوديّ للقرآن، فإنّ هناك أطروحة ضمن أطروحات الاستشراق اليهوديّ يتبنّى فيها علاقة القرآن بالكتاب اليهوديّ المقدّس

ص: 175


1- رضوان السيد «قراءة القرآن في الغرب منذ قرنين وإلى الزمن الحاضر»، م.س، ص 130.
2- هذا الاحتمال له شواهد من القرآن فالاعتراض على بشرية النبي محمد ورد في [سورة الأنعام: الآية 8-9] و[سورة الإسراء: الآية 93-94].
3- هذا الاحتمال لها شواهد من القرآن؛ فالاعتراض على شخصية النبي محمد نفسه ورد في [سورة الزخرف الآية 31]، فيريدون أحد الأغنياء رسولا ليؤمنوا.
4- هذا الاحتمال شاهد من السيرة الصحيحة حين قال أبو جهل إذ سأله الأخنس يسأله عن معنى ما سمع فقال أبو جهل: (تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافِ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاذَيْنَا اتجاثينا] عَلَى الرَّكْبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا مِنَّا نَبِيُّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ، وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ). انظر: ابن اسحاق سيرة ابن إسحاق، تحقيق: سهيل ،زکار، ط1، بیروت، دار الفکر، (1398ه- / 1978م)، ص190؛ أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري (السيرة النبوية) تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، ط2، مصر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي (1955م)، ج 1، ص316؛ ابن كثير، السيرة النبوية تحقيق مصطفى عبد الواحد ،لاط بيروت دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، سنة (1976م ، ج 1 ، ص 506.

وهذا يُوضّح رؤيتها أنّ القرآن ليس نصًّا إسلاميًّا (أنتج في الإسلام) بل قراءته بإعادته إلى محيطه التعدّديّ في الحقبة الكلاسيكيّة المتأخّرة، هي فكرة حديثة الظهور، بيد أنّها على الرغم من ذلك ليست جديدة تمامًا، فمنذ قرابة القرن من الزمان تطوّر اتّجاهٌ بحثيٌّ غنيٌّ بنتاجاته، وتأسّس على علم الدين اليهوديّ(1).

فإنّ ما لا يمكن تجاهله أنّ هذا المجال أو الاتّجاه المحدّد في الدراسات القرآنيّة والمؤسّس على علوم الدين اليهوديّ في حِقَب التاريخانيّة النقديّة، عانى من عَطَبٍ أو ضعفٍ كبير، فقد ذهب أكثر الدارسين إلى أنّ محمّداً كان ناقلاً عن العهد القديم والموروث اليهوديّ العامّ، ووصلت المبالغة بالبعض إلى حدّ اعتبار القرآن نسخةً من نُسَخ العهد القديم، بل وإنّها نُسخةً تُعاني من اضطراب وانقطاعاتٍ وسوء فهم وتحريفات للنصوص القديمة(2).

لقد دفعت نويفرت هذا بقولها:«هذا الفهم لشخصيّة النّبي ودعوته ورسالته وبالمنهج النقديّ التاريخيّ؛ إنّما اتّجه هذا الاتّجاه لأنّه كان يبحث دائما عن النصّ الأصليّ أو (الأوّل)، والذي تفرّعت عنه سائر النصوص في العهدين وفي القرآن، وقد أدّى ذلك في مجال دراسة الإنجيل بعهديه إلى الكشف عن بيئاتٍ وثقافاتٍ أقدم اعتُبرت سياقات وحواضن ظهر فيها العهدان أو تطوّرا»(3).

وقد اعتنى المستشرقون بالدراسات البيبليّة(4)، وكلمة (بيبليا) (Biblia) كلمة يونانيّة من مشتقّة (Bibles) الاسم الذي يُطلق على ورق البردي بالإنجليزيّة، وكانت تُترجم إلى

ص: 176


1- رضوان السيد «قراءة القرآن في الغرب منذ قرنين وإلى الزمن الحاضر، م.س، ص 131.
2- م.ن، ص 131.
3- رضوان السيد «قراءة القرآن في الغرب منذ قرنين وإلى الزمن الحاضر، م.س، ص 131
4- الدراسات البيبلية تنظر للنصوص المقدَّسة بعين متطورة، وتأخذ في حساباتها النظرات الفلسفية والعلمية والنفسية والاجتماعية والسياسية، لكن الآراء اختلفت بشأن هذه الدراسات البيبلية فبينما رآها البعض مصدر غني رآها آخرون أنها مصدر تشكيك في كلمة الله فقالوا إن «هذه التعددية في الطرق والمقارنات التي تدعو إليها الدراسات البيبلية اعتبرها البعض مصدر غني، كما رأى فيها الأخرون ملامح بلبلة كبيرة، هذه البلبلة .. تقدم حججًا جديدة لصالح خصوم التفسير العلمي.. الذي يرون أن لا فائدة من إخضاع النصوص البيبلية لمستلزمات الطرق العلمية، بل بالعكس فهناك خسارة كبرى ويشيرون إلى أن التفسير العلمي يؤدي إلى الارتباك والشك حول نقاط كثيرة كانت مقبولة حتى الآن بطمأنينة، كما يدفع مفسرين كثيرين إلى اتخاذ مواقف مناقضة لإيمان الكنيسة حول مسائل هامة مثل: الحبل البتولي بيسوع وعجائبه وحتى قيامته وألوهيته.

كلمة (كُتب)، ومنذ القرن الثالث عشر بدأت تترجم على أنّها«كتاب»، ثمّ عُرِّفت البيبليا على أنّها (كلمة الله في لغة الإنسان)، أو (كلمة الله المُعبَّر عنها بلغة بشريّة)، وتعتبر البيبليا التسمية الغربيّة للكتاب المقدَّس.

وهذا الاتّجاه البحثيّ المؤسَّس على النزعة التاريخيّة النقديّة في قراءة العهدين القديم والجديد التي وظهرت على يد جايجر؛ بما ذكر من أمثلة، أو ذكرها غيره؛ فهو مردود من وجوه عديدة لا تخفى على أهل العلم باللغة العربيّة.

وبعد، فإنّ مدارس الاستشراق لها اهتمام بالإسلام، وبالتراث المتعلّق بالقرآن بصفة خاصّة، ونتساءل: هل أحسَنَ الدرسُ الاستشراقيّ في تناوله، وطرحه للقضايا، ومنهجيّته في العرض والتحليل ؟ وهل تنسجم رؤية الدرس الاستشراقيّ مع علوم الإسلام ورؤيتها بصفة عامّة ؟ وهل تنسجم رؤية الدرس الاستشراقيّ مع القرآن بخصائصه الذاتيّة ومقاصده الكلّيّة بصفة خاصّة ؟ يظنّ المستشرقون أنّ نتائج أبحاثهم حقائق والحقيقة أنّها ظنون وأوهام من بنات أفكار أصحابها، لا صلة لها بحقيقة ،القرآن، أو واقع النبي الخاتم في علاقته بالكون والحياة والأحياء وعلاقته بالناس في عصره، وعلاقته بمن سبقه من الأنبياء والأمم السابقة؛ فضلا عن الأمم اللاحقة في إخبار الغيب الماضي والمستقبل، وربّما يكون ذلك سبب لما طرأ على الدرس الاستشراقيّ.

وإنّ الدرس الاستشراقيّ؛ سواء الألمانيّ أو الفرنسي له حضور في الدرس العامّ لعلوم الشرق؛ سواء الدينيّة أو غيرها. وهناك مستشرقون قد انصبّ جلّ اهتمامهم على الدراسات المتعلّقة بالقرآن؛ تحقيقًا للتراث أو دراسةً للقرآن نفسه بنحو أخصّ، كما أسهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة في وضع رؤية معيّنة حول القرآن.

ص: 177

ص: 178

الفصل الثالث: القرآن الكريم بين رؤية إسلامية ودرو استشراقيّة

اشارة

المبحث الأوّل: رؤية الدرس الاستشراقيّ للمخطوط القرآنيّ

المبحث الثاني: الرؤية الإسلاميّة للمخطوط القرآنيّ.

المبحث الثالث: مزاعم الاستشراق حول النصّ القرآنيّ.

المبحث الرابع: الدراسات الاستشراقيّة بين الإيجابيّات والسلبيّات.

ص: 179

استكمالًا للبحث الاستشراقيّ القديم عن القرآن الكريم؛ لجهة تاريخ جمعه وتدوينه وقراءاته ورسمه اعتنى المستشرقون المعاصرون بالمخطوطات القرآنيّة في مجال التحقيق القرآنيّ واستفادوا في ذلك من تقنيَّة التحليل الكربونيّ المشعّ (C14)؛ لتحديد عمر جلود الحيوانات التي كُتب عليها القرآن. وقد اضطلعت مؤسَّسة دراسة الأشعة في جامعة زوريخ في ألمانيا بهذا العمل عبر تحديد عمر الجلود التي كُتبت عليها مقاطع قرآنيَّة، وتعيين تاريخ كتابة هذه النسخ، وما إذا كُتبت في القرن الثاني أو الثالث، أو أقلّ أو أكثر. ومن المشاريع البحثيّة الغربيّة المعاصرة التي تعنى حاليًّا بتطبيق تقنيَّة التحليل الكربونيّ: مشروع الموسوعة القرآنيّة الألمانيّة "كوربوس كورانيكوم" (Corpus Coranicum).

ومن هنا لا بدّ لنا من الوقوف عند دراسة المستشرقين المعاصرين للمخطوطات القرآنيّة ونقد مقولاتهم في هذا الصدد.

ص: 180

المبحث الأول:رؤية الدرس الاستشراقي للمخطوط القرآنيّ

1- ( دراسة المستشرقين للمخطوطات القرآنيّة) :

إنّ واقع الدرس الاستشراقيّ اعتباره المخطوط القرآنيّ أصلا لدرسه؛ فمنه بدأ وإليه انتهى، وفي الحقيقة هو أمرٌ فرعيٌّ عن توثيق النّصّ القرآنيّ، والأصل الحاكم معلوم بالضوابط التي سبق إيرادها لدى علماء القرآن منذ تدوين القرآن في حياة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وبعد رحيله على يد صحابته إلى يومنا هذا.

إنّ اهتمام الدرس الاستشراقي بالقرآن ظهر في وقت مبكّر في صور عديدة؛ منها: ترجمة القرآن الكريم، حيث صدرت ترجمات عديدة للقرآن، ففي أواخر القرن الثامن عشر ظهر اهتمام المستشرق الدنماركي واللاهوتي جاكب جورج كريستيان أدلر (1756-1834م) (Jacob George Christian Adler الذي كان مهتمًّا بالكتابات الكوفية، ودَرَسَ عددًا من المخطوطات القرآنيّة(1) المحفوظة في المكتبة الملكيّة في كوبنهاجن(2)، ولقد صار علم المخطوطات(3) من أهمّ ما يشغل الدرس الاستشراقيّ منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين، وإلى يومنا هذا.

ص: 181


1- المخطوط: عبارة عن نسخ خطية قديمة كانت مخزنة مطروحة في مكتبة من المكتبات الوطنية أو الخاصة بالأفراد. (انظر: دیروش، فرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص مصاحف الفترة الأموية، تعريب مصطفى أغسو، نشر مركز تفسير للدراسات القرآنية السعودية، ص6). المخطوط القرآني هو ما يقع عليه الأثريون من مخطوطة تحوي جزءًا من المصحف الشريف سواء لدراسته من ناحية نوع الخط والرسم والفن. والناسخ وحجم المخطوط وعدد ورقاته..
2- الزركلي، الأعلام، م.س، ج 2، ص 106.
3- علم المخطوطات أو الكوديكولوجيا بالفرنسية La codicologie أو علم دراسة المخطوطات هو لفظ مشترك من لفظين، أولهما الكلمة اليونانية (Logos التي تعني علم والآخر كلمة لاتينية هي : (Codex) التي تعني الكتاب الرأسي المكون من كراسات ظهر هذا العلم بشكل مستقل في منتصف القرن العشرين وهو مرحلة تالية بعد ظهور علم تطور الخط، أو ما يعرف ب- La paleographie والذي ظهر في القرن التاسع عشر. انظر دیروش فرانسوا المدخل إلى علم الكتاب المخطوط بالحرف العربي تعريب أيمن فؤاد سيد، لا ط، لندن، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي 2005

وهناك جهود للمستشرق الألماني جيرد بوين (Gerd Pain)(1) الذي أرسلته الحكومة الألمانيّة الاتحاديّة في ثمانينيّات القرن الماضي للمساعدة في ترميم المخطوطات اليمنيّة المكتشفة بسقف الجامع الكبير في صنعاء (1972م) وصيانتها بطلب من القاضي إسماعيل الأكوع (2)حول طرس صنعاء(3).

درس جيرد بوين هذه المخطوطات بما يدعم بحث القرآن واستنتاجاته، وعن مصاحف صنعاء قال بوين في رسالته«لا تختلف هذه المصاحف الصنعانيّة عن غيرها في متاحف العالم ودور كتبه؛ إلا في تفاصيل لا تمسّ القرآن نصًا مقروءًا، وإنّما الاختلافات في الكتابة فقط»(4)، إذًا ليست دراسة المخطوط القرآنيّ أمرًا جديدًا على الدرس الاستشراقيّ.

وترجع أهمّيّته في تاريخه المبكّر جدًّا، حيث أثبت الفحص الكاربوني أنّه كِتب -على -الأرجح بعد أقلّ من 15 عامًا من وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، بمعنى أنّه كان على التقدير والاحتمال الغالبين في الفترة التي قام فيها عثمان بن عفان بكتابة المصحف الشريف وتوزيعه على أمصار الإسلام(5).

كما جرى على ساحة الدرس الاستشراقيّ في العقود الثلاثة الماضية ذِكر جهود استشراقيّة حول المخطوط (القرآنيّ) ساعدت على نشرها وسائل إعلام ووكالات أنباء عالميّة ومواقع إلكترونيّة لجامعات غربيّة عريقة ومراكز بحثيّة؛ فضلًا عن وسائل

ص: 182


1- بوين: (-1940... هو جيرد روديغر بوين مستشرق ألماني وخبير متخصص في اللغة العربية والكتابات القديمة وقواعد الكتابة القرآنية التاريخية ودراسة وتفسير المخطوطات القديمة ترأس بوين مشروع ترميم المخطوطات القرآنية القديمة المكتشفة بصنعاء اليمن سنة (1972) من قبل حكومة اليمن حيث قضى وقتا في ذلك، وادعى من خلال الفحص عن تسلسل غير شرعي لآيات القرآن واختلافات في النص وخط نادر من الإملاء يفترق عن النسخ الشرعية اللاحقة كتبت الآيات بخط حجازي مبكر. (الباحث).
2- القاضي إسماعيل الأكوع (1920-2008) هو إسماعيل بن علي بن حسين بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل الأكوع الجوالي مؤرخ وعالم يمني ولد بمدينة ذمار من مناصبه وزير مفوض ونائب ثان لوزير الخارجية، ووزيرا للإعلام، ورئيسا للهيئة العامة للآثار ودور الكتب. (ويكبيديا).
3- الطرس ما أخفي نصّه الأصلي بأي وسيلة كحك، أو غسل، أو غير ذلك لنسخ نص جديد يحتوي على نصين، الأول: يُعرف بالنص التحتي (Lower Text) والآخر هو النص الفوقي Upper text) وطرس صنعاء: عبارة عن (80) صفحة من مصحف غير مكتمل.
4- انظر حمدون غسان كتاب الله في إعجازه يتجلى مركز عبادي للدراسات والنشر سنة 2002، ص 102-105 من رسالة جيرد بوين للقاضي إسماعيل الأكوع بتاريخ 1999/2/14م؛ شاكر، أحمد وسام : مَصَاحِف صَنْعاء»، مجلة الدراسات الدينية، العدد الأول (ديسمبر 2014م / صفر 1436ه-) ص 8-14.
5- شاكر، أحمد وسام مَصَاحِفَ صَنْعاء»، م.س.

تواصل اجتماعيّ؛ ربّما بغرض علميّ، أو دينيًّ، أو غير ذلك، وهي جهود تعلّقت بأقدم مخطوط قرآنيّ؛ مثل: جهود المستشرق الإيطاليّ (سرجو نويا نوزاده)(1)، محقِّق المصاحف الحجازيّة الذي سعى لإخراجه إلى النور، لكنّه مات قبل أن يرى عمله.

وكما ظهرت جهود المستشرقة الإيطاليّة ألبا فيديلي (Alba, Fedeli)(2) التي حصلت على درجة الدكتوراه عن أطروحتها (المخطوطات القرآنية ونصّها، وأوراق ألفونس منجانا في قسم المجموعات الخاصّة التابع لجامعة برمنجهام)، ونجحت في إتمامه وإخراجه إلى النور.

ودراسة هذه الباحثة لأوراق ألفونس منجانا (1881-1937) لفتت الانتباه إلى شخصيّته، وتجدر الإشارة إلى أمور هي: أوّلًا: ألفونس عربيّ مستغرب موصليّ الأصل عيّن مديرًا لدائرة اللغات الشرقيّة في مكتبة ريلاندز في مانشستر. ثانيًا: قد عدّ منجانا من كبار جامعي المخطوطات العربيّة والسريانيّة قصد الشرق بين (1924-1929م) لاقتناء مخطوطات ثالثًا: وضع فهارس المخطوطات العربيّة في مكتبة ريلاندز (مانشستر 1934م) وفهرس مجموعة مخطوطات منجانا في حيازة أمناء الواقفين، المجلّد الأوّل (برمنجهام 1935م)، والمخطوطات النصرانيّة العربيّة، وإضافات إلى مخطوطات كمبريدج (کمبريدج 1939م). رابعًا: من أبحاثه دراسة بعض المصاحف الخطّيّة في مكتبة ريلاندز (نشرة مكتبة ريلاندز 1914-1915م)، والمخطوطات العربيّة والفارسيّة النادرة في مكتبة ریلاندز (مانشستر 1921-1922م)(3).

وفي حقيقة الأمر، إنَّ الغرض من دراسة (المخطوط القرآنيّ) ليست الدراسة العلميّة للقرآن الذي بين أيدينا؛ لإثبات أنّه يختلف عن القرآن المُوحَى، حيث يرى المستشرقون الدارسون للمخطوط القرآنيّ أنَّ ادِّعاء عدم وقوع التغيير والتبديل والاختلاف في نقل

ص: 183


1- سرجو نویا نوزاده (1931-2008م)، مستشرق إيطالي له فهرس المخطوطات العربية بمكتبة تورينو بإيطاليا.
2- ألبا فيديلي تخرجت من الجامعة الكاثوليكية بميلانو (2000) على يد المستشرق سرجو نويا نوزاده، ثم دَرّست لفترة بالجامعة الحكومية وانتقلت لجامعة برمنجهام سنة (2011) فاشتغلت فيديلي على دراسة مخطوطات قرآنية محفوظة بمكتبة كادبوري للبحوث ضمن مجموعة للمستغرب الكلداني ألفونس منجانا، ويُذكر أن مجموعة منجانا تحتوي على أكثر من (3000) مخطوطة شرقية مكتوبة بأكثر من (20) لغة منها مقتطفات قرآنية مبكرة، بعضها نادر جدا كبردية (16.IX) التي تعود للقرن الهجري الثاني، وحصلت فيديلي على درجة الدكتوراه من قسم اللاهوت والدين بالجامعة (2015) عن أطروحتها المخطوطات القرآنية ونصّها، وأوراق ألفونس منجانا في قسم المجموعات الخاصة التابع لجامعة برمنجهام).
3- انظر: العقيقي نجيب المستشرقون، م.س، ج 2، ص 516 بتصرف.

القرآن دعوى خاطئة ولا أساس لها من الصحَّة، بل معارضة لشواهد تاريخيَّة متعدِّدة»(1).

كما ظهر إسهام فرانسوا ديروش المستشرق الفرنسيّ في دراسة المخطوط القرآنيّ بصورة بدت موضوعيّة، لكن ما يدعو إلى التأمّل من دراسات ديروش الاستشراقيّة تمجيده لما قام به فون بوثمر (HCG on Bother) وهو تلميذ بوين بطبع أجزاء من نسخة هامّة وجدت في صنعاء في ظروف أدّت إلى التعرّف على مخطوطات أخرى تعود للفترة نفسها(2)، كما يشير ديروش إلى مصحف صنعاء الذي قدَّمه المستشرق الألماني فون بوثمر (H.C.G. Von Bother)(3)، وكانت تقدّر عدد صفحات المخطوط ب- (520) ورقة، وإنّ تحديدها الزمنيّ يتراوح بين (657-690م)، وهو التحديد الذي عدّله فون بوثمر مقترحًا تحديدًا يقع خلال نهاية القرن الأوّل الهجري؛ أي بين (710-719م)(4).

إذًا، فرانسوا ديروش يواصل جهود من سبقه، ولا يلام على ذلك، لكن يبدو أنّ شهوة تحقيق المجد العلميّ قد جرّت ديروش إلى نتائج أخرى، فهل توصّل ديروش إلى نتائج صحيحة ؟

إنّ الدرس الاستشراقيّ مع أنّ أمره لا يعدو أن يكون مجرّد أقوال مرسلة ينقصها التدقيق، فلو رجعوا إلى القرآن نفسه لعلموا يقينًا أنّ مصدر القرآن هو مصدر التوراة والإنجيل:«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» [سورة النساء الآية 82]، فهذه دعوة قرآنية إلى البحث في القرآن والتنقيب فيه؛ ليتعرّف المستشرق الدارس على أنّ مصدر القرآن ،واحد ، فلماذا لا ندرس القرآن بدقّة وتؤدّة وموضوعيّة وإنصاف لندرك مصدره؟!

2- تقويم دراسات المستشرقين للمخطوط القرآني:

مع التحلّي بشيء من حسن الظّن لست أرى أنّ قصد فرانسوا ديروش (France

ص: 184


1- الشيخ حليمة «القرآن» أقوال متعددة عن تاريخه بحث في تشكل النص القرآني»، م.س، ص30.
2- ديروش لفرانسوا ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية، م.س، ص 8؛ الشيخ حليمة، المستشرق الفرنسي فرانسوا دیروش، م.س، ص 47.
3- فون بوثمر هو من المستشرقين الفرنسيين في القرن العشرين ولم أقف له على ترجمة.
4- دیروش فرانسوا سبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية»، م.س، ص18.

Deroush )، أو الإيطالي سرجو نوزاده، أو ألبا فيديلي (Alba Fedeli) من دراساتهم للمخطوطات القرآنيّة إثبات صلة القرآن بالنبي محمّد إن قلنا: إنّ دوافعهم للقيام بتلك الدراسات هو دوافع البحث والعلم(1)؛ لأنّهم يعتبرون القرآن قول بشر، وهذا أمر فيه نظر لأسباب؛ هي:

أوّلاً: إنّ المصاحف محطّ دراسة المستشرقين؛ سواء ديروش أو نويفرت، أو سرجو، أو برين أو ألبا، أو غيرهم نحسن الظّن بهم ما أرادوا خدمة التراث الإسلاميّ، وإنّ المخطوط القرآنيّ على أقصى تقدير يعود إلى عهد الدولة الأمويّة، وهذا يدلّ على سبيل اليقين على باكورة تدوين القرآن بصورة خطّيّة.

ثانيًا: عدم معرفة سند المخطوط هل هو متّصل بعهد النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، أو بعهد أبي بكر، بعهد عثمان نفسه، أو أيّ صحابيّ ثبتت صحبته للنبي وتلقّيه القرآن عنه، فإن توفّر ذلك في المخطوط القرآنيّ كانت له قيمته المعتبرة. حتّى إن ثبت ذلك بالسند المتّصل، فإنّ الواقع الممارس من علماء الاستشراق أنّهم ينبعثون من مسلَّمة إنكاريّة تامّة لأكثر المفاهيم الإسلاميّة العامّة؛ كوحي القرآن وإعجازه، وأمّيّة النبي وغيرها من قضايا هي في غاية الأهمّيّة؛ لكونها فواصل فارقة بين الحقائق الدينيّة والمزاعم والأوهام القائمة على "الظنّيّة العلميّة“، فليس المقام مقام إثبات خطأ أهل الاستشراق في إنكار مفاهيم المسلمين واصطلاحاتهم، بقدر بيان رصد مدى موضوعيّة الفكر الاستشراقيّ عند تناول تلك المفاهيم الإسلاميّة.

ثالثًا: تَرَك علماء الاستشراق البحث في ضوابط تدوين القرآن ،وجمعه وقواعد رسمه وخطّه عند علماء القرآن، وهذا تركُ له دلالة الانتقائيّة المتعمّدة أو إهمال الدراسات الاستشراقيّة المتعلّقة بالمخطوط القرآنيّ، وليس المقام مقام إثبات خطأ المستشرقين في إنكار ضوابط

الجمع وقواعد الرسم؛ بقدر بيان رصد مدى موضوعيّة الفكر الاستشراقىّ حيال تلك الضوابط والقواعد فلم يتناولوها مع أنّها تمثّل ضرورة لمن درس المخطوط القرآنيّ.

رابعًا: إنّ محافظة الأمّة المسلمة على نصوص الوحي الذي جاء به النبي محمّدصلی الله علیه و آله و سلم، مزيّة لكتاب هذه الأمّة الخاتمة لم تحدث لأيّ كتاب سابق. وإنّ شأن دراسات الاستشراق

ص: 185


1- وهناك دوافع دينية تبشيرية للاستشراق تعمل على تشكيك أهل الإسلام في دينهم.

للمخطوطات القرآنيّة أن تفتح بابًا من شكّ وارتياب وتشكيك لدى ضعاف الثقافة الإسلاميّة من المسلمين، فضلًا عن زحزحة وزعزعة ثقة عموم المسلمين في ما بين أيديهم من مصاحف مطبوعة، فهل غرض تلك الدراسات النيل من ثقة المسلمين في كتابهم الكريم (القرآن)؟ بالطبع هذا لم يُعلَن على لسان أحد من الدارسين، لكنّه يُظهِر دراسات الاستشراق بصورة القائم بتأجيج عصبيّة فكريّة بين الشرق والغرب مرّة بعد أخرى.

3- مسلمات الاستشراق في معيار المنهجية العلمية:

إنّ الاعتقاد السائد بين أكثر المستشرقين بكافّة مدارسهم الفكريّة وانتماءاتهم العقديّة - بمسلَّمة يعتبرونها بديهيّة ارتبطت قلوبهم وعقولهم بها، هي أنّ القرآن (كتاب محمّد)، فليس كتاب الله أو كلامه، فهذا من مسلَّمات الدرس الاستشراقيّ للقرآن؛ فيعتبر أكثر المستشرقين هذا أمرًا بدهيًّا أوّليًّا مسلّمًا لا يحتاج إلى إثبات بأدلّة واضحة أو خافية، أو تكلّفٍ باستدلال؛ ولو بضرب من المُحَالات وأكاد أجزم أنّه لم يَسلم مستشرق من تلك الوصمة، اللّهم إلّا من عصمه الله بدراسة الإسلام دينًا سماويًّا، أو بحث في القرآن كتاب الله المبين، أقول: و مع أنّ عذر المستشرقين في هذا الاعتقاد مرتبط بدين المستشرق، وعقيدته الدينيّة؛ فكثيرًا ما كان المستشرق راهبًا مسيحيًا أو قسًّا كنسيًّا أو كان حبرًا يهوديًّا له أنشطته الدينية، فلو اعتقد أنّ القرآن كتاب الله - تعالى - ؛ لكفر بعقيدته الدينيّة.

لكنّ المنهجيّة العلميّة تخالف هذا الاعتقاد تمام ،المخالفة ففي الواقع والحقيقة هي ليست بمسلّمة في شيء؛ لأنّه ينقصها الإثبات، ويعتريها من الخلل الشيء الكثير، بل يشملها أغلاط واختلاط، ولبس والتباس حيث يدرس المستشرق القرآن من وجهة نظره هو؛ فأولى به أن يكون مُنصفًا للعلم موضوعيًّا في البحث، وإن خالف دينه.

وإنّ الدرس الاستشراقيّ تراكميّ يتابع بعضه بعضًا؛ فيأخذ الباحث من المستشرقين عمَّن سبَقَه ليبني عليه درسه الجديد وبحوثه العديدة، وأعتقد بأنّ مع التواصي بوصيّة معتادة أنّ الرؤية البدهيّة للقرآن أنّه (كتاب محمّد) ، وهذا من الخلل حيث يدخل المستشرق في بحوثه ولديه مسلماته؛ وهذا مخالف للمنهجيّة العلميّة، وربّما كان السبب في هذا أمرين أوّلهما: ضعف المستشرقين في اللغة العربيّة أو الذهول عن إتقانها، والعربيّة تعتبر أحد أهمّ سمة

ص: 186

للمستشرق الدارس للقرآن وإلا فلينظر إلى أيّ باب آخر من أبواب العلم . ثانيهما: تغافل الدرس الاستشراقيّ عن علاقة القرآن بالسنّة، أو تجاهل ذلك، ومعلوم حاجة مفسِّر القرآن إلى السنّة، وكذلك فإنّ السنّة تقوم على الإسناد للخبر الذي قد يصحّ أو يضعف في سنده أو متنه، وهذا السند مزيّة هذه الأمّة الخاتمة.

إنّ علاقة الاستشراق بدراسة القرآن تستقيم بأمرين: الأوّل: فهم المستشرق طبيعة لغة القرآن وهي اللغة العربيّة بدلالتها الثاني موضوعيّة الدارس ،الباحث، وحياديّة الدرس والبحث فإذا قامت دراسات الاستشراق للقرآن على ذلك فإنّ دراساتهم لا محالة تتّسم بالقبول وتفرز نتائج صحيحة ومقبولة نسبيًّا تكون ثمار بحث طويل، لكنّ دراسات غالب المستشرقين للقرآن قامت بدراسته ،و ترجمته و دراسة سيرة صاحب الرسالة بصورة مبتورة أو شوهاء، قامت على مسلّمة انتفاء الوحي عن القرآن والإعجاز وانتفاء الرسالة عن النبي محمّد، وهذا أمر غير طبيعيّ ممّن يدّعي قيام دراساته على منهجيّة علميّة.

إنّ عقليّة كثير من المستشرقين ثابتةٌ على مسلّماتها، جامدة على مقولاتها، لا تعي أو تسمع إلّا ما تراه وتقوله من آراء ومقولات إلّا ما رحم ربي، لذا فإنّ نقد مقولات الاستشراق وتحليلها أمر يحتاج ويتطلّب أمورًا؛ من أهمّها ما يلي:

أوّلًا: النّفَس الطويل في قراءة المقولات والشبهات.

ثانيًا: الثبات والصلابة والتؤدّة والتأني في محاورة المقولات.

ثالثًا: التفرقة بين مقولة كلّيّة وأخرى فرعيّة، فربّما يظنّ الدارس أنّ المثال الذي أورده المستشرق ،مقولة، وهو في الواقع مثال وأنموذج لأصل المقولة الكلّيّة.

رابعًا: بیان تكرار المقولات بين المستشرقين، حيث يصبّ الدرس الاستشراقيّ بعضه في بعض، وهذا يتطلّب الرجوع بالمقولة الحديثة إلى أصلها وأوّلها قدر الجهد، فهذا يعطي بُعدًا تاريخيًا للمقولة، ويوفّر على الباحث الكثير من العناء، ويقف به على تطوّرها، وإضافة كلّ مستشرق لاحق لمن سبقه في الدرس الاستشراقيّ.

ص: 187

ص: 188

المبحث الثاني:الرؤية الإسلاميّة للمخطوط القرآنيّ

اشارة

إنّني أرى ضرورة بيان الرؤية الإسلاميّة للمصحف؛ من حيث الجمع والتدوين ،المعتبَرَين، وذلك لأنّ هناك سببًا يدفع المستشرقين للحرص على بعض الكتب، الّتي صنّفها علماء الإسلام في ما يتّصل بنقل القرآن، ولا أجد جوابًا إلَّا أنّ هؤلاء حاقدون على الإسلام دينًا، وعلى القرآن الكريم كتابًا معجزًا محفوظ اللفظ والمعنى، حيث إنّ لهم مقاصد سوء، يبحثون عن طريق للطّعن على القرآن، فتراهم أوّل من اعتنى مثلًا بنشر

كتاب «المصاحف» للسّجستانيّ أبي بكر بن أبي داود(1)، فقصد هؤلاء إلى نشره وترجموه إلى بعض لغاتهم ظنًّا منهم أنّهم وجدوا فيه بعض مرادهم لما تضمّنه من حكاية قصّة جمع القرآن والمصاحف الّتي كانت عند بعض الصّحابة ممّا فيه اختلاف حرف أو ترتيب عن مصاحف المسلمين.

وهؤلاء المستشرقون لا يدرون ما الأسانيد، ولا يميّزون صحيح نقلٍ من سقيمه فجميع الأخبار المحكيّة عندهم مسلّمات، وإنّي لأعذرهم في ذلك، فإنّ اليهود والنّصارى قد حرموا الإسناد، واختصّت به هذه الأمّة الوسط، فأنّى لهم أن يفهموه؟!(2) ، وتتّضح الرؤية الإسلاميّة للمخطوط القرآنيّ من خلال ما يلي:

1- ( المخطوط وفنّ الطباعة ):

كان من الطبيعي أن يكون هناك آلاف المخطوطات؛ سواء للقرآن أو لغير ذلك من الكتب العربيّة والإسلاميّة والطبيعيّة في المكتبات العامّة والخاصّة؛ لأنّ طبيعة ذلك

ص: 189


1- السجستاني: (230-316ه-) هو : عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، أبو بكر بن أبي داود من كبار حفاظ الحديث.. كان إمام أهل العراق وعمي في آخر عمره ولد بسجستان، ورحل مع أبيه رحلة طويلة، وشاركه في شيوخه بمصر والشام وغيرهما، واستقر وتوفي ببغداد، له تصانيف منها : المصاحف و القرآت)، و(الناسخ والمنسوخ). انظر: الداوودي طبقات المفسرين لا ط، بيروت، دار الكتب العلمية، (د.ت)، ج 1، ص 236-238؛ الزركلي، الأعلام، م.س، ج 4، ص 91.
2- انظر العنزي عبد الله بن يوسف بن عيسى بن يعقوب اليعقوب الجديع المقدمات الأساسية في علوم القرآن، ط1، بريطانيا، مركز البحوث الإسلامية ليدز (2001م)، ص 182.

العصر المبكر كانت طبيعة تدوين؛ إذ تناول العلم بالنسخ باليد والكتابة على الورق، منذ عهد النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، ثمّ عهد الصحابة، ثمّ العهد العثمانيّ، ثمّ العهد الأمويّ، ثمّ العبّاسي والمملوكّي والتركّي؛ وذلك قبل ظهور (فن الطباعة الحديثة) على يد يوهان غوتنبرغ(1).

والسؤال المطروح للنظر: كيف كان تدوين القرآن للعامّة والخاصّة قبل ظهور فنّ الطباعة ؟ لقد كان مداد القلم والكتابة باليد هي الطريقة المعتمدة قبل ظهور آلات الطباعة وهذه الكتابة بأدواتها معظّمة ومقدّسة في الإسلام، حيث أقسم الله بتلك الأدوات، وهي وسيلة لنشر العلم وكتابته وكتابة المصحف الشريف(2)، ولقد ظهرت رعاية الولاة والحكّام للقرآن بالاعتناء بالكتَبَة والنّسَّاخ لذا من الطبيعيّ وفق السير البشريّ ظهور مخطوطات قرآنيّة يعود تاريخها لما قبل ظهور الطباعة.

ولمّا كان تعظيم أدوات الكتابة وتدوين العلوم مشتهرًا في القرآن في القسَم بها، فقد استقبل علماء الإسلام فنّ الطباعة بأريحيّة؛ لتوفّر تلك العلّة في ذلك المنجز الحضاريّ، ومن المعلوم أنّ الطباعة لم تدخل العالم العربيّ والإسلاميّ؛ إلا في أواخر القرن السابع عشر على سبيل بداية المعرفة بها في بعض حواضر العالم الإسلاميّ.

ثمّ دخلت الطباعة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر إلى مصر مع حملة نابليون عليها وفي الشام في أواسط القرن التاسع عشر وأواخره، وكانت الكتب المخطوطة والمنسوخة بين يدي النسّاخ يعدّونها للقارئ العربيّ المسلم، فكانت تلك أوّل ثمرة بعد نجاح حركة التدوين في المحيط العربيّ والإسلاميّ التي بدأت حرفيًّا مع تدوين وحي القرآن الكريم(3).

ص: 190


1- الألماني يوهان غوتنبرغ: (1398-1468م) هو يوهان غنزفلايش تسر لادن تسوم غوتنبرغ طور سنة (1447) قوالب الحروف التي توضع بجوار بعضها البعض، ثم يوضع فوقها الورق، ثم يضغط عليه فتكون المطبوعة مطوّرًا بذلك علم الطباعة الذي اخترع من قبل في كوريا سنة (1234) ويعتبر غوتنبرغ مخترع الطباعة الحديثة، ثم أخذت فترة بعيدة حتى دخول الحروف العربيّة في فن الطباعة. الشبكة العنكبوتيّة
2- ورد هذا القسم في قوله تعالى: (وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ في رَقٌ مَنْشُورٍ ﴾ [الطور: (1-3)، وقوله : من وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ [القلم الآية: 1] كما جاء أول أمر قرآني بالقراءة في أول نجم نزل في القرآن في قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمُ (العلق : 1-5].
3- المقداد محمود تاريخ الدراسات العربية في فرنسا لا ،ط، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد (167) نوفمبر 1992، ص 43-45

ولمّا كانت المعاناة والصعوبة التي يلقاها القارئ المطّلع في المخطوطات بدأ التفكير الجدّي في طباعة المصحف الشريف، فطبع في مطبعة بولاق في مصر، كما ظهر دور العلماء في إعادة طباعة كبار كتب التراث الإسلاميّ، ثمّ تطوّر علم التحقيق لعلوم التراث الإسلاميّ والعربيّ والطبيعيّ والفنّي.

وكان لرجوع الدرس الاستشراقيّ إلى هذه المخطوطات أهمّيّة من أجل فهم المعارف المتعلّقة بحضارة العرب؛ لذا كان عليهم السعي لجمع تلك المخطوطات، حيث كان المفتاح المعرفة العرب وحضارتهم هو اللّغة العربيّة، التي تمكّنهم من معرفة تلك الآثار المكتوبة، لهذا اتّجه علماء الغرب بمختلف جنسيّاتهم ،ألمان وفرنسيّين وطليان وغيرهم إلى جمع أعدادٍ كبيرة من ذخائر المخطوطات المحفوظة في كثير من كبرى مكتبات حواضر العالَمين العربيّ والإسلامي، فنقلوها من المشرق الإسلاميّ إلى بلادهم، وعاون المستعمر الغربيّ في ذلك الصدد، والتقى الهدف العلميّ مع الهدف السياسيّ، بل والعسكريّ.

وكان من ضمن هذه المخطوطات المجلوبة إلى الغرب العديد من المخطوطات القرآنيّة وهذا يلزمنا باستجلاء قيمة المخطوط القرآنيّ.

2 - (ضوابط القراءة القرآنية المقبولة):

انطلاقًا من وجود مفردات قرآنيّة تناولها الدرس الاستشراقيّ، فإنّ هناك مفردات بينها فروق دلاليّة ذَهَلَ عنها، ومن هذه المفردات (القرآن القراءات المصحف)، فالقرآن كلام الله المقروء؛ لذلك لا يُجمع، فالقرآن واحد، أمّا القراءات فهي أوجه متعدّدة بتعدّد أداء التلاوة المسموع من النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، والقراءات هي:«وجوه مختلفة في الأداء من النواحي الصوتيّة، أو التصريفيّة، أو النحويّة، واختلاف القراءات على هذا النحو اختلاف تنوّع وتغاير لا اختلاف تضادّ و تناقص»(1). وأمّا المصاحف فكثيرة بعدد أفراد الكاتبين ،والنسَّاخ فلا بدّ أن ننتبه إلى دلالة تلك الأسماء، حتّى نتبيّن التفرقة بينها؛ لأنّ خلط الدرس الاستشراقيّ بين هذه المفردات سبَّب وقوعه في كثير من الأخطاء المنهجيّة الجسيمة.

ص: 191


1- الطويل السيد :رزق مدخل في علوم القراءات، ط 1 ، المكتبة الفيصلية، سنة (1985م)، ص27.

وهناك ضوابط وضعها علماء القرآن في الإسلام لقبول القراءة القرآنيّة هي:

أولًا: أن ينقلها الثقات عن النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، ورواية القراءة بسند متّصل إلى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم على سبيل التواتر؛ أي جمع عن جمع يُؤمَن تواطؤهم على الكذب.

ثانيًا: أن يكون لها وجه شائع في العربيّة التي نزل بها القرآن؛ بموافقة القراءة لوجه من أوجه الإعراب التي تكلّم بها العرب؛ لأنّ القرآن عربيّ نزل باللغة العربيّة.

ثالثًا: أنْ تكون موافقة للخطّ المصحفيّ (الرسم العثمانيّ)(1).

هذه ضوابط للقراءة الصحيحة المقبولة التي تجوز الصلاة بها، ويتّضح ممّا سبق أنّه ليس من بين ضوابط القراءة الصحيحة المقبولة أن تكون مدوّنة في (مخطوط قرآنيّ).

ليس ثمّة أدنى اعتبار لأيّ مصحف أو مخطوط قرآنيّ خالف مصحف عثمان؛ مهما كان عمقه الموغل في قِدَم التاريخ من عصر النبوّة؛ فضلًا عن عصر الخلافة الراشدة، حتّى ولو كان معاصرًا لحياة النبي؛ لاحتماليّة وجود عشرات بل مئات المخطوطات التي يعود زمنها إلى الخلافة الراشدة؛ حيث كان دافع الجمع هو خشية ضياع القرآن وتوحيد الأمّة من الفتن.

3- ( اختلاف قرَّاء لا اختلاف مخطوط):

إن الاختلاف المعتبر هو اختلاف أوجه قراءة القرآن بقراءاته المتعدّدة، ولقد أورد علماء التفسير بعض القراءات الضعيفة والشاذة ووجَّهوها، وقمت بتتبّع قدرها من ذلك، فوجدت الإمام الطبري - على سبيل المثال - يُورد بعض القراءات الشاذّة، ثمّ يوجّهها بصريح قوله:"لإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ"(2)، وتارة بقوله:«لاجْتِماعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ»(3) وتارة ثالثة بقوله:«اتَّفَاقُ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ»(4)، وبالتتبّع وجدت هذه

ص: 192


1- انظر: ابن الجزري منجد المقرئين ومرشد الطالبين، ط1، دار الكتب العلمية، (1999م)، ص18؛ الطويل، السيد رزق، مدخل في علوم القراءات، ص48.
2- انظر: الطبري، محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، (2001م)، ج 1، ص 150؛ ج 1، ص 579؛ ج 2، ص 105؛ ج 2، ص 679؛ ج 3، ص 577 ج 5، ص 243؛ ج 5، ص289؛ ج5، ص435؛ ج 6، ص 145.
3- م.ن، ج2، ص 231.
4- م.ن، ج1، ص 2/9، 3، ص 53.

الألفاظ في تفسيره والاجتماع على قراءة معيَّنة، والاتّفاق عليها سبيل إجماع القرّاء عليها؛ فالعبرة على ما أجمع الصحابة عليه من مصحف عثمان، وكذلك العبرة وفق ما أجمع القرّاء واتّفقوا عليه، أمّا اختلاف المخطوط عمّا اتّفق عليه، فلا وجه له، وقيمته في قِدَمه التاريخيّ، وهذا ما سنتعرف عليه في النقطة التالية.

4 - ( المخطوط القرآنيّ والقيمة الحقيقيّة):

كان المخطوط القرآنيّ ولا يزال في المكتبات؛ فلماذا لم يستخرج علماء المسلمين عبر العصور المخطوطات القرآنيّة المدَّخرة في مكتبات العالم الإسلاميّ ومساجده؟ يبدو جواب ذلك من خلال بيان قيمة المخطوط (القرآنيّ) عند علماء المسلمين، حيث رأوا قيمة المخطوط القرآنيّ في قِدَمه التاريخيّ، خاصّة بعد ما استقرّ في ذاكرة الأمّة معلوميَّة المصحف بجنسه وشخصه، واضح في ترتيب أوّله وكذلك ،آخره محفوظ لفظه ومعناه وبناء عليه لم يكن ثمّة حاجة لاستخراج المخطوط القرآنيّ إلا لضرورة من الضرورات.

يظنّ البعض أنّ المخطوط القرآنيّ له قدسيّة القرآن في المخطوط ذاته، لكن أقول: إنّ القيمة الحقيقيّة لأيّ مخطوط قرآني تنبع من قِدَمه التاريخيّ الذي يثبته تحليل (الكربون المشعّ)، ونحن بدورنا نثمّن استخدام الكربون للكشف عن قِدَم المخطوطة القرآنية زمنيًّا، مع ضرورة الإشارة إلى الأمور التالية:

أوّلًا: إنّ المخطوط القرآنيّ قيمته تاريخيّة محدودة وفنّيّة، وليس له دخل في إثبات (النصّ القرآنيّ) في الجملة بصفة عامّة؛ لذا كان العلماء يحفظون القرآن بألواح جديدة، وانتهت مرجعيّة العلماء للمخطوط القرآنيّ بنَسْخ المصحف الإمام العثمانيّ، وصارت النسخ الجديدة منتشرة بين العلماء.

ولو كان هناك قيمة أو مزيّة في إثبات نصّ القرآن؛ لما ترك العلماء الرجوع إليه واستخرجوه ولما ادَّخرها السابق لمن اتّبعه بإحسان فهذا يدلّ على ثقة العلماء في توثيق المصاحف بين أيديهم، والسائرة بين الناس حتى توارثها الأحفاد عن الأجداد والطلاب عن مشايخهم بالسند المتّصل، ولقد أحسن أجدادُنا أن ادّخروا هذه المخطوطات القرآنيّة وحفظوها - كما بعض

خيار الصحابة - حتّى يستفيد الخلف من أسلافه.

ص: 193

ثانيًا: إنّ قيمة المخطوط القرآنيّ في قدمه التاريخيّ، وفي ضربه في أعماق تاريخ هذه الأمّة الخاتمة، وكذلك قيمته تبدو في ما يحمل من قيَمٍ جَماليّة وفنّيّة؛ ما يبرهن على الحالة الحضاريّة والمستويات الفنّيّة التي بلغها المسلمون في عصر كتابة المخطوط القرآنيّ في عصر من العصور لا أكثر، وكذلك تبدو قيمته في تحقيق وعد الله -تعالى- بحفظ كتابه الكريم، فقد حافظ عليه المسلمون من الزيادة والنقصان، وهذا ما سعى الدرس الاستشراقيّ إلى إغفاله والتشغيب حوله.

ثالثًا: إنّ معالجة المخطوط القرآنيّ بمادة (الكربون المشعّ)(1) له أهمّيّته، والكربون المشعّ يقيس عُمْر الوسيط (أي: الجلد) لا عُمْر الكتابة ذاتها (أي الحبر المكتوب به)؛ فمن المحتمل نظريّاً أن يكون المخطوط رقّ من جلد حيوانٍ قد تمَّ ذبحه في الفترة المذكورة التي سّجلها الكربون المشعّ(2)، لكنّ الكتابة على هذا الجِلْد تكون في وقت لاحق عليه(3)، وهذا يؤكّد أنّ قيمة المخطوط القرآنيّ تاريخيّة فقط لا أكثر - مهما ضربت في عمق القِدَم وبَلِيَت فهي محتملة؛ بما يدعونا إلى استبعاد ودفع أيّ اعتبار علميّ لموافقة المخطوط القرآني أو مخالفته لمصحف عثمان، وعدم إعطائه أيّ قيمة دينية تذكر، فضلًا عن إثبات تاريخ تدوين القرآن وجمعه فالأمر عند أهل الإسلام مفروغ منه، تامّ غير منقوص، وإنّ ما بين أيدي المسلمين اليوم هو ذاته القرآن المنزّل على قلب النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وهو كذلك ما جمعه الصحابة من بعده، ومن ثمّ لجنة الجمع في العهد العثمانيّ؛ وهو كذلك يحمل أوجه القراءات القرآنيّة.

5 - ( النقل الشفاهيّ للقرآن في العهد النبويّ):

عُرِفَ عن النبي محمّدصلی الله علیه و آله و سلم أميّته، وكانت تلك الأميّة أحد الأسباب والدواعي الدالّة على إعجاز القرآن؛ فكيف يأتي رجل أمّي لم يقرأ ولم يكتب من قبل بهذا القرآن في

ص: 194


1- الكربون المشع هو ما يستخدم للوقوف على تأريخ القطع الأثرية عن طريق الكربون الذي اكتشفه العالم الكيميائي ويلارد ليبي سنة (1949) وقد حصل على جائزة نوبل في الكيمياء منذ إدخال التأريخ عن طريق الكربون المشع ، واستخدمت هذه الطريقة مرات عدة في الكشف عن عينات مخطوطات البحر الميت وكفن توريتو، وكذلك القطع الأثرية المصرية للحصول على التسلسل الزمني للأسرات الفرعونية في مصر.
2- انظر موقع (https://www.syr-res.com/article/4521.html) لندرك ظنية البحث عن عمر الأشياء بالكربون المشع (C14).
3- هذا ما أقرت به المستشرقة ألبا (فيديلي) في حوارها مع الباحث أحمد وسام شاكر، المصدر : مركز نماء للبحوث والدراسات، موضوع المقالة القرآن الكريم

فصاحة غير معهودة ؟«وَمَا كُنتَ نَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلَا تَخطُهُ، بِيَمِينِكَ إِذَا لَاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ» [سورة العنكبوت الآية ،48] وقد نُقِلَ القرآن نقلًا شفاهيًّا من جبرائيل علیه السلام إلى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، ففي حديث ابن عباس قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ»(1)، وفي رواية مسلم: «يَلْقَاهُ في كُلِّ سَنَةٍ، فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ الْقُرْآنَ»، فهذا يدلّ على تلقّي النبي صلی الله علیه و آله و سلم القرآن من جبرائیل علیه السلام، كما يدلّ على مدارسة النبي صلی الله علیه و آله و سلم في ترتيب القرآن في سوره وآياته.

ولقد غفل المستشرقون عامّة عن أمر التلقّي والتدوين الشفاهيّ للقرآن في العهد النبويّ، كما غفلوا عن نقل القرآن بالسند المتّصل، وهكذا سار فرانسوا ديروش وإنجليكا نويفرت بصفة خاصّة على النهج ذاته في الدرس الاستشراقيّ - عمدًا أو سهوا-، وهو شأن ضروري لإثبات النصّ القرآنيّ، وهو في غاية الأهمّيّة في بحث تاريخ القرآن.

6 - ( تدوين كتَّاب وحي القرآن في العهد النبويّ):

إنّ القرآن نُقِلَ نقلًا كتابيًا من النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم إلى كتبة الوحي، فكان النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم يتابع كتَّاب الوحي بصورة لحظيّة وتوجيهيّة عند كتابة وحي القرآن، قال عثمان: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْء يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ يَقُولُ: «ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا»، وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا»، وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي صال الله يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» (2)وهذا يدلّ على أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم كان يوجِّه كتَّاب الوحي في ترتيب آيات القرآن وسوره.

ولم يُعِرْ الدرس الاستشراقيّ لطائفة كتَّاب الوحي اهتمامًا، وهذا فراغ في المنهجيّة

ص: 195


1- متفق عليه: أخرجه الإمام البخاري في صحيحه» كتاب الوحي باب بدء الوحي كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ الله؟ حديث رقم (6) و1902) (8/1)، (26/3)، واللفظ له، ومسلم في صحيحه» كتاب الفضائل باب كَانَ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، رقم: (2308) (1803/4)، كلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه الإمام أحمد في مسنده» من مسند عثمان بن عفان رقم: (399) (459/1-460).

العلميّة، وخلل منهجيّ في غاية الخطورة، يدلّ على انتقائيّة الدرس، ربّما أشاروا إليهم دون التعويل عليهم في نقل القرآن وكتابته، ومن دون التعمّق في دور النبي صلی الله علیه و آله و سلم معهم، وربَّما حرَّف الدرس الاستشراقيّ دور كَتَبة الوحي - على غفلة - ودورهم في الحفاظ على النصّ القرآنيّ في عهد النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وقبل وفاته، فقد اتَّخذ النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم كُتَّابًا للوحي منهم من كان يكتب أحيانًا، ومنهم من كان متفرّغًا للكتابة ومختصًّا بها ولها وكان هؤلاء الكُتّاب من خيرة الصحابة، فكلَّما أنزلت على النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم آيات من القرآن أمر كتَّاب الوحي فقال:«ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا»، وإذا أنزلت عليه آية واحدة قال: «ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا

كَذَا وَكَذَا».

وقد أفاد علماء القرآن أنّ عثمان بن عفَّان وعلي بن أبي طالب كانا يكتبان الوحيّ فإنْ غابا كتب أُبَيّ بن كعب وزيد بن ثابت فإن لم يحضر أحد هؤلاء كتب من حضر من الكتَّاب(1).

إنَّ القرآن في الحقيقة كان ينزل على النبي محمّد، فيدعو كَتَبة الوحي، فيدوّنون ما أنزل عليه آية آية، وسورة سورة بترتيبه المصحفي، فليس نزول القرآن مرتّبّا كترتيبه الحالي، فهناك نوع اختلاف بين ترتيب نزول القرآن وبين ترتيبه المصحفي، ولعلّ هذا مقصد فرانسوا ديروش فى التفرقة بين القرآن والكتاب.

7 - (تدوين القرآن بين لوحين بدلالة (الكتاب)):

لقد كان ادَّعاء فرانسوا ديروش التفرقة بين (القرآن والكتاب) وليس من شكّ في أنّ ثمّة فرق بين جمع كتاب بين دفّتين، وبين تدوين وتوثيق كلّ ما يتنزّل بالكتابة، أمّا الأوّل فكان من الصعوبة بمكان للأسباب التي أقرّ بها ديروش بموضوعيّة، وأمّا التدوين على سبيل التوثيق بالكتابة؛ فهذا قام به النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالفعل وأتمّه؛ بدليل أنّ هناك طائفة حفَّاظ القرآن وقرّائه وكتبته، فلو لم يجمع المصحف في العهد النبويّ؛ لما تيسَّر

ص: 196


1- التلمساني الخزاعي: تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحرف والصنائع والعملات الشرعية، تحقيق: أحمد محمد سلامة، ط1، الأزهر الشريف، (1995)، ص159.

ذلك لمن جاء من بعده، وكان الصحابة يتعاهدون النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالحضور لتدوين ما نزل، وبلاغه لمَن لم يحضر، وفي أدبيّات الإرث النبوي (بلّغوا عنّي ولو آية).

ومع أن ديروش كان صادقًا مع التاريخ، فبيّن أنّ القرآن أمر النبي محمّد بكتابته؛ فكتبه كتَّاب الوحي على العظمِ وجريد النخل والحجارة والجِلد، وهذا ما بيّنه علماء القرآن، لكنّه عاد على هذا ببيان أنّ كتابة القرآن يمكن مقارنتها بالكتب الموجودة لدى اليهوديّة والنصرانيّة مستدلا بقوله:«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَنَةَ وَالإنجيل(3) مِن قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ» [سورة آل عمران الآيتان 3-4]، حيث يقول: لقد جعل أنموذج أهل الكتاب، الذي يستشهد به عادة، مشروع الضبط عن طريق الكتابة مشروعًا ملحًّا ، يبدو لنا أنّه من المستبعد أن تكون نسخة مكتوبة كاملة! ثمّ تذرّع لذلك بأسباب؛ هي: أنّ النبي كان على قيد الحياة والوحي مستمرّ وفي تطوّر فكيف يكتب كتابًا كاملًا وما زال الوحي يتنزل ؟!(1).

8- (إجماع الأمّة الخاتمة على مصحف عثمان):

أجمعت الأمّة الإسلاميّة على الاكتفاء بمصحف عثمان ، وقد أُطلِقَ على مصحف عثمان الموزّع على الأمصار اسم (المصحف الإمام)(2)، وقد نسخت لاحقًا مئات بل آلاف النسخ القرآنيّة الأخرى من المصاحف التي نسخت مباشرة من المصحف العثماني ودوَّنها الملوك والحكّام وحوتها المكتبات العامّة والخاصّة وكان هذا هو الغرض من الجمع أنْ تجتمع الأمّة على رسم مصحفيّ واحد يحتوي على قراءات القرآن المعتبرة، ولا يُنكَر ظهور قراءات شاذّة أو رسم شذّ عن الرسم العثمانيّ من بعض المصاحف الأخرى التي تعتبر أخبار آحاد عن أصحابها ولا يثبت القرآن بخبر الآحاد.

كما أنّ كلَّ اجتهاد لحكّام الحواضر والدول الإسلاميّة عبر العصور المختلفة في كتابة المصاحف، فإنّه اجتهاد قائم على نمط الجهد الأوّل وسياقه المبذول في عهد عثمان

ص: 197


1- دیروش فرانسوا استعمالات القرآن بوصفه كتاباً مخطوطاً، طا، م.س، ص 8-9.
2- مصحف عثمان هو من الأعمال التي يذكرها التاريخ لسيدنا عثمان بن عفان، وكان الغرض منه توحيد الأمة في قراءاتها للقرآن، ومحو ما عداه، وسببه طلب حذيفة ذلك بعدما رأى اختلاف المسلمين على قراءة القرآن فجمعهم على مصحف الإمام، ومعلوم أن القرآن نزل على سبعة أحرف (الباحث)

بن عفان وأنّ جهود ولاة الدول وحكّامها لا تتعدّى دور إضافة تنميق المصاحف، لإخراجها في أبهى صورة ، وأيسر خطوط مقروءة أو من باب خدمة المصحف لتيسير قراءة القرآن بإضافة النقط إليه أو الشكل، فهو من باب تيسير القرآن للقراءة، وهو الغرض الأساس من وحي ،القرآن، ولا يخالفه أمر دينيّ أو شرعيّ، فأوّل القرآن نزولًا هو قوله تعالى:«اقرأ».

ص: 198

المبحث الثالث:مزاعم الاستشراق حول النص القرآنيّ

اشارة

إنّ من فروض الكفاية التي يجب أن يقوم بها أهل العلم من علماء القرآن هي الردّ على مزاعم الدرس الاستشراقيّ اليوم؛ لأنّه يقوم بافتراض أمور محتملة يعتبرها أصلًا يركن إليه، وينطلق منها في درسه للقرآن مع ادّعاء المنهجيّة العلميّة، ولقد تعدّدت رؤية الدرس الاستشراقيّ لعلاقة النصّ القرآنيّ بما قبل النبوّة وأثنائها، وما بعد عهد النبوّة المبارك (عصرالصحابة والتابعين) ولكلّ ذلك مزاعم شتّى، لذا قد قسّمتها إلى قسمة أشبه بالمرحليّة التاريخيّة وهي كما يلي:

1- النص القرآنيّ وعلاقته بما قبل النبوّة:

- علاقة النصّ القرآنيّ بالبيئة العربيّة:

ادّعى الدرس الاستشراقيّ علاقة تجمع القرآن بالبيئة العربيّة الفصيحة وبمواقف العرب من أهل مكّة قبل ظهور القرآن، فقد حاول الدرس الاستشراقيّ بكّل ما أوتي من قوّة تكلّف علاقة القرآن بما قبل النبوّة من نواحٍ عدّة في ضوء المنهج التاريخيّ والنقديّ؛ بغية إثبات علاقة البيئة العربية ب- (تكوين) النّصّ القرآنيّ على سبيل الخصوص، من خلال إثبات عربيّة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وبلاغته وتأثّره بالبيئة العربية، وما فيها من فصاحة وبلاغة -وفق زعم نويفرت في مقولتها- حتّى أتى بهذا القرآن بما أوتي من كاريزما وعبقريّة، وقد سبق التعقيب على ما في تلك المقولة من فساد.

ومن الضرورة بيان الرؤية الإسلاميّة لعلاقة النصّ القرآنيّ بالبيئة العربيّة التي كانت قبله، حيث إنّ النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لم يثبت عنه دعوى تأليف القرآن قط، كما ثبت ذلك بالقرآن نفسه؛ ما يدلّ على حقيقة علاقة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بالوحي وأنّه مجرّد متلقٍّ عن ملك الوحي جبرائيل علیه السلام وبالتالي انفصال وحي النصّ القرآني عن أيّ أثر للنبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم من تَقَوّل أو زيادة أو نقصان. قال - تعالى -:﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ

ص: 199

عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَنكُم بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»[سورة يونس الآية 16-17]، ففي هذا النصّ القرآنيّ نقاط دالّة على ما تقدّم؛ وهي:

* اشتمل قوله -تعالى-:«لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ» على ردّ تلاوة النصّ القرآنيّ إلى مشيئة الله تعالى؛ لأنّ الله هو من تكلّم به وأوحاه إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ولا دخل للنبي صلی الله علیه و آله و سلم سوى تلاوة ما انقضى الوحي به ويؤكّد ذلك قوله -تعالى-:«إِنَّ عَلَيْنَا جَمَعَهُ، وَقُرْءَانَهُ,(17) فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ,(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)[سورة القيامة، الآيات ،17-19]، فعلَّمه الله أنّ جمع القرآن أمرٌ موكول إليه - تعالى - لا إلى جهدك يا محمّد بالحفظ والترديد.

* اشتمل قوله -تعالى-:«لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ» على دعوة للرجوع إلى سيرة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وخُلُقه وسلوكه بين العرب قبل نزول القرآن، وفيه إشارة إلى البيئة الاجتماعيّة التي نشأ فيها وخرج منها ، وهذا ما أوَّلته نويفرت من تأثّر النبي محمّد بالبيئة العربيّة بفصاحتها، وتأثيره فيها.

* قوله -تعالى-:«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا»؛ أي: لا أحد أكثر ظلمًا ممّن افترى قولًا على الله لم يقله، وفيه تخويف من افتراء الكذب على الله:«وَلَوْ نَقول عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)[سورة ،الحاقة، الآيات 44-46].

-علاقة النصّ القرآنيّ بالكتب السابقة:

تعدّدت رؤية الدرس الاستشراقيّ في استفادة القرآن من الكتب السابقة، فبينما ذهب ديروش إلى أنّ كتابة القرآن مستمدّة من مفهوم كتابة الكتاب المقدّس؛ مستدلًا بقوله - تعالى -:«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَيةَ والإنجيل(3) مِن قَبْلُ هُدَى لِلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ»[آل عمران الآية3-4]، وهو استدلال لا يشهد لما قاله ديروش؛ لأنّ الكتابة فعلُ بشريُّ منذ أن عرفت البشريّة الكتابة لتدوين حضارتها، وأعظم ما دوّنته البشريّة وسطرته وحي الله لأنبيائه ورسله علیه السلام بصفة عامّة فكيف يلام نبي على كتابة وحي الله في عصرهم وادّعاء متابعة الكتب

ص: 200

السابقة في ذلك، فهذا ضرب من التجاهل لسنّة إنسانيّة لا يمكن إنكارها، بعدما عرفت البشريّة فنّ الكتابة.

كما كانت لإنجيلكا نويفرت رؤية في استفادة القرآن من الكتب السابقة من حيث اقتباس بعض المفردات والعقائد وهذا يمثّل إشكاليّة في أنّ القرآن ما زال عائقًا في قابليّة العقل الأوروبيّ وذائقته العامّة، ويرجع السبب في ذلك إلى أنّ القرآن وحي الإسلام وكتابه ،الخالد ويشكل تأثيرًا كبيرًا على البيئة الأوروبيّة؛ سواء على مستوى الفكر الأوروبيّ، أو على مستوى جغرافيّة أوروبا، وقد أخذت نويفرت مقولتها من الدراسات القرآنيّة لليهود الألمان أمثال: إبراهام جايجر.

2- النصّ القرآنيّ أثناء النبوّة ( الجمع والتدوين):

اشارة

من مسلّمات الدرس الاستشراقيّ والنظرة الغربيّة لجمع القرآن، أنّه: كتاب غير مرتَّب، وأنّ القرآن تَلخيص لأفكار محمّد، والقول بجواز تبديل الكلمات في النقل الشفاهيّ للقرآن. وإنني أؤكد ما سبق بيانه للردّ على تلك المقولات، وأقول: إنّ جمع القرآن يراد منه معنيان:

المعنى الأوّل: حفظ القرآن في الصدور، والمعنى الثاني: حفظ القرآن في السطور وبالنسبة لحفظ القرآن في الصدور فكان لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقد قال - تعالى -:«تُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمَعَهُ، وَقُرْهَانَهُ (17)فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ (18)[سورة القيامة، الآيات 16-18]، حيث إنّ الله ثبّت القرآن في صدر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان لأمّيّة الرسول دورٌ في حفظه، فمن المعقول أن يعتمد على حافظته في ما يهمّه أمره، فهذا ما ينكره الدّرس الاستشراقيّ، فادّعى أنّ القرآن من تصنيف النبي محمّد، وهذا موقف طبيعيّ مع الدرس المتعصّب الذي لو أتيت له بألف دليل منطقيّ عقليّ ما تنازل عن موقفه؛ لأنّه لو تنازل عنه لسقطت أوهام حضارته ولخالف السياق الذي وضع له، وأنيط به.

ص: 201

شبهة قلّة حفّاظ القرآن وحملته:

إنّ بعض الآثار يُفهم منها قلة حفَّاظ القرآن من الصحابة، حتّى رأى المستشرقون «أنّ الحديث النبويّ لا يعرف للقرآن إلا سبعة من الحفّاظ ابن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل، وأُبَي، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء»(1)، ففي الحديث:«خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةِ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَيِّ بْنِ كَعْبٍ»(2) وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:«مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَجْمَعِ القُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةِ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ» قَالَ:«وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ»(3) وفي حديث قَتَادَةُ :قال سألت أَنَسَ بْنَ مَالِكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ»(4).

والعدد أربعة في هذه الأحاديث لا يفيد حصر الحفّاظ في هذا العدد بعينه، إنّما أقصى دلالة فيه أنّهم أشهر حفّاظ القرآن وقرّاؤه من الصحابة، وهذا لا ينفي وجود مئات غيرهم قد جمعوا القرآن رواية ودراية أداء وحفظًا، كما أنّ هذه الأحاديث أغفلت عن ذِكْر المعلوم حفظه للقرآن؛ كالخلفاء الراشدين الأربعة وأهل بدر، والعشرة المبشرة بالجنّة.

ومن المعلوم أنّ طبقة حفّاظ القرآن وقرّائه من الصحابة، حيث أوردت كتب طبقات القرّاء مئات الحفّاظ والقرّاء من طبقة الصحابة(5)، وفي ترجمة الصحابي عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي (أبو الدرداء) قال مسلم بن مشكم قال لي أبو الدرداء: أعدد من يقرأ عندي القرآن فعدَدتُهم ألفًا وستمائة ونيفا وكان لكلّ عشرة منهم مقرئ أبو

ص: 202


1- نصري أحمد آراء المستشرقين الفرنسيين في القرآن الكريم- دراسة نقدية، م.س، ص203.
2- متفق عليه أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي رقم: (4999) اللفظ له، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضل ابن مسعود، رقم: (2464) من حديث ابن عمرو
3- أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي رقم: (5004).
4- أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي رقم (5003).
5- وقد اعتبر الذهبي طبقة الصحابة قسمين الأول: الذين عرضوا على رسول الله وهم من قرأ القرآن على النبي مباشرة وهم (عثمان وعلي وأبي بن كعب وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وأبو الدرداء، والثاني الذين عرضوا على بعض المذكورين قبلهم أي قرؤوا على من قرأ على النبي أي كان بواسطة صحابي . انظر : الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز: معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار ط1، بيروت، دار الكتب العلمية (1997م)، ص 9-33 الكبار على الطبقات والأعصار، ص9-33.

الدرداء يكون عليهم قائماً، وإذا أحكم الرجل منهم تحوّل إلى أبي الدرداء الذي توفّي سنة (32ه-)(1)، وهذا يدلّ على كثرة عدد الحفّاظ، والمستعدين لإتمام الحفظ بإتقان وتجويد مع التنبيه إلى أنّ هذه مدرسة أبي الدرداء وحده، فإن اقترن بها مدارس بقيّة الحفاظ من الصحابة لبلغ عدد حفّاظ القرآن الآلاف.

وفي السيرة والسنّة شاهد على كثرة حفّاظ القرآن من قرّاء الصحابة، الذين استشهد منهم عدد كبير كما مقتل أهل اليمامة؛ المراد بأهل اليمامة من قتل بها من الصحابة؛ ومنهم حفّاظ القرآن(2).

3- النصّ القرآنيّ بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

-شروط قبول القراءة الصحيحة:

إنَّ المصاحف القديمة أو (المخطوط القرآنيّ) موجودة اليوم بين أيدينا، والاطّلاع عليها واقتناء صورة منها أمر ممكن قد يتاح لنا اليوم؛ ما لم يكن متاحا في العصور السابقة لمن قبلنا من العلماء من الإحاطة بكثير من مخطوطات هذه المصاحف، فيمكن للباحث أن يشاهد قِطعًا من هذه المصاحف الموجودة في شتّى مكتبات العالم، ولكنّ المعضلة الكبرى تكمن في الأخذ بالمخطوط القرآنيّ واعتباره دون معياريّة واعية بخلفيّة علميّة ودراية بما ورد في كتب علماء الرسم القرآنيّ، ودون معرفة شروط قبول القراءة الصحيحة لدى علماء القراءات، وعدم معرفة كاتب المخطوط وسنده إلى النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وهذه أراها قيودًا وشروطًا لاعتبار المخطوط القرآنيّ بالدرس والبحث.

-الرسم القرآنيّ بين النحويين وأهل الأثر:

وقف العلماء من الرسم القرآنيّ موقفين: الموقف الأوّل: للقرّاء الذين يمثّلون مدرسة الرواية والأثر الموقف الثاني للنحاة الذين يمثّلون مدرسة القياس والنظر، ومع أنّ

ص: 203


1- انظر: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف: غاية النهاية في طبقات القراء، لاط مكتبة ابن تيمية عني بنشره لأوّل مرّة المستشرق ج. برجشتراسر الألماني، سنة (1351ه-)، ج 1، ص 606-607.
2- العسقلاني ابن حجر : فتح الباري شرح صحيح البخاري لا ط، بيروت، دار المعرفة سنة (1379ه-)، ج9، ص 12.

سيبويه(1) من النحاة ولكنّنا وجدناه يقول في الكتاب: «إنّ القراءةَ لاَ تُخَالَفُ؛ لأنَّ القِراءةَ السنَّةُ»(2)، فينفي مخالفة القراءة ويعتبر القرآن بقراءاته أصلاً لديه يُقاس عليه، ولا يقاس على غيره؛ فيستدلّ من قول سيبويه؛ وهو إمام النحاة أنّه «كان يحتجّ لبعض الأوجه الإعرابيّة بالقراءات»(3)، ومن هذا القبيل قال أبو جعفر النحّاس(4):«السلامة عند أهل الدين إذا صحَّت القراءتان ألّا يقال: إحداهما أجود؛ لأنّهما جميعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيأثم من قال ذلك، وكان رؤساء الصحابة ينكرون مثل هذا»(5). إذَا اعتبر النحاة القرءات في تأصيل القواعد النحويّة والصرفيّة، وكان لها أثر في فقه اللغة العربيّة، فاستثمر علماء العربيّة ما في القراءات القرآنيّة أيّما استثمار.

ولذلك فقد كان الإمام أبو عمرو الداني ينظر في المصاحف القديمة؛ لكن إذا جاء إلى مجال الترجيح، فإنّه يميل غالبًا إلى الروايات الصحيحة، وذلك لطبيعته الحديثيّة، فهو رجل محدِّث، وليس له كبير عناية بالخطوط والكتابات القديمة، فموقفه منها موقف حذر نوعًا ما، باعتبار أنّه ينظر فقط ويصف الذي يراه في ما عنده من المصاحف.

شبهة النصَ القرآنيّ والتاريخيّة:

كانت الرؤية العلمانيّة - وما زالت - تنظر إلى القرآن على أنّه نصّ من التراث، وإنّ

ص: 204


1- سيبويه : (148-180ه-) هو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه : إمام النحاة، وأول من بسط علم ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه. وصنف كتابه المسمى (كتاب سيبويه). انظر الزركلي، الأعلام ،م.س ج 5، ص 81 كحالة عمر ،رضا، معجم المؤلفين، م.س، ج8، ص 10.
2- (الكتاب) لسيبوية (ت: 180ه-)، تحقيق: د. عبد السلام محمد هارون الناشر : ، ط 3 القاهرة مكتبة الخانجي بالقاهرة، (1988م)، ج 1، ص 148.
3- شلبي عبد الفتاح إسماعيل رسم المصحف العثماني وأوهام المستشرقين في قراءات القرآن دوافعها ودفعها، ط2، جدة، دار الشروق (1983م)، ص 57.
4- أبو جعفر النحاس: (...338ه-) هو : أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري، أبو جعفر النحاس: مفسر أديب مولده ووفاته كان من نظراء نفطويه وابن الأنباري زار العراق واجتمع بعلمائه. وصنف إعراب القرآن، وناسخ القرآن ومنسوخه) انظر: الزركلي الأعلام، م.س، ج1، ص 208؛ كحالة، معجم المؤلفين، م.س، ج8، ص234. بمصر.
5- الزركشي البرهان في علوم ،القرآن، م.س، ج1، ص258؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج1، ص 281.

شأن تلك الرؤية إلى القرآن مماثل لرؤيتها إلى المعلّقات السبع الشعراء الجاهليّة، وقد تطوّرت تلك الفكرة في ما عرضه فرانسوا ديروش وإنجليكا نويفرت من رؤية جديدة للنصّ القرآنيّ، على أنّه نصٌّ له بُعدُ تاريخيّ، فأصَّلا بذلك لما سمّي ب- (تاريخيّة النصّ القرآنيّ)، وهو طرح جديد يعتبر في الحقيقة منطلقًا لإعادة النظر في التشكيل اللغويّ والدلاليّ والأنثروبولوجيّ للوحي التي تبنّاها بعض اليهود الألمان وبعض المستشرقين. وإنّ هذا الطرح الاستشراقيّ يقوم على أساس من إنكار الوحي والمعجزة القرآنيّة، فهو لا يعتبر هذه الأسس في دراسة القرآن.

وبناءً عليه يحاول إثبات الأثر الطبيعيّ في القرآن من مكوّناته البشريّة، وتأثّره بالأحداث والظروف الزمانيّة والمكانيّة، وإنّ مدى صحّة تلك الرؤية أو خطئها تتبيّن من خلال ما يعتريها من إشكالات معقّدة:

أوّلًا:علم أسباب النزول وهو يُرى فيه الدلالة الظرفيّة الدالّة على الزمان والمكان؛ بوصفهما مكوّنَين للحدث الذي من أجله نزل القرآن مع كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد«كان الصحابة في عصر النبوّة يمتثلون لمقتضى التشريع، وإن نزل في حقّ فرد أو قضيّة عيب؛ لإدراكهم أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»(1) فمهما كان من سبب نزول خاصّ بشخصٍ أو شخصين في زمن وبيئة معيّنين، تحمل الآيةُ حُكمًا شرعيًا يعمَّم على كلّ المسلمين أبدًا.

ثانيًا: عموم الخطاب القرآنيّ للإنسان وكثرة تعبيراته له؛ أيًّا كان زمانه ومكانه وبيئته فإذا تناولنا هذا الخطاب القرآني تبيّن أنّه يعمّ كلّ البشر، ففي القرآن:«يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَابِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَنْقَلَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»[سورة الحجرات، الآية 13] وعموم هذا النداء يدل على أنّه ينادي كلّ البشريّة في الماضي والحاضر والمستقبل.

ثالثًا: خطابات التشريع عامّة لجميع أفراد الأمّة، كما أنّ ما يرِد بخطاب المذكَّر؛

ص: 205


1- الريسوني، قطب النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، ط 1 ،المغرب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية سنة (2010)، ص 213

فإنّ المرأة تدخل فيه كذلك، كما في فريضة الصلاة والزكاة، يقول - تعالى-:«وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ»[سورة البقرة، الآية 43] ؛ لأنّ هذا هو عرف القرآن، ولقائل أن يقول: المرأة مخاطبة بالصلاة والزكاة على السواء، فهي داخلة في الخطاب، ولو كان الأمر كما في قوله - تعالى -: «وَأَقِمْنَ الصَّلَوَةَ وَعَاتِينَ الزَّكَوةَ» [سورة الأحزاب، الآية 33]؛ لفَهِمَ المخاطَبون خصوصيّة الخطاب بنساء النبي، وقد تختصّ المرأة بخطاب لتشريع معيِّن للنساء خاصّة، كما في قوله - تعالى -:«يَغْضُضْنَ مِنْ أَبَصَرِهِنَّ»[سورة النور، الآية 31]، وقوله - تعالى -:«فَلَا تَخَضَعْنَ بِالْقَوْلِ »[سورة الأحزاب، الآية 32] بنون النسوة الدالّة على التأنيث.

رابعًا: ما ورد في القرآن من العامّ باقٍ على عمومه والعامّ المخصَّص هو في الواقع يبقى على عمومه من حيث دلالة اللفظ ويعمل بمخصّصه وإنّ المخصَّص يكون التدبر العقليّ؛ كقوله - تعالى -:«تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا»[سورة الأحقاف، الآية 25] فلقد خصَّص العلماء منه بيوت القوم وزروعهم، وأنّ الدَّمار لحِقَ أهل العصيان فقط؛ أهل الخروج عن طاعة الله تعالى.

ص: 206

المبحث الرابع:الدراسات الاستشراقية بين الإيجابية والسلبيّات

1 - :الإيجابيّات

اشارة

إنّ درس الاستشراق كان له مزيد عناية بالقرآن الكريم؛ بغضّ النظر عن كونه درسًا منهجيًّا او غير منهجي، ومن ذلك ما يلي:

- طباعة القرآن:

ربّما تكون طباعة الاستشراق للقرآن إحدى الإيجابيّات لولا بعض الأخطاء الواردة فيها، فلقد كان من أقدم الطبعات الكاملة للقرآن طبعة للمستشرق القسّ الألماني أبراهام هنكلمان (16951652)(1) في هامبورغ (1694)، وقد حَدَّد أنّ هدفه من هذه الطَبعة ليس نشر الإِسلاَمِ بين البروتستانت وإنّما التعرف على العَرَبِيَّة والإسلام»(2)، ويلاحظ على هذه الطبعة اشتمالها على أخطاء فادحة؛ بحيث لا تكاد تخلو صفحة منها، سواء من حيث الرسم أو الضبط.

وبعد أربع سنوات قام الراهب الإيطالي لودوفكو ماراتشي (1612-1700) (Marracci,L) بتأليف كتابه (دراسة عن الإسلام) جعله مقدّمة لنشره القرآن؛ متنًا وترجمةً إيطاليّةً حرفيّةً مع شواهد من مصادر عربيّة لم ينشر معظمها حتّى يومنا هذا (بادوي 1698)(3) ولقد اختلفت عنها اختلافًا بيّنًا، وفيه اعتراف، فقال: "لو أردت وصف حياة محمّد حسب رواية كتَّابنا - يقصد المستشرقين - لتعرّضت

ص: 207


1- مستشرق ألماني ينتمي للطائفة البروتستنتية، وقد حدد أن هدفه من هذه الطبعة التعرف على العَرَبِيَّة والإسلام، انظر: زناتي، أنور :محمود تاريخ طباعة القرآن الكريم لدى المستشرقين»، مجلة دراسات استشراقية (مجلة) فصليّة تعنى بالتراث الاستشراقي عرضًا ونقدًا، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد (13) السنة الخامسة شتاء 2018م/1439ه-).
2- م.ن، ص 23.
3- انظر العقيقي المستشرقون، م.س، ج1، ص 361-362؛ زناتي، أنور محمود، تاريخ طباعة القرآن الكريم لدى المستشرقين»، مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، م.س، العدد الأول سنة 2019، ص49

السخريّة المسلمين، فإنّ هناك اختلافًا كبيرًا بين ما نتناقله نحن عن محمّد وبين ما يرويه المؤرّخون المسلمون"(1)، وهذا اعتراف يدلّ على اختلاف رؤية الغرب لشخصيّة النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، وعلاقته بالنصّ القرآنيّ؛ بقدر ما هو صدق مع النفس، حيث إذا تحلَّى بها المستشرق في درسه وبحثه؛ لبلغ من الفهم والإدراك مبلغًا من الحقّ العلميّ.

- الأعمال الموسوعيّة للقرآن:

ربّما تميّزت المدرسة الألمانيّة الاستشراقيّة بنقلة نوعيّة في درسها، تبدو في الانتقال من الدرس الفرديّ القائم على الجهود الفرديّة إلى الدرس الجمعيّ القائم على هيئات ومؤسّسات، فهذا مشروع (الموسوعة القرآنيّة) لنقد القرآن الكريم(2)، الذي ابتدأه برجشتراسر وتوالى عليه العديد من المستشرقين؛ مثل برتسل وإنجليكا نويفريت؛ حتّى ظهر مشروع جديد (مشروع القرآن الأوروبيّ) الكتاب الإسلاميّ المقدّس في الدين والثقافة الأوروبيّة بين (1150-1850) وقد دعت إليه هيئة الأبحاث الأوروبيّة(3)، ومدّة إنجاز المشروع حُدّدت ب- 6 سنوات من سنة (2019م)، ويشرف على هذا المشروع أربعة من العلماء في مجال العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة من أربع جامعات مضيّفة(4).

فهذا المشروع وما قبله يدلّان على تلك النقلة النوعيّة، فلا زالت جهود المستشرقين متواصلة مستمرّة في جهود جمعيّة لا فرديّة، كما يدلّ على ذلك مشروع القرآن الأوروبيّ، وتوالي جهود الاستشراق لدراسة القرآن من علماء الاستشراق في حواضر أوروبا وأميركا واجتماعهم وتوحيد هدفهم ، حيث تبدو أهمّيّة هذا المشروع من خلال أهدافه، فيهدف "إلى درس أساليب انغراس الكتاب الإسلاميّ المقدّس (القرآن الكريم) في التاريخ الفكريّ

ص: 208


1- حينوني رمضان المستشرقون وبنية النص القرآني، لاط، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، 2013، ص24.
2- سبقت الإشارة لبداية المشروع مع برجشتراسر، والذي استكملته إنجليكا نويفرت
3- هيئة الأبحاث الأوروبية هي هيئة حديثة نسبيًّا أنشأت سنة 2007 تهدف إلى الحث على تحقيق أعلى مستوى من الأبحاث في القارة الأوربية عبر التمويل التنافسي ودعم الأبحاث المتقدمة في مجالات عدة، على قاعدة التميز العلمي، وتسعى إلى إنجاز الأبحاث القيمة موضع الاهتمام والحاجة . انظر : مشروع القرآن الأوربي، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر)، م.س، العدد الأول، ص56.
4- م.ن، ص 56-57

والدينيّ والثقافي للمسيحيّين واليهود والمفكّرين المتحرّرين والملحدين والمسلمين في أوروبا أثناء القرون الوسطى والعصر الحديث"(1).

إنّ الفترة التي يشملها (مشروع القرآن الأوروبيّ) طويلة نسبيًّا، فهي تمثّل سبعة قرون ميلاديّة، وفيها الكثير من الأحداث الفاصلة، ففيها جانب من نهاية الحروب الصليبيّة وآثارها المترتّبة، وكذلك فيها أحداث الحملة الفرنسيّة على مصر والشرق وما لها من تبعات لاحقة، وفيها أيضًا فترة امتداد الاحتلال الأوروبيّ العسكريّ لدول الشرق الإسلاميّ ،وغيره وكذلك فيها بداية نهاية المسألة الشرقيّة وما طواها من معاهدات واتفاقيّات وحروب، وربّما يدلّ هذا على محاولة تجديد الرؤية الغربيّة للشرق، أو يدلّ

على تحضير استراتيجيّة جديدة، وربّما يكون لبعض "المسلمين" دور فاعل فيها، ويكون نهاية لحالة ما يُسمّى بالإسلاموفوبيا التي تعيشها أوروبا والغرب اليوم، وهذا يتوقّف على مدى الوعي الإسلاميّ بهذا المشروع وأهدافه ونتائجه، ومتابعة الأمر.

- عقد المؤتمرات الاستشراقيّة للقرآن:

قام علماء الاستشراق بعقد مؤتمرات استشراقيّة دوليّة لدراسة القرآن، ومع أنّ فكرة عقد مؤتمرات علميّة فكرة جيّدة لا بأس فيها تثري الحركة الفكريّة بصفة عامّة، خاصّة إذا حضرها المعنيّون بالدراسات القرآنيّة لعرض الرؤية الإسلاميّة للقرآن ودراساته.

وهذه المؤتمرات تتّسم بانعدام الموضوعيّة والإنصاف لدى القائمين عليها، والدليل على ذلك أنّه لم يستدعَ، ولم يُدعَ علماء الإسلام الجديرين من أهل الاختصاص في علوم القرآن للمشاركة في تلك المؤتمرات؛ إلا قلّة، وبعضهم يتّسم بفكر منحرف، أو ربيب فكر مستغرب موجَّه من لدن أعيان الدرس ،الاستشراقيّ، والأغرب هو استدعاء رجال دين من الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، فعجبت لمن يُدعى لمؤتمر علميّ بصورة مخالفة للمنهجيّة العلميّة التي يشهد أهل العلم على مستوى العالم بضرورة توفّرها في دارس وباحث متخصّص في القرآن.

ص: 209


1- (مشروع القرآن الأوربي، مجلة القرآن والاستشراق المعاصر)، م.س، العدد الأول، ص56.

2 - السلبيات:

- مغايرة المنهجيّة العلميّة:

إنّ السعي لأعمال موسوعيّة للقرآن وعمل مؤتمرات استشراقية لدراسة القرآن ظاهرها إيجابي، لكنّ باطنها أمور مضادّة للقرآن، حيث يضع المستشرقون منهجية علمية لإقامة مشروعات كبرى وموسوعات معنية بدراسة القرآن(1) في كنف الأروقة والأقسام العلميّة في الدول الأوروبيّة لدراسة القرآن، ولكن بالعقليّة الأوروبيّة المغايرة للذائقة القرآنيّة؛ بمعانيها الدينيّة، وكذلك لا يُستدعى إلى المشاركة في تلك الموسوعات من أهل الإسلام إلا أهل الفكر المنحرِف أو الفكر الموجَّه من أوروبا والغرب بصفة عامّة، في حين أنّ القرآن تجاوز حواجز الجغرافيا والتاريخ بفضل مقاصده الإنسانيّة العامّة.

ثمّ أعجب العجب أنّهم يقدّمون نتائج مغايرة للفهم الصحيح للقرآن وأهله، الذين نزل بينهم وفيهم القرآن؛ ألا يدلّ هذا على تعدّي القرآن حاجز الإقليميّة إلى العالميّة؟! فمتى يقرّ الناس بضرورة موضوعيّة الدرس الاستشراقيّ العلميّ؟ ومتى يخاطبون أهل الشأن ولا يخاطبون أنفسهم بأعمالهم؟ ومتى يحتاطون لما يصلون إليه من نتائج علميّة أشبه بها بأمور ظنّيّة واهمة، حيث تبدأ وتنتهي من مسلمات واحدة لا تتغيّر ولا تتبدّل ؟!

- تفكيك الدرس الاستشراقيّ للقرآن:

تبدو علاقة الدرس الاستشراقي بالقرآن جليّة وواضحة في أمور؛ هي:

قامت دراسات المستشرقين للقرآن بتفكيك النصّ القرآنيّ وفق نظريّات غربيّة حديثة أَجرُوها على القرآن لا تصلح لتناوله بالدرس ومن الواضح سوء النّيّة، وتقديم نتائج مسلَّمة على مقدّماتها، فلا يتمحور البحث الاستشراقيّ حول إثبات النصّ القرآنيّ أو إثبات مدى علاقة المخطوط القرآنيّ بالنصّ، وإنّما يسعى إلى تفكيك القرآن، ويظهر ذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى: التاريخ؛ لأنّ التاريخ يعرض لأهمّ الأحداث، ومن أهمّ أحداث العرب

ص: 210


1- كما سبق تولي المستشرقة إنجليكا نويفرت الشأن العلمي للموسوعة القرآنية الألمانية، ومشروع قرآنيكا.

وقوع دعوى النبوّة الخاتمة على لسان النبي محمّد بن عبد الله، وهنا تنوّع العرض للحدث بين موضوعيّ منصف، أو جاحد مجحف، والأمر لا يسلم فتنازل المستشرق عمّا ورثه من ثقافته وبيئته وديانته من أشقّ ما يمكن معالجته ويبدو أنّ منهج الاستشراق في دراسة القرآن انطلق من خلال أنّ القرآن (نصّ تاريخيّ) بمعنى «ارتباطه بواقعه الزمانيّ والمكانيّ الذي نزل فيه، ولا يعدو أن يكون نتاجًا لظروف اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة أسهمت في تشكيله؛ ممّا يجعل القرآن عارضًا في تأثيره، محصورًا في بيئة نشأته غير منفك عن دواعي تشكّله الأول»(1)، ولا أظنّ أنْ ينجح الاستشراق في تفكيك النصّ القرآنيّ من أيّ ناحية من النواحي.

الناحية الثانية: اللغة العربيّة، فالقرآن نزل على نبي عربيّ مدوّنا بلغة عربيّة وكان جامعوه خلفاء عرب بعد وفاة النبي، واشتمل القرآن على معان إنسانيّة بلغة عربية، فهو كتاب خاطب البشرية، قال - تعالى-:«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعلمُهُ، بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَفٌ مُّبِينٌ» [سورة النحل، الآية 103]، فكانت عربية النبي محمّد صلی الله علیه و آله و سلم نقطة الردّ على شبهة أنّ محمّدًا علَّمه رجل أعجميّ.

وبعد.. فهذه الدراسة حاولت من خلالها وضع تصوّر عن المدرستين الاستشراقيّتين الفرنسيّة والألمانيّة، مبيّنًا أنموذجًا لكلّ منهما، والردّ على مقولات كلّ منهما. وإنّ الدرس الاستشراقي إمّا يعلم الرؤية الإسلاميّة للقرآن ويتغافل عنها، وإمّا لم تصله بعد تلك الرؤية، لذلك فمن الضروري وضع الرؤية الإسلاميّة موضع التوجيه للدراسات القرآنيّة لئِلا تعبث بمفاهيم القرآن ومصطلحاته ومسائله أيدٍ عابثة.

ص: 211


1- انظر الريسوني قطب النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، ط 1 ، المغرب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية 2010، ص 209-210.

الخاتمة :

الدرس الاستشراقيّ مدارس شتّى تصبّ بأغلبها في قوالب واحدة صمّاء، يستقي بعضها من بعض مقولات واحدة، وإن تعدّدت طرق العرض والطرح على طاولة البحث والدرس؛ لذا كان (الفصل الأوّل) فيه إشارة إلى بداية الاستشراق، وبيان لتصنيف المدارس الاستشراقيّة بصفة عامّة، ثمّ تناولت الدراسة بالتفصيل مدرسة الاستشراق الفرنسيّ ومدرسة الاستشراق الألمانيّ خاصّة من ناحية دراستهما للقرآن.

وقد اتّخذ الدرس الاستشراقيّ في القرنين العشرين والحادي والعشرين من القرآن موضوعًا له وما يزال، وربّما سيظلّ كذلك إلى ما شاء الله مع كونه ينكر أنّ القرآن كلام الله ووحيه كالتوراة والإنجيل وهو أمر يثير شكوكّا وتساؤلات حول المنهجيّة العلميّة الاستشراقيّة؛ حيث يضعها على المحكّ، مع العلم أنّه قد خلت الساحة أو كادت أن تخلو من ذلك الدرس الجادّ للقرآن على مدى قرون ،ماضيّة، فلماذا الدرس الاستشراقىّ للقرآن اليوم؟ وما فائدته ؟ وكيف تتحقّق جدّيّة الدرس الاستشراقيّ للقرآن؟ أعتقد أنّ الإجابة على تلك الأسئلة اتّضحت في (الفصل الثاني)، من خلال عرض أنموذج الاستشراق الفرنسيّ (المستشرق فرانسوا ديروش)، وأنموذج الاستشراق الألمانيّ (المستشرقة أنجليكا نويفرت)، فتتّضح تلك الرؤية للدرس الاستشراقيّ.

وقد تبيّن أنّ الدرس الاستشراقيّ بحث القرآن من الحيثيّات الآتية:

درس قضيّة جمع القرآن وتدوينه؛ ليزيح عن القرآن السمة الإلهيّة، أو يُبيّن دور البشر في ذلك الجمع أو هذا التدوين.

- بيّن رسم القرآن المصحفيّ غير المعهود، مع أنّ الدرس الاستشراقيّ لا يؤمن بهذا الكتاب أصلا؟!

- تناول المخطوط القرآنيّ بغرض إظهار مخالفة المخطوط لواقع النصّ القرآنيّ، فلا يهتمّ المستشرق بثبوتيّة النصّ القرآنيّ به؛ لأنّ ثبوت النصّ ليس غرضًا للدرس الاستشراقيّ

ص: 212

للمخطوط القرآنيّ، ومهما ثبت قِدَم المخطوط القرآنيّ أو قَرب عهده بعهد النبوّة، أو الصحابة؛ ليتبيّن صلته بالنبي محمّدصلی الله علیه و آله و سلم، أو عهد الصحابة، فلن يقرّ المستشرق للقرآن بالثبوت؛ فالأمر أعمق من ذلك بكثير.

- درس المفردة القرآنيّة حتى يدّعي الاقتباس أو التناصّ من الكتب السابقة، أو يضفي عليها مزيدًا من إنسانيّة البناء، أو تاريخيّة الجمع.

وفي الفصل الثالث؛ إشارة عابرة إلى فرائض كفائيّة، وضرورات علميّة؛

وهي:

- ضرورة الردّ والتقويم والتحليل لمزاعم الدرس الاستشراقيّ، لذلك فإنّ ضرورة الوقت تحتّم على أهل العلم الوقوف على الفوائد المستفادة من دراسة الاستشراق لقضايا عديدة متعلّقة بالقرآن وعلومه؛ من تاريخ جمع القرآن وتدوينه، ودراسة المخطوط القرآنيّ، وغير ذلك من القضايا، أمر ضروريّ للتحليل والنقد.

- ضرورة عرض الرؤية الإسلاميّة التي قامت عليها حضارة المسلمين على مدى قرون بعيدة ولا تزال تلك الرؤية محطّ عناية أهل الإسلام؛ سواء اعترف بذلك المستشرقون أم لا.

- الدرس الاستشراقيّ عرض كتاب المسلمين للدرس؛ ليلقي الضوء على المخطوط القرآنيّ، إما لسائر المسلمين، أو لأتباعه من المستشرقين وهنا أتساءل: هل يريد الدرس الاستشراقيّ أنْ يُضيء الطريق للمسلمين أنفسهم؛ ليعلّمهم كيف يدرسون قرآنهم؟ أو يريد الدرس الاستشراقيّ طلب الحقيقة لأتباعه ؟ فإن كانت الأولى - وهو طلب الحقيقة للمسلمين فعند المسلمين علم راسخ متواتر جيلًا عن جيل يُؤمَن التواطؤ فيه على

صاد الله الكذب بقبول القرآن من خلال السند العلميّ المتصل بالنبي محمّدصلی الله علیه و آله و سلم، وإن كانت الثانية وهو طلب الحقيقة لأتباعه - فلو طلب الحقيقة؛ لما رفض الإذعان لها، بعدما يتوصّل إليها، لكنّه يتملّص من النتائج العلميّة الثابتة المنتجة بالمقدّمات الصحيحة، ولكن يبدو أنّ للدرس الاستشراقيّ مآرب أخرى، ودوافع مستخفاة؟! تلك المآرب التي تتّضح بمجرّد الوقوف على مقولات الدرس الاستشراقيّ.

ص: 213

- إنّ الدرس الاستشراقيّ غفل عن نقطة في غاية الأهمّيّة؛ وهي: دور الصحابة -وهم الجيل الأوّل بعد النبي محمّدصلی الله علیه و آله و سلم- في كتابة القرآن الكريم، ثمّ جمعه وتدوينه - في حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وبعد وفاته - فكان اهتمامهم حفظًا وتدوينًا، وجمعًا وتوثيقًا ومع كون هذه المسألة داخلة في المنهجيّة التاريخيّة التي انتهجها جون وانسبور، ومن بعده نويفرت لكنّهم انصرفوا عنها واعتبروا دور الصحابة في إنشاء النصّ ذاته وهو جيل متّبع للنبي عند جمع الوحي لنصّ القرآن مسطورًا من خلال كتَّاب الوحي وبوسائط تدوين وتوثيق معتبرة، وإن كانت أوّليّة بدائيّة، فهي منتهى أسباب ذلك العصر، وبنقلٍ شفاهيّ محفوظٍ في الصدور؛ من فم النبي إلى آذان الصحابة، ثمّ التابعين.

ص: 214

المراجع والمصادر

أولاً: مراجع الاستشراق «الأجنبيّة المعرَّبة»:

1. رودي بارت المستشرق الألماني (الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية - المستشرقون الألمان منذ تيودور

نولدکه) ترجمة د. مصطفى ماهر طبع المركز القومي للترجمة العدد (1784) سنة (2011).

2. المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه (الله ليس كذلك)، ترجمة: د. غريب محمد غريب الناشر: دار الشروق ط2

سنة (1996م).

3. المستشرق الألماني مراد هوفمان (خواء الذات والأدمغة المستعمرة)، ترجمة: نعمت ،جعفر الناشر: مكتبة الشروق

الدولية، ط2، سنة (2011م).

4. المستشرق ستانوود كب (المسلمون في تأريخ الحضارة)، ترجمة: محمد فتحي عثمان الناشر: الدار السعودية للنشر

والتوزيع، ط/2، سنة (1985م).

5. المستشرق آدم ميتز (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) ترجمة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة سنة (2008م).

6. المستشرقة الألمانية آنا ماري شميل (الإسلامدين الإنسانية) ترجمة: صلاح عبد العزيز محجوب، الناشر: مجلة الأزهر الشريف، عدد ( ذي الحجة 1438ه- / سبتمبر 2017م).

7. إيمانويلا ستيفانيدز، (القرآن خطيًّا دراسة في الترتيب الزمني لسور القرآن في كتاب تاريخ القرآن)، تعريب حسام صبري، مركز تفسير للدراسات القرآنية المملكة العربية السعودية، دون طبع وتاريخ.

8. طيار التي قولاج : محاضرة (المصاحف المنسوبة إلى عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم) ترجمة الأستاذ معتز حسن وعلق عليها الأستاذ أحمد وسام شاكر (دون طبع) سنة (1435).

9. الأستاذ أمين معلوف، (الحروب الصليبية كما رآها العرب)، ترجمة: أمين ،دمشقية، ط2، دار الفارابي بيروت لبنان (1998م).

10. المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش (المدخل إلى علم الكتاب المخطوط بالحرف العربي) تعريب أيمن فؤاد سيد الناشر: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، سنة (2005).

11. المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش بحث بعنوان: (استعمالات القرآن بوصفه كتابًا مخطوطا)، ترجمة: سعيد البوسكلاوي الدراسات والأبحاث قسم الدراسات الدينية - الحقوق محفوظة لموقع مؤمنون بلا حدود سنة (2017).

12. المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش بحث بعنوان:(ضبط الكتابة حول بعض خصائص المصاحف الفترة الأموية) تعريب مصطفى أغسو، نشر مركز تفسير للدراسات القرآنية المملكة العربية السعودية، بالموقع الإلكتروني، دون طبع، وتاريخ.

ص: 215

13. الأستاذ ياسين دتون (مصاحف الأمويين نظرة أولية لفرانسوا ديروش) ترجمة هند مسعد نشر مركز تفسير للدراسات القرآنية المملكة العربية السعودية، بالموقع الإلكتروني، دون طبع، وتاريخ.

14. المستشرق کلیفورد ،بوزورث د حسن نافعة (تراث الإسلام) ترجمة د. حسين مؤنس، سلسلة عالم المعرفة الكويت (1978م).

15. المستشرقة الألمانية أنجليكا نويفرت (القرآن بوصفه نصًّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة) ترجمة بدر الحاكيمي، قسم الدراسات الدينية الدراسات والأبحاث جميع الحقوق محفوظة لموقع مؤمنون بلا حدود سنة (2019).

16. المستشرق الفرنسي جاك بيرك، (حينما كنت أعيد قراءة القرآن) نشرته مجلة القاهرة ترجمة: وائل غالي، بعددها (154) سبتمبر (1995).

17. المستشرق تيودور نولدکه (تاریخ القرآن) ترجمة: د. رضا محمد الدقيقي، ط2، وزارة الأوقاف القطرية، ودار النوادر سوريا لبنان سنة (2011).

18. المستشرق الألماني جوتهلف برجشتراسر ، (أصول نقد النصوص)، إعداد د. محمد حمدي البكري، ط2، دار الكتب

والوثائق القومية مركز تحقيق التراث مصر، سنة (1995).

19. المستشرق كارول كرستين، وجون وانسبور (عرض كتاب الدراسات القرآنية مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدسة) ترجمة هند ،مسعد، تم نشر هذا المقال في الدورية الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية، مجلد 23 رقم 1 نوفمبر (2006م).

20. المستشرق الأب آي بي بارانايتس، (فضح التلمود تعاليم الحاخامين السرية)، إعداد زهدي الفاتح، الناشر: دار النفائس، ط4 (1991م).

21. المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون،(حضارة العرب)، ترجمة: عادل زعيتر الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتاب

سنة (2000).

22. المستشرق ويل ديورانت (قصة الحضارة) ترجمة: محمد بدران الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة (2001).

23. المستشرقة كارين أرمستروج، (سيرة النبي محمد) ترجمة د. فاطمة نصر، د. محمد عناني، الناشر: دار سطور بالقاهرة، ط2، (1998).

24. المستشرق نفتالي فيدر (التأثيرات الإسلامية في التعاليم اليهودية)، ترجمة: محمد سالم الجرح مركز الدراسات الشرقية، القاهرة (1965م).

25. جوستاف فون جرونیباوم (حضارة الإسلام) ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة (2014).

26. المستشرق الألماني أبراهام جايجر، (الإسلام واليهودية) ترجمة وتحقيق: نبيل فياض ط دار الرافدين للطباعة والنشر

والتوزيع، بغداد، بيروت، الأولى سنة (2017م).

ص: 216

27. مستشرق أمريكي مجهول الاسم (التوراة غاياتها وتاريخها)، ترجمة: سهيل الديب الناشر: دار النفائس بدون ثانيًا: مراجع الاستشراق العربية:

28. د. إدوارد سعيد، (الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق) ترجمة د. محمد عناني، ط1، رؤية للنشر والتوزيع القاهرة (2006م).

29. نجيب العقيقي (المستشرقون) الناشر: دار المعارف القاهرة - مصر، ط3، (1964م).

30. د. عبد الرحمن بدوي، (موسوعة المستشرقين)، ط3، دار العلم للملايين بيروت (1993).

31. د. عبد الرحمن بدوي، (دفاع عن القرآن ضد منتقديه) ترجمة كمال جاد الله الناشر: الدار العالمية للكتب والنشر،

.بدون.

32. د.رشدي ،فکار نهاية عمالقة الغرب)، ط مكتبة وهبة مصر سنة (1989).

33. د. محمود حمدي زقزوق (الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري) الناشر : دار المنار، القاهرة، ط2، سنة

(1989).

34. د. محمود المقداد (تاريخ الدراسات العربية في فرنسا) العدد (167) من سلسلة عالم المعرفة، الكويت، سنة في نوفمبر سنة (1992م).

35. د ثمامة فيصل بن أبي المكارم (هل في القرآن كلمات أعجمية ؟ دراسة تحليلية لآراء العلماء العرب والمستشرقين)

جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية (فرع لكناو)، قسم اللغة العربية.

36. د. عبد الجليل شلبي، الإسلام والمستشرقون مطبوعات الشعب بمصر سنة (1977م).

37. عبد الرحمن حسن حَبَنَّكَة الميداني (أجنحة المكر الثلاثة التبشير الاستشراق الاستعمار دراسة وتحليل وتوجيه دراسة منهجية شاملة للغزو الفكري) الناشر : دار القلم دمشق، ط8 (2000م).

38. الأستاذ محمد علي الغتيت (الشرق والغرب من الحروب الصليبية إلى الحرب السويس)، ط الدار القومية للنشر،مصر، دون تاریخ.

39. د. محمد فاروق النبهان (الاستشراق تعريفه مدارسه آثاره) الناشر: منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم إيسيسكو، الرباط المغرب سنة (2012م).

40. د. أحمد نصري، (آراء المستشرقين الفرنسيين في القرآن الكريم دراسة نقدية)، الناشر: دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة (2009).

41. د. قطب الريسوني، (النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر)، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، الطبعة الأولى سنة (2010).

42. د. غسان حمدون، (كتاب الله في إعجازه يتجلى) مركز عبادي للدراسات والنشر سنة (2002).

ص: 217

43 .د. مصطفى السباعي (الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم)، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق (1985).

44. مصطفى كامل الزعيم الوطني المصري (في المسألة الشرقية) دراسة: مصطفى غنايم، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة (2008)، (ص: 19).

45 .د. مصطفى الحفناوي، (قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة)، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب (2015م).

46. د نعمان عبد الرزاق السامرائي، (الماسونية واليهود والتوراة) ط دار الحكمة دون طبعة وتاريخ.

47. د. هدى درويش (الصلاة في الشرائع القديمة والرسالات السماوية - دراسة مقارنة)، معهد الدراسات الأسيوية جامعة الوقازيق عيد للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ط1، (2006م).

48. د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، (بنو إسرائيل في القرآن والسنة) ط دار الشروق القاهرة، سنة (2000م).

49. د. على عبد الواحد وافي (الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام) الناشر : دار نهضة مصر ط6، سنة (2004م).

50. د. عبد الراضي محمد عبد المحسن (الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي)، (د. ط. ت).

51. د. علي إبراهيم النملة (إسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي والإسلامي)، ط1 مكتبة الملك فهد الوطنية الرياض سنة 1996م.

52. عبد الله محمد الأمين النعيم (الاستشراق في السيرة النبوية) الناشر : المعهد العالمي للفكر الإسلامي الطبيعة الأولى (1997).

53. د. قاسم عبده قاسم (ماهية الحروب الصليبية)، سلسلة عالم المعرفة الكويت العدد (149)، (1990م).

54. د. محمد البهي (المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام) الناشر : الأزهر الشريف الإدارة العامة للثقافة الإسلامية (دون ط، ت).

55. د. صلاح الدين المنجد (المستشرقون الألمان)، ط1، دار الكتاب الجديد، بيروت، (1978).

56. د. رمضان عبد الباسط سالم ،رفاعي (الألمانية زيجريد هونكه وتصحيح صورة الإسلام في الغرب) طبع القاهرة

(2009).

57. رمضان حينوني (المستشرقون وبنية النص القرآني)، الناشر: دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، سنة (2013م).

58. محمد حسين أبو العلا، (القرآن وأوهام مستشرق)، الناشر : المكتب العربي للمعارف، بدون.

59. د. ناصر بن محمد المنيع، (المستشرق الألماني برجشتراسر وآثاره في الدراسات القرآنية ومنهجه فيها)، مجلة جامعة الملك سعود، عدد يناير سنة (2010).

60. د. محمود محمد الطناحي، (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي)، مكتبة الخانجي القاهرة، ط1، سنة (1984م).

61. د. أحمد العلاونة (محمود الطناحي عالم العربية وعاشق التراث)، ط1، دار القلم دمشق (2001م).

ص: 218

ثالثًا: المصادر والمراجع الإسلامية:

62. الإمام الشافعي المطلبي القرشي (الرسالة)، تحقيق: أحمد شاكر الناشر: مكتبه الحلبي، مصر، الطبعة الأولى (1940).

63. محمد بن جریر بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي الناشر : دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط1، (2001م).

64. إسماعيل بن عمر بن كثير أبو الفداء القرشي البصري، (تفسير القرآن العظيم)، تحقيق: محمد حسین شمس الدین،

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، ط1، (1419ه-).

65. علي الواحدي النيسابوري، (أسباب نزول القرآن)، تحقيق: عصام بن عبد المحسن الحميدان الناشر: دار الإصلاح - الدمام السعودية، ط2، (1412ه- / 1992م).

66. الراغب الأصفهاني، (المفردات في غريب القرآن)، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، طبع دار القلم الدار الشامية دمشق بيروت، ط1، 1412ه-).

67. محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (الانتصار للقرآن) تحقيق د. محمد عصام القضاة، الناشر: دار الفتح عَمَّان دار ابن حزم ،بیروت، ط1، 1422ه- / 2001م).

68. جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي (فنون الأفنان في عيون علوم القرآن) الناشر: دار البشائر، بيروت لبنان، الطبعة الأولى (1987م).

69. محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي أبو عبد الله بدر الدين (البرهان في علوم القرآن)، تحقيق د. محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه بالقاهرة ط1، (1957م).

70. عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب)، تحقيق: التهامي الراجي الهاشمي، الناشر: مطبعة فضالة بإشراف صندوق إحياء التراث الإسلامي، المشترك بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية بدون.

71. عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، (الإتقان في علوم القرآن)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع مكتبة دار التراث القاهرة بدون.

72. أبو بكر بن أبي داود عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (المصاحف)، تحقیق: محمد بن عبده الناشر: الفاروق الحديثة، بالقاهرة، ط1، (1423ه-/2002م).

73. عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني، (المحكم في نقط المصاحف)، تحقيق د. عزة حسن الناشر:

دار الفكر ،دمشق، ط2، (1407ه-).

74. محمد بن محمد بن يوسف أبو الخير ابن الجزري، (منجد المقرئين ومرشد الطالبين)، الناشر: دار الكتب العلمية، ط1، (1999م).

75. محمد بن محمد بن يوسف شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، (غاية النهاية في طبقات القرا) الناشر: مكتبة ابن

ص: 219

تيمية، وقد عني بنشره لأول مرة المستشرق الألماني ج. برجستراسر، سنة (1351ه-).

76. شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قائماز الذهبي (معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار)، الناشر : دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1997م)، (ص 9-33).

77. شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قائماز الذهبي، (المغني في الضعفاء)، تحقيق: نور الدين

العتر الناشر : إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، سنة (1987م).

78. ابن حجر العسقلاني (ت: 852ه-)، (لسان الميزان) تحقيق عبد الفتاح أبو غدة الناشر: دار البشائر الإسلامية الطبعة الأولى (2002م).

79. أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني النسائي (ت 303ه-)، (الضعفاء والمتروكون) تحقيق: محمود إبراهيم زايد الناشر: دار الوعي حلب، الطبعة: الأولى، (1396ه-).

80. أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي (ت: 806ه-)، ذيل ميزان الاعتدال) تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، الناشر : دار الكتب العلمية - بيروت، .81 الطبعة: الأولى، (1995م).

81. محمد بن أحمد المصنعي العنسي (مصباح الأريب في تقريب الرواة الذين ليسوا في تقريب التهذيب)، الناشر: مكتبة صنعاء الأثرية، اليمن، والفاروق الحديثة للطباعة والنشر ، مصر ، الطبعة: الأولى (2005م).

82. أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي المكي (ت: 322ه-) ، (الضعفاء الكبير)، تحقيق: عبد المعطي

أمين قلعجي، الناشر: دار المكتبة العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، سنة (1984م).

83. مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني (الهادي والمهتدي)، طبع على نفقة الشيخ جمعان بن حسن الزهراني، ط1، (2015م).

84. محمد بن علي بن أحمد شمس الدين الداوودي المالكي (ت: 945ه-)، (طبقات المفسرين)، الناشر: دار الكتب

العلمية بيروت (د. ت).

85. علي بن محمد بن أحمد بن موسى ابن مسعود الخزاعي التلمساني، (تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد

رسول الله من الحرف والصنائع والعملات الشرعية) تحقيق: أحمد محمد سلامة، ط الأزهر الشريف (1995).

86. الزُّرّقاني، الشيخ محمد عبد العظيم (مناهل العرفان في علوم القرآن)، ط3، مطبعة عيسى البابي الحلبي، (د. ت).

87. .أ. د. محمد عبد المنعم القيعي (الأصلان في علوم القرآن الناشر: حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، الطبعة: الرابعة (1996م).

88. عبد الرحمن عزام (الرسالة الخالدة)، ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لجنة التعريف بالإسلام، القاهرة، سنة (1964م).

89. نور الدین محمد عتر الحلبي (علوم القرآن الكريم)، الناشر: مطبعة الصباح - دمشق الطبعة: الأولى، (1993م).

ص: 220

90. د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، (رسم المصحف العثماني وأوهام المستشرقين في قراءات القرآن دوافعها ودفعها)، الناشر: دار الشروق بجدة، ط2، (1983م).

91. د. السيد رزق الطويل، (مدخل في علوم القراءات) الناشر : المكتبة الفيصلية، ط1 سنة (1985م).

92. د. صبحي الصالح، (مباحث في علوم القرآن)، ط: دار العلم للملايين ط24 سنة: (2000م).

93. د. لبيب السعيد، (الجمع الصوتي الأول للقرآن)، الناشر : دار المعارف، مصر، (د. ت) .

94. د. علي بن سليمان العبيد (جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة)، الناشر: مجمع الملك فهد لطبع المصحف الشريف

بالمدينة المنورة (د. ت).

95. عبد الله بن يوسف بن عيسى بن يعقوب اليعقوب الجديع العنزي، (المقدمات الأساسية في علوم القرآن)، نشر مركز

البحوث الإسلامية ليدز بريطانيا، ط1، (2001م)، (ص: 182).

96. إبراهيم محمد الجرمي (معجم علوم القرآن)، الناشر: دار القلم - دمشق، ط1، 2001 م).

97. أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي أبو العباس شهاب الدين (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة) تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي الناشر: دار الوطن للنشر الرياض، ط1، (1999م).

98. زيد بن عبيدة بن ريطة النميري البصري أبو زيد الشهير ب- (عمر بن شبة)، تاريخ المدينة)، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، طبع في جدة السعودية، على نفقة متبرع، سنة (1399ه-).

99. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، (دراسات في علوم القرآن الكريم) الناشر: حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، ط12، (2003م).

100. علي بن إسماعيل الأبياري، (التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه) تحقيق د. علي بن عبد الرحمن بسام

الجزائري الناشر : دار الضياء - الكويت ط1، (1434ه- / 2013م).

101. عبد الوهاب خلاف (علم أصول الفقه)، الناشر: مكتبة الدعوة القاهرة، بدون.

102. علي بن محمد الشريف الجرجاني (التعريفات)، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، ط1، 1403ه- / 1983م).

103. أيوب بن مو موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي،(الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية)،

تحقیق: عدنان درویش محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت بدون.

104. محمد محمد الدهان (قوى الشر المتحالفة)، الناشر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع بالمنصورة، مصر سنة (1988).

رابعًا: الرسائل العلمية والموسوعات والمجلات:

105. أطروحة الدكتوراه في جامعة الكوفة، كلية الفقه بعنوان: (الدراسات القرآنية في الاستشراق الألماني)، للباحثة: سحر

جاسم عبد المنعم الطريحي بإشراف د. محمد حسين علي الصغير والتي أجيزت للمنح (2012).

ص: 221

106. أبو زرعة الرازي (الضعفاء) تحقيق: سعدي بن مهدي الهاشمي، في أصل رسالة دكتوراه، الناشر: عمادة البحث

العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة النبوية المملكة العربية السعودية، طبع سنة (1402ه-/1982م).

107. أطروحة التخصص دراسة مقدمة لقسم العلوم الإنسانية، بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، في جامعة الطاهر مولاي سعيدة بالجزائر بعنوان: (الترجمة في الأندلس وأثرها على الحضارة الأوربية بين 900/500ه-)، للباحثة: خيرة شريفي، إشراف .د لعرج جبران سنة (2017م).

108. محمد بن إسحاق بن محمد أبو الفرج الوراق البغدادي المعتزلي الشيعي المعروف بابن النديم (الفهرست) تحقيق: إبراهيم ،رمضان الناشر: دار المعرفة بيروت، لبنان، ط2، (1997م).

109. نخبة من العلماء والخبراء، (الموسوعة العربية العالمية)، الناشر: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض

ط2، سنة (1999م).

110. د. سهيل زكار (الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية)، الناشر : دار الفكر للنشر والتوزيع، سوريا دمشق،

(2000/_1420).

111. مجلة دراسات استشراقية العدد (13) السنة الخامسة (شتاء 2018م/ 1439ه- ) بحث بعنوان: تاريخ طباعة القرآن الكريم لدى المستشرقين)، د. أنور محمود زناتي.

112. مجلة مركز إحياء التراث العربي العلمي جامعة بغداد العدد الرابع سنة (2017) ، بحث بعنوان: (حركة الترجمة في الأندلس وتأثيرها على أوربا)، د. رغد جمال العزاوي.

113. حولية مركز البحوث والدراسات الإسلامية العدد السادس، سنة (1430ه-/ 2009م) ، بحث بعنوان: (آثار مدرسة الاستشراق الألمانية في الدراسات القرآنية د. ناصر بن محمد عثمان المنيع.

114. مجلة بحوث القرآن مجلة عالمية تصدر عن جامعة ملايا في ماليزيا المجلد (7) ، العدد (1) يونيو (2015م) بحث بعنوان (تحليل الخطاب القرآني عند فرانسوا ديروش قرآنیکا).

115. مجلة التأويل عدد (1) الناشر : رابطة المحمدية للعلماء مركز الدراسات القرآنية سنة (2014م)، بحث بعنوان: (قراءة القرآن في الغرب منذ قرنين وإلى الزمن الحاضر إبحار بحثي السيد رضوان.

116. حولية كلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر بالقاهرة، - مجلة علمية سنوية محكمة العدد (28)، الإصدار الثاني (2016-2015)، بحث بعنوان :(علاقة الكتب السماوية بالعلم وموقف العلماء منها وآثارها المترتبة - دراسة مقارنة تحليلية) د. الأمير محفوظ محمد.

117. مجلة كلية أصول الدين بالمنوفية، جامعة الأزهر، العدد (7) ، سنة (2018) بحث بعنوان (قراءة صحيفة المدينة في ضوء فقه المواطنة)، د. الأمير محفوظ محمد.

118. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى العدد الأول، شتاء (2019م)، مجلة فصلية متخصصة، تصدر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية بيروت بحث مدارس استشراقية - آثار مدرسة الاستشراق الألماني في الدراسات القرآنية).

ص: 222

119. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى العدد الأول، شتاء (2019م)، مجلة فصلية متخصصة، تصدر عن المركز

الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، بحث: (القرآن أقوال متعددة عن تاريخه - بحث في تشكل النص القرآني).

120. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى العدد الأول، شتاء (2019م) بحث بعنوان: المستشرق الفرنسي

فرانسوا دیروش) للشيخ حليمة.

121. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى العدد الأول، شتاء (2019م) ، بحث بعنوان: (القرآن أقوال متعددة

عن تاريخه بحث في تشكل النص القرآني).

122. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى، العدد الثاني، ربيع (2019م)، مجلة فصلية متخصصة تصدر عن

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، بحث: (الاستشراق الفرنسي المعاصر والدراسات القرآنية).

123. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى، العدد الثاني، ربيع (2019م)، مجلة فصلية متخصصة، تصدر عن

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية بيروت بحث: (شخصيات استشراقية).

124. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى، العدد الثالث صيف (2019م)، مجلة فصلية متخصصة تصدر

عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، بحث بعنوان: (مشروع الموسوعة القرآنية الألمانية - كورانيكا).

125. مجلة (القرآن والاستشراق المعاصر)، السنة الأولى، العدد الثالث صيف (2019م)، مجلة فصلية متخصصة، تصدر

عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، بحث بعنوان: (كتاب مصادر يهودية في القرآن للمستشرق شالوم

زاوي عرض وتقديم)، د. أحمد صلاح البهنسي.

خامسًا: كتب التاريخ والتراجم واللغة:

.126 محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني (سيرة ابن إسحاق :تحقیق سهيل ،زکار الناشر: دار الفكر

بيروت، ط1، (1398ه- /1978م)

127. عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد، (السيرة النبوية)، تحقيق: مصطفى السقا، وإبراهيم

الأبياري، وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر : مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط2، سنة (1955م).

128. إسماعيل بن عمر بن كثير أبو الفداء، (السيرة النبوية) تحقيق مصطفى عبد الواحد الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان سنة (1976م).

129. إسماعيل بن عمر بن كثير أبو الفداء، (البداية والنهاية)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، سنة النشر: 1424ه- / 2003م).

130. يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي أبو المحاسن جمال الدين (النجوم الزاهرة في ملوك مصر

والقاهرة)، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي طبع دار الكتب المصرية مصر.

131. عبد الرحمن بن حسن الجبرتي المؤرخ،(تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، الناشر : دار الجيل بيروت (د. ت).

132. شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَائماز الذهبي، (سير أعلام النبلاء)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط3، (1985م).

ص: 223

133. خير الدين الزركلي (الأعلام) نشر: دار العلم للملايين، ط15 سنة (2002م).

134. عمر رضا كحالة (معجم المؤلفين)، الناشر: مكتبة المثنى، بيروت، دار إحياء التراث العربي بيروت بدون.

135. محمد خير رمضان (تَكملَة مُعجم المُؤلفين) الناشر : دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، (1418ه-/1997م).

136. يوسف بن إليان بن موسى ،سركيس (معجم) المطبوعات العربية والمعربة ، الناشر: مطبعة سركيس بمصر(p1928/1346).

137. عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، (بغية الوعاة)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع: مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط1، (1965).

138. عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري أبو البركات، كمال الدين الأنباري (ت: 577ه-)، (نزهة الألباء في طبقات الأدباء)، تحقيق: طبع مكتبة المنار، الزرقاء الأردن، ط3، (1985).

139. ياقوت الحموي شهاب الدين، (معجم البلدان) الناشر: دار صادر، بیروت، ط2، (1995م).

140. د. يوسف المرعشلي، (عقد الجوهر في علماء الرُّبع الأول من القرن الخامس عشر، بذيل كتاب نثر الجواهر والدرر

في علماء القرن الرابع عشر)، طبع دار المعرفة بيروت ،لبنان، ط1، سنة (2006م).

141. الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم أبو عبد الرحمن الفراهيدي البصري، (كتاب العين) تحقيق د. مهدي المخزومي

.د. إبراهيم السامرائي الناشر : دار الهلال مصر، بدون.

142. عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر الملقب سيبويه، (الكتاب)، تحقيق د. عبد السلام محمد هارون الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط3، (1988م).

143. إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر الفارابي (ت: 393ه-) (الصحاح تاج اللغة) تحقيق أحمد عبد الغفور عطار الناشر: دار العلم للملايين - بيروت ط4، (1407ه- / 1987م ).

144. أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي أبو الحسين (معجم مقاييس اللغة)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون الناشر : دار الفكر سنة: (1399ه-/ 1979م).

145. ابن منظور، (لسان العرب) طبع: دار صادر بیروت ،لبنان، ط3، (1414ه-).

146. الفيومي، (المصباح المنير) طبع: دار الحديث بالقاهرة (2003).

147. إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقاني بالمعروف بالصاحب بن عباد :(ت: 385ه-)، (الأمثال السائرة من شعر المتنبي)، تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين، الناشر: مكتبة النهضة، بغداد ، الطبعة: الأولى، (1385ه-/1965م).

148. أ.د. شوقي ضيف، (تاريخ الأدب العربي)، الناشر: دار المعارف بمصر، (ط1)، (1960م).

ص: 224

هذا الكتاب

الدرس الاستشراقيّ مدارس شتّى تصبّ بأغلبها في قوالب

واحدة صمّاء، يستقي بعضها من بعض مقولات واحدة وإن تعدّدت طرق العرض والطرح على طاولة البحث والدرس. وقد اتّخذ الدرس الاستشراقيّ في القرنين العشرين والحادي والعشرين من القرآن موضوعا له وما يزال وربّما سيظلّ كذلك إلى ما شاء الله مع كونه ينكر أنّ القرآن كلام الله ووحيه كالتوراة والإنجيل وهو أمر يثير شكوكًا وتساؤلات حول المنهجيّة العلميّة الاستشراقيّة حيث يضعها على المحكّ، مع العلم أنّه قد خلت الساحة أو كادت أن تخلو- من ذلك الدرس الجادّ للقرآن على مدى قرون ماضيّة، فلماذا الدرس الاستشراقيّ للقرآن اليوم؟ وما فائدته؟ وكيف تتحقّق جدّيّة الدرس الاستشراقيّ للقرآن؟ وغيرها من الأسئلة...

ويأتي هذا الكتاب ليدرس ويحلِّل وينقد مقولات استشراقيّة معاصرة من مدرستين استشراقيّتين نَشِطَتين قديمًا وحديثًا هما المدرستان الفرنسيّة والألمانيّة من خلال عرض أنموذج من الاستشراق الفرنسيّ المعاصر (المستشرق فرانسوا ديروش)، وأنموذج من الاستشراق الألمانيّ المعاصر (المستشرقة أنجليكا نويفرت).

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com

ص: 225

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.