النَّصُ القُرآنيُّ التفسير الاستشراقي للنص القرآني في النصف الثاني من القرن العشرين

هوية الکتاب

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية

النَّص القرآني

التفسير الاستشراقي للنص القرآني

في النصف الثاني من القرن العشرين

سروي، فاطمة، مؤلف.

النص القرآني : التفسير الاستشراقي للنص القرآني في النصف الثاني من القرن العشرين/ تأليف الدكتورة فاطمة سروي؛ ترجمة أسعد مندي الكعبي - الطبعة الأولى - النجف، العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1441 ه_. = 2020.

536 صفحة ؛ 24 سم -(سلسلة القرآن في الدراسات الغربية ؛1)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة 522-536.

ردمك : 9789922625997

1. القرآن--تفسير -- مناهج. 2. الاستشراق والمستشرقون أ. الكعبي، أسعد مندي، مترجم. ب. العنوان.

LCC : BP130.2 . S27 2020

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية

النَّص القرآني

التفسير الاستشراقي للنص القرآني في النصف الثاني من القرن العشرين

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّ_هِ الرَّحْمَ_ٰنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

سلسلة القرآن في الدراسات الغربية

النَّص القرآني

التفسير الاستشراقي للنص القرآني

في النصف الثاني من القرن العشرين

سروي، فاطمة، مؤلف.

النص القرآني : التفسير الاستشراقي للنص القرآني في النصف الثاني من القرن العشرين / تأليف الدكتورة فاطمة سروي؛ ترجمة أسعد مندي الكعبي - الطبعة الأولى - النجف، العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1441 ه_. = 2020.

536 صفحة ؛ 24 سم -(سلسلة القرآن في الدراسات الغربية ؛1)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة 522-536.

ردمك : 9789922625997

1. القرآن--تفسير -- مناهج. 2. الاستشراق والمستشرقون أ. الكعبي، أسعد مندي، مترجم. ب. العنوان.

LCC : BP130.2 . S27 2020

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 3

ص: 4

الفهرس

مقدمة المركز ... 7

المقدمة ... 9

المدخل ... 19

الباب الأوّل: التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن النبي عيسى(علیه السّلام)والسيدة مريم(سلام الله علیها)

الفصل الأول : التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدث عن النبي عيسى(علیه السّلام) ... 35

المبحث الأول: التفسير الاستشراقي لقوله -تعالى-: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ ... 37

المبحث الثاني: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ... 82

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى-: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ على إلا اتباع اللظن﴾ ... 92

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقي للآيات التي أشارت إلى وفاة المسيح(علیه السّلام)ورفعه إلى السماء ... 96

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقي للآيات القرآنية الدالة على موت النبي(علیه السّلام) ... 129

المبحث السادس: التفسير الاستشراقي للآيات الدالة على القيامة ونزول المسيح(علیه السّلام)إلى الأرض أو رجعته ... 156

الفصل الثاني : التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن السيدة مريم(سلام الله علیها) ... 179

المبحث الأول : مريم(سلام الله علیها)بنت عمران وأخت هارون ... 185

المبحث الثاني: نقاشات تفسيرية حول ولادة أنثى ... 198

المبحث الثالث: نقاشات تفسيرية حول مصطلح (محراب) ... 200

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ﴾ ... 205

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -: ﴿يَمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَنكِ﴾ ...211

المبحث السادس: التفسير الاستشراقي لكلمة (أقلام) في الآية 44 من سورة آل عمران ... 217

ص: 5

الباب الثاني: التفسير الاستشراقي لمصطلحي (الكتاب) و (التفصيل) في النص القرآني

الفصل الأول : التفسير الاستشراقي لمصطلح "الكتاب" في النص القرآني ... 227

المبحث الأول : "الكتاب"؛ بمعنى التوراة والإنجيل (على نحو الاقتباس لا التناص) ... 229

المبحث الثاني: "الكتاب "عبارة عن رمز لنص موازيقابل "الكتاب"؟ بمعنى المصحف ... 279

الفصل الثاني : التفسير الاستشراقي لمصطلح "التفصيل " في النص القرآني ... 321

المبحث الأوّل: التفصيل بمعنى التعريب ... 323

المبحث الثاني: التفصيل؛ بمعنى النصّيّة الموازية ... 343

الباب الثالث: التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وشخصيته

الفصل الأول : التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدث عن رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 403

المبحث الأول: التفسير الاستشراقي لعبارة "خاتم النبيين" .... 405

المبحث الثاني: التفسير الاستشراقي لكلمة (درست) أو (دارَست)...

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقي لعبارة " فَبهداهُمُ اقْتَدِه" ... 460

الفصل الثاني : التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدث عن شخصية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 475

المبحث الأول : التفسير الاستشراقي للآية 7 من سورة الضحى ... 477

المبحث الثاني: التفسير الاستشراقي للآيات الأولى من سورتي المزمّل والمدثّر .... 490

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقي لكلمتَيْ (أمي) و (أميون) ...496

نتائج ومقترحات ... 515

المصادر والمراجع ... 522

ص: 6

مقدمة المرکز

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وآله الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وبعد...

لم تتوقف حركة البحث العلمي التخصصي والموسوعي عند المستشرقين منذ القدم وحتى عصرنا الراهن حول مصادر التراث الإسلامي، ولا سيّما القرآن الكريم والسنة الشريفة وسيرة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وتاريخه، ولطالما اتصف نتاجهم البحثي والعلمي بمناهجه وبتناوله لمواضيع وقضايا دقيقة وحسّاسة، تنعكس آثارها في فهم الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

وقد تميّز القرآن الكريم من بين التراث الإسلامي كله بمحوريته في كتابات أغلب المستشرقين، حيث كثرت الدراسات والكتب المتعلّقة بمصدريّة القرآن الكريم، وعلومه،وتفسيره، والكثير من القضايا والبحوث الموضوعيّة المتعلّقة به، وهذا ما يثقل المسؤولية على مراكز الدراسات والمؤسسات العلميّة والبحثيّة عند المسلمين، وتصويب دراسات أخرى وتوجيهها، وإزالة التباسات وشبهات تفرزها دراسات المستشرقين.

ويأتي هذا الكتاب؛ النصّ القرآني (التفسير الاستشراقي للنص القرآني في النصف الثاني من القرن العشرين)، ليتناول بالبحث والتحقيق والدراسة النهج التفسيري الذي اتبعه المستشرقون خلال النصف الثاني من القرن العشرين في تفسير آيات القرآن وعباراته وألفاظه، ضمن إطار تحليلي نقديّ، مبيّنا الوجهة التفسيرية التي تبناها هؤلاء إبان الفترة التأريخيّة المشار إليها، ومسلّطًا الضوء على الخلفيّات التي نشأت هذه الوجهة على أساسها، ومقوِّمًا للبحث وفق مداليل ظاهر الآيات وسياقاتها وسياقات الآيات

المشابهة.

ويشمل نطاق البحث جميع التفاسير المدوّنة من قِبَل المستشرقين خلال العقود الخمسة الثانية من القرن المنصرم والسنوات اللاحقة؛ بغضّ النظر عن المعتقد الديني أو النهج الفكري للمفسّر.

ص: 7

وتمتاز هذه الدراسة التي بين أيدينا عن غيرها من الدراسات في شموليتها التحليلية لشتّى المشارب الفكرية ووجهات النظر التي تبنّاها المستشرقون على صعيد تفسير القرآن الكريم، حيث سلطت الضوء على باحثين تقليديين؛ أمثال: ريتشارد بيل، ويوسف درة الحدّاد، وجون وانسبرو، وباحثين تجديدييّن؛ أمثال: أوري روبين، وأنجيليكا نویورث، ونیل روبنسون، وغابريال سعيد رينولدز، وقدّمت استعراضًا عامًا لرؤى المستشرقين في تفسير الآيات والعبارات والمصطلحات القرآنية وبيانًا لخلفيّاتها في إطار نقدي تقويمي يفككك بين التفاسير المنسجمة مع القرائن التفسيريّة وتلك التي هي مجرّد تفسيرات بالرأي وتخمينات وفرضيات منبثقة من إسقاطات أيديولوجية ورؤى اختزاليّة.

والحمد لله ربّ العالمين

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

ص: 8

المقدمة

حينما نستطلع الدراسات التفسيرية المدوّنة من قِبَل المستشرقين، نستشفّ بوضوح أن الرؤية التفسيرية التي ارتكزوا عليها تختلف بالكامل عما ذهب إليه المفسّرون المسلمون، ونقصد من التفسير -هنا- صورته العامّة؛ من حيث شموله لكلّ إيضاح مرتبط بالآية، ونعني بالمستشرق ذلك المفهوم السائد الدال على كل مفكّر غربي سخّر حياته العلميّة لاستقصاء عالم الشرق بالبحث والتحليل في أحد المجالات الدينيّة والتأريخيّة واللغويّة والأدبية وغيرها(1)، بحيث دوّن بحوثه العلمية وفق المعايير المعتمدة في الدراسات الغربية(2)والبحوث التفسيرية المدوّنة من قبل المستشرقين بطبيعة الحال جزء من النشاطات الاستشراقيّة؛ لكونها ترتكز على المعايير البحثيّة والأكاديميّة ذاتها المعتمدة في الجامعات والأوساط الفكرية الغربية، ولا فرق بين أن يكون كاتبها مسلمًا أو غير مسلم.

ويعدّ تفسير القرآن الكريم من قِبَل المستشرقين ظاهرةً جديدةً من نوعها، لكنّ التفاسير التي دوّنوها قليلة جدًّا، والميزة الفارقة لها أنّ أساليب البحث المعتمدة فيها على نسق الأساليب المتبعة في تفسير الكتاب المقدّس، فضلًا عن ذلك، فالآثار الاستشراقية المدوّنة حول القرآن الكريم في الحقبة الأخيرة قامت بشكل أساس على منهجيّة العلوم الإنسانية والمعطيات التي تم التوصل إليها في مضمار هذه العلوم

ص: 9


1- للاطلاع أكثر، راجع: علي رامین فر وآخرون، خاورشناس (باللغة الفارسية)، موسوعة «دانش گستر» ایران، طهران منشورات الموسوعة العلمية الثقافية «دانش گستر»2010م، ج 7، ص 429 - 430. وجدير بالذكر - هنا - أنّنا قلما نجد مصطلحي (Orientalism) و (Orientalist) في الدراسات الخاصة بمنطقة الشرق الإسلامي حيث يستخدم مصطلح(Islamic Studies) بدلا عنهما. (نقلاً عن الأستاذ محمد كاظم شاكر) استنادا إلى ذلك، لا أهمية للفرد في هذا التعريف .
2- المسألة اللافتة للنظر في هذا المجال أنّ المؤلّفات التي تمحورت مواضيع البحث فيها حول بيان آثار المستشرقين وآرائهم، قلّما تطرّق مؤلّفوها إلى الحديث بشكل مباشر وحتى غير مباشر عن الباحث العربي الشهير يوسف درّة الحداد المعروف بكثرة كتاباته وجهوده البحثية، على الرغم من أنّ الكثير من المستشرقين الغربيين تأثروا بأفكاره ونظرياته؛ فهناك القليل من المؤلفات التي ذكر اسمه فيها ؛ ونادرًا ما نجد مؤلفًا أو باحثًا يتحدث عن مدوّناته. وكما هو معروف، فالحداد ليس مفكّراً غربيًّا، وإنما هو رجل شرقي تأثر بالفكر الغربي لدى تحليله مضامين القرآن الكريم.

من قبل العلماء والمفكرين الغربيين، وهذا الأمر جلي بوضوح في غالبية البحوث التفسيرية الاستشراقية، وخلاصة كلامهم أنّ القرآن الكريم عبارةٌ عن نقّ أدبي - لغوي يمكن أن تطبّق عليه جميع الأساليب المعرفيّة المتبعة في الثقافة الغربيّة من شتّى الجوانب المادية والاعتبارية؛ سواءً كانت هذه الأساليب أسطوريّةً أو واقعيّةً أو تأريخيّةً أو فلسفيّةً، فهي قابلة للتطبيق على النصّ القرآني، وعلى هذا الأساس أكّدوا على عدم وجود اختلاف بين تفسير الآيات القرآنية وشرح مقاطع التوراة والإنجيل وسائر النصوص الأدبية غير الدينية.

وحينما نمعن النظر في تفاسير المستشرقين للآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن النبي عيسى(علیه السّلام)،نستشف منها أنّ أصحابها غالبًا ما طرحوها على ضوء ما يلي:

. توجّهات عقديّةٍ وروَّى دينيّةٍ؛ بغضّ النظر عن السّياق القرآني.

. طبيعة الظروف الاجتماعية والثقافية التي كانت حاكمةً على مجتمع عصر النزول.

. التشابه الكائن بين المعطيات القرآنية والنصوص القانونية وسائر النصوص غير الرسميّة في العرف المسيحي.

. فرضيّات تأريخيّة وتخمينات وهميّة لا أساس لها من الصحة.

. ادعاء وجود تشابه بين بعض الآيات، وطرح مقارنات غير منطقية بين آيات واردة بخصوص قدرة الله عزّ وجلّ.

. طرح قراءة مشتتة وغير متناسقة؛ اعتمادًا على ظواهر الآيات.

هذا في حين أنّ السّياق هو مرتكز المعنى الدلالي لهذه الآيات، إذ إنّ المفسّر في غنى عن اللجوء إلى أيّ مدلول استعاري، في ما لو أمعن النظر بطريقة البيان القرآني وأسلوبه الثابت.

ويمكن تسليط الضوء على التفاسير القرآنية المطروحة من قِبَل المستشرقين ضمن وجهتي نظر أساسيّتين تختلف التفريعات المنبثقة من كل واحدة منهما مع التفريعات المنبثقة من الأخرى، أي أنّهما غير منسجمتين، لكنّهما بشكل عام تعكسان الأساليب والتوجهات التفسيرية المتعارفة بين هذه الشريحة الفكرية، وهما كما يلي:

1. وجهة النظر الأولى : تبنّى بعض المستشرقين وجهات نظر تفسيريّة تتّسم بنوع من الاحتياط؛ بحيث لم تكن لديهم رؤيةً إبستيمولوجيّةً تشاؤميّةً متطرّفةٌ مثلما هو حال جون

ص: 10

وانسبروا(1)، وقد اعتمدوا في تفسيرهم للآيات والعبارات والألفاظ القرآنية على النظريات اللغوية والنحوية، ولا سيّما تلك النظريات الموروثة من علماء اللغة والنحو المسلمين القدامى، وكذلك اعتمدوا على تفاسير العلماء المسلمين؛ لكن اللافت للنظر أنّهم في معظم الأحيان سلّطوا الضوء عليها في إطار نقدي، وفي هذا السياق أكدوا على إمكانية دراسة الدلالات القرآنية وتحليلها؛ اعتمادًا على النصّ القرآني ذاته في الكثير من الحالات، لكنّ هناك بعض الأمور غامضة برأيهم وتوضيحها يقتضي اللجوء إلى شواهد ووسائل توضيحيّة من خارج النص القرآني.

وقد اعتمد المستشرقون في التفسير الاستشراقي الذي يقوم على تفسير القرآن بالقرآن، على النص القرآني ذاته؛ بدل اللجوء إلى القضايا الفرعيّة في التأريخ الإسلامي وخلال عهده الأوّل بالتحديد، حيث استندوا إلى منهج تشذيب النصّ وتغيير ترتيب حروفه وآياته، كما لجأوا إلى أساليب لغوية أثمرت في بعض الحالات نفي الطابع العربي للقرآن الكريم، كذلك صاغوا استنتاجاتهم التفسيرية على أساس سياق معيّن يتّسم بطابع مسيحي يهودي؛ بحيث تكرّرت إرجاعاتهم إلى الكتاب المقدّس بشكل ملحوظ.

وفي معظم الأحيان نلمس قراءةً لفظيّةً وجزئيّةً للنصّ القرآني من قبل بعض المستشرقين، إلى جانب طرح تفسير نمطي - طوبولوجي- وموضوعي لعددٍ من الآيات؛ ويمكن وصف أصحاب هذه التفاسير بأنّهم مستشرقون تقليديون.

2. وجهة النظر الثانية: في مقابل الوجهة الفكرية التقليدية هناك تيار استشراقي يوصف بالإصلاحي تعامل أتباعه مع النص المقدّس على ضوء منهجيّةٍ ورؤية تحليلية لغوية ليشكّكوا به من الناحية التأريخيّة، وفي هذا السياق نأوا بأنفسهم عن الفرضيات المتعارفة في تأريخ الفكر الإسلامي، حيث لم يطرحوا قراءةً لغويّةً تأريخيّةً للقرآن الكريم، بل كانت قراءتهم الغويّةً بحثةً اتسمت بالتخمين والتعصب المبالغ فيه.

ص: 11


1- القرآن الكريم برأي وانسبرو هو كلام النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وقد طرحه في بيئة طائفية بالكامل، لكنه تطوّر بشكل ملحوظ في المراحل اللاحقة البعيدة نسبيًّا عن عهد صدوره؛ وبالتحديد إبان القرن الثالث الهجري تقريبًا. ومن جملة الآراء التي تبنّاها هذا المستشرق أن جميع النصوص الإسلامية القديمة وحتى أسانيد الأحاديث والروايات والمعلومات الخاصة بمصادر علم الرجال وكتب الفهارس، لا اعتبار لها؛ وادعى أن الكثير من المواضيع المذكورة في القرآن الكريم مستوحاة من الديانة اليهودية ومقتبسة من التوراة بالتحديد. وسوف نتطرّق إلى مزيد من التفصيل في هذا الموضوع ضمن الكتاب.

وجدير بالذكر أنّ القراءة اللغوية البحتة للنصّ القرآني من قِبل هذه الشريحة من المستشرقين، فحواها أنّ هذا الكتاب السماوي لم يظهر في منطقة الحجاز إبان القرن السابع الميلادي بشكله المتعارف اليوم، وإنّما تبلور في العراق خلال القرن التاسع الميلادي، لذا فهو بحسب هذه الرؤية ليس تأريخا بحدّ ذاته، بل انعكاسًا لمرحلة تأريخية؛ ولدى تحليلهم مداليل النصّ القرآني استندوا في غالبيّة الأحيان إلى الكتاب المقدّس والتعاليم اليهودية.

وهناك اختلافات واضحةٌ غاية الوضوح بين القرآن الكريم ونصوص العهدين في بعض

القضايا المشتركة، لكنّ هؤلاء عند التعامل معها انحازوا واعتمدوا على منهجيّة إبستيمولوجيّة يهوديّةٍ لاستنباط المدلول النصّي القرآني، وفي هذا المضمار ادعوا أنه نشأ وترعرع في بيئة تطغى عليها النزعات الطائفيّة وهو متأثر برؤىً يهوديّة. واللافت للنظر أنّ هذه الشريحة ينضوي تحت مظلّتها مستشرقون انتقدوا أقرانهم المستشرقين القدماء الذين ادّعوا أنّ القرآن الكريم ليس تبلورًا تأريخيا لأمّةٍ كانت تمرّ في مراحل التكوين، واعتمدوا في بيان مداليله على فرضيات مسيحيّة ويهوديّةٍ؛ حيث تبنّوا فكرة أن النص القرآني شفوي ذو طابع ديني والأسلوب الأمثل لفهم مضامينه يجب أن يقوم على مبدأ التحليل اللغوي؛ أي أنّه بحسب هذا التوجه الفكري أشبه بالنص المسرحي، فأطراف الحوار فيه هم النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و مخاطبوه، ومن ثم فهو ليس نصَّا منبثقًا من رؤى فكريّةٍ مسبقةٍ تتناغم مع توجهات الأسلاف، لذا فكل آية وعبارة فيه بحاجة إلى تحليل زماني مستقل على غرار العرض المسرحيّ الذي يكون كلّ مشهد فيه مرتبطًا بفترةٍ زمنيّة محدّدة؛ بحيث تتوالى المشاهد لتصوغ الأحداث ضمن مراحل زمنيّةٍ متوالية ترتبط السابقة منها مع اللاحقة. وعلى أساس هذه الرؤية التفسيريّة تطرّق هؤلاء المستشرقون إلى دراسة الارتباط النصّيّ للسور الأولى من القرآن الكريم والسور اللاحقة بها وتحليلها، وكذلك تطرّقوا إلى بيان التناص - التعالق النصّي - بين السور القرآنية ومضمون الكتاب المقدس.

ولا شكّ في أنّ التحليل الدقيق والمعمّق للمنهجيّة الإبستيمولوجية المتبعة في الدراسات الاستشراقية التي تتمحور حول تفسير المضمون القرآني، يتيح لنا الاطّلاع على النواقص الكامنة في هذه المنهجيّة، وفي الحين ذاته يتسنّى لنا على ضوئه التعرّف على مزايا هذه الدراسات؛ ومن هذا المنطلق تطرّقنا بإسهاب إلى بيان الفرضيّات التي أسفرت عن تعدّد الرؤى الاستشراقية واختلاف استنتاجات المستشرقين حول أحد المواضيع ضمن بحوثهم القرآنية.

ص: 12

وقد تبنّى الباحثون التقليديون -الذين يشكلون التيار الأوسع نطاقا في مضمار البحوث العلميّة الغربية -،في معظم الأحيان وجهات نظر تأريخيّةً لدى تسليطهم الضوء على النص القرآني، واعتمدوا على فقه اللغة في بيان معاني الألفاظ إلى جانب تحليلات لغوية، وراموا من وراء ذلك استكشاف العلاقة الرابطة بين القرآن الكريم والمنهج المعتمد في التعامل مع مداليل الكتاب المقدّس في فترة ظهوره والفترة التي تلتها: وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ هؤلاء الباحثين تطرّقوا إلى بيان معاني النصوص على أساس أسلوب التحليل النصّي المرتكز على شواهد غير نصّيّة، وقد تعاملوا مع النصّ القرآني وفق هذا الأسلوب أيضًا. وعلى الرغم من أنّ هذا الأسلوب يتيح للباحث استكشاف معان جديدة وواضحة الدلالة للألفاظ والعبارات القرآنية، إلا أنّه في معظم الأحيان يسفر عن صياغة الرؤية المطروحة بشكل مقتبس ، ومن ثمّ يتزايد احتمال الخطأ في فهم المضمون؛ وهذا يعني أنّ فهم مدلول النصّ القرآني في رحاب الكتاب المقدس أو على أساس البحوث التي دوّنت بخصوص هذا الكتاب، يسفر عن طرح آراء اختزالية بطبيعة الحال؛ أي تقليص نطاق المعنى القرآني ضمن مفاهيم ضيّقةٍ تدور في فلك عبارات العهدين؛ وهناك العديد من المحاولات البحثية التي لجأ المستشرقون فيها إلى تخمينات وتصوّرات غير واقعية قائمة على رؤيةٍ وضعيّةٍ، هادفين من ورائها بيان غرض كاتب النص القرآني، وفي هذا السياق برّروا عدم اتساق بعض مفاهيم النصّ القرآني مع مفاهيم نص الكتاب المقدس بأسباب عدة، من جملتها ما يلي:

- وقوع النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في خطأ.

- عدم امتلاكه فهما تامًا بمضمون الكتاب المقدس.

- رواج تصوّرات ومعتقدات خاطئة بين عوام اليهود والنصارى في المدينة (يثرب).

- الفراغ العقدي الذي واجهه المسلمون خلال الفترة التي تلت صدر الإسلام

إضافةً إلى أسباب أخرى، حيث اعتبروها عوامل أساسيّةً في الاختلاف الكائن بين القرآن والعهدين .

وأما أهم نقاط الضعف التي يؤاخذ عليها هؤلاء، فيمكن تلخيصها بما يلي:

- تبني رؤية تفسيرية محدودة الأطر.

ص: 13

- عدم الاهتمام كما ينبغي بسياق الكلام.

- خضوعٍ غير مبرّر لفرضيّاتٍ منبثقةٍ من توجّهات اعتقاديّةٍ وتحليل النص على أساسها؛ مثل: الاعتقاد بأفضليّة الكتاب المقدّس على القرآن الكريم.

فضلاً عن نواقص ونقاط ضعف أخرى.

3. وجهة النظر الثالثة: في مقابل هؤلاء، هناك تيار فكري تعديلي (تنقيحي) Revisionist يتبنّى المنضوون تحت قوام مظلّته استنتاجاتٍ لمفاهيم الكتاب المقدّس والتعاليم اليهودية في أغلب الأحيان، ويتطرّقون إلى تحليل المضمون القرآني بأسلوبِ لغوي بحتٍ، ومعظم آرائهم عبارة عن تخمينات وفرضيّات ظنّيّة تتّسم بالتعصّب.

وجدير بالذكر أنّ بعض الاختلافات العجيبة الموجودة بين النصّ القرآني ونصوص العهدين أثرت على المتبنّيات الفكرية للمستشرقين الغربيين؛ بحيث تجاهلوا الفرضيات والأسس الفكرية المتعارفة في العالم الإسلامي على مرّ التأريخ، واعتمدوا على أسس إبستيمولوجية يهودية في استنباط الدلالات القرآنية على ضوء شواهد خارجةٍ عن النص؛ فحواها أن القرآن الكريم ولد وترعرع في بيئة طائفية تطغى عليها النزعة اليهوديّة؛ لدرجة أنهم أنكروا بعض الحقائق الثابتة التي لا يشوبها أدنى شك أو تردّد.

ويأتي هذا الكتاب ليبيّن الرؤية التي تبنّاها المستشرقون في تفسير الآيات والعبارات القرآنية ويستقصي الفرضيات التي ارتكزوا عليها في هذا المضمار ، ويوضّح الأطر العامة لاختلاف تفاسيرهم مع سائر التفاسير الاستشراقية المنسجمة مع التفاسير الإسلامية والتي هي في الحقيقة قائمة على أدلّةٍ قطعيّة من خارج النص القرآني، إلى جانب مقارنتها مع التخمينات والآراء الظنية المستندة إلى فرضيّات أو قراءات مرتبطة بأسلوب تحليل مضمون الكتاب المقدّس أو المرتكزة على رؤية اختزالية.

ومحور البحث في هذا الكتاب هو تسليط الضوء على تفاسير القرآن الكريم المدوّنة من قبل المستشرقين في العقود الماضية، وبالتحديد خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين والفترة التي تلتها، والمقارنة بين توجّهاتهم الفكرية في هذا المضمار ضمن دراسة نقديّة تحليلية؛ ومن الواضح أنّ بيان تفاصيل الموضوع بشكل دقيق ومسهب يتيح لنا بيان

ص: 14

نقاط القوّة والضعف في البحوث التفسيرية الاستشراقية، إذ يتمّ تقويم فرضيّاتهم الدخيلة في تفسير آيات القرآن الكريم وعباراته في بوتقة النقد والتحليل.

ويمكن تلخيص محاور الكتاب بما يلي:

- استعراض عام لرؤية المستشرقين في تفسير الآيات والعبارات القرآنية، وبيان خلفياتها في إطار نقدي.

- تحليل فرضيّاتهم في بيان معاني بعض المصطلحات القرآنية.

- التفكيك بين التفاسير المنسجمة مع الوجهة التفسيرية الإسلاميّة والقائمة على شواهد قطعيّة ومبدأ التناص، عن تلك التفاسير التي تستند إلى تخمينات وفرضيّاتٍ مرتكزة على النهج التفسيري المتبع في الكتاب المقدّس أو المنبثقة من رؤية اختزالية.

وتتمحور أبواب الكتاب بشكل أساس حول بيان نماذج من التفاسير التي طرحها الباحثون الغربيون التقليديون الذين يشكلون أكبر تيار تفسيري في العالم الغربي، كذلك ضُمنت بعض التفاسير الفرعيّة التي دوّنت بأقلام عددٍ من الباحثين التجديديين حول ألفاظ وعبارات قرآنية معيّنة، حيث سلّطنا الضوء عليها بمهنيّة بحثيّةٍ وحياديّة في رحاب مداليل النص القرآني.

وقد طرحت هذه التفاسير الاستشراقية للنقد والتحليل في إطار دقيق وشامل قدر المستطاع؛ من خلال إثبات أنّها لم تكترث بالتفاسير التقليدية الإسلامية كما ينبغي، واعتمدت على مضامينها بأدنى مستوى ممكن وبأسلوب انتقائي.

وتتبلور حياديّة البحث في هذا الكتاب في طرح التفاسير المشار إليها دون الحكم عليها

مسبقًا؛ وفق الأصول العقدية للمسلمين المنبثقة من مبادئ الوحي والشريعة الإسلامية، وفي هذا السياق تطرّقنا إلى بيان الحدّ الأدنى من المرتكزات الفكرية التي طرح المستشرقون نظرياتهم وآراءهم التفسيريّة على أساسها، والسبب في اعتمادنا على الحد الأدنى -هنا- هو أنَّ معظم المستشرقين لا يذكرون النهج الفكري الذي يرتكزون عليه في بحوثهم، لذلك لا نجد خطة بحث علمي واضحة المعالم في أطروحاتهم التفسيرية، وإنّما غاية ما في الأمر أنّنا نواجه أحيانًا فوضّى منهجيّةً في أحد البحوث العلميّة على ضوء المقتضيات العقدية والإيديولوجية للمستشرق.

ص: 15

وغالبًا ما تكون البحوث التفسيرية المطروحة من قِبَل المستشرقين، عاريةً من الانسجام والترابط، وما أكثر تلك الحالات التي تسفر الخلفية الدينية والعقدية أو الفكرية والفلسفيّة للباحث عن تشكيكه بالمعنى المتعارف للآية أو العبارة القرآنيّة وتُرغمه على البحث عن معنى آخرَ لها؛ لذلك لا نجد عددًا كبيرًا من البحوث التفسيرية ولا نلاحظ تفاسير متعدّدةً للآيات والعبارات القرآنية من قِبَل هؤلاء، بل غاية ما في الأمر أنّ هناك مدوّنات مشتتةً أو مقالات تفسيريّةً غير ممنهجة وهي بشكل عام منبثقة من مشاربَ فكريّةٍ متنوّعة؛ بحيث يمكن اعتبارها بالمعنى الكلّي للمفهوم التفسيري نافذةً لبيان أحد الألفاظ أو العبارات القرآنية فحسب.

وقد اتسع نطاق هذه الظاهرة لدرجة أنّ بعض الكتب التي نشروها بعنوان تفاسير قرآنيّةٍ لا تستقطب نظر المخاطب؛ باعتبارها مصادر تفسيريّةً، وإنّما تطرح بين يديه بوصفها تنظيمًا جديدًا وأرخنةً من نمط معيّن للآيات، أو باعتبارها تحليلا نصّيَّا ودراسةً منهجيّةً للتفاسير التي دوّنها العلماء المسلمون، أو ينظر إليها وكأنّها كتابات دوّنت بغية تقويم هذه التفاسير.

إذَا، لا نبالغ لو قلنا إن تفسير القرآن في كتابات المستشرقين هو جديد من نوعه، ويحتلّ آخر مرتبة من حيث الدلالة النصّيّة، ويحظى بأدنى نصيب وحجمٍ فيها.

مع أن عنوان الكتاب يتمحور حول بيان معالم تفسير القرآن الكريم من وجهة استشراقية إبّان النصف الثاني من القرن العشرين والفترة التي تلتها في إطار نقدي تحليلي، لكنّنا اضطررنا أحيانًا إلى الحديث عن بعض الآراء المطروحة في هذا المضمار قبل الفترة المشار إليها، وبادرنا أحيانًا أخرى إلى شرحها وتحليلها؛ لأجل بيان مختلف جوانب الموضوع، ومعرفة المشارب الفكرية التي انبثقت هذه الأطروحات الاستشراقية منها.

وقد اعتمدنا في فهرسة أبواب الكتاب وفصوله على مواضيع مطروحة في البحوث التفسيرية الاستشراقية الأكثر شهرةً في الأوساط الفكريّة والتي يمكن لكلّ مجموعةٍ منها أن تطرح محورًا للبحث في نطاق بابِ متكامل، وفي بوتقة موضوعِ واحدٍ ؛ وذلك لعدم وجود تفاسير منسجمةٍ يمكن الارتكاز عليها لتحليل موضوع البحث ونقده. وعلى هذا الأساس ترجمنا مئات المقالات التفسيرية وشبه التفسيريّة إلى جانب مراجعة عشرات الكتب التي تطرّق مؤلّفوها إلى الحديث عن الآيات والعبارات القرآنية، وارتأينا من المناسب أن نسلّط الضوء في الأبواب الثلاثة التي تلي

ص: 16

المدخل على ثلاثة محاور أساسيّة هي التالية:

الباب الأوّل: التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن النبي عيسى(علیه السّلام)والسيدة مريم(سلام الله علیها).

الباب الثاني: التفسير الاستشراقي لمصطلحي "الكتاب" و"القرآن" في النصّ القرآني.

الباب الثالث: التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدث عن رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وشخصيته.

ويتمحور موضوع البحث في الباب الأوّل حول بيان فهم المستشرقين للآيات القرآنية المرتبطة بالنبي عيسى(علیه السّلام)من حيث صلبه ووفاته، ورفعه إلى السماء، ونزوله مرّةً أخرى إلى الأرض، والسيدة مريم(سلام الله علیها)، وكل ما ذكرته الآيات القرآنية بخصوصها قبل ولادتها، وفي سنّ طفولتها، وحين اصطفائها وحملها، إضافةً إلى مباحث أخرى.

والجدير بالذكر -هنا- أنّ المستشرقين في هذا المضمار اتّبعوا مناهج بحث تأريخية ذات طابع نقدي، لذلك طرحوا العديد من الآراء التي ادّعي فيها التحريف والحذف والإضافة وتغيير ترتيب الآيات، وما إلى ذلك من آراء أخرى. ومنهم من تبنّى نهجًا بحثيًّا أدبيًا ولغويًا لتحليل الآيات؛ اعتمادًا على نصوص قرآنيّة وغير قرآنيّة، وهذا النهج شائع بينهم أيضًا.

ويتمحور الباب الثاني حول المعنى المقصود من مصطلح "الكتاب" في الآيات القرآنية من وجهة نظر المستشرقين، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أن قراءتهم المطروحة بخصوص مفهوم الكتاب لا تتصف بالتناسق والاتزان التفسيري، فهي مرتكزةً بشكل أساس على التعامل مع الموضوع، في ظلّ تحليل نصّيٌّ قائم على الرجوع إلى نصوص أخرى؛ مثل: التوراة والإنجيل،وعلى ضوء تحليل غير نصّيّ عبر تفسير الموضوع؛ وفق دلالته الذاتيّة، بحسب منشئه السماوي،وارتكازه على العلم الإلهي.

كما أنّ المستشرقين ضمن تفسيرهم هذا المصطلح القرآني، سلّطوا الضوء -أيضًا- على مصطلحات قرآنية أخرى ذات ارتباط به؛ مثل مصطلح "التفصيل" الذي هو على غراره من حيث شموله المعنيين؛ أحدهما: نصّيٌّ؛ يتمثل بالتعريب، والآخر: غيرُ نصّيَّ؛ يتمثل بتفسير الكتاب.

وأما محور البحث في الباب الثالث فهو تحليل تفاسير المستشرقين للآيات المرتبطة بالنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)والتي تحكي عن خصائصه الفريدة؛ مثل: خاتميّة نبوّته، وكونه أميًا، وكذلك الآيات التي

ص: 17

يمكن الاستدلال منها على ميّزات خاصّة به دون غيره؛ وفي هذا السياق ادّعى بعض المستشرقين وضع هذه الآيات من قِبَل المسلمين بعد عهده؛ مستدلّين على ذلك بأنّها غير متناسقة مع سياق سائر الآيات، وبعضهم استند إلى مضامينها وسياقاتها ففسّرها على غرار تفسير العلماء المسلمين.

وبعد أن تطرّقنا في كلّ بابٍ إلى وجهات النظر التفسيرية التي تبنّاها كلّ واحدٍ من المستشرقين إزاء موضوع الآية المطروحة للبحث، سلّطنا الضوء عليها في ما بعد في إطار نقدي.

وهناك قضايا عدة تتبادر إلى ذهن كلّ مسلم يؤمن بإعجاز القرآن الكريم؛ من منطلق اعتقاده بكونه كتابًا سماويًا حينما يلاحظ تلك التفاسير العجيبة التي طرحها المستشرقون؛ ومن جملتها: الأسباب التي دعت هؤلاء إلى طرح قراءاتٍ متباينة حول مداليل الآيات القرآنية.

ولدى تحليلنا التفاسير بحسب الترتيب الزمني، توصلنا إلى نتيجة فحواها أننا كلّما تدرّجنا في البحث واقتربنا من أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، نجد أن التفاسير والقراءات التي تبنّاها المستشرقون إزاء ألفاظ القرآن الكريم وعباراته تتّسم بواقعية وانسجام أكثر مما سبق.

وتجدر الإشارة إلى أنّ إحدى المعضلات الأساسية التي واجهتها هذه الدراسة تكمن في الأساليب الإنشائية التي اتبعها المسشرقون في تدوين بحوثهم التفسيرية، فهي ليست على نسق واحدٍ بطبيعة الحال، وتتباين من حيث الأسلوب البياني؛ بحسب قلم كلّ واحدٍ منهم، فبعضهم تبنّى منهجًا واضحًا وسلسًا لبيان مقصوده في النصّ المدوّن؛ بعيدًا عن التعقيدات الإنشائية؛ مثل: غابريل سعيد رينولدز، لذلك لم نواجه صعوبات جمّةً في بادئ البحث؛ لكنّ الأسلوب الكتابي المغلق والمعقد الذي اتِّبعه آخرون زاد من صعوبة مواصلة البحث، فهؤلاء تأثروا بأساليب فلسفيّة وصوفيّةٍ أو أدبيّةٍ، لذلك اضطررنا في بعض الحالات إلى تخصيص الكثير من الوقت لأجل استكشاف المرادفات الدقيقة للعديد من الجمل والعبارات وحتّى بعض الألفاظ؛ اعتمادًا على المعاجم والمصادر اللغوية، وغير اللغوية، فضلًا عن أنّنا تأملنا في بعضها وأمعنا النظر كي نتمكن من استيعاب المقصود بواقعه، ولربما استغرق ذلك أيام عدة كي نتمكّن من شرحه وتحليله، ثمّ طرحه في بوتقة النقد.

والله ولي التوفيق

فاطمة سروي

ص: 18

المدخل

ص: 19

ص: 20

منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، شاع بين المستشرقين الاعتماد على مناهج البحث العلمي الخاصّة بالعلوم الإنسانية، حيث استندوا إلى هذه المناهج ضمن البحوث والدراسات التي دوّنوها بخصوص الكتاب المقدس، كما كانت منطلقًا لهم في التعامل مع النصّ القرآني حينما تطرّقوا إلى تفسير مضامينه من آيات وعبارات وألفاظ.

وفي ما يلي نذكر أهم الأساليب المعتمدة من قِبَل المستشرقين في تفسير القرآن الكريم:

1. الأسلوب التفسيري التقليدي:

المنهج التفسيري التقليدي هو أهم أسلوب بحث اعتمد عليه المستشرقون في تفسير القرآن الکریم، لذلك شاع في الأوساط الاستشراقيّة على نطاق واسع، فقد دوّنوا بحوثهم ودراساتهم التفسيريّة على ضوء وجهة تأريخية نقدية بالاعتماد على المصادر الإسلامية التقليدية؛ مثل: التفاسير، وكتب السيرة، والمصادر الغربيّة التقليديّة؛ مثل: كتاب تأريخ القرآن لثيودور نولدكه،ومؤلّفات شيفالي، وجوتهلف برجشتريسر، وأوتو برتزل.

وجدير بالذكر أنّهم لم يتبعوا النهج التفسيري ذاته الذي سار عليه العلماء المسلمون، لكنّهم مع ذلك اعتمدوا على ذات الأسلوب الإبستيمولوجي التحليلي في عملية التفسير؛ من منطلق اعتقادهم بضرورة تفسير القرآن الكريم واستنباط مداليله في رحاب السيرة والتفاسير(1).

2. الأسلوب التفسيري التجديدي:

المنهج البحثي الآخر الذي اعتمد عليه المستشرقون في تفسير القرآن الكريم، هو عبارة عن أسلوب تجديدي قوامه بيان المداليل القرآنية بشكل مغاير لما هو متعارف في التفاسير التي دوّنها العلماء المسلمون، بل لا بد وأن تجرى عمليّة التفسير وفق المنهج الهرمنيوطيقي، وذلك من منطلق اعتقادهم بعدم وجود ارتباط بين سيرة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)والقرآن الكريم.

وقد اتّهم هؤلاء المستشرقون أقرانهم الذين اتبعوا نهجًا تفسيريا تقليديا بعدم إذعانهم بوجود مفاهيم يهوديّةً ومسيحيّةً في القرآن الكريم، لذلك طالبوا بضرورة تفسيره بأسلوب

ص: 21


1- Cf. John Block, Competing Christian Narratives on the Quran, PP. 2 - 17

جديدٍ يختلف بالكامل عن الأسلوب المتبع في المصادر الإسلاميّة؛ لأنّ سياقه مستوحى من العهدين وينمّ عن أنّه تتمّةً للتعاليم المسيحيّة.

والتفاسير القرآنية المطروحة على لسان هذه الشريحة من المستشرقين حافلة بمختلف الآراء ووجهات النظر التفسيريّة؛ لدرجة أنّها تثير الاستغراب في بعض الأحيان(1)، حيث أكد بعضهم على أنّ سياق العهدين الموجود في القرآن الكريم لا يعني أنّ الاعتماد على الهرمنيوطيقا في تفسيره يُراد منها تجريده من اعتباره وإنّما يوجب على الباحث اتِّباع أصول تفسيريّةٍ غربيّةٍ ذات طابع مسيحي في معظم الأحيان؛ لأجل طرح تفسير جديدٍ له يتناغم مع الإيديولوجيا المسيحيّة والسّياق التأريخي للقرآن(2).

3. الأسلوب التفسيري التناصي (وفق مبدأ التعالق النصي):

التناص أو التعالق الني (Intertextuality) هو أحد المصطلحات المعاصرة الشائعة في مجال الدراسات الأدبية والفنّية(3)، وعلى الرغم من أنّ المستشرقين لم يشيروا إليه بشكل صريح بوصفه أسلوبًا تفسيريَّا، إلا أنّهم اعتمدوا عليه في بحوثهم التفسيرية.

وقد أكّد الباحث بهمن نامور مطلق ضمن بحوثه التي دوّنها حول مسألة التناص على أهمّيّة الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة التعالق النصّيّ بين مختلف النصوص والحوارات الشفهية، فهو أمر ضروري وسائغ - برأيه - ؛ لكون النصوص ليست منظومات لغويّةً مغلقةً، وإنما يمكن فهم مداليلها ضمن النطاق الإيديولوجيّ لنصوص أخرى(4).

وتجدر الإشارة إلى وجود تناص بين كافّة الجمل والنصوص التي نصوغها، فهي إما أن تكون منبثقةً من نص تمت صياغته سلفًا، أو أنّها جزءً من نصِّ سابق؛ لذلك قيل: إنّ النصّ يضم في طياته عبارات كثيرةً مستوحاةً من نصوص أخرى مترابطة في ما بينها، ويفنّد بعضها البعض، ولا فرق في ذلك بين النصوص المدوّنة في العصر الحديث والنصوص القديمة، ولا اختلاف بين النصوص التأريخيّة والاجتماعية - أيضًا-.

ص: 22


1- Cf. Ibid
2- Cf. Ibid
3- بهمن نامور مطلق، در آمدی بر بینامتنیت: نظریه ها وكاربردها (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى، إيران، طهران، منشورات «سخن»، 2011م، ص 129.
4- م. ن، ص. ن.

ومن ميّزات التناص أنّه يسفر عن تحرير النص من مدلوله الرتيب والمغلق، ومن ثمّ يضفي عليه معاني متنوّعة(1).

ويؤكِّد هذا المفكّر الإيراني على أنّ: «المباحث الخاصة بالتناص والمدوّنة من قبل الباحثة جوليا كريستيفا قد استوفت تحليل جميع جوانب الآثار التي تترتب على السرقات الأدبية، واعتبرت التعالق النصّي سببًا لحدوث ترابط بين مكوّنات أحد النصوص مع نصوص أخرى، لذا لا تطرح في هذا المضمار مسألة أصالة النصّ وهويته»(2). ويضيف أن: «الأصل هو حدوث تغير في النصوص، فأحد النصوص يتضمّن الكثير من المداليل المستوحاة من نصوص أخرى؛ بحيث تنصهر في رحابه، وبالتالي يهمّش كلّ واحدٍ منها الآخر، فالنصّ الحاصل ينشأ على ضوء تناص؛ كما أن التعالق النصّيّ يعدّ عاملا أساسيًا في صياغة أحد النصوص، وخلاصة الكلام: أن طبيعة النص تناصية»(3).

ويقول أيضًا: «جوليا كريستيفا اعتبرت التناص ارتباطًا متداخلا بين النصوص ضمن علاقة متزامنة، لكنّها ليست مختصّةً بزمن محدّد»(4)، وعلى هذا الأساس يؤكد على عدم وجود نضُ مستقل عن نصوص أخرى ف_: «لا وجود لأيّ نصّ مستقل عن نيًّ سابق له، فالنصوص دائما ما تقوم على أخرى سابقة لها»(5).

ويوضّح الباحث علي قائمي نيا التعالق النصّي بقوله: «التناص يعني وجود ارتباط بين عدم تعيّن معنى النصّ وبين تعيّنه الكامل، وهذا يعني أنّ النصّ ليس فارغا بالكامل من المعنى، كذلك لا يمكن ادّعاء اشتماله على جميع المداليل بشكل مستقل عن سائر النصوص»(6).

ص: 23


1- بهمن نامور مطلق، در آمدی بر بینامتنیت: نظریهها وكاربردها (باللغة الفارسية)، ص 129.
2- م. ن، ص. ن.
3- م. ن، ص. ن.
4- م. ن، ص 134.
5- م. ن، ص 27. راجع أيضًا: علي قائمي نيا، بيولوژي نص (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى، مؤسسة نشر معهد بحوث الثقافة والفكر الإسلاميين، 2010م ص43؛ دانييل تشاندلر، مباني نشانه شناسي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مهدي بارسا، الطبعة الأولى، معهد دراسات الثقافة والفكر الإسلاميين، 2011م، ص 283 - 284
6- على قائمي نيا، بيولوژي نص (باللغة الفارسية)، ص 441.

وأما الباحثة فاطمة مدرّسي فقد اعتبرته أمرًا مستقلا عن الصناعات اللغوية، حيث تقول: «التعالق النصّي بحسب المعنى المشار إليه أعلاه ليس مرتبطًا مطلقًا بما هو متعارف في فنّ البديع من صور بلاغيّة؛ مثل: التلميح، والاقتباس، والاستقبال، وما إلى ذلك»(1).

ومما ذكره بهمن نامور مطلق في هذا السياق: «كلّ باحث بإمكانه الاعتماد على نمط خاص من التعالق النصّيّ ضمن قراءته لأحد النصوص؛ استنادًا إلى المرتكزات النصية في ذهنه، وحتى من شأنه الاعتماد على نمطين متباينين من التعالق النصّي ضمن قراءته لنص واحد»(2)،وعلى هذا الأساس استنتج ما يلي: «التناص يتّسم بطابع شخصي (فردي)، حيث تطرأ على النصّ تغيّرات؛ وفقًا لشتّى الظروف الثقافية والشخصية لكلّ إنسان، وهذه الميزة أسفرت عن ظهور قراءات شتّى لأحد النصوص؛ وكلّ قراءة بطبيعة الحال تتناسب مع تعالقها النصّيّ الشامل للآثار السالفة واللاحقة التي يعتقد قارئ النصّ بكونها مرتبطةً به »(3).

وتحدّث علي قائمي نيا عن مسألة التعالق النصّي المطروحة من قِبل الباحثة جوليا كريستيفا بقوله: «كريستيفا صوّرت النصوص في إطار محورين أساسيين، أحدهما: أفقي؛ باعتبار وجود ارتباط بين مؤلّف النصّ وقارئه، والآخر: عمودي؛ باعتبار ارتباط النص بسائر النصوص؛ وعلى هذا الأساس اعتبرت الرموز المشتركة - في ما بين هذه النصوص- واحدةً، إذ كلّ نقّ وقراءة مرتبط برموزِ مسبقةٍ، لذا فهما في الواقع خاضعان منذ لحظة صدورهما إلى نفوذ الخطابات النصّيّة السابقة لهما»(4).

وأشار الباحث أحمد باكتشي إلى ضرب من التناص بقوله: «التعالق النصّي يحدث ضمن نطاق شامل وتأريخاني تترابط في رحابه الرؤى مع النصوص التي تطرح على ضوئها(5)، وقال:

ص: 24


1- فاطمه مدرّسي، فرهنگ توصيفي نقد ونظريه هاي ادبي (باللغة الفارسية)، معهد بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، ص 65،نقلاً عن علي محمد حق شناس، 2008م، ص 14.
2- بهمن نامور مطلق، در آمدي بر بینامتنیت نظریه ها وكاربردها (باللغة الفارسية)، ص 203.
3- م. ن، ص 271 نقلًا عن ريفاتر.
4- على قائمي نيا، بيولوژي نص (باللغة الفارسية)، ص 436. راجع أيضاً : دانييل تشاندلر، مبانی نشانه شناسى (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مهدي بارسا، الطبعة الأولى، معهد دراسات الثقافة والفكر الإسلاميين، 2011م، ص 279.
5- أحمد باكتشي، ترجمه شناسی قرآن کریم روی کرد نظری و كاربردى (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى إيران، طهران، منشورات جامعة الإمام الصادق(علیه السّلام)، 2013م، ص 48.

إنّ هذا التعالق يصدق -أيضًا- على النصوص الشفهية - غير المدوّنة - حتى وإن كان النص الشفهي عبارةً عن نقل لحدث جديد شاهده المتكلّم وذكر تفاصيله على لسانه، فهو في هذه الحالة - أيضًا - متأثر بالنصوص السابقة التي اطلع عليها؛ حيث يسعى خلال كلامه إلى صياغة صورة نصّية بحسب النماذج السابقة التي شهدها في حياته، فهو على هذا الأساس يصوغ نصه؛ كى ينقل مراده لنا.

وخلاصة كلام باكتشي: أنّ كلّ كلام منتظم؛ سواءً أكان مدوّناً أو شفهيا، يعتبر نصّا، ومن ثمّ يصدق عليه مفهوم التعالق النصّيّ(1).

هذا وتحكي النصوص اللاحقة في الحقيقة عن المضامين والبنى النصّيّة السابقة لها، وكذلك نلمس عناصر النصوص السابقة موجودةً في النصوص اللاحقة(2)، وقد وضحت الباحثة جين ماك أوليف هذه الحالة قائلةً: «القارئ أو المستمع يشهد تحوّلًا إدراكيًا خلال هذا الحدث، وبالتالي يصوغ الفهم المتحوّل على هيئة نص؛ وهذه السلسلة المتبادلة من التحوّلات تتوالى وتتواصل»(3).

وعلى الرغم من أنّ القول بالتناص؛ باعتبار أنّ كلّ ن يجب أن يكون منبثقًا من نطّ آخر، ومن ثَمّ يصبح بحدّ ذاته منطلقًا لصدور نضٌ جديد يتسبّب إلى حد ما في زعزعة أركان النص؛ لكن ذلك هو أمر متحقق، ولا محيص من الإذعان به(4)، إلا أنّ الباحث دانيال مع تشاندلر ذهب إلى أبعد من ذلك معتبرا التعالق النصّيّ أكثر تأثيرًا على واقع النص؛ بحيث يفوق تأثير أصحاب النصوص على بعضهم(5)، حيث نقل عنه الباحث علي محمد حق شناس قوله: «معظم هذه الاشتراكات قبل أن تكون مؤثّرةً ومتأثرةً، هي ضرب من التلاحم والتناسق في رحاب ثقافة مشتركة»(6).

ص: 25


1- راجع: أحمد باكتشي، درس گفتارهایی درباره نقد متن (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى، إيران، طهران، منشورات جامعة الإمام الصادق(علیه السّلام)2012م، ص 81-82.
2- للاطلاع أكثر، راجع، م ن ص 87 - 90.
3- Jane Mc Auliffe, "Text Textuality, Q. 3: 7" in Literary Structure of Religious Meaning in the Quran, (edited by Issa J. Bollata), (Curzon, 2000), p. 68.
4- للاطلاع أكثر، راجع: علي قائمي نيا، بيولوژي نص (باللغة الفارسية)، ص 443.
5- راجع: دانييل تشاندلر، مبانی نشانه شناسى (باللغة الفارسية)، ص 279.
6- علي محمد حق شناس، مقالة تحت عنوان: «مولانا وحافظ دو همدل و یا همزبان؟»، مجلة «نقد ادبي» الفصلية السنة الأولى، العدد الثاني، 2008م، ص 16.

ويقول الباحث بهمن نامور مطلق في هذا الصدد إنّ «التعالق النصّيّ يعني أن النص بأسره متأثر بنصوص أخرى، لذا ليس من الممكن بمكان معرفة مصادره، وفي الواقع لا أهمية لذلك من الأساس. التناص برأي بعض المفكّرين من أمثال: جوليا كريتسيفا، وبارت؛ هي عمليّةً تسفر عن ولادة أحد النصوص ومن ثمّ تفعيله»(1).

ويضيف في السياق ذاته أنّ «المفكّرة جوليا كريستيفا لم تعتبر التعالق النصّي حركةً يساهم أحد النصوص من خلالها في إنتاج نصّ آخر لاحق له، وإنّما اعتبرته عمليّةً غير متعيّنةٍ يتمّ على ضوئها تفعيل النصّ»(2).

ويذكر الباحث علي قائمي نيا في هذا الصدد - أيضًا - أنّ : «المفسّر حينما يعتمد على التعالق النصّي في تفسير أحد النصوص، هو يتعامل معه على ضوء تبلور نصوص أخرى في باطنه من الناحية السيمنطيقية؛ باعتبار أنّه متأثر بها من شتّى النواحي والنتائج التي يتوصل إليها من هذه النصوص ومن قضايا أخرى تعدّ ضروريّةً في هذه الحالة لتفسير نصه؛ والجدير بالذكر أنّ هذه المعلومات المتحصّلة خاصّةً من نوعها، فهي تتناسب مع ذات النصّ؛ لكونها تعين المفسّر على تفسير نصّه، لذا ينبغي له الرجوع إلى كلّ نصّ آخر مرتبط بالنص الذي يفسّره

لكي يتسنّى له تفعيل القضايا الكامنة فيه»(3). ويبين المقصود من التناص بقوله: «نقصد من التناص في تفسير القرآن الاعتماد على العلاقات السيمنطيقية والسيميولوجية بين النص القرآني وسائر النصوص. العلاقة بين النصوص تتمحور حول الهدف أو البنية أو اللغة، أو غير ذلك، أو تتبلور في رحاب الانطباق والتساوي في الهدف والخصائص البنيوية والنتائج العمليّة واللغوية، أو تظهر من حيث التأثير المتبادل، أو من حيث التداخل الذي يحدث ضمن نطاق خاص، أو من حيث كون النصّين متوازيين مع بعضهما أو مستقلين عن بعضهما، أو من حيث انفكاكهما عن بعضهما وطرحهما في أجواء متباينة عن بعضها بالكامل»(4). ويضيف -أيضًا- أنّ: «كلّ نص ذو ارتباط بخلفيات متنوّعة؛ فلسفيا، وفقهيًّا، وسياسيًّا، وإلخ ، لذا فهو يحتوي على معلومات

ص: 26


1- بهمن نامور مطلق، در آمدي بر بینامتنیت نظریه ها و کاربردها (باللغة الفارسية)، ص 137.
2- م . ن ص . ن .
3- علي قائمی نیا، بیولوژی نص (باللغة الفارسية)، ص 449 - 450.
4- م. ن، ص 444 - 445 (بتلخيص).

عديدة، وإن أردنا فهم دلالته فلا بد لنا من امتلاك معلومات في المجالات التالية:

1. معلومات لغويّة وأدبيّة : لا شك في أنّ معرفة اللغة تتيح لنا الولوج في عالم النصّ الذي هو في الواقع عبارة عن مجموعة من الرموز اللغوية؛ لكونه ذا هويّة لغوية؛ ومعرفة هذه الرموز هي المستوى الأدنى من المعلومات التي يجب على مفسّر النص امتلاكها.

2. معلومات نصّيّة: يجب على المفسّر أن يعتبر آيات القرآن الكريم قاطبةً نصا كلّيًّا، فالكلّيّ يدلّ بوضوح أكثر على أجزائه وفي بعض الأحيان يصحح مكامن الخلل الموجودة فيها. إذًا، لا بد أن ننظر إلى النص القرآني؛ وكأنّه شبكة متكاملةً من الآيات؛ بحيث إنّ كلّ آيةٍ فيه لها مكانتها الخاصة ضمن مستوى نصي موحدٍ مع سائر الآيات، وعندما يخوض المفسّر في غمار النصّ عليه المقارنة بين الآيات وإثراء معلوماته النصّيّة على ضوء البنية القرآنية التي تمثّل منظومة متناسقةً من الآيات.

3. معلومات سياقية : الالتفات إلى سياق الكلام ضروري إلى حد ما، لذا ينبغي على المفسّر الالتفات إليه والتعرّف على طبيعته.

4. معلومات تناصّية: المعلومات التي يكتسبها المفسّر من النصوص وقضايا أخرى، تعدّ ضروريّةً لفهم النصّ وتفسيره، والمعلومات التناصّيّة هي تلك التي تتناغم مع طبيعة النصّ، إذ لا يقصد منها كلّ معلومة يمكن للمفسّر تحصيلها من سائر النصوص والقضايا، وإنّما هي فقط تلك المعلومات التي تتناسب مع النصّ؛ بحيث تعينه في عملية التفسير»(1).

ومما قاله في هذا الصدد -أيضًا -: «كل نص يجسّد في الحقيقة جزءًا مما ذكره المتكلّم أو الكاتب، وجزؤه الآخر متروك لفهم المخاطب أو القارئ؛ لكي يتمكن من فهمه على أساس معلوماته ومرتكزاته المعرفية؛ ومن هذا المنطلق، يمكن القول: إنّ كلّ نص عبارةٌ عن عمليّة ادّخار للمعنى؛ أي أن صاحبه لا يبادر إلى بيان جميع تفاصيله ضمن ظواهر عباراته وألفاظه، بل يضمر الكثير منها لينيط فهمها إلى القارئ الذي يعتمد على معلوماته في هذا الصعيد»(2).

ص: 27


1- علي قائمي نيا، بيولوژى نص (باللغة الفارسية)، ص 450.
2- م. ن، ص 175. الله -سبحانه وتعالى - على أساس هذا الأصل - صاغ نصّا وفق آلية إيجازية (مقتصدة)، فقد ذكر كلّ ما يحتاجه البشر، وترك لهم فهم سائر القضايا، وقد راعى هذا المبدأ بأسلوب فريد من نوعه. (للاطلاع أكثر، راجع: علي قائمي نيا، بيولوژي نص (باللغة الفارسية)). القرآن الكريم في الكثير من الأحيان دعا إلى مراجعة نصوص موجودةٍ سابقًا، كما فيه مضامين موجودة في نصوص سابقة، ومثال ذلك: قصّتا عاد وثمود اللتان أشار إليهما بشكل مجمل ونوّه إلى وجود تفاصيل أكثر حولهما وجدير بالذكر هنا - أنّ اقتصاد النصّ بهذا المعنى لا يدلّ على وجود نقص فيه بتانا، بل يعد نقطةً إيجابيةً تحسب له، إذ إنّ أفضل نص هو ما كان أكثر ادّخاريةً من سائر النصوص؛ بحيث يعكس أوسع نطاق ممكن من المعنى بأدنى ظاهر لفظي؛ وبالتالي فهو يستدعي في نص آخر.مساهمة أكثر من القارئ، والله تبارك شأنه وضع نظامًا سيمنطيقيًّا أكثر ،اقتصادًا، فهو ضمن أدنى مقدار من الكلام ذكر معاني واسعة النطاق؛ وليس هناك أي نص كالقرآن الكريم على مرّ التأريخ يقتضي مساهمة المخاطب في فهم مداليله بهذا الشكل. (للاطلاع أكثر، راجع: على قائمي نيا، بيولوژي نص (باللغة الفارسية)، ص 176). لدى قيام المفسّر بتحليل المضمون القرآني، ينبغي له الالتفات إلى القواعد الخاصة باللغات الإنسانية، لكنّ هذا الكلام لا يعني مطلقًا اقتصار القرآن الكريم على مستوى لغوي بشري وتجريده من الجانب الغيبي الإلهي أو عدم الاكتراث بجانبه الإلهي. (للاطلاع أكثر، راجع: على قائمي نيا، بيولوژى نص (باللغة الفارسية)، ص 149). كما هو معلوم فالقرآن الكريم ظهر في بيئة تحكمها قواعد وأصول تأريخية وثقافية خاصة، وهذا الأمر بكل تأكيد له إلزاماته الخاصة؛ لذا فهو لا ينفك عن البنية الثقافية التي نشأ في رحابها؛ وبالتالي إن أردنا فهم معانيه فلا محيص لنا من تسليط الضوء على هذه العلقة التأريخية والثقافية ونستشف من هذا الكلام أنّ التناص على الصعيد القرآني يعني الاعتماد على نصوص أخرى؛ بغية فهم النص القرآني عن طريق تحليل العلاقة السيمنطيقية والسيميولوجية الرابطة بينهما؛ لأنّ النصوص مرتبطةً فى ما بينها وكأنّما تحاور بعضها البعض.

والمسألة الجديرة بالذكر على صعيد الشخصيات الاستشراقية التي وقع عليها الاختيار؛ بوصفها محاور للبحث في هذا الكتاب، أننا حينما جمعنا المعلومات الخاصة في قصاصات البحث العلمي لاستقصاء النماذج التفسيريّة لكلّ واحدٍ من المستشرقين، لمسنا أنّهم غالباً ما

تطرّقوا إلى تفسير المضامين القرآنية بشكل ضمني ومحدود، حيث اكتفوا بتسليط الضوء على بعض العبارات والألفاظ، لذلك واجهنا صعوبةً في تصنيفها وإدراج كلّ مجموعة منها في فصل يتمحور حول موضوع معيّن(1)، فقد اضطررنا لمراجعة كلّ مقالة على حدةٍ وترجمتها بدقة متناهية(2)، ثمّ تقويمها؛ لكي يُتّخذ القرار اللازم في إدراجها ضمن الكتاب

ص: 28


1- جهودنا في هذا الكتاب لم تقتصر على مراجعة؛ مقالاتٍ خاصّة لباحثين معينين بدقة متناهية وترجمتها، بل اضطررنا في كثير من الأحيان إلى الاتصال المباشر بكتاب بعض المقالات، كي نستطلع مقصودهم من بعض مضامين نصوصهم، وقد أثمرت هذه الجهود نتائج إيجابيةً لم تكن بالحسبان، حيث أرسلوا لنا العديد من المقالات؛ الأخرى وعناوين بعض المواقع الإلكترونيّة المرتبطة بالموضوع؛ لأجل أن تتضح وجهات نظرهم بالكامل ويزاح الغموض عنها؛ ومن جملتهم الباحث غابريال سعيد رينولدز الذي كانت لنا معه مراسلات عديدة هدفنا منها فهم مراده من العبارة التالية: محاكاة آية الصلب في القرآن وقصّة ولادة مريم لبعض مقاطع نص الكتاب المقدس»، حيث سألناه - أيضًا عن مسألة التناص التي لمّح إليها بخصوص هاتين المسألتين وسائر المسائل المذكورة في الآيات القرآنية.
2- إحدى المشاكل الأخرى التي واجهناها حين تدوين هذا الكتاب والتي تقتضي الضرورة الإشارة إليها، أنّ كثرة عدد المستشرقين والباحثين الذين تمحورت مواضيع الكتاب حول مؤلّفاتهم، وكثرة هذه المواضيع وسعة نطاقها، أسفرا بطبيعة الحال عن مصاعب كبيرة في فهم نظرياتهم وآرائهم؛ نظرًا لتنوع المناهج والأساليب الإنشائية التي اعتمدوا عليها في تدوين نصوصهم، إذ كلّ كاتب يدوّن أثره بأسلوبه الإنشائي الخاص وقد يلجأ أحيانًا إلى قواعد وأصول تختلف عن نظرائه؛ حتى وإن كان الموضوع واحدًا، وهذا الأمر بكل تأكيد يزيد من صعوبة تحليل مدوّناتهم. لذلك، حتى وإن كانت بعض النصوص -مثل آثار المستشرق غابريال سعيد رينولدز - سلسةً وواضحة المعالم وبعيدة عن التعقيدات اللغوية بحيث ساعدت في بادئ الأمر على سهولة طرح الموضوع وتحليله دون تعقيد ومشقة لغوية، إلا أننا واجهنا مصاعب جمةً وتحديات كبيرةً حينما سلّطنا الضوء على تلك الأنماط المعقدة والمغلقة في نصوص بعض الباحثين والتي اتسمت - أحيانًا - بأصول ورؤى فلسفيّة أو صوفية، وأحيانًا أخرى كان الأسلوب الإنشائي المعتمد من قِبَل الكاتب هو السبب في غموضها وتعقيدها؛ وهذه الأمور تسببت بطبيعة الحال بعرقلة تدوين البحث واستغرقت منا وقتًا طويلًا فطالما سخّرنا الكثير من الوقت للتحرّي عن المعنى الدقيق لإحدى الجمل أو العبارات، أو حتى لأحد الألفاظ؛ بغية تحصيل المرادف المناسب في اللغة الفارسية، حيث اضطررنا إلى مراجعة القواميس وكتب اللغة وحتّى غير اللغوية؛ كي لا يحدث خلل في عملية النقد والتحليل؛ وما أكثر تلك الحالات التي بادرنا فيها إلى ترجمة أحد النصوص أو المقالات، لكننا حينما أردنا طرح تفاصيلها على طاولة البحث والتحليل لاحظنا أنّها ذات نطاق واسع وتتطلب طرح تفاصيل مسهبة وتفريعات كثيرة؛ كي يتضح مضمونها ويستوفي البحث حقه، لذلك لم يسعنا الوقت لذلك فطرحناها جانبًا، والطريف أنّها إضافةً إلى استهلاكها الكثير من الوقت في ترجمتها ومراجعة مضمونها استهلكت منا الكثير من الوقت قبل ذلك عندما تحرّينا عنها في مختلف المصادر الغربية، وأحيانًا إلى جانب كل هذا الوقت والجهد، اضطررنا لبذل نفقات مالية طائلة كي تكون مهيئة للتحليل، إلا أنّنا في نهاية المطاف أعرضنا عنها للأسباب التي أشرنا إليها. ما يدعو للأسف أنّنا لم نتمكن من الاتصال بسهولة بالأساتذة والمختصين بالمصادر العلمية الغربيّة وبالأخص أولئك المطلعين على البحوث الاستشراقية، فضلًا عن تلك المشقة التي واجهناها في الحصول على العناوين الإلكترونية التي تتضمّن المقالات المطلوبة، فالمواقع الإلكترونية تيسر للطلاب تحصيل ما هم بحاجة إليه من معلومات بسهولة ودون إتلاف وقت أو بذل نفقات ماليّةٍ. لذلك اضطررنا إلى مراجعة وترجمة المئات من المقالات، وتحليل مضامينها؛ لنصوغ الكتاب بهذه الهيئة التي بين يدي القارئ الكريم.

أو تركها، لذا لم نأخذ بنظر الاعتبار أحد المفسّرين بالتحديد، وإنّما ارتكزت عملية البحث على تحليل التفاسير المطروحة من قِبَل مختلف المستشرقين ضمن خلفيّاتٍ ومناهج علميّة وتطبيقية متنوّعة؛ وبهذا فنطاق البحث يشمل عددًا من المسشترقين على اختلاف توجهاتهم ونظرياتهم، حيث تتراوح أفكار بعضهم بين التقليدية والتجديد؛ وقد ذاع صيتهم في العقود الخمسة الأخيرة من القرن المنصرم؛ من أمثال: يوسف درة الحداد(1)

ص: 29


1- يوسف درّة الحدّاد هو كاتب وباحث مسيحي لبناني سخّر أكثر من عشرين عامًا من حياته في البحث والتحليل حول بعض المواضيع القرآنية بهدف إثبات صوابية النظرية القائلة بأنّ القرآن الكريم مستوحى من التوراة والإنجيل، وفي هذا السياق ألف ثمانية كتب. الأب يوسف درة الحدّاد والمعروف أيضًا ب_ "الحداد" ولد في عام 1913م ببلدة (يبرود - القلمون) السورية، وتوفي في عام 1979م في لبنان، وهو من خريجي إكليريكية القديسة حنة الصلاحية) في القدس . منذ طفولته أقبل على دراسة العلوم الدينية المسيحيّة نظرًا لتوجّهاته الدينية والروحيّة، وبعد أن تخرّج من الإكليريكية المذكورة أصبح قسيسا في الكنيسة اللبنانية؛ وذلك في عام 1939م بالتحديد، فزاول عملية التبشير لمدّة خمس سنواتٍ في منطقتي حمص السورية وبعلبك اللبنانية بعد ذلك ترك التبشير وانصرف إلى قراءة الكتب والتأليف على صعيد النصوص المقدّسة المسيحية. وجدير بالذكر هنا - أنّه منذ شروعه بطلب العلم، بادر إلى دراسة علوم القرآن واستطلاع تعاليمه برغبةٍ شديدة، ونظرًا لإقامته في مدينتي حمص وبعلبك اللتين تقطنهما غالبية مسلمة، تسنّى له التعرف على الكثير من أحكام الشريعة الإسلامية ومعتقدات المسلمين. قال في مقدّمة أحد كتبه إن دعوة شيخ الأزهر محمّد مصطفى المراغي والرئيس السابق لمجس الشعب في مصر الدكتور محمد حسين هيكل هما الدافع الأساس الذي دعاه إلى إجراء بحوث ودراسات قرآنية. وقد أكد في هذا المضمار على أنّه لبّى دعوة هاتين الشخصيتين مؤكدًا على أنه بادر إلى البحث والتحليل بكل صدق وإخلاص. (للاطلاع أكثر، راجع يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، الطبعة الثالثة، لبنان، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، 1993م، الصفحة «ط«). بادر هذا الباحث إلى إجراء دراسات وبحوث مسهبة، وبعد عشرين عامًا من المراجعات العلمية والبحث والكتابة، بدأ بتدوين ونشر آثاره، (للاطلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، ص 425). تمحورت كتاباته وبحوثه حول مباحث قرآنية وحول الخطابين الإسلامي والمسيحي، كذلك لديه دراسات إنجيلية، وذكر فهرسا لآثاره في خاتمة كتابه «الإنجيل في القرآن» كما يلي: أولاً: الدروس القرآنية: الإنجيل في القرآن؛ القرآن والكتاب ( في سلسلتين) هما: بيئة القرآن الكتابية - أطوار الدعوة القرآنية؛ نظم القرآن والكتاب في (سلسلتين أيضًا)، هما: إعجاز قرآن -معجزة القرآن. ثانيًا: في سبيل الحوار الإسلامي المسيحيّ: -1 مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي -2 القرآن دعوة «نصرانية» -3 القرآن والمسيحية - 4 أسرار القرآن (غير مطبوع) -5 المسيح ومحمّد في عرف القرآن (غير مطبوع) - 6 سيرة محمد وسره (غير مطبوع ) ثالثاً: دراسات إنجيلية (مصادر الوحي الإنجيلي) -1 الدفاع عن المسيحية ( في الإنجيل بحسب متي وبحسب مرقس) - 2 تأريخ المسيحية (في الإنجيل بحسب لوقا وفي سفر أعمال الرسل) 3 - فلسفة المسيحيّة ( في سلسلتين)، هما : الكتاب الأوّل: الرسول بولس، الكتاب الثاني: رسائل بولس -4 صوفية المسيحية ( في سلسلتين) هما: الكتاب الأوّل: في الإنجيل بحسب يوحنا -2 الكتاب الثاني: في سفر الرؤيا -5 المسيح في الإنجيل (غير مطبوع) - 6 إنجيل بولس (غير مطبوع) -7 سيرة المسيح وسره (غير مطبوع) 8 - دروس إنجيلية (غير مطبوع) - 9 الدفاع عن المسيحية، عن تأريخها تعليمها (غير مطبوع). إضافةً إلى المصادر المذكورة، لهذا الباحث كتاب آخرُ عنوانه «إنجيل برنابا: شهادة زورٍ على القرآن الكريم»، حيث يتضمن تحريرا لدروسه، أي أنّه لم يدوّنه بقلمه، وأما أهم مؤلّفاته التي حظيت باهتمام الباحثين، فهما كتابا مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، والإنجيل في القرآن. أمضى الحداد عشرات السنوات من حياته العلمية في استقصاء مضامين ودلالات الآيات القرآنية واستخراج الشواهد والقرائن الموجودة فيها، كما سخر الكثير من الوقت لمراجعة الأحاديث النبوية وكلام الصحابة ومصادر تفسير القرآن الكريم والتأريخ الإسلامي؛ وقد أدلى بآرائه حول مختلف المواضيع الخاصّة بالأديان الإبراهيمية، كما نشرت له العديد من الكتب تطرّق فيها إلى تفسير النصوص المقدّسة المسيحية، كذلك له دراسات وبحوث حول مختلف الأديان إلى جانب كتاباته التي سلّط الضوء فيها على قضايا إسلامية. بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على وفاته، لا تزال آثاره حتى الآن مجهولةً لدى الكثير من الباحثين والمفكرين ولم تحظ بنصيبها من المراجعة والتحليل، وباستثناء عدد ضئيل من الكتب التي دوّنت باللغة العربية، لم يبادر أحد إلى إجراء دراسة خاصة حول منظومته الفكرية لدرجة أننا لا نجد أي أثر معتبر بهذا الخصوص في اللغة الفارسية. المتتبع لآراء الحدّاد يلمس منها أنّه في بعض الموارد تبنّى رؤيةً قرآنيةً فريدة من نوعها، وخلافًا لبعض المستشرقين الذين عجزوا عن كتمان عدائهم للإسلام أو تعمدوا في إعلانه، فهو طرح آراءه بشكل غامض ودافع عنها بحنكة وذكاء من جملة الأسس الإسلامية التي رفضها الوحي والإعجاز ونبوّة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لكنه مع ذلك حاول قدر المستطاع كتمان هذه التوجهات وعدم التصريح بها، فهو لم يعلن في بادئ بحوثه العملية عن موقفه إزاء كون القرآن الكريم كتاب وحي ومعجزة خالدة، كما أن بعض نظرياته التفسيرية ليست جديدة من نوعها، حيث طرحت قبل ذلك من قبل بعض الباحثين المسيحيين واليهود وعدد من الباحثين الآخرين؛ إلا أنّ منها ما هو غير مسبوق. وأما المصادر التي تطرّق مؤلّفوها إلى دراسة وتحليل آرائه بشكل عام فهي عبارةٌ عمّا يلي: 1 - «القرآن والمبشرون»، تأليف محمّد عزّه دروزه. محور البحث في هذا الكتاب هو تفنيد آراء يوسف درّة الحدّاد في سلسلته «دروس قرآنية». 2 - القرآن والمسيحيّة في الميزان، تأليف أحمد عمران. محور البحث في هذا الكتاب هو تفنيد آرائه التي طرحها في كتاب «القرآن والمسيحية». 3 - القرآن ليس دعوة نصرانيةً، تأليف سامي عصاصه. محور البحث في هذا الكتاب هو نقد مضمون كتابه «القرآن دعوة نصرانية». 4 - دراسة نقدية لكتاب الإنجيل في القرآن، تأليف سعد داوود. محور البحث في هذا الكتاب هو تفنيد ما ذكره في كتاب «الإنجيل في القرآن». وجدير بالذكر -هنا- أنّنا بادرنا إلى ترجمة الكتب الثاني والثالث والرابع أعلاه من العربية إلى الفارسية بالكامل لكي نستكشف أهم مضامينها بدقة. 5 - النصرانية في الميزان، تأليف محمّد عزّة الطهطاوي محور البحث في هذا الكتاب هو نقد آرائه ونظرياته. فضلًا عن ذلك، فالكتب التالية تطرّق مؤلفوها بنحو ما إلى بيان آرائه ونظرياته: 1 - «عقائدنا»، تأليف محمد صادقي طهراني. 2 - «شبهات وردود حول القرآن الكريم»، تألیف محمد هادی معرفت، وقد أشرنا إلى هذا الكتاب في المباحث الآنفة. -3 «المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل»، تأليف عبد الكريم الخطيب. يوسف درّة الحدّاد باعتباره مسيحيّ العقيدة، بادر في بحوثه القرآنية إلى انتقاء آيات خاصة وترتيبها بحسب ذوقه، ثم انصرف إلى التفاسير الإسلامية وفعل الشيء ذاته، حيث انتقى منها مواضيع خاصّةً لطرح تفسير يتناسب مع وجهته الفكرية؛ لذا فإنّ تفسيره لآيات القرآن الكريم في الواقع هو تفسير ذو صبغة مسيحية.

ص: 30

وريتشارد بيل(1)، ومنهم من تبنّى نهجًا تجديديًا؛ مثل: أنجليكا نويورث(2)، وغابريال سعيد رينولدز(3)، ونيل روبنسون(4).

ص: 31


1- ريتشارد بیل (Richard Bell): ولد في عام 1876م في إسكتلندا وأكمل دراساته في مدينة إدنبرة Edinburgh وحصل على شهادتين في الدراسات الإسلامية واللاهوت، وقد اشتهر بعد تأليفه كتاب The origin of Islam in its Christian environment ، وبعد عشر سنوات تقريباً زادت شهرته عندما طبع كتابًا في ترجمة القرآن ضمن جزئين تحت عنوان The Quran translated with a critical rearrangement of the Surats ، وهذا الكتاب الذي ذاع صيته في الأوساط الفكرية والدينية، انعكس سلبيًا على سمعته. جمعت محاضراته العلمية ضمن سلسلة تحت عنوان Introduction to the Quran حيث تضمّنت آراءه ونظرياته التي تم تنقيحها ثم حققها المستشرق البريطاني وليام مونتغمري واط في عام 1991م طبعت له سلسلة كبيرة حول القرآن الكريم مكوّنة من جزئين تحت عنوان A commentary to the Quran حيث اشتملت على مدوّناته في ترجمة القرآن الكريم والتي أعاد النظر فيها ونقحها قبل نشرها في السنوات الأخيرة من حياته.
2- أنجليكا نويورث (Angelika Neuwirth) دوّنت المقالات التالية في تفسير عدد من الآيات القرآنية: “Oral scripture" in contact : the quranic story of the golden calf its biblical subtext". “Mary Jesus, counterbalancing the biblical patriarch". “Quranic literary structure revisited; Surat al - Rahman between mythic account decodation of myth". “From the Sacred Mosque to the Remote Temple: Surat al - Isra between Text Commentary". حين تدوين كتابنا اتصلنا بها وأفادتنا بمعلومات حول وجهتها الفكرية وأرسلت لنا أحد كتبها التي كانت في مرحلة الطباعة، حيث يتضمن مقالات دوّنتها في تفسير عددٍ من آيات القرآن الكريم، ومن جملتها ما يلي: "Not of the East, Nor of the West (Q 24: 35). "Epistemic Pessimism in Qur'nic Studies". "From Tribal Genealogy to Divine Covenant".
3- غابريال سعيد رينولدز (Gabriel Said Reynolds)تطرّق هذا المستشرق في المقالات التالية إلى طرح بعض آرائه التفسيرية حول عدد من الآيات القرآنية "The Muslim Jesus: Dead or Alive" "Reading the Quran as homily; the case of Sarah's laughter" "On the Quran's maida passage the Wandering of the Israeilites" The Quran its biblical subtext
4- نیل روبنسون (Neal Robinson)المقالات والكتب التالية تحتوي على آراء هذا المستشرق التفسيرية التي طرحها حول المضامين القرآنية « "Jesus Mary in the Qur'an: some neglected affinities. "Jesus in the Qur'an, the historical Jesus the Myth of God Incarnate". "The structure interpretation of surat al Muminun". Christ in Islam Christianity: The Representation of Jesus in the Qur'an the classical Muslim Commentaries. Discovering the Qur'an: a Comtemporary approach to a veiled text

ونود الإشارة - هنا - إلى أنّ بعض مصطلحات البحث -غالبًا- ما تمّ تدوينها في مصادر بلغات أخرى غير الإنجليزية؛ مثل: مصطلح "الكتاب"، لكننا لم نستطع ترجمتها بشكل مباشر، فهذه الترجمة بطبيعة الحال تكلّف نفقات طائلةً، الأمر الذي أرغمنا على غضّ النظر عنها(1).

ص: 32


1- Journal of Qur'anic Studies Qur'an, see the following studies: Julius Augapfel, 'Das kitab im Quran,' in Wiener Zeitschrift fiir die Kunde des Morgenlandes 29 (1915), pp. 384/ 92. Frants Buhl, 'Die Schrift und was damit zusammenhangt im Qur'an, in Oriental studies published in commemoration of the for tieth anniversary (1883- 1923) of Paul Haupt... under the editorial direction of Cyrus Adler and Aaron Ember (Baltimore: Johns Hopkins Press, 1926) pp. 36473-. Dawid Kiinstlinger, Kitab und ahlu l-kitabi im Kuran, in Rocznik orientalistyczny ( Polish archives of oriental research), Polska Akademia Nauk, Komitet Nauk Orientalistycznych (Warszawa), 4 (1926), pp. 23847-. Id. 'Die Namen der Gottes-Schriften im Quran, in Rocznik orientalistyczny (= Polish archives of oriental research), Polska Akademia Nauk, Komitet Nauk Orientalistycznych (Warszawa), 13 (1937), pp. 72-84.

الباب الأول

التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن النبي عيسى(علیه السّلام)والسيدة مریم(سلام الله علیها)

ص: 33

ص: 34

الفصل الأوّل

التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن النبي عيسى(علیه السّلام)

ص: 35

ص: 36

حظيت الآيات القرآنية التي تطرقت إلى الحديث عن النبي عيسى(علیه السّلام)باهتمام المستشرقين،حيث تطرّقوا إلى تفسيرها وتحليل مضامينها ضمن رؤى وتوجهات خاصة.

وسلّط هؤلاء الضوء بشكل أساس على ما ذكره القرآن الكريم حول صلب المسيح ووفاته ورفعه، وإلى جانب ذلك تطرّقوا إلى الحديث عن مواضيع أخرى ترتبط بشخصيته، وفي المباحث التالية نذكر الآيات المشار إليها وآراءهم التفسيرية بالتفصيل:

المبحث الأوّل: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾في الآية 157 من سورة النساء:

استنتج المستشرقون من الآية القرآنية التي تمحورت حول مسألة صلب النبي عيسى(علیه السّلام)والآيات المرتبطة بها مسائل تختلف عمّا استنتجه المفسّرون المسلمون، لأنّ الصلب يعدّ من الأصول الارتكازيّة في العقيدة المسيحيّة، لذا فإنّ تفنيده يعني نقض العقيدة المسيحية من أساسها(1)؛ ومن هذا المنطلق تأثرت تفاسيرهم بعقيدتهم هذه لدرجة أن بعضهم حاول إثباتها بأي ذريعةٍ كانت حتّى وإن اضطرّ إلى طرح تفسير غريب وجديد من نوعه للنص القرآني، بينما بادر بعضهم إلى تفسيره في رحاب رؤية دينيّةٍ مشتركة.

إذَا، ما هي القراءة التي طرحها المستشرقون لظاهر هذه الآية والآيات المرتبطة بها؟ هل فسّروا مدالیلها؛ وفقًا لما تقتضيه عقيدتهم المسيحيّة أو هل إنّهم اعتبروها دليلا على وجود نقص في القرآن الكريم أو عدم ارتكاز مضامينه على معلومات وافية؟

المستشرقون الذين ذاع صيتهم في النصف الثاني من القرن العشرين والسنوات اللاحقة له، ابتداءً من ريتشارد بيل وصولا إلى يوسف درّة الحدّاد والمستشرق الأحدث عهدًا غابريال سعید رینولدز ، فسّروا هذه الآيات بشتّى ألفاظها وجوانبها على أساس خطابات طرحت قديما.

قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن

ص: 37


1- تجدر الإشارة -هنا- إلى أنّنا خلال استقصائنا وتتبعنا للآراء التفسيرية الاستشراقية، توصلنا إلى نتيجة؛ فحواها: أن معظم المستشرقين اليهود الذين ارتكز موضوع البحث في هذا الكتاب حول آرائهم ونظرياتهم التفسيرية، ولا سيّما أوري روبين، وأنجليكا نويورث، ونيكولا سيناي، وفرانتز روزنتال، لم يتطرّقوا إلى تفسير الآية المشار إليها في النصّ ضمن مبحث أو مقالة مستقلين.

شُيّهَ لَهُمَّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكِ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا الْبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا(157)بَل حَكِيمًا(158)﴾(1).إذا أمعنا النظر في المساعي التي بذلها

-هُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيرًا المستشرقون طوال نصف قرن من الزمن لتفسير هاتين الآيتين، نستشف منها أن معظمهم سلّطوا الضوء على بعض عباراتهما استنادًا إلى فرضيّاتٍ خاصّةٍ، وبعضهم ادّعى أنهما تدلان على تأريخ عمليّة الصلب، في حين منهم من رفض هذا الرأي وزعم أنّ مضمونهما مستوحى من المعتقدات الغنوصية، وعدد منهم استنتج من ألفاظهما كون النبي عيسى(علیه السّلام)ليس حيًّا كما يعتقد المسلمون، بينما حلّل آخرون النظرية القرآنية وفق تعاليم الديانة المسيحيّة متجاهلين التفاسير الإسلامية؛ بحيث اعتبروا مسألة الصلب في القرآن الكريم مقتبسةً بالكامل من الديانة المسيحيّة، وعلى هذا الأساس قالوا إنّه يمكن الاستدلال منها على أن المسيح قد مات.

وجدير بالذكر أنّ بعض المستشرقين المتأخرين عهدًا عن هؤلاء، تطرّقوا إلى تفسير الآيات الخاصّة بالمسيح على ضوء توجّهات اجتماعية وسياسية.

وعلى الرغم من أنّ التفاسير الاستشراقية المطروحة بخصوص هذه الآيات - غالبًا ما تتضمّن نقدًا، وتدوّن وفق توجهات خاصّة، لذلك نادرًا ما نلاحظ فيها انسجاما مع ما هو مطروح في التفاسير الإسلاميّة المتعارفة، وضمن تحليل المستشرقين لمضمون كلّ آية، فإنّهم عادةً ما يبادرون في بادئ الأمر إلى البحث عن تلك العوامل التي يعتبرونها سببًا في صدورها؛ بادعاء أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و قد تأثر بها، ثمّ يتطرّقون إلى بيان ترتيبها بالنسبة إلى سائر الآيات، وتحديد الأسلوب الذي يعتبرونه مناسبًا في فهم مداليلها من الناحية الزمانية؛ لكي يتبيّن كيف يمكن تفسيرها؛ تناسباً مع مضمون آيات أخرى. وفي الختام يسلّطون الضوء عليها؛ بحسب سياقها في السورة وطبقًا للبنية القرآنية.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ أوّل مؤاخذة يطرحها المستشرقون عادةً على المفسّرين المسلمين، تتمثل بما يلي: عدم تطرّقهم إلى تفسير الآية ضمن البينة الشاملة لها - أي في المنظومة القرآنية الشاملة - الأمر الذي جعلهم يرفضون تأريخيّة صلب المسيح، أي أنّهم يعتبرونه حيًّا ولم يمت في عملية الصلب، فهو ليس جزءًا من التأريخ الماضي برأيهم؛ وإنّما حياته جاريةٌ.

ص: 38


1- سورة النساء، الآيتان 157-158

وفي هذا السياق ادّعوا أنّ الأمر لا يختلف؛ سواءً أبادر المفسّرون المسلمون إلى تفسير الآية على ضوء نظريات الفرقة الغنّوصيّة، أم في ظلّ تأثرهم بالخلافات الطائفية المحتدمة في ما بينهم أو بخلافاتهم مع أتباع سائر الأديان.

إذَا، لا نلمس في تفاسير المستشرقين أيّ تأييد للآراء الشائعة بين المفسّرين المسلمين، وإنّما وجهة نظرهم المشتركة هي تأريخيّة الصلب - موت المسيح مصلوبا - أو على أقل تقدير بطلان النظرية القرآنية حول هذا الموضوع، فقد استنتج بعضهم أنّ الوجهة التي تبنّاها القرآن الكريم إزاء هذا الموضوع تتناسق مع سائر أطروحاته في مختلف آياته التي أشارت إلى المسيح؛ من حيث كونها ذات طابع ديني لا تأريخي.

ومن الواضح أنّ المستشرقين لدى تفسيرهم الآيات القرآنية تبنّوا الوجهة ذاتها التي تبنّاها باحثون آخرون في العالم الغربي والتي تنبثق من مرتكزات فكرية مسبقة، فحين قيامهم بعمليّة التفسير تأثروا بما يكتنف أذهانهم من معلوماتٍ ومعتقدات وطباع متأصلة فيها، وهذه الأمور لها تأثير ملحوظ على نظريّاتهم التفسيرية بطبيعة الحال، إذ إنّ المعتقدات الدينية والمرتكزات الذهنية والفرضيّات المسبقة لها دور ملحوظ في صياغة الاستنتاج الاستشراقي من مضمون القرآن الكريم، وهذه الوجهة ملموسة - أيضًا - بين الذين اعتنقوا الإسلام منهم، وأخذوا بعين الاعتبار القواعد اللغوية والدلالية؛ لكونهم تأثروا في معظم الأحيان بالفرضيات المرتكزة في أذهانهم مسبقًا، ومن هذا المنطلق اعتبروا مسألة الصلب أمرًا مفروعًا منه ولا نقاش فيه؛ مستندين في ذلك إلى منهجيتهم التأريخيّة في تحليل المضمون القرآني، فأتباع الديانة المسيحية كما هو معلوم يعتقدون بأن النبي عيسى(1)مات عیسی الهلال مات بعد أن صلب.

وجدير بالذكر أن عقيدة موت المسيح كانت وازعًا أساسًا في رواج بعض التعاليم والمعتقدات المسيحيّة الأساسيّة في الأناجيل المنسوبة إلى تلامذته؛ مثل: بشارة الخلاص والنجاة، وكفّارة خطيئة الإنسان، والفداء(2).

ص: 39


1- (علیه السّلام)
2- للاطلاع أكثر، راجع أرشيبالد روبرتسون، عیسی اسطوره یا تاريخ ؟ (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين توفيقي، منشورات جامعة الأديان والمذاهب، 2008م. راجع أيضًا: جوان أو. غريدي، مسيحيت وبدعت ها (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عبد الرحيم سليماني اردستاني، منشورات مؤسسة "طه" الثقافية، 1998م.

وتدلّ الاستنتاجات التفسيرية المطروحة من قِبَل المستشرقين على عدم إمكانية نفي مسألة الصلب من القاموس الديني المسيحي، أي أنّها تعدّ حدثًا تأريخيًا وأمرًا بديهيا؛ بحيث لا يمكن ادّعاء غير ذلك، والطريف أنّ هذه العقيدة راسخة بشكل كبير لدرجة أنّها أثّرت -أيضًا- علىآرائهم الظاهراتية(1)التي اعتمدوا عليها في بيان مضامين مسألة الصلب في القرآن الكريم.

وكانت هذه الرؤية الخاصّة بصلب المسيح سببًا أساسًا في حدوث منافسة بين الأديان، وحتى بين المذاهب والطوائف الدينية، ومن هذا المنطلق نتطرّق في ما يلي إلى تحليل أطروحاتهم وبيان تفاصيلها في إطار نقدي ضمن المباحث التالية:

1. الإذعان بكون القرآن الكريم نفى صلب المسيح، وتوجيه مضمون الآية القرآنية الدالة عليه؛ وفقًا للبيئة التأريخية والاجتماعية الحاكمة في عصر النزول:

تبنّى المستشرق ريتشارد بيل -باعتباره الحلقة الأولى في سلسلة الباحثين الذين تمحور موضوع- البحث حول آرائهم بخصوص مسألة الصلب في القرآن الكريم ضمن الآيتين المشار إليهما، فكرة تأريخيّة الصلب -ثبوت صلب المسيح في تلك الحقبة من التأريخ- وقبل أن يتطرّق ريتشارد بيل إلى شرح مضمون آية الصلب -156 من سورة النساء وتحليلها، تحدّث أوّلًا عن الآية السابقة لها، أي الآية 155 وفي هذا السّياق ادّعى أنّ السور القرآنية القصيرة والكبيرة، مركّبةً ومتداخلة مع بعضها، لذلك اعتبر الآية المذكورة ملحقةً بالآية 155 ومضافةً إليها، حيث ألحقت لها بعد عصر النزول، كما ذكر احتمالا آخر فحواه أنّ هذه الآية أضيفت إلى سورة النساء في العهود اللاحقة لعصر النزول وفحوى نظريته(2):يبدو أنّ الرؤية التي طرحها هذا المستشرق مستوحاة من الروايات المنقولة حول كيفية جمع القرآن الكريم من قبل المسلمين أنفسهم، حيث أشارت هذه الروايات إلى أنّ الحفّاظ كانوا يتلون الآيات، والكتّاب بدورهم

ص: 40


1- الظاهراتية عبارة عن وجهةٍ فكريّةٍ يتطرق الباحث على ضوئها إلى بيان أمرٍ خفي وغامض بالاعتماد على ما هو ظاهر، أي إنه يستكشف الباطن عن طريق الظاهر. (للاطلاع أكثر، راجع: أحد قراملكي، روش شناسي مطالعات ديني (باللغة الفارسية)، إيران، مشهد، منشورات الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، 2006م، ص 309). الظاهراتية تعتبر واحدةً من أصول البحث العلمي المعتمدة في الدراسات الاستشراقية، حيث يسعى المستشرقون في ظلها إلى بيان الجوانب الكامنة في باطن الظواهر ، ولا سيما تلك الأمور الظاهرة المتشعبة وفق منهج بحث وصفي.
2- (Richard Bell, A Commentary on the Qur'an, edited by: C. Edmond Bosworth M. E. J. Richardson, (University of Manchester, 1991), Vol.1, p. 139

يدوّنونها(1)، أو أنه استوحى هذه الرؤية من الروايات المنقولة حول أسباب النزول المتناقلة بینالمسلمين، حيث تشير إلى زمان نزول الآيات والسور(2).

والصنفان اللذان أشرنا إليهما أعلاه من الروايات هما في الواقع مرتكزان للمستشرقين حيث اعتمدوا عليهما في طرح آراء من هذا القبيل، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ ريتشارد بيل قد تأثر إلى حدٍّ كبير بنظرية المستشرق بارت (Barth) الذي زعم أنّ القرآن الكريم يعاني من خلل في نظمه وترتيبه منذ لحظة جمعه من قِبَل المسلمين(3). كذلك اعتبر الآية 157 من سورة النساء والآيات اللاحقة لها متناسقةً مع الآية 156 من هذه السورة(4).

ولا شكّ في أنّ ادّعاء ريتشارد بيل بكون الآيات اللاحقة من سورة النساء مضافةً إلى ما قبلها قد ألحقت بها في ما بعد، هو احتمال صِرف وفرضيّةً لا غير ، لذا فهو لا يحظى بأي اعتبار علمي؛ لكونه يتعارض مع صريح الآيات، إذ قال - تعالى-: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِشَايَتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَيَّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلا(155)وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَنَّا عَظِيمًا(156)وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ هُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا انْبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا(157)بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158)(5). استنادًا إلى ظاهر هذهالآيات يبطل مدّعى ريتشارد بيل ومن حذا حذوه، وبيان ذلك وفق التالي:

- أنّ الآية 156 استهلّت بحرف عطف.

- أن الضمير "هم" في كلمتي "كفرهم" و"قولهم"، يرجع إلى الآية السابقة.

ص: 41


1- للاطلاع أكثر، راجع: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، إيران، قم، منشورات مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الأولى، ص 241 و 243. راجع أيضًا: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العربية، الطبعة الثانية، 1421ه_، ج 1، ص 210.
2- للاطلاع على نقد هذه الروايات، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، إيران، قم، منشورات مكتب النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين في الحوزة العلميّة ،إيران، قم، ج 4، تفسير الآيات 169 - 176 من سورة آل عمران. راجع أيضًا: جعفر نكونام، پژوهشی در مصحف امام علي(علیه السّلام)(باللغة الفارسية)،إيران، رشت، منشورات "كتاب مبين"، الطبعة الأولى، 2003م، الفصلان الثالث والرابع
3- للاطلاع أكثر، راجع: Ibid, p. xx.
4- راجع: Ibid.
5- سورة النساء، الآيات 155 - 158

فهاتان القرينتان ظاهرتان غاية الظهور في الدلالة على أنّ الآية المذكورة قد نزلت تزامنًا مع الآية السابقة لها، كذلك تزامنًا مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها، لذا فهي لم تنزل لوحدها وبشكل مستقل؛ كي يمكن ادّعاء أنّها أضيفت إلى ما قبلها لاحقًا؛ وريتشارد بيل بدوره اعتبر الآية 157 والآيات اللاحقة لها تفنّد مقتل النبي عيسى(علیه السّلام)، لكنه تأثر بما ذكر في روايات جمع القرآن الكريم وروايات أسباب النزول؛ ليؤكد على أنّ كبر حجم هذه الآية وتكرار عبارة ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾فيها دلالة على الإلحاق والاستبدال الذي حدث في ما بعد(1). كما أشرنا آنفًا، فإنّ ادّعاء الإلحاق الذي حدث بعد عصر النزول هو مجرّد زعم بلا دليل لذا لا اعتبار علمي له وتكرار عبارة ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾. يمكن أنْ يكون تأكيدًا على مضمون الجزء الأوّل من الآية.

إنّ هاتين الآيتين تحكيان عن كون النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)تبنّى وجهات نظر على غرار ما تبناه أتباع الفرقتين الغنوصية والمانوية(2)، الأمر الذي يعني أنّه تأثر ببيئة الجزيرة العربية وثقافة أهلها آنذاك.

هذه الرؤية انعكست - أيضًا - في القراءات التي تبنّاها مستشرقون آخرون إزاء مدلول الآيتين المشار إليهما، ومن جملتهم المستشرقة دنيز ماسون التي اعتبرت تفنيد صلب المسيح في القرآن دليلًا على التناغم الفكري بين النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)واتباع الفرقة الغنوصية، أي أنّه تأثر بمعتقداتهم(3).

وجدير بالذكر أنّ الغنوصية عبارةٌ عن حركة التقاطيّة ظهرت في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، حيث تبنّى أتباعها فكرًا يتناغم مع ما ذهب إليه أصحاب الفكر المانوي إزاء مضامين الكتاب المقدّس، فقد تطرّقوا إلى تحليل نصوصه وفق رؤيةٍ باطنيّة، وفسّروها بشكل كنائي وتخميني؛ وبعض الفرق الغنوصية في القرن الثاني الميلادي اعتقد أتباعها أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)عبارةٌ عن روح مرسلة من قِبَل الله -عزّ وجل- لأجل إنقاذ البشر من عبودية الآلهة المزيفين، كما اعتقدوا أنّه لم يُقتل، بل صُلب بدلًا عنه شخص آخرُ شبيه له(4)؛ إلا أنّ ريتشارد بيل ربما تأثر ببعض الآيات القرآنية حينما طرح في أحد مباحثه فكرة نجاة الأنبياء، واستنتج من ذلك

ص: 42


1- للاطلاع أكثر، راجع: Cf. ibid.
2- Cf. Ibid. p.139.
3- D. Masson, Le Coran et la révélation judéo - chrétienne (Paris: Adrien -Maisonneuve, 1958), 330 - 1.
4- للاطلاع أكثر، راجع: وليام أرشيبالد روبرتسون، عیسی اسطوره يا تاريخ؟ (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين توفيقي، منشورات جامعة الأديان والمذاهب 2008م، ص 110؛جوان أو. غريدي، مسيحيت وبدعت ها (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عبد الرحيم سليماني أردستاني، منشورات مؤسسة "طه" الثقافية، 1998م، ص 55 - 59.

عدم إمكانية تصوّر أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان له اطّلاع على تعاليم فرق مسيحيّة مجهولة، وعلى هذا الأساس أكّد على نجاته كسائر الأنبياء(1).

المسألة التي يجب أن تتضح للقارئ الكريم في هذا المضمار هي أنّ الإسلام يرفض العقيدة الغنّوصيّة؛ جملةً وتفصيلا، فما نلاحظه جليًا في الآيات التي تحدّثت عن المسيح عيسى(علیه السّلام)في القرآن الكريم من أنّها اعتبرته إنسانًا، وكذا هو الحال بالنسبة إلى سائر الأنبياء، فهم بشر بحسب الرؤية القرآنية الثابتة(2). وأشارت الآيات القرآنيّة مرارًا إلى أنّ المسيح هو عبد الله وابن مريم(سلام الله علیها)حيث تؤكّد في نهاية المطاف على كونه إنسانًا كسائر البشر(3)، وهذا الأمر يتعارض بالكامل مع ما ذُكِرَ من عباراتٍ وألقاب في تعاليم الفرقة الغنوصية، لذلك أقرّ بعض المستشرقين في ما بعد بأنّ إنكار الصلب في القرآن الكريم؛ حتّى وإنْ كان منبثقًا من العقيدة الغنوصية، إلا أنّه يحكي في الواقع عن شيءٍ آخر(4)؛فقد أدركوا أنّ التشابه الكائن بين الفكر الغنوصي والوجهة القرآنية بهذا الخصوص مجرد صدفة(5)، وهذا التشابه يتبلور ضمن ثلاثة معتقدات وفق التالي:

1. اليهود لم يتمكنوا من قتل النبي عيسى(علیه السّلام).

2. اليهود تصوروا أنهم تمكنوا من قتله.

3. الله سبحانه وتعالى- رفعه إلى السماء.

إذَا، نستنتج من ذلك أنّ ما ذكره المستشرقون بكون المعتقدات الغنوصية أثرت على المضمون القرآني بخصوص مسألة صلب المسيح ليس سوى زعم لا أساس له من الصواب، ولا دليل عليه(6).

ص: 43


1- Richard Bell, The origin of Islam its Christian environment, (London: Macmillan, 1926), p. 154
2- راجع: سورة الأنعام، الآيات 8 و 9 و 50؛سورة هود، الآية 31 سورة الإسراء، الآية 94 سورة الفرقان، الآية 7.
3- راجع: سورة المائدة الآية 75 سورة النساء الآية 171 كذلك راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 246-248 . سوف نوضح في المباحث اللاحقة بتفصيل دلالة هذه الآيات والآية 17 من سورة المائدة ونثبت كيف أنّ القرآن الكريم أكد على كون عيسى بن مريم(سلام الله علیها)بشراً.
4- Geoffrey Parrinder, Jesus in the Quran, (Oxford: Oneworld Publication 1996), p. 119, cited from Y. Moubarac.
5- Cf. Todd, Benjamin Lawson, The crucifixion the Quran: A study in the history of Muslim Thought, (Oxford: Oneworld publication, 2009. p. 30; Geoffrey Parrinder, Ibid., p. 161; Mahmoud Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, P. 104.
6- Geoffrey Parrinder, Ibid., p. 121.

لأنّه ناشي من مرتكزاتهم الفكرية والفرضيات التي قامت عليها؛ بحسب نظرية تأريخية الصلب، ومن منطلق عدم إذعانهم بكون آيات القرآن الكريم وحيَّا نزل على النبي محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم).

وقد أكّد القرآن الكريم على أنّ الوحي هو منشأ الحقائق الغيبية التي اطلع عليها خاتم الأنبياء، وتأكيده على عدم صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)من قبل أعدائه هو انعكاس لحقيقة ثابتة، فهو على صعيد بيان الحقائق يعدّ أفضل من علم التأريخ، إذ لا يتسنّى للمؤرّخ استكشاف الحقائق إلا عن طريق الأساليب المعاصرة المتعارفة في البحث العلمي، لذا لا يمكن لأحد إدراك حقيقة عدم نجاح اليهود في قتل المسيح(علیه السّلام)سوى المسلم الذي يؤمن بحقانية كلام الله -عزّ وجلّ- على ضوء إيمانه بما ذكر في كتابه الحكيم. فضلا عن ذلك ينبغي الإشارة هنا - إلى أن المستشرق وليام أرشيبالد روبرتسون استنتج في دراساته رواج معتقدات غنّوصيّةٍ مشوبة بالشرك والفكر اليهودي على نحو متكافئ بين أبناء المجتمعات المسيحيّة الفقيرة التي كانت تقطن في المناطق المحاذية للبحر المتوسط، حيث كانوا يعتقدون أنّهم بعد معاناتهم وابتلائهم العظيم، سوف يعينهم الله -تعالى- ويؤازرهم ويرشدهم إلى السبيل الذي يضمن لهم نيل السعادة الأبدية في عالم النور عن طريق منقذ يرسله لهم(1)؛ لكن روبرتسون اعترف بكل صراحة قائلًا: «لا يوجد أي دليل قطعي على رواج المعتقدات الغنّوصيّة في الجزيرة العربيّة إبّان القرن السابع الميلادي»(2).

وتجدر الإشارة إلى أن بعض المستشرقين طرحوا الموضوع بأسلوب آخر لإثبات تأثر القرآن الكريم بمعتقدات سائر الفرق على صعيد مسألة الصلب(3)، ومن جملتهم بومان الذي ادعى أن المقصود من هذه الآيات القرآنيّة هو حلحلة الخلافات المحتدمة بين النسطوريين والمونوفيزيين، فأتباع العقيدة النسطوريّة يؤكّدون على أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)قد مات من حيث طبيعته الإنسانية، إلا أنّ طبيعته الإلهيّة عرجت إلى السماء؛ بينما أتباع العقيدة المونوفيزية يعتبرونه مركّبًا من طبيعتين؛ إحداهما: إلهيّة، والأخرى: إنسانية، وهاتان الطبيعتان برأيهم صلبتا معًا.

ص: 44


1- راجع: وليام أرشيبالد روبرتسون، عیسی اسطوره يا تاريخ؟ (باللغة الفارسية)، ص 158.
2- Neal Robinson, Christ in Islam Christianity: The representation of Jesus in the Qur'an the classical Muslim commentaries, (London: Macmillan, 1991), p. 114.
3- Cf. Gabriel Said Reynolds, "The Muslim Jesus: dead or alive?", Bulletin of the School of Oriental African Studies 72 (2009), pp. 253; G. C. Anawati, EI, (edited by: E. VAN Donzel, B. Lewis Ch. Pellat), (leiden: E. J. Brill, 1997), vol. 4, p. 86.

ويقول بومان إنّ القرآن الكريم رفض هذين الرأيين معًا؛ وأكَّد أن المسيح عيسى مجرد إنسان كسائر البشر، لكن غاية ما في الأمر أنّه لم يمت(1). وهناك سؤالان يطرحان على رأيه، وهما هل تزول الخلافات العقدية بين الفرقتين المونوفيزيّة والنسطوريّة في ما لو فنّدنا كلا الرأيين المطروحين من قبل أتباعهما ؟ وعلى فرض أنّ القرآن الكريم قد فنّد كلا الرأيين المشار إليهما، لكن كيف تمكّن في نهاية المطاف من إنهاء الخلافات بينهما؟

وكذلك اعتبر الباحث هنري غريغور نظريّة الصلب المطروحة في القرآن الكريم امتيازا منحه النبي محمد الله الجماعة من المونوفيزيين المرتدّين والجوليانيين، فهؤلاء برأيه أنكروا معاناة المسيح والعذاب الذي تعرّض له(2)؛لكن ما هو ملموس من ظاهر الآيات القرآنية، أكثر من مجرّد إنكار هذه المآسي التي تعرّض لها(3).

وأهم مؤاخذةٍ تَرد على الآراء التي طرحها هؤلاء المستشرقون على صعيد مسألة صلب المسيح(علیه السّلام)هي عدم تأريخيّة فرضيّاتهم ، ولا شكّ في أنّ ادّعاء تأريخيّة الصلب لا يمكن إثباته؛ لأنّ الآيات القرآنية وصلتنا متواترةً؛ وهذا التواتر متحقق منذ عصر النزول، وفي جميع العصور لذا اعتقد به المسلمون في جميع الأجيال وأعاروه اهتمامًا كبيرًا، ومن ثمّ بات مرتكزا دينيًّا للآلاف منهم والملايين واليوم لأكثر من مليار شخص منهم؛ حيث حفظه القرآن الكريم لهم مرتكزا عقديًا في كلّ عصر.

وقد ولدت هذه الرؤية منذ عهد خاتم الأنبياء محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وسادت بين المسلمين، وبقيت شائعةً بين جميع أجيالهم(4)، بينما الأناجيل ليست سوى نصوص منقولة تم تداولها بين الأجيال المسيحيّة عن طريق ما يسمّى في علم الفقه بخبر الواحد، ضمن روايات عدد من الشخصيات

ص: 45


1- Neal Robinson, Christ in Islam Christianity: The representation of Jesus in the Qur'an the classical Muslim commentaries, (London: Macmillan, 1991), P. 110, cited from Bowman
2- Cf. G. C. Anawati, Ibid., vol. 4, p. 84; See H. Grégoire, "Mahomet et le monophysisme", Mélanges, Charles Diehi (Paris: Leroux, 1930), 1: 107 - 119
3- لاحظ الصفحات اللاحقة للاطلاع على الآراء التفسيرية الخاصة بهذه العبارة.
4- للاطلاع أكثر، راجع: جعفر مرتضى العاملي، حقائق هامة حول القرآن الكريم، إيران، قم، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، ص 298.

المسيحيّة؛ مثل متّى ومرقس، ويوحنا(1)، وهؤلاء كانوا تلامذة النبي عيسى(علیه السّلام)أو تلامذة لتلامذته، والطريف أنّ الأناجيل بنفسها تؤكّد على أنّهم فرّوا وتركوه وحيدًا؛ حينما هجم عليه الأعداء.

والمسألة الأخرى الهامة على هذا الصعيد هي أنّ أخبار تأريخ الديانة المسيحيّة لم يتمّ تناقلها بشكل متواتر، لذا لا يمكن لأحدٍ ادّعاء أنّ الحوادث التي تعرّض لها النبي عيسى(علیه السّلام)متواترة في نصوصهم، ومن ثمّ ليس من الصواب اعتبارها من الثوابت التأريخية؛ فليس لديهم أي مصدر مخطوط أو وثيقة تأريخيّة، فضلا عن أن نصوص الأناجيل نفسها ليست كذلك، لذا يقال إنّه ليست هناك أخبار تأريخيّةٌ واضحةٌ بخصوص مؤسّس الديانة المسيحية، وهو ما أكّد عليه باحثون ومستشرقون غربيون؛ بمن فيهم: وليام أرشيبالد روبرتسون الذي أكد قائلًا: «عيسى في التعاليم المسيحية عبارة عن تركيب من الأسطورة والتأريخ»(2)، ولا توجد لدينا شواهد تأريخية مستقلة منذ عهد عيسى(3)إضافةً إلى ذلك، فقد رأى البعض أنّ السنة التي وُلِدَ فيها النبي عيسى(علیه السّلام)غير محددة، وما ذكر في التقويم ليس سوى افتراض، كما أنّه من المستحيل إثبات وجوده ووجود سائر الأنبياء؛ من أمثال: موسى، وداوود(علیه السّلام)، وسائر الأنبياء الذين سبقوهم؛ لذا فوجودهم محفوف بغموض مطبق وما هو موجود بين أيدينا مجرّد قصص مشتتة منقولة في الكتاب المقدّس(4). واللافت للنظر -أيضًا- هو أنّ هويات كتاب الأناجيل غامضةً أيضًا، إذ نسبة الإنجيل إلى كلّ واحدٍ منهم قائمةً على ظنُّ وتخمين(5)، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ أقدم النسخ المخطوطة للأناجيل والموجودة اليوم بين أيدينا، يعود تأريخها إلى القرن الثالث الميلادي، في حين أنّ النسخ الأصلية تمّ تدوينها خلال الأعوام 60م إلى 120م حسب ما يبدو، لذا فهي حتّى القرن الثالث - أي طوال- قرنين من الزمن - كانت عرضةً للخطأ

ص: 46


1- للاطلاع أكثر، راجع جعفر مرتضى العاملي، حقائق هامة حول القرآن الكريم، ص 298. راجع أيضًا: مصطفى ذاكري، مسيحيت واسلام (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى، منشورات «شركت سهامي انتشار»، 2010م، ص 286.
2- وليام أرشيبالد روبرتسون، عيسى اسطوره يا تاريخ؟ (باللغة الفارسية)، ص 161. راجع أيضاً: ويل ديورانت، تاریخ تمدن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي أصغر سروش منشورات «إقبال»، ج 9، ص 175 - 179.
3- وليام أرشيبالد روبرتسون، عيسی اسطوره یا تاریخ؟ (باللغة الفارسية)، ص 80.
4- راجع: مصطفى ذاكري، مسيحيت واسلام (باللغة الفارسية)، ص 286.
5- للاطلاع أكثر، راجع: وليام أرشيبالد روبرتسون، عیسی اسطوره یا تاريخ؟ (باللغة الفارسية)، ص 19 - 21 ميشيل توماس، كلام مسيحي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين توفيقي ،إيران، قم، منشورات مركز دراسات وبحوث الأديان والمذاهب، 1998م، الطبعة الأولى، ص 42؛مصطفى ذاكري، مسيحيت واسلام (باللغة الفارسية)، ص 287.

في النسخ ويحتمل حدوث تغييرات في مضامينها جرّاء رغبة مدوّنيها في إقحام المعتقدات اللاهوتية لفرقتهم أو أنّ هذه التغييرات حدثت جرّاء الظروف السائدة في حقبة تدوينها(1).

ونقل صاحب تفسير المنار عن البروفسور الألماني أوكهارن أنّ المسيحيين إبان القرن الثاني الميلادي غيّروا ثلاثة أو أربعة أناجيل(2)، وفي تلك السنوات بلغ عددها مئة إنجيل تقريبًا، لكنّ الكنيسة لم تقبل منها سوى أربعة(3).

والأناجيل المشار إليها اعترف بها مصادر شرعية في نهاية القرن الثاني الميلادي على ضوء الأصول العقدية واللاهوتية لمجمع القساوسة، وليس على ضوء الأصول التأريخيّة، وكما هو معلوم، فقد تمّ تدوينها بعد فترة طويلة من عهد النبي عيسى(علیه السّلام)، واللافت للنظر فيها - أيضًا - أنّها دُوّنت باللغة اليونانية، في حين أن لغة النبي عيسى(علیه السّلام)وأتباعه كانت آراميةً، وهذا الأمر ينمّ عن الفترة الزمنية المتمادية بين عهد ظهورها والعهد الذي دُوّنت فيه، ومن هذا المنطلق قال أحد الباحثين: «لا يمكن لأحدٍ تصوّر أنّ العبارات اليونانية المدوّنة في الأناجيل صدرت بحد ذاتها من لسان عيسى(علیه السّلام)، فضلا عن أنّ ذات الأسلوب اللغوي اليوناني المعتمد في تدوينها ليس راقيًا من الناحية اللغويّة، وقد وصف فریدریتش نيتشه ضعفه من الناحيتين اللغوية والبلاغية؛ قائلا: إنّ روح القدس يتحدّث بلغة يونانية ضعيفة!»(4).

أضف إلى ذلك، فقد أكّد على أنّ هذه الأناجيل فيها اختلافات كبيرة حول بيان سيرة النبي عيسى(علیه السّلام)؛ما يدل على وجود بون شاسع بين مضامينها وبين الحقائق التي شهدها التأريخ المسيحيّ في عهده الأوّل، كذلك اعتبر الأوضاع في ذلك العهد بلغت درجةً من التأزم؛ بحيث جعلت أتباع المسيح(علیه السّلام)يتخلون عنه؛ بحيث لم يجرؤ أحدٌ في تلك الآونة على أن يعلن اعتناقه الديانة النصرانية(5).

ص: 47


1- للاطلاع أكثر، راجع: ويل ديورانت، تاريخ تمدن (باللغة الفارسية)، الكتاب الخامس، (شباب المسيحية).
2- راجع: محمّد رشيد بن علي رضا× تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) لبنان، بیروت، منشورات دار المعرفة، الطبعة الثانية، ج 6، ص 36.
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3،ص 524؛راجع أيضًا، وليام أرشيبالد روبرتسون، عيسی اسطوره یا تاریخ؟ (باللغة الفارسية)، ص 30.
4- أحمد باكتشي، ترجمه شناسی قرآن کریم روی کرد نظری و کاربردي (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولى، إيران، طهران، منشورات جامعة الإمام الصادق(علیه السّلام)، 2013م، ص 92.
5- للاطلاع أكثر، راجع: إنجيل مرقس، 14:5.

إن تتبع الشواهد التأريخية، يقود المتتبع إلى التشكيك بوثاقة الأناجيل الأربعة ومصداقيتها فلا يمكنه تجاهل الغموض الكائن فيها، ومن ثمّ لا يجد أي مسوّغ لادّعاء أنّ مضامينها عبارةٌ عن حقائق تأريخية ثابتة(1)، وتجدر الإشارة إلى أنّ الباحث موريس بوكاي اعتبرها على غرار الأحاديث والروايات الموجودة في المصادر الإسلاميّة(2).

2) الإذعان بنفي القرآن الكريم صلب المسيح واعتبار مضمون الآية الدالة عليه موهمًا لكونها من المتشابهات:

يوسف درّة الحداد هو أحد الباحثين الذين يعتقدون بكون صلب المسيح حقيقةً تأريخيّةً متواترة، ومن أولئك الذين يدّعون أنّ القرآن الكريم مثل التوراة؛ لأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أجرى عليه تغييرات وأضاف إليه ما شاء(3)؛فضلاً عن أنّه استنتج من الآيات القرآنية وقوع عملية ، الصلب والقتل بشأن النبي عيسى(علیه السّلام)، لكنْ غاية ما في الأمر أنّه صلب وهمي وليس واقعيًّا، وبرّر هذا الرأي بأنّ المسيح في لحظة قتله أحياه الله -عزّ وجلّ- مرّةً أخرى ورفعه إلى السماء؛ بحيث تمّ تصوير الحدث؛ وكأنّه لم يُقتل من الأساس؛ واعتبر هذا الاستنتاج وكأنّه سرّ قال على أساسه: «بما أنّهم رفعوك إلى السماء، فأنا اعتبرك كالمتوفّى»(4).

والنتيجة التي نستخصلها من كلامه أنّ القتل تحقق بشأن المسيح للحظة، لكنّ الله -سبحانه وتعالى- أحياه مباشرةً بعد أن توفي ورفعه إلى السماء، وعلى هذا الأساس وصف العقيدة الإسلامية القائلة بعدم حدوث الصلب بشأنه بالخرافة(5)؛ مستدلاً على رأيه هذا بالتواتر الموجود في التأريخ المسيحيّ الذي دام ستة قرون حتّى عهد نزول القرآن الكريم. وتجدر الإشارة - هنا - إلى أنّ النتائج التي توصل إليها على صعيد مسألة صلب المسيح، منبثقةً من توجّهات ذوقيّة ومعتقدات مسيحية؛ بحيث لا تقوم على منهج البحث العلمي المحايد الهادف إلى استكشاف الحقائق، لذلك استنتج في نهاية المطاف أنّ المسلمين تبنّوا الفكرة ذاتها

ص: 48


1- للاطلاع أكثر، راجع: سيد قطب، في ظلال القرآن، لبنان، بيروت مصر، القاهرة، منشورات دار الشروق، الطبعة السابعة عشرة، 1412ه_، ج 2، ص 801
2- راجع: موريس بوكاي، مقايسه اي ميان تورات - انجيل وقرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية ذبيح الله دبیر، منشورات مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1993م، ص 7-8.
3- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، لبنان، بيروت، منشروات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م، ص 310-311.
4- للاطلاع أكثر، راجع المصدر السابق، ص 337-339.
5- للاطلاع أكثر، راجع المصدر السابق، ص 255 و311.

التي تبناها النصارى بالنسبة إلى مسألة رفع النبي عيسى(علیه السّلام)إلى السماء، وأكد على عدم وجود اختلاف بين الطرفين في طبيعة وفاته ورفعه واللافت للنظر أنّه خالف نهجه المتعارف في استقطاع العبارة القرآنية التي يطرحها للبحث والتحليل من سياق الآية وبنيتها، حيث لجأ إلى أسلوب البيان اللغوي والبلاغي والموضوعي(1)والكلامي للآية؛ لأجل إثبات رأيه القائل بأنّ مفهوم الصلب في القرآن الكريم مجرّد أمرٍ وهمي، والصلب الحقيقي هو ما ذكر في الكتاب المقدّس؛ أي إثبات أن النبي عيسى(علیه السّلام)قد صلب بالفعل ومات جرّاء ذلك. وفي هذا السياق أكد على أنّ الأسلوب الموضوعي في الآيتين القرآنيتين الدالّتين على الصلب والرفع، يدلّ على أنّ القرآن الكريم في صدد تقبيح تكبّر اليهود وتبخترهم، لذلك أهانهم في قوله -تعالى-: ﴿ بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾؛ وقد حرّف كلام البيضاوي؛ لأجل إثبات رأيه هذا(2)؛ فقد فسّر البيضاوي هذه العبارة القرآنية بأنّ الله عزّ وجلّ - قصد فيها نقض جرأة اليهود وتكبّرهم عليه، إلى جانب ذمّهم على نيتهم في قتل نبيَّ مؤيَّدٍ بمعجزات بيّنةٍ، والطريف أنّه قبل هذا الكلام لم يستبعد أنّ عدوّ النبي عيسى(علیه السّلام)جعله الله - تعالى - شبيهًا له قبل الصلب(3)؛ لكن يوسف درّة الحدّاد اقتبس القسم الأوّل من كلامه فقط بشكل انتقائي بعيد عن سياق مجمل الكلام؛ بهدف إثبات رأيه الشخصي بالنسبة إلى صلب المسيح. وضمن المبحث ذاته بادر إلى ذِكْر توضيحات أكثر حول الأسلوب الموضوعيّ؛ معتبرًا سياق آيتي الصلب على غرار سياق الآيتين 54 و55 من سورة آل عمران(4)باعتبارها تمتاز بالبنية الموضوعية نفسها، لكنّه ذلك تبنّى رأيًا مخالفًا مع لما تبنّاه غالبيّة المفسّرين المسلمين، وبدل أن يعتبر هاتين الآيتين مؤيّدتين لعدم تحقق الصلب بشأن النبي عيسى(علیه السّلام)،ادعى دلالتهما على مجرّد بطلان مكر القوم بواسطة مكر الله -سبحانه وتعالى-، وهذا البطلان لا يعني عدم الصلب، وإنّما يراد منه رفع المسيح حيًّا إلى السماء بعد أنْ صُلب وتحقق القتل بشأنه(5). لا شك في أنّ استنتاجه فيه تكلّف ملحوظ، فضلاً عن أنه

ص: 49


1- الظاهر أنّ قصده من الأسلوب الموضوعي هو سياق الآيات السابقة.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، لبنان، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، الطبعة الثانية، 1986م، ص 227.
3- راجح: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418 ه_،ج 2، ص 108.
4- الآيتان هما: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾.
5- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 227.

لم يثبت تفسيره للآيتين المذكورتين وفق قواعد عقليّة أو قرائن نصّيّة، ومن المؤكد أن بطلان مخطّطات اليهود ومكرهم المشار إليه في القرآن الكريم لا يتحقق إلا بعدم قتل المسيح(علیه السّلام)، فلو تحقق الصلب والقتل بحقه، لا يمكن عندئذٍ تحقق مكر الله عزّ وجلّ.

وكذلك استشهد بالعبارة التالية من الآية 157 في سورة النساء: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكِ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا انْبَاعَ الظَّنِّ...﴾؛ لإثبات أن صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)أدّى إلى موته لكنّه لم يهلكه، وإنّما بقي حيَّا عند الله -سبحانه وتعالى- هذه العبارة القرآنية تدلّ في الحقيقة على أنّ المسيح لم يُقتل من الأساس، فهو حي وشاهد على بطلان مكر اليهود، ودليل ساطع على حكمة الله -تعالى- حينما رفعه إليه حيًّا؛ والغريب أنّ الحدّاد نفسه اعتبرها تدلّ على المعنى ذاته للآية 169 من سورة آل عمران: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾؛(1)فهذه الآية تؤكّد بصريح العبارة على كرامة القتل في سبيل الله -تعالى-، في حين أنّ الآية 157 من سورة النساء تدلّ بصراحة على عدم تحقق القتل بشأن المسيح(علیه السّلام).

ويمكن أن يُقال: لو أنّ الله -عزّ وجلّ - أراد في هذه الآية الإشارة إلى سموّ مقام النبي عيسى(علیه السّلام)واستشهاده في سبيل الحق فقط، لِمَ أكَّد بصريح العبارة -أيضًا- على نفي صلبه الهلال وقتله ؟! فما الداعي لأن نتكلّف ونتصوّر أنّ العبارة التالية في قوله - تعالى -: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ تفنّد تصوّر من يعتقد بعدم موت المسيح أو قتله(2)في حين أنّ العبارة السابقة لها تثبت بضرس قاطع عدم تحقق الصلب والقتل بشأنه؟! إذًا، كيف نفسّر هذا التكلّف في الاستدلال؟! فلا يبقى إلا أن يكون تحميلًا وافتراضًا على النص القرآني بغير دليل !!

ولدى تسليطه الضوء على الأسلوب اللغويّ للآية 157 من سورة النساء، فسّر عبارة ﴿وَلَكِن يّهَ هُمْ﴾ بنحو يختلف عن التفسير الشائع بين العلماء المسلمين، ونقض رأيهم القائل بتحوّل عدوّ النبي عيسى(علیه السّلام)إلى شبيه له، ومن ثمّ صلبه على يد القوم بدلًا عنه؛ ليثبت أنّ أحدًا لم يُقتل بدلًا عنه؛ لذلك أيّد رأي الزمخشري الذي فسّر التشبيه المذكور في الآية ب_"خُيّل لهم"، أي أنّهم تصوّروا صلب المسيح وقتله، حيث بقي حيًّا ورفعه الله - تعالى - إليه(3).

ص: 50


1- يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 225.
2- راجع للاطلاع أكثر، راجع المصدر السابق، ص 226.
3- راجع للاطلاع أكثر، راجع المصدر السابق، ص 227. = هناك مسألتان تجدر الإشارة إليهما في هذا المضمار، وهما كما يلي: أوّلًا: لا نجد في نص تفسير الكشاف أي استنتاج يدلّ على كون النبي عيسى مينا، وإنما هذا الكلام من استنتاج يوسف درة الحداد نفسه، إذ تحدّث بشكل يوهم القارئ وكأنّ الزمخشري هو الذي ادعى موت المسيح. ثانيًا: بعد أن قارن الزمخشري مفهوم عبارة (خيل لهم) مع المعنى المقصود من قوله - تعالى - : ﴿لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾، قال أن شبه يجوز أن إلى ضمير المقتول: «فإن قلت (شبه) مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسندًا إلى المسيح فالمسيح مشبه به وليس بمشبَّه، وإن ردته إلى المقتول فالمقتول لم يجرِ له ذكر، قلت هو مسند إلى الجار والمجرور وهو (من) كقولك (خيل إليه) كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول؛ لأنّ قوله (إنّا قَتَلنا) يدلّ عليه كأنه قيل ولكن شبه لهم من قتلوه». للاطلاع أكثر، راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 587. إذا نستنتج مما ذكر أنّ الاستدلال التفسيري الذي طرحه يوسف درّة الحدّاد لا يمت بصلة لما قاله الزمخشري في تفسيره.

ولكنّ فحوى رأي الزمخشري أنّ أعداء المسيح(علیه السّلام)تصوّروا أنّهم نجحوا في صلبه، لذا كيف يمكن ادّعاء كون هذا الرأي يدلّ على وقوع الصلب حقًا؛ كما قال الحدّاد؟!

إضافةً إلى تكلّف هذا المستشرق في تفسير الآية ولكي يجعل دلالاتها متطابقةً مع مرتكزاته العقديّة المسيحيّة، وضّح الأسلوب البياني للآية بالتالي: "القرآن اعتمد في هذه الآية على أسلوب المقابلة البلاغي وأسلوب النفي والإثبات، فالمقابلة هي بين المسيح وشبيهه، حيث تتبلور في قتله وصلبه، ثمّ رفعه حيًّا إلى السماء؛ وأحد أطرافها ذكر بأداة نفي؛ ما يعني أنّه لم يبطل القتل والصلب، بل أراد بيان فضل أحد الطرفين (رفع عيسى) على الطرف الآخر (القتل والصلب)؛ ما يعني أنّ رفعه يحظى بأهمّيّة بالغة، لذلك يُخيّل للبعض أنّه لم يُصلب. بناءً على ما ذكر، يمكن القول إنّ العبارتين المكمّلتين للآية ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا﴾،﴿بَل زَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ تدلان على كون هذه المقابلة ليست واقعيةً». وتجدر الإشارة هنا - إلى أنّ المقابلة في الآية ليست حقيقيةً برأيه، وإنّما هي أسلوب لغوي سامِيٌّ وعبري وعربي متواتر في القرآن الكريم(1).

وتتضمّن الآية المشار إليها تقابلا بين تبختر اليهود بقتلهم المسيح عيسى(علیه السّلام)وبين العقيدة القرآنية برفعه إلى السماء حيَّا، لذلك أشارت إلى تبخترهم هذا بأسلوب النفي وذكرت عقيدة الرفع في سياق التوكيد؛ كي تعلن عن أفضليّة الله -تعالى- في رفعه المسيح على مكر اليهود الذين تصوّروا أنّهم تمكنوا من صلبه وقتله(2).

ويمكن اعتبار كلام يوسف درّة الحدّاد في ما يخص أسلوب المقابلة في الآية صحيحاً، ويؤكّد ذلك ذِكْر حرف الإضراب "بل" في الجزء الذي يتضمّن أسلوب الإثبات والذي يشير إلى مفهوم

ص: 51


1- "فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى هُنَا بَلِ اللهُ. وَهُوَ قَدْ جَعَلَنِي أَبًا لِفِرْعَوْنَ وَسَيّدًا لِكُلِّ بَيْتِهِ وَمُتَسَلْطَا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصَرْ". (سفر التكوين 8:45).
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 229-230.

مضادّ لأسلوب النفي في عبارة: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا ؛ لكن على الرغم من ذلك يرد عليه ما يلي:

المؤاخذة الأولى : تبختر اليهود لم يتمّ نفيه في الجزء الأوّل من المقابلة، وإنّما تم نفي صلب النبي عيسى(علیه السّلام)من قبلهم.

المؤاخذة الثانية: ما السبب الذي يسوّغ لنا اعتبار النفي في هذه الآية غير حقيقي والقول بواقعيّة الجزء الإثباتي فقط ؟! لِمَ يُنظر إلى النفي مجرّد ظاهر للكلام ويُجرِّد الباطن منه ويتمادى القائل في تحريف الكلام؛ بحيث يدّعي أنّ هذا النفي يدلّ على الإثبات؟! فهل توجد في الآية قرينة تلزمنا بالعدول عن ظاهرها الصريح ومعناها الحقيقي؛ بحيث تضطرنا لأن نحملها على معنى غير حقيقي؟!

لا ريب في أنّ القرينة الوحيدة التي يمكن اعتبارها -هنا - صارفةً عن المعنى الحقيقي هي الفرضيّات الإيديولوجيّة التي تبنّاها هذا المستشرق بخصوص صلب المسيح(علیه السّلام)، حيث يعتبره من الحقائق التأريخيّة الثابتة، لذلك قال إنّه لا ينبغي العمل وفق المعنى الظاهري في هذه الآية كي لا يحدث تعارض بين القرآن والأناجيل الأربعة؛ ولأجل إثبات رأيه هذا، طرح فكرةً عجيبةً على صعيد مسألة رفع المسيح(علیه السّلام) حيا إلى السماء بحسب مفهوم الآية، فقد أكّد على أنّ القرآن الكريم في جميع آياته التي سبقت وتلت الآية 157 من سورة النساء اعتبر المسيح قد مات ثمّ رُفع حيَّا إلى السماء(1)، وادّعى أنّ الآية تدلّ على قبح تبختر اليهود في صلب النبي عيسى(علیه السّلام)، وقتله والنفي فيها ليس حقيقيًّا، بل هي في صدد بيان فضل الاعتقاد بنبوة المسيح؛ ونفي النفي ليس حقيقيًّا، إلا أنّ إثبات الإثبات حقيقي بحسب القاعدة(2).

حتى وإن تنزّلنا وأذعنا بصوابية ما ادّعاه الحدّاد؛ بكون القرآن الكريم أشار إلى موت النبي عيسى(علیه السّلام)في آياته الأخرى غير الآية 157 من سورة النساء، لكن ما هو الدليل على أن موته كان جراء صلبه ؟ فإذا افترضنا إمكانية إثبات موته من هذه الآيات، ألا يُحتمل أنّه مات في زمانٍ ومكان آخرين؛ لكونها لم تحدد طبيعة موته؟

ص: 52


1- سوف نتطرّق إلى بيان آرائه التي طرحها حول موضوع البحث، ثمّ نشير إلى مدى صوابيتها أو سقمها.
2- راجع: يوسف درّة الحداد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 229-230.

وهناك مسائل عدّة تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد، وهي التالية:

أ. لا يوجد مسوّغ يدعونا للمقارنة بين الأسلوبين البيانيّين المتبعين في الآية المذكورة والمقطع الثامن من الإصحاح الخامس والأربعين في سفر التكوين، فهذا المقطع يتضمن كلامًا للنبي يوسف(علیه السّلام)يؤكد فيه على حتميّة تحقق المشيئة الإلهيّة، وحينما نمعن النظر في كلامه نلاحظ أنه يقصد معنى استعاريًا، ولا سيّما في قوله «قد جعلني أبًا لفرعون»(1)، فهذه العبارة تدلّ على معنى مجازي كنائي؛ في حين أنّ الآية 157 من سورة النساء فيها قرائن تدلّ على كون النفي المذكور حقيقيًّا وليس مجازيًا، وكما ذكرنا آنفًا فالتصريح المؤكد فيها يقطع الطريق على ادّعاء أيّ شكل من المعاني المجازية، فضلا عن عدم وجود أي قرينة ظاهرية فيها تلزم القارئ بالعدول عن ظاهرها ومعناها الواقعي لحملها على معنى كنائي ومجازي، لذا لا يمكن ادّعاء تناسق دلالتها مع ما تضمنته الأناجيل.

ب. لا يوجد أي ارتباط بين صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)والتلميح إلى وفاته في سائر الآيات القرآنية.

ج. لو صح ادّعاء يوسف درّة الحدّاد بكون مضمون الآية المذكورة يدلّ على منزلة المسيح عيسى(علیه السّلام)وخذلان اليهود فقط، ففي هذه الحالة يرد عليه أنّ مضمون بعض الآيات الأخرى مثل الآية 169 من سورة آل عمران يعدّ أكثر وضوحًا(2).

وقد استند هذا المستشرق إلى الأسلوب الخطابي في الآية وطريقة استدلالها؛ ليدّعي أنّ ظاهرها يدلّ على علم موت المسيح(علیه السّلام)، ولذلك يجب أن تدرج ضمن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم، ومن ثمّ لا بدّ من عرضها على الآيات المحكمة لإزالة الغموض عنها. وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ الآيات المحكمة في هذا السياق عددها ستّة يدعي الحداد كونها تدلّ بصريح العبارة على موت المسيح، ومن هذا المنطلق اقترح اللجوء إلى مداليلها حين تفسير الآية المشار إليها(3).

ص: 53


1- «فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى هُنَا بَلِ اللهُ وَهُوَ قَدْ جَعَلَنِي أَبًا لِفِرْعَوْنَ وَسَيْدًا لِكُلِّ بَيْتِهِ وَمُتَسَلِّطَا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصَرْ». سفر التكوين، 45 :8 .
2- قال - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾. سورة آل عمران، الآية 69.
3- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 229.

ولا شك في أنّ ادّعاءه بكون الآية المذكورة -157 من سورة النساء- من المتشابهات، واستنتاجه من ذلك عدم جواز العمل بظاهرها، هو قول بلا دليل، ومنبثق من توجهاته العقديّة والإيديولوجيّة المسيحيّة، إذ لم يتبنّ أيّ مفسّرٍ مسلم هذا الرأي مطلقًا؛ والسبب في إصراره غير المبرر ،واضح، لأنّها تدلّ في ظاهرها الصريح على عدم وقوع الصلب بحق المسيح عيسى(علیه السّلام)، لكن ما يدعو للأسف أنّ الأمر لا يقتصر على هذا المستشرق فحسب، بل إنّ الكثير من المستشرقين قد استدلوا من ظاهرها على عدم تحقق الصلب.

إذَا، اعتبر الحدّاد تلك الآيات التي تشير إلى موت المسيح بأنّها محكمةً، لذلك رأى ضرورة تفسير الآية 157 من سورة النساء على أساسها، وفي هذا السّياق ادّعى أنّ الخطأ الذي وقع به المفسّرون المسلمون سببه تفسير كلّ واحدة من الآيات التي أشارت إلى موت المسيح على حدة، الأمر الذي أسفر عن حدوث تعارض بينها وبين الآية المذكورة(1).

لكن الحقيقة على خلاف هذا التصوّر، إذ ليس من اليسير بمكان الربط بين كلّ هذه الآيات، والحدّاد بنفسه عجز عن فعل ذلك، وكلامه بكل تأكيد زعم محضّ لم يتمكن من تطبيقه على أرض الواقع. صحيحٌ أنّ الآيات 33 من سورة مريم و 55 من سورة آل عمران و 117 من سورة المائدة وغيرها تدلّ على موت المسيح؛ بحيث استند إليها هذا المستشرق لادّعاء وقوع عمليّة ،الصلب، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي العلاقة بين ذكر موت المسيح وبين عدم صلبه ؟ فآية البحث هي في مقام بيان فشل اليهود في قتل النبي عيسى(علیه السّلام)وصلبه، وليست في مقام بيان عدم موته، لذا لا بد لنا من الالتفات إلى الغرض من البيان وعدم تحميل مداليل آيات أخرى عليها فضلاً عن ذلك، فالآية 117 من سورة المائدة على سبيل المثال والتي سنتطرّق إلى الحديث عنها بشكل مستقل في هذا الباب، في مقام بيان أنَّ النبي عيسى(علیه السّلام)لم يكن موجودًا بين بني إسرائيل بعد تنفيذ عمليّة الصلب، ولا يراد منها بيان ما إن كان قد مات في تلك الآونة أو لا؛ أي إنّها لا تتضمّن ما يدلّ على موته ورفعه إلى السماء.

والمعروف عن هذا الباحث أنّه لم يتخلّ في نظريّاته وآرائه عن مرتكزاته العقدية، فكلّ آيةٍ أو عبارة تعامل معها، حاول إثارة جدل تفسيري حولها؛ استنادًا إلى أسسه الفكرية، وقد لجأ في

ص: 54


1- راجع يوسف درّة الحداد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 229.

هذا المضمار إلى أساليب ماكرةٍ ورؤى يشوبها التمويه؛ لذكر النتيجة التي يتبناها إزاء هذا الجدل، حتّى إنّه ادّعى في بعض الموارد تحريف الآية من قِبَل كَتَبَة القرآن الكريم، وفي بعض الموارد رفض المعنى المتبادر من بعض الكلمات وبادر بنفسه إلى تحميل معنى يتناسق مع آرائه عليها، وأحيانًا أخرى كان يدرج بعض الآيات ضمن المتشابه من القرآن ومن ثم يرفض دلالتها الظاهرية؛ تأييدًا لرأيه؛ إلا أنّ هذه الحيلة التفسيرية - ادّعاء- أنّ الآية متشابهةً - لم تُعِنْه على إثبات رأيه بشكل قاطع؛ لكون التشابه يطلق على العبارات المتشابهة مع بعضها من الناحية الدلالية؛ بحيث يشتبه الناس في تشخيص الدلالة المقصودة منها، ويعجزون عن تحديد مصداقها(1). وجدير بالذكر -هنا- أنّ الآيات المتشابهة هي التي لا يمكن للمخاطب معرفة مداليلها من ظاهرها، لذا لا يعرف المقصود منها بمجرد قراءة ألفاظها أو الاستماع لها، ومن ثمّ يحتمل لها معاني عديدةً، ومن هذا المنطلق لا محيص - هنا - من عرضها على الآيات المحكمة؛ كي يتّضح المراد منها(2).

هذا هو المراد من التشابه في القرآن الكريم، لكن هل يمكن اعتبار الآية 157 من سورة النساء بكونها من المتشابهات ؟ يبدو أنّ البنية اللغوية للآية ومضمونها ليسا هما السبب في ادّعاء يوسف درّة الحدّاد بكونها من المتشابهات، وإنّما متبنّياته الفكرية والأهداف التي طمح إليها هي التي حفّزته على استنتاج كهذا ، لذا لو أنّه التزم جانب الحياد، وتخلّى حين عمليّة الاستدلال عن مرتكزاته العقدية المسيحيّة التي تقوم على تأريخية الصلب، فحينئذ هل من الممكن أن يتبادر إلى ذهنه أمرٌ آخرُ غير نفي صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)وعدم تمكن اليهود من قتله ؟! إذًا، اعتقاده بتأريخيّة الصلب هو الذي جعله يتصوّر كون الآية المذكورة من المتشابهات وادّعاء أنّ ظاهرها يتعارض مع تلك الآيات التي أشارت إلى موت المسيح؛ مثل: الآيتين 33 من سورة مريم، و 117 من سورة المائدة، وغيرهما(3).

وبناءً على الرأي الصحيح؛ وفحواه عدم وجود تعارض بين الآيات التي تحدثنا عنها، فإن زعم أيّ تعارض يعني تحميل القرآن الكريم رأيًا لا يمتّ له بصلة؛ ولو قارنا بين الآية 157 من سورة النساء

ص: 55


1- راجع: جعفر نکونام، مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: «تفسير معنا شناسانه آیه محكم ومتشابه»، نشرت في مجلة «پژوهش ديني»، العدد السادس عشر، 2008م، ص 56
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 21 راجع أيضاً : أبو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب، متشابه القرآن ومختلفه ،إيران، قم، منشورات «بیدار»، 1369ه_، ج 1، ص 2.
3- سوف نتطرّق في المباحث اللاحقة إلى إثبات أنّ هذه الآيات لم تشر قبل ذلك إلى موت النبي عيسى(علیه السّلام).

التي أشارت بصريح العبارة إلى عدم نجاح اليهود في صلب النبي عيسى(علیه السّلام)، وبين تلك الآيات التي قال الله -عزّ وجلّ - فيها بأنّه مثل سائر البشر ومصيره(علیه السّلام)الموت مثلهم، سوف لا نستنتج أن موته قد تحقق إبّان عمليّة الصلب، إذ التصريح المؤكِّد في آية الصلب ينمّ عن كونها من جملة الآيات المحكمة، وبالتالي ليس من الممكن تحميل أي رأي آخرَ عليها؛ بغية تحقيق مآرب خاصة.

إن رأي الحدّاد(1)بكون الصلب حقيقةً متواترةً هو مجرّد ادّعاء صرف لا يقوم على أيّ مرتكزات تأريخية أو حقائق موثقة؛ على الرغم من أنه استند في مدعاه هذا إلى رأي المفسّر المسلم الفخر الرازي، حيث نقل عنه أنّ إنكار قتل المسيح وصلبه يعدّ طعنًا في التواتر، والطعن في التواتر يعني الطعن في نبوّة خاتم الأنبياء محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ونبوة عيسى(علیه السّلام)وسائرالأنبياء والرسل(2).هذا الكلام لا يتناغم في الواقع مع الرأي الواقعي الذي تبنّاه الرازي، فقد دوّن ما أشار إليه الحدّاد -هنا- بوصفه مجرّد احتمال، ثمّ بادر بنفسه إلى تفنيده؛ معتبرًا إياه شبهةً، حيث قال : «والجواب عن الخامس أنّ الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين؛ ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز، والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل، لم يكن مفيدًا للعلم»(3)، فضلاً عن أن عيسى(علیه السّلام)لم يكن يخالط الناس كثيرا، لذا لا يمكن اعتبار خبر صلبه متواترا، لكن مع ذلك ادّعى هذا المستشرق أنّ الرازي أيّد الرأي القائل بتواتر خبر صلبه، بينما صريح كلام هذا المفسّر المسلم يفنّد زعمه الواهي، لأنّه حاول تحريف مدلوله الصريح.

وجدير بالذكر أنّ أحد الباحثين اعتبر الاختلاف بين النصارى في العهد الأوّل دليلًا بارزًا على عدم تواتر قتل المسيح عيسى(علیه السّلام)، فقد أنكر بعضهم مقتله(4)، وأكد في دراساته على أنّ النصارى أنفسهم كانوا مختلفين في ما بينهم حول مقتله؛ على الرغم من اتفاقهم في العهود المتأخّرة على ذلك، إذ منهم من يعتقد بفشل أعدائه في قتله؛ والنتيجة لهذه الحقيقة هي أن تواتر خبر قتله ليس مرتبطًا بالعهد الذي حدث فيه الصلب، ومن ثمّ لا يمكن اعتباره خبرًا

ص: 56


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 230.
2- م. ن، ص، ن.
3- محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 8، ص 240.
4- محمد رضا غياثي كرماني، پژوهش هاي قرآني علامه شعراني در تفاسیر مجمع البیان- روح البيان ومنهج الصادقين (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات مؤسسة «بوستان کتاب» 2006م، ج 1، ص 401.

صحيحًا مفيدًا للعلم واليقين(1). وفي هذا السياق أكد قائلاً: «يعتقد اليهود والنصارى بأن خبر صلب النبي عيسى متواتر، وعقيدتهم هذه صحيحةً؛ لأنّهم شاهدوا إنسانًا معلقًا على الصليب، ونحن أيضًا لا ننكر ذلك، لكنّهم وقعوا في خطأ هنا لكون المصلوب ليس النبي عيسى(علیه السّلام). إذا الصواب هو الاكتفاء بما ذكر في القرآن الكريم وعدم التكلّف في الموضوع»(2). لو أخذنا هذا الكلام بنظر الاعتبار إلى جانب ما أثبتناه في المباحث الآنفة على صعيد عدم تأريخية الصلب، سوف لا يبقى أي مجال لادّعاء وجود تواتر بهذا الخصوص.

3. الإذعان بكون القرآن الكريم نفى صلب المسيح وتبريره على ضوء فرضيات تأريخية:

حاول المستشرق البريطاني وليام مونتغمري واط(3)التقريب بين وجهات النظر الإسلامية والمسيحيّة على صعيد صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)، ولو على هذا الأساس أذعن بكون الآية 157 من سورة النساء تدلّ بصريح القول على عدم وقوع الصلب بشأنه، وبالتالي تتعارض مع المرتكزات العقدية المسيحيّة، لذلك حاول توجيهها وفق أسس تأريخيّة؛ قائلاً: إنّه ربّما يمكن للمسيحيّ الإذعان بما طرحه القرآن الكريم بالنسبة إلى صلب النبي عيسى، وذلك من منطلق أنه حدث بفعل الجنود الرومان؛ وفحوى النصّ القرآني أنّ الصلب لا يمكن اعتباره نصرا لليهود؛ بناءً على العقيدة القائلة ببعث عيسى(علیه السّلام)من قبره

واتِّبع هذا المستشرق البريطاني نهجًا معتدلا في التعامل مع مضمون الآية المذكورة؛ محاولا تأييد الموقف القرآني الرافض لوقوع الصلب بشأن المسيح(علیه السّلام)، لكنّه مع ذلك اعتبرها غير دالّة بشكل قاطع على التفسير الذي تبنّاه المسلمون لها، حيث أيّد الرأي القرآني القائل بفشل اليهود في قتل النبي عيسى(علیه السّلام)و عدم تمكّنهم من صلبه، لكنّه مع ذلك حاول توجيه التعارض الموجود بين هذا الرأي ومعتقداته المسيحيّة القائمة على الإيمان بصلب المسيح، بادعاء أنّ الرومان هم الذين صلبوه لا اليهود، حيث تمت عمليّة الصلب في منطقة يقطنها اليهود؛ ويؤيّد ذلك أنّ الأحداث التأريخيّة اللاحقة دلّت على عدم صوابية مزاعم اليهود التي لوّحوا فيها إلى أنّهم انتصروا على عیسی(علیه السّلام).

ص: 57


1- محمد رضا غیاثی کرمانی، پژوهش هاي قرآني علامه شعراني در تفاسیر مجمع البيان- روح البيان ومنهج الصادقين (باللغة الفارسية)ج 1، ص 399.
2- راجع: م. ن، ج 1، ص 401.
3- William Montgomery Watt.

وجدير بالذكر أنّه التزم جانب الحياد، وحاول جاهدًا التقريب بين وجهات النظر الإسلامية والمسيحيّة على صعيد ما ذكر؛ لدرجة أنّه وافق على بعض التفاسير الإسلامية المطروحة في تفسير قوله - تعالى -: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾؛ معتبرًا إياها غير متعارضة مطلقًا مع الرؤية المسيحيّة(1).

وتطرّق الفيلسوف واللاهوتي الأمريكي توماس ماك إيلوين، ضمن افتراضه تأريخية الصلب، إلى تفسير الآية المذكورة، حيث قال: «الآيات التي تحدّثت عن الصلب، يتم تفسيرها بشكل عام على ضوء إنكار موت عيسى، لكن بدل أن تفسّر هكذا ينبغي القول بكونها في صدد إنكار مزاعم اليهود الباطلة في قتلهم إيَّاه »(2). وبعد ذلك احتمل صوابية كلا التفسيرين، لكنّه اعتبر كلّ واحد منهما عرضةً لبعض المؤاخذات.

والمؤاخذة التي طرحها هذا المفكّر على التفسير التقليدي للآية القائم على إنكار صلب المسيح منبثقة من اعتقاده بتأريخيّة الصلب، فقد حذا حذو الكثير من المستشرقين واعتبرها دالّةً على سخرية اليهود بالمسيحيّين، لذلك قال إنّها لا تحكي عن موت عيسى(علیه السّلام)أو بقائه حيًّا،لکن مع ذلك أقرّ بكون ألفاظها دالّةً بشكل قاطع على نفي صلب المسيح؛ وعلى هذا الأساس رفض التفسير الذي طرح من قبل المستشرق وليام مونتغمري واط، حيث قال: «التصريح القاطع الموجود في الآية يثير شكوكا حول الرأي القائل بكون الرومان هم الذين قتلوا عيسى لا اليهود، فلو صح ادّعاء أنّ الرومان هم الذين قتلوه لذكر في القرآن ذلك ولما تم التأكيد فيه على أن اليهود لم يتمكنوا من قتله»(3).

وقد طرح الفكرة التالية لتفسير الآية المذكورة ضمن مساعيه الرامية إلى التنسيق بين مضامين الأناجيل والقرآن الكريم بخصوص النبي عيسى(علیه السّلام): «الرومان هم الذين قتلوا عيسى لا اليهود»(4)، لكنّ بعض المستشرقين يعتبرون هذا التوجيه ينمّ عن مساع فكريّةٍ غير صادقةٍ هدفها التحايل على حقيقة الصلب؛ كما أشار إليها القرآن الكريم،(5)لذلك قالوا: «لو كان

ص: 58


1- William M. Watt, Muslim - Christian encounters, Routledge, 1991, p. 22. وليام مونتغمري واط، اسلام و مسیحیت در عصر حاضر گامی برای گفتگو (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية خليل قنبري، منشورات «پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، ص 289.
2- Thomas Mc Elwain, Islam in the Bible, (Adams McElwain Publishers, 1998), p. 113
3- Ibid
4- Ibid
5- Neal Robinson, Christ in Islam Christianity: The representation of Jesus in the Qur'an the classical Muslim commentaries, (London: Macmillan, 1991), Ibid., p. 115.

الهدف المقصود في الآيات 157 إلى 159 من سورة النساء هو أنّ المسيح لم يصلب على يد اليهود، بل على يد الله أو الرومان؛ لذكر هذا الأمر فيها بشكل صريح»(1).

4) تفنيد النظرية القرآنية القائلة بعدم صلب المسيح(علیه السّلام)استناداً إلى سياق الآية:

كلّما ابتعدنا عن أوائل النصف الثاني من القرن العشرين نلاحظ تزايد الادعاءات الاستشراقية الرافضة للرأي القرآني القائل بعدم نجاح القوم في صلب النبي عيسى(علیه السّلام)، كما نجد الكثير من المحاولات الرامية إلى تفنيد الروايات المنقولة في المصادر الإسلامية بخصوص آية الصلب.

فقد سلك محمود مصطفى أيوب النهج ذاته الذي اتَّبعه وليام مونتغمري واط وحاول التقريب بين وجهات النظر المسيحيّة والإسلاميّة بالنسبة إلى صلب المسيح، ولم ينتهج ما ذهب إليه ريتشارد بيل الذي زعم أنّ النظرية القرآنية متأثرةً بالفرق العرفانية المسيحية؛ مثل الفرقة الغنوصية، لكن مع ذلك لم تطاوعه نفسه في التخلّي عن فكرة تأريخية الصلب ووقوعه بشأن النبي عيسى(علیه السّلام).

وقد بادر في إحدى مقالاته(2)إلى التنسيق بين الرؤية التقليديّة التي تبنّاها المفسرون المسلمون بخصوص مسألة الصلب، وبين الرؤية التقليدية المسيحيّة، وفي هذا السياق اقترح القول بعدم تأريخيّة آية الصلب، حيث اعتبرها كسائر الآيات التي تطرقت إلى الحديث عن النبي عيسى(علیه السّلام)،فهي برأيه تتضمن إيضاحًا لاهوتيا في رحاب أوسع نطاق دلالي.

ومن جملة آرائه الأخرى بهذا الخصوص أنّ النظريّة القرآنية بخصوص صلب المسيح على غرار النظرية القرآنية بخصوص أمه السيدة مريم(سلام الله علیها)التي وصفت بعبارة ﴿يَتأُخْتَ هَرُونَ﴾(3)؛كما ردّ على اعتراض المؤرّخين وقال إنّ القرآن عرّف الأنبياء والرسل وكأنّهم حلقات في سلسلة مترابطة.

وكذلك أكد على إنّ القرآن الكريم ليس في صدد ذكر أخبار كاذبة أو الإشارة إلى أباطيل

ص: 59


1- Ibid., p. 115
2- Mahmoud Mustafa Ayoub, “Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 104.
3- قال -تعالى-: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ (سورة مريم، الآية 28).

تأريخيّة، بل سياقه في صدد بيان جهل البشر وحماقتهم إزاء الله -تعالى- والأنبياء؛ وقد اعتمد في رأيه هذا على الأوصاف التي ذكرت للنبي عيسى(علیه السّلام)في مختلف الآيات التي أكدت على أنّ اليهود أرادوا قتل عيسى البريء والمسيح وكلمة الله ورسوله، فهذه الأوصاف القرآنية أريد منها بیان واقع شخصيّته للبشرية ضمن خطابِ موجّه لليهود. والألقاب التي ذكرها الله -تعالى- للنبي عيسى(علیه السّلام)في هذه الآية تدلّ على أنّه -تبارك شأنه- ليس في صدد الحديث عن رجل كسائر الرجال، وإنّما يتحدّث عن كلمته التي أرسلها إلى الأرض، ثمّ عادت إلى السماء، وقد أيّد بذلك تفنيد الآية مقتله، لكنّه لم يفسّر مفهومها بإنكار قتله، بل بإنكار قدرة البشر في القضاء على كلمة الله عزّ وجلّ، تلك الكلمة التي لها الغلبة دائما(1).

ويبدو أنٌ محمود مصطفى أيوب حذا حذو المستشرقين غابريل سعيد رينولدز، ونيل روبنسون؛ حيث اعتبر قوله - تعالى-: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ مترسخةً بعمق في نفس كلّ إنسانٍ وضميره، ووصف قوله - تعالى -: ﴿ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ بأنّه حكم الله -سبحانه وتعالى- قبال غرور الإنسان وجهله(2).

وجدير بالذكر أن عددًا من المفسّرين المسلمين يعتقدون بأنّ القصص القرآنية التي تسرد فيها أحداث وتتمحور حول أشخاص؛ هي ذات طابع أدبي وفني، وليست في صدد الإخبار عن حقائق تأريخية(3)، لكنّ السؤال الذي يطرح عليهم، وعلى محمود مصطفى أيوب؛ هو: هل يمكن تسرية هذا الرأي على جميع القصص القرآنية، أو أنّ الأمر يقتصر على تلك الموارد التي يمكن للنص أن يتيح فيها استنتاج دلالة رمزيّة أو مجازيّة كهذه ؟ لا شك في أنّ الحقيقة هي المبدأ الأساس في تفسير المصطلحات والعبارات القرآنية؛ إلا إذا دلّت قرينة عقليّةً أو نقليّة على غير ذلك؛ بحيث يمكن الاستناد إليها لاستنباط معنى مجازي، فالعدول عن المعنى الظاهري للقرآن الكريم واللجوء

ص: 60


1- Ibid., p. 116 - 117 passim. سوف نتطرق إلى نقد هذا الاستدلال في المباحث اللاحقة ضمن بيان مدلول قوله - تعالى -: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾.
2- Ibid
3- المستشرق كينيث كراغ تبنّى هذا الرأي أيضًا في كتابه(Jesus the Muslims)حيث تبنّى وجهةً تقريبيةً على ضوء فرضية تأريخية صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)و لو في هذا المضمار قال إنّه لا ينبغي للمسيحيّين التسرع في استنتاج مضمون القرآن الكريم واعتباره قد فنّد صلب المسيح؛ فالقرآن برأيه أيّد الصلب بالقطع واليقين؛ لكونه ليس مجرّد فعل يراد منه النجاة أو فيه نجاة للبشر، وإنّما هو عمل منكر من قِبَل البشر، حيث أدلى البشر بما يجول في أنفسهم بشكل عملي وأثبتوا أنّهم لا يرغبون بحياة النبي عيسى(علیه السّلام)ولا تعجبهم شخصيته. (Kenneth Cragg, Jesus the Muslim: an exploration, (London: George Allen Unwin, 1985, Passim.)

إلى التأويل يُسوّغ حينما توجد حجّة ثابتة ومعتبرة تشير إليه، وفي غير هذه الحالة فهو مرفوض؛ جملةً وتفصيلًا(1)؛ إذ هناك موارد خاصةً يمكن الاعتماد فيها على ظواهر الآيات لطرح آراء تتعارض مع الأصول الارتكازيّة؛ عقلًا واعتقادًا، على ضوء مسائل الحقيقة والمجاز.

والعبارات القرآنية التي سبقت الآية المذكورة، والتي اعتبرها أيوب سياقًا وأنموذجًا على جهل الإنسان لا نستشف منها أيّ دلالة ظاهرية على العدول عن المعنى الحقيقي بتاتًا، ومن جملتها عبادة العجل الذي صنعه بنو إسرائيل من الذهب (سورة النساء، الآية 153)وقتلهم الأنبياء (سورة النساء، الآية 155)وقذفهم السيدة مريم(سلام الله علیها)بالزنا (سورة النساء، الآية 156)،(2)وفي النهاية جرأتهم في الإقدام على قتل النبي عيسى(علیه السّلام).

ومن المؤكد أنّ عبادة العجل واتّهام السيّدة مريم(سلام الله علیها)، وقتل الأنبياء من قِبَل بني إسرائيل؛ هي حقائق تأريخيّةٌ ثابتةٌ يُقرّ بها اليهود أنفسهم، كما أنّ مسألة قتل المسيح وصلبه ذكرت في هذا السياق نفسه، ومن الواضح بمكان عدم صوابية طرح أي استنتاج غير تأريخي منها، ولا يمكن تصوّر تناسب سياقها مع قضايا عاطفيّة؛ بحسب ادّعاء البعض. أضف إلى ذلك أنّ الألقاب التي ذكرتها الآية للنبي عيسى(علیه السّلام)يمكن إثباتها ، بدليلين فهي إما أن تكون ألقابًا تنمّ عن استهزاء اليهود به(3)؛من منطلق عدم اعتقادهم مطلقًا بمثل هذا الشأن الرفيع له، إذ رفضوا نبوّته بصريح القول، وما قبلوا بها مطلقًا، لذا لم يكن هناك ما يدعوهم لأن يصفوه بالنبي أو الرسول، حيث كانوا ينتظرون المسيح المنقذ لهم؛ وهو حسب اعتقادهم ليس عيسى بن مريم. إذا هل يوجد سبب يدعوهم لأن يعتقدوا بكونه المسيح المرتقب ظهوره؟ من الواضح أنّهم كانوا يقولون مستهزئين: لقد قتلنا ذلك الرجل الذي ادعى أنه نبي الله أو المسيح المنتظر. ولربّما ذكر الله -تعالى- هذه الألقاب للتعريف بشخصيته، وبيان حقيقة رسالته؛ أي إنّه ردّ على قبح كلام اليهود بشأن هذا النبيّ المرسل عبر التذكير بمحاسنه، وفي هذا السياق أكد

ص: 61


1- راجع: محمّد باقر سعيدي روشن، مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: «حقیقت گروي - استراتژي اساسي در زبان قرآن»، نشرت في مجلة «الهيات وحقوق»، العدد 11، 2004م، ص 58.
2- قال - تعالى -: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ (سورة النساء، الآية 153). ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٌّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قليلًا﴾ (سورة النساء، الآية 155). ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ (سورة النساء، الآية 156).
3- شبيه هذا الأسلوب نلاحظه - أيضًا - في الآية 27 من سورة الشعراء: ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾.

على أنّهم ما قتلوه وما تمكنوا من صلبه : ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾. هذه الآية تفيد أن اليهود لم يتمكنوا من قتله، بل عجزوا حتى عن صلبه، وفي المقطع الأخير منها تم التأكيد مرّةً أخرى على توهّمهم في أنّهم حققوا مرادهم: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍ مِنْهُ مَا هُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا انْبَاعَ الظَّنَّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا ﴾، وقد وصف محمود مصطفى أيوب قوله - تعالى -: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ بأنه صحيح ومنطقي، وضمن رفضه للروايات الإسلامية التي نقلت في تفسيره(1)، اعتبره ذا دلالةٍ غامضة وغير محدَّدةٍ(2)، وبرّر هذا الاستنتاج بكون مرجع الضمير (هم) في قوله ﴿ لهم ﴾ هو اليهود الذين ادعوا أنهم تمكنوا من قتل المسيح بعد أن صلبوه أو أنّهم صلبوه بعد أن قتلوه، وعبارة ﴿ شُبِّهَ هُمْ ﴾ تدلّ على وقوع فعل مجهول لا شخصي، فهي تعني اشتبه الأمر عليهم، أي إنّ أمرًا قد التبس عليهم وتخيلوا إنجازهم المهمة والقضاء على النبي عيسى(علیه السّلام).

وتجدر الإشارة -هنا- إلى عدم تطرّق النصّ القرآني إلى ذِكْر أي توضيح حول نوعيّة هذا الاشتباه الذي طرأ على أذهان اليهود، لكن هناك قصص وسيناريوهات عديدة ذكرت في مختلف المصادر التفسيرية على صعيد تفسير هذه الآية أريد منها بيان واقع هذا الالتباس الذي أوقع اليهود في خطأ؛ لكنّ كلّ هذه القصص والسيناريوهات باطلة؛ نظرًا لعدم اتساقها مع بعضها وتنوّعها، فضلا عن عدم نقلها من مصادر موثّقة، لذا فهي لا تمنح القارئ أيّ اطمئنان بمضامينها.

إذًا، طبقًا لما صرّح به كلّ من محمود مصطفى أيوب، وغابريال سعيد رينولدز، لا يمكن الإذعان بوجود تطابق بين مضمون قوله - تعالى -: ﴿ شُبِّهَ هُم ﴾ وما ذكر من قصص في تفسيره، وقال أيوب في هذا السياق إنّ العبارة اللاحقة: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكِ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتبَاعَ الظَّنِّ﴾ تعدّ توضيحًا للعبارة المذكورة قبلها ﴿ ولكن شُيّهَ لَهُمْ ﴾؛ ما يعني أنّ الله -عز وجل- أكبر من كل قدرة إنسانيّةٍ وأعظم من جميع المخططات والمؤامرات البشرية الخاوية أمام اقتداره.

وقوله - تعالى -: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَنا﴾، وما تلاه في الآية اللاحقة: ﴿ بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ

ص: 62


1- Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 100
2- Ibid., p. 105.

عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾(1)فيهما تأكيد على جهل البشر، وإمكانيّة وقوعهم في أخطاء وأوهام تبعدهم عن الحقيقة، والسبب في ذلك - برأي محمود مصطفى أيوب هو عدم امتلاكهم إيمانا راسخا بعد ذلك أشار الله - تعالى - إلى عظمة ذاته واقتداره وكماله المطلق أمام عجز البشر وضيق نطاق قابليّاتهم؛ حينما قال: ﴿ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾(2).

ولو ألقينا نظرةً على الخلفيّات الأساسيّة للأحداث التي تطرّقت هذه الآيات إلى ذكرها، نستشف منها أنّ الذين اختلفوا في ما بينهم هم يهود بكل تأكيد؛ أي أولئك اليهود المعاصرين للأحداث التي سردت في الآيات التي أشرنا إليها، حيث اختلفت آراؤهم حول ما حدث؛ لكن بعض الباحثين يعتقدون بأنّ الاختلاف المذكور قد وقع في الحقيقة بين المسيحيّين حول النبي عيسى(علیه السّلام)إذ التأريخ المسيحيّ منذ بداياته كان زاخرًا بخلافاتٍ ونزاعاتٍ محتدمة ومعقدة تمحورت بشكل أساس حول شخصيته وتكوينه وارتباطه بالله - تعالى - ؛ أي العلاقة بين فطرته الإنسانية وصبغته الإلهيّة، كذلك اشتدّ الجدل بين المسيحيّين حول كونه إنسانًا؛ كسائر البشر أو لا.

العبارة المطروحة للبحث - هنا- تدلّ بشكل صريح ومؤكّد على أنهم لم يتمكنوا من فعل أي شيء للمسيح عيسى(علیه السّلام)، وكل ما لديهم هو الظنّ والتوهّم لا غير، وقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا ﴾ في الآية 157 من سورة النساء، فيه قطع ويقين على ذلك، دون أي قيد أو شرط؛ أي أنّ اليهود لم يتمكنوا من قتله مطلقًا، وهذا هو مغزى الموضوع وفحواه بكل تأكيد، فلا اليهود ولا غيرهم فعلوا ذلك؛ وإنّما رفعه الله -تعالى- إليه(3).

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ لا يمكننا اتِّباع الرأي الذي تبنّاه محمود مصطفى أيوب؛ باحتمال كون الآية المشار إليها تدلّ على مضمون أدبي مجازي، فقد قال إنّ روح المسيح عيسى(علیه السّلام)بقيت حيّةً، لكنّ جسمه فنى جرّاء صلبه، في حين أن القرآن الكريم أكّد بصريح العبارة وببيان هو الغاية في الدلالة والوضوح على عدم صوابية هذا الكلام، حيث قال - تعالى - إنّ اليهود قد شُبّه لهم أنّهم قتلوا المسيح عيسى(علیه السّلام)وصلبوه ، لكنّه لم يوضّح طبيعة هذا الاشتباه، لا في هذه الآية ولا في آيات أخرى .

ص: 63


1- سورة النساء، الآية 158.
2- Ibid., p. 118.
3- حامد الجار، حضرت عیسی در قرآن: در درس گفتارهاي حامد الگار (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية إسحاق أكبريان، تحقيق أحمد رضا جليلي ،إيران، طهران، منشورات «كتاب طه»، 2004م، ص 44.

والنتيجة النهائيّة التي توصل إليها أيوب في بحثه؛ فحواها: أنّ القرآن الكريم في هذه الآيات يرفض موت المسيح عيسى(علیه السّلام)عن طريق صلبه، ولم يشر إلى كيفية وفاته؛ وكما أشرنا آنفًا، فعدم الصلب المذكور في القرآن هو تعبير استعاري برأيه(1). لكن ما نلمسه بكل وضوح من الآية أنّ اليهود لم يفلحوا في صلب المسيح، لذا لا يمكن ادّعاء أنّها تدلّ على موته بشكل آخر غير الصلب، ومن ثمّ لا يمكن الارتكاز على مضمونها؛ لاحتمال أنّه مات ولم يُرفَع إلى السماء؛ وهو حي.

واستند بعض المستشرقين المتأخرين إلى سياق هذه المجموعة من الآيات، وطرحوا ذات الرأي الذي تبنّاه محمود مصطفى أيوب؛ ليستنتجوا أنّ القرآن الكريم أبقى مسألة صلب النبي عيسى(علیه السّلام)مطلقةً ولم يحدّد مصيره، كذلك رفض المستشرق غابريال سعيد رينولدز تفسير العلماء المسلمين لآية الصلب؛ مبررًا ذلك بأنّ السّياق يقتضي غير ذلك، واعتبر الروايات المنقولة في تفسير الآيات المشار إليها مجرّد سيناريوهات مقتبسة من النصوص الإنجيلية التي تتمحور حول بيان المصائب التي تعرّض لها المسيح(علیه السّلام)،والاختلاف الوحيد بين الأناجيل والروايات الإسلامية في هذا المضمار يكمن في أن الأخيرة تؤكّد على كون اليهود لم يصلبوه؛ وإنّما صلبوا شخصًا آخر شبيهًا به، لأنّ الله -عزّ وجلّ- رفعه إليه. بما أنّ هذا المستشرق مسيحيّ المنشأ فهو بطبيعة الحال يؤمن بالصلب ويعتبره من الوقائع التأريخيّة الثابتة، فهذه العقيدة موثّقةً ومحترمةٌ للغاية لدى أتباع الديانة المسيحيّة، وتحظى باهتمام بالغ، مثلما تحظى واقعة كربلاء باهتمام ووثاقة لدى الشيعة، لذا فإنّ إنكارها يعني مخالفة واقع تأريخي يقيني؛ ومن هذا المنطلق قلل المستشرقون والعلماء المسيحيون من شأن الروايات الإسلاميّة المنقولة في بيان مدلول آية الصلب واعتبروها مجرّد ظنون وتخمينات تفسيريّةٍ لا صوابية لها؛ باعتبار أنّ المسلمين صاغوها من عند أنفسهم؛ لأجل طرح صورة لدينهم؛ وكأنّه مختلف عن الديانة المسيحيّة(2)؛ في حين أنّ المفكّر ويل ديورانت قال في كتابه الشهير «قصّة الحضارة» إنّ الإسلام في تلك الآونة لم ينتشر في الشرق الأوسط فقط، بل اجتاح قارّتي إفريقيا وأوروبا ، لذا لم يكن المسلمون بحاجة إلى صياغة سيناريوهات معينة لأجل تصوير

ص: 64


1- Mahmoud Mustafa Ayoub, “Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 107.
2- Gabriel Said Reynolds, "The Muslim Jesus: dead or alive?, Bulletin of the School of Oriental African Studies 72 (2009), p. 254; Also See Todd, Benjamin Lawson, The crucifixion the Quran: A study in the history of Muslim Thought, (Oxford: Oneworld publication, 2009, p. 30

دينهم؛ وكأنّه ذو شخصيّةٍ مستقلة ويختلف عن سائر الأديان(1).

وبحسب الحقائق التأريخيّة المتداولة هناك إنجازات عظيمة وفريدة من نوعها للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فالمسلمون خلال جيل واحدٍ انتصروا في مئة معركة وأسسوا خلال قرنِ واحدٍ إمبراطوريةً عظيمةً، فضلا عن أنّ الأسلوب القرآني المتبع في بيان رسالات الأنبياء والمبادئ اللاهوتية الخاصة التي ساقها حول الأنبياء والرسل، ولا سيّما بخصوص النبي عيسى(علیه السّلام)، تعد بحد ذاتها مرتكزاً لطرح الإسلام بوصفه دينًا مستقلا ومختلفًا عن غيره، لذا لم تكن هناك حاجة لأن يتمّ تمييزه عن غيره من الأديان، بعد قرن ونصف، على ضوء ظنَّ وتخمين.

واعتبر المستشرق غابريال سعید رینولدز ظهور الفرق التي تشعبت من مذهبي الشيعة والسنة عاملا أساسيا لنشأة الإسلام بهذا الشكل، لكنّ ادّعاءه هذا لا يستند إلى أيّ مرتكز تأريخي، حيث يرد عليه ذات الإشكال الذي طرحه بنفسه على التفاسير الإسلامية، فما وصفه بالتراصف الشيعي والسني في الواقع ليس سوى تخمين تفسيري من قبله ولا يقوم على حقائق تأريخية؛ وكما أشرنا سابقًا فنحن لسنا مضطرين لتقبّل مثل هذه الروايات فضلا عن أن نصّ الآية يُعتبر كافيًا لإثبات القضايا التي دار الحديث عنها.

نستشف من كلام رينولدز وسائر المستشرقين الذين تبنّوا النهج ذاته - مثل نيل روبنسون الذي اعتنق الإسلام بعد المسيحيّة- أنّ السّياق القرآني هو السبب الأساسي في عدم قبول النظرية القرآنية التي فنّدت صلب المسيح عيسى بن مريم(علیه السّلام)من قبل اليهود(2).

رينولدز بذل كل ما بوسعه لإثبات رأيه الذي أكّد فيه على تأريخية صلب المسيح معتمدًا على سياق الآيات 153 إلى 159 من سورة النساء والتي اعتبرها مفتاحًا للطرح القرآني بهذا الخصوص، وفي هذا المضمار أكد على أنّ المفسّرين المسلمين من خلال تجزئتهم الآيات وتحليل كلّ واحدة

ص: 65


1- للاطلاع أكثر، راجع: ويل ديورانت، تاریخ تمدن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أبو القاسم باينده، منشورات مؤسسة إقبال، ج 236-231،11 .
2- Cf. Gabriel Said Reynolds, "The Muslim Jesus: dead or alive?, Bulletin of the School of Oriental African Studies 72 (2009), pp. 237 247; Robinson, "Jesus, EQ, (Edited by Jane Dammen Mc Auliffe), leiden, New York Koln: E. J. Brill, 2003, Vol. 3, pp. 7 - 21; Idem, "Jesus in the Qur'an, the historical Jesus the myth of God incarnate, Wilderness: Essays in honor of Frances Young, (edited by R. S. Sugirtharajah), London: T. T. Clark, 2005, pp. 186-197.

منها على حدة، ساهموا في طرح مضامينها بحسب المعنى التقليدي المتعارف بينهم(1).وقد اعتبر حرف الواو الواقع في بادئ الآية 157 من السورة المذكورة دليلًا على العطف الشائع في اللغة العربيّة والذي يعني ارتباط المعنى السابق باللاحق، أي اتصال الجملة الأولى بما بعدها؛ وقال في هذا الصعيد أنّ المسألة الأساسيّة التي تمحورت بحوث معظم المفسّرين المسلمين حولها ضمن تفسيرهم سورة النساء، تتمثل في تفنيد تهم اليهود وذمّ طغيانهم وتصرفاتهم المنحرفة مثل عبادة العجل (سورة السناء، الآية 153) وقتل الأنبياء (سورة النساء، الآية 155) واتهام السيدة مريم(سلام الله علیها)بالزنا (سورة النساء، الآية 156) وقتل النبي عيسى(علیه السّلام)وعلى هذا الأساس قالوا إنّه كما أنّ الآية السابقة دافعت عن طهارة السيدة مريم(سلام الله علیها)وعفتها، فهذه الآية بدورها دافعت عن حقانية النبي عيسى(علیه السّلام)مقابلة مزاعم اليهود(2).

وقد كان للفرضيّات الارتكازيّة في أذهان المستشرقين تأثير بالغ إلى أقصى حد على توجهاتهم الفكرية؛ لدرجة أنّهم أنكروا الظاهر القرآني الصريح في الدلالة، والذي تم التأكيد فيه على أنّ اليهود عجزوا عن قتل المسيح وصلبه، لذا نجد رينولدز وأمثاله استندوا إلى مسألة السياق، وزعموا أنّ الآية لا تنكر صلبه، وبرّروا رأيهم هذا بكون البنية الخطابية فيها تدلّ على عدم امتلاك اليهود القابلية على فعل ذلك؛ بما لديهم من قدرة(3)؛ لأنّ الخطاب المطروح فيها يحكي عن الطبيعة الشيطانية لبعض البشر الذين تصوّروا أنهم قادرون على إلحاق الهزيمة بالربّ وقتل نبيه عيسى(علیه السّلام)(4). واعتبر رينولدز هذه الآيات أنّها تؤكّد على عجز البشر عن قبض روح إنسان؛ بداعي أنّ الحياة والممات بيد الله عزّ وجلّ(5).

ص: 66


1- Reynolds, Ibid., p. 251
2- Ibid
3- Ibid., p. 254
4- Ibid.
5- Ibid., p. 251. ذكر جفري بارندر في كتابه(Jesus in the quran)کلام روبنسون ورينولدز ذاته مع اختلاف ضئيل، وعلى ضوء افتراضه تأريخية صلب المسيح عيسى الله ادعى أن القرآن الكريم في هذ المسيح عيسى(علیه السّلام)ادعى أنّ القرآن الكريم في هذه الآية أكد على رفض الناس لنبوّته، ثمّ قارن معجزاته مع قدرة الله عزّ وجلّ، فالناس بحسب المضمون القرآني حاولوا قتله، لكنّهم عجزوا أمام القدرة الإلهية ولم يتمكنوا من تحقيق مآربهم. وقد قارن هذه المضامين القرآنية مع ما ذكر في سفر أعمال الرسل مؤكّدًا على أنها قد انعكست فيه، وذلك في المقطع التالي: الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنَّا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ" (سفر أعمال الرسل، 2: 24). كما أكد على أنّ الإسلام التقليدي على الرغم من رفضه صلب المسيح، لكنه مع ذلك يعتبره إنسانًا كسائر البشر وبقيت تعاليمه قائمةً على أساس هذه الفكرة، بينما الكنيسة من خلال تأكيدها على ألوهيته تناست إنسانيته وقد طرحت هذا الموضوع في العصر الحديث أيضًا. Parrinder, pp. 155 - 157 خلاصة الكلام أنّ جفري بارندر يعتقد بأن النبي عيسى(علیه السّلام)كان على علم بتعليقه على الصليب؛ ما يعني حدوث الصلب بشأنه. Ibid., p. 107

وأصاب رينولدز حينما اعتبر سياق هذه الآيات يتمحور حول الكفر ونقض العهد من قبل بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء بغير حقٌّ، حيث قال إنّه صحيحٌ أنّ الخطاب فيها موجّه لأهل الكتاب، لكنّنا نستشف من بنيتها العامة أنّ اليهود هم من وجه لهم الخطاب بالتحديد، لا أهل الكتاب قاطبةً ؛ أي أنّ الخطاب فيها ليس موجهًا للنصارى؛ لأنّ المقطع الأوّل من الآية 153 فيه إشارة إلى النبي موسى(علیه السّلام)والوعد الإلهي في جبل سيناء. ومضافًا إلى كلامه فإنّ المقطع الأوّل من الآية 155 يتضمّن نقدًا وتوبيخًا لليهود جرّاء قتلهم الأنبياء وارتكابهم جرائم أخرى(1)؛ والآية 156 وجّهت نقدًا لاذعا لهم إثر افترائهم على السيّدة مريم(سلام الله علیها)(2). وأما الآية 157 فهي في مقام توبيخهم بشكل عام ، فهم لا يدّعون فقط أنّهم قتلوا الأنبياء السابقين - وهذا ما حدث بالفعل بل يدّعون أيضًا - قتل النبي عيسى(علیه السّلام)- وهذا الأمر لم يحدث كما تصوّروا- حيث كانوا يقولون متهكمين أنهم قد تمكنوا من قتل شخص يدّعي النبوة، إلا أنّ الله -سبحانه وتعالى- ردّ عليهم مفنّدًا مزاعمهم بأنّكم لم تتمكنوا من قتله ولا صلبه، والآية التي تضمنت هذا الردّ تؤكّد كما ذكرنا على أنّهم لم يعجزوا عن قتل النبي عيسى(علیه السّلام)فقط، بل عجزوا أيضًا عن صلبه، لذا فهو لم يصلب مطلقًا في أي زمان كان؛ سواءً أكان إهانةً له أم عقابًا(3).

إذَا، هذه الآية تثبت بصريح العبارة عدم موت المسيح عيسى(علیه السّلام)مقتولا بيد اليهود الذين قتلوا بعض الأنبياء والرسل ظلمًا وعدوانًا مثل زكريا ويحيى، لذا لو صح ما ادعاه رينولدز بكون النفي في الآية 157 من سورة النساء يراد منه إثبات أنّ الحياة والموت بيد الله تبارك شأنه، يطرح عليه السؤال التالي: لِمَ لَمْ يستخدم هذا الشكل من النفي في القرآن الكريم ضمن آيات أخرى؟!

ولا يختلف اثنان في أنّ التأريخ اليهودي حافل بقتل البشر وحرقهم وصلبهم، لذا ما السبب الذي يدعو البعض لأن ينكر هذه الحقيقة بشأن المسيح عيسى(علیه السّلام)، على الرغم من تصريح

ص: 67


1- هذا الموضوع يؤيّده اليهود أنفسهم، حيث لا ينكرون أنّهم قتلوا عددًا من الأنبياء. (حامد الجار، حضرت عیسی در قرآن: در درس گفتارهاي حامد الكار (باللغة الفارسية)، ص 39).
2- القرآن الكريم انتقد اليهود في العديد من آياته، ومن جملتها ما يلي: (سورة البقرة، الآية 91)؛ (سورة آل عمران، الآيات 2،112، 181، 183)؛ (سورة النساء، الآية 155).
3- راجع: حامد الجار، حضرت عیسی در قرآن: در درس گفتارهاي حامد الكار (باللغة الفارسية)، ص 40.

القرآن الكريم بذلك؟! فهل من المنطقي زعم أنّ اليهود حينما يتفاخرون بصلبه يجيبهم الله -عزّ وجلّ- قائلًا: إنّكم لستم بقادرين على صلبه وقتله، بل أنا الذي صلبته وقتلته؟! ألا يراد من هذه الآية شجب تكبّرهم وذمّ تبخترهم جرّاء فعلتهم النكراء هذه، والتأكيد على فشلهم الذريع في تحقيق مآربهم؟!

وحاول رينولدز إثبات صوابيّة استنتاجه من مضمون الآية المشار إليها على ضوء تفسيرها بأنّها تدلّ على كون الموت والحياة بيد الله - سبحانه وتعالى- ، وفي هذا السياق استدلّ بالآيات 17 من سورة الأنفال و 145 من سورة آل عمران و 17 من سورة المائدة؛ لكن استدلاله هذا غير صائب لكونه مجرّد قياس مع الفارق، وذلك لأنّ الآية 157 من سورة النساء في صدد تفنيد صلب المسيح وليست في مقام بيان قدرة الله -عزّ وجلّ- على الخلق والإماتة، إذ ادّعاء مثل هذه الدلالة فيه تكلّف ظاهر وتحميل للنصّ مدلولاً غير محتمل منه.

ولو راجعنا سياق الآيات التي استند إليها هذا المستشرق لإثبات مدعاه، نستدل منها على بعض المؤاخذات التي ترد عليه لا محالة، فالآية 145 من سورة آل عمران -مثلا- في مقام الردّ على أولئك الذين وهنوا وتزعزعوا في غزوة أحد جرّاء خشيتهم من الموت، حيث كانوا يتصوّرون أنهم سيبقون أحياء؛ في ما لو تخلّفوا عن الحرب والآية بدورها تفنّد تصوّرهم الباطل هذا وتؤكد على كون الأمر والنهي في الحياة والموت لله تبارك شأنه - فقط - باعتبار ذلك سنةً إلهيّةً ثابتةً؛ والآية 17 من سورة الأنفال تدرج في سياق الآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن غزوة بدر(1)، حيث قال الله -تعالى- فيها إنكم لم تقتلوهم ولكنّ الله هو الذي قتلهم، وما أنت الذي رميت لكنّ الله هو الذي رمى؛ فالنصر الذي حققه المسلمون في هذه الحرب لم يكن أمرًا طبيعيًّا؛ نظرًا لعدم توازن معادلة القوة بين طرفي الصراع، حيث أكرمهم الله -سبحانه وتعالى- بمددٍ غيبي وأرسل إليهم ملائكته؛ لتؤازرهم ضدّ الكفّار والمشركين بشكل مباشر؛ وهذا هو السبب في تأكيده تبارك شأنه على أنّ المسلمين لم يقضوا عليهم بأيديهم؛ وإنّما القدرة الغيبية هي التي أبادتهم.

والموضوع الأساس الذي تمحورت حوله الآية 157 من سورة النساء هو فشل اليهود في قتل النبي عيسى(علیه السّلام) وصلبه، لذا فهي لم تشر إلى أنّ الله -عزّ وجلّ- هو الذي قتله وصلبه،

ص: 68


1- قال -تعالى- في الآية 17 من سورة الأنفال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾.

وظاهرها الصريح لا يتسق مع ما ذهب إليه رينولدز الذي اتّصف استنتاجه بتكلّف واضح؛ ومن هذا المنطلق قال أحد الباحثين: «كما أنّ القرآن الكريم فنّد كون المسيح ابنا لله -تعالى- واعتبر هذه العقيدة (...) غير منطقية، فقد فنّد - أيضًا - فكرة صلبه»(1).

وتجدر الإشارة إلى أنّ نيل روبنسون حذا حذو رينولدز ورفض الروايات التي تناقلتها المصادر الإسلاميّة بخصوص هذه الآيات التي اعتبرها في صدد إثبات كون الصلب ليس السبب في وفاة المسيح عيسى(علیه السّلام)(2)، وما تبنّاه - أيضًا - أنّ القرآن الكريم في هذه الآيات طرح بحثًا جدليًّا لبيان مسألة صلب المسيح وعروجه إلى السماء(3)والهاجس الأساس لطرح هذا الجدل هو تفنيد تفاخر اليهود وتبخترهم؛ حينما زعموا أنّهم تمكنوا من صلب النبي عيسى(علیه السّلام)(4).وعلى الرغم من اعتناق هذا المستشرق الإسلام دينا؛ إلا أنّنا نستشف من استنتاجاته عدم تخلّيه عن معتقداته التي رافقته منذ نعومة أظافره، ومن تبعات هذه الحالة أنّه لم يؤيّد نجاة المسيح من الصلب بحسب المضمون الصريح للآية القرآنيّة، إذ حاول توجيه الدلالة القرآنية نحو معنى آخر؛ لكون هاجسه الوحيد هو إثبات تحقق الصلب مهما كلّف الأمر، ومن هذا المنطلق ادّعى أنّ مضمون الآية يوحي بكون الله -عزّ وجلّ- لم يترك المسيح وحيدًا وهو معلّق على الصليب؛ كي لا يئنّ ويتأوّه جرّاء تعذيبه وعجزه عن مواجهة أعدائه(5)؛ لكن هذا الادعاء غير مدعومٍ بأي عبارة قرآنية، فقد أكدت هذه الآيات على أنّ اليهود فشلوا في قتل النبي عيسى(علیه السّلام)ولم يتمكنوا من صلبه، بل إنّهم لم يستطيعوا أن يفعلوا أقل من ذلك؛ ومن المؤكّد أنّ فشلهم الذريع في تحقيق مآربهم يعود إلى ضعفهم أمام القدرة الإلهية وعجزهم عن فعل ما يشاؤون جرّاء عنادهم ولجاجهم، فالمسيح كان مؤيَّدًا من الله -تبارك شأنه- ولم يضاهِئه أحدٌ في هذا المقام آنذاك؛ وهو ما أكد عليه القرآن الكريم في قوله - تعالى -: ﴿ إِذْ

ص: 69


1- حامد الجار، حضرت عیسی در قرآن: در درس گفتارهاي حامد الكار (باللغة الفارسية)، ص 39.
2- Robinson, "Jesus", p. 20.
3- Idem., “Jesus in the Qur'an, the historical Jesus the myth of God incarnate”, p. 190. نيل روبنسون، مقالة باللغة الفارسية بعنوان: عیسی در قرآن، عيساي تاريخي و اسطوره تجسد، ترجمها إلى الفارسية محمد كاظم شاكر، نشرت في مجلة "هفت آسمان" ، العدد 24، شتاء 2004م، ص 161.
4- Ibid., p.191. راجع أيضاً: نيل روبنسون، المقالة السابقة، ص 162.
5- Ibid. راجع أيضًا: نيل روبنسون، المقالة السابقة، ص 162.

أَيَدتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾(1)،ولا شك في أنّ هذا التأييد الإلهي يمكن أن يصدق في نجاته من القتل والصلب.

وأعداء النبي عيسى(علیه السّلام)تحدّوه ودعوه إلى المواجهة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار عجزهم عن قتله نصرًا إعجازيًا له في هذه المنازلة غير المتكافئة ومن المؤكد أنّ أبرز مؤشّر على كفر اليهود هو سعيهم إلى قتله وتحدّيهم الإرادة الإلهيّة التي هدفها نصرة جميع الأنبياء والرسل، حيث تجلّت بشأن المسيح في رحاب نصرته وعجز أعدائه عن تحقيق مآربهم(2)؛ لذا، فالآية تنكر الصلب من أساسه.

5) رفض العقيدة الإسلامية بخصوص مسألة الصلب بداعي وجود تشابه بين المضامين القرآنيّة والمعتقدات المسيحيّة:

من منطلق اعتقاده بتأريخيّة صلب المسيح واعتباره القرآن الكريم نصا أدبيا، سعى المستشرق غابريل سعيد رينولدز في دراساته الاستشراقيّة إلى استكشاف التناص التعالق النصّي - بين الآيات القرآنية التي تطرّقت إلى الحديث عن المسيح عيسى بن مريم(سلام الله علیها)،ولا سيّما مسألة صلبه، وبين التعاليم المسيحيّة، حيث اعتبر توالي الآيات 153 إلى 159 من سورة النساء يحاكي بعض مقاطع الكتاب المقدّس، وفي هذا السياق -أيضًا - أكّد على أنّ الآيتين 157 و 168 من هذه السورة تنطبقان بالكامل مع ما ذكر في العهد الجديد الذي أكد في العديد من مقاطعه على رفع المسيح عيسى(علیه السّلام)إلى السماء(3). ونستشف من رأيه هذا أنّ الآيات المشار إليها تثبت وقوع الصلب ولا تنفيه، واختتم كلامه بالإشارة إلى إحدى عبارات سفر أعمال الرسل، ثمّ قال: «اليهود كانوا يتباهون بقتلهم عيسى(علیه السّلام)، إلا أنّ ما حدث في الواقع هو بإرادة الله، الإله الذي نصره وبعثه من القبر ليرفعه إلى السماء»(4).

لم يقتصر رأي رينولدز على كون الآيات المذكورة تحاكي مقاطع من العهد الجديد، فقد

ص: 70


1- سورة المائدة، الآية 110.
2- راجع: عقيل حسين عقيل، عيسى(علیه السّلام)من وحي القرآن، سوريا، دمشق، منشورات دار ابن كثير، 1431ه_ ص 227 - 228 (بتلخيص).
3- للاطلاع أكثر ، راجع: إنجيل متي :21: 41 / إنجيل مرقس، 12 10/ إنجيل لوقا، 17: 20 / سفر أعمال الرسل، 4: 10.
4- Gabriel Said Reynolds, "The Muslim Jesus: dead or alive?, Bulletin of the School of Oriental African Studies. 72 (2009), p. 251

اعتبرها أيضًا تحاكي التعاليم الجدلية المناهضة لليهود؛ مثل: وعظ النبي يعقوب(علیه السّلام)الموجّه لهم، واعترف في هذا المضمار بأنّ الكتاب المقدّس لم يُشِرْ إلى نقدهم للسيدة مريم(سلام الله علیها)وادعاءهم أنهم تمكنوا من قتل النبي عيسى(علیه السّلام)، فهذان الموقفان انعكسا في كتاب يعقوب سروق (memre) والذي وصف اليهود ب_«أنّهم قوم يفتخرون بأنفسهم ويتباهون بكونهم صلبوا رجلًا...».؛ وهما مستوحيان -أيضًا من بعض مقاطع التلمود التي أساءت إلى قدسية السيّدة مريم(سلام الله علیها)وكالت التهم الباطلة لها؛ وهذا هو السبب في دفاع القرآن الكريم عنها، كذلك نسب مسألة قتل المسيح له إلى ما ذكر(1).

وقد تقدّم أنّ بعض الباحثين يعتبرون البيان اللغوي خطابًا قائماً على التناص الذي يعني التلاحم بين النصوص وتداخلها مع بعضها ، وجدير بالذكر -هنا- أنّنا ضمن التناص الحقيقي في صدد فهم كيف يمكن للنصّ الجديد صياغة رؤيتنا بالنسبة إلى النصوص الأخرى المرتبطة به؛ ومن البديهي أنّ فهم معنى النصوص الأدبية وغير الأدبيّة على هذا الأساس من الممكن أن يتحقق على ضوء فهم سلسلة متداخلة من التعالقات النصّيّة. ويبدو أن غابريال سعيد رينولدز استند إلى مسألة التناص في تفسير الآيات القرآنية، وفي هذا السياق سعى إلى إثبات وجود بعض محتويات الكتاب المقدّس في القرآن الكريم على ضوء بحثه واستقصائه عن أوجه التشابه بين نصيهما، لكنّنا حينما نتحرّى في الاستنتاجات التي طرحها ضمن تحليله للآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن صلب المسيح(علیه السّلام)نستشف منها أنّه سعى إلى تفسيرها طبقًا للنصوص المسيحيّة، وعلى الرغم من أنّه لم يذكر في مدوّناته هذه مصطلحات تدلّ بشكل مباشر على الوجهة التفسيرية التي تبنّاها؛ مثل: الاقتباس والتأويل والتأثير، لكنّه في الحقيقة تطرّق إلى بيان المضامين القرآنيّة؛ وكأنّها تحكي عن تعاليم طرحتها قبل ذلك النصوص المقدّسة لدى اليهود والنصارى، وهذا ما نلمسه جليًّا في رؤيته الخاصّة بصلب المسيح، حيث فسر آية الصلب القرآنية في رحاب تعاليم الكتاب المقدّس، وقد بالغ في بيان المداليل القرآنية ضمن نطاق الكتاب المقدّس؛ لدرجة أنّه جرّد ألفاظ النفي الصريحة في الآية 157 من سورة النساء عن دلالاتها الحقيقية المؤكّدة في نفي الموضوع، وزعم أنّها تدلّ على معنى استعاري.

لا شك في أنّ هذا النهج التفسيري للقرآن الكريم يعاني من النقص ذاته الذي تعاني منه

ص: 71


1- Ibid., p. 257

الدراسات والبحوث الغربيّة القديمة، حيث لا يتطرّق الباحث على ضوئه إلى تحليل المضمون القرآني من زاوية قرآنية، وإنّما يعتمد على النصوص المقدّسة لدى اليهود والمسيحيّين، ومن هذا المنطلق يجعل كتاب المسلمين المقدّس شاهدًا نصّيَّا آخرَ على ما يستنتجه من الكتاب المقدس؛ وهذا ما بدر من رينولدز(1).

ص: 72


1- المسألة الجديرة بالذكر على صعيد الرأي الذي تبنّاه غابريال سعيد رينولدز هي اعتباره القرآن الكريم نصاً أدبيا - لغوياً - وعلى هذا الأساس قال لا بد من التعامل معه وفق أسلوب التعالق النصّي - التناص - على ضوء ارتباطه بسائر النصوص وادعى أن الآيات التي تطرّقت إلى سرد الأحداث والقصص وسلطت الضوء على بعض الشخصيات اليهودية والمسيحيّة، ذاتُ ارتباط وطيد بمضامين العهدين، لكن غاية ما في الأمر أن القرآن لم يذكر تفاصيل أكثر، ومثال ذلك قصّة زوجة النبي إبراهيم(علیه السّلام)حينما ضحكت، فهذه الحكاية تنم بوضوح عمّا ذُكر في سفر التكوين (18:12). ومثال آخرُ على هذا التأثر هو معجزة الطعام الذي كان يأتي للسيدة مريم(سلام الله علیها)، إذ من البديهي أن الآية تشير إلى قصّة انقطاعها إلى الله -تعالى- في معبد أورشليم؛ فضلا عن قصص أخرى. للاطلاع أكثر، راجع: (Reynolds, "On the Quran's Maida Passage And the Wanderings of the Israelites, The coming of the comforter: when, Where, and to whom? Studies on the rise of Islam various other topics in memory of John Wansbrough, edited by Carlos Segovia, (NJ, USA): Georgia's Press (orientalia Judaica Christiana 3, 2012), p. 91). كذلك ادّعى أنّنا إذا وجدنا آيةً لا أثر لها في العهدين أو في التراثين اليهودي والمسيحي، أو إذا وجدنا حكايةً قرآنيّةً لم تُذكر في هذين التراثين ففي هذه الحالة لا محيص لنا من تبنّي رأي المستشرق جون وانسبرو الذي اعتبر القرآن الكريم نصَّا مركبًا مزج بين الرموز والمواضيع الدينية السالفة؛ ليصوغ تعاليم دينيةً خاصةً به. للاطلاع أكثر، راجع: (cf: Wansborough, Quranic studies, Quranic studies: sources methods of scriptural interpretation, (Oxford: Oxford University Press, 1977), p. 2.) نستشف مما ذكر أنّ رينولدز وأمثاله اعتبروا القرآن الكريم مجرد نص روائي ينقل تعاليم وقصص الكتاب المقدس؛ بحيث اعتمد عليها بالكامل في مختلف المواضيع التي طرحها، وممّا قاله جون وانسبرو في هذا الصعيد: «القصص القرآنية تعدّ رمزيّةً بكل تأكيد، وعلى هذا الأساس يستشهد بها البعض لإثبات أهمّيّة علم الأخرويات اللاهوتي». (Ibid., p. 19). وتعتبر طريقة السرد القصصي القرآني في غاية الإبداع. (Cuypers, Le festin, p. 345). كما أكد رينولدز على أنّ القرآن الكريم بشكل عام لم يقتبس عبارات من النصوص المسيحيّة بشكل مباشر، لكنّه أشار إليها ضمن تدرّجه في صياغة الأحكام العقدية الإسلامية؛ لذا فإنّ عباراته التي تبدو متناقضةً مع مضمون العهدين، لا يمكن اعتبارها نقلاً عن النصوص اليهودية والمسيحية المنتحلة(Apocrypha) وقد أوعز هذا الرأي إلى نولدكه. T., et al. Geschichte des Qoran, 1:8. Hildesheim: olms, 1970, passim.) والقصص والحكايات وشتى الإشارات التي تضمّنها القرآن الكريم تستعمل بشكل مقصود؛ بوصفها رموزًا واستعارات وعبارات دينية، وغابريال سعيد رينولدز ضمن تحليلاته الأدبية للنص القرآني أراد التأكيد على أن التناقضات الموجودة بين القصص في القرآن والعهدين لا تعني حدوث أخطاء في النص القرآني أو تصوّر أنّه نقلها بشكل مشوّش وغير متنظم من الكتاب المقدس، بل عبر تأكيده على خصوصية (paranesis) وقضايا تعليمية ومواعظ ويمكن اعتباره كتابًا غير هادف إلى سرد الأحداث والوقائع التأريخية بشكل دقيق ومسهب، إذ إنّ هدفه الأساس من إشاراته القصصية التي تشابه مضمون الكتاب المقدس هو التأثير على المخاطب. (Reynolds, Ibid., pp. 105 - 107). وجدير بالذكر أنّ المسألة التي لم يتطرّق إليها رينولدز في مباحثه التي دوّنها في هذا الخصوص؛ فحواها أن الكثير من المواضيع التي يدعى فيها وجود تناقض بين النص القرآني ونصوص العهدين، عادةً ما تنصب نتيجة البحث والتحليل بخصوصها لصالح ما ذكر في القرآن الكريم. للاطلاع أكثر، راجع: (محمد كاظم شاكر ومحمد سعيد فياض، مقالة بعنوان: "هامان و ادعای خطای تاریخی در قرآن، نشرت في مجلة "قرآن شناخت"، العدد 5 ،2010م الصفحات 145 إلى 164). وضمن تحليلاته الأدبية للنصوص اليهودية والمسيحيّة وتسليطه الضوء على الاستعارات الأساسيّة الموجودة في العهدين، سعى إلى استكشاف مداليل العبارات والآيات القرآنية التي ادعى أنها تتناقض مع ما هو موجود في العهدين، ونستشف من كلامه هذا كأن الله -عز وجل- مجرد راو وكاتب قصصي اعتمد على ما ذُكِرَ في العهدين ومختلف النصوص الأدبية والمسيحية فمزج في ما بينها واقتبس منها، ليسرد قصصًا وحكايات حول الشخصيات والأحداث التي اختارها من الكتاب المقدس، حيث حوّرها وجعلها روايات تأريخيّةً ذات طابع جديد؛ لكي يستعرض من خلالها تعاليمه الإرشادية والتربوية؛ وفي هذا السياق أشار إلى أنّ الأسلوب القرآني فريد من نوعه ويتقوم على أسلوب خاص. وربّما يقصد من المنطق القرآني الخاص هنا التأثير البالغ الذي ينطبع في ذهن المخاطب عند قراءة القرآن، وعلى هذا الأساس سعى إلى استكشاف مضامين بعض العبارات والآيات القرآنية اعتمادًا على أصول التحليل اللغوي، حيث فسّرها في رحاب استعمال أحد المصطلحات المدرجة فيها، أو على ضوء انعكاس إحدى القصص والحكايات المسيحية ضمن سياقها، أو وفق الأخبار المذكورة في الأناجيل والتي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر مع النص القرآني، أو بحسب إشارتها إلى أحد الأحداث والتعاليم الهالاخاهية - مبادئ الشريعة اليهودية. وعلى الرغم من أن هذه القصص والحكايات والتعاليم لا تعدّ المصدر الأساس والمباشر الذي اعتمد عليه القرآن الكريم في ذكر تفاصيل إحدى العبارات أو الآيات إلا أنّ التحليل اللغوي لهذه النصوص يشير إلى وجود ارتباط في ما بينها. ولم يصر غابريال سعيد رينولدز ضمن بحوثه ودراساته على كون القرآن الكريم ذا منشأ مسيحي، لذا أراد بيان كيف يمكن تصوير إحدى الآيات؛ وكأنها تحاكي التعاليم والقصص المسيحية. Cf. Reynolds, pp. 91 - 107 ولا نبالغ لو قلنا إن نظرية هذا المستشرق على صعيد موضوع بحثنا، تتّسم باعتدال واتزان أكثر من تلك النظريات التي تبناها بعض أقرانه المستشرقين؛ من أمثال: وليام سانت كلير تيسدال وجون وانسبرو .

إنّ القرآن الكريم بحسب اعتقاد المسلمين ذو منشأ إلهي، وقد اقتضت ظروف عصر النزول أن يشير إلى بعض الرؤى التى كانت سائدةً آنذاك؛ بحيث أيّد جانبًا منها، وفنّد عددًا منها، في ما عدّل بعضها؛ والعلائم المستخدمة فيه - بوصفه نصَّا جديدًا - لها خلفيّةٌ سابقةً وبيئةٌ أخرى، لكنّها شهدت تغيرا في هذا النص الجديد.

إذَا، القرآن الكريم، بناءً على ما ذكر، استفاد من الوقائع السابقة، وأجرى عليها تغييرات تتناسق مع وجهته، لذا طرح قصّة النبي عيسى(علیه السّلام)بشكل مختلف بالكامل، فقد وصف الله -عزّ وجلّ - الشخصيّة الحقيقيّة لهذا النبيّ المرسَل وذكر الأحداث التي واجهها، ومما قيل في هذا الصدد: «لقد بعث نبيًّا لتأييد شريعة التوراة مرّةً أخرى، وقد أعلن عن ظهور آخر نبيَّ للملأ وسعى إلى تشذيب بعض مضامينها، وهو لم يقتل بتاتًا ولم يصلب. نظرًا للتحريف الذي طرأ على الأناجيل، يمكننا القول بكل ثقة إنّ القرآن كتاب وحي، وهو المصدر القطعي والحقيقي الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لمعرفة شخصية النبي عيسى»(1).

استنادًا إلى ما ذُكِرَ لا نبالغ لو قلنا إنّ ظاهر الآية لا يتحمّل ما ذهب إليه رينولدز؛ لو كان قصده من التعالق النصّي بين القرآن الكريم والعهدين هو توحيد نظرية صلب المسيح

ص: 73


1- حامد الجار، حضرت عیسی در قرآن: در درس گفتارهاي حامد الكار (باللغة الفارسية)، ص 18.

عيسى(علیه السّلام)، إذ إن جميع المؤشّرات الخاصة بهذا الموضوع في أناجيل متى ومرقس ولوقا وسفر أعمال الرسل تشير إلى الجانب الإيجابي لعملية الصلب، لا الجانب السلبي الذي تطرّق إليه القرآن الكريم؛ فضلًا عن وجود اختلافات جذريّة عديدةٍ حول الموضوع، وعلى الرغم من وجود أوجه شبه كثيرة بين القرآن والعهدين حول شخصيته، لكن هناك اختلافات ملحوظة بينهما أيضًا(1). وتجدر الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم في عصر نزوله والعصور اللاحقة أصبح مرتكزا أساسًا للمسلمين في كلّ استدلال واقتباس على الصعيد الثقافي(2).

6) القرآن الكريم لم يفند صلب المسيح ولم يؤيّده بحسب مقتضی سیاق آیاته:

المستشرق تود لوسون هو أحد الباحثين الذين تبنّوا نهجًا تقريبيًا بين الإسلام والمسيحيّة، وفي هذا المضمار سلّط الضوء على الآيات التي تحدثنا عنها في المباحث السابقة؛ وبما أنّه مسيحي فقد أصر على تأريخية الصلب، وبذل كل ما بوسعه لإقناع المخاطب باستنتاجاته المتكلّفة من النص القرآني، حيث حلّل آيات البحث على ضوء سياق الآيات السابقة ومضمونها؛ لذا حذا حذو الباحثين غابريال سعيد رينولدز، ونيل روبنسون فجعل السّياق القرآني محورًا لبحوثه، ودمج بين الآيات معتبرًا آيات البحث جزءًا من البقية؛ فضلا عن أنه اعتبر توبيخ اليهود موضوعًا أساسًا في هذه الآيات، لكنّ هذا التوبيخ برأيه لا ارتباط له بمسألة تأريخية الصلب ولا بسائر المعتقدات المسيحية.

إذًا، الموقف القرآني إزاء صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)غيرُ محدّدٍ برأي هذا المستشرق، فالقرآن

الذي هو كتاب المسلمين المقدّس لم يؤيّده ولم يفنده(3)، ومن خلال استناده إلى سياق الآيات المذكورة أكّد على أنّ ذكر أحداث الصلب في هذا الكتاب يُراد منه إكمال التعاليم الدينية

ص: 74


1- للاطلاع أكثر، راجع: عباس أشرفي، مقایسه قصص قرآن و عهدين (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات«دستان»، 2003م، 360-315 .
2- راجع: عمر إبراهيم رضوان، آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره: دراسه ونقد، بإشراف مصطفى سليم، السعودية، الرياض، منشورات دار طيبة، 1413ه_ ص 58 .
3- أشار المستشرق بيل ماسك إلى عددٍ من الآراء التي طرحها العلماء المسلمون؛ مؤكدًا على أن القرآن الكريم لم يفند قتل المسيح وصلبه بل يؤكّد - فقط - على أنّ اليهود عجزوا عن فعل ذلك. من البديهي أنّ هذا المستشرق طرح آراءه؛ بناءً على مرتكزاته العقدية التي تتمحور حول تأريخية صلب النبي عيسى(علیه السّلام)، لذلك حاول إقناع المخاطب بعدم وجود إلزام في إنكار أحداث منطقة الجلجثة - جاجولثا - التي وقعت فيها حادثة الصلب على ضوء المضامين القرآنية. (Bill Musk, "Kissing Cousins? Christians and Muslims Face to Face", (Monarch: 2005), pp. 345 346)

المذكورة فيه حول المسيح؛ لكنه مع ذلك أذعن بأنّ طريقة ترتيب الكلمات في هذه الآيات تتناسب مع فكرة عدم تحقق الصلب بشأن المسيح. وممّا قاله في هذا السياق إنّ مفهوم النجاة المرتبط بالصلب جعل المفسّرين المسلمين في حيرة من أمرهم لدى تفسيرهم الآية 157 من سورة النساء، إذ القرآن الكريم عزا نجاة البشر إلى أعمالهم، في حين أن تعاليم الديانة المسيحية تعتبر الصلب أساسًا لنجاتهم؛ لذلك تبنى هذا -المستشرق- فكرةً فحواها أنّ الظاهر اللغوي للقرآن يحكي عن تفنيد مسألة الصلب، والهدف من هذا الرفض هو التقليل من شأن عقيدة النجاة المسيحيّة(1).

وقد تطرّق في بحوثه إلى تحليل حادثة الصلب ضمن إطار تأريخي على ضوء النصوص غير القرآنيّة، وفي هذا السياق استنتج أنّ أوّل نقّ ذُكِرَ فيه رفض الإسلام لصلب المسيح عيسى(علیه السّلام)،هو ما دوّنه يوحنا الدمشقي الذي حاول إدراج هذه الوجهة القرآنية إلى جانب وجهات النظر الارتدادية التي تبنّاها الغنوصيون والظاهرانيّون؛ لكنه رفض هذا الرأي معتبرًا كلام الدمشقي غير مؤكّد؛ لأنّ القرآن الكريم بزعم هذا المستشرق يشير فقط إلى أن اليهود لم يصلبوا المسيح، وهذا الأمر يختلف مع القول بأنّه لم يصلب بالفعل(2).

كما أشرنا آنفًا، فالآيات المطروحة للبحث والتحليل - هنا - تتناسب من حيث البنية اللغوية والسّياق مع تفنيد تحقق الصلب بشأن النبي عيسى(علیه السّلام)، و طريقة طرح الموضوع فيها تنم عن عدم إمكانيّة ادّعاء أنّ الرأي القرآني غير محدّد بالنسبة إلى تأييد الصلب أو تفنيده، فالآية 157 من سورة النساء تؤكّد مرّتين بالقطع واليقين على عدم تمكّن القوم من قتله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ...وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا﴾، ومن المؤكّد أنّ تصريحًا كهذا ليس فيه أي غموض، ولا يمكن اعتباره غير محدّد إزاء صلب المسيح؛ لذا يثبت لنا أنّ ما ذهب إليه هؤلاء المستشرقون يتعارض بالكامل مع النظرية القرآنية وظاهر النص القرآني الواضح في الدلالة، فهل من المعقول ادعاء أنّ القرآن الكريم يصرّح بالقطع واليقين مؤكّدًا على فشل اليهود في قتل عيسى(علیه السّلام)؛ لأجل أن يتخذ موقفا محايدًا وغير محدّدٍ إزاء صلبه ؟! هذه الآيات تدلّ أوّلًا، وقبل كلّ شيءٍ، على

ص: 75


1- Todd, Benjamin Lawson, The crucifixion the Quran: A study in the history of Muslim Thought, (Oxford: Oneworld publication, 2009, p. 143
2- Ibid., pp. 26 - 27

نجاته من ذلك المصير الذي أراده اليهود له، حيث تصرّح الآية بكل وضوح أنه لم يصلب ولم يقتل لكنّهم توهّموا وتصوّروا ذلك ، والذين اختلفوا حول هذه الحقيقة هم في شكٍّ وتردُّد، إذ يتّبعون الظنّ ولا علم لهم بالواقع، وهناك تأكيد في خاتمة هذه الآية ومستهلّ الآية اللاحقة على عدم مقتل المسيح من قبل أعدائه، بل على أنّ الله -تعالى- رفعه إليه.

إذًا، مع كلّ هذا التأكيد الصريح كيف يمكن ادّعاء أنّ القرآن الكريم اتخذ موقفاً غير محدّد إزاء صلب المسيح ؟! لِمَ لَمْ يتطرّق المفسّرون القدماء في نصوصهم التفسيرية إلى الحديث عن الفرق بين مسألتي «اليهود لم يصلبوا النبي عيسى(علیه السّلام)» و «النبي عيسى(علیه السّلام)لم يصلب من الأساس»؟! فهل كانوا على علم بحقيقة الأمر، لكنّهم تعاملوا مع الموضوع بشكل تحفّظيّ ؟!(1). حينما نمعن النظر في مؤلّفاتهم لا نجد فيها أي إشارة إلى الرأي المعارض للنظرية القرآنية بخصوص مسألة الصلب؛ الأمر الذي يعزّز من فكرة أنّ الرأي القرآني الرافض لتأريخية صلب المسيح كان بديهيًّا ومتفقًا عليه في تلك الآونة. فضلا عن ذلك فالنص الذي دوّنه يوحنا الدمشقي يعتبر أقدم نص غير إسلامي(2)تطرّق إلى النظرية القرآنية بهذا الخصوص، حيث جاء فيه: «المسلمون يقولون إنّ اليهود بعد أن تعدّوا على أحكام الشريعة، حاولوا صلب المسيح، وبعد أن اعتقلوه صلبوا ظلّه؛ لذا فهو لم يصلب ولم يمت؛ لأنّ الله أحبّه ورفعه إلى السماء»(3). هذا الكلام يعود تأريخه إلى القرن الأوّل الهجري، ويدل على أنّ الشائع بين المسلمين آنذاك رفض قول من ادعى أن المسيح عيسى(علیه السّلام)قد صلب من قبل أعدائه، ويوحنا الدمشقي كان على علم بهذه العقيدة الإسلاميّة، لذا لا نجد في كتابه أي محاولة لطرح نقاش مع المسلمين في ما يخص آية الصلب؛ على الرغم من أنّه كان يعتبر الإسلام دينا باطلا وارتدادًا عن شريعة السماء، ومن منطلق هذا التصوّر كان ينقض الآراء القرآنية؛ باعتبارها قضايا باطلةً تتضمّن

مسائل عبثيّةً تثير السخرية.

وبعد ثلاثة عقود من عهد يوحنا الدمشقي جرى نقاش بين زعيم الكنيسة النسطورية

ص: 76


1- Mustafa Shah, Review of the book crucifixion the Qur'an: A study in the history of Muslim Thought, by Todd Lawson, 2009, p. 199
2- De Haeresibus
3- Robinson, Christ in Islam Christianity, p. 106 - 107, cited from John of Damascus, De Haeresibus.

القسيس النصراني تيموثي الأوّل(1)والخليفة العبّاسي أبي عبد الله المهدي(2)، وأحد أهم الأسئلة التي وجّهها هذا الخليفة لتيموثي تمحور حول ما إن كان النبي عيسى(علیه السّلام)قدمات جراء صلبه أو لا؟ وجدير بالذكر أنّه استهل نقاشه مع هذا القسيس بالسؤال التالي احتجاجا على ألوهية المسيح عيسى بن مريم(سلام الله علیها):هل يمكن للإله أن يموت؟ تيموثي أجاب عن السؤال مشيرًا إلى الاختلاف التقليدي بين شخصية المسيح الإنسانية والإلهيّة برأي النصارى، وفي هذا الصدد أكد على أنّ شخصيّته الإنسانية هي التي ماتت، لكنّ المهدي اعترض عليه بالآية 157 من سورة النساء من المؤكّد أنّ استشهاد المهدي بهذه الآية ينمّ عن اعتقاده بدلالتها على عدم موت المسيح، لأنّ تيموثي ردّ عليه محتجا بالآيتين 33 من سورة مريم و 55 من سورة آل عمران بزعم أنّهما تدلان على موته ورفعه إلى السماء؛ لكنّ المهدي أجابه بأنّ النبي عيسى(علیه السّلام)لم يمت؛ وإنما سيموت لاحقًا، وتيموثي بدوره فنّد هذا الكلام قائلا بأنّه ما لم يمت لا يمكن أن يرفع إلى السماء، إذ لا بد أن يموت أوّلًا لكي يرفع إليها، ومن هذا المنطلق أكّد على أنّه قد مات حقًا؛ وفقًا لما تنبأ به العهد القديم؛ وهنا - أيضًا - لجأ المهدي إلى الآية 157 من سورة النساء وأكد على أنّ اليهود قد توهّموا قتلهم المسيح وصلبه بحيث شبّه لهم ذلك فحسب(3).

ويؤكِّد المستشرق تود لوسون في دراساته الاستشراقية على أنّ الطرح القرآني لمسألة صلب المسيح منبثق في الأساس من هاجس آخرَ ، ألا وهو عدم ارتباط الصلب بمفهومي الفداء وتطهير النفس من أدران الخطيئة؛ بحسب المعتقدات المسيحيّة(4)، إلا أنّ السؤال الذي يطرح عليه فحواه ما يلي: كيف تفسّر ما تبنّاه بعض العلماء المسلمين في العهود اللاحقة للعهد الإسلامي الأوّل حينما أيّدوا تأريخيّة صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)دون أي محذور لاهوتي، وفي الحين ذاته لم يذكروا له أي مفهوم خاص حول تكفير الخطيئة والنجاة من العذاب؟!مثال ذلك: القاسم بن إبراهيم

ص: 77


1- The catholic Timothy I
2- راجع: أبو عبد الله محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي المهدي بالله، هو ثالث خلفاء الدولة العباسية في العراق، ولد عام 127ه_ المصادف 745م وتوفي عام 158ه_، المصادف 775م، وكان أبوه قد نصّبه حاكمًا على طبرستان وما والاها. راجع: https://ar.wikipedia.org/wiki/أبو_عبد_الله_محمد_المهدي)
3- Robinson, Ibid., p. 107. أشارت دائرة المعارف الإسلامية - أيضًا - إلى الإجماع بين المسلمين حول مسألة إنكار صلب المسيح(علیه السّلام)،وتم التأكيد فيها على أن هذا الأمر يتناغم بالكامل مع المفاهيم والمداليل القرآنية التي فحواها أنّ الإيمان ينتصر دائماً على الكفر؛ مهما طال الصراع بينهما. (Anawati, Vol. 4, p. 84.)
4- Lawson, p. 144.

الرسي المتوفى سنة 246ه_ والذي يعتبر واحدًا من أبرز علماء الطائفة الزيدية، كذلك أبو حاتم الرازي والسجستاني؛ اللذان سلكا نهج الطائفة الإسماعيلية؛ فهؤلاء اعتبروا مسألة الصلب حدثًا تأريخيا(1). وتجدر الإشارة إلى أنّ العالم الألماني توبياس ماير(2)أشار في بحوثه إلى عدد من الباحثين المسلمين الذين تبنّوا في بادئ الأمر مسألة الصلب؛ من أمثال: وهب بن منبه(3).

ولا يستبعد أنّ هؤلاء المفكّرين المسلمين؛ كإبراهيم الرسّيّ ووهب بن منبه(4)قد تأثروا بالرواية المسيحيّة في مسألة الصلب أو أنّهم تأثروا بالأجواء المسيحية التي كانت سائدةً في بيئتهم الاجتماعية، كما ليس من المستبعد تأثرهم بالنقاشات الجدلية التي دارت بينهم وبين المشككين الذين رفضوا قدسيّة الكتب المقدّسة لدى الأديان؛ وبما فيها القرآن الكريم وشككوا بكونها سماويّة المنشأ؛ لذلك أعربوا عن عدم تفاعلهم مع نظرية الصلب القرآنية كما أنّ أبا حاتم الرازي المتوفى سنة 322ه_ فنَّد رأي زكريا الرازي الذي أكد على عدم وجود تشابه بين العهدين والقرآن الكريم، حيث اتخذهما دليلا لتفنيد كون القرآن الكريم وسائر الكتب المقدّسة سماوية المنشأ، وعلى هذا الأساس فسّر إنكار القرآن الكريم لصلب المسيح عيسى(علیه السّلام)بكونه يدلّ على أنه حيّ وقائم في السماء قرب الله -عزّ وجلّ- بعد أن استشهد على يد أعدائه. يبدو أنّ أبا حاتم الرازي قصد من رأيه هذا بيان معنى عميق على خلاف ظاهر آية الصلب، فهو ليس في صدد تفنيد معناها الظاهر. هذا المعنى الدقيق الذي لا يستدعي تجاهل المعنى الظاهر في الآية، يمكن بيانه وفق التالي: (اليهود أرادوا قتل نبي الله، لكنّه تبارك شأنه لم يشأ ذلك، فأنقذه من أيديهم؛ لذا عجزوا عن قتله بدنيًا ولم يتمكنوا من صلبه، فضلًا عن أنّ الله -عزّ وجلّ - أكد على خلوده). هذا الكلام ينمّ عن اعتراض على الكفر وذمّ له إلى جانب التأكيد على خوائه وعدم نجاعته، إذ إنّ اليهود لم

ص: 78


1- Robinson, Ibid., pp. 107 - 117; Mustafa Shah, Ibid., passim
2- Tobias Mayer
3- المستشرق تود لوسون تحدّث في دراساته الاستشراقية عن سائر علماء الفرقة الإسماعيلية والطوائف التي تفرّعت عليها؛ مثل: أبي يعقوب السجستاني، وإخوان الصفا، حيث ادّعى أنّهم يعتقدون بتأريخيّة صلب المسيح، وكلّ واحدٍ منهم اتبع نهجا محدّدًا لإثبات هذا الأمر؛ كما عزا عدم اعتقاد الشيعة الإمامية بهذا الأمر إلى مناهضتهم الفرقة الإسماعيلية، وسعيهم إلى تهميش آراء أتباعها. (Lawson, pp. 84, 86, 97).
4- أقرّ المستشرقون ضمن الروايات التي نقلوها عن وهب بن منبه؛ بهدف شرح مضامينها وتحليلها، بأنّه مشكوك في وثاقته، كما استنتجوا وجود تناقض في الروايات التي نقلها؛ بحيث لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات المطلوب. (Robinson, Ibid., p. 121)

يعجزوا -فقط- عن إلحاق الأذى ببدن نبي الله أو قتله أو صلبه، وإنّما لم يفلحوا -أيضًا - في طمس اسمه وتهميش تعاليمه؛ ولو كان الأمر غير ذلك؛ فهذا يعني عدم تأريخية الأخبار التي نقلتها الأناجيل وعبثيتها؛ وفقًا للقواعد والأصول المنطقية والشاهد على ذلك أنّ أبا حاتم الرازي غيّر رأيه وتخلّى عن موقفه ليؤيّد ما ذهب إليه عالم الإسماعيلية الشهير النسفي الذي أيّد النظرية القرآنية التي رفضت صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)؛ وقد برّر بعض الباحثين هذا التحوّل الفكري؛ بكونه تعصّبًا وموقفًا مناهضا لخصومه(1).

وحتى لو أقررنا بمثل هذا التبرير مع ذلك لا يمكن اعتبار الموقف القرآني غامضًا إزاء صلب المسيح(علیه السّلام)، كما يثبت لنا أنّ ادّعاء تأريخيّة الصلب من قِبَل المسشترق تود لوسون منبثق من مرتكزاته العقدية المسيحية.

والمسألة الهامة المطروحة للبحث والتحليل هنا والتي تحظى باهتمام بعض المستشرقين(2)هی أنّ الآية القرآنية المذكورة قد وبّخت اليهود جرّاء تفاخرهم وتبخترهم في قتل النبي عیسی(علیه السّلام)و عصيانهم الأمر الإلهي، حيث استهلها الله - سبحانه وتعالى - بعبارة: ﴿ وَقَوْلِهِمْ ) التي تدلّ على أنّ كلام اليهود هو محور الآية لا ما فعلوه، أي أنّها ترتبط بما قالوا لا بما فعلوا، لذا لو كان الهدف منها إثبات تأريخيّة الصلب، لِمَ استهلّت بالعبارة المذكورة التي تحكي عن كلام اليهود ومباهاتهم؟(3)إذَا ، لا بدّ من الإذعان إلى أنّ الآية تدلّ في ظاهرها على كون اليهود زعموا نجاحهم في قتل المسيح عيسى(علیه السّلام)وصلبه ، كذلك تؤكّد على أن زعمهم هذا مجرد ظنُّ ناجم عن عدم معرفتهم بواقع قصة نبي الله، ولم يكن أمامهم سبيلاً سوى اتباع الظنّ؛ جرّاء جهلهم(4)بحقيقة الأمراء(5).

ص: 79


1- تجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ محمد بن أحمد النسفي (ت 331ه_) يعتقد بتأريخية صلب المسيح. (Cf. Lawson, Ibid).
2- Lawson, p. 27
3- Cf. Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, pp. 116 117
4- هذا الكلام صحيح شرط عدم اعتبار قوله - تعالى -: ﴿وَما قَتَلُوهُ يَقيناً﴾بمعنى الخبر اليقين، بل لا بد من القول بأنّه يدلّ على عدم تحقق القتل اليقيني، فالقتل المدّعى على هذا الأساس مجرّد أمرٍ مردّدٍ وتثار شكوك حول صوابيته. (عبد الله جوادي الأملي، تسنیم تفسیر قرآن کریم (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات «إسراء»، الطبعة الثالثة 2002م و 2014م، ج 21، ص 311).
5- يعرّف علماء اللغة الشك بأنّه : التردّد بين أمرين مع عدم تحقق جزم علمي في اختيار أحدهما، وهو في مقابل اليقين. للاطلاع أكثر ، راجع: (حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم ،لبنان، بيروت، القاهرة، لندن، منشورات دار الكتب العلمية - مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، الطبعة الثالثة 1430ه_، شرح كلمة «شك»).

كما أنّ الآية في صدد تفنيد مزاعم اليهود، ومن هذا المنطلق أشارت إلى الوحي الإلهيّ الذي أكّد على فشل أعداء المسيح في قتله وصلبه، ومن المؤكّد أنّ الوحي يتضمّن أخبارًا قطعيّةً لا غبار عليها وكما أشرنا ،آنفًا، فقد تطرّقت الآيات التي يتمحور حولها البحث -هنا- إلى بيان عدد من القضايا؛ أهمها ما يلي:

- اتهام اليهود السيدة مريم(سلام الله علیها)ظلما وبهتانا.

- تفاخرهم بقتل الأنبياء؛ مثل: يحيى وزكريا وغيرهما الكثير.

- توهّمهم بأنّهم نجحوا في قتل المسيح(علیه السّلام)وصلبه.

وتؤكّد آية الصلب على كذب اليهود في زعمهم أنّهم نجحوا في تحقيق مآربهم، وأنهم قتلوا المسيح فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولا شك في أنّ ذِكْر عدم القتل وعدم الصلب إلى جانب بعضهما يوحي بوجود اختلاف بينهم حول طريقة قتله، لذلك أشارت إلى هذين الموضوعين؛ كي لا يبقى أدنى شكٍّ فى هذا المضمار، ولأجل التأكيد على أن عيسى(علیه السّلام)لم يفارق الحياة مقتولا ولا مصلوبًا(1).

وإضافةً إلى ما ذُكِرَ، فإنّ ادّعاء لوسون بكون المفسّرين المسلمين لم يؤيّدوا فكرة صلب المسيح لكي يمتاز دينهم الجديد عن غيره ، هو في الحقيقة مرفوض جملةً وتفصيلا؛ فالإسلام كما ذكرنا آنفًا قد امتاز عن سائر الأديان وأرسيت دعائمه منذ عهوده الأولى بعد أن اتسع نطاقه بشكل متسارع، وترسّخ بين الناس على ضوء معتقداته الدينية الفريدة من نوعها، ولا سيّما ما طرحه بالنسبة إلى النبي عيسى بن مريم(سلام الله علیها)و طريقة دفاعه عنه.

واستدلّ المستشرقون من هذه الآيات على أنّ القرآن الكريم بشكل عام اعتبر النبي عیسی(علیه السّلام)قد مات حقًّا، كما يموت سائر البشر؛ وذلك قبل عهد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،وعلى هذا الأساس ادّعوا أنّ المفسّرين المسلمين أخطأوا ولم يفسّروا الآيات 157 إلى 159 من سورة النساء بشكلٍ صائب، لأنّهم قبل تطرّقهم إلى تحليلها وتفسير مضامينها اعتبروا النظرية القرآنية القائلة بفشل اليهود في قتل المسيح وصلبه مرتكزا ثابتا؛ فهذا الرأي يرفضه المستشرقون من أساسه؛ نظرًا لتعارضه مبدأ تأريخية الصلب وفق التعاليم المسيحيّة، لذلك ادّعوا أن مع القرآن الكريم ليس في صدد تفنيد ذلك. وكما ذكرنا آنفًا فإنّ أوّل مسألة وأهمها يمكن أنْ تطرح لتفنيد الاستنتاج الاستعاري والمجازي لهذه الآيات، وكذلك لدحض سائر الاستدلالات

ص: 80


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 133.

الاستشراقية المشار إليها، تتمثل في تعارض هذه الآراء مع ظاهر آيات البحث وصراحة عباراتها، حيث أكدت بالقطع واليقين على أنّ المسيح(علیه السّلام)لم يصلب مطلقًا.

وقد زعم اليهود أنّه كاذب، وإنّه ليس نبيًّا مرسلًا من قِبَل الله -تعالى-، لذا كان من الطبيعي أن يتظاهروا بالنجاح في قتله وصلبه، ومن ثمّ فهم لا يطيقون - آنذاك - قول من قال أنه نجا من براثنهم، إذ لم يكن هناك سوى عددٍ قليل من النصارى الذين تركوه وحيدًا؛ حينما اعتدي عليه(1).

ويفنّد القرآن الكريم في الآية 54 من سورة آل عمران :مكرهم: ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ ﴾، ولا شك في أنّ المكر الأوّل أريد منه مؤامرة قتل النبي عيسى(علیه السّلام)من قِبَل اليهود، لذا لا بد من مواجهته بمكر إلهي؛ لإحباطه، والحيلولة دون تحقيق أهدافه، ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ الآية 157 من سورة النساء تنمّ عن الرأي الإلهي القطعي لإنهاء الجدل حول أسطورة قتل المسيح وصلبه، وهذا الأمر نستوحيه من مداليل ألفاظها وظاهر معانيها، ومن البديهي أنّ كلّ معنى عميق ودقيق يستوحى من اللفظ لا بد أن يقوم على ظاهره؛ بحيث لا يتعارض معه، فضلًا عن أنّ فحوى التفسير الإسلامي للآيات المذكورة يتلخّص بما يلي: الله - سبحانه وتعالى - أنقذ بقدرته وإعجازه نبيه عيسى(علیه السّلام)من براثن أعدائه، وجعل شخصًا آخر يُصلَب بدلا عنه، وآية الصلب تعدّ دليلا بينا وثابتًا على رفض زعم مَنْ قال إنّه قُتِلَ مصلوبًا. آراء المفسّرين المسلمين هذه قائمةً على البنية اللغويّة للآيات القرآنية وأصولها النحوية وليست مرتكزةً على الأحاديث والروايات(2)، لأنّ القرآن الكريم استخدم أسلوب النفي المطلق لتفنيد قتل المسيح وصلبه.

ص: 81


1- راجع: إنجيل، مرقس 14 : 5. ذكِرتَ في الأناجيل تفاصيل كثيرة عن حادثة الصلب؛ وبما فيها استغاثة النبي عيسى الله بالله عزّ وجلّ - للنجاة من الموت، لذا هناك سؤال يطرح نفسه في هذا المضمار، وهو: ألم يكن الله قادرًا على إنقاذه من الموت؟ وبوصفه نبيًّا، ألم تكن دعوته مستجابةً؟! أو إنّه كان حقًا مستجاب الدعوة، لكنّ الربّ لم يكن قادرًا - والعياذ بالله- على إجابتها ؟! للاطلاع أكثر ، راجع: (عبد الرحيم سعد داوود، دراسة نقدية لكتاب الإنجيل في القرآن للقس يوسف الحداد، إيران، قم، المعاونية الثقافية في المجمع العالمي لأهل البيت(علیهم السّلام)،1428ه_، ص 289). وتجدر الإشارة -هنا- إلى وجود الكثير من الآيات التي أشارت إلى مقتل عددٍ من الأنبياء والرسل على يد معارضيهم؛ منها ما يلي: (سورة آل عمران، الآيتان 20 و 21؛ (سورة البقرة الآيات 61 و 87 و 91)؛ (سورة النساء الآية 155). الآية 157 من سورة النساء دلّت على فشل أعداء النبي عيسى(علیه السّلام)في قتله.
2- موقف القرآن الكريم تجاه المعتقدات المسيحية الخاصة بالنبي عيسى(علیه السّلام)،هو موقف متخذ إزاء معنى حقيقي ومصرح به في الكلام وليس إزاء معنى مجازي.

المبحث الثاني : التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لهم﴾ في الآية 157 من سورة النساء:

تضمنت تفاسير المسلمين؛ شيعةً وسنّةً ، لقوله - تعالى -: ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ في الآية 157 من سورة النساء، كثيرا من الآراء والتخمينات التفسيرية على ضوء روايات نقلها العديد من الرواة(1).

والباحث محمود مصطفى أيوب هو من جملة الذين سلّطوا الضوء على التفاسير الإسلاميّة لهذه العبارة القرآنية وسائر العبارات التي تحدّثنا عنها، حيث دوّن مقالةً خاصةً في هذا الصدد(2)حاول فيها وضع حلٌّ للتعارض الكائن بين العقيدة الأرثوذكسية المسيحية؛ بخصوص صلب، المسيح ، والمفهوم الإسلامي المستوحى من الروايات التي تمحورت مواضيعها حول القصص القرآنية التي تم التأكيد فيها على فشل اليهود في صلب النبي عيسى(علیه السّلام)، لكنه لم يقبل بمضمونها؛ معتبرًا إياها موضوعةً مستندًا في تفنيد وثاقتها إلى تنوّعها وتطوّر الأحداث فيها؛ ضمن ثلاث مراحل، ففي المرحلة الأولى أشارت إلى شخص تلاقفه اليهود؛ ظنَّا منهم أنه المسيح، وفي المرحلة الثانية أضيفت إليها أحداث مستوحاة من الإنجيل، وفي المرحلة الثالثة نفّذ اليهود عقوبتهم على هذا الشخص؛ بدلًا عن المسيح(3).

ص: 82


1- للاطلاع أكثر، راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن ،لبنان ،بیروت، منشورات دار المعرفة، 1412ه_، ج 6، ص 10-13 عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، تحقيق عبد الرزاق - المهدي بن الجوزي لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1422ه_، ج 1، ص 494-495 الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن إيران طهران منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة 1993م، ج 3، ص 208-209 عبد الله بن أحمد النسفي مدارك التنزيل وحقائق التأويل ،لبنان ،بیروت منشورات دار النفائس الطبعة الأولى، 1416ه_، ج 1، ص 380 محمد ثناء الله مظهري، التفسير المظهري باكستان منشورات المكتبة الرشيدية، الطبعة الأولى، 1412ه_، ج 2 ص 270 271 إسماعيل حقي البروسوي، روح البیان ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الفکر، الطبعة الأولى، ج 2، ص 317-318 . وللاطلاع على تفاصيل أكثر حول هذه الروايات التفسيرية، راجع المصدرين التاليين: Robinson, Christ in Islam.... pp. 127 - 140; Mahmoud Mustafa Ayoub, “Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, pp. 95 - 103.
2- Ayoub, Ibid
3- Ibid., pp. 97 - 99. أطلق محمود مصطفى أيوب على هذه التفاسير عنوان (التفاسير البديلة) substitutionist interpretations. على الرغم من أننا في هذا المبحث لسنا في صدد شرح مدى اعتبار نصوص هذه الروايات وتحليلها وبيان صوابيتها أو سقمها، لكن هناك مسألة في هذا الخصوص غفل أيوب عن بيان تفاصيلها، وهي أنّ الرواية الأخيرة التي اعتبر مضمونها يجسّد نظريةً؛ فحواها: استبدال شخص بآخر حين تنفيذ عقوبة يقصد منها هذا الآخر، تعدّ أكثر قدمًا من غيرها، حيث نسبها الطبري إلى ابن إسحاق. للاطلاع أكثر، راجع: (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 6، ص 11).

وفي ختام كلامه حول هذه الروايات نوّه على أنّ المفسّرين المسلمين من منطلق رغبتهم الشديدة في إثبات عدم صلب النبي عيسى(علیه السّلام)وقتله ، لجأوا في الكثير من الأحيان إلى مثل هذه المضامين؛ لذلك بدل أن تصبح الروايات المشار إليها مرتكزاً يعتمد عليه الباحثون لبيان حقيقة الأمر، باتت سببًا لتعقيد الموضوع؛ ومن المؤكِّد أنّ هذا التعقيد الذي تحدث عنه محمود مصطفى أيوب لا يتناغم مع المعتقدات التأريخيّة المسيحيّة، حيث قال في هذا السياق: «هذه الروايات تعتبر المسيحيّة دينًا باطلا، وهذا البطلان انكشفت حقيقته بعد قرون من الزمن؛ حينما نزل القرآن»(1). واعتبر الروايات التي تحكي عن إبدال النبي عيسى(علیه السّلام)بشخص آخر، مزيجًا من القصص الإنجيلية وتفاسير التلمود؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الكلام هو في الواقع وجهه نظر مشتركة بين المستشرقين بشأن هذه الروايات الإسلامية(2)، وضمن مساعيه الرامية إلى تفنيد مضامينها، استند إلى مسألة تأريخيّة الصلب واستدلّ بأدلّة لغويّة؛ كما ذكر شبهات نحويةً ترد على التفاسير الإسلاميّة في هذا المضمار، وقال معترضاً: «القول بأنّ الله بادر حقًا إلى تعليق شخص آخر على الصليب بدلًا عن المسيح، يتعارض مع مبدأ عدم صدور الظلم منه»(3)، ثم أكد على أن الاستبدال المذكور في الروايات الإسلامية توضيح لقوله - تعالى -: ﴿ وَلَكِن شُبِّهَ فَهُمَّ﴾.

ص: 83


1- Mahmoud Mustafa Ayoub, “Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 97
2- فسر سمير خليل سمير قوله - تعالى -: ﴿وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾؛ قائلًا إنّ اليهود صلبوا شخصاً شبيهاً بالنبي عيسى(علیه السّلام)، وفي هذا السياق أكد على أن جميع المفسّرين الغربيين نسبوا نظرية الاستبدال في الصلب إلى النهج العرفاني الذي تبناه أتباع الفرقة الغنوصية التي اتسع نطاقها في بداية القرن الثاني الميلادي؛ وأضاف أن الإنجيل المنتحل - أبوكريفا - لأعمال يوحنّا، وكذلك النصّ الغنوصي المنقول عن مخطوطات نجع حمادي يرجع تأريخهما إلى النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي وقد طرح فيهما الموضوع ذاته. ولإثبات رأيه استدلّ بشاهد من كتاب إرينيوس (Irenaeus) الذي اعتبره أكثر النصوص تذكيرا بالمضمون القرآني. (Samir Khalil Samir, "the theological christian influence on the Quran", in The Qur'an in its historical context, edited by Gabriel Said Reynolds, London New York: Routledge, 2007, p. 154). وأضاف قائلا إنّ هذا الرأي لا يعني كون النظرية الغنوصية؛ وكأنّها شبه جزيرة كائنة في منظومة المعتقدات المسيحية، بل يعني مجرد وجود مثل هذه العقيدة بين طائفة من النصارى. (Ibid., P. 155).
3- اعتبر محمود مصطفى أيوب التطوّر التفسيري الذي نشأ على يد الشيخ الطوسي في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ ناشئًا من هذا الأصل اللاهوتي -المذكور في النصّ- وأكد في هذا السياق على أنّه ساهم في وضع حلّ لشبهة صدور الظلم من الله -سبحانه وتعالى-. (Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 120) وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشيخ الطوسي قال في تفسير العبارة القرآنية المذكورة: «وجه التشبيه أن رؤساء اليهود أخذوا إنسانًا فقتلوه وصلبوه على موضع عالٍ ولم يمكنوا أحدًا من الدنو منه، فتغيّرت حليته وتنكرت صورته؛ وقالوا: قتلنا عيسى، ليوهموا بذلك على عوّامهم، لأنّهم كانوا أحاطوا بالبيت وصلبوه على الذي فيه عيسى، فلما دخلوه كان رفع عيسى من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سبب إيمان اليهود به، ففعلوا ذلك.والذين اختلفوا غير الذين صلبوا من صلبوه، وهم باقي اليهود». (محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، ج 3، ص 383).

وأما قوله -تعالى-: ﴿ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا انْبَاعَ الظَّنِّ ﴾؛ فقد فسرها قائلًا: "تدل على أنّ قدرة الله [أعظم] من قدرة الإنسان وتحكي عن هزال مكر البشر(1). لكن السؤال الذي يُطرَح عليه في هذا الصدد: كيف تفسّر الاختلاف المذكور في العبارة السابقة ؟ ولدى تفسيره قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ اكتفى بالتوضيح التالي: «الذين اختلفوا حول المسيح من المؤكّد أنّهم في شك ب_(الحقيقة) إذ ليس لديهم أي علم، وإنّما يتبعون الظنّ والتخمين»(2). و(الحقيقة) باعتقاده هي ضعف قدرة البشر وهشاشتها أمام اقتدار الله -عزّ وجلّ-، وبذلك نجده بذل كلّ ما بوسعه للالتفاف على المعنى اللفظي الظاهر من الآية، لكنّه على الرغم من ذلك لم يفلح في تحقيق مراده بعد أن عجز عن إثبات المطلوب.

وقد ذكرنا في المباحث السابقة التي طرحناها حول مسألة صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)أن المستشرق غابريال سعيد رينولدز حاول إثبات المعنى الاستعاري الذي تبنّاه لهذه الآية، ومن هذا المنطلق سلّط الضوء على قوله - تعالى -: ﴿شُبِّهَ هُمْ﴾ تناسبًا مع استنتاجه حول مضمون مستهلّ الآية، ولم يؤيد التفسير الشائع بين المسلمين، بل حتى إنّه رفض رأي الزمخشري، حيث قال موضّحًا رأيه: «لقد وقعت هذه الحادثة بالفعل؛ لأجل أن تتجلّى على هيئة أخرى غير هيئتها الحقيقية»(3)، ونستشف من آراء هذا المستشرق التفسيرية القائمة على السّياق أنّ

ص: 84


1- Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 118
2- Ibid
3- .Reynolds, Ibid., p. 254. من المؤكد أن تقويم غابريال سعيد رينولدز للروايات المنقولة حول هذه العبارة وسائر الروايات التي تطرقت إلى بيان مدلول الآية وما استنتجه منها، ليس سوى ظنُّ وتخمين، حيث اعتبرها موضوعةً من قبل المفسرين المسلمين بهدف بيان تفاصيل الموضوع المقصود فيها؛ ويبدو أنه انتهج هذا الأسلوب السلبي ( غير الودّي ) إزاء المفسّرين المسلمين احتذاءً بالمستشرق الأمريكي جون وانسبرو واليهودي أوري روبين. Cf. Wansborough, Passim وادعى جون وانسبرو أن المفسّرين المسلمين فسّروا القرآن الكريم بأسلوب لغوي ذي طابع أدبي؛ لكي يدعوا أنه مختص بهم. . Cf. Peter Mattew Wright, Review of Reynold's book) وقد اعتبر هذه الروايات بأنها هي القصص نفسها التي تطرقت إلى بيان ظليمة النبي عيسى(علیه السّلام)والمصائب التي تعرّض لها، وذلك نظرًا للتشابه الموجود بينها؛ مؤكّدًا على أن وجه الاختلاف الوحيد يكمن في كون الروايات الإسلامية تدعي أن الله -سبحانه وتعالى- رفعه إلى السماء بجسمه وروحه، بعد أن صلب اليهود شخصًا شبيهًا له، من حيث الهيئة الظاهرية. Reynolds, p. 241 ويبدو من هذا الكلام أن رينولدز ضمن منظومته الفكرية لم يكتفِ باتباع نهج منظرين؛ من أمثال: وانسبرو فحسب، وإنّما سلك هذا النهج حتى في توجيه مداليل الروايات المشار إليها نحو رؤيته التي تبنّاها، وفي هذا المضمار اتبع ذات النهج الذي سلكه أقرانه المستشرقون، ومن أمثلة ذلك: تكراره العبارة التالية في مختلف المباحث التي تطرّق إليها : «المسلمون أرادوا تمييز دينهم عن سائر الأديان ضمن توجه طائفي»، حيث اعتمد عليها أساسًا لبيان مضامين الروايات الإسلامية. (Cf. Wansborogh, passim; Lawson, Passim; ... Cf. Reynolds, pp. 237-247).

مقصوده من هذا الكلام هو المعنى الاستعاري الذي تبنّاه لآية الصلب، حيث اعتبرها تدلّ على بيان قدرة الله تبارك شأنه، وتؤكّد على أن موت النبي عيسى(علیه السّلام)مصلوبا دليل على كفر اليهود.

وأمّا يوسف درّة الحدّاد فقد فسّر مستهلّ هذه الآية ب_«شبه الصلب» و «الصلب الوهمي»، ولدى تفسير قوله - تعالى -: ﴿شُبِّهَ هُمْ﴾ تبنّى رأي الزمخشري الذي فسّرها ب_«خُيّل لهم»(1)وكأنّ المراد من الآية أنّ هذه الحالة قد انطبعت في أذهانهم على هيئة تصوّر. كذلك تطرّق الحدّاد إلى بيان احتمال آخرَ طرحه الزمخشري في هذا المضمار حول فاعل كلمة ﴿شبه﴾، إذ اعتبر هذا الاحتمال مؤيّدًا لرأيه القائل ببطلان الروايات التي تناقلها المسلمون في تفسير قوله - تعالى -: ﴿شُبِّهَ هُمْ﴾(2)، وفي هذا السياق اعتبر القصص المذكورة لبيان المراد من قوله - تعالى ﴿وَلَكِن شبه لهم﴾متناقضةً وأسطوريّةً وتتعارض مع حكم العقل؛ فضلا عن عدم سنديّتها الروائية(3).

وقال المستشرق تود لوسون إنّه لا ينبغي تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ﴾ بحسب معناه اللفظي الظاهر، وعلى هذا الأساس وصف عبارة: ﴿ وَلَكِن شُبِّهَ لهُم ﴾ بأنّها غامضة الدلالة، ولا يمكن الاتكاء عليها لتأييد الرأي القائل بإبدال النبي عيسى(علیه السّلام)بشخص آخر أو لرفض ذلك؛ وبرأيه لا ضير في الاستغناء عن جميع الروايات التي تؤكّد على إبدال المسيح في حادثة الصلب بشخص آخر(4)، لأنّ منشأها المسيحيون الغنّوصيّون، أو لأنّها مستوحاة من معتقدات الشيعة الخاصة بأئمتهم(5).

وفي ما يلي نذكر بعض التفاصيل التي يمكن طرحها لفهم المقصود من قوله -تعالى-:

﴿ وَلَكِن شُبّه لهم ﴾:

ص: 85


1- يرى الزمخشري أنّ كلمة «شبه» في الآية متعلقة بالجار والمجرور «لهم»، حيث فسرها قائلاً: «فإن قلت (شبه) مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسندًا إلى المسيح، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر ؟ قلت هو مسند إلى الجار والمجرور وهو (من) كقولك: خيل إليه كأنه قيل، ولكن وقع لهم التشبيه، ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول؛ لأنّ قوله إنا قتلنا يدل عليه؛ كأنه قيل، ولكن شبه لهم من قتلوه». (محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي 1407ه_، ج 1، ص 587). راجع أيضًا: (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 11، ص 260).
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 217.
3- للاطلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، ص 217-218.
4- Lawson, p. 103.
5- Lawson, p. 24.

-"لكن" أداة استدراك تدلّ على حقيقة ما حدث وكيف اشتبه الأمر على القوم؛ بحيث تصوّروا أنّهم حققوا هدفهم، واستطاعوا قتل المسيح(علیه السّلام)؛إلا أن الحقيقة شيء آخر.

- ﴿شُبّه﴾ لا شك في أهمّيّة بيان معنى هذه الكلمة في تفسير الآية، وهذه الأهمية تتجلّى للعيان في رحاب وجود الكثير من الروايات التي أكدت على إبدال المسيح(علیه السّلام)بشخص آخر؛ والمسألة النحوية التي تحدّث عنها الزمخشري في هذا السياق فحواها أنّ عيسى مشبَّه به، لذا لا بد من وجود شخص أو شيءٍ شبيه له؛ ما يعني أنّه ليس مشبّهاً؛ كذلك لا يمكن أن تُنسب كلمة لشخص أو لشيءٍ؛ لكون الآية لم تشر إليهما؛ وعلى هذا الأساس يجب أن تنسب إلى ذلك الشيء القريب الذي هو في متناول اليد، وهو ﴿لهُمْ﴾ أو إلى ضمير المقتول في عبارة ﴿إِنَّا قَتَلْنَا﴾(1).

ولو ألقينا نظرةً نقديّةً على الروايات التي تطرّقت إلى بيان مدلول هذه العبارة والمنقولة في مختلف التفاسير، سوف نتوصل إلى نتيجة فحواها أنّها متناقضةً حقًا مع بعضها، ولا يمكن الاستناد إليها في إصدار أي رأي، ولربما هذا التناقض هو الذي دعا محمد بن إسحاق لأن يقول في خاتمة تفسيره للآية المذكورة ما يلي: «الله يعلم بحقيقة ما حدث». كذلك الفخر الرازي بعد أن نقل مختلف الروايات التي تطرّقت إلى مسألة الشبه المذكور في الآية دون ذكر أسانيدها، أكّد على تناقضها وقال: «الله أعلم بالحقيقة»(2)، فضلاً عن أنّه انتقد نظرية الاستبدال - إبدال المسيح بشخص آخر- من أساسها، حيث تطرّق في هذا المضمار إلى تحليل مختلف الآراء المطروحة، دون أن يؤيّد أحدها؛ من منطلق كونها تخمينات وتصوّرات انتقلت من جيل إلى آخر، لذا فإنّ قبولها عبارةٌ عن مسألة ذوقيّة لا أكثر(3).

ولا يستبعد احتمال تأثر هذه الروايات بالأساطير المسيحيّة، ولا سيّما أنّ الكثير من رواتها؛ مثل: وهب بن منبه، وكعب الأحبار، هم من علماء أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام في ما بعد؛فضلًا عن ذلك، فقد اعتمد بعض المفسّرين الأوائل على المصادر اليهودية والمسيحيّة لتأييد مضامينها؛ لذلك أدرج بعض الباحثين عددًا منها ضمن ما يسمّى بالروايات الإسرائيلية(4).

ص: 86


1- راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 1، ص 587.
2- محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 11، ص 261.
3- راجع: م. ن، ص 260 - 261.
4- وجدير بالذكر -هنا- أنّ عددًا من المفسرين اعتبروا أنّ بعض هذه الروايات لا تتناسب مع شأن من كان نينا. للاطلاع أكثر، راجع أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، تفسير الآية المذكورة في النص). ورفض العالم المصري محمود شلتوت الرأي الذي تبنّاه جمهور المفسّرين؛ وفحواه: أن المسيح(علیه السّلام)رُفِعَ بجسمه إلى السماء، وبقي حيا فيها؛ بحيث يعود منها إلى الأرض في آخر الزمان وأكّد في هذا الصدد قائلا: هذا التفسير يقوم على الأنماط التالية من الروايات أ- روايات تقول بأنّ عيسى(علیه السّلام)سينزل بعد ظهور الدجّال وهي روايات ألفاظها مضطربة ويمكن تأويلها في عدة معان؛ بحيث لا يمكن الجمع في ما بينها؛ وهذا ما صرح به علماء الحديث . ب- الروايات المنقولة عن أبي هريرة والتي تؤكّد على نزول عيسى الا الله من السماء لكنّها حتّى وإن صحت؛ فهي من جملة خبر الواحد. ج- أحاديث المعراج وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ محمود شلتوت اعتبر الروايات التي ذكر فيها خبر نزول المسيح عيسى(علیه السّلام)من السماء بكونها أخبار آحاد ، لذا فهي لا تفيد اليقين، وصرّح بأنّ الكثير من رواتها ضعفاء فضلا عن وجود اضطراب في نصوصها؛ كذلك الكثير منها غير محكمة والتأويل فيها محتمل بكل تأكيد ومن هذا المنطلق وصفها بالظنّية وغير قطعية الدلالة. للاطلاع أكثر، راجع: (آراء الشيخ شلتوت في كتاب دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، نقلاً عن كتاب مواجهه قرآن با فرهنگ مسيحيت (باللغة الفارسية)، تأليف أعظم بويا، إيران، طهران، منشورات "هستي نما"، 2006م، ص 190-180

إذًا، لا بدّ من التزام جانب الاحتياط عند تبنّي مشتركات مع أهل الكتاب، ومن المؤكد بشكل قطعي لا يقبل الشك أنّ كلام الله -عزّ وجل- ينفي مقتل النبي عيسى(علیه السّلام)بصريح العبارة(1).

ومهما يكن معنى العبارة القرآنية التي تحدّثنا عنها، فهي ليست وازعا لإيجاد اختلاف على صعيد الدلالة العامة للآية التي فحواها إنكار صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)،فاليهود بحسب هذه الآية تصوّروا أنّهم نجحوا في تنفيذ المهمّة وتمكنوا من قتله لكنّ الله - سبحانه وتعالى رفعه إلى السماء بشكل فريد من نوعه. وبالطبع يمكننا - هنا - عدم إمعان النظر بدقة متناهية المعرفة حقيقة هذا الأسلوب أي لا ضير في أن نتعامل معه؛ كتعاملنا مع سائر الأسرار القرآنية على ضوء الإيمان بواقعيّتها، فالأمر الحتمي الذي لا شك في حدوثه على صعيد موضع البحث هو ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ﴾ ، إذ تتضمّن هذه العبارة القرآنية خبرًا قطعيًّا جاءنا من الله عزّ وجلّ؛ وكما هو واضح فالقرآن الكريم لم يتحدّث عن تفاصيل إبدال النبي عيسى(علیه السّلام)بشخص آخرَ ولم يُشِرْ إلى ما امتاز به هذا الشخص واللافت للنظر أن كثيرًا من المفسّرين المتأخرين أكدوا بضرس قاطع على أنّ هذه الآية تنكر صلب المسيح؛ على الرغم من عدم اكتراثهم بالتفاسير المطروحة ضمن الروايات التي تطرقت إلى تفسيرها.

وحينما نلقي نظرةً على التفاسير الإسلامية للقرآن الكريم؛ بغية استكشاف مدلول العبارة التي سلّطنا الضوء عليها في هذا المبحث، نستشف منها أنّ كلمة "شُبه" هي المصطلح الأساس فيها؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة "شبه" حسب المعنى اللغوي تدلّ على أمر مختلف عن

ص: 87


1- راجع: عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعی قرآن کریم معاد در قرآن (باللغة الفارسية) إيران ،قم، منشورات مركز إسراء للنشر، الطبعة الثانية،2003م، ص 236.

الأصل، لكنّه يماثله ويحاكيه وفي ما يلي نذكر عددًا من الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون المسلمون في بيان معنى قوله - تعالى -: ﴿ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ :

1) المشهور بين المفسّرين المسلمين أن عبارة ﴿ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ تدلّ على واقعة إعجازية مضمونها أنّ الله -سبحانه- وتعالى-: صوّر شخصًا على هيئة النبي عيسى(علیه السّلام)، لذلك اعتقله اليهود؛ ظنَّا أنه منهم عيسى حقا ثمّ صلبوه.

وهذا الرأي المشهور قائم على ظاهر الدلالات القرآنيّة، وقيل على أساسه إنّ القرآن الكريم لم يتطرّق إلى بيان منشأ الشبه الذي جعل اليهود في التباس من أمرهم(1)، ومن المؤكد أنّ عبارة ﴿شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ - هنا - لا تعني تخيّلهم، فهي تدلّ على المعنى الحقيقي لنوع المماثلة بين النبي عيسى(علیه السّلام)والشخص الذي وقع عليه الصلب، ولا تعني أنه حقا يشبهه، وهذا التماثل كان بشكل يجعل الإنسان يتصوّر أنّ المصلوب هو المسيح ذاته؛ لذا تمّ تفسير كلمة ﴿شُبِّهَ﴾ بكونها تدلّ على أنّ القتل والصلب وقع على شبيه النبي عيسى(علیه السّلام)(2)، لكن هؤلاء المفسرين ، ربّما تأثّروا بالروايات المنقولة في تفسير العبارة المذكورة، وإثر ذلك استنتجوا أن التشبيه الذي حصل هو من فعل الله - سبحانه وتعالى-، فهو فعّال لما يريد ويشبه كيفما يشاء(3).

2) التفسير الآخر لعبارة ﴿شُبِّهَ لَهُمْ﴾ هو أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)تغيّرت هيئته فأصبح شبيها لشخص آخر، وأصحاب هذا الرأي استندوا إلى ما ذكر في الأناجيل وفسّروا قوله -تعالى-:

﴿وَلَكِن شُبِّهَ هُمْ ﴾؛ كما يلي: المسيح وهو على الصليب جعل نفسه، كالميت أمام أنظار الحاضرين(4)، فتصوّر أعداؤه أنّهم تمكنوا من قتله مصلوبًا، لكنّه في الواقع بقي حيًّا.

وتوصل أصحاب هذا الرأي إلى هذه النتيجة على ضوء تحليل نصوص الأناجيل، ولم يكتفوا بالقول إنّه تظاهر بالموت، بل أضافوا إلى ذلك عدم كسر رجله وبقاءه على الصليب لفترة قصيرة جدًّا، فضلا عن أنّهم اعتبروا خروج الدم من خاصرته؛ دليلًا على كونه حيًّا.

ص: 88


1- راجع: أبو الفتوح الرازي، روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن، تحقيق محمد جعفر ياحقي ومحمد مهدی ناصح، إيران، مشهد منشورات معهد الدراسات الإسلاميّة التابع للعتبة الرضوية المقدّسة، الطبعة الأولى، 1408ه_، الجزء السادس، ص 178-179. ابن الجوزي والفخر الرازي نقلا هذا الاستدلال باعتباره واحدًا من الاحتمالات الواردة حول الموضوع.
2- راجع: أحمد عمران، القرآن والمسيحية في الميزان، لبنان، بيروت، منشورات الدار الإسلامية، الطبعة الأولى، 1995م، ص 452.
3- راجع: عقيل حسين عقيل، عيسى من وحي القرآن، سوريا، دمشق، منشورات دار ابن كثير، 1431ھ ، ص 238.
4- للاطلاع أكثر، راجع: مولوي محمّد علي، عيسی از دیدگاه قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمة وتحقيق محسن بينا، إيران، طهران، منشورات «مروي»، 1994م، ص 212.

وأكّد الباحث بيلوت؛ هو الآخر، على عدم وفاة النبي عيسى(علیه السّلام)، ووصف طريقة دفنه بغير المتعارفة بين الناس آنذاك، حيث تولّى ذلك أحد أتباعه؛ كما أكّد على حدوث تغيّرات على قبره بعد أن رفع الحجر الذي كان موضوعًا عليه، ومن ثمّ تغيّرت هيئته ليظهر عليهم بشخصية أحد المزارعين، وكان يشعر بالجوع مثل تلامذته، وحينما كان فوق الصليب سعى إلى تغطية نفسه. هذه القضايا برأيه تدلّ على أنّه لم يُقتَل، وتشير أيضًا إلى عدم وفاته مصلوبا، وإنّما تغيّرت هيئته على شكل ميّت، ومن ثمّ نجا من براثن أعدائه(1).

وهذا الاستنتاج لا يبدو صائبًا، لأنّ الإنسان حينما يواجه حالة نزع الروح وهو معلّق، عادةً

ص: 89


1- استخرج المفكر المسلم أحمد ديدات من الأناجيل ثلاثين دليلاً لإثبات أن المسيح(علیه السّلام)لم يمت مصلوبًا، وهي كالتالي: لم يكن المسيح(علیه السّلام)يرغب بالموت، طلب العون من الله عزّ وجلّ استجاب الله عزّ وجلّ دعاءه، جاءه ملك من السماء لشدّ أزره الحاكم الروماني بيلاطس البنطي اعتبره بريئًا، زوجة بيلاطس البنطي شاهدت في عالم الرؤيا أنّ هذا الرجل - المسيح - سوف لا يطاله أي أذًى، بقي على الصليب ثلاث ساعات وكلّ إنسان بحسب القوانين المتعارفة لا يموت بسبب الصلب خلال هذه الفترة القصيرة الرجلان الآخران اللذان صلبا معه كانا في هذه الفترة على قيد الحياة لذا هو أيضًا - بقي حيًّا، ذكر في مدخل كلمة Cross ضمن العمود رقم 960 في موسوعة Biblica أنهم طعنوا المسيح(علیه السّلام)برامح في خاصرته لكنه بقي حيًّا، واستخدمت في هذا السياق كلمة (Forthwith) التي تعني تدفق الدم؛ ما يدل على أنّه كان حيًّا حينما طعن قدماه لم تكسرا؛ وهذا يعني أنّه ما زال على قيد الحياة طوال الساعات الثلاثة حدث رعيد وزلزال وكسوف؛ لأجل أن يتفرّق الناس، ومن ثمّ يتمكن الحواريون الذين كانوا متوارين عن الأنظار أن ينقذوه من الموت اكتنف اليهود شكٍّ وتردّد في ما إن كان قد مات أو بقي حيًّا، حيث انتابهم شعور بأنّه نجا من الموت وهو مصلوب ، الحاكم بيلاطس البنطي تعجب حينما سمع أنه مات، وجود قبر كبير وواسع وقريب ضمن مساحة مكشوفة ينمّ عن أنّهم حاولوا إنقاذه من الموت لم يوضع على قبره لحد ولم يتم تكفينه؛ ما يدل على أنه لم يمت كذلك أفادت التقارير المختبرية التي أجريت من قِبَل علماء ألمان على كفنه بأن نبض قلبه لم ينقطع. بعد حادثة الصلب كان المسيح عيسى(علیه السّلام)يظهر بين الفينة والأخرى على هيئة مختلفة، ولو قيل إنّه عاد إلى الحياة بعد موته، يرد على هذا القول إنّه في هذه الحالة لم يكن بحاجة إلى تغيير هيئته. أضف إلى ذلك أنّه امتنع من أن تلمسه مريم المجدلية؛ لأنّ لمس بدنه كان يؤلمه؛ ما يعني أنه على قيد الحياة، فقد ذكر في الأناجيل على لسانه أنّه لم يصعد إلى أبيه بعد، وهذه الجملة في الأدب اليهودي تعني أنه ما زال حيًّا، وهي بدورها حينما عرفته لم يكتنفها أي خوف منه؛ لأنّها لمست فيه مؤشّرات على الحياة، فهي كانت تبحث عن المسيح الحي. الحواريون لما شاهدوه في الغرفة العليا اكتنفهم خوف شديد، حيث لم يكن لديهم علم بما جرى في حادثة الصلب سوى تلك الشائعات التي كانت سائدة بين الناس، لذا فوجئوا حينما شاهدوه على قيد الحياة. بعد حادثة الصلب تناول المسيح(علیه السّلام) الطعام مرارًا؛ الأمر الذي ينمّ بوضوح عن كونه حيًّا، لأنّ الحي - -فقط- بحاجة إلى الطعام؛ ولم يظهر مطلقًا أمام أعدائه، وقد نجا من الموت بمشقة بالغة، وكانت أسفاره قصيرةً جدًّا؛ لأنّه لم يكن قد عاد إلى الحياة بعد الموت، ولم يظهر على هيئة روح؛ وإنّما كان حيًّا من الأساس. ذكر في إنجيل لوقا(24: 7-1) أن شهادة الناس قرب قبره تدلّ على كونه حيًّا، كذلك ذكر في هذا الإنجيل (24:23) أن الملائكة ذكروا كلمة (alive) ولم يقولوا (resurrected) أي أنه، بحسب هذا التعبير، حي لا مبعوث بعد الموت. مريم المجدلية شهدت بأنها رأته بحسب ما ورد في إنجيل مرقس (16: (11) وجدير بالذكر - هنا - أنها لم تشهد بكونها رأت شبحه أو روحه؛ الأمر الذي كان الاعتقاد به صعبًا بالنسبة إليهم هو بقاؤه حيًّا. الدكتور بريمرز أكد على أن خروج الدم والقيح من خاصرته دليل على كونه حيًّا. عيسى الله بنفسه تنبأ بأن تكون معجزته على غرار معجزة النبي يونس ، فهذا النبي كان حيًّا ؛ بحسب ما ورد في كتابه؛ حينما تصوّر الناس أنه مات لذا عندما تصوّر الناس أن عيسى الله قد مات؛ فهو في الواقع حي. (Ahmed Deedat, Crucifixion or crucifiction, (Dar El Fadila, 1989), Chapter 18, pp. 163 - 169).

ما يرتعش بدنه ولا يستطيع السيطرة على نفسه، ومن ناحية أخرى نستشف من ظاهر النص القرآني أنّ المسيح لم يصلب من الأساس؛ وكما هو معلوم فالقرآن الكريم نزل بوحي السماء ووثاقته ثابتة بالقطع واليقين، لذا لا يمكن مقارنة وثاقته مع الأناجيل التي دوّنت بواسطة الذين تتلمذوا عند تلامذة النبي عيسى(علیه السّلام)بعد عشرات السنين.

3) ادّعى البعض وجود مسيحين في التأريخ، أحدهما هو الحقيقي الذي عرج إلى السماء، وأما المزيّف فهو الذي صلبه اليهود؛ لكنّ الناس تصوّروا أنّهما واحدٌ مع مرور الزمان(1).

ومن البديهي أنّ إثبات هذا الرأي ليس بالأمر الهين؛ لكون الكثير من الغربيين شككوا بتأريخيّة شخصيّة المسيح، كما أنّ معتقداتنا الدينية ومعلوماتنا القرآنية لا تؤيد هذا الكلام.

4) هناك تفسير آخرُ لقوله - تعالى -: ﴿ شُبِّهَ هُمْ ﴾ لا يرد عليه الإشكال النحوي الذي طرحه الزمخشري، كذلك يقوم على تحليل بسيط لحادثة الصلب؛ بحيث يجعلها مقبولةً؛ وفحواه أنّ اليهود الذين كُلّفوا باعتقال النبي عيسى(علیه السّلام)،لم يمتلكوا معرفةً كافيةً به، لذلك اعتقلوا شخصًا آخر يشبهه فصلبوه؛ ظنا منهم أنهم أنجزوا المهمة بنجاح.

وجدير بالذكر أنه لا يستبعد اشتباه القوم في تشخيص المجرم عن غيره، واعتقال شخص آخرَ ملاحق من قِبَل الجنود الرومان؛ كما أشير في العهد الجديد(2)، ومن هذا المنطلق فسر الداعية الإسلامي أحمد ديدات قوله - تعالى -: ﴿ وَلَكِن شُبِّهَ هُمْ ﴾ بأنّهم اشتبهوا أخطأوا - حيث قال: «لقد وقعوا في اشتباهِ بشخصية المسيح، وهذا الأمر ممكن؛ لأنّ الإنسان عرضةً للخطأ ويمكن أن يشتبه بشخصية المسيح(علیه السّلام)فيلقى القبض على شخص آخر؛ بدلًا عنه(3).

فضلًا عمّا ذكر نستشف من الأناجيل أنّها تؤيّد التشكيك بهويّة المسيح(علیه السّلام)، وهذا التشكيك كائن لدى الحواريين أيضًا، فقد ذكر في إنجيل متى ما يلي: «كُلُّكُمْ تَشْكُونَ فِي فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ،

ص: 90


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 133.
2- للاطلاع أكثر، راجع: م. ن، ص 132 - 133. راجع أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، لبنان ،بيروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 6، ص 178-179؛ أبو الفتوح الرازي، ج 6، ص 178؛ الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن إيران طهران منشورات ناصر خسرو 1993م ج 3، ص 283 محمود الآلوسي روح المعاني في تفسير القرآن العظيم ،لبنان ،بیروت منشورات دار الكتب العلمية، 1415ه-، ج 6، ص 16.
3- Ahmed Deedat, Crucifixion or crucifiction, (Dar El Fadila, 1989), Chapter 18, p. 191

لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّة»(1). نلاحظ من هذه الآية الإنجيلية أنّ الحواريين مع قربهم إلى المسيح ، لكنّهم شكوا به، لذا لا يستبعد مطلقًا بمكان اشتباه القوم بهويته(2)،ويؤيد هذا الرأي امتناعه عن تعريف نفسه لهم بصريح القول وعدم دفاعه عنها أمام حاكم أورشليم(3)حينما سأله عما إنْ كان ابن الربّ حقًّا أو لا(4)، كذلك يدلّ عليه اختلاف المسيحيّين أنفسهم حول مسألة الصلب.

ويقول المفسّر المسلم الفخر الرازي في هذا السّياق إنّه حينما رفع النبي عيسى(علیه السّلام)إلى السماء ربّما اعتقل اليهود شخصًا آخر فقتلوه ، وادعوا أنّه المسيح ، وبما أنّ علاقاته الاجتماعية كانت محدودة جدًّا، لذلك لم يكن يعرفه سوى عدد قليل من أتباعه، فضلًا عن أن عددًا قليلا من المسيحيين متفقون على نقل حادثة الصلب، ولا يستبعد أن يكون اتفاقهم هذا مرتكزا على خبر كاذب(5).

ويستند محمود مصطفى أيوب كما ذكرنا آنفا إلى تفسير الزمخشري لهذه العبارة ويفسّر كلمة ﴿شُبِّهَ﴾ قائلًا: «يبدو هكذا»، وأضاف: «هذا الأمر غير محدد وغامض»(6). وينقل الشيخ الطوسي - أيضًا - روايةً عن الجبائي بهذا الخصوص، ويوضّحها قائلًا: «قال أبو علي الجبّائي إنّ رؤساء اليهود أخذوا إنسانًا فقتلوه وصلبوه على موضع عالِ ولم يمكَّنوا أحدًا من الدنو إليه، فتغيرت حليته، وقالوا: قد قتلنا عيسى؛ ليوهموا بذلك على عوّامهم؛ لأنّهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي فيه عيسى؛ فلما دخلوه كان عيسى قد رفع من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سببًا لإيمان اليهود به، ففعلوا ذلك، والذين اختلفوا فيه هم غير الذين صلبوه، وإنّما باقي اليهود. وقيل إنّ الذي دلّهم عليه وقال: هذا عيسى أحد الحواريين أخذ على ذلك ثلاثين درهماً وكان منافقاً، ثمّ إنّه ندم على ذلك واختنق حتى قتل نفسه وكان اسمه بودس زكريا بوطا وهو ملعون في النصارى، وبعض النصارى يقول أن بودس زكريا بوطا

ص: 91


1- إنجيل متى، 28: 18.
2- راجع: محمد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، ج 6، ص 18.
3- للاطلاع أكثر ، راجع: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى،1995م، ج 4، ص 21-22.
4- للاطلاع أكثر، راجع: إنجيل متى، 27:12-13 / إنجيل لوقا، 23: 9-10
5- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 11، ص 100-101.
6- Mahmoud Mustafa Ayoub, “Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 93.

هو الذي شبّه لهم فصلبوه وهو يقول: لست بصاحبكم أنا الذي دللتكم عليه، وقيل إنّهم حبسوا المسيح مع عشرة من أصحابه في بيت فدخل عليهم رجل من اليهود، فألقى الله -تعالى- عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، فقتلوا الرجل»(1).

إذًا، نزاع اليهود في ما بينهم حول صلب المسيح(علیه السّلام)هو حقيقةً تأريخيّةٌ ثابتةٌ، كذلك لا يمكن إنكار نزاع النصارى حول ما إن مات وهو مصلوب ثمّ رفع إلى السماء أو الأمر ليس كذلك(2)؛ وعلى هذا الأساس قال البعض إنّ اليهود والنصارى - دون أن يعرفوا حقيقة ما جرى في حادثة الصلب - صادقون في خبرهم القائل بأنّ الذي عُلِّقَ على الصليب هو شخص على هيئة المسيح(3)؛ ما يعني ما يعني أن عبارة أنّ عبارة ﴿ شُبِّهَ هُمْ ﴾ مهما كان تفسيرها، فهي حتى إن لم تؤيّد الرأي القائل بعدم صلب المسيح ونجاته من القتل، لكن مع ذلك لا يمكن لأحد ادّعاء أنّها تثير شبهةً حول هذا الرأي، والقرآن الكريم؛ كما هو معلوم نفى مقتله وصلبه، لذا من القطعي أن قوله -تعالى-: ﴿ وَمَا قَنَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ﴾ ليس فيه أدنى شك والتباس من حيث الدلالة الظاهرية القائمة على نفي تحقّق القتل والصلب بشأنه.

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -:

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا انْبَاعَ الظَّنَّ﴾(4):

هناك احتمال بأنّ المستشرق ريتشارد بيل تأثر بمرتكزاته العقدية لدى تفسير قوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ واعتبرها تحكي عن الاختلاف بين مختلف الطوائف والفرق المسيحية التي تبنّت آراء متباينةً إزاء صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)، لكنّه احتمل في ما بعد أنّ هذه الآية تشير إلى الاختلاف بين اليهود والمسيحيّين(5).

ولتفنيد ما ذهب إليه هذا المستشرق يمكن القول:

ص: 92


1- محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 3، ص 158.
2- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان ،بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 11، ص 101.
3- راجع: محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 3 ص 384:الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن،ج 3، ص 234.
4- سورة النساء، الآية 157.
5- Bell, A Commentary on the Qur'an, vol. 1, p. 139.

1. إنّ سياق الآيات التي من ضمنها هذه الآية لا يتناسق مع الرأي الأوّل، ففيه عبارة ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ فإنّ المراد منها اليهود لا المسيحيّين؛ أي إنّ الضمير في الفعل "قتلوه" يرجع إلى اليهود؛ والمسيحيون هم ليسوا مقصودين من قوله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾.

2. ظاهر الآية وسياقها لا يتناسقان مع الرأي الثاني حيث يدلّ سياقها على أنّ هذا الاختلاف قد حدث بين اليهود أنفسهم، فقد ظنّ بعضهم أنّهم تمكنوا من قتل المسيح(علیه السّلام)، في حين اعتقد عدد منهم أنّهم لم يتمكنوا من ذلك، بل قتلوا شبيهه؛ ويؤيد ذلك أنّ ظاهر هذه العبارة القرآنية يدلّ على هاتين الفئتين من اليهود، كما أنّ سياقها يساند هذا الاستنتاج، وقوله -تعالى-: ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ يشير إلى أنّ ﴿الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ﴾ كانوا في شك من أمرهم، فهم لم يكونوا على يقين بأنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم(سلام الله علیها)والضمير في كلمة "قتلوه" يرجع إلى ﴿الَّذِينَ اَخْتَلَفُواْ﴾ ؛ وأيا كان المقتول، فالقتلة هم اليهود قطعًا.

أضف إلى ذلك أنّ القرينة المقاميّة وما يحفّها ؛ وقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا ﴾(1)، وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾(2)هی شواهد تدلّ على أنّ موضوع الاختلاف هو صلب المسيح(علیه السّلام)بقرينة قوله - تعالى -: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ الذي أدرجت فيه عبارة عدم القتل إلى جانب عبارة عدم الصلب؛ إذ اختلف اليهود في ما بينهم حول الطريقة التي قتلوه بها، فهل مات وهو مصلوب - وافته المنية على الصليب - أو قُتِلَ ثمّ صلب جسمه ؟ الآية كما هو واضح في مقام الردّ عليهم وتفنيد مدّعاهم، وعلى ضوء العبارتين القرآنيتين اللتين أشرنا إليهما -عدم القتل وعدم الصلب- يدحض كلّ ادّعاء لهم غير المفهوم من هاتين العبارتين؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم لو ذكر عبارة ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ فقط، ربّما يفسّرها اليهود قائلين: نعم، نحن لم نقتل المسيح؛ كما هو متعارف في القتل؛ وإنّما علّقناه على الصليب؛ لذا أدرجت إلى جانب عبارة ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾؛ كي يكون النصّ القرآني صريحاً في بيان الحقيقة وتفنيد مزاعم اليهود؛ أي أنّه يثبت فشل اليهود في قتل النبي عيسى(علیه السّلام)و وصلبه ، إذ اشتبه الأمر عليهم فقتلوا شخصًا آخر غيره ظئًا منهم أنهم حققوا مآربهم وقتلوه(3).

ص: 93


1- سورة النساء، الآية 157.
2- سورة النساء، الآية 158
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 132

ويفسّر محمود مصطفى أيوب كلمة الظنّ في قوله تعالى: ﴿ مَا هُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا انْبَاعَ الظَّنِّ ﴾ بظنّ البشر حول النبي عيسى(علیه السّلام)(1)، ويدافع عن رأيه بقوله: نحن مطلقًا لم نحمل القرآن أي معنى خارج عن مدلول نصّه. لكنّ سياق الآية - كما أشرنا آنفا - يدلّ على أنّ المسألة التي اختلف فيها اليهود تتمحور حول قتلهم المسيح أو شبيهه، إذ ظنّ بعضهم أنهم قتلوا المسيح نفسه، إلا أنّ آخرين اعتبروا المقتول شبيهه؛ لذا ليس من الممكن نسبة الظنّ في الآية إلى جميع البشر .

وحينما نمعن النظر في سياق الآية لا تبقى عندئذ حاجة لتأويل محمود مصطفى أيوب الاستعاري وما قاله ابن قتيبة في تفسيرها: أنْ لا علم لهم بذلك إلا اتباع الظنّ؛ وهم لم يقتلوه يقينا(2)، وأما الطبري فقد عزا الاختلاف في الآية إلى عدم اتفاق القوم حول تحقق القتل بشأن النبي عيسى(علیه السّلام)، حيث اختلفوا حول شخصية الرجل الذي قتله اليهود، فهل هو المسيح حقًا أو رجلٌ آخر غيره؟ وقوله - تعالى-: ﴿إِلَّا أَنْبَاعَ الظَّنِّ﴾ يدلّ على أنّ اليهود لم يكونوا على علم بالشخص الذي قتلوه، فقد ظنّوا نجاحهم في تنفيذ مهمتهم، وتصوّروا أنّهم قضوا على عيسى الذي أرادوا قتله، لكن ظنّهم هذا ليس له حظِّ من الصواب، فالمقتول ليس المسيح عيسى بن مريم(سلام الله علیها)(3).

إذَا، نستشف ممّا ذُكِرَ أنّ مسألة مقتل النبي عيسى(علیه السّلام)بواسطة اليهود ليست سوی ظن، والعلم واليقين بخلافه، فالآية أكدت قائلةً: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا﴾؛ أي أنّهم لم يمتلكوا أي يقين بقتله أو أنّ الأمر المتيقن هو عدم تمكنهم من قتله أساساً، فالله -عزّ وجلّ- بهذه التعابير المؤكّدة ينفي مقتل المسيح(علیه السّلام)(4). وعبارة ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا﴾ تدل على تفنيد زعم من ادعى أنّه قد قُتِلَ وتؤكّد على كون المقتول شخصًا آخر غيره.

ص: 94


1- Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 104
2- راجع: عبد الله بن مسلم بن قتيبه، غريب القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات مكتبة الهلال، الطبعة الأولى، ص 136.
3- راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تأريخ الأمم والملوك، ج 6، ص 13.
4- تجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ بعض المفسرين وعلماء اللغة أرجعوا الضمير الهاء في قوله - تعالى -: ﴿وَما قَتَلوهُ يَقيناً﴾إلى كلمة الظنّ. للاطلاع أكثر راجع: ( عبد الله بن مسلم بن قتيبه، غريب القرآن، لبنان، بيروت منشورات مكتبة الهلال، الطبعة الأولى، ص 136). ويترتب على هذا القول أنّهم بظنّهم هذا ما قتلوه يقيناً وهو على غرار قول من يقول: "مَا قَتَلْتَ هَذَا الْأَمْرَ عِلْمًا وَمَا قَتَلْتَهُ يَقِينًا"، ومن ثمّ فهذه العبارة القرآنية تدلّ على أنّ ظنّهم هذا يعني عدم يقينية قتله، حيث كانوا متردّدين ومختلفين في ما بينهم حول ما إن كان المقتول هو المسيح عيسى(علیه السّلام)ذاته أو شخصًا آخر (راجع المصدر السابق) لكن يبدو أن هذا التفسير؛ حتى وإن كان صائبًا من الناحية اللغوية، لكنه مع ذلك غريب من حيث المعنى، ولا ينسجم مع فصاحة القرآن الكريم. للاطلاع أكثر، راجع: (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 133).

ونستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ القرآن الكريم فنّد بقطع ويقين زعم اليهود والنصارى بخصوص قتل المسيح عيسى الله ، وصلبه فسياق الآية ينفي ادّعاءهم، وظاهرها ينفي ادعاء النصارى؛ حيث أكّد على أنّهم - اليهود، أو اليهود والنصارى معًا - قد اشتبه الأمر عليهم، لكنّه لم يحدّد نوع هذا الاشتباه وكيفيته، فهذه هي العقيدة القرآنية بخصوص حادثة الصلب وفحواها التأكيد على اشتباه القوم؛ ما أسفر عن ظنّهم أنّ المقتول هو المسيح نفسه.

وتؤكّد الأناجيل والمصادر التأريخية، كذلك الروايات الإسلامية بأجمعها على وجود خلفيّة مناسبة لاحتمال وقوع القوم في خطأ كهذا، فالعسكر الذين كلّفوا باعتقاله بادروا إلى ذلك ليلًا، ولم يكونوا قد رأوه سابقًا؛ الأمر الذي يؤيّد إمكانية حدوث هذا الخطأ؛ وحتّى الذين اختلفوا في الإجراء الذي يجب أن يُتخذ بشأنه قد انتابهم الشكّ حول مقتله، وما امتلكوا يقينًا بما حدث، إذ ليس لديهم سوى الظنّ(1).وقد فنّد القرآن الكريم مقتله بالقطع واليقين وأكّد على أنّ الله عزّ وجلّ - رفعه إلى السماء، وهذا الأمر يسير عليه تبارك شأنه، فهو العالم القادر على كلّ شيءٍ؛ وعلى هذا الأساس قيل: «من عظمة القرآن الكريم أنه نفى مقتل رجلِ تبعد مدينته عن مدينة نزوله - نزول- القرآن - مسافةً بعيدةً، وتفصله عنه مئات السنين؛ فهو ينكر ذلك؛ وكأنّه حاضر هناك ومشرف على أعمالهم - أعمال أعداء النبي عيسى - وخبره يختلف عن الخبر الذي شاع بين أنصار عيسى وأتباعه الذين تصل سلسلتهم إلى زمان وقوع القتل، فالحقيقة هي أنّ منزل القرآن الكريم عالم بحقائق الأمور وقدرته] تفوق نطاق الزمان والمكان ولا يخبر إلا الصدق»(2).

ص: 95


1- هكذا يعتقد البعض. للاطلاع أكثر، راجع: (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_ ج | 11، ص 157؛ محمد بن علي الشوكاني فتح القدير سوريا دمشق، منشورات دار الكلم الطيب ،لبنان ،بيروت، منشورات ابن كثير، الطبعة الأولى، 1414ه_،ج 1 ، ص 534؛ محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي محمد جميل ،لبنان، بیروت، منشورات دار الفكر، 1420ه_ ص 406؛ محمود ،الآلوسي روح المعاني في تفسير القرآن العظيم ،لبنان بيروت منشورات دار الكتب العلمية، 1415ه_ ، ج 6، ص 17 ؛ عبد الرحمن بن علي بن الجوزي زاد المسير في علم التفسير تحقيق عبد الرزاق - المهدي بن الجوزي ،لبنان، بیروت، منشورات دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1422ه_، ج2، ص 217). هذا الاختلاف يشير في الحقيقة إلى الاختلاف الكائن بين المسيحيين أنفسهم؛ بخصوص شخصية النبي عيسى(علیه السّلام)، وكيف تم صلبه من قبل أعدائه ؟. (جون ناس، تاریخ جامع اديان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي أصغر حكمت، إيران، طهران، منشورات «بيروز»، الطبعة الثالثة 1975م، ص 426-427).
2- رضا صدر، مسیح در قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي حجّتي كرماني ،إيران، طهران، منشورات مشعل دانشجو، ص 227. وفق المفاهيم القرآنية وتعدّ متكاملة الدلالة بحدّ ذاتها، دون الحاجة إلى استنباط مدلولها من آيات أخرى: ﴿إِذْ قالَ اللهُ يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهَّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ حيث قال موضّحًا: «كلمة» مُتَوَفِّيكَ تشير بطبيعتها إلى موت المسيح(علیه السّلام)، فالإيفاء يعني تسديد الدين بعد انتهاء مهلته المقرّرة»، لكن بما أن أحد استعمالات هذه الكلمة مخصّص لوفاة الإنسان حين نومه بشكل مؤقت، لذا لا يمكن البت بأنّها في هذه الآية تدلّ بالقطع واليقين على الموت. (Bell, A Commentary on the Qur'an, Vol. 1 p. 76.) وجدير بالذكر هنا - أن ريتشارد بيل سعى إلى إثبات أنّ هذه الآية تضرب بجذورها في مناشئ مسيحيّة، وعلى ضوء ما ذُكِرَ في الأناجيل من أخبار عن النبي عيسى(علیه السّلام)ومختلف الأحداث التي اكتنفت حياته، فسّر قوله - تعالى -: ﴿وَرافِعُكَ إليَّ﴾ بأنّه يحكي عن عروجه إلى السماء؛ كما هو مذكور في سفر أعمال الرسل ضمن الآية التاسعة من الإصحاح الأوّل: "وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ". (سفر أعمال الرسل (1: 9)). Ibid

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقي للآيات التي أشارت إلى وفاة المسيح(علیه السّلام)ورفعه إلى السماء:

بذل المستشرقون الذين حاولوا إثبات صلب المسيح عيسى بن مريم(علیه السّلام)دون غيره، جهوداً حثیثةً في هذا المضمار لدى تفسيرهم الآية 157 من سورة النساء، وكذلك استقصوا مختلف الآيات القرآنيّة؛ للعثور على ما ينصبّ في هذا المجرى، ويمكن في رحابه التعرّف على حقيقة ما حدث للمسيح؛ ومن هذا المنطلق نسلّط الضوء في ما يلي على أساليبهم التفسيرية للآيات التي تتضمّن كلمتَيْ "وفاة" و"رفع " ، ولا سيّما الآية 55 من سورة آل عمران وطبيعة ارتباطها بالآيتين 157 و 158 من سورة النساء، وبالآية 117 من سورة المائدة؛ فهناك دراسات استشراقية ملموسةً تقوم على تفسير الآية 55 من سورة آل عمران ضمن سياق لغوي، ونصّها التالي: ﴿ إِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ ثُمَّ إِلَى مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.

وكثير من الدراسات الاستشراقية التي دوّنت لتفسير هذه الآية، تتمحور بشكل أساس حول شرح كلمتي "متوفيك" و"رافعك" وتحليلهما، ولا شكّ في أنّ تفسيرهما يعين الباحث على امتلاك رؤيةً واضحة ومتكاملة عن شخصيّة المسيح القرآنية، كما يمنحه فهما أفضل بالنسبة إلى مدلول آية الصلب وسائر الآيات التي تتحدّث عن موت المسيح(علیه السّلام).

وتجدر الإشارة إلى أنّ كثيراً من القراءات الاستشراقية لهذه الآية دارت في فلك سياقها، والأسلوب القرآني المتبع في طرح الكلمتين المذكورتين، إذ ليس من المتعارف فيها اقتطاع كلمة من سياق الآيات وتفسيرها بمعناها المستقلّ؛ بل جرت وفق مبدأ تسليط الضوء على مواقع الكلمات في كلّ آيةٍ، وترتيبها؛ مقارنةً مع الكلمات المحاذية لها، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار أساليب استعمالها في سائر النصوص القرآنية المشابهة. كذلك انتهج المستشرقون أسلوبًا ظاهراتيًا لتقويم التفاسير المطروحة من قِبَل العلماء المسلمين لهذه الآيات؛ ومن أبرز

هؤلاء المستشرقين : يوسف درّة الحدّاد، ونيل روبنسون، وغابريال سعيد رينولدز، حيث دوّنوا دراسات مسهبةً ودقيقةً فى هذا المضمار(1).

ص: 96


1- كما ذكرنا آنفًا في هذا الخصوص، فالأسلوب التفسيري الوحيد الذي اتبعه ريتشارد بيل يختلف عما تبنّاه غيره من مستشرقين، فهاجسه الأساسي هو تسليط الضوء على ترتيب الآيات، ومن جملة الآراء التي طرحها: أنّ الآية 55 من سورة آل عمران تحكي عن قصة النبي عيسى(علیه السّلام).

وفي ما يلي نتطرّق إلى بيان أسلوبهم التفسيري للآية المذكورة:

1. "إذ" هي أوّل كلمة استقطبت أنظار المستشرقين نحوها على صعيد سياق الآية وبنيتها، فهي الكلمة الأولى فى الآية، وهذه الخصوصية جعلت استنتاجاتهم تتناسب مع ما استنتجه المفسّرون المسلمون؛ باعتبار أن هذه الآية تقع في سياق الآيات السابقة لها، لذا حاولوا إيجاد ارتباط في ما بينها، وبعد تأييدهم لهذا الارتباط سعوا إلى بيان طبيعته وتفاصيله.

واعتبر غالبيّة المفسّرين المسلمين، ضمن تأكيدهم على مسألة السياق(1)، لدى بيانهم طبيعة الارتباط بين الآيتين 54 و 55 من سورة آل عمران، أنّ الآية 55 هي أنموذج جليّ للمكر الإلهيّ في قضية النبي عيسى(علیه السّلام)وممّا قيل في هذا الصدد ما يلي: «إذ قال الله (ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله) إني متوفّيك (أي مستوفي أجلك، معناه إني عاصمك من أن يقتلك الكفّار، ومؤخّرك إلى إجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتيلًا بأيديهم) ورافعك إلى (إلى سمائي ومقرّ ملائكتي) ومطهّرك من الذين كفروا (من سوء جوارهم، وخبث صحبتهم»(2). واعتبر بعض المفسّرين هذه الآية مثالا على التدخّل الإلهيّ في حياة البشر، إذ إنّ الله -سبحانه وتعالى- أحبط بلطفه وعنايته مؤامرات اليهود التي حاكوها ضدّ النبي عيسى(علیه السّلام)(3)؛ في حين أنّ عددًا منهم اعتبروها تجسيدًا حيًّا للسخط الإلهي ضدّ اليهود؛ مؤكدين على أنها تحكي

ص: 97


1- كلمة (مكر) في عبارة «مَكر الله» التي ترتبط بكلمة «إذ» في الآية اللاحقة، وضّحها الراغب الأصفهاني في مفرداته كما يلي: «المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة».
2- محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_ ج 1 ، ص 366. راجع أيضاً: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_ ج 8، ص 71.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، ج 3، ص 316.

عن تشديد للعقاب الإلهي الذي طال المجتمع اليهودي، وعلى أساس هذا التفسير فاليهود يئسوا من قتل المسيح(علیه السّلام)والظاهر منها أنّ هذا المكر الإلهي عاد بنفع كبير على المسيح،وكان سببًا في رفعه إلى السماء.

ولم يستسغ المستشرق نيل روبنسون هذا التفسير من منطلق تعارضه مع ما ذُكِرَ في الأناجيل، وأثار شكوكا حول عقيدة الصلب المسيحيّة التي يعتبرها هذا المستشرق وأقرانه بأنّها من المعتقدات الموثقة التي لا غبار عليها، ولا يمكن التشكيك بها بتانا. ومن المعلوم أنّ لديه إلماما بالأساليب المتبعة في الأناجيل، لذلك طرح تفسيرًا يتناسق مع المكر المذكور في الآية 54 من السورة ذاتها ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ ﴿، حيث أضاف إلى مسألة المكر بالنبي عيسى(علیه السّلام)والتخطيط لقتله، مسائل أخرى؛ مثل: تخطيطهم لزعزعة أركان رسالته(1)؛ولدی بيانه المقصود من مكر الله -سبحانه وتعالى-، أكد على عدم وجود اختلاف بين قضيّة نجاة المسيح من الموت وقضيّة عقاب اليهود عن طريق تدمير مدينة أورشليم، وقضيّة الحفاظ على التعاليم التوحيدية التي جاء بها هذا النبي؛ فهذه القضايا برأيه متكافئة وتنسجم مع المنطق(2).

لا شكّ في أنّ الله -عزّ وجلّ - لا يُخلف الوعد الذي قطعه على نفسه لنصرة أنبيائه ورسله، لذا فهو لا يحرمهم مؤازرته مطلقاً، وهذه المؤازرة يمكن أن تتحقق بأشكال عدة على المستوى النفسي، وفي مجال الحفاظ على تعاليم السماء التي جاؤوا بها، إلى جانب صيانتهم من أي ضررٍ يلحق بهم؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ الله -عزّ وجلّ- أكرم النبي عيسى(علیه السّلام)بلطف بالغ، وهذا الأمر يعدّ أنموذجًا على التدخّل الإلهي لإعقام مؤامرات الكفّار واليهود(3).

وفسّر كثير من المفسّرين المسلمين على ضوء القرائن الموجودة في الآيات السابقة للآية 55 من سورة آل عمران، المكر الإلهي بإنقاذ المسيح(علیه السّلام)من القتل، وقال الفخر الرازي إنّ مكر اليهود بالنسبة إلى المسيح هو التخطيط لقتله(4)، وأكد الآلوسي على أنّ الآية 54 من سورة

ص: 98


1- للاطلاع أكثر، راجع: إنجيل لوقا، 4: 30؛ إنجيل يوحنا، 8: 59.
2- Robinson, "Jesus", p. 18
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، ج 3، ص 316.
4- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 8، ص 236.

آل عمران وصفت مؤامرة بني إسرائيل بالمكر، وأمّا العقبات التي وضعها الله عزّ وجلّ في طريقهم وجعلتهم في يأس وإحباط؛ فقد اعتبرتها مكرًا إلهيَّا، كما عد مضمونها تأكيداً على كونه -تعالى- خير الماكرين؛ باعتبار أنّه يرجع مكر الماكرين؛ عليهم(1). يؤيد هذا الرأي مضمون قوله - تعالى -: ﴿مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله﴾(2)، إذ إنّ استنصار النبي عيسى(علیه السّلام)سببه اعتقال اليهود لم وسعيهم إلى قتله، ومراده من هذا السؤال هو الإيمان بالله عزّ وجلّ، ومن الطبيعي أن نصرة أنبيائه ورسله تعدّ ركيزةً أساسيّةً لإيمان البشر(3).

أضف إلى ذلك أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)لم يكن مكلفا بالحرب، لذا فالسبب الذي دعاه للاستنجاد بالأنصار هو الدفاع عن نفسه مقابل الكفّار الذين أرادوا قتله(4).

ونستلهم من بنية الآية أنّ الكثير من الناس لم يؤمنوا بنبوّة المسيح عيسى(علیه السّلام)؛على الرغم من المعجزات العديدة التي جاء بها، وعندما يئس من إيمانهم سألهم: ﴿مَنْ أَنصَارِيَ إلى الله﴾؛ وذلك لإتمام الحجّة عليهم، ولتمييز المؤمنين عن الكافرين، لكن لم يجبه إلا القليل منهم(5). والآية 54 -كما أشرنا- تطرّقت إلى الحديث عن الكفّار، وأكدت على مكرهم إزاء إرادة الله -عزّ وجلّ-، وهذه الكلمة لغةً تعني التآمر والتحايل خفيةً، فقد اتخذ اليهود آنذاك إجراءات ماكرةً وتأمروا ضد المسيح(علیه السّلام)؛لدرجة أنّهم تمكنوا من إقناع الحاكم بأنه ارتكب جريمةً، لذلك أمر باعتقاله(6).

وبناءً على هذه الشواهد، ومضمون الآية اللاحقة التي تتضمّن عبارة ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾، ومضمون الآية 157 من سورة النساء التي أكّدت على فشل اليهود في قتل المسيح(علیه السّلام)وصلبه، كذلك استنادًا إلى القرائن الموجودة في الأناجيل والتي تثبت خيانة أنصاره وإفشاءهم مكان

ص: 99


1- راجع: محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، ج 2، ص 170.
2- سورة آل عمران، الآية 52.
3- راجع: عبد الحسين الطيب، أطيب البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات إسلام، الطبعة الثانية، 1999م، ج ة، 1999م، ج 4، ص 381-382.
4- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 2، ص 756.
5- ذكر هذا المضمون في الآية 6 من سورة الصف - أيضًا -: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيَنْ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
6- تشير الآية 110 من سورة المائدة أيضاً إلى هذا الموضوع، حيث قال - تعالى -: ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَني إِسرائيلَ عَنْكَ﴾، وهذه العبارة تؤكد على أنّ بني إسرائيل كانوا في صدد إلحاق أذى بالنبي عيسى(علیه السّلام)لكنّ الله -عزّ وجلّ - أنقذه من شرهم. (للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 6، ص 221)

اختفائه، إلى جانب شواهد عدّة أخرى؛ فإنّ أفضل تفسير للمكر المذكور في القرآن الكريم هو تآمر اليهود لقتله، لذا ليس من الصواب بمكان تفسيره بالحفاظ على التعاليم التوحيدية التي جاء بها، أو بتخريب مدينة أورشليم وكما هو ظاهر من الآية فالله -عزّ وجلّ- قد أفشل مكرهم، وخاطب المسيح(علیه السّلام)مواسيًا له: ﴿يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى﴾، أي إنهم لن يتمكنوا من قتلك، بل سوف أرفعك إلى السماء أو أتوفّاك بموت طبيعي(1).

ويبدو أنّ المستشرق نيل روبنسون لديه اقتناع راسخ بموت المسيح(علیه السّلام)مصلوبا على ضوء المبادئ اللاهوتية المسيحيّة التي تقوم عليها منظومته الفكرية والعقدية، وفي هذا السياق اعتبر الرأي الذي تبنّاه المفسّرون المسلمون في هذا المضمار والذي فحواه عدم مقتله وعدم صلبه من الأساس، منبثقًا من ظاهر بعض الآيات القرآنية؛ مثل: الآيتين 46 و 47 من سورة إبراهيم(2)، حيث تؤكّد هاتان الآيتان وسائر الآيات المماثلة لهما على أنّ الله -عزّ وجلّ- لا يخلف وعده، وسينصر أنبياءه ورسله على الكفّار قطعًا(3)

ص: 100


1- تطرّق المستشرق نيل روبنسون في أحد مؤلّفاته إلى تحليل مضمون الآية 30 من سورة الأنفال؛ لبيان أوجه شبهها مع الآية 54 من سورة آل ،عمران حيث قال في هذا الصدد: «هذه الآية تشير إلى أنّ أعداء النبي محمّد تأمروا عليه، لكنّ الله -سبحانه وتعالى - مكر بهم ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُنْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرينَ﴾، وقال إن عبارة ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ذكرت في موضع آخر من القرآن الكريم بشأن النبي عيسى ، وذلك ضمن الآية 54 من سورة آل عمران: ﴿مَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾. (Neal Robinson, "Jesus Mary in the Quran: some neglected affinities, Religion (London) 20 (April 1990) pp. 26; 35). also in The Qura'n Contents, edited by Andrew Rippin, Aldershot: Ashgate, Variorum, 2001, pp. 21 الأمر الثابت الذي لا شك فيه أنّ الآية 30 من سورة الأنفال ناظرة إلى تآمر مشركي مكّة في ما بينهم ضدّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بهدف اغتياله، فقد أكدت على أنّهم قصدوا قتله، لكنّ الله سبحانه وتعالى مكر بهم وقضى عليهم من حيث لا يحتسبون أو أنّه عاقبهم على مكرهم هذا. (أبو جعفر محمد بن علي ابن شهر آشوب متشابه القرآن ،ومختلفه ،إيران، قم، منشورات بيدار، 1369ه_، ص 227). تجدر الإشارة هنا إلى أنّ مكر الله في هذه الآية تجسّد في مبيت الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)في فراش النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم). للاطلاع أكثر، راجع: (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تأريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل ،إبراهيم ،لبنان، بیروت، منشورات دار التراث، الطبعة الثانية، 1387ه_ - 1967م، ج 2، ص 374 أبو إسحاق الثعلبي الكشف والبيان تحقيق أبو محمد بن عاشور، لبنان، بیروت منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1422ه_، ج 4، ص 348 - 349). وتفيد الآية 54 من سورة آل عمران أنّ بني إسرائيل تآمروا على النبي عيسى(علیه السّلام)لأجل صلبه، إلا أنّ مكر الله عزّ وجلّ - الذي هو في الواقع مكر حسن شاء أن يُصلب شخص آخرُ وأن ينجو المسيح من هذه المؤامرة؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛كما تفيد الآية 30 من سورة الأنفال، فقد تآمر عليه مشركو قريش لتقطيعه إربًا، لكنّ المكر الإلهي الحسن أنقذه منهم بعد أن لجأ إلى غار ثور. إذَا، السؤال التالي يطرح على نيل روبنسون: بعد أن تطرّق إلى المقارنة بين الآيتين المذكورتين، لِمَ لَمْ يُذعن بأن المسيح(علیه السّلام)نجا من مكر اليهود ولم يُصلَب؟!
2- قال -تعالى-: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام﴾ (سورة إبراهيم، الآيتان 46 و47).
3- Robinson, "Jesus", p. 18.

ولا شك في عدم صوابيّة ادّعاء وجود ارتباط كهذا؛ للتشكيك في الرأي القرآني القائل بعدم مقتل المسيح عيسى(علیه السّلام)على يد أعدائه، فالحقيقة هي أنّ الكافرين وعبدة الأوثان كانوا على مرّ العصور أشدّ الخصوم لرسالات السماء ومن جاءهم بها، إذ أشار إليهم القرآن الكريم في العديد من آياته(1)، لذا كيف يمكن اعتبار تفسير المسلمين للآية المذكورة بكونه متأثرًا بالآية التي أشارت إلى عدم خلف الله -تعالى- وعده في نصرة أنبيائه ؟

وبما أنّ عقيدة نيل روبنسون الراسخة هي استحالة نجاة المسيح(علیه السّلام)من الموت، فقد بذل قصارى جهوده لإثباتها؛ مستعينا ببعض آراء المفسّرين المسلمين لعددٍ من الآيات القرآنية؛ وفي هذا السياق ادّعى أن المكر الإلهي المشار إليه في القرآن الكريم لا يُراد منه نجاة المسيح من القتل والصلب، لذا استدلّ بالآية 144 من سورة آل عمران(2)؛ليثبت أنّه مات مقتولاً، إذ إنّ هذه الآية تشير إلى إمكانيّة موت النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أو قتله، وفي السورة آية أخرى تطرّقت إلى الحديث عن المسلمين الذين قُتِلوا في حرب أحد والذين وصفتهم بكونهم أحياء عند ربهم يرزقون.

كما استخرج من الآية 144 في السورة المذكورة تفسيرًا للآية 54 منها(3)، حيث قال: لا يمكن الاعتماد على مدلولها لتفنيد مقتل النبي عيسى(علیه السّلام)بيد أعدائه(4).

وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية المشار إليها تقع في سياق الآيات التي تتحدث عن حرب أحد والأحداث التي وقعت إثرها، ومنها الشائعة التي بنها الكفّار والمشركون بمقتل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،إذ كانت سببًا في تشرذم المسلمين، وتشتت ،صفوفهم وضعفهم في مواجهة الأعداء،بعد أن انتشرت بينهم بسرعةٍ؛ ومن هذا المنطلق فهي في مقام عتابهم وتذكيرهم بأنّ نبيهم ليس سوى رسول وواسطة بينهم وبين الله عزّ وجلّ، وقد بعث رسل قبله وانقضى عهدهم.

ص: 101


1- راجع: أوليفر، لیمان، دانش نامه قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد حسين ،وقار، إيران، طهران، منشورات اطلاعات، الطبعة الأولى، 2012م، ص 375 - 376 مدخل كلمة (عيسى).
2- قال - تعالى -: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرٍّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين﴾ (سورة آل عمران الآية 144).
3- قال - تعالى -: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ (سورة آل عمران الآية (54).
4- Robinson, "Jesus", p. 18. ذكر المستشرق غابريال سعيد رينولدز هذه المسألة أيضًا، حيث أكد على أنّ التشابه اللفظي بين الآية المذكورة والآية 75 من سورة المائدة يعد مرتكزا لاستنتاج أنّ الآية 55 من سورة آل عمران تدلّ على موت النبي عيسى(علیه السّلام). (Reynolds, Ibid., p. 239).

إذًا، الآية بصدد تحذير المسلمين ألّا يجعلوا دينهم قائماً على إنسان - حتى وإن كان نبيا - كي لا يتخلّوا عنه حينما يحلّ الموت عليه بأي شكل كان، وهذا التمسك بالعقيدة يجب بطبيعة الحال على المسلمين كافةً، إذ لا ينبغي لموت النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يكون سببًا في وهنهم أو خروجهم عن دينهم. هذا ما أكدت عليه الآية، وفي ختامها وعد الله -سبحانه وتعالى- المتمسكين بدينهم؛ مهما كانت الظروف، بأن يمنحهم خير الجزاء.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ، فالآية ليست في صدد بيان أنّ من قُتِلَ في حرب أحد حي عند الله يرزق، وليست في مقام بيان عدم استحالة وفاة الأنبياء والرسل أو مقتلهم؛ بل نستشف من سياق العتاب والتوبيخ اللذين فيها أنّها في مقام تحذير المسلمين من التراجع عن دينهم والتأكيد عليهم بألا يكونوا كالأمم السابقة التي تخلّت عن دينها بعد وفاة أنبيائها؛ لذا لا يراد منها قطعًا بيان ما إن كان الأنبياء والرسل السابقون قد ماتوا أو ما زالوا أحياءً، ولا يدلّ مضمونها على ذكر ما حدث من معاجز لبعضهم؛ مثل: رفع النبيَّيْن عيسى وإلياس(علیهما السّلام)إلى السماء.

وخلاصة الكلام هي: عدم صوابيّة تحميل الآية معنى خارجًا عن نطاقها، وادّعاء أنّها تدلّ على وفاة جميع الأنبياء والرسل السابقين؛ وبمن فيهم المسيح(علیه السّلام).

2. "متوفيك" يصف المستشرقون قراءة المسلمين لوفاة النبي عيسى(علیه السّلام)المشار إليها في القرآن الكريم، بأنّها عدول عن حقيقة المعنى القرآني للكلمة؛ وبهذا يتضح عجزهم عن التنسيق بين فكرة عدم موت المسيح مصلوبًا وبين نظريتهم المسيحية المعهودة، حيث يتصوّرون أنّ القراءة الإسلاميّة لهذه الكلمة منبثقةً في أساسها من آراء المفسّرين المسلمين؛ أنّ النظرية الإسلاميّة في هذا المضمار من صياغتهم، وليست لها جذور في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية.

وهؤلاء الباحثون الاستشراقيون -بحسب نهجهم الاستشراقي - عادةً ما يعجزون عن طرح تحلیلِ خاصّ لأحد المفاهيم القرآنيّة، لذا حينما يتطرّقون إلى تفسير بعض آيات القرآن الكريم؛ فإنّهم يتعاملون معه بأسلوبِ معجمي؛ وكأنه قاموس شامل لسلسلة من المفردات والمصطلحات، دون أن يطرحوا أي تحليل دقيقٍ يثبت مدّعاهم، ويمكن التخمين بأن القراءة التي تبنّاها أكثرهم لكلمة "متوفّيك" فحواها الموت فقط، بينما القراءة التي تبناها المفسّرون

ص: 102

المسلمون منبثقة من توجّهاتهم الإيديولوجية، لا من موارد استعمال هذه الكلمة في النص القرآني، ولإثبات رأيهم هذا ذكروا أدلّةً عدّة؛ منها ما هو مقنع.

ولاحظنا في المباحث الآنفة أنّ المستشرقين تبنوا توجهات تثير استغراب كل متتبع إزاء بعض التعابير القطعية الثابتة الدلالة والبيئة بكلّ ما للكلمة من معنى؛ كما هو الحال في الآية 157 من سورة النساء، فقد انصاعوا لمرتكزاتهم العقدية المسيحيّة وتوجهاتهم الفكرية التي تميّزهم عن غيرهم، ومن هذا المنطلق لم يقبلوا النظرية القرآنية القائلة بأنّ اليهود فشلوا في صلب المسيح عيسى بن مريم(علیه السّلام)لذا من المتوقع أنّهم يتبنون توجّهات أكثر صرامةً، ويصرون عليها بتطرّف بخصوص مفهوم الآية 55 من سورة آل عمران؛ نظرًا لتعدّد مداليل كلمة "متوفّيك" ومصاديقها وعدم قطعيتها في إثبات معنًى واحد.

وطرح غابريال سعيد رينولدز مسألة ترتيب الكلمات وتواليها في النص القرآني، وعلى هذا الأساس قال إنّ الله رفع النبي عيسى(علیه السّلام)إلى السماء حقًّا، لكن بعد أن مات(1)؛ حيث اعتبر كلمة "متوفّيك" في آية البحث تدلّ في استعمالها القرآني على أنّ البشر عاجزون عن قبض روح أيّ إنسان؛ كعجزهم عن خلقه، فالله - تعالى - هو الذي يخلق البشر ويميتهم(2). ولا يُستبعد أن هذا المستشرق قد توصل إلى النتيجة المذكورة عبر إلقائه نظرةً عابرةً على سائر موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم، إذ حاول دائبًا تفسيرها بشكل ينسجم مع معتقداته الدينية ونظرياته التأريخيّة، لذا لم يسلّط الضوء عليها بشكل يتعارض معها أو يثير الشكوك حولها.

وأما نيل روبنسون فقد سلّط الضوء على كلمة "متوفّيك" من جهة استعمالها القرآني، لكنّه - أيضًا - تأثر إلى حد ما بمعتقداته الموروثة وأفكاره اللاهوتية المرتكزة في نفسه منذ نعومة أظافره، ومن هذا المنطلق اعتبر المسيح(علیه السّلام)قد مات وهو على الصليب؛ مبررًا ذلك بأنّ الفاعل في كلمة "متوفّيك"هو الله - سبحانه وتعالى-، لذا فهي تشير إلى الإماتة على ضوء هذا الرأي قارن بين طريقة استعمال الكلمة في الآية المذكورة والآية 193 من سورة آل عمران؛ ليستنتج أن قوله - تعالى -: ﴿ مُتَوَفِّيكَ ﴾ يعني مشيئة الله عزّ وجلّ في إماتة المسيح(علیه السّلام)ورفعه إلى السماء(3).

ص: 103


1- Reynolds, Ibid., p. 247
2- Ibid., p. 251
3- استند نيل روبنسون إلى آيات أخرى؛ مثل: الآية 20 من سورة الرعد، و 77 من سورة غافر، و 46 من سورة التوبة لإثبات هذا الرأي. (Cf. Robinson, Ibid., p. 18.)

وطبعًا لا يمكن لهؤلاء وأمثالهم البتّ بصوابية نظريتهم على نحو القطع واليقين، إذ يمكن للباحث الاعتماد على سياق الكلام لاستنباط المعنى المراد من كلمة "متوفّيك" في الآية، لكنّهم سلّطوا الضوء على الموضوع وفق مبادئ فقه اللغة؛ بحيث تعاملوا مع النصّ القرآني بأسلوب معجمي، ففسّروا الكلمة المشار إليها وسائر مشتقاتها؛ بحسب دلالات معجمية بحتة، والطريف أنّهم يعترضون على التفاسير الإسلامية بداعي تفسيرها النص القرآني بأسلوب معجمي(1).

وبدوره تطرّق يوسف درّة الحدّاد إلى بيان معنى كلمة "متوفّيك" على ضوء دلالاتها الحقيقيّة والمجازية وكما ذكرنا في المبحث الذي تمحور حول التفسير الذي طرحه للآيتين 157 و 158 من سورة النساء فقد اعتبر موت المسيح الله مصلوبًا من الحقائق المتواترة تأريخيًّا؛ لذا من الطبيعي أنّه يعتبر الآية 55 من سورة آل عمران سندًا يدعم رؤيته التأريخية ليدعي أن التفسير الشائع بين المسلمين لها متأثر بمعتقداتهم اللاهوتية؛ وعلى الرغم من إذعانه بأنّ المعنى اللغوي لهذه الكلمة يشير إلى "الاستيفاء"، إلا أنّه قال: ما دامت كلمة الوفاة في القرآن مطلقةً ولا توجد قرينة لفظيةً أو دلاليّةً تشير إلى الاستيفاء، فهي تعني الموت قطعًا(2). هذا الكلام ينم عن أنّه على علم بالمعنى الحقيقي للكلمة المذكورة، وحين تحليله مضمون الآيتين 54 و 55 من سورة آل ،عمران، أكد على حتمية موت النبي عيسى(علیه السّلام)ثم رفعه إلى السماء(3)، واعتبر سياق الآيات 54 إلى 56 من هذه السورة يشير إلى أنّ اليهود كادوا للمسيح ومكروا به فقتلوه، لكن الله - تعالى - مكر بهم، فقبض روحه، ثمّ رفعه إلى السماء، فهو خير الماكرين؛ وفقًا للتعبير القرآني(4).

وللردّ على ما قاله يوسف درّة الحدّاد، نقول: السّياق المذكور أشير فيه إلى أنّ اليهود مكروا بالمسيح(علیه السّلام)،ولو اعتبرنا التآمر عليه لقتله هو المقصود من هذا المكر ، فهذا يقتضي أن يكون مكر الله -عزّ وجلّ - مدعاةً لإبطال مكرهم والحيلولة دون تحقيق هدفهم المشؤوم لا إماتته،

ص: 104


1- Cf. Mahmoud Mustafa Ayoub, “Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 105.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، لبنان، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م ص 328.
3- راجع: م ن ص 333
4- راجع: م. ن ص 334؛ يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، لبنان، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، الطبعة الثانية، 1986م، ص 223.

ثمّ إحياؤه ورفعه إلى السماء، إذ الآية ليس فيها ما يدلّ على إحيائه - بعثه -؛وإنّما تشير - فقط- إلى أنّ الله - سبحانه وتعالى- توفاه ورفعه إلى السماء.

إذًا، ادّعاء الحدّاد عارٍ عن الصحة، ويبدو أنّه فسّر الآية بحسب أسطورة تجول في مخيلته(1).

كما أنّه ابتدأ تفسير كلمة "متوفّيك" في الآية المشار إليها على ضوء بيان معاني مشتقاتها في سائر الآيات، وبعد ذلك قارن بين القرائن اللفظية الموجودة في آية البحث وتلك الآيات وبالتالي استنتج أنّ هذه الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم تدلّ على الموت لكونه هو المعنى الحقيقي لها؛ وكما ذكرنا آنفًا فقد أكّد على أنّ كلمة التوفّي في الاستعمال القرآني يجب أن تُفسّر بمعنى الموت؛ ما لم توجد قرينةٌ لفظية أو معنويّةٌ تصرف دلالتها إلى معنى آخر(2).

وحينما نمعن النظر في طريقة استدلال الحدّاد بخصوص هذا الموضوع، نلمس فيه تناقضا صريحًا، حيث يقوم استدلاله على أنّ مشتقات كلمة الوفاة التي تكرّرت 25 مرّةً في القرآن الكريم قد سيقت للدلالة على المعنى الحقيقي للموت؛ نظرًا لعدم وجود أي قرينة تصرف المعنى إلى دلالة أخرى؛ وتجدر الإشارة إلى أنّه طرح هذا الادّعاء وفسّر الكلمة المذكورة مستندًا إلى القرائن اللفظية الموجودة في كلّ آيةٍ تتضمن مشتقاتها، بينما المعروف في اللغة العربية أنّ المعنى الحقيقيّ في غنى عن اللجوء إلى القرائن اللفظية وحتّى المعنوية؛ لكي تثبت دلالته، ومثال ذلك الآية 117 في سورة المائدة، حيث قال - تعالى -: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾. حيث اعتبر الحدّاد أنّ عبارة ﴿ ما دُمْتُ فِيهِمْ ﴾ تشير إلى فترة حياة النبي عيسى - قبل موته - وجَعَلَها قرينةً ليفسّر كلمة ﴿ تَوَفَّيْتَنِي ﴾ بالمعنى المقابل لها؛ أي أنّها تدلّ على الموت؛ لكن يرد عليه أنّه لو كان هذا المعنى هو الدلالة الحقيقية لكلمة الوفاة، فلا حاجة عندئذ للاعتماد على قرينة؛ كي يثبت .

والمثال الآخر الذي تجدر الإشارة إليه في هذا المضمار، الآية 70 من سورة النحل: ﴿ وَاللهُ

ص: 105


1- اللافت للنظر أن لا أحد من حواريي عيسى(علیه السّلام)البالغ عددهم عشرين ونيّفًا أشار في كتابه إلى أنه رآه قد أحيى من الموت، فهؤلاء إضافةً إلى جميع كتاب الأناجيل التزموا جانب الصمت إزاء هذا الأمر.
2- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحداد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 218-224.

خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّنَكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾. حيث اعتبر الحدّاد مدلول كلمة ﴿يَنَوَفَنَكُمْ﴾ مقابلا للولادة، ومن هذا المنطلق استنتج أنّها تشير إلى الموت؛ ما يعني اتباعه أسلوبًا في تفسير هذه الآية يتعارض مع نظريته التفسيرية، حيث جعل كلمة ﴿خَلَقَكُمْ﴾ قرينةً على استنتاجه هذا؛ وقد تكرّر الأسلوب ذاته لدى تحليله مضمون الآية 11 من سورة السجدة(1)، فقد اعتبر كلمة ﴿يَنَوَفَنَكُمْ﴾ فيها تشير إلى الموت؛ بقرينة عبارة مَلَكُ الْمَوْتِ﴾.

واتَّبع يوسف درّة الحدّاد هذا الأسلوب نفسه لدى تفسيره سائر الآيات التي تتضمّن مشتقات كلمة الوفاة، حيث اعتمد على قرائن؛ ليثبت أنّها تدلّ على الموت، وقد شرح مضمون الآية 15 من سورة النساء بهذا الشكل وهي قوله - تعالى -: ﴿وَالَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَا بِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّنَهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾. حيث اعتبر كلمة ﴿الْمَوْتُ﴾ في هذه الآية قرينةً ظاهرةً في تفسير كلمة ﴿يَتَوَفَّهُنَّ﴾ وعلى هذا الأساس فسّرها بالموت أيضاً، لكن رأيه -هنا- ترد عليه شبهةً لغويّةٌ وهي: أنّ العبارة تصبح في هذه الحالة (يميتهنّ الموت)، إذ من المؤكّد عدم صوابية تركيب من هذا القبيل. وكذا هو الحال في الآية 32 من سورة النحل(2)، فقد فسر كلمة ﴿تَتَوَفَّاهُمُ﴾؛ اعتمادًا على ما ذُكِرَ في تفسير الجلالين الذي قال مؤلّفه: هناك قرينة معنويةً تثبت أنّ هذه الكلمة تشير إلى الموت. وهكذا تكرّر استدلاله في جميع الآيات التي تتضمّن مشتقات كلمة الوفاة، حيث لجأ إلى قرائن لفظيّة أو معنويّة(3).

فعلى أي أساس ادّعى يوسف درّة الحدّاد أنّ كلمة الوفاة ومشتقاتها في النص القرآني تدلّ على معناها الحقيقي حين وجود قرائنَ معنويّة أو لفظيّة فقط؟! ونستشف من آرائه التي طرحها في هذا الصدد أنه استشهد بالاستدلالات ذاتها التي طرحها العلماء والمفسّرون المسلمون؛ على الرغم من رفضه لها، لذا يمكن اعتبار استدلاله مصادرةً للموضوع وباطلًا من

ص: 106


1- قال - تعالى -: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكُلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (سورة السجدة، الآية 11).
2- قال -تعالى-: ﴿الَّذينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبين يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (سورة النحل، الآية 32).
3- للاطلاع على ما ذكره يوسف درّة الحداد في تفسير سائر الآيات التي استند إليها ضمن استنتاجاته، راجع كتابه: (مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 218 - 224).

الناحية المنطقيّة(1). وفسر ريتشارد بيل هو الآخر كلمة "متوفّيك" في الآية 55 من سورة آل الم 121 عمران بالموت؛ قائلا: إنّها تدلّ بطبيعتها على موت النبي عيسى(علیه السّلام)(2).

وجدير بالذكر أنّ المفسّرين المسلمين اختلفوا في تفسير مشتقات كلمة الوفاة التي ذكرت بخصوص النبي عيسى(علیه السّلام)،(3)ولو ألقينا نظرةً عابرةً عليها نستنتج أنّها حينما ترتبط بضمير؛ فهي غالبًا ما تستبطن معنى الموت لكنّها حينما تضاف إلى الأعمال أو الثواب أو ما شاكل ذلك، فهي تدلّ على العطاء ومنح الأجر والاستيفاء التام وتسديد ما في الذمة بالكامل(4)؛ لذلك قد يكون تعدّد دلالاتها هو السبب في طرح الرأي المشار إليه من قِبَل غالبية المستشرقين، ومن ثمّ تأكيدهم على أنّ القرآن الكريم يثبت مقتل المسيح(علیه السّلام)وصلبه . هذا الاستنتاج في مقابل الاستنتاج المشهور بين المفسّرين المسلمين، ولتقويم مدى صوابيته أو سقمه من الضروري أوّلًا بيان المعنى اللغوي لكلمة الوفاة.

توفّى لغةً مشتقةً من الجذر اللغوي "وفى"، وكلمة "متوفّى" اسم فاعل لتوفي، وهي من باب ﴿تفعيل﴾؛ والخليل بن أحمد الفراهيدي قال: «إنّ "وفى" تعني بلوغ الشيء التمام والكمال»(5)،وابن منظور أيضًا عزا جذر الكلمة إلى "وفى" بمعنى استيفاء الشيء بالتمام والكمال(6).

ص: 107


1- الباحث جفري بارندر أكد على أنّ كلمة «متوفّيك» المذكورة في القرآن الكريم تدلّ على موت النبي عيسى على موت النبي عيسى(علیه السّلام)، وادعى أن التفسير السائد بين المسلمين لها متأثر باستنتاجاتهم من مضمون الآية 157 من سورة النساء واعتبر الآية 55 من سورة آل عمران تشير إلى الجانب المعنوي الذي اتسم به هذا النبي. وجدير بالذكر هنا - أنّ الاتهام الذي وجهه للمفسّرين المسلمين يرد عليه أيضًا، فهو من منطلق عقيدته المسيحية القائمة على مبدأ تأريخية صلب المسيح(علیه السّلام)وموته مصلوبًا، تطرق إلى تفسير قوله - تعالى -: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ معتبرًا إياها دالةً على حقانية المسيح الذي رفعه الله تعالى إليه بعد موته. ولدى توجيه دلالة قوله - تعالى - : ﴿ما صَلَبُوهُ﴾ نحو معنى آخر، تجاهل النفي الصريح الموجود فيها، حيث استدل بما قاله سلفه وليام مونتغمري واط وأمثاله، وممّا قاله في هذا الصدد: «ليس اليهود هم السبب في موت عيسى على الصليب»، وقد برّر هذا الاستنتاج أنه يستبطن دفاعًا عن المسيح مقابل اليهود. (Cf. Parrinder, pp.107 - 109).
2- Bell, Ibid., p. 76
3- الاختلاف في الآراء حول مدلول كلمة الوفاة في الآيات التي تتحدّث عن النبي عيسى(علیه السّلام)، اتخذ ذريعة من قِبَل بعض الباحثين؛ لادعاء أنها تشير في هذه الآيات إلى معنى مختلف عمّا تتضمنه سائر الآيات. للاطلاع أكثر، راجع: (عقيل حسين عقيل، عيسى من وحي القرآن، سوريا، دمشق، منشورات دار ابن كثير، 1431ھ ، ص 235). من الواضح بمكان أنّ استدلالهم هذا يعدّ من الناحية المنطقية مصادرة على المطلوب.
4- للاطلاع أكثر، راجع الآيات التالية: (آل عمران: 57)؛ (النساء، 173)؛ (هود، 15)؛(النور، 25)؛(فاطر، 30)؛ (الأحقاف، 19).
5- الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، إيران، قم، منشورات هجرت، الطبعة الثانية، 1410ه_ كلمة "وفى".
6- راجع: محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، لبنان، بیروت، منشورات دار صادر، الطبعة الثالثة 1414ه_ كلمة " وفى".

واعتبر بعض المفسّرين الموت هو المعنى المتبادر من كلمة "توفى" ومشتقاتها، وقد استعملت بهذه الدلالة في القرآن الكريم ضمن العديد من الآيات، وهي بطبيعة الحال لا تدلّ على معنى آخر؛ إلا إذا وُجِدَت قرينةٌ تصرفها إلى ذلك؛ لذا قالوا إنها استعملت بشأن النبي عيسى(علیه السّلام)على هذا الغرار(1)، ومماً أكدوا عليه في هذا السّياق أن توفّي الأنفس حين نومها؛ يعني - أيضًا - موت الإنسان إذا كان يعني الإمساك، لكن لو أريد منه الإرسال فهو يعني اليقظة(2). وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة "متوفّيك" في الآية المشار إليها ضمن معظم التفاسير الإسلامية القديمة والحديثة، فُسّرت بكونها تدلّ على الموت(3)، لذا أكّد مفسروها على أنّها تشير

ص: 108


1- راجع: آراء الشيخ شلتوت في كتاب دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، نقلاً عن كتاب مواجهه قرآن با فرهنگ مسيحيت (باللغة الفارسية)، تأليف أعظم بويا، إيران، طهران، منشورات «هستي نما»، 2006م، ص180 - 190.
2- للاطلاع أكثر، راجع: الآيتان 60 من سورة الأنعام و 42 من سورة الزمر. محمد الطاهر بن عاشور مؤلّف كتاب التحرير والتنوير قال إنّ كلمة الوفاة تدلّ على الموت، لأنّ توفّي الشيء برأيه يعني استيفاءه بالتمام والكمال، حيث قال: «وَقَوْلُهُ: إنّي مُتَوَفِّيكَ ظَاهِرُ مَعْنَاهُ: إنّي مُمِيتُكَ هَذَا هُوَ مَعْنَى هَذَا الْفعْل في مواقع اسْتعْماله لأَنَّ أَصْلَ فِعْل تَوَفَّى الشَّيْءَ أَنَّهُ قَبَضَهُ تَامَّا وَاسْتَوْفَاهُ. فَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ أَيْ قَدَّرَ مَوْتَهُ، وَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْت أَي أَنْفَذَ إِرَادَةَ اللَّه بَمَوْته، وَيُطْلَقُ التَّوَلِّي عَلَى النَّوْمِ مَجَازًا بعَلَاقَة الْمُشَابَهَة فِي نَحْو قَوْله تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ باللَّيْل ﴾ [الْأَنْعَام 60] - وَقَوْله - ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُّتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]». (محمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير لبنان بيروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 3، ص 107 - 108 ربّما ظاهر هاتين الآيتين دعا بعض المفسّرين المسلمين إلى تفسير وفاة النبي عيسى الهلهلهلهله بالنوم ضمن الآية 55 من سورة آل عمران، إذ قال الطبري هذا السياق: «وَمَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ حِينَ قَالَ اللَّهُ لِعِيسَى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ) [آل عمران: 55] فَتَوَفَّاهُ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْوَفَاةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَفَاةُ نَوْمٍ، وَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ: إِنِّي مُنِيمُكَ». (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن ،لبنان ،بیروت منشورات دار المعرفة 1412ه_، ج 3، ص 202. راجع أيضاً: الصفحتين 289 و 290 من المصدر نفسه. (محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 366 عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ،لبنان ،بیروت منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418ه_ ، ج 2، ص 19؛ إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1419ه_، ج 2، ص 3). ولكن كما ذكرنا ،آنفًا، فإنّ إطلاق لفظ التوفّي على النوم يُعَدُّ ضربًا من المجاز، أي إنّه يطلق على ضوء علاقة التشابه، وذلك لأن الله تبارك شأنه حينما أراد رفع المسيح عيسى(علیه السّلام)إليه لم يكن بحاجة إلى أن ينيمه فهو قادر على فعل ذلك في يقظته. للاطلاع أكثر، راجع: (محمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير لبنان بيروت منشورات مؤسسة التأريخ الطبعة الأولى، ج 3، ص 107-108).
3- المفسر محمود الآلوسي على سبيل المثال فسر الآية بحسب ظاهر ألفاظها قائلاً: "إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك، لا أسلّط عليك من يقتلك". (محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم لبنان بيروت منشورات دار الكتب العلمية، 1415ه_،ج2، ص 172). وعلى الرغم من أن بعض المفسرين أذعنوا بالتضاد الموجود بين معنى التوفي ومضامين الروايات، لكنّهم استندوا إلى قاعدة تقديم المؤخّر؛ لإثبات دلالة هذه الكلمة على الموت، وعلى هذا الأساس ادّعوا أن المسيح(علیه السّلام) سيموت في آخر الزمان بعد أن يرجع إلى الأرض. للاطلاع أكثر، راجع مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق عبد الله محمود شحاته ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث الطبعة الأولى، 1423ه_، ج 1، ص 279 أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، لبنان بيروت منشورات دار المعرفة، 1412ه_ ج 3، ص 204. وجدير بالذكر -هنا- أنّ مثل هذا المعنى يقتضي تجريد حرف الواو الموجود في الآية عن الدلالة على الترتيب وهذا الأمر بطبيعة الحال يتعارض مع ظاهرها وتطرّق بعض المستشرقين إلى بيان مناشئ هذا الأسلوب التفسيري الذي اتبعه العلماء المسلمون واعتبروه محاكاة لأسلوب المسيحيين، لأن اليهود والمسيحيين اعتمدوا عليه في تفسير نصوصهم المقدّسة. (Robinson, Christ in Islam Christianity, p. 126) هذا الكلام منقول عن نيل روبنسون، وهو يدلّ على أنّه لا يرفض دلالة الوفاة على الموت، لكنه لأجل إثبات عملية الصلب لم يلجأ إلى ذات الأسلوب التفسيري في تفسير هذه الآية.

في ظاهرها إلى موت النبي عيسی(علیه السّلام)، وكذا الآية 55 من سورة آل عمران، حيث أشارت إلى ،موته، لكنّ هذا الموت ليس قتلا أو صلبًا.

وتطرّق بعض المفسّرين إلى تفسير الكلمة على ضوء دلالة الجذر اللغوي "وفى"، واعتبروا نطاق استعمالها الدلالي يعمّ جميع أقوال الإنسان وأفعاله، فالوفاة برأيهم تستخدم لشأن تام من شؤون الإنسان لا يشوبه أيّ نقص، ومن ثمّ تستكمل أجزاؤه غير التامة؛ كما اعتبروا الوفاة غير دالة على مفهوم الموت؛ وإنّما تختلف عنه لكونه يحلّ على كلّ إنسان(1)وله صورةً واحدةٌ لا غير؛ باعتبار أنّه حالةٌ في مقابل الحياة في الدنيا؛ بينما الوفاة تشمل جميع الأفعال والسلوكات والأقوال الإنسانية، والجمل التالية مثال على ذلك: "من عاهد وفى"، "من صدق القول وفى"، "من أخلص في عمله وفى"، "من" أتمّ رسالته وفى". كلمة "وفى" في هذه الأمثلة تعني إتمام الأمر المطلوب بأمثل شكل وأفضلها(2).

والتوفية تعني أداء الأعمال والسلوكات وتنفيذ الأقوال بالتمام والكمال، ولو أن الشخص أنجز عمله بجدٍّ وأرضى نفسه وغيره بهذا العمل، ففعله هذا يعتبر توفيةً، لذلك يوصف بهذه الكلمة.

وأمّا كلمة الموت فهي تشير -فقط- إلى انتهاء فترة حياة الإنسان في الدنيا، لذا لا يمكن اعتبار كلّ وفاة بأنّها إماتة، ومن ثمّ ليس كلّ موتِ وفاةً؛ إذ التوفي - كما ذكرنا - ذو ارتباط أيضًا بمن أتمّ عمله وأنجز واجبه الديني الثابت في ذمّته، دون أي نقص أو خلل(3).

واستنتج هؤلاء المفسّرين من مجمل الآيات القرآنية التي تشير إلى الموت أنّه مختص بالبدن، بينما التوفّي مرتبط بروح الإنسان وذاته، فحين الموت يتوقف البدن عن الحركة،وتنعدم نشاطات وفي جمیع أعضائه، بعد أن تقبض روحه بالكامل من قِبَل ملك الموت؛وفی المرحلة التالية يواصل حياته الروحيّة في نشأة أخرى، وهو التوفّي.

ص: 109


1- راجع: سورة الأنبياء، الآية 35.
2- راجع: عقيل حسين عقيل. عيسى من وحي القرآن، سوريا، دمشق، منشورات دار ابن کثیر، 1431ھ ، ص 236 - 237.
3- راجع: م. ن، ص 239 - 240 (بتلخيص).

قال العلامة محمد حسين الطباطبائي في هذا السياق: «قوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ بيان لتمام التدبير الإلهيّ؛ وأنّ الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، وأنه حق كما تقدّم في قوله - تعالى -: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ الأنبياء: 35»(1).

وبناءً على ما ذكر نقول: إنّ الآية 66 من سورة الحجّ ناظرة(2)إلى موت الأبدان، والآية 11 من سورة السجدة ناظرة إلى وفاة الأرواح(3)، وهذا يعني أنّ الوفاة عبارة عن مرحلة تلي الموت وحالة تشبهه، مثل النوم والإغماء وبعض الحالات التي تطرأ على الإنسان؛ بحيث يعود إلى الحياة عن طريق التنفّس الاصطناعي أو الصعقات الكهربائية.

وتطرّق آية الله عبد الله جوادي الآملي لدى تفسيره الآية 60 من سورة الأنعام إلى بيان الفرق بين الوفاة والموت قائلًا: «التوفّي يختلف عن الموت، فالأخير يعني انفصال الروح عن البدن، بينما الأوّل يعني رحلة الروح وخضوعها إلى اختيار الله - تعالى - والملائكة المكلّفين»(4).

وقد فسّر العلامة محمّد حسين الطباطبائي إطلاق الوفاة على الموت بأن الإنسان حين الموت يُؤخذ بالكامل من قِبَل الله عزّ وجلّ وتنتهي حياته، ويطلق على النوم توفّي لأنّ الإنسان حينها يُقبض من قِبله - عزّ وجلّ -(5). إذًا، هؤلاء العلماء يعتبرون الوفاة بمعنى القبض، فالتوفي في القرآن الكريم ليس بمعنى الإماتة برأيهم، وفي جميع مواضع استعماله القرآني يدلّ على القبض ،والإمساك، والمراد من إطلاقه على حالة الإنسان حينما يحلّ عليه الموت هو الإشارة إلى أنّ الإنسان بعد الموت لا يفنى ولا ينعدم، بل يقبض الله - تعالى - روحه ويحفظها حتى يبعثها عندما تحين الساعة(6).

ص: 110


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 14، ص 285 - 286.
2- قال -تعالى-: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسانَ لَكَفُورُ﴾ (سورة الحج، الآية 66).
3- قال - تعالى -: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَك الْمَوْتِ الَّذِي وُكلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (سورة السجدة، الآية 11). للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 206.
4- راجع: عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات إسراء، الطبعة الثالثة، 2002م و 2014م،ج25، 387-385 .
5- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 306.
6- ربما هذا الأمر هو الذي دعا بعض المفسرين المسلمين إلى القول بأن وفاة المسيح(علیه السّلام)تعنی نهاية عهده على الأرض لا موته. للاطلاع أكثر ، راجع: (محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1،ص 366؛ إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم ،لبنان ،بیروت، دار الكتب العلمية، 1419ه_، ج 1، ص 350 أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن ،لبنان ،بیروت منشورات دار المعرفة 1412ه_، ج 3، ص 289 - 290). وهذا المعنى نسبه مفسّرون آخرون إلى مدلول كلمة التوفّي -القبض والاستيفاء- وهو يطابق الاستيفاء في الأمور المالية، وعلى هذا الأساس فسّروا الآية كما يلي: «وَمَعْنَى الْوَفَاةِ الْقَبْضُ لِمَا يُقَالُ: تَوَفَّيْتُ مِنْ فُلَانٍ مَا لِي عَلَيْهِ بِمَعْنَى قَبَضْتُهُ وَاسْتَوْفَيْتُهُ، قَالُوا: فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِنِّي مُتَوَفِّيكَ : وَرَافِعُكَ﴾ [آل عمران: 55] أَيْ قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ حَيًّا إِلَى جَوَارِي، وَآخِذُكَ إِلَى مَا عِنْدِي بِغَيْرِ مَوْتٍ، وَرَافِعُكَ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِكَ». أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 3، ص 202). راجع أيضاً: جلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين، تحقيق عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ،لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة النور للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1416ه_ تفسير الآية 55 من سورة آل عمران استنادًا إلى هذين الاحتمالين، فإنّ قبض النبي عيسى(علیه السّلام)من الأرض ورفعه إلى السماء، بمعنى وفاته؛ وقد طرح الفخر الرازي مؤاخذة على هذا الاحتمال وفندها كما يلي: «التوفي هو القبض ، يقال (وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه)، كما يقال: (سلّم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه ؛ وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى، وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفيًا له. فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفّي عين الرفع إليه فيصير قوله «وَرَافِعُكَ إِلَى تكرارًا»، قلنا: قوله ﴿إنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ يدل على حصول التوفي، وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء؛ فلما قال بعده ﴿وَرَافِعُكَ إِلَى﴾ كان هذا تعيينا للنوع ولم يكن تكرارًا». (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتیح الغيب لبنان بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه-، ج 8، ص 238).

وأما مكمن الاختلاف بين الوفاة والموت برأيهم، فهو دلالة الموت على توقف حركة البدن بالكامل، ودلالة الوفاة على مرحلة تقبض فيها الملائكة روح الإنسان لتواصل حياتها في نشأة أخرى؛ ولكنّ هناك أسئلة تطرح عليهم في هذا الصدد، وهو: هل إنّ الموت وتوقف أعضاء البدن عن الحركة يعني انفصال الروح عنه، بعد قبضها من قِبَل الملائكة ؟ هل يمكن ادّعاء وجود فاصلة زمنيّة بين لحظة توقف حركة أعضاء البدن عن الحركة حين انفصال الروح عنه وبين قبضها من قبل الملائكة ؟

لا شكّ في وجود ارتباط مباشر بين البدن والروح، وهذا ما ثبت حتى في الأمثلة التي أشرنا إليها؛ أي حين النوم والإغماء وسائر الحالات الشبيهة بالموت، إذ يحدث في حالات انفصال بين البدن والروح كهذه، والانفصال بينهما يتراوح بين الشدّة والضعف؛ بمقدار زوال علائم الحياة، وقد يكون انفصالا تامًا؛ ما يعني أنّ الوفاة التي تحدث أثناء النوم تُعدّ ضربًا من الموت أيضًا، لكنّه موت قصير الأمد، ويبدو أنّ الرأي الذي تبنّاه الشيخ عبد الله جوادي الآملي يتمحور - فقط - حول الفرق بين الموت والوفاة على ضوء فاعلهما ومن يقع عليه الفعل حيث قال إنّه يطلق على الموت موتاً؛ لكونه يسفر عن انقطاع الارتباط بين روح الإنسان وبدنه، وبما أنّ الله - سبحانه وتعالى- يجعل هذه الروح تحت اختياره، ففي هذه الحالة يُطلق على هذا الأمر وفاة؛ أي انتقال الإنسان من عالم المادّة إلى عالم آخر؛ ويطلق على هاتين الظاهرتين عنوانان من جهتين، لذا لا يراد منهما فعلين مختلفين ولا يقصد منهما

ص: 111

النسبة بين العام والخاص، ولربما هذه هي المسألة المحورية في قوله -تعالى-: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون ﴾،(1)وقوله -تعالى-: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون ﴾(2)، فالواضح فيهما أنّ الإنسان يذوق طعم الموت ويرجع إلى الله تبارك شأنه؛ أضف إلى ذلك هناك العديد من الآيات أكّدت على أنّ الموت لا يحدث إلا بإذن الله -تعالى-(3)؛كذلك الأنفس لا تتوفى إلا بمشيئته، ومنها قوله - تعالى -: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾(4)؛ وهناك الكثير من الآيات استهلت بنقل سؤال على لسان الكفّار ومنكري المعاد بهذا الخصوص ؛ ومنها قوله -تعالى-: ﴿ أَإِذا مِتْنَا وَكُنَّا تُراباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾(5)،فهؤلاء لا يؤمنون بتوفي الروح من قِبَل الله عزّ وجلّ، لذا استخدموا كلمة الموت في سؤالهم، بينما نحن باعتبارنا مسلمين؛ ومن منطلق رغبتنا في حسن العاقبة نستخدم كلمة الوفاة تأسّيًا بالقرآن الكريم: ﴿تَوَفَّني مُسْلِماً﴾(6)، ﴿تَوَفَّنا مَعَ الأَبْرارِ﴾(7)،ونقتدي بالأئمة(علیهم السّلام)طلبًا للخير، فنقول: "وَأَمِتْني مَسْرُوراً"(8)، وهذه هي سيرتنا المتعارفة(9).

ص: 112


1- سورة الأنبياء، الآية 35.
2- سورة العنكبوت، الآية 57.
3- راجع الآيات التالية: (سورة النجم، 44)؛(سورة الحجر، 23)؛ (سورة ق، 43)؛ (سورة البقرة، 258).
4- سورة الأنعام، الآية 61.
5- سورة الواقعة، الآية 47. راجع الآيات التالية أيضاً: (سورة المؤمنون 35 و 37 و 82)؛ (سورة الصافات، 16 و 53) (سورة ق،3 ).
6- سورة يوسف، الآية 101.
7- سورة آل عمران، الآية 193.
8- محمّد بن الحسن الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، إيران، طهران، منشورات المطبعة العلمية، 1959م، ج2،ص802.
9- قال الطبري في هذا المضمار: «في قَوْلِ اللَّهِ ﴿إِني مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: 55] ... مُتَوَفِّيكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ بِوَفَاةِ مَوْتٍ». هذا الكلام يعني أنّ كلمة "مُتَوفِّيكَ" في الآية ليست مشتقةً من جذر (فوت) وإنّما من ( وفى)، لذا فهي لا تدلّ على وفاة النبي عيسى(علیه السّلام). (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، 1412ه_، ج 6، ص 458). وتجدر الإشارة -هنا- إلى أن الغالبية العظمى من علماء اللغة ذكروا الآيات التي تتضمّن مشتقات كلمة الوفاة ضمن باب (وفى) وليس (فوت)، والكثير منهم استنتجوا منها معنى الموت. وأكد العلامة البلاغي على أن الاستعمال القرآني للتوفّي يعد أوسع نطاقا وأشمل من معنى الموت، وعزا القول بدلالة هذه الكلمة على الموت إلى مسألة الاختلاف الكائن بين المصداق والمفهوم في ثقافة عامة الناس. كما اعتبر التوفّي بمعنى الاستيفاء التام وقال إن الموت هو أحد مصاديقه، وادعاء أن قوله تعالى -: ﴿إنِّي مُتَوفِّيكَ) في الآية 55 من سورة آل عمران بمعنى "إنّي مميتك" يسفر عن زوال الانسجام بينها وبين قوله - تعالى -: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إليه﴾. محمد جواد البلاغي النجفي آلاء الرحمن في تفسير القرآن ،إيران قم، منشورات مؤسسة بعثت الطبعة الأولى، 1420ه_، ج 1، ص 36 بتلخيص).

إذَا، لا يمكن إثبات هذا الاختلاف بين الموت والوفاة، ولا يمكن اعتبار أن النسبة الكائنة بينهما من طراز العام والخاص، لكنّ الاستعمال القرآني لكلمة الوفاة ومشتقاتها يدلّ على استبطانه المفهوم من الإتمام والإكمال(1)، لذا من الطبيعي أن يتحقق هذا المعنى في كلمة "توفي" أيضًا(2).

والدليل الآخر الذي ساقه هؤلاء العلماء لإثبات دلالة كلمة الوفاة ومشتقاتها على القبض في مختلف الحالات، هو استعمالها إلى جانب كلمة الموت في الآية 15 من سورة النساء: ﴿وَالَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَابِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَنَّهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾. كما هو واضح من نص هذه الآية، فهي تتحدّث عن النساء اللواتي يفعلن الفاحشة، والموت هو الفاعل للفعل "يتوفّى"، لذا تدلّ عبارة ﴿ يَتَوَفَهُنَّ الْمَوْتُ ﴾ على أنّ الموت يقبضهن، فلو قيل إنّ التوفّي -هنا- بمعنى الموت يرد على القائل تكرار المعنى مرّتين بشكل متوال، وهو أمر غير مناسب(3).إذًا، يمكن اعتبار المعنى المستبطن في هذا التعبير بكونه على غرار التعبيرين الموجودين في الآية 11 من سورة السجدة والآية 36 من سورة فاطر؛ أي إنّ الملائكة هي التي تتوفّاهنّ، فيكون التقدير النحوي وفق التالي: ﴿يَتَوَفَهُنَّ﴾- ملائكة - ﴿الْمَوْتُ﴾ .

وكذلك استدلّوا على رأيهم هذا بالآيات التي تتحدّث عن الموت فقط؛ أي التي استخدمت فيها كلمة موت؛ بدلًا عن كلمة وفاة، مثل الآية 144 من سورة آل عمران، والآية 36 من سورة فاطر، وحتّى الآية 33 من سورة مريم، حيث تحدّثت عن موت النبي عيسى(علیه السّلام)(4)، فهذه

ص: 113


1- نستشف من الآية 111 من سورة التوبة ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله﴾ ومن الآية 41 من سورة النجم ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفِى﴾ بوضوح مفهوم الاستيفاء التام والكامل كما أنّ كلمة "وَفَّ" في الآية 37 من سورة النجم ﴿وَإبْراهِيمَ الَّذي وَفَّی﴾ تدلّ على أن النبي إبراهيم القد أدى واجب العبودية بالتمام والكمال.
2- لهذا السبب نجد بعض الباحثين تبنّوا هذا المعنى، دون أن يستندوا إلى أي روايةٍ، فأوّلوا المعنى كما يلي: أنهي حياتك وأميتك ولا أجعلهم يقتلونك، وسوف أرفعك إلى سمائي وأقربك من ملائكتي فأحفظك من القتل. محمد بن عمر الفخر الرازي مفاتيح الغيب ،لبنان بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 8، ص 238؛ محمود الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل لبنان بيروت منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 366 عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل لبنان بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418ه_، 1418ھ ، ج 2، ص 19).
3- للاطلاع أكثر، راجع: جعفر السبحاني، منشور جاويد (باللغة الفارسية)،إيران، قم، منشورات مؤسسة الإمام الصادق(علیه السّلام)، الطبعة الخامسة، 2011م، ج 12، ص 405 .
4- يبدو أن هؤلاء الباحثين يعتقدون بكون الإشارة إلى موت النبي عيسى(علیه السّلام)ضمن الآيات المذكورة في النصّ، لا تدل بصراحة على موته في الماضي؛ كذلك اعتبروا الإشارة إلى موته في الآية 33 من سورة مريم ليست بمعنى طروء الموت عليه في الماضي بل استشهدوا بمقام الآية وقالوا أنّها تدلّ على سلامته وعدم موته في هذه المراحل الثلاثة لا غير. (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 14، ص 37). وهناك العديد من الآيات صرحت بموت عدد من الأنبياء والمرسلين باستخدام هذه الكلمة، ومن جملتها الآيتان 133 من سورة البقرة و14 من سورة سبأ اللتان صرّحتا بموت النبيّين يعقوب وسليمان(علیهما السّلام).

الآيات ذُكِرَت فيها كلمة موت، لا كلمة وفاة(1).

وصحيحٌ أنّ الموت في الآية 144 من سورة آل عمران(2)يشير إلى انتهاء حياة بدن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، إلا أنّها ليست في مقام بيان القبض والإماتة من قِبَل الله عزّ وجلّ، إذ لم تستخدم فيها مشتقات كلمة الوفاة، كذلك لم تستخدم فيها عبارةً تدلّ على تدخل الله عزّ وجلّ-؛ مثل: "أماته الله"؛ وفي الآية 33 من سورة مريم - أيضًا - ذكر السلام على النبي عيسى(علیه السّلام)ضمن ثلاث مراحل الأمر الذي يعني سلامته في هذه المراحل الثلاثة. كما أنّ الآية ليست بصدد بيان فعل الله -عزّ وجلّ - لإماتة المسيح ، ويبدو أنّها - وكذلك الآيات المشابهة لها - استخدمت كلمة الموت للدلالة على فناء الإنسان وليس للدلالة على القبض من قِبَله -تعالى-.

إذَا، لا بدّ من الالتفات إلى الملاحظات التالية بخصوص استعمال كلمة الوفاة ومشتقاتها في القرآن الكريم :

- الله -تعالى- هو فاعل "متوفّيك" في الآية 55 من سورة آل عمران(3).

- جميع مشتقات هذه الكلمة في القرآن الكريم تدلّ على أنّ الله -تعالى- فاعل، والإنسان مفعول به، لذا ليس من الصواب بمكان ادّعاء أنّ المفعول به هو الأجر وما شاكله.

ص: 114


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 306. من بين القائلين بهذا المعنى لكلمة التوفّي باحثون استندوا إلى برهان الخلف لإثبات آرائهم اللغوية، حيث قالوا إنه صحيح أن بعض علماء اللغة اعتبروا التوفي بمعنى قبض الروح والموت لكنّهم لم يدعوا أن قبض الروح والبدن ليس بوفاة، كما لم يضعوا قاعدة تفيد أن فاعل الفعل توفى إن كان الله -تعالى- والمفعول به هو الإنسان ففي هذه الحالة يدلّ بالقطع واليقين على الموت لا غير؛ إذ من الثابت أن قبض الروح عادةً ما يعني انفصال الروح عن البدن، لذا غالباً ما يعتبره البعض مرادفًا للموت؛ بينما مدلوله اللغوي يعني قبض الروح مع البدن. (شير أحمد عثماني، تفسير كابلي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عدد من العلماء الأفغانيين، إيران، طهران، منشورات إحسان، الطبعة الحادية عشرة،2006م، ج 1، ص 321). يبدو أنّ هذه الرؤية لمعنى كلمة الوفاة ومشتقاتها فيها تكلّف إلى حد ما، فضلا عن أنها تسفر عن حدوث فوضى تفسيرية وتشويش استكشاف معاني الكلمات.
2- قال - تعالى -: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرٍّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرين﴾ ( سورة آل عمران، الآية 144).
3- راجع الآيات التالية أيضًا: سورة الرعد، 40؛سورة غافر، 77؛ سورة يونس.

ونستشف ممّا ذُكِرَ أنّ الوفاة في الآيات القرآنية تعني القبض مع الموت أو إماتة إنسان(1)، وإلى جانب هذا المعنى؛ سواءً في الآيات التي تحدّثنا عنها أو الآيات الأخريات(2)، هناك معنى يدلّ على الموت المفاجئ(3).

- إذا اعتبرنا الوفاة المشار إليها في الآيتين 55 من سورة آل عمران و 117 من سورة المائدة؛ بمعنى الاستيفاء التام، لا بمعنى القبض مع الموت، ففي هذه الحالة تصبح وفاة النبي عيسى(علیه السّلام)من النوع الثالث لاستعمالات هذه الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم (القبض غير المتعارف، قبض الإنسان من المجتمع البشري نقله إلى عالم آخر). ويقول المستشرق أوليفر ليمان في هذا الصدد: «حينما لا يؤمن الناس بأحد الأنبياء بعد أن يشاهدوا معجزاته، فالرد الإلهيّ هو هلاكهم إثر بلاء طبيعي؛ كما حدث لأقوام عاد، وثمود، ولوط، وهود، وصالح؛ أو يكون الردّ مطالبة النبي بالهجرة من منطقة بعثته إلى منطقة أخرى؛ لكي يجد من يتبعه، وهذا ما حدث لإبراهيم الذي هاجر من ،العراق، وموسى الذي هاجر من مصر. وأمّا رفع النبي عيسى إلى السماء فقد كان بهدف إنقاذه من مؤامرات اليهود الخطيرة، ويمكن اعتباره بحكم الهجرة، لكنّها هجرة مختلفةً عمّا هو متعارف لدى البشر»(4). ومن جملة التفاسير التي طرحها كل من الطبري والرازي؛ تناسبًا مع تفسير كهذا لوفاة النبي عيسى(علیه السّلام)هو أن الله -عزّ وجلّ- أراد نقله من الأرض إلى مكان قريب منه(5)، لذا، إن كانت كلمة الوفاة تعني الاستيفاء التام المتزامن مع الموت، ولو افترضنا أنّ صلب المسيح قد حدث إبان شبابه، ففي هذه الحالة يمكن تفسير وفاته بإماتته في ما بعد حينما بلغ نضوجًا أكثر من حيث السنّ، أو عندما اكتملت رسالته التي حملها للبشر.

ص: 115


1- راجع الآيات التالية: سورة يونس، 104 سورة النحل، 70؛ سورة الزمر، 42.
2- راجع الآيات التالية: سورة الرعد 40؛سورة غافر ،77؛ سورة يونس 46 .
3- الآية 70 من سورة النحل : ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكْيَ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴿تشير إلى الخلق والوفاة، حيث تتحدث عن فئتين من الذين يتوفاهم الله -تعالى-، فمنهم من يتوفى دون أن يطوي مسيرة نزوليةً، ومنهم من يطوي هذه المسيرة ويبلغ مرحلة أرذل العمر - سن الشيخوخة-. كلمة الوفاة في هذه الآية تتضمّن إشارةً إلى مفهوم كمال العقل والمعرفة.
4- أوليفر ليمان، دانش نامه قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد حسين وقار، إيران، طهران، منشورات اطلاعات الطبعة الأولى، 2012م، ص 375 مدخل كلمة (عيسى).
5- راجع أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، 1412ه_ ج 3، ص 303؛محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 8، ص 238.

ومما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية: «﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي مستوفي أجلك؛ معناه إنِّي عاصمك من أنْ يقتلك الكفّار، ومؤخّرك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك، لا قتيلاً بأيديهم»(1).

مضافًا إلى ما ذُكِرَ فالآية 117 من سورة المائدة تتضمّن أحد مشتقات الفعل "توفّى" ضمن كلمة ﴿ مُتَوَفِّيكَ ﴾، والآية 55 من سورة آل عمران تدلّ على العلاقة الرابطة بين النبي عيسى وقومه وسائر أهل زمانه حيث وعده الله عزّ وجلّ فيها وفي آيات أخرى بأن يتم حياته القصيرة ويرفعه إلى السماء؛ إلا أنّ بعض المستشرقين أكدوا على عدم انسجام هذا المعنى مع صيغة الماضي في الفعل "تَوَفَّيتني"، واعتبروه دليلًا واضحا على موته في الزمان الماضي(2). وهذا هو مضمون سورة المائدة: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ . اتَّخِذُونِي وَأُتِيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ، فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ هَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(3).

ومن البديهي أنّ المستشرقين غابريال سعید رینولدز، ونيل روبنسون؛ لديهما اطلاع كامل على الأصول العقديّة في الكتاب المقدّس بخصوص موت المسيح(علیه السّلام)عروجه إلى السماء، حيث يعتبرانها قطعيّةً، ولا يمكن التشكيك بها، لذلك بادرا إلى تفسير الآيات القرآنية المذكورة؛ وفق هذه الرؤية العقديّة؛ والنتيجة التفسيرية التي توصلا إليها؛ فحواها: أن نطاق شهادته على الناس محدود بزمان حضوره في ما بينهم، ولكنّه بعد أن مات أصبح الله - تعالى - هو الشاهد عليهم(4).

وقال نيل روبنسون في تفسير الفعل ﴿تَوَفَّيتني﴾ المذكور في الآية 117 من سورة المائدة إنّه

ص: 116


1- محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 394؛ محمود الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مسعود أنصاري ،إيران، طهران، منشورات ققنوس، الطبعة الأولى، 2010م، ج 1، ص 449.
2- Cf. Reynolds, Ibid., p. 257 - 258. راجع أيضًا: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 335.
3- سورة المائدة، الآيات 116 إلى 118.
4- Robinson, "Jesus", p.18; Reynolds, Ibid., p. 239.

يدلّ على موت النبي عيسى الله أو قبضه قبل صعوده الجسماني إلى السماء، وهو صعود قد تحقق في الماضي؛ وهذا الحوار فيه مضامين سوف تتحقق في يوم القيامة، لذا لا يمكن ادعاء أنّ هذه الكلمة تدلّ على موته المستقبلي، بعد هبوطه إلى الأرض؛ للقضاء على الدجّال(1).

وذكرنا -آنفًا في المباحث التي طرحناها حول مسألة صلب المسيح(علیه السّلام)أن مفسر القرآن الكريم يجب أن يستقصي مقام نزول كلّ آيةٍ وسبب نزولها، لذا لا يسوغ له استنباط معنًى آخرَ خارج هذا النطاق، والآية التي يدور البحث حولها - هنا - في مقام بيان أن النبي عيسى(علیه السّلام)لم يكن موجودًا بين بني إسرائيل بعد حادثة الصلب، وعلى هذا الأساس نقول إنّها ليست في صدد بيان ما إن كان قد توفّي إبّان صلبه أو لا؛ وتجدر الإشارة - هنا - إلى أنّ عدم وجوده بينهم يمكن تصوّره ضمن حالات عدّة؛ مثل: وفاته، أو اختفائه، أو صعوده إلى السماء حيًّا، كما أنّ عدم استمرار شهادته على الناس يقتضي انقطاعه عن قومه، لكنّ هذا الانقطاع لا يعني موته بالحتم واليقين، فالموت يمكن أن يكون عاملًا له؛ إلا أنه غير ملازم له.

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا المضمار أنّ الآيات 112 إلى 120 من سورة المائدة(2)تتضمّن موضوعًا آخرَ ذا ارتباط بعهد المسيح عيسى بن مريم(علیه السّلام)وهو اعتقاد بعض الناس بألوهيته وألوهيّة أمّها(3)؛ لذا أكّد الله -عزّ وجلّ- فيها على أنّهما مجرّد عبدين له، وليسا شريكين في الألوهية.

ص: 117


1- Robinson, Ibid., p. 20
2- قال -تعالى-: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيَن * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبْهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
3- كاتب مقالة Trinity في الموسوعة القرآنية وصف هذه المجموعة من الآيات قائلاً: «الآية 116 من سورة المائدة التي تتضمّن أسئلةً وإجابات أخرويةً عن النبي عيسى، ذكر الله فيها أمرًا مرتبطًا - كما يبدو - بهذا النبي وهو الاستفسار منه عمّا إن كان طلب من الناس أن يتخذوه وأمه مريم إلهين إلى جانب الربّ. هذا الأمر فيه تلميح إلى أن المسيحيين يعتبرونه مصدرًا لمعتقداتهم الخاطئة، فالآية تحكي عن نوع من الشرك بالله أي ادّعاء الألوهية من قبل مخلوق من البشر، لذا يمكن اعتبارها إنذارًا لتحذير الناس من التقديس المبالغ فيه للمسيح عيسى وأمه ،مريم، فهي تؤكّد على المضمون القرآني الثابت الذي فحواه وجود إله واحدٍ فقط وهو الذي يستحق العبادة لا غير. هذه الآية تعدّ أنموذجًا بارزًا للإنذار الإلهي الذي يحذر البشر من اعتبار المسيح عيسى إلها، حيث انعكس في آيات أخرى، كما يتضمن تحذيرًا للمجلس الكنسي الذي أصدر بيانات في القرن الخامس الميلادي ادّعي فيها أنّ مريم ذات صفةٍ ألوهية وحملت الإله. النسطوريون (451م) وأتباعهم عارضوا هذا الوصف بشدّةٍ لكونه لا ينسجم مع إنسانية المسيح، ولربما يكون هذا الأمر أحد الأسباب التأريخية لبعض النقاشات المحتدمة بخصوص الآية المشار إليها . ليس من المستبعد أنّ التطرّف الكنسي المنقول عن الفرق المسيحيّة المعارضة إلى جانب التأكيد القرآني المتواصل على وحدانية الله قد أسفرا عن ظهور إنكار مقبول بالكامل كهذا، والذي فحواه عدم وجود أي إله سوى الله... وقد استدل البعض على أن هذا الاتهام لا يمت بصلة إلى المسيحيين الذين ينتهجون المسيحية الأصيلة، لذا من المحتمل أنه مرتبط بنمط معين من المعتقدات المنحرفة مثل العقيدة التي تتبناها القديسات اللواتي كن يقدمن الكعكة إلى مريم». parriender, p. 135 «الخبير بالملل والنحل أبيفانيوس الذي عاصر القرن الرابع الميلادي، اعتبر هذه الفرقة النسوية من جملة الجماعات التي هاجرت من تركيا وشمال أراضي الساكا إلى الجزيرة العربية. هذه النظرية يمكن الاعتماد عليها لإثبات أنّ الاتهام المطروح في القرآن الكريم مرتبط بمضمون تأريخي، لكن يترتّب عليه إشكال يمكن تقريره في السؤال التالي: ما السبب في وصف هذه العقيدة بكونها تثليثا على الرغم من عدم زواجها على نطاق واسع ؟ من المؤكد أن تقبل ارتباط كهذا قد تكون له جذابية على أساس مبادئ تأريخية، وعلى الرغم من عدم وجود سندٍ ،محكم، إلا أنّها تستتبع الإذعان بكون الخطاب القرآني لا يمت بصلةٍ إلى التيارات المسيحيّة الأصيلة. ومن جهةٍ أخرى لو أن الخطاب الموجه في هذه الآية لم يكن قائماً على قراءة إحدى الفرق الدينية للتعاليم المسيحية، ففي هذه الحالة لا ينبغي اعتباره ردًّا على نظرية التثليث الخاطئة، بل يجب اعتباره إنكارًا للتلاحم الذاتي بين مريم وعيسى فضلًا عن أنّه إنذار يهدف إلى التحذير من الدعايات الواهية ضدهم؛ لذا يمكن اعتبار هذه الآية أنموذجًا لإنذار الله وتحذيره من اعتبار عيسى إلها، وهذا ما طرح في آيات أخرى؛ كما يمكن القول بأنّها إنذار بعدم اعتبار مريم ذات خصال إلهيّةٍ كما ورد في بيانات المجالس الكنسية في القرن الخامس الميلادي والتي وصفتها بأنها حملت الله». (ديفيد تومس، مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان «تثليث»، نشرت في الموسوعة القرآنية، حققها في الفارسية حسين خندق آبادي وآخرون، إيران، طهران، منشورات حكمت، الطبعة الأولى، 2014م، ج 2، ص 64 - 66).

إذن هذه الآيات لا تتضمّن مدلولا يشير إلى موته، وحتّى إن ادعي غير ذلك، فلا يمكن تحديد زمان موته من مضمون الآية 117 التي يتمحور الكلام فيها حول يوم القيامة، وبهذا التفصيل لا يسوّغ لأحد تحديد زمان موته.

وربّما يكون موت المسيح(علیه السّلام)بعد نفخة الصور الأولى، وبالتالي صيغة الماضي للفعل ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ تدلّ على حتمية يوم القيامة؛ لأنّ استخدام الفعل الماضي للدلالة على المستقبل في اللغة العربيّة يراد منه التأكيد على القطع والبتّ في حدوث أمر ما، لذا نلاحظ الكثير من الآيات القرآنية استخدمت صيغة الماضي للإشارة إلى أحداث يوم القيامة.

واعتبر المستشرق يوسف درّة الحدّاد هذه الكلمة في كلا الآيتين تدلّ بصراحة على موت المسيح في نهاية رسالته، لا في نهاية العالم - آخر الزمان - وقد عدَّ هذا المعنى قطعيًّا غير قابل للبحث والجدل، والسبب الذي دعاه لأن يصرّ على ذلك هو أنّ عبارة ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ ذُكِرَت في القرآن الكريم؛ مقابل عبارة ﴿مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾، حيث أكّد على أنها تشير إلى موته في نهاية عهد رسالته، لا في نهاية حياته الدنيوية وقبل يوم القيامة. وكذلك تبنى فكرة عدم صوابية ادّعاء أنّ الموت قبل يوم القيامة هو المراد من وفاة عيسى(علیه السّلام)في القرآن الكريم، فهذا المعنى

ص: 118

برأيه لا يتناغم مع الاستفسار الإلهي حول ما إن كان المسيح(علیه السّلام)طلب من الناس أن يتخذوه وأمه إلهين أو لا(1). ومن جملة الأمور التي تبنّاها - أيضًا - أنّ المعنى الحقيقي للعبادة لا يتبلور على أرض الواقع؛ إلا حينما يُتاح التعبد للناس، لكنّ هذا الأمر غير متاح لهم قبل يوم القيامة.

وتوصل يوسف درّة الحدّاد إلى استنتاجين أساسيين من الآيات المذكورة، هما:

- وفاة المسيح(علیه السّلام)تعني موته مصلوباً، لا موته بعد حادثة الصلب، أو رفعه إلى السماء بجسمه؛ وبعد موته يُتاح للناس أن يتعبّدوا لفترةٍ طويلةٍ؛ أي منذ لحظة موته حتى حلول آخر الزمان.

- تصوّر أنّ كلمة "توفّيتني" المذكورة في الآية تعني موت المسيح(علیه السّلام)في آخر الزمان برأي المفسّرين المسلمين؛ ما يعني أنّ الفترة الزمنية الواقعة بين وفاته في آخر الزمان - قبل يوم القيامة - هي فترةً قصيرةً جدًّا، لذا لا تتاح للناس فرصةً للعبودية؛ حتى يتبين ما إن كانوا يؤلّهونه وأمّه حقًا، أو يعبدون الله -تعالى- فقط.

وكلمة "توفَّيتني" المذكورة في الآية لا ارتباط لها بموت المسيح(علیه السّلام)في آخر الزمان؛ كما ذكرنا آنفًا، فهي نقلت في القرآن الكريم على لسانه حينما كان يتحدّث عمّا شهده وهو حاضر بين الناس؛ لذا سواءً أدلّت على موته، أم على رفعه إلى السماء حيّاً، أم على أي شكل آخر يجسّد اختفائه عن أنظار الناس، فالفرصة متاحة لهم لأنْ يتعبّدوا.

والدليل الآخر الذي استند إليه الحداد لإثبات رأيه، ما قاله البيضاوي في تفسير التوفّي؛ بكونه أخذ الشيء وافيًا - تاما - وعلى أساس هذا الكلام ادّعى أنّ الموت يعتبر ضربًا من الاستيفاء التام(2).ومن المحتمل أن استنتاجه هذا متأثر بمعتقداته الدينية المسيحيّة؛ بوصفه قسيسا ملتزمًا بتعاليم دينه، حيث له إلمام كامل بالنظرية الإنجيلية الثابتة القائلة بصلب المسيح(علیه السّلام)وانبعاثه من قبره، وهو بالطبع ملتزم بها إلى أقصى حد؛ لكونها من الأساسيات التي أكدت عليها الأناجيل.

وأما محمود مصطفى أيوب فقد استنتج من كلمة "توفّيتني" كون المسيح(علیه السّلام)بشرًا في

ص: 119


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 335
2- راجع: م. ن، ص. ن.

مقابل وحدانية الله عزّ وجلّ، أي أنّه إنسان عرضةً للفناء كسائر البشر(1)، ويبدو أنّه يقصد من الفناء - هنا - دلالة الكلمة على صلب المسيح(علیه السّلام)وموته ؛ لكن بحسب ما أشرنا سابقًا فهذه الآيات تنفي الألوهية عنه، وتؤكّد على عدم كونه شريكا لله عزّ وجلّ.

ونستشف من سياق هذه الآيات أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)يتحدّث عن أحواله في الحياة الدنيا، ويعترف بأنّه وأمه ليسا في مقام التأليه، ولا يحق لهما ادّعاء ذلك مطلقاً، فهو مجرّد عبد ولم يقل للناس إلا ما أمره الله تبارك شأنه؛ وعبارة ﴿اتَّخِذُونِي وَأُتِيَ إِلَهَيْنِ﴾ تدلّ على أن ولادته من غير أب جعلت أتباعه يؤلهونه(2).

هذه الحقائق يمكن إثباتها عن طريق قرائن أخرى؛ منها أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)ابتدأ كلامه بكلمة سُبحانَك" التي تحكي عن تسبيح الله -تعالى- وتقديسه؛ الأمر الذي يدلّ بصراحة على عبوديته الخالصة له وفي الحين ذاته أكد على استحالة تجرئه وادعائه الألوهية: ﴿ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ ﴾، فضلا عن أنه على يقين بكون علم الله -تعالى- هو الأصل والأساس لكلّ ما يعرفه البشر: ﴿إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَمُ الْغُيُوبِ﴾ ؛ ثمّ أقرّ بالربوبيّة المطلقة لله -تعالى- على جميع البشر؛ كي لا يبقى أدنى شكٍّ لدى الناس في كونه عبدًا ونبيًّا يدعو أقرانه البشر إلى توحيد الله الواحد وعبادته وحده، بلا شريك: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾.

ومضمون هذه الآيات يدلّ بصريح العبارة على أن النبي عيسى(علیه السّلام)لم يتجاوز حدود رسالته السماوية، فقد كان شاهدًا عليهم، وناظرًا على أعمالهم؛ ما دام موجودًا بينهم، لذا فهو منزّه من المعتقدات المحرّفة التي سادت بين الناس بعد ذلك: ﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾. وعبارة ﴿وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ تشير إلى أنّه أدرج شهادته على أعمال أمته في رحاب شهادة الله - سبحانه وتعالى - العامة، وعلى هذا الأساس نزّه ألوهيته من كلّ شرك.

والآية التالية تحكي عن تأكيده على عبوديته وعبوديّة سائر الناس لله الذي هو مولاهم، ولا يصدر أيّ حكم بشأنهم؛ إلا ما كان عدلًا ومتناسبًا مع أعمالهم، فالأمر بيده، وباستطاعته

ص: 120


1- Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 105
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 241.

أن يعذِّبَهم أو يعفو عنهم: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ، فالآيات 112 إلى 120 من سورة المائدة لا تؤكّد على وفاة النبي عيسى(علیه السّلام)أو موته؛ كما ادعى محمود مصطفى أيوب، بل إنّ محورها الأساس هو نفي ألوهيته على لسانه، وإقراره بعدم إشرافه على أتباعه بعد وفاته(1).

وخلاصة الكلام: أنّنا حتّى إذا افترضنا أنّ الموت ملازمٌ للتوفّي؛ نظرا لكون الكلمة الثانية

ص: 121


1- لم يتطرّق ريتشارد بيل إلى تفسير الآيات 116 إلى 120 من سورة المائدة على ضوء مفهوم التوفي وإمكانية موت النبي عيسى(علیه السّلام)، كما فعل غابريال سعید رینولدز ونیل روبنسون، بل أكّد على أنّها تتحدث بأسلوب جدلي عن مسألة تأليه المسيح وأمه من قبل النصارى، وأشارت إلى الثواب الذي سيناله المؤمنون يوم القيامة في جناتٍ وُصفت بأن الأنهار تجري في كل أنحائها. وجدير بالذكر هنا أنّ هذا المستشرق تساءل عمّا إن كان الثالوث المسيحي يشمل الله سبحانه ومريم وعيسى(علیه السّلام)أو لا. ومن جملة المسائل التي طرحها في هذا السّياق ادّعاء أنّ هذه الآيات تتناغم مع العقيدة المونوفيزية المسيحية (Monophysitism) التي شاعت بين المسيحيين الذين استوطنوا البلاد الغربية المجاورة لشبه الجزيرة العربية، حيث وصفوا العذراء مريم بصفات إلهية، وقد ذكرنا أنها أنّهم يعتقدون بوجود طبيعة مركّبة ليسوع - ممتزجة من طبيعتين - إحداهما إلهيّة، والأخرى بشرية امتزجت بها؛ ويمكن اختصار هذه الطبيعة في: "يسوع المسيح الابن، هو شخص وأقنوم واحد بطبيعةٍ واحدةٍ: الإنسان الإله الذي طوى مسيرته بجسم بشري من حيث الولادة والحياة والموت". (Cf: Encycloaedia of Britannica, "Monophysite".) وقد تأثر - هنا - بالروايات المذكورة في المصادر الإسلامية حول مسألة جمع القرآن الكريم وروايات أسباب النزول الخاصة ببعض آياته، لذا اعتبر أنّ الآيات المتأخّرة بالنزول، والتي من المحتمل أن تكون قد دوّنت بعد الآيات 109 إلى 115 من سورة المائدة، قد أصبحت بديلةً عنها. اعتبر قوله - تعالى -: ﴿إِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ في الآية 110 من سورة المائدة بأنّه بالمعنى ذاته للعبارة المشابهة له والمذكورة في بادئ الآية 116 من هذه السورة ، وقوله - تعالى - في الآية 116 ﴿إنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الغُيوبِ﴾ والذي وصفه بالقافية، اعتبره تكرارًا للقافية الأخيرة في الآية 109. (Bell, Ibid.,vol.1.p. 174). لكنّ التشكيك الذي طرحه بخصوص دلالة الآية ليس صحيحًا، لأنّ الآية 116 مضمونها: ﴿وَإِذْ قالَ اللهُ يا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ﴿، لذا نستوحي من ظاهرها أنّ التثليث المسيحي - عقيدة الثالوث - يشمل الله - تعالى- ومريم وعيسى(علیه السّلام)، ولربما بعض النصارى كانوا يؤمنون بهذا الأمر في تلك الآونة على الرغم من عدم طرحه في العهد الجديد. للاطلاع أكثر، راجع (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 223 - 225؛ أحمد باكتشي ،وآخرون، مدخل كلمة "تثليث" في دائرة المعارف بزرگ اسلامي (باللغة الفارسية)، تحریر کاظم موسوی بجنوردي وآخرون، إيران، منشورات مؤسسة دائرة المعارف الإسلامية،1995م، ج 12، ص 622). ذكر محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار عددًا من الأدلة لإثبات أنّ عبادة أمّ المسيح شاعت في الكنائس الشرقية والغربية بعد عهد الإمبراطور قسطنطين، وأشار إلى وجود اتفاق بين المؤرّخين على هذه الحقيقة؛ لكن الفرقة البروتستانتية التي ظهرت بعد الإسلام بعدة قرون هي الفرقة الوحيدة التي نبذت هذه العقيدة برأيه. للاطلاع أكثر ، راجع: (محمد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الكريم (تفسير المنار)، لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، الطبعة الثانية، ج7،ص262-263). والرأي الآخر الذي طرحه ريتشارد بيل ضمن نظريته القائلة بكون هذه الآيات بديلةً عن الآيات 109 إلى 115 هو في الواقع مجرد ظنُّ وتخمين، إذ لا يقوم على أيّ مرتكز علمي، بل سنده الوحيد هو عدد من الروايات التي نقلت بخصوص جمع القرآن الكريم من قبل بعض الصحابة؛ فالقرآن الكريم كان مكنونا في صدور الحفّاظ قبل جمعه لذا من المستبعد بمكان أن يبادر شخص إلى تغيير مواضع الآيات في سوره .ما قال بيل في هذا الصعيد أنّ الكتابة كانت الأسلوب الوحيد لتناقل آيات القرآن الكريم بين الناس، بينما الحقيقة أن الحفظ كان سابقًا للكتابة في هذا المضمار.

تعني الاستيفاء التام، يبقى سؤال أساس بحاجة إلى إجابة شافية، وهو: هل هناك مانع من وجود استثناء في هذا المجال ؟ وتتجلّى أهمّيّة هذا السؤال أكثر حينما نأخذ بعين الاعتبار تلك الشواهد الواضحة الموجودة في العديد من الآيات.

وممّا قاله أحد رجال الدين المسلمين في هذا المضمار : «الآية 157 من سورة النساء تفيد بأن الله -تعالى- أكرم النبي عيسى(علیه السّلام)بنعمة ما أنعمها على غيره، لذا إن اعتبرنا توفّيه؛ بمعنى موته ورفع روحه إلى السماء بعد أن مات، فالآية يصبح معناها أنّ الله أماته ورفع روحه إليه بعدأن انتشلها من مجتمع يشوبه الكفر. من المؤكّد أنّ هذا المعنى لا يدلّ على أي خصوصية فريدة للمسيح، لأنّ جميع الأنبياء وكذلك المؤمنون كافّةً يحدث لهم ذلك حينما يحين أجلهم.

إذًا، هذه الآية تدلّ على أنّ حياة المسيح(علیه السّلام)منذ نشأته [في رحم أمه] كانت ممتزجةً بالمعاجز، لذا فإنّ بقاءه ووفاته كانا متقارنين مع هذه المعاجز؛ وعلى هذا الأساس نقول إنّ هاتين الآيتين لا تدلّان في ظاهرهما على موته»(1).

أضف إلى ذلك، فقوله -تعالى- في الآية 158 من سورة النساء: ﴿ بَل هُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عزیزا حَكِيمًا ﴾ ابتدأ بكلمة "بل" التي هي للإضراب من الناحية البلاغية، وهذا المعنى لا يتناغم مع الموت وصعود الروح إلى السماء بشكل يميّزها عن غيرها إثر القتل والصلب(2).

والقرينة الأخرى التي تدلّ على كون وفاة المسيح(علیه السّلام)استثناءً عن غيرها تتمثل في الخطاب القرآني الموجه إليه بوصفه إنسانًا ذا روح وبدن، أي إنّه عبارةٌ عن كائن موجود على أرض الواقع تلقى خطابًا إلهيًّا بصيغة متوفّيك ورافعك ومطهّرك؛ وإذا اعتبرنا كلمة "متوفّيك" بمعنى قبضه وإنقاذه من براثن اليهود، ففي هذه الحالة سوف تتحقق فيه الخصائص اللازمة الموجودة ضمن الكلمات الثلاثة المشار إليها؛ ما يعني أنّ الله - سبحانه وتعالى- قد أنقذه من الناس ورفعه إلى السماء. لكنْ إنْ اعتبرناها تعني الموت - أي مميتك - فهذا يعني بكل تأكيد أن بدنه لا يرفع إلى السماء بعد الموت، بل روحه فقط هي التي تعرج إليها.

ص: 122


1- عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية) إيران ،قم، منشورات إسراء، الطبعة الثالثة، 2002م و 2014م، ج 14، ص 393.
2- راجع: م . ن، ج 21، ص 322.

إذًا، في الحالة الأولى تكون خصوصية المسيح(علیه السّلام)التي امتاز بها عن غيره كامنةً في روحه وبدنه، بينما في الحالة الثانية تقتصر هذه الخصوصيّة على روحه فحسب، ويكون معنى الآية: يا عيسى، سوف أميتك وأرفع روحك إلى السماء، وهذا التفسير يقتضي الفصل بين الصفة والموصوف لأنّ شخصيّة هذا الإنسان المكرَّم من قِلَ الله - عزّ وجلّ- لا تقتصر على روحه حتى وإن اعتبرت بأنّها تجسّد حقيقة الإنسان، فالخطاب القرآني في الواقع موجّه لكيانه بالكامل، لذا لا بد أن يتحقق الفعل على ضوء هذا الكيان بأكمله(1). وبناءً على هذا التحليل، اعتبر بعض المفسرين وفاة المسيح(علیه السّلام)آخر مرحلة من حياته على الأرض وليست موته(2).

إذًا، يمكن تلخيص الاحتمالات المطروحة من قِبَل المفسّرين حول دلالة الكلمة القرآنية "متوفّيك" التي ذُكِرَت بشأن النبي عيسى ال ضمن النقاط التالية:

- إخفاؤه عن أنظار الناس.

هذا المعنى لا يتناسب بطبيعة الحال مع المعنى المراد من كلمة الوفاة ومشتقاتها.

- أغرقه الله - عزّ وجلّ - في نوم عميقٍ؛ مثلما فعل بأصحاب الكهف.

في هذه الحالة لا بد من وجود بدنه على الأرض، لكنّه في الحقيقة غير موجود.

- توفي إثر موت طبيعي في منأى عن أنظار الناس ومن ثمّ فإنّ رفعه إلى السماء ليس سوى أسطورة لا واقع لها؛ أي إنّ القرآن الكريم اقتبس هذا السرد القصصي من المعتقدات المسيحية التي كانت سائدةً في الجزيرة العربية إبّان ظهور الإسلام.

والتوفّي على أساس هذا الكلام هو الموت الطبيعي ذاته، ولا يعني كون المسيح(علیه السّلام)رفع إلى السماء وهو حي؛ لكن ليس هناك أي دليل يثبت ذلك.

- وفاته ليست كوفاة سائر الناس؛ لكونها حالةً استثنائيّةً.

هذه الفكرة يمكن استنباطها من خلال المقارنة بين الآيات القرآنية التي تحدّثت عن النبي

ص: 123


1- راجع: جعفر السبحاني، مكتب وحي امي بودن پیامبر(صلی الله علیه و آله و سلم)(باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات ،رسالت 1977م، ج 12، ص 405.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 366 إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم ،لبنان بيروت، دار الكتب العلمية، 1419ه_، ج 1، ص 350.

عيسى(علیه السّلام)والآيات التي تمحورت حول قصة أبي البشر آدم(علیه السّلام)الذي كانت ولادته تختلف عن ولادة سائر البشر، فقد ولد من غير والدين، وعيسى هو الآخر ولد بإعجاز؛ بحيث كانت ولادته تختلف عن جميع الناس.

وجدير بالذكر أن حياة النبي عيسى(علیه السّلام)اكتنفتها أحداث ووقائع كثيرة وفريدة من نوعها؛ ما جعل أتباع دينه يقعون في مغالطة كبيرة ويؤلهونه، وهذا الأمر في الواقع يعد واحدًا من المواضيع القرآنية الهامة، حيث انتقد الله -عزّ وجلّ- النصارى جرّاء هذا الخطأ العقديّة الفادح .

إذَا، هل هناك محذورٌ في قولنا إنّ وفاة المسيح كانت خارجةً عن نطاق القواعد المتعارفة في حياة البشر ؟

بما أنّ كلمة الرفع ذكرت في الآية 55 من سورة آل عمران بعد التوفّي، فقد ادّعى غالبيّة المستشرقين أنّها تعدّ سندًا داعمًا للرأي القائل بأنّ التوفّي - هنا - بمعنى الموت؛ وفيهم من تأثر بتعاليم الكتاب المقدّس إلى أقصى حدٍّ ليفسّرها بالانبعاث بعد الموت عبر مقارنتها مع كلام المسيح(علیه السّلام)وهو في المهد؛ حينما قال: ﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيَّا﴾، وبعضهم اعتبرها إشارةً إلى الرفع الروحاني أي رفع الروح - فقط - دون البدن(1).

وقد جعل المستشرق غابريال سعيد رينولدز التوالي اللغوي في الآية معيارا لتفسيره لهذه الكلمة، وعلى هذا الأساس اعتبرها بمعنى الرفع الروحاني بعد الموت على الصليب، وذلك من منطلق اعتقاده بأنّ النبي عيسى(علیه السّلام)قد صُلِبَ هو نفسه لا شبيهه؛ كما يعتقد المسلمون، ومن هذا المنطلق اعتبر التوالي الموجود في الآية المذكورة شاهدًا على استنتاجه التفسيري الذي طرحه في تفسير الآية 157 من سورة النساء، وممّا قاله في هذا الصدد: «القرآن ينكر قتل

ص: 124


1- ريتشارد بيل هو المستشرق الوحيد الذي طرح رأيًا مختلفًا في هذا الصدد، فعلى ضوء مرتكزاته العقدية المسيحية فسر قوله تعالى: ﴿وَرافِعُكَ إِلَيَّ﴾بأنّه يدلّ على عروج المسيح الله إلى السماء، حيث جاء في سفر أعمال الرسل (1: 9): "وَلَمَّا قَالَ هَذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ". وفي هذا السياق وصف كلمة "مُطَهِّرُكَ" بأنّها غامضة وغير واضحة الدلالة. (Bell, Ibid., Vol. 1, p. 76). ويبدو أن التطهير - هنا - يراد منه تنزيه النبي عيسى(علیه السّلام)من اليهود الذين وصفهم القرآن الكريم بالكافرين جراء إنكارهم نبوّته، وقد تكرّر هذا المفهوم بشأن أمه مريم لا في قوله - تعالى -: ﴿وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِساءِ الْعالَمينَ﴾ (سورة النساء، الآية 42) كلمة "طهرك" في هذه الآية معطوفة على "اصطفاك" الأولى، وهذا عطف تفسير؛ وبما أن معنى كلمة اصطفى تمييز الشيء عن غيره، فطهرك هنا تعني تمييز مريم(سلام الله علیها)عن غيرها وترجيحها على سائر النساء.

المسيح على يد اليهود، وفي الآية التالية ﴿ بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ يؤكّد على أنّ الله رفعه إلى السماء، وهذا التوالي الموجود في الآية 55 من سورة آل عمران موجود أيضًا في الآية 157 من سورة النساء، أي إنّ الله هو الذي أمات عيسى أوّلًا - لا اليهود- ثم رفعه إلى السماء»(1).

ويصف المفسّرون المسلمون الرفع المذكور بعد التوفّي في الآية بأنّه ليس رفعًا مختصَّا بمكان معيّن، لأنّ المكان من خصائص الجسم، ومن المستحيل على الله -عزّ وجلّ- أن يكون جسمًا ويستقرّ في موضع خاص؛ لذا فهو ليس مقيمًا في مكان مرتفع - كما يزعم البعض - لكي يرفع النبي عيسى(علیه السّلام)إليه(2)، وعلى هذا الأساس فحرف الجرّ (إلى) المذكور في الآية مع الضمیر(الياء)، لا يشير إلى جهةٍ معينةٍ كامنة في مكانٍ محدّدٍ، وإنّما مفهومه ومفهوم الضمير المتصل به على غرار ما ذُكِرَ في بعض الآيات؛ مثل: قوله - تعالى - على لسان النبي إبراهيم(علیه السّلام): ﴿ إنّي ذاهِب إِلى رَبّي ﴾، وقوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ إِلَى مَرْجِعُكُمْ ﴾، وبالتالي يمكن تفسير قوله -تعالى-: ﴿ وَرَافِعُكَ إِلَى ﴾ بمعنى (إنّي رافعك إلى محلّ كرامتي)، والسبب في ذكر مشتق كلمة (الرفع)هنا هو الإكرام والإجلال، فالمراد هو رفعه إلى مكان ليس فيه سوى حكم الله عزّ وجلّ(3).

ص: 125


1- Reynolds, Ibid., p. 241. لو تتبعنا آراء المفسّرين المسلمين لوجدنا أنّ محمد رشيد رضا والمراغي فقط تبنّيا هذا الاستنتاج، فالأوّل قال: «وَأَنَّ التَّوَفِّيَ عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ وَهُوَ الْإِمَانَةُ الْعَادِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّفْعَ يَكُونُ بَعْدَهُ وَهُوَ رَفْعُ الرُّوحِ، وَلَا بِدْعَ في إطلاقِ الْخِطَابِ عَلَى شَخْصٍ وَإِرَادَةِ رُوحِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْجَسَدُ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَتَغَيَّرُ، وَالْإِنْسَانُ إِنْسَانُ لِأَنَّ رُوحَهُ هِيَ هِيَ». (محمد رشيد بن علي رضا تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، ج 3، ص 317).
2- رفع المسيح عيسى(علیه السّلام)من قبل الله -تعالى- الذي أشير إليه في الآية 158 من سورة النساء تتمّة لمضمون الآية 157 وذكر في الآية 55 من سورة آل عمران لا يدلّ على مقامه ومنزلته الرفيعه برأي بعض الباحثين، بل نستلهم من سياق الآيات والعبارات السابقة لها والتي تم التأكيد فيها على فشل القوم في قتله وصلبه، كذلك نستشف من الروايات المنقولة في تفسير هذه الآيات أنه رفع إلى السماء بروحه وجسمه. وبحسب ما ذكر في بعض الروايات فهو سيعود إلى الأرض في آخر الزمان تزامنًا مع ظهور الإمام المهدي الله ليقتل الدجال، وبعد مدة من الزمن يفنى جميع البشر . للاطلاع على هذه الروايات راجع محمد مشهدي قمي كنز الدقائق، تحقيق حسين دركاهي ،إيران طهران منشورات وزارة الإرشاد الإسلامية، الطبعة الأولى، 1989م، ج 2، ص 676 والصفحات اللاحقة لها..).
3- راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 366. المفسّر طنطاوي هو الآخر تبنّى الرأي ذاته (طنطاوي بن جوهري المصري، الجواهر في تفسير القرآن منشورات دار إحياء التراث العربي، 1412ه_، ج 2، ص 106). وأما الشيخ محمود شلتوت فقد استند إلى تفسير الآلوسي معتبرًا الرفع الذي ذكر بعد التوفّي يعني رفع المقام وليس الرفع الجسماني ولا سيما أنه ذكر إلى جانب قوله - تعالى - ﴿مُطَهِّرُكَ مِن الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ما يعني أنه يشير إلى التشريف والتكريم، كما أنّ معظم مشتقاته ذكرت في القرآن الكريم بهذا المعنى مثل قوله - تعالى -: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ و﴿رَفَعنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ و﴿رَفَعْناهُ مَكاناً عَليّاً﴾ .كلمات "إلي" و"إليه" في قوله - تعالى -: ﴿وَرافِعُكَ إِلَيَّ﴾ و﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ هما على غرار قوله تعالى ﴿إنَّ اللهَ مَعَنا﴾ و﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ حيث لا يفهم من هذه التعابير سوى الدخول في كنف الأمر المقدّس، لذا كيف نفهم كلمة (السماء) من كلمة "إليه"؟ من الإجحاف بمكان تفسير التعابير القرآنية على أساس روايات لا تبلغ درجة الظن فضلا عن اليقين. (آراء الشيخ شلتوت في كتاب دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، نقلاً عن كتاب مواجهه قرآن با فرهنگ مسیحیت (باللغة الفارسية)، تأليف أعظم ،بويا، إيران طهران منشورات «هستي نما»، 2006م، ص 189 - 190)

إذن، المقصود بحسب هذا الرأي هو التقرّب المعنوي الذي أشير إليه ضمن تعبير يحكي عن مقام الرضوان الإلهيّ، إلا أنّ المسألة الجديرة بالذكر هنا - هي أنّ القرآن الكريم لم يصرّح في هذه الآيات برفع المسيح(علیه السّلام)من الأرض بروحه وجسمه من قِبَل الله - تعالى - ثمّ عروجه إلى السماء، كما لا نجد فيه تصريحًا بكونه توفّي جرّاء موتِ طبيعيّ ثمّ عُرِجَ بروحه إلى السماء؛ بل نستشف من النصّ القرآني عدم نفي هاتين الحالتين أو إثباتهما؛ ولكن الواضح من الأسلوب البياني القرآني أنّ رفعه إلى السماء لم يكن بحسب القواعد المتعارفة(1).

وتفيد الآية 158 من سورة النساء في سياقها وظاهرها ودلالة حرف الإضراب "بل" الواقع في مستهلّها، أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)رفع إلى السماء بروحه وجسمه، لذا فهي كأنها تستبطن ردًّا على السؤال التالي الذي يخطر في ذهن المخاطب : لو أنّ المسيح لم يُقتل وبقي حيًّا، لِمَ لَمْ يره أحدٌ بعد تلك الليلة؟ لقد أنقذه الله - تعالى - من أعدائه ورفعه إليه ليأخذه من هذا العالم ويُودِعَه في عالم آخر أعلى وأفضل(2). كما أن سياق الآية بعد تفنيد ادعاء اليهود الذين زعموا أنهم نجحوا في قتله وصلبه، يفيد بأنّه الشخص نفسه الذي حفظه الله - تعالى - من القتل والصلب ثم رفعه بجسمه وروحه إليه، ولم يرفع روحه فقط.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الإضراب في قوله - تعالى -: ﴿ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ والذي يراد منه إنكار القتل والصلب إلى جانب إثبات الرفع، لا يتناسب مع رفع الروح وحدها دون الجسم، إذ ينتفي مناط استعمال "بل" في هذه الآية بحسب هذا المعنى المقرّر للرفع، لأنّ كلّ إنسان يجب وأن ترفع روحه بعد أن يموت؛ مهما كانت طريقة موته.

إذًا، كلمة "بل" في الآية تشير إلى أنّ المسيح(علیه السّلام)رفع إلى السماء بروحه وجسمه، وهذا الرفع في الواقع عبارة عن وسيلة لإنقاذه من براثن اليهود، ولا فرق في كيفية تحققه، فسواء أتحقق

ص: 126


1- راجع: أبو الأعلى المودودي، تفهيم القرآن، ترجمة كليم الله متين، منشورات دار العروبة للدعوة الإسلامية، 1990م، ج 1، ص 453.
2- راجع: رضا صدر، مسیح در قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي حجّتي كرماني، إيران، طهران، منشورات مشعل دانشجو، ص 229.

على ضوء موت المسيح -دون قتل وصلب- أم عن طريق لقائه الله -تعالى-؛ وهو حي، أم بجسمه الإنساني؛ فضلا عن أنّ هذا الأمر ليس مستحيلاً من الناحية العقلية، فالعقل لا يقول باستحالة رفعه من قِبَل الله - تعالى - إلى السماء بشكل غير متعارف بين البشر.

ولا شكّ في أنّ رفع النبي عيسى(علیه السّلام)إلى السماء حيًّا إن اعتبرناه معجزةً، فهو ليس بأهم من سائر المعجزات التي اكتنفت حياته، فقد وُلِدَ من والدةٍ عذراء، وتحدّث مع الناس؛ وهو في المهد بعد وقت قصير من ولادته وأحيا ،الموتى، وما إلى ذلك من معجزات أخرى. لا شك فى أنّ هذه المعجزات قاطبةً تنصب في هدفٍ واحدٍ، والقرآن الكريم هو برهاننا على وجود معاجز كهذه، وهذا ما أكّد عليه صاحب تفسير الميزان قائلًا: «والتأمل في سياق الآيات يوضّح الوجه في عدّ ما ذكره من الآيات المختصّة -ظاهرًا- بالمسيح نعمة عليه وعلى والدته جميعًا، كما تشعر به آیات آل عمران؛ فإنّ البشارة إنّما تكون بنعمة، والأمر على ذلك، فإنّ ما اختص به المسيح(علیه السّلام)من آية وموهبة؛ كالولادة من غير أب والتأييد بروح القدس، وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله سبحانه، فهي بعينها كرامة لمريم؛ كما أنها كرامة العيسى(علیه السّلام)،فهما معًا منعمان بالنعمة الإلهية، كما قال -تعالى-: ﴿أَذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَلِدَتِكَ﴾. وإلى ذلك يشير - تعالى - بقوله: ﴿وَجَعَلْنَهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِلْعَلَمِينَ﴾ - (الأنبياء: (91- حيث عدّهما معًا آيةً واحدةً لا آيتين»(1).

والإشارة القرآنية إلى هذا الرفع غير المتعارف طُرحت بالمصطلح نفسه الذي استخدمه النصارى للإشارة إلى رفع روح المسيح وجسمه إلى السماء، وهو في اللغة الإنجليزية (Ascension) حيث نستنتج منه أنّ القرآن الكريم لا يروم تفنيد هذه العقيدة، بل استخدم لفظًا يساهم في ترسيخها والتأكيد عليها؛ لذا لو كان في صدد نفيها لاستخدم مصطلحا آخرَ غير الرفع(2)، وإذا كان القرآن الكريم في مقام نقض العقيدة المسيحيّة، لقال الله -تعالى- في هذا المجال: ما قتلوا المسيح يقينًا، وإنّما أنقذه الله حيًّا، ثمّ أماته؛ كما يموت سائر البشر.

لقد أراد اليهود إهانة النبي عيسى(علیه السّلام)، لكنّ الله - سبحانه وتعالى - رفعه إلى أعلى الدرجات، ومن الواضح أنّ كلمتَي عزيز وحكيم في نهاية الآية: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ تؤيّدان هذا

ص: 127


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 133 بتلخيص.
2- للاطلاع أكثر ، راجع: أبو الأعلى المودودي، تفهيم القرآن، ج 1، ص 453.

الرأي، إذ استعمالهما بعد أحد الأحداث الهامة يراد منه إظهار غلبة الله - تعالى - وقدرته وقهره وحكمته البالغة(1).

والعزيز هو الشريف الذي لا يخرج أيّ شيءٍ عن نطاق ،قدرته، وهو قادر على فعل كلّ ما يشاء وهو القاهر والغالب فوق كل شيء؛ والحكيم هو الذي لا يصدر منه خطأ مطلقًا ويجعل كلّ شيءٍ في موضعه؛ لذا فهو قادر على رفع كلّ من أنزله من السماء بحكمته، وكلّ حفظ وإزالة لا يبدران منه إلا بداعي حكمته البالغة(2). لقد عاد المسيح(علیه السّلام)إلى المكان نفسه الذي جاء منه، فقد بدأ حياته بنزوله إلى هذا العالم عن طريق نفخ الروح في أمه مريم(علیه السّلام)من قبل الله -سبحانه وتعالى-، ثم عاد إلى مبدئه؛ لكي يبقى في أمان من القتل والصلب؛ لذا نستنتج من هذه الآية أنّ الله قد رفعه بجسمه وروحه إليه، ولم يرفع روحه وحدها، وهذا الرفع في الحقيقة يعدّ أكبر بشارة للمسيح ومؤشّرًا جليًّا على مقامه الرفيع عن ربه.

ويقول العلامة محمّد حسين الطباطبائي واصفًا شخصيّة المسيح(علیه السّلام): وكيف يتصوّر في مَنْ آمن بالمسيح(علیه السّلام)أن لا يعثر منه على آية؛ وهو(علیه السّلام)بنفس وجوده آيةٌ، خلقه الله من غير أب، وأيده بروح القدس يكلّم الناس في المهد وكهلا، ولم يزل مكرمًا بآية بعد آية؛ حتى رفعه الله إليه، وختم أمره بأعجب آية(3).

ومن المؤكّد أنّ المسيح(علیه السّلام)رُفِعَ إلى السماء من قِبل الله عزّ وجلّ، لكن لا نعلم كيف تمّ ذلك؛ فالكثير من المواضيع القرآنية واضحة المفهوم؛ إلا أنّها غامضة علينا من حيث الدلالة التفصيلية؛ مثل: استوائه تبارك شأنه على العرش، ونزول الملائكة إلى الأرض، وكذا هو الحال بالنسبة إلى رفع المسيح(علیه السّلام)؛لذا لا يمكن لأحد ادّعاء أنّ الموت هو السبيل الوحيد للوفاة والرفع بحيث لا يوجد سبيل أخرى غيرها، إذ هناك أساليب وطرق أخرى تتحقق على إثرها؛ على الرغم من أنّها غير واضحة لنا.

ومضافًا لما ذُكِرَ فإنّ مسألة الوفاة والرفع عن طريق الموت الطبيعي أو غير الطبيعي هي

ص: 128


1- راجع: أبو الأعلى المودودي، تفهيم القرآن، ج 1، ص 453.
2- راجع: رضا صدر، مسیح در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 229.
3- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 228.

الأخرى غير واضحة لنا، والنبي عيسى(علیه السّلام)كما -ذكرنا آنفًا- يُعدّ من عجائب الخِلْقة في نشأته وحياته، ووفاته ،ورفعه، فكلّ هذه الأمور تُعدّ إعجازيةً وخارجةً عن النطاق المتعارف لنا بوصفنا بشرًا؛ وكلّ إنسان يعتقد بأنّ الأنبياء لديهم معاجز ، لا يجد ضيرًا في تصديق هذه الأمور التي اكتنفت شخصية المسيح؛ والمسألة الهامة في هذا الصدد هي ضرورة ارتكاز معتقداتنا على براهينَ ثابتة وقطعيّة؛ سواءً في مجال القضايا الإعجازية أو غيرها.

وجدير بالذكر أن النوم والموت كليهما يحكيان عن سكون البدن وتجرّده عن الحركة بنحو تام أو جزئي، إلا أنّ توفّي النفس حين منامها وموتها لا نعرف عنه تفاصيل كثيرةً؛ لذا إن امتلكنا برهانًا قطعيًا من الكتاب والسنّة والعقل يثبت وجود مصاديق أخرى للتوفّي غير المصاديق التي نعرفها، ففي هذه الحالة سوف نؤمن بأن وفاة النبي عيسى(علیه السّلام)ورفعه إلى السماء حدثا بشكل يختلف عما نحن على علم به، وهذا الاعتقاد يضاهئ اعتقادنا بخلقة آدم وحواء(علیه السّلام) بشكل يختلف عن المتعارف في خلقة سائر البشر، وكذلك اعتقادنا بولادته من أمّ عذراء(1).

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقي للآيات القرآنية الدالّة على موت النبي عيسى(علیه السّلام):

أشار القرآن الكريم إلى موت النبي عيسى(علیه السّلام)في آيات عدّة ، لذا اتّخذها بعض المستشرقين مرتكزا لإثبات عقيدتهم القائلة بموته؛ وهو على الصليب، أو بعد مدة من صلبه؛ فهذه التلميحات القرآنية برأيهم تُعدّ دليلًا واضحًا على عدم إنكار القرآن موته على ضوء إشارته إلى أنّ هذا الأمر قد طرأ عليه في الماضي؛ ما يعني تأريخية موته.

وفي ما يلي نذكر تفاصيل البحث ضمن الآيات المقصودة:

1) الآية 33 من سورة مريم:

قال - تعالى-: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا ﴾(2). كما أشرنا آنفا فالنبي عيسى(علیه السّلام)يبارك في هذه الآية ولادته وموته وبعثه.

ص: 129


1- راجع: أحمد بهشتی، عیسی پیام آور اسلام (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات اطلاعات، 2000م، ص 307-308 بتلخيص.
2- سورة مريم، الآية 33.

ويستنتج المستشرق نيل ،روبنسون، بناءً على تأثره بعقيدته المسيحيّة القائمة على موت المسيح مصلوبًا، وعلى ضوء ما ذكر في عدد من الروايات التي روي فيها أنّه مات لعدّة أيامٍ وساعاتٍ أنّه قد مات في الماضي، ولا صوابية لقول من يقول إنّه سيموت في آخر الزمان؛ وبعد أنْ قارن هذه الآية مع الآية 15 من السورة ذاتها والتي أشارت إلى موت النبي يحيى(علیه السّلام)ادّعى أن موت المسيح كان على غرار موت هذا النبي؛ أي أنّه حدث في الماضي(1).

وممّا أكّد عليه في هذا الصدد أنّ الآيات اللاحقة للآية 33 تدلّ على المضمون ذاته؛ لكونها تتحدّث عن الحشر والقيامة، وهذه الآية تتحدّث بدورها عن بعثه مستقبلا في يوم القيامة؛ كما ادعى أن القرآن الكريم ليست فيه أدنى إشارة إلى موت المسيح(علیه السّلام)مستقبلا(2).

واعتبر غابريال سعيد رينولدز معجزة المسيح(علیه السّلام)وهو في المهد تستبطن تلويحا إلى أنّ موته على غرار موت سائر الناس(3)، وبطبيعة الحال لا ضير في قوله إنّ الآية في صدد بيان كون المسيح كسائر البشر؛ لأنّ كلامه المذكور في الآية يُعدّ تتمّةً لأوّل كلام له حينما كان في المهد(4)والذي أخبر الناس فيه أنّه عبد من عباد الله -تعالى-: ﴿قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾، لذا فإنّ - قوله -: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدتُّ ﴾ يشير إلى أنّ ولوجه في الحياة الدنيا حدث ضمن مسيرة نزيهة وقويمةٍ ملؤها العفاف والطهارة، حيث أراد من ذلك تنزيه أمه من تهمة الفحشاء والمنكر التي طالتها، وقوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ يحكي عن مصيره المستقبلي. وفي الآية 35 من السورة ذاتها(5)نزّه الله -سبحانه وتعالى- من أن يكون له ولد، وأشار إلى قدرته على خلق كلّ شيءٍ بمجرّد أنْ يشاء ذلك. وعلى هذا الأساس، فالآية في مقام بيان أن النبي عيسى(علیه السّلام)كسائر البشر، ومثل النبي يحيى(علیه السّلام)الذي تحدثت عنه الآية 15 من هذه السورة(6)، ونقلت سلام الله عليه حين ولادته وموته وبعثه؛ لذا نستنتج منها أنّه ليس ابنًا لله -تعالى-، وحاله حال سائر أقرانه البشر في ثلاث مراحل؛ هي: الولادة، والموت، والبعث.

ص: 130


1- Robinson, Jesus, p.18
2- Ibid
3- Reynolds, Ibid., p. 239
4- راجع: سورة مريم، الآيات 33-30.
5- قال - تعالى -: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِلَمَّا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (سورة مريم، الآية 35).
6- قال -تعالى-: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يُمَوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ (سورة مريم، الآية 15).

ومن البديهي أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)يموت لكونه ليس أزليَّا مثل: الله -سبحانه وتعالى-، لكن لا نعلم زمان موته من فحوى الآية المذكورة، فهي تتضمّن الفعل المضارع "أموت" الذي لا يمكننا تحديد المستقبل القريب أو البعيد من دلالته دون قرينة، فضلًا عن وجود احتمال بأنه قد مات في الزمان الماضي، فهذا الاحتمال لا يقل شأناً عن احتمال موته مستقبلًا؛ كذلك ليس هناك ما يدلّ على كون الآية تثبت صلبه بذاته دون غيره؛ وذلك لأنّ

الصلب قتل وليس موتا(1).

ويؤكِّد محيي الدين بن عربي على أنّ المسيح عيسى بن مريم ألقى بالسلام على نفسه؛ قائلاً ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾؛ لكي يفنّد مزاعم من افترى عليه وادّعى أنّه قُتِل، لذا لم يقل (يوم أقتل) أي أنّه قصد تكذيب قولهم: ﴿ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّه ﴾(2)، وهذه الآية تشير بوضوح إلى أنه سوف يموت موتاً طبيعيًّا وليس قتلا(3).

إذَا، هذه الآية مع تصريحها بموت المسيح(علیه السّلام)وبعثه، إلا أنّها لا تحدّد زمان موته، واستنتاج نيل روبنسون بكونه قد وقع في الماضي على غرار موت النبي يحيى(علیه السّلام)، ليس سوى ادّعاء بحتِ؛ إذ لو أمعنا النظر في الآيتين 15 و 33 من سورة مريم سنلاحظ فيهما وجود ضرب من التشابه الطبيعي بين شخصيتي هذين النبيَّيْن، فكلاهما خلقا في مجرى يختلف عما هو متعارف في حياة البشر، لأنّ يحيى ولد من أب طاعن في السنّ وأم عاقر، والمسيح ولد من أم عذراء، وكلاهما على مرتبة عليا من طهارة النفس والرأفة بالوالدين والتواضع والطاعة التامة لله - تعالى-، وكلاهما نال مقام النبوّة في سنّ الطفولة(4).

ص: 131


1- راجع: محمد صادقي طهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن ،إيران ،قم، منشورات فرهنگ اسلامي، الطبعة الثانية 1986م، ج 18، ص 318.
2- سورة النساء، الآية 157.
3- راجع: محمّد بن علي بن عربي، رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن، تحقيق محمود محمود غراب، سوريا، دمشق، منشورات مطبعة النصر ، الطبعة الأولى، 1410ه_، ص 50. ج 3،ص 50. هذا الاستدلال المطروح من قبل ابن عربي ومحمد صادقي طهراني لا يبدو صحيحًا من أحد النواحي، فهذه العبارة ذاتها قد ذكرت بشأن النبي یحی(علیه السّلام)في الآية 15 من سورة مريم: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ على الرغم من أنه مات مقتولاً. نقول في تشذيب رأي هذين المفسّرين المسلمين أن الآية في صدد بيان كون النبيعیسی(علیه السّلام)حاله حال سائر البشر فهو يفارق الحياة، وليست في صدد بيان كيفيّة مفارقته الحياة.
4- قال - تعالى -: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيَّا ﴾ (سورة مريم، الآيات 12 إلى 15). ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (سورة مريم، الآيات 30 إلى 33).

وهذه الآيات؛ كما هو ظاهر في ألفاظها وتعابيرها، تشير إلى أن النبي عيسى(علیه السّلام)يذوق طعم الموت؛ حاله حال سائر البشر، لكنّها لم تذكر زمان حلوله ، وما إن كان قد حدث في الماضي أو سيحدث مستقبلًا.

مضافًا إلى ما ذُكِرَ لو قارنا بين سلام الله - تعالى - على يحيى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾ وسلام عيسى على نفسه: ﴿ وَالسَلَمُ عَلَى﴾، فالنتيجة المنطقية للمقارنة بين بقية مضمون الآيتين هي وجود اختلافٍ بين ولادة كلّ واحدٍ منهما، واختلاف موت عيسى عن يحيى وسائر البشر؛ فكلاهما ولد من لكنّ ولادة النبي عيسى(علیه السّلام)كانت خارجة عن القوانين الحاكمة على حياة البشر؛ لكونها حدثت بنفخ من الله -تعالى-، لذا ما الضير في كون موته - أيضًا مختلفًا عن موت النبي يحيى(علیه السّلام)وسائر البشر ؟!

ويتبنّى يوسف درّة الحدّاد رؤيةً إزاء هذه الآية تختلف عمّا ذهب إليه سائر المستشرقين فقد تطرّق إلى تفسير مضمونها بوصفه قسّيسًا ملتزمًا بتعاليم دينه المسيحي والمثير للدهشة أنّه طرح في بادئ الأمر مسألة أفضليّة النبي عيسى(علیه السّلام)على سائر الأنبياء والرسل، ثمّ تحدّث عن موته؛ وفي هذا السياق ادّعى أنّ السلام الذي ذُكِرَ بشأنه في ثلاث مراحل مختص به فقط، ولدى إثباته تأريخيّة صلبه قال إنّ القرآن أشار تصريحًا مرتين وتلميحًا مرّتين - أيضًا - إلى موته وقتله، قبل أن يشير إلى ذلك في سورة النساء.

وقول المسيح(علیه السّلام): ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ برأي الحدّاد يدلّ على موته وبعثه الحقيقيين؛ أي إنهما يشابهان مراد القرآن من الولادة في هذه الآية، أي التي تحققت على أرض الواقع؛ لذا فالإشارة إلى موته - هنا- تعني الموت الذي تحقق في واقع الحال بعد الولادة، والله -تعالى- هو الذي أنهى حياته؛ وهذا الأمر يشابه ما ذكره القرآن بشأن النبي يحيى.

إذًا، كما أن يحيى مات، فالمسيح مات -أيضًا- برأي يوسف درّة الحدّاد(1).

والردّ على هذا الاستدلال هو النقض ذاته الذي قرّرناه بالنسبة إلى ما ادعاه نيل روبنسون، فضلًا عن أنّ هذه الآية ليست بصدد بيان ما إنْ كان موت هذين النبيَّيْن حقيقيًّا أو مجازيًا، فغاية ما تدلّ عليه هو أنّهما يموتان كما يموت كلّ إنسان، أي من الممكن أن يموت المسيح بأيّ

ص: 132


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 332.

شكل كان؛ سواءً جرّاء صلبه - برأي يوسف درّة الحدّاد أو بعد ذلك، أو حتى في آخر الزمان وقبل وقوع القيامة الكبرى.

والسلامان المذكوران في الآيتين 15 و 33 من سورة مريم اعتبرهما الحدّاد حادثتين تأريخيّتين متشابهتين، فكما أنّ النبي يحيى(علیه السّلام)لم يتكلّم مع الناس بشكل مجازي، كذلك النبي عيسى(علیه السّلام)؛وكذا هو الحال بالنسبة إلى موت الأخير، فهو حقيقي قد حدث؛ وبالتالي ليس من المنتظر أنّه سيتحقق في آخر الزمان وقبل وقوع القيامة(1).

والسؤال الذي يُطرح على الحدّاد بخصوص ما ذكر؛ هو: هل إنّ موت النبي عيسى(علیه السّلام)في زمان لاحق لحادثة الصلب يُعدّ وازعًا لادعاء أنه موتُ غير حقيقي؟ لا ريب في أنّ هذا التفسير قائم على تكلّف واضح، وينمّ عن عمق تأثر قائله بالفرضيات الإيديولوجية المرتكزة في ذهنه، ومن ثمّ عدم تورّعه عن تحميلها على النصّ القرآني، حيث ادعى أن القول بعدم موت المسيح على الصليب يستلزم القول ببطلان نظريّة تكلّمه وهو في المهد؛ أي تكذيب معجزته؛ لأنّه حينما تكلّم وهو طفل أكد للقوم بكون الموت مصيره، لذا إنْ ادّعى أحد أنّ موته سيقع في آخر الزمان؛ فهذا يعني عبثية كلامه لمن حوله، فالناس ليسوا على علم بالزمان الذي سيعودون فيه(2).

لقد أكّدنا - آنفًا - على أنّ الآية ليست في مقام بيان طبيعة موت المسيح(علیه السّلام)و زمان وقوعه، فهي -فقط- بصدد بيان أنّه كسائر بني آدم؛ يولد، ويموت، ثم يبعث؛ كذلك هي ليست في مقام بيان كيفية ولادته، وموته، وبعثه، بل تؤكّد على أنّه أخبر الناس بعدم ألوهيته، وعدم بنوته لله عزّ وجلّ.

وقد أراد يوسف درّة الحدّاد من هذا الكلام إثبات عقيدة الصلب والبعث المسيحية من باطن الآية القرآنيّة، لكنّه لم يُفلح ولم يستطع إثبات المطلوب؛ وممّا قاله في هذا الصدد: «هذه الآية تعدّ شاهدًا صريحًا على حقيقة موت المسيح وبعثه بإعجاز، وهذا هو نفس المعتقد المرتكز في الفكر المسيحيّ »(3).

ص: 133


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 332.
2- راجع: م. ن، ص. ن.
3- راجع: م. ن، ص . ن.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية في الحقيقة تشير إلى بعث النبي عيسى(علیه السّلام)في عالم آخر، لا في الحياة الدنيا؛ كما يتصوّر المسيحيون، والآيات اللاحقة لها تؤيّد ذلك، وهو ما أكد عليه نيل روبنسون أيضًا؛ فالآية 37 من السورة ذاتها تطرّقت إلى الذين اختلفوا في المسيح وذكرت مصيرهم المشؤوم في يوم القيامة: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ یوم عظیم﴾، والآية 38 أكّدت على هذا المصير وحتميّة انجلاء الغبش عمّا اختلفوا فيه ومعرفته سمعًا ورؤيةً: ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّلِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينِ ﴾، والآية 39 طلب من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن ينذرهم من ذلك اليوم الذي لا رجعة لهم فيه؛ لكون الحكم الإلهي سيصدر بشأنهم حينه: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾.

والرأي الآخر الذي استنتجه الحدّاد من هذه الآية هو دلالتها على أفضلية المسيح(علیه السّلام)على سائر الأنبياء والمرسلين، وهذا الاستنتاج غير صائب طبعًا؛ لأنّ الآية 15 من السورة نفسها ذكرت السلام على النبي يحيى(علیه السّلام)بصيغة خبرية : ﴿ وَسَلَامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيَّا ﴾. كما هو واضح من ظاهر الآية؛ فالسلام فيها ذُكِرَ على لسان الله -عزّ وجلّ-، لا على لسان يحيى؛ كما هو الحال في سلام عيسى على نفسه، ومن هذا المنطلق يمكن اعتباره دليلا على مكانته الرفيعة التي تفوق مكانة عيسى عند الله، لذا لا صوابيّة لما ادّعاه الحدّاد(1).

2) الآية 17 من سورة المائدة:

ألقت مسألة تأريخيّة موت النبي عيسى(علیه السّلام)في العقيدة المسيحيّة، بظلالها على تفسير المستشرقين للآية 17 من سورة المائدة: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَهُ, وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

ويؤكد المستشرق غابريال سعيد رينولدز على أنّ صلب المسيح(علیه السّلام)يُعد من الحقائق التأريخيّة الثابتة التي لا شك ولا ترديد فيها، وعلى هذا الأساس فسّر الآية قائلًا: «هذه الآية تلوّح إلى أنّ موت النبي عيسى(علیه السّلام) كموت سائر البشر، أي أنّه بواسطة الله »(2).

ص: 134


1- راجع: أحمد عمران، القرآن والمسيحية في الميزان، لبنان، بیروت، منشورات الدار الإسلامية، الطبعة الأولى، 1995م، ص 446.
2- Reynolds, Ibid., p. 239

وارتكز رينولدز لدى تفسيره الآية على فكرة أن المسيح(علیه السّلام) مات مصلوباً، لذلك ادّعى أنّها تؤيد هذه العقيدة المسيحيّة؛ لكن يرد عليه أن استدلاله يتعارض مع السّياق الذي ذُكِرَت الآية في رحابه، ولا يتناغم مع الأصول اللغوية والنحوية الموجودة فيها، لذا لا صوابية لما قاله؛ وبالتالي لا صحة لادّعاء أنّها تؤيّد موت المسيح مصلوبًا.

وتؤكّد الآيات التي سبقت هذه الآية على ضرورة الوفاء بالعهد والميثاق(1)، وتشير إلى الميثاق الذي أخذه الله - سبحانه وتعالى- من بني إسرائيل، وكيف إنه وعدهم بأجر عظيم في ما لو التزموا بالأحكام الشرعيّة، لكنّهم إن لم يلتزموا سوف يطالهم عذاب أليم(2)، والآية 13 أشارت إلى نقضهم هذا الميثاق وتحريفهم كلام الله - تعالى -(3). وأمّا الآية 14 فقد ذكرت بالميثاق الذي أخذه الله -تعالى- من النصارى الذين لم يلتزموا به(4)، والآية 15 دعت أهل الكتاب إلى اتباع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(5)، بينما الآية 17 تم التأكيد فيها على أنّ أهل الكتاب تنصلوا -أيضًا - مما أقرّ لهم من معتقدات وسلكوا نهج الكفر بتأليههم المسيح(علیه السّلام)، حيث زعموا أنه ابن الله وثالث ثلاثة. وجدير بالذكر، أنّ تكرار لفظ الجلالة في هذه الآية أربع مرّاتٍ يدلّ على أن محورها الارتكازي هو التوحيد وتفنيد جميع أنماط الشرك.

وهناك دليلان ساقتهما الآية لتفنيد ألوهية المسيح عيسى(علیه السّلام)هما :

أ- هو ابن السيدة مريم(علیه السّلام)، والإله يجب والإ يجب ألا يكون ابنا.

إنّ هذه القاعدة الارتكازية يبطل على أساسها أمران؛ أحدهما: غلوّ المسيحيين المتطرفين الذين ألّهوا النبي عيسى(علیه السّلام)، والأخرى: تطرّف اليهود ومبالغتهم في اتهامه بأنّه ابن زنا.

ص: 135


1- قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (سورة المائدة، الآية 1).
2- قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسَرْائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِني مَعَكُمْ لَغْنِ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ (سورة المائدة، الآية12).
3- قال -تعالى-: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ فَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (سورة المائدة، الآية 13).
4- قال -تعالى-: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ (سورة المائدة، الآية 14).
5- قال -تعالى-: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ (سورة المائدة، الآية 15).

ب- المسيح وأمّه لا يملكان من الأمر شيئًا ومصيرهما الموت، وهما عبدان مملوكان لله عزّ وجلّ، فهو الذي خلقهما، لذلك لديهما قابليّاتٌ محدودةً، في حين أنّه -تبارك شأنه- مالك كلّ شيءٍ وخالقه، ولا حد لقدرته.

وكلمة "شَيئاً" في هذه الآية وردت بصيغة التنكير، وضمن سياق النفي في نهاية عبارة؛ بصيغة الاستفهام الإنكاري، وهذا الأسلوب يدلّ على أنّ الملك لله وحده ولا مالك غيره، وبما أنّ المسيح وأمّه لا يملكان من الأمر شيئًا ومصيرهما الموت لا محالة، فهما ليسا بإلهين، بل هما كسائر البشر؛ من حيث كونهما مفتقرين إلى ربِّ يحييهما ويميتهما متى ما شاء.

إذًا، هذه الآية بصدد بيان أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)خاضع للقانون العام الحاكم على البشر؛ ألا وهو الموت المحتوم؛ وهذا المصير إما أن يكون قد حلّ عليه بالفعل، أو أنه سيحلّ عليه آجلا، وفي كلا الحالتين يصدق عليه أنّه عُرضةً للموت.

قوله - تعالى -: ﴿ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ فيه تأكيد على نفي ألوهية النبي عيسى(علیه السّلام)واعتباره إنسانًا كسائر البشر.

بعد ذلك ذكر الله عزّ وجلّ بني آدم بأنّه قادر على أن يخلق كل شيء: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾؛ ما يعني نفي ألوهية هذا النبي أيضًا؛ وختمت الآية بقوله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ﴾؛ وهذا الكلام - أيضًا - يستبطن تأكيدًا على الأمر ذاته؛ وذلك ضمن بيان عدم محدودية قدرة الرب تبارك شأنه؛ إذا ليس هناك إله سوى الله -تعالى-، والألوهية ليست شأنًا لأيّ كائن كان - وبما في ذلك المسيح-، وفي الآية اللاحقة فنّد القرآن الكريم مزاعم اليهود والنصارى بعد أن تجرّأوا وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه(1).

وبعد هذا البيان، هناك سؤال هامٌ يُطرَح على غابريال سعيد رينولدز، وهو: أي عبارة من الآية المذكورة تدلّ على أنّ المسيح عيسى(علیه السّلام)قد مات في الماضي ؟ لا يختلف اثنان في أن غاية ما يدل عليه قوله -تعالى-: ﴿ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَهُ, وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ...﴾ هو التأكيد على عدم صلاحيّة النبي عيسى الله لأن يكون إلها، فلو كان كذلك حقًا؛

ص: 136


1- قال - تعالى -: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشْرَ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (سورة المائدة، الآية 18).

لما أمكن أن يحلّ عليه الموت؛ لكنّه في الواقع ليس سوى عبد لو أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يهلكه فهو لا يملك من الأمر شيئًا، ولا يمكنه الحيلولة دون هذا المصير المحتوم لكلّ إنسان؛ لكونه خاضعًا للمشيئة الإلهيّة؛ وعلى هذا الأساس نقول إنّ هذه العبارة لا تحكي مطلقًا عن موته في الماضي حينما صلب.

والمستشرق جفري بارندر هو أحد المستشرقين الذين اعتبروا هذه الآية ردا على نصارى نجران بهدف تفنيد معتقدهم في ألوهية عيسى بن مريم(علیه السّلام)، لكنه مع ذلك لم يتمكن من تجريد نفسه عن معتقداته المسيحيّة؛ الأمر الذي جعله يسلك ذات المسلك الذي اتبعه غابريل سعيد رينولدز ؛ لذلك فسّر الآية قائلاً: «الربّ لا يمكن أنْ يموت، في حين أن عيسى(علیه السّلام)مات، حيث يعتقد المسيحيّون أنه صلب، لذا يثبت أنّه إنسان كسائر البشر؛ لكونه مات حقًا؛ بحسب العقيدة المسيحيّة. المسيح ليس الله لأنّ الله قادر على إهلاكه لو شاء ذلك»(1). والجزء الأخير من هذا الكلام ينطبق - فقط - على مضمون الآية، بينما جزؤه الأوّل ليس سوى انعكاس لعقيدته المسيحيّة التي حملها على الآية، فهو في الحقيقة حمل رأيه على النص القرآني.

وجدير بالذكر أنّ نصارى نجران كانوا يعتبرون المسيح إلها، وقوله -تعالى-: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ فيه تأكيد على أنّ الله -عزّ وجلّ- قادر على إهلاك المسيح وأمه إن اقتضت مشيئته ذلك ، لذا لا صوابية لاستنتاج من استدلَّ بهذا المقطع من الآية للقول بأنّ المسيح قد مات في الماضي.

فالآية في صدد تغيير الرؤية المسيحيّة؛ عبر تعريف النبي عيسى(علیه السّلام)بأنه مجرد عبد من عباد الله -تعالى-، وليست في مقام بيان زمان موته، وقوله - تعالى -: ﴿وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ معطوف على - قوله-: ﴿الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَهُ﴾؛ حيث يراد منه إثبات أن المسيح وأمه من جنس البشر في شتّى أرجاء الأرض، إذ لا فرق بينهم في كونهم خلقوا من قِبَل الله -تعالى-(2).

ص: 137


1- Parrinder, p. 107
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 617.

3) الآية 75 من سورة المائدة :

غالبيّة المستشرقين يعتقدون بأنّ النبي عيسى(علیه السّلام)قد مات مصلوبًا، لذلك تشبّثوا بكلّ نص فيه إشارةً أو تلميح إلى موته؛ كي يستدلوا به لإثبات رأيهم هذا، وبما في ذلك الآية 75 من سورة المائدة ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَتِ ثُمَّ انظُر أَنَّى يُؤْفَكُون﴾.

وقال غابريال سعيد رينولدز إن عيسى بن مريم؛ طبقًا لهذه الآية مجرّد نبيَّ قد بُعِثَ قبله أنبياء آخرون وماتوا؛ ما يعني أنّه قد مات مثلهم﴾(1).

وكذلك حذا نيل روبنسون؛ حذو رينولدز، حيث قارن هذه الآية مع الآية 144 من سورة آل عمران(2)؛ ليستنتج من هذه المقارنة أن المسيح(علیه السّلام)قد مات في الماضي حقًّا، أي أن موته عبارة عن حدث تأريخي(3).

واتخذ جفري بارندر هو الآخر الآية ذريعةً لإثبات عقيدته المسيحيّة القائمة على أن المسيح(علیه السّلام)قد مات مصلوبًا، وبعد أن نقل كلامًا لريتشارد بيل، قال: «المسيح؛ استنادًا إلى مضمون هذه الآية، ليس سوى نبيَّ بُعِثَ قبله أنبياء آخرون ماتوا، وهو -أيضًا- قد مات مثلهم»(4).

ص: 138


1- Reynolds, Ibid., p. 239
2- قال - تعالى -: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين ﴾ (سورة آل عمران، الآية 144).
3- Cf. Robinson, Jesus", p. 239
4- Parrinder, p. 107. حينما تتبعنا مدوّنات ريتشارد بيل لم نجد فيها ما يؤيّد الرأي الذي استنتجه جفري بارندر منها، فالأخير لدى إثباته موت المسيح(علیه السّلام)في الماضي وتأريخية صلبه ذكر رأي بيل حول مضمون الآية 75 من سورة المائدة ونسب إليه القول بموت المسيح؛ في حين أن النص الذي راجعناه في هذا المضمار لا يتضمّن ما ادعاه، وهو كالتالي: "Jesus comes in a line of messengers who have passed away, i. e. he, like them was mortal". (Bell, Ibid., Vol.1, p.164) . على الرغم من وضوح هذا النص في دلالته إلا أنّ بارندر استنبط منه رأي بيل بهذا الشكل: "As he also passed away like them". Parrinder p. 107. لا شكّ في أنّ بارندر حرّف كلام بيل لتأييد الرأي الذي تبنّاه وإثبات تأريخية صلب المسيح عيسى(علیه السّلام)وموته مصلوبا.

وحينما نمعن النظر في تعابير الآية ونتابع السّياق الذي ذُكِرَت فيه، نستنتج عدم صوابية رأي من استدلّ على موت النبي عيسى(علیه السّلام)من مضمونها، فهناك ثلاث آيات قبلها أكدت على بطلان المعتقدات المسيحيّة في هذا الخصوص، وبيان ذلك في ما يلي:

أ- الآية 72 فنّدت زعم من ادّعى أنّ عيسى(علیه السّلام)ابن الله، وأكّدت على أنه مجرد عبد من عباده ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدِير ﴾. فعبارة: ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ واضحة الدلالة على أنه مخلوق لكونه ابنًا ولدته امرأة، والإله ليس كذلك.

ب - الآية 73: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَهُ وَمَا مِنْ إِلَه إِلَّا إِلَهُ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تحكي عن اعتقاد بعض النصارى بالتثليث، حيث فنّده القرآن الكريم وتوعدهم بعذاب أليم.

ج- الآية :74: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَةً وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ طالبتهم بالتوبة والاستغفار من هذه العقيدة الباطلة.

ومن ثمّ فالآية 75 أشارت إلى إحدى الخصائص البشريّة للمسيح عيسى بن مريم(علیه السّلام)،ورفضت زعم من ادّعى أنّه إله.

إذًا، هذه الآية في مقام تفنيد ألوهية النبي عيسى(علیه السّلام)والتأكيد على الطبيعة البشرية له ولأمه السيدة مريم(علیه السّلام)،فهو إنسان يموت؛ كما يموت البشر، لكن غاية ما في الأمر أنّه كان نبيًّا وأنّ أمّه كانت صديقةً عفيفةً.

والمسيح وأمّه مثل غيرهما من الناس، يأكلان الطعام، وبحاجة إلى ما يحتاجه سائر الناس؛ كي يبقيا على قيد الحياة، وقد نوّهت الآية على هذه الحقيقة بهدف تفنيد ألوهيته، ونقض كلّ عقيدة متطرّفة تجاهه وتجاه أمّه، ومن جملة ما قاله الزمخشري في هذا السّياق: «... ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ صفة لرسول؛ أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل

ص: 139

الذين خَلَوْا من قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حيةً تسعى وفلق بها البحر وطمس على يد موسى، وأن خلقه من غير ذَكَرٍ، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى.

﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)؛ أي وما أمه -أيضًا- إلا صديقةً؛ كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما: نبي، والآخر: صحابي؛ فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم، مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه؟

ثمّ صرّح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله: ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾؛ لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبًا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك؛ ما يدل على أنه مصنوع مؤلّفٌ مدبَّر كغيره من الأجسام»(1).

وختمت الآية بقوله تعالى : ﴿أنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون﴾. ومضمون هذا الكلام أنّ الله عزّ وجلّ - قدّم لهم أوضح الأدلة والبراهين؛ لتفنيد ألوهية المسيح(علیه السّلام)؛من ذلك : ما ذكره في الآية نفسها، فهو وأمه يأكلان الطعام، في حين أنّ الربّ غني عن كلّ شيءٍ، وليس بحاجة إلى أن يتغذّى مطلقًا، فكيف يمكن للعقل أن يؤمن بكون الإنسان المفتقر للطعام إلها ؟!

وأكّدت الآيات اللاحقة لهذه الآية هي الأخرى على أنّ الألوهية مختصة بالله -سبحانه وتعالى- ولا يمكن لأيّ كائن آخرَ نيل هذا المقام بتاتًا، لذا فالآية ليست في صدد بيان موت النبي عيسى(علیه السّلام)في الماضي، بل هدفها إثبات أنّه لا يختلف عن سائر الأنبياء والرسل؛ لكون مصيره المحتوم هو الموت، حيث حلّ عليهم الموت في نهاية حياتهم(2)؛وتؤكد الآية بصريح

ص: 140


1- محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_،ج1، ص 664.
2- كاتب مقالة (Trinity) في الموسوعة القرآنية (دائرة المعارف قرآن) والتي تتمحور حول هذا الموضوع، وصف هذه المجموعة من الآيات قائلًا: «الآية 73 من سورة المائدة تتضمن جانبًا من النقد الدائم والمتواصل لعقيدة تأليه المسيح عيسى، تلك العقيدة التي خصصت لها الآيات 72 إلى 75 من السورة ذاتها. انتقدت الآية 72 عقيدة وحدة الإله الأزلي مع الإنسان الذي هو ابن مريم، والآية 73 انتقدت عقيدة الشرك بألوهية الله، وهي في مقام بيان أنّ المسيحيين يعتقدون بألوهية أشخاص إلى جانب ألوهية الرب الحقيقي. لو أمعنا النظر في تفاصيل هذا الموضوع لاستنتجنا أنّ الإلهيّن المزعومين في الآيات 72 إلى 75 أحدهما عيسى والآخر أمه، حيث تم التأكيد فيها على طبيعتيهما البشرية المفتقرة لبعض الأمور، فالآية 72 صرّحت باتخاذه إلها والآية 75 أشارت إلى تأليه أمه». (ديفيد تومس، مدخل كلمة «تثليث»، دائرة المعارف قرآن (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات حكمت، الطبعة الثانية، 2014م ترجمة جليل بروين، تحرير الترجمة الفارسية حسين خندق آبادي وآخرون، ص 62-66

العبارة على أنّه من جنس البشر ولا ينبغي لأحدٍ تأليهه؛ وبالتالي ليس من الصواب بمكان الاستناد إليها لإثبات تأريخيّة موته؛ لأنّها في سياق بيان عدم كونه إلها. وأما قوله - تعالى -: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ لا يمكن الاستدلال منه إلا على كون موت المسيح(علیه السّلام)أمرًا ممكنًا لا مستحيلاً؛ إذ يراد منه ومن التأكيد على كونه ابنا ولد من رحم السيدة مريم(علیه السّلام)بأنهما كانا مفتقرين إلى الطعام. وقوله -تعالى-: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ يُراد منه تفنيد عقيدة تأليهه وأمه؛ بوصفهما بشرًا بحاجة إلى الطعام؛ كي يبقيا على قيد الحياة.

وبناءً على ما ذُكِرَ يبطل رأي رينولدز الذي ادعى على أساسه وجود نقص في تفسير المسلمين للنصّ القرآني وخلل في أسلوبهم التفسيري، بل هذا النقص يرد في الحقيقة على تفسيره وأسلوبه التفسيري؛ فقد زعم أنّ السبب في وقوع المفسّرين المسلمين في أخطاء تفسيريّة لدى بيانهم مدلول الآيتين 157 و 158 من سورة النساء يعود إلى رؤيتهم المحدودة وضيق نطاق أفقهم الفكري(1)، لكنّ هذه المؤاخذة ترد عليه؛ لكونه تجاهل سياق الآية 75 من سورة المائدة، وتبنّى رؤية محدودة وأسلوبًا تفسيريًا ضيّق النطاق، بعد أن استدلّ منها على ما يثبت مرتكزاته العقديّة المسيحيّة؛ أي تأريخية موت النبي عيسى(علیه السّلام)؛حينما علق على الصليب.

إنّ الاستنتاج الكلّيّ الذي يمكن تحصيله من الآيات التي تشير إلى موت النبي عيسى(علیه السّلام)في سورة النساء، فحواه محوريّة هذه الآيات حول نفي ألوهيته بأساليب متنوّعة، فتارةً تؤكّد على خضوعه للمشيئة الإلهيّة؛ بحيث لا يملك الخيار في حياته وموته ولا في حياة أمه وموتها، وتارةً أخرى تثبت عبوديته لله -تعالى- وتنفي عقيدة التثليث وتنهى عنها.

4) الآية 144 من سورة آل عمران وطبيعة ارتباطها بالآية 75 من سورة المائدة:

اعتبرت الآية 144 من سورة آل عمران هي الأخرى من قِبَل المستشرقين دليلًا يثبت تأريخيّة صلب المسيح وموته: ﴿ وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ أنقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ .

ص: 141


1- Reynolds, Ibid., p. 249.

ويقول غابريال سعيد رينولدز في تفسير هذه الآية إنّها نزلت بشأن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وتؤكد على بعثة أنبياء ورسل قبله والعبارة: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) في الآية 75 من سورة المائدة قد تكرّرت بذاتها في هذه الآية(1)؛ وأمّا نيل روبنسون فقد ادّعى أنّها تشير إلى موت النبي عيسى(علیه السّلام)(2).

ونستشفّ من استنتاجات هذين المستشرقين أنّهما تطرّقا إلى تفسير النص القرآني؛ وفقًا لمرتكزاتهما الاعتقادية المسيحيّة، وهو ما ثبت لنا في المباحث السابقة، حيث اتبعا النهج ذاته في تفسير العبارتين المشار إليهما، وتجدر الإشارة - هنا - إلى أنّ روبنسون اعتنق الإسلام دينا، لكنّه على الرغم من ذلك لم يتخلّ بالكامل عن خلفيّاته الدينية المسيحيّة في التعامل مع الآيات القرآنية.

وحينما نسلّط الضوء على مضمون الآية والسّياق المرتبط بها، يتبيّن لنا أنّ مراده -تعالى- من قوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ لا يتناسب مع ما طرحه رينولدز وروبنسون من تفسير، فهذه العبارة في كلا الآيتين لا تدلّ على ما ادّعاه الأوّل؛ بكونها تثبت موت النبي أو قتله، كذلك لا يمكن الاعتماد عليها لادّعاء صلب المسيح أو موته.

ونستشف من ظاهر الآية ومن واقع الحياة الاجتماعية بأسرها أن لا وجود لنبيّ بقي بين قومه إلى الأبد، ومن هذا المنطلق استدلّ بعض المفسّرين المسلمين من ظاهرها على موت جميع الأنبياء(3)؛ إلا أنّ المسألة التي تُطرح في رحابها؛ فحواها أنّ كلمة ﴿خَلَتْ﴾ لا تعني الموت فهي مشتقة من الخلوّ الذي يعني الانتهاء والمضي ومرور الزمان، والموت ليس ملازمًا لهذا المعنى(4).أضف إلى ذلك فحرف التعريف "ال_" في كلمة ﴿الرُّسُلُ﴾ ليس للاستغراق، بل للجنس؛ لكون الاستغراق ليس له ارتباط بالمطلوب إثباته - هنا- والآية في صدد بيان وجود أنبياء قبل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)قد ولى عهدهم؛ وذلك لأنّ دين الله ليس قائماً على أشخاص؛ وكما ذكرنا - آنفًا- فهذه العبارة بذاتها ذُكِرَت في الآية 75 من سورة المائدة، لذا إن قيل: أنّ "ال_" في هذه الآية للاستغراق، فلا محيص من تفسيرها؛ كما يلي: قد خلت الرسل جميعًا قبل المسيح، وسوف لن يُبعث نبي بعده.

ص: 142


1- Ibid., p. 239
2- Robinson, Ibid., p. 18.
3- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، لبنان، بیروت، منشورات دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، ج 2، ص 606 أحمد مصطفى المراغي، تفسير المراغي، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، ج 4، ص 87.
4- للاطلاع أكثر، راجع: حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، لبنان، بيروت، القاهرة، لندن، منشورات دار الكتب العلمية -مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، الطبعة الثالثة، 1430ه_ مدخل كلمة «خلو».

إذَا، هذه الآية لا تتعارض مع القول بكون بعض الأنبياء أحياء، وذلك لما يلي:

أ- أنّها تشير إلى أنّ الأنبياء قد رحلوا من بين أقوامهم، لذا فهي تعمّ من مات منهم ومن يحتمل بقاؤه حيًّا، لكنّه ليس بين قومه.

ب- حتّى لو افترضنا أنّ كلمة ﴿خَلَتْ﴾ يراد منها الموت، أو قلنا إنّ القرآن الكريم قد صرّح في موضع آخر بموت جميع الأنبياء؛ ففي هذه الحالة يمكن استثناء أحدهم أو حتى بعضهم من ذلك.

ومن البديهي أنّ استثناء شخصٍ أو عدة أشخاص من أحد الألفاظ العامّة لا يُعدّ سببًا لنقض دلالة هذا اللفظ؛ ما دام غير مؤثر في تغيير المعنى العام لهذا اللفظ، وهذه الحالة نلمسها جليّةً في اللغة العربيّة ومختلف الحوارات الشائعة بين البشر، إذ إنّ المفهوم الشامل الذي يجري على الألسن -غالبًا- ما تخرج من نطاق مدلوله مصاديق عدّة، بوصفه حكمًا عامًا.

ونستنتج من هذا التقرير الموجز أنّ كلمة ﴿خَلَتْ﴾ في الآية قد تدلّ على موت جميع السالفين باستثناء واحدٍ أو أكثر، وهذه الدلالة لا تنمّ عن أي تناقض مطلقًا؛ لكونها تستبطن حكمًا عاما قوامه أنّ الغالبية العظمى من الأنبياء قد ماتوا؛ وهذا المعنى متعارف في اللغة وشائع في الحوارات العرفية قاطبةً، وكما هو معلوم فالقرآن الكريم اتبع الأسلوب العرقي العربي في الخطاب.

-ج- حتّى وإنْ اعتبرنا كلمة ﴿خَلَتْ﴾ في الآية تدلّ على الموت، فهذا المعنى لا يُعدّ تأييدًا لما ادعاه رينولدز وروبنسون، إذ نستفيد من مضمون الآية في هذه الحالة أنّها في مقام نفي استحالة موت الأنبياء، وهذا الأمر قطعًا يصدق على النبي عيسى أيضًا؛ وعلى هذا الأساس يكون معناه أنّ الله اختاره للنبوّة ، وقد خلا من قبله أنبياء أتموا رسالاتهم وماتوا وبعضهم قتلوا، ومحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و كسائر الأنبياء السابقين؛ لكونه سيموت، فالموت ليس مستحيلا بالنسبة إليه(1).

إذًا موضوع الآية يتمحور - فقط - حول بيان عدم استحالة موت الأنبياء، وهي ليست في مقام الاستدلال على موتهم؛ بالاضافة إلى أنّها في سياق تلك الآيات التي تطرقت إلى الحديث عن موقعة أحد والأحداث التي رافقتها، ولا سيما تزعزع المسلمين، حيث أنبتهم على موقفهم

ص: 143


1- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 2، ص850.

هذا ، وأكدت لهم بأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و رسول وواسطة يبلغهم دين الله -تعالى- وعلى غرار سائر الأنبياء والمرسلين السابقين الذين بعثوا وانتهى عهدهم؛ لذا لا ينبغي لهم التزعزع عن دينهم في ما لو مات أو قتل.

والآية لا تقصد مطلقًا إثبات ما إنْ كان الأنبياء السابقون قد ماتوا جميعًا أو لا، ولا يراد منها التأكيد على رفع بعضهم إلى السماء؛ مثل: إلياس، وعيسى(علیه السّلام)،وعلى هذا الأساس لا صوابية للاستدلال المطروح من قبل رينولدز وروبنسون، إذ لا يمكن الاستدلال منها على موت المسيح(علیه السّلام)في الماضي؛ بداعي شمولها له ضمن إشارتها إلى موت جميع الأنبياء الذين سبقوه.

5) الآية 54 من سورة آل عمران :

ونص الآية 54 من سورة آل عمران هو: ﴿ و وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ ﴾.وقد تطرّقنا في المباحث الآنفة إلى ذِكْر آراء بعض المستشرقين في تفسير هذه الآية(1)، لذا، نكتفي -هنا- بذكر سائر آرائهم في هذا الصدد.

وقد أكّدنا أيضًا على أنّ يوسف درّة الحدّاد يتمسّك بكلّ ما من شأنه إثبات تأريخية صلب المسيح(علیه السّلام)وقتله، لذا ادعى أن مضمون هذه الآية يوحي بذلك، ومما قاله تأييدا لرأيه هذا نستشف من سياق الآيات 54 إلى 56 من سورة آل عمران أنّ اليهود قد مكروا بالمسيح وقتلوه، لكنّ الله مكر بهم، فأماته، ورفعه إلى السماء، فهو خير الماكرين»(2).

وجدير بالذكر أنّ قراءة هذا المستشرق للآية تتعارض بالكامل مع القراءة المطروحة من قِبَل المفسّرين المسلمين، حيث اعتبروا مكر الله -تعالى- يتمثل في إحباط مساعي اليهود الرامية إلى قتل النبي عيسى(علیه السّلام)وصلبه، ومن ثمّ إنقاذه من براثنهم، فهو كسائر الأنبياء السابقين قد واجه عداءً من قومه، حيث تعاملوا معه بقسوة وضغينة؛ كما أنّه سار على نهج أسلافه الأنبياء، والتجأ إلى الله؛ حينما واجه كيدهم، فوقاه -تعالى- هذا الكيد؛ بعزّته وحكمته؛ لأنّه أشدّ مكرًا منهم، وبمكره هذا أنقذه من كيدهم، وبشّره بما هو خير له.

والبشارة - هنا - هي رفعه إليه أو قبض روحه بموت طبيعي، دون قتل أو صلب، ثمّ رفعه

ص: 144


1- ذكرنا في المباحث السابقة بعض الآراء التفسيرية الاستشراقية؛ وبالأخص ما طرح من قبل غابريال سعيد رينولدز، ونيل روبنسون، بخصوص مدلول هذه الآية، وذلك ضمن بيان مدلول كلمة "إذ" في الآية 55 من سورة آل عمران.
2- يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 334.

إلى السماء، وقد وصفت الآية مكر الله بأنه خير من مكر الكافرين، وقد تحقق هنا- في مقابل مکر آخر، ضمن أسلوب غير متعارف؛ ومن أمثلته: خروج النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)خفية من مكة ولجوئه إلى الغار، حيث أمر الله - تعالى - حمامةً بأن تجعل عشها على باب هذا الغار؛ كي يموه على المشركين؛ ومن أمثلته الأخرى: أصحاب الكهف الذين جعلهم يغطون بنوم عميق؛ كي يحفظهم من كيد أعدائهم.

ويوحي مكر الله - تعالى - في هذه الآية بتحقق وعد قطعه للنبي عيسى(علیه السّلام)في الآية 55 من السورة ذاتها، حيث وعده بأن يتوفاه ويرفعه إليه؛ حفظا له من مكر الكافرين؛ وقد تحقق ذلك بالفعل؛ بحيث لم يُقتَل ونجا من الصلب.

إذَا، كلام يوسف درّة الحدّاد باطل؛ لأنّ اليهود مكروا بالمسيح(علیه السّلام)؛لأجل أن يقتلوه، وعلى هذا الأساس، فإنّ مقتضى مكر الله -الذي هو في مقابل مكرهم - هو دحض مكرهم والحيلولة دون تحقيق أهدافهم؛ وفي غير هذه الحالة لا موضوعيّة لمكر الله هنا، إذ لو قتل المسيح حقا فما الفائدة منه ؟! هذه الآية تنمّ بمضمونها عن معارضة الناس للنبي عيسى(علیه السّلام)، وتحكي عن الإرادة الإلهيّة التي شاءت ألّا يطاله أذًى من جانب أعدائه.

6) الآيتان 87 من سورة البقرة و 183 من سورة آل عمران:

يوسف درّة الحدّاد هو الباحث الوحيد الذي استند إلى هاتين الآيتين لإثبات صلب المسيح(علیه السّلام)، وكما هو واضح من كتاباته، فقد طرح الكثير من الاستنتاجات الجزئية من الآيات القرآنيّة، إلا أنّ ما استنتجه من هاتين الآيتين يختلف بالكامل عمّا طرحه سابقًا، بعد أنْ بالغ في تجاهل سياقهما واتّكأ على مرتكزاته الذهنية والعقدية إلى أقصى حد؛ لدرجة أنّه حمل رأيه على القرآن الكريم بشكل صريح.

قال -تعالى- في سورة البقرة: ﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ، بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكَلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾(1).

وقال في سورة آل عمران: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى

ص: 145


1- سورة البقرة، الآية 87.

يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾(1).

وتوصَّل الحدّاد، على ضوء سعيه لإثبات معتقداته المترسخة في ذهنه وقوامها تأريخية صلب النبي عيسى(علیه السّلام)وموته وهو على الصليب، إلى استنتاج غير مألوف لدى تفسيره الآية 87 من سورة البقرة، حيث قال: «التقابل المطروح في هذه الآية حول موسی و عیسی نتیجته واضحةً، فالناس كذبوا موسى وقتلوا عيسى، إذ لم تذكر سواهما؛ وقوله: ﴿وَقَفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ يُراد منه إثبات وجود ارتباط بينهما. إذًا ، الآية تشير إلى مقتل عيسى»(2).

ثمّ صنّف الأنبياء بحسب مضمون هذه الآية إلى صنفين؛ هما:

أ- الأنبياء الذين كذَّب الناس نبوّتهم دون أن يقتلوهم.

ب- الأنبياء الذين قتلهم الناس بعد أن كذَّبوا نبوّتهم.

وأشار إلى أنّ الصنف الثاني عددهم قليل، ومن جملتهم - بحسب زعمه- عيسى ويحيى وزكريا(3)، وقد تصوّر صوابيّة قراءته للآيات القرآنية بكل ثقة وطمأنينة؛ لدرجة أنه اعتبر الآية 183 من سورة آل عمران أدلّ آيةٍ على مقتل المسيح(علیه السّلام)(4)، لذلك صرح قائلاً: «قطع الله ميثاقًا مع اليهود في التوراة بواسطة موسى فحواه تقديم قربان من المواشي، وكلّ أنبياء الكتاب كانوا على شريعته؛ ويفيد المدلول القرآني أنّ المسيح هو النبي الوحيد الذي جاء بأدلّةٍ واضحة (بيناتٍ) وبالمائدة التي هي (القربان)؛[إذا عيسى(علیه السّلام)هو المقصود من قوله ﴿يَأْتِيَنَا بِقُربان﴾]، لذا فهو النبي الذي قتلوه. وذكر كلمة [رسُول] في الآية بصيغتها العامة المطلقة للدلالة على مصداق خاص، هو أحد الأساليب المتبعة في اللغة العربية والنص القرآني. إذًا، الآية تشير إلى مقتل المسيح»(5).

وجدير بالذكر -هنا- أنّ الأسلوب الذي اتبعه في تفسير الآية 87 من سورة البقرة يوحي

ص: 146


1- يوسف درة الحدّاد، مدخل الى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 212.
2- سورة آل عمران، الآية 183
3- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 334؛ يوسف درة الحداد، مدخل الى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 212. راجع أيضاً، أحمد ،عمران القرآن والمسيحية في الميزان، لبنان، بيروت، منشورات الدار الإسلامية، الطبعة الأولى، 1995م، ص 452.
4- للاطلاع أكثر ، راجع المصادر في الهامش السابق.
5- يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 213

بأنه تجاهل بعض تعابيرها؛ أي أنّه لم يكترث بدلالة عبارة: ﴿وَقَفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾، وكلمة ﴿وَفَرِيقًا﴾، والفعل ﴿ونَقْتُلُونَ﴾.

ويعاتب الله -تبارك شأنه - بني إسرائيل في هذه الآية، ومن هذا المنطلق يذكرهم بإيتاء نبيهم

موسى(علیه السّلام)الكتاب وإرسال الأنبياء لهم بعده؛ واحدًا تلو الآخر: ﴿وَقَفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ، بِالرُّسُلِ﴾ وهذا التوالي في بعثة الأنبياء يُعدّ حجّةً عليهم؛ كي لا يتذرّعوا بعدم وجود نبيَّ بينهم، فيقطعوا ارتباطهم بعالم الغيب، وقد أشير في آيات أخرى إلى أسماء عددٍ من هؤلاء الأنبياء الذين تلوا موسى او سبقوا عيسى(علیه السّلام)مثل: داوود، و سليمان ،وإلياس، واليسع ، وذي الكفل، ويونس ،وزكريا، ويحيى؛ فكلّهم كانوا مرسلين إلى أقوامهم، وعملوا بتعاليم التوراة.

وبعد أن لمحت الآية إلى هؤلاء الأنبياء، ذكرت النبي عيسى(علیه السّلام)؛بوصفه آخر حلقة في سلسلتهم، وقد أكّدت على أنّه جاء ببيناتٍ لقومه، وبشريعة مستقلة عن شرائعهم، فضلًا عن أنّ الله - عزّ وجلّ - أيّده بروح القدس؛ ثمّ وضّحت الأسلوب الذي اتبعه بنو إسرائيل في التعامل مع أنبيائهم، حيث أكدت على أنّهم كانوا يكذبونهم ويتمرّدون عليهم أو حتّى يقتلونهم عندما يأمرونهم بما لا يعجبهم : ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾.

ونستشف من كلمة "فَريقاً" في الآية أنّ بني إسرائيل قد ارتكبوا أفعالا شنيعةً؛ من تكذيب، وقتل بحق عددٍ من الأنبياء الذين بعثوا لهم، إلا أنّ يوسف درّة الحداد استنتج من الآية ما يتناغم مع مشاربه الفكريّة، دون أن يستند إلى أيّ دليل يذكر، حيث فسّر هذه الكلمة؛ وكأنّها تشير إلى صيغة المفرد؛ في حين أنّ المضارع ﴿نَقْتُلُونَ﴾ يحكي عن المعنى الظاهر والحقيقي لهذه الكلمة، لذلك لم يقل (قتلتموهم)؛ وكما هو ثابت في علم اللغة فالفعل المضارع يفيد الاستمرار والدوام؛ ما يعني استمرار العمل الشنيع الذي ارتكبه بنو إسرائيل وداومه بشكل مكرّرٍ إزاء كلّ نبيَّ يُبعث إليهم(1).

وتأريخ اليهود حافل بقتل الأنبياء، وهذه الظاهرة الذميمة كانت عادةً لهم على مرّ التأريخ، لكنّها بلغت الذروة خلال القرون الأربعة عشر الواقعة بين عهدي موسى(علیهما السّلام)،

ص: 147


1- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الأعلى الموسوي السبزواري، مواهب الرحمان في تفسير القرآن، لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة أهل البيت(علیهم السّلام)الطبعة الثانية 1409ه_، ج 1، ص 321.

وكلمة "رسول" ذُكِرَت في الآية بصيغة التنكير؛ بهدف بيان الأسلوب الذي اتّبعه هؤلاء في التعامل مع تعاليم الأنبياء، لذا فهي ليست لفظا عاما أُريد منه الخاص.

وكذلك تكرار كلمة "فَريقاً" مرّتين يدلّ على أن سلوكهم القبيح إزاء رسالات السماء لم يكن يقتصر على أحد الأنبياء فحسب، كما أنّ تقدّمها؛ باعتبارها مفعولا به للفعلين "كَذَّبتم" و ﴿تَقْتُلُونَ﴾ يشير إلى بلوغهم الذروة في التمرّد والطغيان ضدّ الأنبياء الذين عبّرت عنهم الآية ب_"الرُّسل"، ولم تذكر إلا أسماء عددٍ قليل منهم؛ ما يعني أنّ البنية اللغوية في قوله -تعالى-: ﴿فَفَرِيقًا كَذَبْتُمْ وَفَرِيقًا نَقْتُلُونَ﴾ يُراد منها بيان أن بني إسرائيل لم يتعاملوا مع الأنبياء إلا بالتكذيب والقتل، لذا لم يكن لهم أيّ شأن عند هؤلاء القوم(1).

إذًا، لا يمكن الاستدلال من هذه الآية إلا على أنّ اليهود كانوا قتلة للأنبياء ومكذبين لهم، أي أنّها تثبت أسلوبهم البشع هذا في التعامل مع أنبياء الله - تعالى - على مرّ العصور، لكنّها لم تذكر أسماء من قُتِل منهم؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية 157 من سورة النساء تؤكّد على - فشلهم في قتل النبي عيسى(علیه السّلام)وصلبه، لذا فما ادعاه الحدّاد بكون المسيح من زمرة الذين قتلهم اليهود - الفئة الثانية في الآية هو زعم بلا دليل، ومن المؤكد أنه قائم على مرتكزاته الإيديولوجيّة والمبادئ اللاهوتية التي يتبناها.

وربّما يكون أسلوب الخطاب القرآني الموجّه إلى اليهود في كلمة "تقتلونَ" هو أحد الأسباب التي دعته لأن يطرح تفسير كهذا للآية، لكنْ إنْ أمعنا النظر في الآية ومفرداتها -كما ذكرنا آنفًا-، سوف يتّضح لنا أنّ القرآن الكريم - هنا في مقام بيان دأب اليهود وأسلوبهم الثابت ورذائلهم الأخلاقيّة في التعامل مع الأنبياء الذين بُعِثُوا إليهم، وهي لا تشير مطلقًا إلى مقتل النبي عيسى(علیه السّلام)من قبلهم.

ولنقض ما ادّعاه بخصوص الآية 183 من سورة آل عمران وزعمه تصريحها بمقتل المسيح(علیه السّلام)، وكذلك سائر ما طرحه في تفسير مختلف عباراتها؛ ينبغي لنا أوّلًا بيان المقصود من قوله - تعالى - : ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانِ﴾ ، وتحديد الهدف من قوله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا ﴾،

ص: 148


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج1، ص 581؛هاشم بن سليمان البحراني، البرهان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات مؤسسة بعثت، 1416ه_ ،ج1، ص 270؛عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية) إيران، قم، منشورات إسراء، الطبعة الثالثة، 2002م ،و 2014م، ج 5، ص 456 - 459.

وَبِالَّذِى قُلْتُمْ ، ثمّ التطرّق إلى مضمون كلمة لِرَسُولٍ﴾، ثم قوله - تعالى -: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي﴾، والمراد من عبارة: ﴿بِالْبَيِّنَتِ﴾.

أ- كلمة "قُرْبان" تعني النعمة أو الشيء الذي يُقدَّم إلى مَنْ له مقام أعلى، حيث يراد منه التقرّب إلى هذا المقام(1)؛ أو أنّه يعني كلّ فعل فيه خير يوجب التقرّب إلى الله -سبحانه وتعالى-.

وهذه الكلمة في الخطاب العرفي تعني الذبيحة أو النسيكة التي يتم تقديمها في عيد الأضحى(2).

إذَا، ما الدليل الذي استند إليه يوسف درّة الحدّاد ليدعي أن قوله - تعالى -: ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانِ﴾ يدلّ على قربان المائدة؟ مضمون الآية التي وردت فيها هذه العبارة هو في الواقع استمرار لبيان خصائص الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة(3).

ب- عبارة ( الَّذِينَ قَالُوا﴾ في محلّ بدل أو عطف بيان لعبارة ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ في الآية 181 ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرُ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(182)﴾(4)، كما هو واضح في هذه الآية؛ فهي تؤكّد على بطلان مزاعم اليهود بكون الله - تعالى - فقيراً، وتثبت خلاف ذلك، ثمّ تشير إلى فعلهم القبيح المتمثل بقتل الأنبياء؛ والآية 183هی الأخرى ذكرت إحدى الحجج التي تذرّعوا بها، أي إنّهم - وفقًا لما عاهدهم الله به لا يؤمنون بأي نبيَّ؛ إلا حين يأتيهم بمعجزة على هيئة قربان تأكله النار. ويمكن إثبات هذا الأمر على ضوء عطف عبارة ﴿وَبِالَّذِى قُلْتُمْ﴾ على "الْبَيِّنَاتِ"؛ فهو عطف يدلّ على ذِكْر الخاص بعد العام.

ج- عبارة ﴿تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾هي قرينةٌ أخرى تدلّ على ما أراده اليهود من معجزة على هيئة قربان، حيث طلبوا ذلك من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذا فالمقصود من كلمة "قُربان" - هنا - هو القيام

ص: 149


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 189.
2- راجع: حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقیق عدنان داوودي، لبنان، بيروت، منشورات دار القلم، الطبعة الأولى، 1402ه_ كلمة «قرب».
3- راجع: سورة آل عمران، الآيتان 181-182
4- سورة: آل عمران ،الآيتان 181-182.

بعمل إعجازي يتمثل بذبيح تأكله النار، وهذا الإعجاز بمثابة عهد إلهي، لذا يجب على الذين طلبوا ذلك أن يؤمنوا بالنبي الذي يأتيهم ،به لكنّ اليهود خالفوا هذا العهد ولم يؤمنوا؛ ومن هذا المنطلق جاء الاستفسار في الآية: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ﴾؟

إذَا، ما السبب الذي دعا الحدّاد لادّعاء أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)هو المقصود في هذه الآية، على الرغم من كلّ هذا الوضوح في دلالتها؟!وهو لم يكتف بذلك، بل بالغ أكثر وأكد على أنّه النبي الوحيد الذي تقصده الآية لا غير! فكيف يمكنه تبرير كلّ تلك المعاني والمداليل الموجودة في الآية في قوله - تعالى -: ﴿لِرَسُولٍ﴾و﴿جَاءَكُمْ رُسُلٌ﴾، و﴿قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ ؟! فهل يمكن ادّعاء أنّ هذه التعابير تشير إلى صيغة المفرد؛ مع وضوحها في الجمع والشمول ؟! أو هل يمكن زعم أنّها يمكن أن تخصّص لفرد واحد لا غير ؟!

وعبارة "بِالْبَيِّنَاتِ" هي الأخرى اتخذها ذريعةً لإثبات رأيه، حيث ادعى أن المسيح(علیه السّلام)هو النبي الوحيد الذي جاء ببراهينَ بيّنةٍ وبقربان تمثل بالمائدة؛ لكن الواقع على خلاف هذا المدعى، فالقرآن الكريم لم يصرّح بكونه النبيّ الوحيد الذي جاء بالبينات.

والبينة تعني الدليل العقلي أو الحسّي الواضح(1)؛ وهي شاهد على صدق رسالة النبي، والمعجزة تعدّ أحد مصاديقها(2)؛ لذا ليس هناك ما يدعو لتخصيص كلمة "البينات" في الآية بالنبي عيسى(علیه السّلام)؛فضلا عن ذلك لو كان مقصود يوسف درّة الحدّاد من المائدة هو المائدة ذاتها المذكورة في القرآن الكريم، لا التي أشار إليها المستشرقون في تفاسيرهم والمستوحاة من

ص: 150


1- راجع: حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني) مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان داوودي،لبنان، بيروت، منشورات دار القلم، الطبعة ،الأولى، 1402ه_، الجذر اللغوي «ب ي ن».
2-

تعاليم الكتاب المقدّس(1)؛ فهي في الحقيقة مائدةٌ طلبها الحواريون من المسيح(2)، لا اليهود الذين اشترطوا في إيمانهم بالأنبياء أنْ يأتوهم بقرابين والطريف أنّهم لم يلتزموا بهذا الشرط؛ بحيث كفروا بأنبيائهم على الرغم من تنفيذ ما طلبوه منهم.

وبحسب القرائن الموجودة في سائر الآيات المرتبطة بالموضوع، فالمائدة(3)التي طلبها الحواريون من المسيح ليست قربانًا تأكله النار ، بل مائدة طعام؛ كما تفيد مضامين هذه الآيات أنّها معجزة تختلف عن سائر المعاجز الإلهيّة، فهي فريدة من نوعها وغير مسبوقة، إذ جاء بها المسيح؛ استجابةً لطلب غير ضروري تقدّم به الحواريون، وقد دعا الله -تعالى- بأن يجعلها عيدًا له ولأتباعه والله بدوره استجاب له؛ بشرط أن يعذِّب الذين يكفرون بها عذابًا لا يطال غيرهم من العالمين: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَلَمِينَ﴾(4).

ونستشف من الآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن المائدة أنّ الحواريين كان لديهم إيمان راسخ بالمسيح(علیه السّلام)، لكنّهم طلبوا منه أن يسأل الله -تعالى- إنزال مائدة من السماء؛ لكي يزدادوا إيمانًا، لذا لا يمكن اعتبار هذه المعجزة درءًا للتشكيك بنبوّته، وإنّما يراد منها تحقيق يقين أكثر وبلوغ مراتب أعلى من الإيمان وطمأنينة القلب(5).

والمسألة الأخرى التي يمكن طرحها في نقض ما ذهب إليه الحدّاد، هي العموم الموجود مدلول كلمة "لِرَسولِ"، والآية اللاحقة تؤيّد هذا الأمر؛ عبر تعميمها كلمتَيْ "بينات"

ص: 151


1- للاطلاع أكثر، راجع: نيل روبنسون، مقالةٌ باللغة الفارسية بعنوان: «عیسی در قرآن عيساي تاريخي واسطوره تجسد»، ترجمها إلى الفارسية محمّد كاظم شاكر ، نشرت في مجلة "هفت" "آسمان"، العدد ،24 شتاء 2004م، ص 158 - 164.
2- الآيات التي أشارت إلى هذا الأمر هي: ﴿إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ * قَالُوا نُريدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مَائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. سورة المائدة، الآيات 112 - 114.
3- كلمة "مائدة" مشتقة من «ميد»، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كاضطراب الأرض.... والمائدة هي الطبق الذي يوضع عليه الطعام، ويقال لكلّ واحدة منهما مائدة . (حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان داوودي ،لبنان بيروت، منشورات دار القلم، الطبعة الأولى 1402ه_ الجذر اللغوي «م ي د». راجع أيضاً : (محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، لبنان ،بیروت، منشورات دار صادر، الطبعة الثالثة 1414ه_، كلمة "ميد").
4- سورة المائدة، الآية 115
5- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 224.

و"رُسُل"، وهي قوله -تعالى-: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُو بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَبِ الْمُنِيرِ﴾(1).

كما أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)ليس هو المقصود -فقط- من عبارة "لرسول"، وفقًا لما ادّعاه الحدّاد، فكلمة "رُسُل" لا تدلّ على الجمع هنا، ولا يراد منها المرسلون جميعًا، بل المراد هو التكذيب بنبوّة النبي موسى(علیه السّلام)فقط، في حين أنّ هذا الكلام باطل ولا مسوّغ له، والحداد نفسه لا يمكنه ادعاء ذلك، ولم يدعه.

واللافت للنظر أن عبارة "بِالْبَيِّنَاتِ" ذُكِرَت في هذه الآية - أيضًا -: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاهُ و بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَبِ الْمُنِيرِ﴾ لكن الموضوع المطروح فيها هو تكذيب الأنبياء فقط.

ويبدو أنّ الحدّاد لو التزم جانب الحياد، وتجرّد عن معتقداته المسيحية، وتخلّى عن فكرة قتل المسيح مصلوبا حين تفسيره مضمون هذه الآية، فهو بكل تأكيد لا يطرح استنتاج كهذا، ولا يتكلّف في بيان مدلولها، إذ إنّها تتمحور حول بيان الظاهرة الشائعة التي شهدها التأريخ اليهودي في تكذيب الأنبياء وقتلهم، والله - عزّ وجلّ - أراد من ذِكْر هذه الحقيقة مواساة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و إزاء ما يواجهه من مشقّة في تبليغ رسالته؛ وكأنّه يخاطبه قائلا: لا تحزن، إنّ هؤلاء كذَّبوا الأنبياء الذين بعثتهم قبلك؛ على الرغم من بيناتهم ومواعظهم وكتبهم السماوية.

وكما هو معلوم، فالمواساة تتحقق عبر ذِكْر نماذج عديدةٍ، لا أنموذج واحد، وهذا ما يصدق على العادة المعهودة لدى اليهود طوال قرون متمادية وفي شتّى المناسبات ومختلف الأحداث، لا في مناسبةٍ واحدةٍ؛ مثل: حادثة قتل المسيح وصلبه التي فنّدها القرآن الكريم بصريح العبارة.

فهل هناك مسوّغ يتيح لنا الخروج عن القواعد اللغوية الثابتة، واعتبار كل تلك الكلمات والتعابير، التي ذُكِرَت بصيغة الجمع ضمن الآيات 181 إلى 184 من سورة آل عمران، مفردةً وذات دلالةٍ خاصّةٍ ؟! لا يوجد أي دليل يسوّغ لنا الخروج عن القواعد اللغوية والأدبية الثابتة، والدليل الوحيد الذي استند إليه الحدّاد في ادّعائه هذا هو فهمه الخاطئ لكلمة "قربان".

ص: 152


1- سورة آل عمران، الآية 184.

وجدير بالذكر أن القرآن الكريم حينما أشار إلى اشتراط اليهود بأن يأتيهم النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بقربان، اعترض عليهم بأنّ الأنبياء السابقين جاؤوا ببينات وقرابين لأسلافهم، لكنّهم قتلوهم، وهذا ما حدث في الواقع ليحيى ، وزكريا(علیه السّلام)،و كذلك أرادوا قتل عيسى(علیه السّلام)، لكنهم فشلوا لذا رفض خاتم الأنبياء طلبهم هذا.

لذا، فالآية في صدد بيان أنّ طلب اليهود لم يكن بداعي البحث عن الحقيقة، ومن منطلق السعي لاتِّباع الحقِّ إنْ ثبت لهم من قِبَل النبي ، بل هو مجرّد ذريعة، وينم عن عناد ولجاجة، حيث كانوا في كلّ يومٍ يتقدمون بطلب جديد، لذا حتى لو استجاب لهم النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،فهم قطعًا لم يكونوا ليؤمنوا بنبوّته، على الرغم من أنّهم اطلعوا على جميع صفاته في كتبهم، لكنّهم لم يؤمنوا به.

إذَا، الآية في صدد بيان أنّ الأنبياء استجابوا لما طلبه بنو إسرائيل منهم، لكنّهم مع ذلك كُذَّبوا وقُتِلوا، لذا هناك سؤال يطرح نفسه على يوسف درّة الحدّاد، وهو: ما الدليل الذي استند إليه في ادّعاء أنّ المسيح(علیه السّلام)هو المقصود من هذه الآية؟ لقد قتل الكثير من الأنبياء على يد اليهود؛ مثل: زكريا، ويحيى، وأشعيا وأرميا، إلا أنّ القرآن الكريم لم يقل إنّ المسيح من ضمنهم؛ ما يعني أنّ الآية لا تنطبق عليه بتاتًا.

7) الآية 50 من سورة المؤمنون:

سعى محمود مصطفى أيوب إلى التقريب بين المعتقدات اللاهوتية المسيحيّة والإسلامية على ضوء وقائع تأريخيّة، ومن هذا المنطلق استند إلى ما قاله العالم المسلم محمد بن علي بن حسن الحلّي في تفسيره بخصوص الآية 50 من سورة المؤمنون: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ عَايَةً وَاَوَيْنَهُمَا إِلَى رَبِّوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾.

والرأي الذي طرحه الحلّي في هذا السياق؛ فحواه: أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)لم يُصلب بعد أن تمكّن من الهرب، وقد أمضى بقية حياته في انزواء عن الناس، ثمّ مات بشكل طبيعي، فدفن جسده فوق تل(1).واستنتج أيوب من هذا التفسير أنّ المسيح قد مات حقا، لذلك روحه فقط

ص: 153


1- راجع: محمد علي بن حسن الحلي، المتشابه من القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار الفكر، الطبعة الأولى، 1965م، ج 1، ص 202 - نقلًا عن: Mahmoud Mustafa Ayoub, "Towards an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality or delusion", The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, p. 110 أكد كاتب مقالة (مريم) في الموسوعة الإسلاميّة على عدم وجود أي ارتباط بين هذه الآية ومصير النبي عيسى(علیه السّلام)، وقال لا أحد يعرف القصة التي تتحدث عنها الآية؛ ومريم بحسب ما ذكر في إنجيل لوقا (1: 39) ذهبت إلى الجبل لترى أليصابات (إليزابيث)، لكن في الفصل 22 Protoevangelium Jacobi ذكر أن أليصابات هي التي هربت إلى الجبل مع يوحنا، حيث فتق لهما ليختفيا فيه ويكونا في مأمن من مطاردة أعدائهما. A. J. Wensinck, "Maryam", El, vol. 6, p. 629

هي التي رفعت إلى السماء(1)، وكما أشرنا -آنفًا - فهو يقصد -هنا- موت المسيح مصلوبا.

وجدير بالذكر أنّ الحلّي في بادئ تفسيره للآية المذكورة أعلن بصريح العبارة فشل اليهود في صلب النبي عيسى(علیه السّلام)، حيث وقعوا في خطأ كبير وصلبوا شخصًا آخرَ؛ ظنًا منهم أنه المسيح، لكن ما استدلّ به من الآية المذكورة لا يبدو منطقيًّا؛ وذلك لما يلي عبارة ﴿ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ في الآية يُراد منها التأكيد على أن المسيح(علیه السّلام)قد وُلِدَ بإذن الله -تعالى- من أمّ فقط، ولم يكن له أب، والآية بدورها أشارت إلى أمر لا يمكن أن يتحقق إلا بوجودهما معًا؛ ألا وهو ولادته، لذا فهي لا تحكي عن المعاجز التي جاء بها بنفسه بوصفه شخصًا مستقلا عن أمه، مثل كلامه؛ وهو في المهد.

إذَا، السبب في وصفه بكونه ﴿ايَةً﴾ يكمن في ولادته دون أب، والسبب في وصف أمه - أيضًا - بهذه الصفة هو حملها؛ وهي عذراء، دون أن يمسها زوج.

ويؤكد الله -عزّ وجل- في هذه الآية على أنّ المسيح وأمّه مشتركان في هذه الولادة الإعجازيّة، وهناك دليلان لإثبات؛ هذا التفسير؛ هما:

أ- قوله - تعالى-: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ يدل على أن الإعجاز الإلهي قد تحقق في شخصيتي المسيح وأمه؛ أي أنه لم يحدث بفعل منهما؛ لأنّ ولادته دون أب من خلال حمل أمّه به دون زوج تُعدّ معجزةً له.

ب- ذكر الله -عزّ وجلّ- كلمة ﴿ءَايَةً﴾ ولم يقل (آيتين) ، لذا فالكلمة تدلّ على أمر لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود هذين الشخصين معًا، وهذا الأمر هو الولادة، لا تلك المعجزات التي جاء بها المسيح بشكل مستقل عن أمه(2).

ونستشف ممّا ذُكِرَ أنّ وصف النبي عيسى والسيدة مريم(علیه السّلام)بكونهما آيةً؛ يعني ترجيح

ص: 154


1- Ayoub, p. 110
2- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 23، ص 280. راجع أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 18، ص 55.

القول بارتباط كلمة " آية" بولادته، وعلى هذا الأساس من المنطقي اعتبار الأحداث التي شهدتها حياته بعد ولادته مباشرةً مرتبطةً بهذه الآية، بينما الأحداث التي وقعت بعد عملية الصلب لا ينبغي اعتبارها مرتبطة بها. وبعبارة أخرى: من الأفضل -هنا- تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَءَاوَيْنَهُمَا إِلَى رَبِّوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾؛ بكونها تذكيرًا بالنعم التي أفاضها الله -عزّ وجلّ- على هذه الأمّ ورضيعها لكي يحفظهما في مكان آمن مصون من أذى الأعداء وظنونهم السيئة؛ حتى يتمكنا من أداء واجباتهما بأمثل شكل؛ وعلى الرغم من أنّ الآية لم تحدّد هذا المكان، لكنّه على كلّ حال موضع بعيد عن أنظار الأعداء الذين اطلع بعضهم على خبر ولادته؛ وهم على علم بشأنه مستقبلًا، لذلك أرادوا القضاء عليه، لكنّ الله - عزّ وجلّ - حفظه من مكرهم في مكان آمن ومبارك.

فضلًا عن ذلك، فالآيات السابقة لهذه الآية تطرّقت إلى الحديث عن قصّة إرسال النبي موسى(علیه السّلام)إلى فرعون وقومه بالآيات والبراهين الدامغة، إلا أنّهم خالفوه وكذبوه باستدلالاتهم الواهية، فأهلكهم الله جميعًا، لذا يمكن الجمع بينها وبين هذه الآية لإثبات أنّ الله -عزّ وجلّ- يحفظ أنبياءه ورسله في جميع المواقف والأحداث؛ وقال أحد الباحثين في هذا الصدد: «نستنتج من الآية أنها [مريم] وولدها كانا يعيشان لوحدهما بأمن وطمأنينة؛ بعيدًا عن صخب الناس، لكنّها لم تشر إلى عدد السنوات التي أمضياها في عزلتهما»(1). ويذكر أنّ بعض الروايات فسرت الآية بالإشارة إلى زمان ولادة المسيح(علیه السّلام)وهروب والدته برفقته إلى مصر(2).

ص: 155


1- محمد هادي معرفت، نقد شبهات پیرامون قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسن حكيم باشي وآخرون، إيران، قم،منشورات مؤسسة تمهيد، 2009م، ص 124
2- راجع: محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1415ھ، ج 9، ص 239. ذكر في إنجيل متى أنّ الملك الجبار هيرودوس حينما أصدر أمرًا بقتل جميع الأطفال في منطقة بيت لحم، أوحي إلى يوسف النجار في عالم الرؤيا بأن يأخذ عيسى وأمه فورًا إلى مصر ويبقيهما هناك حتى يهلك هذا الحاكم. «وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا إِذَا مَلاَلُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبُ إِلَى مِصْرَ ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُؤْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ». * فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ * وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيُّ الْقَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني... * فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلَاكَ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلاً: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيُّ». * فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلُ». (إنجيل متي (2: 13-21) (عبد الكريم بي آزار شيرازي، باستان شناسي وجغرافياي تاريخي قصص قرآن (باللغة الفارسية) إيران طهران منشورات الثقافة الإسلامية الطبعة الثالثة 2001م، ص 231). فضلًا عن ذلك فالكثير من المؤرّخين المسلمين اعتبروا هذه الآية تشير إلى حكاية السيدة مريم والمسيح(علیهما السّلام)في مصر. للاطلاع أكثر، راجع: (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تأريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، لبنان، بيروت، منشورات دار التراث، الطبعة الثانية، ج 1 ص 598؛عبد الرحمن بن خلدون، تأريخ ابن خلدون ،لبنان بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، ج 2، ص 143).

المبحث السادس: التفسير الاستشراقي للآيات الدالة على القيامة ونزول المسيح(علیه السّلام)إلى الأرض أو رجعته :

يؤكد المستشرقون على أنّ أحد الأسباب التي دعت المفسّرين المسلمين إلى القول بفشل اليهود في صلب المسيح(علیه السّلام)هو تأثرهم بالروايات التي تحدّثت عن موته في آخر الزمان، حيث نقلوها ضمن تفسيرهم لبعض الآيات؛ كي يثبتوا أنّه ما زال على قيد الحياة والمؤاخذة التي طرحوها على هذه الروايات أنّها لا تنتهي في سلسلتها السنديّة إلى النبي محمد(علیه السّلام)، كما ادعوا أنّ الآيات بحدّ ذاتها لا تستبطن هذا المعنى.

وبطبيعة الحال فالمستشرق غابريال سعيد رينولدز قد تبنّى هذه الفكرة، ولدى سعيه إلى إثبات صوابية رأيه بخصوص حادثة الصلب ضمن النص القرآني وصف تفسير المسلمين للآيات التي أشارت إلى موت النبي عيسى(علیه السّلام)بأنّه قائم على فكرة ظهوره مرّةً أخرى في آخر الزمان وهذا الظهور برأيه قد لمّح إليه القرآن الكريم في عدة مواضع(1).

وأما جفري بارندر فقد اعتبر الفرضيّة الإسلامية القائلة بظهور المسيح(علیه السّلام)مرّةً أخرى، قائمةً على أحاديث ضعيفة وآراء تفسيرية مطروحة من قِبل المفسّرين المسلمين، وعلى الرغم من رواج هذه القصص بين الناس طوال قرون متمادية(2)، لكنّها في الواقع ليست سوى أساطير حبكت بعد ظهور النصّ القرآني(3).

في ما يلي نذكر الآيات المطروحة للبحث والتحليل بخصوص ما ذكر:

1) الآية 159 من سورة النساء:

غابريال سعيد رينولدز لدى تفسيره الآية 159 من سورة النساء: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ قال إنّ التفسير الذي طرحه المفسّرون المسلمون منبثق من استنتاجهم الخاطئ لمضمون الآية السابقة لها، حيث فسّروا هذه الآية الآية -158- بأنّها تدلّ على رفع الله - تعالى - المسيح إليه حيَّا، ثمّ استنتجوا من الآية 159 أنّ

ص: 156


1- Reynolds, Ibid., p. 248
2- Parrinder, p. 124
3- Ibid

أهل الكتاب يؤمنون به قبل موته في آخر الزمان؛ وعلى هذا الأساس فالضمير الهاء في عبارة " مَوْتِهِ" يرجع إلى المسيح برأيهم.

ولم يقبل رينولدز بهذا التفسير، واعتبر الضمير المشار إليه لا يرجع إلى المسيح، لذلك أكد على أنّ الآية تشير إلى دوره في يوم القيامة؛ بوصفه شاهدًا على الناس، لا في آخر الزمان الذي هو في الحقيقة عهد نهاية حياة البشر على الأرض والفترة الزمنية التي تسبق يوم القيامة(1).

وحذا نيل روبنسون حذو رينولدز ليؤكد على أن المسيح(علیه السّلام)قد مات مصلوبا وأصبح جزءًا من التأريخ الذي مضى، وضمن تفسيره آية البحث وصف عبارة " مَوْتِهِ" بالغامضة، ورأى أنّ التفسير الأوّل المطروح من قِبَل المسلمين لهذه الآية أصح من التفاسير اللاحقة؛ نظرًا لانسجامه مع القواعد النحوية

والاستدلال النحوي الذي طرحه في هذا المضمار؛ فحواه: أنّ الآية بأسرها تفيد القسم والتهديد، لذا من الأنسب إرجاع الضمير الهاء في عبارة " مَوْتِهِ" إلى أهل الكتاب؛ وقد استند في ذلك إلى قراءة أبي الذي قرأها "مَوْتِهم" واعتبرها سندًا لإثبات رأيه(2).

ويؤمن جفري بارندر هو الآخر بموت المسيح مصلوبًا؛ كما ذكرنا آنفا، وعلى هذا الأساس رفض رأي من ادّعى رجوع الضمير إليه في العبارة المذكورة، حيث طرح فكرة نيل روبنسون نفسها؛ معتبرًا عبارة " أهل الكتاب" مرجعًا للضمير؛ وإلى جانب ذلك أشار إلى أنّ عبارة " يَوْمِ القِيامَة" تستبطن إشارةً إلى الزمان الكائن بعد الموت، ولا تدلّ على نزول المسيح إلى الأرض مرّةً أخرى(3).

وأهم تفسيرين طرحهما المسلمون لقوله -تعالى-: ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِي﴾ قرّرهما العلامة الطبرسي؛ بقوله: «... ثمّ أخبر -تعالى- أنّه لا يبقى أحد منهم إلا ويؤمن به، فقال:

ص: 157


1- Reynolds, Ibid., p. 248
2- Robinson, "Jesus", p. 19
3- Parrinder, p. 123. تبنّى يوسف درّة الحدّاد بخصوص هذه الآية رأيًا يختلف إلى حد ما مع ما ذهب إليه الباحثون الذين أشرنا إليهم، إذ يعتقد بأفضلية النبي عيسى(علیه السّلام)على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، كما خالف غابريال سعيد رينولدز ونيل روبنسون ليدّعي أنّ الآية تشير إلى الدور الذي سيفيه المسيح في آخر الزمان بوصفه دورًا فريدا من نوعه ولا يوجد شخص آخر يضاهيه فيه. للاطلاع أكثر، راجع: (يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن ،لبنان بيروت، منشروات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة 1993م، ص 335 وقد غفل الحداد عن أنّنا لو سلمنا بظاهر الآية وأقررنا بدلالتها على الدور الكبير للنبي عيسى(علیه السّلام)في آخر الزمان، فهذا لا يمنع بكل تأكيد من الاعتقاد بوجود دور كبير آخر لشخص غيره، وربّما يكون هذا الدور أكثر تأثيرًا وأوسع نطاقا منه.

﴿وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾. اختلف فيه على أقوال؛ أحدها: أن كلا الضميرين يعود إلى المسيح، أي ليس يبقى أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا ويؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح إذا أنزله الله إلى الأرض وقت خروج المهدي في آخر الزمان لقتل الدجال، فتصير الملل كلّها ملةً واحدةً؛ وهي ملة الإسلام الحنيفية؛ دين إبراهيم...

وثانيها أنّ الضمير في (بهِ) يعود إلى المسيح، والضمير في (مَوْتِهِ) يعود إلى الكتابي، ومعناه: لا يكون أحد من أهل الكتاب يخرج من دار الدنيا إلا ويؤمن بعيسى قبل موته إذا زال تكليفه وتحقق الموت، ولكن لا ينفعه الإيمان حينئذ ، وإنما ذكر اليهود والنصارى لأنّ جميعهم مبطلون(1).

و بیان مضمون هذا الكلام كما يلي:

أ- مرجع الضمير في التركيب " به" إلى المسيح(علیه السّلام)وفي عبارة " مَوْتِهِ" إلى كلّ واحدٍ من أهل الكتاب؛ أي بتقدير كلمة ( أحد )(2)، ما يعني أنّ كلّ واحدٍ من أهل الكتاب يؤمن بالمسيح حينما يزول تكليفه لحظة حلول الموت عليه، فاليهودي يدرك أنه نبي صادق وليس كاذبًا، والنصراني يدرك أنّه عبد الله -تعالى- ونبي وليس ابنا له؛ وهذا ما ذكره صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا حينما قال: «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أَيْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَآيَتُهُ لِلنَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَمَا يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ يَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقُّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا؛ فَالْيَهُودِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ غَيْرُ دَعِيٌّ وَلَا كَذَّابٍ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ فَلَا هُوَ إِلَهُ، وَلَا ابْنُ اللهِ»، والمعنى ذاته نُقل عن محمّد عبده الذي قال إنّ الأسلوب المتبع في هذه الآية هو ذِكْر النكرة في سياق النفي، لذا فهي تفيد العموم، ولو قيل إنّ الضمير الهاء يرجع إلى عيسى(علیه السّلام)، ففي هذه الحالة يراد من أهل الكتاب المشار إليهم في الآية فقط الذين يتواجدون أثناء نزوله من السماء، لكنّ هذا الادّعاء لا دليل عليه؛ لأنّ الهاء تشير إلى أهل الكتاب بشكل عام دون تحديد زمن محدّدٍ ، ولا شك في أن تخصيص مضمون الآية بالذين هم أحياء في عهد المسيح

ص: 158


1- الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 3، ص 212.
2- نُقل هذا الكلام عن ابن عباس ضمن رواية على لسان مجاهد والضحاك وابن سيرين وجويبر.

لا نجد له أي دليل في الآيات الأخرى(1).

وهذا الاستنتاج يشابه مضمون الآية 91 من سورة يونس التي ذكرت أن فرعون اضطرّ لأن يؤمن بالنبي موسى(علیه السّلام)حين غرقه(2).

ب- كلا الضميرين يرجع إلى المسيح(علیه السّلام)(3)، وعلى هذا الأساس فالمقصود من إيمان أهل الكتاب به قبل موته هو إيمانهم به عند نزوله من السماء(4).

واستند أصحاب هذا الرأي إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية؛ مؤكدين على التناسق الموجود بين الضمائر.

إذًا، لو أخذنا بعين الاعتبار مسألة الانسجام بين ضمائر الآية مع ما هو مذكور في الآيات السابقة واللاحقة لها(5)، إلى جانب منح الأولوية لرجوع الضمير المصرح به والمحدّث عنه(6)، سوف نتوصل إلى نتيجة؛ فحواها صواب الرأي الثاني(7).

ص: 159


1- راجع: محمد رشيد بن علي رضا تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، لبنان، بیروت، منشورات دار المعرفة، الطبعة الثانية، ج 1، ص 22. تبنّى الشيخ محمود شلتوت هذا الرأي أيضًا، حيث اعتبر الضمير (الهاء) في كلمة "به" عائدًا إلى عيسى، وفي "موته" عائدًا إلى أهل الكتاب أي كلّ واحدٍ منهم قبل أن يموت إلا وآمن به والإخبار عن إيمانهم بهذا الشكل لا يتوقف على بقاء النبي عيسى(علیه السّلام)حيًّا إلى زماننا هذا، وهو كذلك غير مشروط بنزوله في المستقبل لكون المراد أنّ الموت حينما يحلّ بهم، فهم يؤمنون بنبوّته وبكونه ابن مريم . وبعد أن رجّح هذا الرأي، أكد على عدم وجود دليل قطعي يثبت صوابية الرأي الآخر القائل بأنّ الضمير في "موته" عائد إلى عيسى(علیه السّلام). (آراء الشيخ شلتوت في كتاب دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، نقلًا عن كتاب مواجهه قرآن با فرهنگ مسیحیت (باللغة الفارسية)، تأليف أعظم ،بويا، إيران، طهران منشورات هستي نما»، 2006م، ص 185).
2- قال - تعالى -: ﴿الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (سورة يونس، الآية 91).
3- هذا الرأي قائم على ما نُقل عن ابن عباس، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، وابن زيد. (الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة 1993م، ج 3، ص 212).
4- هناك رأيان آخران مطروحان حول مرجع الضمير (الهاء) في كلمة "به"، لكن لا ارتباط لهما بموضوع البحث عن النبي عيسى ، أحدهما القول بأنه عائد إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، والآخر إرجاعه إلى الله -سبحانه وتعالى-. للاطلاع أكثر، راجع: (أبو إسحاق الثعلبي، الكشف والبيان، تحقيق أبو محمّد بن عاشور، لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1422ه_، ج 3، ص 413). لتفنيد الرأي الأوّل نقول: هذا الضمير لا يمكن إرجاعه إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ لا نجد له ذكرًا في الآيات المشار إليها، كما لا توجد في هذه الآيات أي دلالةٍ عليه أو حتّى تلميحًا يشير إليه، وإنّما محورها هو النبي عيسى(علیه السّلام). ونقول في تفنيد الرأي الثاني: لا مسوغ لإرجاعه إلى الله -سبحانه وتعالى-، لأنّ ذلك لا ينسجم مع مسألة تطابق الضمائر في سياق الكلام، فضلا عن عدم وجود ما يدلّ عليه. (قاسم فائز ومريم أميني، مرجع ضمیر در قرآن و نقش آن در تفسير (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات جامعة الإمام الصادق(علیه السّلام)،الطبعة الأولى، 2015م، ص 138).
5- راجع: محمّد بن يوسف أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي محمد جمیل، لبنان ،بیروت، منشورات دار الفكر 1420ه_ ص 376 محمد عبد الخالق عضيمة، دراسات لأسلوب القرآن الكريم، مصر، القاهرة، منشورات دار الحديث، ص 37.
6- راجع: الآية 157 من سورة النساء.
7- راجع: صالح ناصر الصالح، من أسباب اختلاف المفسرين المتعلقة بمرجع الضمير، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة الحكمة، العدد 34: ص 271. نقلا عن قاسم فائز ومريم أميني، مرجع ضمير در قرآن ونقش آن در تفسیر (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات جامعة الإمام الصادق(علیه السّلام)، الطبعة الأولى، 2015م، ص 138.

والرأي الأوّل القائل بعودة الضمير الهاء في تركيب "به" إلى المسيح(علیه السّلام)، والضمير الهاء في عبارة ﴿مَوْتِهِ﴾ إلى أهل الكتاب غير صائب من الناحيتين اللغوية والدلالية، وذلك لما يلي:

- يتعارض مع قاعدة وجوب انطباق الضمائر في الكلام، لذا لو قيل إنّ الضمير (الهاء) يرجع إلى أهل الكتاب، فالفصاحة تقتضي أنْ يُذكَر هذا الضمير بصيغة الجمع ويقال (موتهم)؛ كي لا تبقى شبهة باحتمال إرجاعه إلى المسيح الذي هو بصيغة المفرد؛ كما أن عبارة ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ ﴾ من الناحية الدلالية تقتضي ذكر الضمير بصيغة الجمع، لأنّها تحكي عن جميع أهل الكتاب وهنا لا يمكن استخدام الضمير المفرد لهم بطبيعة الحال.

- المسيح(علیه السّلام)هو المرجع الأقرب الذي يمكن أن يعود إليه هذا الضمير، فهو مستتر في التركيب به، لذا من المرجّح رجوع الضمير في عبارة ﴿مَوتِهِ﴾ إليه - أيضًا؛ نظرًا لقربه منه.

- المسيح(علیه السّلام)هو محور الكلام في هذه الآية، لذا حتّى وإن لم يذكر التركيب ﴿به﴾ على مقربة من عبارة ﴿مَوْتِهِ﴾ ، ففي هذه الحالة - أيضًا- يكون الضمير في موته عائدًا إلى المسيح.

- حينما نمعن النظر في سائر الضمائر الموجودة في الآية، نستشف منها أن إرجاع الضمير في عبارة مَوْتِهِ ) إلى المسيح أكثر انطباقًا مع القواعد المنطقية، فضمن ثلاث آيات متوالية في سورة النساء جاء الضمير المفرد (الهاء) للدلالة على المسيح فضلًا عن أنّه مستتر في كلمة ﴿يَكُونُ﴾؛(1)وعلى هذا الأساس نتساءل ما الداعي لاعتبار الضمير في عبارة ﴿مَوتِهِ﴾ مرتبطًا بمرجع آخر؟!

وجدير بالذكر أنّ هذه الآية صوّرت المسيح(علیه السّلام)بالشاهد على أهل الكتاب في يوم القيامة لذا إنْ اعتبرناه شاهدًا على إيمانهم جميعًا في القيامة وأذعنا بأن لا فائدة من إيمان الإنسان لحظة حلول الموت عليه، ففي هذه الحالة لا يمكن ادّعاء أن عبارة مَوتِهِ﴾ تفيد الجمع وتعني (موتهم ) ؛ لأنّه سوف يشهد على إيمانهم، ولا صوابية للشهادة على إيمان شخص قد آمن قبل موته، ويدعم هذا الكلام أنّ عبارة ﴿لَيُؤْمِنَنَّ﴾ تدلّ على الإيمان المؤكد والثابت لا الإيمان الطارئ الذي يلجأ إليه الإنسان لحظة حلول أجله.

والمسألة الأخرى المثيرة للجدل في هذا الصدد، هي أننا لو قلنا برجوع الضمير إلى أهل الكتاب، فهذا يعني الإقرار بكون جميع اليهود آمنوا بالمسيح عيسى(علیه السّلام)قبل بعثه وقبل موتهم؛

ص: 160


1- الآيات هي 157 و 158 و 159 من سورة النساء: ﴿قَتَلُوهُ، صَلَبُوهُ، فِيهِ، مِنْهُ بِهِ، وَمَا قَتَلُوهُ، رَفَعَهُ، لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾.

في حين أن الواقع ليس كذلك، فهم لم يؤمنوا به حتّى بعد بعثه فكيف بذلك قبل بعثه ؟! إضافة إلى أنّهم أرادوا قتله وصلبه، وتصوّروا أنّهم نجحوا في ذلك. إذًا، هذا الرأي يُسفر عن حدوث تناقض بين مفهوم الآية والحقائق الثابتة على أرض الواقع والتي أثبتها التأريخ بالبراهين القطعية، فاليهود لم يؤمنوا بنبوّة المسيح مطلقًا، كذلك عبارة ﴿لَيُؤْمِنَنَّ﴾ فيها تأكيدان هما اللام والنون، وعلى هذا الأساس فالإيمان لحظة حلول الموت لا يعدّ إيمانًا بتاتًا، ومن البديهي أنّه حتّى وإن حدث لدى الإنسان؛ فهو ليس بالإيمان المؤكّد عليه في هذه العبارة قطعًا.

ولا شك في أنّ إيمان أهل الكتاب الهشّ قبل موتهم ليس له أي دور أو تأثير من الناحية العقديّة والدينيّة؛ أي لا حاصل منه لهم ولا للنبي عيسى(علیه السّلام)، ومن هذا المنطلق لا يراد منه ذلك الإيمان الذي يتحقق لهم جميعًا قبل موتهم.

مضافًا إلى ما ذُكِرَ ، من المؤكّد أنّ الضمير (هم) الملحق بحرف الجرّ (على) في قوله - تعالى -: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾(1)يرجع إلى أهل الكتاب الذين أشير إليهم في بادئ الآية، لأنّ هذه العبارة من الآية واقعةً في سياق قوله - تعالى -: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾، لذا لو قيل إنّ الضمير في كلمة مَوْتِهِ ﴾ يرجع إلى أهل الكتاب، فالنتيجة هي صيرورة المسيح شاهدًا عليهم جميعًا في يوم القيامة؛ لكونهم آمنوا به قبل موته؛ لكن هذا الاستنتاج يتعارض مع مضمون الآية 117 من سورة المائدة ، ﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ فالشهادة في هذه الآية تقتصر على زمان كونه بينهم قبل أن يتوفاه الله، وهنا يطرح السؤال التالي على أصحاب هذا الرأي: كيف يسوّغ للمسيح(علیه السّلام)أن يشهد على إيمان جميع أهل الكتاب في يوم القيامة على الرغم من أنه لم يكن بينهم؟!

إذًا، لو قارنا بين تفسير أصحاب الرأي الأوّل لقوله -تعالى-: ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ ومضمون الآية 117 من سورة المائدة، نستنتج أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)شاهد على كلّ من آمن به؛ ولو قيل إنّ هؤلاء المؤمنين به هم جميع أهل الكتاب، فهذا يقتضي موته بعد موتهم جميعًا، لكن ما يثبت لدينا من هذه المقارنة هو ضرورة كونه حيًّا.

ص: 161


1- سورة النساء، الآية 159.

كما أنّ الآية 14 من سورة المائدة: ﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ ﴾ تشير إلى أنّ اليهود والنصارى باقون على دينهم إلى يوم القيامة، لذا كيف يقال إنّهم يؤمنون بعیسى(علیه السّلام)قبل موتهم ؟!

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد هي أننا إذا اعتبرنا الضمير في عبارة "مَوْتِهِ" متعلّقًا بأهل الكتاب ويحكي عن إيمانهم الاضطراري بالمسيح، فهذا الكلام في الواقع لا يتناغم مع سياق الآية؛ لكون هذه الكلمة واقعةً ضمن الآية 159 من سورة النساء التي جاءت بعد عبارات انتقدت اليهود وفنّدت تصوّرهم بأنّهم قتلوا المسيح وصلبوه : ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ هُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا الْبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾(1).فالتأكيد في هذه الآية على فشل اليهود في قتل المسيح وصلبه يدل على أنه لا يموت؛ ما لم يؤمن به أهل الكتاب بإرادتهم ورغبتهم؛ وهذا يعني أنّ الأنسب لسياق الآية هو اعتبارها في مقام بيان كون المسيح حيًّا، لأنّ إيمان أهل الكتاب الاضطراري به لحظة حلول الموت عليهم لا ارتباط له بتأكيد عدم قتله وصلبه(2).

إذًا، بما أنّ سياق الآية يدعونا إلى ترجيح الرأي الثاني فالموت في عبارة ﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ يراد منه موت النبي عيسى(علیه السّلام)، فضلا عن أن عبارة ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا ﴾ تقتضي استنتاج ما يلي:

- بطلان مزاعم اليهود بقتلهم المسيح(علیه السّلام)وصلبه.

- المسيح(علیه السّلام)لم يمت ميتةً طبيعيّةً؛ وإنّما رفعه الله إليه؛ ولو أدعِي أنه مات ميتةً طبيعيّةً لوجب أن تكون الآية ما يلي: (وما قتلوه يقينًا، بل مات)(3).

وهناك إشكال طرحه بعض الباحثين على الرأي الثاني وتقريره أنّ العموم الذي تتضمنه عبارة ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ ﴾ يقتضي عدم قبول هذا الرأي، إذ لو اعتبرنا الضمير (الهاء) في

ص: 162


1- سورة النساء، الآيتان 157 - 158 .
2- راجع: محمد صادقي طهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، إيران، قم، منشورات الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1986م، ج 7، ص 440 - 444 (بتلخيص وتصرف). راجع أيضًا: محمد حسين الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 142 - 143 (بتلخيص وتصرف).
3- راجع: أحمد بهشتی، عیسی پیام آور اسلام (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات اطلاعات، 2000م، ص 306.

عبارة ﴿مَوْتِهِ﴾ عائدًا إلى النبي عيسى(علیه السّلام)، ففي هذه الحالة يقتصر مدلول الآية على أهل الكتاب الذين هم أحياء إبان نزوله إلى الأرض، لكن ليس هناك دليل يثبت هذا المدعى؛ لذا من الأفضل بمكان إرجاع هذا الضمير إلى أهل الكتاب؛ كي لا تبقى ضرورةً لتخصيص الأمر بزمان حياته، وهو ما لا دليل عليه أيضًا(1).

وللرد على هذا الإشكال، نقول: تخصيص العموم لا يُعتبر تخصيصًا في الحقيقة؛ وإنّما هو مجرد تسامح وتوسيع لنطاق التعبير، فأحيانًا يوجّه الخطاب للآباء جراء ما فعله أبناؤهم، وأحيانًا يعاتب الأبناء على ما ارتكبه آباؤهم؛ وهذا الأسلوب مشهود في القرآن الكريم(2).

إذًا، على ضوء التفاصيل التي ذكرناها في نقد الرأي الأوّل، نستنتج أن قراءة أُبَيّ التي استند إليها المستشرق نيل روبنسون في تفسيره آية البحث مخالفة لظاهر الآية وسياقها؛ كذلك لا صوابيّة لقوله بأنّ الآية 159 من سورة النساء تتضمّن ضربًا من الوعيد والقسم؛ تهديدًا لأهل الكتاب؛ ولا صحة لاعتباره الضمير (الهاء) في عبارة ﴿مَوْتِهِ﴾ عائدًا إلى أهل الكتاب بادّعاء أنّ الآية ترغب الكفّار في الإيمان بنبوّة المسيح(علیه السّلام).

وهذه الآية في الحقيقة معطوفة على الآيات السابقة لها التي نستشف من سياقها أنّ آية البحث تعدّ استدامةً لها في التأكيد على عدم موته وبطلان مزاعم أعدائه اليهود في قتله وصلبه. والأمر الهام الذين نستنتجه -أيضًا- من هذا السياق أنّ الآيات في مقام إثبات حقانية النبي عيسى(علیه السّلام)وليست في صدد بيان إيمان أهل الكتاب به، لذا لا يمكن القول إنّ الآية 159 يراد منها بيان أنّهم كفروا به؛ لكي يقال إنّها تشير إلى إيمانهم به في ما بعد، وهو إيمان لا نفع منه، لذا ليس من المناسب أن يستدل القرآن الكريم بإيمان ضعيف كهذا لإثبات حقانية النبي عيسى(علیه السّلام).

2) الآية 61 من سورة الزخرف :

الآية الأخرى التي تطرّق المستشرقون إلى تحليل مضمونها بداعي ارتباطها بمسألة موت النبي عيسى(علیه السّلام)أو بقائه حيا هي الآية 61 من سورة الزخرف : ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فَلَا

ص: 163


1- راجع: محمد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) لبنان، بیروت، منشورات دار المعرفة، الطبعة الثانية، ج 1، ص 23-22 (بتلخيص).
2- راجع: محمد هادي معرفت، نقد شبهات پیرامون قرآن کریم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسن حكيم باشي وآخرون، إيران،قم، منشورات مؤسسة تمهيد، 2009م، ص 144.

تَمْتَرُنَ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾، حيث تناولوها بالبحث والتحليل من جانبين؛ أحدهما: الارتباط الدلالي بينها وبين الآيات السابقة واللاحقة لها والآخر: بيان مدلولها على ضوء الروايات التي تناقلها المسلمون في تفسيرها؛ وفي ما يلي نذكر تفاصيل البحث ضمن المحورين التاليين:

أ- الارتباط الدلالي للآية بالآيات السابقة واللاحقة لها:

تبنّى المستشرقون وجهتين فكريتين متباينتين لتفسير مضمون هذه الآية وبيان معاني عباراتها وألفاظها، وطرحوا أحيانًا آراءً متناقضةً في هذا الصدد.

فغابريال سعيد رينولدز ومن حذا حذوه في القول بتأريخيّة موت النبي عيسى(علیه السّلام)،استندوا إلى عقيدتهم هذه ليرفضوا الرأي الشائع بين المفسّرين المسلمين بخصوص مضمون الآية المذكورة والذي يقوم على بقائه حيًّا فرينولدز لم يؤيّد ما قاله هؤلاء المفسّرون بكون الضمير (الهاء) في عبارة ﴿وَإِنَّهُ﴾ يرجع إلى المسيح، وإنّما نقل كلامهم فقط وقال في هذا الصدد: «يبدو أنّ هذه الآية تصف عيسى بالعِلْم - المعرفة والإدراك - بقيام الساعة، أو تعتبره علَماً - علامةً - على قيام الساعة؛ أو لو تم تعديل مصحف القاهرة قليلًا، يمكن أن نقول بأنّها تصفه بالعالم بقيام الساعة ».(1)هذا الكلام يعني أنّ رينولدز اعتبر الآية دالة على كون المسيح عيسى(علیه السّلام)علامةً على قيام الساعة ولا تحكي عن نزوله إلى الأرض؛ بينما ذهب مستشرقون آخرون إلى القول بصوابية التفسير الشائع بين المسلمين وفحواه أنّ الضمير (الهاء) المشار إليه عائد إلى المسيح(علیه السّلام)، و من جملتهم نيل روبنسون؛ وذلك لسببين:

- السبب الأوّل: الفاعل في الآيتين 59 و 63 من هذه السورة(2)هو النبي عيسى(علیه السّلام)، لذا من المحتمل أن يكون هو الفاعل في هذه الآية أيضاً.

- السبب الثاني: محوريّة الآيات 65 إلى 78 من هذه السورة(3)في بيان أحداث عالم الآخرة

ص: 164


1- Reynolds, Ibid., p. 250
2- قال -تعالى-: ﴿إِنْ هُوَ إِلا عَبْدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسَرْائِيلَ﴾ (سورة الزخرف، الآية 59). ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ سورة الزخرف، الآية 63.
3- قال -تعالى-: ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ يَشْعُرُونَ * الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِتُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ (سورة الزخرف، الآيات 65 إلى 78).

وما سيناله المؤمنون من ثواب وما سيطال الكافرين من عقاب آنذاك، تعدّ وازعًا للقول بأنّ آية بحثنا تحكي عن نزول المسيح(علیه السّلام)إلى الأرض مستقبلا، ومن ثمّ لا صوابية لقول من ادعى أنّها تحكي عن معجزة إحيائه الموتى.

ولم يتفق نيل روبنسون بالكامل مع المفسّرين المسلمين في تفسير هذه الآية، حيث خالفهم في إحدى المسائل التي طرحوها ليؤكّد على عدم وجود أي مؤشّرِ نثبت على أساسه أن نزول المسيح(علیه السّلام)إلى الأرض مستقبلا مشروط بعدم موته على الصليب(1). ونلمس من هذا الكلام أنٌ روبنسون يعتبر صلب المسيح من الثوابت التي لا يمكن التشكيك بها، فهذه هي عقيدته المسيحيّة الارتكازية، لكنه مع ذلك حاول الجمع بينها وبين آراء المفسّرين المسلمين؛ وعلى هذا الأساس أيّدهم؛ باستثناء قولهم بنجاة المسيح من براثن اليهود.

وادعى غابريال سعيد رينولدز في هذا السياق أنّ المفسّرين المسلمين طرحوا استنتاجات لا تقوم على استدلالات منطقية، ووصف تفاسيرهم بأنّها تنمّ عن تخمينات وظنون بحتةٍ؛ نظرًا لغموض مدلول الآيات 157 إلى 159 من سورة النساء، حيث قال: «هذه الآيات تنفي مقتل النبي عيسى(علیه السّلام)بيد اليهود، كما أنّها تؤكّد على رفعه إلى السماء؛ لذا فإنّ عدم وضوح مداليلها جعل الباحثين المسلمين يعتقدون بعدم صلبه من قِبَل أعدائه على ضوء عقيدتهم حول دوره في آخر الزمان»(2).

كما أنّ الرأي الذي طرحه رينولدز بخصوص التفسير الإسلامي لهذه الآية، متأثر بعقيدته المسيحيّة من ناحيتين؛ فهو من ناحية ادّعى وجود غموض في بعض آيات سورة النساء؛ كما ذكرنا سابقًا، وهذا الغموض لا يتناسق مع إيمانه الراسخ بتأريخية صلب المسيح(علیه السّلام)، ومن ناحية أخرى فهو بصفته باحثاً مسيحيًّا لا يمكنه كتمان عقيدته المسيحيّة القائمة على رجعة المسيح في آخر

ص: 165


1- Robinson, "Jesus", p. 17. اعتبر غابريال سعيد رينولدز أنّ كلام نيل روبنسون المذكور في النص دليلًا يثبت صوابية رأيه، لذلك قال: «لا يوجد أي دليل يمكن الاستناد إليه لإثبات وجود ارتباط كهذا بين الدور الذي سيلعبه عيسى في آخر الزمان وبين نجاته من الموت حينما صلب». (Reynolds, Ibid., p. 150).
2- Reynolds, Ibid., p. 250

الزمان، وهذه الرجعة من جملة المعتقدات الثابتة في الديانة المسيحيّة(1)، وعلى هذا الأساس رفض وجود ارتباط بين نزول عيسى في آخر الزمان ونجاته من الصلب.

ويمكن بيان مدلول الآية بشكل أوضح على ضوء النقاط التالية:

أ- المكث الموجود في سياق هذه الآية يدلّ على أنّها تتمة لكلام الله -تعالى- في الآية 57والآيات السابقة التي تحدّثت عن الجدل المحتدم بين النبي موسى(علیه السّلام)و فرعون، والتي أكدت أيضًا على كون المسيح عيسى(علیه السّلام)عبدًا من عباد الله -تعالى- وتفنيد ألوهيته؛ والهدف من ذلك تحذير جميع المشركين في عهد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و في كل عهد.

وموضوع الآية 57 من سورة الزخرف والآيات السنّة التالية لها هو الجدل الذي احتدم بين الناس حول طرح المسيح(علیه السّلام)مثلا لهم، حيث وُصِفَ بالعبد الذي أنعم الله عليه وجعله قدوةً لبني إسرائيل(2)، ومن المؤكد أن المعجزات التي اختص بها؛ مثل: ولادته دون أبِ، وتكلّمه في المهد، تعدّ أدلّةً واضحةً على قدرة الله -تعالى- وعلى مقام نبوّته الرفيع.

واستهلت الآية 59 من هذه السورة بالردّ على المشركين الذين قالوا ﴿ وَقَالُواْ وَأَلِهَتُنَا خَيْرُ أَمْ هُوَ﴾وكلامهم هذا يوحي بأنّهم يعتقدون بكون المسيح(علیه السّلام)إلها للنصارى، لذلك ردّ الله - سبحانه وتعالى - عليهم بأنّه عبد كسائر العباد إنْ هُوَ إِلَّا عَبْدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ .

إذًا، ظاهر الآية يدلّ على أنّها مرتبطة بالآية السابقة لها وأنّها في صدد تفنيد رأي من لا يعتقد بقدرة البشر على نيل جميع الكمالات، والآية اللاحقة لها تؤكد على عدم حاجة الله عزّ وجلّ لعبادة الناس وقدرته على استخلاف المشركين بكائنات من جنس الملائكة(3).

وأما الآية 64 فقد جاءت على لسان النبي عيسى(علیه السّلام)حيث أقرّ فيها بعبوديته لله - سبحانه وتعالى- ليؤكد لهم بأنه ليس باله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمُ﴾.

ص: 166


1- للاطلاع أكثر، راجع: إنجيل لوقا، 21:1 24-27؛ إنجيل متي، 24 : 1-26/3-27.
2- قال - تعالى -: ﴿وَلَماً ضِرْبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةَ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَفْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمُ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون﴾ (سورة الزخرف، الآيات 57-63).
3- راجع: الآية 60 من سورة الزخرف.

وكلّ عاقل حينما يتأمّل بالمثل الذي أشارت إليه الآية 57 يدرك أنّ المسيح عيسى(علیه السّلام)شاهد على الإيمان بيوم القيامة ومرتكز لإزالة كلّ شكٍّ به.

وتتحدّث الآية 65 عن اختلاف أبناء أمته فيه، فبعضهم لم يؤمن به، بل كفر به، ومنهم من آمن، لكنّه أصبح مغاليًا في إيمانه، في حين أنّ عددًا منهم التزم جانب الإيمان المعتدل؛ وقد ألحقت هذه الآية بقوله - تعالى -: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾؛ حيث أنذر الله -سبحانه وتعالى- الفئتين الأولى والثانية بعذاب أليم.

وتتضمّن الآية 66 استفهامًا إنكاريًا حول الذين غفلوا عمّا ذكر في الآيات السابقة، والآية 67 على ضوء تذكير الآية السابقة بوقوع الساعة، أنذرت الكافرين وبشّرت المتقين حينما استثنتهم من العذاب الإلهي(1).

إذًا، على ضوء مضمون الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية التي تمحور الحديث فيها حول النبي عيسى(علیه السّلام)،یبدو من الأفضل بمكان إرجاع الضمير (الهاء) في عبارة (وَإِنَّهُ إليه، وهذا الرأي طرح أيضًا - من قِبَل نيل روبنسون، ويوسف درّة الحدّاد(2)؛ فالآية تؤكّد على أنّ هذا النبيّ يُعدّ سببًا ووسيلةً للعلم بقيام الساعة، لذا فالناس عن طريقه يتسنّى لهم العلم بيوم القيامة؛ كما أنّهم يدركون إمكانية الحياة بعد الموت على ضوء المعجزات التي اكتنفت حياته؛ مثل ولادته دون أب باعتبار أنّ خلقته مثال للقدرة الإلهيّة التي لا نظير لها، حيث يثبت لهم بهذه المعجزات أنّ الله -سبحانه وتعالى- على كلّ شيءٍ قديرٌ ولا يُعجزه شيء مطلقًا، ومثال - أيضا - لسائر معجزاته التي جاء بها إليهم؛ كإحياء الموتى.

ص: 167


1- المراد من الساعة في هذه الآية هو المعنى المقصود ذاته منها في الكثير من الآيات الأخرى، أي يوم القيامة؛ لأنّ أحداثها تقع بسرعة وكأنّما تنتهي خلال ساعة من الزمن. أو ربّما يراد منها لحظة نهاية الحياة الدنيا، إذ ليست هناك فاصلةٌ زمنيّةٌ كبيرة بين الدنيا والآخرة، أو قد يراد منها كلا الأمرين، فمن خصائص الساعة أنّها تأتي بغتةً بحيث لا يشعر الناس بها إلا حينما تقع، ما يعني أنّهم غير مستعدين لحلولها.
2- سنثبت في ما بعد أنّ الاستنتاج الذي طرحه يوسف درّة الحدّاد ينسجم مع توجهاته الإيديولوجية ذات الطابع المسيحي ولا ارتباط له مع مضمون الآية، فقد ادّعى أنّ هذا الإخبار القرآني يعكس عقيدةً مسيحيةً: «المسيح سوف يظهر في آخر الزمان، لكنّه لا يأتي لغسل الذنوب، بل لخلاص من ينتظره». (عب، 9 : 28). (يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، لبنان، بيروت، منشروات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م، ص 341). قالت المستشرقة الفرنسية دونيز ماسون في هذا الصدد: «لو لم يكن الاستنتاج المستوحى من هذه الآية عرضةً للنقاش، فهو في الواقع قريب من مضامين النصوص المسيحيّة»، وذلك ضمن إشارتها إلى اعتقاد المسلمين بكون المسيح(علیه السّلام)من علامات الساعة وفقًا لمضمون هذه الآية. (دونيز ماسون، قرآن وکتاب مقدس درون مایه هاي مشترك (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية فاطمة سادات تهامي، إيران، طهران، منشورات السهروردي 2006م، ج 2، ص 884).

إذَا، الآية في صدد بيان أنّ الله - تعالى - قادر على كلّ شيءٍ وبما في ذلك قيام الساعة(1).

قوله -تعالى-: ﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾يشير إلى وقوع الساعة بالقطع واليقين(2).

إن اعتبرنا كلمة "علم" هي القراءة الصحيحة للآية، ففي هذه الحالة يُقال إن إطلاقها على المسيح(علیه السّلام)هو من باب التأكيد والمبالغة، وفيه إشارةً إلى أنّه قطعا من علامات القيامة(3)؛يوم واستعمالها -هنا- جاء في سياق مجاز مرسل وعلاقتها بالحقيقة هي السببية، حيث أطلق اسم السبب -عيسى(علیه السّلام)- على المسبَّب، أي ذكر المسبَّب - العلم - وأريد السبب الذي هو عيسى.

ولو اعتبرنا القراءة الصحيحة للكلمة هي "علم" ففي هذه الحالة يصبح المعنى أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)؛مثل الجبل الذي يهتدي به كلّ ضال عن الطريق، لذا يمكن اعتباره مثلا يستدلّ به لإثبات واقعية قيام الساعة وكيفية حدوثها(4).

وسواءً أقرأنا هذه الكلمة عِلْماً أم قرأناها عَلَمًا، فالمعنى في كلا الحالتين يكون متقارباً إلى حد كبير؛ باعتبار أن المسيح(علیه السّلام)من علامات قيام الساعة، والآية أكدت في هذا السياق على كون وقوعها قريبًا وحتميًا لا شك فيه ولا تردّد، لذلك طلبت من الناس ألّا ينخدعوا بوساوس الشيطان؛ كي لا يغفلوا عنها(5)

ص: 168


1- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، لبنان، بیروت، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، ج 13، ص 154 - 155؛ محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج ،18 ص 118؛عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418ه_، ج 5، ص 94؛ محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_ ج 27، ص 140.
2- راجع: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 5، ص 94 أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، 1412ه_، ج ،25، ص 54؛ محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1415ه_، ج 13، ص 94.
3- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 9، ص 83.
4- راجع: محمد جمال الدین قاسمي، محاسن التأويل، تحقيق: محمّد باسل السود ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418ه_،ج 8، ص 365.
5- الشيخ محمود شلتوت هو من ضمن المفسرين المسلمين الذين فسروا الآية على ضوء واحدٍ من ثلاثة احتمالات هي نزول المسيح(علیه السّلام)إلى الأرض مرّةً أخرى أو ولادته دون أب أو إحياؤه الموتى باعتباره أحد شروط الساعة؛ فهو البرهان على حدوث البعث في يوم القيامة. وبعد أن نقل هذه الآراء، قال إنه بما أن ولادة عيسى(علیه السّلام)من دون أن تعدّ دليلا على إمكان قيام الساعة، فالآية تشير إليه؛ وقد أيد هذا الرأي للأسباب التالية: أ- الخطاب في الآية موجّه إلى أهل مكة الذين كانوا ينكرون البعث ويعربون عن استغرابهم حينما أخبرهم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)به، لذا نجد غالبية الآيات القرآنية التي أشارت إليه أريد منها تفنيد إنكارهم هذا، والأسلوب المتبع هنا هو تسليط الضوء على أشياء ملموسة لديهم يقرون بوجودها على أرض الواقع كما في قوله - تعالى - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ﴾، (سورة الحج، الآية 5). وبما أنّ نزول عيسى(علیه السّلام)إلى الأرض يعد بحد ذاته أمرًا غير ثابت بالقطع واليقين بحيث تحوم حوله شكوك لدى القوم، لم تستدل الآية به برهانًا على حتمية وقوع الساعة أي إنّها لم تستدل على ما هو منكر من قبلهم لإثبات أمر آخر ينكرونه أيضًا؛ لذلك اتبعت أسلوبًا مباشرًا في إقناعهم. ب- عبارة ﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ التي جاءت بعد عبارة ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ تفيد بأنّ الكلام موجه إلى من لديهم شكٍّ في قيام الساعة، لذا يجب إقناعهم بحتمية وقوعها . ج- من جملة الأسس التي لها تأثير في فهم الأساليب اللغوية في اللغة العربيّة، هو حينما يسند الضمير المستتر في اللفظ إلى ذات، فالأولوية في التقدير هنا - للضمير الأقرب إلى هذه الذات والأكثر ارتباطا بها؛ ولتطبيق هذه القاعدة نقول : النبي عيسى(علیه السّلام)ليس هو المراد في قوله - تعالى - ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ﴾، وبالتالي لا محيص لنا من اختيار واحدٍ فقط من ثلاثة احتمالات هي نزوله إلى الأرض أو ولادته من دون أب أو إحياؤه الموتى ولا شك في أن ولادته من دون أب هي الأقرب من غيرها لمحور البحث. بعد ذلك استنتج الشيخ شلتوت ما يلي : أ- الإخبار عن نزول عيسى(علیه السّلام)ليس من شأنه أن يكون دليلا على قيام الساعة ومن ثم لا يعدّ مرتكزا لتفنيد شكوك منكريها فيقال لهم ﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾. ب- اعتبار نزوله علامةً على قيام الساعة لا يعتبر طريقًا مباشرًا لإثبات المطلوب، لأنّ الكلام - هنا - موجّه للمنكرين لا للمؤمنين، لذا لا وجه لهذا الاستدلال، وإنّما المتكلم هنا بحاجة إلى دليل لا إلى علامة. (آراء الشيخ شلتوت في كتاب دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، نقلاً عن كتاب مواجهه قرآن با فرهنگ مسیحیت (باللغة الفارسية)، تأليف أعظم ،بويا، إيران طهران، منشورات هستي نما 2006م، ص 180-190 مهران محمد بيومي دراسات تأريخية من القرآن الكريم ،لبنان، بيروت، منشورات دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1408ه_ 1988-م، ج 3 ص 355-350).

وجدير بالذكر هنا أنّ بعض المستشرقين(1)والمفسرين المسلمين اعتبروا الضمير (الهاء) عائداً إلى القرآن(2)، إذ لو أرجعناه إلى المسيح(علیه السّلام)؛ فهذا الإرجاع يقتضي تقدير مضاف محذوف

ص: 169


1- بعض المستشرقين أرجعوا الضمير في التركيب «إِنَّهُ» إلى القرآن الكريم، ومن ضمنهم جفري بارندر الذي قال لدى تفسيره الآية المشار إليها في النص إنّه من المناسب بمكان إرجاع الضمير (الهاء) في «إنّهُ» إلى القرآن أو إلى الرسالة التي تحمل العلم المرتبط بالساعة والتي يتلقاها الناس في عهد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم). (Parrinder, p. 124). هذا الكلام يعني أنّ القرآن الكريم هو علم الساعة لكونه يخبر الناس بأهوالها وحتمية قيامها. يوسف درّة الحدّاد رفض إرجاع الضمير المذكور إلى القرآن الكريم، وقال في هذا السياق لا يمكن بتاتا إرجاع هذا الضمير إلى القرآن، وذلك لأنّنا لا نجد له ذكر في أي من هذه الآيات والسّياق السابق واللاحق لهذه الآية مرتبط بموضوع واحد وهو عيسى». (يوسف درّة الحدّاد الإنجيل في القرآن ،لبنان بيروت، منشروات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م، ص 340). وعلى ضوء هذا الرأي بادر إلى تفسير الآية 61 من سورة الزخرف، حيث سنشير إلى ما ذكره من تجليل نصّي لها ضمن هذا البحث.
2- محمد الطاهر بن عاشور رأى أنّ الضمير (الهاء) في التركيب "إنَّه" عائد إلى القرآن الكريم، ولإثبات رأيه هذا اعتبر العبارة التي ذكر في سياقها معطوفةً على الآية ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْتَلُونَ (الزخرف، الآية (44) وعلى هذا الأساس فالآيات الواقعة بين هاتين الآيتين ذات مضامين استطرادية برأيه، حيث اعتبر الآية المذكورة استدامة للثناء على القرآن الكريم والذي ابتدأ من أوّل آية في السورة، لكن غاية ما في الأمر وجود بعض الجمل والعبارات الاعتراضية والاستطرادية، لكن الآية هنا أكدت بشكل حصري على أن القرآن أخبر الناس بحتمية وقوع الساعة؛ والآية 43 هي تفسير للآية 61 فالوحي من جانب الله سبحانه وتعالى-، وفيما يلي ننقل كلامه نصياً: "الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عَطْفُ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّهُ لَذِكْرُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرِدَاتِ وَاعْتِرَاضًا اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَةُ، لَمَّا أُشْبِعَ مَقَامُ إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ ثُنِي الْعِنَانُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. وَهَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهُ مِنْ جَانِبِ اللهِ تَعَالَى إِلَى الْمُنْكِرِينَ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَام النبي(صلی الله علیه و آله و سلم). وَضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ مُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ ... فَالثَّنَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ اسْتَمَرَّ مُتَّصِلًا مِنْ أَوْلِ السُّورَةِ آخِذَا بَعْضَهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ مُتَخَلَّلًا بِالْمُعْتَرِضَاتِ وَالْمُسْتَطْرِدَاتِ وَمُتَخَلِّصًا إلَى هَذَا الثَّنَاءِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْلَمَ النَّاسَ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ. وَيُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [الزخرف: 43] وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، عَلَى أَنَّ وُرُودَ مِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْقُرْآنُ كَثِيرٌ مَعْلُومٌ مِنْ غَيْرِ مَعَادٍ فَضْلًا عَلَى وُجُودِ مَعَادِهِ. وَمَعْنَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْقُرْآنَ عِلْمُ لِلسَّاعَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالدِّينِ الْخَاتَمِ لِلشَّرَائِعِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ إِلَّا انْتِظارُ انْتِهَاءِ الْعَالَمِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ مِنْ قَول الرَّسُول(صلی الله علیه و آله و سلم).(بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ)، وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى مُشِيرًا إِلَيْهِمَا. وَالْمُشَابَهَةُ فِي عَدَمِ الْفَصْلِ بَينهمَا وَإِسْنَادِ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ إِسْنَادُ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ إِذْ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْمُتَنَوِّعَةُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَوُقُوعِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمُعْلِمِ، مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ مُحَصِّلًا لِلْعِلْمِ بِالسَّاعَةِ إِذْ لَمْ يُقَارِبُهُ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَاسَبَ هَذَا الْمَجَازَ أَوِ الْمُبَالَغَةَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُبْقِ لِأَحَدٍ مِرْيَةً فِي أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِعِيسَى، وَتَأَوَّلُوهُ بِأَنْ نُزُولَ عِيسَى عَلَامَةُ السَّاعَةِ، أَيْ سَبَبُ عِلْمٍ بِالسَّاعَةِ، أَيْ بِقُرْبِهَا، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ فَإِنْ تَقْدِيرَ مُضَافٍ وَهُوَ نُزُولُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَيُنَاكِدُهُ إِظْهَارُ اسْمِ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَ عيسى [الزخرف: 63] إِلَخْ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرَ شَأْنٍ، أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُهِمْ لِعِلْمِ النَّاسِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ". (محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 25، ص 279-280).

هو ( نزول) وهذا التقدير في الحقيقة لا ضرورة له؛ لذلك رجّحوا إرجاعه إلى القرآن وعزّزوا رأيهم هذا قائلين إنّ الآية اللاحقة رقم -63- فيها كلمة "عيسى" لا نزول عيسى(1).

ولكن حينما نأخذ السياق بنظر الاعتبار ، نستلهم منه أن عيسى(علیه السّلام)بخلقته الإعجازية يعد علامةً على قيام الساعة أو سببًا للعلم بذلك، لا أنّ نزوله هو العلامة عليها أو السبب في العلم بها؛ لذا بما أنّ هذه الآية جاءت في سياق الآيات المرتبطة بعيسى فالأنسب عقلًا هو إرجاع الضمير (الهاء) له لا للقرآن الذي ذكر قبل آياتٍ عديدةٍ سابقة لهذه الآية، أي في الآية رقم 43،والقاعدة المنطقية تقتضي أنّ الأقرب يمنع الأبعد.

وإذا أرجعنا الهاء إلى القرآن، فهذا لا يسوغ لنا القول بأنّ العبارة ﴿فَلا تَمْتَرُنَّ بِها﴾ متعلقةً بالعبارة الأولى من الآية(2).

وطرح باحثون آخرون؛ من أمثال يوسف درّة الحدّاد رأيًا يختلف عما تبنّاه من أشرنا إليهم، فرؤيته الإيديولوجية للقرآن الكريم هي أنّه نسخةً عربيّةً للإنجيل، كما يعتبر المسيح(علیه السّلام)أفضل من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،وعلى هذا الأساس سعى إلى العثور على ما يؤيد توجهاته الفكرية هذه من باطن النصّ القرآني؛ وهذا ما نلمسه جليًّا في تفسيره لآية البحث هنا، حيث ادعى أنّها تتضمّن تلميحات تدلّ على الأفضلية التي أشرنا إليها.

ص: 170


1- م. ن، ج 25، ص 279.
2- بعض العلماء المسلمين؛ من أمثال: الشعراني، والشيرازي احتملوا أنّ الضمير (الهاء) لا يرجع إلى القرآن ولا إلى عيسى(علیه السّلام)، بل يشير إلى ظهور الملائكة في يوم القيامة، حيث تنزل عند قيام الساعة كما ذكر في الآيتين 17 من سورة الحاقة و 25 من سورة الفرقان؛ ومما قاله الشيرازي في هذا المضمار: «ذكرت بعض الروايات أنّ عيسى سينزل حين ظهور الحجة، واعتبرته علامةً على اقتراب الساعة؛ لكن هذا لا يعني أن نزوله يعني القرب الحقيقي من قيام الساعة، لأنّه قرب نسبي ولربما المدة المقصودة فيه تعادل آلاف السنين». (محمد الشيرازي تقريب القرآن إلى الأذهان ،لبنان ،بیروت منشورات دار العلوم الطبعة الأولى، 1424ه_، ج 5، ص 74). والشعراني -كما ذكرنا- احتمل رجوع الضمير إلى ظهور الملائكة بقرينة الآية السابقة ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةُ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾. (سورة الزخرف، الآية (60) لذلك قال في هذا السياق: ظهور الملائكة في الأرض علامة على قيام الساعة، وبعض الآيات اعتبرت ظهورها متزامنًا مع يوم القيامة». (محمد رضا غياثي كرماني، پژوهش هاي قرآني علامه شعراني در تفاسیر مجمع البيان روح البيان ومنهج الصادقين (باللغة الفارسية)، إيران،قم، منشورات مؤسسة بوستان كتاب، 2006م، ج 3، ص 1158). لكن هذا الاستنتاج لا يعد مناسبًا لبيان المعنى المقصود من قوله - تعالى -: ﴿فَلا تَمْتَرُنَّ بها﴾.

ربّما الروايات التي تناقلتها المصادر الإسلاميّة حول نزول المسيح(علیه السّلام)في آخر الزمان، جعلت الحدّاد يستنتج من هذه الآية أنّه أفضل من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فالآية بحسب هذه الروايات تشير إلى ظهوره بين الناس مرّةً أخرى قبل يوم القيامة وأنّه شرط من شروط الساعة؛ لذلك أكد على أنّها تصرّح بظهوره من جديدٍ في آخر الزمان(1)، واعتبر هذا البيان القرآني انعكاسا للمعتقدات المسيحيّة، حيث قال: «المسيح سوف يظهر في آخر الزمان، لكنه لا يأتي لغسل الذنوب، بل لخلاص من ينتظره»(2).

لكن حتّى وإن أذعنا بهذه الروايات، فهي لا تُعدّ وازعًا للقول بأفضلية المسيح(علیه السّلام)على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،ولا تشير إلى أنّه النبي الخاتم(3).

وقد ذكرنا -آنفًا - أنّ غابريال سعيد رينولدز يقول إنّه : لو تم تعديل نص مصحف القاهرة قليلًا، لأمكن تغيير مضمون الآية؛ لتدل على أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)عالم بالقيامة(4).

ولو كان مراد هذا المستشرق أنّ المسيح(علیه السّلام)عالم بزمان قيام الساعة، فهذا التعديل لا داعي له في الحقيقة، فضلًا عن أنّه يتعارض مع المضمون القرآني، فالله -عزّ وجلّ - أكّد فيه على أنّ زمانها يُعدّ من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا هو(5)، حيث قال: ﴿ يَسْتَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِيهَا لِوَقِهَا إِلَّا هُو ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَعْنَةٌ يَسْتَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(6). كذلك قال: ﴿ يَسْتَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكرنَها(43)﴾(7).

ومن المؤكّد أنّ الأنبياء لم يُبعثوا ليخبروا الناس بزمان قيام الساعة، وإنّما جاؤوا لإخبارهم بحتمية وقوعها.

ص: 171


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن ،لبنان، بيروت، منشروات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م، ص 341.
2- عب، 9: 28.
3- سوف نتطرّق فى الباب الثالث من الكتاب إلى مسألة خاتميّة النبوّة التي ينسبها المسيحيون لنبيهم عيسى(علیه السّلام)والمسلمون لنبيهم محمد(صلی الله علیه و آله و سلم).
4- Reynolds, Ibid., p. 250
5- قال - تعالى -: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيَن﴾(سورة يس، الآية 48).
6- سورة الأعراف، الآية 187.
7- سورة النازعات، الآيتان 43 - 44.

ب- الروايات المنقولة حول الآية: اعتبر غابريال سعيد رينولدز هذه الروايات موضوعةً من قبل المفسّرين المسلمين، والسبب في ذلك - برأيه - يعود إلى النزعات الدينية والطائفية - المسيحية والإسلامية السنّية والشيعية - فهذه النزعات هي التي أسفرت عن التأكيد على دور النبي عيسى(علیه السّلام)في آخر الزمان ضمن التفاسير الإسلاميّة؛ لأنّ الروايات التي نقلت في هذا المضمار تتضمّن توجّهات مناهضةً للتوجّهات الدينية المسيحيّة، حيث تؤكّد على أنه سيكسر الصليب حين نزوله إلى الأرض، ويجبر المسيحيّين على اعتناق الإسلام بقوّة السيف، وما إلى ذلك من تفاصيل أخرى تدلّ على أن آخر الزمان سيصبح ميدانا لصراع مسيحي إسلامي.

وكثير من هذه الروايات - برأيه- ليست سوى محاكاة للقصص المسيحية التي تناقلها النصارى لبيان الدور العظيم الذي سيقوم به النبي عيسى(علیه السّلام)في آخر الزمان(1)، حيث اقتبسها المفسّرون المسلمون وسخّروها سلاحًا ضدّ النصرانية(2).

وأمّا الأجواء الطائفيّة السنّيّة الشيعيّة فهي عامل آخرُ لرواج الروايات المذكورة بزعمه، فما تناقله أهل السنة من روايات حول علامات الساعة وآخر الزمان ، وما فيه من تأكيد على دور النبي عيسى(علیه السّلام)في تلك الآونة من حياة البشر هو في الحقيقة ردّ على ما تناقله الشيعة من روايات حول الدور المحوري لإمامهم المهدي في آخر الزمان.

إذَا، شخصيّة النبي عيسى(علیه السّلام)في روايات أهل السنة اتَّخذت مرتكزا للرد على عقيدة إمام آخر الزمان الذي ينتظره الشيعة ونتيجة ذلك هي التأكيد على أنه نجا من الصلب والموت.

وخلاصة الكلام أنّ السنّة والشيعة يؤكّدون في رواياتهم التي نقلوها حول أحداث آخر الزمان على أنّ المسيح والمهدي ناجيان من الموت؛ نظرًا لما ينتظرهما في آخر الزمان من دور هام(3).

ويبدو أن أسلوب التحليل الفينومينولوجي الذي اتبعه هذا المستشرق في التعامل مع الروايات المذكورة قائم على أصول نظريّة جون وانسبرو الشكوكية، فالأخير شكك بوثاقة النصوص الإسلاميّة القديمة، ومن هذا المنطلق ادّعى أنّ جميع الروايات والمعلومات المنقولة فيها غير معتبرة؛ كما رفض وثاقة جميع مصادر علم الرجال والفهارس التي دوّنها العلماء

ص: 172


1- Reynolds, Ibid., p. 251.
2- Ibid., p. 256.
3- Ibid., p. 257.

المسلمون في هذا المضمار ؛ وذهب إلى أبعد من ذلك ليزعم أنّ القرآن الكريم ليس سوى عباراتٍ وألفاظ من صياغة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛حيث روّجها في بيئة طائفية، ثمّ طوّرها المسلمونعلى مر الزمان(1)، وأما تفسير القرآن من قِبَل المسلمين فقد وصفه بأنّه ردّة فعل بدرت من المفسّرين جرّاء تأثرهم بمجتمعاتهم؛ أي أنّه شأن اجتماعي برأيه(2).

وأما نيل روبنسون ؛ فهو على الرغم من عدم تأييده لشكوكية وانسبرو، لكنه اعتبر الروايات المشار إليها قد صيغت؛ تلبيةً لما يستحسنه عامة الناس، وعلى هذا الأساس قلّل من شأنها(3)؛وفي هذا السّياق قال إنّ المسلمين تعرّفوا على شخصية الدجّال الشرّيرة - المسيح الدجال - التي في مقابل شخصيّة المسيح عن طريق المسيحيّين الناطقين باللغة السريانيّة(4).

ويُردّ على ذلك أنّ التشابه في بعض الرؤى الدينية المسيحية والإسلامية بخصوص أحداث آخر الزمان وشخصياتهم، يعود إلى أنّ التعاليم الدينية عادةً ما تكون متكافئةً مع بعضها في شتّى المجالات، لذا لا يستبعد أن يكون هذا التشابه من باب التلاقح الفكري(5).

ص: 173


1- Wansborough, pp. 34 - 50
2- للاطلاع أكثر، راجع: أندرو ريبين، تحليل أدبي قرآن، تفسیر و سیره؛ نگاهي به روش شناسي جان ونزبرو (باللغة الفارسية)، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة (پژوهش هاي قرآني)، ترجمها إلى الفارسية مرتضى كريمي نيا، العددان 23 و 24، ص 155.
3- وضح نيل روبنسون رأيه بقوله: روايات السيرة ربما تكون معتبرةً، فهذه السيرة مقبولة اليوم بين المسلمين على نطاق واسع، حيث يمتزج في رحابها نمطان أساسيان من الروايات، وغالبًا ما يمكن للباحث التمييز بينهما؛ فالتي رويت حول حروب النبي تمتاز بطابع تأريخي، لأنّ المتعارف بين العرب آنذاك أنّهم يتناقلون أحداث حروبهم القبلية وملاحمهم البطولية عن طريق الإخبار الشفهي، لذا من الطبيعي أنّهم يحفظون الروايات التي تستبطن مضامين مشابهةً لهذه الأحداث حول سيرة النبي ومقرّبيه. وأما الروايات التي يستسيغها عامة الناس فهي موضع شك وتردّدٍ من الناحية التأريخية». (Neal Robinson, Discovering the Quran,a contemporary approach to a veiled text, Georgetown University press, 2003, p. 35) وكذلك ضمن مقالة له نشرت في الموسوعة القرآنية (دائرة معارف القرآن) المدوّنة باللغة الفارسيّة ذكر رأيه بخصوص فكرة الدجال قائلاً: «هناك تردّد في كون النبي محمد وصحابته كانت لديهم هواجس حول المسيح الدجال، فالسرد القصصي الذي يتسم بطابع عامي لهذا الموضوع ينمّ عن وجود احتمال بكون القصاصين هم الذين ابتدعوه بعد سنوات من ظهور الإسلام ومن جملتهم ابن صياد الذي يعتبر أحد رواة قصص كهذه وقد عرف عنه تطرّفه في نزعاته العرفانية اليهودية». (Neal Robinson, "Antichrist", EQ, Edited by Jane Dammen McAuliffe, leiden, New York Koln: E.J. Brill, 2001, Vol. 1, p. 111) ولإثبات رأيه الذي طرحه حول المسيح الدجال، استند إلى روايات أخرى معتبرًا الروايات الأولى موضوعةً. (Cf. Ibid.)
4- Robinson, Vol. 1, p. 107
5- يؤيد هذا الكلام أن شخصًا مثل يوحنا الدمشقي (675م - 749م)ضمّن ما كتبه ردَّ على التعاليم الإسلامية، اعتبر ظهور الإسلام من أساسه علامة على الدجال. للاطلاع أكثر، راجع: _محمود رامیار، تاریخ قرآن (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات أمير كبير، الطبعة الثالثة، 1990م، ص 653). أضف إلى ذلك أنّ هذا الاسم ذكر في الروايات التي تعتبر من الناحية السندية مرفوعةً أو صحيحةً.

وهناك ملاحظات بخصوص الروايات المذكورة لا نرى بأسًا من ذكرها هنا، وهي:

- اعتبرت الروايات الإسلاميّة نزول المسيح عيسى(علیه السّلام)في آخر الزمان من علامات قيام الساعة، حيث أكّدت على أنّه سيظهر تزامنًا مع ظهور الإمام المهدي(علیه السّلام)، وقد رُويت من قِبَل الفريقين؛ سنةً وشيعةً، وبتعبير العلّامة: هي مشهورة ومستفيضة(1).

- البخاري ومسلم لم يذكرا المهدي(علیه السّلام)في صحيحيهما ولربّما امتناعهما عن ذلك سببه ضعف الروايات المنقولة بخصوصه(2)؛ لكنّهما أفردا بابًا مستقلاً للأحاديث الخاصة بنزول النبي عيسى(علیه السّلام)بعنوان: «نزول عيسى بن مريم».

والمسألة المجمع عليها بين المسلمين هي أنّ نزول هذا النبي عبارةً أنّ نزول هذا النبي عبارة عن علامة من علامات قیام الساعة، حيث سيقوم بدور مشهود في تشييد مجتمع إسلامي مثالي في آخر الزمان.

ومع أنّ الفِرقَ الإسلامية مختلفة في ما بينها حول شخصية المهدي الذي سيظهر في آخر الزمان، لكن الرأي السائد بين علماء السنّة المتأخرين أنّه من أهل بيت النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(3).

إذًا، هذا الموضوع لا يختص بالمعتقدات الشيعية، بل هو جزء هام من المعتقدات الإسلاميّة المشتركة بين جميع المسلمين، والأحاديث التي تطرّقت إلى مسألة نزول المسيح(علیه السّلام)في آخر الزمان تؤكّد غالبيتها على أنّه سيظهر بعد مدة قصيرة من ظهور الإمام المهدي(علیه السّلام)في آخر الزمان؛ وغالبيّة الروايات المنقولة في المصادر الشيعية حول ظهور المسيح هي في الحقيقة منقولةٌ من مصادر سنّية، حيث حظيت بتأييد من قِبَل علماء الشيعة، إلا أنّها تتمحور بشكل أساس حول ظهور المهدي(4). ونستشف من هذه الحقيقة أنّ الفئتين من

ص: 174


1- كما هو معلوم فالأحاديث التي تطرقت إلى موضوع نزول النبي عيسى(علیه السّلام)إلى الأرض في آخر الزمان، ليست على نسق واحد من حيث الوثاقة والشرائط السنديّة؛ فمنها الصحيح والحسن، ومنها الضعيف أيضًا. للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن جعفر الكتاني، نظم المتناثر من الحديث المتواتر، فاس، منشورات المطبعة المولوية، 1328ه_، ص 128.
2- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تأريخ ابن خلدون ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، ج 1، ص 312.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، المنار المنيف في الصحيح والضعيف ،سوريا، حلب، منشورات مكتبة المطبوعات الإسلامية، 1391ه_ ص 148-153.
4- للاطلاع أكثر، راجع: حسيني الجلالي، أحاديث المهدي من مسند أحمد بن حنبل، إيران، قم، منشورات مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1409ه_، ص 108-113.

الروايات موجودتان قطعًا لدى الفريقين سنّةً وشيعةً(1)، لكن غاية ما في الأمر أنّ كلّ طائفة أكدت بشكل أساس على مجموعة خاصة منها، لذا لا يمكن اعتبارها موضوعةً جراء نزاعات دينيّة أو طائفيّة؛ وما ادعاه رينولدز في هذا الصدد هو في الواقع زعم بلا دليل ولا يقوم على أي مستندات تأريخيّة.

ولا ننكر أنّ عددًا ضئيلا من المسلمين ولأسباب واهية رفضوا فكرة ظهور المهدي في آخر الزمان؛ زاعمين أنّ الموضوع مجرّد نظريّة شيعيّة، ومن المحتمل أنّ رينولدز قد استند إلى هذه المزاعم الهشّة وغير الشائعة بين المسلمين ليتهم الروايات الدالّة على ظهور المسيح والمهدي في آخر الزمان بأنّها ثمرة للرؤى الطائفيّة الإسلاميّة(2).

- المهدي لم يُذْكَر في القرآن الكريم باسمه، لكنّ الفكر المهدوي يضرب بجذوره في التعاليم

ص: 175


1- من جملة المصادر الشيعية في هذا المضمار ما يلي علي بن إبراهيم تفسير القمي إيران، قم، منشورات مؤسسة دار الكتاب، 1404ه_،ج 1، ص 158 ج 2 ص 271 محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الصدوق) ،الخصال، إيران، قم، منشورات جماعة المدرسين، 1403ه_ ،ج 2، ص 476؛محمد بن جرير الطبري، دلائل الإمامة ،إيران، قم، منشورات دار الذخائر للمطبوعات، ص 234؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة الوفاء، 1404ه_، ج 6، ص 6، ص 304/ ج 14، ص 247 و 1349 ج ،24 ص 328 و 429.إضافةً إلى مصادر أخرى تتضمّن روايات تحكي عن دور النبي عيسى(علیه السّلام)في آخر الزمان.
2- مصادر أهل السنة التالية تتضمّن روايات حول المهدي: المصنف لعبد الرزاق، الفتن لحماد، المصنف في الأحاديث والأخبار لابن أبي شيبه، مسند أحمد، سنن ابن ماجه، سنن أبي داوود، الجامع الصحيح للترمذي، المستدرك للحاكم النيسابوري، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي. وجدير بالذكر هنا - أنّ بعض علماء السنّة ألفوا كتبًا مستقلةً حول المهدي، الأمر الذي يدلّ بوضوح على إيمانهم بظهوره، ومن جملتها ما يلي الأربعون حديثًا في المهدي لأبي نعيم الأصفهاني، البيان في أخبار صاحب الزمان للكنجي الشافعي عقد الدرر في أخبار المنتظر للمقدسي الشافعي العرف الوردي في أخبار المهدي لأبي بكر السيوطي، البرهان في علامات آخر الزمان للمتقي الهندي . للاطلاع أكثر، راجع (خدا: مراد سلیمان، درسنامه مهدویت (باللغة الفارسية)،إيران ،قم، منشورات المركز التخصصي للمهدوية، الطبعة العاشرة 2012م، ج 1، ص 83). كما أن الروايات التي جمعها أهل السنّة بخصوص هذا الموضوع، تنتهي في سندها إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإضافةً إلى المؤلفات المشار إليها أعلاه، هناك مصادرُ سنية معتبرة أخرى نقلت هذه الروايات؛ مثل: الصحاح الستة ومسند أحمد بن حنبل. واللافت للنظر أنّ الكثير من الكتب التي ألفها أهل السنة في هذا المجال قد تم تدوينها في أجواء لا تشوبها أي توجّهات شيعية بتانا، فضلا عن أن عددًا كبيرًا من علمائهم اعترفوا بصحة الروايات المنقولة فيها. للاطلاع أكثر، راجع: (ثامر هاشم العميدي، مهدي منتظر در اندیشه اسلامي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمد باقر محبوب القلوب، إيران، قم، منشورات مسجد جمكران الطبعة الثالثة 2009م، ص 54-60) وأكد بعض الباحثين على أنّ كثرة الأحاديث النبوية المروية حول المهدي في مختلف المصادر الإسلامية للفريقين شيعةً وسنةً، أرغمت علماء الحديث على الإذعان بتواترها للاطلاع أكثر، راجع: (لطف الله الصافي الكلبايكاني، منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر، إيران، قم، منشورات مؤسسة السيدة معصومة(سلام الله علیها)1421ه_ص 32).

القرآنية(1)، كذلك هو موجود في سائر الأديان بنحو آخر؛ لأنّ جميع الأديان الإبراهيمية متفقةً على ظهور مصلح في آخر الزمان، فهو بحسب العقيدة اليهودية (The Messiah) أي المسيح الموعود الذي ينحدر من نسل النبي إسحاق(علیه السّلام)(2)؛وهو يسوع بحسب العقيدة النصرانية، أي المسيح الموعودا(3)، وأما المسلمون فرواياتهم تؤكّد على حتميّة ظهور المهدي الموعود الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورًا، وهذا الظهور حتميٌّ ؛ بحيث لو لم يبق من الحياة الدنيا إلا يوم واحد أو ساعةٌ واحدةٌ لأطالهما الله -عزّ وجلّ- حتّى يظهر.

وشخصية الدجّال الظالم المفسد في الأرض؛ وفق مضمون الروايات الإسلامية، تقابل شخصيّة المهدي رمز الإصلاح والعدل؛ وقد عبّرت عنه النصوص المسيحيّة بالمسيح الدجال (Antichrist) .

ويقول نيل روبنسون في هذا السياق إنّ المسلمين تعرّفوا على شخصية المسيح الدجال من المسيحيّين السريانيين؛ لأنّ هذه الكلمة مقتبسةً من الكلمة السريانية (Daggala) التي تعني الكذاب أو الكذب(4)؛ ويؤيد ذلك أنّ المعنى اللغوي لهذه الكلمة في العربية هو الكذاب، ومن ثمّ فالمسيح الدجّال؛ بمعنى المسيح الكذاب لذلك فنّد ما قاله البعض بأنّ كلمة "دَجَل" بمعنى طلاء الجرب بالقطران وطلاء البعير به(5). وكذلك فنّد هذا المستشرق

ص: 176


1- هذا الرأي مستوحى من الآيات التي تبشر بحتمية انتصار الحق على الباطل وتخبر بأنّ المستضعفين هم الذين سيرثون الأرض في نهاية المطاف. للاطلاع على هذه الآيات، راجع: (محمّد علي رضائي، روش شناسي روايات تفسيري آيات قرآن (باللغة الفارسية)، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة انتظار الموعود الفصلية، العدد 19،ص11).
2- «ابْتَهِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ هُوَ ذَا مَلِكْكِ يَاتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيحٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانِ». (سفر زكريا، 9:9).
3- راجع: سفر أعمال الرسل، 1:10-11؛سفر متي، 24: 39/37/30
4- Robinson, Ibid., p. 107; Reynolds, Ibid., p . 256. نسب نيل روبنسون هذا الاستنتاج اللغوي المطروح بخصوص الكلمات الدخيلة إلى آرثر جفري، حيث ادعى أنه ذكرها في كتابه؛ لكن لم يتم العثور عليها في كتابه بعد تقضي نصوصه.
5- Ibid., p. 108. قال محمد بن مكرم بن منظور في لسان العرب موضحًا هذه الكلمة: «دجل: الدُّجَيْل والدُّجَالة ؛ القَطِران والدَّجل: شِدَّةُ طَلْي الجَرب بالقطران. ودَجَلَ البعير: طلاه بِهِ، وَقِيلَ: عَمَّ جسمه بالهناء، وإذا هُنِئ جَسَدُ الْبَعِيرُ أَجمع فَذَلِكَ التَّدْجِيل، فإذا جَعَلْتَهُ فِي الْمَشَاعِرِ فَذَلِكَ الدَّسُ وَالْبَعِيرُ المُدَجّل : المَهْنوء بالقَطِران؛ وأَنشد ابْنُ بَرِّيٌّ لِذِي الرُّمَّةِ: وشوهاء تغدو بِي إِلى صَارِخِ الْوَغَى ... بمُسْتَلْيْمٍ مِثْلِ الْبَعِيرِ المُدَجّل». (محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب مادة (دجل)).

الرأي القائل بأنّ كلمة الدجّال على نسق فعل يعني الشخص الذي له عين واحدةٌ وحاجب واحد، لأنّها ذكرت في الروايات على هيئة اسم يدلّ على معنى يوحي بشخصيَّةٍ مناهضةٍ للمسيح الحقيقي؛ وضمن تحليله اللغوي لهذه الكلمة وصف المعنى المنسوب إلى كونها مشتقةً من كلمة «دَجَل» في اللغة العربيّة التي أشرنا إليها مسبقًا، بأنّه أقرب إلى المعنى الاصطلاحي السرياني الذي تنسب إليه هذه الكلمة، فالمسيح الدجال يخدع البشرية عن طريق تغطيته على الحقائق(1).

وقد انعكست بعض خصائص المسيح الدجال الشائعة بين المسيحيين في التراث الإسلاميّ؛ حسب ما ادّعاه روبنسون، وفي الترجمة البسيطة للعهد الجديد(2)peshitta ترجمت بعض المصطلحات اليونانية للدلالة على الدجّال والمسيح الدجال على شکل(Mashiha daggalas Daggala)؛ حيث اعتبرهما ترجمتين لكلمة الدجّال في اللغة العربية(3).

ويؤيد رأي روبنسون وجود تشابه كبير بين شخصيّة الدجّال في الروايات الإسلامية والمسيح الدجّال في عقيدة النصارى، لكن مع ذلك لا يمكن ادّعاء أنّ المسلمين اقتبسوا هذه الشخصية منهم؛ لمجرّد وجودها في الفكر المسيحي الذي يضرب بجذوره في عهد ما قبل الإسلام؛ أي لا صوابية لقول من قال إنّه شخصيّةٌ غريبةً على الثقافة الإسلامية؛ وكما ذكرنا آنفا فإنّ مصطلحي الدجّال وآخر الزمان يجسّدان مفهومين مشتركين بين جميع الأديان الإبراهيمية، إلا أنّ خلفياتهما وما سيحدث على ضوئهما مستقبلًا، يختلفان نوعًا ما من دين إلى آخر؛ مع كون المحور المشترك في ما بينها هو إقامة العدل وإصلاح المجتمع(4).

وأكد كثير من علماء اللغة على الجذور اللغوية العربية لهذه الكلمة، حيث تعني برأيهم

ص: 177


1- Ibid.
2- الترجمة البسيطة أو البشيطتا تعتبر أقدم ترجمة للتناخ والأناجيل إلى السريانية، وهي لا تزال النسخة الرسمية المستعملة لدى مختلف الكنائس السريانيّة حتى اليوم. السبب في تسمية الترجمة ب_«بشيطتا» هو تدوينها بلغة بسيطة وسهلة الفهم، على عكس غيرها من التراجم اليونانية . (https://ar.wikipedia.org/wiki/this
3- Ibid., p. 110.
4- للاطلاع أكثر، راجع: إسماعيل إحسان بور، آينده بشریت از دیدگاه قرآن و عهدين رسالة ماجستير مدوّنة باللغة الفارسية، جامعة آزاد الإسلامية - دائرة العلوم والبحوث، 2006م، ص 203 - 275 .

الخلط بين الحق والباطل(1)، ويوصف بها كل مَنْ يُبالغ في الغشّ والمكر والخداع وتضليل الناس بأي وسيلة كانت بأنّه دجّال؛ وعرّفها محمد بن مكرم بن منظور في كتابه الشهير لسان العرب، قائلًا: «كُلُّ كَذَّاب فَهُوَ دَجَّالٌ، وَجَمْعُهُ دَجَّالون وَقِيلَ: سُمِّي بِذَلِكَ لأَنه يَسْتُرُ الْحَقِّ بِكَذِبِهِ. والدَّجَّالِ والدَّجَّالَة: الرُّفقة الْعَظِيمَةُ. ورُفْقة دَجَّالَةٌ: عَظِيمَةٌ تُغَطِّي الأَرض بِكَثْرَةِ أَهلها، وَقِيلَ: هِيَ الرُّفْقة تَحْمِلُ الْمَتَاعَ لِلتَّجَارَةِ ... سُمِّي دَجَّالًا لِتَمْوِيهِهِ عَلَى النَّاسِ وَتَلْبِيسِهِ وَتَزْيِينِهِ الْبَاطِلَ، يُقَالُ: قَدْ دَجَلَ إِذا مَوَّه ولَبَّس»(2). كلّ هذه المعاني تحكي بطبيعة الحال عن نمط متشابه من السلوك البشري، لذا فهي متقاربة مع بعضها إلى حدّ كبير(3).

وعرّف الخليل بن أحمد الفراهيدي هذا المصطلح بأنّه ذو معنى مضاد لمفهوم المسيح(علیه السّلام)، حيث قال: «والدجّال : المسيح الكذّاب، ودَجله سحره وكذبه؛ لأنّه يدجُل الحقَّ بالباطل؛ أي يخلطه، وهو رجل من اليهود يخرج في آخر هذه الأمة»(4).

وخلاصة الكلام أنّ الروايات الإسلامية التي تطرّقت إلى بيان أحداث آخر الزمان وما سيجري من وقائع غير معروفة سابقًا بين البشر ، نُقلت في كثير من المصادر ، لكن لحد الآن لم يبادر أحد الباحثين إلى تدوين دراسة موسّعة حول وثاقة أسانيدها، كما لا يوجد اتفاق بين المسلمين على ما طرح فيها من مواضيعَ متنوّعة(5).

ص: 178


1- Cf. Edward William Lane, Arabic-English Lexicon, Beirut, Lebanon, 1865 A.c., Book 1, p. 853.
2- محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب مادة (دجل).
3- راجع: م. ن.
4- الخليل بن أحمد الفراهيدي، العين، مادة (دجل).
5- راجع: محمد مجتهد شبستري وآخرون مدخل كلمة (آخر الزمان) دائرة المعارف بزرگ اسلامي (باللغة الفارسية)، ج1،ص 135 .وتجدر الإشارة هنا إلى أن المستشرقين تعاملوا مع هذه الآيات باهتمام بالغ وتراوحت آراؤهم حول تفاسيرها بين النفي والإثبات، مثلا هناك تفاسير ذكر مؤلفوها أنّ النبيين إدريس وإلياس(علیهما السّلام)ما زالا على قيد الحياة، لكننا لا نرى إزاءها ردود أفعال جادةً من قبل المستشرقين، وذلك لأنّهم لا يعتقدون بكونها طرحت من قِبَل المفسّرين المسلمين على ضوء نزعاتهم الطائفية؛ كما هو الحال بالنسبة إلى قضايا أخرى؛ لذا نلمس ردود أفعال جادةً من قبلهم قبال تلك المسائل التي تمثل مرتكزات عقديّةً مسيحية لديهم، ولا سيّما مسألتي قتل النبي عيسى(علیه السّلام)وصلبه.

الفصل الثاني

التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن السيدة مريم(سلام الله علیها)

اشارة

ص: 179

ص: 180

يلاحظ في تعامل المستشرقين مع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن سيرة السيدة مريم(سلام الله علیها)وما شهدته من أحداث في حياتها أنّهم اعتمدوا بشكل أساس على مرتكزاتهم العقدية المسيحيّة، ومن هذا المنطلق بادروا حين تفسيرها وبيان مداليلها إلى المقارنة بين المضمون القرآني ومضمون الكتاب المقدّس، حيث طرحوا آراءهم في هذا الصدد؛ وفقًا لما لديهم من معلومات إنجيلية مقتبسة من الأناجيل القانونية الشائعة بين أتباع الديانة المسيحية ومن معلومات مستبطنة في النصوص الدينية غير المعتبرة - وبما فيها الأناجيل المنتحلة- التي يطلق عليها أبوكريفا (Apocrypha).

هذا هو الأسلوب المتبع من قِبلهم، والهدف منه تفعيل معطيات نصوصهم المقدسة المعتبرة (القانونية) وغير المعتبرة (المنتحلة)؛ لأجل بيان ما يعتبرونه فراغا مفهوميًا في النص القرآني، لذا نجدهم - أحيانًا - يوضّحون أحد المواضيع بالرجوع إلى أحد الأناجيل المعتبرة لديهم، لكنّهم -أحيانًا- أخرى يلجأون إلى الأناجيل المنتحلة -أبوكريفا-، ما يعني ذهاب جهودهم البحثية هباءً، وعدم اعتبار النتائج التي يتوصلون إليها، وعلى هذا الأساس -عادةً-ما تكون رؤية المستشرق تجاه القرآن الكريم متطرّفةً وغير قائمة على الأصول المعتبرة في البحث العلمي.

والمسألة الهامة التي ينبغي بيانها بخصوص تعاملهم مع الآيات التي تتحدّث عن السيّدة مریم(سلام الله علیها)هي ارتكازهم على معلوماتهم المترسخة في أذهانهم والتي تتناغم مع تعاليم دينهم المسيحيّ، حيث جعلوها محورًا لتفسير هذه الآيات، ومن هذا المنطلق ادعوا أنّ الكثير من خصائص هذه الشخصيّة المقدّسة المنقولة في القرآن الكريم إما أن تكون مقتبسةً بالكامل من القصص الإنجيلية المستوحاة من نصوص أبوكريفا؛ أي النصوص المنتحلة، أو أنها تعكس ما ذُكِرَ في مختلف الأناجيل بنحو ما(1).

وقد تمحورت مواضيع بحوثهم التفسيرية التي دوّنوها بخصوص السيدة مريم(سلام الله علیها)في القرآن الكريم بشكل أساس حول القصص القرآنية والإنجيلية وسائر القصص والحكايات المذكورة في النصوص والأساطير المسيحيّة. فعلى سبيل المثال: حينما تطرّقوا إلى بيان الأحداث التي

ص: 181


1- Wensinck, Ibid., p. 629.

رافقت ولادتها، سلّطوا الضوء على سورة آل عمران التي ذكرت قصتها ضمن مجموعتين من الآيات، لذلك تطرّقوا أوّلًا للآيات التي تتحدّث عن نذر ،والدتها ونزول الملائكة عليها - على مريم، واصطفائها من قِبَل الله عزّ وجلّ، وتطهيرها، واختيارها صفوةً من بين نساء العالمين وطبيعة عبادتها التي أُمرت بها، ثمّ قارنوا هذه الآيات مع ما ذُكِرَ في سورة مريم؛ والنتيجة التي توصل إليها أحد المستشرقين ضمن هذه المقارنة أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ربّما اطلع أولا على قصّتَي ولادتي النبيين يحيى وعيسى(علیهما السّلام)ثم اطلع على قصة ولادة السيدة مريم(سلام الله علیها)(1).

وفي ما يلي نتناول الموضوع بالبحث والتحليل وفق منطلقين؛ هما:

1. تفسير آيات سورة آل عمران:

حينما تطرّق المستشرق غابريال سعيد رينولدز إلى تفسير الآيات القرآنية التي تتحدّث عن السيّدة مريم(سلام الله علیها)، سلّط الضوء على الآيات 35 إلى 41 من سورة آل عمران(2)والتي هي في الحقيقة المجموعة الأولى من الآيات التي تتحدّث عن سيرة هذه السيدة الصالحة، ومما قاله في هذا الصدد: «الصورة القرآنية المطروحة في هذه الآيات لمريم، هي صورة تحكي عن سيّدة صالحة، السيّدة الوحيدة التي ذكرها القرآن باسمها وذكر أحداث ولادتها. المواضيع التي طرحت في وهي هذه الآيات عبارةٌ عمّا يلي: اصطفاء آل عمران نذر طفل لم يولد بعد من قبل زوجة عمران، وضع هذه الزوجة حملها، تأكيدها على أنّها ولدت أنثى وتعجبها من ذلك وحتى يأسها لكون المولود ليس ذكرًا، الإشارة إلى أنّ هذه الوليدة تختلف عن غيرها لكون الله اصطفاها وطهرها وفضّلها على سائر النساء». وأضاف أنّ أفضليّة السيدة مريم(سلام الله علیها)على سائر النساء في القرآن أشير إليها على ضوء كيفيّة ولادتها ونشأتها في سياق ولادة النبي يحيى(علیه السّلام)ونشأته(3)؛ فالقرآن أخبر بأن زكريا والد يحيى قد تكفّل بتربية مريم، وبهذا ربط بين القصّتين ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيّا﴾.

ص: 182


1- Ibid., p. 630
2- قال -تعالى-: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَماً وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيْدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنِّي يَكُونُ لي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرُ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْرًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ (سورة آل عمران، الآيات 35-41).
3- راجع: سورة مريم، الآيات 10 إلى 33؛سورة آل عمران ، الآيات 35 إلى 41.

والنتيجة التي توصل إليها هذا المستشرق هي في الحقيقة على غرار ما استنتجه معظم المفسّرين المسلمين وفحواها أنّ دعاء زوجة عمران لمريم وذرّيّتها بأن يحفظهم الله من الشيطان الرجيم يدلّ على أنّها -مريم- لها الأفضليّة على غيرها؛ لأجل ابنها عيسى(علیه السّلام): ﴿وَإِنِّي أُعِيدُهَا بِك وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ﴾. ثمّ تطرّق إلى ما ذكره القرآن الكريم بخصوص النشأة الفريدة من نوعها لهذه السيّدة الصالحة: ﴿ فَنَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ وكيف إنها التزمت المحراب ليكرمها الله - تعالى - برزق إعجازي، وهي في هذه الحالة طبعًا كانت تحت رعاية زكريا وتكفّله؛ وبعد أن تحدّثت الآيات عن تبشيره بيحيى، تحدثتمرّةً أخرى عن مريم، وأكّدت على أنّ الله - تعالى - اصطفاها وطهرها، ثم عادت إلى الحديث عن موضوع "كفالتها(1).

وقد تحدّث القرآن الكريم بشكل استثنائي عن السيدة مريم(سلام الله علیها)؛ لكونها شخصيةً استثنائيةً وآيةً عظيمةً من آيات الله عزّ وجلّ، حيث ذكر أهم الأحداث التي شهدتها في طفولتها، كذلك لم يتحدّث عن نشأة الأمهات العظيمات في التأريخ البشري ولم يشر إلى عهد ولادتهنّ وطفولتهنّ؛ مثلما تحدّث عن هذه السيّدة الصالحة الجليلة. ولا شكّ في أنّ مرحلة طفولتها وحداثتها وحملها وهي عذراء، ثمّ وضعها مولودًا ترعرع على يدها ليصبح من الرسل أولي العزم؛ كلّها كلّها براهين ساطعة على كونها من عجائب الخلقة الإلهيّة؛ مُضافًا إلى أنّ أمّها -أيضًا- ذاتُ منزلةٍ عظيمةٍ وشأن رفيع في عالم الخلقة : ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.

2. تفسير العبارات الغامضة :

الفرضية الأساس التي يرتكز عليها الفكر الاستشراقي حينما يواجه المستشرق مضامين مشتركةً بين القرآن الكريم والنصوص المسيحيّة، هي انسجام المضامين القرآنية مع هذه النصوص؛ باعتبار أنه مستوحى منها؛ ومن هذا المنطلق يبادرون إلى بيان مكامن الغموض

ص: 183


1- قال -تعالى-: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (سورة مريم، الآيتان 42 - 44). Reynolds, The Qur'an and its Biblical Subtext, London New York: Routledge, 2012, p. 132

والعبارات التي يعتبرونها معقدةً أو متباينةً مع مداليل نصوصهم أو متناقضةً معها، ولا فرق لديهم في ذلك بين النصوص المسيحية الإنجيلية الثابتة، وتلك النصوص الضعيفة غير المعتبرة - أبوكريفا - فهدفهم هو ملء الفراغ المفهومي، وتحميل النصّ القرآني مفاهيم إنجيليةً؛ مهما كان مصدرها.

إذًا، التعاليم المسيحية هي المعيار المعتمد في الدراسات الاستشراقية الخاصة بالقرآن الكريم، حيث يؤكِّد المستشرقون على أنّ الكثير من القضايا المنقولة فيه إما أن تكون منطبقةً بالكامل مع الأناجيل المنتحلة أو أنّ جزءًا منها - فقط - يتناغم مع مضامين هذه النصوص المسيحيّة(1)؛ لذلك حتّى وإن تبنّوا أحيانًا رؤى تنسجم مع ما تبنّاه المفسرون المسلمون، لكنّهم غالبًا ما يطرحون آراء سلبيةً (غير ودّية) وتشكيكيةً حول المضامين القرآنية، ولا سيّما عند مشاهدة تعارض بينها وبين مضامين الكتاب المقدس، أو عند ملاحظة تشابه بينها وبين مضامين الأناجيل المنتحلة؛ وهذا التوجّه بلغ درجةً من التطرّف بحيث قال أحدهم: «لا نجد دائما ارتباطًا مباشرًا بين نصوص الكتاب المقدس والنصوص القرآنيّة، فهذه النصوص - نصوص الكتاب المقدّس - تغلغلت في القرآن بشكل مكرّر عن طريق التفاسير الحاخامية وتفاسير المسيحيّة الأولى؛ إذ هناك اشتراك بين التعاليم الإسلامية وتعاليم الكتاب المقدّس ضمن تراث أدبي متعدّد اللغات والثقافات»(2).

وفي هذا السياق ادّعى غابريال سعيد رينولدز أن جزئيات النص المسيحي هي الحل التفسيري لغموض العبارات القرآنية المعقدة في قصة مريم(سلام الله علیها)ضمن سورة آل عمران، وهذا الادعاء ليس سديدًا؛ لأنّ القرآن الكريم ذكر بصريح العبارة كون هذه القصص غيبية؛ بحيث لم يكن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وقومه على علم بها: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَلَدَيْهِم إِذ يلقون أقلامهم ایهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾(3).

ص: 184


1- Wensinck, Ibid., p. 629
2- Anglika Neuwirth, "Not of the east nor of the West, Q. 24: 35 Locating the Qur'an within the History of Scholarship", Not yet Published, p. 6. هذه المقالة لم تطبع حين تدوين هذا الكتاب والسيدة أنجليكا نويورث أرسلتها إلينا مع مقالات عدة أخرى ما زالت في مرحلة التنقيح بعد أن طلبنا منها ذلك، لذا فإنّ معلوماتها المكتبية غير كاملة وبحاجة إلى تنقيح.
3- سورة آل عمران، الآية 44

المبحث الأوّل: مريم بنت عمران وأخت هارون:

اعتبر غالبيّة المستشرقين هويّة السيدة مريم(سلام الله علیها)من جملة القضايا الغامضة في الآيات القرآنية التي وصفتها ببنت عمران وأخت هارون: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي ﴾(1)﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتى أَحْصَنَتْ فَرَجَهَا﴾(2)،﴿ويَتأُخْتَ هَرُونَ ...﴾(3).

وادّعى هؤلاء المستشرقون أنّ مريم التي أشارت إليها هذه الآيات هي أخت موسى وهارون(علیه السّلام)المذكورة في كتابهم المقدّس، ومن المؤكد أن السبب الذي دعاهم إلى طَرْح هذا الرأي هو مرتكزاتهم العقدية المستوحاة من الكتاب المقدّس وإيمانهم بأن نصوصهم المقدّسة أفضل من النص القرآني وأصح منه، فضلًا عن تصوّرهم الخاطئ بخصوص منشأ القرآن الكريم(4). الموضوع الأساس الذي جعلوه محورًا لنقدهم في هذا المضمار، هو وصف القرآن الكريم للسيدة مريم أمّ المسيحي أم المسيح(سلام الله علیها)بأنها أخت هارون، وفي ما يلي نسلّط الضوء على آرائهم

ص: 185


1- سورة آل عمران، الآية 35.
2- سورة التحريم، الآية 12.
3- سورة مريم، الآية 28.
4- تتّسم الرؤية الاستشراقية للقرآن الكريم بطابع تحليلي لغوي، حيث يعتبره المشتشرقون نصّا لغويًا، ومن هذا المنطلق بادروا إلى البحث عن مضامينه المستوحاة من النصوص السابقة أو المتأثر بها بحسب ادعائهم. ويقول الباحث سمير خليل سمير موضّحًا هذا التوجه الاستشراقي: «إذا اعتبرنا القرآن نصَّا لغوياً، فالسؤال التالي يطرح نفسه بكل تأكيد ما هو مدى تأثير النصوص اللغوية السابقة عليه ؟ بإمكاننا البحث عن تأثير الكتاب المقدس اليهودي - المسيحي عليه عبر الاستقصاء في إشاراته إلى الكتاب المقدس والأجواء المسيحية الحاكمة في مكة واليهودية الحاكمة في المدينة آنذاك». (Samir Khalil Samir, p. 141). كما زعم أن التراث القصصي المسيحي ملموس في السرد القصصي القرآني؛ مثل: قصص طفولة السيدة مريم ومعجزات النبي عيسى في طفولته وغيرها من قصص؛ فهذه القصص برأيه مستلهمة من الأناجيل المنتحلة - أبوكريفا - والأناجيل القانونية كاتب النص القرآني أراد إعادة تدوين تلك الأحداث التي لديه احتمال كبير بصوابيتها، حيث جمعها بأسلوب خاص؛ وأحيانًا بادر إلى نقلها دون أن يفهم مضمونها». (Ibid. p. 159) ثم استدلّ على رأيه هذا مستشهدًا ببعض التعابير والمصطلحات المسيحية؛ مثل روح القدس، وكلمة الله، وأضاف قائلًا: «... لكن الانسجام والترابط يراد منهما أنّ النصّ القرآني لا بد أن يضفي قضايا جديدة للقصّة؛ لكي يقلّل من مستوى تأثره في ما ينقله من أخبار؛ ومثال ذلك إضافة عبارة (بإذن الله) بعد ذكر معجزات عيسى، أو إضفاء معانٍ أخرى على بعض المصطلحات مثل استخدام كلمة (روح) للدلالة على أحد الملائكة، أو أنه أحيانًا يترك العبارة غامضةً على المخاطب». (Ibid). هذا الادعاء وما شاكله كما ذكرنا أنفا - يطرح على ضوء تجاهل صريح النص القرآني، فهو يؤكّد بصريح العبارة على أن هذه القصص غيبية ولا علم للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ولا لقومه بها، ومثال ذلك قوله -تعالى- في الآية 44 من سورة آل عمران: ﴿ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَفْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾. ونستشف من هذه الآية أن القصة التي أشارت إليها تعدّ من الأخبار الغيبية التي أوحاها الله - عز وجل - إلى نبيه محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)الذي لم يكن موجودًا حينما وقعت أحداثها، واللافت للنظر أن القرآن الكريم يوضح تفاصيل هذه القصّة وسائر القصص بدقة متناهية وكأن النبي كان حاضرًا وشاهدًا على ما حدث.

التفسيرية بخصوص هذا الموضوع :

1. وجهة تفسيرية معارضةٌ للتفسير الإسلامي على ضوء ظاهر النص القرآني ومقارنته مع مضمون الكتاب المقدس.

معظم المستشرقين حين تحليلهم هذه العبارات القرآنية زعموا أنّها من جملة الأخطاء التي وقع بها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،وعلى هذا الأساس اتهموا القرآن الكريم بكونه خلط بين الحقائق والأحداث التأريخيّة(1)، فهو في هذه العبارات نقض التأريخ المتعارف في العهدين.(2)

وجدير بالذكر أنّ بعض المستشرقين من أمثال كاتب المقالة المعنونة (مريم) في الموسوعة القرآنية(3)، لم يتطرّقوا إلى هذا الأمر.

لا شك في بطلان مزاعم أولئك الذين ادّعوا أنّ القرآن الكريم وقع في خطأ تأريخي لدى نقله هذه القصّة، وذلك لأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يعرف حق المعرفة تلك الفاصلة الزمنية الكبيرة بين عهد موسى وهارون(علیهما السّلام)و عهد مريم وابنها(علیهما السّلام)والتي تبلغ ستة قرون بحسب الرواية التي نقلها الطبري في تأريخيه؛ فقد عرف(صلی الله علیه و آله و سلم)بذكائه وفراسته -وهذا ما يعترف به الكثير من المستشرقين - لذا كيف يمكن أن يقع في خطأ لا مسوّغ له كهذا ؟! ألم يكن يعلم بأنّ مريم أخت هارون وموسى عاشت قبل مريم أم عيسى بمئات السنين(4)؟!

ص: 186


1- Arthur Jeffery, Foreign Vocabulary of the Qur'an, Lahor: Al - Biruni, 1977, p. 49; Andrew Rippin, "Aaron", EQ, edited by Jane Dammen McAuliffe, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, 2001, Vol. 1, pp. 1-2; Wensinck, Ibid
2- Reynolds, Ibid., p. 133
3- المقصود من الموسوعة القرآنية - هنا - النسخة الفارسية المعنونة (دائرة معارف القرآن).
4- ذكر في سفر الخروج (6:20) أنّ عمران - عمرام - هو والد النبي موسى وهارون(علیهما السّلام)، وذكر في الإصحاح الخامس عشر (الآية 20) من هذا السفر أن مریم النبية (Miriam) هي أخت هارون . أشير في الإصحاح العشرين (الآية (1) من سفر العدد إلى موت مريم النبيّة أخت موسى وهارون(علیهما السّلام)، وذكر الإصحاح الثامن والعشرين (الآيتان و 58 - 59 من هذا السفر أن يوكابد هي زوجة عمرام، وقد أنجبت له هارون وموسى وأختهما مريم «هذِهِ عَشَائِرُ لَآوِي: عَشِيرَةُ اللَّبْنِيِّينَ وَعَشِيرَةُ الْحَبْرُونِيِّينَ وَعَشِيرَةُ الْمَحْلِيِّينَ وَعَشِيرَةُ الْمُوشِيِّينَ وَعَشِيرَةُ الْقُورَحِيِّينَ. وَأَمَّا قَهَاتُ فَوَلَدَ عَمْرَامَ. * وَاسْمُ امْرَأَةِ عَمْرَامَ يُوكَابَدُ بِنْتُ لاَوِي الَّتِي وُلِدَتْ لِلآوِي في مِصْرَ، فَوَلَدَتْ لِعَمْرَامَ هَارُونَ وَمُوسَى وَمَرْيَمَ أُخْتَهُمَا». وتفيد الأناجيل أن نسب النبي عيسى(علیه السّلام)ليرجع إلى يوسف النجار بن متان بن يعقوب (إنجيل متى، 1:1-61)، وأن إخوة مريم هم يعقوب ويوسف وشمعون ويهوذا (إنجيل متى، 13: 55 -56) هذا يعني أن السيدة مريم أمّ النبي عيسى(سلام الله علیها)لم يكن لديها أخ باسم هارون، فهي بحسب الروايات الإسلامية ابنة عمران ومن نسل هارون أخي موسى، ومن ذرية لاوي؛ إلا أن الرواية المسيحيّة لا تنسبها إلى لاوي، بل تنسبها إلى الملك داوود وتعتبرها من ذرية يهوذا اسم أمها حنة Saint Anne وخالتها بحسب الرواية الإسلامية أو ابنة خالتها بحسب الرواية المسيحيّة هي أليصابات (أليزابيث) زوجة زكريا؛ لذا فوالدها هو عمران وفقًا للمعتقدات الإسلامية، ويهو ياقيم؛ وفقًا للمعتقدات المسيحية. نقل غابريل سعيد رينولدز عن إنجيل جيمس (protoevangelium of James) الذي يعتبر من جملة الأناجيل المنتحلة - أبوكريفا - أن اسم أبيها يواقيم (Joachim) وليس عمران (عمرام). (Reynolds, Ibid., p. 140)

ما يدعو للعجب - هنا- أنّ الرؤية التي تبنّاها غالبية المستشرقين تجاه هذا الموضوع هي في الواقع ذات طابع غير ودّي، وتنمّ عن فكر مناهض للإسلام وإلا هل هناك رواية إسلامية اُدُّعِي فيها أنّ مريم أم المسيح عيسى(علیه السّلام)هي أخت هارون وموسى(علیهما السّلام)؟! وهل هناك مفسّر اُدُّعِي فيها أنّ مريم أم المسيح عيسى هي مسلم زعم ذلك ؟! المستشرقون أنفسهم أقروا بأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان على علم بالفاصلة الزمنيّة بين عهدَي النبيين موسى وعيسى(علیهما السّلام)(1).

2. وجهةٌ تفسيريّةٌ مؤيدة للتفسير الإسلامي بخصوص كلمتَي "بنت" و"أخت" في إطار دلالة مجازية :

أيّد الباحث سليمان علي مراد ضمن آخر مقالة دوّنها، التفسير الإسلامي لما ذكرنا، واعتبر كلمة «أخت» في قوله - تعالى -: ﴿يَتأُخْتَ هَرُونَ﴾ ذات دلالة مجازية، وقال في هذا السياق إنّ القرآن الكريم بشكل عام - بل مرارًا لا نادرًا - استخدم مصطلحي "أخ" و"أخت" للإشارة إلى العلاقات القوميّة والقبلية أو الدينية(2). وأضاف أنّ النصوص المسيحيّة المقدسة استخدمت مصطلح ابن للدلالة على البنوّة المباشرة بين الولد والأب في حين أنّ القرآن الكريم استخدم هذا المصطلح ومصطلح بنت - أيضًا - للدلالة على هذا المعنى، وعلى معان أخرى مثل النسل والذرّية؛ مثل: مصطلح بني إسرائيل الذي يراد منه قوم إسرائيل، ولا يُراد منه أبناء النبي يعقوب(علیه السّلام)الذين أنجبهم مباشرةً؛ ومثل مصطلح بني آدم الذي يحكي عن جميع البشر، ولا يُراد منه الأبناء الذين أنجبهم آدم(علیه السّلام)مباشرة(3).

كلمتا أخ وأخت ذكرتا في القرآن الكريم 28 مرّةً ومعنياهما الاصطلاحيان لهما دلالات عدة مثل: العشيرة والقبيلة: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحَا قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم

ص: 187


1- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الرحمن بدوي، دفاع از قرآن در برابر آراء خاورشناسان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين سيدي ،إيران، مشهد، منشورات «به نشر»، الطبعة الأولى، 2004م، ص 252
2- راجع: سورة آل عمران، الآية 103؛سورة الأعراف، الآيتان 38 و73. Cf. Suleiman Ali Mourad, "Mary in the Qur'an: A reexamination of her presentation", The Qur'an in its historical context, edited by Gabriel Said Reynolds, London New York: Routledge, 2007, pp. 163 - 174.
3- Ibid., p. 165

مِنْ إِلَهِ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَ تَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ ﴾(1)، أو العلاقات الدينية:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَا ﴾(2)، لذا ليس من الصواب بمكان تجاهل المعنى الاصطلاحي وادعاء أنّ المدلول القرآني لكلمتي بنت وأخت يُراد منه معنياهما اللغويان - المعنى الحقيقي فقط بداعي أنّ المعنى اللغوي هو الشائع لهما(3)

وممّا قاله -أيضًا- في هذا الصدد: «السّياق القرآني الذي خُوطبت فيه مريم: ﴿ يَتأُخْتَ هَرُونَ ﴾، له ارتباط بالمعبد وكهنته، لذا من المعقول بمكان أنهم يذكرونها بجدّها هارون لتعظيم ما اعتبروه؛ انحرافًا أخلاقيًا من قِبلها، فهارون هو الشخص الوحيد الذي تستحق ذرّيّته وأعقابه أنْ يكونوا خدَمَةً للمعبد ؛ ومريم طبعًا من نسله»(4).

والنتيجة النهائية التي توصل إليها تتلخّص في كلامه التالي: «لا يوجد أي دليل في هذا المجال يوجب القول بأنّ القرآن استخدم المدلول الحقيقي في توجيه الخطاب لمريم يا أخت هارون و يا بنت عمران، وإنّما هو خطاب رمزي [مجازي](5).

ويبدو أنّ هذا الاستدلال مقبول؛ لأنّ الآية في مقام بيان ذمّ القوم للفعل الذي نسبوه إلى مريم(سلام الله علیها)، وهو من الطبيعي أنّ ذمّ فعل الإنسان يكون أكثر وقعًا؛ في ما لو ذكّر بجذوره الثقافية وعراقته الأسريّة؛ أي أنّ تأثيره يتزايد وجانبه النقدي يصبح أشدّ وطئًا عندما يقارن الآخرون شخصيّة المخاطب مع شخصيات أسلافه.

يقول الشيخ محمد هادي معرفت في هذا الصدد: «إذَّ، قوم مريم أرادوا تشديد توبيخهم لها، لذلك أشاروا إلى أصلها ونسبها وأسرتها، حيث قالوا لها : إنّك من عائلة عفيفة، لماذا وقعت فى خطأ كهذا؟! المتعارف بين الناس في تلك الآونة إطلاق أسماء الأسلاف من رجال ونساء على الإنسان احترامًا وتكريمًا له، ولا سيّما إنْ كان من ذرّيّة شخصٍ عظيم؛ مثل: هارون الذي هو

ص: 188


1- سورة الأعراف، الآية 73.
2- سورة آل عمران، الآية 103.
3- Ibid
4- Ibid
5- Ibid., p. 160

محترم بين بني إسرائيل وذو شأن رفيع عندهم، وكبار الكهنة الأوائل كانوا من أولاد لاوي الذين شكّلوا أكبر قبيلة في بني إسرائيل»(1). وكما ذكرنا -آنفًا - فالسيدة مريم(سلام الله علیها)تنتسب من جهة إلى هارون(علیه السّلام).

وذكر المفكّر عبد الرحمن بدوي احتمالا آخر في هذا المجال، حيث قال: «والد مريم توفّي قبل ولادتها، فتكفّلها زوج خالتها زكريا، لذا فقد كان بحكم والدها، وبما أنّه من نسل هارون؛ فمريم هي الأخرى من نسله نوعًا ما»(2).

وتحدّث سليمان علي مراد -أيضًا- عن مدلول قوله - تعالى -: ﴿اَمْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ ضمن الآية 35 من سورة آل عمران، وقال موضّحًا: «هذه العبارة تشير إلى عمران المذكور في الكتاب المقدس، ويقصد منها أنّ أم مريم قد تزوّجت أحد أحفاده»(3)ويمكن اعتبار رأي بدوي مكملاً للرأي الذي تبنته المستشرقة دونيز ماسون، فقد اعتبر العلاقة بين مريم والدة النبي عيسى ومريم المذكورة في سفر الخروج، علاقة رمزيةً، وهذه الرمزيّة هي على غرار وصف النبي عيسى ابنا لداوود في العهد الجديد (إنجيل لوقا، 1: 32)، واعتبار أليصابات من نسل هارون (إنجيل لوقا 1 :5)(4).

الاستدلال الآخر الذي طرحته دونيز ماسون هو أنّ المسيحيين على ضوء اعتقادهم بأنّ اسم أمّ مريم في كتاب صاموئيل(The Hannah)أطلقوا عليها أوّلًا اسم آنا ثمّ حنّة ثمّ حنّا؛ وربّما القرآن الكريم فعل الشيء ذاته مع مريم(5).

بعض الباحثين اعتبروا هذا الاستدلال تشدّقًا لا مسوّغ له، إذ لا يوجد أي دليل يثبت أنّ القرآن الكريم صاغ قصّة السيّدة مريم والدة النبي عيسى على أساس قصّة مريم أخت هارون وموسى(6).

ص: 189


1- محمد هادي معرفت، نقد شبهات پیرامون قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسن حكيم باشي وآخرون، إيران، قم، منشورات مؤسسة تمهيد، 2009م، ص 115 . راجع أيضاً: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن ،إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 6، ص 512.
2- عبد الرحمن بدوي، دفاع از قرآن در برابر آراء خاورشناسان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين سيدي، إيران، مشهد، منشورات «به نشر﴾، الطبعة الأولى، 2004م، ص 236.
3- Ibid., p. 166
4- (Masson, p. 311.)
5- (Ibid., p. 314.)
6- (Reynolds, Ibid., p. 145.)

وأكد المستشرق آرند جان فنسنك على أن مصطلحي أخت وأخ في اللغة العربية يدلان -أيضًا- على علاقات أسريةٍ أو جذور عرقية أو علاقاتٍ روحية(1).

واللافت للنظر في هذا الصدد أنّنا لا نمتلك أيّ مصدر دقيق بخصوص نسب السيدة مريم(سلام الله علیها)وجذورها العرقية، ذكر في إنجيل لوقا - فقط - أنّ زوجة النبي زكريا وأم النبي يحيى؛ أليصابات (إليزابيث) من ذرّيّة هارون كما اعتبرت من أقارب السيدة مريم أمّ المسيح (إنجيل لوقا، 1 : 5 و36).

السيدة مريم هي

ونقل أحد الباحثين عن القدّيس هيبوليت كلامًا فحواه أنّ آنا (حنّة) (Anne) والدة أخت صوبا (صوفيا) والدة أليصابات )إليزابيث)(2). وذكر في قاموس الكتاب المقدّس أنّ والدة السيدة مريم هي أخت أليصابات وتنحدر من نسل لاوي وذرية هارون(3).

وجدير بالذكر هنا- أنّ معظم المفسّرين المسلمين لدى تفسيرهم الآية 33 من سورة آل ،عمران حينما تطرّقوا إلى بيان مدلول مصطلح آل" "عمران" قالوا إنّ السيدة مريم(سلام الله علیها)هي ابنة عمران بن ماثان الذي كان من أحبار اليهود وصلحائهم، وينحدر من نسل هارون أخي موسى لا من نسل سليمان بن داوود؛ كما يدّعي البعض. وفي هذا السياق أكدوا على أنّ عمران هذا ذكر في كتب النصارى باسم يواقيم (Joachim) ما يعني أنّه كان ينادى باسمين(4).

واستنتج العلامة محمّد حسين الطباطبائي، على ضوء سياق الآيات التي تحدثت عن السيّدة مريم(سلام الله علیها)، أنّ عمران المذكور فيها هو والدها، واستدلّ على ذلك قائلًا: «وأما آل عمران، فالظاهر أنّ المراد بعمران أبو مريم؛ كما يُشعِر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران، وقد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبي موسى حتّى في موضع واحدٍ يتعيّن فيه كونه هو المراد بعينه؛ وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مریم(سلام الله علیها) وعلى هذا فالمراد بآل عمران وهو مريم ولا عيسى(علیهما السّلام)أو هما وزوجة عمران.

ص: 190


1- (Winsinck, Ibid., p. 629)
2- للاطلاع أكثر، راجع عبد الرحمن بدوي، دفاع از قرآن در برابر آراء خاورشناسان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين سيدي ،إيران، مشهد، منشورات به "نشر"، الطبعة الأولى، 2004م، ص 248.
3- قاموس کتاب مقدس (باللغة الفارسية)، ص 916.
4- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير ،لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 3، ص 84؛محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 8، ص 201.

وأما ما يذكر أنّ النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم ،عمران فالقرآن غير تابع لهواهم(1).

واحتمل غابريال سعيد رينولدز أن يكون لوقا وصف أليصابات (إليزابيث) زوجة زكريا بأنّها ابنة هارون لأنّ زكريا كان كاهنًا في المعبد ومقامه المعنوي يرمز إلى مقام هارون، لذا ليس من المصادفة أن القرآن ذكر خطاب القوم لمريم تحت بعنوان ﴿يَتأُخْتَ هَرُونَ﴾ بعد خروجها من المحراب مباشرةً؛ ما يعني أنّ سبب الوصف القرآني لها بكونها أختا لهارون، هو السبب نفسه الذي دعا لوقا إلى وصف أليصابات بأنّها ابنة هارون؛ فمريم من ذرّيّة الكهنة الذين كان لهم مقام روحاني رفيع بين بني إسرائيل. كما احتمل أن شهرة مريم بين الناس بوصفها ابنة خالة أليصابات(2)، هو السبب الذي دعا القرآن الكريم لأن يعمّم العلاقة الموجودة بين هارون وأليصابات على مريم(3). لكن هناك سؤال يطرح نفسه على رينولدز في هذا الصدد، وهو: لِمَ وصف القرآن الكريم مريم أم عيسى(سلام الله علیها)بأنّها أخت هارون ولم يقل ابنة هارون على الرغم من أنّها من أحفاده؟ لا شك في أنّ وصفها ببنت عمران وأخت هارون يوحي إلى الذهن - بشكل لا شعوري- شخصية والد النبي موسى(علیه السّلام)وأخاه، لذلك قال البعض إنّ عمران المذكور في الآية 33 من سورة مريم هو والد هارون(علیه السّلام)(4)، وبما أن السيدة مريم(سلام الله علیها)والدة النبي عيسى(علیه السّلام)فلا يمكن أن توصف بأخت موسى(علیه السّلام).

كما احتمل غابريال سعيد، رينولدز لدى تحليله مفهومي عبارتي «آل إبراهيم» و «آل عمران»، أن يكون المقصود من الأولى لقبًا لإسحاق وإسماعيل(علیهما السّلام)لتشمل اليهود والمسيحيّين والعرب، فاليهود والمسيحيون يعتبرون أنفسهم أبناء معنويين أو واقعيّين لإسحاق، والعرب يقولون إنّهم من ذرّية إسماعيل؛ ولربما هذا هو السبب في استخدام القرآن مصطلح «آل»؛ حيث أراد الإشارة إلى شخصيات أساسيّة مرتبطة مع بعضها بأواصر خاصة. وأما المقصود من العبارة الثانية «آل عمران» فهو الإشارة إلى ولدي عمران؛ موسى وهارون(علیهما السّلام)(5). وفي هذا السياق

ص: 191


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 168 راجع أيضًا: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 8، ص 201.
2- «وَهُوَ ذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنِ في شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا». (إنجيل لوقا، 1: 36).
3- Reynolds, Ibid., p. 147
4- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الرحمن بدوي، دفاع از قرآن در برابر آراء خاورشناسان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين سيدي ،إيران، مشهد، منشورات «به نشر» ، الطبعة الأولى، 2004م، ص 246.
5- Reynolds, Ibid., p. 146

أكّد على أنّ شخصيّة عمران التأريخيّة واحدةً، إذ لا يوجد عمران سوى والد موسى وهارون(علیهما السّلام)،والمضمون القرآني برأيه ليس تأريخيا؛ ما يعني أن لا عمران في تأريخ البشر سوى هذا الشخص، ومن ثمّ لا يمكن تفسير عبارة «آل عمران» إلا بمعنى ولديه هذين.

ويقول الراغب الأصفهاني: "الآل: مقلوب من الأهل؛ ويصغر على أهيل؛ إلا أنّه خصّ بالإضافة إلى الأعلام الناطقين دون النكرات، ودون الأزمنة والأمكنة... ويستعمل فيمن يختصّ بالإنسان اختصاصًا ذاتيًا إما بقرابة قريبة، أو بموالاة، قال الله عزّوجل: ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾ (آل عمران: 33)(1)"، لذا فمصطلح «آل إبراهيم» ينضوي تحته جميع أبناء النبي إبراهيم(علیه السّلام)من صلب إسماعيل وإسحاق ولكن على أساس قرينة الاصطفاء الموجودة في هذه الآية، فالمقصود منه هو إبراهيم وذريته الصالحة فقط.

وبعض المفسّرين وسعوا نطاق مدلول مصطلح (آل) ليعمّموه على غير الأبناء من أقارب وأبناء عشيرة وموال وكلّ من ينسب إلى مضاف هذا المصطلح وبما في ذلك العبيد والأنصار(2).

وبما أنّ هذه الآية تتضمّن العبارتين معًا - آل عمران وآل إبراهيم - ونظرًا لكون العبارة الأولى تندرج تحت العبارة الثانية، فهي من المحتمل أن تشير إلى أن المراد - هنا - بعض آل إبراهيم لا كلّهم.

وبناءً على ما ذُكِرَ يمكن أن يكون المراد من عمران في قوله -تعالى-: «آل عمران»

والد النبي موسى(علیه السّلام)، وربّما يراد منه والد السيدة مريم(سلام الله علیها)الذي جاء اسمه في ما بعد؛ وفي كلا الحالتين فإنّ عمران وموسى ومريم ينضوون تحت عنوان «آل إبراهيم»(3)، وعلى هذا الأساس فإنّ هذه العبارة تحكي عن عمران وذرّيّته أيضًا. ولهذا السبب وإضافةً إلى قرائنَ تستبطنها هذه الآية(4)والآيات اللاحقة لها، من الأفضل تفسير عبارة آل عمران»؛ بعيسى(علیه السّلام)وكلّ من ينتسب إليه.

ص: 192


1- الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص98، مادة "آل".
2- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، لبنان، بيروت- منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 1، ص 473.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 165 - 166. راجع أيضاً: حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، لبنان، بيروت ،القاهرة ،لندن، منشورات دار الكتب العلمية - مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، الطبعة الثالثة 1430ه_ ج 8، مادة ( ع م ر ) .
4- عزا الفخر الرازي مقصود الآية إلى الردّ على عقيدة النصارى في تأليه النبي عيسى(علیه السّلام)، وقال من الأولى حمل الكلام على جده عمران ماثان «الْمَذْكُورَ عَقِيبَ قَوْلِهِ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ هُوَ عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ جَدُّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فَكَانَ صَرْفُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ أَوْلَى». (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 8، ص 201).

وكما هو معلوم فهذه الآيات تحدّثت عن نشأة السيدة مريم(سلام الله علیها)منذ فترة حمل أمها بها حتّى ولادة عيسى(علیه السّلام)، كما أشارت إلى المناظرة التي جرت بين النبي محمد(علیه السّلام)والنصارى(1).

وتطرّق سمير خليل سمير إلى تفسير هذه الآيات بأسلوب يتناغم مع ما تبنّاه المفسّرون المسلمون؛ محتملاً أنّ عبارة آل عمران » القرآنيّة يُراد منها موسى وعيسى(علیهما السّلام)، فالأول هو الابن المباشر لعمران

والرمز الأوّل لليهود، بينما الثاني يعتبر ابنًا روحيَّا له، لذلك كان في عهده؛ وكأنّه موسى جديد جاء بعهدٍ وميثاق جديد؛ فالقرآن الكريم؛ بدل أن يذكر اسميهما بشكل مستقل، أشار إليهما بشكل مركّب ضمن هذه العبارة، وهذا التركيب مقصود طبعًا وينعكس -أيضًا- في اللفظ غير المتعارف (عيسى Isa)إذ من المحتمل أن يسوع سمّي بهذا الاسم القرآني ليكون منسجما مع اسم موسى(2).

إنّ الاستنتاج الذي طرحه رينولدز لمصطلح ﴿آل﴾قائم على مرتكزاته العقدية المسيحية في الحقيقة التي قوامها وجود عمران واحدٍ -فقط- في التأريخ، وهو عمران والد موسى وهارون(علیهما السّلام)؛والسبب لي في هذا التصوّر كما ذكرنا سابقًا، هو أنّ الكتاب المقدس لم يُشِرْ مطلقًا إلى والد السيدة مريم(سلام الله علیها)سوى إشارته إلى أنه سبط يهوذا ومن نسل داوود، لذا لا مانع من أن يكون اسمه عمران؛ لأنّ هذا الاسم كان شائعًا بين بني إسرائيل آنذاك، فضلًا عن أن شخصًا من بني باني سمّي به «مِنْ بَنِي بَانِي مَعَدَايُ وَعَمْرَامُ وَأُوئِيلُ»(3)، كما أن أحدًا لم ينكر انتساب مريم إليه لحد الآن؛ وعلى هذا الأساس ليس من المستبعد أن يتضمّن القرآن الكريم كلامًا لا وجود له في الكتب المقدّسة القديمة؛ بحيث لم يكن معروفًا من قِبَل أتباع مختلف الأديان في عصر النزول، لذلك قال -تعالى-: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(4). لأنّ قصّة مريم(سلام الله علیها)ذُكِرَت في الكتب السابقة بشكل غير منسّق ومختلف عما ذكره القرآن الكريم، حيث أكد -تعالى- في هذا الكتاب الحكيم على عفّتها وطهارتها التامة(5).

ص: 193


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 8، ص 201؛عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات إسراء، الطبعة الثالثة، 2002م و 2014م، ج 14، ص 106.
2- Samir, p. 142
3- للاطلاع أكثر، راجع: سفر عزرا، 10 : 34
4- سورة آل عمران، الآية 44.
5- راجع: محمد هادي معرفت، نقد شبهات پیرامون قرآن کریم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسن حكيم باشي وآخرون، إيران، قم، منشورات مؤسسة تمهيد، 2009م، ص 116.

إذَا، من المحتمل أنّ المقصود من كلمة «عمران» في الآية 33 من سورة آل عمران، هو والد السيدة مريم(سلام الله علیها)، وحتّى لو قيل إنّ المقصود منه والد هارون(علیه السّلام)، فلا ترد أي مؤاخذة على

النصّ القرآني؛ إذ المراد في هذه الحالة كون مريم من نسل هارون ومن ثمّ؛ فهي من نسل عمران بطبيعة الحال؛ لذا إن اعتبرنا أنّ مريم وأليصابات من نسل هارون بن عمران، فلا بدّ لنا هنا من الإذعان بأنّ هؤلاء الثلاثة مصداق لآل عمران، وهذه الصفة تسري - أيضًا على النبيين يحيى وعيسى(علیهما السّلام)،فهما من آل عمران. ومن هنا تتضح دلالة المفهوم القرآني، ويثبت لنا أن يحيى وأمّه وعيسى وأمه ينتسبون إلى أسرة آل عمران، وكلّهم طبعًا من نسل هارون(1).

3. وجهةٌ تفسيريّة مؤيّدةٌ للتفسير الإسلامي قوامها التفسير التمثيلي:

تطرّق بعض المستشرقين إلى تفسير عبارة: ﴿يَتأُخْتَ هَرُونَ﴾ بأسلوب ينسجم مع ما تبنّاه المفسّرون المسلمون، حيث وضّحوا مدلولها على ضوء استنادهم إلى الأساليب التفسيرية المعتمدة في تفسير نصوص الكتاب المقدّس؛ وفي هذا السياق قالوا إنّ الوحي القرآني ذكر بطل القصّة في بعض تعابيره؛ وفق نمط تمثيلي (تيبولوجي / Typology) وهذا الأسلوب البياني شائع في الحقيقة بين المسيحيين أيضاً(2). وكاتب النص القصصي؛ يجعل وفق هذا الأسلوب إحدى الشخصيات القديمة أنموذجًا ومثالا لشخص أو حادثةٍ أخرى في زمان آخر، أو أنه يجعله كذلك بالنسبة إلى دين آخر.

ويعتبر المسيحيون الكثير من الشخصيات والأحداث المذكورة في العهد الجديد تمثيلا لما تضمّنه العهد القديم، وفي هذا السياق قال المستشرق نيل روبنسون إن مريم أمّ عيسى ربّما هی تمثيل لشخصية النبيّة، فمن أوجه التشابه بينهما أنّ أمّ المسيح أنقذته في طفولته مريم من الملك هيرودوس الذي كان يقتل كلّ طفل آنذاك، وهذا الأمر على غرار ما فعلته أخت هارون؛ حينما أنقذت موسى(علیه السّلام)في طفولته من فرعون الذي كان يقتل كلّ طفل أيضًا؛ كما أنّ حياء مريم أمّ المسيح من قومها حينما أنجبته دون أب يشابه حياء مريم

ص: 194


1- للاطلاع أكثر ، راجع: عبد الرحمن بدوي، دفاع از قرآن در برابر آراء خاورشناسان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين سيدي ،إيران، مشهد، منشورات به نشر » ، الطبعة الأولى، 2004م، ص 252 .
2- راجع: نیل روبنسون، مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: «عيسى در قرآن: عيساي تاريخي و اسطوره تجسد»، ترجمها إلى الفارسية محمد کاظم شاكر، نشرت في مجلة «هفت آسمان»، العدد 24 شتاء 2004م، ص 149. Robinson, "Jesus in the Qur'an, the historical Jesus the myth of God incarnate", pp. 191.

أخت هارون، فقد روي في الكتاب المقدس: «وَتَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى بِسَبَبٍ الْمَرْأَةِ الْكُوشِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا، لأَنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ امْرَأَةً كُوشِيَّةً... * فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ قَائِلاً: اللّهُمَّ اشْفِهَا * فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: وَلَوْ بَصَقَ أَبُوهَا بَصْقًا فِي وَجْهِهَا، أَمَا كَانَتْ تَخْجَلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ؟ تُحْجَزُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، وَبَعْدَ ذلِكَ تُرْجَعُ. * فَحُجِزَتْ مَرْيَمُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَرْتَحِلِ الشَّعْبُ حَتَّى أُرْجِعَتْ مَرْيَمُ »(1).

ويرد على هذا التفسير أنّه لا يقوم على معيار معتبر؛ كما أنّه بعيد عن الواقع، فهناك تكلّف في ادّعاء وجود تشابه بين ما فعلته مریم أخت موسى ومريم أم عيسى، أو بين ما تعرّضتا له من ابتلاءات؛ إذ كيف يمكن تشبيه ابتلاء الأولى بالجذام بما تعرّضت له الثانية من تهمة واهية؛بزعم أنّها أنجبت وليدًا من علاقة زنا، وهذه التهمة وُجهت لها - طبعًا - من كهنة ورجال دين يهود مشرفين على المعبد ؛ إذ قد يكون هذا الأسلوب التفسيري التمثيلي المعهود بين المسيحيين في التعامل مع نصوصهم المقدّسة، هو السبب الذي حفّز غابريال سعيد رينولدز على أن يحتمل كون النص القرآني حاول الربط بين هاتين الشخصيّتين المخاطبيه(2)؛ لكن السؤال الذي يُطرَح عليه في هذا الصدد هو: هل إنّ مسلمي عصر نزول القرآن كانوا على علم بأسلوب تمثيلي كهذا؟ أي هل كانت لديهم معلومات حول الأسلوب التمثيلي المتبع في تطبيق شخصيات العهد القديم على العهد الجديد ؟ إنّ هذا الأسلوب هو ثمرة للجهود التفسيرية المبذولة من قبل علماء اللاهوت في العصور المتأخّرة والتي أريد منها بيان معاني الكتاب المقدس!

واللافت للنظر أنّ هؤلاء المستشرقين طرحوا آراء عديدةً من هذا القبيل على ضوء اعتقادهم بكون النص القرآني لم يطرح مضامينه وفق أسس تأريخية، لذا لا ضرورة للبحث عن وثائق تأريخية لهذه المضامين(3)؛ لذا، فلا ينبغي اعتبار قوله - تعالى -: ﴿يَتأُخْتَ هَرُونَ﴾

ص: 195


1- سفر العدد، 12 : 1 - 15. نیل روبنسون، مقالةٌ باللغة الفارسية بعنوان: «عيسى در قرآن: عيساي تاريخي و اسطوره تجسد»، ص 152 . Ibid., p. 194. عزا بعض المفسّرين المسلمين وصف القرآن الكريم لأم المسيح مريم ب_ «أخت هارون» إلى تشابهها في القدسية والمكانة المرموقة بين قومها مع مريم أخت هارون وموسى. للاطلاع أكثر، راجع: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية) ،إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، 1995م، ج 13، ص 51.
2- Reynolds, Ibid., p.147
3- طرح الأستاذ نكونام هذا الرأي ذاته في محاضراته، حيث أكد على أن القرآن الكريم عرّف نفسه بكونه كتاب تذكير وموعظة، لذا یجب علينا اتخاذ العبر والمواعظ منه لا أن نترقب منه، إخبارنا بأحداث تأريخيّة وقواعد علميّة فلكيّة وما شاكل ذلك من قضايا أخرى. (راجع موقعه الإلكتروني للاطلاع على آرائه).

خلطًا تأريخيا - خطأً تأريخيا - بل هو تفسير تمثيلي ورمز أدبي(1).هذا التوجيه في الحقيقة لا يمكن قبوله بالنسبة إلى جميع الموارد، ولا سيّما المورد الأخير -مريم أخت هارون ومريم أمّ عيسى- لأنّ الإذعان به يتطلب وجود دليل، لكنّنا لا نجد أيَّا من المستشرقين طرح دليلا على ذلك، والتوجيه الوحيد الذي تشبثوا به هو وجود تناقض بين المضمون القرآني ومضمون الكتاب المقدّس لدى اليهود والنصارى.

4. وجهةٌ تفسيريّة مؤيّدةٌ بالكامل للتفسير الإسلامي وقبول المعنى الظاهري:

يعُدّ يوسف درّة الحدّاد من جملة الذين أيّدوا القصص القرآنية بخصوص السيدة مريم أم عيسى(سلام الله علیها)، دون أن يتشبّث بذرائع هامشية، ومن أقواله في هذا الصدد: «أمّ عيسى هي ابنة عمران، إلا أنّ عمران هذا عاش بعد 1800 سنة من عهد عمران والد موسى وهارون؛ وكلاهما ينحدر من نسل يعقوب وإسرائيل، إذَا ، المسيح هو ثمرة سلسلة بني إسرائيل وآخر من اصطفي منهم»(2). ويبدو أنّ إصرار هذا الحدّاد على إثبات أفضلية النبي عيسى(علیه السّلام)على غيره، هو السبب في عدم غوره أكثر في تفاصيل بيان مدلول قوله - تعالى -: ﴿يَتأُخْتَ هَرُونَ﴾ وما طرحه من رأي حول هذه العبارة القرآنية يشابه إلى حد ما أحد الآراء المطروحة من قبل المفسّرين المسلمين، والذي ذكر بوصفه واحدًا من الاحتمالات بخصوص معناها.

وهناك مسألة تجدر الإشارة إليها في ختام هذا البحث وهي أن كل هذه التوجيهات والآراء التفسيريّة لا تستوفي بيان الموضوع بكلّ تفاصيله، إذ تبقى بعض الاستفسارات بحاجة إلى إجابات مقنعة، ومنها ما يلي ما السبب في تسمية مريم أم المسيح(سلام الله علیها)بأخت هارون إلى جانب تسميتها بابنة عمران ؟ لِمَ لَمْ يُطلق عليها اسم ابنة هارون ؟ أليس هذه التسمية - أخت هارون - هي التي توهم البعض بأنّها مريم النبيّة، ومن ثمّ أصبحت ذريعةً لبعض المستشرقين لأنْ يتّهم القرآن الكريم بالخلط التأريخي في ما بينهما ؟

وبغضّ النظر عن المعنى المجازي والرمزي لكلمتي (أخت) و(بنت)، وعن القول بالأسلوب التمثيلي، فالأسلوب التفسيري الذي انتهجه عدد من الباحثين في بيان مدلول

ص: 196


1- Reynolds, Ibid., p. 147
2- یوسف درّة الحداد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، لبنان، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، الطبعة الثانية، 1986م، ص 175.

موضوع بحثنا فحواه أنّ القرآن الكريم عبارة عن كتاب موعظة، وليس مصدرًا تأريخيا، وهذا الخطأ التأريخي الذي أشار إليه المستشرقون قد وقع فيه عرب الحجاز في عصر النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكما هو معلوم، فالقرآن نزل؛ وفقًا لما هو معهود عندهم؛ لذا لا ترد مؤاخذة على النصّ القرآني، ولا يمكن التشكيك بصحته لمجرّد استخدامه ما هو معهود لدى العرب آنذاك، لأنّ هدفه هو وعظهم وتشذيب أخلاقهم(1). وهذا الرأي يرد عليه إشكال واضح فمن تبنّاه لا محيص له من القول بأنّ القرآن الكريم موجّه إلى عرب عصر النزول فحسب؛ بحيث يقتصر تأثيره عليهم؛ وبالتالي هم - فقط - مكلّفون بالإيمان به لا شكّ في عدم انسجام رأيهم هذا مع الإعجاز القرآني وتعارضه مع حيويّته؛ بوصفه نضًا فاعلا في كل زمان ومكان، ولا سيّما أنّ الموعظة تقوم في أساسها على الإرشاد بحقِّ؛ ووفق معلوماتٍ صائبة(2).

فهل هناك داع لأنْ يقتبس القرآن الكريم خبرًا تأريخيا خاطئًا ضمن مواعظه؟! أليس هناك أسلوبٌ آخرُ أو عبارةٌ أخرى يمكن أن يسوقها للتعريف بشخصية مريم أم عيسى(سلام الله علیها)حين وعظ مخاطبيه؟ هل إنّ الله - تعالى - قصد توجيه الخطاب الوعظيّ لأناس عصر النزول - فقط - فلجأ في كلامه إلى خبر تأريخي خاطئ؛ كي يبلغهم بالحقِّ ؟! ألا يعتبر هذا الأسلوب وازعا لوقوع أناس سائر العصور في خطأ تأريخي يؤثر سلبيًّا على معتقداتهم؛ بحيث يجعلها عرضةً لنقد أتباع الأديان الأخرى؟! ألا يجدر به أن يذكّر مخاطبيه بهذا الخطأ التأريخي ضمن هذه الموعظة أو يؤكّد على أنّه خطأً وقع به الناس آنذاك وهو هنا في صدد بيان قصة السيدة مريم أم عيسى(سلام الله علیها)؟! ولِمَ لَمْ يذكر القرآن الكريم عبارة (مريم أمّ عيسى) في جميع الآيات التي تحدثت عن قصتها؟! ولِمَ استخدم عبارة امرأت" "عمران" حينما عرّف أمها، ولم يقل (أم مريم)؟!

لا يختلف اثنان في أنّ إحدى خصائص الموعظة هي صدق قائلها، فالواعظ يجب أن لا ينطق إلا بالصدق والحقيقة، إلى جانب خلوص النّيّة؛ فهل هناك ﴿أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾(3)؟!

ص: 197


1- هؤلاء الباحثون المسلمون لا يقتنعون بما ذكر في الفقرتين (2) و (3) ، حيث أكدوا في بحوثهم على عدم وجود سند تأريخي يثبت أن والد اسمه عمران، أو يثبت أنّ لها أخًا باسم هارون، لذلك تبنّوا رأيًا مماثلا لما ذكر في الفقرة (1) وادعوا حدوث خطأ تأريخي في النص القرآني. وفي هذا السياق استنتجوا أن القرآن الكريم مجرّد كتاب موعظة، لذا لم تذكر السيدة مريم(سلام الله علیها)باسم والدها وأخيها الحقيقيين، كذلك لم ينقل على لسان القوم مفهوم كلامهم حينما خاطبوها "يا أخت هارون"؛ أي لم يفسّر كلامهم هذا ليقول (إنك من أسرة تقية).
2- للاطلاع أكثر، راجع: حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، لبنان، بيروت، القاهرة، لندن، منشورات دار الكتب العلمية - مرکز نشر آثار العلامة المصطفوي، الطبعة الثالثة 1430ه_، مادة (وعظ).
3- سورة النساء، الآية 87.

من البديهي أنّ تحقق الصدق في هذا الصدد لا يقتصر على وجود نية صادقة لدى القائل، وإنّما هو مشروط - أيضًا - بصوابية إخباره.

إن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)جاء للناس بهذه المواعظ والحكم؛ بهدف إرشادهم إلى الحق والسبيل القويم، وهذا الهدف لا يتناسب مطلقًا الاعتماد على أساطير أو عبارات خاطئة تأريخيا مع بداعي إثارة عواطفهم وكسب تأييدهم، إذ يخاطر في هذه الحالة برسالته الدينية في المستقبل، بعد أن يدرك أناس سائر العصور تلك الأخطاء الفادحة التي وقع بها؛ وكيف يكون ذلك؛ وهو قادر على إبدال هذه العبارات - إنْ كانت خاطئةً - بعبارات صائبة يرتضيها العقل السليم ؟!

المبحث الثاني: نقاشات تفسيرية حول ولادة أنثى :

اتبع بعض المستشرقين نهجًا هرمنيوطيقيًا يتناسب مع أسلوب تحليل النص المسيحي ضمن تفسير العبارات القرآنية التي اختلف المفسّرون المسلمون في معانيها؛ ومن جملتها عبارات مرتبطةً بجانب من قصّة السيدة مريم(سلام الله علیها)؛ مثل: تعجب زوجة عمران لما أنجبتها: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعتُهَا أُنثَى﴾(1).

هذا التعجب برأي غابريال سعيد رينولدز أوقع مفسّري النصّ القرآني في متاهات تفسيريّة لأنّ القرآن الكريم لم يُشِرْ إلى سببه؛ وهو لا يدلّ - فقط - على تعجب زوجة عمران من إنجابها أنثى، بل يحكي عن يأسها؛ وذلك بقرينة العبارة اللاحقة في الآية ذاتها: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرَ كَالْأُنثَى﴾ ، إذ يستفاد منها أنّها مرتبطة بالخطاب القرآني الذي يتمحور حول الشأن السامي للإنسان؛ من حيث كونه ذكرًا أو أنثى(2).

وأشارت الآية السابقة إلى نذر أمّ مريم: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي بطني مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(3)، حيث نذرت جنينها، كي يتقبل الله -تعالى- دعاءها ويقضي حاجتها، فهو سميعُ الدعاء وعليمٌ بكلّ شيءٍ. والظاهر من هذه الآية أن والد مریم لم يكن على قيد الحياة؛ عندما نذرتها والدتها، إذ ذكر النذر على لسانها وحدها، وليس هناك تلميح لزوجها، فالكلام منقول على لسانها فقط: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ﴾.

ص: 198


1- سورة آل عمران، الآية 36
2- Reynolds, Ibid., p. 147
3- سورة آل عمران، الآية 35

والمقصود من كلمة ﴿مُحَرَّرًا﴾ أنّ الوليد المرتقب قد نُذر سادنًا للمعبد - بيت المقدّس -وهذا المقام كان مختصّاً بالذكور فقط؛ الأمر الذي يدلّ على أنّها كانت تترقب وضع وليد ذكر.

وحينما ناجت ربّها قائلةً: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ كانت تأمل في أن يستجيب دعاءَها، ويمنحها ذكرًا، ويتقبل نذرها، لكنّها عندما قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى﴾ أعربت عن تعجبها؛ لأنّها توقعت أنّها ستلد ذكرًا تجعله سادنا لبيت المقدّس، ولما أدركت ما حدث بعد أن وضعت بنا تصوّرت أنّها عاجزة عن الوفاء بنذرها، فالأنثى طبعاً لا يُسوَّع لها دخول المعابد والأماكن المقدّسة في أيّام حيضها، لذلك لم يكن يسمح لها بأن تسخّر نفسها لخدمتها. ويبدو من هذه العبارة أنّ والدة مريم سألت الله -تعالى- أن يعفو عنها؛ لعدم قدرتها على الوفاء بنذرها، وعدم تسخير وليدها في خدمة المعبد؛ لكونه أنثى.

إذًا، أم مريم ليست في صدد إخبار الله -تعالى- بأنّ وليدها أنثى وليس ذكرًا؛ حينما قالت: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى﴾، بل أرادت أن تقول بأنّ الذكر هو الذي تسوّغ له خدمة بيت المقدس؛ بينما الأنثى لا يسوّغ لها ذلك؛ لذا يمكن اعتبار كلامها هذا مقدّمةً لقولها في الآية نفسها:

﴿ووَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيدُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّحِيمِ﴾(1).

لم يوضّح رينولدز مقصوده؛ حينما اعتبر هذه العبارة مرتبطةً بالخطاب القرآني الذي وصفه بأنه يتمحور حول الشأن السامي للإنسان؛ من حيث كونه ذكرًا أو أنثى، إذ لو كان قصده أفضليّة الذكر على الأنثى في القرآن الكريم، فكلامه - هنا - لا موضوعية له ضمن تفسير هذه العبارة القرآنية؛ لكونها غير مرتبطة به، ومعناها - كما أشرنا آنفاً- هو عدم تكافؤ الذكر مع الأنثى على صعيد الغرض الذي نذرت زوجة عمران جنينها لأجله، فالأنثى غير مخوّلةٍ بتولي مسؤولية خدمة بيت المقدّس، ولا يمكنها أن تكون سادنةً فيه؛ لذا ليس هنا أيّ تفضيل للذكر عليها في هذه العبارة وغاية ما في الأمر أنّ المتعارف في تلك الآونة تخصيص خدمة المعبد بالذكور فقط. أضف إلى ذلك فقد اعتبر بعض المفسّرين "ال_" التي دخلت على الذكر والأنثى في قوله -تعالى-: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرَ كَالْأُنثَى﴾بأنّها ألف ولام العهد الذكري؛ أي أنّها تشير

ص: 199


1- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 2، ص737.

إلى العبارة السابقة : ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، فالله - عزّ وجلّ - في هذا العهد الذكري أراد تعظيم شأن مولودها؛ لأنّ هذه البنت الطاهرة تعتبر مثالاً حيًّا للإعجاز الإلهي والعجائب الغيبية الباهرة، إذ ستلد نبيًّا مكرّمًا دون أن يمسها بشر؛ وهذا ما تبنّاه الزمخشري؛ حينما قال: "فتحزّنت إلى ربّها؛ لأنّها كانت ترجو وتقدّر أن تلد ذكرًا، ولذلك نذرته محرّرًا للسدانة ولتكلمها بذلك على وجه التحسّر والتحزّن قال الله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾؛ تعظيمًا لموضوعها، وتجهيلا لها؛ بقدر ما وهب لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي ،وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين وهي جاهلةً بذلك لا تعلم منه شيئًا، فلذلك تحسّرت؛ وفي قراءة ابن عباس ﴿ووَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ على خطاب الله -تعالى- لها، أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله من عظم شأنه وعلو قدره ؛ وقرئ (وَضَعَتْ) بمعنى، ولعلّ لله - تعالى - فيه سرّاً وحكمةً، ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر، تسليةً لنفسها(1).

وإذا قيل إنّ "ال_" ليست للعهد الذكري، ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار هذه الجملة اعتراضيةً من الناحية اللغوية، أي أنّها على لسان أمّ مريم، ومن ثمّ يصبح معناها أنّ: الذكر والأنثى ليسا متكافئين في ما نذرت(2)؛ لكنّ ظاهر الآية يعزّز الرأي القائل بأنّها للعهد الذكري.

ونستشف من جملة هذه الآيات أنّ الأنثى حتّى وإنْ لم تكتسب مقام النبوة، لكنّها إن انقطعت في تهجدها وعبادتها سوف تتمكّن من التفوّق على الرجل وبلوغ مراتب روحيّة أعلى ممّا يبلغ حتّى وإن كان هذا الرجل شخصًا عابدًا ومتنسكًا.

المبحث الثالث: نقاشات تفسيريّةٌ حول مصطلح (محراب) :

قال - تعالى -: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابِ﴾(3).المعنى الاصطلاحي لكلمة (مِحراب) في هذه الآية استقطب أنظار.

ص: 200


1- راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_ ج 1 ص 356
2- راجع: محمد مشهدي قمي، كنز الدقائق، تحقيق حسين دركاهي ،إيران، طهران، منشورات وزارة الإرشاد الإسلامية، الطبعة الأولى، 1989م، ج 2، ص 70
3- سورة آل عمران، الآية 37.

المستشرقين، فقد ادعى غابريال سعيد رينولدز أن مفهوم الكلمة ضمن هذه الآية غير واضح؛ لذلك رفض تفسير المسلمين لها بأنّها غرفة كانت مريم تتعبّد فيها، وبرّر رأيه هذا بكون المسلمين يعتبرون المحراب مكانًا للحبس والعزل، لا للتعبّد والخدمة الدينية، واستشهد بما نُقِلَ عن مقاتل الذي فسّره بأنّه مكان حبست فيه مريم.

ونظرًا لتأثر هذا المستشرق بمرتكزاته الفكرية بخصوص السيّدة مريم(سلام الله علیها)واعتباره إيَّاها امرأةً؛ كسائر النساء، اتّخذ رأي مقاتل المشار إليه مرتكزا للتأكيد على سموّ عفتها وطهارتها(1)؛وفي هذا السّياق قال إنّ المصطلح العربي "محراب" لا يحكي عن غرفة بسيطة، بل يراد منه أحد أجزاء المعبد، والكلمة تضرب بجذورها في اللغة السامية وترتبط بمفهوم (h r m) الذي يعني الأمر الممنوع والمقدّس، لذا فهي من الجذر نفسه للكلمة الحبشية (mehram) التي تعني المكان المقدّس والحرم والمعبد والمصلّى . وضمن إشارته إلى ما ذُكِرَ في الأناجيل وما فيها من بشرى بولادة النبي يحيى لزكريا(2)، اعتبر الكلمة مرتبطةً من ناحية الاشتقاق اللغوي بمصطلح «حرام» الذي وضّح المراد منه في الشريعة الإسلاميّة، ثمّ قال إنّه النطاق الذي لا يسمح لغير المطهرين الدخول فيه. وعلى هذا الأساس اعتبر كلمة "محراب" في قوله -تعالى-: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾(3)؛ بمعنى المكان المقدس في المعبد، فزكريا حينما بشر بيحيى خرج إلى قومه من المحراب الذي كان يتعبد فيه(4).

وقد طُرِحَ هذا الرأي من قِبَل باحثين آخرين قبل رينولدز، فقد نقل العالم اللغوي آذرنوش عن أحدهم قوله: «كلمتا ( حرم) و (محرام) موجودتان في اللغة الحبشية القديمة، وتعنيان المكان الخاص الذي يحظى باحترام بالغ؛ بحيث لا يمكن لكلّ أحد الدخول فيه، لذا فهما مترادفتان مع الكلمتين العربيتين (حريم) و (حرم) . العرب اقتبسوا كلمة (محرام) من الحبشيين وغيّروا ، لفظها إلى (محراب)؛ لأنّ تغيير حرف الميم إلى الباء كان متعارفًا في اللغة

ص: 201


1- Reynolds, Ibid., p. 147
2- «فَظَهَرَ لَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ مَين مَذْبَحِ الْبَخُورِ. * فَلَماً رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. * فَقَالَ لَهُ الْمَلَالُ: «لَا تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنَا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا . * وَيَكُونُ لَكَ فَرَحْ وَابْتِهَاجُ ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلادَتِهِ، * لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِيُّ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ». (إنجيل لوقا، 1 : 11 -).
3- سورة مريم، الآية 11.
4- راجع: أيضاً إنجيل لوقا، 1 : 8 - 20 / 21 - 22.

العربيّة»(1). ويضيف قائلاً: «المعاجم العربيّة ذكرت معاني عديدةً لكلمة (محراب)، وكلّها تتمحور حول كونه مكانًا، لكنّه مكان خاص، وليس كسائر الأماكن، إذ يحظى بشأن رفيع من الناحيتين الروحيّة والمادّيّة، فمن الناحية الثانية يعني الغرفة العليا، ومن الناحية الأولى يُراد منه صدر المجلس ومحلّ التهجد والعرش»(2).

وقسّم الباحث تروبو المعاني التي ذُكِرتَ لكلمة (محراب) في اللغة العربية إلى أربعة أقسام هي:

- المكان المرتفع

- المكان المقدّس

- محلّ الاعتكاف

- موضع الصلاة(3).

والظاهر أن المعنى القرآني لهذه الكلمة يتناسب أكثر مع كلمتي (غرفة) و (معبد)، والدليل على ذلك أنه ذكر في الآية 17 من سورة مريم باسم (حجاب)(4)، حيث يُراد منه ذلك الحائل الذي حجب مريم(سلام الله علیها)عن أسرتها(5)؛ لذا يمكن تفسير الآيتين: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ مَرْيَمَ

ص: 202


1- آذرتاش آذر نوش، واكاوي و معادل يابي تعدادي از واژگان قرآن كريم (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات الجهاد الجامعي في مدينة طهران، الطبعة الأولى، 2011م، ص 424. ذكرت لكلمة محراب معان أخرى ضمن بعض الدراسات المعاصرة، منها ما يلي: «برایتوریوس Praetorius قال إنّه عثر عليها ضمن بعض النقوش العربية الجنوبية بمعنى (بناء). بير Beer فقد قال أنّها تعني في التوراة الخرائب من البيوت والمدن والقصور والقلاع. رودو كوناكيس ذكر لها معاني عديدةً، هي: قصر، رف ومكان عميق في الحائط، حفرة أو عرش الملك، غرفة مخصّصة لامرأة؛ وكل هذه الكلمات تحكي عن الطباع الجاهلية ومستخرجة من القرآن هورويتس وضّح معناها على ضوء الأدب الجاهلي وشعر الأعشى معتبرا إياها بمعنى العرش. سيرجنت اعتبر الأنسب لمعناها قول أنّها تدلّ على المساحة الموجودة بين عمودين. وفسّرها آخرون بمكان الدفن ومكان القَسَم والحريم الذي يكون على هيئة رواق أو إيوان. تروبو فسّرها على أساس اعتقاده بكون جذورها حبشيةً، وقال إنّها تعني كلّ مكان خاص وله حريم لا يحق لكل شخص الدخول فيه». (المصدر السابق، ص 420 - 421).
2- آذرتاش آذر نوش، واکاوی و معادل يابي تعدادي از واژگان قرآن کریم (باللغة الفارسية)، ص 422.
3- راجع: م. ن ص. ن.
4- راجع: أحمد بهشتی، عیسی پیام آور اسلام (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات اطلاعات 2000م، ص 114.
5- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_ ج 21، ص 196.

إذ أنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيَّا(16)فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾(1)بأنّ مريم(سلام الله علیها)أرادت الانقطاع إلى الله -عزّ وجلّ- في مكان فارغ لا يشغلها فيه شيء، ولا يغفلها عن ذكره أي أمر آخر؛ بحيث يكون هادئا ومنعزلا، لذلك جعلت بينها وبين أهلها حجابًا؛ كي يُتاح لها تهذيب نفسها إلى أقصى حد ممكن(2).

وأكّد أحد الباحثين على أنّ كلمة (غرفة) تجسّد أفضل معنّى يمكن أن يُنسب إلى هذه الكلمة بخصوص دلالتها في قوله -تعالى-: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب﴾ ضمن الآية 37 من سورة آل ،عمران، حيث أكّد الله -عزّ وجلّ- فيها على أنّه أوكل تربيتها إلى زكريا الذي كان يجد لديها رزقًا كلما يدخل عليها؛ وهي في المحراب، لذا فالظاهر من عبارة ﴿كُلَّمَا دَخَلَ﴾ هو أنّ المحراب كان مقرا لها ومألوفًا من قبلها، كما أنّ كلمة (رزق) في الآية توحي إلى ذهن المستمع الطابع المتعارف في حياة البشر؛ من حيث حاجتهم إلى الطعام في كلّ يومٍ؛ الأمر الذي يجعل المحراب هنا أشبه بالغرفة من أيّ شيءٍ آخر، فهو بهذا الشكل عبارة عن غرفة مختصّةٍ بشخص معيّن وليس معبدًا(3).

وكذلك نسب هذا المعنى - أيضًا - إلى كلمة (محراب) المذكورة في الآية 39 من السورة نفسها: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَيْكَةُ وَهُوَ قَابِمُ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾، إذ يراد منه -هنا- الغرفة المختصة بشخص، وعزا تفسيرها بهذا الشكل إلى أنّها أوّلاً على غرار محراب مريم(سلام الله علیها)، وثانيًا إلى عدم رواج المحراب؛ بوصفه معبدًا في الجزيرة العربية قبل الإسلام. كما اعتبر المحراب المذكور في الآية 11 من سورة مريم: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ، مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ على غرار المحراب في الآية 39 من سورة آل عمران(4).

ص: 203


1- سورة مريم، الآيتان 16 - 17
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج 14، ص 45.
3- آذرتاش آذر نوش، واکاوي و معادل يابي تعدادي از واژگان قرآن کریم (باللغة الفارسية)، ص 425
4- غابريال سعيد رينولدز قال إن كلمة ( محراب ) المذكورة في الآية 21 من سورة(صلی الله علیه و آله و سلم)تعني غرفة داوود، وفي الآية 13 من سورة تعني سبأ القصر أو القلعة. Reynolds, Ibid., p. 148 يبدو أنّ هذه المعاني التي ذكرها رينولدز صحيحةٌ ؛ لأنّها بصيغة الجمع ولا بد من انسجامها مع الكلمات التي ذكرت في سياقها، وهي تماثيل وجفان وقدور)؛ لذا يمكن القول إنّ كلمة محراب تعني البناء المرتفع. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ). (سورة سبأ، الآية (13). (آذرتاش آذر نوش، واکاوی و معادل يابي تعدادي از واژگان قرآن کریم (باللغة الفارسية)، ص 427). معنی الكلمة في الآية 21 من سورة(صلی الله علیه و آله و سلم)هو الغرفة العليا المشيدة فوق بناء مرتفع. (م. ن، ص 428). قال الرازي في تفسير هذه الكلمة: «وقوله -تعالى-: ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ﴾، يقال تسورت السور تسورًا إذا علوته، ومعنى ﴿تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ أي أتوه من سوره، وهو أعلاه. يقال تسوّر فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها، وأما المحراب فالمراد منه البيت الذي كان داوود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربّه، وسمي ذلك البيت المحراب، لاشتماله على المحراب». (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_ (كلمة تسوّر)).

واستنادًا إلى ما ذكر، فقد رفض هذا الباحث الرأي القائل بأنّ المحراب يُراد منه المسجد الذي يصلّي فيه الناس.

كما أنّ وجود تلميحات لهذه الكلمة ضمن آيات أخرى تحدّثت عن زكريا(علیه السّلام)؛مثل كلمة (هنالك ) في قوله -تعالى-: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٌ طَيِّبَةٌ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾(1)، أي إنّه دعا الله عزّ وجلّ- في المكان نفسه -أي المحراب- الذي كانت مريم(سلام الله علیها)تتواجد فيه، أو إنّه دعاه في محرابه، حينما رأى عظمة شأنها وقدسيتها؛ فطلب منه أن يرزقه ذرّيّةً طيّبةً ؛ والمعنى الثاني أكثر انسجاما مع الحكمة من وجود المحراب والتي تقتضي أن يكون في معزل عن الآخرين، أي إنّ كلمة "هنالك" في الآية تدلّ على المحراب الخاص بزكريا؛ ويؤيد ذلك مضمون الآية 39 التي أشارت إلى أنّ زكريا كان قائماً يصلي في المحراب حينما بشرته الملائكة بيحيى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَيْكَةُ وَهُوَ قَاهُمُ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيَّا مِّنَ الصَّلِحِينَ﴾، كما يؤيده ما ذكر في الآية 7 من سورة مريم ﴿يَزَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾، حيث نستشف منها أنّ المحراب هو المكان الذي دعا فيه زكريا، وهو المكان ذاته الذي استجاب الله فيه دعاءه، وهو ما يثبت لنا من النتيجة التي أشارت إليها الآية 11 من السورة نفسها: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيَّا﴾، فضلًا عن أن الآية 39 من سورة آل عمران تُعدّ شاهدًا على صوابية هذا المعنى.

وبعد أن ذكر كلّ هذه التفاصيل، أورد النتيجة التالية: المعنى المتحصّل لدينا من مضامين هذه الآيات أنّ كلمة ( محراب) لا يُراد منها المكان المخصص للحبس، بل يقصد منه ذلك المكان المخصّص للعبادة على انفراد، وهذا ما نلمسه في الآية 37 من سورة آل عمران.

واعتبر محمّد فريد وجدي المعنى الدلالي لاسم (مريم) قرينةً على كون المحراب موضعًا يتفرّغ الإنسان فيه للعبادة والتهجد، فالقرائن برأيه تفيد أنّ المحراب كان موضعا لاختلاء

ص: 204


1- سورة آل عمران، الآية 38

الإنسان ومكانًا يتفرّغ فيه للتعبّد ؛ بحيث يقطع جميع ارتباطاته مع البشر، ويتفرّغ إلى الله -عزّ وجلّ- فقط، وهو على غرار كلمة (مريم) التي تعني لغويا العابدة(1).

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أقلامهم﴾:

أكّد غابريال سعيد رينولدز على تعدّد الآراء التفسيرية المطروحة حول مضمون الآية 44 من سورة آل عمران: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، حيث تتضمن عبارةً غامضة الدلالة؛ ويقصد هنا قوله - تعالى -: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم﴾.

واعتبر بعض العلماء المسلمين؛ من أمثال: مقاتل، والقمي، بالاستناد إلى الروايات أن الآية تحكي عن القرعة التي جرت بين القوم آنذاك؛ لتعيين من يتكفّل بتربية السيدة مريم ، في حين أنّ علماء آخرين؛ من أمثال: الطبري حاولوا استعراض المفاهيم القرآنية ضمن نطاق قصصي، وفي هذا السياق رفضوا أن تكون القرعة التي تعني الحظ أو السحر هي التي عينت مصير هاتين الشخصيتين المقدستين - زكريا ومريم - لذلك حاولوا إثبات الموضوع على أساس شأنهما الرفيع واستحقاق زكريا لأن يتكفّلها(2).

ومن الواضح أن كلام رينولدز هذا ينمّ عن رؤيته السلبيّة إزاء الروايات الإسلامية واعتقاده بعدم فائدة الاعتماد عليها لبيان المفاهيم القرآنيّة، واللافت للنظر أنّه فسّر النص القرآني على ضوء رؤيته السلبيّة تجاه إنجيل جيمس المنتحل الذي وصفه بأنه عديم الاعتبار؛ لذلك تبنّى رؤيةً إنكاريّةً وسلبيّةً إزاء مضامين الآيات القرآنية، وفي هذا السّياق قال إنّه بما أنّ العبارات التي تمحورت حول موضوع الآية المشار إليها تتناغم مع مضمون إنجيل جيمس ، فهذه الآية لا تحكي عن امتحان صعب لزكريا، بل تشير إلى امتحان صعب ليوسف النجار وقصة خطبته المريم(سلام الله علیها).الدليل هذا هو المدلول القرآني في الآية 44 من سورة آل عمران برأيه؛ على الرغم من التصريح الواضح في الآية 37 بأنّ زكريا هو الذي تكفّل بها؛ لكنّه برّر رأيه بزعم أنّ سورة آل عمران على نسق تام مع

ص: 205


1- راجع: محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، الطبعه الثالثه، 1971م، ج 8، ، ص 74
2- Reynolds, Ibid., pp. 149.

الترتيب الزمني الموجود في إنجيل جيمس حول سيرة مريم(سلام الله علیها)(1)، وخطابها متقارب مع الخطاب المطروح في هذا الإنجيل، وهذا التناسق يُوحي بأنّ الآية فيها إشارةً إلى خطبتها ليوسف النجار.

ثمّ ذَكَر إيضاحاتٍ حول الموضوع؛ قائلًا إنّ هذا الإنجيل كان شائعًا على نطاق واسع في منطقة الشرق الأدنى المسيحيّة، لذلك كان تأثيره ملحوظًا في تلك البقعة من العالم؛ وعلى هذا الأساس قارن قصّة مريم(سلام الله علیها)في هذا الإنجيل مع المضمون القرآني بقوله: إنّ أوّل أمر ذكره هذا الإنجيل في قصة مريم هو ولادتها: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيدُهَا بِك وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّحِيمِ ﴾ (آل عمران، 36)، ثم ذكر مسألة تكفّل زكريا بها: ﴿ فَنَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ (آل عمران، 37)، ثمّ قضيّة خطبتها ليوسف النجار: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ آل عمران، 44) وفي نهاية المطاف أشار إلى مجيء أحد الملائكة إليها ليبشّرها بما ستحمل في بطنها: ﴿إ إذْ قَالَتِ الْمَلَيْكَةُ يَمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (آل عمران، 45)(2).

ويتضح من هذا الكلام أنّ رينولدز اعتبر قصّة مريم(سلام الله علیها)في القرآن الكريم مستوحاة من ليله الأناجيل التي تُذكر القصص فيها؛ وفق ترتيب تأريخي، ضمن سرد متوال؛ على الرغم من أنّ القرآن الكريم عادةً ما يذكر القصص بأسلوب خاص قد لا يراعى فيه الترتيب الزمني للأحداث؛ لأنّ الغرض من ذِكْرها هو تحقيق أهداف تربويّةٍ. لكن إن أمعنّا النظر في سياق الآية سيثبت لنا سقم رأيه، فضلًا عن أنّ الآية 44 من سورة آل عمران لا تلمّح بأي شكل إلى خطبة مريم ليوسف النجّار، إذ من الواضح بمكان أنّ الآيات السابقة لهذه الآية تتحدّث عن كفالة زكريا لها، لا عن خطبتها ليوسف(3).

ص: 206


1- المستشرق آرند جان فنسنك أشار إلى هذا الموضوع أيضًا. (EI, vol. 6, p. 631)ر
2- Reynolds, Ibid., pp. 149 - 150
3- الأحداث المرتبطة بولادة ابن لزكريا، ونزول الملائكة على السيدة مريم(سلام الله علیها)ذُكِرتَ في القرآن الكريم ضمن جملة اعتراضية، لذلك حاول غابريال سعید رینولدز توجيه هذا الأسلوب البياني وتوضيح وجه التناسب بين العبارة التي تم تسليط الضوء عليها في البحث والآيات التي ذكرت في سياقها قائلًا: «القرآن لم يذكر بعض أحداث ولادة يحيى في هذه الآيات دون مناسبة (سورة آل عمران، الآيات 38 إلى 41). وكذا هو الحال بالنسبة إلى ذكر قصتي يحيى ومريم تزامنًا مع بعضهما ضمن الآيات 20 إلى 23 من سورة مريم، إذ لهما دور في تمهيد الأرضية المناسبة للنبي عيسى، فمريم بدورها تلقت كلمة الله (آل عمران، الآية 45) ويحيى بلّغ الناس كلمة الله (آل عمران، الآية 45)». Ibid., p. 147

وبناءً على ما ذُكِرَ يثبت لنا أنّ هذه الآية تحكي عن كفالة زكريا للسيدة مريم ، وهذه الكفالة أشير إليها قبل ذلك في الآية 37 ، وظاهر الآية يدلّ على حدوث نزاع بين القوم، لكن لا يشير إلى زمانه حتّى إنه بلغ درجة الخصام، حيث قال الشيخ الطوسي في تفسيرها: «وقوله: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ فيه دلالةً على أنّهم قد بلغوا في التشاح عليها إلى حدّ الخصومة، وفي وقت التشاح قولان: أحدهما حين ولادتها وحمل أمها إياها إلى الكنيسة تشاحوا في الذي يخصّها ويحضنها ويتكفل بتربيتها، وهو الأكثر . وقال بعضهم إنّه كان ذلك بعد كبرها وعجز زكريا عن تربيتها(1). والمقصود من قوله - تعالى - في الآية :37: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، أنّ الله - سبحانه وتعالى جعل زكريا كفيلا لها؛ لأنّ الفعل (كفّل) ذكر مشدّدًا؛ ما يعني أنّ فاعله هو الله - تبارك شأنه - لو كان الفعل بدون تشديد، لكان فاعله زكريا(2)؛ ومن المؤكّد أنّ الشخصيّة العظيمة للسيدة مريم(سلام الله علیها)ونبوغها الفريد من نوعه يقتضي أن تتربّى على يد أفضل البشر في عهدها، وفي تلك الآونة لم يكن هناك شخص أفضل من زكريا الذي كان كبير الأحبار ونبيًا من ذرّية سليمان بن داوود(علیه السّلام)(3). وقد ذكرت مسألة الكفالة بشكل تلميحي في الآية 44 من سورة آل عمران؛ حينما أشارت إلى اقتراع القوم : ﴿ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ﴾؛ لاختيار من يتولى كفالتها، إذ تعلّقت المشيئة الإلهيّة بهذا الحبر الورع، لذا لم يكن اختياره لهذه المهمة أمرًا اعتباطيًّا.

والقرينة الأخرى التي تؤيّد ما ذكرنا هي عبارة ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ التي تدلّ على حدوث نزاع بين القوم حول كفالة مريم(سلام الله علیها)المشار إليها في الآية 37 كما نستوحي منها أنّ هذا النزاع لم يصل إلى نتيجة الأمر الذي اضطرّهم للاقتراع؛ وبحسب قواعد البيان البلاغية نقول إنّ هذه الآية تفيد تفصيلاً بعد إجمال أوضحه العلامة الطباطبائي بقوله : إنّ المراد من الإشارة مرتين إلى تكفّل مريم في هذه السورة هو تحقيق هدف معيّن في كلّ مرّةٍ، فالآية 37 تحدّثت عن تكفّل

ص: 207


1- محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، ج 2، ص 459. إن التفاسير قاطبةً لا تذكر -هنا- قضيّة يوسف النجار وخطبته لمريم.
2- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن ،إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 2، ص 739 .
3- راجع: م. ن، ج. ن، ص . ن.

زكريا ضمن الإشارة إلى تفقده إيّاها في كلّ يوم، وهذا الأمر أصبح حافزا له لأن يسأل الله - تعالى - كي يرزقه ولدًا؛ والآية 22 ذكرت فيها بعض تفاصيل هذا التكفّل(1). لكن هذا النزاع ربّما حدث قبل القرعة؛ كذلك يُحتمل أن يكون بعدها، والذين تبنوا القول بحدوثه بعدها استندوا إلى قرينة من نص الآية، وهي قوله - تعالى -: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾؛ أي إنّهم اختلفوا حول كفالة مريم(سلام الله علیها)بعد أن انتهت القرعة، وتكرارها مرّةً أخرى ينم عن الدقة المتناهية في الموضوع والحبكة المتقنة في سرد أحداث القصة بشكل متوال. واعتبر الآلوسي تكرار قوله - تعالى-: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ تأكيدًا على إعجاز نبوّة خاتم الأنبياء محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،حيث قال: «وتكرير ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ مع تحقق المقصود؛ بعطف ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ على إ﴿ِذْ يُلْقُونَ﴾؛ للإيذان بأنّ كلّ واحدٍ من عدم الحضور عند الإلقاء، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوت(صلی الله علیه و آله و سلم)،لا سيّما على الرأي الثاني في وقت الاختصام؛ لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكِّد لذلك »(2).

وتشير الآية في الواقع إلى رغبة القوم من أحبارٍ وغير أحبارٍ في تكفّل مريم(سلام الله علیها)(3)، إلا أنها لا توضّح السبب في ذلك؛ ولربّما تكون شخصية والدها عمران هي السبب في رغبتهم هذه، فقد كان إمامًا لهم، أو ربما لأجل نذر والدتها بأن تكون خادمةً في المعبد، أو قد يعود السبب علمهم بأنّها ستلد المسيح على ضوء ما لديهم من معلومات في النصوص المقدّسة(4).

وكذلك لا توضّح الآية مَنْ هم هؤلاء، فهل كانوا ،علماء، أو أحبارًا، أو كتابَ ،وحي، أو سدنةً في المعبد ؟ مع أنّ الأمر غير واضح في الآية، لكن يمكن القول إنّهم من الخواص وأهل الفضل في الدين والراغبين في السير على نهج الحق(5)؛ لذا لا صوابية لمن زعم أنّه نزاع احتدم بين عدد من الرجال الأرامل للاقتران بها زوجةً، فهذا الكلام لا موضوعيّة له إذ هل يمكن تصوّر أنّ القوم تنازعوا في ما

ص: 208


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج 3، ص 190. للاطلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد باقر موسوي همداني،إيران، قم، منشورات دار النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، ج 3، ص 298.
2- محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1415ه_ ، ج 2، ص 153 بتلخيص.
3- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 8، ص 220.
4- راجع: م. ن، ج. ن، ص. ن.
5- راجع: م. ن، ج. ن، ص. ن.

بينهم لأجل خطبة مريم(سلام الله علیها)؟! إذَا، لا بدّ من وجود بعض العوامل والظروف الخاصة التي اقتضت حدوث هذا النزاع بينما لا نلمس أيّ تلميحات للخطبة والزواج في هذه الآيات.

ولو أمعنّا النظر في شخصية السيدة مريم(سلام الله علیها)وأخذنا ظروفها بعين الاعتبار؛ سوف يثبت لنا صوابية قول من قال إنّ النزاع قد حدث بين الأحبار والكهنة حول كفالتها، فقد كانت يتيمةً وسادنةً في المعبد أو منذورةً لسدانته، كما كانت تربطها بزكريا قرابة نسبية، ووالدها كان إمامًا للقوم؛ والأهم من ذلك كله هو دعاء والدتها لها ولذرّيتها: ﴿وَإِنّي أُعِيدُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ﴾(1)، وتقبلها من جانب الله -تعالى- بأحسن قبول : ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾(2). هذه قرائنُ معتبرةٌ تؤكد على أن مريم(سلام الله علیها)يجب أن تتربى على يد خيرة الناس ومن له القدرة على ضمان استمرار مسيرتها الروحيّة بأمثل شكل.

ومن البديهي في هذه الحالة أن يحدث خلاف بين زكريا وسائر الأحبار حول تكفّل هذه الشخصية العظيمة؛ لأنّ كفيلها بطبيعة الحال ينال حظًا من الفضل والكرامة؛ حينما يتولّى تربيتها والإشراف على شؤونها، لذلك حرص القوم على كسب هذه المزية الفريدة على الرغم من المصاعب المرتقبة من وراء ذلك، إذ لم يكترث كلّ واحدٍ منهم بالآخرين؛ سعيًا وراء تحقيق هذا الهدف السامي.

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد، هي أنّ الإنجيل المنتحل - أبوكريفا- الذي ذكره غابريال سعيد رينولدز، ليس من شأنه أن يُتخذ مرتكزاً مناسبًا لفهم مضمون الآية 44 من سورة آل عمران التي أكدت على أنّ هذا الخبر غيبي، ولا علم لأحدٍ به: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾. وكلمة ﴿ذَلِكَ﴾ - هنا - تشمل جميع تفاصيل القصّة ضمن الآيات السابقة ؛ وقوله - تعالى -: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ هو في الحقيقة تأكيد على غيبيّة الأخبار التي ذكرتها الآيات السابقة.

ومن البديهي أن معرفة الأخبار المشار إليها غير ممكنة إلا عن طريق المشاهدة التي لم تتحقق للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وقومه بقرينة قوله - تعالى -: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ التي تكرّرت

ص: 209


1- سورة آل عمران، الآية 36.
2- سورة آل عمران، الآية 37.

مرّتين، أو عن طريق قراءة الكتب، أو التعليم، أو الأخبار التي ينقلها المطلعون على الأمر؛ لكنّ هذه الأمور لم تحصل، وهو ما نفاه القرآن الكريم بقوله - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾؛ لذا نؤكّد مرّةً أخرى على أنّ اسم الإشارة "ذلِكَ" يشير إلى جميع تفاصيل القصّة في الآيات السابقة للآية 44 من سورة آل عمران والتي تضمّنت أخبارًا غيبيّةً عن حنّة، وزكريا، ویحیی، وعيسى، وهذه الأخبار وصلت إلى خاتم الأنبياء محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)عن طريق الوحي.

وتتمر

ولبيان تفاصيل الموضوع بشكل أوضح ، نقول : إنّ كلمتَي «أنباء » و «نوحيه» في هذه الآية

تستبطنان معنيين بدلالات خاصة، فالأولى تحكي عن أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن على علم بهذه الأخبار، والثانية تحكي عن أنّ هذه الأنباء وصلت إليه بواسطة وحي السماء(1)، ما يعني أن الخبر الغيبي وإلقائه إلى النبي وحيًا، إلى جانب الإشارة عدم حضوره في ساحة الأحداث؛ كلّها قرائنُ تؤكّد على عدم علمه وقومه بالأحداث التي ذكرت في هذه الآيات.

ويقول العلامة محمد حسين الطباطبائي في هذا الصدد: قوله - تعالى -: ﴿ ذَالِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾، عدّه من أنباء الغيب؛ نظير ما عدت قصة يوسف(صلی الله علیه و آله و سلم)من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ يهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمكُرُونَ ﴾ (يوسف - 102) ، وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب، فلا عبرة به؛ لعدم سلامته من تحريف المحرّفين، كما أنّ كثيرًا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن»(2).

ولا شك في أنّ تكرار عبارة ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ مرّتين مؤشّر واضح يفيد تأكيد القرآن الكريم على أنّه لم يقتبس هذه الأخبار من أي إنجيل، بل هو مصدر للغيب المكنون الذي شرّعت أبوابه للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذا حتى وإن تشابهت بعض الأحداث التي ذكرت في هذه الآية مع بعض ما ذكر في إنجيل جيمس وادّعي أنّها مستوحاة منه، يبقى سياق الكلام هو المحور الأساس لفهم معاني عباراتها، وهذا السياق مرتبط بطبيعة الحال بالآيات السابقة

ص: 210


1- من الواضح أن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن حاضرا حينما ألقيت الأقلام في الماء، فهو لم يشاهد ما حدث؛ لذلك قال بعض المفسرين إنّ هذه العبارة يقصد منها السخرية بمن أنكر الوحي. للاطلاع أكثر، راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 8، ص 219.
2- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 297.

واللاحقة لها، فضلا عن أنّ الوحي الإلهيّ في القرآن الكريم له الأولوية على كلّ نقّ آخر.

وهناك سؤال هامٌ يُطرح على رينولدز في هذا المجال، وهو: ما هو المسوّغ لادعاء أنّ كلمةً واحدةً تكرّرت ضمن سياق واحد وبفاصلة نصّيّة قصيرة جدًّا، ذات معنيين متباينين؟! من المؤكّد أنّ هذه الازدواجية في تحليل مفردةٍ واضحة الدلالة، مؤشّر على عدم تناسق أفكار صاحبها، وفقدانه الاستقرار الذهني إبان عمليّة التفسير، فما يدعو للتعجب أنه فسّر التكفّل في الآية 37 من سورة آل عمران ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ بكفالة زكريا التربية مريم(سلام الله علیها)، بينما في الآية ! 44 من السورة ذاتها ( يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾ فسّرها بخطبتها ليوسف النجار! على الرغم من أن مسألة الزواج تستبطن في مدلولها التكفّل بشؤون الطرف المقابل، لكنّ كلمة (كفل) ومشتقاتها في القرآن الكريم لا ترادف الزواج أو الخطبة مطلقًا.

وفضلا عمّا ذُكر فالأناجيل المعتبرة لدى المسيحيّين - الأناجيل القانونية - لم تذكر سوى أن يوسف النجار هو زوج السيدة مريم أمّ عيسى(علیه السّلام)والديه عدة أولاد وبنات(1)، لكنّها لم تتحدّث عن القرعة في خطبتها، بل أشارت إلى أنّه سافر معهما إلى مصر، وبعد مدة قصيرة عادوا إلى الناصرة، دون أن تذكر ما حدث بعد ذلك.

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقي لقوله - تعالى -: ﴿ يَمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَكِ ﴾ :

الملاحظة التي سلّط غابريال سعيد رينولدز الضوء عليها في تفسيره الآية 42 من سورة آل عمران، هي اصطفاء السيّدة مريم(سلام الله علیها)على سائر النساء، وممّا قاله في هذا الصدد: «القرآن في هذه الآية يشير إلى أنّ الله قد طهر مريم واصطفاها على سائر نساء العالمين ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَيْكَةُ يَمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَكِ وَطَهَرَكِ وَأَصْطَفَنكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَلَمِينَ ﴾(2). المشكلة التي

ص: 211


1- «وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ. * فَأَخْبُرُوهُ قَائِلِين: «أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا، يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ». * فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِها». (إنجيل لوقا، 8 : 19 - 21). «فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ * وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِسًا حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجًا يَطلُبُونَكَ». 33 فَأَجَابَهُمْ قِائِلاً: «مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» * ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، 35 لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي». (إنجيل مرقس، 3 : 31 - 35). راجع أيضًا: إنجيل مرقس، 6 : 3 إنجيل متى، 12 : 46؛ إنجيل يوحنا، 7 : 5
2- سورة آل عمران، الآية 42.

واجهها المفسّرون ليست قصصيّةً وإنّما هي عقديّة، فالقرآن يفنّد فيها عقيدة المسلمين في أفضليّة أهل بيت النبي محمّد ؛ فما هو وجه أفضلية مريم على غيرها من النساء؟»(1).

ومن جملة الأفكار التي تبنّاها هذا المستشرق أنّ أفضليّة السيدة مريم(سلام الله علیها)على سائر نساء العالمين - بحسب مضمون الآية - ليست بسبب تقواها وفضلها، أو لأجل حملها؛ وهي عذراء، بل لكونها ستحمل في بطنها كلمة الله(2)؛ وقد استند في رأيه هذا إلى مضمون الآيتين 49 و 55 من السورة ذاتها، وهما:

- ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِنَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الدِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾(3).

- ﴿ إِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ ثُمَّ إِلَى مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾(4)

فهل قصد رينولدز أنّ هاتين الآيتين وما شاكلهما تثبت أفضليّة السيدة مريم(سلام الله علیها)على غيرها، أو أنّها تحكي عن معجزات النبي عيسى(علیه السّلام)، أو إنّه في صدد بيان المعنى المقصود من عبارة (كلمة الله) التي يراد منها عيسى وإثبات دوره في الألوهية؟!

واستنتج في نهاية المطاف(5)أنّ الآية المذكورة تحكي عن سلام جبرائيل على مريم المذكور في إنجيل لوقا: «فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكَ وَقَالَ: سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْت فى النِّسَاءِ"»(6).

ولو كان مراد رينولدز من عبارة (والدة كلمة الله) كون المسيح آيةً في ولادته، فهذا المعنى

ص: 212


1- Reynolds, Ibid., p. 147
2- Ibid
3- سورة آل عمران، الآية 49.
4- سورة آل عمران، الآية 55.
5- Reynolds, Ibid., p. 147
6- إنجيل لوقا، 1 : 28

معقول ويمكن قبوله، وإلا فلا يقبل منه أي تفسير آخر؛ فالآية 45 من سورة آل عمران(1)وعدد من الآيات الأخرى وصفته بأنّه كلمة الله، وذلك لأنّ ولادته كانت فريدةً من نوعها في جميع نواحيها؛ أي إنّها تنمّ عن قدرة الله -تعالى- وإعجازه العظيم.

لا شك في أنّ الله عزّ وجلّ له القدرة على خلق كلّ شيءٍ بمجرد أن يقول له كن، والمسيح عيسى(علیه السّلام)خلق أيضًا بهذه الكلمة، لكن غاية ما في الأمر أنه ولد خارج النطاق المتعارف بين البشر - من غير أب - لذا فهو الآخر نتيجةً لهذه الكلمة، ولكن أطلق السبب على المسبّب هنا من باب المبالغة. كذلك نلاحظ في الآية 42 من سورة آل عمران أن الملائكة ذكرت لوالدته مريم(سلام الله علیها)ثلاث خصائص هي اصطفاؤها من قبل الله - عزّ وجلّ -وتطهيرها وتفضيلها على سائر نساء العالمين(2).

وجدير بالذكر أنّ كلمة "اصطفاك" المذكورة في الآية كان لها تأثير على الآراء التي طرحها المستشرقون حين تفسيرهم الآية، وهي مشتقةٌ من كلمة (صفو) التي تعني خلوص الشي(3).

نستشف من مضمون الآية أنّ السيدة مريم(سلام الله علیها)بلغت مقامین هما

أ. مقام الاصطفاء

ب. مقام التطهير

مقام الاصطفاء بدوره على نحوين؛ كما يلي:

- الاصطفاء على نساء العالمين

- الاصطفاء المطلق

الفعل (اصطفى) في قوله - تعالى -: ﴿وَاصْطَفَنكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَلَمِينَن﴾ تعدّى بحرف الجرّ

ص: 213


1- قال - تعالى -: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرْكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾(سورة آل عمران، الآية 45).
2- قال أحد الباحثين في هذا الصدد: «الهدف من تكرار التأكيد على طهارة مريم(سلام الله علیها)واصطفائها، هو تنزيهها من التّهم التي وجهت لها من قبل اليهود والنصارى وتفنيد شبهاتهم وإلا ليس هناك أي مبرّر لأن يذكر الله -تعالى- اسمها في القرآن الكريم على الرغم من أنّه لم يذكر اسم أي امرأةةٍ أخرى، إذ لا نجد فيه اسم غيرها من النساء». (محمد صادقي طهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، إيران، قم، منشورات الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1986م، ج 5، ص 130).
3- راجع: حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، لبنان، بيروت ،القاهرة، لندن، منشورات دار الكتب العلمية - مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، الطبعة الثالثة، 1430ه_، ج 6، ص 298،مادة (صفو).

(على) ويعني أفضليّة مريم على سائر نساء العالم، إلا أنّ كلمة "اصطفاكِ" التي ذكرت قبل هذه العبارة ذات معنى مطلق لأنّ فعلها لم يتعد بحرف الجرّ المذكور، والاصطفاء هنا بمعنی الاختيار(1)، والمراد بشكل عام أنّ الله -عزّ وجلّ- طهر ذاتك(2).

وهذه العبارة تدلّ على إحدى فضائل السيدة مريم(سلام الله علیها)التي لا تختص بها بشكل حصري إذ من الممكن لغيرها من النساء أن تتحلّى بها.

وكلمة "طهَّرك" معطوفة على "اصطفاك"، وهذا العطف يدلّ على أن الاصطفاء - هنا- مطلق، والتطهير غيرُ مختصّ بها فحسب، فالسنّة الإلهيّة جاريةٌ على اصطفاء الملائكة والمخلصين من بني آدم(3)، لذلك لقب النبي محمد(سلام الله علیها)بالمصطفى ؛ وعلى هذا الأساس فالاصطفاء المذكور في الآية لا يحكي عن أفضليتها وتقدّمها على غيرها(4)، ويؤيد ذلك مضمون الآية اللاحقة: ﴿ يَمَرْيَمُ اقْني لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَازَكَعِى مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(5)، حيث جاءها الأمر بأن تقنت وتسجد وتركع مقدمةً لتبشيرها بالمسيح الذي هو كلمة الله.

والسؤال الذي يُطرح بخصوص ما ذكره غابريال سعيد رينولدز عن اصطفاء مريم(سلام الله علیها)على نساء العالمين والذي ادعى فيه أنّ هذا الاصطفاء أوقع المفسّرين المسلمين في حرج اعتقادي، فحواه ما يلي: هل الآية تدلّ على اصطفائها على نساء العالمين في جميع العصور والأجيال، أو المقصود هو اصطفاؤها على نساء زمانها فقط ؟

اعتبر بعض المفسّرين الآية شاهدًا على أن مريم(سلام الله علیها) كانت أعظم امرأة في عصرها - أفضل نساء عالمها - وهذه الميزة لا تتعارض مع كون السيّدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)أفضل نساء العالم قاطبةً، لأنّ كلمة (العالمين) في القرآن الكريم وفي الاستخدام العرفي تعني جماعةً من البشر الذين يعيشون في أحد العصور، ومثال ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(6)؛

ص: 214


1- راجع: أحمد بهشتي، عیسی پیام آور اسلام (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات اطلاعات، 2000م، ص 109.
2- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير ،لبنان ،بیروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 3، ص 94.
3- راجع الآيات التالية: سورة الحج ، ؛سورة ص 46 و 47؛سورة النمل، 59.
4- راجع: أحمد بهشتي، عیسی پیام اور اسلام (باللغة الفارسية)، ص 109 .
5- سورة آل عمران، الآية 43
6- سورة البقرة، الآيتان 47 و 122.

فمن البديهي - هنا- أنّ المقصود هو تفضيل مؤمني بني إسرائيل على غيرهم ممن عاصرهم(1).

والسؤال الآخر الذي يطرح في هذا الصدد: هل إن أفضلية مريم(سلام الله علیها)على نساء العالمين يُراد منها أفضليتها من جميع الجهات، أو إنّها أفضل من بعض الجهات فقط؟ بعض المفسرين اعتبروا تعدّي الاصطفاء بحرف الجرّ (على) يفيد أفضليتها على نساء العالم، والاصطفاء المطلق لها يدلّ على تقدّمها من جميع الجهات عليهنّ، لا من جهة وضعها حملًا وهي عذراء؛ والفرق بين هذين الاصطفاءين؛ هو أنّ الأوّل صفةٌ لها بحد ذاتها، والثاني صفةٌ لها مقارنة الآخرين(2).

مع وهذا الاستنتاج لا يبدو صحيحًا لتفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَأَصْطَفَنكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَلَمِينَ ﴾، إذ لا يمكن ادّعاء أنّ المراد -هنا- اصطفاؤها من جميع الجهات؛ بحيث لا توجد امرأةٌ في العالم قاطبةً أفضل منها، بل نستشف من سياق الكلام وما ذكر في الآيات اللاحقة أنّ الأنسب هو القول بتفضيلها على سائر نساء العالمين؛ من حيث ولادتها وهي عذراء غير متزوّجة، لا من جميع الجهات، فهذه الآيات تحكي عن تبشير الملائكة لها بحملها وهي عذراء، دون أن يمسها بشر. إذًا، هذا المضمون يعني أنّها ليست أفضل من سائر نساء العالمين من جميع الجهات، بل هی أفضل منهنّ بحملها دون الاقتران بزوج، وبفضل نفخ الروح الإلهية فيها، وهذا الحمل في الحقيقة هو أحد الأنبياء أولي العزم(3).

إذَا، السيدة مريم(سلام الله علیها)ليست أفضل -فقط- من جميع نساء عصرها، بل أفضل من نساء جميع العصور، لكن لا من جميع الجهات، ولا في جميع الفضائل، وإنّما من حيث ولادتها وهي عذراء(4)، فهذه هي الميزة التي اختصت بها وفاقت على ضوئها سائر أقرانها النساء، لذا يمكن

ص: 215


1- راجع: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، 1995م، ج 2، ص 543.
2- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 3 ص 95؛رضا صدر، مسیح در قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي حجتي كرماني ،إيران، طهران، منشورات مشعل دانشجو، ص 22 .
3- بعض المفسرين فسروا اصطفاء مريم(سلام الله علیها)من بين نساء العالمين بهدايتها ونزول الملائكة عليها ومنحها كرامات فريدة؛ مثل: ولادتها دون زوج، وتبرئتها من التهم التي وُجهت لها من قبل اليهود، وكلام طفلها وهو في المهد، وكونهما آيةً للعالمين. للاطلاع أكثر، راجع: ( عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418ھ، ج 2، ص 169). سوف نذكر أيضاً النقد الموجه لرأي البيضاوي
4- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 189. للاطلاع أكثر، راجع المصادر التالية: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 2 ص 457؛محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 1، ص 362؛عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن ج 2 ص 445؛محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج 2، ص 149؛ محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 8، ص 218.

القول إنّ هذه السيّدة الطاهرة تستبطن في ذاتها سرًّا مكنونا لا يوجد في نفس أي امرأة أخرى في العالم على مرّ العصور، حيث وصفها القرآن الكريم بالمصطفاة من قِبَل الله -عزّ وجلّ- من بين جميع نساء العالمين، واصطفاؤها طبعًا لأجل هذا السرّ المبارك الذي جعلها وابنها من أعظم الآيات في عالم الخلقة(1). هذه الميزة ليست موجودةً لدى أي امرأة أخرى سوى مريم؛ سواءً من الأجيال السالفة أو اللاحقة، ولكنّ هذا لا يمنع أفضلية غيرها عليها بميزات أخرى، لذلك قيل: «ليس المقصود من اصطفاء مريم أنّها اصطفيت على نساء عصرها فقط، بل المقصود منه اصطفاؤها على جميع نساء العالمين من الأوّلين والآخرين في ولادتها ابنا من غير زوج؛ فهذه الميزة مختصّةٌ بها فقط؛ لكن هذا لا يعني عدم وجود امرأة أفضل منها في العلم والتقوى والفضل والعبادة والعقل، ومثال ذلك تفضيل بني إسرائيل في القرآن الكريم وإكرامهم بنعم لم يُكرم بها غيرهم(2)، فهذا لا يعني أفضليّتهم في العلم والعمل على الآخرين، أو أفضلية الإنسان اليهودي على غيره، وإنّما الأفضليّة لهم كائنةً من حيث اختيار الأنبياء من بينهم جرّاء حاجتهم الماسة إلى قيادتهم؛ وهذا الأمر طبعًا ينمّ عن ضرب من الانحراف لديهم؛ لكونهم لم يطيعوا الأنبياء، بل تجبّروا عليهم فقتلوا بعضهم(3)»(4).

ص: 216


1- راجع: سورة المؤمنون، الآية 50.
2- راجع: الآيات التالية: سورة البقرة، 47؛سورة الدخان، 32؛سورة الأعراف، 138 إلى 140؛سورة المائدة، 20
3- راجع: سورة آل عمران، الآية 181.
4- عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية) إيران ،قم، منشورات إسراء، الطبعة الثالثة، 2002م و 2014م، ج 14، ص 235 . سلط صاحب تفسير الفرقان ضمن تأييده لهذا الاستدلال الضوء على زمان الفعلين اصطفاك وطهرك، ثمّ وضّحهما قائلًا: «الفعلان اصطفاك وطهرك ماضيان ما يعني عدم اصطفاء مريم(سلام الله علیها)على النساء اللاتي يأتين بعدها، والمقصود من قوله -تعالى- (العالمين) هو النساء اللواتي سبقن عهدها، أي أنّ الكلمة لا تشمل جميع النساء إلى يوم القيامة؛ إذ لو كان المقصود أنها تشمل من يأتي بعدها من النساء أيضًا، فلا بد في هذه الحالة من وجود دليل على ذلك، وهذا غير موجود طبعًا. كلمة (العالمين) في الآية الثانية من سورة الحمد (ربّ العالمين) تشمل الخلق قاطبةً بقرينة كلمة (ربّ)، أي أنّه ربّ العالم بأسره؛ لكن معنى الكلمة محدود بالنسبة إلى العباد؛ ما يعني تحديد نطاق معناها إلا مع وجود قرينة توسعه. وحتّى إن وجد دليل على توسعة المعنى المقصود منها. وقيل إن مريم الا وقد اصطفيت من بين جميع نساء العالم من الأولين والآخرين - ولا يوجد لدينا دليل على هذا الادعاء - إلا أنّ آية التطهير تؤكّد على عظمة مقام السيّدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)بوصفه أعلى مقام».(محمد صادقي طهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن ،إيران، قم، منشورات الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1986م، ج 5، ص 132). أضف إلى ذلك فإنّ بعض الروايات ذكرت أربع نساء هنّ الأفضل في العالم أجمع، في حين أنّ هناك رواياتٍ أكّدت على أن فاطمة(سلام الله علیها)هي الأفضل؛ ولا شكّ في أنّ تفضيل إحداهما على الأخرى - مريم وفاطمة - لا يتعارض مع كون كلّ واحدة منهما سيّدة نساء العالمين؛ لأن فاطمة عاصرت عهدًا تكاملت شخصيّة المرأة فيه وتحضّرت أكثر مما كانت عليه الأوضاع في العهود السابقة، لذا فهي أفضل من الصالحات الثلاثة اللواتي سبقنها . (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 234). إذَ، يمكن القول بناءً على آراء المفسّرين إن كل واحدة من هذه النساء الأربعة كانت متكاملةً في الفضل إبان عهدها، وفضائلهن متوازية مع بعضها وليست متعارضةً، كما أنّ الظروف الزمانية والتكامل الزمني يقتضيان أفضلية السيّدة فاطمة(سلام الله علیها)على سائر نساء العالم؛ ما يعني أنّها أفضل من هؤلاء الثلاثة.

واستنتج يوسف درّة الحدّاد، على الرغم من عدم إشارته إلى وجه تفضيل السيدة مريم(سلام الله علیها)على غيرها من النساء، من الآية أفضلية المسيح على جميع البشر، فهو برأيه الصفوة من بني ،آدم لسببين، الأوّل أمّه التي اصطفاها الله -عزّ وجلّ- على جميع نساء العالمين: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَيْكَةُ يَمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَكِ وَطَهَّرَكِ وَأَصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَلَمِينَ﴾(1)، والثاني هو ذاته بوصفه آخر أنبياء بني إسرائيل: ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَيْنَا مِنْ بَعْدِهِ، بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَبْتُمْ وَفَرِيقًا نَقْتُلُونَ﴾(2).

والظاهر أنّ النتيجة التي توصل إليها الحدّاد منبثقة من رؤيته الإيديولوجية القائمة على مرتكزاته اللاهوتية، لذا لو تجرّد عن هذه المرتكزات المسيحيّة لأدرك أنّ النصّ في الآيتين المذكورتين لا يوحي بأي مفهوم يحكي عن أفضلية المسيح(علیه السّلام)على الخلق قاطبةً(3).

المبحث السادس: التفسير الاستشراقي لكلمة (أقلام) في الآية 44 من سورة آل عمران:

ادعى غابريال سعيد رينولدز أنّ قصّة مريم(سلام الله علیها)ضمن الآيات 35 إلى 50 من سورة آل عمران مستوحاة من إنجيل جيمس المنتحل، وقد استدلّ بمسألة القرعة لخطبتها بهدف إثبات رأيه هذا، حيث اعتبر ما ذكر في هذا الإنجيل بأنّه أفضل سبيل لمعرفة المدلول الصحيح المقصود من قوله - تعالى -: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ﴾.

وفي هذا السياق بادر إلى تنسيق أحداث القصّة المذكورة في القرآن الكريم مع ما هو مذكور في إنجيل جيمس ضمن أسلوب مقارن؛ لأجل بيان المدلول الصحيح لكلمة (أقلام) وإزالة الغموض عنها بزعمه، حيث طرح رأيه بقوله: «ذكر في إنجيل جيمس أنّ والدي مريم

ص: 217


1- سورة آل عمران، الآية 42 .
2- سورة البقرة، الآية 87 . (يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، لبنان، بيروت، منشروات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة 1993م، ص 175).
3- للاطلاع أكثر، راجع: الفقرة المخصّصة لتفسير الآية 87 من سورة البقرة في المباحث اللاحقة.

قدماها للمعبد وعمرها لم يتجاوز ثلاث سنوات، وذلك امتثالا للنذر الذي قطعته أمها على نفسها، فتكفّلها زكريا (الكاهن)(1)؛ وقد كان يصلها رزقٌ بشكل إعجازي هناك(2)، وحينما بلغت سن الرشد أوجس سدنة المعبد وكهنته خيفةً من هتك حرمته، لذا دخل زكريا في الحرم المقدّس ليسأل الله عمّا يفعله بها(3)، فجاءه ملك من جانب الله وأخبره بأنّ يجمع جميع الأرامل من الرجال في البلاد ويحضر كلّ واحدٍ منهم معه عصا صغيرةً؛ كي يختار الله أحدهم لأن يتكفّل بتربيتها(4). عندما اجتمع الأرامل من الرجال، أخذ زكريا العصي منهم وأدخلها في المعبد وقرأ عليها دعاءً، ثمّ أرجع كلّ عصا لصاحبها، فكان آخرَهم رجل اسمه يوسف، حيث ظهرت من عصاه معجزة بعد أن خرج منها طير جلس على رأسه»(5).

وبما أنّ هذا المستشرق فسّر الكفالة في قوله - تعالى - : ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾؛ بمعنى خطبة يوسف النجار لمريم، لذلك لم يفسّر كلمة (أقلام) بمعنى قلم أو العصا التي كانت مخصصة لكلّ حبر من أحبارهم، بل فسّرها بالعصي الصغيرة التي اقترع فيها؛ لأجل تعيين كفيل مريم أي- -زوجها- من بين أحد الأرامل من الرجال لا الأحبار؛ وفي هذا السياق ادّعى أنّ هذا الخبر القرآني عبارة عن سرد قصصيّ يحكي عمّا ذُكر في إنجيل جيمس، وعلى هذا الأساس استنتج أنّ العصا الصغيرة هي المقصودة من الكلمة المذكورة لا القلم؛ لأنّ هذا المعنى برأيه أكثر تناسبًا

مع أوّل معنى شاع بين الناس لكلمة قلم(6).

ونستشف ممّا ذُكِرَ أنّ رينولدز اعتمد على مرتكزاته الفكرية في تفسير مضامين القرآن الكريم، ومن المؤكد أنّ مجرّد وجود تشابه بين بعض أحداث قصة السيدة مريم(سلام الله علیها)في القرآن الكريم وإنجيل جيمس لا يعني صوابية رأيه في تفسير كلمة (أقلام) المذكورة في الآية 44 من سورة آل عمران فضلًا عن أنّ المعنى المقصود من هذه الكلمة في سائر الآيات القرآنية يفنّد ما ادّعاه.

كما أنّ كلمة (قلم) في أصلها اللغوي تعني قص جزء من جسم صلب، حيث عرفها الراغب

ص: 218


1- إنجيل جيمس، 2 : 3 - 8 / سورة آل عمران، الآية 37.
2- إنجيل جيمس، 1 : 8 / سورة آل عمران، الآية 37.
3- إنجيل جيمس، 3 : 8
4- إنجيل جيمس، 3 : 8
5- إنجيل جيمس، 1 : 9 إنجيل متي، 3 : 16 إنجيل مرقس، 1 : 10 إنجيل لوقا 3 : 32؛ إنجيل يوحنا 1 : 32.
6- Reynolds, Ibid., p. 143

الأصفهاني بقوله: «أصل القلم: القصّ من الشيء الصلب؛ كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قلم. كما يقال للمنقوض : نقض. وخصّ ذلك بما يكتب به، وبالقدح الذي يضرب به وجمعه: أقلام»(1). وقال ابن عاشور موضّحًا معنى هذه الكلمة في الآية: «وَقَوْلُهُ: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ؛ وَهِيَ الْأَقْلَامُ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ كَانُوا يَقْتَرِعُونَ بِهَا فِي الْمُشْكِلَاتِ بِأَنْ يَكْتُبُوا عَلَيْهَا أَسْمَاءَ الْمُقْتَرِعِينَ أَوْ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الْمُقْتَرَعِ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَصِيرُونَ إِلَى الْقُرْعَةِ عِنْدَ انْعِدَامِ مَا يُرَبِّحُ الْحَقَّ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ وَجَعَلَ الْيَهُودُ الاقْتِرَاعَ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ فِي الْمِدْرَاسِ؛ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ بَرَكَتُهَا مُرْشِدَةً إِلَى مَا هُوَ الْخَيْرُ»(2).

وسواءً اعتبرنا كلمة (أقلام) تعني السهام المصنوعة من الخشب طبعا - أم تلك الأقلام التي كانوا يقترعون بها؛ أي قداحهم المبريّة التي كانت تُسمّى سهاماً(3)، أم تلك الأقلام التي كان الأحبار يكتبون بها التوراة وسائر الكتب السماوية التي كانت تستخدم للقرعة أيضاً - وهو ما ذهب إليه بالنتيجة كانت عبارة عن قطع من الخشب التي تكتب عليها أسماء غالبية المفسّرين -فهي(4)المتنازعين، حيث كانت تلقى في الماء لأجل معرفة الحلّ الأنسب للمسألة المختلف حولها(5)وقال الفخر الرازي موضّحًا ذلك بقوله: «معنى ﴿يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ﴾ مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع، فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم، فمن خرج له السهم سلم له الأمر؛ وقد قال الله - تعالى -: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ - (الصافات / 141)، وهو شبية بأمر

ص: 219


1- المتعارف بين المحاربين والرماة في جميع الأمم والقبائل قبل الإسلام أنّهم يكتبون على السهم الذي يرمونه باتجاه العدو اسم راميه أو كلمات كانوا يعتقدون بيمنها أو نحوستها، وكانوا يتفاءلون بأوّل سهم يخرجونه من بينها عن طريق القرعة لرميه نحو عدوّهم؛ وهذه السهام كانت تسمّى أقداحًا أو أقلاما . للاطلاع أكثر، راجع: حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان داوودي، لبنان، بيروت، منشورات دار القلم، الطبعة الأولى، 1402ه_ مادة (قلم).
2- محمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير ،لبنان ،بیروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 3، ص 96.
3- راجع: وهبة بن مصطفى الزحيلي، التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج، لبنان وسوريا بيروت ودمشق، منشورات دار الفكر المعاصر، الطبعة الثانية، 1418ه_ ج 3، ص 224.
4- للاطلاع أكثر، راجع: إسماعيل حقي البروسوي، روح البيان، لبنان، بيروت، منشورات دار الفكر، الطبعة الأولى، 2، ص 33 أحمد بن محمد ميبدي، كشف الأسرار وعدة الأبرار (باللغة الفارسية)، تحقيق علي أصغر حكمت ،إيران، طهران، منشورات أمير كبير، الطبعة الخامسة، 1992م، ج 2، ص 117.
5- وضح أحد الباحثين هذا النمط من القرعة قائلاً: «هذا النمط من القرعة ما زال متعارفًا بين نساء بعض القرى، حيث يلقين عصا صغيرة، أو حزمة قشّ، أو قصبةً في الماء الجاري؛ ليتفألن به على ضوء غرقها في الماء أو حركتها مع مجرى تياره». (محمد رضا غياثي كرماني، پژوهشهاي قرآني علامه شعراني در تفاسیر مجمع البیان، روح البیان و منهج الصادقين (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات مؤسسة بوستان كتاب، 2006م، ج 1، ص 269).

القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور، وإنّما سمّيت هذه السهام أقلامًا؛ لأنّها تقلّم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئًا بعد شيء فقد قلّمته؛ ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما.

قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحًا؛ نظرًا إلى أصل الاشتقاق، إلا أنّ العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به، فوجب حمل لفظ القلم عليه»(1).

وكلمة (قلم) ذُكِرَت في أوّل آيةٍ من سورة القلم، ويراد منها ما يكتب به، إذ قال -تعالى- في هذه الآية: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾(2)، كما ذكرت في الآية الرابعة من سورة العلق لبيان الفوائد التي ينالها الإنسان من الكتابة : ﴿أَقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِى عَلَمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾(3). لذا يبدو أنّ المراد من القلم في الآيتين هو القلم المتعارف لدى الناس في الكتابة.

وأما كلمة (أقلام) فقد ذكرت في آيتين هما الآية التي هي مدار بحثنا وقوله -تعالى- في سورة لقمان: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَمُ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ، سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَتُ اللَّهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(4). ومعنى الكلمة واضح في هذه الآية، حيث يراد منها الشيء المخصّص للكتابة؛ وذلك بقرينة شجر الأرض، ومداد البحر، وكلمات الله، فلو جعلت جميع الأشجار في الأرض أقلاما وجعل مدادها ماء الأبحر السبعة، ثمّ كتبت كلمات الله - سبحانه وتعالى- بها، فهي بعد أن تتحوّل إلى ألفاظ مكتوبة سوف ينتهي ماء هذه الأبحر قبل أن تنتهي هذه الكلمات (المخلوقات).

وأما معنى هذه الكلمة في الآية 44 من سورة آل عمران والتي هي مدار بحثنا، فيراد منه سهام القرعة التي يمكن أن تكون أقلام الأحبار ؛ وهذا المعنى نستشفّه على ضوء استخدام الكلمة في مختلف آيات القرآن الكريم؛ كذلك يمكن القول إنّ المراد -فقط- تلك العصي التي كانت مخصّصة سهامًا للقرعة.

لا شك فى أنّ إصرار غابريال سعيد رينولدز على حصر الكلمة في المعنى الثاني، لا مسوّغ

ص: 220


1- محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_ ج 8، ص 220.
2- سورة القلم، الآية 1
3- سورة العلق، الآيات 3 إلى 5
4- سورة لقمان، الآية 27

له؛ لكونه منبثقًا من مرتكزاته الفكرية المسيحيّة، ونظرًا لإصراره على ادعاء أنه مقتبس من إنجيل جيمس المنتحل.

خلاصة البحث

اعتمد أغلب المستشرقين في تفسير القرآن الكريم على مرتكزاتهم الفكرية والعقدية؛ لذا فإنّهم حينما يلاحظون أنّ التفسير الإسلامي لإحدى الآيات مختلف مع مضامين الأناجيل القانونيّة وحتّى المنتحلة، فهم في أفضل الأحوال يبادرون إلى توجيه معناها وظاهرها أو أنّهم يصرون -أحيانًا- على معارضتهم للرؤية الإسلامية، ويطرحون آراء تتباين بالكامل مع المعنى المتعارف بين المفسّرين المسلمين.

وقد سلك المستشرق غابريال سعيد رينولدز هذا النهج في التعامل مع المضمون القرآني، ومن هذا المنطلق ادّعى أنّ الأنجع لإزالة غموض الكثير من الآيات التي تحدثت عن السيّدة مريم وابنها عيسى(علیه السّلام)وتبسيط التعقيد الموجود في ألفاظها وعباراتها، هو اللجوء إلى النصوص المسيحيّة التي تشير إلى الموضوع نفسه.

ولا يذكر المستشرقون المتأخّرون بصريح القول أنّ النصّ القرآني مقتبس من العهدين والنصوص المقدّسة اللاحقة لهما، لكنّهم يؤكّدون على أنّه يحكي عن مضامين النصوص اليهودية والمسيحيّة؛ إذ هناك مسألةٌ ملحوظةً في معظم الآثار التفسيرية لهؤلاء المستشرقين،وهي ادعاء أنّ الكثير من المضامين القرآنيّة مستوحاة من مصادر عديدة؛ مثل: التلمود، والإنجيل، وثقافة أهل مكة وتقاليدهم، أو أنها متأثرة بالظروف الاجتماعية والثقافية والدينية في عصر ظهور الإسلام، وهذا يتمّ في الحقيقة عن انعكاس آراء أسلافهم المستشرقين الأوائل في منظومتهم الفكرية(1).

وقد قالت المستشرقة أنجليكا نويورث في توجيه التشابه الموجود بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس في تفاصيل قصّتي مريم وعيسى(علیهما السّلام)إنّ «القرآن ذكر قصة مريم كي يوضّح الغموض الموجود في النصوص المقدّسة حول قضيّة حملها وولادتها؛ وهي عذراء، وهذه القصّة

ص: 221


1- أشار المستشرق آرند جان فنسنك في إحدى مقالاته إلى هذا الموضوع ووضّحه قائلاً: «التشابه الثابت بين الرواية القرآنية لقصة مريم مع الأحداث المذكورة في الأناجيل المنتحلة - أبوكريفا - لا يدل على وجود اقتباس مباشرٍ، وإنّما ينمّ عن الطابع الفلكلوري للدين؛ حيث تشير مضامين القرآن والأناجيل المنتحلة إلى تقاليد محلية سائدة بين الناس». (Wensinck, p. 630).

تدلّ بوضوح على رواج مباحث ونقاشاتٍ جديدةٍ بين أهل المدينة حول شخصيتي مريم وعيسى ضمن توجّهات لاهوتيّة، لذلك اقتضت الضرورة آنذاك بيان تفاصيلها.

لا يمكن الاعتماد فقط على الأسس البنيوية التي تقوم عليها الحكايات القرآنية لاستكشاف المعاني والمداليل الكاملة للقصص التي سردت في كتاب المسلمين المقدّس - القرآن، - إذ ليس من المهم بمكان بيان مدى احتمال تأثير أحد النصوص على التصوير القرآني لإحدى القصص (كما هو الحال بالنسبة إلى الإصحاح الثاني عشر من إنجيل لوقا، والذي تم استعراض مضمونه في القسم الأوّل من سورة مريم)، بل المهمّ هو معرفة الخطاب العام المراد طرحه من وراء ذِكْر هذه القصّة؛ فهذا الخطاب ربّما طرح على ضوء هواجس لاهوتية أكثرَ قِدمًا»(1).

ولا شك في أنّ قصّة مريم وعيسى(علیهما السّلام)كانت معروفة بشكل عام بين المستمعين الأوائل، إلا أنّ ذكرها في القرآن الكريم ينمّ عن عظمة بلاغة هذا الكتاب الحكيم في السرد القصصي وتفرّده في بيان بعض الأحداث التي شهداها، حيث صاغها من وقائع كانت معروفة لدى المخاطبين العرب في عصر النزول بأسلوب يتناسب مع الرسالة الموجهة إليهم. والآية 44 من سورة آل عمران - على سبيل المثال أكّدت على أنّ النبي محمد(علیهما السّلام)يخبر الناس بأحداث لا يمكن للعقل مطلقًا الاطلاع عليها من دون هذا الإخبار، وحتّى المعارضون لرسالته يقرون بأنه لم يسمع بهذه الأحداث قبل ذلك ولم يقرأها مطلقًا، والأهم من ذلك أنّه لم يكن حاضرًا حينما وقعت كي ينقلها بهذه التفاصيل الدقيقة؛ إذ من المستحيل طبعًا أن يكون قد رآها مرأى العين؛ ما يعني أنّ الخبر وصله عن طريق وحي السماء(2).

وحتّى لو وُجِدَ تشابه بين القصص القرآنية المتقنة والقصص المنقولة في بعض النصوص

ص: 222


1- Angelika Neuwirth, "Epistemic Pessimism in Qur'anic studies". هذه المقالة لم تطبع حين تدوين الكتاب وبالتالي فإنّ معلوماتها المكتبية غير كاملة؛ حيث أرسلتها لنا مؤلّفتها السيدة أنجليكا نويورث استجابةً لطلبنا.
2- راجع: محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظیم ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1415ھ، ج 2، ص 152. تطرقت الباحثة دونيز ماسون إلى توضيح هذا التشابه مؤكّدةً على وجود ارتباط بين ما ذكر في القرآن الكريم والكتاب المقدس، لكنها احتملت أن المضامين الإسلامية قد أثرت على النصوص المسيحية المتأخرة وكانت سببًا في التغيرات التي طرأت عليها، وليس من الممكن -هنا- تعيين هذه التغيرات بدقة. (دونیز ماسون، قرآن و کتاب مقدس: درون مايه هاي مشترك (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية فاطمة سادات تهامي، إيران، طهران، منشورات السهروردي 2006م، ص 392).

السابقة المنتحلة والمحرّفة، فهذا لا يعني تسويغ ادّعاء أنّها مقتبسة أو مستوحاة من هذه النصوص المرفوضة من أساسها.

ويلاحظ في التوجّهات التفسيرية الاستشراقية التي تبنّاها المستشرقون المتأخرون الذين يدور البحث في هذا الكتاب حول آرائهم، أنّهم تبنّوا وجهات نظر تجديديّةً مستقلةً عن الدراسات الغربية التقليديّة، وفي هذا السّياق سلّطوا الضوء على النص القرآني؛ بعيدًا عن التراث الإسلامي الذي يمثل تأريخ المسلمين ونهجهم الديني؛ إلا ما ندر، وبالتالي فسّروه، وطرحوا نظرياتهم بخصوص مضامينه في رحاب تحليلات أدبيّة ولغويّة قائمة على مبدأ التناص التعالق النصّي).

ص: 223

ص: 224

الباب الثاني

التفسير الاستشراقي لمصطلحي "الكتاب" و"التفصيل" في النص القرآني

ص: 225

ص: 226

الفصل الأول

التفسير الاستشراقي لمصطلح "الكتاب" في النص القرآني

ص: 227

ص: 228

سلّط المستشرقون الضوء بدقة وإمعان على مصطلح "كتاب" وسائر الكلمات المرتبطة به؛ مثل: "تفصيل" و"مبين"، وهناك أسباب عديدة دعتهم إلى ذلك؛ وفي هذا السياق أضفى بعضهم إليه دلالةً تتعدّى نطاق مدلوله النصّيّ، في حين أنّ آخرين قيدوه بمدلوله النصي وذكروا له مصاديق عدة.

وقد تطرّقوا إلى تفسير هذا المصطلح والآيات المرتبطة به متأثرين بعوامل عدة، وطرحوا آراء متباينةً تمخضت عنها تفاسير متنوّعةً ومتباينةً من حيث المضمون.

وتفصيل هذه الآراء التفسيريّة في ما يلي من مباحث :

المبحث الأوّل: "الكتاب "؛ بمعنى التوراة والإنجيل ( على نحو الاقتباس، لا التناص ) :

أحد الآراء الشائعة بين المستشرقون حول تفسير مصطلح "كتاب" في القرآن الكريم هو دلالته على التوراة والإنجيل، ويُعدّ يوسف درّة الحدّاد من جملتهم، فقد استنتد إلى خلفياته الفكريّة التي قوامها أنّ كتاب المسلمين المقدّس مقتبس من هذين الكتابين المقدسين لدى اليهود والمسيحيّين، وعلى هذا الأساس تعامل مع النصّ القرآني على ضوء معتقداته الدينية، وقام بتحميل آرائه التفسيرية عليه؛ بحسب هذه المعتقدات؛ لذا لم يميّز في رأيه هذا بين معنى كلمة الكتاب المذكورة في الآيات الأولى وغيرها ضمن مختلف السور، حيث أصرّ على أنّها ذات دلالة واحدة؛ وهی الكتاب المقدّس. والمعهود عن هذا المستشرق أنّه قبل أن يبادر إلى تفسير إحدى الآيات عادةً ما يشير إلى نظريّة مرتكزة في ذهنه؛ فحواها أنّ القرآن لا يتعدّى كونه كتابًا مفصلًا(1).

وأكد الحداد في بحوثه على أنّ التوراة هي بحوثه على أنّ التوراة هي الكتاب الوحيد المنزل من السماء، وادّعى أن المقصود من مصطلح "كتاب" في كتاب المسلمين المقدّس هو النسخة العربية للتوراة التي أطلق عليها عنوان "قرآن"، فقد جاء النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)به؛ لكي يعلّم العرب الكتاب والحكمة - أي التوراة والإنجيل - لأنّه أرسل لكي يفصل الكتاب ويثبت للناس قدسيته(2).

ص: 229


1- اعتبر يوسف درّة الحدّاد التفصيل بمعنى التعريب، وفي المباحث اللاحقة سوف نناقش رأيه التفسيري؛ بخصوص المعنى المقصود من كلمة التفصيل وعبارة «كتاب فضلت آياته».
2- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، القرآن والكتاب: بيئة القرآن الكتابية ص 179 - 180 و 187 - 188 يوسف درة الحداد، القرآن والمسيحية، ص 233.

والحدّاد هو قسّيس في الحقيقة، لذا نلمس توجّهاته العقديّةَ جليّةً في آرائه التي تبنّاها ضمن تفسير النصّ القرآني، وأسلوبه التفسيري يقوم على تجزئة الآيات، ثم تفسير ألفاظها وعباراتها وفقًا لمتبنياته الإيديولوجيّة؛ ومن جملة الآراء التي طرحها على هذا الصعيد: أنّ بعض السور القرآنية أستهلّت بقسم؛ فحواه نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم، وأشارت إلى أنّ القرآن تفصيل؛ أي أنّه تعريب للكتاب؛ ما يعني أنّ الكتاب يتضمن الوحي؛ بينما القرآن عبارة عن تفصيل وبيان لهذا الكتاب هذا الكلام يعني معارضة الحداد رأيه السابق بخصوص مسألة تفصيل الكتاب، حيث ادّعى أنّ القرآن الكريم ليس سوى تعريب أو بيان للكتاب.

ويمكن بيان وجهة نظره بالنسبة إلى الآيات التي يتمحور حولها بحثنا في يلي: في بادئ الأمر قال لا شكّ في أنّ "الكتاب" - هنا- يُراد منه كتاب مقدّس ، فهذا معنى مفروغ منه برأيه؛ ثمّ طرح سائر استنتاجاته وفق هذا المعنى وكلمة "تفصيل" هي من الأدلّة التي استند إليها في هذا الإطار، حيث فسّرها بالتعريب، كما اعتبر مفهوم كلمة "قرآن" ذاتَ معنى مختلف عن كلمة "كتاب "؛(1)والنتيجة النهائية التي توصل إليها هي: عدم إنزال القرآن الكريم بالوحي، أو على أقل تقدير هو ليس من تلك الكتب السماويّة القائمة على أرفع درجات الوحي؛ وذلك من منطلق اعتقاده بأنّه كتاب غيرُ مستقلّ عن النصوص المقدّسة السابقة(2)، فقد وصف بالكتاب والمقصود من ذلك التوراة والإنجيل وآياته هي آيات التوراة والإنجيل ذاتها، لكن غاية ما في الأمر أنّها عُرِضَت على الناس باللغة العربية. والطريف - أيضًا - هو ادّعاؤه أن هدف القرآن الكريم هو تعليم العرب التوراة والإنجيل(3).

وجدير بالذكر أنّ معظم النقاشات النقدية التي تساق في تحليل آراء الحداد التفسيرية تتمحور بشكل أساس حول تفسيره كلمة "الكتاب" التي تحدّثنا عنها، حيث استدلّ بالعديد من الآيات لزعم أنّه نسخة عربيّةً من التوراة والإنجيل؛ وفي هذا السياق بادر إلى استقطاع عبارات خاصة من الآيات ليفسّر مضامينها؛ وفقًا لمرتكزاته الإيديولوجيّة، حتّى إنّه اكتفى - أحيانًا - بتقرير استدلاله ضمن سطرٍ واحدٍ ليطرح النتيجة النهائيّة على أساسه، وهذه الآيات التي استند إليها تصنّف إلى أربعة أقسام هي:

- آيات تتضمّن كلمة "كتاب" فقط

ص: 230


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 141 - 142.
2- للاطلاع على تفاصيل أكثر، راجع تفسير يوسف درّة الحدّاد للآية 51 من سورة الشورى في كتاب (الإنجيل في القرآن)، ص 419.
3- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحداد، القرآن والمسيحية، ص 104 - 105.

- آيات تتضمّن كلمتي "كتاب" و"قرآن"

- آيات تتضمن كلمة "كتاب" وعبارة "قرآن عربي"

- آيات تتضمن كلمتي "فصّلت" أو "تفصيل" إلى جانب "كتاب" أو "قرآن" أو "قرآن" عربي"

1) الآيات الأولى التي تتضمّن كلمة "كتاب" فقط:

فسّر يوسف درّة ،الحدّاد ضمن مساعيه الرامية إلى إثبات أنّ القرآن الكريم مستوحى من مصدرين هما: التوراة والإنجيل، كلمة "كتاب" المذكورة في الآيات الأولى من بعض السوربالتوراة والإنجيل(1)؛ لأنّ بعض الآيات - كما في سورتي الحجر والنمل - تمّ التمييز فيها بين هذه الكلمة وكلمة "قرآن"؛ وعلى هذا الأساس قال مرارًا وتكرارًا إنّ الكتاب المشار إليه في بدايات السور يُراد منه الكتاب ذاته الموجود بين أيدي أهل الكتاب الذين أشار إليهم القرآن، لذا فهو مجرّد نص موضّح ومفضّل لكتابهم المقدّس(2).

واتّخذ الحدّاد هذا الرأي مقدّمةً لطرح استنتاجه المعهود في سائر بحوثه ودراساته؛ وهو تجريد القرآن الكريم من طابعه السماوي؛ بزعم أنّه لم ينزل بالوحي، بل هدفه الأساس هو تفصيل "الكتاب؛ أي التوراة والإنجيل؛ لذا فاستنتاجه الأساس من مستهل السور التي ذُكِرَت فيها كلمة "كتاب" قوامه؛ أوّلًا: أنّ التوراة والإنجيل هما الكتاب المنزل من الله العزيز الحكيم عن طريق الوحي، وثانيًا: أنّ القرآن عبارةٌ عن تفصيل عربي لهما لا غير؛ وعزّز استدلاله هذا بمستهل سورة البقرة، حيث اعتبره يدلّ على المعنيين المشار إليهما.

ويلاحظ أنّه استدلّ بالآيات 1 إلى 4 من سورة البقرة لإثبات رأيه هذا بشكل يختلف عن سائر استدلالاته التفسيرية بخصوص كلمة "الكتاب"، لكنّه ادّعى غير ذلك واعتبره على غرار استدلالاته الأخرى؛ وفي هذا السياق قال إنّ المقصود من هذا المصطلح القرآني هو القرآن العربي المنزل على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) والذي يتضمن ما أنزل قبله؛ أي أنّ الكتاب هو المنزل قبل القرآن(3).

ص: 231


1- سوف نتطرق إلى تحليل مضامين هذه الآيات، وفقًا لترتيبها بحسب المشهور في ترتيب نزول سورها، وهذه السور هي: الشعراء، النمل، القصص، يونس، يوسف، الحجر، لقمان، البقرة، وأرقام نزولها بحسب المشهور بهذا الترتيب: 47 ، 48، 49 ، 51 ، 53 ، 54 ، 57 ، 87 . كذلك سوف نتطرق إلى الحديث عن آيات من سورتي الأعراف وهود؛ وترتيب نزولهما 39 و 52.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 142.
3- راجع: م. ن، ص. ن.

وهذا الكلام يعني وجود اختلاف بين آيات القرآن وآيات الكتاب فهما برأيه ليسا أمرًا واحدًا؛ كما أنّ الكتاب المذكور في بعض الآيات القرآنية يُراد منه التوراة والإنجيل، حيث تأثر في تفسيره هذا بما ذكره عدد من المفسّرين الذين يدرجون ضمن التابعين لصحابة النبي حول معنى الكتاب؛ ولا شك في أنّ متبنّياته العقدية والرؤية الإيديولوجيّة التي تَسِم فكره المسيحي، قد حفزته على القول بأفضلية الكتاب المقدس؛ ومثال ذلك: أنّه استند إلى بعض التعابير القرآنية، دون أن يأخذ بعين الاعتبار المدلول العام للسورة أو الآية التي أدرجت فيها، وهذا الاستدلال غير صائب بطبيعة الحال، إذ لا بدّ للمفسّر من بيان آرائه على ضوء المدلول العام للسورة، ومع الأخذ بعين الاعتبار جميع القرائن المتصلة بها والمنفصلة عنها؛ مثل: سياق الكلام، وأسباب النزول، كما ينبغي له عدم تجاهل المعاني اللغوية والاصطلاحية؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ إهمال السياق له دور كبير في عرقلة المفسّر عن فهم مداليل الكثير من الآيات، لكنّ الحدّاد لم يكترث لهذا الجانب، واستقطع الآيات من سياقها؛ ليتعامل مع كلّ واحدة منها؛ وكأنّها نصّ مستقل(1).

وفي ما يلي نوضّح تفاصيل البحث:

أ - الآية الثانية من سورة البقرة :

قال - تعالى -: ﴿الم(1)ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوَةَ وَمَا رَزَقْنَهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)﴾(2)فسّر يوسف درّة الحدّاد كلمة "الكتاب" المذكورة في الآية الثانية بالتوراة والإنجيل؛ استنادًا إلى مرتكزاته الإيديولوجيّة ذات الطابع المسيحي، ويبدو أنّ اسم الإشارة "ذلك" هو الذي جعله يستنتج هذا المعنى؛ على الرغم من عدم تصريحه بهذا السبب.

وقبل أن نتطرّق إلى بيان سياق الآية ومدلول كلمة "الكتاب" فيها، على ضوء سياق الآيات الأخرى، لا نرى بأسًا في ذكر ملاحظتين تندرج فيهما بعض التفاصيل الهامة بخصوص موضوع البحث :

ص: 232


1- هناك ملاحظة تجدر الإشارة إليها في هذا الخصوص، وهي أنّ الطبري الذي ألف واحدًا من أقدم تفاسير القرآن الكريم، اعتبر أن كلمة (الكتاب) في جميع الآيات الأولى للسور القرآنية تشير إلى القرآن الكريم، أي أنّ هذه الكلمة تعتبر وكأنها عنوان لكل سورة ذكرت فيها، حيث نقل هذا لرأي عن مفسّرين آخرين أيضًا؛ لكنّه استثنى من ذلك أربعة موارد فقط.
2- سورة البقرة، الآيات 1 - 4.

الملاحظة الأولى : المفهوم العامّ لكلمة "كتاب" في المصطلح القرآني يُراد منه الوحي المنزل من علم الله -تعالى-، وهذا هو المعنى المقصود في سورة البقرة بطبيعة الحال؛ وكلمة "ذلك" المذكورة في بداية هذه السورة هي اسم إشارةٍ لذلك الكتاب المكنون والمحفوظ أو العلم الإلهيّ؛ فالتعاليم القرآنيّة تؤكّد على أنّ الكتب السماويّة مُنزَلةٌ من علمه تبارك شأنه.

وقد فسرت هذه الكلمة في بعض التفاسير بالوحي الحامل للشريعة(1).

الملاحظة الثانية : يتضمّن النصّ القرآني أسماء إشارة للقريب؛ مثل: هذا، وهذه، وأسماء إشارة للبعيد؛ مثل: ذلك، وتلك ؛ وفي هذا السياق لا يوجد اختلاف بين المفسّرين حول إرادة القرآن من الكتاب المشار إليه بأسماء الإشارة للقريب -أي هذا القرآن المكوّن من الآيات والسور التي هي في متناول المسلمين - لكنّهم مختلفون حول المراد من الكتاب المشار إليه بأسماء الإشارة للبعيد.

واعتبر بعض المفسّرين اسم الإشارة "ذلك" المذكور في مستهل سورة البقرة يشير إلى مضمون الآية الأولى التي هي الحروف المقطعة "ال_م"، إذ بما أنّ الكلام عن "أل_م" قد انتهى، فهو بحكم البعيد، ومن ثمّ لا بدّ من استخدام اسم إشارةٍ مختص بالبعيد للإشارة إليه، وفي هذه الحالة فإنّ "ألم" مبتدأ وعبارةً ﴿ ذَلِكَ الْكِتَبُ ﴾ خبرٌ لها(2).

بعضهم قالوا إنّه يشير إلى الآيات والسور النازلة قبل نزول هذه الآية، وهي بطبيعة الحال بحكم البعيدة(3).

ص: 233


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن،ج 18، ص 38. ذكر العلامة الطباطبائي الكلام نفسه لدى تفسيره الآية 15 من سورة الشورى، حيث قال: قوله: ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ﴾ تسويةٌ بين الكتب السماوية من حيث تصديقها والإيمان بها، وهي الكتب المنزلة من عند الله المشتملة على الشرائع... فقوله: ﴿اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ﴾ يشير إلى أنّ ربّ الكل هو الله الواحد -تعالى-، فليس لهم أرباب كثيرون حتى يلحق كلُّ بربّه ويتفاضلوا بالأرباب ويقتصر كل منهم بالإيمان بشريعة ربّه، بل الله هو ربّ الجميع وهم جميعًا عباده المملوكون له المدبَّرون بأمره والشرائع المنزلة على الأنبياء من عنده؛ فلا موجب للإيمان ببعضها دون بعض كما يؤمن اليهود بشريعة موسى دون من بعده، وكذا النصارى بشريعة عيسى دون محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل الواجب الإيمان بكل كتاب نازل من عنده؛ لأنها جميعًا من عنده». (م. ن، ص 33 و 34).
2- للاطلاع أكثر، راجع: أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف نجاتي، مصر، منشورات الدار المصرية للتأليف والترجمة، الطبعة الأولى 1980م، ج 1، ص 10 محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 1، ص 32.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان ،بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_، ج 2، ص259.

ومنهم من فسّرها بالآيات التي بشّرت التوراة بنزولها، حيث وعد الله -تعالى- نبيه بأن ينزل عليه كتابًا، لذا حينما أنزل القرآن قال إنّه هو الكتاب ذاته الذي وعدت الكتب السماويّة بنزوله، وهو عبارةٌ عن كل وجزءٍ، أي أنّه يصدق على كلّ جزءٍ فيه، حتّى وإنْ كان آيةً واحدةً(1).

وحينما نستقرئ الآراء التفسيرية حول مدلول هذه الكلمة في مستهل سورة البقرة، نجد أنّ الفخر الرازي هو المفسّر الوحيد الذي تطرّق إلى بيانها على ضوء جذرها اللغوي؛ لأجل وضع للتعارض الموجود بين مفهومها الظاهر الدالّ على البعيد، والمشار إليه القريب "الكتاب"، ومن هذا المنطلق أكّد على أن معناها يتمحور حول كلمة "ذا" التي اعتبرها للإشارة -فقط- لا لتحديد القريب أو البعيد؛ لأنّ العرف العام لدى أهل اللغة هو الذي خصصها بالمشار إليه البعيد، بينما مقتضى الوضع اللغوي لها هو الإشارة فقط(2).

إذًا، هؤلاء المفسّرون أجمعوا على أنّ القرآن الكريم الموجود بين يدي المسلمين هو المشار إليه المقصود من جميع أسماء الإشارة التي أشارت إلى الكتاب، وهذا الاستنتاج ترتب عليه تسامح في استعمال أسماء الإشارة؛ من خلال اعتبار اسمي الإشارة "تلك" و"ذلك" يدلان على القريب.

وبعضهم اعتبروه يدلّ في هذه الآية على تعظيم القرآن الكريم(3)، وهذا الرأي يبدو في ظاهره منبثقًا من تفسير ذوقي؛ لكونه ليس مبرهَنا؛ في ما ذهب آخرون إلى ما تبنّاه يوسف

ص: 234


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد صادقي طهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن ،إيران، قم، منشورات الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية،1986م، ج 1، ص 162.
2- راجع: م. ن، ج. ن، ص . ن.
3- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات إسراء، الطبعة الثالثة، 2002م و 2014م، ج 27، ص 54ذ؛ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية) إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، 1995م، ج 1، ص 66. بالنسبة إلى ذكر كلمة (الكتاب) في القرآن الكريم تارةً بدون اسم إشارة (آل عمران، الآية 7) وتارةً مع اسم إشارةٍ للقريب (الأنعام، الآيتان 92 و 55)وأخرى مع اسم إشارة للبعيد (يوسف، الآية 1 / البقرة، الآية2)؛ وصفه بعض المفسّرين بأنّه اختلاف يراد منه بيان مراحل مترابطة لحقيقة قرآنية واسعة النطاق. (عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 134). القرآن الكريم يشار إليه أحيانًا باسم الإشارة (هذا) لبيان القرب الظاهري، وأحياناً ب_(ذلك) بهدف بيان رفعته وسمو منزلته المعنوية؛ وفي أحيان أخرى لا يشار إليه باسم إشارة، بل يذكر بصيغة التنكير لأجل تعظيمه.(راجع سورة الأعراف، الآية 2) (عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 27، ص 541).

درّة الحدّاد واعتبروه دالا على التوراة والإنجيل؛ لأنّه اسم إشارة للبعيد(1).

ولم يلقَ الرأي الأخير ترحيباً ملحوظًا من قبل المفسّرين، وأما الذين تبنّوه فربّما استندوا إلى عددٍ من الروايات المنقولة عن بعض الرواة الذين كانوا ذوي عهد جديد بالإسلام من: أمثال أبي هريرة، أو المنقولة عن بعض التابعين مثل مجاهد حيث قالوا إن التوراة والإنجيل هما المشار إليه في هذه الآية(2)، بينما اعتبره قتادة جميع الكتب السماوية السابقة(3)، لكنّ الكثير من المفسّرين رفضوا هذا الرأي؛ لكونه ضعيفًا، ولا يرتضيه الفكر القويم، وبعيدًا عن الحقيقة(4)، كما أنّ السور التي تتضمّن أسماء الإشارة للبعيد لا يمكن تفسيرها بهذا الشكل لكون التوراة والإنجيل ليسا هما المشار إليه فيها.

ويبدو أنّ يوسف درّة الحدّاد أوّل "ذلك" بالإشارة إلى التوراة والإنجيل؛ متأثرًا بمرتكزاته العقدية وتوجهاته الفكرية المسيحيّة القائمة على الاعتقاد بأنّ القرآن الكريم مجرد كتاب فيه ترجمة عربيّةً لمضامين الكتاب المقدس وتفصيل له.

واستند بعض المفسّرين إلى مداليل سائر الآيات التي أكدت على المنشأ السماوي للقرآن الكريم، واعتبرته مكنونا في اللوح المحفوظ، ليفسّروا اسم الإشارة "ذلك" في الآية المذكورة وفقًا لمدلوله الظاهر والحقيقي؛ وفحواه الإشارة إلى البعيد، والمقصود من المشار إليه البعيد -هنا- اللوح المحفوظ، ومنهم الفخر الرازي، حيث قال: «فكأنّه - تعالى - قال: أقسم بهذه الحروف أنّ هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ»(5). ولا شكّ في أنّ هذا الرأي أكثر صوابية؛ لانسجامه مع القواعد اللغوية ومضامين سائر الآيات، فالكتاب هو المشار إليه بذلك، والمراد من هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ .

ص: 235


1- للاطلاع أكثر، راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م، ج 6، ص 505؛ عبد الحق بن غالب بن عطيه الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1422ه_ ،ج3 ،ص 349.
2- للاطلاع أكثر، راجع: م. ن.
3- للاطلاع أكثر، راجع: م. ن.
4- للاطلاع أكثر، راجع: إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1419ه_، ج 1، ص 73؛ عبد القادر ملا حويش، بيان المعاني، سوريا، دمشق، منشورات مطبعة الترقي، الطبعة الأولى، 1382ه_، 3، ص 272.
5- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 259.

إذًا، لا صوابية للرأي القائل إنّ القرآن هو المشار إليه في قوله - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَبُ ﴾؛ لأنّ اسم الإشارة في هذه الآية يُراد منه البعيد، في حين أنّ القرآن بوصفه في طور النزول آنذاك فهو ليس ببعيد طبعًا، بل هو قريب وحاضر بين المخاطبين؛ أضف إلى ذلك أنّ هذه الآية لم تسبق بكلام فيه ما يقتضي الإشارة إليه بكلمة "ذلك". والمفسّرون الذين تبنّوا هذا الرأي ذكروا أدلّة عدّة لإثبات صوابيته(1)، لكنّها ليست مقنعةً في الحقيقة، ولربما يكون السبب في طرح هذا التفسير الشائع بينهم هو خلطهم بين مضمون القرآن الكريم ومنشئه، لذا حتى وإن اعتبرناه يشير إلى عظمة القرآن، فالإشارة هنا ليست لعظمة مضمونه، بل لعظمة منشئه.

وهذه الآية واقعة في متسهل سورة البقرة، لذا لم يُطرَح قبلها موضوع آخر، وعلى هذا الأساس نقول: أشار الله -عزّ وجلّ- إلى كتاب هو هدى للمتقين، ولا يكتنفه أي شك وتردّد، قبل أن يذكر المحتوى الأساس للسورة،؛ وذلك بغية استقطاب نظر المخاطب، وربّما هذا هو السبب في ذكر إيمانهم بالغيب في الآية اللاحقة: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...﴾(2)، وهؤلاء المتقون هم جميع المؤمنين سواء أكانوا من الأمم السابقة، أم كانوا من الأمة الإسلامية ، وقوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالْآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ ﴾(3)فيه إشارة إلى تكافؤ البشر ووحدة أديانهم وأنبيائهم وإلههم(4)

ص: 236


1- للأطلاع أكثر ، راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 259.
2- سورة البقرة، الآيتان 2 - 3.
3- سورة البقرة، الآية 4
4- سيد قطب، في ظلال القرآن، لبنان، بیروت، مصر، القاهرة، منشورات دار الشروق، الطبعة السابعة عشرة، 1412ه_، ج 1، ص 41. نذكر في ما يلي ما قيل في خصوص اسم الإشارة (تلك) بشكل مقتضب على غرار ما ذكر بالنسبة إلى اسم الإشارة (ذلك): - اسم إشارة يشير إلى مضمون الآية السابقة. (أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء، معاني القرآن، ج 1،ص 10؛محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 1،ص 32؛عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج 3، ص 349). - اسم إشارة يشير إلى الآيات والسور السابقة، وهذه هي دلالته في جميع الآيات الأولى التي ذكر فيها باستثناء السور التي تبدأ بحروف مقطعة. (محمد بن عمر الفخر الرازي ، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 259؛ محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج 6، ص 362؛محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11 ص 8) . وهذا التفسير فيه تكلّف نوعا ما، كذلك لا يشمل الآيات والسور التي نزلت بعد اسم الإشارة الذي دار الحديث حوله. - اشم إشارة يشير إلى الآيات التي وعدت التوراة بنزولها. (محمد صادقي طهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، ج 1، ص 162؛ میر سید علي حائري طهراني، مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر، ج 1،ص 38؛محمد بن الحسن الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، ج 6، ص 92) وهذا الكلام ليس صائباً، لأنّ القرآن لم ينزل بهدف توجيه الخطاب إلى أصحاب التوراة؛ لكي يقال إنّه يحكي عن الآيات التي وعد هذا الكتاب بها، فضلًا عن الشك بوجود مضمون كهذا فيه. - المشار إليه المتعلّق باسم الإشارة (تلك) هو مضمون الآيات اللاحقة. (محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2، ص 440 و 569؛محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 19 ، ص 116؛عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 3،ص 206؛طنطاوي بن جوهري المصري، الجواهر في تفسير القرآن، ج 7، ص 315). وهذا الاستدلال يتعارض مع المعنى الحقيقي والظاهر لاسم الإشارة (تلك). - اسم إشارة يشير إلى اللوح المحفوظ والعلم الإلهي الذي هو المصدر الأساس للقرآن الكريم. (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2،ص 259؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن،ج11،ص 74 - 75؛أحمد بن محمد الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، ج 5، ص 493).

ويلاحظ أننا حينما نتتبع السّياق القرآني، نجد استخدام اسمي الإشارة المخصصين للقريب -هذا وهذه- للإشارة إلى القرآن الموجود بين أيدي المسلمين على هيئة ألفاظ وآيات وسور؛ ومثال ذلك الآية 19 من سورة المزمل، حيث قال - تعالى -: ﴿إِنَّ هَذِهِ، تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ ، فاسم الإشارة (هذه) - هنا - يشير إلى جميع التحذيرات المذكورة في الآيات السابقة. كذلك نلاحظ في الآيتين 24 و 25 من سورة المدثر استخدام اسم الإشارة (هذا) على لسان أحد المشركين؛ إشارةً للقرآن الكريم، بعد أن زعم أنّه سحرٌ ومن كلام البشر: ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرُ يُؤْتَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلَّا قَولُ الْبَشَرِ﴾.

وقد بادر المشركون، على ضوء إنكارهم القرآن الكريم وعدم إقرارهم بكونه كتابًا سماويا منزلاً بالوحي، إلى التشكيك بمصداقيته؛ كما هو مذكور في الآيات الثلاثة التي أشرنا إليها، حيث زعموا أنّه سحر موروث من الأسلاف، وكلام من صياغة إنسان، وعلى هذا الأساس جردوه من واقعه السماوي؛ لكنْ جاءهم الإنذار في الآية 56 من سورة النجم في قوله -تعالى-: ﴿هذا نَذِيرُ مِنَ النُّذُرِ الأُولى﴾، وفي الآية 59 تمّ توبيخهم في رحاب استفهام إنكاري: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾. إذَا، وبخهم الله - تعالى - بهذا الاستفهام الإنكاري؛ مستفسرًا منهم عن السبب في تعجبهم من هذا القرآن المنزل من قبله على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو ليس شيئًا جديدًا من نوعه، ولا ينبغي لهم أن يعجبوا منه؛ وفي الآية 81 من سورة الواقعة تكرّر هذا المضمون ذاته وأشير إلى القرآن الكريم ب_(هذا) أيضًا، حيث قال - تبارك شأنه -: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُدْهِنُونَ﴾، فهذه الآية تؤنّب المشركين والكافرين على مداهنتهم بالقرآن الذي هو حقٌّ ولسان صدق، لذا لا بد من الإقرار بآياته.

وكذلك أشير إلى القرآن الكريم باسم الإشارة (هذه) في الآية 29 من سورة الإنسان في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةُ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبيلاً﴾، والإشارة فيها على غرار ما ذكر في الآية 19 من سورة المزمّل، حيث يراد منها الإشارة إلى ما ذكر في الآيات السابقة، فقد ذكرت الأسلوب الأمثل الذي يضمن سعادة الإنسان وينجيه من عذاب الآخرة.

ص: 237

ب- الآية الثانية من سورة الشعراء:

قال - تعالى -: ﴿طسم(1)تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ(2)﴾(1).

رقم هذه السورة هو الثامن والأربعون؛ وفقًا لما أفادته روايات ترتيب النزول(2)، والآية الثانية منها نزلت بهدف الردّ على المشركين الذين أنكروا نزول القرآن الكريم بوحي من السماء، واتّهموا النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه شاعر ومجنون، إذ أراد الله -عزّ وجلّ- فيها مواساته وطمأنته إزاء هذه التهم الواهية والآية الأولى تشهد على ذلك. بعد ذلك تطرّقت السورة إلى بيان عاقبة الأمم السالفة التي لم تطع أنبياءها، وكيف إنّ الله - سبحانه وتعالى- انتقم منها، وهذه الأحداث يمكن اعتبارها شاهدًا آخرَ على التفسير الذي ذكرناه لاسم الإشارة (تلك) المذكور في الآية الثانية، ولربما هذا السبب هو الذي دعا بعض المفسرين إلى عدم التكلّف في تفسيرها وبيان مدلولها، وفقًا لظاهر ألفاظها، لذلك اعتبروا اسم الإشارة للبعيد (تلك) بأنه يشير إلى (الكتاب) الذي هو اللوح المحفوظ(3).

و ذكر غالبيّة المفسّرين تفاسير للآيات الأولى من سورة الشعراء تختلف بالكامل عمّا ذكره يوسف درّة الحداد في هذا الصدد، وهي بشكل عام تناظر تفسير الآيات الأولى من سورتي الحجر والنمل، و أكّدوا في هذا السياق على أنّ اسم الإشارة (تلك) يشير إلى القرآن الموجود بين أيدي المسلمين؛ بينما الحدّاد حاول متكلّفاً تغيير المعنى اللفظي ل_(تلك)، لذا لا صوابية لرأيه ؛ ويرد عليه الإشكال نفسه الذي أوردنا على تفسيره اسم الإشارة (ذلك) في الآية الثانية من سورة البقرة.

واعتبر بعض المفسّرين (تلك) الواردة في الآية المذكورة؛ إشارةً إلى علو شأن القرآن الكريم ورفعته(4)، أو إشارةً إلى المعهود في الذهن؛ أي أنّه ليس بحاضر، لكنّه متوقع؛ كما قال الطبرسي:

ص: 238


1- سورة الشعراء، الآيتان 1 - 2
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق مرعشلي وآخرون ،لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، منشورات دار المعرفة 1410ه_،ج1،ص280.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1415ه_، ج 10، 59؛ حسين بن أحمد حسيني شاه عبد العظيمي، تفسير اثنا عشري، إيران، طهران، منشورات میقات، 1984م، ج 9، ص 392.
4- راجع: محمّد أبو زهرة، زهرة التفاسير ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الفكر ، الطبعة الأولى، ج 10، ص 5335.

«وقوله ﴿تِلْكَ ايَنتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ﴾؛ إنما أشار ب_(تلك) إلى ما ليس بحاضر؛ لأنه متوقع، فهو كالحاضر؛ بحضور المعنى للنفس وتقديره تلك الآيات آيات الكتاب»(1). فهو بعيد إلا أنّه بحكم الحاضر كما قال علي بن الحسين العاملي في تفسيره: «(تلك) إشارة إلى حاضر، وذلك موجود في الكلام، كما أنّ هذه قد تكون الإشارة بها إلى غائبِ معهودٍ كأَنه حاضر»(2).

وأما كلمة (مبين) فهي مشتقة من الفعل المتعدّي (أبانَ)؛ كما ذكر المفسّرون؛ وهو يعني وضّح وأرشد؛ وعلى هذا الأساس يفسّر الكتاب في هذه الآية بمعنى اللوح المحفوظ(3)؛ لكنّ بعض المفسّرين نأوا بأنفسهم عن المعنى الصريح للآية، وتكلّفوا إلى أقصى حد ليفسّروا اسم الإشارة (تلك) بأنّه يشير إلى البعيد، ففسّروا الآية بالتالي: تلك آيات الكتاب المبين التي وعدناك

بها، فقد جاء الوعد بنزول القرآن في التوراة والإنجيل(4). وهذا التفسير هو الآخر ترد عليه مؤاخذة؛ لأنّ القرآن الكريم لم ينزل مخاطبًا أصحاب التوراة؛ لكي يقال إنّه ناظر إلى الآيات التي وُعِدَ الناس بها، بالإضافة إلى عدم توفّر دليل قطعي يدلّ على وجود مضمون كهذا فيها، لأنّ أصحاب هذا الرأي لم يذكروا أيّ عبارة توراتيّةٍ أو إنجيليّة؛ لإثبات صوابية تفسيرهم.

ج - الآية الثانية من سورة القصص:

قال - تعالى -: ﴿طسم(1)تِلْكَ وَايَتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)﴾(5)

تطرّق يوسف درّة الحدّاد، وكما هو معهود عنه، إلى تفسير هاتين الآيتين من منطلق رؤيته

الانحيازية المنبثقة من معتقداته المسيحيّة، فهو -كما ذكرنا آنفًا - ادّعى أن القرآن الكريم لا يُعدّ كتابًا سماويًا جديدًا ومستقلا، وليس فيه أي موضوع خارج نطاق التوراة والإنجيل، بل هو ترجمة لهما، وكلّ ما فيه مقتبس منهما؛ لذا فسّر كلمة (الكتاب) في هذه الآية بالكتاب

المقدّس - التوراة والإنجيل - واعتبر آياته بأنّها ذات آياتهما.

وقبل أن نتطرّق إلى شرح رأيه هذا وتحليله، ننوه بأنّ سورة القصص؛ وفقاً لروايات ترتيب

ص: 239


1- محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، ج 8، ص 4.
2- علي بن الحسين العاملي، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، إيران، قم، منشورات دار القرآن الكريم، 1413ه_، ص 484.
3- للاطلاع أكثر، راجع: سورة إبراهيم، الآية 4؛سورة القصص، الآية 56؛ وآيات أخرى.
4- راجع: محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الأولى، 1985م، ج 13، ص 89.
5- سورة القصص، الآيتان 1 - 2.

النزول، نزلت مباشرةً بعد سورة النمل، كما أنّ مستهلها هو مستهل سورة الشعراء نفسه؛ ولو ألقينا نظرةً شاملةً على آياتها سنلاحظ أنّها تتضمّن الكثير من التلميحات المباشرة وغير المباشرة التي تؤكّد على قدسيّة القرآن الكريم ومنشئه السماوي، والآيتان الثانية والثالثة هما أوّل هذه التلميحات، إذ تؤكّدان على هذه الحقيقة ؛ والآية الثالثة هي: ﴿ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فعبارة ( نَتْلُواْ عَلَيْكَ ) تشير إلى أنّ كلّ ما يُتلى على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو وحي منزل من قبل الله -سبحانه وتعالى-، لذا فهو حقٌّ، وليس من تلقين الشيطان، ولا من أساطير الأوّلين؛ وكما هو واضح في الآية، فبعد هذه العبارة بدأ الحديث عن قصّة النبي موسى(علیه السّلام)، وفرعون، ثمّ ذكرت الآيات 43 إلى 46 إنزال الكتاب عليه.

وأشارت الآيات 43 و 44 و 45 إلى الإخبار الغيبي الذي لا يمكن لأيّ إنسان الاطلاع عليه؛ إلا برحمة من الله -تعالى-، ففيه آياتٌ وأخبار لم يتلقها أحدٌ من البشر سوى النبي محمد الذي أتهم بالسحر والكهانة؛ وهذه الأخبار هي تفاصيل من قصّة موسى وشعيب(علیهما السّلام)وهي في الواقع غيبية، لم يكن لأي أحدٍ علم بتفاصيلها، لذا فهي ليست مستوحاةً من التوراة والإنجيل؛ كما يُدعى.

وتطرّقت الآيات 49 إلى 55 إلى الحديث عن عناد المشركين وكيف إنّهم طلبوا من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يأتيهم بمعجزة، فهؤلاء لم يؤمنوا به؛ على الرغم من تأكيد التوراة على بعثته، وكذلك لم يكترثوا بالقرآن الكريم وآياته ومن هذا المنطلق جاء الخطاب القرآني للنبي في الآية 49 ليخبرهم قائلًا: ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابِ مِنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾. وهذه الآية تشير بصريح العبارة إلى منشأ الكتاب الذي جاء به النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذا التصريح ينمّ بوضوح عن أنّ القرآن الكريم والتوراة عبارة عن كتابين مستقلين منشأهما العلم الإلهي، لا أنّ القرآن هو التوراة ذاتها.

وتؤكّد الآية 51 على نزول آياته واحدةً تلو الأخرى؛ لعلّ القوم يتعظون بها ويتذكرون:﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا هُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾. ونستشف من مضمون هذه الآية أن (القول) أي النص القرآني هو مباشرةً من عند الله -تبارك وتعالى- وليس تعريبًا للتوراة كما زعم الحدّاد، فهي تؤكّد على إنزال الآيات مفصلةً واحدةً تلو الأخرى؛ لبيان قضايا شتّى؛ مثل: الوعد ،والوعيد ،والمعارف ،والأحكام، والقصص، وأخبار الأنبياء والأمم السالفة، والمواعظ، والعبر،

ص: 240

ومبادئ الحكمة، والهدف من وراء ذلك - طبعًا - هو تذكيرهم؛ لعلهم يتفكرون ويؤمنون بأنّ هذه الآيات حق، فيتّبعونها.

وتشير الآية اللاحقة - الآية 52 - إلى إيمان الذين أوتوا الكتاب السماوي السابق بالقرآن الكريم : ﴿ الَّذِينَ ءَانَيْنَهُمُ الْكِتَبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ ، لذا يمكن القول إنّ هذه الآية تؤكّد على المنشأ المشترك للكتاب، ولما يتلوه النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛والآية اللاحقة لها - الآية 53 - تكرّر التأكيد فيها على أنّ آياته حقٌّ: ﴿وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمينَ﴾؛ وفحوى هذا الكلام: أنّ أسلافهم اطلعوا في كتابهم المقدس على حقانية هذا الكتاب - القرآن الكريم - وكذلك اطلع عليه أعقابهم الذين عاصروا نزول الوحي على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وآمنوا به، وهو ما احتمله الزمخشري حين قال: «يحتمل أن يكون إيمانًا قريب العهد وبعيده، فأخبروا أنّ إيمانهم به متقادم؛ لأنّ آباءهم القدماء قرأوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم (مِن قَبْلِهِ) من قبل وجوده ونزوله (مُسْلِمِينَ) كائنين على دين الإسلام؛ لأنّ الإسلام صفة كلّ موحّدٍ مصدِّقِ للوحي(1).

ويوحي سياق الآيات 43 إلى 56 بأنّ المشركين استشاروا بعض أهل الكتاب حول النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وذكروا لهم عددًا من الآيات القرآنية التي صدّقت التوراة، وأهل الكتاب بدورهم أقروا لهم بأنّهم يؤمنون بالمعارف الحقة الموجودة في هذه الآيات، وأخبروهم بأنهم كانوا على علم بمن سيأتي بالقرآن قبل أن يُبعث(2).

وتحكي الآية 43: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَابِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾؛ كما هو ظاهر في نصها، عن إنزال التوراة على النبي موسى(علیه السّلام)والتي فيها بصائر وهدى ورحمة للناس؛ لعلهم يتذكرون ويتعظون منها؛ بما جرى على الأمم السالفة التي أهلكها الله -عزّ وجلّ- جرّاء عصيانها وتمرّدها على أوامره. ولا شكّ في أنّ الله الذي أنزل التوراة على موسى(علیه السّلام)، وهو الذي أنزل القرآن على محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث أخبره فيه بما جرى من أحداث في ذلك العهد، فهو لم يكن موجودًا - آنذاك - ولم يكن حاضرًا عند نزول التوراة عليه، ولا عند ذهابه إلى الطور؛ لكي يخبر الناس بما شاهده وسمعه هناك؛

ص: 241


1- محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_، ج 3، ص 420 - 421.
2- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 47 - 48.

كذلك لم يكن حاضرًا حينما التقى موسى بشعيب، لكن الله -تبارك وتعالى- أطلعه على هذه الأمور الغيبية؛ بلطف وكرامة منه؛ لأجل أن يُنذِر القوم ويذكرهم بالحق؛ فيتّبعوه.

وكما هو معلوم، فالناس في عصر النبي محمّد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن لديهم نذير قبله، وكانوا عرضةً للعذاب الإلهي؛ جرّاء كفرهم، ولو لم ينزل إليهم (الكتاب) لكانت لهم الحجة على الله -سبحانه وتعالى- بأن يبرّروا كفرهم؛ بعدم وجود رسول يرشدهم إلى الحقّ، وهذا ما أشارت إليه الآية 47: ﴿وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ عَايَكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ . لكن الآية 48 وضّحت حقيقة أمرهم لما بعث الله إليهم النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وأبلغهم آي الذكر الحكيم: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ﴾، حيث سألوا لِمَ لَمْ يَأْتهم بمثل ما جاء به النبي موسى(علیه السّلام)؟ أي إنّهم أرادوا منه معجزاتِ موسى وتوراته نفسها، لذلك قالوا: لِمَ لَمْ يأتنا بمعجزاته نفسها؟ ولِمَ لمْ ينزل القرآن دفعةً واحدةً كما أنزلت التوراة؟ إلا أنّ هذا مجرّد ادعاء لا يُراد منه استكشاف الحقيقة، فهؤلاء هم أنفسهم كفروا بمعجزات موسى؛ حينما أكّد لهم أهل الكتاب على حقانية القرآن الكريم، حيث أعرضوا زاعمين أنّ التوراة والقرآن سحر بعضه من بعض: ﴿قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلِّ كَفِرُونَ﴾(1).

وهناك سؤال يطرح على يوسف درّة الحدّاد حول تفسيره كلمة (الكتاب) في الآية الثانية من هذه السورة، وهو: لو كانت الآيات القرآنية، ولا سيّما آيات سورة القصص التي أشرنا إليها، هي آيات التوراة ذاتها، لِمَ لَمْ يؤمن بها إلا النزر اليسير من اليهود؟ فضلا عن أنّ الآيات 61 إلى 64 من هذه السورة تطرّقت إلى المقارنة بين أحوال المؤمنين والمشركين في يوم القيامة، في حين لا يوجد أي كلام في التوراة حول المعاد؛ باعتباره بعثًا وحسابًا في عالم الآخرة؛ باستثناء عددٍ من العبارات التي تضمّنت كلمة (آخرة)، لكنّ هذا الاصطلاح التوراتي يدلّ في الحقيقة على عاقبة الإنسان في الدنيا، لا في عالم الآخرة؛ كما يشير المصطلح القرآني؛ وهو ما يدلّ بوضوح على أنّ هذه الآيات ليست مستوحاةً من التوراة، ولا ارتباط لها بما ذكر في الكتاب المقدس؛ كما زعم الحداد، وأمثاله.

ووجّهت الآيات 85 إلى 88 التي جاءت بعد ذكر جانب من سيرة النبي موسى(علیه السّلام)

ص: 242


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 52.

ومقارعته فرعونَ وملأه الخطاب مرّةً أخرى إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)فبشرته وأخبرته بعدد من الأوامر الإلهيّة مؤكّدةً على أنّ الله الذي أعاد موسى إلى أمه حين كان طفلًا، له القدرة على أن يعيدك إلى مكة: ﴿إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الآية 85)، وفي الآية اللاحقة (86) تمّ تذكيره بنعمة إنزال هذا الكتاب عليه بلفظ (إلقاء)؛ لتشير بشكل تلميحي إلى منشئه السماوي، وتردّ على اتهام الكافرين والمشركين المشار إليه في الآية السابقة: ﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَفِرِينَ﴾. واللافت للنظر في هذه الآية أن مستهلها يتناغم مع الآيتين السابقة واللاحقة لها، فعبارة: ﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ هي على غرار قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ﴾ في الآية 85 ، وقوله - تعالى -: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ﴾ في الآية 87؛ حيث تشير إلى المنشأ السماوي للآيات التي جاء بها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم). كما هو ظاهر من مضمون الآية 87 فهي تأمره بأنْ لا يُعرض عمّا أنزل إليه، وهي متمّمةً لما ذكر في الآية السابقة: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَفِرِينَ﴾ ، وسابقة لقوله - تعالى -: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ، إِذ زعم الكافرون أنّ القرآن شعر، أو كهانة، أو من أساطير الأوّلين.

فإذا كانت هذه الآيات هي آياتُ التوراة والإنجيل ذاتُها، فلا بدّ حينئذ للقرآن الكريم من أن يصرّح منذ بادئ الأمر بأنّ الكتب المقدّسة السابقة تكفي الناس، وأنّه جاء - فقط - لتوضيح تلك القضايا التي لم تتطرّق إليها؛ كما فعل الكثير من الأنبياء، إلا أنّ الواقع على خلاف هذا المدعى، فقد أكد الله -تعالى- فيه على أنّه (كتاب) سماوي جديد في طور النزول بوحی منه. ولا شكّك فى بوحي أنّ الكتب السماوية السابقة لم تكن آنذاك مؤهّلةً لتلبية متطلبات الناس، فقد كانوا بحاجة إلى كتابٍ جديدٍ يلبي رغباتهم، لذلك أنزل القرآن الكريم الذي أحيا عقيدتي التوحيد والمعاد في يوم القيامة، بعد أن أصبحا في منأى عن حقيقتيهما في الكتب المقدّسة الأخرى، وغفل الناس عنهما؛ حيث جاء بهدف طرح إيديولوجيا دينيّةٍ صائبة وشاملةٍ في هذا المضمار، وهو ما أشارت إليه الآية 48 من سورة آل عمران التي أكدت على طابعه الشمولي الذي يفوق الكتاب السماوية السابقة.

إذَا، تنامي الفكر البشري والتحوّلات التي شهدتها المجتمعات، إلى جانب تغيير ظروف المخاطبين وأوضاعهم؛ كلّها أمور اقتضت مجيء وحي جديد أكثر تطوّرًا مما مضى.

ص: 243

د الآية الأولى من سورة يونس:

قال - تعالى -: ﴿الرَّ تِلْكَ وَايَتُ الْكِتَبِ الْحَكِيمِ﴾(1).

الآية الأولى من سورة يونس هي الأخرى من جملة الآيات التي تمسك بها يوسف درّة الحدّاد لإثبات نظريته التفسيرية التي طرحها بخصوص مصطلح (الكتاب)، حيث اعتبره في هذه الآية دالا على التوراة والإنجيل؛ لكنّ ادّعاءه هذا عار عن الصحة؛ لعدم اتساقه معاستدلالات مفسّري القرآن الكريم؛ على الرغم من تنوّع مذاهبهم ومشاربهم الفكرية.

وتأتي هذه السورة؛ طبقًا لروايات ترتيب النزول، بعد سورة الإسراء المسبوقة بسورة القصص، وكما هو معلوم فإنّ هذه الأخيرة قد تحدّثت عن إسراء النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ليلا وتلاه عروجه إلى السماء؛ وهذا الأمر يمكن أن يُعتبر بحدّ ذاته دالا إلى حدٍّ ما على مضمون اسم الإشارة (تلك) المذكور في الآية الأولى من سورة يونس وسائر السور التي تبدأ به، حيث يراد منه الإشارة إلى اللوح المحفوظ والكتاب المكنون والعلم الإلهي(2).

ص: 244


1- سورة يونس، الآية 1.
2- الآية الأولى من سورة الإسراء التي ذكر فيها إسراء النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ليلاً، فيها عبارة ﴿لِرُيَهُ مِنْ آيَاتِنا﴾ التي تعني أن الله عزّ وجلّ أراه بعض آياته، كذلك الآية 18 من سورة النجم تؤكّد على المضمون ذاته: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾. كما أن المعراج كان على مرحلتين طبقًا للآية 13 من سورة النجم : ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾. المرحلة الأولى كانت نحو بيت المقدس،وهو ما أشير إليه في الآية الأولى من سورة الإسراء والمرحلة الثانية أشير إليها في الآيتين 8 و 9 من سورة النجم: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾، أي إنّه عُرج بروحه فقط أو بروحه وجسمه إلى ما وراء عالم المادة، حيث تقيم الملائكة، فرأى من آيات الله الكبرى. وتؤكّد الآية 47 من سورة الإسراء على أن المشركين ضمن مساعيهم الرامية إلى تشجيع الناس على عدم اتباع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)والكفر برسالته، زعموا أنه رجل مسحورٌ: ﴿... إذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾، لكن الله - عز وجل - طمأنه وواساه في الآية اللاحقة؛ حينما خاطبه قائلًا: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾، والمقصود من الأمثال - هنا - التهم التي وُجهت له من قبل هؤلاء. وأما الآية 94 من السورة نفسها فهي تعزو عدم إيمان المشركين برسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى تذرّعهم بكونه بشرًا مثلهم، لذا حال كبرياؤهم دون اتباع رجلٍ منهم: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً﴾، وتؤكّد الآية 95 على ضرورة إنزال الوحي على البشر عن طريق الملائكة. إذَا، نستشف من الآيتين 94 و 95 أن السبب الأساس الذي تذرّع به المشركون لرفض رسالة خاتم الأنبياء، هو اعتقادهم باستحالة نزول وحي السماء على بشر مثلهم، لكنّهم مخطئون في تصوّرهم ،هذا لأنّ اللطف الإلهي الرامي إلى هداية البشر، وكذلك طبيعة حياتهم في الأرض، يقتضيان اختيار ملائكة تحمل وحي السماء إلى من يُصطفى للنبوّة. هذا الأمر ضروري إلى درجة أن سكان الأرض حتى إن كانوا من جنس الملائكة، لأنزل الوحي عليهم عن طريق ملائكة أيضًا. والآية 96 فيها إشارة إلى إصرار الكفار والمشركين على رفض رسالة خاتم الأنبياء وعدم إذعانهم للحق، لذلك خاطبه الله - تعالى - قائلًا: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾. هذه الآية تدل على ضلالهم المحتوم. والآيات 101 إلى 111 فيها مقارنة بين ما واجهه النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ومعجزته القرآنية من إنكار من قِبَل الكفّار والمشركين، مع ما واجهه النبي موسى(صلی الله علیه و آله و سلم)ومعجزاته ورفض فرعون لها واتهامه بالسحر؛ فالآية 101 تشير إلى هذه التهمة والآية 105 تؤكّد على نزول القرآن بالحق، إذ بعد أن رفض الله - تعالى - طلب المشركين في أن يأتيهم خاتم الأنبياء بمعاجز ، نبههم إلى المعجزة القرآنية الكبرى. وفي ختام الآية 106 تأكيد مجدد على إنزال القرآن الكريم من قبل الله سبحانه وتعالى-: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾.

ويُحتمل أنّ كلمة (تلك) في هذه الآية يُراد منها إثبات نزول القرآن الكريم بوحي من السماء، حيث تشير إلى اللوح المحفوظ؛ وعلى هذا الأساس تُفسّر الآية وفق ما يلي: تلك آيات الكتاب المكنون والمخزون عند الله -سبحانه وتعالى-(1).وبناءً على هذا التفسير فقد اعتبرها أحد المفسّرين ردًّا على طلب المشركين المشار إليه في الآية 15 من السورة نفسها: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا أَنْتِ بِقُرْءَانِ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِلْهُ﴾ حيث جاءهم الجواب: ﴿تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ الْحَكِيمِ﴾(2).

أضف إلى ذلك فالمشهور بين العلماء المسلمين هو أنّ هذه السورة تُعتبر من السور الأولى التي نزلت على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في بداية بعثته؛ حينما كان في مكّة، فقد واجه آنذاك تحديات كبيرةً من قِبَل مخاطبيه الذين أنكروا ما أنزل عليه بوحي السماء؛ لذلك تتضمن في مختلف آياتها شواهد للردّ على تكذيب المشركين قدسيّة القرآن الكريم، وإنكارهم نزوله عن طريق الوحي؛ وهذه الشواهد كثيرة للغاية وكأنّ السورة نزلت مباشرةً بعد رفض المشركين واتهامهم القرآن بالسحر.

إذَا، البنية الأساس لآيات سورة يونس هي الردّ على إنكار المشركين حقانية القرآن الكريم، ورفضهم حقيقة نزوله بوحي من السماء.

وقد استهلت السورة بكلام حول تكذيب المشركين ما أنزل على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)من آيات قرآنيّة، واختتمت بخطاب موجه إليه، نُصح فيه بأن يتّبع ما يوحى إليه، ويلتزم جانب الصبر:

﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ﴾(3).

وفي ما يلي نُثبت ما ذُكِرَ؛ استنادًا إلى بعض مداليل آيات هذه السورة:

- تطرّقت الآية الثانية بشكل مباشر إلى الحديث عن الاعتراض المعهود الذي عادةً ما يطرحه المشركون والكافرون؛ وهو تساؤلهم عن السبب في نزول الوحي على بشر مثلهم، لا على أحد الملائكة، لذلك جاءهم الاستفهام الإنكاري من قبل الوحي: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾؛ وفي ختامها أشار الله -تعالى- على لسانهم إلى التهمة المعهودة

ص: 245


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_،ج 17، ص 184.
2- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير ،لبنان ،بیروت، منشورات مؤسسة التأريخ، الطبعة الأولى، ج 11، ص 9.
3- سورة يونس، الآية 109

-أيضًا- التي عادةً ما يوجهها هؤلاء إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿قَالَ الْكَفِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَحِرُ

مبِين﴾.

- أشارت الآية 15 إلى طلب المشركين والكافرين من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن يأتي بقرآن آخرَ غير الذي جاءهم به، ونقلت ردّه عليهم بأنّه لا يأتي بشيءٍ من عنده، بل إنّما يأتيهم بالوحي المنزل: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَتِ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا أَنْتِ بِقُرْءَانِ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِلَهُ مِن تِلْقَايِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى ...﴾.

- أكدت الآية 16 على لسان النبيّ بأنّه حامل الرسالة السماء، وكلُّ شيءٍ بيد الله -سبحانه وتعالى -: ﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَنكُم بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.

- عدّت الآية 17 المفترين على الله كذبًا والمنكرين آياته بأنّهم أكثر الناس ظلما وسوف لا يفلحون في ما يفعلون: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِنَايَتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾.

- تطرّقت الآية 20 مرّةً أخرى إلى الحديث عن استهانة هؤلاء بالقرآن الكريم وتكذيبهم :آياته ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَأَنتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾، حيث طلبوا من النبي أن يأتيهم بمعجزة أخرى، لكنّ الردّ الإلهي جاءهم مؤكدًا على أنّ المعاجز من الغيب، والغيب بيد الله -عزّ وجلّ- فقط. وفق هذه الآية، فقد أصر هؤلاء على تكذيبهم النبي وإنكارهم آيات القرآن الكريم، لذا سألوه بأن يأتيهم بآيةٍ معجزة - كي يثبت صدق رسالته، ومضمونها على غرار ما ذكر في الآية 15؛وكأنها معطوفةً عليها؛ لكونها تنقل كلامهم؛ وهذا المضمون تكرّر مرارًا في آيات أخرى.

وقد تشبّث المشركون بذرائع عدّة لإنكار القرآن الكريم، لكنّهم لم يفلحوا، لذلك كانت ذريعتهم الجديدة هي أن يأتيهم النبي أن يأتيهم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بقرآن آخرَ غير الذي جاء به؛ ولو أمعنا النظر في البنية اللغوية للآية 20 نستشف منها أنّهم أرادوا من طلبهم هذا الاستهانة بالقرآن، لا معرفة الحقيقة؛ وذلك بقرينة حرف الفاء المرتبط بالفعل (قل) في قوله -تعالى-: ﴿فَقُلْ

ص: 246

إِنَّمَا الْغَيْبُ...﴾(1)، ونظير ذلك ما ذكر في الآية 15، إذ عاندوا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وطلبوا منه وطلبوا منه أن يأتيهم بكتاب سماوي آخرَ أو أنْ يُبدل ما جاءهم به بكتاب غيره.

كما أنّ كلمة (الغيب) في الآية 20 تفيد أنّ المعاجز تأتي من عالم الغيب.

- الآية 37 كأنّها تكرّر الموضوع ذاته الذي طُرِحَ في الآية الأولى، حيث فندت زعم من اعتبر القرآن ذا منشأ بشري؛ مؤكّدةً على منشئه السماوي: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين﴾، فهذا الكتاب لا يمكن أن يُفترى من قِبَل البشر؛ كي يزعم أنّه من عند غير الله؛ وعلى هذا الأساس تحداهم تبارك- شأنه في الآية التالية (الآية (38) بأن يجمعوا كلّ من يشاؤون ويأتوا بسورة واحدة تشابه سوره: ﴿يَقُولُونَ افْتَرَكَهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَدِقِينَ﴾، وهذا تأكيدٌ آخرُ على كونه كتابًا سماويًا.

الآيتان 39 و 41 كرّرتا التأكيد على المنشأ السماوي للقرآن الكريم(2)، وفي الآية 65 واسى الله -تعالى- نبيه الكريم له الا الله جرّاء حزنه من كلام المشركين السيّئ ونقدهم اللاذع له: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾.

- أكدت الآية 94 من جديدٍ على المنشأ السماوي للآيات المنزلَةَ عليه، وطالبت المخاطب بأن يقطع الشك باليقين ويسأل الذين يتلون الكتب السماوية السابقة: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ﴾. وقد جاء التأكيد المشار إليه بعد هذا الطلب مباشرةً : ﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.

أكدت

- الآيتان الأخيرتان من السورة - 108 و 109 - كأنّهما تكرّران الموضوع ذاته الذي عليه الآيات السابقة؛ وهو التذكير بالمنشأ السماوي للقرآن الكريم : ﴿قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَ كُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ(108)وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ(109)﴾.

فعبارة: ﴿قَدْ جَاءَ كُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ﴾ في الآية 108 تدلّ على مضمونِ الآية الأولى من

ص: 247


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن،ج10،ص34.
2- قال -تعالى-: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بَمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَماً يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة يونس الآية، 39) ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيتُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾(سورة يونس، الآية 41).

السورة ذاته، حيث تؤكّد على المنشأ السماوي للقرآن الكريم الذي جاء لهداية بني آدم والآية 109 أمرت النبي لا الهلال بأن يعمل بما يمليه عليه الوحي ويلتزم جانب الصبر إزاء ما يواجهه من المشركين من كلام سيئ، واتّهامات واهية، وأذًى، وأفعال باطلة.

كما أنّ كلمة (آيات) في الآية الأولى؛ حتّى وإن كانت من الناحية اللغوية تعني العلامات الظاهرة بحيث يمكن إطلاقها على ما هو كائن في عالم الخارج، لكنّ المقصود منها هنا حقيقةً هو كلام الله، لأنّ الوحي المنزل على النبي محمد الله هو الموضوع المحوري في هذه الآية، ومن البديهي أنّ الوحي كيفما فسّرناه؛ فهو بالتالي من سنخ الكلام الذي يُقرأ ويُتلى على الألسن(1)؛لذا يمكن تفسير (الكتاب) - هنا - بالكتاب المكنون عند الله -تبارك شأنه وبكل كتابٍ يُنسخ طبقًا له، وهذا ما أشير إليه في العديد من الآيات؛ ومن جملتها (الواقعة - 77 و78 ، البروج - ،22 الزخرف - 4،الرعد - 39)(2).

إذًا، هذه الملاحظات تُعدّ تحدّيًا جادًا لما ذهب إليه يوسف درّة الحدّاد لدى تفسيره كلمة (الكتاب) في الآية الأولى من سورة يونس.

ه_- الآية الثانية من سورة لقمان:

قال - تعالى -: ﴿المَ(1)تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَبِ الْحَكِيمِ(2)﴾(3)

تفصل سورة لقمان سورتان عن الحجر ؛ وهما الأنعام والصافات (الخامسة والخمسون والسادسة والخمسون؛ بحسب روایات ترتيب النزول).

وهذه السُّوَر التي تتوسط القرآن الكريم بحسب ترتيب النزول، تؤكّد على استحالة نفوذ الشياطين في الوحي المقدّس أو اطلاعهم على أخبار السماء، وإنّما الملائكة هي التي أكرمها الله -تعالى- بهذه القدرة، وهي المكلّفة بإخبار النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بها(4). مثال ذلك: الآية 92 من

ص: 248


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 8؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية) ج 10، ص 7.
2- راجع: م. ن.
3- سورة لقمان، الآيتان 1 - 2.
4- تشير الآيات 4 إلى 11 من سورة الأنعام إلى عناد الكفّار والمشركين وتكذيبهم الحق وإصرارهم على إنكاره والاستهزاء بآيات الله، وهذا ما تؤكد عليه الآيتان 4 و 5 بالتحديد ونستشف من الآية 7 أنهم مصرون على عنادهم واستكبارهم وإنكارهم الحق إلى أقصى درجة، لذا حتى إذا أنزل الله -تعالى- كتابًا مدوّنًا يتصفحونه بأيديهم، سوف يزعمون أنّه سحرٌ ؛ والذريعة التي يتشدقون بها هي أن آيات القرآن من تأليف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وليست منزلةً من الله -سبحانه- بواسطة الروح الأمين، جاء التوضيح في الآية 8 وقال -تعالى- إنّه حتى وإن أنزلنا عليهم ملكًا، فهم قطعًا سوف لن يؤمنوا ولن تسمح لهم روحهم الاستكبارية بالإذعان إلى الحق والتصديق برسالة خاتم الأنبياء، وهذا السلوك الاستكباري معهود لدى منكري رسالات السماء في شتى العصور، حيث أشارت إليه الآية 10 التي تتضمن مواساة له صلوات الله عليه وتذكير بعاقبة الذين استهزأوا بالرسل الذين سبقوه. مضمون الآية 19 هو أن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مأمور بإخبار الناس بأن وحي السماء هو المصدر الأساس الذي يعتمد عليه في توحيد الله -عزّ وجلّ- ودعوة الناس إلى عدم الشرك به وكلمة ( قُل) في بداية الآية تعد بحدّ ذاتها شاهدًا آخرَ على نبوّته، ونستشف منها أن الكفار والمشركين شككوا في صدق دعوته، لكنه جعل الله شهيدًا بينه وبينهم واستند إلى القرآن والوحي لإثبات صحة ما يقوله لهم. الآيات 21 إلى 29 تشير إلى انحراف الكفار والمشركين عن التوحيد والنبوّة والمعاد، والآية 21 بالتحديد تصف المكذبين برسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بالظالمين، والآية 25 تذكر تهمتهم المعهودة لكلام الله وزعمهم بأنّه من أساطير الأوّلين إذ قال - تعالى- في هذه الآية: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إلا أساطيرُ الْأَوَّلِين﴾. وعلّل العلامة محمّد حسين الطباطبائي لدى تفسيره هذه الآية، قوله - تعالى -: ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾بأنه أراد أن يعلمهم بالسبب الذي دعاهم لأن ينسبوا إلى القرآن هذه التهمة الباطلة. (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص (51) وقد واسى الله -تعالى- نبيّه في الآيتين 33 و 34 جرّاء استيائه من كلام المشركين وتكذيبهم بالحق. وتؤكّد الآية 50 على اكتساب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ولمه من وحي السماء بحيث لا يفعل إلا ما يُؤمر به: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إلا ما يُوحى إِلَيَّ﴾، والمقصود من هذه العبارة أنّ الله - تعالى - يوحي إليه ما يشاء ويكلّفه بإخبار الناس بتلك الحقائق التي توحى إليه. وتشير الآية 57 إلى عدم إذعان الكفّار والمشركين بما يخبرهم به النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وتأمره بأن يخبرهم بأنه على بينة من أمره. لا شك في أن كل من يُعرض عن دعوة الأنبياء فهو لا يقدر الله حق قدره وفقًا لمضمون الآية 91 التي تم التنويه فيها على تعليم الناس أشياء لم یكن باستطاعتهم العلم بها دون وحي السماء، وهذه الأشياء هي تلك الحقائق التي أوحاها الله سبحانه وتعالى - إلى أنبيائه ورسله. وأشارت تعالمينا القرآنيّة إلى أنّ الافتراء على الله عزّ وجلّ يعتبر من أشد أنواع الظلم، وهذا ما تصرح به الآية 93 التي تؤكّد - أيضًا على قبح من يدعي النبوّة زيفًا وبطلانًا: ﴿... وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾، فهي تستهجن الظلم والافتراء على الله -تعالى- وادّعاء النبوة كذباً ، وقوله - تعالى -: ﴿... وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله﴾ فيه تلميح إلى استهزاء الكفار والمشركين واستكبارهم. وتشير الآية 112 إلى وجود أعداء من الجنّ والإنس يناهضون رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ويتآمرون عليه بالخفية، حيث يخدعون الناس بأباطيل ومزاعم واهية فيسوقونهم نحو سبيل منحرفة. وتؤكد الآية 114 على أنّ الله - تعالى - هو الذي أنزل القرآن على نبيه(صلی الله علیه و آله و سلم)، وتشير إلى علم أهل الكتاب بكونه منزلا بالحق؛ لذا اختتمت بتذكيره صلوات الله عليه كي لا ينتابه أي شك بالحق. وكرّرت الآية 124 الإشارة إلى استهزاء الكفار والمشركين، حيث قال -تعالى- فيها: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْقَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارُ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾.

سورة الأنعام(1)التي اعتبرت نزول الوحي على من اختارهم الله بأنّه من مستلزمات ألوهيته تبارك شأنه، وهو يعمّ التوراة والقرآن؛ لذا نستدل من هذه الآية على كون القرآن منزلا من جانبه -تعالى- وليس من تأليف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ...﴾.من المؤكَّد أنّه لو كان من تأليف النبي أو مجرّدَ إرهاصات باطنية اكتنفته فصاغها على هيئة كلام أو كان من إلقاءات الشيطان عليه، لما استطاع أن يؤثّر على الناس بهذا الشكل.

سورة الصافات التي نزلت قبل لقمان كما أشرنا تبدأ بذكر ثلاثة أصناف من الملائكة،هی الصافات والزاجرات والتاليات(2)، حيث كلّفت بإنزال الوحي وحفظه من إلقاءات الشياطين؛ ومن ثمّ توصله إلى الأنبياء محصنًا من كل تأثير شيطاني.

ص: 249


1- قال -تعالى-: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيَنْ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 92).
2- قال - تعالى -: ﴿وَالصَّافَاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا﴾ (سورة الصافات، الآيات 1 - 3).

فسّر العلامة محمد حسين الطباطبائي الآية الثالثة من هذه السورة ﴿فَالتَّالِياتِ ذِكْراً﴾بأنّها تدلّ على الوحي المنزل على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وذلك بقرينة كلمة (ذكر) التي تعني تلاوة الوحي من قِبَل الملائكة؛ أي تلاوتهم القرآن الكريم. هذا الرأي يؤيّده مضمون الآية 7 التي أكدت على حصانته من إلقاءات الشياطين الذين ذكرت الآيات التالية لها بأنّهم يُقذفون بشهب من كلّ ناحية؛ لأنّ الملك جبرائيل ومَن معه من الملائكة هم المكلّفون بإنزال الوحي على قلب النبي: ﴿وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَنٍ مَارِدٍ(7)لَا يَسْمَعُونَ إِلَى الْمَلَا الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبِ(8)دُحُورًا وَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبُ(9)إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَنْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبُ(10)﴾(1).وصف الشياطين بكونها عاجزةً عن معرفة الأخبار الغيبيّة وعن الاستماع إلى ما يجري في السماء، هو کنایة عن استحالة وصولهم إلى ذلك المكان بقرينة إمطارهم بالشّهب من كل حدب وصوب.

إذن، لا يمكن لأي من الجن والشياطين الاطلاع على الأخبار الغيبية المتداولة بين ملائكة سماء الحياة الدنيا إلا إذا حدث استثناء لما هو متعارف: ﴿ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ﴾، لكنّه مع ذلك لا ينجو، حيث يُحرق بشهاب لا يخطئ هدفه: ﴿فَأَنْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبُ﴾.

ونستشف من هذه الآيات أنّ الشياطين في سعي دؤوب لأنْ يَلِجُوا في عالم الملائكة؛ كي يطلعوا على أسرار الخِلْقَة وما سيحدث مستقبلا، لكنّ الملائكة تمنعهم من ذلك فرميهم بالشهب في هذه الآيات دليل على صيانة الوحي من نفوذهم؛ لذا لا يمكن زعم أنّ ما يُتلى من قِبَل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو من إلقاءات الشياطين(2).

ونعود مرّةً أخرى إلى مستهل سورة لقمان: ﴿الم(1)تِلْكَ عَايَتُ الْكِتَبِ الْحَكِيمِ﴾، حيث نلمس من هاتين الآيتين أنّها أنزلت لدحض مساعي المشركين الذين كانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى الآيات المنزلة على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويسعون إلى حرمانهم من انتهاج مسلك الحق عبر أكاذيب ومزاعم باطلة.

ص: 250


1- سورة الصافات، الآيات 7 - 10.
2- هذا الموضوع أُشير إليه خمس مرّاتٍ في الآيات 17 و 18 من سورة الحجر والآية 5 من سورة الملك كما أن الآيات 12 إلى 15 من سورة الصافات تحكي عن استهزاء الكفّار والمشركين بآيات الله -تعالى- وإلصاقهم تهمة السحر بها؛ والآيات اللاحقة تشير إلى اتهامهم النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه شاعر ومجنون وإنكارهم رسالته، وهو ما أكّدت عليه الآية 36 بالتحديد: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾، والآية 37 بدورها فندت هذا الكلام الباطل بأسلوب بلاغي: ﴿بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِين﴾، فهذا الحق جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو مصدق لرسالات الأنبياء الذين سبقوه، لذا لا صوابية لإلصاق تهمة الشعر والجنون به.

والأوصاف التي ذُكِرَت للكتاب في هذه الآية والآية اللاحقة لها تتعارض بالكامل مع الكلام العبثي الذي لا طائل منه وهذا ما أثبتته الآية 6: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوا أَوْلَيْكَ هَمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، والمراد من (لهو الحديث) هو كلّ كلام من صياغة البشر وعلى خلاف الحق والصواب، والمقصود من (شراء لهو الحديث) هو ذكر كلام يوهم الناس بأنّ القرآن الكريم على غرار الأساطير الشائعة بينهم وبين أسلافهم؛ وهؤلاء يستكبرون في الحقيقة عن الاستماع إلى الآيات المنزلة بوحي السماء؛ بحسب مضمون الآية :7: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ايَتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَانَ فِي أُذُنَيْهِ وَفَرًا﴾ . لذلك أكّدت الآية الثانية من هذه السورة على المنشأ السماوي للقرآن الكريم؛ أي اللوح المحفوظ، ووصفته بالحكيم؛ كي تنزّهه من كلّ باطل وخرافة.

و - الآية الثانية من سورة الأحقاف:

قال -تعالى-: ﴿حم(1)حمَتَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2)مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ(3)﴾(1).

سورة الأحقاف السادسة والستون؛ بحسب ترتيب النزول، وقد استدل بها يوسف درّة الحداد لإثبات نظريته التفسيرية، حيث استهلت بقوله - تعالى - : ﴿حمَ(1)تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2)﴾، وبهذه الألفاظ تمامًا أستهلّت - أيضًا - سورتان من الحواميم؛ هما الزمر والجاثية، فالأولى هي الستّون، والثانية هي الخامسة والستون؛ وفقًا لترتيب النزول.

ومن المحتمل أنّ الإشارة إلى تنزيل الكتاب بعد ذِكْر حروف مقطعةٍ يحكي عن ضرورة وجود قدرة عظيمة لا تُقهر، وحكمةٍ بالغة لا حد لها؛ لأجل إنزال كتاب مقدس؛ مثل القرآن الكريم.

وقد تكرّرت عبارة ﴿تَنزِيلُ الْكِتَبِ﴾ في مستهل خمس سور، وفي كل مرّة رافقتها قرينةٌ ﴿ لفظيّةً تدلّ على المنشأ السماوي للقرآن الكريم، وذلك وفق التالي:

- ﴿حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2)﴾(سورة الزمر، الآية 1 / التاسعة والخمسون بحسب ترتيب النزول).

ص: 251


1- سورة الأحقاف، الآيات 1 - 3.

- ﴿حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)﴾ (سورة غافر، الآيتان 1 - 2).

- ﴿حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2)﴾ (سورة الأحقاف، الآيتان (1 - 2).

- ﴿الم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(2)﴾ (سورة السجدة، الآيتان 1 - 2 / الخامسة والسبعون بحسب ترتيب النزول).

- ﴿حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2)﴾. (سورة الجاثية، الآيتان 1 - 2).

جدير بالذكر أنّ سورة الأحقاف أنزلت إنذارًا للمشركين الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله والمعاد في يوم القيامة، لذلك استُخدمت فيها عبارة ﴿تَنزِيلُ الْكِتَبِ﴾؛ لبيان المنشأ السماوي للقرآن الكريم، وهذه العبارة تدل بوضوح على أنّه أنزل من العالم العلوي؛ ومما ذكره ابن فارس في توضيح كلمة (نزل) في معجمه ما يلي: «(نَزَلَ) النُّونُ وَالزَّاءُ وَاللَّامُ كَلِمَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى هُبُوطِ شَيْءٍ وَوُقُوعِهِ»(1)، لذا فالنزول يدلّ على هبوط الشيء من مكان مرتفع إلى مكانٍ دان(2). وهذا المعنى هو الشائع في العرف أيضًا، إذ تستخدم هذه الكلمة للدلالة على صدور الكلام ممن هو أعلى رتبة.

إذًا، المعنى المقصود من كلمة (تنزيل) في قوله - تعالى -: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَبِ﴾ هو نزول القرآن الكريم من قِبَل الله - تعالى-، ومن ثمّ فهو ليس من إلقاءات الجنّ أو الكهنة على النبي محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛كما أنّه ليس مبتدعًا من عنده ، وكلمة (العزيز) تستبطن تأكيدًا على هذا المعنى، أي أنّ الله بعث نبيًّا بعزّته وقدرته، ولولا اقتداره لما استطاع أن ينزل قرآنًا كهذا. وبعد ذلك ذكرت الآية صفةً أخرى من صفاته تبارك شأنه؛ وهي (الحكيم)، إذ اقتضت حكمته إنزال كتب سماوية لبني آدم لإصلاح دينهم ودنياهم وإرشادهم إلى سبيل الهدى الذي فيه صلاحهم وكمالهم.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى الآية الرابعة من هذه السورة ولا سيّما قوله -تعالى-: ﴿... أثْنُونِي بِكِتَبٍ مِن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَرَةِ مِنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَدِقِين﴾، فحرف الإشارة (هذا) يشير إلى القرآن الكريم والمراد من الطلب فيها: ﴿أثْنُونِي بِكِتَبٍ مِّن قَبْلِ هَذَا﴾هو الإتيان بكتاب سماوي منزلٍ من قِبَل الله - عزّ وجلّ - ؛ مثل التوراة، وإثبات أنّه يتضمّن أخبارًا تفيد بوجود

ص: 252


1- أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1419ه_ كلمة (نزل).
2- راجع: محمّد كاظم شاكر، علوم قرآني (باللغة الفارسية)،إيران، قم، منشورات جامعة قم، 2009م، ص 110.

آلهة شركاء له في خلق السماوات والأرض، لذا يمكن تفسيرها وفق ما يلي: لو كنتم صادقين في مزاعمكم، فائتوني بدليل من الكتب السماويّة التي أنزلت قبل القرآن تثبتون لي على أساسها أنّ آلهتكم شريكةً لله -تعالى- في خلق جزء من السماء أو جزء من الأرض، وإذا عجزتم عن ذلك فائتوني - على أقل تقدير - بدليل علمي منقول أو موروث من أسلافكم؛ لتثبتوا هذه المزاعم(1).

إذا افترضنا أنّ الحدّاد أدرك الصواب في تفسيره كلمة الكتاب في الآية الثانية بأنّه التوراة والإنجيل، فليس من المعقول -هنا- الاحتجاج على المشركين بأن يراجعوا الكتب السماوية السابقة، ويأتوا ببراهين منها تثبت معتقداتهم المشوبة بالشرك؛ إضافة إلى أنّ هذه الآية تؤكد بوضوح على مسألة التصديق؛ أي أنّ كلَّ كتاب سماوي مصدِّقٌ للأصول العقدية المذكورة في الكتب السماوية الأخرى.

وتلمّح الآية اللاحقة إلى اختلاف القرآن الكريم عن الكتاب المقدس، ومن ثمّ فهي تثبت بطلان ادعاء من يعتبره ترجمةً عربيّةً له: ﴿قُلْ أَرَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فَنَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(2).والمعهود عن الحدّاد أنّه غالبًا ما يفسّر حروف العطف في الآيات القرآنيّة مؤشّرات على البون والاختلاف؛ كما فعل في الآيات الأولى من سورتي الحجر والنمل، لكنه هنا - لم يكترث بعبارة " مِنْ قَبْلِه"، وتجاهل حرف العطف (الواو) الواقع بين كلمتي (الكتاب)(3).

والضمائر الموجودة في هذه الآية ضمن الكلمات (كان) و (به) و (مثله) ترجع إلى القرآن بقرينة سياق الكلام، وقوله - تعالى -: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ ...﴾ معطوف على الجملة الشرطية ﴿إن كان﴾؛ وبالتالي؛ فإنّ جملة الجزاء - هنا - مشتركة بين جملة الشرط والجملة المعطوفة عليها.

والمراد من قوله - تعالى -: ﴿مِثْلِهِ﴾ كتاب يشابه القرآن الكريم؛ من حيث المضمون، والمعارف وهذا الكتاب هو التوراة غير المحرّفة التي نزلت على النبي موسى(علیه السّلام).

والمقصود من قوله -تعالى-: ﴿فَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أنّ الشاهد - من بني إسرائيل- آمن بعد أن شهد، لكنّكم لم تؤمنوا.

ص: 253


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 188؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية) ج18،ص285.
2- سورة الأحقاف، الآية 10.
3- المقصود هنا الآية 12 من سورة الأحقاف: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقُ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾.

إذَا، يمكن تفسير الآية وفق يلي: قل للمشركين إنّ القرآن لو كان منزلا بالفعل من قِبَل الله، لكنّكم عاندتم واستكبرتم؛ على الرغم من أن شاهدًا من بني إسرائيل قد شهد بأنّه مثل ذلك الكتاب السماوي، ثمّ آمن به ألستم ظالمين ؟ واعلموا أنّ الله لا يهدي القوم الظالمين(1).

وتحدّثت الآية 11 عن الكفّار الذين اتهموا القرآن الكريم بأنّه: ﴿إِفْكُ قَدِيمٌ﴾ ، ولم يؤمنوا به: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكُ قَدِيمٌ﴾. والضمير في كلمة (به) يرجع إلى القرآن الكريم، وحرف الإشارة (هذا) يشير إليه.

وهذه الآية والآية اللاحقة لها تتحدّثان عن إنكار القرآن من قِبَل هؤلاء وتكذيب آياته، لكنه ليس إفكًا كما يزعمون، بل هو مصدِّقٌ للتوراة بلسان عربي(2).

إذَا، هذه الآيات تثبت مضمون الآية الثانية من السورة التي أكّدت على أنّ القرآن الكريم ذو منشأ سماوي.

كما أنّ الآيتين 29 و 30 تحكيان عن استماع طائفة من الجنّ لآيات من القرآن الكريمعند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(3)،وإيمانهم برسالته، حيث أخبروا قومهم لما رجعوا إليهم بأنّهم استمعوا إلى كتاب نزل بعد عهد النبي موسى(علیه السّلام)ووصفوه بكونه: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي للكتب السماويّة المنزلَةَ قبله. ونستشف من هذه العبارة أنّ القرآن لا يختلف عن سائر الكتب السماوية؛ من حيث دعوته إلى الإيمان بنبوّة من جاء به، وبالمعاد، وتزكية السيرة والسلوك

وقوله - تعالى -: ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾يدلّ بصريح العبارة على أنّ كلّ ما في هذا القرآن هو حق يدركه كلّ عاقل بيسر ووضوح، ولا فرق في كون مضامينه مشابهةً لما ذُكِرَ في الكتب السماوية السابقة، أو أنّها جديدة من نوعها)(4).

ص: 254


1- راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18،ص 195؛ محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية)، ج 18، ص 297.
2- للاطلاع أكثر، راجع: المصدران السابقان (بتلخيص). راجع أيضًا: محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن،ج9 ص،ص274.
3- قال -تعالى-: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَماً حَضْرَوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَماً قُضَي وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(سورة الأحقاف، الآيتان 29 – 30).
4- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 28، ص 28.

واستنادًا إلى ما ذكر تبطل مزاعم الحداد؛ لتعارضها بالكامل مع المداليل الواضحة للآيات التي ذكرناها، فالقرآن الكريم ليس تأويلاً للتوراة والإنجيل؛ فضلًا عن وجود الكثير من القرائن التي يثبت لنا على أساسها أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الثانية تدل بوضوح على أنّ القرآن الكريم نزل من اللوح المحفوظ في السماء.

ز - الآية الثانية من سورة الجاثية:

قال - تعالى-: ﴿حمَ(1)تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2)إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَنَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ(3)﴾(1)

سورة الجاثية الخامسة والستون؛ من حيث ترتيب النزول، وقد استند يوسف درّة الحداد إلى مضمونها لإثبات وجهة نظره التفسيرية المثيرة للاستغراب، حيث فسّر كلمة (الكتاب) في الآية الثانية من هذه السورة بالتوراة والإنجيل - الكتاب المقدس -؛ من منطلق مرتكزاته العقدية المسيحيّة، أو ربّما تأثر في هذا المجال ببعض الروايات المنقولة عن بعض التابعين؛ من أمثال: مجاهد، وقتادة.

وحينما نمعن النظر في مضمون هذه السورة بشكل عام وفي الآيات اللاحقة للآية الثانية بشكل خاص، نلمس بوضوح بطلان رأي الحدّاد، فالله - تعالى - استخدم كلمة ﴿تَنزِيلُ﴾ للإخبار عن نزول ﴿الْكِتَبِ﴾ الذي نسبه إلى ذاته المقدّسة؛ وذلك للتأكيد على عظمة هذه الذات وجلالة شأنها، وقوله - تعالى -: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ فيه تأكيد على أنّ هذا التنزيل نعمةٌ منه تبارك شأنه.

مُضافًا إلى أنّه لم ترد أي إشارة إلى التوراة والإنجيل قبل هذه الآية أو بعدها.

والهدف من هذه السورة هو دعوة جميع الناس إلى اعتناق دين التوحيد وإنذارهم من عذاب أليم، لذلك استهلّت بالإشارة إلى آيات الله التكوينية، ومسألة توحيده، ثم انتقل الحديث فيها إلى الشريعة التي كُلّف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بتعليمها للناس، فهو وجميع الناس مكلفون بالعمل وفق أحكامها؛ لذلك جاء التحذير الإلهيّ لكل من يُعرض عنها بأنّ الجزاء هو العذاب الأليم.

واللافت للنظر أنّ الآية 6 من هذه السورة أشارت إلى تلاوة آيات الله على النبي: ﴿ تِلْكَ ايَتُ

ص: 255


1- سورة الجاثية، الآيات 1 - 3.

اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَعَايَنَيْهِ يُؤْمِنُونَ﴾، إذ نستشف منها أن آيات القرآن الكريم ذاتُ منشأ سماوي، ومن المؤكّد أنّ التوراة والإنجيل ليسا هما المقصودين هنا.

وفي ختام هذا المبحث نود التذكير بوجود سُوَرٍ أخرى أشارت في مستهلها إلى كلمة (الكتاب) فقط؛ مثل: سُوَر إبراهيم، والكهف، والدخان، إلا أنّ يوسف درّة الحدّاد لم يشر إليها ولم يستدلّ بها؛ بوصفها شواهد على نظريته التفسيرية.

2) الآيات الأولى التي تتضمّن كلمتي «کتاب» «وقرآن»:

طرح يوسف درّة الحدّاد التفسير ذاته لمصطلح (كتاب) في القرآن الكريم ضمن تفسيره لمستهلّ سورتي النمل والحجر، وممّا قاله في هذا الصدد: «المراد القرآني من هذه الآيات هو آيات الكتاب المقدّس، إذ تمّ التمييز بين الكتاب والقرآن في مستهل سورتي [النمل والحجر]»(1).

وفي ما يلي نتطرّق إلى بيان مدلول الآيتين المذكورتين على ضوء ما ذكره الحدّاد من تفاصيل حول الموضوع :

أ - الآية الأولى من سورة الحجر:

قال - تعالى -: ﴿الرَّ تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ وَقُرْءَانِ مُّبِينٍ﴾(2).

سورة الحجر هي الرابعة والخمسون أي أنّها تأتي بعد سورة يوسف؛ من حيث ترتيب النزول.

اسم الإشارة (تلك) في هذه الآية يشير إلى ذات الأمر الذي ذكرناه في الآيات الأولى من السور التي سلّطنا الضوء عليها آنفًا،؛ أي أنّه يشير إلى البعيد؛ وكلمة (الكتاب) يُراد منها اللوح المحفوظ، لذا تُدرج هذه الآية ضمن الآيات التي تُوصف بأنّها ذات مضمون بياني(3)، ولعلّ القصد من وراء هذه الإشارة هو الإيحاء بأنّ على الإنسان الواعي أنْ يتأمل ويتدبر في هذه الآيات ليكتشف أصالة الحق فيها، ويدرك خطأ هؤلاء الكفّار الذين اتهموا مفاهيمها بالأساطير،

ص: 256


1- يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 142.
2- سورة الحجر، الآية 1.
3- راجع: أحمد بن محمد الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، ج 5، ص 493. راجع أيضاً حسين بن أحمد حسيني شاہ عبد العظيمي، تفسير اثنا عشري (باللغة الفارسية)، ج 5، ص 329؛ محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج12،ص97؛ إسماعيل بن محمد القونوي حاشية القونوي، على تفسير البيضاوي ،لبنان، بيروت دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1422ه_ ج 11، ص 115.

وألصقوا بالنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)تهمة الجنون(1)؛ لذا يمكن اعتبار هذه الآية مرآة للردّ الإلهيّ على هذه المواقف، والآيات اللاحقة تؤيد ذلك، فالآية الثانية أشارت إلى رغبتهم التي لم تتحقق: ﴿ربَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2)ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(3)(2). وكما نلاحظ في الآية الثالثة، فقد توعّدهم الله - تعالى - بالعذاب جرّاء كفرهم بنبي زمانهم؛ إذ بعد أن يروا عذاب جهنّم سوف يتمنون لو أنّهم آمنوا في الحياة الدنيا ولم يكذِّبوا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وكأنّ هذه الآية مقدّمةً للآية رقم 6 التي أشارت إلى اتهامهم إيَّاه بالجنون، وللآية رقم 7 التي أشارت إلى طلبهم منه بأنْ يأتيهم الملائكة إن كان صادقًا في نبوّته؛ أي أنّهم أنكروا نزول القرآن عن طريق الوحي الذي أبلغ به عن طريق الملائكة.

وبيان ذلك وفق ما يلي: ﴿وَقَالُوا يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونُ﴾ ، قولهم: ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونُ﴾ يدلّ على تهمة صريحة للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وتكذيب برسالته(3)، وهذه التهمة في الحقيقة متداولةٌ على ألسن الكفّار طوال مرّ العصور(4). وقد تمادى هؤلاء في موقفهم المناهض الرسالة السماء لدرجة أنّهم طلبوا منه أن يأتيهم بالملائكة؛ كما أشارت الآية السابعة: ﴿لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ﴾، لكنّ الله - تعالى ذكرهم في الآية التاسعة بأن وحي السماء محفوظ من أن يطاله الجنّ: ﴿إ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ﴾. وهذا الأمر أكد عليه بصريح العبارة ضمن الآيات 16 إلى 18 فكلّ شيطان يريد التنصت على أخبار السماء يأتيه شهاب مبينٌ : ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّهَا لِلنَّاظِرِينَ(16)وَحَفِظْنَهَا مِن كُلِّ شَيْطَانِ رَّحِيمٍ(17)إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَنْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ(18)﴾.هذه الآيات تدل بوضوحعلى أنّ السورة تتحدّث في أوّل آيةٍ عن القرآن الذي هو كتاب سماوي ولوح محفوظ، وهو ما تمّ التأكيد عليه بصريح العبارة في الآية 87؛ حيث قال - تعالى - - مخاطبًا النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)- إنّنا أنزلنا عليك سورة الحمد والقرآن العظيم ﴿وَلَقَدْ ءَانَيْنَكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ﴾.

ص: 257


1- وضّح أحد المفسرين هذا الموضوع قائلاً: لعلّ الهدف من الإشارة ب_(تلك) هو الإشارة إلى الإنسان العالم والعاقل الذي يتدبر في الآيات؛ لكي يطلع على الحقائق الكامنة فيها، ويدرك الخطأ الذي وقع فيه الكفّار الذين اعتبروا القرآن الكريم أسطورةً، واتهموا النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بالجنون. (محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار الملاك للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1419ه-، ج 13، ص 140).
2- سورة الحجر، الآيتان 2 - 3.
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 98.
4- راجع سورة الذاريات، الآية 52.

إذًا، لا يبقى أيّ مجال لزعم أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الأولى من هذه السورة تحكي عن التوراة والإنجيل وما قاله الحدّاد هو في الواقع منبثق من تعصّبه العقدي؛ وجميع المفسّرين المسلمين مع اختلاف مذاهبهم وتوجّهاتهم التفسيرية، لم يشيروا إلى ما استنتجه بهذا الخصوص؛ لذا لا صوابية لتفسير اسم الإشارة (تلك) في هذه الآية بما تتضمنه آيات التوراة والإنجيل؛ من حكم وعبر ووعد ووعيد، إذ لا نجد أيّ إشارة في هذه الآية والآيات اللاحقة لها إلى هذين الكتابين(1)؛ إلا أنّ مجاهد فسر (الكتاب) بالتوراة والإنجيل، بينما فسره قتادة بالكتب التي أنزلت قبل القرآن، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير (تلك) بالإشارة إلى آيات الكتاب السالفة السابقة للقرآن(2).

والحقيقة أنّ هذه الآية والآيات اللاحقة لها لا تتضمّن أيّ إشارة إلى الكتب السماوية السابقة؛ كما ذكرنا، لذا ليس من الصوابيّة ادّعاء ذلك، فضلا عن أن تفسير مجاهد وقتادة (الكتاب) بأنّه يدلّ على التوراة والإنجيل يختلف بالكامل عن فحوى الرأي الذي طرحه يوسف درّة الحدّاد، فهما لم يقصدا بتاتًا أنّ القرآن عبارةٌ عن ترجمة عربيّة للتوراة والإنجيل بل قصدا وجود تعالق نصّيّ يربطه بهما، وهو ما سنتطرّق إلى بيان تفاصيله ضمن تحليل مضمون الآية 37 من سورة يونس، وخلاصة الكلام: أنّ اللوح المحفوظ هو مقصودهما من (الكتاب)، وهذا الاستنتاج مدعوم بظاهر عدد من الآيات في سائر السور(3).

وبناءً على ما ذُكِرَ يمكن اعتبار قوله - تعالى -: ﴿تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ وَقُرْءَانِ مُّبِينِ﴾ بمثابة خلاصة للآيات الثانية حتّى الرابعة من سورة الزخرف ... وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ(4)﴾(4).

واستدلّ البعض من كلمة "مُبين" في هذه الآية على عدم صوابية تفسير الكتاب باللوح المحفوظ(5)، إلا أنّ هذا الاستدلال مرفوض؛ لكون هذه الكلمة تستبطن معان عدّة، ومفهومها

ص: 258


1- للاطلاع أكثر، راجع: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، ج 11،ص 6؛ابن أبي حاتم تفسير القرآن العظيم، تحقيق أسعد محمد طيب السعودية الرياض، منشورات مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الثالثة، 1419ه_، ج 8،ص2748.
2- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 6،ص 505؛عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج 3،ص349.
3- راجع: السور التالية: الواقعة، الآية 78؛البروج الآية 22؛الزخرف، الآية 4.
4- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 97.
5- راجع: أحمد بن محمد عناية الخافجی،القاضي وكفاية الراضي، ج 5، ص 493.

الظاهر هو البيان والوضوح، ويؤيد ذلك مضمون الآية 59 من سورة الأنعام التي وصفت العلم الإلهى بهذه الصفة.

ويرى بعض المفسّرين؛ من أمثال: ابن عاشور، الكتاب دالا على القرآن؛ من منطلق العلم بالغلبة؛ أي أن لفظ القرآن أصبح متعارفًا وشائعًا لدى المسلمين؛ بحيث إنّهم أينما شاهدوا كلمة (كتاب) في النصّ القرآني، عادةً ما يتبادر إلى ذهنهم القرآن الكريم الذي أنزله الله -تعالى- على النبي محمد الله الله الهداية البشر(1). لكن يرد على هذا الرأي ما يلي: هل هذا التغليب كان شائعًا بين المسلمين إبان نزول الآية الأولى من سورة الحجر أو لا؟

واعتبر يوسف درّة الحدّاد عطف كلمة (قرآن) على كلمة (كتاب) في هذه الآية إشارةً إلى التوراة والإنجيل، لكن العطف هنا - ولا يُعدّ علامةً على وجود اختلاف بينهما، وحتّى إن افترضنا أنّه يفيد ذلك فهذا الاختلاف في الحقيقة ليس من حيث الذات، ولا يستبعد أن يكون عطف تفسير؛ بمعنى أنّ الكتاب هو القرآن المبين؛ فضلا عن أنّنا حتى لو اعتبرناه عطفًا يفيد الاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه، فهنا - أيضًا - لا يوجد دليل على كون المراد من (الكتاب) في هذه الآية هو التوراة والإنجيل، إذ لا نجد لهما ذكرًا في الآيات اللاحقة كي تدعى الإشارة إليهما باسم الإشارة (تلك)(2).

ب- الآية الأولى من سورة النمل:

قال - تعالى -: ﴿طس تِلْكَ وَايَتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(3).

سورة النمل هي التاسعة والأربعون؛ بحسب ترتيب النزول، حيث تلي سورة الشعراء، ومستهلّها على غرار مستهل هذه السورة.

ادعى يوسف درّة الحدّاد أنّ الآيات القرآنية هي آيات التوراة والإنجيل ذاتها كما ذكرنا، وعلى هذا الأساس فالقرآن مجرّد ترجمةٍ عربيّة لهما، ومن ثمّ فسّر كلمة (كتاب) في الآية الأولى من سورة النمل بالتوراة والإنجيل؛ ولكن هل يقوم رأيه على أدلة تثبت صوابيته؟

ص: 259


1- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 13، ص 7.
2- راجع: عبد القادر ملا حويش، بيان المعاني، ج 3، ص 272.
3- سورة النمل، الآيتان 1 - 2

ولعلّ الهدف من هذه الآية هو إثبات المنشأ السماوي للقرآن الكريم؛ كما هو الحال في الآيات التي تحدّثنا عنها سابقًا، ويؤيد ذلك مضمون الآية 6: ﴿وَإِنَّكَ لَنُلَقَى الْقُرْءَانَ مِن حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ التي نقل فحواها في الآية 92 على لسان النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿وَأَنْ أَتْلُوا الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾.

والآية 68 تكرّر فيها الأمر نفسه من ذِكْر إنكار المشركين قدسيّة القرآن الكريم بزعم أنه من أساطير الأوّلين: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، والله -تعالى- طمأن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)إزاء هذا الإنكار في الآية 70 وواساه قائلا: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ . وبعد ذلك وفي الآية 76 بالتحديد أكد -تعالى- على أن القرآن فيه بيان لما اختلف حوله بنو إسرائيل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، وهذه الميزة الفريدة تدلّ بوضوح على منشئه السماوي، وإلا فليس من الممكن وضع حل لهذا الاختلاف والتمييز بين الحق والباطل بواسطة النبي وحده، ولا في رحاب تلك البيئة الجاهليّة التي عاصرها.

والآيتان 78 و 79 واسى فيهما الله -تعالى- نبيه مرّةً أخرى : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(78)فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)﴾وهذا المضمون هو في الواقع تأكيد على ما ذُكِرَ في الآية 70 كي يطمئن النبي و يتوكل على الله.

ويمكن اعتبار كلمة (القرآن) في الآية الأولى بيانًا للمنشأ الغيبي لذلك الكتاب السماوي المكنون في علم الله -سبحانه وتعالى-، حيث يتمّ بيانه عن طريق التلاوة، لا بواسطة إرسال ألواح أو كتاب مدوّن؛ ومن المحتمل أنّها تفيد التأكيد برأي بعض المفسرين(1)؛ وهذا الأمر قد أثبتناه في تحليلنا مضمون الآية الأولى من سورة الحجر: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَبِ وَقُرْءَانِ مُّبِينِ﴾، حيث عطفت كلمة (قرآن) على كلمة (الكتاب) ، والمراد منهما واحد. كما أنّ إضافة

ص: 260


1- راجع: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، ج 11، ص 6. نستنتج من عطف كلمة الكتاب على القرآن أنّهما غير مختلفتين، وهذا ما يمكن إثباته على أساس ذكرهما بصيغة التنكير تارة، والتعريف تارةً أخرى؛ لأنّ المراد منهما هو ذاتهما الواحدة التي هي في الواقع كلام الله عز وجل. (أحمد بن محمّد الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، ج 5، ص 493). راجع أيضاً: محمد محمود حجازي، التفسير الواضح ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الجيل، الطبعة العاشرة، 1413ه_، ج 2، ص 272. من المحتمل أن السبب في اختلاف كلمتَي الكتاب والقرآن من حيث التعريف والتنكير في الآيتين المشار إليهما ضمن النص، سببه التفنن في الكلام، لذا لا داعي للتكلّف في تفسيرهما.

الشيء إلى نفسه تعتبر أمرًا شائعًا بين أهل اللغة؛ مثل: عبارة (مسجد الجامع)، و(يوم الجمعة) و (صلاة الظهر)(1).

وخلاصة الكلام : أنّ الآية الأولى من سورة النمل هي على غرار مستهل سورة الحجر وسائر السور التي تطرّقنا إلى الحديث عنها، حيث يُراد منها إثبات المنشأ السماوي للقرآن الكريم؛ وقد ابتدأت بحروف مقطعة - أيضًا - لاستقطاب نظر المستمع والقارئ؛ وهذا النظم المتناسق يُراد منه إشعار المخاطب بأنّ ما سيأتيه في الآيات اللاحقة منبثق من مكنون العلم الإلهي، وليس من إلقاء الشياطين، ولا من أساطير الأوّلين؛ وأمّا السبب في استخدام صيغتي التنكير والتعريف ب_( ال_ ) لكلِّ من الكتاب والقرآن في مستهل سورتي الحجر والنمل، فهو من باب التفنن في الكلام.

وأما المستشرقون الذين تناولوا مضمون هاتين الآيتين بالشرح والتحليل بأسلوب بعيد عن النزعة الإيديولوجية المسيحيّة، فقد اعتبروا القرآن والكتاب متقاربين من حيث المدلول؛ ومنهم المستشرق ستيفان فيلد الذي قال في هذا الصدد: «كلمتا (كتاب) و (قرآن) [في سورتي النمل والحجر] متقاربتان من حيث المعنى، وربما هذا هو السبب في استخدام كلّ واحدةٍ منهما بدل الأخرى»(2).

3) الآيات الأولى التي تتضمن كلمة "كتاب" وعبارة "قرآن عربي":

اعتبر يوسف درّة الحدّاد، ضمن تفسيره الآيات القرآنية التي تتضمّن مصطلح (كتاب)، آيات القرآن ترجمةً عربيّةً لآيات التوراة والإنجيل، حيث قال: «مراد القرآن من [تلك آيات الكتاب] هو آيات الكتاب [المقدّس] تلك الآيات التي ترجمت إلى اللغة العربية»(3)؛ وقد تطرّق إلى بيان رأيه هذا على ضوء تحليل مداليل الآيات التي تتضمّن كلمتي (كتاب) و (عربي)، وبما فيها آيات سورتي يوسف والزخرف، وفي ما يلي نذكر تفاصيل ذلك:

ص: 261


1- راجع: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 6، ص 317.
2- Stefan Wild, “An Arabic Recitation, The Meta - Linguistic of Quranic of Quranic Revelation", in Self - referentiality in The Quran, (edited by Stefan Wild), (Wiesbaden: Harrassowitz, 2006), p. 143.
3- يوسف درة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 142.

أ- الآيتان الأولى والثانية من سورة يوسف:

قال - تعالى -: ﴿الر تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ(1)إِنَّا أَنزَلْتَهُ قُرَانًا عَرَبِيَّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)﴾(1).

وادّعى يوسف درّة الحدّاد على ضوء مساعيه الرامية إلى إثبات أن آيات القرآن الكريم مستوحاة من آيات التوراة والإنجيل أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الأولى من سورة يوسف والتي ذكرت مع كلمة أخرى مختلفة ،المعنى أي كلمة (المبين)، يُراد منها التوراة والإنجيل، حيث استند في كلامه هذا إلى آراء بعض المفسّرين المسلمين إلى جانب تأثره بمرتكزاته الإيديولوجيّة المسيحيّة، ومن هذا المنطلق بادر إلى بيان مدلول قوله - تعالى - : ﴿الْكِتَبِ الْمُبِينِ﴾.

واللافت للنظر أنّ غالبية الآراء التفسيريّة التي تبنّاها هذا الحدّاد لا تعتمد على الآراء المطروحة في التفاسير الإسلامية، لكنّه كثيرًا ما يستند في آرائه التفسيرية إلى ما يذكره صاحب تفسير الجلالين الذي فسّر كلمة (تلك) في هذه الآية ب_( هذه الآيات)؛ أي أنّ هذه الآيات هي آيات القرآن؛ وفسّر (المبين) ؛ بمعنى مُظهر للحقِّ بشكل يميّزه عن الباطل؛ لكي يفهمه العرب(2)؛إلا أنّه تخلّى عن مضمون هذا التفسير هنا، ولا عجب في تجاهله ما قاله صاحب هذا التفسير إزاء آية البحث وسائر الآيات المشابهة لها؛ لكونه لا يتناغم مع ما يجول في خاطره، إذ المعهود عنه أنّ تعامله الانتقائي في تفسير النصّ القرآني لا يقتصر على آرائه التفسيرية فحسب، بل هو مشهود - أيضًا في مجال استناده إلى التفاسير الإسلاميّة، حيث ينتقي ما يعجبه من رأي المفسّر المسلم؛ حينما يكون متناغمًا مع افتراضه، ويعتبره دليلًا يدعم تفسيره، بينما يتجاهل بالكامل كلّ تفسير يتعارض مع افتراضه؛ وكأنّ الآية أو العبارة القرآنية لم تُفسّر من قِبَل المسلمين.

وفحوى كلام الحداد بالنسبة إلى مضمون آية البحث هي أنّ القرآن نزل بوحي السماء، لكنّ هذا الوحي ليس سوى ترجمة عربيّة لآيات التوراة والإنجيل؛ وكأنّ كلام الله -تعالى- قد نفد وعلمه قد وصل إلى نهايته؛ بحيث لم تبق لديه حيلة لهداية المشركين العرب؛ إلا عن طريق ترجمة النصوص المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة لهم باللغة العربيّة!أو كأنّ القرآن الكريم ليس وحيًا من الأساس، بل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ترجم هذه النصوص إلى المشركين العرب بلغتهم!

ص: 262


1- سورة يوسف، الآيتان 1 - 2.
2- راجع: جلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين، تحقيق عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ج 1، ص 238.

ولا شكّ في أنّ هذا الرأي يتعارض بالكامل مع الظاهر الصريح لآيتي البحث وسائر الآيات اللاحقة لهما في السورة نفسها كما لا يتناسب بتانا مع ترتيب نزولهما والأجواء التي كانت سائدةً في المجتمع؛ حينما أُنزلنا على النبي.

نزلت هذه السورة؛ بحسب روايات ترتيب النزول بعد سورة يونس، لكن تفصل بينهما سورة هود، وكما ذكرنا فإنّ مستهلها هو ﴿الر تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ﴾، ومستهل سورة هود هو: ﴿الركنب أُحكِمَتْ ايَتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، لذا فهي الأخرى تندرج ضمن سلسلة الآيات التي تؤكّد على المنشأ السماوي للقرآن الكريم.

إذًا، الآيتان الأولى والثانية من سورة يوسف حالهما حال الآيات الأولى في السور السابقة لها من جهة تأكيدهما على المنشأ السماوي للقرآن الكريم، وبيان ارتباطه باللوح المحفوظ(1)،والضمير (الهاء) في عبارة "أَنْزَلْناهُ"، في الآية الثانية: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيَّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾،يرجع إلى كلمة (الكتاب) المذكورة في الآية الأولى(2)، لذا فالمقصود منها ذلك الكتاب الذي هو أمّ الكتاب ومنشأ القرآن، إذ تمّ بيانه للناس بلسان عربي . وقد وصف (الكتاب) في الآية الأولى من هذه السورة ب_(المبين)؛ بينما وُصِفَ في الآية الأولى من سورة يونس ب_(الحكيم)، وهذا الأسلوب يقوم على تنوّع في الألفاظ؛ بغية بيان مختلف خصائص آيات الله والمعارف المكنونة في اللوح المحفوظ، حيث نزلت هذه الألفاظ عن طريق الوحي بلغة عربيّة.

وتتضمّن الآية الثالثة تأكيدًا لمضمون الآية الأولى؛ للتذكير مرّةً أخرى بأن آيات القرآن وحي من الله -عزّ وجلّ- : ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْهَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ﴾ ، بأي شكل فسرت هذه الآية، لكنّ التأكيد الموجود فيها يراد منه التذكير بأن الله -سبحانه- هو من يقص على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أحسن القصص عن طريق الوحي؛ وهو قبل ذلك لم يكن على علم بها، وهذا الكلام يحكي عن الهدف من نزولها، فهي تنصب ضمن الآيات التي تصدّت لمزاعم المشركين واتهامهم القرآن بأنه ليس كتاب وحي.

ص: 263


1- للاطلاع أكثر ،راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 11، ص 74 - 75.
2- راجع: محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 6، ص 93 محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 12، ص 9.

کما توید الآیات من سورة یوسف التفسیر الذي ذکرناه للآیة الأولی، فالآیة 109 أدرجت دعوة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و ضمن دعوات سائر الأنبياء والمرسلين، فهو نبي يُوحى إليه ﴿أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِيَ إِلَيْهِم مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، والآية 110 أكدت على سوء عاقبة من يكذب برسالته: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْتَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُحِيَ مَن نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾، والآية 111 تتصدّى للتهم الواهية التي وجهها المشركون للوحي المنزل على النبي، وتؤكّد على أنّ قصص الأنبياء المذكورة في الآيات المنزلَةَ عليه ليست كذبًا ولا سردًا قصصيًّا من تلقاء نفسه، وإنّما هي وحي منزل من السماء وتصديق للكتب المقدّسة التي أنزلها الله عزّ وجلّ- على الأنبياء السابقين: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.

إذَا، مستهلّ هذه السورة وخاتمتها شاهدان على أنّ الأسلوب القرآني المتبع في بدايات السور التي تتضمّن كلمة الكتاب أو عبارة آيات الكتاب يُراد منه التأكيد على المنشأ السماوي للقرآن الكريم؛ فضلًا عن ذلك فقصة النبي يوسف(علیه السّلام)حتى وإنْ ذُكِرت في سائر النصوص والكتب التأريخية، لكنّ أحداثها لم تُسرد على غرار السرد القرآني، حيث ذُكِرَت فيه بأبلغ أسلوب وأروع بيان بلاغي(1)، لذا كيف يمكن لأحد ادّعاء أنّها مترجمةً من الكتاب المقدّس إلى اللغة العربية؟! وتشابه الآية الثالثة من سورة الزخرف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الآية الثانية من سورة يوسف، حيث أشارت إلى أنّ الله -تبارك شأنه جعل رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و باللغة العربية ليدعو الناس إلى الدين الحقِّ؛ لعلّهم يتبعون حكم العقل السديد ويؤمنون به؛ وكلمة (عربي) في هذه الآية تمّ تعريفها وفق ما يلي: «صفةٌ نسبيّةً للقرآن (وليست عطف بيان أو بدلًا)، حيث نسبت العربية للقرآن، ولا يقصد منها لا بدّ له أن يكون عربيًّا(2). لقد أنزل القرآن باللغة العربية؛ نظرًا لاقتضاء الضرورة ذلك، إذ ينبغي للأمة فهم كلام الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)والأخبار التي يأتيهم بها بكل وضوح؛ كي یتفكّروا ويؤمنوا بها، ثمّ يجعلوا سلوكهم متوافقًا مع تعاليمها ويلجأوا إليها لتلبية جمیع متطلبات

ص: 264


1- راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2، ص 440.
2- إسماعيل حقي البروسوي، روح البیان، ج 4، ص 209.

حياتهم الخاصة والعامة؛ فمن هذا المنطلق أُنزِلَ كلام الله من اللوح المحفوظ باللغة العربيّة(1).

إذَا، نستشف من هذه الآية أنّ الوحي نزل في بيئة اجتماعيّة تحكمها اللغة العربية والحكمة الإلهيّة اقتضت أن يكون كلام الله المنزل فيه بهذه اللغة؛ لكي يفهم القوم تعاليمه وينتهلوا منها(2)، لذا فالآية تشير إلى الأسلوب اللغوي الذي اتِّبعه النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في التعامل مع مَنْ بُعِثَ إليهم؛ أي أنّه أسلوب مفهوم لهم، ويُعدّ عاملا أساسًا في اتباع كلام الله - تعالى-.

وكما هو معلوم، فالقواعد البلاغيّة تقتضي من المتكلّم مراعاة حال المخاطب، لذا يجب عليه التحدّث معه بلغته وبأسلوب بياني يتناسب مع مستواه الفكري، إذ لكل مقام مقال؛وعلى هذا الأساس نلاحظ وجود الكثير من الآيات القرآنية التي تؤكّد على إمكانية فهم كلام الله -تعالى- من قبل القوم؛ ومن ذلك التأكيد على أنّه أُنزِلَ باللغة العربية.

وتأكيد القرآن الكريم على عربيّة الوحي الذي يتلقاه النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)يراد منه إثبات أنّ الآيات المباركة مفهومةٌ لدى المخاطبين؛ لكونها تخاطبهم بلسانهم، لذا لا يُتوقع من هؤلاء استنتاج أمورٍ خاطئة ومتناقضة منها أو تفسيرها خلافًا لقصد قائلها؛ لأنّ هذا الأمر يُسفر عن حدوث اختلاف ونزاع بين الناس وبالتالي يؤدّي إلى كفرهم .

وكذلك أكّد الوحي على أنّ كلام الله ليس شعرًا، والرسول الذي أنزل عليه هو الآخر ليس بشاعرٍ: ﴿وَمَا عَلَّمْنَهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقَرهَانٌ مُّبِينٌ﴾(3)، والسبب في نفي هذه الميزة عنه صلوات الله عليه يعود إلى أنّ الشعر ذو وجوه، عدّةٍ وأساسه التصوّر والخيال، وعادةً ما يزخر بالرموز والاستعارات الكنائيّة والتلميحات والإيماءات؛ لذا لا تنسجم نصوص كهذه مع الهدف من رسالة السماء التي أساسها هداية بني آدم إلى الصراط المستقيم بصريح القول ودون أيّ غموض وخلل.

وعبارة: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ فيها تعميم للخطاب القرآني، فقد استهلت السورة بتوجيه

ص: 265


1- راجع: محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، ج ،12 ص 161 - 162 (بتصرف).
2- قبل ذلك وضّح الله -تعالى- السبب في نزول القرآن بلسان عربي في الآية 97 من سورة مريم التي هي الرابعة والأربعون؛ بحسب روايات ترتيب النزول، ونصّها كما يلي: ﴿فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا﴾.
3- سورة يس، الآية 69.

خطاب للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم أخبرته بحقيقة فحواها: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾، لذا يمكن القول إنّ العبارة الأولى ضمن تأكيدها على سموّ كلام الله -تعالى- وترفعه عن أن يُقيّد بالحروف والألفاظ والمفردات ، لكن عقل الإنسان بحاجةٍ إلى تجلّيه بهذه الأمور؛ لكي يدرك الحقائق الكامنة فيه(1)؛ وهذا ما نلمسه - أيضًا - في مفهوم النزول المشار إليه ضمن سورة القصص وغيرها.

واستناداً إلى ما ذكر يثبت لنا بطلان تفسير يوسف درّة الحدّاد لمستهل سورة يوسف وادّعائه أنّ القرآن الكريم ترجمة عربيّة للتوراة والإنجيل وعبارة " أَنْزَلناه" لوحدها تفنّد هذا الادّعاء؛ لأنّ الضمير (الهاء) فيها يرجع إلى (الكتاب)؛ وبالتالي تفسّر الآية بالتالي: لقد أنزلنا الكتاب بهيئةٍ عربيّة. والإنزال كما أشرنا آنفًا، يعني إلقاء الشيء من الأعلى إلى الأسفل، لا انتقاله من نقطة إلى نقطة أخرى موازية.

أضف إلى ذلك الآيات اللاحقة من هذه السورة حيث تنقض رأي الحدّاد من أساسه، ومن جملتها قوله -تعالى-: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمكُرُونَ﴾(2). أسم الإشارة (ذلك) المذكور في مستهل هذه الآية يشير إلى أخبار النبي يوسف العالم التي ذكرت قبل ذلك، والخطاب فيها موجه إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،ومعناها: هذا الخبر غيبي وقد اطلعت عليه عن طريق الوحي، وذلك حينما مكر أبناء يعقوب بأخيهم وقرّروا التخلّص منه في الجبّ: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيْبَتِ الْجَبِ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَيْنَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(3). وعبارة﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ تستبطن تهكُماً بقريش وبكل من كذب برسالة السماء؛ لأنّهم يعرفون حق المعرفة أن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن على علم بأحداث هذه القصة، إذ لم يكن حاضرًا هناك؛ كما لم يخبره أحد بما جرى، فضلًا عن أنّ قومه قاطبةً ما كانوا على علم بها؛ لذا فهو لم يطلع عليها؛ إلا عن طريق الوحي الذي يأتيه بأخبار الغيب(4).

إذًا، هذه الآية تؤكّد على إعلام النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بهذا الخبر عن طريق الوحي، وهذه الميزة تُعدّ مستندًا لتفنيد رأي من انّهم الآيات القرآنية بأنّها ترجمةً لآيات التوراة والإنجيل؛ ولو كان الأمر

ص: 266


1- راجع: إسماعيل حقي البروسوي، روح البیان، ج 4، ص 209.
2- سورة يوسف، الآية 102.
3- سورة يوسف، الآية 15.
4- راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2، ص 507.

غير ذلك لوجب أن يقول الله - تعالى - : (التوراة والإنجيل)؛ بدلًا عن ﴿ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ ، أو أنّه يذكر عبارةً أخرى تفيد باقتباس هذه الآية وغيرها منهما.

وتؤيد الآية 111 من سورة يوسف : ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لقَوْمِ يُؤْمِنُونَ﴾، بصريح العبارة غيبية الآيات القرآنية ولا سيما قوله -تعالى-: ﴿وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، حيث يشير إلى وجود محاكاة بين آيات هذه السورة وما ذُكِرَ في الكتب السالفة، ونستوحي من ذلك أنّ القصّة القرآنية - هنا - متممّةٌ لما ذُكِرَ من تفاصيل لأحداثها في التوراة والإنجيل؛ لذا فهي تحاكيها والهدف من ذكرها في القرآن الكريم هو إزالة الغموض؛ لأجل فهم حقيقة الأمر. وكما أشرنا آنفًا، من المحتمل أنّ بعض مفسّري القرآن - من أمثال مجاهد وقتادة - استندوا إلى هذه المحاكاة ليفسّروا كلمة (الكتاب) في الآية الأولى -من السورة بالتوراة والإنجيل؛ لكن استنتاجهم هذا غير صائب؛ لأنّ آيات سورة يوسف لم تنزل في منطقة فراغ، بل نزلت على مخاطبين كانوا في سعي دائبٍ لمعرفة الخبر الذي تحاكيه الآية المذكورة في التوراة والإنجيل؛ أي إنّهم أرادوا استكشاف التناص الموجود بينهما وبين هذه الآية القرآنية(1).

إذَا، جميع الآيات القرآنية التي استهلّت بها بعض السور والتي استند إليها يوسف درّة الحدّاد لإثبات نظريته القائلة بأنّ القرآن الكريم ترجمة عربيّةً للتوراة والإنجيل، تؤكد بصريح العبارة على المنشأ السماوي للقرآن الكريم؛ فهو كتاب منزل من الله الرحمن الرحيم الحكيم الحميد العزيز العليم ربّ العالمين، فهو منبثقٌ من علمه وحكمته وجماله(2)؛وعلى هذا الأساس فعربيّته مستندة في الحقيقة إليه تبارك شأنه.

ب- الآيات الأولى من سورة الزخرف:

قال - تعالى-: ﴿حم(1)وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانَّا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ(4)﴾(3).

ص: 267


1- للاطلاع أكثر، راجع: أحمد باكتشي، ترجمه شناسی قرآن کریم روی کرد نظری و کاربردی (باللغة الفارسية)، ص 85 - 87.
2- محمد کاظم شاكر، علوم قرآني (باللغة الفارسية)، ص 111 (بتلخيص).
3- راجع: سورة الزخرف، الآيات 1 - 4.

والآيات الأولى من سورة الزخرف هي الأخرى استند إليها يوسف درّة الحدّاد لإثبات رأيه الذي أشرنا إليه سابقًا، ومحور استدلاله هنا - كلمة (الكتاب) التي وُصفت بعبارة (قرآنًا عربيًّا)، حيث استدلّ بهذا الوصف لإثبات أنّ القرآن ترجمةً عربيّةً للتوراة والإنجيل.

وعبارة ( لدينا) في الآية الرابعة تدلّ برأيه على أنّ (أم الكتاب)؛ إما أن تكون في السماء، أو في الأرض، ووضّح هذا الاستنتاج قائلا: «الآية لا تدلّ على مكانه بالتحديد، فهي لا تصرّح ما إنْ كان في السماء أو في الأرض، فغاية ما تذكره هو أنّ الكتاب المبين موجود عند أهل الكتاب؛ وهو على هيئة قرآن عربي القرآن يقول أنّ أمّ الكتاب لدينا، وهي إما أن تكون في السماء أو في الأرض، وهذه العبارة على غرار عبارتي (في لوح محفوظ) و (لا يمسه إلا المطهرون)، والعبارة الثانية تعني عدم جواز لمسه من قِبَل المشركين؛ وقد واجه الناس صعوبةً في فهم هذه العبارة، لذلك أكملت الآية بالعبارة التالية: (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله)، أي عندما حرّم لمس القرآن قيل: شهد شاهد من بني إسرائيل -أي من علمائهم - أيضًا على أنّ لمس التوراة حرام، لذا بما أنّ لمس القرآن حرام فهو أرضي. هذه الأوصاف -أمّ الكتاب واللوح المحفوظ وغيرهما - لا تدلّ على أنّه كان في السماء منذ الأزل»(1).

نستشف من هذا الكلام أنّ كلمة (الدينا) تدلّ على عدم كون القرآن الكريم كتابا سماويا، فغاية ما تفيده الآيات التي جاءت هذه الكلمة في سياقها هو أنّ (الكتاب المبين) يُعتبر هو التوراة والإنجيل ذواتهما لكن بلسان عربي؛ كما أكّد على أنّ معنى هذه العبارة يتضح على ضوء مضمون الآيتين 78 و 79 من سورة الواقعة والآية 10 من سورة الأحقاف؛ فهذه الآيات -برأيه - تؤكّد على حرمة لمس القرآن الكريم من قِبَل المشركين؛ ما يعني أنّه كتابٌ أرضي، ومن هذا المنطلق فسّر الآية 79 من سورة الواقعة: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ على ضوء مدلول الآية 10 من سورة الأحقاف: ﴿قُلْ أَرَعَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فَتَامَنَ وَاسْتَكْبَرَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، وقال إنّه قد شهد شاهدٌ من بني إسرائيل على أنّ لمس التوراة حرامٌ، لذا فهذا الكلام يدلّ - أيضًا على أنّ القرآن كتاب أرضي؛ لأنّ لمسه حرام. وبعد ذلك وضح رأيه هذا قائلًا: «ما ذكره القرآن في آيات أخرى يميط اللثام عن هذه العبارات الأربعة، فالآية 10 من سورة الأحقاف تؤكّد على أن السماء ليست

ص: 268


1- يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 423 - 424.

هي مصدر نزول القرآن، وإنّما الأرض هي مصدره، ومثله التوراة والإنجيل عند نصارى بني إسرائيل؛ لأنّ اليهود هم من بني إسرائيل ويعتبرون إلى جانب المشركين من شر البريّة؛ لذا لم يستشهد القرآن بهم - يهود بني إسرائيل - بل استشهد بنصارى بني إسرائيل»(1).

وجدير بالذكر هنا أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الثانية من سورة الزخرف فُسّرت بالقرآن من قِبَل غالبيّة المفسّرين، لكن يحتمل أنّ المراد منها الإشارة إلى اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي هو منشأ القرآن العربي.

وسورة الزخرف، في مستهلها وختامها وحتّى في سائر ،آياتها تحكي أنّها في مقام إنذار البشر وتحذيرهم والتأكيد على جريان السنة الإلهية في إنزال الكتب والذكر على الأنبياء والرسل لذا لا يمكن مطلقًا لتطرّف البشر في أقوالهم وأفعالهم أن يحول دون هذه السنة الثابتة، بل تتواصل بعثتهم وفي الحين ذاته يهلك الله - تعالى - مكذِّبيهم والمستهزئين بهم، ثمّ يسوقهم نحو عذاب جهنم(2).

ويشير قوله -تعالى-: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ في الآية الثالثة إلى أن القرآن قبل أن ينزل بلسان عربي كان في منأى عن عقول البشر، لذا فهي لم تدركه؛ إلا بعد أن تجلّى بلسان عربي؛ لأنّ العبارة المذكورة في نهاية الآية توضّح الغرض من جعل الكتاب(3).

وتؤكّد الآية الرابعة: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ﴾ على أن القرآن في موضعه الأوّل لم تدركه عقول البشر، لأنّ الضمير (الهاء) في (إنّه) يعود إلى الكتاب، وما يدعو للدهشة أنّ الحدّاد فسّر أمّ الكتاب في هذه الآية بالتوراة والإنجيل، وعلى هذا الأساس ادّعى أن منشأه أرضي.

كما أنّ الآيات الأخرى التي استند إليها الحدّاد لإثبات أنّ (أم الكتاب ليست سماويةً، يراد منها اللوح المحفوظ في الحقيقة: ﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانُ تَجِيدُ (21) فِي لَوْحٍ تَحْفُوظٍ(22)﴾(4)،

ص: 269


1- يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 424.
2- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية) ج 18، ص 122.
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 83.
4- سورة البروج، الآيتان 21 - 22.

والسبب في إطلاق عنوان (أم الكتاب) على اللوح المحفوظ يعود إلى أنّ هذا اللوح هو المصدر الأوّل لجميع الكتب السماوية، فهي جميعاً تُنسخ منه(1).

وتشير عبارة: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِ الْكِتَبِ﴾ إلى حقيقة القرآن الكريم، وتؤكّد على أنه هو ذلك الكتاب نفسه الموجود لدينا؛ أي أنه ليس كتابين: أحدهما (الدينا)، والآخر موجود في مكان آخر.

وتُعَدّ عبارة ﴿لَعَلِيُّ﴾ مؤشّرًا آخرَ على المنشأ السماوي للقرآن الكريم، وتدلّ على علوّ مكانة (أم الكتاب)، لذا يمكن تفسير الآيات 2 إلى 4 وفق ما يلي: الكتاب موجود لدينا في اللوح المحفوظ ومقامه رفيع وهو محكم، لذلك بقي بعيدًا عن متناول البشر، وقد أنزلناه على هيئة قرآن وبلسان عربي؛ لكي تعقلوه.

إذَا، نستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ يوسف درّة الحدّاد قد فسّر القرآن بالرأي، وحرّف بعض المداليل القرآنية لدى تفسيره الآيات الأولى من سورة الزخرف، حيث تعامل معها بانتقائية، بعد أن اقتطع منها ما يؤيّد رأيه.

ومن المؤكد أنّ (الكتاب) لم يكن مفهوماً للعرب، لكنّ عدم فهمهم له ليس لكونه بلغة عبرية بحيث كانوا بحاجةٍ لأنْ يترجم لهم بلغتهم العربيّة، بل لكونه مكنونا في أم الكتاب، وفي مقام رفيع، لا تطاله عقولهم ولا عقول غيرهم من البشر؛ لذلك نزل بلسانهم؛ كي تدركه عقولهم.

وتتجاوز الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم نطاق الألفاظ ومعانيها؛ لأنّ الله -عزّ وجلّ- أراد من إنزالها على هيئة قرآن تمهيد الأرضيّة المناسبة لبني آدم؛ كي يدركوا معارفه السامية، ويطلعوا عليها عن طريق العمل بأوامره(2).

مضافًا إلى ما ذُكِرَ، فمعظم المفسّرين اعتبروا اللوح المحفوظ بأنه ذات أم الكتاب(3)، فضلاً عن أنّ مضمون الآيات 77 إلى 80 من سورة الواقعة يفيد بأنّ المراد من كلمة "الْمُطَهَّرُونَ" هو الملائكة، والمقصود من الآية التي جاءت فيها أن لا أحد كان على علم بأم الكتاب قبل نزول

ص: 270


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 84.
2- راجع: محمّد كاظم شاكر، علوم قرآني (باللغة الفارسية)، ص 110.
3- راجح: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 9، ص 61؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 127 - 128

القرآن على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)سوى الملائكة، وهذا المضمون يُعدّ تلويحا لتفنيد مزاعم مشركي مكّة الذين اتهموا القرآن بأنّه منزل من قبل الجن والشياطين(1).

وخلاصة الكلام: أنّ بعض المفسّرين أكدوا في تفاسيرهم على أنّ أمّ الكتاب واللوح المحفوظ والكتاب المكنون وسائر العبارات المشابهة، تشير إلى مرحلة من مراحل نزول القرآن، وهي مرحلة الثبوت في اللوح المحفوظ؛ كما اعتبروا الآيات 11 إلى 16 من سورة عبس تشير إلى مرحلة نزوله في عالم الملائكة: ﴿فِي صُحُفِ مُكَرَّمَةِ(13)وَعَةٍ مُطَهَرَةٍ (14) بِأَيْدِى سَفَرَةٍ(15)﴾.ومعظم المفسّرين فسّروا كلمة (سفرة) في هذه الآية بالملائكة(2).

4) الآيات الأولى التي تتضمّن "كتاب" و"تفصيل" و"قرآن عربي":

فسّر يوسف درّة ،الحدّاد، وكما هو معهود في آرائه التفسيرية، الآيات الأولى التي تتضمّن كلمتَيْ "كتاب" و"تفصيل" وعبارة "قرآن" "عربي" على أساس متبنّياته الفكرية والإيديولوجيا المسيحيّة الراسخة في ذهنه، حيث ذكر لها معنى مختلفًا عن معانيها المتعارفة في تفاسير المسلمين، فالقرآن برأيه يشهد في هذه الآيات بأنّ (الكتاب) موحًى من قِبَل الله العزيز الحكيم ومن ثم فالنص القرآني تفصيل له أي ترجمة عربيّةً له - ؛ ما يعني أنّه فسّر كلمة (تفصيل) بالترجمة إلى اللغة العربية؛ وقد عزّز رأيه هذا بالآية 44 من سورة فصّلت: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَهُ قُرْءَانَّا أَعْجَمِيَّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ عَايَنُهُ وَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبيٌّ﴾. وفي هذا السّياق ادّعى أنّ الكتاب ترجم إلى العربية على هيئة قرآن بواسطة حكيم خبير؛ مستندًا إلى الآية الأولى من سورة هود: ﴿الرَّ كِتَبُ أُحْكِمَتْ وَايَنتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، واعتبر أنّ أهل الكتاب على علم بهذا الأمر، فهم برأيه يعرفون أنّ الله - تعالى - هو الذي ترجم آيات الكتاب إلى العربيّة، ودليله هنا الآية 114 من سورة الأنعام: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَلٌ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.

ومما قاله في هذا الصدد أنّ الوحي حتّى وإنْ تُرجِمَ إلى لغة أخرى، فهو يبقى وحيا؛ من

ص: 271


1- للاطلاع على تفاصيل أكثر حول مضمون هذه الآية، راجع: جعفر نکونام، تفسیر آیه مس در بستر تاريخي، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «مقالات وبررسي ها»، الكتاب رقم 77 (1) علوم القرآن، 2005م، ص 115 - 130.
2- للاطلاع أكثر، راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 665؛ محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 192.

منطلق أنّ الكتاب الذي فصّلت آياته: ﴿كِتَبُ فُصِّلَتْ عَايَتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(1)هو ذات الكتاب المنزل إلى النبي من الله: ﴿فَإِن كُنتَ في شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(2)، فهو مصدِّقٌ ومفضّل له: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(3).

وقد ذكرنا لدى تحليل تفسير الحدّاد للآيات الأولى من سورتي يوسف والزخرف، أنه فسّر كلمة (عربي) المذكورة فيها بترجمة الإنجيل إلى اللغة العربية على هيئة قرآن، وقد عزّز رأيه هذا بالآيات الأولى من سورتي هود وفصلت، حيث استدلّ منها على ما يلي: القرآن ليس كتابًا سماويا موجودًا عند الله، بل هو كتاب الله في الأرض، والكتاب الموجود في السماء هو التوراة؛ وفي ما يلي نتطرّق إلى شرح هذا الرأي وتحليله:

أ- الآية الأولى من سورة هود:

قال - تعالى - : ﴿الركتَبُ أُحْكِمَتْ ءَايَتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير﴾(4).

استدل يوسف درّة الحدّاد من ظاهر ألفاظ هذه الآية على أن الوحي مختص بالكتاب، بينما التفصيل مختص بالقرآن، لذا يمكن اعتبار الكتاب المذكور في هذه الآية هو ذلك الموجود بين يدي أهل الكتاب، في حين أنّ القرآن مجرّد مفضّل له(5).

والشائع بين المفسّرين المسلمين تفسير عبارة ﴿أُحْكمت اينُهُ﴾ بإحكام آيات القرآن الكريم وحصانتها من النقص والخلل(6)، وعلى ضوء هذا الرأي اعتبروا الحرف (ثمّ) لا يشير إلى العطف بانفصال؛ وهناك مفسّرون اعتبروا الإحكام -هنا- بمعنى إتقان الشيء؛ بحيث يبقى مصونا من

ص: 272


1- سورة فصلت، الآية 3.
2- سورة يونس، الآية 94.
3- سورة يونس، الآية 37. للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 333 - 334
4- سورة هود، الآية 1.
5- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 333 - 334
6- محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2، ص 377. للاطلاع أكثر، راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11، ص 200.

طروء أي خلل عليه واعتبروا التفصيل بمعنى تنوّع الآيات والتفكيك في ما بينها وبيانها؛ بينما ذهب آخرون إلى تفسير ﴿أُحْكِمَتْ﴾ بأنها من مشتقات الحكم؛ ما يعني أنّ الكتاب ذو حكمة؛ كما أن بعض التابعين؛ من أمثال: قتادة، قالوا: أحكمت آياته من الباطل، ثمّ فصلت عن طريق بيان الحرام والحلال(1).

وعبارة ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ تعني اشتمال القرآن الكريم على مواضيع متنوعة ومنفصلة عن بعضها، مثل: التوحيد، والأحكام الشرعيّة، والمواعظ، والقصص، أو أنّها تعني صياغته من قبل الله -تعالى- على هيئة أجزاء وسور وآياتٍ؛ بحيث أنزله تدريجيًّا لا دفعةً واحدةً؛ وبعض التابعين فسّروها بأنّه يميّز بين الحق والباطل - يفصل بينهما - ويعرّفهما للناس؛ بينما فسّرها البعض بمجيء الآيات واحدةً تلو الأخرى(2).

ولم يذكر أصحاب هذه الآراء براهين تثبت صوابيّة تفاسيرهم، وفي هذا السياق فسّر الحرف (ثمّ) بالإشارة إلى العطف بفاصلةٍ زمنيّةٍ - التراخي - لذا فهو يحكي عن وجود مرحلتين زمنيتين نزل خلالهما القرآن الكريم، ففي المرحلة الأولى نزل على هيئة حقيقة بسيطة ومحكمة وموحدةٍ؛ ليبقى في اللوح المحفوظ، أو في قلب النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وفي المرحلة الثانية تجلّت هذه الحقيقة النورانية على هيئة تفصيل وأجزاء، في رحاب نزولها عليه على مر الزمان(3).

ونستشف من مضمون هذه الآية أنّ القرآن الكريم مرّ بمرحلة الإحكام التي لم يظهر فيها للبشر، لكنّه تجلّى لهم في المرحلة الأخرى، واتضحت آياته بشكل مفصل، وتجدر الإشارة - هنا- إلى أنّه في كلا المرحلتين - مرحلة اللوح المحفوظ، ومرحلة النزول - محكم وفيه آياتٌ، وفي عين وحدته بوصفه كتابًا سماويا هو يتضمّن معاني متنوّعةً، إذ لو لم يتصف بذلك في المرحلة الأولى لما أمكن تفصيله في المرحلة الثانية؛ لذا يمكن تشبيهه في هذه الحالة بالنطفة التي تشمل جميع خصائص الإنسان، ومن ثم تظهر على أرض الواقع بهذه الخصائص التي كانت كامنةً فيها، ومن هذا المنطلق يمكن تفسير الإحكام -هنا- بأنّه يعني الحقيقة البسيطة للقرآن حينما كان مكنونا في اللوح المحفوظ.

ص: 273


1- راجع: محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 446.
2- راجع: م. ن، ص 214.
3- راجع: يعقوب جعفري، تفسير كوثر (باللغة الفارسية)، إيران ،قم، منشورات هجرت، الطبعة الأولى 1997، ج 5، ص 167.

وقد فسره العلامة الطباطبائي الأحكام بنحو لا نظير له، حيث عدّه في مقابل التفصيل؛ بمعنى إيجاد فاصلة بين الأجزاء المترابطة مع بعضها لأحد الأشياء، وهنا يراد من التفصيل الفصل بين الأمور المتداخلة مع بعضها. وبناءً على هذا المعنى للتفصيل، فإنّ إحكام الآيات يعني عدم فصلها عن بعضها، وإيجاد ارتباط بين عددٍ من الآيات المنفصلة عن بعضها، وإرجاع آيات إلى آيات أخرى على نحو إرجاع الكلّ إلى أمرٍ واحدٍ يتّصف بالبساطة، وليس مكوّنًا من أجزاء عدّة(1).

إذَا، هؤلاء المفسّرون يعتبرون القرآن الكريم ذا حقيقةٍ واحدةٍ ومضمون موحد؛ لا أجزاء فيه ولا فصول .

ويفيد الحرف (ثمّ) في هذه الآية بأنّ التفصيل الموجود في القرآن يأتي في المرحلة الثانية من حيث الرتبة بالنسبة إلى كونه محكَمًا ، حيث طراً التفصيل على إحكامه مباشرةً، وكما هو معلوم فالإحكام والتفصيل مرتبطان بمعاني الآيات، إذ إنّ معاني كتاب كهذا تضرب بجذورها في أصل واحدٍ وإن أمعنا النظر في هذا الأصل لألفينا تفاصيل القرآن كامنةً فيه، ولو استخلصنا هذه التفاصيل لوجدنا فيها ذلك الأصل نفسه أيضًا؛ ما يعني أنّ الآيات مع اختلاف مضامينها وتنوّع أهدافها، هي في الواقع ذاتُ معنى واحدٍ بسيط لا أجزاء لها ولا يمكن تبعيضها، ومن ثم فهي تتمحور حول هدف واحدٍ إذ كلّ آية تذكر موضوعًا معيّنا، وفي الحين ذاته يراد منها هدف معيّن؛ هو كالروح الكائنة في باطن جميع الآيات، والتي تحكي عن حقيقة واحدة يُراد بيانها؛ وهذه الحقيقة تعتبر البنية الأساس والمضمون المحوري لجميع المعاني والتفاصيل في جميع فروع الآيات(2)؛ لذلك لا بد من تفسير (ثمّ) بأنّه حرف عطف يشير إلى الترتيب مع التراخي؛ أي التراخي بحسب ترتيب الكلام لا التأخّر والتراخي الزماني، إذ لا معنى للتقدّم والتأخر الزماني بين المعاني المختلفة؛ من حيث كونها أصليةً أو فرعيّةً، ولا من حيث إجمالها وتفصيلها(3).

ويحتمل أن تكون كلمة (كتاب) في هذه الآية بمعنى هذا القرآن الموجود بين أيدينا بسُوَره وآياته، أو اللوح المحفوظ، أو القرآن المحفوظ في اللوح المحفوظ؛ وهو ما أكد عليه العلّامة محمد حسين الطباطبائي بقوله: «المراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسم إلى السور

ص: 274


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 136
2- راجع: م. ن، ج. ن، ص. ن.
3- راجع: م. ن، ج. ن، ص 137.

والآيات، ولا ينافي ذلك ما ربّما يُذكّر أنّ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح، فإنّ هذا الكتاب المقروء متّحد مع ما في اللوح اتحاد التنزيل اتحاد التنزيل مع التأويل»(1).

ولم يؤيّد بعض المفسّرين هذا الكلام في تفسير كلمتي الإحكام والتفصيل، حيث اعتبروهما تشيران إلى هيئة القرآن ومضمونه، وعلى الرغم من اعترافهم بصوابية رأي العلّامة من الناحية العقديّة والأخلاقيّة والعمليّة، وانسجامه مع مبادئ التوحيد الخالص، إلا أن سياق الآيات لا يحتمل المعنى الذي طرحه، فضلا عن عدم تناغمه مع القواعد اللغويّة؛ فهو -كما ذكرنا- جعلهما في مقابل بعضهما؛ وهذا يعني أنّنا أمام أمرٍ كلّي نروم بسطه وتفصيله، وقد ذكر هذه الفرضية؛ نظرًا لوقوع الكلمتين في موضع واحد.

اِذَا، رَفَض هَؤلاءِ المفسّرون ما ذهب إليه العلامة في تفسير قوله - تعالى -: ﴿أُحْكِمَتْ ءَايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾؛ لأنّ الإحكام بمعنى إتقان الشيء، ومعناه الوصفي للقرآن هو إتقان كلماته وعدم وجود أي خلل في منظومة آياته التي تدلّ على معان واضحةٍ، والتفصيل يُراد منه توضيح ما فيه من أفكار بأسلوب مبسوط وواضح. إذًا، القرآن واضح ومتقن بمجمله من حيث دلالته على المعاني والمفاهيم المطروحة في آياته وعباراته وألفاظه، وهو كذلك واضح ومتقن على صعيد بيانه تفاصيل هذه الآيات والعبارات والألفاظ، وبالتالي لا يوجد غموض وتعقيد فيه؛ وعلى هذا الأساس نستشف من سياق هذه الآية موضوع البحث وغيرها، أنّها تحكي عنالجانب الفنّي للآيات من ناحيتين:

- من الناحية الشكليّة المشتملة على تركيب الكلمات وتأليفها؛ أي أن القرآن تم بيانه بشكل متقن يجعله منزّهاً من كلّ نقص؛ من حيث اتّزان حركته وتكامله فنّيًّا.

- من ناحية المضمون الذي يشتمل على التفاصيل والجزئيّات الخاصّة بالأفكار المطروحة فيه وطريقة بيانها، فكلّ حكم ومفهوم يطرحه القرآن للناس، عارٍ من كلّ خفاء وغموض.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ نستنتج أنّ ذِكْر الإحكام والتفصيل في سياق واحدٍ يُراد منه إضفاء صبغة بلاغيّة على النصّ القرآني، والإشارة إلى دقة الأسلوب القرآني في بيان مواضيع آياته(2).

ص: 275


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 137.
2- راجع: محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، ج 12، ص 10.

وممّا يؤيّد ذلك: الأوصاف التي أطلقت على القرآن بأنّه ذو طابع متشابه (مثاني)؛ وذلك في قوله - تعالى -: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَبًا مُّتَشَبِها مَثَانِيَ نَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾(1). أضف إلى ذلك فالآية ختمت بعبارة: ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾والتي ينسجم فحواها مع المعنى المراد من الإحكام ( حكمت)، حيث تشير إلى إتقان الفعل الإلهيّ، وهذا ما أكّد عليه العلامة الطباطبائي نفسه حينما قال: «قوله -تعالى-: ﴿مِن لَّدُنْ خبير﴾ - الحكيم من أسمائه الحسنى الفعليّة، يدلّ على إتقان الصنع، وكذا الخبير من أسمائه الحسنى، يدلّ على علمه بجزئيات أحوال الأمور الكائنة ومصالحها؛ وإسناد إحكام الآيات وتفصيلها إلى كونه - تعالى - حكيمًا خبيرًا لما بينهما من النسبة»(2).

وقد أكّد السيد قطب في تفسيره على أنّ الإحكام المذكور في الآية الأولى من سورة هود التي هي في صدد إثبات الوحي والرسالة بمعنى إتقان آيات القرآن الكريم وعدم طروء خلل ونقص فيها بقوله: «﴿أُحْكِمَتْ ءَايَتُهُ﴾فجاءت قويَّةَ البناء دقيقة الدلالة، كل كلمة فيها وكلّ عبارة مقصودة، وكلّ معنى فيها وكلّ توجيه مطلوب، وكلُّ إيماءة وكلّ إشارة ذاتُ هدف معلوم، متناسقةً لا اختلاف بينها ولا تضارب، ومنسقةً ذاتَ نظام واحدٍ. ثم فصلت فهي مقسمةً وفق أغراضها، مبوّبةٌ وفق موضوعاتها، وكلٌّ منها له حيّز بمقدار ما يقتضيه. أما من أحكمها ومن فصلها

على هذا النحو الدقيق؛ فهو الله - سبحانه - وليس هو الرسول: ﴿مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾»(3).

وبذلك يثبت لنا ممّا ذُكِرَ أنّ الكتاب في هذه الآية لا يُراد منه التوراة والإنجيل، كما أنّ التفصيل لا يُقصد منه ترجمتهما إلى العربية.

ب- الآية الثالثة من سورة فصلت:

قال - تعالى -: ﴿حم(1)تَنزِيلُ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)كِتَبُ فُصِّلَتْ عَايَتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)﴾(4).

ص: 276


1- سورة الزمر، الآية 23.
2- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 136.
3- سید قطب، في ظلال القرآن، ج 4 ص 1854.
4- سورة فصلت، الآيات 1 - 3.

سورة فصلت نزلت بعد أن أنكر الكفّار الكتاب الذي أُنزِلَ إليهم؛ أي القرآن الكريم(1)، حيث تؤكّد على هذا الموقف ابتداءً من آياتها الأولى، ثمّ يتكرّر هذا التأكيد بين آيات عدة؛ والمعنى الظاهر للآية الثالثة هو أنّ الكتاب هو القرآن ذاته، ويؤيّد ذلك مضمون الآية 26 التي أشارت إلى ردّة فعل الكفّار إزاءه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا هَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ ، ثمّ تكرّر هذا التأكيد للمرة الثالثة في الآية 40: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي عَايَتِنَا لَا يَخفُونَ عَلَيْنَا ... بعد ذلك تلاها المضمون نفسه في الآية 41: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِكرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَبُ عَزِيزٌ﴾ . وفي أواخر السورة ضمن الآية 52 بالتحديد جاء التأكيد على أنّ القرآن من عند الله -عز وجل-: ﴿قُلْ أَرَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.

وجدير بالذكر -هنا- أنّ كلمة (تنزيل) في الآية الثانية خبر لمبتدأ محذوف، وهي مصدر يفيد اسم المفعول، لذا يقدّر معنى الآية بالتالي: هذا الكتاب منزل من الرحمن الرحيم، وقوله -تعالى-: ﴿كِتَبُ فُصِّلَتْ عَايَتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ في محلّ رفع خبر؛ أي إنّها خبر بعد الخبر الأوّل (تنزيل)(2).

وعبارة: ﴿قُرْءَانًا عَرَبيّا﴾ في محلّ نصب حال للكتاب أو لآياته، وعلى هذا الأساس تفسّر الآية بالتالي: كتاب فصّلت آياته للناس؛ كي يعرفوا معانيها؛ لأنّ لغتهم اللغة نفسها التي أنزل بها القرآن، وهي العربيّة(3). وقد فسر بعض المفسرين (فصلت) حسب المعنى المتعارف للتفصيل، أي أنّها تعني بيان الوعد والوعيد الإلهي للمؤمنين والكافرين، وهو ما تبنّاه الفخر الرازي لدى تفسيره الآيات 1 إلى 8 من هذه السورة؛ وبالتالي تعني تفكيك آيات القرآن وبيان معانيها، حيث قال: «قَوْلُهُ (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) وَالْمُرَادُ أَنَّهُ فُرِّقَتْ آيَاتُهُ وَجُعِلَتْ تَفَاصِيلَ فِي مَعَانِ مُخْتَلِفَةٍ فَبَعْضُهَا فِي وَصْفِ ذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى- ، وَشَرْحٍ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ، وَشَرْح

ص: 277


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 359. معظم السور التي أشارت إلى عربية القرآن الكريم، هي مكّية في نزولها؛ مثل: سوري يوسف والزخرف، حيث نزلت في بداية الدعوة الإسلامية؛ حينما اتخذ العرب موقفاً مناهضاً للإسلام وعارضوه بشدّةٍ؛ لدرجة بلغت العداء المعلن. للاطلاع أكثر، راجع: (أحمد عمران، الحقيقة الصعبة في الميزان ،لبنان، بيروت، منشورات الأعلمي للمطبوعات، 1995م، ص 185).
2- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 359.
3- راجع: م. ن، ص 360.

كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَجَائِب أَحْوَالِ خلقه السموات وَالْأَرْضَ وَالْكَوَاكِبَ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهَا فِي أَحْوَالِ التَّكَالِيفِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْقُلُوبِ وَنَحْوَ الْجَوَارِحِ، وَبَعْضُهَا في الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أَهْلِ الْجَنَّةِ وَدَرَجَاتِ أَهْلِ النَّارِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَبَعْضُهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَرِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَبَعْضُهَا فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَتَوَارِيحَ الْمَاضِينَ»(1).

لا شك في أنّ الاستنتاجات المنحازة المطروحة من قِبَل يوسف درّة الحدّاد لا تقوم على أسس البحث العلمي الصائبة؛ لكونها مشوبةً بالتناقض، وقد توصل إليها على ضوء تصوّره أنّ القرآن نسخةً عربيّةً من الكتاب المقدّس، فقد ادّعى أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان على ارتباط بأهل الكتاب ودرس عندهم، ثمّ ترجم النص القرآني من التوارة والإنجيل(2)، بينما قال في موضع آخر إنّ الله -تعالى- لم يُنزل سوى أربعة كتب سماويّة؛ هي توراة موسى، وإنجيل عيسى وزبور داوود، وقرآن محمد(3). واللافت للنظر أنّه حاول وضع حلَّ لهذا التناقض في الرأي عبر تفسير الآية 13 من سورة الشورى بشكل غريب، حيث قال إنّ الوحي على ثلاثة أنواع، ونوعه الثالث هو مجيء ناقله من جانب الله إلى النبي وهكذا كان يوحى إلى النبي محمد(4)، وهذا أدنى أنواع الوحي - برأيه. وهذا الكلام يواجه بأسئلة عدّة هي: إذا كان الوحي يأتي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)عن طريق جبرائيل، فما هو الدليل إذًا على كون القرآن مستوحى من الكتب السالفة؟! ألا يتناقض هذا القول مع المدّعى السابق الذي زعم فيه أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)درس عند علماء أهل الكتاب وتعلّم الترجمة والنقل من المزامير وسائر كتبهم ؟! وهل يمكن ادّعاء أنّ أمين الوحي جبرائيل درس -أيضًا- عند علماء أهل الكتاب، ثمّ أوحى للنبي ما تعلّمه منهم؟! أو هل امتلك النبي مصادر عربيّةً للكتب التي ادعيتَ أنه اقتبس منها قرآنه ؟!(5).

ص: 278


1- محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 538. للاطلاع أكثر، راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 124.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 21.
3- راجع: م. ن، ص 4 و 23.
4- راجع: م. ن، ص 26.
5- أكد المستشرق الألماني غيرهارد بويرنغ (Gerhard Bowering) في مقالته ضمن الموسوعة القرآنية على عدم وجود أي دليل يثبت أن نسخةً كاملةً مترجمة من الكتاب المقدّس كانت عند العرب إبان نزول القرآن الكريم، لذلك لا يمكن ادّعاء أنّه مستوحى من نسخة كهذه. Cf. Gerhard Bowering," Chronology the Quran", in EQ, Vol. 1, p. 316.

المبحث الثاني: "الكتاب" عبارة عن رمز لنصَّ مواز يقابل "الكتاب"؛ بمعنى المصحف:

تطرّق عدد من المستشرقين إلى شرح بعض المفاهيم القرآنية وتحليلها؛ مثل الكتاب، وأمّ الكتاب، والتفصيل على ضوء الإحالة الذاتية للقرآن، وقد تمحورت بحوثهم بشكل أساس حول تفسير مصطلح الكتاب؛ نظرًا لطرح احتمالاتٍ عديدةٍ في تفسيره؛ وقال أحد الباحثين في هذا الصدد: «كلمة الكتاب في القرآن؛ كأنّها ترمز إلى مفهوم ينمّ عن تصوّر ديني معيّن محاط بهالة من القدسيّة؛ بحيث حظي بأهمية بالغة؛ لأنّها في السّياق القرآني لها ارتباط وطيد بتصوّر وحي السماء وبتصوّرات أخرى متنوّعة مرتبطة -أيضًا- بالوحي بشكل مباشر؛ فهذه الكلمة البسيطة التي تعني القرطاس المدوّن والرسالة المدوّنة، بعد أن طُرحت في المنظومة القرآنية واتسمت بطابع خاص، شهدت جوانب سيميولوجيةً جديدةً منبثقةً بأسرها من هذا الطابع الخاص ومن أواصر ارتباطها بتصوّرات ومفاهيم المنظومة القرآنية. كلمة الكتاب فور طرحها المنظومة القرآنية، ارتبطت بنحو خاص ببعض الألفاظ القرآنية الأساسيّة؛ مثل: الله، والنبي ،والتنزيل، والوحي، وأهل الكتاب، وهذا الارتباط أضفى عليها صبغةً سيميولوجيةً مميّزةً»(1).

إذًا، ليست هناك ملاحظات عجيبةٌ بالنسبة إلى كلمة الكتاب في القرآن الكريم، إلا أنّ المستشرقين اعتبروها تدلّ على المصحف، لذا فهو غير ما هو موجود اليوم بين يدي المسلمين على هيئة كتاب مدوّن؛ لأنّ الاستخدام القرآني للكلمة والسّياقات التي ذكرت في رحابها يدلان على أنّ المراد من الكلمة إذا كان ذلك الكتاب السماوي، ففي هذه الحالة هناك موارد محدودةً ينطبق فيها مع المعنى الخارجي للكلمة(2).

ويرى هؤلاء المستشرقون أنّ كلمة الكتاب المذكورة في الآيات الأولى لبعض السور القرآنية وفي سائر الآيات، لها مفهوم في ما وراء النصّ القرآني - مواز للنص القرآني- ولا يحال ذاتيا إليه، ومن هذا المنطلق استنتجوا أنّه لا يعني المصحف، لذا فهي لا تدلّ على هذا القرآن الموجود اليوم بين يدي المسلمين؛ على الرغم من أنّ غالبيّة المفسّرين المسلمين فسّروها هكذا. ولعلّهم

ص: 279


1- توشيهيكو إيزوتسو، خدا و انسان در قرآن (باللغة الفارسية) ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام ،إيران، قم، منشورات مكتب الثقافة الإسلامية 1989م، ص 14 - 15.
2- William A. Graham, "Orality Writing in Arabia", in EQ. Vol. 3. edited by Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, New York Koln: E. J. Brill. (2003), p. 591.

طرحوا هذا الاستدلال على ضوء اعتقادهم بشفهيّة القرآن الكريم، إذ بادروا إلى تفسيره وفق ] هذا الاعتقاد(1)؛ وكما هو معلوم فقد فكّكوا بين شفهيته وبنيته المدوّنة، وفي هذا السياق أكدوا على أنّ القرآن المسموع - الشفهي - كان يحظى بأهمية بالغة بين المسلمين الأوائل؛ لذلك لم يصروا على تدوينه .

وجدير بالذكر أنّ المستشرق دانيال ماديجان بذل كلّ ما بوسعه لإثبات أن القرآن (المصحف) ليس هو الكتاب ذاته المشار إليه في آياته، وادّعى أنّ إشارته إلى نفسه بعنوان (كتاب) لها مدلول معيّن.

واحتمل بعض المستشرقين أن يكون وصف القرآن نفسه بالكتاب ذا معنى رمزي مواز للنصّ، وأنّه ليس إشارةً إلى أمر آخر أو أنّه يدلّ على النصّ القرآني قبل رواجه بوصفه كتابًا رسميًّا لدى المسلمين، أو ربّما يشير إلى النصوص المقدّسة اليهودية والمسيحية، أو أريد منه إحالةً ذاتيةً إلى جانب مدلول مواز للنص في آن واحدٍ؛ أي أنّ الكتاب في هذه الآيات هو الكتاب ذاته وكذلك ما يرتبط به ويعتقد هؤلاء أنّ القرآن عبارةٌ عن نص فيه إحالة ذاتية؛ بحيث يتحدّث عن نفسه، ولذلك استشهدوا بكلمة الكتاب لإثبات رأيهم هذا.

كما أن البنية اللغوية برأي المستشرق ستيفان فيلد تتضمّن إحالةً ذاتيةً؛ حينما يتمحور مفهومها حول مسألة ارتباطية؛ بحيث تكون تحت تأثير هذا الارتباط وطرفًا فيه(2).

وقد اعتبر المستشرقون استعمال كلمة (كتاب) في القرآن بأنّها مؤشّر على الإدراك والإرجاع الذاتيّين في القرآن وتحكي عن هاجس النصّ القرآني بالنسبة إلى ذاته، والكتاب بهذا الوصف يعتبر مرآةً تعكس عمليّة الوحي واستقبال النص المنزل فيه من قِبَل النبي، وهذه هي الميزة التي تشخّص القرآن عن النصوص المقدّسة اليهودية والمسيحيّة، لذا يمكن اعتباره أكثر النصوص الدينية وعيًا بذاته وأوسعها نطاقًا، على صعيد الإحالة الذاتية، إلى جانب أنّه أحدث من هذه النصوص.

هذا التلاحم الكامن في باطن النصّ القرآني جعله أشبه ما يكون بالنصوص العلمية والأدبية

ص: 280


1- للاطلاع أكثر، راجع: مرتضى كريمي نيا، زبان قرآن تفسير قرآن (باللغة الفارسية)، إيران، طهران منشورات هرمس، الطبعة الأولى، 1392م، ص 7 .
2- Stefan Wild, "Why self referentiality? In Self Referentiality in the Quran, (Wiesbaden: Harrassowitz, 2006), p. 6.

الحديثة وأكثر النصوص المقدّسة وعيًا، وممّا أكّد عليه ستيفان فيلد أنّ خصوصيّة الإحالة الذاتية في القرآن الكريم تنمّ عن وعي نصّه بالتوجّهات اللغوية للعصور اللاحقة؛ وكأنّه تنبأ بها(1).

وهناك مستشرقون عزوا هذه الميزة القرآنيّة إلى كونه كتابًا مفتقرًا إلى قبول مخاطبيه وتأييدهم، حيث قال فيلد في هذا الصدد: «كان القرآن يتلى في بيئة شهدت في الوقت ذاته تلاوة سائر النصوص التوحيديّة المقدّسة اليهوديّة، واليهوديّة المسيحيّة والمسيحيّة إلى جانب نصوص العرب المشركين وتلاوات أخرى محتملة؛ لذا كان ظهور تلاوة (قرآنيّة) عربيّة معتمدًا على بيئة توحيدية تتقبله»(2). إذًا ، من الطبيعي أنّ القرآن الكريم في أجواء كهذه ينبغي له. بيان هويّته والأسلوب الذي يتيح للمخاطب فهم مضامينه، ومن هذا المنطلق لا بد له من إقناع قرائحَ متنوّعة بأنّه كلام الله حقًا، وقد نزل إلى العرب بواسطة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(3).

ويعد التناص - التعالق النصّي - أو الارتباط بين القرآن والكتاب المقدّس اليهودي المسيحيّ مرتكزا لتحقق ارتباط تأريخي في ما بينهما وحدوث تشابه مقصود وتلاقح متبادل ومتواصل ومتوال ومتواكب ذي طابع تنافسي؛ وهذا الارتباط الذي يمكن وصف القرآن على ضوئه؛ كالابن للكتاب المقدّس، يُعدّ سببًا لإيجاد إحالة ذاتيّة في نصّه(4).

وأحد جوانب الإحالة الذاتية في القرآن الكريم هو ارتباطه بالنبوّة وانبثاقه من مصدر ميتافيزيقي، حيث خُوطب النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بنداء غيبي وطلب بنداءٍ غيبيٌّ وطُلب منه إعلام الناس بشخصيته وطبيعة تلاوة النصّ الذي يبلغه لهم وواقع النصّ ذاته(5)، وهذه الميزة القرآنية عادةً ما تظهر(6)في بيئة حواريّة متفاعلة(7).

واعتبر دانيال ماديجان الإرجاع الذاتي في القرآن الكريم إرجاعًا إلى الغير بنحو ما، وعلى

ص: 281


1- Ibid., pp. 24; See Also William A. Graham, "Scripture the Quran", in EQ, Vol. 4, edited by Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, New York Koln: E. J. Brill. (2003), p. 561
2- Stefan Wild, Ibid., p. 4.
3- Madigan, Self image, fn 1, p. 62.
4- Stefan Wild, Ibid., p. 20.
5- Ibid., p. 5.
6- Ibid., p. 23.
7- Performative dialogical setting.

هذا الأساس استنتج عدم إمكانية تعيين هويّته الذاتية على نحو القطع واليقين، فالقرآن لدى تعريفه ذاته عن طريق الإحالة إلى الغير يُعدّ بالضرورة محاكيًا له(1). وقد تبنّى ماديجان فكرةً تتباين مع الاستدلالات المتعارفة بين المفسّرين المسلمين ادعى على أساسها عدم إمكانية تعيين هوية هذه الذات - القرآنية - على نحو القطع واليقين، وقال في هذا الصدد: «على الرغم من أنّ السنّة شاءت تحديد هذه الذات في نطاق المصحف، إلا أن تعيين مدلولها متوقف على ذكر إيضاحات أتمَّ وأكمل، وهو ما يتطرّق النص نفسه إليه»(2).

ويعتبر (الكتاب) من وجهة نظر المستشرقين اصطلاحًا محوريًا تتبلور فيه الرؤية القرآنية بالنسبة إلى القرآن نفسه، إذ اعتبروه مصطلحا غامضًا على المفسّرين، وفي هذا السياق ذكروا العديد من الأسباب التي أسفرت عن حدوث غموض كهذا في مدلوله؛ ومن جملتها: أنّ قارئ النص القرآني أو مستمعه يصغي إليه؛ بوصفه نصَّا مغلقًا؛ بحيث لا يلاحظ وجود أي ارتباط بين الصيغ المكرّرة لهذا المصطلح(3).

وحينما نمعن النظر في آراء ماديجان وسائر المستشرقين، نستشف منها أنّهم يعتقدون بوجود اختلاف بين القرآن والمصحف، وقد توصلوا إلى هذه النتيجة على ضوء الأساليب النقديّة التي اتبعوها ضمن دراساتهم التي دوّنوها حول المسيحيّة، وفي مقارناتهم بين تدوين القرآن ومراحل تدوين الكتاب المقدّس، إلى جانب اتباعهم أساليب نقدية إزاء القرآن بالارتكاز على أسس كتابهم المقدّس، أو أنّهم استنتجوا ذلك اعتمادًا على فحوى بعض الروايات التي تتحدّث عن جمع النصّ القرآني وتدوينه بعد فترة طويلة من نزوله.

وقد طوى النصّ القرآني برأي بعض المستشرقين ثلاث مراحل تطوّرية؛ ليتبلور في نهاية المطاف على هيئة كتاب، وقد توصلوا إلى هذه النتيجة عن طريق مقارنة مسيرته التكوينية وعملية تدوينه مع النصوص المقدّسة اليهوديّة المسيحيّة، وكذلك على ضوء المقارنة بين كيفيّة تحوّله وتحوّل النصوص المسيحيّة المقدّسة إلى مصدرين رسميين لدى المسلمين

ص: 282


1- a self - in - conversation
2- Daniel A. Madigan, "The limits of Self Referentiality", in Self Referentiality in the Qur'an, edited by Stefan Wild, Wiesbaden: Harrasowitz, 2006, p. 67.
3- Wild, Ibid., p. 20.

والمسيحيين؛ وهذه المراحل هي التالية:

المرحلة الأولى: التلاوة.

المرحلة الثانية: تحوّل التلاوة إلى نسخة عربيّة للنصوص المقدّسة السابقة (غير العربية).

المرحلة الثالثة: تحوّل النسخة العربية للنصوص المقدّسة السابقة إلى كتاب مستقل موحًى إلى جميع الناس ويحظى بأفضليّة على كلّ هذه النصوص؛ بحيث جرّدها من فاعليتها الدينية(1).

ويعتقد بعض المستشرقين؛ من أمثال: ماديجان أنّ معنى كلمة (الكتاب) المذكورة في القرآن الكريم ذو ارتباط وطيد بالبنية التأريخية والخلفيات التأريخية بشكل عام والتي آلت إلى الزوال إلى حد كبير، ومن هذا المنطلق عادةً ما يلجأون إلى تفسيرها بأسلوب لغوي؛ كي يستنتجوا المدلول القرآني المقصود منها، حيث يبادرون - أحيانًا - إلى صياغة بيئة تأريخية افتراضية لا أساس لها؛ بغية إثبات صوابية استدلالهم، لذلك يفنّدون آراء الكثير من المفسّرين؛ بزعم أنها لا تتناغم مع مضمون الآية التي يتمحور حولها البحث، ومن ثمّ يصفون بعض المصطلحات التخصّصيّة - مثل القرآن والسورة والآية - بأنّها ذات معان غامضة وموهمة(2). هذا الغموض برأيهم لا يُعدّ من الخصائص الذاتية لمصطلح (الكتاب) وما شاكله، بل سببه عمليّة تدوين المصحف والتي اتسمت بسعي المتصدّين للأمر بتعيين مدلول خاص لكلّ كلمةٍ تُدرج في آياته، ومن الطبيعي أنّ الكتاب له معان عديدة؛ لذلك اكتنفه غموض من هذه الناحية(3).

ويتصوّر هؤلاء المستشرقون أنّ المسلمين دوّنوا المصحف في فترة بعيدة جدًّا عن زمان نزول آياته؛ لدرجة أنّ معاني مصطلحاته تختلف عن تلك المعاني الأولى الملحوظة في نزول آياته، وهذا التصوّر كما أشرنا آنفًا؛ لعلّه متأثر ببعض الروايات المرتبطة بمسألة جمع القرآن في وقت متأخّرِ ضمن مصحف، فهذه الروايات باتت ذريعةً لتأكيدهم على شفهيّة القرآن بشكل مبالغ فيه، وادّعاء أنّ مفهوم مصطلح (الكتاب) الذي تكرّر ذِكْره فيه لا يحكي عن القرآن الموجود بين يدي المسلمين على هيئة مصحف.

ص: 283


1- Ibid.; See also Madigan, Self image, fn 1, p. 62.
2- Wild, Ibid., p. 12.
3- Ibid., p. 20.

فضلًا عن ذلك أنّنا لو ألقينا نظرةً عابرةً على أقدم قواميس اللغة العربية، سنلاحظ أنّ كلمة (كتاب) ذاتُ معان عديدة ومتنوّعة الاستعمال في مختلف النصوص؛ لذا لا صوابية لما استنتجه هؤلاء المستشرقون؛ لكونه يتعارض مع مبادئ البحث العلمي القويم، حيث أضفوا على معظم جوانب النصّ القرآني طابعًا تأريخيا واعتبروه تلاوةً وعاملاً مكوِّنًا لأمّة من الأمم(1). ولا نبالغ لو قلنا إنّ أهمّ نقطة ضعفٍ في هذه الاستنتاجات هي ارتكازها على فرضيات فحواها أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يتصدَّ إلى تدوين القرآن جرّاء مشاغله الكثيرة التي منعته من التفرّغ لهذه المهمّة، لكن الواقع على خلاف هذا المدعى، إذ لو قيل إنّه كان مكلفا بتدوين نصّ رسمي للمسلمين، ففي هذه الحالة لا يوجد أي مسوّغ يبرّر إهماله هذه المهمة الحسّاسة وتأخيرها إلى فترةٍ بعيدة عن زمن نزول الآيات، ومهما كانت مشاغله هامةً وكثيرةً، لكنّها لا تُعدّ مبررًا يدعوه للتخلّي عن تدوين المصحف؛ لذا لا يتناسب هذا الاحتمال مع القواعد العقلية، ولا يمكن توجيهه بأي ذريعة كانت.

ومما ذكره ماديجان في هذا السياق أنّ الآيات المشتملة على لفظ (كتاب) تدلّ على أنّ ما تلاه النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو عبارة عن وحي وفي الحين ذاته تحكي عن مراحل نزوله، كما أنّها توضّح مضمونها بنفسها؛ أي أنّها تتحدّث عن نفسها، حيث قال: «المتكلّم - الناطق عن نفسه - في القرآن لا يشير - فقط - إلى نفسه، وإنّما يتحدّث عن قضايا في ما وراء ذلك»(2).

ويعتقد هذا المستشرق وأمثاله بوقوع المسلمين في خطأ لدى تفسيرهم بعض المصطلحات القرآنيّة؛ ومثال ذلك: مصطلحا (الكتاب) و(القرآن) اللذان فُسّرا بالمصحف، وهو تفسير غيرُ صائبِ برأيهم(3)؛ إلا أنّ الحقيقة على خلاف نظريّتهم هذه؛ لأنّ مفهوم هذين المصطلحين لا يقتصر على المصحف فحسب، بل له ارتباط - أيضًا - بمفاهيم أخرى؛ أحدها: الذات القرآنية التي هي على غرار سائر الذوات والتي لها ارتباط بمفهوم ينم عن كيانٍ أكبر يُطلق عليه اسم (كتاب)، كما له ارتباط بسائر النصوص التي تشترك معه من هذه الناحية(4). أضف

ص: 284


1- Ibid., p. 22
2- Madigan, "The limits of Self Referentiality", p. 63; See Also Idem, "Book", in EQ. Vol. 1, edited by Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, New York Koln: E.J. Brill. (2001), p. 245.
3- Wild, “Why self referetiality", p. 22
4- Madigan, "The limits of Self Referentiality", p. 67

إلى ذلك، فالذات القرآنية منذ نشأتها كانت على ارتباط بأهل الكتاب، لذا يجب في هذه الحالة تأييدهم لها(1).

إذَا، يعتقد ماديجان بأنّ المقصود من مفهوم (الكتاب) المشار إليه في القرآن الكريم لا يرتبط بالمصحف، بل يحكي عن عمليّة متواصلة وفاعلة في تدوين الأحكام الدينيّة على ضوء متطلبات الناس وظروفهم الشخصية والاجتماعية.

واستنتج ستيفان فيلد هو الآخر في بحوثه التفسيرية أن مصطلحي القرآن والكتاب يشيران إلى هويتين سابقتين على رسميّة نصوص الآيات المنزلَةَ على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وربما يشيران إلى النصوص المقدّسة اليهوديّة المسيحيّة(2)؛ واعتبر الكثير من الآيات التي تتضمّن كلمة (كتاب) تتحدّث عمومًا عن نمط العلاقة بين الله والإنسان وبشكل أخصَّ عن واقع العلاقة بين الله والنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وعلاقة الوحي المنزل عليه بالوحي المنزل على سائر الأنبياء الذين سبقوه(3).وعلى أساس هذه الرؤية فالقرآن لا يطرح مسألة (الكتاب) بوصفه مفهومًا مغلقًا ضمن نطاق محدَّدٍ وقابلا للتشخيص والتعريف، بل بوصفه كيانا فاعلا يهدف إلى هداية الناس(4)، وفي هذا السياق وصف ماديجان مفهوم (الكتاب) بأنّه انعكاس لحركة دينية في أساسها تتمحور في غالبيّة جوانبها حول رسالة توحيدية سابقة من قبل اليهود والنصارى حيث تبلورت على هيئة نسخة عربيّة تلقاها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثمّ نقلها إلى مخاطبيه العرب؛ لذا لو تُرجم هذا المصطلح تحت عنوان (النص المقدّس) ففي هذه الحالة سيكون أقرب دلالةً إلى المفهوم المقصود منه، ولكنّ المحذور في هذه الترجمة أنها قد تجعل القراءة القرآنية للنصّ المقدّس على غرار القراءة اليهوديّة المسيحيّة له، في حين أنّ القرآن يتضمّن فهما خاصا به على صعيد تدوين كلام الله(5)؛ كما أنّ وصفه نفسه ب_ (الكتاب) ليس فيه أي إشارة إلى هيئته وبنيته وطريقة نزوله، وإنّما يشير إليه باعتباره انعكاسًا وتجسيدًا لعلم الإله وقدرته، فيلبي حاجة البشر على مرّ العصور؛ وفقًا لمقتضيات كل زمان وظروفه.

ص: 285


1- Ibid
2- Wild, Ibid., p. 22.
3- Madigan, Self image, fn 1, p. 62.
4- Idem., "Book", p. 247.
5- Ibid.

إذَا القرآن وفق هذا الرأي لا يتفاعل مع مخاطبيه بوصفه نصًا قد صِيْغَ سابقًا، بل يعتبر نفسه نصًا يتبلور فيه الكلام القاطع والموثّق للربّ في الوقت الحاضر.

وقد حاول هذا المستشرق إثبات صوابية نظريّته على ضوء بعض المعالم البلاغية للنصّ القرآني؛ مثل: استخدام كلمة (قل) ، وفي نهاية المطاف أكّد على أنّ (الكتاب) لا يُراد منه نص مغلق، حيث فسّره على ضوء اعتقاده بشفهيّة القرآن بأنّه يضرب بجذوره في زمن سابق لتدوين النص القرآني(1).

وكذلك ادّعى أن مفهوم مصطلح (الكتاب) في القرآن ذو طابع مجازي أكثر من كونه حقيقيًّا؛ مستندًا في هذا الرأي إلى كثرة الاستعمال المجازي للفعل (كَتَب) من قِبَل المفسرين حيث استخدموه للدلالة على ما تدلّ عليه الأفعال (أمر وحفظ وحسب وفرض)(2). وهناك رأي آخرُ في مقابل هذا الرأي، لكنّه لا يبدو صائبًا في مجال بيان موارد استعمال هذا المصطلح، إذ فيه ما هو مقبول وما ليس كذلك، وسوف نتطرّق إلى بيان تفاصيله في ما يأتي.

وقبل الخوض في تفاصيل البحث نشير إلى أنّ ماديجان ضمن تحليله مفهوم مصطلح (الكتاب) اعتمد على أسلوب سيميولوجي ذي طابع زمني، ولدى بيانه المراد القرآني من ذكر هذا المفهوم في الآيات الأولى لبعض السور التي تتحدّث عن طبيعة الوحي ونزوله، تطرّق إلى بيان كلمات أخرى متناسقة معه؛ والأسلوب الذي اتبعه في هذا الصعيد قائم على خلفياته الفكرية، وعلى هذا الأساس قال إنّه لا يمكن تحديد مدلول هذا المفهوم عن طريق ترجمته أو مراجعة المعاجم اللغويّة، لذا لا يمكن اعتبار الكلمة المترجمة له بديلة عنه بالتمام والكمال. وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ بعض المصطلحات القرآنية مكرّرة وذاتُ معان متنوّعة، حيث تتنوّع مداليلها في رحاب استعمالها مفردةً أو مركبةً مع كلمات أخرى، وهذا الأمر بطبيعة الحال له ارتباط بموضع ذِكْرها في كلّ آيةٍ وسورة.

يدلّ الفعل (كَتَب ) فى اللغة العربيّة على ارتباط الأجزاء المكوّنة لأمر ما، واستعماله مجازا للدلالة على الكتابة عن طريق ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعضها الآخر بالخطّ، وهو

ص: 286


1- Ibid., PP. 250 - 251.
2- Ibid., p. 245.

ما أشار إليه الراغب الأصفهاني بقوله: «ضمّ الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وقد يُقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ فالأصل في الكتابة: النظم بالخطّ لكن يستعار كلّ واحد للآخر، ولهذا سمّي كلام الله - وإن لم يكتب - كتابًا، كقوله : ﴿الم(1)ذَلِكَ الْكِتَبُ ...﴾ [البقرة / 1 - 2]، وقوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ اتَننِيَ الْكِتَبَ وَجَعَلَنِي نَبيّا﴾ [مريم / 30](1). وأضاف أنّ (الكتاب) يتضمّن جُملا مدوّنةً إلى جانب بعضها، كما أنّ الأمر يُعدّ نوعًا من الكتابة لأنّ الأمر يبادر إلى جمع الحروف والألفاظ مع بعضها؛ والكتاب يسمّى بالعربيّة كتابًا؛ نظرًا لجمع صفحاته في مجموعة واحدة(2).

ويُعد الكلام في أساسه حاجةً فطريّةً لدى الإنسان، وهو قائمٌ على الوضع المتفق عليه بين أهل اللغة، وممّا قاله العلامة الطباطبائي في هذا الخصوص: «مفردات اللغة إنما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات؛ من الأمور الجسمانية ابتداءً، ثمّ انتقل تدريجًا إلى المعنويات وهذا وإن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالًا مجازيًّا ابتداءً، لكنّه سيعود حقيقةً بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر ، وكذلك ترقّي الاجتماع وتقدّم الإنسان في المدنيّة والحضارة يوجب التغيّر في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية والتبدّل فيها دائماً، مع بقاء الأسماء، فالأسماء لا تزال تتبدّل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتبة»(3).

ونستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ المعنى المتبادر من كلمة (كتاب) هو الألفاظ المدوّنة بالقلم على صفحات، حيث تنتظم فيها مجموعة من المواضيع في إطار سطور مكتوبة يدويًا أو مطبوعة آليَّا، إلا أنّ معناه تطوّر ليُطلَق على كلّ شيءٍ تُدرج فيه المعاني، وهذا التطوّر الدلالي طرأ -أيضًا- على كلام الله - تعالى - ليُطلَق في القرآن الكريم على الوحي المنزل على الأنبياء، ولا سيّما الوحي التشريعي، حيث سُمّي كتابًا؛ والكتاب الموحى يراد منه أمر سماوي أُدرجت فيه سلسلةً من الأحكام والوقائع .

إذَا، كلمة (كتاب) إمّا أن يراد منها الكتب السماويّة المنزلَةَ على الأنبياء؛ مثل: كتاب

ص: 287


1- حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان داوودي، كلمة (كتب).
2- للاطلاع أكثر، راجع: م. ن.
3- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 9 - 11؛ج 2، ص 316.

نوح، وصحف إبراهيم وموسى، وإما أنّها تعني الكتاب المبين المشتمل على جزئيات المنظومة الكونية التي لا تتغيّر الحقائق المسجّلة فيه، أو ربّما فيه جزئيّاتٌ عرضةً للتغيّر والتحوّل، أو أنه بمعنى السلوكات الفردية والجماعية المرتبطة بإحدى الأمم. هذه الكلمة لم تُستخدم في القرآن الكريم للدلالة على مفهوم آخرَ غير هذه المفاهيم الثلاثة؛ باستثناء تلك الموارد التي أعتبر فيها بأنّه الكتابة بالقلم(1).

واستنادًا إلى هذه الاستعمالات القرآنية لمصطلح (الكتاب) ضمن مختلف الآيات، يمكن تحديد معناه ضمن مدلولين أساسيين وفق التالي:

الأوّل: المعنى الملموس والمتعارف المشار إليه في الآيات التالية: سورة الأنعام، الآية 7؛ سورة البقرة، الآية 282؛سورة الطور، الآيتان 41 و 42؛سورة القلم، الآيتان 46 و 47؛ سورة البقرة، الآية 78 ؛ سورة الفرقان الآية 50.

الثاني: المعنى الاستعاري غير المتعارف: الكتاب وفق هذا المعنى إمّا أن يدلّ على كتاب عالم الوجود، ومن ثمّ فالآيات التي تتضمّن هذا المصطلح يُراد منها الإشارة إلى شتّى شؤون العالم؛ ومن جملتها: سورة الأنعام، الآية 38؛سورة التوبة، الآية 36 سورة الحجر، الآية 4؛ سورة الرعد، الآية 38. وإما أن يدلّ على معنى استعاري تشريعي ذي مداليل متنوّعة يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

- العلم الإلهي الأزلي الذي يُشار إليه بتعابير متنوّعة؛ مثل: الكتاب المبين، الكتاب المكنون، الكتاب المحفوظ، الكتاب الحفيظ. أمّ الكتاب اللوح المحفوظ . وجدير بالذكر أنّ الكتاب المبين يراد منه النصّ المقدّس الواضح المشتمل على كلّ شأن من شوؤن العلم الإلهي الأزلي؛ بحيث لا يطرأ عليه تغيّر ولا تحوّل(2).

- إرادة الله عزّ وجلّ(3).

ص: 288


1- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الأعراف، الآية 145.
2- للاطلاع أكثر، راجع: الآيات التالية: سورة الأنعام، 59؛سورة يونس، 61؛سورة هود، 6؛سورة النمل، 75؛ سورة الرعد، 39؛ سورة (ق)، 4؛ سورة الواقعه، 78.
3- للاطلاع أكثر، راجع: سورة المجادلة، الآية 21؛سورة التوبة، الآية 51.

- الحكم الإلهي(1).

- الوجوب والإيجاب(2).

- الإثبات والحفظ(3).

- الدليل والحجة المعتبرة(4).

- المصير والتقدير(5).

وفي ما يلي سوف نتطرّق إلى بيان المراد من مصطلح (الكتاب) في عدد من السور القرآنية على نحو الشرح والتفصيل.

الاستشهاد الأوّل الذي استند إليه دانيال مادیجان؛ لطرح استنتاج يُفسّر على أساسه مفهوم (الكتاب) بشكلٍ منسجم مع جميع موارد ذكره في القرآن الكريم ومتناسق مع مدلول الآيات التي ذكر فيها، يتمحور حول مصطلحي (أهل الكتاب) و (أهل العلم)، وفي هذا السياق لم يفسّر هذه الكلمة بمعنى النصّ المقدّس المدوّن؛ على الرغم من ذِكْره مرارًا في النص القرآني للإشارة إلى أتباع الأديان السماوية؛ مثل: اليهود، والنصارى، والمسلمين(6)، حيث قال: «عرف القرآن أهل الكتاب على ضوء ارتباطهم بالكتاب، وهو لا يؤكّد - فقط - على وجوب الإيمان بالكتاب المنزل على محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنّما فيه تأكيد على وجوب الإيمان بالكتاب أو الكتب السماوية المنزلة قبله؛ فالنص القرآني ليس هو نصوص الكتب ذاتها المنزلة قبل ذلك، بل هو كلام الله وهدى للبشر»(7). كما ادّعى أنّ القرآن الكريم ضمن إشارته إلى أهل الكتاب لا يقصد أنّهم يمتلكون كتابًا مدوّنًا كائنًا بين أيديهم، إذ لو كان الأمر كذلك لوجب تدوين نسخة من القرآن منذ بداية الأمر، لا بعد عشرين عامًا من وفاة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وأهل الكتاب هم في الحقيقة على غرار المسلمين؛ لكونهم لم يدوّنوا الكتاب، بل كانوا يتلونه؛ فعلى ضوء توجيه الخطاب لهم من قِبَل

ص: 289


1- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الأنفال، الآية 75؛سورة المائدة، الآية 32؛سورة الأحزاب الآية 6.
2- للاطلاع أكثر، راجع: سورة البقرة، الآية 183؛ سورة الأنعام، الآية 54.
3- للاطلاع أكثر، راجع: سورة يس الآية، 12؛سورة الأنبياء، الآية 94.
4- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الحج، الآية 8؛ سورة الصافات، الآيتان 150 و 157.
5- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الأنعام، الآية 38؛سورة النبأ الآية، 29؛ سورة الإسراء، الآيتان 4 و 68 راجع أيضاً: م محمد هادي معرفت، کتاب از دیدگاه قرآن، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة بينات، العدد 7، 1995م، ص 28 - 34.
6- للاطلاع أكثر، راجع: سورة البقرة، الآيتان 2 - 4 سورة السجدة، الآية 3 سورة يس، الآيات 2 – 6.
7- Madigan, Ibid., p. 242

أنبيائهم، أوتوا العلم والحكمة وآزرتهم القدرة الإلهيّة؛ بحيث أصبحت لديهم إيديولوجيا دينيةً خاصةً بهم؛ أي إنّهم لم يمتلكوا كتابًا مدوّنًا في قراطيس، لذلك وصفوا - أيضًا - بأهل العلم ؛ ولإثبات رأيه هذا استشهد بالآيتين 27 من سورة النحل و 107 من سورة الإسراء(1).

وشاهده الأوّل قوله - تعالى-: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِى الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَقُونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَفِرِينَ﴾(2) فعلى الرغم من أنّ مصطلح أهل العلم ليس هو محور بحثنا، لكن لا نرى بأسًا في الإشارة -هنا- إلى أنّ عبارة ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ يُراد منها أولئك الذين لهم علم بوحدانية الله -تعالى- ويعرفون حقيقة التوحيد والآية بمجملها لها ارتباط بأحداث يوم القيامة وعذاب الكفّار والمستكبرين وكلّ من أنكر نعم الله وكذَّب الأنبياء ولم يؤمن برسالاتهم، وأما الذين أوتوا العلم فإلى جانب معرفتهم التوحيدية، لديهم علم - أيضًا - بدين الله وأحكامه، وهم برأي-ابن عباس-: الملائكة أو المؤمنين(3)؛ لذا ليس هناك ما يدلّ على وجوب تقييد هذا - : المصطلح بالدلالة على أهل الكتاب فقط.

وأما شاهده الثاني فهو قوله - تعالى -: ﴿قُلْ عَامِنُوا بِهِ أَوْلَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾(4)، وفسر عبارة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ بأنّها تشير إلى الذين كانوا يعرفون الله وآياته قبل نزول القرآن على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من طائفة معيّنة، بل يمكن أن يكونوا يهودًا أو نصارى، أو من أي دين آخرَ؛ لذا لا يوجد دليلٌ يسوّغ لنا التخصيص هنا.

ويؤيّد رأيه القائل بأنّ كلمة (الكتاب) في مصطلح (أهل الكتاب) لا تعني ذلك الشيء الملموس بالعيان والمدوّن في قراطيس أنّ هذا المصطلح يُراد منه أهل الشريعة ولا يدلّ بالضرورة على أصحاب الكتاب المدوّن، لذا إن ثبت أنّ الزرادشتيين والبوذيين لديهم شريعة سماويةً، ففي هذه الحالة يُدرجون ضمن مفهوم (أهل الكتاب)؛ سواء أكان لديهم كتاب

ص: 290


1- Ibid
2- سورة النحل، الآية 27.
3- راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 20، ص 199.
4- سورة الإسراء، الآية 107.

سماوي واحدٌ أم كتب عدة(1)؛ ومن هذا المنطلق أطلق على التوارة والإنجيل وسائر الكتب السماويّة عنوان (كتاب)؛ وذلك لأنّها تتضمّن أحكامًا شرعيّةً.

إذًا، فمصطلح (أهل الكتاب) لا يُراد منه الإشارة إلى كتاب ملموس بين يدي أصحابه ضمن قراطيس مدوّنة.

وهناك مسألة جديرة بالذكر؛ في هذا المضمار؛ على الرغم من عدم كونها محورًا الموضوع البحث ألا وهي عدم صوابية رأي ماديجان بكون أوّل نسخة مدوّنة للقرآن الكريم يرجع تأريخها إلى عشرين عامًا بعد وفاة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،إذ ليس هناك دليل يثبت هذا المدعى(2)،وظهور المصحف على هيئته المتعارفة بين المسلمين في عهد عثمان بن عفّان لا يُعد دليلا على عدم امتلاك المسلمين قبل ذلك نسخةً مدوّنةً، إذ إنّ تدوين النص القرآني بدقة يُعدّ من الخطوات الأولى في الدعوة النبوية، والنبيّ بدوره أعار اهتمامًا بالغًا لهذا الأمر، كما أن تنظيم الآيات ضمن سُوَرها تمّ في رحاب وحي السماء وتحت إشرافه مباشرة، بينما الصحابة لم يكن لهم أي دور مستقل في ذلك، إلا أنّ ماديجان نسب تدوين المصحف إليهم ووصفهم بمجتمع ما بعد النبي(3)، فضلاً عن وجود الكثير من الروايات التي تؤكّد على أنه حدّد موضع بعض الآيات في سورها بشكل دقيق(4).

كما أنّه لم يُصب في رأيه؛ حينما قارن مصطلح (الكتاب) المذكور في العديد من الآيات مع مصطلح (أهل الكتاب)؛ بغية بيان المفهوم الحقيقي له في القرآن الكريم، فهذه المقارنة تعدّ مصداقًا للقياس مع الفارق، ومن ثمّ لا يمكن إثبات المدعى على أساسها، فالكتاب المضاف إلى كلمة (أهل) لا يُراد منه ذلك الكتاب الملموس المدوّن في قراطيس؛ أي لا يُقصد منه المفهوم الحقيقي للكلمة؛ لكن ليس هناك ما يسوّغ للباحث تعميم هذا الأمر على سائر الآيات

ص: 291


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد هادي معرفت، کتاب از دیدگاه قرآن، ص 28 - 34.
2- للاطلاع أكثر، راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 207 - 227 أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص الصالح، مباحث في علوم القرآن، إيران، قم، منشورات الرضي الطبعة الخامسة، 1993م، ص 114 و 115 و 119.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمد رضا جلالي نائيني، تاريخ جمع قرآن كريم (باللغة الفارسية)، قدّم له أحمد مهدوي دامغاني، إيران، طهران، منشورات "نقره"، 1986م، ص 128 - 129.
4- راجع: محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، تركيا، أسطنبول، منشورات طبعة محمّد ذهني أفندي، أوفسيت بيروت 1401ه_ / 1981م، ج 6، ص 242؛ مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم، تركيا، أسطنبول، منشورات طبعة محمد فؤاد عبد الباقي، 1413ه_ / 1992م، باب فضل سورة الكهف.

التي تضمّنت كلمة (كتاب) وادّعاء أنّه لا يشير إلى المعنى الحقيقيّ؛ لأن الكلمات، حتى وإن تشابهت في البنية اللغوية - هنا - إلا أنّها ذاتُ مفاهيم ومصاديق متنوّعة ومتباينة.

وحاول ماديجان إثبات أنّ الكتاب استخدم بشكل مجازي ضمن جميع الآيات التي ذُكِرَ فيها، وفي هذا السياق استدلّ ببعض المصطلحات؛ مثل: (أم الكتاب)، والآيات الأولى التي تتضمن كلمة (كتاب)؛ كالآية الأولى من سورة الزخرف؛ لكن الواقع على خلاف رأيه هذا، إذ ليس هناك ما يسوّغ لنا ادّعاء أنّ استعمال هذه الكلمة جاء بصيغةٍ مجازيّةٍ في الآيات القرآنية قاطبةً، أي إنّ بعضها يشير إلى حقيقة ملموسة وموجودة بين يدي المسلمين باسم القرآن والمصحف.

وقد فُسّر مصطلح (أمّ الكتاب) في التفاسير التقليدية باعتباره مفهوما يشير إلى المصداق السماوي للكتاب، والذي هو مصدر جميع الكتب المنزلَةَ على الأنبياء؛ وبمن فيهم النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وقد أثبتنا في بادئ الباب لدى تحليلنا الآيتين 21 و 22 من سورة البروج والآيات 2 إلى 4 من سورة الزخرف، أنّ (أمّ الكتاب) عبارةٌ عن مصدرِ محفوظ عند الله -تعالى-، وأنه مصدرٌ الرسالات السماء والنصوص المقدّسة، وكذلك مصدرٌ وأساس للتعاليم والحقائق التي جاء بها الأنبياء والمرسلون(1). وهذا التفسير يتناغم في مضمونه مع ما ذهب إليه هذا المستشرق، فمصطلح أمّ الكتاب ذو معنى رمزي برأيه، حيث قال: «هذه العبارة تعني أنّ العلم والقدرة الحقيقيين هما لله، وبالتالي فإنّ كلّ حركة إرشاديّة مقتدرة وشاملة تُوكل إلى الأنبياء، لا بدّ وأنْ تكون منبثقةً منهما»(2).ونلمس من هذا الكلام أنّه فسّر المصطلح المذكور بشكل يتناغم مع ما ذُكِرَ في التفاسير الإسلامية التقليديّة والتي تؤكّد على أنّ الله - عزّ وجلّ - محيط بجميع أحوال الكائنات وشؤونها؛ ومن أفعاله هداية البشر عن طريق الأنبياء والرسل؛ لكنّ السبب في سعيه إلى تعميم هذا المعنى على جميع موارد استعمال كلمة (كتاب) في القرآن الكريم بزعم أنّها تحكي عن مفهوم مشترك، ناشي من إصراره المبالغ فيه على شفهيّة النصّ القرآني، واعتقاده بوجود فاصلةٍ زمنية بين فترة نزوله والفترة التي تم تدوينه فيها، حيث ادعى أن مراحل تدوینه تشابه مراحل تدوين الكتاب المقدس.

ص: 292


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 84؛أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، 13، ص 114؛عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 8، ص 86.
2- Madigan, Ibid., pp. 247 - 248. هناك قراءة مشابهة طرحت من قبل بعض المستشرقين في رحاب أوصاف أخرى؛ مثل: اعتبار القرآن الكريم نسخةً بديلةً عن كتاب محفوظ في السماء؛ أي إنّه كتاب يشتمل على كلّ أمر يريد الله -عزّ وجلّ- بيانه للإنسان؛ باعتباره أساسًا للوحي؛ وذلك الكتاب هو عبارة عن الصورة السماوية المثالية للقرآن . (دونیز ماسون، قرآن و کتاب مقدس: درون مايه هاي مشترك (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية فاطمة سادات تهامي، ج 1، ص 341).

وقد فسّر ماديجان كلمة (كتاب)؛ حتى في بعض الآيات التي لا تتضمّن إضافات سابقة أو لاحقةً لها، التفسير ذاته الذي طرحه لها في سائر الآيات، أي إنّه اعتبرها ذات دلالة رمزيّةٍ مجازيّة؛ إذ لم يفرّق بين كونها مفردة أو مضافة إلى ألفاظ أخرى، وعلى هذا الأساس وسع معناها بوصفها رمزًا لعلم الله - تعالى - وحكمته وقدرته ، ومن جملة الآيات التي استدلّ بها، الآية 59 من سورة الأنعام التي وصف هذه الكلمة فيها بأنّها ذات ارتباط بالعلم الإلهي: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينِ﴾(1)، وهذا التفسير يتناغم مع ما ذكره المفسّرون المسلمون لهذه الآية(2).

والصفة (مبين) - هنا- تُعدّ واحدةً من القرائن التي دعته لأن يعتبر الكتاب مرتبطًا بالعلم الإلهيّ، فهي برأيه صفة للقرآن ولكتاب أعمال الإنسان أو أعمال الأمة بأسرها؛ لأنّ كتاب الأعمال يوصف بالمبين على ضوء الإيمان بكون الله - تعالى - أعلم بأعمال(3)عباده(4)

والحقيقة أنّ هذه الصفة؛ سواءً أكانت للقرآن أم لكتاب الأعمال، فهي لا تدلّ على وحدة مدلول مصطلح (كتاب) في كلا الأمرين؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّها استخدمت في القرآن الكريم لوصف ضلال الناس أيضًا(5)، أضف إلى ذلك فقد ذكر هذا المستشرق مدلولاً قرآنيًّا آخر

ص: 293


1- سورة الأنعام، الآية 59.
2- فسر الطبري - على سبيل المثال- كلمة (كتاب) في قوله -تعالى-: ﴿في كتابٍ مُبين﴾ بعلم الله -تعالى-؛ أي أنّ علمه مدوّن في كتاب مبين، بحيث يمكن أن يتضح لكلّ إنسان يتفكر فيه أنّ الله - تعالى - هو الذي صاغه وأحصاه ويعلم بكل ما فيه. (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 7، ص 137). ويبدو من كلام الطبري أنّه لا يذهب إلى الرأي نفسه الذي تبنّاه دانيال ماديجان بكون الكتاب في هذه الآية وما شاكلها عبارة عن مصطلح استعاري بحت يحكي عن علم الله عزّ وجلّ، ويؤيد ذلك أن الطبري لدى تحليله مضمون الآية 11 من سورة فاطر لم يعتبر الكتاب في عبارة "إِلَّا في كِتَابٍ" دالا على علم الله على نحو الاستعارة، ونص الآية هو: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، حيث قال في تفسيرها: « وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ﴾فَيَطُولُ عُمْرُهُ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ آخَرَ غَيْرِهِ عَنْ عُمُرِ هَذَا الَّذِي عَمَّرَ عُمْرًا طَوِيلًا إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ [الأنعام: 59] عِنْدَهُ، مَكْتُوبٌ قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ بِهِ أُمُّهُ، وَقَبْلَ أَنْ تَضَعَهُ، قَدْ أَحْصَى ذَلِكَ كُلَّهُ وَعَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، لَا يُزَادُ فِيمَا كُتِبَ لَهُ وَلَا يُنْقَصُ». (ام. ن، ج 22، ص 81).
3- قال -تعالى-: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ . (سورة الزمر، الآية 7).
4- Madigan, Ibid., p. 244.
5- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الأنعام، الآية 74؛ سورة سبأ، الآية 24؛ سورة الأنبياء، الآية 54.

في تفسيرها، وذلك على ضوء ارتباطها بالقدرة الإلهيّة وكيفيّة إجراء هذه القدرة بشكل عملي(1).

وممّا أكّد عليه - أيضًا - أنّ مصطلح (كتاب)؛ بحسب هذه المعاني يُوحي بأنّ الأوامر الشرعيّة تمّ تدوينها في كتاب(2)، لكنّه عبارة عن أمرِ رمزي ومجازي؛ كما أنّ كلمتي آية وحكمة المذكورتين إلى جانب هذا المصطلح في بعض الآيات لهما أهمّيّةٌ بالغةٌ في معرفة المدلول الحقيقي له، ومن جملة الآيات التي ذكر فيها ما يلي:

- ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴿ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(3).

- ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَنِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(4).

- ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ وَايَتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(5)

- ﴿ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِي الْأُمِّنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ وَايَنَيْهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(6).

فكلمة (الحكمة) فسّرها لغوياً على أساس الجذر اللغوي لها (حَكَمَ) الذي يعني الحكم والقضاء والقرار، فهي بهذا المضمون تعني الأوامر الإلهية(7).

وعلى الرغم من أنّ كلمة (الحكمة) في هذه الآيات ذات مدلول متناسق مع مفهوم (الكتاب)، لكن نظرًا لوجود حرف العطف (الواو) بينهما يمكن اعتبارهما متباينين، لذا ليس

ص: 294


1- قال -تعالى-: ﴿وَما كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُموتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ (سورة آل عمران، الآية 145). للاطلاع أكثر، راجع: سورة آل عمران، الآية 154؛سورة الحجر، الآيتان 4 و 79 ؛ سورة الإسراء، الآية 58.
2- Ibid., p. 245.
3- سورة البقرة، الآية 129.
4- سورة البقرة، الآية 151.
5- سورة آل عمران، الآية 164.
6- سورة الجمعة، الآية 2
7- Ibid., p. 246.

من الصواب بمكان ادّعاء أنّها جزء منه، فالمقصود في هذه الآيات أنّ الله -تعالى- إلى جانب تعليم الكتاب للناس، فهو يعلّمهم الحكمة أيضًا؛ فضلًا عن وجود ترافق لفظي في النص القرآني بين الكتاب من جهةٍ، والحكمة والتعليم من جهةٍ أخرى، إلى جانب ارتباط هذا المصطلح بألفاظ أخرى؛ مثل: التنزيل، والوحي، والنبي، والله؛ وهذا الارتباط المتواكب مع تعليم مضمون الكتاب للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وإيتائه أو إنزاله من جانب الله -عزّ وجلّ- عليه، يوجب إيجاد معنى قريب لما استنتجه ماديجان(1)، ولا يعني أنّ الحكمة يراد منها الكتاب المقروء.

وهذه الآيات؛ فضلًا عمّا ذُكِرَ أشارت إلى تعليم الكتاب؛ بوصفه رسالةً دينيَّةً حملها الأنبياء لهداية البشر: ﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ﴾، وهنا يتمحور الكلام حول سلسلة من القوانين والأحكام التي هي ثمرةً لرسالة الأنبياء أولي العزم، وهو ما يُطلق عليه اصطلاح (شريعة)، لذا لا يُراد منه أمر رمزي للعلم الإلهي.

ومصطلح (آية) برأي ماديجان يحكي عن كلّ أمرٍ تتبلور فيه إرادة الله -تعالى- ونهجه في عالم الخلقة؛ سواءً أفي الطبيعة، أم في التاريخ، أم في التشريع، أم في الوحي، والهدف منها هو تحفيز البشر على التفكّر الذي يُثمر إيمانهم في نهاية المطاف؛ لكنّ المقصود من هذا المصطلح في

ص: 295


1- قالت المستشرقة دونيز ماسون في هذا الصدد: «مفهوم الحكمة غير المخلوقة له ارتباط بمفهوم الوحي،؛ لأن هدف الوحي هو إعلام بني آدم بأسرار الله وتعليمه الأصول الأساسية للسلوك الذي يجب أن يتبعه». (دونیز ماسون، قرآن و کتاب مقدس: درون مايه هاي مشترك (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية فاطمة سادات تهامي، ج 1، ص 316). وقالت أيضاً: «الحكمة في العهد العتيق بمثابة معلم للإنسانية». (م. ن، ص 317). كلمة (حَكَمَ) لغوياً تعني تطبيق القدرة وإظهار الحكم والحفاظ على شيءٍ والعلم والإدارة والتدبير، والصفة المشبهة التي تشتق منها هي (حكيم)، حيث يوصف بها من يصدر أحكامه وآراءه بحكمة؛ والقرآن، لدى إشارته إلى الحكمة التي هي على غرار النور الروحاني المنبعث من الله -عزّ وجلّ- في قلوب الأنبياء والرسل، ذكر مصطلحات من هذا الاشتقاق؛ مثل: الحكيم . وأما اسم الفاعل المشتق منها أي (الحاكم)، فهو يدلّ في جميع الأحيان على قضاء الله واقتداره، واسم المفعول (محكوم) سواءً أكان بتنوين أم بدون تنوين، فهو يدلّ على النور الذي يتلقاه الأنبياء والرسل بإرادة الله -سبحانه وتعالى - : والحكمة عبارة عن امتياز يُمنح لمن يحظى بألطاف الله، فهي ثمرة للأفعال المقدّسة. (دونیز ماسون، قرآن و کتاب مقدس: درون مایه هاي مشترك (باللغة الفارسية)، ص 318). وبنو إسرائيل مُنحوا الكتاب والنبوّة، وكذلك الحكمة (سورة الجاثية، الآية 16)،وهذه الأمور مُنحت - أيضًا - للأنبياء والرسل (سورة الأنعام، الآية 89) ومُنحت كذلك للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(سورة آل عمران، الآية 79) والحكمة عبارة عن هبة مبارَكةٍ منحها الله لأنبيائه ورسله ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُويَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (سورة البقرة، الآيتان 268 - 269). والكتاب والحكمة وفق مضمون هذه الآيات يُعتبران من مقومات الوحي، لذلك سلّح الله بها أنبياءه ورسله، وعلى أساسهما يطهرون الناس من الرذائل وينتشلونهم من الضلال .

الآيات الثلاثة التي ذكرناها يختلف عن هذا الاستدلال، والعبارات التي جاء فيها بحسب الترتيب؛ هي: ﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ ﴾، ﴿يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَتِنَا﴾،﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَيْهِ﴾، إذ التلاوة بطبيعة الحال تختص بالألفاظ لا بكلّ شيءٍ يحكي عن الإرادة الإلهيّة؛ مثل: الطبيعة، والتأريخ، وما إلى ذلك؛ لذا يمكن تفسيرها في هذه العبارات بمعنى قراءة الآيات التي أنزلها الله - تعالى - على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛كي يبلغها للناس ولا تدلّ على المعنى الذي تبنّاه هذا المستشرق؛ كما أن أحد المفسّرين اعتبر قوله - تعالى -: ﴿وَوَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ﴾ في سورة الجمعة عطف تفسير على العبارة السابقة (يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَيْهِ﴾؛ أي أنّ العبارة اللاحقة تفسير للسابقة(1).

إذًا، المعنى الذي استنتجه ماديجان يشير في الحقيقة إلى المفهوم العام لمصطلح (آية)، لذا لا يمكن تسريته إلى الآيات المترافقة مع الفعل (يتلو) ، ولا سيّما في الآيتين 164 من سورة آل عمران و2 من سورة الجمعة اللتين ذُكرتا ثمرةً التلاوة؛ لذا لا يمكن قبول تفسيره للكتاب بأنّه رمز لعلم الله -تعالى- وقدرته؛ إلا بالشرطين التاليين:

الشرط الأوّل: عدم تسرية هذا التفسير إلى جميع الآيات التي ذكر فيها.

الشرط الثاني: الآيات التي ينطبق هذا التفسير عليها، لا يمكن تخصيصها حصرًا بدلالة مصطلح الكتاب على معنى رمزي.

لا شك في أنّ الكتاب يشمل في آياته علم الله وأوامره، فهو -تبارك شأنه- خالق للكائنات قاطبةً، وعالم بحقائق جميع الأمور وهو الحاكم عليها؛ والكتاب بدوره يبيّن هذا العلم والاقتدار، لذا فهو ليس مجرّد رمز له، إذ بعث الأنبياء والرسل لهداية الناس إلى حقائق الكون والتفكّر فيها.

والكتاب فيه آياتٌ، وهذه الآيات فيها علمٌ وأوامر إلهيّةٌ ، وهذه الأوامر تصل إلى البشر عن طريق الأنبياء، فيهتدوا على إثرها، ومن ثمّ فهو مشتمل على علم الله -تعالى- وقدرته، وليس هو مجرّد رمز لهما.

وأحد الآراء التي تبنّاها هذا المستشرق أنّ تسمية هذا الخطاب الإلهي بالكتاب، ليست

ص: 296


1- صدر الدين الشيرازي، تفسير سورة الجمعة (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية وصححه وعلّق عليه محمد خواجوي، منشورات مولى، ص 30-31 (بتصرف وتلخيص).

بسبب شكله وبنيته التي قوامها شفهيته ومقبوليّته، وإنّما لأجل منشئه الذي هو العلم الإلهي وطبيعته الإبلاغيّة وبيانه الواضح للأوامر الشرعيّة، وإعطاء الناس كتابًا يعني دعوتهم إلى الإيمان بالمصدر الرباني لتلاوة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثمّ إطاعتهم لما فيه من أوامر، وبعد ذلك تلاوته، فهكذا يتشخّص إعطاء الكتاب(1).

وفي مقابل هذا الرأي السيميولوجي هناك رأي تبنّاه معظم الباحثين الغربيين إزاء تفسير مصطلح (کتاب)، وقوامه أنّ تفسير المسلمين لهذا المصطلح يتناغم مع مدلوله اليهودي المسيحيّ، أي أنّهم استلهموا معناه من موارد استعماله لدى المسيحيين واليهود؛ وعلى هذا الأساس اعتبروه مصطلحا يشير إلى النصّ المدوّن أو المصحف. وفي هذا السياق وصفوا استعماله في القرآن الكريم دليلا على أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)حاول وضع نص مقدّس لأمته على غرار النص المقدّس لليهود والنصارى .

واستنتج المستشرق ويدينغرين من دراساته حول التأريخ الديني للشرق الأدنى أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يعتبر نفسه أوّل شخص يأتي للناس بكتاب ديني مدوّن.

ويرى المسشترقان الألماني ثيودور نولدكه والفرنسي كلود شيفالي أنه لو افترضنا أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان على علم بحلول الكتاب الذي جاء به محلّ الكتاب المقدس؛ ليصبح سندا قطعيًا ينمّ عن إرادة الإله، فمن المؤكد أنّه كان يحفظه بشكل مدوّن.

واعتبر ريتشارد بيل بدوره مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات القرآنية يحكي عن نص مختلف عن القرآن، لكنّه تحوّل في نهاية المطاف إلى بديل عنه؛ وادّعى أنّ هذا النص الذي بين يدي المسلمين؛ والمسمّى (قرآن) هو عبارةٌ عن مجموعة من الآيات التي يحتمل أنها جمعت خلال الفترة القريبة من حرب بدر، والمقصود من الكتاب هو تدوين الوحي بالكامل؛ بحيث يشتمل على كافة العناصر التي اعتبرها هذا المستشرق بنيةً أساسيّةً صِيْغَت على أساسها مراحل تطوّر الوحي؛ مثل: العبارات المكوّنة للآيات والتي تحكي عن العذاب، وسائر محتويات النص القرآني.

ولعلّ المستشرقة أنجليكا نويورث هي الوحيدة التي اعتبرت هذا المصطلح رمزا لتراث النبوّة المشترك، فهو برأيها يحكي عن التراث التأريخي المشترك بين الأنبياء والذي قوامه دعوة

ص: 297


1- Madigan, Ibid., p. 246

البشر إلى النجاة من العذاب، وفي رحابه يشترك المسلمون مع اليهود والمسيحيين؛ وضمن اعتقادها بوجود اختلاف بين الكتاب والقرآن أكدت على أنّ بعض الآيات القرآنية -فقط- مستوحاة من الكتاب لا كلّها(1)، وأما الآيات الأخرى فقد أضيفت إليه لاحقًا(2).

ولو تتبعنا الموضوع سوف لا نجد ما يؤيد هذا التفكيك بين الآيات القرآنية، حيث أثبتنا في هذا الباب ضمن تحليل قراءة يوسف درّة الحدّاد المصطلح (كتاب) أنّه يمكن أن ينطبق مع القرآن الكريم إلى حدٍّ ما من حيث المدلول؛ في ما لو اعتبرنا المقصود منه (الكتاب السماوي) والمقصود من القرآن (التلاوة)؛ وأفضل مثال على ذلك: الآيات الأولى من سورتي الحجر والنمل(3)؛ وإضافةً إلى ما ذكرنا في بداية الباب لدى تحليلنا مضمون الآيات الأولى التي تتضمّن هذين المصطلحين فقد تكرّر المضمون ذاته في الآيتين 29 و 30 من سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ (29) قَالُوا يَقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ﴾. ونقل عن الجنّ في الآية الأولى قولهم ﴿أَنصِتُواْ﴾ ، وفي الآية الثانية قولهم ﴿إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً﴾.

أضف إلى ذلك أنّ هناك آيات تشير إلى تلاوة كتاب سماوي، ومن جملتها ما يلي:

- ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَب كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾(4).

- ﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَوْلَتَبِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَيْكَ هُمُ الخَسِرُونَ﴾(5).

ص: 298


1- أطلقت أنجليكا نويورث عليها عنوان فصول أو آياتٍ أو عبارات مختارة lection -Pericopes من الكتاب السماوي، واعتبرتها تحكي عن تأريخ النبوة.
2- Madigan, Ibid., p. 246. للاطلاع على المعنى الذي تبنّاه الباحثون: جيو ويدينغرين، وكلود شيفالي، وثيودور نولدکه، راجع : Ibid., pp. 245 - 246.
3- للاطلاع أكثر، راجع: ما ذكرناه من تحليل لهاتين الآيتين في مستهل هذا الباب.
4- سورة البقرة، الآية 113
5- سورة البقرة، الآية 121.

- ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ نَتْلُونَ الْكِتَبَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(1).

- ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِنَبا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا﴾(2)

- ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ، مِن كِتَبٍ وَلَا تَخْطُهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(3)

وعلى الرغم من أنّ هذه الآيات لم تُذكَّر في مستهل السُّوَر، إلا أنّ مصطلح (الكتاب) المذكور فيها لا يدلّ على وجود أي اختلاف بين الكتاب المقصود منه تلك الآيات المختارة من الكتاب السماوي وبين غيره من الكتب؛ كما أنّه لا يوحي بمدلول رمزي، بل يحكي عن أمر واقعي وملموس حتّى وإن لم يكن على هيئة مصحف مدوّن.

والمراد من الكتاب في الرؤية الإسلامية التقليديّة هو نص مقدّس معلوم يتضمن تشريعات

ومواعظ أخلاقيّةً وأصولا عقديّةً، إلى جانب قضايا فرديّة واجتماعية؛ والقرآن الكريم؛ وفقًا لهذه الرؤية سواءً أكان على هيئة كتاب مدوّن -مصحفٍ-، أم كان محفوظا في الصدور، يُطلق عليه عنوان (کتاب)(4).

وقد بيّن العلامة محمد حسين الطباطبائي المقصود من مفهوم (كتاب) في عبارة (كتاب مبين) على ضوء الاحتمالات التالية:

أوّلاً: الكتاب المبين أوجده الله -سبحانه وتعالى-، ويشتمل على علمه المكنون في اللوح المحفوظ، وقد أشير إليه في بعض الآيات بالكتاب؛ لأجل بيان إحاطته العلمية -تبارك شأنه- بكلّ شيء.

لقد أوجد الله هذا الكتاب؛ لكي يثبت للكائنات إحاطته العلميّة بكلّ شيء، لذا من المحتمل أن تكون عبارة: ﴿إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ﴾؛ تكرارًا لعبارة ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾؛ لأنّ العبارتين كلاهما لهما المدلول نفسه.

ص: 299


1- سورة البقرة، الآية 44.
2- سورة الإسراء، الآية 93.
3- سورة العنكبوت، الآية 48.
4- للاطلاع أكثر، راجع: سورة آل عمران، الآيتان 3 و 4؛سورة الأعراف، الآية 1؛ سورة هود، الآية 1.

ثانيًا: الكتاب المبين هو مجرّد كتاب، لكن في الحين ذاته هو ليس من سنخ اللوح والقرطاس؛ لأنّ القراطيس لا تستوعب كلّ تفاصيل التأريخ الأزلي للكائنات.

ثالثًا: هذا الكتاب متقدّم رتبةً على الكائنات الموجودة في الخارج، وسيبقى بعد زوالها.

رابعًا: هذا الكتاب يتضمّن تفاصيل جميع الحوادث وأحوال الكائنات، فهى مسجّلة بجزئياتها الدقيقة، لذا يمكن اعتبار أنّ هذه التفاصيل هي سطور الكتاب.

والكتاب المبين فيه معلومات تفصيليّةً حول كلّ كائن قبل خلقه وبعده، لذا فهو موجود قبل خلق الكائنات وسيبقى بعدها؛ أي إنّه كيان حقيقيّ سُجّلت فيه شؤون الوجود قاطبةً.

خامسًا: على الرغم من طروء تغيّراتٍ على الكائنات، إلا أنّ الكتاب يبقى على هيئته ولا یطرأ على محتواه أيّ تغيّر(1).

ثمّ وضّح هذا التفسير لقوله -تعالى-: ﴿إِإِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ﴾؛ على ضوء مدلول قوله -تعالى-: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُورًا﴾(2)،حيث قال إنّ الكتاب المبين أو اللوح المحفوظ هو متن الأعيان؛ بما فيه من الحوادث والكائنات، وما يرتبط بها من وقائع، وحتمية وقوع هذه الحوادث والوقائع لكون كلّ واحدة منها متوقفةً على علّتها، «فالحق أنّ الكتاب المبين هو متن الأعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتّب المعلولات على عللها، وهو القضاء الذي لا يردّ ولا يبدِّل، لا من جهة إمكان المادّة وقوّتها؛ والتعبير عنه بالكتاب واللوح لتقريب الأفهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل»(3).

وقد فسر بعض المفسرين الكتاب المبين في قوله - تعالى -: ﴿إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ﴾ بعلم الله، واعتبروه توكيدًا لقوله تعالى -: ﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾، فهو علم الله، ولا فرق في ذلك بين كون الكتاب حقيقيًا أو مجازيًا؛ لأنّه سجل لكلّ شيءٍ ولا يطرأ عليه أي تغيّر. وفي هذا السياق أعربوا عن عدم علم البشر بطريقة تدوين الله -سبحانه وتعالى- لهذا الكتاب؛ لأنّه لم يطلعنا على

ص: 300


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 127 (بتلخيص وتصرف). للاطلاع أكثر، راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2، ص 31
2- سورة الإسراء، الآية 58.
3- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 13، ص 134 (بتلخيص وتصرف).

كُنه ما هو مكتوب فيه، والقرطبي بدوره فسّر الكتاب المبين في الآية المذكورة باللوح المحفوظ،وذلك لأجل أنْ تطّلع عليه الملائكة ولا تنساه؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ الله دوّن ما يشاء في اللوح لأجل ألا ينساه، وإنّما أراد التأكيد على أهمّيّة ما فيه(1).

إذًا، يتّضح لنا أنّ دانيال ماديجان لا يفرّق بين مختلف استعمالات مصطلح (كتاب) في القرآن الكريم؛ بحيث حاول جمعها ضمن معنى رمزي مشترك، وإصراره على هذا الرأي ناشئ من اعتقاده الراسخ بكون القرآن الكريم قد دوّن بعد مدّةٍ طويلة من نزوله؛ ولكن بالنسبة إلى تلك الموارد التي أطلق عنوان (الكتاب) عليه نقول إنّ هذا الإطلاق لا يعني بالضرورة كون بعض آياته مدوّنةً في بادئ الأمر(2)؛ كي يدعي هذا المستشرق ومن حذا حذوه أنه يحكي عن شيءٍ رمزي. حتّى لو سلمنا برأيهم هذا، فإنّ إطلاق عنوان كتاب على القرآن قبل تدوينه يُعدّ ضربًا من الاستعارة التي فحواها أنّ اجتماع الحروف مع بعضها في لفظ واحدِ شبّه باجتماع الحروف وتناسقها ضمن الكتابة(3)؛ أو أنه من سنخ المجاز المرسل؛ بحسب القرينة الأولى، ورابطة الاشتمال في ما بينهما؛ بلحاظ أنه سوف يدوّن لاحقًا(4)؛ أو أنّه بمعنى الكتاب الذي من شأنه أن يدوّن؛ مثلما أنّ القرآن من شأنه أن يقرأ، ومثل كون الإله من شأنه أن يُعبَد(5).

وخلاصة الكلام: أن دانيال ماديجان لا يعتقد بوجود سماء مشحونة بالفوضى والتشتت؛ بحيث تنزل منها كتب وأخبار متنوّعة، بل حاول طرح مفهوم موحد وشامل للقرآن على ضوء مصطلح (الكتاب)، وهو مفهوم أساس وبنيوي للكتاب القرآني يتناسق مع المعنى اللغوي للفعل (كتب)؛ إلا أنّه لم ينجح في مساعيه هذه ولم يثبت المطلوب، بل غاية ما في الأمر أنّه أشار إلى أحد المداليل المحدودة ضمن نطاق ضيّق يشترك فيه مفهوما القرآن والكتاب، على ضوء مختلف معاني مصطلح (الكتاب) في النصّ القرآني، وهذه المعاني لا تندرج طبعًا تحت

ص: 301


1- راجع: محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 7، ص 5.
2- راجع: محمد تقي مصباح اليزدي، قرآن شناسي (باللغة الفارسية) إيران ،قم، منشورات مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث،الطبعة الثانية، 2001م، ج 1 ، ص 23.
3- راجع: حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، كلمة (كتب).
4- راجع: محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص 108.
5- راجع: محمد تقي مصباح اليزدي، قرآن شناسي (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 23.

مفهوم واحد؛ كما تصوّر. وعلى الرغم من أنّ جميع المعاني المفترضة للكتاب تستبطن مفاهيم تدلّ على العلم والاقتدار ، لكنّ كلّ واحدٍ منها يتّسم بجوانب دلالية واسعة النطاق تجعل مفهوم هذا المصطلح متنوّعاً؛ بحيث يدلّ على معنى خاص في كلّ استعمال قرآني. أضف إلى ذلك ينبغي التنويه -هنا- إلى أنّ كلّ رمز ضمن دلالته على واحدٍ من التصوّرات الذهنية، هو عبارةٌ عن استعارة لا يمكن تخصيص مدلولها على مشبّه معيّن دون وجود قرينة تدلّ على ذلك، وما دام يحكي عن معنى مغاير للمعنى الظاهري ويستبطن مضمونًا مجازيًّا، فهو يُدرج ضمن التصوّرات الموازية للجانب الاستعاري، وإضافةً إلى معناه المجازي من الممكن أن يحكي -أيضًا- عن معنى حقيقي وُضِعَ له، ومع ذلك فهو لا يخرج عن نطاق كونه ضربًا من التصوّر الذهني؛ ولكن بما أنّ عدم وجود القرينة يجعله غير مقيَّدٍ بمدلوله المجازي المحدود بجانب واحدٍ للتصوّر الذهني والجانب الملموس في حياة الإنسان، فهو ينفك بطبيعة الحال عن التصوّرات ويتجاوز نطاق الغموض الاستعاري والكنائي؛ ليحتل مرتبة أعلى من ذلك(1).

والتصوّر والمدلول الرمزي كلاهما مضماران لشتّى المعاني والتصوّرات، وهذه المرونة والتنوّع والتوسّع في الجانب الدلالي تُعدّ من خصائص الرمزيّة، وهو ما أكّد عليه الباحث يونغ؛ حينما قال: «ما نطلق عليه عنوان (رمز) هو عبارة عن اصطلاح أو اسم أو حتّى تصوّرِ يحكي عن أمر مألوف في حياتنا اليوميّة، وإضافةً إلى معناه الظاهر والمتعارف، فهو يتضمّن معاني تلميحيةً خاصةً أيضًا »(2).إذًا، حينما يتمحور الكلام حول المعنى، فالرمز يُطرح على طاولة البحث أيضًا.

وجدير بالذكر أنّ التفاسير الباطنيّة عرّفت الرمز وفق التالي: «الرمز هو أمرٌ باطني ومكنون في كُنه الكلام الظاهر؛ بحيث لا تتسنّى معرفته إلا بواسطة من هو أهل لذلك؛ والطبيعة الرمزية تحكي عن حقائق الغيب في دقائق العلم التي تتبلور ضمن الألفاظ اللغوية وتنعكس في أسرار الحروف»(3).

ص: 302


1- أحمد بور علي، رمز يا نماد، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة "مشكات"، العددان 56 و 57، 1997م، ص 139.
2- راجع: م. ن، ص. ن.
3- صابر إمامي، شرح شطحيات، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «كتاب ماه هنر»، العددان 47 و48، 2002م،ص62،نقلا عن هنري كوربين وروزبهان شيرازي (مدخلي بر رمز شناسي عرفاني ص 89).

وبناءً على ما ذُكِرَ حتّى لو اعتبرنا (الكتاب) المذكور في الآيات الأولى من السور القرآنية بأنّه يرمز إلى علم الله -تعالى- وقدرته؛ وفق معايير القضاء المحتوم فالسؤال التالي يبقى بحاجة إلى إجابة شافية: ما السبب في عدم إسهام هذا الرمز بتبلور معنى ملموس لما يرمز إليه؟ إذ إنّ هذا الرمز -الكتاب- لا بدّ أنْ يكون على ارتباط ذاتي وطيد بالحس والشعور؛ وفي هذا السّياق قال الباحث بيل تيليش: إنّ الرمز بحدّ ذاته يمكن أن يحكي عن أمر ملموس ومعروف لدى الإنسان لكنّه يمنح من يلجأ إليه الفرصة لإدراك معان أبعد من نطاق المعنى المحدود الذي تمّ تحصيله عن طريق المرتكزات الأولى للحسّ والتجربة(1). وعلى هذا الأساس إن أردنا تشذيب نظريّة ماديجان التي طرحها لبيان المعنى المقصود من مصطلح (الكتاب) في القرآن الكريم، يمكن أنْ يقال إنّ الكتاب في الآيات الأولى التي تطرّقنا إلى شرحها وتحليل مضامينها؛ يعني المصحف؛ أي النصّ المدوّن الذي هو في الحقيقة رمز لعلم الله -تعالى- وقدرته ؛ وكما ذكرنا فالرمز بشكل عام ينوب عن معنى أدق من المعنى اللفظي والحقيقي، ومن ثمّ لا يضمحلّ هذا المعنى في باطنه؛ بحيث يمحى بالكامل، ولا بدّ من الإشارة - هنا- إلى أنّ الرمز في عين كونه رمزًا، فهو يجسّد ذاته أيضًا، وفي الكلام الاستعاري لا يمكن تصوّر المعنى الظاهري للألفاظ بطبيعة الحال ؛ نظرًا لوجود قرينة صارفةٍ عن ذلك، وهذه القرينة هي الاستعارة طبعًا، بينما الرمز على العكس من ذلك؛ بحيث يمكن تصوّر المعنى الظاهري له.

فما الذي يسوّغ لنا الاعتقاد بأنّ مصطلح (الكتاب) في القرآن الكريم لا يتصف بمعناه اللفظي الحقيقي إلى جانب اتصافه بالمعنى الرمزي الذي ذكره ماديجان؟ هذا المصطلح في الآيات الأولى لبعض السور القرآنية يتّصف بمعنى رمزي يتطابق مع ما ذهب إليه هذا المستشرق، وإلى جانب ذلك فهو يتّصف -أيضًا- بمعنى لفظي حقيقي؛ ولو قيل إنّ هذا المعنى مضمر بالكامل في باطن المعنى الرمزي؛ بحيث لا يمكن استكشافه، ففي هذه الحالة هل يمكن لأحد توضيح السبب في تأكيد الله - تعالى - على ذِكْر كلمةٍ واحدةٍ - كتاب - بغية بيان علمه وقدرته ؟ كذلك لا توجد قرينةٌ في هذه الآيات تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي، وليست هناك ألفاظ تجعل الكتاب ذا معنى مجازي ورمزي بحت، إذ بحسب مقتضى الحال

ص: 303


1- صابر إمامي، شرح شطحيات، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «كتاب ماه هنر»، العددان 47 و48، 2002م، ص 62، نقلًا عن هنري كوربين وروزبهان شيرازي (مدخلي بر رمز شناسي عرفاني ص 64.

-هنا- من شتّى النواحي الزمانيّة ،والمكانيّة، إلى جانب اقتضاء ظروف المخاطب، لا يمكن تقييد معناه بهذه الدلالة، ومن ثمّ فهو في صدد بيان معنى حقيقي إلى جانب معناه المجازي ذي الطابع الرمزي فضلا عن ذلك نستشفّ من ظاهر بعض الآيات أنّ القرآن الكريم جاء ليتلى على الناس بالصورة ذاتها التي أُنزل فيها، ومن جملتها قوله - تعالى -: ﴿ وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ وَايَتٌ مِّن رَّبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْأَيَتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ(50)أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51)﴾(1).

ولا شكّ في أنّ هناك زمانًا محددًا تبلور فيه القرآن على هيئة (كتاب) وصف بالمصحف، وبات كيانًا مختلفًا عن سائر الكتب السماوية، حيث لم تنزل آياته في آن واحد، وكلّما تنزل آيةٌ على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يكرّرها؛ لكي تبقى محفوظة في ذهنه، ثمّ يقرأها على صحابته الحاضرين؛ لأجل أن يحفظوها أيضًا؛ وهذه العمليّة المتبادلة في القراءة والإقراء بين جبرائيل(علیه السّلام)والنبي، وبين النبي والصحابة، هي السبب في تسمية الآيات المنزلة قرآنًا.

وهذا العنوان -كتاب- لم يُطلَق على القرآن خلال المراحل الأولى من نزول آياته، لكنّه أطلق عليه بعد مدّةٍ؛ فقبل تلك الفترة كان يُطلق على مفهوم الكتاب بشكل عام، وعلى النص المقدّس لدى أهل الكتاب؛ أي التوراة، وعلى اللوح المحفوظ أيضًا؛ والضرورة بطبيعة الحال كانت تقتضي وجود مقدار كافٍ من الوحي المقروء على أسماع الناس؛ كي يمكن إطلاق عنوان (قرآن) عليه، لذا كان من الضروري اجتماع آيات الوحي ضمن نصّ حتى يصدق عليها عنوان (كتاب)(2). والقرآن الكريم أطلق على نفسه عنوان (كتاب)، وهذا الوصف يعني أنه كتاب سماوي؛ حاله حال التوراة والإنجيل(3).

وخلاصة الكلام: أنّ علم الله الواسع وقدرته اللامتناهية، متبلوران في تدوين النص القرآني وفي مضامين آياته(4)، كما أنّ الكتاب إلى جانب دلالته على المصحف - النصّ المدوّن

ص: 304


1- سورة العنكبوت، الآيتان 50 - 51.
2- راجع: محمد عابد الجابري، رهيافتي به قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محسن آرمين، إيران، طهران، منشورات "ني"، الطبعة الأولى، 2014م، ص 277 - 278.
3- راجع: م. ن، ص 286.
4- Herbert Berg, "Tabari's exegesis of the Quranic term al Kitab", Journal of the Academy Of Religion, 63 iv (1995), p. 774.

- فهو يرمز أيضًا إلى علم الله - تعالى - وقدرته، بل يشترك معهما؛ لدرجة أنّ تجاهله وعدم احترامه والتجرّؤ عليه بمثابة التعدّي على قدسيّة الذات الإلهيّة المباركة. ومن هنا، يثبت لنا أنّ القرآن الكريم عبر ذكره لفظ (كتاب)، قد استعرض للناس مفهومًا واضحًا ومعبرًا تمتزج فيه الرفعة والقدسيّة مع هيبة الكلام المدوّن، لذا ليس من الصواب بمكان اعتبار هذا اللفظ دالا على مفهوم مجازي في جميع الآيات التي تشتمله، وبالتالي لا صحة لرأي دانيال ماديجان الذي أكد فيه على رمزيّته وعدم استبطانه مفهومًا حقيقيًّا؛ وما أثبتناه هنا ينسجم مع تفسير قاطبة المفسّرين المسلمين(1).

ويقول المستشرق نيكولاي سيناي في هذا الصدد: «لا يوجد أي مؤشّرٍ في القرآن يدلّ على أنه يعتبر نفسه الكتاب ذاته، فهناك اختلاف ماهوي صريح بين الآيات ومنشؤها السماوي، وهذا الأمر مشهود فيه؛ وأمّا الرأي التقليدي الشائع والقائم على كون الأمرين واحدًا، فهو ناشی نوعًا ما من التطوّر المفهومي والأدبي لآياته»(2).

وكذلك لا صوابية لرأي ماديجان بكون القرآن الكريم بطبيعته لم يكن يقتضي التدوين ليصبح نيًّا محفوظًا من قِبَل البشر؛ لبيان كلام الله - تعالى - أو حفظه، بل الأمر على العكس من ذلك؛ لأنّه في سورتي عبس والواقعة أشار إلى أنّه مصدر مدوّن يتبلور على ضوئه مفهوم

ص: 305


1- رسالة يوحنا الدمشقي التي يعود تأريخ تدوينها إلى عام 752م هي إحدى الشواهد التأريخية التي تؤيد هذا المعنى، فالرد الذي دونه هذا اللاهوتي الشهير في الكنيسة الشرقية هو أحد الآثار المتداولة باللغة اليونانية، وقد أشار في مواضع عديدة إلى ما جاء به النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)من مصطلحات مثل الكتاب المقدس وكتابه وهذا الكتاب كما نقل مضامين العديد من الآيات القرآنية، ولا سيّما التي تدعو إلى توحيد العلاء الله -عزّ وجلّ -والتي تتحدّث عن أحوال المسيح عيسى(علیه السّلام)ومنها ما يلي: (سورة آل عمران، الآيات 45 - 51؛سورة النساء الآيات 59 و 157 و 158 ؛ سورة المائده، الآيتان 116 - 117). الملاحظة اللافتة للنظر في ردّ يوحنا الدمشقي هي إشارته إلى أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)قسم كلامه إلى سُوَرٍ، وجعل لكل سورة عنوانًا معينا، وفي هذا السياق ذكر سور النساء والبقرة والمائدة، ثمّ لخص مضامينها. (نیومان، ص 139 - 144). (Cf. Estelle Whelan, "Forgotten Witness: Evidence For The Early Codification Of The Qur'an", Journal of The American Oriental Society, 1998, Volume 118, pp. 5.). للاطلاع أكثر، راجع: نصرت نیل ساز، بررسي و نقد دیدگاه و نبرو درباره تثبیت نهائي متن قرآن، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة «مقالات و بررسي ها»، العدد 88، 2008م، ص 151 - 169 . يبدو أن دانيال ماديجان لم يذهب إلى ما تبنّاه جون وانسبرو بكون تدوين النص القرآني طوى مراحل مشابهةً بالكامل لمراحل تدوين الكتاب اليهودي المقدس.
2- Nicolai Sinai, “Quranic self-referentiality as a strategy of self- authorization" , in Self - referentiality in the Quran, edited by Stefan Wild, 2006, Wiesbaden, p. 105.

(الكتاب) أو اللوح المحفوظ، وفي هذا السياق امتدح وجوده الملموس، بوصفه نصًا مقدسًا(1).

واستند بعض المستشرقين إلى مسألة الإحالة الذاتيّة وفسّروا مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات الأولى لبعض السور بالقرآن، حيث اعتبروا الآيات والعبارات التي تتضمّن هذا المصطلح بأنّها تدلّ على ضرب من الإحالة الذاتية لدرجة أنّهم جعلوها عنوانًا للسُّوَر المدرجة فيها، وممّا قيل في هذا الصدد: «على الرغم من أنّ ما يقارب ثلث السور القرآنية تشير بنحو ما إلى عمليّة الوحي، لكن يمكن وصف العبارات الأولى في هذه السور بمثابة عنوان لها، فهي تُعدّ مفتاحًا لتشخيص الكلام الغيبي وغرس الطمأنينة لدى المخاطب حتّى يؤمن به كمصدر موثق»(2)

ولعلّ المستشرق ستيفان فيلد استند إلى عددٍ من روايات جمع القرآن وتدوينه ليدعي حدوث تغييرات عليه من قِبَل مدوّنيه، ومن هذا المنطلق اعتبر أنّ هذه الآيات ليست من النص القرآني، بل ألحقت به حين تدوينه؛ إضافة إلى أنّ إصرار المستشرقين على شفهية النص القرآني هو الآخر دعاه وأمثاله إلى طرح هذه الفكرة؛ لذلك أطلق بعضهم عنوان رسالة السماء (Divine Message) على مصطلح (الكتاب ) وهو تعبير مكافى له تقريبًا، حيث اعتبروا هذا العنوان أنسب وأكثر وضوحًا من مصطلح "كتاب" مقدّس(3)(Scripture)، وقد برّروا تفسيرهم هذا بأنّ الله -تعالى- لم يبلغ رسالاته للأنبياء بشكل مدوّن، والشاهد على ذلك الفعل (أوحى) الذي يعني نقل الكلام شفهيا(4).

واعتبر ماديجان الإحالة الذاتية في القرآن أمرًا ظاهريًا، وعلى هذا الأساس دعا إلى التقليل من مستوى الإحالة الذاتية لمصطلح (الكتاب) المذكور في مستهل بعض السور حين تفسيره، والسبب الذي دعاه لأن يطرح هذه الفكرة هو اعتقاده بأنّ المفسّرين المسلمين لجأوا إليه جراء الظروف الاجتماعيّة التي كانت سائدةً آنذاك، فالقرآن حظي بأهمية بالغة بين المسلمين في تلك الآونة، وبات مرتكزا لدينهم؛ بحيث لم يكن هناك شيء يضاهيه أهميةً من الناحية

ص: 306


1- Ibid., pp. 114 - 115.
2- Wild, Why self referetiality?, p. 10
3- Graham,"Orality Writing in Arabia", p. 588.
4- Ibid., p. 589.

الدينية؛ إلا الله عزّ وجلّ، فقد اختصر فيه كلامه المقدّس، وتزامنًا مع هذا الاختصار حدث أمران؛ هما:

الأمر الأوّل : أصبح الكتاب مساويًا للقرآن

الأمر الثاني: أصبح القرآن مساويًا للمصحف

وقال في هذا السياق إنّ غالبيّة المفسّرين قد أخفقوا في تفسير مفهوم مصطلح (الكتاب) ضمن الكثير من الآيات التي تحكي عن أحداث التأريخ المقدّس والتي لم تذكر أي خبر حقيقي، وتلك التي تشير إلى الأحداث المعاصرة لزمن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛فهذا المصطلح يشير في هذه الموارد إلى مدلول في ما وراء النصّ(1). وعلى هذا الأساس، فسرّ الكتاب في الآيات الأولى من السور القرآنية بمعنى آخر يختلف عن المعنى الشائع الدال على أنّ المراد منه آيات القرآن الكريم وألفاظه في رحاب المصحف الموجود لدى المسلمين كما يختلف أيضًا عن المضمون الذي تم تحديده من قِبَل الذين تصدوا إلى تدوينه؛ حيث قال: «هذه الآيات تتضمّن تفسيرًا وتحليلا للوحي ذاته؛ وهي مذكورةً إلى جانب آياتٍ أخرى، والنصّ في معظم هذه الآيات يعرّف نفسه ويدافع عنها وفي الحين ذاته يتواصل نزوله بالوحي»(2).وكذلك اعتبر أنّ اسمي الإشارة "هذا" و"ذلك" يشيران إلى القرآن الكريم ذاته؛ أي أنّ النصّ القرآني أشار إلى نفسه، وفي الحين ذاته تحدّث عنها، وحتّى عندما بلغ صيغته النهائية، بقي وكأنّه نصّ ما زال في طور النشوء؛ بحيث يلاحظ نفسه ويحلّلها بدقة وإمعان؛ كما يتحدّث عنها ليستعرضها بوضوح أمام مخاطبيه؛ وهذه الخصوصية جعلته نضًا رسميًا مدوّنا زاخرًا بالرمزيّة والغموض، لكن يبقى هناك أمر عجيب بين دفتيه، إذ يطرح خطابه؛ وكأنّه ليس كتابًا كاملًا أو منسوخا من مصدر سماوي(3).

وأشار ستيفان فيلد على ضوء سعيه إلى تفسير كلمة (الكتاب) في الآيتين الأولى والثانية من سورة الزمر ﴿تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَأَعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)﴾؛ بأنّها عنوان للكلام النبوي ومرتكز لإضفاء اعتبار عليه، إلى عدد من

ص: 307


1- Madigan, “The limits of Self Referentiality", pp. 59 - 60
2- Idem.," Book", p. 250.
3- Ibid.

الألفاظ الموجودة فيهما وقال: «في حين أنّ الآية الأولى تتضمّن كلامًا مباشرًا لله، لكنّ الآية الثانية تتضمن فعلًا فيه ضمير للمخاطب، حيث يتجلّى النداء الإلهيّ بتوجيه خطاب مباشر له»(1).ومن المحتمل أنّه يقصد من هذا الكلام أنّ الآية الأولى ذاتُ ارتباط بالذين جمعوا القرآن؛ بحيث جعلوها عنوانًا في بداية السورة، وهي ليست منزلةً من قِبَل الله؛ كما هو الحال بالنسبة إلى الآية الثانية؛ لكنّ هناك مسألةً ضروريةً جديرة بالذكر في هذا المضمار؛ وهي أن النص القرآني له أسلوبه الخاص في صياغة الكلام واختيار الألفاظ؛ وذلك من منطلق أنّ كلام الله، وكذلك كلام البشر، لا بدّ وأن يُصاغ وفق أسلوب معيّن، لذا لا ينبغي للباحث تجاهله حينما يتطرق إلى تفسيره.

والأسلوب القرآني فريد من نوعه ومنبثق من القرآن نفسه؛ بحيث يختص به حصرًا، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ أسلوب (الالتفات) هو أحد الأساليب البلاغية الشائعة في النص القرآني، ويعرّفه البلغاء بأنّه نقل الكلام من جهةٍ إلى أخرى، حيث ينتقل الكلام من المتكلّم إلى المخاطب أو الغائب، أو منهما إليه أو من أحدهما إلى الآخر، فهكذا عرّفه السيوطي: «نقل الكلام من أسلوب إلى آخر - أعني من التكلّم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها - بعد التعبير بالأوّل؛ هذا هو المشهور»(2).

إذًا، ما نلمسه في الآية الأولى من أسلوب بلاغي؛ هو الالتفات من الغيبة إلى التكلّم، لذلك لا صوابية لرأي ماديجان؛ حينما اعتبرها تحكي عن كلام مباشر لله عزّ وجلّ.

وقد تطرّق ستيفان فيلد؛ هو الآخر إلى تفسير هاتين الآيتين؛ معتبرًا ما ذُكر فيهما ضربًا من الإحالة الذاتية، وهذه الإحالة عبارة عن دوران في حلقة مفرغة؛ لكونها تستوجب حصول ما يسمى بالدور المنطقي، وتقريره التالي: يقال إنّ هذا الخطاب القرآني صحيح؛ لأنّ الله يكلّم الخلق عن طريقه؛ وهو قائله، فهو كلامه حقا؛ لأنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لا يكذب(3). وأضاف في هذا السياق أنّ الآية الأولى من سورة (ق) الأخرى تتضمّن هذا الدور، حيث قال: «﴿ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ﴾، هذا القسم يؤيد رسالة النبي

ص: 308


1- Wild, "Why Self Referenciality?, p. 10.
2- جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 155. فائدة هذا الموضوع بشكل عام هي أنّ المتكلّم حينما ينتقل في الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر، سوف يترسّخ مراده في نفس المخاطب بشكل أفضل، كما تتولّد لديه رغبة كبيرة في الاستماع إليه. للاطلاع أكثر، راجع: م. ن.
3- Wild, Ibid., p. 10.

التي تلقاها الناس عن طريق النبي نفسه»(1)وهذا الكلام ليس صائبًا طبعًا، إذ لا صحة لادعاء أن الآيات المشار إليها تستبطن دورًا حينما أراد القرآن الكريم من خلاله إثبات كونه كلامًا نزل بالوحي، ف_«عندما نلقي نظرةً أوّليةً على مضمون هذه الآيات نلمس فيها دورًا منطقيا؛ وذلك لأنّ حجية القرآن ونزوله بالوحي لم يثبتا حتّى تلك الآونة؛ لكي يلزم التمسّك بهما في عمليّة الاستدلال؛ ولكن حينما نمعن النظر في الموضوع نجد أنّ هذا المدعى ليس ثابتًا بالقطع، بل هو عرضةً للنقاش؛ بحيث لا يمكن على أساسه ادّعاء أنّ تأكيد القرآن على كونه كتابًا موحًى من السماء ضرب من الدور المنطقي؛ فهناك آيات أخرى؛ مثل آيات: التحدّي في سورة البقرة - كالآية 23 - كذلك الآيات التي تعتبر المنشأ السماوي للنصّ القرآني عاملًا لانسجام آياته، وعدم حدوث أي اختلاف بينها - كالآية 82 من سورة النساء - هي في الحقيقة برهان واضح على كونه كتابًا نزل بوحي السماء، وفي الحين ذاته لا تستبطن أي دور كما يُدعى، فهذه الآيات في ظاهرها تحكي عن الإعجاز القرآني، لذا لا يمكن اعتبارها دليلًا نقليًّا وقرآنيًّا يراد منه إثبات المطلوب، بل تجسّد دليلًا عقليًا خارجا عن النص القرآني، لكنّه طرح فيه كدليل قرآني. هذه الآيات في الواقع تحكي عن الأسلوب العقليّ الذي يجب اتباعه لمعرفة الحقيقة، ومن المؤكد أن عدم وجود اختلاف في النص القرآني بأسره، واشتماله على علوم ومعارف خاصة، لم تكن بمتناول البشر تلك الآونة، على أقل تقدير، إلى جانب عجز مناهضيه عن تفنيد هذه العلوم والمعارف، وكذلك الأخبار الغيبية التي جاء بها؛ كلّها شواهد على كونه كلامًا منزلًا بالوحي»(2).

وقد فسّر هؤلاء المستشرقون في الحقيقة مصطلح (الكتاب) وفق مداليل خارجة عن مضمون النصّ القرآني، واستندوا إلى الآية الثانية من سورة البقرة مدّعين أنه بالإمكان إعادة قراءة بعض التعابير القرآنية الدالّة في ظاهرها على إحالة ذاتية وطرح تفسير لها يتّسم بإحالة ذاتيّة أدنى مستوى، وهذا الأسلوب لا يُسفر عن تجريد التعبير عن مدلوله، بل حتى إنّه قد يُضفي إليه معنّى أفضل ؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن تُطرح قراءة للنص القرآني من باطنه ومن خارجه في الوقت نفسه.

ولعلّ دانيال ماديجان استند إلى الروايات التي تتطرّق إلى مسألتي جمع القرآن الكريم

ص: 309


1- Ibid.
2- مهدي هادوي طهران، مباني كلامي اجتهاد در برداشت از قرآن كريم (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات مؤسسة "خانه خرد"الثقافية، 1998م، ص 46 - 47.

وتدوينه، واستنتج أنّ قراءة النص على أساس مبدأ الإحالة الذاتية هي القراءة التي كانت سببًا في جمعه وتدوينه؛ بحيث أضفت عليه طابعًا رسميًّا؛ ومن هذا المنطلق اتِّبع النهج ذاته المتبع في تفسير الكتاب المقدّس ونقد مضامينه لطرح قراءة بشأن النصّ القرآني تتّصف بإحالةٍ ذاتيّة بمستوى أدنى بخصوص الآيات الأولى من سورة البقرة؛ حيث أراد استكشاف المرتكزات الأساسية للنصّ القرآني، ومن ثمّ تحليلها باعتبار أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يرد على منتقديه بكلام الوحي، ثمّ تحوّلت هذه الردود إلى تلاوات تهجّديّةٍ، وفي هذا السياق ذكر مرحلتين تحوّلت الآيات القرآنية في رحابهما إلى نقّ ديني رسمي لدى المسلمين، هما:

المرحلة الأولى: تحوّل تلاوة هذه الآيات إلى تهجّدٍ رسمي، وفي هذه المرحلة بدأ الناس يتفكرون فيها؛ باعتبارها مُنزَلَةً من قِبَل الله، ثمّ تحوّلت إلى مرتكز لهدايتهم دينيًّا، إذ كانوا يهتدون على أساسها.

المرحلة الثانية: جمع النصّ القرآني وتدوينه بشكل رسمي، وفي هذه المرحلة تم جمع الكلام الذي أوحي إلى النبي وتدوينه؛ ليتبلور بهيئة كلام الله الذي يتم التعامل على أساسه؛ وعندها تبلورت مسألة الإحالة الذاتية في النص القرآني على نطاق واسع؛ لدرجةٍ مُبالغ فيها - حسب رأيه - ما دعا المسلمين لأن يعتبروا مصطلح (الكتاب) المشار إليه في مستهل بعض السور هو القرآن ذاته(1).

ومن جملة الآراء الأخرى التي تبنّاها هذا المستشرق أنّ (الكتاب) مبيّن لفعل الله -عزّ وجلّ- على مرّ التأريخ، وتسمية النصّ المقدّس بالكتاب مؤشّر على أنه أصبح رسميًّا ومرتكزا؛ بحيث ناب عن فعله التأريخيّ وأصبح القرآن وفق هذا العنوان - أي الكتاب - هو الفعل الإلهيّ ذاتَه المتجسّد في الكتابة، لا أنّ النسخ الذي حدث في ما بعد اتّسم بطابع رسمي(2).

ولدی بیانه مدلول اسم الإشارة (ذلك) في الآية الثانية من سورة البقرة اعتبر المعتقدات التي نتبنّاها من منطلق كوننا مسلمين هي التي جعلتنا نفسّرها ب_(هذا)، فالآية تقول: ﴿وذلك الْكِتاب﴾ لكنّ المسلمين يقولون إنّ المقصود (هذا الكتاب)؛ أي الآيات المذكورة فيه(3).

ص: 310


1- Madigan, “The limits of Self Referentiality, pp. 66 - 67
2- Ibid., p. 67.
3- Ibid., p. 59.

والحقيقة أنّ المفسّرين المسلمين - كما ذكرنا آنفا - فسّروا اسم الإشارة (ذلك) وفق آراء متعدّدة(1)، ولو أذعنا لما قاله بعضهم بكون المراد منه الحروف المقطعة السابقة له، أو الآيات القرآنية الأخرى التي أُوحيت إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل ذلك، ففي هذه الحالة يكون مدلوله الحقيقيّ تلك الفاصلة الزمنية الملحوظة، ومن ثم فالكتاب؛ وفق هذا التفسير، عبارة عن نصّ يمكن تفسيره؛ ولكن حسب رأي يوسف درّة الحدّاد الذي طرحه بخصوص الآيات الأولى من السورة القرآنية المشتملة على مصطلح (الكتاب)، فاسم الإشارة (ذلك) يحكي عن منشأ الآيات القرآنية التي يتلوها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)على الناس، وهذا الرأي يؤيّد ما تبنّاه ماديجان بخصوص المشار إليه.

وبعد ذلك، ومن منطلق اعتباره مفهوم الكتاب في القرآن ذا مدلول رمزي، بادر إلى تفسيره في الآية الثانية من سورة البقرة، وأكّد على أن القرآن ينقض حقًا بعض الآراء المتعارفة التي تُطرح حول المعنى المقصود من هذا المفهوم، إذ لا ينبغي تفسيره - هنا - باعتباره نصَّا، بل المراد منه أنّ ما يُوحى هو (كتاب)؛ لأنّه من جانب الله -تعالى- ومنبثق من علمه وقدرته والكتابة ليست سوى أمر يرمز إليهما. إذًا القرآن؛ طبقًا لهذا الاستدلال، هو كتاب الله المشتمل على كلامه القاطع والنافذ؛ لكن ليس كلّ ما فيه يمكن اعتباره كلامًا صادرًا منه؛ وإنّما يشير إليه ويضمن للبشرية دائما أن تهتدي به(2)؛ أي إنّه الشيء التأريخيّ ذاته الذي يشير إلى فعله تعالى(3).

ويحكي تفسير هذا المستشرق لمصطلح (الكتاب) في الآية الثانية من سورة البقرة عن البنية الأساس لفعل الله -تعالى- التي تتجسّد في الكتابة، ولا يشير إلى النسخ الذي حدث في ما بعد وأصبح نصَّا دينيًّا رسميًا - حين تدوين القرآن - ؛ وهذا يعني أنّ الفعل الإلهي المتجسّد في الكتابة يُطلق عليه (كتاب) ؛ لذا فالمصحف مُستنسَخ منه؛ وقد استدل على رأيه هذا بقوله: «بما أنّ الكتب تستبطن العلم في نصوصها، فهي تستخدم للإشارة إلى الأوامر الدينيّة الصادرة من الله؛ وبذلك يمكن القول إنّ (كتاب) ذو مفهوم استعاري أو أعلى من ذلك؛ باعتباره رمزا لفعل الله»(4).

ص: 311


1- راجع: بداية هذا الباب.
2- Madigan, “Book", pp. 250 - 251.
3- Idem., "The limits of Self Referentiality", p. 67.
4- Ibid., p. 61 - 62.

وأمّا الخطاب القرآني المطروح بخصوص مصطلح (الكتاب) فهو - برأيه - متعدّد الدلالات، ولو أنّنا قيّدناه بكونه نصًا مقدسًا - فقط - واعتبرنا آياته مجرّدَ نصوص بحتة، ففي هذه الحالة نكون قد تجاهلنا الكثير من عناصره الأساس، لأنّ الوحي وُصِفَ بالكتاب قبل فترة طويلة جدًّا سبقت تدوينه بهذه الهيئة(1). ومصطلح (الكتاب) في الآية المذكورة يشير - برأيه - إلى منشأ الكلمات التي نطقها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛لكونها صادرةً من علم الله - تعالى - وقدرته ، لذا يصبح تدوينها رمزًا يشير إلى ذلك؛ بحيث سميت كتابًا من هذه الناحية؛ وبما أنّ هذه الكتابة تقتضي وجود ارتباط بين المتكلّم والمخاطب، فلا بد -هنا- من إعادة تدوينه، وهيكلة عباراته، وإجراء تعديلات على نصّه؛ وهذا هو السبب في ظهور النسخ وعمليّة التدوين. كما أكّد على أنّ هذه الآية تثبت كون القرآن مكتوبًا من قِبَل الله - تعالى -؛بوصفه كلامًا قاطعًا ونافذًا، لكنّه مع ذلك ليس هو كلّه كلامًا صادرًا منه، بل منه ما يشير إليه؛ لأجل ضمان هداية البشر على مرّ العصور(2).

وضمن سعيه إلى إثبات أنّ بعض الآيات - كالآية الثانية من سورة البقرة - تحكي عن أمرِ خارج عن نطاق النص القرآني(3)، ولا ينبغي قراءتها؛ وكأنّها تحكي عن نفسها، وصف المشار إليه باسم الإشارة (ذلك) بأنّه غامض وغير محدد، وبالتالي إن أردنا معرفته فلا محيص لنا من مقارنة هذه الآية مع الآيات التي تتضمّن اسم الإشارة (تلك) الذي يشير إلى الآيات؛ فهناك إحدى عشرة آيةً استُخدم فيه اسم الإشارة (تلك) للدلالة على البعيد وثمانية منها ذكرت في مستهل السور(4).

وعلى ضوء الدلالة المفهومية المتنوّعة لمصطلح (آية) في القرآن الكريم، فقد فسّرها بأنّها تدلّ على جانب من بنية المصحف وبحجمٍ أقل من السورة ، فهو -برأيه- معنى ثانوي ومشتق من السّياق القرآني، أو على أقل تقدير منبثق من قراءة خاصّة للنصّ القرآني؛ وترجمتها بمعنى كهذا يحكي عن ضرب من الإحالة الذاتية في القرآن، وفي الحين ذاته يقوّي دلالته. وبعد هذا الاستدلال طرح السؤال التالي: ألا يترتب على هذه الترجمة حدوث الدور المنطقي؟

وجدير بالذكر -هنا- أنّ محمّد مارمادوك بكتال حينما ترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية،

ص: 312


1- Ibid., p. 61
2- Madigan, "Book", p. 250 - 251.
3- Metatext.
4- Cf. Idem., “The limits of self - referentiality...", pp. 61 - 62.

لم يترجم آية وآيات ب_(verse / verses) إلا في موارد عدّة، حيث رجّح أن يترجمها الوحي(1)،ومن المحتمل أنه ترجمها كذلك في قوله -تعالى-: ﴿تِلكَ آياتُ الكِتابِ﴾؛ استنادًا إلى مضمون الآيات التي تليها، إذ كما ذكرنا آنفًا، فالآيات اللاحقة لهذه الآية تتمحور حول مسألة الوحي بشكل أساس(2)، وكيفما تصوّرنا الوحي فهو من سنخ الكلام؛ بحيث يُتلى ويُقرأ.

إذًا، المقصود من مصطلح (آيات) في القرآن الكريم هو ألفاظ كلام الله التي تتلا؛ لأنّ كلامه فيه آيات: ﴿ تِلْكَ ءَايَتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(3)، وكتاب الله - أيضًا - فيه آيات: ﴿ تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾(4)، إذ الكلام حينما يتعين ويمتاز عن غيره ويظهر إلى العلن، يُطلق عليه عنوان (كتاب)(5).

وقال ريتشارد بال إنّ ترجمة (verse) لا تنطبق إلا على كلمة أو كلمتين في النص القرآني ذُكِرَتَا بلفظ (آية) ، وفي موارد أخرى اعتبر هذا اللفظ الإنجليزي لا ينطبق على الكلمة وحدها؛ كي تترجم على ضوئه، وإنّما ينطبق على معنى العبارة المذكورة فيها(6).

ومن جملة الآراء الأخرى التي طرحها ماديجان أنّ كلمة (آية) تشير في بعض العبارات القرآنية إلى تلاوة النصّ المقدّس، لذا فهي في هذه الصيغة تجسّد تلاوة منبثقةً من إدراك ذاتي لأحد النصوص الرسميّة المقدّسة، وتلاوة النصّ المقدّس لا تعني بالضرورة تصوير التأريخ المقدّس بذاته؛ حتى وإن استعملت الكلمات نفسها أو أخرى مشابهة لها. لا شكّ في أنّ هذين النوعين من الآيات مختلفان عن بعضهما بالكامل، فالأحداث التأريخيّة والظواهر الطبيعية التي اعتبرها القرآن الكريم آيات يجب أن يتفكّر فيها بنو آدم، وهي لا تتنزل إلى مستوى (آيات)؛ وبرّر ذلك بأنّها علامات تجسّد آياتٍ في الخِلْقة لكنّها لا تنوب عنها، وفي نهاية المطاف تتحوّل المبادئ التعليمية

ص: 313


1- Cf. Muhammad Pickthall, Translation of the Qur'an, passim
2- للاطلاع أكثر، راجع: الآيات الأولى من السور التالية: يونس، يوسف، الرعد، الشعراء؛ وسور أخرى.
3- سورة البقرة، الآية 252
4- سورة الشعراء، الآية 2
5- راجع: صدر الدين الشيرازي، مفاتيح الغيب (باللغة الفارسية)؛ ترجمه إلى الفارسية محمد خواجوي ، منشورات «مولى»، الطبعة الأولى، 2005م،ص37.
6- Richard Bell, Introduction to the Qur'an, Edinburgh: Edinburgh University Press, revised enlarged by W.M. Watt, rp. 1990, pp. 121 - 126.

والمواعظ ومسألة محاكاة الواقع إلى جزء من تلاوات أحد النصوص الرسميّة المقدّسة، ومع ذلک تصبح جزءًا من التأريخ، قبل أن تغدو كذلك؛ بحيث تحتل مكانةً خاصةً بها؛ وهذا التفصيل يُعدّ -برأيه- ضروريًا لإجراء تقييم صحيح حول مستوى إدراك النص لذاته(1).

وفي نقد ما تبنّاه يمكن القول: إنّه بالإمكان أن نستنتج من ظاهر الآيات التي يتمحور البحث حولها أنّ كلمة (آيات) تشير إلى الآيات التي تتضمّن كلمة (آية) في أوّلها أو آخرها؛ وهذا الرأي طرح -أيضًا- من قِبَل المستشرقة أنجليكا نويورث التي اعتبرتها دليلا على كون النصّ دعائيًّا. إذًا، لعل ماديجان تساءل عن مدلول عبارات مؤطّرة بشكل معيّن كهذه، فهي إما أن تعني هيئة الآيات السابقة أو التالية لها، وإما أن يراد منها مضمونها؛ أي هل إنّها عبارةً عن كلماتِ ذُكِرَت قبل هذه العبارات المؤطّرة أو بعدها، أو هل إنّها تحكي عن فعل الله -عزّ وجل - ؛ بحيث تشير إليها هذه الآيات وتشهد عليها؟ لذلك اعتبرها تشكل الجانب الميتافيزيقي للنص القرآني؛ وقد فسّر العبارات المشار إليها على ضوء المدلول الثابت لاسم الإشارة (تلك) الذي يشير إلى البعيد، حيث قال: «الآيات التي تأتي بعد ذلك تحكي عن آثار الله في الطبيعة والتأريخ، وبعثته الأنبياء بالشريعة النافذة (الكتاب)، وقدرته المطلقة؛ فهذه الآثار - الآيات - جاءت إلى العرب بلغتهم العربية على هيئة قرآن عربي، وقد أمروا في مقابل ذلك بأن يواظبوا على تلاوتها لعلهم يتفكرون»(2).

ويضيف أن تفسير اسم الإشارة (تلك) بأنّه يدلّ على المشار إليه القريب في هذه الآيات المؤطّرة لا يعدّ ناجعًا؛ لأنّه يسفر عن عدم وضوح ما إذا كانت الآية تشير إلى شيءٍ في ما وراءها ما وراء النصّ التي تندرج فيه أو لا، وهذا النمط من الإشارة له معنيان -برأيه- هما:

المعنى الأوّل: الخطاب الذي يُطرَح باعتباره (آيات)(3)، يحكي في الأساس عن تأريخ خلق الله وتعامله مع البشر؛ لذا فهو لا يدلّ على السنة الجارية في الكون.

المعنى الثاني: حتَّى وإن دلّ هذا الخطاب على التعامل بين الله وعباده بوساطة النبي العربي، فهو في الحين ذاته يشير إلى التبليغ والجدل الكامن في ما وراء النص.

ص: 314


1- Madigan, “The limits of Self Referentiality", pp. 62 - 63.
2- Ibid., p. 68.
3- Signs.

ومن هذا المنطلق لم يوافق على ترجمة كلمة (آية) في الآية 106 من سورة البقرة ب_(verse)، بل هي برأيه تحكي عن قدرةٍ ونفوذ، واستنتج من السّياق المذكورة فيه والذي يتحدّث عن كيفية التعامل بين النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) ومنتقديه، أنّها تشير إلى فعل الله الذي تمحور حول الإعراض عن الأحكام الشرعية اليهودية المسيحيّة(1).

وكذلك أشار إلى وجود قراءات أخرى طُرحت لمصطلح (آية) بعد تدوين القرآن الكريم وظهوره على هيئة كتاب ديني رسمي للمسلمين، حيث اعتبرت جزءا من البنية القرآنية؛ كما أنّه يعتقد بوجود اختلاف بين النصّ القرآني قبل تدوينه؛ وبعد تدوينه؛ من حيث بنيته العامة، فهو يعكس واقع التعامل المتواصل بين النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ومخاطبيه، إلا أنّ هذا التعامل لم يتم تثبيته بالكامل، بل ثُبّت جانب منه فقط؛ لذا استتنتج من ذلك أنّ عموميّة هذا التعامل؛ بجميع تفاصيله التي تشتمل أفعال الله والرسول، تختلف عن مضمون النص القرآني؛ لأنّ القرآن يتطرّق إلى بيان واقع التعامل، ويدلي برأيه بخصوصه، وقد أشير إلى ذلك بأفعال عديدةٍ وهی تحكي بمجملها عن حقائق في ما وراء النصّ، لذا اقتضت الضرورة القول بوجود مستوى أقل من الإحالة الذاتية لمصطلح (آية) المذكور في بدايات بعض الآيات(2)؛ ومما قاله في هذا السّياق: «الأفعال التي لها ارتباط بالآيات في هذا النصّ عبارةٌ عمّا يلي: (قص) سرد القصص والروايات ، و (بيّن) وضّح، و (فصل) شرح وتفصيل وبيان للجزئيات، و(أتى به) جلبه وجاء به... و (صرف) استعرض و (تلا) قرأ، (قرأ) تلا. كما يشير بعضها إلى الأفعال الذميمة التي يرتكبها البشر إزاء آيات الله، وهذه الأفعال لا يشار فيها إلا في هذا النصّ؛ وأبرزها الفعل (كذب)؛ أي وصف الشيء بالباطل ، و (كفر)؛ أي الإنكار والرفض وعدم الإيمان و (جحد)؛ أي أنكر. هناك أفعال أخرى تحكي عن الاستهزاء؛ مثل: (هزی)؛ بمعنى سخر ، و (جادل)؛ بمعنى ناقش في الأمر باعتراض، و(خاض)؛ بمعنى انهمك في كلام لا طائل منه؛ كما هو مذكور في الآية 68 من سورة الأنعام، وغير ذلك... كلّ هذه الآيات تحكي عن منظومة متكاملة للنشاطات الكامنة في ما وراء النصّ القرآني، حيث ظهرت على إثر آيات الله وجرّاء مجادلة الناس نبيّه»(3).

ص: 315


1- Ibid., p. 63.
2- Cf. Ibid., PP. 63 - 64.
3- Cf. Ibid., PP. 64-65.

ومصطلح (آية) برأي ماديجان لا يدلّ على مفهوم واحد، بل هو على غرار فعل الله؛ من حيث كونه زاخرًا بالمعاني والمداليل؛ وفي هذا السياق تطرّق إلى تحليل معنى كلمة (آية) المذكورة في الآية 20 من سورة يونس(1)مدعيًا أنّ الناس لما طلبوا من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يأتيهم ب_(آية) فهم لا يقصدون من ذلك مشاهدة فعل النبي، بل أرادوا مشاهدة فعل من الله؛ لكي يؤمنوا بما جاءهم به النبي قبل مشاهدتهم هذه الآية(2).ونستشف من هذا الاستدلال أنّه لا يعتقد بوجود اختلاف بين مصطلح (آية) المذكور في الآيات الأولى لبعض السور وبين المصطلح المذكور في الآية 20 من سورة يونس، إلا أن الحقيقة على خلاف تصوّره، فهناك فرق بين ،الموضوعين ولا يمكن اعتبارهما سنخًا واحدًا؛ إذ من الواضح أنّ ما ذُكِرَ في سورة يونس يُقصد منه (المعجزة): ﴿ يَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ﴾، والدليل على ذلك: أنّ الله -عز وجل- هدّد المشركين في نهاية هذه الآية وتوعدهم: ﴿فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾. كما في الآية 15 من السورة ذاتها طلبوا منه أنْ يأتيهم بقرآنِ آخرَ غير الذي جاءهم به، أو أن يُبدله بغيره(3)، وهذا المضمون تكرّر - أيضًا - في الآية 59 من سورة الإسراء(4).

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا السياق، هي أنّ الآية الأولى من سورة يونس: ﴿الرَّ تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ الْحَكِيمِ ﴾، تشير -كما ذكرنا آنفا- إلى أجزاء كلام الله -تعالى-(5)؛ لأنّ الوحي هو محور الكلام فيها، وكيفما فسّرناه فهو من سنخ الكلام، لذا لا يُراد منه فعل الله - تعالى - أو تعامل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مع مخاطبيه؛ أضف إلى ذلك أنّ هناك أسئلةً تُطرح على ماديجان في هذا الصدد، وهي: هل يعتقد أنّ المسلمين في صدر الإسلام لم يفسّروا هذه الكلمة بالآيات القرآنيّة؟ وهل كانوا يعتبرون هذه الكلمة الواقعة في بداية إحدى السور القرآنية تدلّ على معنى في ما وراء الألفاظ ؟ وهل كانوا يعتقدون بوجود فرق بين النص وكلمة الله؟

ص: 316


1- قال - تعالى -: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِني مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾(سورة يونس، الآية 20).
2- Cf. Ibid., P. 63.
3- قال - تعالى -: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا انْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرُ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة يونس، الآية 15).
4- قال - تعالى -: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا تُمودَ النَّاقَةَ مُبْصَرِةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾(سورة الإسراء، الآية 59).
5- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 7.

وعلى أساس نظريّته التي أشرنا إلى فحواها، توصل إلى النتيجة التالية: رسوخ القرآن في المجتمع الإسلامي نصَّا دينيًّا رسميًا قام على مرحلتين؛ هما:

المرحلة الأولى: تلاوة آياته من قبل الناس والتأمل فيها.

المرحلة الثانية : إضفاء صبغة عمليّة ل_(كلمة الله) ضمن نصّ مدوّن.

إذَا، بات المصحف انعكاسًا عمليَّاً لكلمة الله خلال عملية تدوينه، إذ لو لم يدوّن؛ فإنّ مصطلح (آية) وسائر المصطلحات القرآنية التي تتّصف بالإحالة الذاتية كانت ستفهم على ضوء الفعل المؤثر لله -تعالى- والكلام الدال على خلقه والتأريخ والنبوة، ومن ثمّ لا يدرك الناس منها مفاهيم تتّسم بالإحالة الذاتية؛ ومن هذا المنطلق تَرجَمَت الآيات المشار إليها اسم الإشارة (تلك) ب_(verse)؛ باعتبارها جزءًا من كلام الله، ومن هنا، لا بد من امتلاك فهم أوسعَ من الفهم النصّيّ البحت، حين التطرّق إلى تفسير مصطلحات من هذا القبيل(1).

وفضلًا عن ذلك اعتبر عربيّة النص القرآني دليلا على أنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه على ارتباط بثقافة ولغةٍ لا تنفكّان عن مضمون نصّه، لذا يمكن اعتباره غير متحكّم بالكامل بهذا النصّ(2).

وفي نهاية المطاف استنتج أنّ الإحالة الذاتية في القرآن ضمن بعض المصطلحات؛ مثل: (آية) و (كتاب)، تعود في أساسها إلى المجتمع الإيماني، بينما النص القرآني ذاته لا يُوحي بمفهوم هذه الإحالة(3).

وقد ذكرت الموسوعة الإسلامية الكبيرة(4)ثلاثة معان لمصطلح (آية) خلال مسيرتها تحوّلها السيميولوجي إبّان العصر الجاهلي، وهي:

المرحلة الأولى: علامات مادّيّةٌ ملموسة تتمثل بالظواهر الطبيعية والآثار التي تدلّ على قدرة الله تعالى، ولربّما على ضوء هذا المدلول أطلقت على مجموعة الكلمات والحروف أيضًا.

المرحلة الثانية: علامةً على أمرٍ غير مادي (ما ورائي).

المرحلة الثانية: علامةً على الغضب والتهديد والوعيد.

ص: 317


1- Madigan, “The limits of Self Referentiality", p. 69.
2- Ibid., p. 68.
3- Ibid.
4- هذه الموسوعة مدوّنة باللغة الفارسية بعنوان (دائرة المعارف بزرگ اسلامی).

لكنّ هذا المصطلح بعد ذِكْره في النصّ القرآني اتّسم بعشرات المعاني الجديدة التي ذكرها المفسّرون في بطون تفاسيرهم؛ ومعناها المحوري هو العلامة، وبحسب الاصطلاح القرآني فهو يدلّ على الظواهر التي تحدث في الكون؛ لأنّها قاطبةً تدلّ على عظمة الله -تعالى- وعلمه وقدرته، كذلك يراد من هذا المصطلح الإشارة إلى معاجز جميع الأنبياء والرسل؛ بمن فيهم: النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛لكونها علامات على صدق رسالاتهم(1).

وهناك معان فرعيّةٌ ذُكِرَت في مختلف التفاسير القرآنية لبيان مدلول هذا المصطلح؛ من جملتها ما يلي: حكم شرعيّ (سورة البقرة، الآية 187)والاقتدار والسلطة (سورة القصص، الآية 35)، والبناء المرتفع (سورة الشعراء، الآية 128)، وكذلك القصّة والرسالة والشخص والهيكل والجماعة والكلام النافع(2).

كما أن لها معنى اصطلاحيًّا قوامه دلالتها الأساس التي هي العلامة؛ وهي الكلمات والعبارات والجمل القرآنية التي تعتبر المكوّن الأساس للسور الموجودة فيها، وعددها في كلّ سورة ثابت لا يتغيّر، وكل واحدة منها تعتبر علامةً(3).

إذَا، لا يرجع تأريخ تسمية الأجزاء المكوّنة لسور القرآن الكريم ب_(آيات) إلى زمان تدوينه، ليظهر على هيئة مصحف، بل تزامنت هذه التسمية مع نزولها، وهذا هو السبب الحقيقي في تسميتها؛ لكونها على غرار العلامات الطبيعية لله عزّ وجلّ؛ ومنها ما يمثل جانبًا من الأصول الاعتقاديّة والأحكام الشرعيّة، ومنها ما يحكي عن الأصول الأخلاقية التي أمر الله بها(4).

وتتسم المباحث التي دوّنها دانيال ماديجان، في تفسير مصطلح (الكتاب) في الآية الأولى من سورة البقرة، بالتخبّط والتشتّت، حيث خرج فيها عن إطار البحث العلمي القويم، وسعى من خلالها إلى إثبات أنّ هذا المصطلح لا يُراد منه المصحف -القرآن المدوّن الذي بين يدي المسلمين - وفى هذا السّياق سلّط الضوء على العديد من المصطلحات والتعابير؛ بما فيها مصطلحا (قرآن) و

ص: 318


1- للاطلاع أكثر، راجع: سورة القمر، الآيتان 1 - 2.
2- للاطلاع أكثر، راجع: حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، كلمة (آية)؛ حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، كلمة (آية).
3- آذرتاش آذر نوش، واکاوي و معادل يابي تعدادي از واژگان قرآن كريم (باللغة الفارسية)، كلمة (آية)؛ دائرة المعارف بزرگ اسلامي (باللغة الفارسية)، منشورات مركز الموسوعة الإسلامية الكبيرة، الطبعة الأولى، 1989م ، ج 2، ص 276 (بتلخيص).
4- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 159.

(آية)؛ لإثبات أنّ المصحف غير الكتاب؛ لكنّ الأدلّة التي ساقها في هذا المضمار غير مقنعة، وكما ذكرنا في بداية هذا الفصل يمكن تفسير مصطلح (الكتاب) في الآية الأولى من سورة البقرة بأنّه يشير إلى المنشأ السماوي للقرآن الكريم، لذا لا صوابية لادّعاء غير ذلك.

ص: 319

ص: 320

الفصل الثاني

التفسير الاستشراقي لمصطلح التفصيل" في النصّ القرآني

ص: 321

ص: 322

تبنّى بعض المستشرقين آراء خاصةً في تفسير عددٍ من المصطلحات والعبارات القرآنية، وهذه الآراء لا تتناغم بطبيعتها مع التفسير المتعارف لدى المسلمين؛ كما بادر بعضهم إلى طرح تعريف جديد لها على ضوء تحليل مضمون الآية المذكورة فيها ؛ ومصطلح (تفصيل) هو أحد هذه المصطلحات القرآنية.

وفي ما يلي نسلّط الضوء على الموضوع ضمن المباحث التالية:

المبحث الأوّل: التفصيل بمعنى التعريب:

سعى يوسف درّة الحدّاد إلى إيجاد حوار بين الإسلام والمسيحيّة، لكنه في الحين ذاته شكك بأهم مصدرٍ مُعتَمَدٍ لدى المسلمين ضمن استنتاجاته المنحازة التي توصل إليها في تفسير عدد من الآيات القرآنية في السور التالية: (الأنعام، الأحقاف، النمل ،الشورى، البقرة آل عمران، العنكبوت)، حيث وضّح مضامينها وذكر ملاحظات حول بعض مفرداتها وعباراتها؛ وفقًا لمآرب خاصة، وآراؤه في هذا السّياق لم يطرحها أي مفسّرِ آخر منذ عهد نزول القرآن الكريم.

ويقوم النهج التفسيري الذي اتبعه الحداد على تجريد القارئ من حرّيّة الرأي في فهم النص القرآني؛ بحيث يتجاهله بالكامل، وفي هذا المضمار حاول إثبات آرائه التفسيرية الخاصة ومختلف فرضيّاته القائمة على إيديولوجيّة المسيحيّة؛ ومثال ذلك: اعتباره أنّ الإسلام هو الدين النصراني ذاتَه، وأنّ القرآن الكريم ليس سوى نسخة عربيّةٍ من الكتاب المقدّس، ومن ثمّ فهو تابع له ومرتبط بأهل الكتاب وأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مجرّدُ واسطة ثانية لتبليغ دين النبي عيسى(علیه السّلام)، وما إلى ذلك من آراء منحازة أخرى. وعلى ضوء هذه الآراء بادر إلى تفسير كلمة (تفصيل) ضمن الآيات التي تشتمل عليها معتبراً إياها بمعنى (التعريب)(1).

وممّا قاله فى هذا السّياق: «القرآن في حقيقته هو (الكتاب) السابق ذاته، حيث ترجمه بالتفصيل إلى العربية»(2). ونلمس من رأي الحداد تناقضًا في هذا المجال منذ بادئ الأمر، بحيث ذكر معنيين المصطلح واحدٍ، فحينما أراد بيان حقيقة القرآن، فسّر التفصيل المذكور في

ص: 323


1- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 144 - 146.
2- م. ن، ص 145.

الآيات 114 و 115 من سورة الأنعام و 37 من سورة يونس بالتعريب، لكنه وصف ترجمته بكلمة (تفصيل)؛ وهي تعني - طبعًا- الشرح والبيان أي أنّه اعتبر التفصيل بمعنى تعريب الكتاب المصدر مستدلا بالآيات الأولى من سورتي الجاثية والأحقاف، والآية 53 من سورة غافر، ثمّ استنتج من ذلك أنّه نسخةً مترجمة إلى العربية من الإنجيل العبري.

ومما استنتجه من قوله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى﴾(1)ومن آيات أخرى: أنّ القرآن الكريم الذي وصف نفسه بالكتاب المصدر يُراد منه انتسابه إلى التوراة والإنجيل؛ لكونه منسوخًا منهما على هيئة ترجمة عربيّة، إلا أنّ هذا الرأي لا دليل عليه بتانا؛ لأنّ هذه الآيات، ولا سيّما الآية 37 من سورة يونس التي أكّد عليها أكثر من غيرها، لا تحتمل ألفاظها وعباراتها معنىً كهذا، إضافة إلى أنّ سياقها يحكي عن معنى مغاير تمامًا لما استنتجه؛ فضلًا عن تعارضه مع الحقائق التأريخية الثابتة؛ لكن لا يسعنا تسليط الضوء عليها في مباحث هذا الكتاب.

مضافًا إلى أنّ المفسّرين المسلمين لم يتبنوا مثل هذا المعنى للتفصيل، ولا للتصديق، ولا لسائر المصطلحات والعبارات القرآنية مطلقًا، منذ عصر صدر الإسلام وحتى عصرنا الراهن، فهم لم يستنتجوا من النصّ القرآني ما ذكره هذا المستشرق؛ بل أكّدوا على أنّ القرآن مصدِّقٌ للتوراة والإنجيل؛ بوصفهما كتابين مقدَّسَيْن يشتملان على حقائق دينيّة، وفي الحين ذاته لم يدعوا تجرّده من حقائق أخرى؛ بحيث إنّ الحقائق التوارتيّة والإنجيلية -فقط- تلبّي جميع متطلبات البشريّة، وإنّما على ضوء تطوّر المجتمعات البشرية والبشر أنفسهم، وتغيّر الظروف الزمكانية، ظهرت حاجةً لقضايا جديدة، ومن هذا المنطلق اقتضت العناية الإلهية نزول القرآن الكريم؛ لكونه السبيل الوحيد الذي يمكن أن يلبي هذه الحاجة الماسة.

وقد ذُكِرَ لفظ (التفصيل) ومشتقاته في القرآن الكريم ضمن آيات قرآنية عدة، هي:

- ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ﴾(2)

- ﴿و نُفَصِّلُ الْآيَتِ﴾(3)

ص: 324


1- سورة يونس، الآية 37.
2- سورة يونس، الآية 37.
3- سورة يونس، الآية 24.

- ﴿يُفَصِّلُ الْآيَتِ﴾(1)

- ﴿كِتَبُ أُحْكِمَتْ وَايَنتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾(2)

- ﴿كِتَبُ فُصِّلَتْ عَايَتُهُ، قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(3)

- ﴿وَلَقَدْ جِتْنَهُم بِكِتَابِ فَصَّلْنَهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(4)

ويتمحور المراد من التفصيل في جميع هذه الآيات حول المعنى، وفي الآيتين التاليتين يراد منه القضاء والحكم والبيان:

- ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(5)، فالتفصيل في هذه الآية يعني الحكم والقضاء.

- ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾(6)؛كما ذكرنا في تفسير الآية الأولى من سورة هود، فالتفصيل -هنا- بمعنى البيان.

كما أنّ عدم التفصيل المشار إليه في بعض الآيات يُراد منه انعدام المعنى؛ ومثال ذلك الآيات التالية:

- ﴿وَلَوْ جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ عَايَنُهُ، وَأعْجَمِيٌّ وَعَرَبيٌّ﴾(7)

- ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلُ (13) وَمَا هُوَ بِأَهْزَلِ(14)﴾(8)

وعدم التفصيل -هنا- هو بحكم انعدام المعنى، وقوله - تعالى -: ﴿لَقَالُواْ﴾ في الآية 44 من سورة فصلت يدلّ على تذرّع العرب بحجج لمخالفة القرآن، فلو كان بلغةٍ غيرِ عربيّة لقالوا لِمَ لَمْ تُفضّل آياته؟ أي لِمَ لَمْ تُوضّح معانيها ؟

ص: 325


1- سورة يونس، الآية 5؛سورة الرعد، الآية 2.
2- سورة هود، الآية 1.
3- سورة فصلت، الآية 3.
4- سورة الأعراف، الآية 52.
5- سورة الحج، الآية 17.
6- سورة الأنعام، الآية 119.
7- سورة فصلت، الآية 44.
8- سورة الطارق، الآيتان 13 - 14.

وأما الآيتان 13 و 14 من سورة الطارق، فقد صرّح القرآن فيهما بأنّ آياته ليست عبثيّةً وعاريةً عن المعنى، بل هو قول فصل ذو معنى واضح.

وحينما نقارن بين مداليل الآيات المذكورة أعلاه نلمس أنّ التفصيل على غرار التبيين، فهو بمعنى الإضافة والوضوح والتقليل من مقدار التشابه بين الألفاظ والعبارات، على ضوء بيان تفصيلي، وأحيانًا قد تكون مضامين الآيات إجماليةً من حيث المعنى، وهنا يكون تفصيلها بمعنى الحكم(1).

وهناك آيات عدّة تطرّقت إلى بيان بعض مكامن الغموض التي قد توحي بفهم خاطئ للمضمون القرآني، حيث توضّح المعنى لتؤكد بأسلوبها هذا على أنّ النصّ القرآني واضح من حيث الدلالة؛ ويؤيد ذلك تكرار عبارة: "آيات بينات"، والمقصود منها أنّها آيات تميّز الأشياء عن بعضها وأنّ مدلولها جلي، وقد نسب الله - تعالى - هذا البيان لذاته المباركة؛ حينما قال: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامُّ

} أنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَتِ ثُمَّ أنْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون﴾(2). وهذا البيان وصف في آيات أخرى بالتفصيل؛ ومنها قوله - تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(3)

وقد تكرّرت عبارة (كلّ شيءٍ) مرّتان في القرآن الكريم؛ ضمن ارتباطها بالتبيين والتفصيل؛ وذلك في الآيتين التاليتين:

- ﴿وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَايَنَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَضَلْنَهُ تَفْصِيلًا﴾(4).

ص: 326


1- راجع: أحمد باكتشي، مطالعه معنا در سنت اسلامي، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة «پژوهش فرهنگي»، العدد الثالث، السنة التاسعة،2008م، ص 9 - 10 (بتصرف وتلخيص).
2- سورة المائدة، الآية 75.
3- سورة الأنعام، الآية 97. للاطلاع أكثر، راجع: أحمد باكتشي، مطالعه معنا در سنت اسلامي، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة «پژوهش فرهنگي»، العدد الثالث،السنة التاسعة، 2008م، ص 9 - 10 (بتصرف وتلخيص).
4- سورة الإسراء، الآية 12.

- ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(1).

والتبيين والتفصيل في هاتين الآيتين يشملان جميع الأمور، ولكن هناك اختلاف بين المفسّرين حول ما إن كانت عبارة (كلّ شيءٍ) تعني شمول الأمور قاطبةً أو شمول بعضها؛ إلا أنّ القدر المتيقن هو اتفاقهم على شموليتها لكلّ ما ذُكِرَ في القرآن الكريم، إذ حينما نقارن بين الآيات المشار إليها يتضح لنا أنه أكد في العديد من آياته على تبيين مضامينه وتفصيلها؛ أي وضّح للمخاطب كلّ أمر يجب أن يفهمه بتبيين وتفصيل؛ كي يدرك المعنى المقصود، لذا ليس المراد منه انتقال الذهن من العدم إلى الوجود ليدرك المعنى، بل الإدراك في رحابه يتمّ عن طريق الانتقال التدريجي من الغموض إلى الوضوح، ومن الإجمال إلى التفصيل، وهذا لا يعني بالطبع أنّ القرآن الكريم قد أنشأ معنًى لم يكن موجودا سابقًا، وإنّما أخرج المعاني التي كانت موجودةً سابقًا من الغموض والإجمال إلى البيان والتفصيل بشكل تدريجي(2).

وفي ما يلي نسلّط الضوء بشرح وتحليل للآيات التي استدلّ بها يوسف درّة الحدّاد لإثبات نظريّته القائلة بكون القرآن ترجمةً عربيّةً للتوراة والإنجيل:

1) الآية 37 من سورة يونس :

قال - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْهَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(3).

سلّط يوسف درّة الحدّاد الضوء على عبارة: ﴿وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ﴾(4)واستنتج منها عدم وجود اختلاف بين القرآن والكتاب السابق له - مصدره الأوّل-

ص: 327


1- سورة النحل، الآية 89.
2- راجع: أحمد باكتشي، مطالعه معنا در سنت اسلامي، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة «پژوهش فرهنگي»، العدد الثالث، السنة التاسعة، 2008م، ص 12 (بتصرف وتلخيص).
3- سورة يونس، الآية 37.
4- للاطلاع أكثر ، راجع: الآيات التالية: سورة الأنعام، الآية 92؛ سورة البقرة، الآيات 89 ، 91، 97، 101؛سورة آل عمران، الآيتان 81 و 3؛ سورة البقرة، الآية 41؛سورة النساء، الآية 46؛سورة المائدة، الآيتان 49 و 51؛سورة فاطر، الآية 31؛سورة الأحقاف، الآية 30.

سوى أنه جاء بلسان عربي، واستدل بقوله - تعالى -: ﴿وَمِن قَبْلِهِ، كِتَبُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَبُ مُصَدِّقُ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾(1). ومما أكَّد عليه في هذا السّياق أنّ القرآن من أساسه عبارةٌ عن تفصيل للكتاب، والهدف من نزوله هو تأييد التوراة والإنجيل، وفي هذا السّياق استند إلى الآية 92من سورة الأنعام(2)؛ ليستنتج من مضمونها أنّ القرآن عبارةٌ عن نصّ يؤيّد الكتاب السابق له الذي هو مصدره الأساس(3).

وضمن تحليله مضمون الآية 37 من سورة يونس أكّد على أنّ القرآن مستوحى من التوراة والإنجيل، لذا بلغ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)دعوته إلى الناس باللغة العربية، بعد أن عرّب الكتاب العبري، حيث حفظ مواضيعه بشكل جيّد، فتيسرت له تلاوته، وذكر معانيه؛ لذلك جمع ما تعلّمه منه في قرآنه؛ لأنّ العرب آنذاك كانوا عاجزين عن استخراج العلوم والأحكام المعقدة من التوراة(4).

والمسألة التي تجدر الإشارة إليها في بادئ الأمر هي أنّ عبارة: ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ﴾ معطوفةً على عبارة ﴿تَصْدِيقَ الَّذِى﴾، والتفصيل -هنا- يدل على بيان المعنى.

ولأجل أن يتّضح للقارئ مغزى رأي الحدّاد، نرى من الأنسب أوّلا تسليط الضوء على معاني كلمات هذه الآية، وبيان المفاهيم اللغوية والاصطلاحية الموجودة فيها:

- "الكتاب": ظاهر الآية يدلّ على أنّ أداة التعريف (ال_) - هنا - لاستغراق الجنس، وعلى هذا الأساس فهذا المصطلح يُراد منه جميع الكتب السماوية(5)؛ إلا أن بعض المفسرين رفضوا تفسير الكتاب في هذه الآية بالكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن الكريم، بل قالوا إنّه يحكي عن مسائل الحلال والحرام فيه؛ أي أنّه - هنا - بمعنى الأمر الواجب والمفروض، لذا يكون تفصيله بمعنى تفصيل الواجبات الدينية، وبيان أحكام الشريعة فيها(6)، ومن هذا المنطلق

ص: 328


1- سورة الأحقاف، الآية 12.
2- قال - تعالى -: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيَنْ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.(سورة الأنعام، الآية 92).
3- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص333 – 335..
4- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص .
5- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11،ص 83؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 63.
6- راجع: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 378؛محمّد بن يوسف أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي محمد جميل ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الفكر، 1420ه_، ج 6، ص 57.

فسّروا الآية بالتالي: القرآن مؤيد للكتب السماويّة التي نزلت قبله، ومبين للأدلة التي يحتاجها الناس في دينهم(1)، أو إنّه مبين لتفاصيل أحكام الحلال والحرام في الإسلام.

وفي ما ذهب آخرون إلى القول بأنّ الكتاب يُراد منه في هذه الآية تلك المعتقدات والشرائع المنصوص عليها في الكتب السماوية السابقة(2)، ورأى آخرون أنّه يدلّ على اللوح المحفوظ؛ وهذا الرأي يتناسب مع المعنى السابق الذي ذكرناه؛ وفحواه أنّ القرآن الكريم مبيّن لتفاصيل أحكام الحلال والحرام في الإسلام، وذلك لما يلي:

أ. سورة يونس التي تتضمّن هذه الآية نزلت في مكّة؛ أي إنّها مكّيّةٌ بتعبير المفسّرين، وفي تلك الآونة لم يُنزل الله أحكام الحلال والحرام في الإسلام؛ لأنّ آيات الأحكام مدنية، في حين أنّ القرآن المكي يتمحور بشكل أساس حول المسائل العقدية.

ب. بعض المفسّرين اعتبروا اللوح المحفوظ بأنّه كتاب مسجل فيه كلّ شيءٍ بلغةٍ غيرِ بشرية(3)، وعلى هذا الأساس فسروا تفصيل الكتاب - تفصيل اللوح المحفوظ - بواسطة القرآن؛ بكونه بيانًا لمعانيه باللغة العربية، واستدلوا على رأيهم هذا بالآيات 1 إلى 4 من سورة الزخرف، وهي قوله - تعالى -: ﴿حم(1)وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ(4)﴾. وعبارة (الكتاب المبين) في الآية الثانية يُقصد منها نقوش القرآن الكريم الموجودة في اللوح المحفوظ، وقوله -تعالى- في الآية الثالثة: ﴿إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تعني صياغة النقوش المذكورة بلسانكم؛ أي بلغتكم العربيّة؛ لكي تفهموا دلالاتها ومعانيها(4).

والكتاب الذي اعتبر القرآن مفضّلا له هو المصدر الأساس الذي يسمّى أمّ الكتاب والموجود في اللوح المحفوظ، حيث صدرت منه جميع الكتب السماويّة، وهو الذي فصله القرآن، كما أشارت الآيتان 52 من سورة الأعراف و 4 من سورة الزخرف(5)؛ ولكن لا يبدو هذا الرأي في تفسير آية البحث صحيحًا؛ لأنّها لم تُشِرْ إلى عربيّة القرآن.

ص: 329


1- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 167.
2- راجع: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 3، ص 113.
3- راجع: عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج 6، ص 1014.
4- راجع: محمد عابد الجابري، رهيافتي به قرآن کریم (باللغة الفارسية)، ص 258 – 259.
5- راجع: عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج 6، ص 1014.

- «التفصيل»: على الرغم من أنّنا تطرّقنا بشكل مقتضب إلى بيان معنى التفصيل؛ لغويا واصطلاحيًّا، لكنّ الضرورة تقتضي بيان معناه اللغوي بإسهاب أكثر.

التفصيل لغةً بمعنى التبيين والتوضيح، وفي الفلسفة والمنطق يُراد منه تحليل الموضوع وتقسيمه إلى أجزاء والفصل بين التداخل الحاصل في المعاني؛ لذا فالمراد من قوله - تعالى -: ﴿بِكِتَبِ فَصَّلْنَهُ﴾أنّنا وضّحناه وجعلنا فواصل بين آياته، وقوله -تعالى-: ﴿ايَتٍ مُفَصَّلَتٍ﴾؛ بمعنى وجود أمر يفصل بين كلّ آيتين؛ مثل قولهم: (وفصل القصاب الشاة؛ أي عضاها)، و(قد فصل النظم)، و (عقد مفصَّل؛ أي جُعل بين كل لؤلؤتين خرزة)(1).

وفسّر ابن عاشور التفصيل في هذه الآية قائلًا: «وَالتَّفْصِيلُ : التَّنْبِينُ بِأَنْوَاعِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيَسْتَغْرِقُ الْكُتُبَ كُلَّهَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا لَهَا أَنَّهُ مُبَيِّنْ لِمَا جَاءَ مُجْمَلًا فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَنَاسِخٌ لِمَا لَا مَصْلَحَةَ لِلنَّاسِ فِي دَوَامِ حُكْمِهِ، وَدَافِعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي ضَلَّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّفْصِيل»(2).

وذهب مفسّرون آخرون إلى أنّ تفصيل الكتاب يراد منه بيان معانيه الملتبسة والغامضة على نحو القطع واليقين؛ بحيث يتضح من خلاله المقصود الحقيقي، وفي هذا السياق اعتبروا التفصيل والتمييز والتقسيم نظائر، وضدّها التلبيس والتخليط(3).

إذًا، تفصيل القرآن للكتب السابقة؛ بمعنى أنّه يوضّح كتاب الله الأصلي، ويبين مضمونه، فالاعتقاد بالله واحدٌ، والدعوة إلى البر والإحسان واحدةٌ، إلا أنّ شكل البر والإحسان حين الدعوة مفتقر إلى بيان على نحو التفصيل والتوضيح، وهذا البيان يجب أن يكون متناسبًا مع تطوّر البشر في ذلك الزمان؛ بحيث ينسجم مع تطوّرهم في الأزمنة اللاحقة، إذ عندما يبلغ الإنسان مرحلة النضوج؛ فهو يتلقى الخطاب القرآني(4).

مضافًا إلى ذلك أنّ نطاق التفصيل القرآني يعمّ جميع التعاليم العقدية والعمليّة والأخلاقية

ص: 330


1- راجع: محمّد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، كلمة (فصل).
2- محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11، ص 83.
3- راجع: محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 378.
4- راجع: سید قطب، في ظلال القرآن،ج3،ص1785.

الموجودة في الكتب السابقة(1)، وهذا الشمول الذي يهدف إلى الإبقاء على الشرائع والكتب السابقة وتشذيبها، منبثق في الواقع من سيطرة القرآن الكريم عليها(2)؛وكل هذه الأمور تنضوي تحت معنى التفصيل وتنطبق مع المقصود من قوله - تعالى - في الآية 48 من سورة المائدة: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾، وهذا النوع من التفصيل يختلف عن التفصيل المذكور في الآية 111 من سورة يوسف: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.

إذَا، حتّى وإنْ لم نفسّر كلمة (مهيمن) بمعنى المسيطر على الأمر والمدبر له(3)، واعتبرناها تعني (المصدّق)؛ من منطلق أن حرف (الواو) في الآية يفيد عطف التفسير؛ فهل من الصحيح اعتبار التصديق؛ بمعنى الإبقاء على الشرائع السابقة دون إجراء أدنى تغيير عليها وادعاء أنّ التفصيل ليس سوى ترجمة التوراة والإنجيل إلى اللغة العربيّة؟ لا شكّ في أنّ الشرائع السماوية السابقة تحتاج إلى تشذيب على مرّ الزمان إذ أحد الأسباب الأساسية لمجيء شرائع لاحقة هو تشذيب ما سبق من شرائع، إلى جانب التصديق بها؛ مثلما فعل النبي عيسى ، فقد صدق التوراة في رسالته، وإلى جانب ذلك أحلّ بعض الذي حرّمه اليهود، حيث قال -تعالى- في الآية 50 من سورة آل عمران: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَكَةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾.

إنّ كلّ شريعةٍ وكتابٍ تُقرّهما السماء، هما في الحقيقة مصدّقان للشريعة والكتاب اللذين سبقاهما ومهيمنان عليهما، إلا أنّ القرآن الكريم من منطلق كونه كتاب الشريعة الخاتمة لشرائع السماء كافةً، فهو مصدقُ لجميع الكتب والشرائع السابقة ومهيمن عليها؛ لأنّ أداة التعريف (ال_) في كلمة (الكتاب) تفيد استغراق الجنس، لذا يراد من هذه الكلمة الشمول والعموم(4).

- ﴿التصديق﴾: هذه الآية في مقام نفي كون القرآن الكريم نا مفترى، مع التأكيد على أنه

ص: 331


1- راجع: عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 36 ، ص 510؛نقلًا عن برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1424ه_، ج 3، ص 443.
2- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11، ص 83.
3- راجع: أبو هلال العسكري فسر كلمة (مهيمن) بمعنى المسيطر على أمر والمدبر له. أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مهدي كاظميان وزهراء رضا خواه ،إيران، طهران، منشورات معهد بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، 2011م، ص 189.
4- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11، ص 83.

تصديق وتفصيل، وهو ما تبناه ابن عاشور بقوله: «وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ في سُورَةِ الْعُقُودِ (103). وَلَمَّا نُفِيَ عَنِ الْقُرْآنِ الِافْتِرَاءُ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَتَفْصِيلٌ، فَجَرَتْ أَخْبَارُهُ كُلُّهَا بِالْمَصْدَرِ تَنْوِيهَا بِبُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى اتَّحَدَ بِأَجْنَاسِهَا. وتَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ أَيْ مُبَيِّنًا للصادق مِنْهَا ومُميّزًا لَهُ عَمَّا زِيدَ فِيهَا وَأَسِيءَ مِنْ تَأْوِيلِهَا؛ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ (48) وَأَيْضًا هُوَ مُصَدِّقٌ - بِفَتْحِ الدَّالِ - بِشَهَادَةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فِيمَا أَخَذَتْ مِنَ الْعَهْدِ عَلَى أَصْحَابِهَا أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا وَخَاتَمَا، فَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقْتَضِي فَاعِلًا وَمَفْعُولًا»(1).

وقال آخرون إنّ الآية في صدد بيان التصديق برسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وبسماوية كتابه من قِبَل الأنبياء والكتب السماوية السابقة، فهذا الكتاب مصدَّقٌ من قِبَل جميع الأنبياء والكتب(2).

وفسّر بعض المفسّرين كلمة (مصدق)؛ بمعنى الانطباق مع الواقع، واستشهدوا في رأيهم هذا بقوله - تعالى - في الآية 105 من سورة الصافات: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ؛ ومن ثم فإنّ تصديق الكتب السماوية السابقة؛ يعني انطباق القرآن وشخصية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مع ما ذُكِرَ فيها من أخبار(3).

وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ المراد من قوله -تعالى-: ﴿الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ هو التوراة والإنجيل اللذان كانا بين أيدي اليهود والنصارى وفي متناول الناس قبل نزول القرآن الكريم، وأداة التعريف (ال_) في كلمة (الكتاب) والتي تفيد الدلالة على الجنس ضمن قوله -تعالى- في الآية 48 من سورة المائدة : ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَبِ وَمُهَيْمِنَّا عَلَيْهِ﴾تدلّ على أن القرآن مصدّق لكلّ ما نزل قبله باسم (كتاب)؛ لذا فإن عبارة: ﴿تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وسائر العبارات القرآنية المشابهة لها؛ مثل قوله - تعالى -: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾(4)،

ص: 332


1- محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11، ص 83.
2- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 17، ص 253. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ رأي الرازي هذا فيه تكلّف بنحو ما ، إذ لم يذكر أنّ الكتب السماوية السابقة صدّقت القرآن؛ ويمكن توجيه رأيه في ما لو ضممناه إلى الإيضاحات التي ذكرها ابن عاشور في تفسير الآية، وهو ما سنشير إليه في سياق الكلام.
3- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 316؛ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 349.
4- سورة البقرة، الآية 41.

﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾(1)، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾(2)،يُراد منها أن القرآن مصدق للكتب التي نزلت قبله؛ من حيث مبادؤُها العقدية ودعوتها إلى البر والإحسان؛ لأنّ الكتب السماوية متفقة مع بعضها على الأصول الأساسيّة، لكن فيها اختلاف حول الفروع فقط، ومن هذا المنطلق لا نجد أي تناقض بين القرآن والكتب السماوية السابقة، فهو يتناغم معها من حيث المبادئ العامة ويشترك معها في المرتكزات الأساسيّة؛ وكأنّ جميع الكتب السماوية مجرد كتاب واحد. وقد تقدّم ما يؤيّد ذلك من كلام ابن عاشور(3).

أضف إلى ذلك أنّ هذه الآية واحدةً من عشرين آيةً تتحدّث عن موضوع مشابه، وهو موقف المشركين المتمثل في ترويجهم شبهات ضد الدين الجديد، وتعدّد طلباتهم من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،وجدالهم المتواصل معه؛ ونوضّح الموضوع ضمن آيات من سورة يونس:

- الآية 20 - على سبيل المثال - تتطرّق إلى بيان واحدة من هذه الشبهات، حيث قال -تعالى-: ﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ وَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ، فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّن الْمُنتَظِرِينَ﴾. ثم تلتها آيات متوالية دعي النبي فيها إلى مقارعتهم، حيث ذكرت الناس بآيات الله العظيمة التي يلمسونها بشكل عملي؛ حينما يسيرون في الأرض والبحار، وكيف إنّه يستجيب دعاءهم؛ وهم في عباب البحار.

- الآية 24 تتضمّن تمثيلاً استعرض فيه واقع الحياة الدنيا ونزول الماء من السماء، ونمو النباتات، ثمّ جفافها وزوالها بالكامل، والتأكيد على أنّ كلّ هذه الظواهر الطبيعية بيد الله - عز وجل -: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَمُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَأَزَيَّنَتْ وَظَنَ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَنهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

- الآية 28 تتحدّث عن حشر المشركين في يوم الحساب: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾.

ص: 333


1- سورة البقرة، الآية 91.
2- سورة البقرة، الآية 97.
3- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 11، ص 83.

- الآية 30 تؤكّد على تجسّم أعمال جميع البشر في يوم الحساب بمن فيهم المشركون، حيث يدركون حينها أنّ الله هو مولاهم ومولى كلّ إنسانٍ: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.

- الآيات 31 إلى 36 فيها أدلّةٌ قطعيّةً على ربوبيّة الله عزّ وجلّ، حيث أمر فيها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن يحتج بها على المشركين، ويثبت لهم بأنّ الله هو المسؤول عن تدبير شؤون العالم والكائنات كافّةً والخلقة والرزق وإحياء الموتى؛ فهذه الأمور كلها بيده -تعالى- فحسب، ولا دخل لغيره فيها؛ فقد قال - تعالى - في الآية :31: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيْتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا نَتَّقُونَ﴾.

- الآية 34 تحدّى الله - تعالى - فيها المشركين وطلب منهم أن يخلق شركاؤهم مثل خلقه؛ إنْ كانوا قادرين حقا على ذلك، وعلى هذا الأساس وجهت النقد للأصنام التي يعبدونها من دونه وسألت ما إنْ كانت قادرةً حقًّا على خلق أشياء من العدم وإحيائها مرّةً أخرى في الحياة الآخرة: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَابِكُم مَن يَبْدُوا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، قُلِ اللَّهُ يَبْدَوُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾.

- الآية 37 التي استند يوسف درّة الحدّاد إلى مضمونها لإثبات نظريته، حيث يؤكّد الله - تعالى - فيها بنحو قاطع على أنّ كلّ ما ذُكِرَ في القرآن هو من عنده، ولا ينبغي لأحد ادّعاء أنّه من عند غيره : ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

- الآيتان 38 و 39 فيهما تحدٍّ للمشركين والمعاندين، حيث تأمرانهم بأن يأتوا بسورةٍ واحدةٍ شبيهة بالسور القرآنية القرآنية؛ إنْ كانوا صادقين في زعمهم بأنّه مفترى، وبأنّ مصدره غير الله، أو أنّه تعريب للتوراة والإنجيل ومنسوخ منهما؛ كما ادّعى الحداد وأمثاله؛ فقد قال -تعالى- في الآية 38: ﴿أأَمْ يَقُولُونَ أَفَتَرَكَهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ﴾.

- الآيات 37 إلى 45 بشكل عام فيها تأكيد لما ذُكِرَ في الآيات الأولى من السورة، حيث تؤكّد على أنّ القرآن كتاب منزل من قبل الله -تعالى- دون أدنى شك وتردّد.

ص: 334

وتتمثل إحدى مراحل هداية الناس من قبل الله -عزّ وجلّ- في وحيه إلى أنبيائه ورسله، وإنزال الكتب المقدّسة عليهم، حيث أنزلت هذه الكتب على نوح ، وإبراهيم، وموسى، وعيسى(علیهم السّلام)، وكذلك منها الكتاب المنزل على خاتمهم محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وهذه السنة الكونيّة أشير إليها في آية بحثنا: ﴿وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾(1). واستنادًا إلى هذه الحقيقة، فمواقف المشركين والمكذبين الرسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وضغوطهم الشديدة عليه، هي على غرار ما واجهه الأنبياء والمرسلون الذين سبقوه.

وكما هو معلوم، فالتصديق هو عكس التكذيب؛ أي إنّه يعني موافقة الطرف المقابل على ما يقوله، ومن المؤكد أن تصديق شخص من حيث العقيدة أو الخبر، لا يعني كون المصدق يعرف شيئًا سوى هذه العقيدة وهذا الخبر، كما لا يعني أنّ ما لديه هو نسخةً مطابقةً للنسخة التي بين يدي من صدّقه. وكذلك لا يُراد من التصديق إحاطة من نصدّقه بنا وتسلّطه علينا، ومن هذا المنطلق فإنّ تصديق القرآن الكريم للكتب السابقة لا يُقصد منه كونه نسخةً منها؛ بحيث يدعى أنّه عار من كل تغيير وعديم التأثير.

ولو اعتبر أنّه مجرّد ناقل لما في تلك الكتب وأنّه ترجمة عربيّة لنصوصها، يَردُّ على صاحب هذا الرأي الإشكال التالي: لو زعم أنّه ترجمةٌ للتوراة والإنجيل، كيف يبرّر تلك المواضيع التي تطرّق إلى ذكرها ولا وجود لها في هذين الكتابين؛ مثل: قصّة أصحاب الكهف وغيرها؟ لا شك في أنّ الكتب السابقة ضمّنها الله -سبحانه وتعالى- مواضيع تتناسب مع المستوى الفكري والاجتماعي للمجتمعات التي أُنزِلَت إليها، ومن الطبيعي أن مشيئته اقتضت أن يكون القرآن مصدقًا للأنبياء والرسل وكتبهم السابقة(2).

فهل يمكن حقًّا تجاهل كلّ تلك الاختلافات الكائنة بين النهج المتبع في التوراة والإنجيل والنهج المتبع في القرآن الكريم على صعيد استعراض الأحداث والوقائع ، بزعم أنه ترجمةً لهما؟ هذه الأحداث والوقائع المذكورة تختص بدعوة خاتم الأنبياء فقط، ومن ميّزات دعوته -أيضًا- أنّها لا تختص بفئة معيّنةٍ من البشر ولا بقوم على نحو الخصوص، بل هي دعوة عامةً موجّهة إلى البشرية

ص: 335


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 63 (بتصرف وتلخيص).
2- راجع: أحمد عمران، الحقيقة الصعبة في الميزان، ص 206(بتصرف وتلخيص).

جمعاء؛ لذا فالنصّ القرآني الذي يمتاز بالخطاب الشمولي هو في مقابل نصّ التوراة الذي تتمحور تعاليمه حول بني إسرائيل فحسب(1)؛ كما إنّه على خلاف الأناجيل التي ذكر مدوّنوها فيها مذكّراتهم وما شهدوه في حياتهم ومختلف معقتداتهم؛ بالنسبة إلى المسيح وسلوكه وطبيعة دعوته(2).

وهناك مسألةٌ ملحوظةٌ في شتّى الآيات القرآنية؛ وهي تأييد الكتب المنزلَةَ على سائر الأنبياء والرسل، إلى جانب التأكيد على أنّ هذا الكتاب عبارةٌ عن امتدادِ لتلك الكتب؛ ومن جملتها الآية 3 من سورة آل عمران: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَنَةَ وَالْإِنجِيلَ﴾، فالقرآن الكريم يعتبر نفسه امتدادًا لما أنزل الله -تعالى- في التوراة والإنجيل؛ وقد أعلن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)دعوته في رحاب دين وكتاب جديدين، دون أن يفنّد الكتاب السماوي السابق أو يبطله.

إنّ روح القرآن الكريم هي تأييد الكتب المقدّسة السابقة؛ ويؤكِّد ذلك ارتباط مضامين آياته بمضامينها. ووصفه بالمصدّق لها لا يعني تكراره لما ذُكِرَ فيها نفسه، أو توضيحه المواضيع التي لم توضّح فيها؛ كما فعل الكثير من الأنبياء السابقين، وإنّما هو كتاب سماوي جديد منزل من قبل الله -سبحانه وتعالى-.

وقد كان المخاطبون الأوائل يعتقدون بأنّ الفرق بين القرآن والكتب السابقة يكمن في مواكبته متطلبات عصرهم التي لم تكن معهودةً لدى أسلافهم، لذلك لم تكن تلك الكتب قادرةً على تلبيتها؛ لذلك أنزله الله - تعالى - ؛ ومحوره الأساس هو بيان واقع التوحيد والتأكيد على حتمية المعاد في يوم القيامة

فالتوراة يغلب عليها طابع الوعيد؛ بينما الإنجيل طابعه الغالب هو التبشير؛ ومن هذا المنطلق جاء الكتاب الجديد - القرآن - بهدف إيجاد توازن بين الأمرين وإتمام ما ذُكِرَ من مسائل بخصوص التوحيد والمعاد، ومن ثمّ طرح إيديولوجيا دينيّةٍ أكثر تكاملًا وصوابية في هذا المضمار، وقد اقتضت الضرورة ذلك؛ نظرًا للتحوّل الفكري الذي شهدته المجتمعات البشرية والتغييرات المشهودة التي طرأت في شتّى المجالات، ففي خضم أوضاع كهذه لا بدّ من إنزال كتاب سماوي جديد يلبي حاجة البشر، يأتي به نبيَّ جديد، يحمل تعاليم تفوق مستوى التعاليم السابقة.

ص: 336


1- Neuwirth, "Epistemic Pessimism in Qur'anic studies", p. 6
2- راجع: محمد عابد الجابري، رهيافتي به قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ص 336 – 337.

ونستوحي من مضمون الآية 48 من سورة المائدة(1)أنّ القرآن الكريم في صدد الهيمنة على الكتب السماوية السابقة، وذِكْر كلّ ما لم يُذكر فيها، وأسلوبه المؤيّد لتلك الكتب يدلّ على أنّ آياته التي أُنزِلتَ في ذلك العصر تحاكي آياتها بنحو ما؛ بحيث كان مخاطبه يشعر بهذا الارتباط؛ وكلّ آيةٍ منه في تلك الظروف كانت مكملةً لجانب من مضامين التوراة والإنجيل وهدفها إزالة مكامن الاختلاف حولها أو التذكير ببعض مسائلها.

ومخاطَب النص القرآني في تلك الآونة كان يشعر دائماً بوجود محاكاة وتناص بين القرآن والكتاب المقدّس، والنصّ القرآني بدوره على ضوء إحالاته إلى نص الكتاب المقدّس كان يؤكّد على هذا التعالق النصّي(2)، حيث كان الارتباط موضوعيًا مع التوراة والكتب السماوية الأخرى؛ وفي هذا السياق تم التأكيد على أنّ بعض مضامينها ثابتةً لا تغيّر لها، في حين أنّ بعضها الآخر عرضةً للتغييرا(3).

وقال أحد الباحثين في هذا الصدد: «القرآن الكريم يشير في بعض آياته إلى الكتب السابقة؛ مثل: صحف إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، إلا أنّ الجانب الأكبر من مضامينه قرآنية بحتةً، لا ارتباط لها مطلقًا بتلك الكتب لدرجة أنّ المخاطب على ضوئها في غنى عن الرجوع إلى أيّ کتاب مقدّس آخر؛ ما يعني أنّ التناص - التعالق النصّي - بين الكتب المقدّسة يبلغ أدنى المستويات وغاية ما يفيده هو حقانية الدين وارتباط نصوصها بالمصدر الغيبي الذي انبثقت منه. بما أنّ النص المقدّس الجديد عبارة عن نتاج مرتبط بالوحي الذي هو المصدر الأساسي لجميع الأديان السماويّة، فالهدف المحوريّ فيه هو الحفاظ على الارتباط بين هذه الأديان، وهذا الارتباط

ليس سوى جزءٍ من المنظومة العقائدية للدين الجديد، وهو ما نلمسه في بعض المضامين القرآنية التي تعتبر جديدة من نوعها بالنسبة إلى غيرها: ﴿ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَكَيْهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ، وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(سورة البقرة، الآية 285)»(4).

ص: 337


1- قال - تعالى -: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيَنْ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنَّا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (سورة المائدة، الآية 48).
2- للاطلاع أكثر، راجع: سورة المائدة الآية 45 والآيات التي تتطرّق إلى بيان الأحكام والعقائد وأصول التوحيد والمعاد.
3- للاطلاع أكثر، أحمد باكتشي، نگاهي به مواضع قرآن نسبت به کتب مقدس پیشین (باللغة الفارسية) (بتلخيص). http://sahargah.blog.ir/139415/07// راجع أيضًا: أحمد باكتشي، ترجمه شناسی قرآن کریم روي کرد نظري و كاربردي (باللغة الفارسية)، ص 85 - 86.
4- ترجمه شناسي قرآن کریم روي کرد نظري و كاربردي (باللغة الفارسية)، ص 87.

وإذا افترضنا أنّ النصّ القرآني أريد منه الترويج للتوراة والإنجيل -كما ادعى يوسف درّة الحدّاد كان من الحريّ بالآيات القرآنية التصريح بهذا الأمر، لا أن تقول: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، ولا شك في أنّ تفسير لمفهوم التصديق - هنا - قائم على آراء أسلافه ومرتكزاته الإيديولوجيّة المسيحيّة، ومن ثمّ فهو لا يقوم على أصول البحث العلمي المعتبرة.

وهناك مسألة في غاية الأهمّيّة يجب أن تُضاف إلى الأدلّة التي ذُكِرتَ آنفًا؛ وهي أنّ آية بحثنا وسورة يونس بشكل عام، في مقام تفنيد كون النصّ القرآني ،مفترى، لذلك اقتضت الضرورة تأكيد القرآن على عدم تعارضه مع الكتب السماوية السابقة ومع رسالات سائر الأنبياء؛ لإثبات أنّ الدعوة الإسلاميّة تتناغم مع دعوتهم الدينية، وجميع المعتقدات التي جاء بها منسجمةً مع معتقداتهم ومتمّمةً لها؛ وعلى هذا الأساس لا نبالغ لو قلنا إنّ أنسب تفسير للتفصيل في الآية المذكورة هو البيان ،والتوضيح وهذا المعنى أفضل بكثير من تفسيره بالتعريب؛ أي أن القرآن - بحسب هذا الرأي مبيّن وموضّحٌ للكتب السماوية السابقة؛ وفيه تتجلى الأحكام الأساسية والمعتقدات الأصولية في التوحيد والنبوّة، لذا لا شك ولا تردّد في كونه منزلا من قبل الله عزّ وجلّ.

إضافةً إلى ما ذكر، فإنّ عبارة: ﴿وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ في هذه الآية تدل بوضوح على أنّ التفصيل لا يمكن أن يُفسّر بتاتًا بالتعريب، إذ لو كان القرآن ترجمة عربية للتوراة والإنجيل؛ كما ادّعى الحدّاد، فالتصديق في هذه الحالة لا موضوعيّة له، إذ لو كان مجرّد ترجمة؛ لوجب إطلاق كلمة (كتاب) عليه؛ باعتباره نسخةً عربيّةً، ولما وُصِفَ بالمصدّق.

وينقل الحداد عن المفكّر اللبناني عفيف عبد الفتاح طبّارة قوله: «ثبت من الناحية التأريخيّة أنّ الترجمة العربيّة للتوراة والإنجيل لم تكن موجودةً في عصر النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)»، ثم علّق على كلامه قائلًا: «القرآن بذاته تحدّى اليهود حينما قال: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوها إِن كُنتُمْ صادِقينَ﴾(1)، لذا لو لم تكن هناك توراةٌ مدوّنةٌ باللغة العربيّة، لماذا تحدّى القرآنُ اليهود؟ هل إنّ تحدّيه أهل التوراة كان يعني مجيئهم بالتوراة العبرية وتلاوتها أو العربيّة ؟ لا شكّ في أنّ القرآن قد تحدّى في هذه الآية التوراة العربيّة، وفي غير هذه الحالة لا يمكن اعتبار تحدّيه جادا»(2).

ص: 338


1- سورة آل عمران، الآية 93.
2- يوسف درّة الحدّاد، القرآن دعوة نصرانية ،لبنان، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م، ص 211.

والسؤال الذي يُطرح على ادّعاء الحدّاد، بكون التوراة والإنجيل العربيتين كانتا في متناول المشركين؛ مفاده: ما السبب الذي يُوجب إنزال كتاب باللغة العربية هو في الأساس موجود لدى الناس؟!

2. الآيتان 114 و 115 من سورة الأنعام:

قال - تعالى -: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ وَآتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزِّلُ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)﴾(1).

خصّص يوسف درّة الحدّاد، لدى تفسيره مضمون الآية 114 من سورة الأنعام مبحثاً مستقلاً لكلمة (مفصلًا)؛ هادفًا من ذلك إثبات أنّها لا تدلّ على البيان والتفصيل، بل الترجمة إلى العربيّة، حيث أكّد على أنّ القرآن في هذه الآية ذكر تفصيل الكتاب قاصدًا من ذلك التوراة والإنجيل، واستدلّ على رأيه هذا ب_(ال_) التعريف التي دخلت على كلمتي الكتاب؛ ما يعني أنّ الكتاب المنزل على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو الكتاب ذاته الذي أُنزِلَ قبله؛ أي التوراة والإنجيل ومن ثمّ فهو تفصيل له والتفصيل - هنا - يُراد منه الترجمة إلى اللغة العربيّة(2).

وفي نقد رأي الحدّاد يمكن القول:

أولاً: نستشف من العبارة الأولى في الآية 114﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا﴾ أَنْ الحَكَم هو الله عزّ وجلّ، والاستفهام الموجود فيها تقريري يُراد منه ذِكْر خبرٍ على لسان النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛فحواه : إناطة الحكم بالله فقط؛ والهدف -هنا- الردّ على المشركين الذين نقل قسمهم في الآية 109 من السورة ذاتها بأنهم سيؤمنون في ما لو جاءتهم آية: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لَين جَاءَتْهُمْ وَايَّةٌ ليُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْأَيَتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، لذلك أجابهم النبي بصيغة استفهام إنكاري بأن الحكم لله فقط.

إذًا، موضوع الآية يتمحور حول المشركين والنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا صلة لها بالإنجيل ولا

النصارى.

ص: 339


1- سورة الأنعام، الآيتان 114 - 115.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 20.

ثانيًا: بعد ذلك شهد الله - عزّ وجلّ - بأنّه هو الذي أنزل القرآن؛ حيث قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَبَ مُفَصَّلا﴾، والكتاب الذي نزل مفصلا هو القرآن طبعًا، وضمير الجمع في عبارة (إليكم) ينوب عن جميع مخاطبي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؛من مسلمين، ومشركين، وأهل كتاب.

ثالثًا: الضمير (هو) في عبارة: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ﴾ يعود إلى لفظ الجلالة المذكور في بادئ الآية؛ ضمن قوله - تعالى -: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ﴾.

رابعًا: كلمة (أنزل) فعل ماض مصدره ( نزول ) ، وهي ذاتُ دلالات عديدة من ضمنها: الحلول في مكانٍ ما؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ هَمْ جَنَّتُ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾(1)، كما تعني السقوط من الأعلى إلى الأسفل، وتعني أيضًا - التنزيل؛ بمعنى الترتيب(2). واستنادًا إلى ما ذُكِرَ من معان، وعلى ضوء سائر الكلمات الموجودة في الآية، يتّضح لنا مفهوم العبارة؛ وهو التالي: الله أحكم الحاكمين هو الذي أنزل القرآن مفصلا، والنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مأمور بأن يُخبر الناس بذلك.

وأما عبارة: ﴿الْكِتَبَ مُفَصَّلَاً﴾فقد مرّ توضيح معنى التفصيل في المباحث الآنفة، ومن المتبادر ذهنيًّا أنّ هذه الكلمة تعني البيان والتوضيح، وبما أنّ الآية أشارت إلى أنّ الكتاب أنزل من قِبَل الله -تعالى-، لا عن طريق النقل والترجمة، فنزوله على هيئة قرآن هو المقصود من تفصيله؛ لأنّ المقصد والمقصود ،واضحان وصدق مضمونه وصراحته جليان للعيان.

و (الكتاب) في قوله - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَابَ﴾ لا يُراد منه القرآن؛ لأنّ المقصودين -هنا - غير الذين وُجه لهم الخطاب في بداية الآية، والاسم الموصول (الذين) يشير إلى المؤمنين

ص: 340


1- سورة آل عمران، الآية 198.
2- راجع: محمّد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، كلمة (نزل). أحد المستشرقين قارن بين الفعلين (آتى) و (أنزل) قائلًا: «القرآن استخدم الفعل (أتى) للإشارة إلى منح الكتاب لموسى(علیه السّلام)كما في الآيات التالية: - قال - تعالى -: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتابَ﴾(سورة الإسراء، الآية 2) - قال - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ (سورة المؤمنون، الآية 49)، - قال - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هَارُونَ وَزيراً﴾ (سورة الفرقان، الآية 35). إذَا، يقال أوتي موسى الكتاب بينما عادةً ما تستخدم كلمة الإنزال بالنسبة إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،وهذا الاختلاف في وصف هذا الأمر لعله يحكي عن الاختلاف في أسلوب بیان مضمون کل کتاب؛ آتى وآتينا تشيران إلى الإعطاء المباشر وتحكيان عن نمط مدوّن من الكتاب، فالأمر الذي يجب أن يحدث مرّةً واحدةً فقط كما حدث لموسى؛ في حين أنّ الإنزال ينمّ عن ضرب من الانتقال من الأعلى إلى الأسفل، وخلاله يبقى ذلك الشيء المنزل بعيدًا عن متناول من يتلقاه». (Cf. Sinai, Ibid., p. 120).

من أهل الكتاب؛ اليهود، والنصارى؛ الذين يتبعون أحكام التوراة والإنجيل(1)، إذ يعلمون أنّ القرآن منزل من عند الله -تعالى- بالحقِّ ، وكلّ ما فيه هو عين الصواب: ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزِّلُ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾، حيث يدركون هذه الحقيقة بالبرهان الذي كان لديهم سابقًا.

إذَا، الآية تؤكّد على أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّ القرآن منزل من عند الله -تعالى-، وليس ترجمةً عربيّةً للتوراة والإنجيل.

لو أنّ القرآن -كما يدعي الحدّاد- مترجم من التوراة والإنجيل ومجرد ناقل لما فيهما، فلا موضوعية لقوله -تعالى-: ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ﴾، فكيف يبرّر المقصود من هذه العبارة؟ وهل يمكنه نفي دلالتها على أنّهم يعلمون أنّ القرآن منزل من عند الله؟ من المؤكّد أنّ الأمر إذا كان كما يدعي؛ لوجب عندئذ أن يُقال: (يعلمون أنّه مترجم أو منقول)، لكنّ النص القرآني ليس كذلك قطعًا، بل يؤكّد على أنّ جميع الكتب السماوية قد أنزلت على الأنبياء من قِبَل الله -عزّ وجلّ-؛ وبما فيها: القرآن الكريم؛ الذي هو في الواقع ليس ترجمةً عربيّةً للتوراة والإنجيل، ولا نسخةً شبيهةً لهما.

من البديهي أنّ الله -عزّ وجلّ- أوحى كتبه إلى أنبيائه، ولم يطلب منهم ترجمة الكتب السابقة إلى لغة قومهم، فهو الذي أنزل التوراة والإنجيل في حقبة من الزمن لهداية البشر، وهو قادر بكل تأكيد على إنزال القرآن في حقبة زمنيّة لاحقة وفي أرض أخرى(2).

وكلمة (الممترين) في عبارة: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ تعني المشككين، وقد جاءت بعد عبارة: ﴿وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾، وبعد ذلك وجه الخطاب إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،حيث يتضمّن هذا الكلام التفاتًا، والعبارة الأولى عبارة عن جملة اعتراضية هدفها طمأنة النبي وشدّ أزره، وفي الحين ذاته إشعار المشركين بأنّه بصير بما أنزل الله -تعالى- إليه(3).

ولا يختلف اثنان في أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لا يشكك بحقانية القرآن مطلقًا، بل من المستحيل أن يفعل ذلك؛ ومع كونه معصومًا فقد وجه الله هذا الخطاب له - أي إنّه خطاب من الأعلى

ص: 341


1- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 2،ص 237؛محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ج 4،ص246؛ محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم.
2- راجع: أحمد عمران، الحقيقة الصعبة في الميزان، ص 189 - 190 (بتصرف وتلخيص).
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 328.

إلى الأدنى، من الله، لا من غيره-(1)فهو من سنخ الشرط الذي لا يقتضي التحقق؛ لأنّه حقًا لم يشك بالقرآن(2).

والآية اللاحقة: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ هي في الحقيقة متمّمةً لما قبلها فالسابقة أكدت على أنّ القرآن منزل بالحق من قبل الله -تعالى- وهو آيةٌ عظيمةً على صدق نبوّة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذلك جاءت هذه الآية لتؤكد صدق كلام الله وعدله المطلق(3)

وقد جاء التأكيد في الآية 114 على أنّ القرآن معجزةً، وفي الآية التالية لها تمّ التذكير بأنّ كلمة الله قد تمت، وعلى هذا الأساس يتّضح لنا أنّ الله أنزل القرآن؛ كي يكون شاهدا على صدق رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، والذين أوتوا التوراة والإنجيل يعرفون حق المعرفة أنه منزل من قبله - تعالى - وقد تم تفصيله بلغة عربيّةٍ ؛ لأنّ كلّ نبيَّ لا بد أن يُرسل بلسان قومه: ﴿وَمَا

ص: 342


1- راجع: محمد جواد مغنية، الكاشف في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى، 1424ه_، ج 3، ص 252.
2- بعض الباحثين يعتقدون أنّ هذا الخطاب موجه إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛إلا أنّ الأمة الإسلامية هي المقصودة، ومنهم من قال إنّه خطاب موجّه إلى المخاطب فقط؛ أي أنت أيها النبي أو أنت أيها السامع لا تكن من الممترين. (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج13،ص 124). بإمكاننا أيضًا طرح استدلال كهذا في تفسير بعض الآيات.
3- تمّ تفسير الكلمة والكلمات في الآية بأنّهما كلّ قول حقٌّ من جانب الله عزّ وجلّ يتضمن الوعد والوعيد والثواب والعقاب، وهو قول لا تبديل له ولا تغيير. (للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 329؛ محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 13، ص 124). أو أنّها بمعنى الكائن الخارجي مثل البشر، ويؤيد ذلك أنّها أستخدمت بشأن المسيح عيسى(علیه السّلام)كما في الآية 45 من سورة آل عمران. (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص (329). وهناك من قرأ (كلماته في الآية بصيغة المفرد، وأراد منها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطةً بضابط واحد لأنّ القرآن الكريم بمجموعه كلمةٌ واحدةٌ وهو حق وصدق ومعجز. (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 13، ص 125). و (كلمة) في هذه الآية من حيث سياق الكلام تعني ظهور الدعوة الإسلامية في رحاب نبوّة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ونزول القرآن، ويراد منها الإشارة إلى مرحلة إكمال الشرائع السماوية التي أحد مصاديقها هذا الدين المحمدي الذي يتضمّن المعالم العامة للشرائع السالفة إلى جانب أمور أخرى لم تكن فيها. (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 329). أو أن المراد منها كما قال الفخر الرازي: «أَنَّ تَعَلَّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيْنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزُ فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ - الْقُرْآنُ - أَي تَمَّ الْقُرْآنُ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا دَالَّا عَلَى صِدْقٍ مُحَمَّدِ(صلی الله علیه و آله و سلم)وَقَوْلُهُ: ﴿صِدْقاً وَعَدْلًا﴾أَي تَمتُ مَامًا صِدْقًا وَعَدْلًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ : صِدْقاً وَعَدْلًا مَصْدَرَانِ يُنْصَبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَلِمَةِ تَقْدِيرُهُ صَادِقَةً عَادِلَةً فَهَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَة بمَا قَبْلَهَا». (محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 13، ص 125).

أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ، لِيُبَيِّنَ لهُمْ﴾(1).

اتّضح لنا ممّا تقدّم أن تفسير يوسف درّة الحدّاد للآيتين المذكورتين قائم على مرتكزاته العقدية وإيديولوجيته المسيحيّة؛ ما يعني أنّه لم يتعامل مع النصّ القرآني وفق رؤية علمية، ولم يكن هدفه تفسير آياته وألفاظه على نهج الحق والحقيقة؛ وأحد الشواهد على ذلك: أن تفسيره لكلمة (تفصيل) ومشتقاتها بعيد للغاية عن المعنى اللغوي الثابت لها، فضلا عن عدم اتساقه مع المقصود القرآني منها؛ إذ لا نستشف من الآيات التي سلّط الضوء عليها بالبحث والتحليل أي مؤشّر يمكن الاعتماد عليه لادّعاء أنّ هذه الكلمة يُراد منها التعريب؛ كما زعم. وتجدر الإشارة إلى أنّه أقرّ بكون التفصيل المذكور في الآية 145 من سورة الأعراف(2)لا يمكن أن يدلّ إلا على البيان والتوضيح، لذا يُطرَح عليه هذا السؤال: ما هو الدليل إذًا على ادّعاء أنّ هذه الكلمة التي ذُكِرَت في آياتٍ أخرى يراد منها التعريب؛ أي ترجمة القرآن إلى اللغة العربيّة ؟ والحال أنّ هذا الرأي لا يؤيّده المدلول اللغوي للكلمة، ولا مفهوم النص القرآني، ولا سياقه؟!

المبحث الثاني: التفصيل؛ بمعنى النصّيّة الموازية:

سلّط بعض المستشرقين الضوء على كلمة التفصيل ومشتقاتها في القرآن الكريم من زاوية دلالية أخرى، ومن جملتهم نيكولاي سيناي الذي أكد على أهمية مراحل نزوله وتكوينه التدريجي، حيث اعتبره متأثرًا بهذه المراحل من حيث الهيئة والبنية، وحتّى المضمون الأنثروبولوجي واللاهوتي، فهو كتاب تبلور خلال مراحل عدة، وشهد تحولا في فترة نشأته، وعلى هذا الأساس، لا بدّ للباحث الذي يتطرّق إلى تفسيره من التركيز على الصلة الرابطة بين عباراته والواقع التأريخي لمخاطبيه الأوائل، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار طبيعة ارتباط هذه العبارات مع القراءات السابقة المطروحة من قِبَل النبي محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم).

والقراءة الحقيقية للقرآن -برأي هذا المسشترق- يجب أن تتم بشكل مرحلي متدرّج، لذا ينبغي اعتباره نصَّا موحدًا مرتكزا على نمط موحد من حيث التفسير؛ وإنّما هو نص يجب أن

ص: 343


1- سورة إبراهيم، الآية 4.
2- قال -تعالى-: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيءٍ مَوْعِظَةٌ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأَمْرُ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (سورة الأعراف، الآية 145).

يُفسّر على ضوء مراحل زمنيّةٍ متغيّرةٍ ومنفكّةٍ عن بعضها؛ وهذا الأسلوب المرحلي والمتغيّر(1)الذي يواكب نزوله ويتواصل مع نشأته وتكوينه، ذو ارتباط بنصه وبالواقع التأريخي الأوّل لمخاطبيه، كذلك له علاقة بالتلاوات الأولى في عهد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،وهذا الارتباط نصّي(2)بطبيعة الحال(3).

وبناءً على هذا الرأي يحفظ الارتباط الموازي للنصّ، وفي الحين ذاته يبقى ارتباطه النصي محفوظا أيضًا.

وقد وصف سيناي مسألة التحوّل والتكامل في النص القرآني بأنّها أفضل دليل يمكن الاعتماد عليه؛ لإثبات التلاحم الموجود بين بنيته وعباراته الأولى؛ وحجم كلّ آية وكل سورة فيه، وبنية قوافيه، وشتّى مضامينه؛ ومن ثمّ يجب تفسيره وتحليل مداليله؛ اعتمادًا على أسس لغوية تتناسب مع ظروف كل مرحلةٍ من المراحل التأريخيّة التي تكوّن فيها. هذا الأسلوب يختلف - طبعا - عما تبناه دانيال ماديجان الذي رفض مسألة اختلاف الزمان والتدرّج التأريخي بالنسبة إلى النص القرآني.

وترتكز القراءة التحوّليّة القائمة على مرحليّة نزول النصّ القرآني وتكوينه التدريجي على الأصول التالية:

- إمكانية طرح قراءة للقرآن تتبلور على ضوئها الظروف التأريخية التي واكبت حياة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وشتى الظروف التي اكتنفت حياة صحابته وسادت في عصره بشكل عام.

- الأحداث المعاصرة لم تنعكس في النصّ القرآني بشكل منفعل؛ وإنّما تم تصويرها على ضوء ردود أفعال مؤثرة، ووضحت بعض جوانبها، وفي هذا السياق أمر المسلمون باتباع أسلوب خاص في التعامل معها؛ وهذه القراءة تختلف عما طرحه دانیال ماديجان الذي قيّد النص بمضمونه الذاتي وطابعه اللغوي.

- كل سورة يجب أن تُقرأ في رحاب البنية التأريخيّة المعاصرة لنزولها، وعلى ضوء ارتباطها

ص: 344


1- Processually.
2- intratextual.
3- Nicolai Sinai, "The Quran as process", in The Qur'an in context: historical literary investigations into the Qur'anic milieu, edited by Anglike Neuwirth, Nicolai Sinai Michael Marks, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, (2010), pp. 407 408.

بالسور التي نزلت قبلها؛ فهذه السور مرتبطةً بها من الناحية التفسيرية وتحوي عناصر هامةً تساعد على فهم مدلولها ومدلول كل سورة لاحقة(1).

واستدلال سيناي؛ فحواه: أنّ الآيات القرآنيّة ليست على غرار الخطابة التي هي عبارة عن نصَّ أدبي محدودِ الصلاحية، بل بسطت نفوذها في المجتمع الإسلامي بكلّه، وكان لكلّ واحدة منها دور في فهم الآيات اللاحقة التي تنزل على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛في هذا السياق قال إن بعض السور التي تحدّثت عن الآخرة تتضمّن مواضيع تمّ بيانها ضمن آيات نزلت في ما بعد؛ لأنّ الضرورة اقتضت توضيحها للمخاطب؛ ومثال ذلك: الآيتان 25 من سورة الانشقاق، و 6 من سورة التين، فهما عبارة عن آيتين ملحقتين من حيث المضمون بما طرح سابقًا، لذا فإنّ هدفهما هو توضيح ما ذُكِرَ قبل ذلك في آيات سابقة، حيث تمت طمأنة المؤمنين فيهما بأنّهم مستثنون من عذاب الآخرة الذي تمّ التأكيد عليه قبل ذلك، وقد استدلّ بهما؛ نظرًا لتشابههما من حيث الحجم والمفهوم(2).

ومن مختصات الآيات التي أُوحيت في بادئ الأمر أنّها برأيه توجه اتهاما شديد اللهجة للبشر، ولكن بعد مرور مدة من الزمن وإثر إيمان عددٍ من الناس برسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،شهد النص القرآني إشارات إلى صنفين منهم؛ أي المؤمنين، والكافرين، حيث اتصفوا بالإيمان والكفر بعد ظهور الأحكام القرآنية الأولى؛ وهذا التجديد -طبعًا- من صنع الله، وقد تجلّى في الآيات التي نزلت لاحقًا بشكل أوضح ، ولكن توسيع نطاق النصّ بهذا الأسلوب لا يمكن اعتباره معقولًا ومنطقيًّا؛ إلا إذا تواصل نزول آياته بعد أوّل إعلان له(3).

وأضاف في هذا المضمار أنّ الآيات القرآنية كان لها تأثير مشهودٌ في حياة المسلمين الدينية، وجميع المؤمنين كانوا على علم بها، لذا فالنصوص التي كانت موجودةً خلال مراحل نزول النص القرآني التدريجي يجب أن تفي بدور في تلك الآونة؛ باعتبارها نصوصًا رسميّةً أوّليّةً تبلورت في رحاب المجتمعات المحاذية للمجتمع الإسلامي؛ وقد ذكر هذه الفكرة على ضوء اعتقاده بشمولية الوحي، إذ غاية ما في الأمر أنّ المسلمين لديهم نزعةً تفسيريّةً خاصةً بهم بالنسبة إلى الوحي المنزل

ص: 345


1- Ibid., p. 429
2- Ibid., p. 431.
3- Ibid.

على نبيّهم(1)؛ما يعني وجود تضارب أو تناسب في المعنى بين الآيات المُنزلَةَ والأسس الاجتماعية الحاكمة في تلك الآونة، ووجود تناسب - أيضًا - بينها وبين الآيات المنزلَةَ سابقًا(2).

ومن الأمور التي أكّد عليها أنّ تحديث النصوص التي كانت موجودةً آنذاك قد أُنجز بأسلوبين يمكن تقريرهما في التالي:

الأسلوب الأوّل: إلحاق الآية بالنصّ ذاته؛ مثل: إلحاق الآية 25 من سورة الانشقاق، والآية 6 من سورة التين.

الأسلوب الثاني: التذكير بالسور السابقة وتفسيرها وبيان مضامينها ضمن سور مستقلة وجديدة(3).

وهذان الأسلوبان لا يختلف أحدهما عن الآخر - برأيه - على صعيد تحديث النص.

إذَا، المعيار الذي اعتمده هذا المستشرق في تعيين ترتيب الآيات والسور من حيث التقدّم والتأخّر يقوم في بادئ الأمر؛ على بنية العبارات الأولى وحجم الآيات والسور، وكذلك يرتكز على بنية القافية والمضمون؛ وهذه الأمور اعتبرها مؤشّرات يمكن الاستناد إليها لتشخيص الإلحاق الذي حدث في ما بعد؛ وعلى أساس هذا الترتيب بادر إلى تفسير النصّ القرآني.

ومن المؤكد أنّ النصّ القرآني هو كلام الله -تعالى-، لذلك روعيت في رحابه أصول الكلام والخطاب اللفظي، وقد أنزل بشكل تدريجي؛ وفقًا لظروف ومقتضيات خاصة، حيث حدد الله -عزّ وجلّ- عدد الآيات والسور وحجمها ومحتواها؛ طبقًا لما تقتضيه حاجة عباده.

وليس هناك أي دليل يثبت صوابيّة ما ادّعاه سيناي من الإضافات إلى النص القرآني في فترة ما بعد النزول، ولعلّه اختار هذا الرأي متأثّرًا ببعض روايات جمع القرآن وتدوينه، وبما ذكره أسلافه المستشرقون الغربيون في هذا الصدد؛ مثل: ثيودور نولدكه؛ والواقع أنّ كلّ خطيب يوجه كلامه للناس؛ عادةً ما يصوغ عباراته؛ وفقًا للظروف الزمانية والمكانية السائدة في

ص: 346


1- synoptic interpretive habitus
2- Ibid
3- Ibid., p. 432

عصره، وتناسبًا مع مستوى مخاطبيه، فهذه الأمور تختلف باختلاف الزمان والمكان والأوضاع الاجتماعيّة، لذا لا بد له من اتباع أسلوب خاص يتناغم مع هذه الأوضاع. وكذلك فإنّ طول الخطاب من حيث الإطناب والإيجاز هو الآخر عائد إلى الظروف التي تكتنف مخاطبيه، وهناك احتمال - أيضًا - في تكرار بعض المواضيع المخاطبين جدد، لذا لا يستبعد ذِكْر مواضيع جديدة ومختلفة عن سابقتها؛ بحيث تتناسب مع ظروفهم، وعلى هذا الأساس قد يتم التوسع في الخطاب أو اختصاره؛ وفقًا لمقتضى الحال.

لا شكّ في وجوب تكرار الكلام؛ في ما لو كانت له الأولويّة؛ من حيث الأهمّيّة، وكان مرتكزا تتبلور على ضوئه الأهداف المنشودة، فقد أكّد الله -تبارك وتعالى- في النص القرآني على بعض المواضيع، وكرّرها في آياتٍ عدّة؛ لأجل إشعار الناس بمدى أهميتها البالغة؛ على الرغم من أنّ كلامه موجّه إلى المخاطبين ذاتهم؛ لذلك نلمس في النص القرآني تكرارًا لعدد من القضايا نظرًا لأهمّيّتها، سعيًا من المشرع إلى هداية البشر، وإحياء ضمائرهم، والتأكيد لهم على أهمية ما يُذْكَر لهم بشكل متواصل، وفي هذا السّياق نلاحظ تأكيدًا كثيرًا على أهمية التذكير والتفكّر؛ لأنّ الهدف لا يتحقق دون ذلك. وأمّا السبب في ذكر تفاصيل بعض المواضيع في آيات دون أخرى أو تكرار هذه التفاصيل ذاتها، فيعود إلى أنّ القرآن كتاب هدي وتربية؛ ما يعني ضرورة اتباع أسلوب كهذا.

وتتحدّث الآيات الأولى من سورة الانشقاق عن المعاد والأحداث المذهلة التي سيشهدها العالم في نهايته وعند بداية يوم القيامة، ثمّ يساق الكلام فيها حول الحشر والحساب وبيان كيف إنّ الأبرار يحملون كتابهم بأيمانهم، والفجار يحملونه وراء ظهورهم؛ جراء ارتكابهم أعمالًا تُوجب سخط الله -عزّ وجلّ- وعذابه؛ وبعد ذلك جاء القسم فيها لإثبات مصير البشر؛ نتيجة أعمالهم؛ ضمن الإشارة إلى مسيرتهم في الحياتين الدنيا والآخرة؛ وفي نهاية المطاف تكرّر التذكير باستحقاق العصاة عذاب الله واستحقاق المؤمنين نعيمه.

هذه السورة بأكملها تتمحور حول خِلْقَة الإنسان، ومراحل تكامله وانحطاطه، ضمن مصيره الذي يخطه بنفسه إثر أعماله، حيث تشير إلى مسبّبات نجاته من العذاب، أو سقوطه فيه؛ ضمن تأكيدها على حتميّة المعاد يوم القيامة، والسيادة المطلقة لله عزّ وجلّ. وتوضّح

ص: 347

الآية 25 طريق العودة إلى المسار الصحيح لمن انحرف عنه، وتؤكّد للكفّار على نجاة التائبين والصالحين من العذاب الإلهى.

والموضوع الأخروي في هذه السورة مطروح - أيضًا - في سُوَرٍ أخرى؛ ومن جملتها: سورة الانفطار التي تتحدّث عن القيامة، والإنسان، والله، ومسيرة الإنسان، والقرآن، وعلم الله - تعالى - بنوايا بني آدم وأهدافهم، والدوافع التي تحفّز الكفّار على التكذيب بالحق.

ومن هنا، يمكن طرح السؤال التالي على نيكولاي سيناي؛ هو نظرًا للتشابه الموجود بين سورتي الانشقاق والانفطار من حيث المضمون، ألم يكن من الأنسب - كما يدّعي - أنْ تُلحَق إحداهما بالأخرى ضمن سورة واحدة؟!

وتتحدث سورة التين هي الأخرى عن عظمة خلقة ،الإنسان وأفضليّته على غيره من هذه الناحية، فقد خُلِقَ في أحسن تقويم؛ كي يتأقلم في حياته الدنيوية مع الظروف المحيطة به ويبقى نسله دون انقطاع ؛ والآية السادسة منها فيها استثناء متّصل - استثناء الإنسان من جنسه- أي أستثني الذين عملوا الصالحات من الذين يُردّون إلى أسفل سافلين ويطالهم عذاب أليم. والآيتان الأخيرتان فيهما خطاب للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)واستفهام إنكاري لإثبات أنّ الله - سبحانه وتعالى- أحكم الحاكمين. والمعنى العام للسورة أنّ البشر بعد خلقهم ينقسمون إلى فئتين؛ فمنهم من ينحرف عن الخِلْقَة القويمة التي أكرمه الله -تعالى- بها، ومنهم من يبقى على فطرته السليمة ويسير على نهج الخِلْقَة القويمة(1).

لا شك في أنّ حكمة الله - تعالى - تقتضي عدم التعامل مع هاتين الفئتين من البشر بأسلوب واحدٍ؛ لذلك ستنال إحداهما أجرًا عظيمًا، والأخرى سيطالها عذاب شديد يوم القيامة، إلا أنّ الاستثناء المذكور في الآية 25 من سورة الانشقاق يُعدّ من سنخ الاستثناء المنقطع؛ لأنّ المستثنى منه هو الضمير في كلمة (فبشرهم) ضمن الآية السابقة؛ وهو يعود إلى الكفّار المكذبين. وإذا افترضنا أنّ هذا الاستثناء متصل، فالمقصود هو (الذين يتوبون من هؤلاء الكافرين ويؤمنون بالله)، ففي هذه الحالة يدلّ الفعل (آمنوا) على المستقبل؛ على الرغم من أنه بصيغة الماضي؛ وذلك للتأكيد على التحقق(2)، كما يشير إلى أنّ المجال ما زال مفتوحًا أمامهم للعودة إلى المسار

ص: 348


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير سورة التين.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 30، ص 209.

الصحيح، إذ يرفع العذاب الأليم قطعًا عن التائبين والمؤمنين والذين يعملون الصالحات، ومن ثمّ يكرمهم الله - تعالى - بأجر عظيم لا انقطاع له(1).

وقصّة النبي إبراهيم(علیه السّلام)هي من المباحث الأخرى الذي تطرّق إليها هذا المستشرق، حيث تكرّرت في سورٍ عدّةٍ، وقد اعتبر أنّ الآيات التي نزلت لاحقًا وذُكِرَت تفاصيلها ليس إلا عبارةً عن تفسير مجدّد للآيات المُنْزَلَة سابقًا، وهذا التفسير المتجدّد -برأيه- يشكّل منطلقًا لتحديد تأريخ السور التي ذكرت أحداث القصّة، ولمعرفة واقع المجتمع الإسلامي في مكة آنذاك(2).

وإذا كان مقصوده من هذا الكلام هو بيان تفاصيل القصّة؛ وفقًا للظروف المستحدثة في تلك الآونة ضمن الآيات التي جاءت لاحقًا، فلا بأس بذلك؛ لكنّ هذا الأمر لا يمكن اعتباره دائماً مؤشّرًا على معرفة تأريخ نزول القصّة.

وجدير بالذكر -هنا- أنّ الإحالة الذاتية في القرآن الكريم -برأيه- هي ذات مراحل تدريجيّة تتبلور من خلالها عمليّة من البحث والنقاش مع المخاطبين، وهذا التعامل له تأثير في صياغة البنية النصّيّة للقرآن ومضمونه العام، كما أنّه مؤثر في مسألة الإحالة الذاتية الموجودة فيه والإحالة -هنا- إلى جانب كون النص القرآني ذا منشأ ميتافيزيقي، يتناسبان بطبيعة الحال مع احتدام الجدل الذي شهده المجتمع الإسلامي الأوّل. وفي هذا السياق تطرّق إلى الحديث - أيضًا - عن مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات الأولى لبعض السور، معتبرًا إياه دليلًا على المنشأ السماوي، له لا للقرآن ذاته، وأكّد على أنّ الآيات الأولى من سور إبراهيم وهود والأعراف على غرار الآيات الأولى التي تبتدئ باسم الإشارة (تلك) أو عبارة (تنزيل الكتاب)، وعلى هذا الأساس ارتأى ضرورة تفسير الآيات السابقة على ضوء هذه العبارات؛ نظرًا للتشابه الموجود في موارد استعمالها، فهي من سنخ النص الموازي، وانعكاس لشفهية النصّ القرآني ومنزلته؛ أي إنّها علامات على الكتاب السماوي(3).

و (الكتاب) ليس كما يتصوّر المخاطَبون، فهو ليس في متناول البشر مطلقًا؛ وإنّما هناك تلاوات - آياتٌ - شفهيةٌ منه لدى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،ومما ذكره هذا المستشرق أنّ القرآن لا

ص: 349


1- ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، ج 26، ص 320.
2- Cf. Sinai, Ibid
3- Cf. Idem., “Quranic self - referentiality as a strategy of self - authorization", pp. 115

ينفي وجود ارتباط بين الوحي والنصّ السماوي المدوّن الذي أراده المخاطبون؛ إلا أن الكتابة تصوغ الوحي ضمن بنيةٍ جديدةٍ، وتفسح له المجال في أن ينتشر في المجتمع، لكن لا دور لها في تأييد النتائج التي تترتب عليه، فهي مجرّد انعكاس لمحتواه؛ وعلى هذا الأساس أكد على ضرورة تفسير الآيات الأولى من سور الأعراف وإبراهيم وهود على ضوء الآيات التي تبتدئ باسم الإشارة (تلك) والتي تشير إلى النسخة السماوية من الكتاب(1).

ونلمس من هذا الكلام أنّ سيناي يتبنّى رأيًا يختلف عما ذهبت إليه المستشرقة أنجليكا نويورث بالنسبة إلى الآيات والسور المشار إليها، حيث يرى أنّ الآيات الأولى والأخيرة من هذه السور ليست كلها من ضمن الكتاب السماوي، بل هي مجرّد إطارٍ تُصاغ على أساسه مكوّنات الكتاب المقدس؛ في حين أنّ نويورث تعتقد أنّ الأسلوب المتبع في مستهلها ضمن العبارات التالية وما شاكلها (تلك آيات الكتاب، كتاب أنزل، أنزلناه إليك) فيها إشاراتٌ خاصّةً إلى ما سيدور البحث حوله في أواسطها(2)؛ لكنّ هذا الرأي لا ينطبق على جميع السور بكل تأكيد، إذ إنّ المباحث المطروحة في محتوى بعضها لا تتضمّن قصصًا من الأساس، أو فيها عبارات قصصيّةٌ قصيرة(3)، لذا لا يمكن ادّعاء أنّ السور التي تستهلّ بكلمة (الكتاب) تتضمّن في محتواها قصصًا وحكايات.

وهناك ملاحظة هامة بالنسبة إلى نظريّة نويورث؛ وهي اعتقادها بوجود اختلاف بين كلام الله بشكل عام ، وكلامه المكنون في (الكتاب)، وهذا الرأي ليس صائبًا طبعًا، فحينما يؤكد القرآن الكريم على أنّه منبثق من مصدر سماوي موجود قبل نزوله، فهو يقصد أنه صادر بالكامل من هذا المصدر، لا أنّ بعض آياته - فقط - صادرةً منه ؛ وهذه الحقيقة مطروحةً من قبل جميع المفسّرين المسلمين؛ وحتى غير المسلمين؛ على الرغم من أن نيكولاي سيناي أشكل عليها باعتبار أنّ الله -تعالى- لم يكترث منذ الأزل بالقضايا الجزئية؛ وبما فيها تلك

ص: 350


1- Cf. Idem., "Quranic self - referentiality as a strategy of self - authorization", pp. 115 - 116.
2- Cf. Neuwirth, "Vom Rezitationstext uber die Liturgie zum kanon: zu Entsehung und Wiederauflosung eins islamischen Kultus", The Quran as text, edited by Stefan Wild, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, 1996 (Islamic Philosophy, Theology Sciences: Texts studies, XXVII), 90 ff.
3- بعض السور؛ مثل: الرعد، ولقمان ،والسجدة، وفصلت، والزمر، والجاثية؛ فيها عباراةٌ طويلة ومفضلة بخصوص قصة النبي موسى(علیه السّلام)،وحسب الظاهر فهي تندرج ضمن القسم الأول.

الأمور الفرعيّة المختصة بحياة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(1)؛لذا، فالتفاصيل الفرعيّة المذكورة في النص القرآني منوطةً بطابعه التدريجي في النزول، حيث أنزلت آياته وفقًا لمقتضى الحال وتناسبًا مع الأحداث والوقائع التي شهدها المجتمع، ومضمونها يتناسب -طبعًا- مع الحكمة الإلهية إذ كلّما اقتضت المصلحة، أو حينما كان يُطرح سؤال، أو لمّا تستوجب الضرورة تشريع أحد الأحكام أو ترغيب الناس بالفضائل ونهيهم عن الرذائل؛ يُنزل الله عزّ وجلّ آياتٍ ذاتَ ارتباط مباشر بالموضوع، لكن ضمن مراحل متدرّجةٍ. هذا النزول التدريجي يتناغم بكل تأكيد مع واقع الفطرة الإنسانيّة، وينسجم مع التغيّرات التي تشهدها المجتمعات البشريّة. وهذا الانسجام دليل واضح على كون النص القرآني ذا منشأ سماوي.

وبالنظر إلى أنّ النشاط الاجتماعي بطبيعته عبارةٌ عن حركة ديناميكية؛ عادةً ما يتغيّر في رحابها واقع المجتمع ومظاهر الحياة العامّة، فإنّ أهمّ ميزة لهذا التغيّر أنه يترسّخ في باطن الروح البشريّة، وتتجلّى في ظلّه معالم الفطرة الأصيلة؛ لذا لا بد أن يتناغم مع حاجة الإنسان في الحياة؛ كي يتحقق تأثيره على أرض الواقع بشكل عملي، ولا شكّ في أنّ الفطرة الإنسانية تتقبّل كلّ تطوّر يكتنفها بشكل تدريجي وبشكل غير متسارع؛ تناسبًا مع واقع الحياة، وعلى مرّ الزمان تقع الكثير من الأحداث والوقائع، وكلّ حادث يحمل معه قضايا جديدةً؛ لذلك نزل النص القرآن متناسبًا مع ما كان يجري في المجتمع - آنذاك - ؛ بحيث واكب ما شهده من أحداث ووقائع× وفي هذا السياق أقرّ الله -تعالى- الأحكام والتشريعات للبشر وفصلها في مختلف الآيات المنزلة، وإلى جانب بيان الأحكام شهد المجتمع آثارًا تربويّةً، واهتدى الناس نحو السبيل القويم إلى أقصى حدٍّ ممكن(2).

وقد شهد المجتمع الإسلامي الأوّل هذه الظاهرة بصورة تشبه الخطابات التي كانت تلقى قبل الدعوة العلنية للإسلام، واتّسم بأنماط متنوّعة منسجمة مع بعضها غير متعارضة في ما بينها؛ أي إنّها كانت مكمّلةً لبعضها، لكن غاية ما في الأمر أن كلام البشر من منطلق ارتكازه على أسس فكريّة محدودة وضيّقة النطاق، ونظرًا لعدم قدرة الإنسان على إدراك

ص: 351


1- Cf. Sinai, Ibid., p. 117
2- للاطلاع أكثر، راجع: ريجي بلاشیر، در آستانه قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمود راميار، إيران، طهران، منشورات مکتب نشر الثقافة الإسلامية 1986م، ص 200 - 206.

واقع الأحداث المستقبلية، كانت الخطابات تُذكر بصيغةٍ شرطية، وأما الخطابات التي تتمحور مواضيعها حول السلوكيات الفرديّة والجماعيّة، فلم يكن من الممكن أن تُصاغ بشكل دقيق ومنتظم؛ في حين أنّ هذه النواقص غير مشهودةٍ؛ مطلقًا في النص القرآني(1).

وقد وصف بعض المفسّرين النصّ القرآني، وهو في اللوح المحفوظ؛ بأنّه كان في مرحلة البساطة والأصول المعرفية الدينية والمعاني القرآنية الكلّيّة؛ أي إنّه لم يكن في مرحلة الألفاظ، ولم تكن هناك مقتضيات تستوجب نزوله بشكل تدريجي على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذلك قيل: «لقد أنشئ اللوح المحفوظ ليكون ديوانًا جامعًا تسجّل فيه جميع القضايا الدينية والتقديرات الإلهيّة، وعوالم الخِلْقَة والتكوين كافةً»(2).

وأيّد نيكولاي سيناي نظرية دانيال ماديجان التي اعتبر فيها أنّ الكتاب السماوي مخزن لعلم الله - تعالى - وإرادته المقتدرة، وأشار في هذا المضمار إلى أنّ كلّ عبارة قرآنية مهما أفترضت دلالتها فهي قائمةً على التعاليم الموجودة في هذا الكتاب؛ لأنّنا نلمس شتّى أنواع المعلومات التأريخية والأخروية والكونيّة في بدايات السور وأوساطها وأواخرها؛ ومع ذلك لا يمكن اعتبار النص القرآني نسخةً لفظِيّةً طبق الأصل لذلك المصدر السماوي، بل مجرد تفسير وإيضاح لما هو موجود فيه، حيث صِيْغَت ألفاظه وتعابيره؛ تناغمًا مع الظروف والخلفيات التأريخية(3).

وهذه النظرية تشبه إلى حدٍّ ما آراء بعض المفسّرين المسلمين الذين استدلوا من سور الواقعة والبروج و (ق) على أنّ القرآن عبارةٌ عن حقيقةٍ بسيطةٍ في اللوح المحفوظ، والمصحف الذي بين أيدينا هو في الواقع صورته غير البسيطة؛ ما يعني أنّ القرآن المنزل للبشر على هيئة مصحف، قبل أن ينزل بشكل تدريجي؛ كان موجودًا - ابتداءً - في مرحلة اللوح المحفوظ بشكل مُحكّم، وبعد هذه المرحلة نزل على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وهذه المرحلة المتوسطة يُطلق عليها تفصيل الكتاب، حيث كان عند الله -تعالى- حينها بوصفه مقدّمةً لنزوله التدريجي(4).

ص: 352


1- راجع: محمود رجبي، گفتاري در نزول قرآن، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «معرفت»، العدد 2، 1992م، ص 12.
2- محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محسن آرمین ،إيران، طهران، منشورات معهد بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، الطبعة الأولى، 2006م، ص 48.
3- Nicolai Sinai, Ibid., p. 119.
4- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 15 - 16.

ولعل مرحلة تفصيل الكتاب هي التي وصفها سيناي بمرحلة صياغته التفسيرية، وفي هذا السياق أكد على وجود اختلاف بين مصطلحي القرآن والكتاب المذكورين في أوساط بعض السور المكّيّة وآواخرها، على الرغم من أنّ مفهوم مصطلح القرآن بدأ يتبلور على أرض الواقع منذ هذه المرحلة؛ إشارةً إلى الآيات التي أوحيت للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث تم على أساسها توضيح أسلوب البيان القرآني فقط، وهو الأسلوب الذي اتبعه لإبلاغ الكتاب؛ ونلمسه في الآيتين الأولى والثانية من سورة يوسف: ﴿الر تِلْكَ ايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)﴾.

إذَا، الكتاب في النصّ القرآني يشير إلى الأسلوب السماوي المتبع لتسجيل الكتابة وتخزينها، والقرآن يشير إلى الأسلوب الأرضي في بيان مفاهيم الكتاب ومضامينه.

وادعى هذا المستشرق وجود تضادٍّ بين الكتاب والقرآن؛ فالأوّل برأيه عبارة عن نقطة البداية لعملية الانتقال والثاني هو الحصيلة النهائية لهذا الانتقال، حيث استدلّ هنا- بالآيتين 2 و 3 من سورة فصلت: ﴿تَنزِيلُ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَبُ فُصِّلَتْ عَايَتُهُ، قُرْعَانًاعَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾. والكتاب السماوي تم تفصيله ضمن تلاوة عربيّة؛ ما يعني لم يكن مدوّنًا بالعربيّة منذ نشأته الأولى، وهذا ما أكدت عليه الآية الأولى من سورة هود: ﴿الركِتَبُ أُحْكِمَتْ وَايَتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، فالفعل (أحكم) برأيه يشير إلى تأليف نصّ مقدّسِ سماوي(1).

وجدير بالذكر أنّ نظريّة سيناي؛ وقوامها عدم عربيّة الكتاب السماوي، تتوافق مع ما ذكره المفسّرون المسلمون بالنسبة إلى مرحلة اللوح المحفوظ، ففي هذه المرحلة لم تكن -هنا- تفاصيل وجزئيّاتٌ وألفاظ، ولم يطرأ عليها أي تغيّر، وقد رفض بعضهم الرأي القائل بأنّ التفصيل؛ بمعنى التبيين الذي هو في مقابل الإجمال والغموض، بل فسّروه بالأمر المركب الذي يقابل البسيط؛ أي التركيب في مقابل البساطة(2).

والتضادّ الذي ادّعاه هذا المستشرق بين مفهومي الكتاب والقرآن في الآيتين الثانية والثالثة من

ص: 353


1- Sinai, Ibid., pp. 120 - 121.
2- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي (باللغة الفارسية)، إيران، منشورات رجاء الثقافية، 1985م، ص 149.

سورة فصّلت، غير مقبول من أساسه، حيث ادّعى - كما ذكرنا - أنّ الكتاب هو الهيئة السماوية، والقرآن عبارة عن هيئة أرضيّة؛ والسبب في بطلان رأيه أنّ الآية الثانية ابتدأت بكلمة (تنزيل) وهي من الناحية الإعرابية مرفوعةً؛ لكونها مبتداً برأي بعض علماء النحو، وخبرها على هذا الأساس هو جملة: ﴿كِتَبٌ فُصِّلَتْ ءَايَتُهُ﴾؛ بينما يرى آخرون أنّها خبر مرفوع ل_(حم)، أو لاسم الإشارة المقدّر (هذا)؛ وبهذا يكون المعنى أنّ (حم) أو هذه السورة، تنزيل من الله الرحمن الرحيم.

و (قرآنًا) حال لكلمة (كتاب) أو ل-(آيات)، كما أنّ كلّ من كلمتَيْ (بشيرًا) و (نذيرًا) في مستهل الآية الرابعة حال للكتاب أيضًا؛ وعلى هذا الأساس تصبح جملة ﴿كِتَبُ فُصِّلَتْ ايَتُهُ﴾ في محلّ رفع خبر ثانٍ، وفي هذه الحالة يكون معناها أن القرآن ليس غامضًا ومغلقًا، لأنّ سبيل الرشاد واتباع الحقِّ قد وُضّح فيه بأمثل شكل؛ كما ذكر الله - تعالى - فيه ما ينبغي للإنسان الحذر منه والإعراض عنه(1).

ونستشف من مدلول سورة فصّلت بمجملها أنّها في صدد بيان عدم إيمان الكفّار بالكتاب، حيث تم التأكيد على هذا الأمر من الآية الأولى حتّى السادسة، والواضح من ظاهرها أنّهم رفضوا القرآن؛ بوصفه كتابًا أرضيَّا؛ بحسب تعبير نيكولاي سيناي، ولم يرفضوا الكتاب السماوي الموجود في اللوح المحفوظ، وقد تكرّرت الإشارة بهذا الخصوص في الآية 26 والآية 41 والآيات اللاحقة لها، حيث أكدت هذه الآيات على المنشأ السماوي له: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَبُ عَزِيزُ﴾(2). وهكذا هي طبيعة القراءة التي تبناها هذا المستشرق للآيات والسور القرآنية ومراحل نزولها وتكوينها(3)، والنتائج التي توصل إليها تشبه ما توصلت إليه المستشرقة أنجليكا نويورث وتنطبق مع نظريّة تجزئة القرآن(4)القائلة بأنّ النصّ القرآني عبارةٌ عن مقاطع مستوحاة من الكتاب السماوي الذي هو مصدره الأساس(5).

ولدى تفسيره كلمة (التفصيل) ومشتقاتها أكد -أيضًا- على استقلال مصطلح القرآن عن

ص: 354


1- للاطلاع أكثر، راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 9، ص 4.
2- سورة فصلت، الآية 41.
3- processual Reading.
4- pericopization.
5- Wild, "why self referentiality", p. 23.

مصطلح الكتاب، وعلى ضوء اعتقاده بمرحليّة نزول الآيات القرآنيّة ونمط تحليله اللغوي لآياته، استنتج أنّ هذه الكلمة في الآيتين 114 من سورة الأنعام و 52 من سورة الأعراف، وكذلك في عبارة (تفصيل الكتاب)؛ يُراد منها بيان الطابع التفسيري للنصّ القرآني، ومما قاله في هذا الصدد: «التفصيل عبارةٌ عن عمليّة تغيير تسفر عن تحويل هوية ما إلى هوية أخرى؛ ما يعني أنّ الاختلاف الواضح بين القرآن والكتاب يطلق عليه تفصيل»(1). وفي هذا السياق أكد على عدم صوابيّة اعتبار التفصيل مجرّدَ ترجمة لنصّ سماوي مقدّسِ.

وكذلك تطرّق إلى بيان مشتقات هذه الكلمة بأسلوب النقد والتحليل اللغوي، حيث وضّح معانيها على ضوء المفعول به المختص بكلّ لفظ منها؛ وذلك وفق يلي:

1) عبارة (كلّ شيءٍ) في محلّ نصب مفعول به للتفصيل في الآيات التالية:

- ﴿تفصيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (سورة الأنعام، الآية154؛ سورة الأعراف، الآية 145)

- ﴿تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ( سورة يوسف، الآية 111)

2) كلمة (آيات) هي المفعول به للتفصيل في الآيات التالية:

- ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَتِ﴾ (سورة الأنعام، الآية 55)

- ﴿فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 97)

- ﴿فَصَّلْنَا الْاَيَتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 98)

- ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الأعراف، الآية 32)

- ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (سورة الأعراف، الآية 174)

- ﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (سورة التوبة، الآية 11)

- ﴿يُفَصِّلُ الْآيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (سورة يونس، الآية 5)

- ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة يونس، الآية 24)

ص: 355


1- Sinai, Ibid. p. 121.

- ﴿يُفَصِّلُ الْآيَتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ (سورة الرعد ، الآية 2)

- ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَضَلْنَهُ تَفْصِيلًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 12)

- ﴿نُفَصِّلُ الْآيَتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (سورة الروم، الآية 28)

3. عبارة (ما حرّم عليكم) التي تشمل مختلف الأطعمة المحظورة في محلّ نصب مفعول به لكلمة (فصل) في قوله -تعالى-: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ (سورة الأنعام، الآية 119) .

وعلى ضوء استعمال مشتقات التفصيل في هذه الآيات، اعتبر معناه الأساس هو الشرح والتوضيح والبيان بإسهاب وتفصيل، وفي هذا السياق اعتبر الآيات التي تتضمنه جاءت لإثبات صوابية المعاني المترسّخة في ذهن المخاطب، فقوله - تعالى - في الآية 24 من سورة يونس: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ - على سبيل المثال - ذُكِرَت فيه كلمة (نفصل) التي هی فعل وفاعلها ضمير مستتر تقديره (نحن) ومفعولها (الآيات)، وعبارة (لقوم) متعلّق بها، و(يتفكرون) فعل وفاعل في محلّ جرّ نعت لكلمة (قوم)(1).

والنتيجة المتحصّلة من البيان اللغوي الذي ساقه هذا المستشرق بخصوص مشتقات التفصيل في مختلف الآيات فحواها: أنّ مفهومه؛ في مثل قوله - تعالى -: ﴿تفصيل الكتاب﴾ ذو ارتباط وثيق بالمخاطب؛ بحيث إنّ إشاراته وإحالاته النصّيّة بالكامل تعود إلى المخاطب ذاته وإلى أسلوب استعمال الفعل المشتق من هذه الكلمة، وهذا الأمر ثابت - أيضًا - في الآية 52 من سورة الأعراف، لذا فهو لا يعني (فصل شيئًا) فحسب؛ وإنّما يراد منه (فصل شيئاً ل_..)؛ ومن هذا المنطلق بادر إلى تحليل مفهوم الكلمة على ضوء طبيعة ارتباطها بالمخاطب، وباعتبار أنّ النصّ القرآني عبارة عن ترجمة تفسيرية ل_(الكتاب) وطابعه أنّه يتناسق مع البنیة التأريخيّة والأوضاع الخاصّة التي نشأ في رحابها.

والآية 52 من سورة الأعراف: ﴿وَلَقَدْ جِتْنَهُم بِكِتَبٍ فَصَّلْنَهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لا تُعدّ - برأيه - متمّمةً لكلام، ولا تتضمّن كلامًا إضافيًا يُراد منه توضيح شيءٍ ما، بل

ص: 356


1- Sinai, Ibid. p. 121.

فيها إشارة ضمنيةً إلى المخاطب، وإحالةٌ إليه بشكل تلويحيّ، وعلى هذا الأساس قال: «لذا من المحتمل أن تفصيل شيءٍ يجب وأن يتمحور حول مخاطب خاص، وفي ظروف خاصة»(1)، وهذا الكلام وارد حتّى وإنْ أريد - هنا - (تفصيل الكتاب)، لا (تفصيل الآيات).

وحينما نمعن النظر في ظاهر الآية المذكورة، ندرك أنّ المقصود من الكتاب هو القرآن لا غير، إذ الآيات السابقة لها تحدّثت عن أحوال الذين يتنعمون في الجنّة ويعذبون في النار، وكذلك أشارت إلى أهل الأعراف، كما لمحت إلى الحوار الذي سيجري بينهم في الحياة الآخرة؛ والآية 51 بالتحديد تطرّقت إلى الحديث عن الكفّار الذين اتخذوا الدين لهوًا ولعبا؛ بحيث نسوا لقاء الله يوم القيامة، لذلك سوف يُنسون آنذاك، جرّاء أعمالهم هذه، وسيطالهم العذاب قطعًا؛ وعلى ضوء هذا الموقف جاءت الآية 52 لتؤكّد على أنّ إنكارهم هذا ليس سببه نقص في آيات الله - تعالى وبراهينه حيث أنزل لهم كتاب (فصل) في الحياة الدنيا فيه كل ما يحتاجون إليه من هدًى وتربية وعلم؛ والمقصود منه - طبعًا - هو القرآن الكريم الذي فيه تفصيل لكلّ شيءٍ يسهم في هدايتهم، فهو المرشد للبشرية كافّةً، وفيه رحمةً للجميع بشكل عام؛ وللمؤمنين بشكل خاص.

ويفيد قوله - تعالى -: ﴿فَصَّلْنَهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ أنّ القرآن الكريم مستوحى من مكنون العلم الإلهي، فهو مرآة لعلمه تبارك شأنه، وهذا التفصيل الذي هو ميزة هامة له، يتبلور على ضوء علمه التام؛ بما في مضامينه من مفاهيم ودلالات(2)، ويحكي عن أنّه كتابٌ مقدّس مصدره الحق والغيب الإلهي؛ أي إنّنا أنزلنا كتابًا هو الحق بذاته؛ لأنّ إنزاله تمّ عن وعي وإدراك بواقع حال البشر(3).

وتشير هذه الآية في الحقيقة إلى كرامة القرآن الكريم ومنافعه الجمة(4)، وتلوّح إلى مضامينه السامية؛ من معتقدات، وأحكام شرعيّة، ومواعظ مصدرها الله عزّ وجلّ، حيث تم تفصيلها بكلّ وعي وإدراك، لذلك اتّسم هذا الكتاب - القرآن - بالحكمة البالغة(5). وما ذُكِرَ فيه بالتفصيل قائم بطبيعة الحال بعلم الله -تبارك وتعالى- بأحوال عباده في كلّ زمان ومكان، ومعرفته التامة بما فيه نفعهم وصلاحهم، وإدراكه الكامل لما يناسبهم ويقوّم حياتهم بأمثل شكل.

ص: 357


1- Ibid., p. 122
2- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 14، ص 253.
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 167.
4- راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 14، ص 253.
5- راجع: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 3، ص 15.

وإذا قيل إنّ (الكتاب) في هذه الآية بمعنى (المصدر السماوي) ففي هذه الحالة كان من المفترض أن تُصاغ العبارة اللاحقة ل_﴿جِتْنَهُم﴾ بهذا الشكل: (جئناهم بكتاب فضلناه بقرآن) أو بشكل آخرَ مشابه لها أو بعبارة تشبه مضمون الآية 37 من سورة يونس: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَلَمِينَ﴾، فمصطلح (القرآن) ذُكِرَ - هنا - في سياق التفصيل، حيث يعتقد سيناي أنّ هذه الآية بصدد بيان أنّ القرآن تفصيل للكتاب؛ يعني أنّه ترجمة تفسيرية له. ومن الناحية الإعرابية الجار والمجرور (بكتاب) متعلّقان ب_( جئنا)، وعبارة (فصلناه) نعت ل_(كتاب).

وهناك مرحلةٌ لم يُشِرْ إليها هذا المستشرق ضمن استدلاله في تفسير معنى مصطلح (کتاب) باعتباره مصدرًا سماويًّا صدرت منه التلاوات التفسيرية التي جاءت مترجمةً، فالمراحل التي تمّ خلالها تبديل الكتاب إلى قرآن هي التالية:

- كتاب سماوي

- ترجمةٌ تفسيرية (تفصيل)

- قرآن (تلاوات)

وقد وُصِفَ (الكتاب) في هذه الآية بالتفصيل؛ أي إنّ الكتاب الذي أنزل هو الكتاب نفسه الذي فصّل، لذا حسب المعادلة التي يتمحور حولها استنتاج سيناي، إذا كان المقصود من (الكتاب) هو ذلك الكتاب السماوي الذي ليس في متناول البشر، فهو إذًا الكتاب ذاته الذي جيء به للكفّار، وليس هناك أي اختلاف ماهوي في هذه الحالة، إذ ليس لدينا كتابان، وإنّما لدينا كتاب واحد تم تفصيله.

وتؤكّد الآية 52 من سورة الأعراف - كما أشرنا آنفًا-، على أنّ الله -تعالى- أنزل لبني آدم كتابًا قائماً على علمه، وقد فصّله لهم، لذا إنْ كان المقصود منه هو المصدر السماوي ذاته، فما الداعي في إضافة ضمير الغائب (هم) إلى الفعل (جئنا)؟ فهذا التركيب اللغوي يدلّ على أنّ الكتاب المنزَل إليهم هو القرآن، لا ذلك الكتاب الذي يُعتدّ مصدرًا سماويًا. وقد جاءت هذه الآية بعد آياتٍ حذّرت من الكذب على الله - تعالى - وذكرت النتائج الوخيمة التي تترتب على إنكار آياته وأشارت إلى ثمرة الإيمان والعمل الصالح، حيث تطرّقت إلى الحديث عن نزول

ص: 358

الكتاب؛ بوصفه إتمامًا للحجّة على البشر، والمقصود بحسب سياق الآيات الأخرى في السورة هو التأكيد على ظلم كلّ من لا يؤمن به وانحرافهم؛ فقد أُنزل إليهم هذا الكتاب وتمت الحجة ببرهان جلي، لكنّهم مع ذلك كذَّبوا بآيات الله تعالى(1).

وأما الآية 53 من هذه السورة(2)فهي تتحدّث عن مسألة تأويل الكتاب، والضمير (الهاء) في كلمة (تأويله) ضمن قوله - تعالى -: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ يرجع إلى (كتاب) في الآية السابقة، والتأويل - هنا - يعني الرجوع الحقيقي للمعارف القرآنية(3)، لذا يمكن تفسير العبارة المذكورة بالتالي: هل يريدون شيئًا سوى تأويل القرآن ؟

وبعد ذلك أشارت الآية إلى أنّ اليوم الذي يُؤوّل فيه يقول الذين نسوه قبل ذلك: ﴿لقد كان رسل ربّنا على حقٌّ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ﴾.

وتدلّ القرائن التي تحفّ بهذه الآية والتي جاءت بعد الآية 52 مباشرةً، على أن المقصود من (الكتاب) هو القرآن ذاته الموجود لدى المسلمين، وأنّ تفصيله يعني بيان معارفه بوضوح، وكلمة (تأويله) من جملة هذه القرائن، ومن ضمنها -أيضًا- إقرار المكذبين بأنّه كتاب حقٌّ وهدى؛ ومن الواضح بمكان أنّهم كذَّبوا بهذا القرآن الموجود، لا بالكتاب الذي هو مصدرٌ سماوي؛ والذي وصفه سيناي بأنّه ليس في متناول البشر.

وعلى الرغم من أنّ النصّ القرآني قد أتمّ الحجّة على المكذبين ووضّح الحق والصواب لهم، لكنّهم افتروا على الله كذبًا وأنكروا آياته، حيث كانوا ينتظرون منه أن يُفصح لهم عن تلك الحقيقة التي أوجبت نزول القرآن الكريم وأحكامه ووعده ووعيده يوم القيامة؛ أي إنّهم كانوا يرجون ذلك بعد أنْ أكّد لهم على أنّ السبب في تفصيل القرآن هو هدايتهم ورحمتهم. وبعد ذلك أشارت الآية إلى أحوال المكذبين بالكتاب(4)، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير الآية بالتالي: لقد أنزلنا للكفّار كتابًا فيه أحكام ، حيث وضّحناه لهم بعلمنا، لذا فهو يهديهم إلى سبيل الحق والرشاد.

ص: 359


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 167.
2- قال -تعالى-: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾(سورة الأعراف، الآية 53).
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 16.
4- راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 14، ص 254.

وفسّر بعض الباحثين إطلاق مصطلح (كتاب) على القرآن في هذه الآية بأنّه إشارة إلى مرحلة انتقال العرب من كونهم أمّةً أميّةً لا كتاب لها إلى مرحلة أمة ذات كتاب؛ وسورة الأعراف هي التي ابتدأت هذه المهمّة ضمن توجيهها الخطاب إلى العرب، وفي الآية 52 منه تمّ توجيه الخطاب إلى قريش والنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بضمير الغائب : ﴿وَلَقَدْ جِثْنَهُم بِكِتَابِ فَصَّلْنَهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(1).

واعتبر نيكولاي سيناي الآية 44 من سورة فصّلت: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَهُ قُرْءَانَّا أَعْجَمِيّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ عَايَنُهُ وَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيُّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي عَاذَانِهِمْ وَقْرُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمَّى أُوْلَبِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ شاهدًا على أنه لو كان بلغة أخرى غير العربيّة؛ لما انسجم مع مقتضيات مخاطبيه العرب، ونقل عن دانيال ماديجان قوله إنّ التفصيل المشار إليه في النص القرآني؛ غالبًا ما يتبلور بمعنى التفاعل مع واقع المخاطب؛ لأنّ معناه يستبطن خطابًا للطرف المقابل، ويتناسب مع نمط خاص من الارتباط بينه وبين الكلام الموجّه له؛ بوصفه معيارًا لهدايته نحو هدف معيّن؛ وفي هذا السياق اعتبر أنّ الأسلوب القصصي القرآني يؤيّد رأي ماديجان(2).

ولأجل تأييد المعنى الذي طرحه للتفصيل استدلّ بتفسير أنجليكا نويورث سورة الحجر، حيث وضّحت التفصيل في هذه السورة بالتالي: الأسلوب القصصي في سورة الحجر مدغم مع رغبات في موازاة النصّ في رحاب الشرح والتفسير والوعظ لعددٍ كبيرٍ من المخاطبين. كما استند إلى تفسيرها الذي ساقته حول الآية 21 من سورة (ص) والتي اعتبرت فيها: ﴿نَبُوا الْخَصْمِ إِذْ سَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾؛ مثالاً مناسبًا على الارتباط الوطيد بين القصّة والتوضيح والتفسير والشرح والوعظ(3).

وكذلك اعتبر النصّ القرآني ذا مستويات متعدّدةٍ، وفي الحين ذاته متغيّرة ومتكاملة على صعيد الخطاب المطروح فيه، وهنا - أيضًا - تبنّى رأي نويورث ليؤكّد على أن المستوى الأساس للخطاب في البنية اللغوية القرآنية مستوحى من (الكتاب)، بينما سائر المستويات مدغمةٌ فيه بحيث تتكامل بين تفاصيله بشكل تدريجي، فهي عبارة عن توضيحات متممة وليست

ص: 360


1- راجع: محمد عابد الجابري، رهيافتي به قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محسن آرمين، ص 213.
2- Cf. Sinai, Ibid., p. 122
3- Cf. Ibid., pp. 122 - 123

منبثقةً من (الكتاب) ؛ وعلى هذا الأساس قال إنّ النصّ القرآني في مستواه الأساس يحكي عن الوقائع المدرجة في النص السماوي، وكما يقال فهو نقّ سماوي يعد المنشأ الأوّل للوحي المنزل على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في مستوى آخر يشمل المفاهيم الأخلاقية والأحكام الشرعية المرتبطة بهذه الأحداث، وهذا التفصيل يُطرَح بشكل يتناسب مع رغبات المخاطبين ومعتقداتهم واستفساراتهم(1).

إذَا النصّ القرآني -برأي هذا المسشرق- ليس نقلًا لفظيًّا مقتبَسًا من ألفاظ (الكتاب)، والآيات الأولى لبعض السور والتي تتضمّن كلمة (كتاب) تحكي عن النصّ الموازي له، لذا فهي ليست نقلًا لفظيًّا بحتًا لعبارات (الكتاب)؛ وهذا الأمر لا يقتصر برأيه على الآيات الأولى، بل يشمل - أيضًا - سائر الآيات التي تتّسم بطابع تفسيري، فهي تحكي عن شأن الكتاب وتتضمن تفسيرًا لما فيه. وفي هذا السياق قال إنّ القرآن غالبًا ما يتجاوز نطاق نقل القصص المستوحاة من الكتاب المقدّس - التوراة والإنجيل - ؛ لكونه يسردها حَسْبَ الظروف التأريخية المواكبة لعصره وهي خلال عصر صدر الإسلام تختلف واقعًا عمّا عليه الحال في عصر ظهور الكتاب المقدس، وإذا افترضنا أنّ هذه القصص المستوحاة تجسّد نقلًا مباشرًا من (الكتاب)، جميع ففي هذه الحالة ينبغي لها أن تتّسم بنمط متشابه؛ من حيث النظم والتركيب، لذلك أكّدت الآيات القرآنية على أنّ النصّ السماوي لا بد أن يُطرح للبشر بشكل (مفصل)، وهذا ما نلمسه في الآية 114 من سورة الأنعام: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَلٌ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(2).

ونستشف من هذا الكلام أنّ تكرار السرد القصصي لحكاية ما في مواضع عدّة ضمن النصّ القرآني - برأي سيناي-، يدلّ على عدم اقتباسها قاطبةً من النصّ السماوي المقدّس، بل يمكن اعتبارها شرحًا يتناسب مع مستوى المخاطب وظروفه؛ لكنه مع ذلك لم يوضّح ما إن كان هذا الشرح جزءًا من الوحي المنزل أو لا، فغاية ما يذكره أنّه ليس موجودًا في (الكتاب) السماوي.

و (الكتاب) برأي المفسّرين المسلمين لا يتضمّن تفصيلا وجزئيّات، بل هو عبارة عن أمرٍ

ص: 361


1- Cf. Ibid., pp. 122 - 123.
2- Ibid.

بسيط؛ وهذا الرأي يفنّد ما ذهب إليه سيناي بكون القصص القرآنية المستوحاة من الكتاب المقدس موجودةً فيه، حيث يعتقد بأنّ مضمون (الكتاب) يمكن تحصيله إلى حد ما، لكن لا يمكن الاستفادة منه ولا وجود له في الخارج، وإنّما يتحقق ذلك عن طريق الوحي فقط، وبما أنّ كلّ وحي يجب أن يتناسب مع المخاطب الذي هو الهدف من الخطاب، ففى هذه الحالة لا يمكن للكتاب أن يكون في متناول البشر على هيئة نصّ على غرار النصوص الدينية الموجودة، بل لا يمكن -أيضًا- أن يُصاغ في شكل عبارات مقتطفة ومختصرة لأيّ شخصٍ كان(1). ونتيجة هذا الكلام أنّ قائله يعتقد بعدم إمكانية تحصيل ما في (الكتاب) حتّى عن طريق الوحي، إلا أنّ هذا الكلام ليس صائبًا؛ وفق مضمون الآية 52 من سورة الأعراف التي أكدت على أنّه كتاب هدى ورحمةٍ تمّ تفصيله على علم؛ أي على أنّه صادر من مكنون العلم الإلهي، لذا فهو مرآة لعلمه.

وإذا كان مراد سيناي من ادّعائه أن معرفة مكنون (الكتاب) يعني معرفة مكنون علم الله عزّ وجلّ، فهو صائبٌ ولا غبار عليه؛ لأنّ علمه - تبارك شأنه - يعم الكون بأسره في ظاهره وباطنه، وهو ما تم التأكيد عليه في الآية 26 من سورة الجنّ: ﴿عَلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾، إذ نلمس فيها تأكيدًا على نسبة علم الغيب إلى ذاته المقدسة لا غير، فهذه الآية تدلّ على علمه بالغيب بأسره، وهو علم مختص بذاته المقدّسة؛ لذا فهو لا يظهر حقائق غيبه لأحد من الناس؛ إلا أنّ الآية اللاحقة - الآية 27 - فيها استثناء، فهذا العلم؛ على الرغم من اختصاصه به تبارك شأنه، لكن من الممكن بإذنه أن يطلع عليه من يشاء ويرتضي: ﴿إِلَّا مَنِ أَرْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، رَصَدًا﴾. فهذه الآية فيها استثناء من أمرٍ كلّي، والمستثنى هو الرسول المختار الذي يرتضيه الله، حيث يلهمه ما يشاء من علم الغيب ويبلغه ما فيه عن طريق الوحي(2).

والقرآن الكريم -برأي سيناي- عبارةٌ عن ترجمةٍ عربيّة ل_(الكتاب)، ولكن بأسلوب تفسيري في سياق (تفصيل)، ومن هذا المنطلق يقول إنّ تغيير هيئة الكتاب وتحوّلها إلى قرآن لا تعدّ مجرّد ترجمة بحتة إلى اللغة العربيّة؛ لأنّ القرآن لا يختص بهداية البشر عن طريق اللغة العربيّة فحسب؛ ويضيف أنّه: «لا شكّ في أنّ عربيّة القرآن عبارةٌ عن خصوصيّة بارزة للتحليل

ص: 362


1- Cf. Ibid., pp. 122 123
2- راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 53.

الذاتي الموجود فيه، لكن لا ينبغي اعتبار هذا الأمر دليلا على كون (التفصيل) هو (الترجمة) نفسها؛ لأنّ هذا التصوّر يسفر عن حدوث غموض في المعنى المقصود من (تفصيل الكتاب) المشار إليه في النص القرآني؛ كما أنّ بعض الآيات؛ مثل: الآية 2 من سورة الشعراء، وسائر الآيات التي توضّح هويّة القرآن، وكذلك سائر الآيات التي تلاها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛يمكن اعتبارها صورةً ل_(الكتاب) ذاته، لا ترجمةً لمضمونه؛ فهذه الآيات تشير إلى أنّ ما تلقاه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ليس مجرد خلاصة أو اقتباس من (الكتاب)، وإنّما يمكن تصويره بأنه هو الكتاب ذاته.

أضف إلى ذلك فإنّ ذِكْر مصطلحي الكتاب والقرآن إلى جانب بعضهما في الآيات الأولى من سورتي النمل والحجر، يدلّ على أنّ ما سيأتي في الآيات اللاحقة يحكي عن الهوية المشتركة لهما، فالقرآن هو الكتاب ذاته، والآيات - هنا - تصف الفعل والتطبيق، وكذلك المنشأ التكويني للنص القرآني؛ ما يعني تزامن صياغة آياته مع تلاوتها، فهي آيات مستوحاة من الكتاب(1).

واعتبرت أنجيلكا نويورث الآية الأولى من سورة الحجر مقدّمةً دعائيةً مضمونها موازيًا للنص؛ بحيث يشمل ما تستبطنه جميع الآيات اللاحقة لها، إذ تصف كتابًا شاملًا، وثمرته تلاوة آيات ضمن النصّ القرآني(2)؛ لذا من الأفضل - هنا - اعتبار (تفصيل الكتاب) إضافةً معكوسةً؛ أي (الكتاب المفصّل) الذي يتصف بالوضوح والبيان؛ وهذا التفسير على غرار تفسير عبارة (تنزيل الكتاب) التي تعني (الكتاب المنزل)؛ أي لا يقصد منها أنّ كتابًا كان موجودًا، ثم نزل مفصَّلا على هيئة قرآن.

ويستعرض القرآن - برأي نيكولاي سيناي-، ضمن ذِكْره توضيحات لمخاطبيه، إلى جانب نقله القصص الموجودة في (الكتاب)، نصّه؛ بوصفه (ترجومًا) (Targum)(3)إلهيَّا، لكن هذا لا يعني

ص: 363


1- Sinai, Ibid., p. 124.
2- Cf. Ibid.
3- (الترجوم) في أدب الكتاب المقدس يعني ترجمة نصوص من الكتب اليهودية إلى اللغة الآرامية، والباحث ديفيد باورز وضحه قائلاً: «نص الكتاب المقدس اتّخذ طابعًا ثابتا منذ عام 450 قبل الميلاد حتى نهاية القرن الميلادي الأوّل، وعلى الرغم من أنّ ثباته بوصف نصّا دينيًّا رسميًّا أسفر عن حدوث قيود في تفسيره، لكنّه لم يتحوّل إلى عقبة أمام سرد الروايات فيه. حينما حلّت اللغتان الآرامية والسريانيّة محلّ اللغة العبرية لدى اليهود، اقتضت الحاجة ترجمة هذه الروايات إلى هاتين اللغتين كي تذكر في المناسك العبادية، والترجمة الآرامية في هذا الصعيد أطلق عليها عنوان ترجوم (Targum) وجمعها ترجوميم (Targumim)؛ بينما أطلق على الترجمة السريانية عنوان بشيتا Peshta)، وهذه الترجمات تضمّنت في معظم الأحيان شرحًا وتفصيلًا للقصص والحكايات المذكورة في الكتاب المقدس، وهي تضرب بجذورها في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد». (David Powers, Muhammad is not the Father of any of your men, University of Pennsylvania press, Philadelphia, (2009). pp. 102-103

كون الترجمة الآرامية للكتاب المقدّس قد أثّرت على النص القرآني، بل يوحي بوجود تشابه بينه وبين الأدب (الترجومي) على صعيد التركيب بين الترجمة والتفسير في آن واحد؛ لذا فالقرآن عبارةً عن (ترجومٍ) لكونه يحكي عن نص مصحوب بتوضيحات تتناسب مع طابع الحوار الموجّه لفئة معيّنة من المخاطبين، وهو حوار مترابط ومنسجم مع بعضه، وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار أنّ هذين النصين متشابهان بالكامل؛ فضلاً عن أنّ الترجمة القائمة على أسس (ترجومية) لا تعني وجود اختلاف بين النصّين، بل هما عبارةٌ عن نقّ واحد من حيث الجوهر والماهيّة، لذلك وُصِفَ الترجوم بأنّه على غرار الترجمة، وأقرب إليها من التفسير، فهذا المصطلح يحكي عن فهم خاص للنصّ القرآني؛ بحيث تتضح في رحابه القضايا الخاصة المتواكبة مع العصر والتوضيحات الإضافية(1).

وقد صوّر نيكولاي سيناي الله -تعالى- في الخطاب القرآني؛ وكأنّه ترجوم؛ أي أنّه مفسِّر للكتاب السماوي ومصدر لتفاصيله وتفسيراته التعليمية التي تتناغم مع الظروف الخاصة لمجتمع عصر صدر الإسلام؛ وهذا الأمر برأيه يصوغ للنصّ القرآني طابعًا تعامليا متبادلا يتناسب مع الظروف الحاكمة؛ بحيث يحوّله من كيان مفتقر إلى كيان واهب كله عطاء، إذ ينال مقامه المرموق عن طريق التفصيل فقط، وعلى ضوء هذا التفصيل يتمّ تحصيل مكنون الكتاب. وفي هذا السياق أشار إلى أنّه لا يقصد من هذا الكلام التشكيك بكون القرآن منبثقا من مصدر سماوي، واعتبر أنّ ميزته المعهودة في كونه يتناسب مع متطلبات مَنْ أنزل إليهم(2)مؤشر واضح على كونه كتابًا منزلا بالوحي على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو بهذا الوصف ثمرة لمشيئة الله التي اقتضت إعلام الناس بمضمون الكتاب السماوي، لذا فهو ذو مكانة رفيعة(3).

وإحدى النتائج الجانبية التي تترتب على ما ذهب إليه هذا المستشرق؛ هي تفنيد مزاعم أهل الكتاب -اليهود والنصارى- بكون النصّ المقدّس بين أيديهم، فهذا النص؛ وفقاً لما تبنّاه سيناي ليس في متناول البشر؛ على الرغم من أنّ الوحي في كلّ زمانٍ يتيح الفرصة للبشر للاطلاع على مضمون الكتاب، ولكن مع ذلك لا يمكن اعتبار أيّ نضّ مقدس؛ حتى وإن اعتبر تاما

ص: 364


1- Sinai, Ibid., p. 125
2- ad hoc.
3- Sinai, Ibid., p. 126.

وكاملا، انعكاسًا تامَّا له؛ وإنّما هو مجرّد انعكاس لصورة النصّ المقدّس المستوحى من الكتاب، لا نصه ذاته(1).

ومما ذكره في هذا المضمار -أيضًا- أنّ الأنسب والأصح في خطاب اليهود هو ما ذُكِرَ في الآية 23 من سورة آل عمران: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَبِ﴾ وهذه العبارة تكرّرت في الآيتين 44 و 51 من سورة النساء أيضًا، وهي من الناحية الخطابية أصح من قوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ﴾ التي ذكرت في الآية 101 من سورة البقرة، وتكرّرت في آيات أخرى؛ ويمكن اعتبار الأولى بديلةً عن الثانية، والاستبدال هنا يدلّ على أنّ إعطاء الكتاب لا يُعدّ أكثر من إعطاء جزء منه؛ والذي أشير إليه بكلمة (نصيبًا)(2).

ولا يمكن لهذا المستشرق البتّ في صوابية تفسيره للكتاب المذكور؛ اعتمادًا على الآيات المشار إليها؛ بأنّه نصّ سماوي مقدّس؛ لأنّ ظاهر الكلام يدلّ بوضوح على أن المقصود منه في الآية 23 من سورة آل عمران: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ﴾ هو التوراة ذاتها الموجودة لدى اليهود والتي لا يعلمون إلا بالقليل منها؛ وهذا الرأي مؤيّد بقرينة الآيات السابقة لهذه الآية، حيث يتمحور الكلام فيها حول التوراة والكتاب المقدّس، ولا يتطرّق الله - تعالى - فيه إلى الكتاب السماوي الذي هو فوق متناول البشر؛ والآية التاسعة عشرة من هذه السورة(3)تتحدّث عن حقيقة الدين وتؤكّد على وحدة ماهيته، وتشير إلى أنّ الاختلافات الدينية حدثت؛ على الرغم من علم البشر بذلك؛ جرّاء جهلهم، وغفلتهم، وظلمهم، وانحرافهم عن الحق، واتباعهم أهواءهم.

والآية 20 من السورة ذاتها؛ وفيها عبارة: ﴿أُوتُوا الْكِتَبَ﴾، والآيتان(4)21و22 تشيران إلى بغيهم وظلمهم والعواقب الوخيمة التي ستطالهم جراء ذلك.

ص: 365


1- Cf. Ibid. النصيب بمعنى السهم الذي يتم الحصول عليه، والحظ من الشيء، ونصب الشيء يعني إبقاؤه قائماً، مثل إقامة الرمح، لذا يقال لحظ الإنسان «نصيب» وكأن ذلك الشيء قد نصب له. (أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1419ه_، ج 5، ص 434).
2- Sinai, Ibid.2
3- قال -تعالى-: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(سورة آل عمران، الآية 19).
4- قال -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّين بِغَيِرْ حَقٌّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ (سورة آل عمران، الآيتان 21 و 22).

والآية 23 هي في مقام ذمّ اليهود والنصارى(1)، حيث خاطب الله - تعالى - فيها نبيّه(صلی الله علیه و آله و سلم)ليخبره بأنّ فريقًا منهم -الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب أعرضوا عن كتاب الله الذي هو الحكم والفيصل بين الحق والباطل؛ على الرغم من علمهم بذلك(2).وكلمة (نَصِيبًا) في هذه الآية ليست كما فسّرها سيناي، فهي ترتبط بأهل الكتاب، لا بالله - تعالى - ؛ إذ المعنى أنهم امتلكوا نصيبًا من الكتاب، لا أنّ الله -تعالى- منحهم نصيبًا منه؛ والقرينة على ذلك العبارة اللاحقة لها: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَبِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾، لذا إنْ كان هذا النصيب من جانب الله عزّ وجلّ، لكان من الأجدر -هنا- صياغة العبارة وفق ما يلي: (يُدعون إلى نصيبهم من كتاب الله)، لكنّه -تعالى- لم يقل ذلك. فإنّهم وفق مضمون هذه الآية مطالبون بأن يكون الحكم لكتاب الله، وفي هذه الحالة لا بدّ لهم من امتلاك معلومات منه؛ وبطبيعة الحال قد يكون فهمهم تامًا أو ناقصا؛ لذا فالنصيب -هنا- يُراد منه مقدار المعلومات التي لديهم من الكتاب، لا جميع المعارف الموجودة فيه؛ ولو أن جميع معارفه لم تمنح لهم منذ بادئ الأمر ، فلا معنى لمطالبتهم بأن يكون الحكم على أساس كتاب الله وعدم جواز الإعراض عنه. وقد ذكرت بعض المصادر اللغوية أنّ كلمة (أوتوا) في القرآن الكريم تستخدم للدلالة على عدم تقبّل الطرف المقابل لما أوتي، لذا فهي على خلاف كلمة (أتينا) التي تشير إلى لياقة الطرف المقابل واستحقاقه ما أوتي(3).

ويقول أحد المفسّرين إنّه بما أنّ التوراة والإنجيل بنصيهما الكاملين موجودان لديهم، لذلك جاءت العبارة القرآنية في الآية 20 من سورة آل عمران وفق ما يلي: ﴿وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ﴾، لكنّهم لم يستثمروا؛ إلا جزءًا ضئيلا منه؛ كما أكدت الآية 150 من سورة النساء: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ ؛ ويؤيد ذلك سبب نزول قوله -تعالى- في الآية 23 من سورة آل عمران: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَبِ اللَّهِ﴾(4).

أضف إلى ذلك أنّه حتى إن قيل إنّ المقصود من هذه العبارة هو عدم منحهم

كلّ ما في

ص: 366


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 7، ص 178.
2- قال - تعالى -: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾(سورة آل عمران، الآية 23).
3- راجع: حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن تحقيق عدنان داوودي، كلمة (أتى). وكذلك أيضاً : حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، كلمة (أتى).
4- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 516.

الكتاب، فهي في هذه الحالة لا تعني عدم إنزاله بالكامل؛ عليهم، بل يُراد منها عدم امتلاكهم الكتاب المنزل بكامله؛ لذلك تمكنوا من تحريف ما لديهم، وهو ما يؤيّده الجزء الأخير من الآية 24 في سورة آل عمران: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُون﴾(1).

وبالنسبة إلى مضمون الآية 44 من سورة النساء، فهو يتناسب مع ما تتضمنه الآيات اللاحقة حتى الآية 58؛ وذلك أنّ محورها الأساس هو أهل الكتاب، والظلم الذي اقترفوه، وخيانتهم الأحكام التي أُقَرَّت لهم ، واليهود هم أبرز مصداق لهذا النقد؛ لأنّ قوله -تعالى-: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَبِ﴾ في الآية 44 يشير إلى امتلاك علماء أهل الكتاب علمًا، ويحكي عن الذين باعوا دينهم المشرع لهم في أحكام التوراة، حيث تؤكد بأنّ لديهم علمًا قليلًا بالكتاب، لكنّهم سخّروه لمآرب دنيوية. هذه العبارة - كما أشرنا آنفًا- إما أن يُراد منها ذمّ الذين حرّفوا التوراة ووصفهم بأنّهم لا يمتلكون إلا حظا ضئيلا من علم الكتاب السماوي، أو أنّ المقصود منها عدم اطلاعهم على كلّ ما هو موجود في التوراة من علوم، فهؤلاء الذين باعوا دينهم لا يعلمون إلا بالجزء اليسير من تعاليم التوراة الأصيلة؛ بحيث احتفظوا في أذهانهم ببعض العلوم منها ، لكنّهم أضاعوا الأحكام الشرعيّة والأخلاقية ودنّسوا حقوق الآخرين.

الآية 51 هي الأخرى في مقام ذمّ اليهود: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلًا﴾؛ وهي تتضمّن العبارة السابقة ذاتها، إذ تؤكّد على أنّ هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا ضئيلا من علم الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت جرّاء عنادهم وتكبّرهم، وبهذا التوجه خالفوا مبادئ التوحيد ووقعوا في فخ الشرك والباطل(2).

ص: 367


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3،ص 124؛عبد الله جوادي الأملي، تسنیم تفسیر قرآن کریم (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 516 ذكر بعض المفسرين المسلمين احتمالات أخرى في تفسير قوله - تعالى - : ﴿الَّذينَ أُوتُوا نَصيباً مِنَ الْكِتابِ﴾ في الآية 23 من سورة آل عمران، ومنها كما يلي: إذا اعتبرنا التنوين في كلمة (نصيبًا) دالا على التحريف أو التبعيض أو التحقير، ففي هذه الحالة تفسّر هذه العبارة بالتالي على الرغم من أنّ أهل الكتاب لا يعرفون إلا القليل من الكتاب ومعرفتهم هذه تقتصر في أقصى حد على ظاهره؛ كما قال -تعالى- في الآية 78 من سورة البقرة: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ﴾، إلا أنّهم يتعرضون للقرآن). لكن إذا اعتبرناه للتعظيم، فهو يعني امتلاكهم حظًّا وافرًا من الكتاب، لكنّهم مع ذلك يعاندون في تطبيق تعاليمه ولا يعملون بها. (عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ص 517 - 518).
2- راجع: عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 19، ص 154.

ومن جملة الآراء التي تبنّاها سيناي بخصوص علم الكتاب، هو عدم نزول الوحي على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بكل ما هو مكنون في الكتاب، فالوحي القرآني برأيه لا يحكي عن كل ما في الكتاب، ومن ثمّ لا يمكن اعتبار أنّ آياته وعباراته وألفاظه تصوّر الكتاب بتمامه وكماله؛ لكن المسلمين - خلافًا لليهود - يعتقدون بكلّ ما في الكتاب السماوي؛ بحسب مضمون الآية 119 من سورة آل عمران:

﴿هَأَنتُمْ أَوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَبِ كُلِهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(1). والمؤاخذة التي تَرِدْ على رأيه هذا أنّه خلط بين مفهومي الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ، والكتاب الموجود لدى البشر على هيئة نطّ لفظيّ؛ لأنّ أداة التعريف (ال_) في كلمة (الكتاب) هي لاستغراق الجنس، وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية: إنّكم تؤمنون بكل الكتب السماوية التي هي من عند الله -تعالى- ؛ سواء المنزلَةَ إليكم أو المنزلة إلى أهل الكتاب إلا أنّهم لا يؤمنون بكتابكم(2). فضلاً عن ذلك، فمعنى هذه الآية ينصبّ في سياق الآيات السابقة، إذ تتمحور حول بيان بعض رذائل الأعداء، وتهدف إلى توعية المسلمين بسوء سريرتهم؛ لأنّ المسلمين على خلافهم؛ من حيث إيمانهم بجميع الكتب السماوية المنزلَةَ من قِبل الله -عزّ وجلّ- : ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَبِ كُلِهِ﴾، في حين أنّهم لا يؤمنون بالقرآن؛ على الرغم من كونه كتابًا سماويًا، أي إنّهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه؛ بحسب التعبير المذكور في الآية 150 من السورة ذاتها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾(3). فهذه الآية تدل في ظاهرها على تحذير المسلمين من هؤلاء المنحرفين، ومن البديهي أنّ إيمان المسلمين بكل الكتب السماويّة المُنزَلَة من قِبَل الله -عزّ وجلّ- هو في مقابل عدم إيمان الكافرين بما أنزِلَ في القرآن؛ فهذا الأمر وفق مضمون الآية يدلّ على أحقادهم، وعدم إيمانهم بأعظم كتاب منزل من السماء، وتكذيبهم أشرف الأنبياء؛ على الرغم من أنّ المسلمين يؤمنون بكل ما أنزل الله من كتاب؛ لذا فالمقصود من (الكتاب) في هذا المضمار هو جنس الكتاب وكلّيّته الشاملة لمختلف أجزائه وتفاصيله(4).

ص: 368


1- Sinai, Ibid.
2- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3،ص 387؛ محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 3، ص 202.
3- راجع: عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 15، ص ص 449.
4- راجع: محمود طالقاني، پرتوي از قرآن (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات مؤسسة تأريخ الدراسات المعاصرة في إيران، 2010م، ج 2، ص 859.

ويعتقد المسلمون -برأي سيناي- بوجود اختلاف أنطولوجي بين النص المقدس؛ بمعناه الاصطلاحي الدقيق، وبين مصاديقه الدنيويّة، وإثر ذلك يؤمنون بأنّ الكتاب السماوي المكنون في علم الله لم يتبلور بالتمام والكمال ضمن أي دين وشريعةٍ متقوّمين على كتاب سماوي منزل(1). ونضيف إلى ما قاله هذا المستشرق أنّ الاعتقاد الراسخ لدى المسلمين هو قدسية ألفاظ القرآن الكريم ومضمونه؛ بوصفه كلام الله - تعالى - ووحيًا مُنزَلًا من عنده، حيث أنزله على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بواسطة أمين الوحي جبرائيل(علیه السّلام). ويعتقد بعض المفسّرين أنّ فيه حقائق مكنونةً في ما وراء ظاهر ألفاظه وعباراته؛ بحيث لا يمكن إدراكها من قبل جميع البشر، وهذه الحقائق لا يمكن شرحها وتحليلها؛ لكونها بسيطةً في ذاتها وراسخةً ومستحكمةً. واستند هؤلاء المفسّرون إلى العديد من الآيات لإثبات صوابية رأيهم هذا؛ بما فيها الآية الأولى من سورة هود، والآيات الأولى من سورة الزخرف، وآيات أخرى، وفي هذا السياق أكدوا على أنّ النصّ القرآني في إحدى مراحل تكوينه كان على هيئةٍ واحدةٍ تتمثل في أم الكتاب واللوح المحفوظ والكتاب المكنون، وهو في هذه المرحلة وُصِفَ بأنّه علي حكيم؛ وفي المرحلة الأخرى نزل على هيئة ألفاظ مقروءة باللغة العربية، واتّسم بطابع تفصيلي، واشتمل على ناسخ ومنسوخ(2).

والنتيجة الأخرى لأفضليّة النصّ المقدّس ورفعة مقامه - برأي سيناي- هي عدم إمكانية تفسيره؛ إلا من قِبَل الله عزّ وجلّ، إلا أنّ هذا الكلام لا يعني عدم جواز كون (الترجوم) الإلهي للكتاب - التفسير الإلهي - في مقابل التفسير الإنساني؛ لأنّ هذين التفسيرين على مستويين متباينين بالكامل، وكلّ واحدٍ منهما يطرح تفاصيل مختلفةً عن الآخر، فالأوّل يتطرّق إلى بيان الكتاب من أساسه، والثاني يتطرّق إلى بيان التفصيل الإلهي له؛ وهنا لا يوجد أي مسوّغ للتخلّي عن أحدهما. وتجدر

ص: 369


1- Sinai, Ibid., p. 127.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 14 16 / ج 1 ص 131 عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 148 149 / ج 4 ص 251 252. استند بعض المفسّرين كما ذكرنا في تحليل مفهوم الآية الأولى من سورة هود-، إلى الآية نفسها لإثبات أنّ القرآن ذو حقيقة بسيطة مكنونة في اللوح المحفوظ أو في قلب النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم تم تفصيله إبّان مراحل البعثة النبوية. (يعقوب جعفري، تفسير كوثر (باللغة الفارسية)، ج 5، ص 166). والآية الرابعة من سورة الزخرف هي الدليل الآخر الذي استندوا إليه في هذا الصدد، حيث تحكي عن مرتبة من المراتب الأنطولوجية للقرآن الكريم، وهذه المرحلة هي تبلوره في الحياة الدنيا بوصفه نصًا مقدسًا بين يدي البشر على هيئة لسان عربي؛ كي يتفكروا فيه، ولكنّه في مرتبة أنطولوجيّة أخرى كان موجودًا ضمن أم الكتاب أو اللوح المحفوظ الكائن عند الله عزّ وجلّ، وخلالها امتاز بخصوصيتين أساسيتين، هما: أنطولوجية أخرى كان موجودًا ضمن أم الكتاب أو اللوح المحفوظ الكائن عن الرفعة، والحكمة، وهو في هذه المرحلة تجسّد ضمن وجود بسيط بحيث لا تُطرح فيه مسألة كونه عربيا أو غير عربي. راجع: (يعقوب جعفري، تفسير كوثر (باللغة الفارسية)، ج 5، ص 166).

الإشارة -هنا- إلى أنّ الآيات 16 إلى 19 من سورة القيامة تؤكّد على هذا الموضوع بحذافيره، حيث قصرت تفسير القرآن على لسان الوحي المُنزَلَ من قِبَل الله -تبارك وتعالى-، فهو المفسّر الوحيد الذي له الحق في الإجابة عن كلّ سؤالٍ يُطرح بخصوص الوحي؛ والآيات هي: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمَعَهُ، وَقُرْءَانَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْهَانَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)﴾. وكذلك الآية 114 من سورة طه، فهي الأخرى أناطت تفسير الوحي إليه -تعالى- وأمرت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن يتلقاه من عالم الغيب ﴿فَنَعَلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُةٌ، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾(1). ويضاف إلى ما قاله سيناي أنّ بعض المستشرقين، مع اختلاف مشاربهم الفكرية، استندوا - أيضًا - إلى هذه الآية؛ ليؤيّدوا فكرة أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يفسر القرآن من عند نفسه، بل هذا الأمر موكول إلى الله -تعالى- بشكل حصري(2)؛إلا أن إلا أن جميع المفسرينوالمترجمين الذين تصدّوا إلى ترجمة النصّ القرآني، اعتبروا الآيات 16 إلى 19 من سورة القيامة نصّا قرآنيًا بكل تأكيد، لكن لا أحد منهم تبنّى الرأي المذكور؛ أي إنّهم لم يقيدوا تفسيره بالله -تعالى- وفي الحين ذاته؛ قالوا إن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)من شأنه بيان مضامين الوحي وتفسيره لمخاطبيه.

كما أنّ المفسّرين في بيانهم لمضمون الآيات المذكورة من سورة القيامة، عادةً ما استندوا إلىظاهرها، وإلى ما ذُكِرَ في عددٍ من الروايات؛ لإثبات أنّ الخطاب فيها موجّه إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،حيث طلب الله منه ألّا يعجل في بيان ما يوحى إليه وألّا يحرّك به لسانه خشية أن يفوت شيء منه أو ينساه، بل عليه الانتظار حتى يكتمل الوحي الذي أنزله جبرائيل(علیه السّلام)، وبعد اكتماله يمكن أن يتلوه على المسلمين؛ لأنّ الله - تعالى - يلقيه في قلبه دون أيّ نقص وخلل، فهو يوضّح له ما يشاء عند حدوث أي مشكلة محتملة(3).

ومن جملة ما قيل في تفسير الآيات المذكورة: «نحن نوضّح لك مدلول الوحي، ثم يأتي دورك في بيانه للناس»(4). وقيل أيضًا: «لا تحرّك، يا محمّد بالقرآن لسانك قبل أن يتم وحيه

ص: 370


1- Sinai, Ibid., p. 127
2- للاطلاع أكثر، راجع: عيسى متقي زاده وعلي محمّد عالي قدر، بررسی دیدگاه برخي خاورشناسان در مورد قرآن بسندگي و نفي احاديث، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «قرآن پژوهي خاورشناسان»، العدد 8، السنة الخامسة، 2010م، ص 38.
3- للاطلاع أكثر، راجع: جلال الدين السيوطي، الدر المنثور ،إيران، قم، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، الطبعة الأولى، 1404ه_، ج 6، ص 289.
4- محمد نجفي سبزواري، إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1419ه_، ج 1، ص 582.

لتأخذه على عجلة؛ مخافة أن ينفلت منك. روي: أنّه إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه؛ لحبّه إياه، وحرصه على أخذه وضبطه؛ مخافة أن ينساه، فنهاه الله عن ذلك.

﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ في صدرك، ﴿وَقُرْءَانَهُ﴾وإثبات قراءته في لسانك؛ وهي تعليل للنهي. ﴿فَإِذَا قرآنَهُ﴾ بلسان جبرئيل، ﴿فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ﴾عليك قراءته بتكراره حتى يتقرّر في ذهنك.

روي: فكان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بعد هذا إذا نزل عليه جبرئيل، أطرق، فإذا ذهب قرأ.

﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾؛ بيان ما أشكل عليك من معانيه»(1).

وكما هو معلوم فقد نزل النص القرآني على هيئة خلال 23 سنةً، ولا شك في أنّ وحي بعض آياته ناظرةً إلى سائر الآيات؛ كما نلمس فيه تفاصيل عن الكثير من الأمور الممدوحة والمذمومة وقضايا الحياة في مختلف نواحيها والمشاكل التي يواجهها البشر وأهم الأحداث التي شهدها المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام، حيث أنزلت على ضوء هذه القضايا. والآيات الأربعة المشار إليها من سورة القيامة تؤكّد على أنّ النصّ القرآني منزل من جانب الله -سبحانه وتعالى-، وهو الذي يفصله ويبينه للناس، لذا بما أنّه كلام الله وأبلغ من كلام البشر وأفصح، لا نجد فيه أي غموض ولا خللٍ، لكن غاية ما في الأمر أنّ «آياته بطبيعة الحال تثير بعض الاستفسارات لدى البشر، على ضوء إشاراتها وإيحاءاتها، وما فيها من محكم ومتشابه ومجمَلٍ، وما إلى ذلك من ميّزات أخرى؛ فهذه الخصائص تستبطن قضايا تمهد الأرضيّة للسؤال والجواب»(2).

وبعض الآيات تقتضي بطبيعتها؛ شرحًا وتفسيرًا من قبل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛ نظرا لكثرة المعاني والمفاهيم التي تستبطنها، أو لقصر نصّها وإيجاز مداليلها، أو لشمولها وتعدّد القضايا الكلّيّة المذكورة فيها؛ ضمن قواعد وأصول أكسيولوجيّةٍ وروّى خاصّةٍ، وفي هذا السياق يمكن القول إنّ الأمر مقصود ، إذ لم يوضّح الشارع جميع المعارف بكل تفاصيلها ضمن هذه الآيات، بل اكتفى ببیان جانب منها. أضف إلى ذلك هناك آيات تؤكد على أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)يتحمل مسؤولية تفسير النصّ القرآني إلى جانب مسؤوليته عن إبلاغه وحل الخلاف الموجود حوله، وبما أنه ملم

ص: 371


1- الملا محسن الفيض الكاشاني، الأصفى في تفسير القرآن، إيران، قم، منشورات مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1418ه_، ج 2، ص 1380.
2- محمّد علي مهدوي راد، آفاق تفسير (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات «هستي نما»، 2003م، ص 29.

بجميع جوانبه العلميّة بشكل مطلق، فهو يمتلك القدرة على بيان مضامینه بشكل صائب دونما أي خلل وخطأ؛ نظرًا لعصمته من الوقوع في الخطأ، وعلى هذا الأساس يوضّح للبشر السبيل القويم ، ويحذّرهم من الأخطاء التي من المحتمل أن يقعوا فيها. وجدير بالذكر أنّ السيوطي في خاتمة كتابه ذكر عددًا من الآيات التي بادر النبي بنفسه إلى تفسيرها(1).

واستند نيكولاي سيناي إلى كلمة (مبين) التي سنتطرّق إلى بيان مدلولها، ليثبت عدم صوابية رأي من ادّعى أنّ النصّ القرآني في غنى عن التفسير؛ لأنّ السبب الذي دعا النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لأن يتصدى إلى بيان مداليله هو عدم اشتماله على جميع التفاصيل بجزئياتها، لا لأنّه نقّ غامض؛ لذا يمكن اعتباره من هذه الناحية على غرار الدستور الذي يتم إقراره لأمة من الأمم، فهو لم يتطرّق إلى ذِكْر التفاصيل؛ إلا في موارد محدودة.

إذا افترضنا أن مسؤولية تفسير النصّ القرآني منوطةٌ إلى الله -تعالى- ولا تتمّ إلا عن طريق الوحي؛ بحسب استنتاج سيناي من الآيات المذكورة وعلى ضوء آيات أخرى، ففي هذه الحالة يُطرَح عليه السؤال التالي: كيف يفسِّر مضمون الآية 164 من سورة آل عمران؟ والآية هي: ﴿وَلَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ﴾. ألا يشمل تعليم الكتاب تفسيره أيضًا؟ لا شك في أنّ المقصود من تعليم الكتاب ليس مجرد تلاوته بحسب ظاهر العبارة التالية: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ﴾، بل تفسيره أيضًا. فضلا عن ذلك كيف تفسّر الآيتين 44 و64 من سورة النحل ؟ فالآية 44 نصها: ﴿بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ، والآية 64 نصها: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، ولا شك في أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)على اطلاع بجميع علوم القرآن ومعارفه والله تبارك شأنه إلى جانب وصف ذاته المقدّسة بالمعلّم لهذا الكتاب المقدّس(2)، وصف نبيّه - أيضًا - بذلك؛ لذلك قيل: «إسناد وصف تعليم القرآن إلى الله -تعالى- هو إسناد ذاتي وأصيل، في حين أنّ إسناده إلى النبيّ هو عرضي وتبعيّ؛ لأن

ص: 372


1- للاطلاع أكثر، راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ص 477 - 572. راجع: أيضًا محمد علي مهدوي راد، آفاق تفسير (باللغة الفارسية)، ص 24 – 60.
2- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الرحمن، الآيتان 1 - 2

التعليم لا يتحقق إلا بعد اطلاع المعلّم على المعارف التي يجب أن يعلمها؛ لذلك أمر الله -تعالى- نبيه(صلی الله علیه و آله و سلم)أوّلاً بتلقّي مضامين القرآن(1)، ثمّ أوكل إليه وظيفة تعليمها؛ وهذا يعني أنه في بادئ الأمر يدرك الحقائق وينتهل معارفَ علميّةً من القرآن، بعد ذلك يبلغها للناس»(2).

كما سلّط سيناي الضوء في مباحثه التفسيرية على الآيتين 44 و64 من سورة النحل، واعتبرهما تؤكدان على ضرورة تصدّي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى تفسير الآيات المنزلة عليه، وبيان مفاهيمها ومداليلها للناس، إلى جانب إبلاغها لهم؛ ما يعني أنه يتحمّل مسؤوليتين؛ إحداهما إبلاغ آيات الله والأخرى تفسيرها؛ وفي هذا السياق لم يؤيّد ما ذهب إليه المفسّرون المسلمون في بيان مدلول الآية 64؛ حيث استدلّ على بطلان رأيهم بوجود آياتٍ سابقة لهاتين الآيتين؛ أشارت إلى حملة الوحي، لذا اعتبر القرآن هو الفاعل للفعل ( تبيّن ) لا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(3). وكلامه هذا باطل؛ لكونه لا يتناسب مع محتوى النصّ القرآني وسياقه؛ إضافة إلى عدم انسجامه مع القواعد النحوية واللغوية فالآية 43 تحكي عن التشابه الموجود بين النبي وبين سائر الناس؛ فهم جميعًا من سنخ البشر ، والوحي الذي ينزل عليه وعلى سائر الأنبياء؛ إنّما يتم عن طريق الملك المكلَّف بذلك، ولا يستحق تلقيه إلا الذين هم في مأمن من وساوس الشيطان ومطهرون؛ مثل: الملائكة؛ وهؤلاء هم الأنبياء طبعًا، لا غير.

إذَا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لديه القابلية لتلقي الوحي وفهمه، فهو يدرك المعارف والتشريعات الدينية التي تزيح الخلافات وتضمن سعادة البشر ، وعلى أساس هذا الفهم، إلى جانب العقل؛ بإمكانه إزالة الغموض، ووضع حلّ لكلّ اختلاف(4).

الآية 43 فحواها كيفية إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ باعتبار أنّ الدعوة الدينية عبارة عن أمر متعارَفٍ وطبيعي، لكنّها تختلف عن سائر الدعوات؛ بكونها من جانب الله -عزّ وجلّ- وتقوم على الوحي الذي اختص به المتصدون لها.

ص: 373


1- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الزخرف، الآية 43.
2- عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن کریم: سیره رسول اکرم در قرآن (باللغة الفارسية)،إيران، قم، منشورات إسراء، الطبعة الأولى، 1997م، ص 297 – 298.
3- Sinai, Ibid.
4- قال - تعالى -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة النحل، الآية 43). للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 276 / ج 13، ص 205 - 207.

ومما قاله الفخر الرازي في تفسير الآيتين 43 و44: «وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُخَاطَبِ، لَا فِعْلُ الْمُنْزِلِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ مَفْعُولًا لَهُ مَا كَانَ فِعْلًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ»(1)، إذ يراد منها بيان السبب الأساس لإنزال القرآن(2).والاسم الموصول (ما) في عبارة: ﴿مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ في محلّ نصب مفعول به ل_(تبيّن)، وجملة: ﴿نُزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ صلة الموصول، وكلمة (التبيّن) متعلّقة ب_(أنزلنا). وهذه الآية تأتي في سياق الآية السابقة لها، حيث تؤكّد على أنّ ما ينزل على النبي محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)هوذكر وكلام ينبغي أن يُتلَى ويكرّر؛ لكي يعي الناس مضمونه ويتذكّروا به(3). وتجدر الإشارة -هنا- إلى أن تقدّم متعلّق الجار والمجرور (إليك) يُراد منه بيان أهميّة ضمير المخاطب(4).

ومن الواضح أنّ الخطاب في قوله - تعالى -: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ موجّه إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وهو مؤشّرّ على كون الذكر هو ما أنزل إليهم ذاته(5)، فهذه الصياغة اللغويّة على غرار العطف؛ وهي إظهار في مقام الإضمار، كما إن تكرار الإنزال مرّتين يدلّ على وجود اختلاف بينهما، فالإنزال على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)عادةً ما يكون مباشرًا في حين أنّ الإنزال على الناس يحدث عن طريق الإبلاغ(6)؛ أي إنّ النبيّ هو المخاطب المباشر من قِبَل الله عزّ وجلّ، بينما وصف الخطاب لسائر الناس بصيغة الفعل المبني للمجهول؛ لكونه ليس مباشرًا؛ وإنّما بواسطة النبي(7).

وتُعَدّ كلمة (تبيّن) محوريّةً في هذه الآية، وكما أشرنا آنفًا؛ فهي تعني الشرح والتوضيح، لذا عند دخول لام التعليل عليها في هذه الآية، يصبح المراد منها بيان معاني القرآن؛ بما فيها

ص: 374


1- محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 20، ص 230.
2- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 13، ص 130.
3- راجع: م. ن، ج. ن، ص . ن.
4- راجع: م. ن، ج. ن، ص 131.
5- راجع: عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج 7، ص 301 إنّ تفسير قوله - تعالى - : ﴿ما نُزِّلَ إِلَيْهِم﴾ برأي بعض -المفسّرين يقتضي كون المراد من الحرف الموصول فيه هو ليس الذكر المنزل سابقًا، ولو كان المقصود من الصلة الذكر ذاته، فلا بد عندئذ من تفسيره (ليبينه للناس)؛ لذا يقصد منه الشريعة التي أنزلها الله عزّ وجلّ على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بذكر مختلف عما سبق. وعلى هذا الأساس يوصف القرآن الكريم بأنّه جامع للشرائع ومبيّن لها، في غاية النظم والدقة؛ على الرغم من كثرة معانيها. (محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 13، ص 131).
6- راجع: م. ن، ج، ن، ص 131.
7- راجع: عبد الكريم العبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج 7، ص 301.

من أحكام وشرائع، وقضايا أخرى. الأمر ذاته أشير إليه في الآية 64 من سورة النحل: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ هُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، ف_(ما) الواقعة في بدايتها هي حرف نفي، و(الكتاب) مفعول به، و(إلا) أداة استثناء تفيد الحصر، و(اللام) في (لتبيّن) للتعليل، إذ يُراد منها طمأنة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ومواساته ضمن الإشارة إلى عظمة القرآن المنزل عليه؛ ومعناها: لقد أنزلنا القرآن عليك؛ لكي تبيّن لهم بوضوح تلك الأمور التي اختلفوا فيها، وهذا القرآن هو هدى ورحمة للمؤمنين(1).

كما أنّ الحصر الموجود في هذه الآية بحرف الاستثناء (إلا) ليس حصرًا حقيقيًّا؛ ويُراد منه التأكيد على أنّ أهمّ هدف من وراء نزول القرآن هو بيان الاختلاف(2)الذي حدث بين الناس(3).

واعتبر نيكولاي سيناي القرآن فاعلاً لكلمة (تبيّن) في الآيتين المذكورتين، لا مفعولا به، وبرّر هذا الرأي بأنّ الآيات التي أشارت إلى كون القرآن مبينًا؛ مثل قوله - تعالى -: ﴿وَقُرْآناً مبيناً﴾، تدلّ على أنّ الوحي المنزل لاحقًا يفسّر ما أوحي قبل ذلك(4). لكنّ هذا الكلام ليس صائبًا؛ لأنّ الفعل (تبيّن) هو بصيغة المخاطب ؛ ومعناه (أنت تبيّن) لا (القرآن يبيّن)(5)، والتبيين المشار إليه في هذه الآية ليس من أفعال الله عزّ وجلّ، بل نستشف من ظاهر الآية 44 أنّ هذا الذكر بحاجة إلى بيان من قبل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(6)؛ ولأن كل أمر يفتقر إلى البيان هو في الواقع ذو ماهيّة مجملة، وعلى هذا الأساس نقول إنّ ظاهر هذه الآية يعني كون النصّ القرآني مجمَلًا بشكل عام، لذا لا بد من وجود من يبيّنه للناس. وتجدر الإشارة إلى وجود المحكم والمتشابه فيه والمحكم طبعًا مبيّن للمتشابه، ومن ثمّ فهو لا يفتقر إلى من يبيّنه، ثم إن عددا قليلًا من

ص: 375


1- راجع: يعقوب جعفري، تفسير كوثر (باللغة الفارسية)، ج6،ص168.
2- من المحتمل أن هذا الاختلاف حدث حول الدين؛ مثل: تحريم ما كان محللا،وتحليل ما كان محرَّمًا. (محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 20، ص 231). ويحتمل أنه حدث بشأن بعض المعتقدات الدينية؛ مثل: التوحيد، والشرك والجبر، والقدر، والمعاد، أو ربّما كان حدوثه في مجال بيان الأحكام الشرعية. (راجع: يعقوب جعفري، تفسير كوثر (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 168).
3- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير،ج13،ص158.
4- Sinai, Ibid., p. 127
5- راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير،ج13، ص 158.
6- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 20، ص 212.

الآيات -فقط- فيها إجمال وتقتضي مبينا ؛ ونتيجة ذلك أنّ (التبيين) في الآية المذكورة يجب أن يُحمل على ما كان مجمَلًا من النصّ القرآني فحسب، لا عليه قاطبةً(1).

وقال العلامة محمّد حسين الطباطبائي في تفسير هذه الآية: «وأما الناس، فإنّ الذي لهم من ذلك هو الأخذ والتعلّم والعمل، وقد كان تدريجيًا؛ ولذلك عُني به، وعبّر عن نزوله إليهم بالتنزيل. وفي الآية دلالةً على حجّيّة قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في بيان الآيات القرآنية، وأما ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في غير النصّ والظاهر من المتشابهات، أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله وما فيه من التأويل، فمما لا ينبغي أن يُصغى إليه»(2).

إذًا، نستشف من ظاهر الآية أنّ القرآن الكريم أنزلَ لهدفين أساسيين؛ هما:

الأوّل: بيان معاني الآيات ومقاصدها على لسان النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم).

الثاني: تفعيل فكر البشر عن طريق دعوتهم إلى التفكّر في آيات الله - تعالى - وأخذ العبرة منها.

وتتضمّن هذه الآية لفظ (تبيّن) الذي يعني توضّح وتفسّر ، ولم تستخدم فيها ألفاظ أخرى؛ مثل: تقرأ أو تتلو، وهناك الكثير من الروايات التي تؤكّد على أنّ صحابة رسول الله؛ إضافةً إلى استماعهم للآيات المنزلة وحفظهم لها، كانوا يتعلّمون منه معانيها ومفاهيمها، فقد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذا المجال قوله: «كُنَّا إِذَا تَعَلَّمْنَا عَشْرَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّم الْعَشْرَ الَّتِي بَعْدَهَا؛ حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا»(3).

وأرجع سيناي السبب في ضرورة بيان النص القرآني إبان عصر نزوله إلى أنّ المجتمع في تلك الآونة لم يتعامل مع الوحي؛ بوصفه إبلاغًا سماويًّا جاء دفعةً واحدةً بعد أن نُقِلَ من نقّ محدّدِ الأطر ، بل هو انعكاس لحقائق موجودةٍ وأحداث كانت تطرأ باستمرار؛ لذا من الطبيعي أن تقتضي الضرورة تفسير آياته من قِبَل الله - عزّ وجلّ - فقط؛ وفي هذا السياق استنتج أنّ عدم جواز تفسير البشر لمضمامين الوحي -بحسب ما تفيده الآيات المذكورة- سببه قابلياتهم المحدودة،

ص: 376


1- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 20، ص 212.
2- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 212.
3- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 28؛ محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 40.

وعدم اكتمال تلاوات الوحي المنزل على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،إلى جانب التدخل الإلهي المتواصل في شؤون المؤمنين؛ بغية صيانة مجتمعهم من الانحراف، وضمن هذه الأحداث التأريخية تفاخر القرآن بنفسه؛ بكونه مبينًا؛ باعتبار أنّه الكتاب السماوي الوحيد الذي يتّصف بهذه الميزة الفريدة، وإلى جانب ذلك افتخر - أيضًا - بكونه قرآنًا؛ كما في الآية الأولى من سورة الحجر: ﴿الرَّ تِلْكَ عَايَتُ الْكِتَبِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ﴾، والآية 69 من سورة يس: ﴿وَمَا عَلَّمْنَهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْهَانٌ مُّبِينٌ﴾. فهاتان الآيتان وسائر الآيات المشابهة، فيها تأكيد على أنّ الوحي المنزل على النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)له القابلية على إيضاح وبيان تلك المفاهيم والتعاليم التي أُوحيت في الأديان السماوية السابقة(1). وعلى الرغم من أنّ القرآن امتدح نفسه في هذه الآيات بكونه مبينًا، وهذه الميزة تدلّ بكل تأكيد على وضوح مضامينه وتكامل بيانه وعدم وجود قصور في تعيين مقاصده للناس، إلا أنّ بيانه هنا لا يعني شموله لجميع التفاصيل والجزئيات المعرفية بالتمام والكمال(2).وهذا الكلام يعني أنّ كون القرآن مبينًا لا يتعارض بتاتًا مع الإجمال الموجود في بعض آياته والمواضيع العامّة والكلّيّة المطروحة فيها، كما لا يتنافى مع عدم تصريح الكثير من آياته بتفاصيل العلوم وجزئيّات المسائل الشرعيّة، وما شاكل ذلك؛ وكما أشرنا آنفاً، فإنّ الرسالة التي يحملها للبشر هي هدايتهم وتربيتهم، وهذه الرسالة تقتضي في بعض الحالات اللجوء إلى التلميح والإشارة والكناية والتلخيص؛ بدل التصريح والإسهاب في البيان، والنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بدوره يتحمل مسؤولية بيان هذه التفاصيل والجزئيات لأمته(3). أضف إلى ذلك، فإنّ كون النص القرآني مبينا؛ يعني أنّه كسائر النصوص الفصيحة التي من الممكن ألا يدرك دلالاتها جميع الفصحاء من أهل اللغة، بل يدركها بعضهم فقط؛ وذلك لأنّ كلّ كلام فصيح قد يستبطن دقائقَ لغوية وأدبيّةٍ لا تُدرك إلا عبر تأمّل وتدبّر، لذا لا يفهمها إلا من كان حاذقًا وذا فكرِ سديد ونظرٍ قويم(4).

وخلاصة الكلام: أنّ القرآن المبين يُقصد منه قدرة المخاطب على فهم مراده، وهذا الفهم لا يتحقق بكل تأكيد؛ ما لم توجد بعض التفاصيل التي تعينه على ذلك؛ لذلك: «يمكن القول

ص: 377


1- Sinai, Ibid., p. 127.
2- راجع: محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، ج2،ص34.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد سبحاني، جستاري در مجمل گويي قرآن، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة «مطالعات تفسيري» الفصلية، العدد 18،السنة الخامسة، 2014م، ص 79 - 94.
4- راجع: جعفر نکونام، بررسي چند شبهه درباره زبان قرآن، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة «مدرس علوم انساني»، العدد 9، 1998م، ص 209.

إنّ اتّصاف القرآن بكونه مبيّنًا لمخاطبيه هو في مقابل غموضه وعدم إمكانية فهم مضامينه ومقاصده، في مقابل عمق معارفه أو إجمالها واختصارها»(1).وبداهة النصّ القرآني ووضوحه ليستا في مقابل عمق مداليله ودقة معارفه، ولا شكّ في أنّ فهمه منوط بظروف خاصة أشار إليها المختصّون في علوم القرآن، كما أنّ المفاهيم الظاهرية والمتعارفة في آياته يمكن أن تتحقق عن طريق الاطلاع على قواعد اللغة العربية(2). وفي المرحلة التالية يأتي دور البعد الدقيق للنص القرآني؛ إلى جانب بعده الظاهري، ويمكن تحصيله عن طريق الأصول الدينية والمعارف القرآنية، فكون النصّ القرآني مبينًا، لا يعني اشتماله على جميع التفاصيل والتفريعات والجزئيات، كما لا يعني أنّ كلّ ما فيه واضح وبديهي؛ بحيث يخلو من كلّ دقةٍ وتعقيد، بل بيانه يعني أنّ كلّ ما هو خفي وغيرُ واضح فيه لا يُعَدّ صعب المنال؛ بحيث لا يمكن استكشاف حقيقته؛ وإنّما هو قابل للتوضيح والبيان أيضًا؛ لأنّه بحدّ ذاته يحكي عن مقاصده ، وغاية ما في الأمر أنّ غموضه اللغوي يمكن أن يُحَلَّ عن طريق التعمّق في قواعد اللغة العربية وأدب البلاغة العربية، كما شأنه أن يوضّح على ضوء القرائن والشواهد الموجودة في نصّه والأسس الثقافية التي يقوم عليها(3). وأما النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فدوره هو بيان المعارف القرآنية وتفصيل مواضيعها، ومن هذا المنطلق تمّ التأكيد على ضرورة الرجوع إلى السنة النبويّة؛ لأجل استكشاف حقيقة هذه المواضيع، والقرآن ذاته قد تكفّل - أيضًا - ببيان جانب منها.

ومسألة وصف النصّ القرآني بأنّه عربي مبين(4)هي من جملة المباحث التي طرحها نيكولاي سيناي على طاولة البحث بخصوص هذا الموضوع، وفي هذا السياق أكد على اهتمام القرآن بأنْ يكون بينا وواضحا للبشر، وإذا كان الهدف من الوحي؛ كما وُصِفَ في الآية 64 من سورة النحل ؛ هو إناطة القول الفصل إلى الله - تعالى - ؛ لحلّ تلك الخلافات المتعبة للبشر، والتي لا ثمرة منها: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ فهذا الوحي يجب أن يمتلك القابلية لبيان جزئياته وتفاصيله بوضوح، وفي

ص: 378


1- محمد أسعدي، قرآن مبين، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «معرفت»، العدد 83، 2004م، ص 13.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقیق مرعشلي وآخرون، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى،منشورات دار المعرفة، 1410ه_، ج 2، ص 97.
3- راجع: محمد أسعدي، قرآن مبين، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «معرفت»، العدد 83،2004م، ص 15-16.
4- للاطلاع أكثر، راجع: سورة النحل، الآية 103؛سورة الشعراء، الآية 195.

غير هذه الحالة يُطرَح إشكال على المقصود من هذه الآية، ومن ثمّ يتفاقم الخلاف إلى أقصى حد. إذَا، عندما يتدخّل الله في الموضوع، لا بدّ أن يكون تدخّله خاليًا من كلّ نقاش وخلل؛ بخصوص ما أوحى إلى نبيّه، وهنا يصبح الناس على مفترق طرق تتشعب إلى فرعين لا ثالث لهما؛ أحدهما: الطاعة، والآخر: العصيان(1).

وحينما نمعن النظر في مضمون الآية 103 من سورة النحل: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِمُهُ، بَشَرٌّ لِسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾، نلاحظها تؤكّد على قطعيّة عربيّة النصّ القرآني وفصاحته لدى العرب، إذ في غير هذه الحالة لا تكون استدلالاته ،رصينةً؛ ومن جملتها: أنّ نصّه مفهوم لدى العرب في عصر نزوله، وهذه الميزة من مقتضيات كونه مبينًا ؛ ولكنّ هذا الكلام -كما ذكرنا سابقًا- لا يعني قدرة جميع الناس في عصر النزول على فهم عباراته وألفاظه؛ حتّى وإن كانوا عُرب اللسان(2).

هذا ونستشفّ من السنّة النبوية -قولا وفعلًا- وجود ارتباط بين بعض الآيات، فكلّ آية منها تعين على فهم الأخرى بشكل أفضل وأدقّ؛ كما أنّ هناك أحاديث تطرّقت بصريح العبارة إلى تفسير النصّ القرآني(3).

واعتبر سيناي، لدى بيانه المقصود من وصف القرآن ب_(الكتاب)، أنّ آياته ليست مجرد نصوص تفسيرية مستوحاة من الكتاب على نحو التفصيل، بل يمكن اعتبارها ترجمةً تعكس المضمون ذاته؛ وهذا الانطباق برأيه لا يعني صوابية الفهم التقليدي للنص القرآني من قِبَل المسلمين(4). ويقوم الفهم التقليدي الإسلاميّ على أنّ النصّ القرآني عبارةٌ عن نسخة طبق الأصل للّوح المحفوظ المكنون في السماء؛ بحيث إنّ كلماته متناغمة معه؛ لفظا بلفظ، وهذه النظرية على خلاف ما تبنّاه سيناي من مقارنة بين الأمرين، إذ اعتبر النص القرآني جزءًا من الكتاب؛ بحيث نزل على هيئة تفسير له من جانب الله عزّ وجلّ؛ واستدل على ذلك بأنّ جميع

ص: 379


1- Sinai, Ibid., p. 128.
2- للاطلاع أكثر، راجع: جعفر نکونام، بررسی چند شبهه درباره زبان قرآن، مقالة باللغة الفارسية نشرت في مجلة «مدرس علوم انساني﴾.العدد 9، 1998م، ص 205 - 216.
3- راجع: أحمد باكتشي، تفسير، مقالة نشرت في (دائرة المعارف بزرگ اسلامي) باللغة الفارسية، إيران، طهران، منشورات دائرة المعارف الإسلامية، 1999م، ج 15، ص 691.
4- Sinai, Ibid

العبارات القرآنية التي ذُكِرَ فيها اصطلاح (الكتاب) جاءت مقترنةً مع لفظ وصفي يدلّ بصريح العبارة على النصّ القرآني الموجود لدى البشر، لذا فهو يشير إلى المصدر السماوي للقرآن.

ونعقب على رأي هذا المستشرق بالقول: كما ذكرنا في المباحث الآنفة، فإنّ بعض المفسّرين المسلمين أكدوا على كون القرآن في مرحلة اللوح المحفوظ ليست فيه تفاصيل وجزئيات فرعيّةً، فهو في تلك المرحلة عبارةٌ عن أمر بسيط(1)، إذ صاغ الله -تبارك شأنه- ألفاظه وعباراته في اللوح المحفوظ، ثمّ أذن لملك الوحي بأن يطّلع عليها ويوحيها إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، والنبي بدوره تعلّمها منه وعلّمها للناس(2).

ويقول العلامة محمّد حسين الطباطبائي إنّنا عبر التدبّر في الآيات القرآنية، نستنتج أنّ للنص القرآني مرحلتين أنطولوجيّتين؛ إحداهما بسيطةً تتصف بالوحدة ولا وجود فيها لأي سورة أو آية أو عبارة أو لفظ؛ وهي تجسّد - طبعًا - الحقيقة القرآنية المكنونة في اللوح المحفوظ أو أم الكتاب. وأما الثانية؛ فهي مرحلة تبلوره في رحاب نصّ مفصَّل مكوّن من أجزاء، وهو في هذه المرحلة يُعتبر أدنى مرتبةً من المرحلة الأولى، حيث صِيْغَ بلسان عربي؛ ليكون في متناول البشر؛ وقد وضّح هذا الأمر قائلًا: «قوله -تعالى-: ﴿إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانَا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾الضمير للكتاب، و(قرآناً عربيًّا)؛ أي مقروءًا باللغة العربيّة، و(لعلكم تعقلونَ) غاية الجعل وغرضه. وجعل رجاء تعقله غايةً للجعل المذكور يشهد بأنّ له مرحلةً من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كلّ أمرٍ فكري وإن بلغ من اللطافة والدقة ما بلغ؛ فمفاد الآية أنّ الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه، أمرٌ وراء الفكر أجنبي عن العقول البشرية، وإنما جعله الله قرآنًا عربيًّا وألبسه هذا اللباس؛ رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، والرجاء في كلامه - تعالى - قائم بالمقام أو المخاطب، دون المتكلم؛ كما تقدّم غير مرّة.

قوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ﴾ تأكيد وتبيين لما تدلّ عليه الآية السابقة أنّ الكتاب في موطنه الأصلي وراء تعقل العقول.

والضمير للكتاب، والمراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ؛ كما قال - تعالى -: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْءَانُ تَجِيدٌ

ص: 380


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 136.
2- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 14، ص 195.

(21)فِي لَوْحٍ تَحْفُوظ (22)﴾(البروج: 22)، وتسميته بأم الكتاب؛ لكونه أصل الكتب السماوية، يستنسخ منه غيره، والتقييد بأم الكتاب (ولَدَينا)؛ للتوضيح لا للاحتراز، والمعنى: أنّه حال كونه في أم الكتاب لدينا -حالًا لازمةً - لعليٌّ حكيم...»(1)واعتبر الدليل على صوابية هذا الاحتمال هو وحدة كيان النصّ القرآني الموجود بين أيدينا مع القرآن المكنون في اللوح المحفوظ، وهذه الوحدة برأيه تتبلور على ضوء اتحاد التنزيل والتأويل فهي ليست من سنخ تناظر الآيات والعبارات والألفاظ مع بعضها.

ويختلف الرأي الذي تبنّاه العلامة الطباطبائي إلى حد ما عن نظريّة نيكولاي سيناي؛ بخصوص الكتاب والتفصيل التي أشرنا إليهم، ويمكن تقرير هذا الاختلاف ضمن ثلاثة مفاهيم أساسية هي:

- الإحكام: اعتبره نيكولاي سيناي بمعنى تأليف النص السماوي المقدّس، بينما العلامة الطباطبائي قال إنه يشير إلى تلك المرحلة التي كان القرآن فيها عبارةً عن وجود بسيط.

- التفصيل: اعتبره نيكولاي سيناي ترجمةً تفسيريّةً لأجزاء من (الكتاب) طُرِحَت بشكل يتناسب مع ظروف المخاطبين في عصر صدر الإسلام، بينما فسره العلامة الطباطبائي بتجزئة النص القرآني فصولًا.

- العلاقة بين القرآن الموجود لدى المسلمين و (الكتاب) المكنون في اللوح المحفوظ:

اعتبر العلامة الطباطبائي أنّ نسبة القرآن الموجود لدينا إلى اللوح المحفوظ نسبة وحدة وتنزيل وتأويل، لا نسبة تناظر بين أمرين؛ والتأويل برأيه عبارةٌ عن أمر خارجي يكون ارتباطه بمدلول الآية من سنخ الممثل بالمثل، وظاهر الآية يدلّ عليه. بينما رفض نيكولاي سيناي رأي مَنْ قال إنّ النصّ القرآني عبارةٌ عن نقل لفظي منطبق مع مضمون الكتاب؛ واعتبره ذا مستويات متباينة؛ أحدها: أنّه يتضمّن خطابًا متغيّرًا ومتكاملا مستوحى من (الكتاب)؛ بحيث يحكي عمّا هو موجود فيه، وأما مستوياته الأخرى فهي غير مستوحاة من الكتاب؛ مثل: التفسي ،والشرح، والموعظة، والمفاهيم الأخلاقية، والأحكام الشرعية، وشتّى الأحداث والوقائع؛ فهذه المستويات أدغمت في ذلك المستوى الأول، ومن ثمّ تكاملت تدريجيًّا.

ص: 381


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 137..

ونستشف من رأي سيناي هذا أنّ الله -تعالى- كان بحاجةٍ إلى أنموذج سماوي أولي؛ كي يهديهم إلى الحق وينزل عليهم القرآن، وهذا الأنموذج برأيه هو (الكتاب) الذي يُعدّ مصدرًا للاقتباس، حيث يقتبس منه ما هو مناسب لظروف حياة البشر في المجتمع الإسلامي وبعض الأمور التفصيليّة الأخرى؛ لكنّنا حينما نمعن النظر في الآيات القرآنية نستوحي منها أنها قسمت مراحل نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى عالم الدنيا ضمن ثلاث مراحل؛ هي:

- المرحلة الدنيا في التنزيل (مرحلة التنزيل إلى عالم الطبيعة): قال -تعالى- في الآية 3 من سورة الزخرف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، هذه الآية تشهد على أنّ القرآن في هذه المرحلة نزل بلسان عربي ؛ لأنّ العربيّة هي صفةٌ للكلام والألفاظ والكتابة، ومن البديهي أنّ كلّ ما هو مكتوبٌ وملفوظ يجب أن يتجلّى في عالم الطبيعة؛ لذا يمكن تفسير هذه الآية وفق ما يلي: الله -عزّ وجلّ- هو المنشأ الأساس لمعارف النصّ القرآني ومضمونه، كما أنّ ألفاظه صيغت بأمره، وهذه الألفاظ لا بد أن تُقرأ وتُسمع.

وهذه المرحلة - مرتبة استماع ألفاظ الوحي- تعتبر أدنى المراحل القرآنية، ودامت طوال فترة نزول الوحي؛ أي 23 سنةً.

- المرحلة المتوسطة في التنزيل: تحكي الآيات 192 إلى 194 من سورة الشعراء عن هذه المرحلة؛وهي: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194)﴾. إضافةً إلى أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يستمع إلى ألفاظ الوحي المنزل في المرحلة؛ الأولى، فهو في هذه المرحلة كان يتلقى المفاهيم والمعارف المكنونة في هذه الألفاظ، عن طريق ملك الوحي جبرائيل(علیه السّلام).

- المرحلة العليا في التنزيل: في هذه المرحلة لم يكن ملك الوحي هو الواسطة بين الله - تعالى - والنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

وقد ادعى سيناي أنّ مصطلح الكتاب المذكور في النصّ القرآني لم يُشِرْ إلى القرآن الموجود

ص: 382


1- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الشورى، الآية 51. راجع أيضًا: عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، تفسير الآيات المذكورة؛ فتح الله نجار زادكان، تفسیر موضوعي قرآن کریم (1): قرآن در قرآن (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات جامعة طهران، الطبعة الثانية، 2012م.

بين المسلمين سوى في آيةٍ واحدةٍ وهي الآية الثانية من سورة البقرة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، حيث يمكن اعتبارها مقدمة للنص القرآني بأسره، لا لهذه السورة فقط، وفي هذا السياق فسّر اسم الإشارة (ذلك) بأنّه يستبطن دلالةً على البعيد؛ لذلك استخدم بدلًا عن اسم الإشارة (هذا) الذي يشير إلى القريب؛ وهو على غرار اسم الإشارة؛ (تلك) الذي استخدم في النصّ القرآني للإشارة إلى الآيات، وقد ذُكِرَ في مستهل بعض السور(1).وجميع الآيات التي استخدم فيها اسما الإشارة (ذلك ) و(تلك) تدلّ على وجود فاصلة موازية للنص بين أحد العناوين أو المواضيع وما سيأتي بعده، وهذه الحالة لا تدلّ على وجود فاصلة أنطولوجية بين النص القرآني والكتاب السماوي؛ ما يعني أنّ اسم الإشارة لا يمكن اعتباره مرتكزا لبيان المقام العلوي - السماوي - للقرآن(2). ومن هذا المنطلق استنتج أنّ الآية الثانية من سورة البقرة التي تصف الآيات اللاحقة بالكتاب ولا تشير إليها بكونها آيات من الكتاب، يجب أن تفسّر بأنّها تحكي عن القرآن ذاته ووحدته النصّيّة باعتبار أنّ آياته سلسلةً مترابطةً مع بعضها ومتصلةً بالكتاب السماوي؛ لكنّه مع ذلك احتمل حدوث تحريف في هذه الآية خلال مراحل تدوين القرآن، وهذا الاحتمال ناشئ مما هو منقول في بعض الروايات التي تتمحور حول ذِكْر مراحل جمع النصّ القرآني وتدوينه(3).

ولم يذكر سيناي دليلا على تفسيره الآية المذكورة، ولا على ادّعائه أنّ الكتاب المذكور فيها يشير إلى النص القرآني ذاته، إذ فرضيته المعروفة قوامها أنّ الكتاب غيرُ القرآن وأنّ نصَّه بعيد عن متناول البشر؛ وممّا أكّد عليه في هذا المضمار هو وجود اختلاف أنطولوجي -من الناحية الاصطلاحية على أقل تقدير- بين الآيات القرآنية والمصدر السماوي المنبثقة منه(4).

ومصطلح (الكتاب) في الآية 7 من سورة آل عمران لا يمكن تفسيره إلا بالقرآن، فالآيات الأولى منها ذكرت إنزاله تزامنًا مع ذكر إنزال التوراة والإنجيل، لذا فالمقصود منه هو القرآن

ص: 383


1- من جملة السورة المشار إليها في النص: يونس، يوسف، الرعد، الحجر، الشعراء، النمل، القصص، لقمان.
2- Sinai, Ibid., p. 129.
3- Ibid.
4- Ibid.

قطعًا؛ إلا أنّ سيناي رفض هذا التفسير وقال إنّه لو اعتبرنا المراد منه هو القرآن الموجود بين يدي المسلمين، لوجب عندئذٍ ذِكْر الجار والمجرور (فيه)؛ بدلًا عن (منه)؛ لأنّ نظريّته التفسيرية تقوم على أنّ كلمة (كتاب) متى ما اقترنت في النصّ القرآني بأداة التعريف (ال_) ولم تُلحق باسم موصول؛ فهي في هذه الحالة تشير إلى الكتاب الذي هو مصدر سماوي(1).

ولا شك في عدم صوابيّة هذا الإشكال؛ لأنّ حرف الجرّ (من) له استعمالات متنوّعة في النص القرآني(2)؛أحدها : التبعيض، لذا فهو في هذه الآية يدلّ على التبعيض؛ وفقاً لما ذُكِرَ في التفاسير المتعارفة بين المسلمين(3)، وعلى هذا الأساس فالمراد منها: أنّ بعض الآيات القرآنية محكم، وبعضها الآخر متشابه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ وَايَتٌ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَبِ﴾(4)والمعنى ذاته نلمسه - أيضًا - في الآية 104 من سورة آل عمران، وعبارة: ﴿مِنْهُ وَايَتٌ تُحْكَمَتُ﴾ في محلّ نصب حالٍ للكتاب والضمير (الهاء) في (منه) يعود إلى القرآن؛ وهو في محلّ رفع خبرٍ مقدّم للمبتدأ المؤخّر: ﴿وَايَتٌ تُحْكَمَتُ﴾.

كما أنّ ضرورة ذِكْر حرف الجرّ (في) ضمن الآية المذكورة؛ بدلًا عن حرف الجرّ (من) وفقاً لرأي هذا المستشرق لكي يصبح معنى الكتاب هو القرآن هو قول لا يغيّر من الأمر شيئًا بالنسبة إلى مدلول الآية؛ لأنّ السيوطي أكّد على أن حرف الجرّ (من) يمكن أن يدلّ - أيضًا على (في)، ودعم رأيه هذا بالآية 9 من سورة الجمعة: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ إذ يبدو من الناحية النحوية أنّ حرف الجرّ (من) ضمن هذه الآية لا يفيد التبعيض، بل المقصود في يوم (الجمعة)، كما أنّ (منه) في الآية 7 من سورة آل عمران لا يفيد التبعيض بشكل حتمي، لذلك يمكن استخدام (فيه) بدلا عنه.

ص: 384


1- Ibid., p. 131
2- للاطلاع أكثر، راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 533 - 535
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 3، ص 16.
4- سورة آل عمران، الآية 7.

وهناك مسألةٌ مثيرة للجدل، على صعيد ما تبنّاه هذا المستشرق؛ وهي: لو افترضنا أنّ الكتاب المشار إليه في الآية 7 من سورة آل عمران يُراد منه المصدر السماوي، ففي هذه الحالة كيف يمكن تفسير عبارة: ﴿فَأَمَا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا نَشَبَهَ مِنْهُ﴾؟ ولا سيّما أنّه هو نفسه أكد على عدم موضوعية الإحكام والتشابه في الكتاب الذي هو مصدر سماوي! وإذا أجاب بأنّ هذا الجزء من الآية يفسّر على ضوء النصّ القرآني الموجود لدى المسلمين ويحكي عن مضمون آياته، ففي هذه الحالة يقال: ما الدليل على ضرورة اعتبار الكتاب السماوي بأنه بعيد عن متناول أيدي البشر؛ بينما الآيات المحكمة والمتشابهة تُعتبر من جملة آيات الكتاب التي هي في متناول أيديهم؟!

وقد ذكرت الآية 3 من السورة ذاتها بعد (الكتاب) جملةً وصفيّةً على هيئة صلةً وموصول: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَنَةَ وَالإنجيل﴾، ويمكن اعتبار الآية 7 استدامةً لمضمونها، إذ جاء فيها: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ ...﴾،وهنا لا تقتضي الضرورة ذِكْر جملة وصفيّة على هيئة صلة وموصول؛ لأنّ الآية في الحقيقة متممة للآيات السابقة، وفيها تأكيد على ما ذُكِرَ في الآية 3 إلى جانب كونها مقدّمةً لقوله - تعالى -: ﴿مِنْهُ ءَايَةٌ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ ...﴾، وممّا قيل في تفسير هذه العبارة: «اسْتِثْنَافُ ثَالِثُ بِإِخْبَارٍ عَنْ شَأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ: وَهُوَ تَحْقِيقُ إِنْزَالِهِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِهِ، فَهَذَا الاسْتِثْنَافُ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آل عمران: 3] وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ في مُجَادَلَةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَصُدِّرَتْ بِإِبْطَالِ عقيدتهم في إلاهية الْمَسِيح، فالإشارة إِلَى أَوْصَافِ الْإِلَهِ الْحَقَّةِ، تَوَجَّهَ الْكَلَامُ - هُنَا - إِلَى إِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فِي شَأْنِ زَعْمِهِمْ اعْتِرَافَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ بِإِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ؛ إِذْ وُصِفَ فِيهَا بِأَنَّهُ رُوحُ الله، وأنّه يُحيِي الْمَوْتَ، وَأَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ فَنُودِيَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ تَعَلُّقَ اشْتِبَاه وَسُوء تأويل. وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ قَصْرُ صِفَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ، مَعَ كَوْنِهَا تَأْكِيدًا وَتَمْهِيدًا ، إِبْطَالًا - أَيْضًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ»(1).

وبعد أن أشارت الآية إلى مسألة نزول القرآن، تطرّقت إلى بيان كيفيّة ذلك؛ والآيات السابقة تحدثت عن نزول الكتاب على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بشكل عام، لكن في هذه الآية تمحور الحديث

ص: 385


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 3، ص 14 - 16.

حول القرآن، وأشير فيه إلى الأسلوب الأمثل في فهم آياته، على ضوء تقسيمها إلى: محكمة، ومتشابهة.

وأذعن نيكولاي سيناي في مباحثه التفسيريّة للرأي القائل بأنّ بعض الآيات أكدت على وحدة القرآن مع الكتاب السماوي، وأنّ منها ما يُشير إلى أنّ النص القرآني بمجمله عبارة عن هيئة لكتاب واقعي؛ وعلى هذا الأساس يمكننا تفنيد ما ادعاه دانيال ماديجان بكون المفسّرين المسلمين - فقط - اعتبروا أنّ القرآن هو الكتاب السماوي ذاته(1). والآيات التي أشار إليها سيناي بهذا الخصوص تحكي عن عددٍ من الكتب التي نزلت في مراحل زمنية متوالية؛ أي إنّها تتسم بمؤشّرين أساسيين؛ أحدهما اشتمالها على لفظ (كتاب)، والآخر نزولها خلال فترات زمنيّة متوالية، وهي بطبيعة الحال تدلّ على كتاب موجود لدى البشر - مفهوم دنيوي - لا على كتاب موجود في السماء؛ وفي هذا السياق وصفها بأنّها آياتٌ تدلّ على المكانة العليا للآيات المنزلة في النص المقدّس(2). هذه الآيات - برأيه - نزلت في المراحل الأخيرة من عمر النص القرآني؛ وذلك حينما أدرك الناس أنّ الآيات التي جاء بها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)منبثقة من مصدر سماوي وتحظى بالمنزلة ذاتها التي هي للكتاب السماوي؛ لكن هذا الكلام مجرّد ظنَّ وتخمين في الواقع، ولا يرتكز على أيّ برهان علمي، فغاية ما في الأمر أنّه اعتبر السور المشتملة على هذه الآيات نزلت بعد السور التي تحدّث عنها سابقا؛ لبيان مفهوم الكتاب، وهذا الأمر بحدّ ذاته مفتقر إلى دليل تأريخي يدعمه، وهذا ما لا نجده في استدلالاته .

وفي ما يلي نذكر آيتين استند إليهما لإثبات صوابية رأيه:

- الآية 21 من سورة الزخرف: ﴿أَمْ ءَانَيْنَهُمْ كِتَبًا مِّن قَبْلِهِ، فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ . فقد اعتبر سيناي هذه السورة تندرج ضمن المرحلة الثانية من العهد المكي في نزول النص القرآني.

- الآية 12 من سورة الأحقاف ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَبُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَبُ مُصَدِّقُ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾. فهذه السورة -برأيه- تندرج ضمن المرحلة الثالثة من العهد المكّي في نزول النص القرآني.

ص: 386


1- Sinai, Ibid., p. 120.
2- Ibid.

وكان حَرِيًّا بهذا المستشرق أن يشير -أيضًا- إلى الآية 91 من سورة الأنعام(1)التي أكدت على أنّ أتباع النبي موسى(علیه السّلام)جعلوا الكتاب الذي أنزِلَ عليه قراطيس؛ يبدون بعضها، ويخفون بعضها الآخر، إذ يمكن الاعتماد على مضمون هذه الآية لإثبات نزول الكتاب من قِبَل الله عزّ وجلّ لكنّنا نلاحظه تجاهلها لها وتحدّثه عن الآية اللاحقة - الآية 92 قائلًا: «سورة الأنعام التي تُعتبر واحدةً من السورة المنزلة في العهد المكي الثالث فيها آيةٌ نصها: ﴿وَهَذَا كِتَبُ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكُ مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾». وفي هذا السياق يقول إنّ المقصود من الكتاب في هذه الآية وما شاكلها هو القرآن، ولكنّه ليس ذلك القرآن المدوّن على هيئة نقّ؛ كما هو معهود بين المسلمين وإنّما ذلك القرآن الذي له مقام سماوي؛ فهو الكتاب ذاته(2). وقد فهم سيناي مضمون هذه الآية بشكل ويؤيد رأيه مضمون الآية 21 من سورة الزخرف : ﴿أَمْ ءَانَيْنَهُمْ كِتَبًا مِّن قَبْلِهِ صحيح، فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾، الضمير في التركيب الإضافي (قبله) يرجع إلى القرآن، لذا نستشف منها أنه - أي القرآن - لا بد أن يكون كتابًا. والأمر يتضح أكثر حينما نمعن النظر في الآية 12 من سورة الأحقاف: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَبُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَبُ مُصَدِّقُ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾، حيث نلاحظ أنّ فيها إشارةً صريحةً باسم الإشارة (هذا) إلى الكتاب المنزل بلسان عربي بعد كتاب موسى(علیه السّلام)،أي القرآن، وهذه قرينة واضحةً على أنّ الكتاب المذكور في الآية ليس هو ذلك الكتاب السماوي البعيد عن متناول البشر، إلا أن سيناي ذهب إلى غير ذلك واعتبر المقصود من الكتاب هنا مؤشّرًا على منزلة القرآن بين سائر النصوص المقدّسة(3).

ونستشف من الآيات التي تطرّقنا إلى ذِكْرها أنّ الكتاب يمكن أن يفسّر بمعنيين؛ أحدهما: دلالته على منشئه والآخر دلالته على النصّ القرآني ذاته؛ وفضلا عما ذُكِرَ فهناك آيات أخرى تتضمن المعنى ذاته؛ مثل: الآية 136 من سورة النساء: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكِتَبِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَبِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ

ص: 387


1- قال - تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشِرَ مِنْ شَيءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ فَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 91).
2- Ibid.
3- Sinai, Ibid., p. 130.

وَمَلَيكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلَا بَعِيدًا﴾. والمقصود من الكتاب في قوله -تعالى-: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ هو القرآن، لكن ما يراد منه في قوله - تعالى -: ﴿وَالْكِتَبِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾ هو كل كتاب منزل من السماء قبل الإسلام، إذ كما ذكرنا آنفًا، أداة التعريف (ال_) الداخلة على الكتاب تفيد الدلالة على استغراق الجنس(1)، لذا يجب الإيمان بجميع الكتب السماوية المنزلَةَ؛ ابتداءً من صحف إبراهيم(علیه السّلام)، وصولا إلى الله، إنجيل عيسى(علیه السّلام)ما يعني أن عدم الإيمان بأحدها يعني عدم الإيمان بالقرآن أيضًا(2).

وقد اعتبر سيناي أنّ المقصود من الكتاب في الآية المذكورة هو كتاب النبي موسى(علیه السّلام)، وفي هذا السياق أكد على أنّه أهمّ نص موحى قبل القرآن.

والرأي النهائي الذي تبنّاه هذا المستشرق بخصوص مدلول مصطلح (الكتاب) في الآيات التي أشرنا إليها في سورة الأنعام، والأحقاف، والزخرف، يمكن تلخيصه بعبارته التالية: «المقصود من كون القرآن كتابًا في هذه الآيات، هو انسجامه مع ما أوحي قبل ذلك»(3). وكلامه هذا قائم في الحقيقة على فكرته الارتكازيّة وفحواها اقتصار معنى (الكتاب) على النصّ السماوي المقدّس، لذلك اضطرّ لأن يتجاهل القرائن الواضحة في الآيات الثلاثة التي ذكرناها آنفا، أو أنه في الحقيقة سعى إلى توجيهها نحو رأيه بشكل ما. وهذه الآيات تدل بصريح العبارة على نزول القرآن؛ بوصفه كتابًا، ولا تحكي عن منشئه السماوي؛ كما ادّعى، وكلمة (كتاب) في الآية 92 من سورة الأنعام جاءت في سياق الحديث عن نزول التوراة على الموسى(علیه السّلام)، وتفنيد مزاعم المشركين الذين ادّعوا أنّ الله لم ينزل أيّ كتاب على أيّ إنسان، وقبل ذلك - في الآية 91 بالتحديد - طلب الله -عز وجل- من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يسألهم : ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ، قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾؟ وبعد هذه المقدمة أكد -تعالى- على أنّ القرآن كتاب منزل من جانبه، وهو ما تم التأكيد عليه في الآية 92: ﴿هَذَا كِتَبُ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكُ مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ ...﴾.ففي هذه العبارة القرآنية لم يقل: (أنزلناه إليك).

إذَا ، الآية 91 أشارت إلى الكتاب السماوي المنزل على اليهود، والآية 92 تحدّثت عن القرآن؛

ص: 388


1- ابن أبي حاتم، تفسير القرآن العظيم، تحقيق أسعد محمد طيب، ج 4، ص 2.
2- عبد القادر ملا حويش آل غازي، بيان المعاني، ج 5، ص 616.
3- Sinai, Ibid., p. 131

بوصفه كتابًا سماويًا آخر؛ أي إنّ ذكر التوراة جاء مقدّمةً لذِكْر القرآن؛ كي لا يعجب الناس من إنزال كتاب سماوي عليهم.

والآيات التي استند إليها سيناي في استدلاله افترض فيها؛ أوّلًا: زمان نزول كل واحدة منها، وتصنيفها؛ من حيث كونها مكّيةً أو مدنيةً، والمرحلة التي نزلت فيها؛ بعد ذلك بادر إلى شرحها وتحليلها لاستكشاف مدلولها وفرض رأيه عليها، وعلى هذا الأساس ادّعى أن مصطلح القرآن المذكور في آيات البحث يدلّ على المكانة العليا لآياته والتي ترقى إلى مستوى الكتاب. هذا الادعاء في الحقيقة مجرّد احتمال لا أكثر ولا يتجاوز كونه فرضيّةً، لذا فهو ليس قطعيًّا وثابتًا بالدليل؛ لأنّ الله -عزّ وجلّ - هو الذي حدّد حجم الآيات والسور القرآنية وصاغ مضامينها ؛تناسبا مع مقتضیات عباده، وأما بالنسبة إلى تحديد محلّ نزولها في مكّة أو المدينة وتقسيمها إلى مراحل عدّة على ضوء أساليبها وشواهدها النصّيّة، فهو أمر صعب للغاية؛ حيث نلاحظ الكثير من الآيات تتشابه مع بعضها في هذه الأساليب؛ على الرغم من كون بعضها مكيًا والآخر ،مدنيًّا، وعلى الرغم من اختلاف المراحل الزمنية لنزولها.

وقد حذا سيناي حذو ريتشارد بيل(1)في تفسيره لكلمة (مثاني) وفي الآية 23 من سورة الزمر: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِنَبًا مُّتَشَبِها مَّثَانِيَ ...﴾، فهذه الكلمة أطلقت على القرآن، وهو فسّرها بتعدّد الروايات في نقل إحدى القصص، وفسّر كلمة (متشابهًا) بمعنيين؛ أحدهما أنّها تعني مفهومين غير متكافئين والآخر دلالتها على عدم تشابه الآيات القرآنية، ثم استنتج أنّ هذه الكلمة تدلّ على تعدّد النقل لحكايةٍ واحدةٍ وكلّ نقل لا يشبه الآخر بالتمام والكمال؛ وفي الحين ذاته لا يختلف عنه اختلافًا تاما يصل إلى درجة التناقض؛ وإنما كلّ واحدٍ يكمل الآخر؛ وهذا التكميل يُعدّ برأيه من الخصائص البارزة لكون الآيات تشكّل كتابًا. إلى جانب ذلك، فالأحداث المرويّة قبل ذلك هي الأخرى بقيت محفوظةً بوصفها جزءًا من النص القرآني ولم تُترك، لذا فالآية المذكورة تحكي عن واقع الاستدلال والأصل المنطقي فيها، وكلمة (مثاني) تعني ارتباط بعض الآيات بغيرها؛ بحيث تشرحها وتوضّح مضامينها(2).

ص: 389


1- Cf. Bell, Commentarey on the Quran, Vol. 2, p. 185.
2- Sinai, Ibid., p. 131.

وقد فسر نيكولاي سيناي وكذلك أنجليكا نويورث كلمة ( مثاني) بنحو واحدٍ يتناغم مع التفسير المشهور لها بين المفسّرين المسلمين، فهي بهذا التفسير تعني تعدّد الروايات المنقولة في سرد إحدى القصص القرآنية، وهي في الآية المذكورة تعتبر صفةً للقرآن؛ حسب القواعد النحوية؛ وقال الطبري إنّ مفردها (مثناة)، وسمّي القرآن بالمثاني؛ نظرًا لتوالي آياته أو تكرار مضامينه(1). وحينما نتتبع التفاسير الإسلاميّة نلاحظ أنّها تؤكّد بشكل أساس على كون التكرار هو المقصود من هذه الكلمة، ونلمس أنّ السبب في وصف القرآن بها هو اشتماله على مواضيع متكرّرة ؛ مثل: تكرار قصص الأمم السالفة المذكورة في الكتب، أو تفسير بعض الآيات بعضها الآخر، أو تكرار ذكر إحدى القصص أو المواعظ مرّتين في النص القرآني، أو تقريرهما من جديد بأسلوب مختلف، أو ربّما وُصِفَ بذلك؛ نظرًا لتكرار تلاوته وعدم شعور مستمعه بالكلل والملل(2).

إذًا، مثاني تعني تلك المواضيع التي ذُكِرتَ في القرآن مرّتين، وهذا التكرار يفيد بأنّ كلّ شيءٍ سوى الله - تعالى- عبارة عن زوج، وكلّ أمرٍ هناك ما يناقضه؛ إلا الله -تعالى-(3). وهذه الكلمة تكرّرت أيضًا في الآية 87 من سورة الحجر: ﴿وَلَقَدْ ءَانَيْنَكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ﴾، هي هنا - أيضًا - تعني الآيات المتكرّرة التي أنزلها الله - سبحانه وتعالى - على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم).

ومن منطلق اعتقاده بأنّ الروايات المختلفة في القصص القرآنية تعد متمّمةً للقصص السابقة لها، فسّر سيناي تشابه الآيات المشار إليه في الآية 23 من سورة الزمر بأنّ بعضها يكمل البعض؛ إلا أنّ كلمة (متشابه) مشتقةً من مادة (شبه) التي تعني التماثل والتناظر، إذ حينما يتشابه الشيئان يوصفان بأنّهما متشابهان في اللغة العربيّة(4).

ويختلف التشابه المذكور في الآية 23 من سورة الزمر في الحقيقة عن التشابه المذكور في الآية 7 من سورة آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَايَتُ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ﴾، فهو في هذه الآية يعني تشابه بعض أجزاء النصّ القرآني، من حيث عدم وجود اختلافِ وتضاد في ما بينها؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ هذا التفسير هو المتعارف في التفاسير

ص: 390


1- راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 14، ص 39.
2- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 8، ص 773.
3- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 26، ص 446.
4- راجع: محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، كلمة (شبه)؛ أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، كلمة (شبه).

الإسلاميّة المتعارفة؛ لأنّ جميع ألفاظ القرآن الكريم وعباراته تتشابه في ما بينها؛ من حيث الجمال، والصدق، والبلاغة، وجزالة البيان، ورسوخ الأسلوب، وبيان المواعظ والحكم والحقائق، فهي على نسق واحدٍ في جميع هذه النواحي، وعلى هذا الأساس يقال إنّ القرآن كتاب متشابه(1). أو ربما یعنی اتّساق النصّ القرآني من جهة حُسن السّياق والنظم(2)، أو لأنّ كلّ جزء منه يصدّق جزءه الآخر؛ بحيث لا يوجد أي تناقض أو تهافت بين شتّى أجزائه ومكوّناته، أو أن السبب في وصفه هذا يعود إلى تشابهه وتناغمه مع الكتب المقدّسة السابقة المُنزَلَة من قِبَل الله عزّ وجلّ(3).

وذكر الفخر الرازي أربعة احتمالات لبيان المقصود من التشابه في النص القرآني، وهي: «وَأَقُولُ هَذَا التَّشَابُهُ يَحْصُلُ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَاتِبَ الْبَلِيغَ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْضُ كَلِمَاتِهِ فَصِيحًا، وَيَكُونُ الْبَعْضُ غَيْرَ فَصِيحٍ، وَالْقُرْآنُ يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ فَصِيحٌ كَامِلُ الْفَصَاحَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْفَصِيحَ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا فِي وَاقِعَةٍ بِأَلْفَاظِ فَصِيحَةٍ فَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا آخَرَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ كَلَامَهُ فِي الْكِتَابِ الثَّانِي غَيْرُ كَلَامِهِ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- حَكَى قِصَّةَ مُوسَى(علیه السّلام)فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ مُتَشَابِهَةٌ فِي الْفَصَاحَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيَانَاتِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُؤَكِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا مُتَشَابِهَةً مُتَشَارِكَةٌ في أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا بِأَسْرِهَا الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ، وَتَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّكَ لَا تَرَى قِصَّةً مِنَ الْقِصَصِ إِلَّا وَيَكُونُ مُحَصِّلُهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَشَابِهًا وَاللَّهُ الْهَادِي»(4).

ولا شكّ في أنّ التفسير الإسلامي التقليدي للتشابه المذكور في الآية 23 من سورة الزمر يُعدّ أفضل مما ذكره سيناي؛ لأنّ الصفتين (متشابهًا) و(مثاني) اللتين وصف بهما الكتاب، تشملان جمیع أجزائه، ومن المؤكد أنّ هناك مسوّغًا لوصف القصص القرآنية بذلك؛ والنتيجة المتحصلة من هذ التفسير أنّ الآيات القرآنية لا تختلف بعضها عن بعض بتانا، فهي عبارةٌ عن مثانِ ومتشابهة؛ أي إنّ لكلّ واحدة منها ثانيًا وشبيهًا.

ص: 391


1- راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن،ج 1،ص 189؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 21
2- راجع: أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد (ابن حجر)، فتح الباري ،لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، ج 8، ص 158 - 159؛محمد کاظم شاكر، علوم قرآني (باللغة الفارسية)، ص 243.
3- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 8، ص 773.
4- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 26، ص 446.

والمؤاخذة الأخرى التي ترد على هذا المستشرق أنّه لم يحدّد مقدار الآيات التي يمكن أن تشكّل كتابًا.

وفي خاتمة المطاف سعى إلى تبرير ادّعائه بخصوص الكتاب قائلًا: إنّ الآيات أُطلق عليها لفظ (كتاب) ؛ لكونها منبثقةً من ذلك المنشأ السماوي للكتاب، وأشار إلى أنّ هذا الأمر هو السبب في وصف النصوص اليهوديّة والمسيحيّة بهذا العنوان، فهو عنوان يُراد منه جمیع الآيات، ولا يعتبر مجرّد وصف لمجموعة غير متناسقة بعض أجزائها مع بعض؛ وعلى هذا الأساس ذكر ستة احتمالات لبيان السبب في وصف القرآن بالكتاب، وهي:

- مستوحى من الكتاب.

- نصّ كلّى مترابط الأجزاء، وليس مقتطفات غير متسقة بعضها مع بعض.

- نص تمت صياغته بشكل متكامل، أو من المتصوّر أنّه طوى مسيرته نحو صياغة كهذه.

- تبلور بشكل مدوّن ضمن صفحات کتاب مستقل.

- ذو ماهيّة مركزية وقانونية باعتباره كتاب هدي.

- متناسق مع الكتب التي أُوحيت سابقًا(1).

ورفض سيناي الاحتمال الثالث دون نقاش؛ متأثّرًا بما تبنّاه دانیال ماديجان، والسبب الذي دعاه إلى ذلك هو عدم وجود أي مؤشّرِ في النص القرآني يدلّ على توقفه عن النزول، فهو نضٌ متواصل لم ينفك عن ذِكْر إجابات بخصوص الاستفسارات التي كانت تُطرح على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)من قبل مخاطبيه؛ كما رفض الاحتمال الرابع بادعاء أنّ القرآن نص شفوي، لكنّه مع ذلك لم يرفض مسألة تدوين السور الطويلة، إلا أنّه أرجع السبب في تدوينها إلى محاولة المسلمين الحفاظ على آياتها من الضياع.

وصحيحٌ أنّ القرآن جاء استجابةً لمتطلبات المجتمع آنذاك، لكنّ هذه الميزة لا تُعدّ سببًا في عدم جمعه وتدوينه؛ ألا يكفي في صوابيّة هذا الرأي أنّ إمكانية تدوين الآيات وقابليتها

ص: 392


1- Sinai, Ibid., p. 131.

لأنْ تُكتب، تحفظ النص القرآني من الضياع والتشتت؛ حينما يُصاغ على هيئة كتاب ؟ فهو بوصفه (قرآنًا) و(كتابًا) يثبت أنّ الله -عزّ وجلّ- شاء أن يحفظ كلامه بأسلوبين، أحدهما: في صدور القراء والحفّاظ، والآخر ضمن سطور مدوّنة في صفحات (مصحف)؛ وهذا يعني اتساق ألفاظه مع نصّه المدوّن، وكلّ واحد منهما مكمّل للآخر(1).

حتّى وإن اعتبرنا القرآن نصَّا لم ينزل مدوّنا؛ كما نزلت التوراة، فهل هناك محذور في وصف الآيات المنزلة والمدوّنة بأنّها (كتاب) ؟ يُقرّ نيكولاي سيناي نفسه بكون الكتاب يستبطن معنى الكتابة، وهذه الصفة لا تنفكّ عنه في جميع الأحوال(2).والقرآن - بكل تأكيد - عبارة عن کتاب نزلت آياته عن طريق الوحي، وقدسيته لدى المسلمين هي التي حفّزتهم على حفظه في صدورهم، ومن ثمّ تدوينه في إطار مصحف، فقد روي أن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)اختار عددًا من صحابته لتدوين الوحي، وكانوا يكتبون ما يمليه عليهم من الوحي المنزل من السماء؛ وهذه النصوص التي تم تدوينها ساعدت المسلمين في ما بعد على جمع القرآن، إلى جانب الرجوع إلى الحفّاظ(3).

ولا شكّ في أنّ النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان مكلفا بإبلاغ الناس ما يُوحى إليه، وأن يجعل آيات الوحي أمانةً لديهم، لذا بذل ما بوسعه؛ كي تتوارثه الأجيال اللاحقة؛ مكتوبًا ومحفوظا، وكما هو معلوم فأوّل أسلوب يمكن اللجوء إليه لصيانة القرآن والحفاظ عليه من الضياع هو حفظه في الصدور، والأسلوب الثاني - طبعًا- هو كتابته؛ كي لا تبقى أيّ شبهة حول نصّه، ولأجل ألا يكون عرضةً للتحريف(4).

وشاء القدر أنّ بعض الآيات أشارت إلى تدوين ،القرآن حيث نزلت قبل الهجرة النبوية،لذا لا صوابيّة لما ادعاه هذا المستشرق بخصوص تدوين بعض السور الطويلة؛ فالآية 5 من سورة الفرقان التي هي مكّيةً؛ وبحسب ترتيب النزول رقمها 42،تشير إلى اتهام الكفار للقرآن بأنّه أساطير الأوّلين تم تدوينها من قبل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿وَقَالُوا أَسَطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا

ص: 393


1- راجع: محمّد بيومي مهران، دراسات تأريخية من القرآن الكريم، ج 1، ص 21 نقلاً عن: محمّد عبد الله دراز، النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن الكريم، ص 12.
2- Sinai, Ibid., p. 132.
3- راجع: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص 69.
4- للاطلاع أكثر ، راجع: جعفر مرتضى العاملي، حقائق هامة حول القرآن الكريم، إيران، قم، منشورات جامعة المدرسين، ص 76؛ أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص255؛ریجی بلاشیر، در آستانه قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمود راميار، إيران، طهران،منشورات مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1986م، ص 27.

فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾. أضف إلى ذلك أنّ الاكتتاب من باب افتعال)، ويُراد منه اختيار الكتابة(1)، والظاهر من الآية أن عبارة (اكتتبها) تعني أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)نسخها، حيث فسّر الشيخ الطبرسي هذه الآية بقوله : «معناه: وقالوا - أيضًا - هذه أحاديث المتقدمين، وما سطروه في كتبهم، انتسخها، وقيل: استكتبها»(2).

إذًا، المقصود من الآية أنّ الكفّار زعموا كتابة النبي آيات القرآن بعد أن اقتبسها من أساطير الأوّلين(3)، أو أنه نسخها من كتب الأوّلين وتعلّمها منها، أو أنّ القرآن بزعمهم عبارة عن مدوّنات تلاها الآخرون عليه، فحفظها وتلاها على الناس(4). هذه الآراء تشترك في مفهوم الكتابة، وهو ما أثار اعتراض الكفّار على النبي، لذا ليس هناك مسوّغ يدعونا للاعتقاد بتخصيص الكتابة بالسور الطويلة فحسب، فضلا عن وجود الكثير من القرائن التي تدلّ بصريح العبارة على كتابة النص القرآني؛ مثل: القلم، والرقّ، والمداد، وهذه الألفاظ موجودة في السور المكية الطويلة والقصيرة على حد سواء(5).

ومضافًا لما ذُكِرَ فإنّ المفسّرين يؤكّدون على أنّ القرآن بأكمله مُنزَلٌ عن طريق الوحي ووُصِفَ في آياته بلفظ (كتاب)، وأوّل مرّة وُصِفَ بذلك في الآية الأولى من سورة الأعراف(6)؛

ص: 394


1- راجع: حسن المصطفوي، تفسير روشن (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات مرکز نشر كتاب، الطبعة الأولى، 2001م، ج 14، ص 111.
2- الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 7، ص 253.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 3، ص 264. ادعى الكفار أنّ الآيات القرآنية تملى على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛أيا كانت تقرأ عليه؛ وهو بدوره يدوّنها، أو المقصود أنه طلب تدوينها؛ لأنه كان أميًّا. (راجع: م. ن).
4- راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 15، ص 181.
5- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الكهف، الآية 109؛ سورة القلم، الآية 1 سورة الطور، الآيتان 2 و 3 أكد القرآن الكريم على أهمّيّة الكتابة في حياة البشر ، وهو ما نستشفه في الآيتين 282 و 283 من سورة البقرة، حيث دعا الله -تعالى- فيهما الناس إلى تدوين الأحكام الشرعية ومعاملاتهم؛ كما تم التأكيد في الآية 33 من سورة النور على ضرورة التكاتب في المعاملات: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾؛ وهذا الأمر كان ممكنًا طبعًا في تلك الآونة، لأنّ الكتابة كانت متعارفةً في ذلك المجتمع قبل ظهور الإسلام؛ لأغراض عمليّة، وتفيد الوثائق المدوّنة على أوراق البردي بأنّ الكتابة كانت شأنا مختصا بذوي الخبرة والتخصص فقط. (Cf. Alan Jones, EQ, "Orality Writing in Arabia, EQ, Vol. 3, edited by Jane Mc Auliffe, Leiden, New York Koln: E. J. Brill. (2003), p. 591.
6- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج 8،ص 6؛وهبة بن مصطفى الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، ج 8،ص 133؛محمّد عزّت دروزه، التفسير الحديث مصر، القاهرة، منشورات دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الثانية، 1383ه_، ج 2، ص 113؛ سعيد حوى الأساس في التفسير، مصر، القاهرة، منشورات دار السلام، الطبعة السادسة، 1424ه_، ج 4، ص 1835؛ سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 3، ص 1243.

إضافة إلى تكرار عبارة: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ ...﴾مريم، وإبراهيم، وموسى، وإسماعيل، وإدريس في سورة مريم(1)، وهذه السورة بحسب ترتيب النزول رقمها 44 لذا فهي تدلّ على أنّ آياتها حينما أنزلت كان الوحي قد بلغ مرحلةً يمكن فيها أن يطلق عليه عرفًا عنوان (كتاب)، والأهم من ذلك أنّ هذه الفترة التي تزامنت مع السنة السادسة للبعثة النبوية وسبقت الهجرة بست أو سبع سنوات، شهدت حركة في تدوين الآيات المنزلة بحيث أطلق عليها (كتاب)(2).

والرأي الذي اختاره سيناي في هذا المضمار، هو أن مفهوم الكتابة وجمع الآيات بشكل مدوّن لم يكن أمرًا مقصودًا بحدّ ذاته، إذ تمّ تدوينها من قبل أتباع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛كي يكون لديهم كتابٌ أصيل وحقيقي؛ وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار القرآن كتابًا بكل ما للكلمة من معنى، فهو بحسب هذا الرأي يتصف بكونه كتابًا بشكل نسبي وناقص ؛ أي إنّه حد وسط بين الكتاب وغيره(3)؛ لذا فإنّ وصفه بالكتاب يعني اقتباسه من (الكتاب) ويشير إلى منشئه، حيث اكتسب خصائصه منه، مثل وحدة نصّه ومفاهيمه ومركزيّته، واتّساقه مع الوحي المنزل على الأنبياء السابقين؛ أي إنّه يفي بالدور المركزي نفسه للكتاب؛ باعتباره كيانًا موحدًا. ونستشف من هذا الرأي أنّ الاحتمالات الثاني والخامس والسادس المذكورة آنفًا تُعدّ متمّمةً للاحتمال الأوّل؛ وبما أن مضامين الوحي الذي أنزل على الأنبياء السابقين أطلق عليها عنوان (كتاب)؛ فهذا الاصطلاح انتقل إلى النصّ القرآني - أيضًا -؛ على الرغم من عدم إمكانية وصفه بالمفهوم الاصطلاحي الذي يستبطن معنى الكتاب(4).

ص: 395


1- راجع: سورة مريم، الآيات 16، 41،51،54،56.
2- راجع: ريجيس بلاشیر، در آستانه قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمود راميار، ص 28 . إضافةً إلى ما ذكر، كان في مكة عدد من الشخصيات الإسلامية المعروفة التي تتقن فن الكتابة؛ من أمثال: الإمام علي بن أبي طالب، أبو عبيدة بن الجراح عثمان بن عفّان عبد الله بن سعد، أبو حذيفة بن عتبة، حاطب بن عمرو سهيل بن عمرو أبان بن سعيد علاء بن الحضرمي وحويطب بن عبد العزي. (أبو الحسن البلاذري، فتوح البلدان، مصر، القاهرة، منشورات لجنة البيان العربي، ج 1، ص 508؛محمد باقر حجتي، پژوهشي در تاريخ قرآن كريم (باللغة الفارسية)، منشورات مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1981م، ص 179). كما كان هناك أشخاص يؤمنون بنبوّة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وأدرجت أسماؤهم في قائمة كتاب الوحي. (أبو عبد الله الزنجاني، تاريخ القرآن (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات مؤسسة الإعلام الإسلامي، 1404ه_، ص 48. لذا ليس من المعقول بتاتاً أنّهم تجاهلوا تدوين أهم نص في تلك الآونة).
3- Sinai, Ibid., pp. 132 - 133.
4- Ibid.

ونستشف ممّا ذُكِرَ أنّ سيناي ينفي الكتابة الأصيلة عن جانبٍ واحدٍ من القرآن فقط، وهو أنّ آياته لم تكن مدوّنةً ولم تأتِ على هيئة نص مكتوب، وعلى هذا الأساس أراد إثبات ترتيب نزول آیاته وسوره؛ وفقًا لرأيه الخاص؛ ولكنّ هناك مؤاخذات جادة ترد عليه كما ذكرنا.

ونشير في ختام هذا البحث إلى مسألةٍ بخصوص تفسير هذا المستشرق للقرآن الكريم، ألا وهي اتخاذه مسلكا يناظر ما تبنّته المستشرقة أنجليكا نويورث ؛ وهو إناطة النصّ القرآني إلى الدراسات القرآنيّة، والمحور الارتكازي فيه هو تحليله لغويَّاً؛ طبقًا لنظرية نويورث التي طرحتها حول جمع الآيات وتدوينها في إطار مصحف؛ وهذه النظريّة في مقابل نظريّة جون وانسبرو التي ادّعى فيها جمع القرآن في فترةٍ متأخّرة عن نزوله؛ لذا يمكن القول إنّ سيناي تحدّى نظرية وانسبرو(1).

واتّخذ سيناي النظرية التقليدية القائلة بتدوين التوراة بوصفها أنموذجا ليطرح على أساسها نظريةً مشابهةً بخصوص القرآن، لكنّ جمع القرآن برأيه دام فترة أطول وضمن مراحل متعدّدة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ نصّ التوراة؛ وفق هذه النظرية التقليدية، يستبطن مراحل ومستويات ذاتَ ارتباط بشتى الطوائف الدينية والاجتماعية اليهوديّة؛ وفي هذا السّياق اعتمد على أسلوب التحليل اللغوي لبيان مراحل تكوين النصّ القرآني وتطوّره على مرّ التأريخ؛ أي إنّه سلّط الضوء في دراساته القرآنية في رحاب مراحل زمنيّة، فهو برأيه عبارةً عن نص خطابي يتناسب مع ظروف المجتمع الذي عاصر نزوله، ومن ثم فإنّ تعاليمه على نسق تعاليم (الكتاب) المقدس ومستوحاة منه.

وفي هذا السياق تطرّق إلى تفسير المصطلحات والمفاهيم القرآنيّة؛ مثل: (الكتاب)، و(التفصيل) وفقًا لرؤية نويورث التي تخصصت بدراسات الكتاب المقدّس، ومن هذا المنطلق قام بتحليل نقدي للنصّ القرآني على غرار التحليل النقدي المطروح حول الكتاب المقدّس؛ ورؤيته بشكل عام تتّصف بجانب إيجابي أكثر من آراء أقرانه المستشرقين؛ بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية وسيرة المسلمين، لكنّ إحدى المؤاخذات التي ترد على دراساته القرآنيّة هي عدم صوابية الاعتماد على أسلوب التحليل المنهجي لطرح نظريّات تأريخيّة، فقد اعتمد في بحوثه على هذا أسلوب.

وإحدى المسائل التي طرحها في دراساته القرآنيّة هي وجود إجماع على أن القرآن في بداية

ص: 396


1- cf. Review by Andrew Rippin, Journal of The American Oriental Society, Vol. 131, No. 3, September 2011, pp. 470-473.

الوحي أشار إلى عربية تلاوة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان مجرد نص شفهي؛ أي أنه لم يكن مدونا؛ كما لم يكن على هيئة مجموعة من الآيات والسور التي يمكن أن يتبلور على ضوئها كتاب بالمعنى الاصطلاحي(1).

وإذا أردنا تفنيد آراء هذا المستشرق؛ طبقًا لأسلوب التحليل اللغوي الذي اتبعه في التفسير، نقول : السور الأولى التي نزلت قبل الدعوة العلنية، لا نجد فيها لفظ القرآن، فهذا اللفظ ذُكِرَ في السور التي أشارت إلى إنكار نبوّة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وردت على اتهامه من قبل المشركين بالسحر والجنون؛ وكلّ هذا الإنكار والاتهام والردّ ، جاء في مرحلة الدعوة العلنية التي تعرّض النبي فيها الأصنامهم؛ أي في السنة الخامسة من البعثة.

ويمكن القول إنّ لفظ (القرآن) ذُكِرَ لأوّل مرّةٍ في سورة البروج، لكنّ الوحي المنزل على النبي قبل نزول هذه السورة لم يشخّص بأي صفةٍ ماهويّة، ولم يُطلق عليه أيّ عنوان؛ إلا في مطلع سورة التكوير التي هي في مقام الردّ على المشركين الذين اتهموه بالجنون وادعوا أنّ القرآن قول الشيطان(2).

هذا التدرّج المرحلي والمتوالي مع الأحداث، يعتبر من الأساليب القرآنية المعهودة التي تواكب كلّ تغيّر يطرأ في المجتمع آنذاك؛ لأنّ الآيات التي نزلت في السنوات الأولى من البعثة النبوية كانت قليلةً نسبيًّا؛ كما كانت قصيرةً، بحيث لم تتطلّب تلاوتها الكثير من الوقت لذلك لم يُوسَم بعنوان بارز مشتقّ من القراءة؛ ولكن بعد أن ازداد عددها وتجاوز الثلاثين، أُطلق عليها (ذِكْرَ) و (حديث)، ثمّ تزايدت أكثر ليُطلق عليها عنوان (قرآن)، وهذا العنوان في الحقيقة أفضل وأدلّ لفظ على مضمون النصّ المنزل على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو بكل تأكيد يُوحي إلى واقع هذا الكتاب المقدّس أكثر من أيّ عنوان آخرَ ومن ناحية أخرى، فهذا النصّ المتلوّ في عهد البعثة النبوية والمحفوظ من الضياع، لم يقتصر حفظه على صدور الحفّاظ وسائر المسلمين، بل تمّ تدوين ما أمكن منه؛ على ورق النخل، وجلود الحيوانات، وورق البردي، وما شاكل ذلك، ثمّ لم تمض فترةً طويلةً حتّى جُمع بشكل مدوّن ضمن (مصحف) ، وبعد ذلك شيئًا فشيئًا تعدّدت نسخ هذا المصحف؛ ليصبح مصداقًا لمصطلح (كتاب)(3).

ص: 397


1- Sinai, Ibid.
2- راجع: محمد عابد الجابري، رهيافتي به قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ص 202.
3- راجع: م. ن، ص 212 - 213 (بتلخيص).

نتيجة البحث

كلّما تجاوزنا العقود الأولى من المنتصف الثاني للقرن العشرين، نلمس في تفاسير المستشرقين آراء غير علميّة وعشوائيّةً لا تقوم على أسس نقديّة معتبرة؛ بالنسبة إلى بيان معنى مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات القرآنية، وبدل أن يقرّبوا معناه للمخاطب، نجد آراءهم بعيدةً كلّ البعد عن مدلوله الحقيقي

والبنية الأساس لآرائهم في هذا المضمار ترتكز على أسلوبين أساسيين في بيان مدلول المصطلح المذكور، ولا سيّما ضمن الآيات الأولى لبعض السور؛ هما:

1. الأسلوب الأوّل: يقوم على أسس لاهوتية اعتمدوا عليها في بيان مدلوله وتفسير الآيات التي ذُكِرَ فيها، لكنّهم مع ذلك لم يتطرّقوا إلى تحليل الموضوع؛ وفق الأسلوب النقدي اللغوي المعتمد في البحث العلميّ، ولم يبادروا إلى بيانه في رحاب أسس فقه اللغة.

وقد فسّر يوسف درّة الحدّاد مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات الأولى لبعض السور بمعنى الكتاب المقدّس، حيث استند على عددٍ من الروايات المنقولة في تفسير القرآن، لكنّه في الحقيقة تأثر إلى حدٍّ كبير في نظريته بمرتكزاته الإيديولوجية المسيحيّة، ومن هذا المنطلق تبنّى فكرة السلطة السماويّة للكتاب المقدّس على النص القرآني؛ لذا لم يكترث بالآيات والعبارات القرآنية السابقة واللاحقة للآيات التي سلّط عليها الضوء، فضلًا عن اقتطاعه العبارات والكلمات من سياق جملها؛ بغية إثبات فرضياته المرتكزة في ذهنه.

2. الأسلوب الثاني: كلّما اقتربنا من أواخر القرن العشرين نلاحظ أنّهم انتهجوا أسلوبًا آخرَ في هذا المضمار، حيث استندوا إلى النصّ القرآني ذاته؛ بغية تحليل المعنى المقصود من مصطلح (كتاب) في المصحف؛ وفق أسس البحث العلمي، والتفاسير المطروحة في هذه الحقبة المتأخّرة، من خلال تقليدها أسلوب التحليل اللغوي لنصّ الكتاب المقدّس، سعى أصحابها إلى استخراج شواهد لغوية من باطن النص القرآني؛ لأجل إثبات المطلوب؛ وفق قواعد وأصول لغويّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الأساليب اللغوية التي اعتمد عليها المستشرقون في تحليل النص القرآني هي في الحقيقة غير معهودة لدى المفسّرين المسلمين؛ نظرًا لعدم إلمامهم بأسلوب التحليل اللغوي للنص المقدّس لدى اليهود والمسيحيين، لذا فهي لا تُحظى بتأييدهم إلى حد ما.

ص: 398

والأسلوب الذي اتبعه دانيال ماديجان في تفسير مصطلح (الكتاب) وفق أسس لغويّة، لا يختلف كثيرًا عن الأسلوب الذي اتِّبعه نيكولاي سيناي؛ لكنّ الأخير سلك نهجًا يتّسم بدقّة لغوية أكثر من الأوّل، حيث اتسم تحليله اللغوي بالشرح والتفصيل؛ وهو في الواقع أكثر دقةً ممّا طرحه ماديجان وأقرب إلى مدلول النص، وفي هذا السياق تبنّى نهج ثيودور نولدکه التأريخاني، وإلى جانب ذلك أضاف تفريعات أخرى إلى العهود التأريخية التي ذكرها نولدكه؛

بغية تحديد الترتيب الزماني لنزول السور القرآنية، ومن ثمّ استند إلى هذا الترتيب ليفسّر المصطلحات والعبارات القرآنيّة؛ وبما فيها مصطلحا: (كتاب)، و(تفصيل)، وقد ذَكَرَ الكثير من الأدلّة والشواهد لإثبات نظريته في هذا المضمار، لكنّها ليست صائبةً بالجملة، بل هناك مؤاخذات جادة ترد على عدد منها.

وفسّر ماديجان الكتاب بأنّه رمز لعلم الله -تعالى-، لذا فهو المصدر الأساس الذي تعود إليه كلّ ألفاظ (الكتاب) المذكورة في النصّ القرآني، لكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ (كتاب) أشار إليه القرآن ينطبق بالكامل عليه.

وأكّد سيناي على أنّ (الكتاب) المذكور في القرآن الكريم ذو منشأ سماوي، وما ذُكِرَ منه في الآيات الأولى لبعض السور يُقصد منه تلك الآيات التي تتضمّن شرحًا وتوضيحا وتفسيرًا يتناسب مع المشارب الفكرية لأبناء مجتمع عصر النزول، حيث نزلت على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بشكل آيات .

وسارع سيناي في رفض دلالة مصطلح (الكتاب) على النصّ المدوّن، ورأيه هذا لا دليل عليه، فعلى أساس هذا التفسير الذي قوامه الفصل بين مفهومي الكتابة والكتاب والهادف إلى إثبات نظريّته التفسيرية بخصوص التفصيل والكتاب، اضطرّ لأنّ يتطرّق إلى البحث والتحليل جميع العبارات المتشابهة ضمن النص القرآني؛ لكنّه اعترف بوجود موارد لا محيص فيها من الإقرار بكون الكتاب يدلّ على النصّ المدوّن، أي أنّه لا ينفك عن واقع الكتابة؛ وعلى هذا الأساس لا نتيجة سوى الإذعان بأنّ الكتاب في هذه الموارد هو القرآن المدوّن؛ إلا أنه مع ذلك حاول تبرير الأمر ليفسّره مرّةً أخرى؛ بمعنى ارتقاء مستوى القرآن إلى منزلة (الكتاب السماوي)، لا باعتباره كتابًا مدوّنًا على هيئة مصحف.

ص: 399

والواقع أنّ ماديجان وسيناي لم يتمكنا من إثبات نظريّتيهما وأخفقا في طرح معنى شامل للكتاب؛ بحيث يعمّ جميع موارد ذِكْره في النص القرآني ضمن مختلف الآيات، وما ذكراه من تفاسير فيها نواقص لا يمكن إنكارها، فالثاني حاول تصحيح ما طرحه الأوّل من تفسير للكتاب؛ بوصفه مصدرًا سماويًا ومواصلة طريقه على ضوء تفسيره ضمن مفهوم (التفصيل)؛ باعتبار أنّه آياتٌ تنصب في مضمارٍ واحدٍ تلاها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بهدف هداية الناس. ولا شكّ في أنّ نظريّتَيهما غير قويمتَين؛ علميًّا وتأريخيَّا؛ وذلك لأنّهما اعتبرا القرآن نصَّا تمّ تدوينه على هيئة (كتاب) بعد سنوات من وفاة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذه الفرضية مفتقرةٌ بحدّ ذاتها إلى ما يُثبتها.

ص: 400

الباب الثالث

اشارة

التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وشخصيته

ص: 401

ص: 402

الفصل الأول

التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 403

ص: 404

دوّن المستشرقون الكثير من الدراسات والبحوث حول شخصية النبي محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)تمحور بعضها حول تفسير الآيات والعبارات القرآنية التي لها ارتباط مباشر برسالته، لكن نجد فيها تفاسير غير معهودة يتّسم بعضها بصبغة مناهضة للإسلام؛ الأمر الذي يقتضي تسليط الضوء عليها بالشرح والتحليل؛ بغية معرفة الهواجس التي دعتهم إلى ذلك.

وفي المباحث التالية نوضّح تفاصيل الموضوع في رحاب بیان آرائهم التفسيرية لبعض العبارات القرآنية:

المبحث الأوّل: التفسير الاستشراقي لعبارة "خاتم النبيين"

ذُكِرَت عبارة "خاتم النَّبيِّينَ" في الآية 40 من سورة الأحزاب، وقد طرح المستشرقون حولها فرضيات وآراء تفسيريّة عدة، وهذا التنوّع لا يقتصر على فئة محدَّدة منهم، بل نلمسه جليًّا في دراسات التقليديين والمحدثين منهم؛ على حد سواء، وكما هو معلوم فالتيار التقليدي هو الأوسع نطاقًا في الدراسات الغربية بشكل عام(1).

ونص الآية هو: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.

قبل بيان مدلول هذه الآية، نرى من الأنسب أوّلًا إلقاء نظرة إجمالية على محتوى سورة الأحزاب.

تتمحور المواضيع الأساسية في سورة الأحزاب؛ ابتداءً من آياتها الأولى وصولا إلى آياتها الختامية حول التعريف بأعداء المسلمين والخارجين عن مسلك الإيمان بوصفهم كفاراً ومشركين ومنافقين؛ كما تطرّقت إلى عدد من المسائل المرتبطة بسيرة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛مثل: اقترانه بزوجة زيد بن حارثة بعد انفصالها عنه، وبساطة حياته، وما أُحِلّ له من النساء،

ص: 405


1- تُعد الدراسة التي قام بها المستشرق أوري روبين على هذا الصعيد أكمل الدراسات الاستشراقية ومن المحتمل أن أحدًا من المستشرقين لم يتطرق إلى هذا الأمر بعده، حيث سعى إلى ذكر تفسير دقيق لهذه العبارة؛ اعتمادًا على سياق الآية والمصادر غير القرآنية. للاطلاع أكثر، راجع: Uri Rubin, "The Seal of the Prophets The Finality of Prophecy, On the Interpretation of the Quranic Surat al - Ahzab (33), In Zeitschrift der Deutschen Morgelandishen Gesllschaft, 2014, Tel Aviv, pp. 65 - 96; Idem."Muhammad", EQ, 2003, vol. 3, p. 444.

والصلاة عليه، وحرمة إيذائه، وتحذير زوجاته ممّا لا يليق بشأنهنّ؛ نظرًا للمسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتقهنّ، وحرمة زواجهنّ بغيره، ومسألة الحجاب، إلى جانب مسائل أخرى.

وقد برّأت آيات هذه السورة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)من التهم التي طالته من قبل أعدائه، ومن ناحية أخرى انتقدت الطباع والأعراف الجاهليّة؛ مثل: أحكام الابن بالتبنّي، والظهار(1)؛ ومن جملة ذلك: حرمة الزواج بمطلقة الابن بالتبنّي، كما وضعت حدودًا معيّنةً للعلاقات بين الأرحام، والإرث والتكافل الاجتماعي.

ولم ينفك المنافقون - في تلك الآونة - لحظةً عن بثّ الشائعات والأكاذيب والأخبار المغرِضَة ضد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،كما حاولوا إيذاءه نفسيا بشتى السبل وتدنيس حرمته وقدسيته؛ بوصفه نبيًّا مرسلًا، والآية 40 تقع في سياق آيات تؤكّد على منح الأولوية له؛ مقارنةً مع سائر المؤمنين، وتشير إلى قضيّة زواج زيد وزينب واختلافهما، ونصائحه لهما؛ كي لا ينفصلا عن بعضهما. ولا نبالغ لو قلنا إنّ أهمّ موضوع في هذه الآيات يتمثل في مسألة زواج النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بزوجة زيد بعد انفصالها عنه، إذ تمّ هذا الزواج بأمرٍ من الله -عزّ وجلّ- ؛ بهدف نبذ أحد التقاليد الجاهلية الخاطئة التي كانت شائعةً بين الناس آنذاك؛ وهذا الأمر الإلهي جاء في الآية 37: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكَ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخَشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَجْنَكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَجِ أَدْعِيَابِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾، والآية 38 أكّدت على أنّ الزواج تشريع ديني وسنّةً إلهيّةً جاريةٌ، لذا فهو جائز للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٌ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾، بينما الآية 39 شدّدت على ضرورة خشية الله - تعالى - وتبليغ رسالاته، والزواج - بطبيعة الحال - جزء من الرسالة: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَلَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخشَونَ أَحَدًا إِلَّا اللهُ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾.

وتمحور الكلام في الجزء الأخير من هذه السورة وفي الآيتين 69 و 70 بالتحديد(2)حول

ص: 406


1- الظهار هو أحد أساليب الطلاق في العهد الجاهلي، حيث يقسم الرجل بحرمة بدن زوجته عليه ويدعي أنه كحرمة بدن أمه عليه قائلاً (أنت علي كظهر أمي)، ومن ثمّ ينفصل عنها وتحرم عليه مضاجعتها.
2- قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِما قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً﴾ (سورة الأحزاب، الآيتان 69 - 70).

المعاملة السيئة التي واجهها النبي موسى(علیه السّلام)من جانب بني إسرائيل والتهم التي برّأه الله -تعالى- منها، فهو على الرغم من كلّ ما افتري عليه وجيه عنده -تعالى-، لذلك أمر المسلمون بأن يتقوا وألا يفعلوا ذلك مع نبيّهم وأن يقولوا قولا سديدًا.

وقد اتخذ المستشرقون مواقف متباينةً إزاء مضمون الآية 40 من هذه السورة، نشير إليها في ما يلي:

1. تأييد المعنى المتعارف لكلمة "خاتم" ورفض فكرة التحريف:

المستشرق ريتشارد بيل(1)هو أحد الباحثين الذين عُرفوا باتِّباعهم النهج التقليدي في الدراسات الاستشراقية، وعلى هذا الأساس فسّر كلمة (خاتم) في الآية 40 من سورة الأحزاب بمعنيين؛ مستندًا في ذلك إلى التراث الإسلامي في مجالي التفسير والتأريخ، لذا قال إنّها تدلّ على كون النبي محمد الا الله مصدقًا للأنبياء السابقين وخاتمهم؛ وفي هذا السياق رفض رأي من ادعى تحريف آيات هذه السورة بواسطة المسلمين(2)؛ معتبرا قوله - تعالى - ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾ تأييدًا لزواجه من مطلقة ابنه بالتبنّي زيد بن حارثة، كما أكّد على وجود ارتباط بين هذه الآية والآية السابقة لها، وفسّرهما بالتالي: «لم يكن له [لمحمّد] ولد، بل هو نبي مرسل لا يخشى أحدًا في تبليغ رسالة الله، بل يخشى الله فقط»(3). وقد اعتبر الآية 40 أصيلةً لا تحريف فيها حذفًا أو إضافةً، حيث قال: «ليس هناك أي سببٍ يدعو لأن نشكك في مصداقية ذِكْر اسم محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذه الآية؛ بحيث نعتبرها محرّفةً وأنّ فيها إضافةً خارجةً عن النص القرآني؛ كما ادعى هر تفيك هر شفلد»(4).

ص: 407


1- اللافت للنظر أن ريتشارد بيل ادّعى وجود تحريف وإضافات في الكثير من الآيات القرآنية، وقد أشرنا إلى جانب منها في الباب الأول، لكنه لم يطرح هذا الادعاء بالنسبة إلى الآية المذكورة.
2- تطرق ريتشارد بيل إلى بيان ما قاله المستشرق المعاصر هورويتز حول تفسير عبارة (خاتم النبيين)، حيث قال: «على الرغم من أنّ جوزيف هورويتز احتمل أنّ العبارة تدلّ على معنيين؛ هما: ختم النبوّة، والتصديق برسالات الأنبياء السابقين؛ لكنه مع ذلك احتمل أنها من صياغة محمد بنفسه». (Bell, Ibid., vol. 2, pp. 101).
3- Ibid
4- Bell, Ibid., vol. 2, pp. 101 - 102. هرتفيك هرشفلد (1845م - 1934م) هو أحد مستشرقي النصف الأوّل من القرن العشرين ومن الرؤاد في طرح نظرية تحريف الآية 40 من سورة الأحزاب، وفي هذا السياق أكد على أن عبارة (خاتم النبيين) مجرّد إضافة ذكية أريد منها الترويج لأسطورة ختم النبوة الذي رآه بحيرا الراهب على ظهر النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛لذا شكك بمصداقيتها وادعى أنّها أقحمت في النصّ القرآني في فترةٍ متأخّرة من ظهوره، ومما قاله في هذا الصدد: « هذه الآية تدل بحدّ ذاتها على أنّها في صدد تبرير زواج النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بمطلقة ابنه بالتبنّي؛ ذلك الزواج الذي حدث في السنة الرابعة للهجرة». (Hirschfeld, Hartwig, New reasearches into the composition exegesis of the Qoran, London, Royal Asiatic Society, 1902, p. 139; Also Cf: Hirschfeld, Hartwig, Beiträge zur Erklärung des Korān, Leipzig, p. 71, Cited by Friedmann). إضافةً إلى ريتشارد بيل، هناك الكثير من المستشرقين؛ من أمثال: يوحنان فريدمان، وأوري روبين، رفضوا رأي هرتفيك هرشفلد بكون عبارة (خاتم النبيين) غير عربيّة السّياق وغير مألوفة، وسنشير إلى تفاصيل أكثر ضمن المباحث اللاحقة.

وصف المستشرق كارل إرنست عبارة خاتم النبيين بأنّها تحكي عن دور النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)فی تأريخ البشريّة؛ فهو كالختم الذي يطبع في نهاية الرسالة بعد إتمام نصّها، حيث قال : «على الرغم من أنّ القرآن في بعض مواضعه لم يميّز بين الأنبياء، ولم يرجّح بعضهم على بعض، لكنّه في الآية 40 من سورة الأحزاب اعتبر محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)خاتما لهم ، وتأثيره في التأريخ كالختم الذي يُطبَع في نهاية الرسالة، حيث امتدح في هذه الآية»(1).ولا يمكننا تحديد مقصود إرنست من علاقة الختم الذي يطبع في نهاية الرسالة بهذه العبارة، فهل يُقصد منه التصديق أو إتمام النبوّة وختمها؟ ولكن بما أنّه في مقام الحديث عن تفضيل القرآن للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)فمن المحتمل أنه يقصد الختم ذاته الذي يطبع في نهاية الرسالة لا مجرّد التصديق؛ وهذه الخصوصية - فقط - تعدّ ميزةً فارقةً لخاتم الأنبياء على غيره .

ورفض أوري روبين هو الآخر فكرة تحريف هذه الآية، وممّا أكّد عليه في هذا المضمار : «أقلّ ما يمكن وصف سورة الأحزاب به، هو تناسق بنيتها مع البنية القرآنية، وهي لم تحرّف؛ بحذف أو إضافة، كما أشارت بوضوح إلى مسألة ختم النبوّة»(2). وفسر كلمة خاتم وفق المعنى المتعارف منها؛ وهو كون النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)آخر حلقة في سلسلة النبوّة؛ كما اعتبره مصدقًا لسائر الأنبياء وفقًا لما جاء في سائر الآيات(3).

2. عدم تأييد المعنى المتعارف لكلمة "خاتم" ورفض فكرة التحريف:

ومن المستشرقين مَنْ رفض دلالة عبارة (خاتم النبيين) على ختم النبوّة ببعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛ وعلى الرغم من أنّهم لم يشكّكوا في صحة الآية، ولم يدّعوا تحريفها؛ ومن هؤلاء:

ص: 408


1- Ernst, Carl W., Following Muhammad: Rethinking Islam in the Contemporary World. Chapel Hill: University of North Carolina Press, (2003). p. 80.
2- Rubin, Ibid., p. 66.
3- Cf. Idem., "Muhammad", EQ, Vol. 3, Edited by Jane Mc Auliffe, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, (2003), p. 444.

فرانتس بوهل، وألفورد تي. ولش، حيث زعما أنّ الإسلام ليس سوى صورة أخرى من اليهودية أو المسيحيّة، وكلّ ما فيه من تعاليم وقضايا أخرى، مستوحى من الأديان السابقة؛ ومن هذا المنطلق فسّرا العبارة السابقة بالتصديق، ورفضا رأي مَنْ قال بدلالتها على خاتميّة النبوة؛ باعتبار أنّه تفسير غيرُ أصيل، وإنّما هو منبثق من أهداف عقدية تنصب في خدمة المسلمين. ومما قاله بوهل في هذا السياق: «غالبية المسلمين يعتقدون أنّ محمّدًا هو آخر وأعظم نبيَّ، إلا أنّ هذا الاعتقاد ناشئ ممّا ذُكِرَ لاحقًا في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب، لذا لا بدّ من التمييز بين المعتقدات الدينية والآراء الكلامية التي تبنّاها المسلمون في فترة متأخرة من [نزول القرآن] وبين النتائج التي يتم التوصل إليها في الدراسات السوسيولوجية والتأريخية الحديثة»(1). ويبدو من كلامه أنّه يرجّح تفسير العبارة المذكورة بالتصديق، حيث قال: «هناك من يعتقد بأنّ النبي حينما كان في المدينة لم يكن يفكّر في إيجاد دين جديد، بل كان في صدد إحياء الدين الصحيح الذي جاء به الأنبياء السابقون»(2).

ويوسف درّة الحدّاد هو الآخر من جملة الذين سلكوا هذا النهج ليؤكّد على أنّ عبارة ( خاتم النبيين تدلّ على تصديق الأنبياء السابقين ولا دلالة فيها على خاتميّة النبوّة، وكما ذكرنا في المباحث الآنفة؛ فهو يعتقد بخاتميّة النبي عيسى(علیه السّلام)للنبوة، وليس النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)برأيه سوى مصدّق لهذه النبوّة؛ وعلى هذا الأساس تشبّثبكل ما أُتيح له من أدلّةٍ؛ لتفنيد الرأي المتعارف بين المسلمين، واللافت للنظر أنّ نظريّته هذه تُعدّ غريبةً من نوعها ومرفوضةً جملةً وتفصيلا وفق جميع المصادر اللغويّة والروائيّة والتفسيريّة، وحتّى إنّها تتعارض مع سياق الآيات القرآنية(3). وقد وضّح الحدّاد العبارة القرآنية المشار إليها قائلاً: «بما أنّ الآية ذكرت كلمة (خاتم)، ولم تقل (خاتمة)؛ ونظرًا لأنّ كلمة (خاتم) تعني الختم الذي يدلّ على الصدق والصحة، لذا يُراد من عبارة (خاتم النبيين) أنّه مصدّق للأنبياء ومؤيّد لهم»(4). وأضاف معقبًا على كلامه هذا أنّ التصديق - هنا- هو المعنى ذاته المتواتر في النص القرآني، لأنّ القرآن

ص: 409


1- Buhl, F.; Welch, A. T., "Muhammad", EI, Vol. 7. 2 nd. Edition, (2005), p. 368.
2- Ibid.
3- سوف نشير إلى رأي يوسف درّة الحدّاد بالشرح والتفصيل بعد تسليط الضوء على آراء سائر المستشرقين.
4- يوسف درة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 101.

يعتبر نفسه مصدِّقًا ومؤيّدًا للكتاب، وأنّ محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)- أيضًا - مصدق ومؤيد للكتاب؛ من حيث تفصيله وبيانه للعرب(1).

وتطرّق الحدّاد في كتابه (نظم القرآن والكتاب: معجزة القرآن) الذي ألفه قبل كتاب (مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحيّ)، إلى الحديث عن كلمة (خاتم) - أيضًا - ؛ معتبرا إياها من الكلمات المتشابهة في القرآن؛ بحيث لا يمكن تحديد معنى واحدٍ لها، ونظرًا لعدم وجود قرينة تدلّ على المراد منها، تبقى غامضةً؛ بحسب ادعائه(2).

وحينما نمعن النظر في الآراء التفسيرية التي تبنّاها الحدّاد، نلاحظه يجزم بضرس قاطع بأفضليّة المسيح عيسى(علیه السّلام)على سائر الأنبياء والرسل، ويزعم أن رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مجرّد أمرِ ثانوي يُراد منها تأييد رسالة المسيح؛ وفي هذا المضمار استدلّ بالعديد من الآيات القرآنية ليثبت أنّ المسيح هو خاتم الأنبياء، وأنّ الإنجيل أتم وأشمل وآخرُ كتاب سماوي، وعلى هذا الأساس ادّعى أنّهما في القرآن ليسا كسائر الأنبياء والكتب السماويّة، بل لهما الأرجحيّة(3).

ولم يتوانَ الحدّاد عن التشبّث بكل ذريعة؛ لأجل أن ينسب خاتميّة النبوة إلى المسيح عيسى(علیه السّلام)،وضمن مساعيه هذه ادّعى أنّ القرآن مجرّد مصدّق للتوراة والإنجيل، وغاية ما فيه أنّه أكد على انحدار الأنبياء والرسل من سلالة نوح وإبراهيم(علیهما السّلام)وآخرهم عيسى(علیه السّلام)الذي بُعِثَ بالإنجيل، حيث قال: «لم يذكر القرآن بعثة أيّ نبي بعد المسيح، وهذا الأمر يُعدّ دليلًا على أنّه خاتم الأنبياء، والإنجيل خاتم الكتب السماوية، والنصرانية بالطبع هي خاتمة الأديان...»(4).

لقد أصر على تفسير عبارة (خاتم النبيين) بهذا الشكل؛ من منطلق عدم اعتقاده باستقلالية نبوّة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وهو في موقفه هذا خالف التفسير المتعارف للعبارة وتجاهل دلالتها

ص: 410


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 101 - 102. استند يوسف درّة الحدّاد إلى الآيات التالية لإثبات رأيه التفسيري: سورة البقرة، الآيات ،97،91،77،41، 101 ؛سورة النساء الآية 16؛ سورة المائدة، الآية 47؛ سورة الأنعام، الآية 92؛سورة يونس الآية 37؛سورة يوسف، الآية 111؛سورة فاطر، الآية 31 سورة الأحقاف، الآيتان 12 و30؛هذه الآيات صرّحت بأنّ القرآن مصدّق للكتب السماوية المنزلة قبله، وأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مصدق للأنبياء والرسل الذين سبقوه.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، نظم القرآن والكتاب: معجزة القرآن، ص 888 - 889.
3- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، القرآن والمسيحيّة ص 87 و 110 - 113؛يوسف درّة الحدّاد، القرآن دعوة نصرانية، ص 560 - 668.
4- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، القرآن والمسيحية، ص 94. وهذا هو السبب الذي دعاه لأن يبت بكون الآية 6 من سورة الصف تدرج ضمن المتشابهات، حيث أشارت إلى تبشير المسيح عيسى(علیه السّلام)ببعثة نبي من بعده اسمه أحمد(صلی الله علیه و آله و سلم).

الصريحة؛ مدعيًا أنّها تشير إلى تصديق الأنبياء السابقين؛ أي أنّ النبي محمدًا مجرّد مصدق لمن سبقه من الأنبياء.

والعبارة واضحةً في دلالتها، لكن مع ذلك حينما نتتبع مدلولها في قواميس اللغة العربية، ونمعن النظر في معنى الآية التي ذُكِرَت فيها، ونتأمل في مختلف موارد استعمال مشتقات كلمة خاتم في النص القرآني؛ نستنتج أن معناها الدقيق هو ختم النبوّة بواسطة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،وهو ما سنتطرّق إلى بيانه بالشرح والتحليل لاحقًا.

والمؤاخذة التي ترد على الحدّاد في رأيه المذكور؛ هي أنّ ادّعاء كون المسيح(علیه السّلام)هو خاتم النبيين يتعارض بالكامل مع مضمون النصّ القرآني بالنسبة إليه ؛ ومثال ذلك الآية 6 من سورة الصف، حيث أكدت على تبشير المسيح بمجيء نبي بعده اسمه محمدٌ : ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَبَنِي إِسْرَاءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَيَةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ: أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَتِ قَالُوا هَذَا سِحْر مبين خرُ مُّبِينٌ﴾(1). وفسّر العلامة محمّد حسين الطباطبائي هذا التبشير بأنّه يدلّ على كون الإسلام هو الدين الأتمّ والأكمل بين سائر الأديان؛ بحيث فُتِحَت في رحابه أبواب رحمة الله -تعالى- للبشر وضُمِنَت لهم سعادة الدنيا والآخرة. وتبشير المسيح(علیه السّلام)قائلا: ﴿بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ بَعْدِى﴾؛ إنما يدل على تكامل دعوة النبي المبشّر به وقيامها على معتقدات أكثر صوابيةً، وعلى قوانين أكثر عدلا للإنسان والمجتمع على حد سواء؛ فضلاً عن دلالتها على أنّها تضمن سعادة البشر في الدنيا والآخرة أكثر من أي دين آخر؛ فما جاء به النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أكمل ممّا جاءت به التوراة، في حين أنّ النبي عيسى(علیه السّلام)يعتبر حدًا وسطًا بين الدعوتين اليهوديّة والإسلاميّة، لذا فالرسالة الإسلاميّة مكمّلةٌ لهما(2).

ونستنتج من هذا الكلام أنّ تبشير عيسى(علیه السّلام)ببعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)تحكي عن علم موجود لدى جميع الأنبياء السابقين؛ وبالأخص عيسى نفسه(3)، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه بُعث إلى بني إسرائيل - فقط - بشهادة الآية المذكورة: ﴿ يَبَنِي إِسْرَاءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم﴾. كما نلاحظ أنّ هذه العبارة تصرّح ببعثته إلى بني إسرائيل، ثمّ جاءت العبارة اللاحقة لها: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ

ص: 411


1- ادعى يوسف درّة الحدّاد أن قوله -تعالى-: ﴿مُبَشِّرًاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد﴾يُدرج ضمن المتشابهات؛ وذلك لأجل إثبات صوابية فرضياته.
2- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 19،ص 251 - 253 (بتصرف وتلخيص).
3- راجع: عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 8، ص 43.

النَّوْرَكَةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ لتؤكّد على أنّ المهمّة التي كلف بها؛ بصفته نبيًّا هي التصديق بالكتاب والأنبياء السابقين له، إلى جانب تبشيره برسالة النبي الذي سيأتي بعده؛ ويمكن اعتبار أنّ هذين الأمرين يجسّدان رسالة المسيح بأكملها، لذا كيف يمكن اعتباره خاتم النبيين وقد صرّح هو نفسه أنّه مبعوث إلى بني إسرائيل ولم يدّع أنّه بُعِثَ إلى العالم قاطبةً ؟! ومن جهة أخرى توجد آياتٌ أخرى تؤكّد على عالميّة الدعوة الإسلاميّة وبقائها حتى نهاية حياة البشر على الأرض؛ كما أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أكد مرارًا على أنّه خاتم الأنبياء والرسل(1).

ونستشف من تفسير الحدّاد لعبارة (خاتم النبيين) أنّه من الأساس لا يعتقد أن محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)نبي، لذا من البديهي أن يرفض ختمه النبوّة؛ ومن هذا المنطلق فالسؤال الذي يُطرح عليه هو: إذا افترضنا أنّ النبي وصحابته كانوا يعتقدون بالمعنى ذاته الذي الحدّاد لكلمة (خاتم)، فما السبب الذي دعاهم لأنْ يتصدّوا لمسيلمة الكذاب ؟! فهذا الرجل كان يعتقد برسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لكنه لم يعتقد بكونه خاتم الأنبياء؛ لذلك ادّعى النبوّة.

إِذَا، لا يبدو أنّ هذا المستشرق أراد من تحليله مسألة خاتميّة النبوّة إثبات أنّها مختصّةً بالمسيح عيسى(علیه السّلام)؛وإنما كان هدفه الارتكازي هو إثبات أنّ رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مجرد دعوة إلى التوراة والإنجيل، ويُراد منها الترويج للتعاليم النصرانية على ضوء خاتميّة نبوّة المسيح.

لا شك في أنّ الله - تعالى - لا يبعث نبيًّا للبشر إلا حينما تذهب التعاليم التي جاء بها النبي السابق في غياهب النسيان أو أنّ يُعرِض الناس عنها؛ فهنا تقتضي الضرورة بعثة نبيَّ آخر يشذّب سلوكهم؛ أو حينما لا تصل رسالة النبي السابق إلى الناس بكل تفاصيلها، فيرسل الله -تعالى- إليهم من يكملها ويتمّم دينه؛ لذا كيف يمكن لأحدٍ ادّعاء أن المسيح(علیه السّلام)هو خاتم النبيّين، في حين تعرّض دينه إلى التحريف وزالت بعض تعاليمه الأصيلة؛ فضلا عن ذلك فهو لم يأتِ إلى الناس بكل ما يحتاجون إليه من أحكام ومسائل شرعيّة، ولم يقرّ للمجتمع قوانين كاملةً من جميع النواحي.

ص: 412


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ج 5، ص 24 / ج 6، ص 3؛مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم، ج 4،ص 1870؛المصدر السابق (طبعة بيروت، منشورات دار الجيل ودار الآفاق الجديده)، ج 7، ص 119؛باب فضائل علي بن أبي طالب؛ حسين مير حامد، عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، إيران، مشهد، مطبعة عبد الرحيم مبارك وآخرون، 2004م، الجزء الثاني الكتاب الأوّل، ص 88 – 86.

كما يمكن اعتبار عبارة "خاتم النبيين"، التي سبقت بقوله - تعالى -: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ ، هذا الكلام تعقيبًا على ما ذُكِرَ في الآية 4 من السورة ذاتها والآيات السابقة لها التي تحدّثت عن الظهار والتبنّي، فالمتعارف بين العرب إبان العصر الجاهلي أن أحكام الابن المولود من صلب الإنسان تنطبق بالكامل على الابن بالتبنّي، لكنّ الإسلام أبطل هذا العرف بتشريع قرآني ضمن الآية 4 التي أكّدت على أنّ من يتبناه الإنسان لا يُعَدِّ كالابن المولود من صلبه: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ الَّتِى تُظهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ﴾، لذا لا تطبق الأحكام ذاتها عليهما.

وبعد ذلك أشار النص القرآني إلى مسألة إرث غير الأرحام، حيث أكد على عدم استحقاقهم له، ثمّ تحدّث عن الميثاق الذي أخذه الله -تعالى- من أنبيائه.

إذًا، الآيات التي هي مدار البحث والتحليل تستبطن أحكامًا وتشريعات جديدة من نوعها، حيث نبذت ما كان متعارفًا في عهد الشرك والجاهليّة وعبادة الأوثان، لذا يمكن الاستدلال من محتواها على خاتميّة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وتكامل الأحكام التي جاء بها؛ وللتأكيد على هذه الحقيقة وصفه الله - تعالى - بأنّه : ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾؛ أي أنّ نبوّته هي خاتمة المطاف لرسالات السماء، ثمّ تمّ تأييد مضمون هذه العبارة بقوله - تعالى -: ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.

وإذا افترضنا أن المسيح(علیه السّلام)هو النبي الخاتم وليس محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو في هذه الحالة كان مكلّفا بالإذعان للعرف السائد بين عرب الجاهليّة آنذاك - أي حرمة زواج الرجل من طليقة ابنه بالتبنّي - إلى جانب وضعه منظومة متكاملةً وشاملةً للأحكام الشرعيّة دون أنْ يُبقي أي منطقة فراغ في هذا المضمار ، إلا أنّ هذا لم يحدث في الواقع، والآية ضمن إشارتها إلى هذا الموضوع أثبتت أنّه كان متعارفًا في الشرائع السابقة ولم يُنقض حتى تلك الآونة(1).

ص: 413


1- تطرّق يوسف درّة الحدّاد إلى بيان المعنى المقصود من كلمة (خاتم) بأسلوب غريب، وهذا الأمر ينمّ عن وجود تهافت صريح في نهجه التفسيري؛ حيث ادعى أنّها تعني تصديق النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بالشرائع السماوية السابقة، في حين أنّها بالنسبة إلى النبي عيسى(علیه السّلام)تعني الإتمام والختم للنبوة ما المسوّغ الذي يجيز لنا ادّعاء تغيّر دلالة الكلمة ذاتها من دون أي دليل؟! فهل من الصواب الزعم بأن النبي محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)حينما يوصف بالخاتم فهي تعني التصديق، لكن حينما يوصف النبي عيسى(علیه السّلام)بهذا الوصف فهي تدلّ على الختم والإنهاء؟!

3. كلمة "خاتم" إما أن تعني "التصديق" أو "الختم"، وعبارة "خاتم النبيين" غامضة الدلالة:

شكك بعض المستشرقين في مفهوم الختم - بمعنى الإنهاء المستوحى من كلمة (خاتم) في قوله - تعالى -: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾، وعلى هذا الأساس زعموا أنّ المقصود منه هو التأخّر من الناحية الزمانية، حيث ارتكزوا في رأيهم هذا على أدلّةٍ لغويّة وشواهد تأريخيّة؛ وهؤلاء لا يندرجون ضمن فئة معيّنةٍ، بل منهم باحثون تقليديّون وفيهم محدثون أيضًا.

ومن هؤلاء المستشرقان یوحنان فريدمان وديفيد باورز(1)اللذان شككا بمسألة خاتميّة

ص: 414


1- یوحنان فريدمان (Yohanan Friedmann من مواليد عام 1936م، وهو أوّل من تطرّق بالتفصيل إلى بيان عقيدة المسلمين القائلة بختم رسالات السماء بالنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ضمن مقالته التالية: Friedmann, Yohanan. "Finality of Prophethood in Sunni Islam". Jerusalem Studies in Arabic Islam, 7, (1986), 177-215. كما دوّن المقالات التالية في الموسوعة القرآنية: "Ahmaddiya", "Dissension", "Tolerance coercion" ومما قاله في هذه المقالة: «الآية 33 من سورة الأحزاب التي وصفت النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه خاتم النبيين لا تعني أنه آخر نبي مرسل، بل يُراد منها أن لديه ختم النبوّة». يُقصد من هذا الكلام أنه لا يجوز الإيمان بنبوّة أي نبي دون تصديق النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)له، وفي هذا السياق قال إن أساس عقيدة خاتميّة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)تختص بالأنبياء أولي العزم - الأنبياء أصحاب الشرائع - لذا من المحتمل أنّ الله -تعالى- بعث أنبياء آخرين لم يأتوا بشرائع جديدة؛ من أمثال: غلام أحمد؛ بهدف إحياء شريعة القرآن في المجتمع الإسلامي بعد نهاية عهد رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم). (Y. Friedmann, "Ahmadiyyah", EQ, Brill, Leiden, 2001, Vol. 1, p. 51). للاطلاع على تفاصيل أكثر بخصوص نظريته التي طرحها حول موضوع ختم النبوة، راجع المصدر التالي: Friedmann, "Finality of Prophethood in Sunni Islam"; a revised version of the article appears in idem, Prophecy Continuous: Aspects of Ahmadi Religious Thought and its Medieval Background, p. 49 82. حاول فريدمان في هذه المقالة إثبات أن عبارة (خاتم النبيين) التي أريد منها تصوير النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه آخر نبي مرسل من جانب الله -تعالى-، أثارت جدلاً في القرن الأوّل الهجري واعترض عليها الكثيرون، وفي هذا السياق ذكر رواية عن عائشة قالت فيها إنه خاتم النبيين، لكنّها لم تقل إنّ الله لن يبعث نبياً بعده؛ وهذا الكلام برأيه يدلّ على أن النبي حتى وإن اعتبر خاتماً للأنبياء - بمعنى الختم الذي يطبع في نهاية المكتوب - فهذا لا يعني استحالة إرسال نبي بعده؛ ما يعني أن عبارة (خاتم النبيين) يراد منها أفضليته وليس خاتميته؛ بمعنى إنهاء النبوة. (Ibid., p. 192; Also in: Prophecy continuous, P. 63) وقد دعم رأيه هذا بالنزاعات التي حدثت بعد وفاة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)والتي عرفت بحروب الردّة، حيث اعتبرها دليلا على عدم صوابية ادعاء المسلمين بأن النبوّة ختمت وأن رسالات السماء قد انتهت بعد بعثة نبيّهم؛ فحروب الردّة أسفرت برأيه عن الترويج لهذه العقيدة وتأصيلها في المجتمع الإسلامي (Cf: Ibid., p. 197; Also in: Prophecy Continuous, pp. 65, 66, 70; EI, Vol. 2, "al - Mukhtar b. Abi - Ubayd"; "Abu Isa al- Isfahani"; al- Isawiyya"). والواقع أن هذا المستشرق لم يعتبر حروب الردّة قد اندلعت جرّاء اعتقاد المسلمين بخاتميّة نبيهم، وإنّما اعتبر أن عقيدة الخاتمية ثمرة لهذه الحروب؛ ولكن هناك سؤال لا محيص من طرحه في هذا المضمار؛ لأنّ الإجابة عنه تميط اللثام عن الحقيقة وهو إذا كان الأمر كما ادعى فریدمان باعتبار أن عقيدة الخاتمية نشأت لدى المسلمين بعد ظهور الإسلام بفترةٍ طويلةٍ، فما هو السبب إذًا في مبادرة صحابة النبي إلى مقارعة دعاة النبوّة بعده ؟! هؤلاء الدعاة لم يزعموا أنّهم آخر الأنبياء، فضلا عن أنّهم اعتبروا أنفسهم مصدقين لرسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذا ما المسوّغ الذي دعا المسلمين لأن ينتفضوا بوجههم؟! والرواية الأخرى التي استند إليها فريدمان هي رواية نقلت بخصوص حضور النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في تشييع ابنه إبراهيم، حيث قال الراوي في نهايتها أنّه لم يدعُ له، والسبب في ذلك أنّ كلّ نبي لا يدعو إلى النبي الذي يليه، ولو أنّ هذا الطفل لم يمت لأصبح نبيًّا مرسلًا بعد أبيه. واستنتج من هذه الرواية أن السبب الوحيد في عدم بعثة إبراهيم بعد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو وفاته مبكرًا! .(Ibid., p. 188; Also in: Prophecy Continuous, p. 60) وضمن مساعيه الرامية إلى إثبات نظريته القائلة بأنّ مفهوم خاتميّة النبوّة طرح بعد اكتمال نزول النص القرآني استدل من الروايات التي أشرنا إلى اثنين منها أن إبراهيم بن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يجب أن يموت؛ لكي تبقى عقيدة الخاتميّة محفوظة وجارية بين المسلمين. (Idem., Prophecy Continuous, p. 62). وجدير بالذكر أن علماء أهل السنة ذكروا العديد من الآراء؛ بهدف توجيه محتوى هذه الروايات؛ ومن جملتهم ابن حجر العسقلاني الذي قال إنّ الجملة الشرطية لا تعني دائماً تحقق الشرط على أرض الواقع. (للاطلاع أكثر، راجع: أحمد بن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق أحمد عبد الله الموجود وعلي محمّد معوض، لبنان، بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415ه_، ج 1، ص 96). وأما ديفيد باورز (David Stephant Powers)فقد سلّط الضوء في دراساته على المسائل الحقوقية في الإسلام أكثر من أي موضوع آخر، وعلى أساس رؤيةٍ حقوقية استند إلى مصطلح (كلالة) المذكور في الآية 12 من سورة النساء: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾، ليوضح رأيه بخصوص مسألة خاتمية النبوة المبحوث عنها ضمن عبارة (خاتم النبيين). (Cf. David S. Powers, Muhammad is not the father of any of your men, The Making of the last Prophet, University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 2009). وفي هذا المضمار أيّد ما قاله يوحنان فريدمان، لذلك تبنّى وجهةً تجديديّةً قائمةً على وجود الكثير من الروايات الموضوعة في التراث الإسلامي ليدعي أن زيدًا يجب أن يموت قبل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛مثلما مات ابنه إبراهيم لكي يبقى الأب هو آخر نبيَّ واستند في رأيه هذا الى ما قاله الزمخشري : لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبيًّا ولم يكن هو خاتم الأنبياء». (محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 3، ص 544). والطريف أنه اقتطع هذه العبارة من كلام الزمخشري، ولم يذكر العبارة التي سبقتها، وهي: «... وزيد واحدٌ من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقةً، فكان حكمه حكمكم والادعاء والتبنّي من باب الاختصاص والتقريب لا غير». (راجع: م. ن). وفضلًا عن ذلك، لو أنّ ابن كلّ نبيَّ يجب أن يكون نبيًّا بالضرورة، لوجب عندئذٍ أن يصبح الناس قاطبةً أنبياء؛ لأنّهم من ذرية النبي نوح(علیه السّلام)! للاطلاع أكثر، راجع: يوسف بن عبد الله بن عبد البر، الاستيعاب في معرفه الأصحاب، تحقيق علي محمّد البجاوي لبنان بيروت، منشورات دار الجيل، الطبعة الأولى، 1412ه_، ج 1، ص 60).

النبوّة المشار إليها، فكلّ واحدٍ منهما تطرّق إلى تحليل الموضوع وفق رؤاه الخاصة(1).

وادعی فریدمان أنّ المراد من وصف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بكونه خاتم النبيين في الآية 40 من سورة الأحزاب، هو مدحه وبيان أفضليته على سائر الأنبياء، لذا يمكن تفسير العبارة ب_(أفضل النبيين)(2)، فهذا هو المقصود منها(3)؛ وقد استند في رأيه هذا إلى ما نُقِلَ عن ثعلب:«(الخاتم) بفتحها: ذكرهما (د) ونقل ذلك عن ضبط ثعلب، وكذا في المهمات لابن عساكر، قال: وأم

ص: 415


1- cf. Rubin, Ibid., pp. 65-96
2- استند يوحنان فريدمان في رأيه هذا إلى ما استنتجه إغنتس غولد تسيهر الذي ذكر العديد من الأدلة التي اقتبسها من المصادر القديمة" لإثبات أن كلمة (خاتم) تدلّ على الأفضلية. (Cf. 10. Friedmann, Yohanan. "Finality of Prophethood in Sunni Islam". Jerusalem Studies in Arabic Islam, 7, (1986), 214, foonote, 133.
3- Ibid.

الخاتم بالفتح؛ فمعناه أنّه أحسن الأنبياء خَلْقًا وخُلْقاً، ولأنه(صلی الله علیه و آله و سلم)جمال الأنبياء،(صلی الله علیه و آله و سلم)كالخاتم الذي يتجمّل به»(1).

وأمّا الطّريحي، فعلى الرغم من اعتباره كلمة (خاتم) بفتح التاء تدلّ على الزينة، وكلمة (خاتم) بكسر التاء تدلّ على معنى آخر، لكنّه فسّر عبارة (خاتم النبيين)؛ بمعنى آخر الأنبياء؛ بحيث لا يأتي بعده نبي(2).

ونستنتج ممّا ذكر أنّ هذه الكلمة حتّى وإنْ فُسّرت؛ بمعنى الجمال والزينة للأنبياء، لكن عند تطبيق هذا المعنى على عبارة (خاتم النبيين)، لا يعني ذلك نفي مدلولها الحقيقي الظاهر من لفظها والذي يُراد منه النهاية، لذا يمكن اعتبار الجمال والزينة من مستلزمات هذا المدلول، أو ربّما هما معنى استعاريَّ؛ كما قال أحد الباحثين(3).

وشكّك المستشرق يوحنان فريدمان، ضمن تحليله المعاني المشار إليها آنفا، بكون المقصود من هذه العبارة هو أن النبي محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)کالختم الرسالة السماء(4)، واستند إلى شواهد من المصادر القديمة؛ ليستنتج أنّ جذر الفعل (ختم) لا يوحي بكون كلمة (خاتم) تعني نهاية النبوّة في هذه العبارة، وإنّما يراد منها التصديق والتأييد لما جاء به الأنبياء والرسل السابقون(5). ومن جملة ما استند إليه: رواياتٌ أكّدت على أنّ المراد هو الزينة أو الأفضليّة، حيث اعتبرها دالة على غير المعنى الأوّلي الظاهر منها ، وفي هذا السياق لم يمعن النظر في بنية الآية وأسلوب استعمال هذه الكلمة في سائر الآيات القرآنية، بل ركّز -فقط- على ظاهر هذه الروايات؛ ليشكك في المعنى المتعارف للعبارة، ومن ثمّ ادّعى أنّ القول بكونها تشير إلى خاتميّة النبوّة

ص: 416


1- محمّد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب اللبنانية، 1407ه_، ج 1، ص 558 راجع أيضًا: محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محسن آرمين، ج 3، ص 163؛ إسماعيل حقي البروسوي، روح البیان، ج 9، ص 501؛فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، تحقيق أحمد الحسيني، إيران، طهران، منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، الطبعة الثالثة 1996م، كلمة (ختم).
2- للاطلاع أكثر ، راجع: فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، تحقيق أحمد أحمد الحسيني، كلمة (ختم).
3- راجع: أحمد باكتشي، تفسير، مقالة نشرت في (دائرة المعارف بزرگ اسلامي) باللغة الفارسية، إيران، طهران، منشورات دائرة المعارف الإسلامية، 1999م، ج 15، ص 582.
4- cf. Fridmann, p. 213.
5- ibid., p. 184

سببه ظهور بعض دعاة النبوّة بعد وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وذلك لأجل تفنيد مزاعمهم والتأكيد

على عدم بعثة نبي بعده(1).

وأما ديفيد باورز، فقد حلّل الكلمة على ضوء ما ذكر من توضيح لتركيب (kh-t-m) في معجم وليام لين(2)؛ وقال إنّه إن أردنا معرفة المعنى الواقعي لكلمة (خاتم)، فالأجدر عدم تحليل مدلولها ضمن النصّ القرآني، بل لا بدّ من مقارنة استخدامها القرآني مع النصوص القديمة السابقة لظهوره(3)، ومن هذا المنطلق استنتج أنّها عبارةٌ عن استعارة لغوية؛ وتعني أنّ النبي

ص: 417


1- Ibid., p. 214
2- ذكر وليام لين ثلاثة معان لكلمة خاتم؛ وهي : أ - اسم مفتوح التاء بمعنى الختم والطبع على المكتوب ب - اسم فاعل مكسور التاء بمعنى إنهاء الأمر وإتمامه. ج - يتضمّن فحوى الفعل (ختم) الذي يعني الختم والطبع على المكتوب، أو إيجاد نقش عن طريق الختم، وأيضًا بمعنى إنهاء الأمر وإتمامه. (Lane, Edward William. Arabic - English Lexicon. Beirut, Lebanon, (1865) Book 1, part 2, s. v. kh - t - m. pp. 708 - 710).
3- ديفيد باورز هو أحد المستشرقين الذين تبنّوا نهجًا تجديديًا في البحث العلمي، وقد وصف آراء المفسرين المسلمين في تفسير هذه الآية بأنّها متأثرة بأصول ما يسمّى ب_(المدراش) والعلاقة المتأصلة بين الأب والابن والتضحية بالابن المحبوب، لذا حاول على أساس رؤيته الأحادية الجانب أن يستكشف الآثار الخفيّة للمدراش على التراث الإسلامي في جميع مصادره التأريخية والتفسيرية وغيرها. Cf. Powers, Ibid., passim. ثم استنتج من مجمل بحوثه ما يلي المسلمون في عصر صدر الإسلام حتى نهاية القرن الهجري الأوّل - إذا لم نقل بعده - اطلعوا على هذه العلاقة المتأصلة فبدأوا يتلاعبون بها لدرجة أنّهم صاغوا أنموذجًا تمثيلياً منها مستوحى من التراث المسيحي اليهودي. .(Ibid., p. 95) والمدراش (Midrash) هي مجموعة من التعليقات القديمة على كل أجزاء التناخ بتنظيم وتقسيم مختلفين من مجموعة إلى أخرى فكل جزء من كتاب في المدراش يمكن أن يكون قصيرًا جدًّا، وبعضه يصل في القِصَر إلى كلماتٍ قليلةٍ أو جملةٍ واحدةٍ، ويوجد بعض من أجزاء من المدراش في التلمود . (https://ar.wikipedia.org/wiki/l). كلمة مدراش مشتقة من الفعل العبري (دَرَش) الذي يعني ،المعاينة والهدف منه هو استكشاف المدلول الظاهري للنصّ المقدس بهدف الاطلاع على مدلوله الباطني. (Cf. Daniel Boyarin, Intertextuality the Reading of Midrash, Chapter 1. passim) وهذا المصطلح يشير إلى ضرب من التفنّن في الكتابة وهو على غرار الترجوم والبشيطتا، حيث وضع لأغراض عبادية وتهجديّة. وهناك مسألة أخرى تجدر الإشارة إليها على صعيد مدلول هذا المصطلح، وهي أنّ الأدب المدراشي ثمرة للبحوث التي أُجريت من قِبَل الباحثين المختصين بتحليل الكتاب المقدس في المدارس والجامعات ونتيجة لأدب السرد القصصيّ؛ وهناك نوعان منه؛ أحدهما: الهالاخاهي Halakhic) الذي يعني المدراش القانوني ويتمحور بشكل أساس حول تفسير قوانين الكتاب المقدس، والآخر هو الأجادي (aggadic) الذي هو في الحقيقة مدراس قصصي يتمحور في الأساس حول القضايا غير الشرعية أو القصصية في الكتاب المقدس. (Cf. Powers, Ibid., p. 102.

محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كالختم في سلالة الأنبياء؛ وهو مصدِّقٌ لرسالاتهم؛ وفي هذا السياق استدل بالنصوص اليهودية(1)والمسيحيّة(2)والمندائية(3)؛ ليدّعي على أساسها أنّ هذه الاستعارة تستخدم فيها للدلالة على تصديق النبوّة أو تحققها بالفعل، وكذلك ادّعى عدم اشتمالها على ما يثبت أنّها تعني نهاية عهد إرسال الأنبياء وختم النبوّة(4). ونستشف من تحليله هذا أنّ القرآن الذي جاء به النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)عبارة عن حلقة في سلسلة النبوّة التي حلقتها الأولى النبي إبراهيم(علیه السّلام)، وبما أنّ التوراة والإنجيل أنزلا على النبيَّين موسى وعيسى(علیهما السّلام)قبل القرآن، يكون تفسير التركيب الاستعاري (خاتم النبيين) في الآية 40 من سورة الأحزاب؛ هو التالي: الوحي المنزل على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مصدق لما أوحي سابقاً إلى اليهود والمسيح، أو أنه يثبت تحققه، ومن ثم فالنبي على ضوء شهادته هذه فهو كالختم الذي يطبع على النصوص الموحاة سابقًا؛ تأييدا لها. والطريف أنّ هذا المستشرق ذكر استدلاله دون أن يرجع إلى المصادر الإسلامية المعتبرة، لكنّه مع ذلك نسبه إلى بعض مسلمي عصر صدر الإسلام(5)؛ وإلى جانب ذلك قال إن بعض المسلمين أكدوا على كون الكلمة تعني نهاية رسالات السماء ببعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(6)

وفضلاً عمّا ذكر، فقد شكّك بصواب ترتيب الآيات 4 إلى 6 من سورة الأحزاب، وقال إنّ موضعها الصحيح هو قبل الآيات(7)36 إلى 40؛ حيث ادّعى أنّ المسلمين عمدوا إلى تغيير موضعها(8).

ص: 418


1- للاطلاع أكثر، راجع: سفر حجي :2 : 23؛ سفر دانيال 9 : 24.
2- للاطلاع أكثر، راجع: رسالة بولس إلى أهل غلاطيا 9 : 2.
3- Xua"stva"ni" ft: Studies. in Manichaeism, 196 (text 175, 11. 173 - 80.
4- Powers, Ibid., p. 52.
5- Ibid., p. 53.
6- Ibid.
7- قال - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (سورة الأحزاب، الآيات 36 إلى 40).
8- Ibid., p. 58.

وبادر هذا المستشرق إلى تفسير الآية المذكورة على أساس رؤية تجديدية، وتصوّر أن فكرة ختم النبوّة لدى المسلمين تبلورت على ضوء عبارة (خاتم النبيين) في عهد بعيد عن زمن نزول النصّ القرآني، وفي هذا السياق تطرّق إلى تحليل المعنى المقصود من كلمة (خاتم) على ضوء مدلول العبارة الأولى من الآية التي ذُكِرَ فيها، وربط الموضوع بقضية ما إن كان للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ولد أو لا؛ فاستنتج أنّه من الممكن أن يكون آخرَ نبيَّ شريطة؛ ألا يكون له ولد،وزعم أنّ هذا الشرط هو الذي جعل المسلمين يضعون الآية 40 في نهاية مقطوعة قرآنية تتكوّن من خمس آياتٍ لكي يثبتوا عدم بنوّة زيد للنبيّ، ومن ثمّ يثبتون ادعاءهم بأنّه آخر نبي(1). وتجدر الإشارة إلى أنّه اعتبر أنّ الآيات 36 إلى 40 قد أُقحمت فيها أسطورة مقدّسة صُنع على إثرها تأريخ للمسلمين؛ وهي تتمثل في قصّة طلاق زينب بنت جحش من زوجها السابق زيد(2)؛وعلى أساس هذا الاستدلال تناول الموضوع وفق أسلوب أدبي بهدف استكشاف التناص الموجود في الآيات المذكورة ومعرفة منشأ هذه الأسطورة المقدسة في الأدب السابق لظهور النصّ القرآني، وفي هذا السياق أكد على أن هاجسه ليس تحليل محتوى تلك النصوص القديمة السابقة لعهد القرآن، بل هدفه الأساس هو بيان مدى تأثير إحدى الشخصيات أو عدد من الشخصيات الأدبية على صعيد الصياغة القصصيّة وبلورة قصّة جديدة تحمل في طياتها معان جديدة وهنا طرح مسألة التناص؛ باعتبار أنّ المسلمين تأثروا من حيث يشعرون أو يشعرون بالنصوص السابقة؛ حينما صاغوا الروايات التي استعرضتها الآيات المشار إليها، إذ حاولوا محاكاة تلك النصوص، فتأسوا بشخصيات الكتاب المقدّس؛ ليحبكوا تفاصيل قصتهم.

ويبدو من هذا الكلام أنّ ،باورز لدى تحليله تفاصيل الموضوع، ابتعد عن روح البحث العلميّ، وبدل أن يحاول استكشاف الحقائق، نجده يقلب صفحات التأريخ لبيان الأدوار، وفي هذا المضمار اعتبر أنّ الآية 37 تلعب دور المؤيّد لفكرة خاتميّة النبوّة وعدم امتلاك النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ولدًا(3). كما استند إلى بعض التفاسير الإسلاميّة لإثبات عدم وجود ولد للنبي على ضوء عبارة: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾، لكنّه ادعى أنها ليست موجودةً في

ص: 419


1- Ibid., p. 53.
2- Ibid., p. 69.
3- Ibid., p. 129.

النسخة الأولى من المصحف إذ ما دام متزوجًا والوحي ينزل عليه؛ فلا يمكن نفي أبوّة الذَّكَر عنه؛ واستدلّ - أيضًا على عدم كون هذه العبارة وحيَّا؛ نظرًا للمدة الزمنية الفاصلة بين هذه القصّة المفتعلة - برأيه- ووفاة النبي، لذا فهي من جملة العبارات التي أضيفت إلى المصحف لاحقًا، وتُعَدّ دليلًا على تحريفه وممّا قاله في هذا الصدد: «لو أنّ هذه العبارة نزلت على محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في السنة الخامسة للهجرة حقًّا، ففي هذه الحالة تكون الفاصلة الزمنية بين نزولها ووفاته في السنة الحادية عشرة للهجرة، ستّ سنواتٍ؛ وطوال هذه المدة كان يضاجع زوجاته باستمرار؛ لذا من الناحية النظرية يمكن القول بإمكانيّة ولادة مولود ذكر له يرثه بعد تسعة أشهرٍ من آخر مضاجعةٍ، ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بعدم تحقق هذا الأمر طوال خمس سنوات سوى الله الذي يمتلك علمًا مطلقًا بكلّ شيءٍ»(1).

وتبنّى ديفيد باورز رؤيةً سلبيةً إزاء الروايات الإسلاميّة؛ بهدف إثبات ابتداع المسلمين مسألة خاتميّة النبوّة ببعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في فترة متأخّرة نسبيًا من ظهور الإسلام، وعلى ضوء ادعائه أنّ الآية المذكورة من إضافتهم للمصحف، استنتج ما يلي: «إذَا ، المسلمون في عصر صدر الإسلام لم يتمكنوا من البت بطمأنينة قلب بعدم إنجاب نبيّهم ولدًا؛ إلا بعد أن توفي، حيث روجوا لهذا الأمر جرّاء تعصّبهم وإعادة نظرهم في الموضوع»(2). والدليل الآخر الذي استند إليه لإثبات نظريته: لغوي؛ وهو عدم توجيه الخطاب في الآية بشكل مباشر إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث قال: «لو أنّ هذه الآية تُعدّ جزءًا من الوحي المنزل على محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)حقا؛ لكان من الأصح أن يوجه الخطاب فيها كما يلي: يا محمد أنت لست أبا أحدٍ من رجالهم»(3). لقد أصر هذا المستشرق على أنّ المسلمين أعادوا النظر في الموضوع والتزموا جانب التعصّب إزاء مسألة خاتميّة النبوّة، وبالتالي طرحوا هذه الفكرة؛ الأمر الذي يدلّ على تحريف آيات القرآن.

هذا الكلام ناشى - طبعًا من عدم امتلاكه الدقة الكافية في معرفة كُنه الأسلوب البياني للقرآن الكريم، فهناك العديد من الآيات التي تتحدّث عن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)إلا أن الخطاب فيها موجّه إلى المؤمنين بشكل عام، أو إلى مجموعةٍ منهم، وأحيانًا يوجه الخطاب بشكل مباشر

ص: 420


1- Ibid., p. 69.
2- Ibid.
3- Ibid., p. 70.

للمؤمنين ويخاطب النبيّ بضمير الغائب؛ وهذا أسلوب نلمسه جليًّا في العديد من الآيات(1)، وهو طبعًا تابع لمقتضى الحال والظروف التي تحفّ طرح الموضوع؛ فالنص القرآني معروف بأسلوبه البلاغي المتكامل والذي يتّسم بالمرونة؛ وفيه الكثير من الصناعات البيانية؛ مثل الالتفات الذي وضّحناه سابقًا، فتارةً يكون الالتفات من المخاطب إلى الغائب، وتارةً أخرى نجده على العكس من ذلك، أو قد يكون من العام إلى الخاص، ففي سورة الفاتحة - على سبيل المثال - بعد عبارة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ﴾ جاءت عبارة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وهنا التفات من الغائب إلى المخاطب؛ ومن السخف بمكان زعم أنّ هذا الأسلوب في الخطاب ضمن آية بحثنا دليلٌ على تحريف المسلمين النص القرآني وإضافتها إليه.

وقد استدل على أنّ هذه المقطوعة القرآنية المكوّنة من خمس آيات قد أضيفت إلى سورة الأحزاب في السنة الحادية عشرة للهجرة، بعد أن توفي النبي الله واضح استدلاله بالتالي:

الدليل الأوّل: هذه السورة شهدت تغييرات واسعة النطاق منذ نزولها حتى فترة تدوين المصحف العثماني.

من المحتمل أنّ هذا الادّعاء يقوم على الروايات التي تتحدّث عن جمع القرآن وتدوينه، لكنّ غالبيتها موضوعةً، ولا اعتبار لها من الناحيتين السنديّة والدلالية، فضلاً عن تعارضها مع روايات أخرى تؤكّد على حفظ الآيات والسور القرآنية من قِبَل المسلمين وتدوينها بدقة متناهية(2).

الدليل الثاني: الآية 40 من هذه السورة تتناقض مع الآية 6،إذ هناك قراءاتٌ ذكرت عبارة (وهو أب لهم)(3).

لا شك في أن تحليل هذا المسشترق للموضوع قائم بأسره على تصوّرات واهية ومزاعم بلا دليل؛ ومن جملة مدعياته في هذا المضمار : «حينما يقال إنّ زوجات النبي أمهات للمؤمنين، ألا يمكن القول بأنّ محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)والدهم؟»، ومن هذا المنطلق استدل ببعض القراءات غير المشهورة لإثبات مدعاه في تحريف الآية، حيث قال: «مصاحف أبي وابن مسعود والربيع وابن عباس ذكرت العبارة التالية في الآية السادسة: (النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو

ص: 421


1- للاطلاع أكثر، راجع: سورة آل عمران، الآية 144؛سورة النور، الآية 63؛سورة الحجرات، الآية 2؛سورة النجم، الآية 2؛ وآيات أخرى.
2- للاطلاع أكثر، راجع: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 237 - 257.
3- Powers, Ibid., p. 66

أب لهم وأزواجه أمهاتهم)»(1). وهذه العبارة برأيه تعدّ مرتكزا لإيجاد تقارن واضح بين النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وزوجاته، وقد تذرّع بالتقارن المزعوم -هنا- للبت بوضع الآية المذكورة من قبل المسلمين في ظاهرها المتعارف ضمن المصحف الموجود لديهم؛ وحاول تأييد رأيه مستندًا إلى إجابة ذكرها الفخر الرازي عن سؤال مفترض(2)ليؤكد مرّةً أخرى على مسألة التحريف وحذف عبارة (وهو أب لهم) من الآية.

ومن المواضيع الأخرى التي تبنّاها - أيضاً - أنّ المسلمين عجزوا عن تجاهل التناقض الصريح الموجود بين الآيتين 6 و 40 من سورة الأحزاب، لذلك تساءلوا هل من الممكن حقاً أن يقول الله -تعالى- في الآية 6 (وهو أب لهم) ، بينما في الآية 40 من السورة نفسها ينفي ذلك ويقول: و ؟!﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾؟!(3)ثمّ أوعز السبب في حذف عبارة (وهو أب لهم) من الآية 6 إلى إقحام عبارة (خاتم النبيين) في الآية 40 ، وبهذا تمكّن المسلمون من الحفاظ على المعنى العام للآية في رحاب التأكيد على عبارة: ﴿النَّبِيُّ أَولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾، إِذ لا ضرورة في هذه الحالة إلى قول (وهو أب لهم)، حيث تحفظ العلاقة بينه وبين المؤمنين، دون الحاجة إلى رابطة الأبوّة(4).

وهناك سؤال جادٌ يُطرح على هذا المسشترق بالنسبة إلى ما ذَكَر، وهو: أنّه يُقرّ بأنّ

ص: 422


1- Ibid.
2- أجاب الفخر الرازي عن سؤال مفترض بخصوص هذه الآية قائلاً: «﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِين مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، تَفْرِيرُ لِصِحَّةِ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّزَوجِ بِزَيْنَبَ وَكَأَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤالٍ؛ وَهُوَ أَنْ قَائِلًا لَوْ قَالَ: هَبْ أَنَّ الْأَدْعِيَاءَ لَيْسُوا بِأَبْنَاءِ كَمَا قُلْتَ، لَكِنْ مَنْ سَمَّاهُ غَيْرُهُ ابْنَا إِذَا كَانَ لِدَعِيْهِ شَيْءٍ حَسَنُ لَا يَلِيقُ بِمُرُوءَتِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَيَطْعَنَ فِيهِ عُرْفًا ؟ فَقَالَ اللهُ - تَعَالَى : ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ؛ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ: أَنَّ دَفْعَ الْحَاجَاتِ عَلَى مَرَاتِبَ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَجَانِبِ، ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ عَلَى حَوَاشِي النَّسَبِ، ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ النَّفْسِ ، وَالْأَوَّلُ عُرْفًا دُونَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ شَرْعًا؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةُ عَنْهُمْ وَلَا تَتَحَمَّلُهَا عَنِ الْأَجَانِبِ وَالثَّانِي دُونَ الثَّالِثِ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ بِدَلِيلِ النَّفَقَةِ، وَالثَّالِثُ دُونَ الرَّابِعِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ تُقَدِّمُ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ)... فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ(صلی الله علیه و آله و سلم)إذَا أَرَادَ شَيْئًا حَرُمَ عَلَى الْأُمَّةِ التَّعَرُّضُ إِلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ الْوَاضِحَةِ. ثُمَّ قَالَ - تعالى-: ﴿ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ تقريرُ آخَرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)مَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْأُمِّ إِلَّا لِقَطْعِ نَظَرِ الْأُمَّةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِامْرَأَةٍ شَارَكَتِ الزَّوْجَاتِ فِي التَّعَلُّقِ فَحَرُمَتْ مِثْلَ مَا حَرُمَتْ أَزْوَاجُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلُ كَيْفَ؟ قَالَ: ﴿وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾، وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّاتِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ غَيْرَ مَنْ وَلَدَتْ ﴿ لَا تَصِيرُ أُمَّا بِوَجْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ آخَرَ : إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُم». (للاطلاع أكثر، راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 25، ص 157 – 159).
3- Powers, Ibid., p. 67.
4- Ibid., p. 68.

قوله - تعالى -: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ يعني أولوية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)على سائر المؤمنين، لذا فما الداعي لإضافة عبارة (وهو أب لهم) ؟! هذه العبارة لم تكن موجودة في الآية من الأساس، ويؤيّد ذلك المعنى الشامل لأولوية النبيّ على المؤمنين الذي تم التأكيد عليه في الآية نفسها؛ لكنّه أصرّ على مسألة التحريف التي ادعى حدوثه في ما بعد، لذلك لم يذعن بأنّ العبارة المذكورة ليست قرآنيّةً في الحقيقة، بل اعتبرها جزءًا من الآية، لكنّها حذفت من قبل المسلمين؛ بهدف الترويج لعقيدة جديدة؛ إلا أنّ كلامه هذا ينتقض في ما لو أمعنّا النظر في مدلول قوله - تعالى -: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾، فهذه الأولوية أعلى مرتبةً من الأبوّة في واقع الحال.

ونستلهم من جملة آراء ديفيد باورز أنّ ما ذُكِرَ في التراث الإسلامي من أحداث مرتبطةٍ بهذه الآيات، مجرّد أباطيل ومزاعم كاذبة ومن هذا المنطلق سعى إلى استكشاف حقيقة الأمر وإثبات ادّعائه عبر دراساته التحليلية الخاصّة؛ وأهمّ ما طرحه في هذا الصدد هو عدم استساغته تفسير عبارة: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾؛ بكون النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو النبي الخاتم الذي لا نبي بعده، لذلك فسرها اعتمادًا على مصادر غير قرآنية وبالاستناد إلى ما تبنّاه يوحنان فريدمان، حيث استنتج أنّ الناس في عصر صدر الإسلام تعدّدت آراؤهم بالنسبة إلى مدلولها، فقد اعتبر بعضهم كلمة خاتم تدلّ على إتمام أو تصديق الوحي المنزل سابقًا على اليهود والنصارى من قِبَل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، في حين أنّ منهم من فسّرها بختم النبوّة به.

ويقوم الأسلوب الذي انتهجه هذا المستشرق على نزعة تجديديّة، لذا باعتقاده حتى وإن دلت عبارة (خاتم النبيين) على ختم النبوّة، فهذه الدلالة تدور في فلك الفكر الإسلاميّ -فقط- على الرغم من أنّها لم تكن مقبولةً في القرن الأوّل من الهجرة، كَمَا أنّ غاية ما تفيده المصادرالتفسيرية وغير التفسيرية الإسلامية هو احتمال فرضيّة ختم النبوّة بمحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ولا تؤكد على كون هذه الفرضية، قطعيّةً ومن المرتكزات الأولى والقديمة في التعاليم الإسلامية؛ لذا يبقى الشك على حاله بالنسبة إلى مصداقيتها(1). وفي هذا السياق حاول تبرير رأيه المقترح على ضوء

ص: 423


1- أعاد أوري روبين النظر في تفسير النصوص غير القرآنية التي ادعى يوحنان فريدمان وسائر الباحثين المحدثين إضافتها إلى النص القرآني، واستنتج أنّها لا تثبت كون عقيدة المسلمين في ختم النبوّة جاءت في فترةٍ متأخّرة عن ظهور الإسلام، بل تثبت العكس من ذلك؛ أي أنّها من المعتقدات الأولى في الإسلام، إذ لا يوجد دليل مقنع يمكن البت على أساسه أنّ المسلمين الأوائل فسّروا كلمة (خاتم) في عبارة (خاتم النبيين)؛ بمعنى التصديق - فقط- دون الخاتمية. Rubin, Ibid., pp. 65 - 96. وللباحث ولفرد ما دلنغ مقالة بعنوان القانون الاجتماعي في سورة الأحزاب Social legislation in Surat al - Ahzab) تطرق فيها إلى تحليل الشكوك التي أثارها يوحنان فريدمان حول المعنى المقصود من قوله - تعالى - : خاتم النبيين ، والنتيجة التي توصل إليها؛ فحواها أن غالبية المسلمين في عصر صدر الإسلام كانوا يعتقدون بدلالة هذه العبارة على كون النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وهو آخر نبي مرسل من قبل الله -تعالى-، وعلى كون الإسلام هو آخر دين سماوي؛ لذا فالمسلمون منذ تلك الآونة وحتى عصرنا الراهن يفسّرون العبارة بهذا المعنى. وفي كتابه "خلفاء الرسول في الخلافة الراشدة (The succession to Muhammad: a study of early Caliphate) أشار إلى الاستدلال الذي ساقه المفسّرون المسلمون لإثبات أن مشيئة الله تعلّقت بألا يخلف النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أحد من أقربائه، لذلك توفي ولداه وهما في سن الطفولة؛ ووصفه بأنه مجرد انغماس في تصوّرات وهمية ذكرت لتفسير قوله - تعالى - : خاتم النبيين ، إذ حتى وإن أريد من هذه العبارة ختم النبوّة بمحمّدٍ - والأمر ليس كذلك برأيه - فليس هناك مسوّع في تفسيرها بكونها تدلّ على عدم خلافته من قبل شخص ينحدر من أهل بيته باعتباره زعيمًا روحيًا أو دنيوياً للمسلمين لا باعتباره نبيًّا؛ ولو أنّ الله شاء من وراء قبض روح ولديه - وهما طفلان - إعلام الناس بأنه لا يحق لأحد من أهل بيته ،خلافته، فلِمَ لم يقبض أرواح أحفاده وسائر أقربائه أيضًا؟! ومما قاله في هذا المضمار أنّ خلافة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بحسب التعاليم القرآنية يتم تحديدها من قِبَل الله - تعالى - فقط؛ أي أنّه هو الذي يعيّن من سيخلفه وحسب السنة الإلهية التي تجسّدت في سيرة الأنبياء السابقين عادةً ما كان الله يختار أحد أقربائهم لاستخلافهم، وهذا المستخلف إما أن يصبح نبيًّا أو أنه لا يبعث مطلقًا. (Wilferd, Madelung, The Succession to Muhammad: a study of the early Caliphate. Cambridge University Press, (1997). P. 17; Also Cf. Idem., "Social Legislation in Surat al-Ahzab"). وبادر ديفيد باورز هو الآخر إلى تحليل الروايات المنقولة حول هذه الآية وقارنها مع الأسس المدراشية اليهودية على أساس مبدأ التعالق النقي - التناص - ضمن دراسة تأريخية ظاهراتية، ليستنتج من ذلك أنّها مجعولة بشكل ممنهج جرّاء اعتقاد المسلمين بخاتمية نبوّة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)والذي شاع في فترة متأخرة من ظهور الإسلام؛ وفي هذا السياق سلّط الضوء على قصّة زواجه من زينب بنت جحش طليقة زيد بن حارثة، وكيف إنّ القرآن فنّد العرف السائد - آنذاك - والقاضي بحرمة الزواج من طليقة الابن بالتبنّي؛ معتبرًا أنّ هذا الإلغاء للحكم ليس حدثًا تأريخيا أو حقيقيًّا، وإنما هو عبارة عن قصّةٍ مقدسة تمّ تدوينها وفق أسس مستوحاة من العهدين وما سبقهما من نصوص، ومما قاله في هذا الصدد: تمّ تأليف هذه القصّة كي لا يحدث تناقض في نظرية الخاتمية». (Powers, Ibid., p. 31). وقال -أيضًا-: «زيد هو الابن المتبنّى من قِبَل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان وجوده سببًا لحدوث تناقض في مسألة الخاتمية، لذا اقتضت الضرورة الترويج الروايات حول موته في إحدى الحروب كفدائي لمحمد». (Ibid). وشكك باورز في هذه الروايات ونقضها من أساسها، وادعى أن الأحداث التي رويت بخصوص سيرة زيد في المصادر الإسلامية مجعولة، فهذه الأحداث برأيه صيغت ضمن روايات لتأصيل فكرة خاتميّة النبوّة بمحمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث نقل رواتها أنّه تبنّاه في سنة 605م ثم استشهد سنة 629م كي تثبت مسألة الخاتميّة بالكامل؛ وأما زواجه من زينب فهي مجرّد أسطورة صاغها هؤلاء في رحاب سرد قصصيّ يمهد الأجواء للنص القرآني بأن تقحم فيه عبارةً تفيد عدم بنوة زيد له. (Cf. Ibid., pp. 32-37). وهذه المهمة - برأيه - كانت بحاجةٍ إلى جهود قصاصين ورواة ومؤرّخين ومفسّرين يتأمرون في ما بينهم لصياغة قصّة موحدة تساعد على إنجازها، وفي هذا السياق أكد على صعوبة إثبات فرضيّات مزعومة ووهميّة ولا سيّما أنّ رؤية المسلمين بالنسبة إلى خصائص النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)تغيّرت؛ لذا سعى هؤلاء إلى ابتداع روايات؛ كي يوحدوا بين مفهوم الآيات القرآنية والتغيير الفكري الذي حصل في المجتمع الإسلامي، لذلك حرّفوا المعنى الأصيل لها وعتموا عليه. وقد قرّر استدلاله بالتالي نبذ زيدٍ من قبل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ثم استشهاده في موقعة مؤتة؛ هي استشهاده في موقعة مؤتة؛ هي قصّةٌ صيغت وفق مقتضيات عقدية، إذ الهدف منها هو تمهيد الأرضية المناسبة لترويج فكرة خاتميّة النبؤة بمحمّد؛ لذا ابتدع المسلمون أخبارًا تاريخيةً بغية تحقيق هذا الهدف، وألغوا المقررات القانونية والشرعيّة أو أنهم أجروا تغييراتٍ عليها؛ ما يعني أنّهم حرّفوا النص الأوّل للقرآن. (Cf. Ibid. pp. 37-40). وأضاف بعد ذلك: أنّ المسلمين في عصر صدر الإسلام صاغوا قصّة زيد بن حارثة بأسلوب يضمن لهم الترويج لمسألة خاتمية النبوة، وأحد عناصر هذه القصّة أنّ النبي تزوّج بكنّته زينب بنت جحش وابتداع هذه القصّة على غرار ابتداع مسألة (الكلالة) المشار إليها في الآية 12 من سورة النساء، فهذه المسألة في الإرث لم تكن موجودةً في حياة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بل الكلمة المذكورة دخلت في اللغة العربية بعد سنوات من وفاته والدافع من وراء مثل هذه الجهود الحثيثة؛ هو الترويج لفكرة أنّ الإسلام أفضل من اليهوديّة والمسيحيّة، وذروة هذا الأمر تجسّدت في ادّعاء ختم النبوّة بمحمّدٍ. وعبارة (خاتم النبيين) فهمت بهذا الشكل ضمن مراحل تدريجيّةٍ، إذ مسلمو عصر صدر الإسلام أرادوا تأصيل فكرة ختم النبوة وانتهائها بنبيهم، لذلك اضطروا لأن يرسخوا مسألة عدم وجود ولدٍ من صلبه في أذهان المسلمين. .(Cf. Ibid., Passim) وتوصل هذا المستشرق إلى النتيجة المشار إليها، على ضوء ظاهر عددٍ من الروايات وبعض التفاسير الإسلامية التي أكدت على وجوب نبوّة ابن كل نبي، فضلا عن تأثره بشكوكية جون وانسبرو؛ ونشير هنا إلى أنّ شرح مضامين هذه الروايات وتحليلها لا يندرج ضمن موضوع بحثنا لذا فمن أراد الاطلاع عليها بإمكانه مراجعة البحوث العلمية التي تمّ تدوينها بشكل دقيق وواضح بهذا الخصوص والتي تطرق مؤلّفوها إلى نقد استنتاجات باورز وتفنيدها ضمن بيان المدلول الصحيح لمحتواها ومن ضمنها مقالة أوري روبين التي أشرنا إليها آنفاً "The Seal ."of the Prophets وجدير بالذكر أنّنا تطرقنا إلى نقد بعض هذه الروايات التي استند إليها يوحنان فريدمان في الهوامش السابقه،ولكن هناك مسألة لا نرى بأسا من الإشارة إليها هنا - بخصوص الاستنتاجات الغريبة التي توصل إليها ديفيد باورز على ضوء ادعائه . الروايات وسرد القصص الأسطورية بالنسبة إلى الحدث التأريخي المتمثل بزواج النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بمطلقة زيد؛ وهي أن البنوّة بجميع صورها سواءً أكانت من الصلب أم بالتبنّي كانت تشكل تهديدًا لنظرية خاتميّة النبوّة، حيث قال إنّ هذه العلاقة الأسرية كانت ذاتَ أهمية بالغة في عصر صدر الإسلام لدرجة أن بنوّة زيدٍ لو بقيت على حالها لانتقضت نظرية الخاتمية التي استحدثها المسلمون؛ وذلك لأنّه كان سيرث النبوة قطعًا. وهذا الكلام باطل في الحقيقة وأحد الأدلّة على بطلانه أنّ التوراة أشارت إلى توارث النبوة، لكن بشرط أن يكون الوريث أهلا لذلك، لذا ورثها بعض أبناء الأنبياء السابقين على أساس استحقاقهم لها، وفي هذا السياق أشار النص القرآني إلى طلب النبي إبراهيم(علیه السّلام)بأن تكون الإمامة في ذرّيته، لكنّ الله -تعالى- أجابه بأنّ الظالمين منهم لا يستحقونها، وذلك في الآية 124 من سورة البقرة: ﴿وَإذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾. أضف إلى ذلك فالآية 124 من سورة الأنعام هي الأخرى تؤكّد على ذات الأمر، حيث قال - تعالى -: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾. إذًا، الله - عزّ وجلّ يختار أنبياءه في كلّ أن ومكانٍ على أساس حكمته البالغة وعلمه المطلق، فأينما ومتى ما اقتضت الضرورة بعثة نبي تتعلّق مشيئته بذلك؛ لأنّه العالم المطلق بكلّ شيءٍ ويعرف كيف يختار نبيًّا من ذرية النبي الذي أرسل قبله؛ لذا لا صوابية لادعاء من زعم وجود ارتباط وطيد بين امتلاك النبي ولدًا ومسألة خاتميّة النبوّة، فهذا التصوّر مجرّد وهم وخيال لا موضوعية له بتاتا كما أقرت أن الشريعة الإسلامية منهجًا جديدًا وبرنامجا فريدا من نوعه، فهي بدل أن تؤكّد على العلاقات الأسرية، منحت الأولوية للمسؤولية الشخصيّة، وهذا الأمر بحدّ ذاته جعل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يواجه مشاكل كبيرةً أمام مجتمعه العربي، حيث تجاهل في رسالته علاقاته الأسرية في ضوء تأكيده على الكفاءة الذاتية للإنسان. وأشارت الآية 18 من سورة المائدة إلى العقيدة السائدة بين اليهود والنصارى بخصوص العلاقة بين الأب والابن وسخرت منها، ثمّ تحدّثت الآية 19 عن بعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و وصفتها بأنها جاءت بعد فترةٍ زمنيةٍ لم يُبعث فيها رسول؛ والآيتان هما: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. ولا شكّ في أنّنا إن أردنا معرفة واقع العقيدة التي كانت شائعةً بين مسلمي عصر صدر الإسلام؛ بخصوص العلاقة بين الأب والابن من جميع نواحيها وبما فيها الميراث؛ فلا بد لنا من مراجعة النص القرآني، فالأمة المثاليّة التي دعا كتاب الله إلى إرساء دعائمها لا تقوم على هذه العلاقة بل مرتكزها تجاوز كل علاقة أسرية ومنح الأولوية للكفاءة والاستحقاق الذاتي فحسب. (Walid A. Saleh, "Review Article: Muhammad is not the Father of your Men: The Making of the Last Prophet, By David S. Powers. University of Pennsylvania Press, 2009, Comparative Islamic Studies 6. 1 - 2 (2010), p. 253). وكلام الباحث وليد صالح المذكور آنفا، هو عين الصواب وممّا قاله أيضًا: «الفكر التجديدي يقوم على تلاعب بالألفاظ؛ بحيث لا يمكن النقاش فيه، وأصحاب هذا الفكر اعتبروا الروايات مجعولاً ويراد منها تصوير فكرة الأمة الناجية، لذا يحاولون تفنيدها بأسلوب ممنهج وتدريجي وكلّ ما يفعله ديفيد باورز وسائر أصحاب الفكر التجديدي هو في الواقع تخريب لا غير». (Ibid. 270). وحينما نمعن النظر في الدراسات التي دوّنها ،باورز نجدها بكل تفاصيلها تتمحور حول فكرة ارتكاز الدين الجديد - الإسلام - على النهج اليهودي، فقد قال مؤكدًا على اعتقاده هذا كلّ حكم شرعي نلمس فيه تحريماً بخصوص القرابة والعلاقات الأسرية في الكتاب المقدس نجد حكمًا مشابها له في الإسلام». (Powers, Ibid., p. 45). وعلى ضوء فكرة التشابه التي أشار إليها راح يبحث ويتحرى عن العلائق التأريخية المفترضة بين القرآن والكتاب المقدس، إلا أن أسلوبه هذا ليس تأريخيا في حقيقته، بل هو متعارض مع الأسس التأريخية الإسلامية، حيث صوّر التأريخ الإسلامي وكأنه مجرد أساطير متداخلة في ما بينها قوامها المبادئ المدراشية اليهودية والباحث وليد صالح نقض استنتاجاته التأريخية قائلًا: «... لا نجد في دراسات ديفيد باورز أي كلام عن حروب الردّة، ولو كان المسلمون حقًّا بحاجة إلى ابتداع فكرة خاتميّة النبوة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،لفعلوا ذلك منذ بادئ الأمر - أي بعد وفاته مباشرةً - لأنّهم كانوا بأمس الحاجة إلى ترويجها حينذاك؛ بينما نلاحظ أنّ مسيلمة الكذاب ادعى النبوة وقتها؛ ما يعني أن خاتمية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في التأريخ الإسلامي كانت مطروحةً منذ لحظة وفاته». (Saleh, p. 270). وقال أيضًا: «باورز يصوّر لنا الإسلام؛ وكأنه مجرد منهج ديني على ارتباط بالمنهج الديني اليهودي، في حين أن الصراعات التي حدثت بخصوص خلافة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)والحروب التي خاضها المسلمون، هي التي جسدت واقع الإسلام لا الأدب المدراشي اليهودي الذي اعتبره هذا المستشرق بأنه المرتكز الأساس والمرجع المعتمد في عصر صدر الإسلام». (Ibid). وكذلك قال: «الرؤية القرآنية القائمة على مسألة خاتمية النبوّة، لا ارتباط لها بالعلاقات الأسرية، لذا فإن كلام باورز ليس سوى زعم واہ وافتراض ملفّق قائم على تجاهل تام للتأريخ الإسلامي، فرأيه ساذج للغاية بحيث لا يمكن الاعتماد عليه بشكل جاد ولربما تأثر إلى حد كبير بكتاب جون ليونسن (موت الابن المحبوب و بعثه تحوّل فداء الأبناء في اليهودية والمسيحيّة) الذي بلغ الذروة في تحليل نص الكتاب المقدس بأسلوب أدبي». (Ibid. p. 271). ثم وصف تأثر باورز بالكتاب المذكور بقوله: «لقد حاول تطبيق نهج هذا الكتاب في الإسلام أيضاً، لكنّ الإسلام في الواقع ليس يهوديةً ولا مسيحيّةً وأسطورة فداء الأب ابنه لا تعدّ مرتكزاً أساسياً في النص القرآني. الحصيلة النهائية التي توصل إليها هذا المستشرق على ضوء تحليله القائم على فكرة التناص الموجود في السّياق الأدبي لقصّة زيد، نجد فيها كلّ شيءٍ لكنّها في حقيقتها ليست بشيءٍ يذكر حيث صوّر زيدًا بأوجه عديدة، وهذا الأمر بحد ذاته يعد دليلا على أنّنا في مواجهة شخصية تأريخية فريدة من نوعها بحيث لا يمكن تحليلها وفق ما يعجبنا من أساليب أدبيّة؛ فزيد هو زيد، إنّه شخصيَّةٌ تأريخية وهو الصحابي الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم». (Ibid). وأضاف منتقدًا أسلوب هذا المستشرق: «إنّ فكاهة باورز صِيغَت بشكل متقن بحيث تجعل القارئ يستمتع بها، حيث نلمس فيها أن الفكر التجديدي عبارةٌ عن التهام لشخصية الإنسان، فعلى أساسها يجب تهميش جميع الأدلة والشواهد بشكل متسارع، دون أن يشعر الباحث بذلك، لكنه مع ذلك يدعي أنه يخوض في غمار البحث عن أدلّةٍ وشواهد تثبت صوابية رأيه! ادعى هذا المستشرق بطلان الآية الوحيدة التي ذُكِرَ فيها اسم أحد صحابة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)باعتبار أنّها مجعولة، وبهذا الزعم فنّد رؤيته التجديدية. وتجدر الإشارة هنا - إلى وجود أخبار تأريخية بخصوص شخصية زيد؛ بحيث تعد كافيةً بالنسبة إلى ضرورة ذكر ما هو لازم بالنسبة إلى شخصية أحد صحابة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، لكن من المؤسف أننا لا نعلم بذلك وقد ابتلينا بالشواهد الخارجية، ولا نعرف كيف نتعامل مع التعالق النصّي». (Ibid. p. 272). ونختتم الكلام بما قاله بخصوص النص المقدس وكيفية تفسيره المسألة الأخرى بالنسبة إلى النص المقدّس وتفسيره؛ هي أن أصحاب الفكر التجديدي يعتقدون بفكرة؛ فحواها أنّ القرآن لو ذكر شيئا والمسلمون فعلوا غيره، فلا بدّ من افتراض أنّ النصّ القرآني لم يكن موجودًا إبان فعلهم هذا. هناك مسألة يجب- يجب الإشارة إليها في هذا المضمار وهي أنّ النص المقدّس حينما يعلن أمرًا، فمن السهولة بمكان تفسيره بشكل مختلف عن مضمونه الحقيقي، والقول بأن النصّ المقدّس واضحُ يُعد مغالطةً؛ وحتى إن كان الأمر واضحًا فالنصّ المقدس ليس كذلك، بل هو بحاجة إلى مرجع تفسيري يثبت محتواه». (Cf. Ibid. pp. 274).

ص: 424

ص: 425

ص: 426

ما تبناه أسلافه المستشرقون في المنتصف الأوّل من القرن العشرين(1)، ويمكن تلخيص فكرته في استدلالين؛ هما:

الاستدلال الأوّل: عبارة (خاتم النبيين) لا تُوحي بمفهوم ختم النبوّة، ولا توجد قرائن في النصّ القرآني تصرّح بأنّ رسالات السماء قد خُتمت بالنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وهذه العبارة يُقصد منها التصديق أو الإتمام، ولم يضف إليها معنى ختم النبوّة إلى جانب هذين المعنيين؛ إلا في نهاية القرن الأوّل من الهجرة(2).

الاستدلال الثاني: الآية 40 من سورة الأحزاب شهدت حذفًا وإضافةً؛ بهدف الترويج لعقيدة ختم النبوة بمحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ضمن النص القرآني(3).

وانتقد الباحث وليد صالح مسألة التجديد في الدراسات الإسلامية بأسلوب صائب، حيث اعتبره مجرد لقلقة لسانٍ ولا يقوم على أسلوبِ تحليلي منسجم أو شواهد مقعنة؛ فالتجديد برأيه عبارة عن مسألة فكرية ليس من شأنها بيان الحقائق التأريخية كما هو متصوّر؛ والمستشرق ديفيد باورز استهل مباحثه النظرية بخصوص الموضوع بادعاء أنّ الأحداث والوقائع ليست؛ كما تصوّرها لنا الدراسات التقليديّة، ثمّ تطرّق إلى تفسير النص القرآني على أساس فرضيّة الممكن أو المستحيل على الرغم من أنّ هذه الفرضية لا تعد مقعنةً بحدّ ذاتها؛ بحيث تُقبَل لمجرّد أنّها تفترض أمورًا أخرى تختلف عما هو موجود في المصادر التقليدية؛ وبطبيعة الحال فهي تُقبل من البعض؛ لكونها تتعارض مع ما ذكره القدماء فحسب، وعلى

ص: 427


1- Cf. Powers, Ibid., pp. 67 - 70.
2- سلّط المستشرق جيرالد هو تينغ الضوء على كتاب ديفيد باورز، وذهب إلى أبعد من ذلك؛ بحيث ادعى أن هذه العقيدة نشأت واتسع نطاقها بعد القرن الثالث للهجرة. (Gerald Hawting, “Muhammad Is Not the Father of Any of Your Men: The Making of the Last Prophet, 116 - 119; doi:10. 1163/ 156851910X538396) (www.researchgate.net/publication/259889147_Muammad_Is_Not_the Cf. https://www.goodreads.com/book/show/1170492). وفي سياق هذا الادعاء اعتبر الآيات الآيات 36 إلى 40 من سورة الأحزاب مضافةً إلى النص القرآني؛ أي أنّها تحريف قرآني؛ لكنه لم يذكر دليلا على ذلك، وإثبات رأيه هذا أمر صعب للغاية بكل تأكيد. (Cf. Madelung, "Social Legislation in Surat al-Ahzab"; https://ismailimail.wordpress.com/201406/04//professor-wilferd-madelung-social-legislation-in-surat-al-ahzab, passim.).
3- Powers, p. 70.

هذا الأساس نلاحظ أنّ جميع الآراء التجديدية عادةً ما تُطرح بصفتها أرجح على غيرها(1).

إن أمعنا النظر في سياق الآية وما يكتنفها من قرائن سابقة ولاحقة إلى جانب متابعة معاني ألفاظها وعباراتها في المصادر اللغوية، نتوصل إلى نتيجة فحواها بطلان ما ذكره هؤلاء المستشرقون؛ لأنّهم تجاهلوا المسائل التالية(2):

أ. المؤمنون هم الذين وجّه إليهم الخطاب في قوله - تعالى -: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ رُ أَيَا أَ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ ؛ والدليل على ذلك: ضمير الجمع المخاطب (كم). وهناك مسألتان يجب أن يأخذهما الباحث بعين الاعتبار بالنسبة إلى مدلول هذه العبارة القرآنية نذكرهما بالتفصيل:

- هذه العبارة تفيد معنى استعاريًا لا حقيقيًّا، فهي ليست بصدد بيان ما إن كان للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وَلَدٌ أو لا من الناحية البيولوجيّة، بل يُراد منها الأبوّة المعنوية أو الحقوقية؛ والدليل على ذلك: عبارات وتلميحات عدّة موجودة في السورة ذاتها تحكي عن واقع علاقته وعلاقة زوجاته بالمؤمنين؛ فهذه القرائن تدعم المدلول الاستعاري للعبارة. والآية 6 - على سبيل المثال - استُهلّت بعبارة: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾؛ وهي صريحة في دلالتها على أولويته عليهم، ثم تلتها عبارة: ﴿وأزوجه أمههم﴾؛ التي تدلّ في ظاهرها على أن زوجاته يعتبرن أمهات للمؤمنين؛ لذا فهي تحكي عن حكم شرعي مختص بالنبيّ؛ ألا وهو حرمة الزواج بهنّ، فكما أنّ احترام الإنسان أمه واجب ولا يحق له بتانا الزواج بها، لا بدّ من تسرية هذا الأمر عليهنّ أيضًا.

إذَا، تمّ تشبيه زوجات النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بالأمهات؛ للتأكيد - فقط - على وجوب احترامهنّ وحرمة الزواج بهنّ، لذا ليست لهذا الحكم تفريعات مثل: الأحكام المترتبة على حرمة الزواج من الأم بالولادة؛ أي يمكن للمؤمنين الزواج بأخوات زوجات النبي مثلا، بينما لا يمكنه أن يتزوج بأخت أمّه (خالته). وجدير بالذكر أن مسألة الظهار التي أشير إليها في الآية 4 ضمن عبارة: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ الَّتِى تُظهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَتِكُمْ﴾ تؤيّد هذ الحكم الشرعي، فهذه العبارة تفيد حكمًا شرعيًّا يفنّد كلّ ما يترتب على الظهار، وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة (أمّ) في هذا السياق عبارةٌ عن اصطلاح حقوقي وتحكي عن إحدى العلاقات بين البشر؛ وقد وُصفت زوجات النبي

ص: 428


1- Saleh, Ibid., passim.
2- هذا المبحث مقتبس من المقالة التالية لأوري روبين: Rubin, Ibid., pp. 65 - 96

بأنّهنّ أمّهاتٌ للمؤمنين؛ للتأكيد على حرمة إقامة علاقة زوجيّة معهنّ؛ كما ذكرنا، وتكرّر هذا التأكيد في الآية 53 من السورة نفسها: ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُواْ أَزْوَجَهُ، مِنْ بَعْدِهِ﴾.

ونستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ مفهوم (أمهات المؤمنين) لا يُراد منه المعنى العرفي للأمومة، بل هو مفهوم ذو دلالةٍ خاصّةٍ يُراد منه الأمومة المعنويّة التي يترتب عليها وجوب الاحترام وحرمة الزواج فقط، ومن هذا المنطلق يثبت لنا أنّ الآية 6 تحكي عن اختلاف واضح بين النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وزوجاته، فقد وصفتهنّ بأمهات المؤمنين، وهذا الوصف جعل عليهنّ قيدًا هو حرمة زواجهن بهم؛ بينما النبي لم يوصف بكونه أبًا لهم، وبالتالي لم تُفرض عليه قيود من هذه الناحية؛ مثل: حرمة زواجه بزوجاتهم بعد موتهم أو عند انفصالهم عنهنّ، وهذا الحكم التلويحي صُرِّح به في الآية 40 ضمن قوله - تعالى -: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾؛ ما يعني أن القيود التي فُرِضَت عليكم إزاء زوجاته لم تُفرضَ عليه إزاء زوجاتكم.

وكما أشرنا - آنفًا - فالأمومة المشار إليها في الآية لا تترتب عليها تلك الأحكام الشرعية التي تترتّب على الأمومة العرفية مثل: الإرث، وحرمة الزواج من أخواتهن، فالحكم الشرعي -هنا- يتلخص في حرمة الزواج بهنّ فقط.

إن الإنسان يولد من رحم أمه، لذا فالأمومة العرفية لا تنشأ من الألفاظ، بل هي أمرُ عضوي؛ بينما الأم أو الأب المعنويان لهما حقٌّ معنوي في رقبة الابن والنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)هو الأب المعنوي للأمة الإسلاميّة؛ لذا يجب احترامه كاحترام الأب زوجاته كاحترام الأم، وأحد جوانب هذا الاحترام هو عدم جواز الزواج بهنّ.

لا شكّ في أنّ حرمة الاقتران بزوجات النبي تترتب عليها أمور عدة؛ من جملتها قطع الطريق على المتصيّدين في الماء العكر الذين قد يسعون من وراء ذلك إلى تحقيق مآرب سياسيّة وغير سياسيّة.

وأشارت الآية 6 - أيضًا - إلى أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذه الأولوية عامةً ومطلقةً تشمل جميع الشؤون الخاصة بهم؛ فهو أولى منهم في هذا المجال؛ بعد ذلك أشارت إلى أولوية أخرى بخصوص علاقات القرابة: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾، حيث

ص: 429

تدلّ على أنّ الأولويّة في منح الإرث تكون للأرحام؛ وعلى هذا الأساس نستنتج من قوله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم﴾ وقوله - تعالى -: ﴿ وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَتُهُمْ﴾ أنه ليس أبا عرفيًا - حقوقيًا - للمؤمنين، بل هو أبٌ معنوي.

والتأريخ يشهد بأنّ الإسلام حارب الأعراف والتقاليد الجاهليّة؛ والتي من جملتها حرمة زواج الرجل من مطلقة ابنه بالتبنّي، ففي تلك الآونة كانت أحكام الابن العرقي تسري بالكامل على الابن الذي يتبنّاه الإنسان، إلا أنّ هذا الأمر تمّ إبطاله في سورة الأحزاب؛ لتؤكّد على أنّ الابن الحقوقي هو الذي يُولد من صلب الإنسان، بينما الابن الذي يتبناه الإنسان أو يربّيه لا يمتلك هذه الحقوق فالأبوّة العرفيّة تجسّد واقعًا طبيعًا وعضويًّا، فهى ليست أمرًا معنويًّا ومتفقًا عليه : ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ الَّتِي تُظهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَبِيلَ(4)ادْعُوهُمْ لِآبَابِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(5)﴾(1).

ولأجل مقارعة الطباع الجاهلية ورفع الحرج عن المؤمنين؛ بالنسبة إلى مسألة الزواج من مطلقة الابن بالتبنّي، أمر الله - تعالى - نبيه بأن يتزوّج من زينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة الذي كان ابنه بالتبنّي: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَجِ أَدْعِيَابِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾(2). ولما تزوّج النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)زينب بنت جحش تعرّض لانتقادات لاذعة من قِبَل المنافقين والسذج؛ وهذا أمرٌ طبيعيّ؛ نظراً للعرف السائد آنذاك؛ لذلك شجّعه الله - تعالى- وأمره بألّا يخشى الناس وألّا يذعن لضغوطاتهم، بل عليه أن يخشى الله -تعالى- ويتوكل عليه؛ لأنه مسؤول عن تبليغ رسالته إلى البشر: ﴿الَّذِينَ يُبْلِغُونَ رِسَلَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخشَونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهُ وَكَفَى بِاللَّهِ ا حَسِيبًا﴾(3).ولا شك في أنّ النبي لم يكن يخشى أحدًا سوى الله عزّ وجلّ، لكنه كان يخشى من خروج بعض المسلمين عن دينهم في ما لو تزوّج بزينب(4).

ص: 430


1- سورة الأحزاب، الآيتان 4 - 5.
2- سورة الأحزاب، الآية 37.
3- سورة الأحزاب، الآية 39.
4- Also Cf. Ibid., pp. 67-69.

- عبارة ﴿مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ هي الأخرى يمكن الاستناد إليها لإثبات أنّ الآية ليست في صدد بيان ما إن كان للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ولد أو لا، إذ لم يستخدم القرآن التركيب اللغوي (من رجال)؛ فالتركيب المذكور في الآية يعمّ جميع الرجال الذين وُجّهَ الخطاب إليهم ولا يراد منه الرجال الذين هم من أقربائه.

وهناك ارتباط بين هذا التركيب اللغوي ومضمون الآية 37 التي تحدثت عن زواجه بزينب بنت جحش والشائعات التي انتشرت - آنذاك - ؛ بخصوص ما إن كان هذا الزواج شرعيًّا أو لا، لذا جاء الأمر الإلهيّ له بألّا يخشى ما يقوله الناس، بل لا بد من أن يخشى الله -تعالى- فقط: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخشَهُ ؛ ثمّ ختمت الآية بالتأكيد على أنه تزوج بها ضمن عقد نكاح مشروع: ﴿زَوَحْنَكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَجِ أَدْعِيَابِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً﴾.

إذَا، الآية تذكر بصريح العبارة أنّ زيدًا كان ابنا بالتبنّي لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،وزينب - زوجة زيد- لا تعتبر كنّةً عرفيةً له، لذا ليس هناك أي محذورٍ من زواجه بها بعد طلاقها؛ وهذا الموضوع تم التأكيد عليه - أيضًا - في الآية 4 من السورة نفسها: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾، وعلى هذا الأساس جاء الخطاب في الآية الخامسة بضرورة نسبة الأبناء إلى آبائهم الذين ولدوا من صلبهم: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَابِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ﴾.

ونستنتج من جملة ما ذُكر أن عبارة: ﴿مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ في قوله -تعالى-: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ تشير بشكل خاص إلى زيد بن حارثة، ويراد منها إثبات عدم وجود أيّ ارتباط شرعي؛ من حيث البنوّة بينه وبين النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛حتى وإن كان قد تبناه، كذلك يُراد منها نفي أبوّته المطلقة للمؤمنين؛ وعلى هذا الأساس لا يحرم على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أن یقتران بزوجته المطلقة أو أخته أو ابنته. وخلاصة الكلام أنّ اقترانه بزينب قانوني وشرعي بالكامل.

والآية 52 من السورة ذاتها حرّمت على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يقترن بزوجة أخرى، حيث قال

-تعالى-: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَج وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾.

إذًا، فحوى الآية 40 هو شرعيّة زواج النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بنزينب بنت جحش طليقة ابنه بالتبنّي زيد

ص: 431

بن حارثة، حيث أكدت على أنه ليس أبا أحدٍ من رجالهم؛ أي ليست لديه أي علاقة بنوّة معهم؛ وهذا يعني أنّها لا تتحدّث عن وضعه الشخصي والأسري ودوره؛ باعتباره أبا حقيقيًّا، وبالتالي لا يمكن الاستدلال بها لادّعاء أنّها تشير إلى عدم إنجابه ولدًا، فهي ليست في مقام بيان ما إنْ كان ذا ولد أو لا، وإنّما تؤكّد على قانونيّة زواجه المذكور؛ وهذا الأمر على غرار وصف زوجاته بأنّهنّ أمهات المؤمنين؛ أي لا يمكن الاستدلال من هذا الوصف على أنّهنّ أمّهات بالمعنى العرفي للكلمة، لذا فإنّ نفي أبوّته صلوات الله عليه وآله لا يُراد منه نفي وجود ولد له ولا يقصد منه أنّه يتوفى دون أن يُرزق بولد.

هذه الآية بحسب ظاهر ألفاظها كانت مفهومةً بوضوح لدى الناس آنذاك، حيث أنزلها الله عزّ وجلّ - دفاعًا عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،وردعًا للنقد الموجّه إليه جرّاء ما حدث، ولإزالة الشبهة التي حصلت بعد وصف زوجاته بأنّهنّ أمّهات المؤمنين؛ لذا يمكن تفسيرها بالتالي: «الحكم الشرعي الذي فحواه أنّ زوجات النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أمهات للمؤمنين لا يعتبر دليلًا على وجود حكم شرعيّ آخر فحواه أنّه -أيضًا- والدِّ لهم، لذا فالآية تنفي حكمًا تشريعيًا لا تكوينيَّا»(1).

ب. قوله -تعالى-: ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾ جاء تعقيبًا على العبارة الأولى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾؛ أي إنّه توضيح أريد منه بيان أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في مستوى الأنبياء، وليس كسائر المؤمنين، وهذه الآية لها ارتباط مباشر بالآيتين 38 و 39 اللتين أشارتا إلى قضية زيد، حيث تعد فصل الخطاب في الموضوع؛ ونص الآيتين المذكورتين هو: ﴿ما كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٌ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَلَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخشَونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهُ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾. حيث يريد الله -عزّ وجلّ- هنا تبرئة رسوله من كلّ نقص وعيب وإزالة الحرج عنه، والتأكيد على أن زواجه من زينب طليقة زيدٍ كان شرعيًّا بالكامل وجاء بأمرٍ منه -تعالى-، فهو سنّةً دينيةً لا غبار عليها.

ومحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)نبي مرسل إلى الناس من قبل الله عزّ وجلّ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، لذا

تتّصف نبوّته بالدوام والاستمرار حتى النهاية، حيث حمل رسالة الله إلى البشر، ونال مقام

ص: 432


1- أكبر هاشمي رفسنجاني، تفسير رهنما (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات المكتب الإعلامي الإسلامي في الحوزة العلمية، الطبعة الخامسة، 2007م، ج 14، ص 393

النبوّة لينقل أخبار الغيب وأحكام الشريعة إليهم؛ وجميع أفعاله رسالية ولا تصدر من تلقاء نفسه، وبما فيها زواجه من زينب بنت جحش؛ وهذه السنة كانت جاريةً - أيضًا - بين الأنبياء والرسل السابقين؛ لأنّهم لم يتوانوا أبدًا عن تنفيذ أوامر السماء، ولم يخشوا إلا الله -سبحانه وتعالى- ؛ لذا فالمراد من قوله - تعالى -: ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾ هو المراد ذاته من قوله -تعالى-: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾؛ إذ يراد منها الدفاع عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أمام التهم التي وجّهها إليه المنافقون والمشركون بعد زواجه من طليقة زيد بن حارثة والمقصود هنا -كما ذكرنا آنفًا- ليس نفي البنوّة عنه من الأساس(1)، بل يُقصد منها جواز زواجه من النساء المطلقات؛ ومن جملتهنّ زينب بنت جحش .

وفسّر الفخر الرازي الآية بقوله: «لما بيّن الله ما في تزوّج النبي(علیه السّلام)بزينب من الفوائد، بيّن أنّه كان خاليًا من وجوه المفاسد، وذلك لأنّ ما كان يتوهّم من المفسدة كان منحصرا في التزوّج بزوجة الابن، فإنّه غير جائز؛ فقال الله - تعالى - أنّ زيدًا لم يكن ابنا له، لا بل أحد الرجال لم يكن ابن محمّدٍ ؛ فإنْ قال قائل النبي كان أبا أحد من الرجال لأنّ الرجل اسم الذكر من أولاد آدم، قال - تعالى -: ﴿ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾[النساء 176]، والصبي داخل فيه، فنقول الجواب عنه من وجهين؛ أحدهما: أنّ الرجل في الاستعمال يدخل في مفهومه الكبر والبلوغ، ولم يكن للنبي(علیه السّلام)ابن كبير يقال إنه رجل، والثاني هو أنه -تعالى- قال: ﴿مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ ووقت الخطاب لم يكن له ولد ذكرٌ. ثمّ إنّه - تعالى - لما نفى كونه أبًا، عقبه بما يدلّ على ثبوت ما هو في حكم الأبوّة من بعض الوجوه، فقال: ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾؛ فإنّ رسول الله؛ كالأب للأمة في الشفقة من جانبه، وفي التعظيم من طرفهم، بل أقوى، فإنّ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم والأب ليس كذلك ثمّ بيّن ما يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم، بقوله (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)؛ وذلك لأنّ النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئًا من النصيحة والبيان، يستدركه من يأتي بعده؛ وأمّا مَنْ لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى، إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد(2).

ص: 433


1- هذه العبارة لا ترتبط من الأساس بمسألة عدم إنجاب ولد للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ولا يمكن اتخاذها ذريعةً لتبرير عدم حصول ذلك، وقد أخطأ المفسّرون المسلمون حينما أقحموا هذا الأمر في تفسير الآية، ولا موضوعية لإصرارهم على وفاته؛ وليس له ولد ضمن بيان مدلولها؛ حيث حاولوا من وراء تفسيرهم هذا تبرير خاتميّة النبوّة به.
2- محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 25، ص 171.

وأما ابن عاشور فقد فسرها قائلًا: «﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب ،40]، اسْتِثْنَافُ لِلتَّصْرِيحِ بِإِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَمَا يُلْقِيهِ الْيَهُودُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الشَّلَّ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الْأَحْزَابِ: 4]، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ قَطْعُ تَوَهُم أَن يكون للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وَلَدٌ مِنَ الرِّجَالِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَام البنوّة؛ حَتَّى لَا يَتَطَرَّقَ الْإِرْجَافُ وَالِاخْتِلَاقُ إِلَى مَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ أَصْحَابِهِ مِثْلَ: أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ... وَالْمَنْفِيُّ هُوَ وَصْفُ الْأُبُوَّةِ الْمُبَاشِرَةِ؛ لِأَنَّهَا الْغَرَضُ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، وَالَّذِي وَهِمَ فِيهِ مَنْ وَهِمَ، والذي رَحِمَ فيه من رَحِمَ فلا التفات إلى كونه جدا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود... وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ نَفْيُ أُبُوَّتِهِ لَهُمْ بِمَعْنَى الْأُبُوَّةِ الْعُلْيَا، أَوِ الْمُرَادُ أُبُوَّةُ الصُّلْبِ دُونَ أُبُوَّةِ الرَّحِمِ. وَإِضَافَةُ ﴿رِجَالٍ﴾ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَالْعُدُولُ عَنْ تَعْرِيفِهِ بِاللَّامِ لِقَصْدِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْخَائِضِينَ فِي قَضِيَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ؛ إِخْرَاجًا لِلْكَلَام في صِيغَةِ التَّغْلِيطِ وَالتَّغْلِيظِ... وَاسْتِدْرَاكَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾ لِرَفْعِ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَفْي أُبُوَّتِهِ مِنِ انْفِصَالِ صِلَةِ التَّرَاحُمِ وَالْبِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَّةِ، فَذَكِّرُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)؛فَهُوَ كَالْأَبِ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ فِي شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ ، وَفِي بِرِّهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ إِيَّاهُ، شَأْن كل نبيِّءٍ مَعَ أُمَّتِهِ. وَعَطْفُ صِفَةِ (وَخَاتم النَّبِيئِينَ عَلَى صِفَةِ رَسُولَ اللَّهِ، تَكْمِيلٌ وَزِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ مَقَامِهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)وَإِيمَاء إِلَى أَنَّ فِي انْتِفَاءِ أُبُوَّتِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ حِكْمَةً قَدَّرَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - وَهِيَ إِرَادَةُ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا مِثْلَ الرُّسُلِ أَوْ أَفْضَلَ فِي جَمِيعِ خَصَائِصه»(1).

والحقيقة أنّ جزئي الآية 40 من سورة الأحزاب يشيران إلى مقامين من مقامات النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بابالنسبة إلى المؤمنين وسائر الأنبياء والمرسلين؛ هما:

المقام الأوّل: ليس أبا أحد من الرجال.

ص: 434


1- محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 21، ص 272 - 273 (بتلخيص). تبنّى ابن عاشور نهج غالبية المفسّرين المسلمين ليؤكد على خاتميّة النبوّة بمحمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)،ومن هذا المنطلق اعتبر قوله - تعالى -: ﴿خاتم النبيين﴾ مرتبطًا بعدم وجود ولد له، حيث قال: «وَإِذ قَدْ كَانَ الرُّسُلُ لَمْ يَخْلُ عَمُودُ أَبْنَائِهِمْ مِنْ نَبِيءٍ كَانَ كَوْنُهُ خَاتَمَ النَّبِيئِينَ مُقْتَضِيًا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَبْنَاءُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءَ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَلَمْ تُخْلَعْ عَلَيْهِمْ خُلْعَةُ النبوءة لِأَجْلِ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ غَضًا فِيهِ دُونَ سَائِرِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللهُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ قَطعَ النُّبُوءَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ عِيسَى(علیه السّلام)صَرَفَ عِيسَى عَنِ التَّزَوجِ». (محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 21، ص 273) (بتلخيص). لكن هذه العبارة -كما أشرنا آنفًا-، لا ارتباط لها بمسألة إنجاب ولد للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أو عدم حدوث ذلك.

المقام الثاني : خاتم الأنبياء والرسل.

لذا لا صوابية لما استنتجه ديفيد باورز وغالبيّة المستشرقين(1)من تفسيرهم إياها؛ بادعائهم أنّها تنفي عنه إنجاب ولد بلغ سن الرشد.

ج. كلمة (خاتم) مشتقّةٌ من الفعل (ختم)، ويرى علماء اللغة أنّ تاءها لو كانت مفتوحةً، فهي تعني الختم الذي يُطبع على الرسالة وما يُختم به، حيث وضّحها ابن منظور بقوله: «وطبع الشيءَ وَعَلَيْهِ يَطْبَعُ طَبْعًا: خَتَمَ؛ والطابَعُ والطابِعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ: الْخَاتَمُ الَّذِي يُخْتَمُ به... والخاتم والخاتم مِنْ أَسماء النَّبِي(صلی الله علیه و آله و سلم)وَفي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾، أَي آخِرَهُمْ... وَقَدْ قُرِئَ (وخاتَمَ)»(2). ومعنى هذه الكلمة في اللغات السامية هو معناها ذاته في اللغة العربيّة؛ كما أشرنا آنفا(3)، والمصدر (الختم) بمعنى طبع الشيء مشتق من الفعل (ختم) ، لذا لو قرئ اسم الفاعل المشتق منه بكسر التاء؛ فهو يعني الطبع(4).

وذكر الباحث وليام لين في معجمه ثلاثة توضيحات لكلمة خاتم؛ هي:

- اسم مفتوح التاء؛ بمعنى الختم والطبع

- اسم فاعل مكسور التاء بمعنى نهاية الشيء وآخره

- يشير إلى الفعل (خَتَم ) الذي له معنيان أحدهما: الطبع والختم وإيجاد نقش على شيء، والآخر إتمام الشيء(5).

ص: 435


1- هناك مستشرقون سبقوا ديفيد باورز في تفسير العبارة بهذا الأسلوب (Cf. E. g. E. Landau Tasseron: Adoption, Acknowledgement of Paternity False Genealogical Claims in Arabian Islamic Societies. In BSOAS 66 (2003), p. 169). ومن جملة الفرضيات الأخرى التي طرحها باورز في هذا الصدد، أن الآية باعتبارها نصّا تام المعنى، فهي تدل بوضوح على وجود ارتباط بين ختم النبوة بمحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وعدم وجود ولد له. (Powers, Ibid., pp. 68, 149. See also IDEM: "Adoption" in Oxford Bibliographies in Islamic Studies. Ed. John O. Vol. 1, New York: Oxford University Press, (2016), Not Yet published).
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، كلمة (ختم).
3- Cf. Jeffery, Ibid., p. 121.
4- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، كلمة (ختم).
5- Lane, s.v. kh. t. m.

وتشهد المصادر اللغوية بأنّ الخاتميّة في كلا معنييها المشار إليهما تدلّ في الحقيقة على الختم - الطبع للنبوّة(1)، ووصف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه خاتم النبيين هو من باب الاستعارة، ويشير إلى أفضليته عليهم؛ وإذا قرأنا الكلمة بكسر التاء؛ فالمقصود - هنا- أنه الختم - الطبع - الذي به تُعلن نهاية بعثة الأنبياء، ومن ثمّ فهو آخر نبي مرسل من قِبَل الله -تعالى-؛ وإذا قرأناها بفتح التاء؛ فالمقصود ما يتختم به الإنسان في إصبعه، وبه يتمّ ختم القراطيس(2).

إذًا، عبارة خاتم النبيين تعني ختمه؛ كالطابع على رسالات الأنبياء، وعلى أساس هذا المعنى استدلّ المفسّرون بها على عدم بعثة أيّ نبي بعده إلى يوم القيامة(3).

والمؤرّخ ابن خلدون هو الآخر فسّر الختم؛ بمعنى الإنهاء والإتمام ثمّ طبّق هذا المعنى على عبارة (خاتم النبيين) وختم القرآن وخاتمة الأمر، حيث قال:«...فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه على الصفح فتنتقش الكلمات فيه، ويكون هذا من معنى النهاية والتمام؛ بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه ، كأنّ الكتاب إنّما يتم العمل به بهذه العلامات، وهو من دونها ملغى ليس بتمام»(4). ولذلك يُطلق على الختم الذي يطبع في نهاية المكاتيب والرسائل عنوان (خاتم) مجازا(5)، كما نستلهم من الآية 7 في السورة ذاتها أنّ هذه

ص: 436


1- راجع: أحمد باكتشي وآخرون، «خاتم النبيين»، مقالة نشرت في الموسوعة الإسلامية الكبيرة، تحرير كاظم موسوي بجنوردي وآخرون، إيران، منشورات مؤسسة دائرة المعارف الإسلامية، ج 16، 2008م، ص 582.
2- راجع: محمد بن عبد الله بن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، تحقيق عبد الله الخالدي ،لبنان، بيروت، منشورات دار الأرقم، الطبعة الأولى، 1416ه_، ج 2، ص 153 ؛ محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 325.
3- راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن ج ،22 ص 13؛محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 8، ص 346..
4- عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون (باللغة الفارسية)، ترجمها إلى الفارسية محمّد بروين كنابادي، إيران، طهران، منشورات دار النشر العلميّة الثقافية، الطبعة الثامنة، 1996م، ج 1، ص 508.
5- للمؤرّخ المسلم ابن خلدون معان عدّة للكلمة، حيث قال: «... وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه؛ وذلك أن الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الأصبع ؛ ومنه تختم إذا لبسه؛ ويُطلق على النهاية والتمام؛ ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره، وختمت القرآن كذلك، ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر. ويطلق على السداد؛ الذي يسدّ به الأواني والدنان ويقال فيه ختام، ومنه قوله - تعالى-: (ختامُهُ مِسْكُ) [سورة المطفّفين الآية 26 ، وقد غلط من فسّر هذا بالنهاية والتمام قال لأن آخر ما يجدون في شرابهم ريح المسك، وليس المعنى عليه، وإنما هو من الختام، الذي هو السداد، لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها، فبولغ في وصف خمر الجنّة بان سدادها من المسك، وهو أطيب عرفًا وذوقًا من القار والطين المعهودين في الدنيا». (عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون (باللغة الفارسية)، ترجمها إلى الفارسية محمد بروين كنابادي، ج 1، ص 508). وكلمة (خاتم) تستبطن معاني ختم الشيء وإتمامه وإيصاله إلى درجة النهاية؛ ومن ذلك ختام العمل بمعنى إتمامه وأدائه، وخاتمة الكتاب؛ بمعنى الكتابات الأخيرة فيه وانتهاء محتواه بحيث لا يمكن إضافة شيء بعدها. وجدير بالذكر أن جميع المعاجم العربيّة فسّرت الكلمة بهذه المعاني. (للاطلاع أكثر، راجع: حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، كلمة (ختم)).وذكر ابن منظور - أيضًا - معاني عدة للكلمة، منها ما يلي: «... وختامُ الْوَادِي أقصاه . وختامُ القَوْم وخاتِهُم وخاتَمُهُم: آخرُهم». (محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب كلمة (ختم)). واعتبر الزبيدي هو الآخر آخر شخص في القوم بأنّه خاتمهم أو خاتمهم، أي أنّه لم يجعل فرقًا بين فتح تاء الكلمة وكسرها. (للاطلاع أكثر راجع محمّد بن محمّد بن عبد الرزاق الحسيني (الزبيدي)، تاج العروس من جواهر القاموس، كلمة (ختم)). وكذلك قال ابن خلدون موضّحًا معناها: «وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية، والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام ،وبعده وقد ثبت في الصحيحين أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أراد أن يكتب إلى قيصر، فقيل له: إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضّة ونقش فيه : (محمد رسول الله)». (عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون (باللغة الفارسية)، ترجمها إلى الفارسية محمّد بروين كنابادي، ج 1، ص 507). ويؤيد هذا المعنى ما ذُكِرَ من صفات وخصائص للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في الآيتين 45 و46 من سورة الأحزاب.

الكلمة تستبطن في معناها مدلول التصديق، حيث دار الحديث فيها عن العلاقة بين رسالة النبي محمد محمد لاله ها و رسالات الأنبياء الذين أرسلوا قبله، وتم التأكيد فيها على أن الميثاق الذي أخذ منهم واحدٌ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِثَقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَقًا غَلِيظًا ﴾، وهذه الآية يمكن اعتبارها متممةً لمضمون الآية 40 على ضوء إشارتها إلى التناسق والارتباط التام بين نبوّة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وسائر الأنبياء والمرسلين(1)، وعلى هذا الأساس نستشف من الأصل اللغوي للفعل (ختم) أنّ عبارة (خاتم النبيين)، إلى جانب دلالتها على تصديقه بالأنبياء السابقين وارتباط رسالته برسالاتهم، فهي ذات معنى آخرَ هو الإتمام والإنهاء؛ أي إتمام هذه الرسالات وإنهائها؛ بحيث لا يأتي نبي مرسل بعده؛ ويؤيد هذا المعنى أنّ النصّ القرآني حينما يريد التأكيد على التلاحم والارتباط بين رسالات السماء يستخدم مشتقات من لفظ التصديق، لذلك أعتبر النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مصدقاً لمن بُعِثَ قبله بحيث يؤيّد ما جاؤوا به، أو يفعل كما فعلوا(2)، فضلاً عن أنه وصف سائر الأنبياء بالمصدقين أيضًا(3)، لكنّه صلوات الله عليه وآله؛ إضافةً إلى هذه الصفة اعتُبر خائما لهم، لذا لا بدّ من تفسير عبارة (خاتم النبيين ) بمعنى أوسع نطاقا من مدلول التصديق.

ص: 437


1- Cf. Rubin, Ibid., p. 73.
2- للاطلاع أكثر، راجع: سورة البقرة، الآية 101؛سورة آل عمران، الآية 81. كذلك فالقرآن مصدّق ومؤيّد للمبدأ التوحيدي الموجود في النصوص المقدسة السابقة. للاطلاع أكثر، راجع: الآيات التالية: سورة البقرة، الآيات ،41 ،89، 91،9، 97؛سورة آل عمران، الآية 3؛سورة النساء الآية 47؛ سورة المائدة، 48؛ سورة الأنعام، الآية 92؛ سورة فاطر، الآية 31؛سورة الأحقاف، الآيتان 12 و30. وقال -تعالى- في الآية 29 من سورة الفتح: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ...﴾، حيث نستشف من هذه الآية مفهوم التصديق أيضًا.
3- للاطلاع أكثر، راجع: سورة آل عمران، الآية 50؛ سورة المائدة، الآية 46؛ سورة الصف، الآية 6؛التي وصفت النبي عيسى(علیه السّلام)بأنه مصدق لما جاء في التوراة، سورة آل عمران، الآية 39؛التي وصفت النبي يحيى(علیه السّلام)بأنه مصدق للنبي عيسى.

وتتمحور معاني مشتقات الفعل (ختم) في النصّ القرآني حول الطبع في خاتمة المكتوب وإتمام الأمر، وقد استخدم أيضًا - بالنسبة إلى الكافرين؛ لأنّ الله - تعالى - ختم على قلوبهم(1)، وعلى أفواههم(2).

وخلاصة الكلام: إذا أردنا تفسير عبارة (خاتم النبيين)؛ وفقًا للمعنى اللغوي المتعارف للفعل (ختم)، نقول: الله -تعالى- ختم رسالات السماء وطبع عليها ختم الإتمام بعد رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)التي جعلها أكمل أنواع النبوّة.

وممّا قيل من قِبَل المستشرقين أن مفهوم الخاتميّة يُعدّ جزءًا لا ينفك عن الاستعارة القرآنية التي تعني ختم المكتوب والرسالة، وكذلك يدلّ على الارتباط الوثيق بين رسالات السماء وإتمامها وتصديقها(3)، ولعلّ هذا الأمر هو الذي دعا بعض المستشرقين لأن يفسروا ختم النبوّة

ص: 438


1- قال - تعالى -: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٍ﴾ (سورة البقرة، الآية 7). راجع أيضًا: سورة الأنعام، الآية 46؛سورة شورى، الآية 24؛سورة الجاثية، الآية 23 .
2- قال - تعالى - : ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بَمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة يس، الآية 65). الآيتان 25 و 26 من سورة المطففين فيهما عبارتا: (رحيق مختوم)، و (ختامه مسكُ) في وصف شراب المؤمنين في الجنّة، والختام هنا استخدم بدلًا عن خاتم: ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون﴾. وهذا المعنى يشابه المراد من الختم بمعنى الطبع. راجع أيضاً: سورة التوبة، الآية 93؛سورة النحل، الآية 108 وآيات أخرى.
3- للاطلاع أكثر، راجع: Rubin, Ibid., p. 74. إن تفسير عبارة (خاتم النبيين) في النصّ القرآني بمعنى خاتميّة النبوّة، إلى جانب التصديق برسالات الأنبياء السابقين، يتعارض مع الطابع العام للدراسات والبحوث التي دوّنها الباحثون المحدثون بخصوص اعتقاد المسلمين بكون نبيهم(صلی الله علیه و آله و سلم)خاتم الأنبياء ودينهم خاتم الأديان، وقد تطرقنا إلى مثالين من هذه الآراء في بادئ الباب. وكما أشرنا آنفًا فغالبية النتائج التي توصل إليها المستشرقون على ضوء تحليل النهج التفسيري الإسلامي ومبادئ الأدب العربي الكلاسيكي تؤكد على أن المعنى المتعارف لهذه العبارة لا يعتبر المدلول الأوّل لها، كما لا يمكن اعتباره المفهوم الوحيد الذي يمكن احتماله منها. .(Cf. Friedman, Ibid., p. 183; See also Idem: Prophecy Continuous, pp. 4993) كما أن المستشرق هارتموت أوتو بوبتسين له رأي في الموضوع، حيث قال أن مجرد ظهور عدد من دعاة النبوّة في المجتمع الإسلامي مرارًا وتكرارًا، لا يمكن أن يعتبر دليلًا على اعتبار كلمة (خاتم) تعني - فقط - خاتميّة النبوّة بمحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنما تعني التصديق والتأييد؛ أي إنّها ضرب من الارتباط مع الأنبياء السابقين . (Cf. Hartmut Bobzin, "The Seal of the Prophet: towards an understanding of Muhammad's prophethood”, in The Quran in context: historical literary investigations into the Quranic milieu, edited by Angelika Neuwirth, Nicolai Sinai Michael Marx, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, 2010 p. 565). وحاول إثبات مدعاه هذا استنادًا إلى الروايات التي نقلها صاحب تفسير (الدر المنثور) لدى تفسيره الآية، كما استدلّ بنصوص الكتاب المقدّس، وقال إنّ القدّيس أفراهاط دوّن تفسيرًا تمثيلياً للعهد القديم صوّر فيه حياة الأنبياء السابقين لعيسى(علیه السّلام)بكونها صورة لحياته، إذ إنّهم لم يتنبأوا بظهوره فقط؛ كما بادر إلى تفسير النصّ القرآني على ضوء شخصية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأسلوب يناظر المعهود في التأريخ التقليدي المسيحي اليهودي. Ibid., p. 566 وقد أشرنا إلى آراء بعض الباحثين من أمثال أولريش فون هوتن والمحور المشترك فيها هو التشكيك في زمان حدوث هذا الزواج بدل شرح العبارة القرآنية (خاتم النبيين وتحليلها وبيان جذرها اللغوي ومدلولها الظاهر منها ، حيث تطرّقوا في مباحثهم إلى قضايا خارجة عن نطاق النص القرآني لدرجة أنّهم لم يتطرّقوا إلى بيان مفهوم كلمة (ختم) وموارد استعمالها في مختلف الآيات، كما لم يذكروا سياق الآية التي ذكرت فيها العبارة المشار إليها على الرغم من أن مفهوم الخاتميّة في الإسلام منذ بادئ الأمر وحتّى في المصادر التي استند إليها هؤلاء، يدلّ على مفهوم استعاري مستوحى من الختم والطبع ، ولا يوجد مصدر من هذه المصادر يدل على أنّه طُرح في وقت متأخر، فضلا عن أنه يشير إلى المنشأ الأوّل لمفهوم النبي الخاتم ويؤكّد على قطع المفسّرين بختم النبوّة ضمن تفسيرهم الآية 40 من سورة الأحزاب. والروايات المنقولة حول وفاة إبراهيم ابن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هي من ضمن الأدلّة غير القرآنية التي استند إليها المستشرقون لإثبات أن عقيدة الخاتمية في الإسلام ظهرت في وقت متأخّر، فقد ذكر في واحدة منها أن إبراهيم نبي ابن نبي؛ والمستشرق يوحنان فريدمان اعتبرها والروايات الأخرى المشابهة لها متعارضةً مع فكرة خاتمية النبوة في الإسلام (Cf. Friedmann, Ibid., pp. 187 - 190). وبغضّ النظر عن محتوى هذه الرواية والروايات المشابهة لها وواقع أسانيدها إذا أمعنا النظر في بنيتها العامة وبنية سائر الروايات التي تتمحور مواضيعها حول ذات الموضوع والأجواء الحاكمة حين صدورها، نستشف منها أن المقصود من مضمون الرواية المذكورة برأي أوري روبين هو: ا أن المقصود من مضمون الرواية المذكورة برأي أوري روبين هو: المراد هو تبرئة أهل بيت النبي بإثبات أن محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)وهو والد إبراهيم وليس غيره، وهذه العبارة في الرواية أريد منها بيان رفعة شأن قرابة إبراهيم إلى صاحب أعلى مقام في المجتمع، وهو مقام النبوّة طبعًا؛ ولا يوجد تضاد بين اتصافه بشأن النبوة ووراثته لها وبين الاعتقاد بكون محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)آخر نبي مرسل ؛ فقد توفي طفلًا، لذا حتى وإن كان وارثا لنبوّة والده، فهذا لا يمنع من اعتبار والده آخر نبي. إذًا، قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن إبراهيم نبي وابن نبي لا يعني استمرار سلالة النبوة من بعده». (Rubin, Ibid., p. 80). وعدم وجود ولد للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو الدليل الآخر الذي استند إليه هؤلاء المستشرقون لإثبات تأخّر ظهور عقيدة خاتمية النبوة في الإسلام عن عهده صلوات الله عليه وآله فالواقع المحزن الذي نجم عن وفاة ابنه اضطر المسلمين لأن يذكروا تبريرات لعدم تركه ولدًا بعد وفاته؛ ومما قيل في هذا الصدد إن المسلمين لدى تفسيرهم الآية 40 من سورة الأحزاب حاولوا إيجاد تبرير لوفاة إبراهيم في سنّ الصغر ووفاة سائر أبناء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،إذ كان لا بد أن يفارقوا الحياة؛ لكي يبقى والدهم آخر نبي مرسل؛ لأنّ النبوة شأن موروث. (Friedmann, Ibid., pp. 191 - 192). ولكن كما ذكرنا سابقًا، فإن سياق الجزء الأوّل من الآية المذكورة يؤكّد على شرعية زواج النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بمطلقة زيد والتأكيد على أنه والد روحي للمؤمنين، إلا أنّ المفسّرين هم الذين غيروا دلالة الأبوّة الروحية وساقوها نحو الأبوّة بالصلب على ضوء أذواق تفسيرية شخصية؛ ولا شكّ في أن الله - تعالى - توفّى أبناء النبي وهم صغار لأسباب ودواعٍ خاصّة، وليس السبب طبعًا هو كون والدهم خاتم الأنبياء والمرسلين. (Rubin, Ibid., p. 82). وكذلك هناك مؤاخذةٌ تَرِد على مسألة توريث النبوّة، حيث قال - تعالى - في الآية 124 من سورة الأنعام: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ فهو يختار لحمل رسالة السماء من يشاء، كما أن الآية 124 من سورة البقرة أكدت على أنّ النبوّة لا يستحقها إلا من كان أهلا لها. ومن الأدلة الأخرى التي ساقها المستشرقون لإثبات تأخّر عهد فكرة خاتميّة النبوّة تلك المصادر التي تتحدث عن الأحداث السياسية المتأزمة في المجتمع الإسلامي إبان القرن الأول للهجرة، اذ استندوا إليها لادعاء أنها دوّنت حينما لم يكن المسلمون يعتقدون بخاتمية نبوّة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم). (Friedmann, Ibid., pp. 186 - 187). إلا أنّنا حينما نمعن النظر في هذه المصادر لا نلاحظ وجود أي تعارض بين محتواها وفكرة خاتميّة النبوّة، ومثال ذلك: الروايات التي تؤكد على استخلاف الإمام علي(علیه السّلام)من قِبَل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في المدينة عند ذهابه إلى غزوة تبوك، حيث اعتبر منزلته بالنسبة إليه ؛ كمنزلة هارون من موسى؛ وهذا الأمر لا يتعارض بتانا مع مسألة خاتمية النبوّة وبإمكاننا استنتاج هذا التقارن بين الإمام علي وهارون من القرآن الكريم؛ فقد قال -تعالى- في الآية 142 من سورة الأعراف: ﴿وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرِ فَتَمَّ ميقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾، الآية تشير إلى أن النبي موسى قبل أن يذهب إلى ميعاد ربّه، استخلف أخاه هارون ، وعبارة (اخلفني) تعني تكليف هارون بأن يكون نائبًا عنه عند غيابه، أي أنّه خليفته؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الإمام علي(علیه السّلام)حيث استخلفه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في المدينة، ودوره - هنا - يقتصر طبعًا على كونه نائبًا - خليفةً - عنه لا نبيًّا مثله؛ لذا فالرواية لا تتعارض بتاتًا مع مسألة خاتميّة النبوّة؛ أضف إلى ذلك أنّ هذه الرواية نقلت في العديد من المصادر الإسلامية التي ذكرت في بعضها عبارة (إلا أنّه لا نبي بعدي). (للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، تصحيح علي أكبر غفّاري ومحمّد آخوندي ،إيران، طهران منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، 1407ه_، ج 8، ص 107؛ محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ج 5، ص 24 فضائل أصحاب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)باب مناقب علي(علیه السّلام)،/ ج 6 ص 3 كتاب المغازي، غزوه تبوك). إذًا، هذه الروايات لا تدل - فقط على خاتمية النبوة بمحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل إضافةً إلى ذلك تؤكّد على كون علي(علیه السّلام)وصيّه وله حق الخلافة من بعده؛ ولا شكّ في أنّ هذا الأمر لا يتعارض مطلقًا مع مسألة الخاتمية. وهناك روايات صرّحت بكونه آخر نبي مرسل واعتبرته خاتما للنبيّين، وإلى جانب ذلك أشارت إلى وصاية الإمام علي(علیه السّلام)باعتباره آخر الأوصياء؛ ومن ثمّ فهي تدلّ بصريح العبارة على أنّ اللفظ الاستعاري (الختم يعني أنّ كتاب النبوّة ختم وطبع عليه بعد بعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو النبي الخاتم . (اللاطلاع أكثر، راجع: الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني، تحف العقول، تصحيح علي أكبر غفاري ،إيران، قم، منشورات جامعة المدرسين،الطبعة الثانية 1404ه_، ص 118؛محسن الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، 1977م، ج ص 194؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، لبنان، ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1403ه_، ج 41، ص 219). كما أن النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلملم يَمْتَز - فقط - بأنّه خَتَمَ النبوّة في العالم، بل حمل أهمّ رسالةٍ سماوية طوال تأريخ البشرية، ووصف الإمام(علیه السّلام)في بعض الروايات بأنّه (خاتم الأوصياء) يراد منه أنّه أهم وصيّ بين آلاف الأوصياء الذين خلفوا الأنبياء السابقين نظرًا لخلافته أهم نبي مرسل؛ وهذه الروايات أثنت عليهما معًا واعتبرتهما خاتمين - أحدهما للنبوّة والآخر للوصاية - ولا شك في أن منح الوصاية للإمام علي(علیه السّلام)باعتباره الأخير في هذه السلسلة، لا يمس مطلقًا بمصداقية خاتمية النبوة بمحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ومن هذا المنطلق يثبت لنا أن مفهوم كلمة (خاتم) في هذه الروايات يفيد معنيي الخاتمية والأفضلية معًا. (Cf. Rubin, Ibid., p. 88). كما أن المكاتيب التي كانت متداولةً بين الخلفاء الأمويين تذكر بصريح العبارة أنّ النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)ختم النبوة، وفيها ما يدل على أنّ خصائص الوحي المنزل على سائر الأنبياء والمرسلين قد تجسّدت في رسالته، لذا فكلمة خاتم لا تعني - فقط - أنّه آخر نبي، بل إلى جانب ذلك يراد منها أنّه أحيى رسالات السماء بأكمل وأسما شكل وأتمها وهو ما يطلق عليه في النص القرآني عنوان التصديق. (للاطلاع أكثر، راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تأريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 7، ص 219 - 220). والرسالة التي بعثها الوليد تدلّ بوضوح على أنّ خاتمية النبوّة لا تتنافى مع استمرار الولاية النبوية بعد وفاة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأسلوب غير نبوي، حيث جاء فيها: « ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوته حين قبض نبيه(صلی الله علیه و آله و سلم)وختم به وحيه؛ لإنفاذ حكمه، وإقامة سنته وحدوده، والأخذ بفرائضه وحقوقه تأييدًا بهم للإسلام وتشييدًا بهم لعراه...». (م. ن، ج 7، ص 220). ونستنتج من جملة الشواهد المذكورة أنّ عبارة (خاتم النبيين) تدلّ على معنيين متلازمين؛ هما: التصديق والخاتمية، وليس فيها ما يعد وازعا لتقييدها بالتصديق دون الخاتميّة؛ فضلًا عن ذلك فالنصوص السابقة لعهد الإسلام أيضًا تشير إلى المدلول ذاته؛ ومثال ذلك: كلمتا (حوتم) العبرية، و (حاتما) السريانية، حيث تشيران إلى مفهومين متلازمين؛ هما: التصديق والخاتمية. (Cf. Arne Amadeus Ambros, A Concise dictionary of Koranic Arabic. Wiesbaden: Reichert, (2004), p. 84). والتفت المستشرق آرثر جفري هو الآخر إلى هذه المسألة لذلك قال: «الختم في اللغة الآرامية يعني التصديق والإنهاء»، وأضاف في السياق ذاته موضحًا «قبل عهد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ادّعى البعض أنهم يحملون آخر وحي من السماء للبشرية». .(Artur Jeffery, The Quran as Scripture, New York, Moore, 1952 (New York: Books for Libraries, 1980), p. 78) وفي الإصحاح التاسع من سفر دانيال؛ وفي الفقرة 24 بالتحديد، أشير بلفظ استعاري إلى ختم النبوة، وقد اتفقت آراء الباحثين المسيحيين الشرقيين والغربيين في العصور القديمة على أن هذه الاستعارة تشير إلى مسألة ختم النبوّة وانتهاء نزول الوحي؛ ونصّها هو: «سَبْعُونَ أَسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِي، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِين». (Rubin, Ibid., p. 92). والحصيلة النهائية لما ذكر يمكن تلخيصها بما قرّره أوري روبين؛ وفحواها أن النصوص المسيحية والإسلامية حينما ذكرت مسألة ختم النبوة بالنسبة إلى الأنبياء والنبوّة بلفظها الاستعاري الذي يعني طباعة الختم على المكتوب؛ فهي لا تعني التصديق فحسب، وإنما إلى جانب هذا المعنى تدلّ على خاتمة الأمر ونهايته.

ص: 439

ص: 440

بمعنيين متلازمين؛ هما التصديق، والإنهاء ؛ قال وأوري روبين إنّ العبارة بهذه البنية -خاتم النبيين- تنصب في سياق بيان استمرار رسالات الأنبياء وتصديقها التام؛ ثم استند إلى مسألة التعالق النصّي(1)؛ لإثبات دلالتها على التصديق التام برسالة النبي موسى(علیه السّلام)الذي واجه - أيضًا - معارضةً من قومه جرّاء زواجه من إحدى النساء؛ لذا فالنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان على غرار أسلافه من الأنبياء والمرسلين ولا سيّما موسى الذي تعرّض لانتقاد إثر زواجه من سيّدة سوداء البشرة(2)، إلا أنّ الله - تعالى - حفظه ورعاه بلطفه ورحمته وعاقب معارضيه، وكذلك

ص: 441


1- حاول الكثير من المستشرقين إيجاد تناص بين الآيات 38 إلى 40 من سورة الأحزاب ونص الكتاب المقدس، وعدد كبير منهم ادعوا أنها تحكي عن مضمون الإصحاح الثاني عشر من سفر الأعداد في فقراته 1 إلى 15 وفيها أنّب كل من مريم وهارون أخاهما موسى بعد أن تزوج امرأةً حبشيةً سوداء، فعاقبهما الله عقابًا شديدًا. (Cf. R. Paret: Der Koran...p. 401 with reference to Geiger Speyer). وادعوا أنّ النبي الوجيه عند الله المشار إليه في سورة الأحزاب هو موسى(علیه السّلام). (Rubin, Ibid., p. 72). واستند هؤلاء في رأيهم هذا إلى الآية 69 من سورة الأحزاب التي صرحت باسم موسى(علیه السّلام)،وهي قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا ﴿كَالَّذِینَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجيهًا﴾. بينما أكد بعض المفسرين المسلمين على أنّ هذه الآية تشير إلى وجاهة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)عند الله عزّ وجلّ حيث نهت المؤمنين عن إيذائه؛ كما فعل بنو إسرائيل بموسی(علیه السّلام)عندما اتهموه بمحاولة قتل هارون وزعموا أنه مصاب بداء البرص وتشير - أيضاً - إلى تأمر قارون مع امرأة فاجرة لاتهام موسى بارتكاب الزنى معها، إلا أنّ الله برّأه من كلّ هذه التهم. وقد نزلت هذه الآية إثر الشائعات التي روّجها المنافقون ضد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فأحبطها الله -تعالى- وفندها. (محمد تقي المدرسي تفسير هدايت (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، إيران، مشهد، منشورات مؤسسة البحوث الإسلامية، 1998م، ج 10؛تفسير الآية 69 من سورة الأحزاب). راجع أيضًا: ا مقاتل بن سلیمان، تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق عبد الله محمود شحاتة، لبنان ،بیروت، دار إحياء التراث، الطعبة الأولى، 1423ه_،ج3،ص508. وجدير بالذكر أن مقاتل وضّح التناص بشكل آخر، فقوله -تعالى- في الآية 38 من سورة الأحزاب: ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾، يشير إلى قضة النبي داوود(علیه السّلام)وزوجة أوريا بن حنان التي تعلّق قلبه بها، فهيّأ الله -تعالى- الأسباب لزواجه منها. (مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق عبد الله محمود شحاتة، ج 3، ص 496). لكننا إذا أخذنا السّياق العام لسورة الأحزاب، لا نجد فيه ما يؤيد رأي مقاتل.
2- بعض المستشرقين يدعون أنّ قصّة زواج النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بزينب بنت جحش هي تقليد لقصّة زواج النبي داوود(علیه السّلام)بزوجة أوريا والمذكورة في العهد القديم، إلا أن هارتموت أوتو بوبتسين رفض هذا القول؛ لأنّ زيد بن حارثة كان بمثابة ابن للنبي، لذا لم يكن الأخير مأذونا بالاقتران بمطلقته. (Bobzin, p. 576). ومن المحتمل أنّ هذا المستشرق غفل عن أنّ الآيات 37 إلى 40 وكذلك 4 إلى 6 من سورة الأحزاب صرّحت بعدم بنوة زيد للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فضلا عن أنّ قصّة زينب وزيدٍ لا ارتباط لها بقصّة داوود(علیه السّلام)وزوجة أوريا، لذا لا يمكن ادّعاء أنّ القصّة الإسلامية تقليد لها؛ فزينب وزید شخصیتان حقيقيتان تمّ التصريح بقصتهما ضمن الآية 37 من السورة المذكورة؛ فهذه الآية تحكي عن أمر حدث على أرض الواقع، وبالتالي ما الداعي لأن نقول أنها تقليد لتلك القصّة ؟ وزينب بنت جحش طبق الآية المذكورة زوّجها الله -تعالى- من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، بهدف نقض العرف الجاهلي القائل بحرمة زواج الرجل من مطلقة ابنه بالتبنّي. وتجدر الإشارة - هنا - إلى أنّ النهج التجديدي الذي اتبعه المستشرقون وتوجهاتهم الفكرية بشكل عام قد انعكست في الدراسات التي دونها بوبتسين، كما أن هذا المستشرق حينما تطرّق إلى تحليل آيات سورة الأحزاب قال إنّ استخدام كلمة (حرج) مرتين في الآيتين 37 و 38 على التوالي دليل على المصاعب التي كانت موجودة - آنذاك - بالنسبة إلى هذا الموضوع. والنتيجة التي استخلصها من الآية 40؛فحواها: أنّ العبارة المذكورة فيها جاءت دفاعًا عن النبي، وربّما يكون الخطاب فيها موجهًا إلى أتباعه، وبما أنّ الآية برأيه تدلّ قبل كلّ شيءٍ على مشروعية زواجه بزينب، وتحمل معها حكمًا مختصا بمقام النبوّة، فهي موجهة - فقط - إلى الذين أنكروا نبوّته جراء هذا الزواج؛ ومن هذا المنطلق يحتمل أن يكون الخطاب فيها موجهًا إلى يهود المدينة؛ لأنّ الآيات من 37 إلى 40 بشكل عام في صدد تفنيد التهم التي وجهها هؤلاء إلى النبي ورفضهم نبوّته بادعاء أنه ارتكب الزنا. (Ibid., p. 577). والمؤاخذة التي ترد على رأي بوبتسين هي عدم وجود ما يدلّ على كون الخطاب في الآية موجّهًا إلى اليهود، فما نستشفه من الآيات الأولى في سورة الأحزاب وحتّى خاتمتها أن الخطاب موجه إلى المؤمنين والمنافقين والكفّار ومتواصل بشكل متزامن وما ذكره هذا المستشرق أن تصوير القرآن لنبوة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)يقوم على أساس إيجاد ارتباط استعاري وطبولوجي مع قصّة النبي موسى الهلال والأسلوب القرآني في استعراض سيرة هذا النبي مستوحى إلى حد كبير من التراث اليهودي والمسيحي اليهودي، فشخصيته باتت مرتكزا لتكامل عقيدة المسلمين في سيادة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)الدينية بحيث جعلتهم يتبعونه ويخشون الله هذا الأمر على غرار عقيدة المسيحيين اليهود بالنسبة إلى عيسى الله حيث اعتبروه نبيًّا أتمّ نبوّة موسى الهلال والقرآن الكريم بدوره وصف محمدًا بالمتمّم لرسالة موسى، لذلك لا بدّ من فهم مدلول عبارة (خاتم النبيين) في رحاب هذا الواقع. (Ibid., p. 581).

سيعاقب الذين عارضوا النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بعد زواجه من طليقة زيد بن حارثة(1).

وأكّدت الآية 38 على عدم وجود أي محذور في ما يفعله النبيّ ممّا فرضه الله له ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٌ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَعْدُورًا﴾؛ لذا يجدر به أن يجري على سنّة الأنبياء السابقين ولا يتأثر بالأعراف والتقاليد الجاهلية التي كانت سائدةً في تلك الآونة، ولعلّ زواجه من زينب كان استجابةً لأمر إلهي هادف إلى نبذ القوانين الجاهليّة المنحرفة.

وفي الختام نقول إنّ كلمة (خاتم) في قوله - تعالى -: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾ يُقصد منها أن النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)هو خاتم الأنبياء والمرسلين ومصدّق لرسالاتهم؛ وكأن كتاب رسالات السماء

ص: 442


1- Rubin, Ibid., p. 75. وقد أشارت الآيات من 60 إلى 62 من السورة ذاتها مرّةً أخرى إلى هذه السنة ،الإلهيّة فقد جرت طوال تاريخ البشرية على معاقبة أعداء الأنبياء أشد عقاب ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فيها إِلا قَليلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتُلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾. هذه الآيات تشير بصريح العبارة إلى السنة الإلهية في التعامل مع معارضي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)من المنافقين ومثيري الفتن، حيث تؤكّد على ضرورة إخراجهم من المدينة في ما لو لم يتركوا أذاهم له؛ كما تذكّر بالسنّة الإلهية الجارية في معاقبة هؤلاء وأمثالهم وتحذر جميع أعداء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذا الأمر نلمسه - أيضًا - في آيات أخرى من النص القرآني. (للاطلاع أكثر، راجع: سورة الإسراء، الآية 77؛ سورة فاطر ، الآية 43؛ سورة غافر، الآية 85؛ سورة الفتح، الآية 23). هذه هي حقيقة سنة الله في الأرض، فقد تعلّقت بدعم النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وسائر الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، وقوله -تعالى- في الآية 39 من سورة الأحزاب: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾هو من الشواهد عليها، فكلّما حاول البعض إيجاد فتنةٍ أو فسادٍ في الأرض، لا بد أن يطاله عذاب أليم وعقاب لا مفرّ منه.

شبّه بالمكتوب؛ أي الرسالة المدوّنة التي طبع في نهايتها ختم إتمامها من قبل الله -عزّ وجلّ- بعد أن بعثه للبشريّة، حيث جعله الخاتم لسلسلة الأنبياء والرسل، وببعثته طبع ختم النبوّة على رسالاتهم.

وأكّد علماء اللغة في مصادرهم اللغويّة -أيضًا- على أنّ كلمة (خاتم) لا تعني التصديق والمصدّق فحسب، بل تعني -أيضًا- الإنهاء والإتمام، وهذا ما أثبتناه؛ لذا فالآية من الناحية اللغويّة تعني أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو آخرُ نبيَّ وقد خُتمت ببعثته رسالات الأنبياء والمرسلين، لذا لا موضوعيّة لادّعاء أنّ الكلمة يُراد منها التصديق - فقط - ؛ بحيث وصفه القرآن بخاتم النبيين؛ لكونه مصدقًا لمن بُعِثَ قبله، إذ كلّ نبيَّ يُعدّ مصدِّقًا لمن بعث قبله بطبيعة الحال.

وتجدر الإشارة إلى وجود آيات عدّة تؤكّد على كون القرآن مصدقًا من قبل سائر الكتب المنزلة سابقًا، كما تشير إلى أن عيسى(علیه السّلام)صدق برسالة سلفه موسى(علیه السّلام)؛والقاعدة الأساس في هذا المضمار هي تصديق كلّ نبيَّ جديد برسالة النبي المبعوث قبله، وتبشيره بمن سيبعث بعده. هذه خلاصة ما يُقال بالنسبة إلى التصديق، لكنّ الأمر يختلف بالنسبة إلى ختم النبوة، حيث لم يصف النص القرآني أي نبيَّ بكونه خاتم النبيين؛ باستثناء النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛الأمر الذي يدلّ بوضوح على أنّ الختم - هنا - لا يُقصد منه التصديق فحسب، وإنّما يتعداه إلى معنى آخر هو الإتمام والإنهاء.

وتفسير بعض المستشرقين لقوله -تعالى-: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ﴾ أنه يدل - فقط - على التصديق بالرسالات السماوية السابقة يرد عليه السؤال التالي: لِمَ استخدم القرآن كلمة (خاتم) للدلالة على التصديق؛ بدلًا من استخدام كلمة (مصدق) ؟ أضف إلى ذلك أنّنا لو قيّدنا الخاتمية - هنا بمعناها المجازي - التصديق - فلا بدّ حينئذ من وجود قرينة في الآية نستشفّ على أساسها هذا المعنى؛ بحيث ينصرف ذهن المخاطب من المعنى الحقيقي إلى المجازي، لكننا في الحقيقة لا نجد أيّ قرينة من هذا القبيل.

إذًا المسألة المحوريّة التي يؤكّد عليها الجزء الثاني من الآية 40 في سورة الأحزاب هي أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) خاتم الأنبياء والمرسلين و به طبع على مكتوب رسالات السماء، بعد أن بلغ مرحلة التمام والكمال، ومسيرته المباركة تنصب في مسيرتهم التأريخية حيث عانى مما واجهوه من

ص: 443

إساءاتٍ وتهم ، فهو بُعث في نهاية المطاف وشمله اللطف الإلهي كما شملهم والعبارة الختامية فيها تؤكّد على أنّ الله -تعالى- عليمٌ بكل ما يجري: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾، حيث نستشف منها أنّه يعرف من يدافع عن نبيّه، ويعرف من يخالفه ويتعرّض له بالإساءة والأذى.

والمفهوم الآخر الذي نستلهمه من هذه الآية فحواه: أنّ زواج النبيّ محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)بطليقة زید بن حارثة كان مشروعًا ولا شبهة فيه؛ لأنّه ليس أبا أحدٍ منهم: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾؛ وإنّما رسول الله وخاتم النبيين؛ وذلك أن سيرته تتطابق بالكامل مع سيرة الأنبياء والرسل الذين سبقوه، حيث حفظهم الله -تعالى- وأيّدهم وبرأهم من الخطأ في المواقف نفسها التي واجهوها، فهو -تبارك شأنه- بكلّ شيء عليم.

إذَا، الهدف من تأكيد النص القرآني على ختم النبوّة به هو إثبات الارتباط الوطيد والتام بين رسالته ورسالات أسلافه من الأنبياء والرسل، حيث وضحت الآية المذكورة معالم رسالته؛ باعتبارها نهاية المطاف لرسالات السماء؛ والأكثر أهمّيّةً منها إلى جانب تأكيدها على شرعيّة زواجه المشار إليه؛ بوصفه علاقةً زوجيّةً تمت على ضوء السنّة الإلهية التي شملت أسلافه؛من أمثال موسى الله وبالتالي لا شك في أنّ عبارة (خاتم النبيين) تحكي عن شخص ختمت به النبوّة وطبع بها مكتوب الرسالة السماويّة؛ بحيث لا يُدوّن فيه اسم أي نبيَّ آخر حتى قيام الساعة(1).

أضف إلى ذلك أنّنا لو تطرّقنا إلى تحليل هذه العبارة واستقصينا السياق الذي ذُكِرَت فيه ضمن الآية 40 من سورة الأحزاب، نستنتج أن قوله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِجَالِكُمْ ) لا يُقصد منه نفي إنجاب ولد للنبي ، لذا لا يمكن التشكيك بمصداقيتها وادعاء أنّها لم تكن موجودةً في النسخة الأولى من المصحف، وزعم إضافتها من قبل المسلمين في العهود اللاحقة(2)، وتبعا لذلك لا يوجد أي ارتباط بين عدم امتلاك النبي ولدًا ومسألة ختم النبوّة؛ لذا لا صوابيّة لما ذهب إليه ديفيد باورز وسائر المستشرقين الذين سبقوه ولحقوه؛

ص: 444


1- راجع: أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 22، ص 13. قال الباحث مستنصر مير، ضمن معجمه القرآني، إن محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)وُصِفَ ب_( خاتم النبيين)؛ والمقصود من هذه العبارة هو: أنه آخر نبي مرسل؛ بحيث خُتِمَت النبوّة من بعده إلى الأبد. (Mir, Mustansir, Dictionary of Quranic Terms concepts, New York: Gerland Publishing, (1987), p. 171.
2- (Cf. Rubin, Ibid., p. 68.

حينما زعموا تحريف الآية وإضافة عبارة (خاتم النبيين) إليها، ومهما كانت استدلالاتهم فهي لا تثبت المطلوب، ولا يمكن على أساسها نفي هذه العبارة من النسخة القرآنية الأولى(1).

ومن المؤكّد أنّ التفاسير الاستشراقية للآية المذكورة؛ مثل: تفسير باورز، وغيره، لا تعدو كونها وهما وتصوّرًا باطلا؛ وقد وصف أحد الباحثين هذه التفاسير قائلا: «ديفيد باورز اعتمد في بحوثه على أسلوب تجديدي فريد من نوعه، وفي هذا المضمار ادّعى أنّ القصّة المذكورة في التفاسير الإسلامية مجرّد أسطورة، والدليل الوحيد الذي استند إليه لإثبات رأيه هذا هو إعادة ترتيب تأريخ الأحداث ؛ ويبدو أنّ هذا الدليل قائم على شواهد تأريخية ثابتة وعلى حكم العقل في بعض جوانبه؛ وعلى أساسه يمكن إثبات غير ما هو موجود هذه القصّة برأيه عبارةٌ عن سنة مجعولة، وعكس ذلك غير صحيح؛ أي أنّ القول بعدم جعلها مخالف للواقع، ومن هذا المنطلق بادر إلى إعادة تدوين أحداث التأريخ، لكنّه لم يذكر توضيحا متكاملًا للمعالم العامة لهذا التجديد التأريخي، والمحور الأساسي في تحليله مفهوم (خاتم النبيين) هو تفنيد الرواية الإسلاميّة المتعارفة بخصوص أحداث قصة زيد، لكنّ الوقائع التأريخيّة التي استند إليها في رؤيته التجديدية ليست موثّقةً.

المستشرقون لديهم رؤى ارتكازيةٌ مسبقةً بالنسبة إلى الأحداث التأريخية وكيفية تصويرها، لذلك يتجاهلون الكثير من الحقائق حينما يحاولون إثبات مرتكزاتهم الفكرية بحيث يهمّشون جميع الاحتمالات التي تتعارض مع هذا السيناريو التخيّلي الذي يتبنّونه»(2).

المبحث الثاني : التفسير الاستشراقي لكلمة (درَسْتَ) أو (دارَست):

ادّعى يوسف درّة الحدّاد على ضوء استناده إلى عدد من الروايات وافتراضه أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)درس التوراة والإنجيل، أنّه بُعِثَ إلى العرب جرّاء إهمالهم دراسة الكتاب والحكمة ومن هذا المنطلق أكّد على أنّه درس جميع الكتب المقدّسة واطّلع على تعاليمها؛ كي يعلمهم ما تعلّمه منها؛ واستدلّ على مدّعاه بالآية 105 من سورة الأنعام زاعمًا أنّها تصرّح بهذا الأمر، وهي قوله -تعالى-: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِفُ الْآيَتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسَتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.

ص: 445


1- Cf. Ibid., p. 71.
2- Saleh, pp. 265 - 264.

ولأجل إثبات صوابية تفسيره للآية، استند إلى ما ذُكِرَ في تفسير الجلالین: «(دارست) ذَاكَرْت أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي قِرَاءَةِ (دَرَسْت) أَيْ كتب الماضين وجئت بهذا منها»(1).

ثمّ أتمّ استدلاله بعبارة: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، حيث ادعى على أساسها أنّ الهدف من قراءة الكتاب والحوار مع أهل الكتاب حوله؛ هو بيانه لقوم يعلمون، فالنبي له عبر دراسته الكتب المقدّسة كان يسعى إلى التفوّق على قومه والتفاخر بينهم ودليله -هنا- الآية 44 من سورة سبأ: ﴿وَمَا ءَانَيْنَهُم مِّن كُتُبِ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَذِيرٍ﴾. هذا الاستنتاج المثير للدهشة والاستغراب منبثق من اعتقاده بكون القرآن عبارةً عن نص مقتبس من آيات

التوراة والإنجيل لا غير وأنّ مهمّة النبيّ اقتصرت على ترجمة هذه الآيات لقومه إلى العربيّة(2).

ومما ادعاه - أيضًا - أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بدأ يتفاخر على (أهل الإسلام) الذين التحق بهم منذ أن نزلت سورة القلم، وفضّل الكتاب الذي درسه معهم ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(16)أَمْ لَكُمْ كِتَبُ فِيهِ تَدْرُسُونَ(37)﴾(3). وقد فسر كلمة (المسلمين) المذكورة في الآية 35 بالنصارى.

كما ادعى أنه لم يدرس هذا الكتاب فحسب، بل درس جميع الكتب المقدّسة؛ كي يعلّم آياتها للعرب الذين كانوا في غفلة عنها؛ وهو ما أشارت إليه الآية 156 من سورة الأنعام - برأيه-: ﴿أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى طَابِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ﴾، حيث اعتبر هذه السورة شاهدًا على أنّ بعثته صلوات الله عليه وآله تعني دراسته الكتاب والحكمة ومن ثمّ تعليمهما للعرب الغافلين عنهما، لكنّه مع ذلك قال إنّه لا يوجد تناف بين دراسة الكتاب ونزول الوحي(4)؛ لأنّ تكرار مضمون الكتاب المقدّس يعتبر ضربًا من الوحي.

وكذلك استند في مدّعاه بكون النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أمر بأن يُسمّي القرآن كتاب، إلى الآيتين 196 و 197 من سورة الشعراء: ﴿وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِينَ(196)أَوَلَمْ يَكُن لَّمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ، عُلَموا بَنِي إِسْرَءِيلَ(197)﴾حيث زعم على ضوء مضمون هاتين الآيتين أنّ الوحي الإلهيّ موجود في الكتب السابقة فقط(5).

ص: 446


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 331.
2- راجع: م. ن، ص. ن. أشار في كلامه هذا أيضًا إلى أنّ الهدف من إنزال الكتاب في إطار قرآن عربي يتمثل - فقط - في هداية العرب إلى الكتاب.
3- سورة القلم، الآيات 35 إلى 37.
4- راجع: يوسف درة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 330 – 332.
5- راجع: م. ن، ص 333.

وحينما نمعن النظر في هذا الكلام نلمس فيه بوضوح كيف أنّ هذا المستشرق اعتمد على الفرضيات المرتكزة في ذهنه ليطرح آراء ذوقيّةً في تفسير النصّ القرآني، وعلى هذا الأساس بادر إلى تفكيكها عن سياقها وانتقاء العبارات والألفاظ التي تنصب في ما يثبت رأيه؛ ولتقويم سقم أو ما ذكره أو صوابيته، سنتطرّق أوّلًا إلى تحليل سياق أوّل آيةٍ استند إليها ونوضّح مضمونها؛ وهي الآية 105 من سورة الأنعام.

وهناك ملاحظات عدّة تجدر الإشارة إليها بخصوص سياق هذه الآية؛ وهي:

الملاحظة الأولى : الموضوع المحوري في سياق الآية هو إثبات بعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛بوصفه حاملًا لرسالة السماء، وتفنيد مزاعم المشركين بكون القرآن ليس كتابًا منزلا بالوحي، فهي بصدد الردّ على الذين أنكروا الوحي والنبوّة؛ وقد سبقتها آيات عدّة تحدّثت عن بعثة الأنبياء السابقين؛ ومثال ذلك: الآية 91 التي هي قريبةٌ نسبيًّا من آية البحث(1)، حيث قال - تعالى - فيها إنّ القوم ما قدروه حق قدره؛ عندما ادعوا أنّه لم ينزل على بشرٍ من شيء، وهي على هذا الأساس تشير إلى أنّ حكمة الله - تعالى - ورحمته تقتضيان بعث أنبياء لهداية بني آدم وفيها عبارتان صريحتان بهذا المعنى؛ هما قوله - تعالى -: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ، مُوسَى ، وقوله - تعالى -: ﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعلَمُوا أَنتُمْ وَلَا ءَابَاؤُكُمْ﴾.

والنبي موسى(علیه السّلام)وكتابه، ذُكِرًا في الآيات المشار إليها؛ بوصف رسالته أنموذجا لرسالات السماء، والعبارة الثانية التي ذكرناها من الآية 91 تدلّ على وجود أحكام وقوانين صالحة بين الناس وصلت إليهم عن طريق أنبيائهم ، فقوله - تعالى -: ﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا﴾لا يحكي عن المعارف الموجودة في التوراة فقط، بل يُراد منه جميع الأحكام والمعارف السائدة بين البشر عن طريق الوحي والكتب السماوية(2).

والآية 92 جاءت بعد ذِكْر الكتب السماويّة لتؤكّد على أنّ القرآن من جملتها(3)، وهذا

ص: 447


1- قال - تعالى -: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشِرَ مِنْ شَيءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ فَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(سورة الأنعام، الآية 91).
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية.
3- قال - تعالى -: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكُ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيَنْ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾(سورة الأنعام، الآية 92).

الأسلوب في البيان يدلّ على أنّ ذِكْر التوراة ليس سوى مقدّمة لذِكْر القرآن لأجل إشعار الناس بأنّ إنزال كتاب من السماء ليس بالأمر الجديد أو العجيب(1)، وعبارة: ﴿وَهَذَا كِتَبُ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكُ﴾ في هذه الآية دليل واضح على أنّه منزل من قبل الله -تعالى- وليس ترجمةً عربيةً لآيات الكتاب المقدّس من قِبَل النبي محمّدِ(صلی الله علیه و آله و سلم).

كما أنّ المشركين -بحسب تعبير الآية 91- أنكروا إنزال كتاب من الله على بشر، حيث حاججوا النبي الا الله قائلين : مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾، والقرآن بدوره حاججهم بالكلمة ذاتها - أي إنزال في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾،كما أنّ الآية 92 أشارت إلى المضمون نفسه للتأكيد على قدسيّة القرآن، وكونه كتابا منزلًا بالوحي: ﴿وَهَذَا كِتَبُ أَنزَلْتَهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْهَا﴾.

والآيتان 93 و 94 أشارتا إلى حال الظالمين؛ حينما يحلّ بهم الموت، وفيهما خطاب موجه إليهم من قبل الله -عزّ وجلّ- لحظة موتهم وحين بعثهم في يوم القيامة، وفيهما تأكيد على أنّهم لا ينالون أيّ نفع آنذاك ولا يشفع لهم أحد.

والآيتان 95 و 96 فيهما -أيضًا- خطاب موجه إلى المشركين، على ضوء ذكر عظمة خلق الله -سبحانه وتعالى- باعتبارها دليلًا على وحدانيّته.

والآيات 100 إلى 103 تحكي عن بطلان معتقدات المشركين والخرافات التي كانوا يروّجون لها.

والآية 104 فيها تأكيد على وجود براهين جاءتهم من عند الله -تعالى-، وقد وصفت بالبصائر.

والآية 105 تشير إلى أنّ الإنسان هو الذي يختار مسيره في الحياة؛ فإما أن يهتدي إلى سواء السبيل وإمّا أن يضلّ عنه؛ أي بيده اتباع الحق أو الباطل ؛ وقوله -تعالى-: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِفُ الْآيَتِ ...﴾يدل على أنّه -تبارك شأنه- قد وضّح للناس حقانية دينه بشواهد وأدلّةٍ مختلفةٍ؛ مثل: الخلق وما سيحدث في يوم القيامة، والمصير الذي سيواجهه الظالمون حينذاك؛ لكن مع ذلك هناك من يعارض هذه الحقائق دون دليل مقنع؛ بزعم

ص: 448


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية.

أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قد تعلم كل ذلك من اليهود والنصارى وكتبهم التي درسها(1):﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾؛ لكن وهناك من يذعن إلى الحقِّ عن علم وبصيرة: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.

ولم ينفك المشركون لحظةً عن اتّهام النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن ما جاء به؛ إنّما تعلّمه من الآخرين، وهذه التهمة تكرّرت؛ بهدف التشكيك في حقانية القرآن وتفنيد آياته(2).

ولا شك في بطلان مزاعم المشركين من الناحية التأريخيّة، فأوضاع بيئة الجزيرة العربية معروفة آنذاك، إذ لم تكن هناك مدرسةً ولا مركز يتعلّم فيه الناس؛ كي يدعى أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ذهب إلى هناك ودرس الكتاب المقدّس، فضلًا عن أنّ ما لدى يهود ونصارى الحجاز آنذاك من

ص: 449


1- كلمة (درست) فيها قرائتان متواتران؛ هما (درست) بمعنی تعلّمت، والأخرى (دارست)؛ بمعنى ذاكرت . (الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4،ص 533؛ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن ج 7، ص 205). (راجع: أيضًا: عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تفسير غريب القرآن ،لبنان ،بیروت، منشورات دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى، ص 137). استنادًا إلى هاتين القرائتين (درست - دارست) فالمشركون حينما عرضت عليهم آيات القرآن وبصائره وبراهينه كانوا يقولون للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنها ليست من عندك، وإنّما تعلمتها من أولئك الذين درست عندهم، أي أنّك بعد أن ذاكرت أهل الكتاب أخبرتنا بها. (الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4،ص 533؛أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن،ج 7، ص 205). المشركون لم يصفوا ما آتاهم به النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بكونه حقًا أو باطلا، وما إن كان علميًّا أو أسطوريا ؛ بل غاية كلامهم أنه ليس وحيًا يوحى، أي أنه لم يطلع عليه من خلال وحي السماء ولم يتعلّمه من الله -تعالى-، لذا فهو ليس بنبي مرسل يخبرهم برسالة السماء، وإنّما درس عند الآخرين وأخبرهم بما درس ليدعي أنه نبي. للاطلاع أكثر، راجع: سورة سبأ، الآية 43؛سورة الفرقان، الآية 4. حسب القراءة غير المشهورة (درست) فاللام في قوله - تعالى -: ﴿لِيَقُولُوا﴾تفيد التعليل، وعلى هذا الأساس فالمعنى هو (الكراهية أن يقولوا) و(لأن لا يقولوا)؛ لأنّ المشركين كانوا يتهمون النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بنقل كلام غير علمي قوامه أساطير الأوّلين ورفضوا كلّ ما جاءهم به من براهين وبصائر. (للاطلاع أكثر، راجع: أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، معاني القرآن، ج 1، ص 349). (راجع أيضًا: سورة الأنعام، الآية 25). والقرآن بدوره ردّ على هؤلاء الذين اتهموا آيات الله بالأساطير المندرسة دون أن يقيموا أي برهان على ذلك، مؤكدًا على أنه بصائرُ منه تبارك شأنه. للاطلاع أكثر، راجع: سورة الأنعام، الآية 104. ولذلك أكد الله -تعالى- على أنّ نبيه جاءهم ببصائر متنوّعةٍ وفي مجالاتٍ شتّى؛ كي لا يدعوا أنّ ما يقوله أساطير الأوّلين، ومما قاله الطبرسي في هذا المجال: «ثمّ بيّن -سبحانه- أنه بعد هذه الآيات قد أزاح العلّة للمكلّفين، فقال (قد جاءَكم) أيها الناس (بصائر) بينات ودلالات (من ربكم) تبصرون بها الهدى من الضلال وتميزون بها بين الحق والباطل». (الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4، ص 533).
2- للاطلاع أكثر، راجع: الآيات التالية: سورة الأنعام، الآية 25؛سورة الأنفال، الآية 31؛سورة النحل، الآية 24؛سورة المؤمنون، الآية 83؛ سورة الفرقان، الآية 5؛سورة النمل، الآية 68؛سورة الأحقاف، الآية 17؛سورة القلم، الآية 15؛سورة المطففين، الآية 13.

معلومات كان ضئيلا للغاية ومشوبًا بالأساطير والخرافات؛ بحيث لا يمكن مقايسته مع النص القرآني الرصين الزاخر بالمعارف(1).

ولو قرأنا (درست) بشكل (دارست) فحرف اللام في عبارة (ليقولوا) يُراد منه العاقبة(2)،والمقصود -هنا- هو أنّنا نبيّن الكثير من الآيات، لكن مع ذلك تجدهم يقولون هذا الكلام، لذلك جاءت اللام مرتين في قوله - تعالى -: ﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، ومن ثمّ تترتب على تصريف الآيات نتيجتان هما تزاید انحراف المشركين، وتزايد علم الذين يعلمون. وهذا الكلام يعني أن تصريف الآيات يسفر في النهاية عن تمادي الكفّار وانحرافهم وشقائهم جراء زعمهم أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)تعلم القرآن من الناس بعد أن درس عندهم. وأشارت الآية 82 من سورة الإسراء إلى أنّ القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين وخسرانٌ للظالمين، حيث قال - تعالى -: ﴿ وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾(3)وهذا المضمون تكرّر في [12] آيات عدّة، كما أنّ الآية ذُكِرَت في سياق مواساة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد أمر في الآيات التي سبقتها ولحقتها بأن يفعل ما يُؤمر به قبال التهم التي تُوجّه إليه من قبل المشركين؛ لأنّ واجبه هو اتباع ما يُوحى إليه من قبل الله -تعالى- وعدم الاكتراث بما يقوله المشركون من أباطيل

ص: 450


1- للاطلاع على تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، راجع: سامي عصاصة، القرآن ليس دعوةً نصرانيةً : ردّ على كتابي الحداد والحريري (القرآن دعوة نصرانيةٌ) (قس ونبي)، سوريا، دمشق، الطبعة الأولى، 2003م.
2- قال الطبرسي: «من قرأ (دارست) فمعناه أنك دارست أهل الكتاب وذاكرتهم، ويقوّيه قوله (وَأَعانَهُ عَليهِ قَومٌ آخرون)، ومن قرأ (درست) فحجته أن ابن مسعود قرأ (درس) فأسند الفعل فيه إلى الغيبة كما أسند إلى الخطاب، ومن قرأ (درست) فهو من الدروس الذي هو تعفي الأثر أي انمحت ويكون اللام في ( ليقولوا) على هذا بمعنى لكراهية أن يقولوا ولأن لا يقولوا إنّها أخبار قد تقدمت فطال العهد بها وباد من كان يعرفها». (الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4، ص 534). راجع أيضًا: محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 7، ص 57.
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية. اعتبر بعض المفسّرين قوله - تعالى -: ﴿ لِيَقولوا﴾معطوفًا على جملة محذوفة تدلّ عليها القرينة، والفخر الرازي قدر المحذوف بقوله: «كذلك نصرف الآيات لتلزمهم الحجّة وليقولوا....»، حيث عزا حذف المعطوف عليه إلى وضوحه. (راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 13، ص 106). وهناك من فسّر المعطوف عليه بشكل آخر يختلف قليلا عمّا تبنّاه الفخر الرازي، حيث صاغ الجملة القرآنية بالتالي: «ونصرف الآيات لتتم الحجّة عليهم أو ليتذكروا ويتفهموا أو ليقولوا...»، وعزا حذف المعطوف عليه إلى عدم فائدة هذا التذكير وانعدام تأثيره عليهم جراء غفلتهم وضلالهم. (راجع حسن المصطفوي، تفسير روشن (باللغة الفارسية)، ج 8، ص 122) راجع أيضًا: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4، ص 534.

الملاحظة الثانية: ما ذكره يوسف درّة الحدّاد يختلف في الواقع عمّا قاله صاحب تفسير الجلالين، حيث استند لدى تحليله مضمون الآية 105 من سورة الأنعام إلى ما ذُكِرَ في هذا التفسير لإثبات صحة مدّعاه ؛ لكنّه لم يراع الأمانة العلميّة، بل اكتفى بنقل العبارة التي تدعم رأيه، دون أن يشير إلى تلك العبارة التي تفنّد هذا الرأي من أساسه.

ونذكر في ما يلي نصّ تفسر الجلالين للآية المذكورة؛ كي تتضح الصورة للقارئ الكريم: «(وَكَذَلِكَ) كَمَا بَيَّنَّا مَا ذُكِرَ، (نُصَرِّف) نُبَيِّن (الْآيات) لِيَعْتَبِرُوا (وَلِيَقُولُوا) أَيْ الْكُفَّارِ فِي عَاقِبَة الأمر: (دارست) ذَاكَرْت أَهْل الْكِتَاب؛ وَفي قِرَاءَة (دَرَست)، أي كتب الماضين وجئت بهذا منها (ولنبينه لقوم يعلمون)»(1)مؤلّف هذا التفسير - كما هو واضح في نص كلامه-، فسر عبارة (ليقولوا) بأنّ الكفّار يقولون في النهاية أنّك ذاكرت أهل الكتاب، أو أنّك درست كتب القدماء.

وما يدعو للأسف أنّ الحدّاد تجاهل الأمانة العلمية بالكامل، وخالف أصول البحث العلميّ؛ حينما حذف عبارةً دلاليّةً أساسيّةً في ما نقله من التفسير المذكور، ومن خلال تفكيكه كلام المفسّر، اكتفى بذكر جانبِ منه -فقط- ؛ بهدف إثبات رؤيته الخاطئة في تفسير قوله - تعالى -: ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾. لذا نطرح على هذا المستشرق الاستفسارين التاليين: كيف استنتج أنّ هذه العبارة القرآنية تصرّح بكون النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)درس الكتاب المقدس؟! فهل يمكن ادّعاء أن نقل تهمة الكفّار والمشركين له في الآية وذكر أسلوبهم المسيء في التعامل مع آيات الله -تعالى-، بأنّهما تأييد لمزاعمهم ؟!

الملاحظة الثالثة: لو أمعنّا النظر في المعنى الذي يترتب على استخدام حرف اللام في عبارة "لِيَقُولُوا" سوف يتّضح لنا المقصود؛ فهذا الحرف من الناحية اللغوية يستخدم لبيان الغرض، لكنّه يستخدم مجازًا للدلالة على النتيجة - عاقبة الأمر- وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ لام الغرض ولام التعليل تدلان على الدافع من وراء القيام بعمل ما؛ بينما لام الغاية تدلّ على الغاية من العمل والنتيجة التي تترتب عليه؛ حتّى وإن لم تكن مقبولةً لدى الفاعل؛ ومثال ذلك: قوله -تعالى- في الآية 42 من سورة الأنفال: ﴿...لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَى عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعُ عَلِيمٌ﴾. من المؤكد أن الغرض الأساس لله -عزّ وجلّ- هو بعثة

ص: 451


1- جلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين، ص 144.

الأنبياء والرسل إلى الناس، لا إهلاكهم، فحتى إهلاك المذنبيّن والظلمة جرّاء عصيانهم وظلمهم وبعد إتمام الحجّة عليهم، لا يسفر عن سروره ورضاه، إذ غاية ما في الأمر أنّ هذه الظاهرة السلبية تحدث على خلاف رغبته -تعالى- والتي تتجلّى معالمها في بعثة الأنبياء والرسل إلى البشر وإنزال الكتب السماوية إليهم، فهي في الحقيقة ثمرة الخيار السيئ للكفار والمشركين.

ونستشف من مضمون الآية 105 من سورة الأنعام أنّ الله -سبحانه وتعالى- أنزل القرآن لهداية البشر وضمان سعادتهم وكسب رضاهم، ولا تدلّ -كما ادّعى الحداد- على أنّ الناس لم يؤمنوا بقدسيته؛ بوصفه كتابًا منزلا من السماء على ضوء اتّهامهم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه درس العهدين وانتهل من تعاليمهما؛ وهذه الظاهرة السلبيّة تعدّ واحدةً من النتائج والغايات التي تترتب عليها، لذلك فإنّ ذِكْر هذا الموقف على لسان الكفّار ومعارضي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذه الآية، لا يعني بتاتًا تأييد القرآن لهم بداعي صدق قولهم وصوابية حكمهم، لذا على الرغم من أنّ اللام تحتمل معنيين في بادئ الأمر ، إلا أنّ احتمال كونها للتعليل ينتفي على ضوء مدلول سائر الآيات؛ مثل قوله -تعالى- في سورة الفرقان: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(5)قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (6)﴾(1)والقواعد اللغوية تقتضي أن ننسب الاحتمال الثاني إلى صاحب الكتاب، وهذه النسبة تتناغم مع محتوى سائر الآيات(2)، لذا يبطل ما ادعاه الحدّاد بكون هذه الآية تصرح بأنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)درس الكتاب، فهذا الادّعاء على خلاف التفسير الصائب لها ولسائر الآيات التي تذكر بصريح العبارة أنّ القرآن منزل من قِبَل الله - عزّ وجلّ - ويحمل إلى البشر أخبار الغيب.

الملاحظة الرابعة: حتّى إذا أذعنا بأنّ اللام في عبارة: ﴿لِيَقُولُوا﴾ تفيد التعليل والدافع، في هذه الحالة -أيضًا- لا يمكن للحدّاد إثبات رأيه على أساسها، فالآية في بدايتها أشارت إلى تصريف الآيات من قِبَل الله -عزّ وجلّ-، ثم ذكرت سببين لبيان الحكمة من ذلك؛ هما:

- قولهم للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(درست).

- إيجاد علم لديهم.

ص: 452


1- سورة الفرقان، الآيتان 5 - 6.
2- راجع: محمد حسن زماني، مستشرقان و قرآن: نقد وبررسي آراء مستشرقان درباره قرآن (باللغة الفارسية)، إيران ،قم، منشورات مؤسسة بوستان كتاب، الطبعة الأولى، 2006م، ص 162.

والظاهر من السبب الأوّل هو أنّ الله بيّن لهم أدلّةً، لكنّهم جراء سفاهتهم وجهلهم قالوا (درست) فازدادوا كفرًا؛ بينما ازداد إيمان الآخرين وثبتت قلوبهم على دينهم؛ ونظير ذلك قوله -تعالى- في الآية 26 من سورة البقرة: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، وقوله -تعالى- في الآية 125 من سورة التوبة: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَفِرُونَ﴾.

إذًا، الآية في مقام بيان كفرهم بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)والقرآن، والله - تعالى - جعل ذلك سببًا لضلالهم(1).

واستند يوسف درّة الحدّاد إلى الآيات 35 إلى 37 من سورة القلم لإثبات رأيه في تفسير الآية 105 من سورة الأنعام؛ وفي هذا السياق فسّر كلمة (المسلمين) المذكورة في الآية 35 بالنصارى وادّعى أنّ الآية 37 دليل على كون النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)درس الكتاب المقدس.

وكذلك قال إنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)منذ نزول سورة القلم بدأ يتفاخر على (أهل الإسلام) الذين التحق بهم وراح يبحث عن مقام أفضل بالنسبة إلى الكتاب الذي درسه عندهم.

والآيات هي: ﴿أَفَنَجْعَلُ المُسلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)لَكُمْ كِتَبُ فِيهِ تدرسُونَ﴾

وجدير بالذكر أنّ الحدّاد لم يذكر في كتابه (مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحيّ) أيّ عبارة من الآية 35 تدلّ على أنّ كلمة (المسلمين) فيها تعني أهل الكتاب؛ أي النصارى بالتحديد؛ فهؤلاء برأيه أهل كتاب كانوا مسلمين قبل ظهور الإسلام والنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)درس كتابهم والتحق بهم، ثم حاول الترفّع عليهم بالكتاب الذي درسه عندهم! وعلى هذا الأساس استنتج من الآية أن السبب في بعثه صلوات الله عليه وآله هو عدم اكتراث العرب بالكتاب والحكمة - التوراة والإنجيل - وغفلتهم عن تعاليمهما؛ لذلك بُعِثَ؛ كي يتلوهما عليهم(2).

واستهلت سورة القلم بالثناء على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)والتذكير بخلقه العظيم، ثمّ أشارت إلى سوء خلق أعدائه وكيف أنّ المشركين اتهموه بالجنون؛ لذلك واساه الله فيها وأمره بأن يصبر لحكمه تبارك شأنه.

ص: 453


1- راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 13، ص 107.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 331.

وآيات سورة القلم التي سبقت الآيات الثلاثة - 35 إلى 37 - التي استند إليها الحدّاد، أشارت إلى صفات المكذبين وذكرت بعض خصالهم ،السيّئة، وفي هذا المضمار استشهدت بقصّة أناس كانت لديهم حديقةٌ مثمرةً وُصفوا فيها ب- "أَصْحَابَ الْجَنَّةِ"، ومن جملة الكلمات التي وصفوا بها أنفسهم ،(ضالّون، طاغون، ظالمون، محرومون)، كذلك نقلت على لسان بعضهم عبارة (لولا تسبّحون). ونستشف من هذه الكلمات أنّ هؤلاء تجاهلوا عظمة الله -عزّ وجلّ - وخالفوا أوامره، ولم يتصدّقوا على الفقراء ممّا أغناهم الله، لذا حينما حلّ بهم العذاب الإلهيّ أقرّوا بطغيانهم وتوجهوا إليه. وبعد ذكر نتيجة أعمال هؤلاء، شبّهت الآيات عقابهم بالعقاب الذي سيطال بعض الناس في عالم الآخرة؛ لتؤكّد على أنّ عذابه أشدّ ، وفي الحين ذاته أشارت إلى النعيم الذي سيُكرم به الصالحون في الجنّة.

وفي خضم هذا السياق وتأصيل ثمرة ما ذُكِرَ في ذهن المخاطب، بلغ الكلام مبلغًا آخر ليتوجه الله - تعالى - إلى المشركين ويؤنّبهم ويتوعدهم جرّاء ادّعائهم بأنّ أوضاعهم في القيامة ستكون كما هو حالهم في الدنيا، حيث سينعمون ولا يطالهم أي عذاب؛ إلا أن النص القرآني طرح استفهامًا إنكاريًا في هذا السياق؛ فحواه: هل المجرمون كالمسلمين ؟ وذلك للتأكيد على أنّ أوضاع المسلمين الذين يؤمنون بالحقِّ قطعًا ليست كأوضاع المشركين والمجرمين. لا شك في أن حكم العقل يؤيد هذه القاعدة القرآنية، فالمسلم ليس كالمجرم قطعا؛ كذلك ليس هناك أي كتاب يحكم بكونهما متكافئين، وليس هناك أيّ ميثاق يتيح للظالمين أن يحكموا بكلّ ما ينصب في نفعهم.

واصلت الآية 47 سياق الاستفهام الإنكاري، حيث تساءلت استنكارا لموقفهم: هل لديكم علم الغيب؛ كي تزعموا أنكم كالمسلمين ؟!(1)

وأكّدت الآية 42 على سفاهة هؤلاء المستكبرين وذلّتهم في يوم القيامة، حيث وصفت أحوالهم آنذاك؛ وكيف يُكشف عن سيقانهم ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وهم في هذه الحالة خاضعة أبصارهم من شدّة الندم؛ كما وصفتهم الآية 43(2).

ص: 454


1- قال - تعالى -: ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾(سورة القلم، الآية 47).
2- قال -تعالى-: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ (سورة القلم، الآيتان 42 - 43).

لا شكّ في أنّ عدم سجود هؤلاء لله -تعالى- في الحياة الدنيا دليل واضح على روحهم الاستكبارية وطغيانهم وانحرافهم عن سواء السبيل.

وبعد ذلك أشارت الآية 44 هذه السورة إلى استدراجهم من حيث لا يشعرون، وهذا العذاب التدريجيّ سبب في غرورهم وغفلتهم أكثر مما سبق.

كلّ هذه الشواهد تدلّ على أنّ كلمة (المسلمين) في الآية المذكورة يُراد منها أولئك الذين يؤمنون بالله -تعالی- ويتّبعون الحقِّ؛ وهم في مقابل الطغاة المتمرّدين الذين أصابهم الغرور واستكبروا؛ لذا لا موضوعيّة لتقييدها بالنصارى؛ كما ادعى الحدّاد(1)، إذ مصداقها هو من يخضع لله -تعالى- ولا يتّبع إلا ما يأمره به؛ بحيث يفعل ما يُطلب منه ويُعرض عمّا يُنهى عنه.

وقوله - تعالى - في الآية 37: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَبُ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ في مقام بيان إحدى الذرائع التي تشبّث بها الكفّار لزعم أنّ المجرمين كالمسلمين، وهنا تطرح ثلاثة احتمالات في تفسيره؛ فإما أن يكون ادّعاؤهم هذا مطابقًا لحكم الله - تعالى- أو لا، فإذا كان مطابقًا له ففي هذه الحالة يجب أن يحكم به العقل أيضًا؛ لكن الواقع على خلافه، فهو غير مطابق لحكم الله بحسب مضمون الآية 36 التي استنكرت حكمهم؛ باعتباره يتعارض مع العقل السليم : ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾. وإمّا يكون قائما على دليل نقلي، وهو ما سألت عنه الآية 37: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَبُ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾؛ أي هل لديكم كتاب استنتجتهم منه هذا الحكم؟! هذا الاستفهام الإنكاري يدلّ على عدم وجود هذا الكتاب لديهم قطعًا. وإما أن يكونوا على ارتباط بعالم الغيب؛ بحسب مضمون الآية 47 ، وهذا الأمر غير متحقق بكل تأكيد؛ لأنّ الأنبياء والرسل -فقط- هم الذين لهم ارتباط بعالم الغيب.

إذا ما هي القرينة التي استند إليها الحدّاد في هذه الآية ليدّعي أن النبي محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يسعى إلى الترفّع على المشركين بفضل دراسته الكتاب المقدّس ؟! إنّه سؤال لا يمكنه الإجابة عنه، لذا لا محيص له من الإعراض عن رأيه.

وبما أنّ كلمة (كتاب) في هذه الآية نكرة؛ من حيث صياغتها اللغوية، لذا من الممكن أن تشمل كل نص مدوّن أو كتاب سماوي؛ ولكن ما هو دليل الحداد في تقييدها بالكتاب

ص: 455


1- كلمة (مسلمين) تكرّرت في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرّةً، وأكثر ما ذكرت في: سور البقرة، وآل عمران، والمائدة، ويونس، والنحل والنمل، وهي في جميع هذه المواضع ذاتُ مفهوم واحدٍ ؛ وهو عدم عصيان أوامر الله عزّ وجلّ؛ لذا ليس هناك أي مسوغ يدعونا إلى تخصيصها بالنصارى.

المقدّس؛ على الرغم من عدم وجود أيّ قرينة في السورة بأسرها تدلّ على رأيه هذا؟! إذا كانت هذه الآية وازعًا لادّعائه أنّ النبي درس الكتاب المقدّس، ففي هذه الحالة لا بد له من الإذعان إلى أنّه كان على ارتباط بعالم الغيب؛ طبقًا لمضمون الآية 47:﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾، لأنّ هذه الآية من حيث السّياق على غرار الآيتين 36 و 37، حيث تذكر أحد الاحتمالات التي يمكن على أساسها تبرير مزاعم المشركين؛ بكون المسلمين كالمجرمين، وبأسلوب إنكاري طبعًا؛ لكننا لا نجده يصرّح بهذا الأمر ، أي لا يقول بأنّ النبي كان على ارتباط مع عالم الغيب(1).

وضمن تقرير رأيه المذكور، استشهد أيضًا بالآية 44 من سورة سبأ، وقال في هذا الصدد: «النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)على ضوء دراسته الكتب المقدّسة، كان يسعى إلى الترفع على قومه: ﴿وَمَا ءَانَيْنَهُم مِّن كُتُبِ يَدْرُسُونَهَا يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَذِيرٍ﴾ [سورة سبأ، الآية 44]»(2).

وتشير سورة سبأ في الحقيقة في بعض آياتها إلى بعثة الأنبياء السابقين، وتؤكّد على بعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بالأخص ،وفي هذا السياق تبيّن الذرائع التي تشبّث به، منكرو نبوّته لتفنيد ما جاء به من وحي.

وتتحدّث الآيات الوسطى من هذه السورة عن موقف المشركين إزاء مسألة المعاد؛ محذرةً إياهم من عاقبة موقفهم المنحرف هذا، والآية 31 نُقِلَ فيها كلامٌ على لسان الكفّار، وأشارت إلى إصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن وسائر الكتب السماوية المنزلة قبله(3)؛وعبارة: ﴿وَلَا بِالذِى بَينَ يَدَيْهِ﴾ في هذه الآية، يُقصد منها عدم إيمانهم بالكتب السماوية المنزلة قبل القرآن، ونلمس هذا المضمون في الكثير من الآيات، ولا سيّما بعد أن تشير إلى القرآن؛ لذا لو قيل إنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يأت بشيء سوى ما درسه من الكتاب المقدس، فلا موضوعيّة لذِكْر عبارة: ﴿بِهَذَا الْقُرْءَانِ﴾ في هذه الآية، فهل هناك سبب يدعو إلى ذِكْرها بحسب هذا القول؟! فالمخالفون ضمن مساعيهم الرامية إلى إنكار نبوّته، فنّدوا مصداقية سائر الكتب السماوية قائلين: نحن لا نؤمن بقرآنك ولا بتلك الكتب.

ص: 456


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 331.
2- راجع: ام. ن، ص 331.
3- قال -تعالى-: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيَنْ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة سبأ، الآية 31).

والآيات 40 إلى 43 من هذه السورة تحكي عن أوضاع يوم القيامة وموقف الله -تعالى- والملائكة والمشركين وكيف أنّهم سيتواجهون حينها، والآية 42 بالتحديد تتحدّث عن أوضاع المشركين والكافرين والآيات 43 إلى 45 تتطرّق إلى بيان أوضاعهم في الحياة الدنيا وسلوكهم الخاطئ؛ حينما تليت عليهم آيات القرآن، فهذا الموقف يدلّ بوضوح على سوء عاقبتهم يوم القيامة، وهو ما تمّ التأكيد عليه - أيضًا - في الآيات السابقة؛ فهؤلاء اتخذوا موقفًا متعصّبًا إزاء كلام الله، لذا كلّما تتلى عليهم آياته كانوا يتعاملون معها على أساس تعصبهم القومي ونزعاتهم القبليّة ويستندون إلى الأسلوب الذي اتَّبعه آباؤهم - أسلافهم - في التعامل مع القضايا الدينية.

وضمن موقفهم المعاند ،هذا اتهموا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بالافتراء والكذب على الله، ثمّ زعموا أنه ساحر بحسب مضمون الآية ،43 لكن جاء الردّ عليهم في الآية 44 لتفنيد مزاعمهم الواهية عبر التأكيد على عدم امتلاكهم أيّ كتاب سماوي يمكنهم الاستناد إليه في إثبات كلامهم الباطل وتفنيد النبؤة التي دعوا إلى الإيمان بها: ﴿وَمَا ءَانَيْنَهُم مِّن كُتُبِ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَذِيرٍ﴾، فالذين يمكنهم تكذيب النبي المرسل وتوجيه هذه التهم له، هم من أُرسل إليهم نبي قبل ذلك بكتاب سماوي، حيث يبادرون إلى هذا الأمر عندما يلاحظون تعاليم كتاب النبي الجديد وكلامه متعارضين مع تعاليم كتابهم وكلام نبيّهم، لذا بإمكانهم تكذيب دعوته، أو اعتبارها متعارضةً مع دين آبائهم، أو حتّى اتّهامه بأنه ساحر؛ بينما المشركون والكافرون لا تتوفّر فيهم هذه الشروط، وكلّ ما ذكروه بخصوص وحي السماء والتعاليم التي جاءهم بها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لا يتعدى كونها مزاعمَ واهيةً قائمةً على أساطير وخرافاتٍ لا ربط لها بأي وحي ولا مرتكز علميًّا لها، فقد أصروا على اتباع أهوائهم دون مسوّغ يذكر، ورفضوا الحق لما جاءهم، والبنية اللغوية للآية 44 هي في الحقيقة جملة حالية لا بد من تفسيرها إلى جانب الآية السابقة لها(1)، لذا يكون تفسيرهما ما يلي: كفار قريش اتهموا الحق الواضح والصريح بالسحر والحال أننا لم نؤتهم أي كتاب يدرسونه كي يستندوا إليه في إنكار هذا القرآن، كما لم نبعث إليهم نبيًّا قبلك كي يدعوا أنّه وضّح لهم الحق وميّزه عمّا هو ليس بحقِّ؛ كي يستندوا إليه -أيضًا- في إنكار هذا القرآن.

وحذرت الآية 45 بصريح العبارة الذين يكذبون بآيات الله ورسله من عذاب أليم.

ص: 457


1- للاطلاع أكثر، راجع؛ محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 388.

ونصحت الآية 46 المشركين بأن يقوموا لله -تعالى- وأن يتفكّروا ، وفي الحين ذاته برّأت النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)من تهمة الجنون التي من تهمة الجنون التي ألصقت به؛ وعلى أساس هذا السياق نطرح السؤال التالي على الحدّاد : لو افترضنا أنّ النبي كان يتلو الكتاب المقدّس على المشركين، فلِمَ اتهموه بالجنون؟

والآية الأخرى التي استند إليها الحدّاد لإثبات رأيه المذكور؛ هي الآية 156 من سورة الأنعام، حيث استدل من محتواها على أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)درس الكتب السابقة، بقوله: «محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)درس الکتاب، بل درس جميع الكتب المقدّسة؛ لأجل أن يعلّمها للعرب الذين كانوا في غفلة آنذاك ﴿أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 156]»(1).

وقال - أيضًا -: «محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)طلب من قومه أن يقرأوا التوراة والإنجيل؛ الكتابين اللذين أنزلا إلى اليهود والنصارى قبل ذلك؛ فالمشركون لم يقرأوهما حتى بعث محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(2)والسبب في نزول القرآن على المشركين يعود إلى عدم قدرتهم على قراءة التوراة والإنجيل إثر عدم معرفتهم

باللغة العبرية، لذا نقل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)تعاليمهما إليهم بلسان عربي مبين»(3).

وكذلك استند إلى الآية 105 من سورة الأنعام؛ ليدّعي أنّها سند يؤيد استنتاجه، حيث قال:

«المشركون كانوا على علم ودراية بأنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لقد درس الكتاب وَلْيَقولُوا دَرَسْتَ) [الأنعام 105]، فهو الكتاب ذاته الذي كان يتلوه عليهم ويدعوهم إلى قراءته... لذا هل هناك دليل أكثر صراحةً من هذا يثبت ارتباط محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأهل الكتاب ودراسته التوراة والإنجيل ثمّ نقل مضمون القرآن منهما؟!»(4).

ص: 458


1- يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 330 - 331.
2- استشهد يوسف درّة الحدّاد في هذا الموضوع بما قاله البيضاوي في تفسيره ونص كلامه هو: «(إنما أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَينْ مِنْ قَبْلِنَا) اليهود والنصارى، ولعلّ الاختصاص في إنما لأنّ الباقي المشهور حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم، (وَإِنْ كُنَّا) إِنْ هي المخففة من الثقيلة، ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنّه كنّا (عَنْ دِرَاسَتِهِمْ) قراءتهم، لغافِلِينَ لا ندري ما هي، أو لا نعرف مثلها». (راجع: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وإسرار التأويل، ج 2، ص 190).
3- يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 330 - 331. راجع أيضًا: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 21.
4- يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 21.

وكما نلاحظ، فقد لجأ الحدّاد إلى تقطيع الآيات بأسلوب يعينه على إثبات فرضيته، ورگز بحثه بشكل أساس على الجزء الأخير من الآية: ﴿وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ﴾، إذ راح يردّدها بشكل مكرّر؛ لأجل إثبات مدعاه؛ لكونه يعتبر القرآن مجرّد ترجمة للتوراة والإنجيل، كما أرجع السبب في بعث النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى العرب إلى عدم اكتراثهم بدراسة الكتاب؛ حيث ادّعى أنّه درس كامل نص التوراة والإنجيل بلسان عربي، وبهذا الشكل نبههم إلى غفلتهم.

وطرح الحدّاد هذا الاستنتاج العجيب والمنحاز ضمن تحليله مضمون آيةٍ مسبوقة بآيةٍ أشارت إلى إنزال القرآن الكريم؛ وهي الآية 155: ﴿ وَهَذَا كِتَبُ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ويمكن تقرير ارتباطهما بما يلي: لقد أنزلنا القرآن كي لا يقول الناس: إنّ التوراة والإنجيل المنزلان على اليهود والنصارى؛ هما الكتابان السماويان الوحيدان اللذان فيهما جزئيات الأحكام والتشريعات الدينيّة، ونحن غافلون عن تلاوتهما ودراسة ما فيهما من تعاليم، وبما أنّنا غافلون فلا حرج علينا. كذلك كي لا يقولوا: حتّى وإنْ أنزل علينا كتاب فنحن أفضل من اليهود والنصارى واهتدينا قبلهم.

كما أن المقصود من إنزال القرآن في الآية 156 من سورة الأنعام هو التصدّي لعناد المشركين؛ بذريعة أنّ التوراة والإنجيل - فقط فيهما أحكام دينيّةً، ولا سبيل لنا إلى هذه الأحكام سواهما، وبهذا التبرير يتصوّرون أنّهم قادرون على التنصل من المسؤولية الملقاة على عاتقهم؛ والآية اللاحقة - الآية 157 - تؤيد هذا الأمر بصريح العبارة: ﴿أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَ كُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى﴾.

إذًا، المقصود من إنزال القرآن هو دحض ذريعة المشركين بأنّهم سيؤمنون ويهتدون أفضل من اليهود والنصارى في ما لو أنزِلَ عليهم كتابٌ؛ مثل: التوراة، والإنجيل، فقد أنزل القرآن كي لا يبقى لهم عذر ولا يقولوا: قبل ذلك أنزل كتاب على اليهود والنصارى لكنا غفلنا عن دراسته إذ لم ينزل علينا كتاب كما أنزل عليهم؛ لأنّهم كانوا أهلا لذلك، ونحن لم نكن كذلك، ولو أنّ الله أراد منا ما أراده منهم؛ لأنزل علينا كتابًا؛ كما أنزل عليهم(1).

ص: 459


1- راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4، ص 597.

وجدير بالذكر أن الحرف (ثمّ) في الآية 154 من هذه السورة يدلّ على العطف بانفصال(1)، لذا فالمقصود من الآية - هنا - أنّنا أوّلًا أخبرنا الأنبياء السابقين أوامر السماء والتشريعات العامة وبعد ذلك آتينا موسى الهلال الكتاب وفصلنا فيه الأوامر والتشريعات وبعد ذكر التوراة في هذه الآية، تطرّقت الآية اللاحقة (155) إلى الحديث عن القرآن الكريم.

وأشارت الآية 156 إلى تذرّع المشركين بعدم علمهم بما في الكتب المنزلة سابقًا، و أكدت الآية 157 على أن نزول القرآن فنّد تذرّعهم بعدم وجودهادٍ يرشدهم إلى الحق، وقوله - تعالى- في هذه الآية: ﴿فَقَدْ جَاءَ كُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِشَايَتِ اللَّهِ﴾، أتمّ الحجّة عليهم ولم يُبق لهم أيّ ذريعة أخرى، فقد أنزل الله - تعالى - إليهم بيّنةً وهدى ورحمةً.

والحقيقة أنّ الله عزّ وجلّ أكرم بني آدم بإنزاله القرآن الكريم، وهو حجّةٌ لا تُبقي لأحدٍ منهم أي عذر ليضل عن سواء السبيل، لذا لا يمكن تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ﴾؛ بمعنى أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)درس التوراة والإنجيل وعلمهما للمشركين، فهذا الكلام يوضّح ذرائعهم.

إِذَا، محور الكلام في هذه الآيات الثلاث هو نزول الكتاب وليس دراسة التوراة والإنجيل حيث كانت ذريعة المشركين أنّ الله لو كان قد أنزل عليهم كتابًا قبل ذلك، لاهتدوا قبل غيرهم؛ لذلك أنزل القرآن كي يدحض ذريعتهم هذه.

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقي لعبارة "فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهُ":

قال -تعالى- في الآية 90 من سورة الأنعام: ﴿أُوْلَيْكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهدَتْهُمُ اقْتَدِةً قُل لَّا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾.

ادّعى يوسف درّة الحدّاد أنّ هذه الآية تطلب من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يأمر أتباعه بالاقتداء بالكتاب والحكمة، أي التوراة والإنجيل، ومن ثمّ يمكن القول إنّهم هم النصارى ذاتهم، فالقرآن؛ بحسب هذه الآية وما أشبهها كتابُ هدى وبشرى للمسلمين؛ أي النصارى؛ وفي هذا السياق قال إنّ المراد من قوله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ في الآية 102 من سورة النحل: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ

ص: 460


1- قال - تعالى -: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 154).

رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُنَيَّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾،هو معنى كنائي مكرّر الأتباع محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)الذين ميّزهم النصّ القرآني عن المسلمين بصريح العبارة، وحرف العطف في هذه الآية لا يُراد منه البيان، لذا بما أنّ النبي التحق بالنصارى المسلمين، فقد بين لهم القرآن وفصله بلسان عربي.

والنتيجة النهائية التي توصل إليها من تحليله لهذا الموضوع هي أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)التحق

بالنصارى المسلمين، وأبلغ دعوتهم ذاتها حينما بُعِثَ إلى العرب(1).

فالنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)- برأي الحدّاد - اقتدى في دعوته بهدي أهل الكتاب والحكمة والنبوة، والقرآن بدوره علّم العرب الكتاب والحكمة، ولكن وفق شريعة من الأمر: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبَعْهَا﴾(2)وهذا الكلام يعني أنه على هدي أهل الكتاب والحكمة ، والنبوّة، وهذه الشريعة هي النهج النصراني ذاته؛ إذ النصارى حسب الآيات 89 إلى 90 من سورة الأنعام هم من أعطاهم الله - تعالى - الكتاب والحكمة والنبوّة ، فهم الذين هداهم؛ ومن هذا المنطلق يجب على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)الاقتداء بهم(3).

إذًا، يعتقد الحدّاد أنّ النصارى -فقط- يقيمون الكتاب والحكمة(4)؛ أي التوراة والإنجيل معًا، لذا جاء الأمر الإلهي إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن يلتحق بهم ويتلو القرآن طبقًا لتلاوتهم: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوا الْقُرْءَانَّ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِين(92)﴾(5)وكذلك استنتج من هاتين الآيتين أنّ القرآن اقتدى بهدي النصارى، أي أتباع الكتاب والحكمة والنبوّة(6).

ومغزى كلام الحدّاد، أنّ القدوة التي احتذى بها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)واهتدى بها في نبوّته، تتجسّد في النصارى وكتابهم المقدّس؛ إلا أنّ سياق الآيات التي استدلّ بها لا يدعم رأيه

ص: 461


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 337.
2- سورة الجاثية، الآية 18.
3- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 337.
4- راجع: الباب الثاني من الكتاب للاطلاع على التفاصيل التي ذُكِرَت حول مصطلحي الكتاب والحكمة.
5- سورة النمل، الآيتان 91 - 92.
6- راجع: يوسف درّة ،الحدّاد الإنجيل في القرآن ص 337 . للاطلاع أكثر، راجع: سورة الجاثيه، الآية 18.

هذا، وهذا الرأي في الحقيقة دليل آخرُ على موقفه المنحاز في تفسير النص القرآني، لذا يرد عليه ما يلي:

النقض الأوّل: مرجع الضمير (هم) في عبارة: ﴿فَبِهُدَتْهُمُ اقْتَدِهُ﴾هو 18 نبيًّا ذكروا في الآيات 83 إلى (1)86 ، وقد ذُكِرَت تفاسير عدّة لبيان طبيعة هذه الهداية ونوع الاقتداء، حيث يرى بعضهم أنّ الآية تأمر النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن يتبع سيرتهم في القضايا الروحية والأخلاقية(2)؛ولا سيّما أنّ الآية التي ذكرت فيها هذه العبارة على غرار الآيات الست السابقة لها(3)والتي امتدحت هؤلاء الأنبياء وتحدّثت عن هداهم بفضل الله - تعالى - ؛ كما طلب من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فی الجزء الأخير منها أن يخبر القوم بأنّه لا يريد منهم أجرًا إزاء أداء مهامه المناطة إليه: ﴿ قُل لَّا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ على الرغم من أنّ مفهوم الاقتداء في هذه العبارة ذُكِرَ بشكل مطلق لكن يمكن تفسيره بالصبر على المصاعب وعدم التزلزل أمامها، ويؤيد هذا المعنى ما ذكر في الجزء الأخير من الآية السابقة لها والذي واسى الله -تعالى- فيه نبيّه، وأكد على أنّ هؤلاء المشركين إن لم يؤمنوا ويقبلوا الإسلام دينًا، فسوف يُوكِل الأمر إلى مَنْ يستجيب إلى النداء الإلهيّ: ﴿...فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَفِرِينَ﴾(4).

إذَا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أُمِرَ بأن يقتدي بصبر هؤلاء الأنبياء، إذ لا بد له من التزام جانب الصبر والأناة إزاء أذى مشركي مكة وعدم التماهل في الدعوة إلى رسالته؛ حتى وإن لم يؤمنوا

وهناك من فسّر الاقتداء في العبارة المذكورة بأنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ينبغي له اتِّباعهم في فضائلهم

ص: 462


1- للاطلاع أكثر، راجع الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4،ص 513؛ محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسیر القرآن 195 - 196؛ محمد بن عمر الفخر الرازي مفاتيح الغيب، ج 13، ص 56؛إسماعيل حقي البروسوي، روح البيان، ج3،ص 62؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 250
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 4،ص 196؛محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج 4، ص 250.
3- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الأنعام، الآيات 83 - 88. تطرقت هذه الآيات إلى الحديث عن الهدى واصطفاء الأنبياء وتفضيل بعضهم على بعض ؛ من منطلق أن الله عزّ وجلّ يختار من يشاء لمقام النبوّة، كما تحدّث عن إنزال الكتب السماوية إليهم ومنحهم مقام القضاء إلى جانب مقام النبوّة، وآية البحث؛ كما هو واضح في نصها، أشارت إلى هدايتهم من قبله تبارك شأنه.
4- سورة الأنعام، الآية 89.

الأخلاقية وكذلك في أصول الدين والإيمان بالمبدأ والمعاد والتصدّي للشرك بالله -تعالى-(1)؛فهؤلاء الأنبياء أكرمهم الله - تعالى - بتوحيدٍ فطري منزّه من كل شائبة شرك.

وتجدر الإشارة إلى أنّ أحد المفسّرين - فقط - فسّر الاقتداء -هنا - بوجوب اتباع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فضائلهم الأخلاقية وأصول دينهم وأحكامهم الشرعية أيضًا(2)، لكن تفسيره بوجوب اتباع شرائعهم ليس صحيحًا؛ لأنّ الإسلام باعتباره خاتم الشرائع السماوية، نسخ الشرائع السابقة، لذا لا معنى لأن يدعى أنّ تعاليمه تقتدي بتلك الشرائع المنسوخة، ومن ثم لا صوابية لهذا الرأي.

النقض الثاني: حتى وإن افترضنا أنّ الاقتداء هنا بمعنى وجوب اتِّباع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بعض الأحكام الشرعيّة المستوحاة من الشرائع المنسوخة، فهذا لا يعنى كونه نصرانيا، ولا يدلّ على وجوب اتِّباعه دین النصارى، ففي هذه الحالة تنتقض نبوّته، وهذا ما لا يعتقد به المفسّر الذي أشرنا إلى رأيه في العبارة الأخيرة من النقض الأوّل.

ولو أنّ الله - تعالى - قال (فبهم اقتده)؛ بدلًا عن: ﴿فَبِهُدَتْهُمُ اقْتَدِهُ﴾ ففي هذه الحالة يحتمل منها الدلالة على وجوب اتِّباع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)الشرائع السابقة، إلا أنّ العبارة القرآنية: ﴿فَيَهُدَتْهُمُ اقْتَدِهُ﴾ تدلّ على أنّ الإسلام نسخ الأديان السابقة، وأن القرآن مهيمن وحاكم على سائر الكتب السماوية التي أُنزلت قبله؛ كما أنّ الله عزّ وجل- في غنى عن الواسطة لأجل أن يهدي نبيّه؛ لكونه هو المنشأ الأساس للهدى لا غير، وهذا ما أكّدت عليه الآية 88 من السورة ذاتها - الأنعام - حيث قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ...﴾ لذا فالاقتداء بالهدى هنا يعني احترامهم فقط(3).

وبناءً على ما ذُكِرَ ، فالمقصود من الاقتداء هو التأسي ببعض الأمور؛ مثل التوحيد، والمبادئ الأخلاقية التي هي من الأصول الأساس لدى جميع الأنبياء والمرسلين؛ لذا لا يُراد منه اتباعهم في المسائل والأحكام الشرعيّة؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهم له شريعته الخاصّة، ومن ثمّ يستحيل اتِّباع

ص: 463


1- للاطلاع أكثر، راجع: إسماعيل حقّي البروسوي، روح البیان، ج 3، ص 62؛الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4، ص 513.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب،ج13،ص56-57.
3- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 260.

جميع شرائعهم، فضلًا عن أنّ ظاهر الآية يدلّ على تكليف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)باتباع هداهم الذي هو هدى من الله -سبحانه وتعالى-، لا أن يتبع شريعتهم: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾.

وبهذا ينتقض ادّعاء الحدّاد بكون المقصود من الاقتداء هو وجوب اتباع النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)دين النصارى، والسؤال الذي يُطرح عليه هنا إذا كان المقصود من هذه الآية تبليغ شريعة النصارى للعرب، فكيف تفسّر العبارة الأخيرة في الآية 90 من السورة ذاتها: ﴿...إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾؟ فهذه العبارة تدلّ بصريح القول على أنّ رسالته ذكرى للبشرية قاطبةً.

أضف إلى ذلك أنّ الآية 91 تشير إلى نزول الكتاب - التوراة- على النبي موسى من قبل الله - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى﴾، والمراد من ذلك أنّ النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)على غرار موسى، حيث أُنزل إليه كتاب وجاء بشريعة سماوية؛ والآية 92 وصفت القرآن الكريم بالكتاب المبارك والمصدّق للتوراة والإنجيل.

وكذلك لا يمكن تفسير هداية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في الآية 18 من سورة الجاثية بأنّها على النهج النصراني؛ لأنّ هذه الآية تذكَّر بصريح العبارة أنّ الله -تعالى- شرع له شريعةً جديدةً: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾، حيث أمره بأن يتبعها؛ أي بأن يتبع ما يوحى إليه: ﴿فَأَتَّبِعْهَا﴾؛ والآيتان السابقتان لها (16 و 17) تؤكّدان على أنّ إنزال الكتاب والحكم والنبوة لا يعد ظاهرةً جديدةً من نوعها، فقد أتى الله -عزّ وجلّ- بني إسرائيل هذه الأمور؛ والآية 20 وصفت هذه الشريعة بأنّها بصائر للناس، حيث ينالون على ضوئها سعادة الدارين الدنيا والآخرة.

واستند يوسف درّة الحدّاد، ضمن وجهته النصرانية، إلى آيات من سورة فاطر لإثبات نصرانية دين النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهذه الآيات - برأيه - تثبت أنّ النبي كان يمتدح أهل الكتاب وهذا المديح يعود في النتيجة إلى نفسه؛ لأنّ القرآن الذي جاء به مقتبس من الكتاب؛ أي التوراة والإنجيل(1)؛ حيث أخبر قومه بأنّ الله اختاره لعباده الذين يتلون كتاب الله، وقد ورثوه من أسلافهم، لذا جاء القرآن تصديقًا له، وهذا فضل عظيمٌ من الله -تعالى- على أهل الكتاب؛ لأنّه اختارهم وأورثهم الكتاب(2).

ص: 464


1- للاطلاع على تفاصيل أكثر بخصوص نقد رأي يوسف درة الحدّاد، راجع الباب الثاني من الكتاب.
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 19.

وادّعى في هذا السياق أنّ شهادة النبي محمد هلال الهلال والأهل الكتاب واعتماده عليهم شهودًا لرسالته ،دلیلان على أنّه واحدٌ منهم(1).

والآيات هي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَبَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ نِجَرَةً لَّن تَبُورَ(29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ, غَفُورٌ شَكُورُ(30)وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ، لَخَبِيرُ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبير(32)﴾(2).

وإحدى المؤاخذات التي تَرِدْ على تفسيره لهذه الآيات: أنّ الآية 24 من السورة ذاتها أشارت إلى السنّة الإلهيّة الجارية في حياة البشر؛ والمتمثلة في إرسال الأنبياء مبشّرين ومنذرين(3)، فسياقها وظاهرها يدلان على أنّ الأنبياء هم المقصودون من التبشير والإنذار.

والآية 25 فيها مواساة للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث خاطبه الله - تعالى - قائلًا: إن القوم إن كَذَّبوك، فقد كَذَّب قبلهم قوم آخرون، فهذا التكذيب ليس بالأمر العجيب، لذا لا تحزن ممّا يفعلون؛ لأنّ الأنبياء الذين سبقوك كُذَّبوا -أيضًا- على الرغم من مجيئهم بالمعجزات والزُّبُر والكتاب المنير(4).

وأكّدت الآية 28 على أنّ عباد الله العلماء يخشونه، وأتمت والآية 29 مضمونها ضمن إشارتها إلى عدم انقطاع رجاء الذين يتلون الكتاب ويقيمون الصلاة وينفقون سرًّا وعلانيةً.

وانتقل الكلام مرّةً أخرى في الآيتين 31 و 32 إلى مسألة الكتاب، حيث تم التأكيد في الآية 31 على أنه موحى من السماء ومصدق لما بين يدي حامله الحقيقي، فهو حقٌّ وتصديق للكتب المنزلة سابقًا. وأمّا المراد منه في الآية 32 فهو القرآن وفقًا للسياق(5)، لأنّ الآية السابقة صرحت به، إذ عبارة: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يُراد منها ما ذُكِرَ نفسه في تفسير العبارات المشابهة لها؛

ص: 465


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 19.
2- سورة فاطر، الآيات 29 - 32.
3- قال -تعالى-: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فيها نَذِيرٌ﴾ (سورة فاطر، الآية 24).
4- قال -تعالى-: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِير﴾(سورة فاطر، الآية 25).
5- راجع: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ج 8، ص 429؛محمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير، ج 22، ص 164؛ عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج 11 ص 886؛ محمود الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 3، ص 612.

أي التأكيد على أنّ الكتاب المنزل على النبي محمد هلال الهلال ينسجم مع الكتب السماوية المنزلة سابقًا من حيث أصول المعارف والمعتقدات.

وأداة التعريف (ال_) في كلمة (الكتاب) المذكورة ضمن عبارة: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ﴾ تفيد العهد الذكري، لذا فالمقصود -هنا- ذلك الكتاب وأصحاب القرآن الذين اختارهم الله ليرثوه؛ وعليه يثبت بطلان رأي يوسف درّة الحدّاد الذي فسّر (الكتاب) وعبارة ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا﴾ بأهل الكتاب وبني إسرائيل، وإذا لم نقل إنّه تأثر في تأويله هذا بمرتكزاته العقدية، فمن المحتمل أنّه تأثر ببعض الروايات التي نُقِلَت في تفسير هذه الآية.

والآية الأخرى التي استدلّ بها تأييدًا لرأيه بنصرانية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛هي الآية 133 من سورة طه: ﴿وَقَالُواْ لَوْلَا يَأْتِينَا بِتَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيْنَهُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾، حيث ادعى على أساسها أنّ الناس طلبوا من النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يأتيهم بآية؛ لإثبات صحة نبوّته، فأجابهم بأنّه يبيّن لهم ما في الصحف الأولى.

ولا شك في أنّ الأسلوب الذي اتَّبعه في تجزئة الآيات عن بعضها يُعدّ خاطئًا ولا يقوم على أسس علميّة، فضلا عن ذلك، فقد تجاهل السّياق ولم يكترث بالآيات المتشابهة في مضامينها، وقبل أن يقيم أدلّةً وبراهين مقنعةً سارع إلى ادّعاء تبعيّة رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،ومن مبادراته المتسرعة أنّه جعل هذه الآية إلى جانب الآية 135 من السورة ذاتها؛ ليستنتج أن عبارة: ﴿فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ تدل على أنّ التعاليم التي جاء بها النبي مستوحاة من الكتب السماوية السابقة، حيث اهتدى إثر إيمانه بما في هذه الصحف، وعلى هذا الأساس بعد أن ذكر الآية 35: ﴿قُلْ كُلٌ مُتَرَبَّصُ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَبُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اُهْتَدَى﴾فسّرها قائلً:ا عليكم أن تفعلوا كما فعلت بأن تتبعوا بما في الصحف الأولى(1).

والآية 133 من سورة طه في مقام بيان كلام مشركي مكّة الذي يمكن اعتباره كنايةً عن أنّ القرآن ليس بآيةٍ، لذلك طلبوا من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يأتيهم بآية - معجزة- على غرار ما جاء به الأنبياء السابقون: ﴿وَقَالُواْ لَوْلَا يَأْتِينَا بِنَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾؛ ولا شكّ في أنّهم قصدوا من طلبهم هذا الاستهانة بالقرآن والتقليل من شأنه، لذلك ردّ عليهم الله - تعالى - في نهاية الآية؛ قائلا:

ص: 466


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 17.

﴿وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِنَايَةِ مِن رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾. ولو افترضنا أنّ كلمة (بينة) -هنا- تعني البيان والدليل الواضح؛ فالمعنى يكون: ألم تأتكم الأخبار الأكيدة للأمم السالفة وكيف أهلكت بسبب كفرها بالآيات والمعجزات التي طلبتها(1)؟! إذا ما هي القرينة التي استند إليها الحدّاد في هذه الآية؛ حينما استنبط رأيه منها؟ بل كيف يمكن ادعاء أنّ التناسق الموجود بين القرآن وسائر الكتب السماوية على صعيد الأصول العقدية دال على اقتباسه منها ؟ لذا ليس هناك أي دليل يثبت صوابية التفسير الذي ذكره، فغاية ما في الأمر أنّه تبنّاه على أساس فرضيّاته المرتكزة في ذهنه وحمّل النصّ القرآني وجهات نظره الدينية.

ومن الآراء التفسيريّة العجيبة الأخرى التي تبنّاها الحدّاد، ما ذكره في تفسير الآية 43 من سورة الرعد، حيث ادّعى أن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يعتمد على شهادة علماء بني إسرائيل له حتى آخر أيام حياته؛ لكي يثبت للناس صدق رسالته؛ والآية هي: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلَا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ﴾(2)هذا الاستدلال في الحقيقة على غرار استدلاله في تفسير الآية 94 من سورة يونس، حيث ادّعى - أيضًا - أنّ النبي حينما يكتنفه أيّ شكٍّ كان يُراجع علماء أهل الكتاب ويجعلهم شهودًا على صحة مضامين القرآن(3)؛ ما يعني بكل تأكيد أنّه كان يترجم التوراة والإنجيل إلى قومه باللغة العربيّة، ومن ثمّ لا يمكن اعتبار رسالته سماويّةً ومستقلةً.

وهناك مسألةً تجدر الإشارة إليها قبل توجيه النقد إلى رأيه التفسيري هذا؛ وهي أن أهل الكتاب؛ حسب التعاليم القرآنية، كانوا قبل ظهور الإسلام يترقبون بعث نبي عظيم في الجزيرة العربية، وهو ما نوهت به الآية 20 من سورة الأنعام، حيث قال - تعالى - : ﴿الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ، كَمَا

ص: 467


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 16، ص 116. فسرت هذه الآية بمعنيين آخرين وفق ما يلي: - النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)الذي لم يدرس جاء بكتاب بين وواضح ينسجم مع ما هو موجود في الكتب السماوية السابقة، وهذا الأمر بحد ذاته يدلّ على كون القرآن معجزة. - صفات النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وكتابه ينطبقان مع الأوصاف المذكورة في الكتب السماوية السابقة، وهذا الأمر يدل على صدق نبوّته. (للاطلاع أكثر، راجع محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 16، ص 116؛ عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج ،4 ش؛محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج 16 ص 210).
2- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 18.
3- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، القرآن والكتاب: بيئة القرآن الكتابية، ص 25 / ص 91 - 95 / ص 140؛ يوسف درة الحداد، القرآن والكتاب: أطوار الدعوة القرآنية، ص 1060 - 1061؛يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 24.

يعْرِفُونَ أَبْنَاءَ هُمُ﴾، وهذه الآية تدلّ على أنهم كانوا يعرفون النبي الموعود بجميع صفاته وخصائصه الدقيقة التي وعدوا بها، ومعرفتهم كانت أكيدةً ؛ بحيث اعتبرهم الله -تعالى- أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ وهذا التأكيد نجده أيضًا في الآية 197 من سورة الشعراء: ﴿اَوَلَمْ يَكُن لَّمْ ءَايَةٌ أَن يَعْلَمَهُ عُلَموا بَنِي إِسْرَاءِيلَ﴾، ألا تكفي هذه العلامات لكي يعرفه علماء بني إسرائيل؟!

من المؤكّد أنّ القرآن الكريم لا يشير إلى هذا الموضوع عبئًا لولا تلك البيئة الاجتماعية التي شهدت حضور جميع علماء بني إسرائيل إلى جانب المشركين واختلاطهم بهم، إذ كانت الاعتراضات تتوالى عليه من كل حدب وصوب؛ وهذا الأمر بحدّ ذاته يحكي عن حقيقة الأمر وأنّ الآيات القرآنية أنزلت في بيئة اتضحت معالمها بشكل لا يمكن إنكاره.

والمسألة الأخرى الجديرة بالذكر أنّ شهادة الله -سبحانه وتعالى- على صدق رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في آيات أخرى؛ مثل: الآيتين 19 و 20 من سورة الأنعام، تزامنت مع التأكيد على معرفة أهل الكتاب بحقيقتها، والآيتان هما: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَدَةٌ قُلِ اللَّهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا الْقُرْوَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَبِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ وَالِهَةً أُخْرَى قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهُ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِى مِمَّا تُشْرِكُونَ(19)الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ, كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(20)﴾. حيث نستشف من الآية 19 أوّلًا أنّ شهادة الله التي تم التعبير عنها بقوله - تعالى -: ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ تفيد بأنّه - تبارك شأنه - واسطةٌ بين النبي والمشركين في هذا النزاع، وثانيًا عبارة: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا الْقُرْءَانُ﴾ تدلّ على أنّ النبوّة ونزول القرآن هما محور هذا النزاع؛ لذا فإنّ شهادة الله بين النبيّ ومشركي مكة تعني تأكيده على حقانية رسالته؛ وقوله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَ هُمُ﴾ في الآية اللاحقة يؤيد هذا المعنى.

وحينما نقارن مضمون هاتين الآيتين مع الآية التي استدل بها يوسف درة الحداد، يتضح لنا أنّ الخطاب فيها متشابه فطرفا النزاع في هذه الآيات؛ هما النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، ومعارضوه الذين أنكروا رسالته، أي إنّ المحور هو إنكار رسالته؛ وفي هذا السياق ذكر دليلين لإزالة النزاع؛ أحدهما: شهادة الله عزّ وجلّ، والآخر: إقرار ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ﴾ بهذه الرسالة؛ كما ذكر في سورة الرعد ومعرفة ﴿الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ﴾ به، حيث: ﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَ هُمُ﴾؛كما ذكر في سورة الأنعام

ص: 468

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ يمكن تفسير عبارة: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ﴾ بأنّها تدلّ على غير المعاندين منهم بحيث يشهدون على صدق رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)من منطلق إنصافهم، ومن المؤكِّد أنّ هذا الكلام لا يعني توقف مشروعية القرآن والنبي على تأييد علماء أهل الكتاب ومن له اطلاع عليه، بل يُراد منه التأكيد على وجود أدلّة كثيرة تثبت صدق الرسالة المحمّديّة، لذا إنْ لم يقتنع الإنسان بأحدها يمكنه مراجعة غيره ليهتدي إلى الحق. هذا البيان القرآني يحكي عن معرفة علماء اليهود بصدق رسالة خاتم الأنبياء ، وفي الحين ذاته فيه مواساة له أمام ما يواجه من أذًى، كما يُعدّ حجّةً بيّنةً على حقانية دينه وصدق كلامه.

وفضلًا عن ذلك، فإنّ بعض العلماء لا يعتقدون بكون المراد من الكتاب في قوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ﴾ التوراة والإنجيل، أو التوراة فقط(1)، وفي هذا السياق قال العلامة محمد حسين الطباطبائي: «وذكر آخرون أنّ المراد بالكتاب التوراة والإنجيل أو خصوص التوراة، والمعنى: وكفى بعلماء الكتاب شهداء بيني وبينكم لأنّهم يعلمون بما بشر الله به الأنبياء في ويقرأون نعتي في الكتاب. وفيه: أنّ الذي أخذ في الآية هو الشهادة دون مجرّد العلم، والسورة مكّيةً، ولم يؤمن أحد من علماء أهل الكتاب يومئذٍ كما قيل، ولا شهد للرسالة بشيء؛ فلا معنى للاحتجاج بالاستناد إلى شهادة لم يقم بها أحدٌ بعد»(2).

وفي الختام نشير إلى رأي هذا المفسّر القدير الذي أكّد فيه على أنّ المقصود من الكتاب هو القرآن، لذا فسّر الآية بقوله: «المراد بالكتاب القرآن الكريم؛ والمعنى: أنّ من تحمّل هذا الكتاب وتحقق بعلمه واختصّ به، فإنّه يشهد على أنّه من عند الله وأنّي مُرسَل به»، ثمّ أضاف موضّحًا: «وبهذا يتأيّد ما ذكره جمع، ووردت به الروايات من طرق أئمة أهل البيت(علیهم السّلام)أن الآية نزلت في على(علیه السّلام)فلو انطبق قوله: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَب﴾ على أحد ممن آمن بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يومئذ، لكان هو؛ فقد كان أعلم الأمة بكتاب الله وتكاثرت الروايات الصحيحة على ذلك، ولو لم يرد فيه إلا قوله(صلی الله علیه و آله و سلم)في حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريق: (لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض)؛ لكان فيه كفايةٌ »(3).

ص: 469


1- هذا التأويل يتناسب أكثر من غيره مع ظاهر الآيات المشار إليها.
2- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد باقر موسوي همداني، ج 11، ص 528؛محمد حسين الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن، ج 11، ص 385 - 386.
3- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمد باقر موسوي همداني، ج 11، ص 530. راجع أيضاً: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2، ص 536.

والآية 7 من سورة الأنبياء(1)هي الأخرى استند إليها الحدّاد لإثبات نصرانية النبي محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وهي قوله - تعالى -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَسَتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ . عبارة (أهل الذكر) في هذه الآية تدلّ على كون النبي نصرانيا -برأيه-.

ومن المؤكّد أنّ السبب الوحيد الذي دعا الحدّاد لأنْ يفسّر الآية بهذا الشكل، هو انحيازه المعتقداته وإيديولوجية المسيحيّة وفرضيّاته التي من جملتها ادّعاء أن القرآن ليس سماوي المنشأ، وأنّ الإسلام ليس دينًا مستقلا، بل متفرّعًا على غيره؛ حيث بادر إلى تحميل هذه الآراء على النص القرآني ولكن كما ذكرنا في الباب الثاني من الكتاب، فالإسلام دين ذو ارتباط بسائر الأديان السماويّة، لذلك نجد في القرآن بعض القضايا الموجودة في الكتب السماوية السابقة(2)ونلاحظ في بعض آياته تأكيدًا على معرفة علماء سائر الأديان ببعض التعاليم القرآنية(3)، واعتبار أهل الكتاب شهداء على صحة مضمونه(4)، لأنّ علماء أهل الكتاب لديهم قابلية أفضل من المشركين على إثبات كون المعارف القرآنية سماوية المنشأ، إذ يعرفون النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بخصاله الدقيقة؛ طبقًا لما ذُكِرَ في كتبهم المقدّسة، حيث أكد الله - تعالى - على رسوخ هذه المعرفة في أنفسهم بحيث وصفهم بأنّهم يعرفونه؛ كما يعرفون أبناءهم.

وأعْتُبر رَأي أهل الذكر الفيصل حول موضوع معيّن من هذه الآية؛ والآية 43 من سورة النحل، ونستلهم من سياقيهما ومن كونهما مكّيتين، أنّ المقصود -هنا-: أهل الكتاب والعلم، حيث طلب من المشركين مراجعتهم(5)؛ وقد ردّ القرآن فيهما على أهل قريش الذين قالوا إنّ الله أكبر من أن يُرسل بشرًا نبيًّا، والردّ هو: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِيَ إِلَيْهِمْ...﴾،

ص: 470


1- يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 23. هناك آيةً أخرى تدلّ على المضمون نفسه؛ وهي الآية 43 من سورة النحل، لكن يوسف درّة الحدّاد تجاهلها وهي قوله - تعالى -: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحي إِلَيْهِمْ فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة النحل، الآيتان 43 - 44). وادعى الحدّاد أنّ الحجّة الكبرى للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وبرهانه الأوّل هو شهادة أهل الكتاب على صدق رسالته، فسورة النحل برأيه طلبت من مخاطبيها الرجوع إلى أهل الكتاب للتأكد من صدق الوحي المنزل عليه. (راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 23).
2- للاطلاع أكثر، راجع: سورة الأعلى، الآيتان 18-19؛سورة الشعراء، الآيات 192 – 196.
3- للاطلاع أكثر ، راجع: سورة الشعراء، الآية 197؛ سورة الأنبياء، الآية 7.
4- للاطلاع أكثر، راجع: سورة يونس، الآية 94.
5- راجع: أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء، معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف نجاتي، ج 2، ص 199؛ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 8،ص 108/ج 10، ص 5 محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2،ص 608 / ج 3، ص 104.

لذا طلب منهم أن يسألوا أهل الذكر؛ كي يخبروهم بأنّ الله بعث في الأمم السالفة بشرًا حملوا رسالات السماء إلى أقوامهم، فأصحاب التوراة والإنجيل لديهم أخبار الأنبياء والمرسلين.

ومما قاله القرطبي في تفسير هذه الآية: «﴿فَسَتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ يُرِيدُ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، قَالَهُ سُفْيَانُ: وَسَمَّاهُمْ أَهْلَ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ خَبَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ، وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يُرَاجِعُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله و سلم)»(1).

وجدير بالذكر أنّ أهل الكتاب على الرغم من دأبهم على كتمان الحقائق(2)، وغلوّهم في دينهم(3)، ولبسهم الحق بالباطل(4)، وإنكارهم رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،لكنهم لا ينكرون أنّ الأنبياء بشر، حيث كانوا يقرّون بذلك دونما أيّ تردّد، وهذا الإقرار بطبيعة الحال كان أكثر إقناعًا للمشركين؛ لذا ليس المقصود من الآية أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان تابعًا لدينهم، فطلب من المشركين الرجوع إليهم للتأكد من صحة نبوّته؛ كما ادعى الحدّاد، وإنّما طلب القرآن منهم اللجوء إلى أعداء النبي لمعرفة الحقيقة، ومن الواضح بمكان أنّ اعتراف العدوّ يُعدّ حجّة أقوى، ويخلق لديهم طمأنينةً أكثر بصدق نبوّة خاتم الأنبياء؛ باعتباره بشرًا، وهذا الأمر لا يتحقق - طبعًا- في ما لو لجأوا إلى الذين آمنوا به، حيث سيدّعون أنّهم يدافعون عن نبيّهم(5).

وإضافةً إلى ذلك، استند الحدّاد إلى الجزء الأخير من الآية 92 لإثبات مدعاه، وهو قوله - تعالى - ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(6)، حيث طرح رأيه بشكل مقتضَبِ لإثبات نصرانية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لكن الحقيقة على خلاف ما ادعاه، فالآية لا تتحمّل التفسير الذي ساقه حولها.

ص: 471


1- محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ج 10، ص 108 / ج 11، ص 272.
2- قال - تعالى -: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورُ وَكِتابٌ مُبينٌ﴾(سورة المائدة، الآية 15).
3- قال -تعالى-: ﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرُ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السبيل﴾ (سورة المائدة، الآية 77).
4- قال -تعالى-: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقِّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة آل عمران، الآية 71).
5- للاطلاع على تفاصيل أكثر دقةً راجع محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ج ،11 ص 272 محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ج 22، ص 144؛ عبد الله بن عمر البيضاوي أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 2، ص 65..
6- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 22.

كما أنّ النبوّة هي أوّل موضوعِ طُرِحَ للبحث في هذه السورة -سورة الأنبياء- وضمن إشارتها إلى استهزاء المعاندين وعدم إيمانهم بما جاءت به هذه النبوّة، تمحور البحث فيها حول المعاد والتوحيد؛ باعتبارهما بنيتين أساسيتين للنبوّة؛ كما قورن فيها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)مع سائر الأنبياء والمرسلين، وفي هذا السياق ذكرت خصائص بعضهم؛ من أمثال: موسى، وهارون، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب ،ولوط ،و داوود، وسليمان ،وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى(علیه السّلام)، ثم أشارت إلى جانب مما تعرّضوا له من بلاء ومشاكل، وفيها - أيضًا - تلميح إلى أن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)واجه هذه المتاعب أيضًا.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ ، فالآية 92 لها ارتباط بما ذُكِرَ في بداية السورة؛ والذي تم التأكيد فيه على أنّ الله الواحد هو الذي خلق السماوات والأرض، وعلى وجوب عبادته في رحاب الإيمان بنبوّة أنبيائه، إلى جانب الاستعداد والتأهّب بأفضل ما يمكن للمثول أمام الله في يوم الحساب. والآيةُ مرتبطة بالتأكيد بالآيات اللاحقة على كون النبوّة تدعو إلى دين واحد، هو دين التوحيد الخالص الذي دعا له قبل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أنبياء آخرون؛ من أمثال: موسى، وقبله إبراهيم، وقبله نوح؛ ومن سبقه، ومن أمثال الأنبياء الذين سبقوا نوحا وتلوا موسى؛ كإدريس، وأيوب وغيرهما.

إذًا، هؤلاء الأنبياء هم أمةٌ واحدةٌ، وهدفهم واحدٌ؛ على الرغم من تعدد أساليب دعواتهم، إذ المحور الارتكازي في هذه الدعوات هو التوحيد ونبذ الشرك؛ لذلك قال -تعالى- في ختام الآية: ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾.

وقد حاول يوسف درّة الحدّاد إثبات صوابية اعتقاده بتبعيّة نبوّة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى نبوّة عيسى(علیه السّلام)على ضوء مضمون الآية 94 من سورة يونس ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، وفحوى تفسيره لها ما يلي: النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان بحاجة إلى شهادة علماء أهل الكتاب؛ بغية إزالة الشك والتردّد في نبوّته، وتشجيع الناس على التصديق بها، ولكن بما أنّ سورة يونس تُعَدّ واحدةً من أوائل السور المكيّة المُنزَلَة عليه(1)، حيث نزلت في وقت لم يحتدم فيه الخلاف بعد بينه وبين أهل الكتاب، ولم يبلغ ما بلغه مع يهود المدينة، فقد كان إرجاع

ص: 472


1- راجع: محمّد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 280.

الناس إلى أهل الكتاب في تلك الآونة تدبيراً ذكيَّا؛ لأنّ العلاقة بين المسلمين واليهود في العهد المكّيّ كانت حسنةً، ومن هذا المنطلق لم تكن لديهم دوافع جادة للإنكار والمعارضة(1).

وفسّر العلامة محمد حسين الطباطبائي هذه الآية بقوله: «﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾المتردّدين، وهذا لا يستلزم وجود ريب في قلب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ولا تحقق شكٍّ منه، فإنّ هذا النوع من الخطاب كما يصح أن يخاطب من يجوز عليه الريب والشك؛ كذلك يصح أن يخاطب به من هو على يقين من القول وبيّنةٍ من الأمر، على نحو التكنية عن كون المعنى الذي أخبر به المخبر ممّا تعاضدت عليه الحجج وتجمّعت عليه الآيات، فإن فرض من المخاطب أو السامع شكٍّ في واحدة منها كان له أن يأخذ بالأخرى. وهذه طريقةً شائعةٌ فی عُرف التخاطب والتفاهم يأخذ بها العقلاء في ما بينهم جريًا على ما تدعوهم إليه قرائحهم، ترى الواحد منهم يقيم الحجّة على أمر من الأمور، ثمّ يقول: فإن شككت في ذلك أو سلّمنا أنّها لا تُوجب المطلوب، فهناك حجّةً أخرى على ذلك، وهي أنّ كذا كذا؛ وذلك كناية عن أن الحجج متوفّرة متعاضدة؛ كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها، لكن الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمةً عليها على تقدير قيام الكلّ والبعض »(2).

وما ذكره الفخر الرازي ضمن ردّه على تأويل هذه العبارة بعلماء أهل الكتاب، فيه ملاحظةٌ جديرة بالاهتمام، حيث قال: «هَذِهِ السُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَكَّيَّةٌ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَيْضًا فَإِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا غَيْرَ مَعْصُومَيْنِ عَنِ الْكَذِبِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا السُّوَّالُ وَاقِع»(3). والدليل الثاني الذي أشار إليه هذا المفسّر يكفي في تفنيد نظريّة يوسف درّة الحدّاد، إذ كيف من الممكن تصوّر أنّ مسألة في غاية الأهمّيّة؛ مثل: إثبات النبوّة، تُناط إلى عدد من أهل الكتاب؟! هذا الموقف لا يُتخذ - طبعًا - إلا إذا أريد من دعوة الناس إلى مراجعتهم توبيخ أهل الكتاب الذين رفضوا رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛وعلى الرغم من علمهم بوجود شواهد كثيرة تدل على حقانيتها(4).

ص: 473


1- للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 123 - 124.
2- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد باقر موسوي همداني، ج 10، ص182؛محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن الميزان، ج 10، ص 123.
3- محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 19، ص 54.
4- للاطلاع أكثر، راجع: محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2،ص 370؛محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج 6،ص178. ذكرنا سابقاً بعض هذه الشواهد؛ مثل: وجود المعارف والقصص القرآنية في الكتب السماوية السابقة؛ إضافةً إلى شواهد أخرى.

ص: 474

الفصل الثاني

التفسير الاستشراقي للآيات التي تتحدّث عن شخصية النبي محمد

اشارة

ص: 475

ص: 476

الأسلوب الذي يتبعه غالبيّة المستشرقين في تفسير الآيات التي تتحدّث عن شخصية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، يتسم بطابع مختلف عن أسلوب التفسير المتعارف بين المسلمين.

وفي ما يلي نتطرّق إلى بيان تفاصيل الموضوع على ضوء الآراء التفسيرية الاستشراقية المطروحة حول عدد من الآيات القرآنية

المبحث الأوّل: التفسير الاستشراقي للآية 7 من سورة الضحى :

قال - تعالى -: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى 16﴾(1).

الآية السابعة من سورة الضحى هي إحدى الآيات التي طرحت حولها نقاشات تفسيريّة استشراقيةً تمخضت عنها آراء تختلف عما هو متعارف بين المسلمين؛ وذلك بمحورية كلمتي (ضالا) و(هدى).

فكلمة (فهدى) فسّرها يوسف درّة الحدّاد؛ بمعنى هداية الله - تعالى - نبيه محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى الكتاب والإسلام؛ وهو يقصد من الكتاب (التوراة والإنجيل)، ومن الإسلام (النصرانية).

وقال القس المسيحيّ جوزيف قزّي؛ المعروف بأبي موسى الحريري، في تفسير هذه الآية: «ورقة [بن نوفل] هو الذي اكتشف محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وحينها كان عمره يتراوح بين خمس إلى سبع سنوات؛ وهذا هو المقصود من عبارة: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى﴾(2).

ونستشف ممّا قاله الحدّاد والحريري أنهما فسّرا الآية على ضوء رؤيتهما المتعصبة القائمة على الاعتقاد بكون النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)درس عند أستاذ اسمه ورقة بن نوفل، ومن هذا المنطلق تهكما بالقارئ.

وتفيد روايات السيرة أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فقد قرب الكعبة؛ وعمره خمس سنوات، فبادر بعض الناس إلى البحث عنه؛ استجابةً لطلب من جدّه؛عبد المطلب، فعثر عليه ورقة ورجلٌ من قريش، فأرجعاه إلى جده(3)؛ لذا كيف يمكن الربط بين هذا الأمر الذي قد يحدث لكلّ طفل،

ص: 477


1- سورة الضحى، الآية 7
2- أبو موسى الحريري، قس ونبي: بحث في نشأة الإسلام، لبنان، بيروت، منشورات دار لأجل المعرفة، 1985م، ص 40.
3- للاطلاع أكثر، راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 766؛محمد بن أحمد القرطبي، الجامع الأحكام القرآن، ج 20، ص 98.

وبين آية قرآنية ؟! وادّعى الحدّاد أنّ المقصود منها هو التذكير بهذا الأمر الذي حدث قبل أربعين سنةً؛ لمّا فُقِدَ النبي ساعاتٍ عدّة ! كما تبنّى رأيًا تفسيريًا يتعارض مع دلالة الفعل (هدى)(1)، وزعم أن المقصود من قوله ( فهدى)؛ هو غسل التعميد للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،حيث قال: «ورقة عثر على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وقام بتعميده». هذا الكلام ليس صائبًا بكل تأكيد؛ نظرًا لوضوح مضمون الآيات 6 إلى 8 من سورة الضحى، وبيان ذلك وفق يلي:

1. الاستفهام في الآية السادسة: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا فَتَاوَى﴾ ليس حقيقيًّا، بل هو استفهام ،تقريري، لذا فالمقصود أنه آواك عند جدّك عبد المطّلب؛ حينما كنت يتيمًا؛ والآية السابعة: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى﴾ تعني أنك لم تكن تعلم بالسبيل إلى الدعوة ونحن أرشدناك إليه، لذا سوف تكلّف بها قريبًا ونهديك في الترويج لها.

إذَا، من أين جاء الحريري بالمعنى الذي ادّعاه في تفسير كلمة (ضالا)؛ حينما فسّرها بالضلال في الاعتقاد، وعدم معرفة الأسلوب في الدعوة؟!

أضف إلى ذلك، حتّى الذين فسّروا الآية؛ خلافًا لظاهرها وذكروا رأيًا لا يمكن قبوله بزعم أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لو كان ضالا عن سبيل الهدى، لم يقولوا إنّه كان نصرانيا، أو إنّها تدلّ على تعميده؛ لذا كيف يمكن الاستدلال بها لادّعاء أنّ دينه كان هو دين النصارى ذاته قبل أن يعلن الإسلام دينًا له؟! وما هو الدليل على أنّها تعني انحداره من سلالة نصرانية؟! من الواضح أنّ الحدّاد على ضوء مساعيه الرامية إلى إثبات فرضيّته المتعصبة القائمة على أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)تأثر بورقة بن نوفل واهتدى على يده، زعم أن قوله - تعالى -: ﴿فَهَدَى﴾ يعني تعميده من قِبَل هذا الرجل(2)!.

2. فضلا عمّا ذُكِرَ، فتعميد الأطفال حسب التعاليم المسيحيّة هو مقدّمةً لدخولهم في الديانة المسيحيّة، ومبادرة أهلهم إلى القيام بذلك يدلّ على رغبتهم في أن يصبحوا على دينهم ويسلكوا المسلك النصراني منذ نعومة أظافرهم، ولا نجد أحدًا يعبّر عن هذا العمل بالهداية أو

ص: 478


1- هذا الفعل يعنى التوجيه والإرشاد أو اللطف والرأفة. للاطلاع أكثر، راجع: حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، كلمة (هدى).
2- للاطلاع أكثر ، راجع: يوسف درّة الحداد، القرآن دعوة نصرانية ،لبنان، بيروت، منشورات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993، 322-321.

يعتبره علامةً على الهدى، ومن هذا المنطلق لا يمكن ادّعاء أنّ هداية النبي مال المشار إليها في الآية تعني تعميده؛ وهو في سن الخامسة(1).

واستدلّ الحدّاد بالآيتين 91 و 92 من سورة النمل لإثبات فرضيّته هذه، فهو يعتقد أنّ كلمة (فهدى) في الآية المذكورة تعني الإسلام وتلاوة القرآن المشار إليهما في هاتين الآيتين: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(91)وَأَنْ أَتْلُوا الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ(92)﴾ ولدى تفسيره هاتين الآيتين ادّعى أنّ كلمة (مسلمين) المذكورة في الآية 91 تعني أهل الإسلام والتسليم قبل بعثة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذا أمر بأن يلتحق بهم، والآية 92 أمرته بأن يتلو القرآن -أي الكتاب- باللغة العربيّة، فالمقصود هنا وجوب تلاوة الكتاب الذي كان عند المسلمين الذين سبقوا ظهور الإسلام(2). ودافع عن استدلاله هذا مستندًا إلى مضمون الآيتين 196 و197 من سورة الشعراء: ﴿وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ، عُلَموا بَنِي إِسْرَاءِيلَ(197)﴾وقال أنّ الوحي الإلهي منزل في الكتب السابقة فقط، لذا فسّر الآية بما يلي: أليست هذه آيةً أنّ علماء بني إسرائيل - فقط - يعلمون به(3)؟! ثم استنتج أنّ بعث النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)جعله يلتحق بالنصارى المسلمين ويبادر إلى التبليغ لدينهم(4).

حتّى وإن تمكّن الحدّاد من استقطاع العبارات وتفكيكها عن الآيات التي تندرج فيها ثمّ عزلها عن سياقها؛ بهدف إسقاط آرائه على النصّ القرآني وتفسيره وفقًا لمرامه، لكن مع ذلك يبقى رأيه غير تام؛ فإذا أمعنا النظر في الآيات التي استدلّ بها نلاحظ أنها لا تتناسب مع ما استنتجه ولا تحتمل رأيه؛ ومن هذا المنطلق فتفسيره الآية السابعة من سورة الضحى يبقى عقيمًا ولا دليل عليه.

ولا يختلف اثنان في وجود مسلمين قبل عهد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)عرفوا بالتسليم المطلق

ص: 479


1- للاطلاع أكثر، راجع: سامي عصاصة، القرآن، ليس دعوةً نصرانية: ردّ على كتابي الحداد والحريري القرآن دعوة نصرانية) (قس ونبي) سوريا، دمشق، الطبعة الأولى، 2003م، ص 104 - 105.
2- للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ص 93 - 94.
3- للاطلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، ص 334 - 335.
4- راجع: م. ن، ص 336.

الأوامر الله -عزّ وجلّ- وسيرهم على نهج التوحيد التام والخالص من شوائب الشك والترديد والشرك؛ مثل: خليل الله إبراهيم(علیه السّلام)الذي وُصِفَ في القرآن بأنّه لم يكن يهوديًا ولا نصرانيا ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(1)، إذ نستشف من هذه الآية أنّ المسلم؛ وفق المصطلح القرآني، ذو معنى لغوي متعدد الجوانب، حيث يُراد منه التسليم المطلق لأمر الله -تعالى- والتوحيد التام والخالص من كلّ شرك، وعلى هذا الأساس يُوصف الأنبياء السابقون وأتباعهم بكونهم مسلمين؛ أي لديهم تسليم مطلق أمامه تبارك شأنه؛ لذا فالظاهر أنّ التعصّب الطائفي المسيحيّ هو الذي جعل هذا المستشرق يقيّد مصطلح (مسلم) بالنصرانية فقط، وعلى هذا الأساس زعم أنّ النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)كان نصرانيا.

وجدير بالذكر أنّ آيات سورة النمل؛ وفقًا للروايات التي تتحدّث عن ترتيب النزول، نزلت في مكة، وكما هو معلوم، فالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)حينذاك كان يوجه خطابه إلى المشركين بشكل عام لا إلى النصارى، وهذا ما أشارت إليه السورة نفسها، فهي تتحدّث عن المشركين ومعتقداتهم؛ لذا فالمقصود من مصطلح (مسلمين ) أولئك الذين أشارت إليهم الآية 135 من سورة البقرة: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَرَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فهم الذين يتبعون دين إبراهيم(علیه السّلام)الحنيف.

وأحد الأسئلة التي تُطرح على الحدّاد في سياق رأيه المذكور، هو: كيف يمكن تفسير كلمة (القرآن) المذكورة في الآية 92 من سورة النمل ب_(الكتاب)، في حين أن السورة تتحدّث عن نزول القرآن من قِبَل الله عزّ وجلّ - وتؤكّد على منشئه السماوي؟ ومن جملتها قوله -تعالى-: ﴿طس تِلْكَ عَايَتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينِ(2)، وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾(3).

وإضافةً إلى ما ذُكِرَ فالآية 91 من السورة ذاتها تؤكّد على أنّ واجب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)هو عبادة الله وحده والتسليم المطلق أمام إرادته لا غير، لذا نسأل الحدّاد ما هو الدليل على أنّه إلى جانب العبودية لله لا بد له أنْ يكون نصرانياً ؟! كما تؤكّد الآية 92 على وجوب تلاوة القرآن

ص: 480


1- سورة آل عمران، الآية 67.
2- سورة النمل، الآية 1.
3- سورة النمل، الآية 6.

لأهل مكة؛ كي يهتدوا بتعاليمه ويستجيبوا لأوامر الله -تعالى- ونواهيه، وهذا الأمر يُعتبر سندا يدعم معنى التسليم المطلق لكلمة (مسلمين) المذكورة في الآية السابقة.

ولأجل إثبات رأيه المدّعى، الذي لا أساس له من الصحة في تفسير كلمة (فهدى) وإثبات نصرانية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)،استند - أيضًا - إلى الآيتين 196 و 197 من سورة الشعراء؛ ليدعي أن وحي السماء مقتصر على الكتب السالفة التي ظهرت قبل القرآن؛ والآيتان هما: ﴿ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِينَ(196)أَوَلَمْ يَكُن لَّمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَموا بَنِي إِسْرَءِيلَ(197)﴾(1).لكن الواقع أن الآية 194 من هذه السورة، وما بعدها من آيات، تتضمن استنتاجًا ممّا ذُكِرَ في قصص الأوّلين، وفيها تهديد وتوبيخ للكفار في عهد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، كما تتحدّث عن القرآن وتشير إلى مصدره السماوي؛ عبر التأكيد على أنّه ليس من إلقاء الشيطان، ولا من كلام الشعراء.

كما أنّ الضمير (الهاء) ضمن عبارة (إنّه) المذكور في مطلع الآية 196 يرجع إلى القرآن المشار إليه في الآية 193،حيث نزل به الروح الأمين جبرائيل(علیه السّلام)على قلب النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم).

وليس من الصواب بمكان زعم أنّ المعارف القرآنية مستوحاة من الكتب السابقة، أو ادّعاء أنّ القرآن ليس سوى نسخة عربية من التوراة والإنجيل كما هو رأي الحدّاد؛ وذلك لما يلي:

أوّلاً: المشركون لم يكونوا مؤمنين بالأنبياء السابقين ولا بكتبهم، لذا لا موضوعية لأن يُقال إنّ القرآن اعتمد على التراث الديني القديم في استدلالاته ضدّهم.

ثانياً: الآية 196 في صدد ذِكْر خبر غيبي للمشركين ودعوتهم إلى أن يتأكدوا من حقيقة الأمر؛ إن كان لديهم شكّ، عبر الرجوع إلى أهل الكتاب وسؤالهم عنه؛ لأنّ كتبهم قد بشّرت بمجيء القرآن، ومن البديهي أنّ علماء بني إسرائيل لم يكونوا على علم بتفاصيل المعارف القرآنية.

وضمير الهاء في قوله - تعالى -: ﴿ءَايَةً أن يعلمه﴾ضمن الآية 197 يرجع إلى الإخبار عن القرآن، أو الإخبار عن إنزاله على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث بشّرت به الكتب السماوية السابقة، كما أن علماء بني إسرائيل كانوا على علم به؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية في مقام الدفاع عن رسالة خاتم الأنبياء، وذِكْر سندِ آخرَ يُثبت صدق نبوّته(2)

ص: 481


1- راجع: يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن، ص 15 - 17.
2- فسر يوسف درّة الحدّاد كلمة (الزُّبُر) المذكورة في الآية 52 من سورة القمر ؛ بمعنى أنّ القرآن نسخة عربيّة من الكتاب المقدس: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاءَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ . (سورة القمر، الآيتان 51-52)وفي هذا السياق ادعى أن هاتين الآيتين تدلان على اقتباس القصص والتعاليم القرآنية من الكتب المقدّسة السابقة، لذا فوظيفته الوحيدة تقتصر على تذكير العرب بما جاء في هذه الكتب فحسب، وهذا الأمر تم التأكيد عليه في الآيات 17 و 23 و 32 و 40 من السورة نفسها، حيث نقرأ في الآية 17: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدْكِر﴾. (للاطلاع أكثر، راجع: يوسف درة الحداد، الإنجيل في القرآن، ص 15 – 17). لكنّنا نلاحظ في الآيات اللاحقة وبالأخص الآية 52 أنّها تتحدّث عن صفات الصالحين والأبرار في الجنّة، كما نلاحظ في الآيات السابقة لها أنّها تشير إلى أوضاع العصاة والمجرمين، لذا من الأفضل تفسير كلمة (الزُّبُر) بمعنى الأعمال، وعلى هذا الأساس يتبيّن لنا واقع التحذير الذي ساقته هذه الآيات للكفار.

واستنتج الباحث سام شمعون من ظاهر الآية 7 من سورة الضحى أن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان وثنيًا قبل بعثته، وقد قال في هذا الصدد: «هذه الآية لا تقول أنّ الله وجد محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)على هدًى منذ بادئ الأمر، ولا حتى قبل نبوّته فحفظه من الضلال؛ بل تشير بصريح العبارة إلى أنّه كان ضالا ثم هداه الله كلمة (ضال) في اللغة العربيّة تستخدم في وصف الذين لا يتّبعون الدين الحق، أو الذين يعبدون الأوثان والآلهة المزيّفة ولا يتبعون الحق؛ وهذا هو معناها ومعنى سائر مشتقاتها في القرآن»(1). وقال أيضًا: «هذه السورة تُعدّ شاهدًا على التناقض الموجود في آراء المسلمين، فهم بشكل عام لا ينكرون أن محمدًا كان يتيماً وفقيراً. لا شك في أنّ التناسق بالرأي وعدم التناقض فيه، يقتضيان أنّ المسلم لو اعتقد كون محمّدًا [ص] كان فقيرًا ويتيمًا، فلا بد له حينئذٍ من الاعتقاد بأنّه كان ضالا أيضًا؛ لأنّ السورة تصرّح بضلاله»(2). ثمّ حاول إثبات صحة مدّعاه هذا على ضوء رأي المستشرق أف. أي. بيترز الذي قال: «لا شك في أنّ كلمة (ضلّ) لا تعني الحيرة وعدم التمركز ذهنيًّا، بل المقصود منها أن محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)كان منهما في الأعمال والعبادات الطائفية ذاتها التي كانت قريش تدافع عنها بعد أن بعث إليهم»(3).

وقد أيّد ريتشارد بيل هذا الكلام، إذ تدلّ الآية -برأيه- على أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان على دين قومه إبان شبابه، وفي هذا السياق اعتبر كلمة (ضال) تدلّ على معنى اصطلاحي، هو الانحراف عن الدين(4)؛ لكن لا صواب لتقييده الكلمة بهذا المعنى الاصطلاحي، فلو رجعنا إلى النصّ القرآني يتّضح لنا أنّ الضلال المذكور في آياته لا يدلّ على معنى مطرد، وإنما فيه العديد

ص: 482


1- Sam Shamoun, “Mohammad's Idolatry Revisited", pp. 7 – 31. (www.answering-islam) (2013). p. 8.
2- Ibid., p. 12.
3- Ibid., p.11.
4- Bell, Commentary on The Qur'an, vol. 2. p. 554.

من المعاني والدلالات، حيث نقل مؤلّف كتاب تاج العروس عن ابن الكمال أنّ الضلال يعني فقدان ما يُوصِل إلى المقصود ،والمطلوب، ونصّ كلامه ما يلي «وقالَ ابنُ الكَمالِ: (الضَّلالُ) فَقْدُ مَا يُوَصِّل إلى المطلوبِ، وقيلَ: سُلُولُ طَرِيقٍ لَا يُوَصِّلُ إِلى المَطْلُوبِ»(1). وذكر ابن فارس أنّ: «الضادّ واللام أصل صحیح يدل على معنى واحد وهو ضياع الشيء وذهابه في غير حقه»(2). ومن مصاديق هذا المعنى هو ما ورد في الرواية التفسيرية عن الإمام أبي الحسن الرضا(علیه السّلام)في تفسير هذه السورة؛ حيث قال:«...﴿وَوَجَدَكَ ضَالَّا﴾؛ أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك...»(3). وأما الراغب الأصفهاني فقد ضيّق النطاق الدلالي لهذه الكلمة وفسرها بالعدول والانحراف عن الطريق القويم؛ باعتبارها في مقابل الهدى، حيث قال «الضلال العدول عن الطريق المستقيم ويضادّه الهداية ، قال - تعالى -: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾، ويقال الضلال لكلّ عدول عن المنهج عمدًا كان أو سهوا، يسيرًا كان أو كثيرًا، فإنّ الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جدًّا... صح أن يُستعمل لفظ الضلال ممّن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفّار وإنْ كان بين الضلالين بون بعيد»(4). ومثال ما ذكره الراغب قوله - تعالى - في الآية 95 من سورة يوسف، فأبناء يعقوب خاطبوا أباهم قائلين: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ ، كذلك الآية 8 من السورة ذاتها حينما ادعوا أنه يحب يوسف وأخاه أكثر منهم، فقالوا ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ﴾. والآيتان تدلان على المحبّة الكبيرة التي كانت في نفس يعقوب(علیه السّلام)لابنه يوسف(علیه السّلام)، ولذلك كل وُصِفَ يعقوب من قِبَل أبنائه بأنّه في ضلالِ من أمره؛ لأنّه لم يكن يؤيّد رأيهم الباطل في الحقيقة.

ومثال آخرُ على تعدّد معاني هذه الكلمة، حبّ زليخا زوجة عزيز مصر ليوسف(علیه السّلام)، حيث نقل ما قيل عنها في الآية 30 من السورة ذاتها: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَزَنهَا فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ﴾ ، وما قاله النبي موسى(علیه السّلام)في الآية 20 من سورة الشعراء: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذَا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾، فالمقصود من ضلاله -هنا- عدم تفكيره بعاقبة عمله(5)، أو جهله كما قال البعض(6)، أي أنه كان ضالا عن

ص: 483


1- محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني (الزبيدي)، تاج العروس من جواهر القاموس كلمة (ضلل).
2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج 3، ص 356،كلمة (ضل).
3- الطبرسي، مجمع البيان، ج10، ص384.
4- حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن كلمة (ضلل).
5- راجع: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، ج 15، ص 203.
6- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية.

حكم الله -تعالى- جرّاء جهله به فالمراد من ضلاله - هنا - هو عدم علمه بعاقبة ما فعل، إذ قتل نفسًا بالسهو والخطأ ، لذا لم يكن فعله ذنبًا؛ ومن هذا المنطلق جاء الخطاب القرآني لبيان منة الله -تعالى- عليه ضمن الآية 40 من سورة طه : ﴿فَنَجَيْنَكَ مِنَ الْغَمِ﴾؛ والآية 14 من سورة القصص أكدت على أنّه -تبارك شأنه- منحه العلم والحكمة؛ إكراما لأفعاله الحسنة وسلوكه النزيه. والآية 282 من سورة البقرة: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَهُمَا فَتُذَكَرَ إِحْدَثَهُمَا الْأُخْرَى﴾ الأخرى تتضمّن كلمة (تضلّ)، ويراد منها هنا نسيان إحدى الشاهدتين فإذا نسيت ضلّت- يجب على الأخرى تذكيرها؛ وهذا المعنى بذاته نستشفه من الكلمة نفسها في الآية 52 من سورة طه؛ إذ يراد نفي الضلال -النسيان- عن الله -سبحانه وتعالى -: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَبٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾.

والآية 10 من سورة السجدة وصفت استحالة بدن الإنسان في الأرض بعد موته بالضلال:﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَعِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٌ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَتِهِمْ كَفِرُونَ﴾.

والضلال- يعني - أحيانًا - الانحراف عن السبيل القويم في معرفة الله - تعالى- وتوحيده ، ومعرفة نبيه وهذا المعنى نجده في الآية 136 من سورة النساء، حيث قال - تعالى -: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَيكَتِهِ وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلَا بَعِيدًا﴾. هذه الآية جعلت الكفر في موازاة الضلال، لكن هذا لا يعني أنّ كلّ ضلال يجب أن يكون كفرًا أو معصيةً وانحرافًا عن الدين، بل هو ذو معنى أعم من ذلك؛ بحسب ما أكد عليه مؤلف كتاب تاج العروس.

أضف إلى ذلك، فالسّياق العام للسورة المذكورة؛ هو مواساة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وبيان كيف أنّ الله -تعالى- من عليه برأفته ورحمته، ولا نبالغ لو قلنا إنّ المفسّر الفخر الرازي وضّح هذا السياق بأفضل شكل، حيث قال إنّ الله -تعالى- ذكره بالنعم التي أكرمه بها؛ تقويةً لقلبه وتأكيدًا على دوامها ... إِنَّ اتَّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ هُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَقَالَ الرَّسُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: انْظُرْ [أَ] كَانَتْ طَاعَاتُكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْرَمَ أَمِ السَّاعَةَ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ: بَلِ السَّاعَةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: حِينَ كُنْتَ صَبيَّا ضَعِيفًا مَا تَرَكْنَاكَ بَلْ رَبَّيْنَاكَ وَرَقَيْنَاكَ إِلَى حَيْثُ صِرْتَ مُشْرفًا عَلَى شُرُفَاتِ العرش وقلنا لك: لولاك مَا خَلَقْنَا الْأَفْلَاكَ، أَتَظُنُّ أَنَّا بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَة نَهْجُرُكَ وَنَتْرُكُكَ ... كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الْجُودِ أَنْ يَمُنَّ بِنِعْمَةٍ، فَيَقُولَ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ

ص: 484

هَذَا السُّؤَالَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا [الشُّعَرَاءِ: 18] في مَعْرِضِ الذَّمُ لِفِرْعَوْنَ، فَمَا كَانَ مَذْمُومًا مِنْ فِرْعَوْنَ؛ كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ يُقَوِّيَ قَلْبَهُ وَيَعِدَهُ بِدَوَامِ النِّعْمَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الِامْتِنَانِ وَبَيْنَ امْتِنَانِ فِرْعَوْنَ؛ لِأَنَّ امْتِنَانَ فِرْعَوْنَ مُحْبِطٌ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فَمَا بَالُكَ لَا تَخْدُمُنِي، وامتنان الله بزيادة نعمه، كأنه يقول : مالك تَقْطَعُ عَنِّي رَجَاءَكَ أَلَسْتُ شَرَعْتُ فِي تَرْبِيَتِكَ؟! أَتَظُنُّنِي تَارِكَا لِمَا صَنَعْتُ؟! بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ أُمَّمَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ النِّعْمَةَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلِأُتِمَ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾[الْبَقَرَةِ: 150] أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحَامِلَ الَّتِي تُسْقِط الْوَلَدَ قَبْلَ الثَّمَامِ مَعِيبَةٌ تُرَدُّ، وَلَوْ أَسْقَطَتْ أَوِ الرَّجُلُ أَسْقَطَ عَنْهَا بِعِلَاجِ تَجِبُ الْغِرَّةُ وَتَسْتَحِقُ الذَّمَّ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ؟! فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَانٌ هُوَ اللَّهُ، وَبَيْنَ مَانٌ هُوَ فِرْعَوْنُ وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْفِ: 22] فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ»(1).

فاستنباط سام شمعون من قوله -تعالى-: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى﴾بأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان كافرًا في بادئ الأمر، ثمّ هداه الله، إن لم يكن منبثقًا من فرضيّةٍ مرتكزة في ذهنه وسابقة لتفسير الآية، لربّما استند فيه إلى بعض الآراء التفسيريّة المطروحة من قِبَل مفسّرین مسلمین ادعوا أنّ النبي كان كافرًا أوّل الأمر، فهداه الله بعد ذلك(2)؛ إلا أن جمهور العلماء متفقون على أنّه لم يكفر طرفة عين؛ وهو ما أكدت علية الآية الثانية من سورة النجم : ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا

ص: 485


1- محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 31، ص 197.
2- السدي ومجاهد من جملة الذين تبنوا هذا الرأي، فقد قال السدي: «كان على دين قومه أربعين سنةً»، وقال مجاهد: «وجدك ضالاً عن الهدى لدينه». (محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 31، ص 197). ولإثبات رأيهما احتجا بالآيات 52 من سورة الشورى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمانُ ، و 3 من سورة يوسف: ﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ )، و 65 من سورة الزمر: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنْ عَمَلُكَ ، حيث احتملا منها أنّ النبي محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)كان مشركا وضالا. (للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب،ج31،ص197). إلا أن الحقيقة على خلاف هذا الادعاء، فالآية 52 من سورة الشورى تؤكّد على أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل أن ينزل عليه الوحي لم يكن على علم بالكتاب والإيمان، لكن الله -تعالى- جعله نورًا يهدي به من يشاء من عباده؛ وهو ما أكد عليه الجزء الثاني من الآية: ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ...﴾. إذًا، هذه الآية تحكي عن لطف الله - تعالى - بنبيه الكريم والمتمثل بإنزال الوحي عليه، وهذا الوحي في الواقع نور وهدى لسائر عباده؛ لذا ما هو المسوغ لادّعاء أنّها تدلّ على كفره صلوات الله عليه وآله قبل البعثة ؟! الآية في مقام بيان أنّ النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن على علم بمحتوى القرآن الكريم وتعاليمه قبل نزوله عليه؛ ونتيجة ذلك: لم يكن لديه إيمان بهذا المحتوى والتعاليم؛ نظرًا لعدم اطلاعه عليها بعد ؛ ومن المؤكد أنّ هذا الأمر لا يمس بتاتا بعقيدته التوحيدية ومعرفته بأصول العبودية لله عزّ وجلّ، إذ عدم اطلاعه على مضامين القرآن الكريم لا يعني جهله بالله تبارك شأنه، أو عدم خضوعه لعبوديته.

غَوَى﴾، فالفعل الماضي في عبارة (ما ضلّ) يدلّ بصراحة على أنّه لم يضلّ مطلقًا(1).

واستنادًا إلى ما ذكر، فكلمة (ضالا) في قوله - تعالى -: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالَّا فَهَدَى﴾تعني الضلال عن النبوّة؛ أي أنّك لم تكن نبيًّا وكنت بعيدًا عن النبوّة، فهداك الله -تعالى- وجعلك رسولًا؛ وبالتالي يراد من الضلال -هنا- عدم النبوّة والهداية، ويُراد من الهدي منح الرسالة له؛ وهذا المعنى على غرار قوله - تعالى - في الآية 52 من سورة الشورى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُورًا نَهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ﴾، وقوله - تعالى - في الآية 3 من سورة يوسف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ﴾، وقوله - تعالى - في الآية 49 من سورة هود: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ﴾.

إذَا، المراد من كلمة (ضالّا) في الآية 7 من سورة الضحى هو عدم علم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بشيءٍ من النبوّة قبل بعثه؛ وهو ما ذكره الطبرسي، حيث قال: «وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من

ص: 486


1- راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 31، ص 197. هناك تفاسير أخرى ذكرت لقوله - تعالى -: ﴿ وَجَدَكَ ضَالَّا فَهَدى ) أورد الفخر الرازي جملة منها، ثم اختار أحدها؛ وهي أ- العرب كانوا يطلقون على الشجرة التي تنبت لوحدها في العراء اسم ضالة أو فريدة، لذلك كأنّ الله عزّ وجلّ - أراد أن يصف البلاد التي يقطنها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وبالمفازة التي ليس فيها شجرة تحمل ولا تثمر ثمرة الإيمان سواه؛ فأنت أيها النبي على هذا الأساس شجرة فريدة في مفازة الجهل؛ أي أن الله -تعالى- وجدك كالشجرة الضالة في العراء، فهدى بك الخلق. إذَا، المعنى هنا على غرار مفهوم قول المعصوم "الحكمة ضالة المؤمن"، ومن ثم فالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لأمر نادر بين الضالين. ب- وجدك ضالًا عن معرفته تبارك شأنه حينما كنت طفلًا فاستودع فيك العقل والهدى والمعرفة، لذا الضال حسب هذا المعنى يُراد منه عدم العلم وليس الضلال العقدي، أي أنّه ليس الضلال الخطأ. ج- على غرار القول المأثور (إيّاك أعني واسمعي يا جارة)، أي أنّ الخطاب ليس موجهًا إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرةً، وإنما إلى قومه، حيث وجدهم ضالين عن الحق فهداهم. د- أنت أيها النبي الشخص الوحيد الذي لم يسلك طريق الضلال وكنت في منأى عن دينهم، فأنت وحيد وبعيد عنهم، لذا كلّما كان بعدك عنهم أشدّ كان ضلالهم أشد فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين. ه_ - وجدك ضالا عن الهجرة فهداك إليها، حيث كنت متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم ولم تكن تعرف ماذا تفعل فهداك الله -تعالى- إلى الهجرة. و- كنت ضالاً عن القبلة وترجو أن يعيّن الله -تعالى- لك قبلتك فهداك إلى القبلة التي ترضاها؛ وعلى هذا الأساس فالضلال يفسّر بالحيرة التي اكتنفته صلوات الله عليه وآله بالنسبة إلى القبلة التي يجب أن يصلّي نحوها. ز- وجدك ضائعا بين قومك الذين كانوا يؤذونك، أي أنّك كالعالم الذي ضاع بين الجهلة إذ لم يكن يعجبهم أن يطيعوك ويكونوا تحت إمرتك. ح كنت ضالّا ما تعرف طريق السماوات فهداك الله - تعالى - إليها في ليلة المعراج . ط - النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)حتى وإن كان عارفًا بالله -تعالى- بقلبه، إلا أنّه لم يكن يظهر ذلك لقومه؛ وهذا هو المقصود من الضلال في الآية. (راجع: محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ج 31،ص197-198).

النبوّة والشريعة، أي كنت غافلا عنهما فهداك إليهما»(1).

وقال الزمخشري في تفسير الآيات 6 و 7 و 8 من هذه السورة: «عدّد عليه نعمه وأياديه، وأنّه لم يخله منها، من أوّل تربيه وابتداء نشئه، ترشيحا لما أراد به، ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه؛ لئلا يتوقّع إلا الحسنى وزيادة الخير والكرامة، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره. و ﴿َلَمْ يَجِدْكَ﴾ من الوجود الذي بمعنى العلم، والمنصوبان مفعولا وجد، والمعنى: ألم تكن يتيمًا؟ وذلك أنّ أباه مات؛ وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت

أمه؛ وهو ابن ثمان سنين، فكفله عمّه أبو طالب وعطفه الله عليه، فأحسن تربيته»(2). وأضاف قائلًا: «﴿ضَالًا﴾؛ معناه الضلال عن علم الشرائع وما طريقة السمع، كقوله: ﴿مَا كُنتَ تَدرِى مَا الْكِتَبُ﴾ [الشورى: 52]. وقيل: ضلّ في صباه في بعض شعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب ، وقيل : أضلّته حليمة عند باب مكّة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب. وقيل: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، فهداك : فعرّفك القرآن والشرائع؛ أو فأزال ضلالك عن جدك وعمّك ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنةً، فإن أراد أنه كان على خلوّهم عن العلوم السمعيّة، فنعم؛ وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم، فمعاذ الله والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَن تُشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾[يوسف : 38] ، وكفى بالنبي نقيصةً عند الكفار أن يسبق له كفر»(3).

ولا شك في أنّ الأنبياء قد اصطفاهم الله -سبحانه وتعالى-(4)، وهذا الاصطفاء - طبعًا- ليس اعتباطيًّا، بل كانت لديهم القابلية لحمل رسالة السماء؛ لذلك وقع الخيار عليهم، ومن جملة خصالهم الفريدة: عدم صدور أي فعل قبيح أو منكر منهم، وعدم ارتكاب المعاصي؛ لذا فالرأي الأقرب إلى الصواب في تفسير كلمة (ضالا) التي تحدّثنا عنها هو أنّ النبي محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن على علم بأحكام الشريعة، أو أنه لم يكن يعرف شيئًا عن نبوّته،

ص: 487


1- الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 766.
2- محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 4 ص 769.
3- راجع: م. ن، ج. ن، ص . ن.
4- للاطلاع أكثر، راجع: سورة آل عمران، الآيتان 43 - 44.

وهذا الرأي تؤيّده الشواهد القرآنية، كذلك ينسجم مع المعنى الحقيقي لكلمة (ضل) ومشتقاتها(1). ولا يُستبعد أيضًا أن يكون المراد أنّه كان لا يُنتفَعَ به ولا يُعرَف فضله بين الناس؛ وفاقًا لما أورده ابن فارس في معجمه وللرواية التفسيرية الواردة عن الإمام الرضا(علیه السّلام).

أضف إلى ذلك، سورة الضحى تُدرج ضمن أوائل السور المنزلة على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فترتيبها هوالحادي عشر(2)، والهدف منها -كما ذكرنا آنفا- هو مواساته والتقليل من وطأة الحزن الذي كان يؤذيه(3)؛ فبعد مدّةٍ من الحزن العميق الذي اكتنفه جرّاء خشيته من انقطاع الوحي، أراد الله تبارك شأنه في هذه السورة طمأنته وإزالة حيرته؛ لذلك ذكره بحيرته التي اكتنفته قبل بعثه وأخبره كيف آواه؛ حينما كان يتيمًا، ثمّ هداه وأغناه؛ كذلك أكد له أنّه لن يتخلّى عنه اليوم -أيضًا- وسيكرمه بمزيد من المدد الغيبي؛ ما دام شاكرًا ومطيعا، على الرغم من كلّ تلك الشدائد التي يواجهها والمصائب التي يتعرّض لها.

وقارن سام شمعون بين النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)والنبي إبراهيم(علیه السّلام)لأجل إثبات مدعاه في تفسير الآية 7 من سورة الضحى وممّا قاله في هذا الصدد: «هذا [الكلام] يشبه تماما ما ذكره القرآن حول إبراهيم(علیه السّلام)، حيث كان يعبد القمر والشمس في بادئ الأمر قبل أن يدرك عبثية هذه العبادة(4)؛ لذلك ليس هناك ما يدعو لأن ننفي هذا التحوّل التدريجي عن [النبي] محمّدٍ(صلی الله علیه و آله و سلم)(5).

وهناك مسألة هامة لا بد من التذكير بها؛ وهي: أنّ أحد الأساليب التخصصية المعتمدة في نقل المضمون بشكل غير مباشر ، صياغته في إطار يتقبله المخاطب، فهو بهذا الأسلوب تصبح لديه قدرة على الاختيار؛ لأنّه يدرك أنّ رأيه محترم، كما يصون نفسه من تبنّي أفكار خاطئة، ومن ثمّ

ص: 488


1- شبيه هذا التفسير ذُكِرَ في تفاسير الزمخشري والطبرسي والبيضاوي. للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن علي الشوكاني، فتح القدير، سوريا، دمشق، منشورات دار ابن كثير؛ لبنان، بيروت، منشورات دار الكلم الطيب، 1414ه_، ج 5، ص 558.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 280.
3- تجدر الإشارة إلى أنّ مواساة الله عزّ وجلّ له تكرّرت بعد ذلك مرّاتٍ عدة جرّاء ما واجهه من مشاكل ومصاعب.
4- قال -تعالى-: ﴿فَلَماً جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَيٍّ فَلَماً أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الأَفِلِين * فَلَماً رَأَى الْقَمَرَ بَازِغَا قَالَ هَذَا رَيْ فَلَماً أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّ هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 76 - 78).
5- Shamoun, p. 12.

تتبلور الأفكار الخاطئة والمنحرفة ضمن طابع آخر بعيدٍ عمّا يتصوّره؛ وعلى هذا الأساس يتيسر له الحكم على المضمون من النواقص الموجودة فيه واستكشافها، لذا يعدّ هذا الأسلوب أفضل من غيره في التعامل مع المعتقدات الباطلة؛ وحينما نتدبر في الآيات المباركة نجدها تصرّح بأنّ النبي إبراهيم(علیه السّلام)ذكر تلك التصوّرات التي أشير إليها في القرآن الكريم؛ لأجل إرشاد قومه وهدايتهم نحو الصواب، فهو لم يكن يقصد إزالة الشك عن نفسه، بل حاول إزالة الشكوك والشبهات عن قومه، وإثبات بطلان معتقداتهم عن طريق تصوير نفسه واحدًا منهم؛ مفترِضًا أن آلهتهم تمتلك إرادةً واقتدارًا، ثمّ فنّد هذا الافتراض وأثبت عدم كفاءة هذه الآلهة المزعومة لأن تكون أربابًا تستحق العبادة؛ كما يعتقدون(1)، كذلك عندما شاهد أفول النجوم والشمس والقمر، قال إنّها لا تصلح لأن تكون أربابًا، فهل لم يكن يعلم بأنّها تؤول إلى الأفول والغروب بعد إشراقها؟! ألا يدلّ هذا التمثيل على أنّ المراد هو تفنيد المعتقدات الباطلة؛ نظرًا لمخالفتها حكم العقل ؟! لا شك في أنّ مواكبة إبراهيم لا لقومه في بادئ الأمر ومجاراتهم في ما كانوا يتصوّرون، يُعدّ أفضل وسيلة لتفنيد آرائهم وآراء كلّ من كان يعارضه، وفي الحين ذاته يعتبر سببًا في عدم إثارة حفيظتهم وتأجيج لجاجتهم(2).

إذَا نستشف من الآيات 76 إلى 78 من سورة الأنعام أن إبراهيم(علیه السّلام)بادر إلى تفنيد عقيدة قومه الذين كانوا يعبدون النجوم عن طريق الاستدلال بأفولها، حيث أثبت بهذا الأسلوب عدم كفاءتها لأن تكون آلهةً، وفي هذا السياق اعتمد على معتقداتهم ذاتها لمواجهتهم وضمن تعامله الحاذق سعى بالتدريج إلى إرشادهم نحو السبيل القويم، ثم ذكر لهم استدلالات بسيطةً وفي الحين ذاته متقنةً وملموسةً؛ لإثبات عدم كفاءة آلهتهم المزعومة، وبعد ذلك أفصح لهم عن معتقداته القويمة(3).

ص: 489


1- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 7، ص 176 - 177. للاطلاع أكثر، راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 4،ص 501 - 502؛ محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 2، ص 4
2- ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، ج 7، ص 116.
3- قال -تعالى-: ﴿إني وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشِرْكين﴾ (سورة الأنعام، الآية 79).

المبحث الثاني: التفسير الاستشراقي للآيات الأولى من سورتي المزمّل والمدثر:

قال المستشرق أوري روبين ضمن تفسيره الآيات الأولى من سورتي المزمّل والمدثر، إنّ القرآن وصف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هاتين الصفتين؛ ترغيبا له في الاستيقاظ وأداء مهمته التي كلف بها، وفي هذا السياق احتمل أن يكون هذا الوصف مؤشّرًا على تراجعه عن دعوته وعدم رغبته في مواصلة ما ابتدأ به(1)؛ ومن هذا المنطلق دعا إلى مراجعة الروايات التفسيرية التي ورد فيها ذمّ لشخصيته؛ بغية فهم مدلول الآيتين الأولى والثانية من سورة المدثر ، حيث اعتبر أن التفاسير السائدة بين المسلمين لهما تقوم على مرتكزات لاهوتية ودوغمائية، لذا لا يمكن قبولها، ومن ثمّ لا بدّ من تفسيرهما؛ وفقًا للتفاسير التي فيها تأنيب وذمّ له، فهذا هو الأسلوب الصحيح برأيه؛ حيث تؤكّد الروايات التي أشار إليها على أن السبب في تدثر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)هو تماهله في تبليغ الرسالة المكلف بها أو عجزه عن ذلك، وهذا مؤشّر على تراخيه وانزوائه وعدم رغبته في مواجهة المشاكل التي كانت تعترض طريقه حين دعوته ؛ واستدل - أيضًا - بأنّ الآيات اللاحقة تتضمن أوامر يُراد منها تغيير هذه الحالة السلبيّة والمبادرة إلى أداء المهمّة بشجاعة وتضحية(2).

وضمن تحليله الموضوع نقل عن السهيلي كلامًا ذكر فيه قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): "أنا النذير العريان"؛ أي الذي يؤدّي مهامه بنشاط وحزم، والنذير الذي يدثر نفسه بردائه لا يمكن أن يكون نذيرًا عريانا. وعقب روبين على هذا الكلام؛ قائلا: إنّ السهيلي يقصد أنّ وصف النبي بالمدثر؛ يعني تقصيره في أداء واجبه باعتباره نذيرًا لقومه، حيث أطلقت عليه هذه الصفة جراء تماهله وتراخيه ؛ وقال إنّ هذه الكلمة كانت شائعةً بين العرب قبل الإسلام؛ لذا فالمعنى في هذا السياق يفيد الذم والتوبيخ؛ بحسب التفاسير الأكثر قدمًا، وناشئ من تلك البيئة التي لم تنتشر فيها فكرة عصمة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)على نطاق واسع بعد. وعلى مر الأيام تغيّر مفهوم تدثره وتم تبريره إلى حد ما، أو على أقل تقدير أصبح بمعنى لا يفيد الذم ولا المدح، لكن مع ذلک فالمعنى الأساس للمزمّل والمدثر يستبطن ذمّا وتوبيخًا(3).

ص: 490


1- Rubin, "Muhammad", p. 440; Idem. The shrouded messenger: On the interpretation of al-muzzammil al- muddaththir, Jerusalem Studies In Arabic Islam, 16, 1993, pp. 96 - 107, pp. 100, 101,105,106.
2- Ibid.
3- Rubin, “The shrouded messenger: On the interpretation of al-muzzammil al - muddaththir”, pp. 100, 101,105, 106 تبنى الباحث فراد دونير فكرة مشابهة لما ذهب إليه أوري روبين وطرح التفسير نفسه للعبارات الأولى من سورتي المدثر والمزمل، حيث ادعى أنّ النبيَّ محمّدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)ولم يكن راغبًا في ارتداء ثوب الرسالة، لكن بعد أن تزايدت تجربته الدينية اتضح له وجوب تحمل عبء هذه الرسالة وعدم جواز التنصّل عنها؛ لذلك قرر أن يجعل دعوته الدينية علنية. (Cf. Fred M. Donner, Muhammad the believers: on the origins of Islam, p. 41).

ويبدو أنّ هذا المستشرق تبنّى رؤيةً سلبيةً إزاء المعتقدات الإسلامية، واعتبر مسألة العصمة من جملة المعتقدات التي ظهرت في عهد متأخّر من التاريخ الإسلامي، لذلك رجّح التفسير المذكور؛ لكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ المراد الحقيقي من هذين المفهومين هو إشعار النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأهميّة تكليفه، وتشجيعه على الارتقاء بمبادئ نبوّته إلى أرفع الدرجات؛ وهو ما تحقق على أرض الواقع بالفعل، فقد ارتقت هذه المبادئ بشكل تصاعدي وتكاملت طوال 23 سنة من بعثته المباركة.

وحتى لو افترضنا أنّ هذه العبارات فيها تأنيب وعتاب، لكنها مع ذلك لا تدلّ على وجود نقص في شخصية النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أو تقصير من جانبه في أداء التكاليف الملقاة على كاهله؛ كَمَا أَنْ شؤونه الشخصيّة والروحيّة ليست هي المحور الأساس في العتاب هنا، وإنّما محوره هو طبيعة ارتباطه بالمهمّة المكلّف بها، لذا لا نستشف من ذلك أيّ نقص أو خلل في شخصيته المباركة، ومن ثمّ لا صوابية لما ذهب إليه هذا المستشرق؛ حينما نسب الموضوع إلى عصمته، والتأريخ الذي تمّ فيه الترويج لها على نطاق واسع.

ولا شكّ في أنّ كلّ خطوة يتّخذها الإنسان نحو الكمال توحي بوجود نقص سابق قبلها، لذا لو اعتبرنا عدم الكمال نقصًا، فهذا لا يعني بالضرورة وجود تقصير أو معصية، بل إن الحركة نحو الكمال لا تتوقف وتجري بشكل متواصل. وعلى سبيل المثال حينما ينتقل التلميذ من مرحلة دراسيّة إلى أخرى خلال مسيرته التعليمية، لا يمكن ادّعاء أنّ هذا الانتقال يدلّ على وجود تقصير من قبله في المراحل السابقة، حتّى أنّ إرشادات أستاذه وتكفّله بتربيته ومراقبته وتحذيره له، وعتابه له خلال هذه المسيرة، يُراد منها -فقط- توجيهه نحو السبيل القويم في كسب العلم والنهوض بالنفس إلى مرتبة أعلى؛ لذا لا يمكن لأحد ادّعاء أنّ هذا العتاب ينمّ عن حدوث معصيّةٍ من قِبَل التلميذ؛ إلا في حالةٍ واحدةٍ؛ وهي عدم تطبيقه التعاليم التي اكتسبها بشكل عملي على الرغم من علم معلّمه بأنّه يمتلك القابلية التي تؤهله لذلك.

ص: 491

إذَا، حتّى وإن اعتبرنا هذا السلوك ضربًا من المعصيّة، لكنّه يشترك مفهوميًّا ولفظيًّا - فقط- مع المعاصي التي يرتكبها عامة الناس أو الضالّون منهم، وكما قيل فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين(1).

وسورة المدثر تُدرّج ضمن أوائل السور المنزلة على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛لذا ليس من الصواب اعتبار الأوامر الجادّة المذكورة فيها هادفةً إلى تربيته وتأهيله لأداء واجبه الحسّاس بوصفه نبيًّا مرسلًا، بل يُراد منها إضفاء كمال أكثر على شخصيته، لا إزالة نقص منها.

واعتبر السهيلي أنّ هذا الخطاب مستوحى من حالة المخاطب؛ بوصفه مخاطبًا، وأكد على أنّه أسلوبٌ متعارَفُ عند العرب في التعبير عن مودتهم لمن يوجهون الخطاب إليه، فهذا الخطاب كأنّه لا يستبطن أي ذمّ وتوبيخ على الإطلاق، وهو ما ذكره القرطبي في تفسيره، حيث قال «قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَيْسَ الْمُزَّمِّلُ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وَلَمْ يُعْرَفْ بِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ وَعَدُوهُ فِي أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا الْمُزَّمِّلُ اسْمٌ مُشْتَقٌ مِنْ حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حِينَ الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَّثِّرُ. وَفِي خِطَابِهِ بِهَذَا الاِسْمِ فَائِدَتَانِ : إِحْدَاهُمَا الْمُلَاطَفَةُ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا قَصَدَتْ مُلَاطَفَةَ الْمُخَاطَبِ وَتَرَكَ الْمُعَاتَبَةِ سَمَّوْهُ بِاسْمٍ مُشْتَقٌ مِنْ حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا...»(2).

هذه السورة تعتبر من أوائل السور القرآنية؛ كما ذكرنا، وقد استهلّت -مثل سورة المزمل- بصيغة الأمر، وفي تلك الآونة التي هي بداية الدعوة النبوية، كان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يواجه اتهامات متواليةً ويتعرّض لنقد لاذع؛ لذلك اكتنفه حزن عميق؛ الأمر الذي دعاه لأن يتدثر برداء كي يأخذ قسطًا من الراحة ويقلّل من وطأة حزنه؛ فجاءه الخطاب من السماء عن طريق الوحي وأمر بالصبر وأداء صلاة الليل؛ لأجل أن يتأهّب لتحمّل مسؤوليته الحسّاسة التي سيتلقاها قريبًا عن طريق الآيات القرآنية. كما دعته لأن يصبر على ما يسمعه من الكفّار من كلام مسيء وتهم باطلةٍ، وأن يبتعد عنهم؛ طالبًا العون والمدد من القرآن، ومستعينًا بالصلاة برفقة أنصاره الذين كانوا معدودين آنذاك.

ص: 492


1- للاطلاع على تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، راجع أمير أحمد نجاد بررسي عتاب هاي قرآن درباره پیامبر(صلی الله علیه و آله و سلم)، رسالة دكتوراه مدوّنة باللغة الفارسية، جامعة قم، 2011م، ص 177 - 179. أشير إلى مفهوم عصمة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وسائر الأنبياء إليها بتعابير عدة ضمن الآيات القرآنية، ولكن تم تنقيحها بعد أن تبلور علم الكلام الإسلامی. (راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 134؛تفسير سورة البقرة، الآية 313 / سورة النجم الآيتان 2 - 3)
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 19، ص 62.

إذَا، الله - تعالى - أمر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بالتزام جانب الصبر والتوسل بالصلاة؛ لتحمل المشاكل، وتجاوز المصاعب والاستعداد لتلقي القول الثقيل، ونستشف من مواساته له في الآية التاسعة من سورة المزمل وما بعدها لما اكتنفه حزن عميق، أنّه يريد ملاطفته وتسكين خاطره؛ وهذا المعنى بكل تأكيد لا يتناغم مع ادّعاء أنّ الآية الأولى تدلّ على التوبيخ، حيث يدلّ سياق الآيات على أنّه تعرّض لسخرية واستهزاء من جانب الكفّار وسمع منهم كلامًا مؤذِيًا، لذا أراد الله - تعالى - مواساته وطلب منه أن يتخذه وكيلًا؛ بأن يجعل إرادته -تبارك شأنه- محلّ إرادته والصبر على ما يسمع من كلام محزن.

وتتواصل مواساة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذه السورة، وفي هذا السياق ذكّرت بعاقبة فرعون؛ جرّاء عصيانه نبي زمانه؛ بوصفه شاهدًا على تحقق وعد الله -تعالى-.

وكما هو واضح من مضمون السورة فالطابع العام لها زاخر بالأنس والملاطفة والمواساة لخاتم الأنبياء(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذا هل هناك مسوّغ يدعونا إلى اعتبار أنّ الآية الأولى تستبطن توبيخا له وتدلّ على ضعفه وتماهله فى أداء وظائفه الرسالية ؟! فضلا عن ذلك، فإنّ سورة المدثر دعته في آياتها الأولى إلى إنذار الناس والتزام جانب الصبر في تنفيذ أوامر الله عزّ وجلّ، حيث أمر فيها بأن ينذر قومه وأن يصبر أمام أذى الكفّار لأجل ربّه، ثمّ أشارت إلى سخريتهم بالقرآن.

وقد بلغ أذى هؤلاء الكفّار درجةً؛ بحيث لا يمكن تحمّله والصبر عليه؛ إلا بالاستعانة بالله -عزّ وجلّ - والتوكّل عليه، لذا ليس من الصواب مطلقًا ادّعاء أنّ الخطاب في الآيات الأولى من هاتين السورتين يستبطن ذمَّاً وتوبيخا للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؛بل الخطاب فيهما يُعبّر عن العلاقة بينه وبين الله -تعالى-، ويحكي عن طبيعة هذه العلاقة، ومن هذا المنطلق يجب اعتباره على غرار قوله - تعالى -: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، و﴿يَأَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ومن ثمّ يبطل ما ادعاه أوري روبين بكون السورتين توبخانه.

وحاول المستشرق كينيث كراغ تحليل الموضوع وفق أسلوب يقرّب فيه وجهات النظر على ضوء طرح رأي ينسجم مع التفسير الإسلامي إلى حد ما، معتبرًا الخطاب في السورتين شاملًا لسائر أنواع الخطاب الموجّه إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في النص القرآني، وفي هذا السياق فسّر مسألة تدثّره بالرداء أو الدثار على غرار التفسير الذي تبنّاه بعض المفسّرين المسلمين(1)الذين أرجعوا

ص: 493


1- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وإسرار التأويل، تفسير الآية.

السبب فيه إلى أمرٍ آخرَ غير برودة الجوّ ، لذلك اعتبر هذين الوصفين أكثر انسجاما مع سائر الأوصاف التي وُصِفَ فيها بكونه على خلق عظيم؛ كما في الآية 4 من سورة القلم، والأسوة الحسنة كما في الآية 21 من سورة الأحزاب والمطاع؛ كما في الآية 63 من سورة النساء؛ لذا أرجع السبب في خطاً كهذا إلى أمرٍ آخر(1). ويرمز الرداء، في سورتي المزمل والمدثر، برأي هذا المستشرق إلى النبوّة، وحتّى إن اعتبرنا الإشارة فى سورة المزمّل إلى الرداء أو الدثار يُراد منها بيان أنّ قيام الليل يُعدّ أمرًا طبيعيًّا، لكنّ السورة تحكي عن إقرار مسؤولية على كاهله، وإبلاغه رسالةً من السماء(2).وكذلك تبنّى رؤيةً مشابهةً بالنسبة إلى الآية الأولى من سورة المدثر، حيث تحدّث عنها قائلًا: «على الرغم من إمكانية تفسير هذه العبارة بحسب المفهوم الظاهر من ألفاظها، لكن مع ذلك يمكن اعتبارها دالّة على الرسالة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فالدثار يرمز إلى تربيته؛ لأجل تحقيق الهدف من الرسالة؛ وسياق هذه السورة على غرار سياق سورة المزمل، حيث يحكي عن المهمة الرسالية؛ وإذا اعتبرنا الخطاب الموجه إليه في هذه العبارة لا ارتباط له بالظروف الزمانية والمكانية؛ وحتى من حيث درجة الحرارة، وإنّما تواكب مع هذه الأمور عن طريق الصدفة، ففي هذه الحالة يمكن اعتباره عجيبًا بالنسبة إلى مثل هذة المهمة العظيمة والفخمة»(3).

ودثار النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذه الآية - برأي كينيث كراغ-، يمكن اعتباره رمزا يدلّ على نيابته عن سائر الأنبياء، فهو حسب النص القرآني خاتم سلسلة الأنبياء والمرسلين التي تبدأ من أبي البشر آدم(علیه السّلام)؛و من هذا المنطلق هناك تأثير كبير للغاية في ابتداء السورتين بعبارتي: ﴿ يَأَيُّهَا الْمُدَّثِرُ﴾و﴿يَأَيُّهَا الْمُزَمَلُ﴾(4). كما اعتبر رأيه صائبًا في ما لو أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان قد التفت في باطنه بشكلٍ مفاجئ إلى الهدف من نزول القرآن، لذا فإن عبارة: ﴿يَأَيُّهَا الْمُزَمَلُ﴾ تحمل بين طياتها مفهومًا بخصوص الحكم والمسؤوليّة، ولا فرق في ذلك بين كونها نزلت حينما كان الجوّ باردًا قبل بزوغ الشمس أو في حالةٍ أخرى؛ والنبيّ آنذاك؛ حتّى وإن لم يكن لديه منصب رفيع، لكنّ شخصيّته كانت محترمةً وموفّرةً بين قومه قطعًا، لذلك وُجّه

ص: 494


1- Cf. Kenneth Cragg, Muhammad in the Qur'an the Task the Text. 1st. ed. London: Meliseden, (2001). p. 46.
2- Cf. ibid.
3- Cf. Ibid.
4- Cf. Ibid.

إليه خطاب كهذا، وفي خضم هذه الأجواء خُوطِبَ بأمر وجب عليه أداؤه(1).

وكما أكّد على أنّ الخطاب في الآيات الأولى من السورتين المذكورتين لا يقتصر على رداء أو دثار شخص بالتحديد، وإنّما يتمحور حول رسالته ومهمته؛ فالسّياق النصي في الآيتين فيه تأكيد صريح على النداء والمنادى ضمن أسلوب (يا أيها...). فالمعنى المقصود ذو ارتباط كبير برسالة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)المهمة التي كُلّفَ بها ، والضمير - هنا- يرتبط بشخصيته بوصفه فردا؛ من حيث كونه نبيًّا مكلّفًا بأنْ تكون دعوته رسالية(2).

وممّا ذكره في هذا الصدد أيضًا - : أنّ القارئ حينما يدقق في الآيات الأولى من سورتي المزمّل والمدثر يشعر بأن تحوّلا قد بدأ يحدث في روح النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث تطرقت الآيات اللاحقة إلى قيام الليل وطوله واعتباره مناسبًا لتلاوة القرآن، كما طلب منه أن يلتزم جانب الصبر مقابل التّهم التي تطاله والكلام السيّئ الذي يوجّهه معارضوه إليه وخلاصة الكلام: أنه كان يجرب النبوّة(3)، وتجدر الإشارة - هنا - إلى أنّ سيرته الواقعيّة إبّان العقد الأخير من حياته تعدّ أفضل مؤشّر على كونه مزمّلا ومدثرًا حاملًا على عاتقه المسؤولية القرآنية التي كُلّفَ بها(4)، وكما هو معلوم فالعهد المكّي من حياته كانت أجواؤه مشحونةً بالنزاعات المحتدمة واشتدت فيه معارضة الناس للقرآن(5)، لذا كأنّ روح الخطاب في الآيتين الأوليين من السورتين المذكورتين هو (أنت يا من لففت نفسك بدثارك)؛ أي يا من تهيأت للمواجهة وأنت خاضع لضغوط شديدة، لا تحزن عليهم ولا يضقُ قلبك من مكرهم.

ونستشف من هذا الكلام أنّ كينيث كراغ اعتبر مستهل سورتي المدثر والمزمّل انعكاسا لذروة الآلام والمعاناة الباطنية التي اكتنفت حياة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)(6).

وجدير بالذكر أن آراء بعض المفسّرين المسلمين تشبه الرأي الذي تبنّاه هذا المستشرق

ص: 495


1- Cf. Ibid., p. 47.
2- Cf. Ibid.
3- Cf. Ibid., p. 48.
4- Cf. Ibid. p.49.
5- مثال على ذلك، راجع: سورة غافر، الآية 56؛سورة ص ، الآيتان 6 - 7؛سورة لقمان، الآيتان 20 - 21؛سورة الفرقان، الآيتان 41 - 42؛سورة الكافرون.
6- Cf. Ibid. p. 50.

بخصوص تزمّل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،حيث اعتبروه يدلّ بالمعنى الاستعاري على التفافه بدثار الآلام والمشاكل التي اكتنفت نبوّته(1)، لكن لا يمكن استنباط هذا المعنى من الآية الأولى في السورة؛ حتّى وإن افترضنا صوابيته.

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقي لكلمتي (أمي) و(أميون):

وصف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في موضعين من القرآن الكريم بالأمي، وهذا الوصف الذي يُعتبر واحدًا من خصائصه الشخصيّة، ذُكِرَ بصيغة المفرد في الآيتين 157 و 158 من سورة الأعراف، حيث قال -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُتِيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَيةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبيثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ، وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)قُلْ يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ، وَيُمِيتُ فَثَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُتِيَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَتِهِ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158)﴾.كما استخدم هذا الوصف بصيغة الجمع لبيان حال اليهود والوثنيين العرب(2).

وعلماء اللغة والتفسير غالبًا ما يطلقون هذا اللفظ على مَنْ لا يُجيد القراءة والكتابة، وعلى هذا الأساس يستدلّون على كون النصّ القرآني وحيّ منزل من السماء؛ لأنّ بنيته اللغوية الثريّة ومضامينه العالية وتعابيره الاستعاريّة الفريدة من نوعها، لا يمكن أن تصدر من شخص لا يجيد القراءة والكتابة إلا أن يكون نبيًّا مرسلًا مكلَّفا بنقل الوحي المقدس إلى الناس(3).

وأما التفاسير الاستشراقية لهذه الكلمة فهي تتراوح بين طرح معان تتناسب مع التفسير الإسلامي، وبين تحميلها معاني سلبيةً غير منسجمةٍ مع ما ذهب إليه المفسّرون المسلمون(4)،

ص: 496


1- للاطلاع أكثر، راجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 568، نقلًا عن قتادة.
2- للاطلاع أكثر، راجع: سورة البقرة، الآية 78؛ سورة آل عمران، الآيتان 20 و 75 ؛ سورة الجمعة، الآية 2.
3- شهره شاهسوندي/ أميد خانه زاده، تغيير مخاطب در قرآن: راهكارهاي ترجمه (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات مرکز دراسات العلوم والثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى، 2013م، ص 70 - 71. Also cf: Sebastian Gunther, "Muhammad the illiterate Prophet: An Islamic Creed in the Quran Quranic Exegesis", Journal of Quranin studies, vol. 4, No.1, 2002, p. 1.
4- المسشترق النمساوي ألويس شبرنجر (1228 Alyos Sprenger - 110 ه_ / 1813-1893م) هو من جملة المستشرقين الأوائل الذين أدلوا بدلوهم في هذا المضمار، لكن لا يسع نطاق البحث في هذا الكتاب تسليط الضوء على دراساته وبحوثه حيث تبنّى رأيًا عجيبًا في تفسير مصطلح (أمي)؛ ويمكن تلخيصه بما يلي: "كان يعتقد بأنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يجيد القراءة والكتابة، كما قرأ كتابي (أساطير الأولين) و(صحف إبراهيم) اللذين يتضمنان معتقدات القدماء وقصصهم وأديانهم". (نقلًا عن: ريجيس بلاشیر، در آستانه قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمود رامیار، ص 507) كما اعتبر مصطلح (أمي) مشتقا من كلمة (أمة)، والمقصود منها هذا المعنى نفسه؛ أي الأمة ؛ وقصده - طبعًا- هو الأمة العربية، حيث تشبه المصطلحين اللاتيني (gens) واليوناني (ethnos). (Cf. Sprenger, the life of Muhammad, p. 101). لا شك في أن التفسير الذي تبنّاه هذا المستشرق لمصطلح (أمة) عارٍ عن الصحة، ويخالف مضمون النص القرآني، وحتى النصوص غير القرآنية، إذ حينما نتتبع جذوره اللغوية ومعانيه الاصطلاحية لا نجد أيا منها يدلّ على العرق والقوم؛ وعند استعماله للدلالة على المجتمع الإنساني، فهو يشير إلى فئة من الناس كالقبيلة أو عددٍ من القبائل ضمن نطاق ديني ،بحتٍ لا ضمن نطاق عرقي وقومي. حسين بن محمد الدامغاني، قاموس القرآن ،لبنان بيروت منشورات دار العلم للملايين، الطبعة الثانية، 1977م، ص 4 - 42). والمعنى الضمني لمصطلح (أمة) ذو دلالة دينية بحتة، ولا يراد منه العرق أو القوم، وهذا المعنى متعارف قبل هجرة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وبعدها؛ بحيث تم تأكيده في السنوات الأولى من الهجرة ضمن الوثيقة التي كتبها والمعروفة بدستور المدينة، فقد ذُكر فيها مرتين، مرة في المادة الأولى ومرّة أخرى ضمن المادة 25 ولا نلمس في أي منهما إشارةً إلى العرق أو القوم. (See: Uri Rubin. "the constitution of Medina", The constitution of Medina, Some notes", Studia Islamica, LXII, (1985), 5 - 23. pp. 5 - 23, especially, pp. 12 - 17). وتجدر الإشارة هنا إلى أن رأي ثيودور نولدکه بخصوص تفسیر مصطلح (أمي) يُعتبر المصدر الذي استوحى منه المستشرقون المتأخرون المفهوم الدلالي له إذ الأمّي برأيه هو من لا يعرف بمضمون الكتاب المقدّس، لا مَنْ يجهل القراءة والكتابة. (للاطلاع أكثر ، راجع: ثيودور نولدکه، تاریخ ،القرآن، تعديل فريدريش شفائي، ترجمه إلى العربية جورج تامر ،لبنان، بيروت، ص 13 -14). أطلق القرآن الكريم على فئة من اليهود لقب (أميون)؛ على الرغم من وجود كتاب مقدس بين أيديهم، وهذا ما سنذكر تفاصيله في المباحث اللاحقة. (للاطلاع أكثر، راجع: مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق عبد الله محمود شحاتة، ج 1، ص 59؛أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 528). وفسّر المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير الأمي بالجاهل بالشريعة. (للاطلاع أكثر، راجع: ريجي بلاشیر، در آستانه قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمود راميار، إيران، طهران، منشورات مكتب الثقافة الإسلامية 1986م، ص 24). وتبنّى بلاشير هذا الرأي ليسير على نهج يوسف درّة الحدّاد ويثبت صوابية النظرية القائلة بأن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يجيد القراءة والكتابة قبل البعثة؛ لذلك درس التوراة والإنجيل، ثم جاء إلى الناس بما تعلّمه منهما تحت مسمى الوحي.

وغالبية المستشرقين الذين تطرّقوا إلى ترجمتها أو تفسيرها بحيادِ بمنأى عن تلك الفرضيات الارتكازية الراسخة في أذهانهم، توصلوا إلى نتائج تشبه ما وقع عليه إجماع المسلمين(1)، ويمكنتلخيص رأي العابدي وفيشر في هذا المضمار بالتالي: «اعتماد النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)على الجانب الحواري والشفوي للقرآن يوحي بعدم دراسته، وهذا الأمر يؤيد كون القرآن منزلًا عن طريق

ص: 497


1- جون ديفنبورت صاحب كتاب دفاع واعتذار لمحمّد (والقرآن) هو أحد المستشرقين الذين يندرجون ضمن هذه الفئة، لكننا نراعي الاختصار ولا نتطرّق إلى بيان آرائه ضمن موضوع بحثنا. (للاطلاع أكثر، راجع: عذر تقصیر به پیشگاه محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)و قرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية غلام رضا سعيدي، إيران، طهران، منشورات إقبال، 1953م، ص 18). (راجع أيضاً: جوستاف لوبون، تاریخ تمدن اسلام و عرب (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية فخر ،إيران، طهران، منشورات أفراسياب،2001م، ص 119).

الوحي، ويدلّ على أنه ليس ثمرةً لجهود إنسان ماكر؛ لأنّه لم يمتلك القدرة على الكتابة، والدليل على عدم وجود بديل أو نظير للقرآن وعلى عدم إمكانية تقليده؛ هو انتقاء مصطلحاته بشكل حصري...»(1).

وأكّد كينيث كراغ هو الآخر على أنّ مصادر الكتاب الذي جاء به النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ليست موجودةً في الكتب ولا في المكتبات؛ وإنّما هي وحي إلهيّ وقال في هذا المضمار: «لم يحرّكه علمه، وإنّما شوقه هو الذي حرّكه؛ فالكلمات والجمل التي كانت تتدفق... كانت تكتسب قدرتها من الوحي، لا من المستندات والشواهد، فالنبي الأمي هو الذي لم يدرس ولا يقصد منه الجاهل، فالقرآن لم يولد من رحم التعلّم »(2).

وفي مقابل ذلك هناك مستشرقون تبنّوا رأيًا آخرَ إما على ضوء فرضيّاتهم القائمة على كون التعاليم الإسلامية منبثقةً من اليهوديّة والمسيحيّة؛ وأنّ القرآن مقتبس من العهدين، وإما على أساس بعض الروايات التي تؤكّد على أنّ النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يجيد القراءة والكتابة؛ حيث يتلخص رأيهم في أنّ المعنى الذي يدلّ عليه مصطلح (أمّيّ) مرتبط بمسائل عقدية وناش منها؛ وهو بالتالي يُعَدّ انعكاسًا لنهج شاع بين المسلمين بعد عهد ظهور النص القرآني وانتشر في بعض حلقات الدروس الدينيّة خلال الفترة التي تلت منتصف القرن الثاني الهجري(3). وهؤلاء المستشرقون ضمن ذِكْرهم سلسلةً من المعاني للمصطلح المذكور، طرحوا المعنى الذي يتبنونه؛ استنادًا إلى سياقات أو مبادئ تحليلية أخرى(4).

ص: 498


1- M. Abedi M. J. Fischer, "Translating Quranic Dialogues: Islamic Poetics Politics". In Hermenutics and Poetic motion, translation perspectives, Binnghamton: State University of New York, (1990), Vol. 5, p. 115
2- Kenneth Cragg, The Event of the Qur'an: Islam in its Scripture. London: George Allen Unwin, (1971), p. 53.
3- Cf. Sebastian Gunther," illiteracy", EQ, vol.2, p. 492; Idem., "Muhammad the illiterate Prophet: An Islamic Creed. in the Quran Quranic Exegesis", p. 1. من جملة المعاني التي ذكرها غانتر لمصطلح (أمي) ما يلي: - الذي ينتسب إلى قوم؛ أي العرب باعتبارهم لا يمتلكون كتابًا مقدسًا. - الذي ليس له كتاب مقدّسُ ؛ أي لا يتلو الكتاب المقدس. - الذي لا يتلو الكتاب المقدس لكونه لم يدرس أو لم يتعلّم شيئًا من شخص آخر. هذا المستشرق وأمثاله فسّروا صيغة الجمع للمصطلح المذكور بالعرب الذين لم يتلقوا كتاباً، وكذلك بعض اليهود الذين لا يعرفون الكتاب: وضمن مقالته الثانية (Muhammad...) وضح المفهوم الاصطلاحي للأمّي على ضوء مفاهيم العربي والمكي والعامي والمشرك.
4- بعض الباحثين المسلمين تبنوا توجيها كهذا، حيث قال أحدهم موضحًا: "المفسرون لما أدركوا أنّ كلمة أمي صفةٌ للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)فعلى ضوء اعتقادهم بأنّه منزّه من الشرك والكفر والنفاق والإلحاد، وضمن تسليطهم الضوء على ظاهر الآية 48 من سورة العنكبوت؛ بدأوا يطرحون آراء ملؤها التناقض، ففسّروا الكلمة بمن لا معلم له ومن لا يتقن القراءة والكتابة، بل راحوا إلى أبعد من ذلك معتبرين إياها مدعاة الرفعة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وفخره بينما هي لغيره مدعاة عار ونقص". (عبد الأمير سليم، «أمّي»، مقالة نشرت باللغة الفارسية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تبريز، العدد 101، 1972م، ص 6).

ووليام مونتغمري واط؛ هو أحد المستشرقين الذين زعموا أنّ النبي محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)تأثر بالنصوص المقدّسة لأهل الكتاب ومن هذا المنطلق شكّك في المعنى الشائع لمصطلح (أمي)، ولدى تسليطه الضوء عليه لم يستند إلى المعلومات القرآنية ولا إلى تحليل سياق الآيتين اللتين ذكرتا فيها، أو تحليل سائر موارد استعمالها القرآني؛ وإنّما اعتمد على منهج بحث تجريبي حول معلومات تأريخيّة وغير قرآنيّة، وممّا قاله في هذا الصدد: «المسلمون المتشددون يعتقدون بأن محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن يجيد القراءة والكتابة، إلا أن الباحثين الغربيين المحدثين شككوا بهذه العقيدة، حيث اعتبروا أنّها أبتدعت لإثبات كون القرآن معجزة»(1). وفي كتاب آخر من مؤلّفاته(2)أيّد ما ذهب إليه بعض المستشرقين؛ من أمثال واين هورويتز؛ ليفسر الأمي بالشخص المحلّيّ العربيّ، أو غير اليهوديّ(3).

كما أن هورويتز، وإبراهام إسحاق كاتش، وريتشادر بيل، وجون وانسبرو، وآرند جان فنسنك؛ هم من جملة المستشرقين الذين يدعون أنّ النصّ القرآني منبثق من تعاليم يهودية؛ بوصفه مقتبسًا من التوراة، وعلى أساس هذا الرأي اعتبروا أنّ كلمة (أمي) مرتبطةً بكلمة عبريّة تستخدم لتمييز بني إسرائيل عن سائر القوميّات، وضمن بيان مجال استخدامها كصفة للنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)قالوا إنّه وُصِفَ نفسه بالأمي؛ لكونه من العرب الذين وصفتهم الآية الثانية من سورة الجمعة بالأمیين(4). والحقيقة أنّ هذا التفسير لا يقوم على أي معطيات قرآنية، ولا

ص: 499


1- مونتجمري واط، محمّد پیامبر و سياستمدار (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية إسماعيل والي زاده، إيران، طهران، منشورات إسلامية، الطبعة الأولى، 1995م ص 51. أرجع مونتغمري واط السبب في طرح استدلاله في تفسير هذا المصطلح إلى أنّ النبي محمّدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)كان تاجرًا، لكن يرد عليه أن لا وجود لأي مستند تأريخي يثبت ما ذهب إليه، إضافة إلى وجود مستندات تأريخية تدلّ على العكس مما قاله؛ كذلك لا يوجد أي ارتباط بين كون الإنسان تاجرًا وبين قدرته على القراءة والكتابة إذ هناك تجارُ يوكلون جميع حساباتهم إلى شخص أو أشخاص آخرين ليؤدوا عنهم الشؤون الحسابية، لذا يمكن تصوّر هذا الأمر بشأنه صلوات الله عليه وآله. (للاطلاع أكثر، راجع علي رضا كاوند بروجردي أمي بودن پیامبر(صلی الله علیه و آله و سلم)در منابع تفسيري وحديثي و نقد دیدگاه خاورشناسان (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات مارينا ،2013م، ص 249 - 250 .
2- Bell, Introduction to the Quran, p. 34.
3- Native or Gentile.
4- Athamina, Kkalil, “Al - Nabiyy - al - umiyy: An Inquiry into the meaning of a Quranic verse, Der Islam, 69, issuel, (1992), p. 61.; Cf. Joseph Horovitz, Jewish Proper Names Derivations in the Koran, Hildesheim: George. Olms Verlag, (1964), p. 46; Abraham Isaac Katsh, Judaism in Islam: Biblical Talmudic backgrounds of the Koran its commentary. New York: A. s. Barnes, (1962), pp. 75 - 76; Richard Bell, Ibid., p. 34; Wansborough, Ibid., p. 34

يمكن إثباته؛ لا في رحاب الروايات والسيرة النبوية، ولا على أساس التفاسير الإسلامية؛ لذا فهو مجرّد استنباط شخصيّ لهؤلاء المستشرقين الذين تبنّوه، استجابةً لمعتقداتهم، وبقصد ادعاء صوابيّتها، مع تجاهل الحقائق الراسخة والموثّقة.

وفي هذا السياق دافع كل من: هورويتز، ورودي بارت؛ عمّا ذكره ثيودور نولدکه، وكلود شيفالي؛ لذا ادعيا أنّ مصطلحي (أمّي) و(أمّيّون) ظهرا لأوّل مرّة في المدينة، بعد أن هاجر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)إليها(1)؛ لكن هذا الاستنتاج يتعارض مع الترتيب التقليدي لنزول السور القرآنية؛ وفق الآراء الإسلاميّة(2)، وينسجم - فقط - مع الترتيب المطروح من قبل الباحثين الغربيين(3).

والنتيجة التي توصل إليها رودي بارت فحواها أنّ النبي محمّدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)حينما استخدم كلمة (أمي) فهو لم يكن على علم بالمعنى الاصطلاحي المتعارف لها عند اليهود، ومن ثمّ أضاف إليها معنى جديدًا(4).

ونقول في تفنيد هذا الادّعاء: ليس هناك أي دليل قطعي يدلّ على أن اليهود القاطنين في المدينة كانوا يتحاورون باللغة العبريّة التقليدية إبّان إقامة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فيها، وتفيد الوثائق التأريخيّة أنّهم كانوا يتحاورون بلهجة خاصّة وصفها الكلبي بلسان يهود يثرب(5)، ولربما هذه اللهجة ذات ارتباط باللغة السريانية؛ لأن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)طلب من زيدٍ ذات مرّة أن يتعلّم السريانية؛ لكونها بحسب الظاهر اللغة المعتمدة في مراسلاته مع اليهود(6).

وإذا اعتبرنا رأي هذا المستشرق مصيبًا، وقلنا إن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)اقتبس مصطلح (أمي) من

ص: 500


1- Horovitz, Ibid., p. 46; Parret, "Ummi", EI.
2- للاطلاع أكثر ، راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 12 و 19.
3- Bell, Ibid., p. 110.
4- Parret, "Ummi", El.
5- Cf. Arthur Jeffery, The foreign vocabulary of the Quran, p. 26. للاطلاع أكثر، راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 182.
6- للاطلاع أكثر ، راجع: أحمد بن حنبل، المسند، لبنان ،بیروت، منشورات دار صادر، 1313ه_، أوفسيت للنسخة المطبوعة في مصر - القاهرة ج 5، ص 182؛محمّد بن عبد الله (الحاكم النيسابوري)، المستدرك على الصحيحين ،لبنان ،بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1411ه_، ج 13، ص 477.

اللاهوت العبري ففي هذه الحالة لا بدّ من القول إنّه قد اقتبسها من اللغة الآرامية، لا العبرية(1)، لذا لا صوابية لادّعاء أنّه سمعه من يهود المدينة وأقحمه في سورة الأعراف دون أن يعي مدلوله الحقيقي.

واستدلّ الباحثون الغربيون، ضمن مساعيهم الرامية إلى إثبات رأيهم التفسيري لمصطلح (أميون)، بالآية 78 من سورة البقرة، وفي هذا المضمار ادعوا أنّها تعني مجموعةً من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بتعاليم النصّ المقدّس، فهم أناس سنّج كانوا جاهلين بما ذكر في التوراة؛ وهؤلاء هم الذين يوصفون في الأدب اليهودي ب_««אומות (- Amme - (2āres»(2)والنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)سمعه من يهود المدينة مثلما سمع مصطلح (أمي) nix Ummat ha- Olam Din) »13)»(3)، لكنّه لم يفهم الاختلاف بينهما فتشوّش المعنى في ذهنه وحدث لديه التباس(4).

وعمّم الباحث أتش. جي. رايسنر معنى هذا الاصطلاح إلى نطاق أوسع، واعتبره شاملا الجميع يهود الحجاز(5)، بينما قال ألفراد غيوم إنّ الأميين لم يكونوا يهودًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هم قوم اعتنقوا اليهوديّة؛ أي أنّهم ينحدرون من غير ذرية بني إسرائيل(6).

وهذا الكلام يثير في الذهن تساؤلات عدة تجعل من الصعب بمكان التصديق بما ادعاه هؤلاء المستشرقون، إذ بغضّ النظر عن كون المصطلحين المذكورين من ألفاظ الوحي المنزل على رسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، وعلى افتراض أننا قبلنا ما ذكروه؛ نسأل: هل إنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان حقًا في حيرة من أمره وقد التبس عليه الأمر في فهم هذين المصطلحين العبريَّين ؟! لو كانت الإجابة بنعم، فما هو الدليل الذي جعلهم يبتون برأيهم هذا على نحو القطع واليقين؟! هل هناك شواهد في النصّ القرآني، أو في المصادر التفسيريّة تدلّ على ما قالوا ؟! إذا لم تكن لديهم إجابة شافية عن

ص: 501


1- cf. Jeffery, Ibid., p. 25.
2- Her mother ha venom.
3- Nations of the world.
4- Horovitz, Ibid., p. 47; Katsh, Ibid., pp. 75 - 76; Parret, Ibid.; Wansborogh, Ibid., p. 54; Bell, Translation of the Quran, ed. Edinburgh (1973), p. 11.
5- H. G. Reissener, "The Ummi Prophet the Banu Israel of the Quran", pp. 276-281.
6- Alfred Guillaume, "The meaning of Amaniya in sura II: 78", pp. 41 – 47.

هذه الأسئلة وما شاكلها -والواقع أنّهم لا يمتلكون الإجابة- ففي هذه الحالة لا محيص لهم من الإذعان بأنّ النتائج التي توصلوا إليها قائمةً على تخمين وتنظير وافتراض فحسب، وهي بهذا الوصف منبثقةً من توجهاتهم الدينية ومرتكزاتهم العقدية، أو إنّها ناشئةً من اعتمادهم على ما ذكره أسلافهم من آراء خاطئة وناقصة، لذا لا يمكن إدراج ما ذكروه ضمن أسس التنظير العلمي.

وهناك مستشرقون(1)أكدوا على وجود ارتباط بين المعنى المقصود من كلمة (أماني) في الآية المذكورة، والمعنى المقصود من كلمة (أساطير)؛ وفي هذا السّياق اعتمدوا على بعض الروايات؛ لتوسيع نطاق دلالة مصطلح (أمّيّون)؛ باعتباره الوجه المشترك في الآيات التي يدور الكلام حولها؛ فالأميّون -برأيهم- كلمةً يُقصد منها وصف أولئك الذين لا يعترفون رسميًا بالكتاب المقدّس ويناقشون في مصداقية رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم). وهذا الكلام لا صوابية له، فهو مرفوض على أقل تقدير بالنسبة إلى الآية 78 من سورة البقرة، إذ المعنى الذي ذكره هؤلاء يشوّش سياق الآيات ويجعله مشتتا؛ لأنّ جميع الآيات الواقعة في سياق هذه الآية تحكي عن اليهود وبني إسرائيل الذين هم من أهل الكتاب؛ وبما أنّهم يؤمنون بالنبوة بشكل عام وبرسالة موسى(علیه السّلام)بشكل خاص؛ لذا ليس من الصواب ادّعاء أن مصطلح (أميون) -هنا- يحكي عن أولئك الذين لا يؤمنون بالوحي والكتب المقدّسة.

كما أنّ السور القرآنية التي لها ارتباط بموضوع البحث، تصنّف من حيث ترتيب النزول ومحلّه كما يلي:

- سورة الأعراف- مكّيّة رقمها 39

- سورة البقرة- مدنيّة رقمها 87

- سورة آل عمران- مدنية رقمها 89

- سورة الجمعة- مدنية رقمها 109

ومفسّرو القرآن لدى تفسيرهم كلمة (أمّيّ) المذكورة في الآية 158 من سورة الأعراف، غالبًا ما يشيرون إلى تلك الآيات التي تتضمّن هذه الكملة بصيغة الجمع، كما يستندون إلى الآية 48

ص: 502


1- Athamina, Kkalil, pp. 61 - 80.

من سورة العنكبوت؛ تأييدًا للتفسير الذي يتبنونه بخصوص هذه الكلمة؛ وهذه السورة رقمها 85؛ وفق روايات ترتيب النزول، لذا إن أردنا معرفة المدلول الحقيقي للكلمة، فلا بدّ لنا أوّلًا من تحليل الآية 157 واستقصاء تفاصيل سياقها بدقة تامّة، ومن ثمّ تسليط الضوء على سائر القرائن والشواهد التي تساعد على فهم المعنى(1).

وفي ما يلي نذكر تفاصيل أكثر حول الموضوع:

1. آيات سورة الأعراف:

في بادئ الأمر وقبل الخوض في بيان واقع سياق الآية ومضمونها، لا نرى بأسًا في تسليط الضوء على مدلول كلمة (أُمّ).

هذه الكلمة مشتقة من الجذر اللغوي (أَمَم) الذي يعني الأصل والأساس لكلّ شيء؛ بحيث تنضم إليه أشياء أخرى(2)، لذا فهي تعني أصل كلّ شيءٍ، وعلى مر الزمان تمّ تعميم استعمالها(3)؛ وأحد علماء اللغة -على سبيل المثال- ضمن تأكيده على نسبة مصطلح (أمي) إلى كلمة (أُمّ) قال إنّه كما أنّ الإنسان؛ وفقًا لفطرته الأولى لا يتقن فن الكتابة، فالأمي - أيضاً- لا يتقنها(4).

وقال بعض الباحثين في بيان استعمال هذا المصطلح؛ بما أنّ الكتابة في تلك الآونة كانت من

ص: 503


1- بعض الباحثين يرجّحون تسليط الضوء على الآيات القرآنية ابتداءً من السور الأخيرة، وصولاً إلى السور الأولى؛ لأجل تحليل مضامينها بشكل هادف بالنسبة إلى كلّ موضوع يطرح على طاولة البحث. (للاطلاع أكثر، راجع: محمّد علي لساني / حسين مرادي زنجاني، روش تحقیق موضوعي در قرآن کریم (باللغة الفارسية)، إيران، زنجان، منشورات "قلم مهر"، الطبعة الثانية 2007م، ص 48 - 49).
2- راجع: الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، إيران، قم، منشورات هجرت الطبعة الثانية 1410ه_، كلمة (أمم)؛ الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة تصحيح محمّد حسن آل ياسين ،لبنان، بيروت، منشورات عالم الكتاب، الطبعة الأولى، 1414ه_، كلمة (أمم)؛ إسماعيل بن حماد الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، تصحيح أحمد عبد الغفور عطار ،لبنان، بيروت، منشورات دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 1410ه_،كلمة (أمم)؛ حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن تحقيق عدنان داوودي ،لبنان، بیروت، منشورات دار القلم، الطبعة الأولى، 1402ه_، كلمة (أمم). قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في هذا السياق: " (أمم): اعلم أنّ كلّ شيءٍ يضم إليه سائر ما يليه، فإنّ العرب تُسمِّي ذلك الشَّيْء أُمَّا... فمن ذلك: أم الرأس وهو الدماغ ... ورجلٌ مأموم والشَّجَةُ الآمّةُ: التي تبلغ أمّ الدماغ والأميم المأموم والأميمة الحجارة التي يُشْدَخُ بها الرّأس... وأم القرى: مكة، وكل مدينة هي أم ما حولها من القُرَى. وأم القرآن كل آية مُحْكَمة من آيات الشرائع والفرائض والأحكام". (الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، كلمة (أمم)).
3- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، كلمة (أمم) ؛ محمّد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني (الزبيدي)، تاج العروس من جواهر القاموس، كلمة (أمم)؛ ابن دريد، كلمة (أمم).
4- راجع: أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، كلمة (أمم).

اختصاص الرجال دون النساء، فقد أطلق الناس على مَنْ لا يتقنها عنوان (أمّ)؛ أي ينسبونه إلى النساء من هذه الناحية(1).

وفي ما فسّره آخرون بالقصد والعزم، باعتبار أنّه مشتق من (أَمَّ)(2)، لذا سمّيت الوالدة أُمَّا؛ لأنّها أساس طفلها، والطفل هو قصدها(3)، والإمام سمّي إمامًا، لأنّ الناس يقصدونه(4)، وسمّيت الجماعة من الناس أمةً؛ نظرًا لاجتماعهم تحت أمرٍ واحد؛ مثل: الدين، أو الزمان، أو المكان(5).

واعتبر غيرهم الأمّي منسوبًا إلى الأمة؛ بمعنى الخلقة، فهو من بقي على أصل خلقته ولم يتعلّم شيئًا؛ وعلى هذا الأساس يلقب به من بقي على أصل الخلقة دون أن يتعلّم شيئًا(6)، لكنّ هذا المعنى لم يُذكَر في المعاجم والقواميس.

ص: 504


1- راجع: محمّد بن الحسن الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، ج 1، ص 318. للاطلاع أكثر، راجع: محمد حسين الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن،ج 1، ص 123. يبدو أن هذا المعنى ذوقي بحث، إذ حتى وإن اعتبرنا الأمّي منسوبًا إلى كلمة (أم ) التي تعني أصل الشيء وأساسه، لكن لا بد من وجود دليل نستند إليه لإثبات صوابيّة ادّعاء أنّ الإنسان يمكن أن يوصف بالأمي؛ لكونه لا يتقن الكتابة بفطرته. (راجع: عباس همامي / رحمت شایسته ،فرد نگاهي دوباره به مسئله أمي بودن پیامبر اكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(باللغة الفارسية)، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة پژوهش نامه قرآن وحديث العدد 10، 2012م، ص 65). والذين فسّروا الأمي؛ بمن بقي على حاله كما ولدته أمه؛ بحيث لم يتغير حتى لتعلّم القراءة والكتابة عليهم أن يلتفتوا إلى أن الوليد الجديد لديه خصائص لا حصر لها؛ مثل: عدم قدرته على معرفة ما يجري حوله وعجزه عن النطق، وما إلى ذلك من أمور أخرى؛ وهذه الخصائص التي هي عجز في الحقيقة تشمل عدم قدرته على القراءة والكتابة، لذا لو اعتبرنا أحد الناس أميًّا من حيث انتسابه إلى أمه من الطبيعي اعتباره عاجزا عن الكثير من الأمور؛ وبما في ذلك القراءة والكتابة. (سمية حاجي بابائي اركي، كاربرد قرآني واژه ،أمي مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة "انسان پژوهش ديني"، العددان 17 و 18، 2008م، ص 91). هناك الكثير من الخصائص المشتركة بين جميع النساء والأمهات في العالم، لذا ما الداعي لأن نسلّط الضوء على عدم القراءة والكتابة فقط دون سائر الصفات؟! إضافةً إلى ذلك فالقراءة والكتابة يتعلّمهما الإنسان عن طريق التعلّم والدراسة سواءً أكان ذكرًا أم أنثى، لذا فعدم إجادتهما إثر عدم التعلّم والدراسة لا يمكن اعتباره خصيصةً ذات طابع ذكوري أو أنثوي. (cf: Khalil Athamina, "Al - Nabiyyal - umiyy": An Inquiry into the meaning of a Quranic verse, Der Islam, 69, issue 1, 1992, p. 70).
2- راجع: محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، كلمة (أمم)؛ أحمد بن محمد الفيومي المقري، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، إيران، قم، منشورات دار الرضي الطبعة الأولى، كلمة (أمم).
3- راجع: إسماعيل بن حماد الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربيّة مادة "أم"؛ حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقیق عدنان داوودي مادة "أم"؛ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، تحقيق أحمد الحسيني مادة "أم".
4- راجع: محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب مادة "أم".
5- راجع: حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان داوودي مادة "أم".
6- راجع: محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب مادة "أم"؛ أبو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب، متشابه القرآن ومختلفه، ص 139.

وهناك من نسب الأمّيّ إلى أمة العرب؛ وذلك لأنّ عامة العرب آنذاك لا يتقنون فنّ الكتابة(1). في ما ذهب البعض إلى أنّه مشتق من الأمّيّة؛ بمعنى الجهل والغفلة(2)، ولكن لا أحد يعرف الدليل الذي استند إليه هؤلاء في طرح هذا المعنى.

ص: 505


1- راجع: حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، مادة "أم". حسب الرأي المذكور، فالسبب الذي دعا بعض الباحثين إلى تفسير هذه الصفة بمن لا يجيد القراءة والكتابة هو أن العرب كانوا يمتازون بذلك؛ أي أنهم لا يتقنونهما. (للاطلاع أكثر، راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 9، ص 40؛عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 2،ص 262؛محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 7، ص 227 – 228). ومن البديهي أن العرب كانت لديهم خصائص عديدة، لذا لا يمكن اختيار صفة عدم القدرة على القراءة والكتابة فقط، ومن ثمّ نسبة الأمية إليهم، كما ليس هناك شاهد يدلّ على هذا المعنى في المصادر اللغويّة، وأصحاب هذا الرأي استندوا إلى حديث مروي عن النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)يتمحور حول حساب تواريخ لتعيين بداية شهر رمضان ونهايته، وهو قوله "إنّا أمّةً أمّية لا نكتب ولا نحسب". (محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري ،لبنان، بيروت، 1978م، ج 3، ص 35). والمعنى الذي يمكن استحصاله من هذا الحديث أنّ الفعل (نكتب) لا ارتباط له مطلقاً بالكتابة، بل يعني بما أنّنا مسلمون، لذا لا ينبغي لنا تعيين موعد الصيام وفق تأريخ محدّد مسبقًا على أساس حسابات التقويم، ومن هذا المنطلق لا يمكننا ابتداء الصيام في تأريخ معين.Athamina, p. 68). وكذلك لم يأتِ هؤلاء بأي دليل يثبت انتساب صفة (أمي) إلى كلمة (أمّ) ودلالتها على مَنْ لا يُجيد القراءة والكتابة، كما لم يذكروا دليلًا على انتسابها إلى أم القرى - مكة - ودلالتها على ما ذُكِرَ أيضًا؛ حيث اعتبروها تدلّ - فقط - على الذمّ وفيها كناية للدلالة على العجز عن القراءة والكتابة (راجع: عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 5، ص 296). كما أن نسبة الأمّي إلى أم القرى ليست صائبةً، إذ نسبة الشيء إلى مفهوم مكوّن من كلمتين مضافتين تقتضي حذف اللفظ الأوّل وإلحاق ياء النسبة باللفظ الثاني، فلو أضيفت هذه الياء إلى الجزء الأوّل من التركيب الإضافي؛ فهي تسفر عن حدوث خطأ، ومن ثم لا يتضح المنسوب إليه. (راجع: عبد الله بن عقيل، شرح ابن عقيل ،إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، ج 2، ص 501). ولذا إنْ ادّعي أن صفة أمّي منسوبة إلى أم القرى فلا بدّ في هذه الحالة من وصف النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بالقروي أو أمّ القرائي؛ فضلاً عن أنّ أم القرى ليست اسمًا لمكة، وإنّما تحكي عن مفهوم عام يطلق على مكة وغيرها، وفي هذا السياق قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة إنّ هذه الكلمة تطلق على مركز القرى، لذا أطلق على مكّة أم القرى؛ لكونها مركزا لما حولها من مناطق، فقد كانت القبائل تتردد عليها باستمرار لتوفير ما تحتاج إليه. وذكر القرآن الكريم - أيضًا - هذا المصطلح باعتباره مفهوماً عاماً ولم يقيده بمكة فقط، وهو ما نلمسه واضحًا في الآية 59 من سورة القصص حيث أكد -تعالى- فيها على أنه لا يهلك القرى إلا بعد أن يبعث في أمها رسولًا: ﴿ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُون﴾. هذه الآية في مقام بيان إحدى السنن الإلهيّة، ومن الواضح أن المراد من أمّ القرى ليس مكّة بحدّ ذاتها، بل المقصود هو أنّ إهلاك الأمم السالفة لا يقع إلا بعد إتمام الحجّة عليها وبعد بعثة نبي إلى مركز المنطقة التي كانوا يقطنون فيها، فضلا عن ذلك وكما أشرنا في النصّ، فإنّ كلمة (أمّي) المذكورة في القرآن الكريم تُطلق على جميع المشركين العرب، سواء المكيون وغيرهم. (راجع: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 2، ص 420؛أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 3، ص 290). وكذلك من البديهي أنّ اليهود الذين وصفهم القرآن الكريم بالأمتين في الآية 78 من سورة البقرة، هم ليسوا أهل مكة؛ وإنما المقصود أولئك الذين كانوا يقطنون سائر المناطق؛ مثل: المدينة وأطرافها.
2- راجع: الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة، تصحيح محمد حسن آل ياسين؛ حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن. الراغب الأصفهاني نقل هذا المفهوم من قطرب.

وكما قُرئت من قبل البعض بالفتحة، وعلى هذا الأساس فسّروا عبارة ﴿النَّبِي الْأُمّى﴾ بالنبي المقصود؛ لأنّ النبي محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم)كان مقصدًا للناس(1)؛ إلا أنّ هذا المعنى لا نجده بين القراءات السبعة والعشرة، لذا يدرج ضمن القراءات الشاذة التي لا اعتبار لها.

ويمكن القول؛ وفقاً لما ذكر، إنّ المعنى العام والشامل لكلمة (أم) هو الأصل والأساس والمصدر، وقد اشتهر استعمالها على نطاق واسع لوصف الوالدة؛ لدرجة أن الناس تصوّروا أن هذا الاستعمال حقيقي وأنّ سائر الاستعمالات مجازية، والكثير من المعاني التي ذُكِرَت لهذه الكلمة في المعاجم والقواميس لا تحكي عن المعنى اللغوي لها، بل هي عبارةٌ عن آراء شخصيّةٍ المؤلّفي هذه المصادر، لذا لا يمكن ادّعاء أنّها تدلّ على مفهومها الدقيق؛ بحسب الشواهد والقرائن الموجودة(2).

والآية 157 من سورة الأعراف تؤكّد على أنّ هذا النبي الأمّي المذكور اسمه في التوراة والإنجيل يحلّ لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويخفّف من عبئهم، ويحرّرهم من الأغلال الروحيّة والعقدية التي تقيّد أفكارهم، لذا فهي تشير إلى ثلاثة أسس في إثبات حقانية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وهي:

- هو نبي أمي.

- الأنبياء الذين سبقوه وصفوه بالنبي.

- يحمل إلى البشريّة شريعة النجاة.

والظاهر أنّ الرأي الصحيح هو ما تبنّاه غالبيّة المفسّرين المسلمين(3)الذين فسروا

ص: 506


1- محمّد بن يوسف أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي محمّد جميل، ج 5، ص 194؛عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج 2، ص 462؛ محمد جمال الدين قاسمي، محاسن التأويل، تحقيق: محمد باسل السود،ج 5، ص 196.
2- راجع: عباس همامي؛ رحمت شایسته فرد، نگاهي دوباره به مسئله أمي بودن پیامبر اكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(باللغة الفارسية)، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «پژوهش نامه قرآن وحديث العدد 10، 2012م، ص 65 يبدو أنّ نسبة صفة (أمي) إلى كلمة (أمّ) أكثر انسجاما مع الأسس المنطقية، إذ بحسب هذا المعنى يمكن توجيه مسألتي البقاء على أصل الولادة من الأم وعدم اكتساب ميزة خاصّة، كما يمكن الاستنتاج منها أنّ الإنسان يتحلى بالفضل والعلم والتربية والمعرفة بذلك القدر الذي ناله من أمه بطبيعته الإنسانية. (للاطلاع أكثر، راجع: حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 1، ص 149).
3- راجع: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وإسرار التأويل، ج 3،ص 37:عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن، ج 5، ص 495؛محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص 310/ج 5، ص 75؛محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن،ج 4،ص 559؛مقاتل بن سلیمان، تفسير مقاتل بن سلیمان، تحقیق عبد الله محمود شحاتة، ج 2، ص 67.

مصطلح (أُمّيّ) بمن لا شأن له بالقراءة والكتابة، لا مَنْ لا يجيدهما؛ لأنّ أصل الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى أهل الكتاب ولا سيّما اليهود، والآية التي ذُكِرَ فيها هذا المصطلح في مقام بيان خصائص النبي الموعود؛ كما هي مدوّنةً في التوراة والإنجيل، والهدف منها التأكيد على واجب اليهود والنصارى إزاءه ؛ لذا لا يُراد منها بيان ما إن كان متقنا لفنّ القراءة والكتابة أو لا.

كما أن اعتماد المفسّرين المسلمين(1)على مدلول مصطلح (أمي) لإثبات كون القرآن معجزة؛ باعتبار أنّ من جاء به لا يجيد القراءة والكتابة، يُعدّ تكلّفا في بيان معناه؛ وذلك لأنّ هذا المصطلح وما شاكله والأوصاف التي ذُكِرَت بعده، تؤكّد على صدق رسالة النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وحقانية نبوّته، ولا يراد منها بيان أنّ القرآن معجزة؛ لكونه نزل على قلب نبيَّ لا يجيد القراءة والكتابة.

ولا شكّ في أنّ القرآن معجزةٌ من منطلق نزوله على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)الذي لم يدرس، حيث نزل عليه عن طريق الوحي فجرى على لسانه في إطار ألفاظ وكما هو ظاهر فالنص القرآني ذكر ثلاث خصائص له إلى جانب بعضها ضمن الآية المذكورة ، وهي الرسول والنبي والأمي، ومن المحتمل أنه وصف بها في التوراة والإنجيل(2)؛ إذ أراد القرآن تعريفه للقوم بالخصائص ذاتها التي وُصِفَ بها في العهدين(3)، ومثال ذلك الوعد بظهور نبيَّ من ذرية إسماعيل ، حيث نقرأ في التوراة ما يلي: «يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ»(4). وبعد ذلك نُقل فيها كلام للربّ بهذا المعنى نفسه: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ،

ص: 507


1- راجع: الفخر الرازي -على سبيل المثال- ذكر أوجه عدة لإثبات أن أمية النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)تعد دليلاً على الإعجاز الذي جاء به وشاهدًا على صدق نبوّته، وهي: أ- على الرغم من أنه لم يتقن القراءة والكتابة، لكنّه كان يتلو كتاب الله دون أي نقصان أو زيادة، وهذا الأمر بحدّ ذاته يعد معجزة؛ وقوله -تعالى-: ﴿سَنُقْروْكَ فَلا تَنْسَى﴾ يحكي عن هذه الحقيقة. ب- لو كان قادرًا على القراءة والكتابة لاتهمه معارضوه بأنه ألّف القرآن الكريم ودونه بيده لذا فالمجيء بهذا الكتاب السماوي بواسطة إنسان أمّي يُعتبر معجزةً، والآية 48 من سورة العنكبوت تحكي عن هذا الأمر. ج- تعلّم القراءة والكتابة أمر بسيط ويسير، لذا فإنّ عدم إتقانه لهما على الرغم من إلمامه بعلوم الأوّلين والآخرين يُعَد أمرًا عظيمًا وخارقًا للعادة باعتباره من سنخ الجمع بين الضدين. (راجع: محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 15، ص 23). وتجدر الإشارة -هنا- إلى عدم صوابية الاستناد إلى الآية 48 من سورة العنكبوت في هذا المضمار، لكن هذا ما فعله الفخر الرازي وكثير من المفسرين.
2- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الأملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ص 432.
3- راجع: م. ن، ص 438.
4- سفر التثنية، الإصحاح الثامن عشر / 15.

وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ به»(1). فهاتان الآيتان المقتبستان من التوراة على ضوء عبارة إخوة بني إسرائيل تشيران إلى بعث نبيَّ من ذرّية إسماعيل(علیه السّلام)، وهو النبي الوحيد الذي يُبعث من هذه الذرّية وبالطبع لا نبي هنا سوى محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛والمقصود من :عبارة: «وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ» هو أنّه أمي لا شأن له بالقراءة والكتابة، بل يوصل كلام الله - تعالى - إلى الناس عن طريق الوحي الشفهي ؛(2)وهذا المعنى أشير إليه في إنجيل يوحنّا بما يلي: «وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ، لأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأَمُورِ آتِيَةٍ»(3).

ويؤكّد النص القرآني - أيضًا على أنّه مكلف باتِّباع ما يُقرأ له عن طريق الوحي: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ﴾(4)، وكما هو ملحوظ في هذه الآية، فهي تؤكد على القراءة، فضلاً عن أن الكتاب السماوي الذي أنزل عليه اسمه (قرآن)؛ وهو مشتق من القراءة(5).

ونستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ مصطلح (أُمّيّ) الذي وُصِفَ به النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛يعني أنه على خلاف الأنبياء السابقين؛ من حيث القراءة والكتابة، إذ لا شأن له بهما، فكلام الله - تعالى - الذي ينزل إليه عن طريق الوحي ينقله إلى الناس عن طريق القراءة مشافهةً، وهذا الأمر تمّ التأكيد عليه ضمن الآيات 16 إلى 19 من سورة القيامة، إذ أكّدت على القابليات الموجودة لديه صلوات الله عليه وآله في استقبال الكلام الشفهي؛ مثل: الاستماع إلى كلام الله -تعالى- وتعلّمه وبيانه، وفي هذا السياق أُمِرَ بأن يستمع إلى الوحي. وبعد هذه المرحلة تمّ توجيه الأمر إليه ولجميع المسلمين بتلاوة النصّ القرآني المقدّس وفهم رسالته، عن طريق الشرح والتوضيح، ثمّ إبلاغها إلى الناس، ولا نبالغ لو قلنا إنّ وصف اليهود والنصارى في القرآن الكريم بأهل الكتاب يُقصد منه أنّ الوحي أنزل إليهم مكتوبًا(6).

ص: 508


1- سفر التثنية، الإصحاح الثامن عشر / 18.
2- راجع: محمّد كاظم شاكر، بشارت هاي عهدین در مورد پیامبر اكرم، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة «پژوهش نامه قرآن وحدیث»، العدد 7، 2010م، ص 122 - 123.
3- إنجيل يوحنّا، الإصحاح السادس عشر / 13. (راجع: محمد كاظم شاكر، بشارتهاي عهدین در مورد پیامبر اکرم، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة "پژوهش نامه قرآن و حدیث"،العدد 7، 2010م، ص 125).
4- سورة القيامة، الآية 18.
5- راجع: م. ن، ص 126.
6- cf. Gunther, "illiteracy", p. 6.

2. الآية 78 من سورة البقرة:

قال -تعالى-: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِتُونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِي وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(78)فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ، ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُم مِّمَّا كَنَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ(79)﴾(1) .

أشار الله -تعالى- في الآيتين 76 و 77 من سورة البقرة إلى خصلتين ذميمتين ومنحرفتين

لفئة من اليهود؛ تتمثل إحداهما بنفاقهم ، ومكرهم، والأخرى بانحرافهم فكرياً.

واستنادًا إلى سياق الآيات السابقة والآية اللاحقة للآية 78، فالألف واللام في كلمة (الكتاب) هي للعهد الذكري؛ والمقصود منها التوراة؛ كما أنّ الآيات السابقة تتطرّق إلى بيان لجاجة بني إسرائيل، في حين أنّ مفهوم الآيتين 78 و 79 هو بيان هذه الحقيقة، إذ من المتوقع أن يبدر منهم ذلك؛ لأنّهم إمّا أمّيّون يقلّدون الأحبار والرهبان تقليدًا أعمى ولا يعرفون إلا أحاديث موضوعةً لا أساس لها من الصحة ويكتفون في معتقداتهم بمجرّد ظنون لا تفيد العلم، وإما علماء جعلوا تحريف الكتاب والبدعة مصدرًا لكسب متاع الدنيا الزائل.

إذًا، كلمة (أمّيّون) في الآية 78 يُراد منها الإشارة إلى مَنْ لم يدرس ولا يجيد القراءة ،والكتابة وهي في مقام ذمّ أولئك الذين لم يدرسوا من بني إسرائيل لكنّ أعينهم وآذانهم مُلئت بالأحاديث المختلطة والموضوعة جرّاء ما يمليه عليهم علماء السوء من قومهم؛ أي أنّهم لم يستقصوا الحقيقة؛ لذلك ليست لديهم إلا أماني تافهةً وثقافتهم ضعيفةً، والسبب في ذلك أميتهم طبعًا. وبناءً على هذا التفسير، فإنّ قوله - تعالى -: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ يمكن اعتباره مفسِّرًا لكلمة ﴿أُمِّتُونَ﴾ ، الذين هم بهذا الوصف أهل الكتاب الذين لا يدركون حقيقة التوراة ولا يعرفون واقعها؛ وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ فيه توبيخ لهم إثر اتصافهم بهذه الميزة؛ وذلك لأنّهم يرتكزون في معتقداتهم على الظن والتخمين.

والآية اللاحقة؛ أي الآية 89 في صدد وصف فئة أخرى(2)؛ وذلك في قوله - تعالى -: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ، ثَمَنًا قَلِيلًا...﴾.

ص: 509


1- سورة البقرة، الآيتان 78 - 79.
2- راجع: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 318.

فهؤلاء هم علماء كانوا يحرّفون الحقائق، تحقيقًا لمآرب خاصة ومصالح شخصية، حيث كتبوا بأيديهم بعض الأمور في التوراة، ثمّ نسبوها إلى الله عزّ وجلّ، وقوله: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ إِلَّا أَمَانِي﴾شاهد على هذا الأمر(1).

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ ، وعلى ضوء سياق الآية 78 لا موضوعيّة لما استنتجه بعض المستشرقين الذين اعتبروا كلمة (أميون) دالّةً على جميع يهود الحجاز؛ لأن المقصود منها عدد من أهل الكتاب يختلفون عن تلك الفئة المتعلّمة ويشبهون آخرين من غير أهل الكتاب من حيث كونهم أميين، وقد أشير إليهم في ثلاث آيات أخرى؛ هي الآيتان 20 و 75 من سورة آل عمران والآية 2 من سورة الجمعة ووجه الاشتراك هنا هو الجهل وضعف الفكر الديني، وهذا الاشتراك يُعَدّ كافيًا لوصفهم جميعًا بصفةٍ واحدةٍ، ولعلّ هذا الأمر هو الذي دعا المفسّرين المسلمين لأن يصفوا العرب بأنّهم فئةٌ من الأمیين(2)، لذا يمكن أيضًا - إدراج سائر القوميات والأمم في هذه الصفة؛ مثل: المجوس وغيرهم.

3. الآية 20 من سورة آل عمران:

قال - تعالى -: ﴿فَإِنْ حَاجُوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ وَالْأُمِينَ وَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾(3).

كما نلاحظ في هذه الآية، فكلمة (أمي) وردت بصيغة الجمع (أميين)، حيث ذكرت إلى جانب عبارة: (أهل الكتاب( والمقصود منها: أن اسأل أهل الكتاب والأميين هل أنتم مسلمون بالله أو لا؟ لأنّ الدين لا يختصّ بفئة من بني آدم دون غيرها، فهو أمر شامل للجميع حتّى وإن اختلفت المعتقدات؛ من حيث التوحيد أو الشرك والمشركون هم الذين تقصدهم الآية في قوله - تعالى -: ﴿وَالْأُمِينَ﴾ ، والسبب في هذا الوصف هو ذكر أهل الكتاب؛ أي الذين ﴿أُوتُواْ

الْكِتَبَ﴾ قبلهم؛ لأنّ أهل الكتاب كانوا يطلقون على المشرك صفة (أمّيّ)(4).

ص: 510


1- للاطلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم (باللغة الفارسية)، ج 5، ص 294 - 303 (تفسير الآية).
2- عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 1،ص 64؛الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن،ج 1، ص 324.
3- سورة آل عمران، الآية 20.
4- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 122 (بتلخيص). للاطلاع أكثر، راجع: سورة آل عمران، الآية 75.

إذًا، الأفضل تفسير كلمة ﴿وَالْأُمِّينَ﴾ بمعنى آخر غير أهل الكتاب؛ وهذا المعنى هو: المشركون؛ كما أشرنا؛ وذلك بسبب ذكرها إلى جانب عبارة الذين ﴿أُوتُوا الْكِتَبَ﴾؛ وبقرينة ما ذُكِرَ بعدها في الآية ضمن الطلب الموجه إلى النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن يسأل مخاطبيه؛ ما إنْ كانوا قد أسلموا لدعوة الله أو لا، وكذلك بقرينة الجزء الآخير من الآية والذي فيه مواساة له صلوات الله عليه وآله باعتبار أنّ واجبه هو تبليغ رسالة السماء إلى قومه؛ وعلى هذا الأساس، فالمقصود من قوله - تعالى -: ﴿لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ﴾ كلّ من يتبع الكتاب ويتلوه ويكتبه، والمقصود من ﴿وَالْأُمِّنَ﴾ أولئك المشركون الذين لا يتبعون الكتاب ولا شأن لهم بقرائته ولا كتابته، لذلك عزا البعض وصف المشركين بالأمتين في مقابل الذين ﴿أُوتُوا الْكِتَبَ﴾ إلى عدم امتلاكهم كتابًا سماويًا؛ فهذا الأمر جعلهم في منأى عن تعلم القراءة والكتابة(1).

أضف إلى ذلك، فسياق الآيات السابقة يدعم هذا المعنى وحينما نمعن النظر في الآيتين 19 و 20 نلمس فيهما كلامًا عن أهل الكتاب والآية 19 بالتحديد تؤكّد على أنّ الدين عند الله هو الإسلام فقط، وأهل الكتاب لم يختلفوا فيه إلا بعد أن جاءهم العلم، فبغيهم هو السبب في اختلافهم فيه(2)؛ إذ على الرغم من أنّ هذه الفئة من أهل الكتاب لديها علم بالدين الحق، لكنّها اختلفت في ما بينها؛ جرّاء ظلمها وبغيها، حيث طغى عليها الحسد والسعي لتحقيق مآرب خاصة، لذلك لم تتورّع عن ارتكاب أيّ عملِ باطل؛ فقد كانت تعرف حق المعرفة حقانية المسيح عيسى(علیه السّلام)والنبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بفضل اطلاعها على الكُتُب المُنزَلَة من السماء، وقد اتّبعها الأميّون الذين لم يقرأوا هذه الكتب أو يكتبوها.

وبعد ذلك أمر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أنْ يُخبر الذين يندرجون ضمن هذه الفئة من أهل الكتاب، حينما يحاجونه، بأنّه وأتباعه مسلمون لله - تعالى -؛ وأن يسأل أهل الكتاب والمشركين الذين لا كتاب لهم: هل أسلمتم أو لم تسلموا؟ فواجبك هو إبلاغهم رسالة السماء فحسب.

كما أنّ الآية 19 تتضمّن تهديدًا لأهل الكتاب، وكذلك الآية 12 فيها تهديد للكفّار والمشركين،ولربما هذا هو السبب في توجيه الخطاب لهم جميعًا ضمن الآية 20

ص: 511


1- راجع: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 477.
2- راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد باقر موسوي همداني، ج 3، ص 188.

4. الآية 75 من سورة آل عمران:

قال - تعالى-: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَابِمَا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(1).

هذه الآية تتضمّن - أيضًا - كلمة (أميين)، وسياق الكلام فيها يتمحور حول اليهود من أهل الكتاب، لذا فهي في مقابل أهل الكتاب الذين كانوا يسعون إلى تحقيق مصالح خاصّة وبسط نفوذهم على الآخرين؛ إذ بما أنّهم امتلكوا نصيبًا من وحي السماء وكانوا قادرين على قراءة الكتاب، سوّغوا لأنفسهم امتلاك أموال الآخرين؛ وهذا ما يؤيده قوله - تعالى -: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .. فهؤلاء نسبوا الوحي إلى أنفسهم، وعلى هذا الأساس قالوا إنه لا يحق للأميين الاعتراض علينا؛ وهذا الموقف مقبول منطقيًّا؛ في ما لو اعتبرنا الأميين جاهلين بالكتاب والوحي؛ أي أنّهم من غير أهل الكتاب.

والأميون -هنا- على غرار اليهود السنّج الذين لم يدرسوا، وكانوا يرجون الأجر من الله -تعالى- على ضوء حفظ آيات التوراة؛ لأجل أمانٍ واهيةٍ لا طائل منها، دون أن يدركوا المعاني الحقيقية فيها، وهم الذين أشارت إليهم الآية 78 من سورة البقرة(2).

5. الآية 2 من سورة الجمعة:

قال - تعالى-: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَيْهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ﴾(3).

ما ذكرنا بخصوص الآيتين 20 و 75 من سورة آل عمران ينطبق هو ذاته على هذه الآية، حيث تحكي عن التقابل الموجود بين الأميين واليهود ، وسياقها يتمحور حول اليهود؛ لذا فالمراد من الأميين ذلك المعنى العام الذي أشرنا إليه ؛ وهو عدم قدرة القوم على القراءة والكتابة وجهلهم بالتعاليم الدينية، والمقصود -هنا- الأعراب الذين عاصروا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم). وكما هو معروف عنهم فقد كانوا فى منأى عن القراءة والكتابة، وقد بعثه الله - تعالى- من بينهم.

ص: 512


1- سورة آل عمران، الآية 75.
2- قال -تعالى-: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِي وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 78).
3- سورة الجمعة، الآية 2.

إذَا، ذِكْر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى جانب الأمتين في هذه الآية يُراد منه التأكيد على أنه منهم، فقوله -تعالى-: ﴿رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾ دليل على أنه من جنسهم.

ويُعدّ قوله - تعالى -: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَيْهِ﴾ قرينةً هامةً نستشف منها أنّ المقصود من الأمي في هذه الآية مَنْ لا يجيد القراءة والكتابة، وخاتم الأنبياء، بوصفه أميًّا تلقى الوحي

والآيات القرآنية، ومَنْ ثم تلاها على مخاطبيه بشكل شفهي لا عن طريق القراءة والكتابة، لذا لا يصح تفسير كلمة (أمّيّين) في هذه الآية بالمشركين؛ ولعلّ من فسّرها بهذا المعنى استند إلى مسألة كون الغالبية العظمى من الأمّيّين في عهده كانوا مشركين وعبدة أوثان، لذا حتى أصحاب هذا التفسير لم يقولوا بأنّ الآيات القرآنية كانت تتلى على المشركين فقط - من منطلق أنّ القرآن الكريم لا يختصّ بفئة معيّنة من البشر.

ويتمحور الكلام في الآيات الأولى والوسطى من سورة الجمعة حول اليهود، فإضافةً إلى أنّ الكثير منهم كانوا يجيدون القراءة والكتابة، كان لديهم ارتباط - أيضًا - بالوحي المدوّن - الكتاب - وفي مقابل ذلك أشارت هذه الآيات إلى بعث النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)من بين الأميين، وعلى هذا الأساس استند بعض المفسّرين(1)إلى ما ذكره عدد من التابعين ليفسروا كلمة (أميين) بالعرب لا غير؛ نظرًا لعدم قدرتهم على القراءة والكتابة فالنبي كان منهم ولم يكن يتقن القراءة والكتابة أيضًا والظاهر أنّ هذا التفسير هو الصحيح.

ولا شك في خطأ تأويل الكلمة بأهل أم القرى؛ لأنّ سورة الجمعة مدنيّة، لذا لا يرجع الضمير (هم) في قوله - تعالى -: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ إلى أهل مكة، بل مرجعه المهاجرون وسائر أهل مكة الذين أسلموا بعد الفتح وحتّى الأجيال التي لحقتهم(2)، لأن النبي محمدا(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يُبعث إلى أهل مكة فقط؛ كما أنّ سورة الجمعة لم تنزل فيها.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ ، حتَّى وإنْ كان المقصود من مصطلح (أمّيّين) في بعض الآيات؛ ومن جملتها : الآيتان 20 و 75 من سورة آل عمران؛ ذلك المعنى الذي هو في مقابل أهل الكتاب، إلا أن السبب في وصف القوم بهذه الصفة يعود إلى عدم قدرتهم على القراءة والكتابة،

ص: 513


1- راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 12، ص 89. راجع أيضًا: محمود الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 4،ص 528؛محمد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 10، ص 538.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 305.

في حين أنّ أهل الكتاب كانوا يجيدونهما ولهم ارتباط بالكتب الدينية ويعلمون بالمفاهيم المستبطنة منها؛ لذلك وصَفَ أهل الكتاب الجاهلين بالقراءة والكتابة بأنّهم أمّيّون(1).

وخلاصة الكلام أنّ مفهوم الجهل هو الميزة المشتركة لكلمة أمّي وملحقاتها ضمن جميع الآيات التي أشرنا إليها آنفًا واستنادًا إلى المعاجم والمصادر اللغوية، فهذه الصفة التي وُصِفَ بها النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في الآية 157 من سورة الأعراف: ﴿الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمّى﴾؛ تعني عدم تعلّمه القراءة والكتابة وعدم اطلاعه على الكتاب؛ وهذا الأمر يعتبر دليلًا على صدق نبوّته؛ حيث وُصِفَ في التوراة والإنجيل بهذه الأوصاف

ومن المحتمل أنّ الاستدلال الذي ساقه المفسّرون المسلمون في تفسير مصطلح (أمي) والاستناد إليه لإثبات كون القرآن معجزةً - وهو خارج عن نطاق الموضوع - أسفر عن حدوث تحدّيات فكريّةٍ مِن قِبَل المستشرقين؛ ولو أمعنا النظر في سائر موارد استعمال هذا المصطلح وملحقاته في سورة البقرة، وآل عمران، والجمعة، سوف نلمس من سياق الآيات أنّ المدلول المحوري له هو الجهل وعدم امتلاك رؤية دينية صحيحة؛ لذا، فالمشركون من مصاديقه وحالهم حال عوام اليهود، كما تجدر الإشارة - هنا - إلى أنّ المدلول السلبي لهذا المصطلح وكلّ ما يتفرّع عليه أمّيّون وأمّيّين لا يصدق على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فمن يُوصَف بهذه الصفة السلبيّة، هو في الحقيقة الجاهل بالتعاليم الدينيّة؛ بينما النبي إبان طفولته ترعرع في كنف هداية الله -تعالى- ورعايته، ومنذ بداية حياته شهدت سلوكاته وأقواله صدقًا وسدادًا أبهر كلّ مَنْ كان حوله؛ بحيث وصفه القوم بمحمّد الصادق الأمين، واشتهر بالصدق بين الأميين.

ص: 514


1- للاطلاع أكثر، راجع: جعفر السبحاني مکتب وحي امي بودن پیامبر (باللغة الفارسية)، إيران، قم، منشورات رسالت، 1977م، ص 64. راجع أيضاً: محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 1،ص 317؛محمد جواد مغنية، الكاشف في تفسير القرآن، ج 1، ص 133؛ محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 217 - 218.

نتائج ومقترحات

محور البحث في هذا الكتاب هو تحليل الآراء التي تبنّاها المستشرقون (ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين) في تفسير القرآن الكريم، والنتائج التي تم التوصل إليها تتلخص في ما يلي:

1. الأسلوب الظاهراتي - الفينومينولوجي- (phenomenology) هو أحد الأساليب التي شاعت مؤخّرًا على صعيد دراسة واقع الإسلام والمسلمين وتحليلها، وعلى هذا الأساس اعتبر الإسلام ظاهرةً، والمسلمون بدورهم اعتُبروا جزءًا لا ينفك عنها.

والإسلام والتأريخ؛ وفق هذا الأسلوب لا يتمّ تحليلهما بطريقةٍ انتزاعيّة، بل يدوّن الباحث دراسته التحليليّة حول الواقع الإسلامي في رحاب الزمان والمكان ضمن نطاق واسع، وعلى ضوء إيديولوجيا شاملة ؛ ولو كان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)حسب الدراسات التي تعتمد أساليب أخرى، يُدرج ضمن مرحلة تأريخية معينة، فشخصيته؛ على أساس هذا الأسلوب، يتم تحليلها في نطاق أوسعَ؛ استنادًا إلى التوجهات التي تبنّاها المسلمون على مرّ التأريخ الإسلامي، ومن ثم فهذه الشخصية ليست منتزعةً من التأريخ، وعاصرت مرحلةً زمنيّةً معيّنةً، واتخذت إجراءاتٍ خاصّةً مضى وقتها في تلك الآونة، بل يمكن اعتبارها سلسلةً من التصوّرات والمعتقدات والثقافات التي بقيت فاعلةً على مرّ التأريخ وما زالت منطبعةً اليوم في أذهان المسلمين؛ وهذه الرؤية استند

إليها المستشرقون ضمن دراسة التطوّرات التفسيرية التي شهدها العالم الإسلامي وتحليلها.

2. الدراسات التي دوّنها الباحثون الغربيّون في تفسير النصّ القرآني، يمكن تصنيفها ضمن تيارين أساسيين؛ هما:

أ. تيار تفسيري تقليدي (Traditionalist) وهو التيار الغالب في الدراسات الغربية.

ب. تيار تفسيري تجديدي (تعديلي) (Revisionist).

والباحثون الذين ينضوون تحت مظلة التيار الأوّل جعلوا بنية النص القرآني محورًا لدراساتهم، وفي هذا المضمار اعتمدوا على أسلوب لغوي وتحليل نصّي -تناص- في رحاب التأريخ وفقه اللغة لدى بيانهم مسألة تكوين النص القرآني، وحين استقصائهم العلاقة الرابطة بينه وبين تعاليم الكتاب المقدس وما تلاه.

ص: 515

3. يعتقد المستشرقون أنّ القرآن الكريم نادرًا ما ينقل قصص الكتاب المقدس بحذافيرها، فهو برأيهم ذكر تفاصيل توضّح هذه القصص ضمن إطار تفسيري جديد؛ وحاول تعريف مخاطبيه بما جرى فيها على ضوء تصويره شخصيّات الكتاب المقدّس نفسها وفق أساطير الأناجيل المنتحلة - أبوكريفا - وحكاياتها والنصوص اليهودية المسيحية غير الرسمية.

4. التعالق النصّي - التناص - برأي معظم المستشرقين أكثر ما يكون شبيها بنظرية التأثير والاقتباس المطروحة من قِبَل هارولد بلوم، لكنّ هذا الرأي لا يشبه نظريّة التناص المطروحة من قِبَل الباحثة جوليا كريستيفا وسائر الباحثين الذين تبنّوا آراء میخائیل باختين.

وتعرّف جوليا كريستيفا الآداب بأنّها كلّ خطاب يعتمد على منهجية التناص؛ الذي يعتبر تعاملًا بين النصوص وتغييرًا في صورها، ضمن نطاق نصوص أخرى، لذا لا يكفى في تحققه مجرّد التمليح، أو الإشارة، أو اقتباس أحد المفاهيم في النص الجديد.

5. الآراء التفسيرية التي تبنّاها غالبية المستشرقين الذين تطرّقنا إلى بيان وجهات نظرهم في هذا الكتاب، تقوم على مسألة التناص، حيث فسّروا الألفاظ والعبارات القرآنية وفق مبدأ التعالق النصّيّ؛ وهذا التوجّه في الحقيقة يعدّ استثمارًا نفعيَّاً لهذا المنهج التفسيري؛ وهو يجسّد تعارضًا بين النظرية والعمل.

كما أنّ غالبيّة البحوث والدراسات التي تم تدوينها وفق منهج التناص بين القرآن والكتاب المقدّس، يُراد منها إثبات أنّ النصّ القرآني متطفل على التعاليم اليهودية المسيحية، وعلى هذا الأساس تطرّق المستشرقون إلى تحليل مضمامينه؛ طبقًا للمفاهيم المصطلحة ضمن الدراسات التي أُجريت حول الكتاب المقدّس؛ في حين أنّ التناص الحقيقي يُراد منه معرفة كيف يمكن للنص الجديد صياغة رؤيتنا بالنسبة إلى النصوص الأخرى المرتبط بها. وكان بإمكانهم الاعتماد على أساليب معتبرة لبيان واقع الارتباط النصّي بين القرآن والعهدين، دون الحاجة إلى تهميش أحدهما.

6. الأسلوب الوضعيّ والاختزالي المتّبع من قِبَل المستشرقين إزاء النص القرآني، جعل القرآن الكريم عرضةً للنقد والاعتراض حين مشاهدة أوجه التشابه بينه وبين الكتاب المقدس ضمن موارد الاختلاف في ما بينهما، أو ضمن موارد اختلافه مع النصوص الفرعيّة اليهودية المسيحيّة.

ص: 516

وتنسب هذه الاختلافات إلى الأخطاء التي يقع فيها المتلقّي؛ حينما يقتبس المفاهيم من النصوص الأخرى بشكل مباشر، أو تنسب إلى عوام اليهود والنصارى أو الذين لا يجيدون القراءة والكتابة منهم؛ باعتبارهم مقتبسين لهذه المفاهيم؛ وعلى هذا الأساس نجد بعض الباحثين يحاولون الولوج في ذهن كاتب هذا النصّ المقدّس -النصّ القرآني- الذي هو النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)برأيهم وتحدوهم ثقة تامة بما يتصوّرونه في هذا المضمار، ومن ثمّ يحاولون بيان هدفه من وراء ذكر تلك المفاهيم؛ وفقًا لتصوّر كهذا.

وعلى الرغم من انتهاج بعضهم مسلكا يتناغم مع المبادئ الرسالية التي جاء بها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،لكنّهم استندوا في تفسير الآيات القرآنية إلى العرف السائد بين اليهود والمسيحيين في تفسير النصوص المقدّسة، إلى جانب الاعتماد على الفكر المسيحيّ ذي النزعة العربية.

7. أتباع تيار الفكر الإصلاحي تحدّوا النصّ المقدّس، حيث حرّروا أنفسهم من الفرضيات التقليدية المتعارفة في التأريخ الإسلامي، على ضوء اتباع أسس تحليلية ومنهجية لغوية، وفي هذا المضمار لم تعتمد دراساتهم وبحوثهم التفسيريّة على قراءات تأريخية ولغوية، بل تعاملوا مع النص القرآني بأسلوب لغوي بحت، ومن ثمّ فسّروا الآيات وفق ظنون وتخمينات لا أساس لها من الصحة؛ متبعين نهجا متطرّفا للغاية.

والقراءة اللغوية البحتة التي تبنّاها هؤلاء الباحثون، تمخض عنها ادّعاء أنّ القرآن لم يتبلور في الحجاز إبّان القرن السابع الميلادي، بل في العراق إبّان القرن التاسع الميلادي، وهو في هذه الحالة ليس تأريخا وإنّما هو مجرد استعراض للتأريخ؛ وعلى هذا الأساس بادروا في معظم الأحيان إلى تحليل مضامينه وفقًا لمفاهيم الكتاب المقدّس والأعراف اليهودية. وبعض الاختلافات العجيبة الكائنة بين النص القرآني ونصوص العهدين جعلتهم يلجأون إلى منهجية يهودية لاستنتاج المعنى، على أساس مسألة التعالق النصّيّ، ومن ثمّ استنتجوا أنّ القرآن نما وترعرع في بيئة طائفية تطغى عليها الأفكار والتوجهات اليهوديّة، وبالتالي لا يمكن طرح أي قراءة نهائيّة حول مسألة التناص القرآني.

8. حينما نمعن النظر في التفاسير التي تبنّاها هؤلاء المستشرقون ، يتّضح لنا أن دعوة التغيير (Revisionism) التي تُطرح من قِبَلِهم تتّسم - أحيانًا - برغبة جامحة في تجاهل حقائق ثابتةٍ لا غبار عليها، حيث يسعون من وراء ذلك إلى الترويج لعقيدة خاصّة.

ص: 517

ويتبّى أتباع هذا التيار الفكري تحليلا لغوياً في دراساتهم الإسلاميّة، ولا يطرحون أي تحليل منسجم قائم على شواهد وأدلّةٍ مقنعةٍ، حيث يعتمدون على مجرّد تصوّرات لبيان الحقائق التأريخيّة؛ على الرغم من كونها أقل شأنا من أن تكون مرتكزا في هذا المضمار؛ فالباحث منهم يبتدئ مشروعه البحثي؛ اعتمادًا على فرضيّةٍ واضحةٍ قوامها أنّ الحقائق ليست كما صوّرتها الدراسات التقليدية السائدة في العالم الغربيّ، ثمّ يلجأ إلى فرضيّات منطقيّة أو غير منطقيّة لمواصلة بحثه العلمي. ولا شكّ في أنّ مثل هذه الفرضيات تعدّ مقبولةً - فقط - من جهة أنّها فرضيات جديدة.

ويعود الأسلوب الذي اتِّبعه هؤلاء في تفسير الألفاظ والعبارات القرآنية إلى رؤيتهم الوضعيّة المرتكزة في أذهانهم حين التعامل مع الأحداث التأريخية والأسس التفسيرية ومختلف الأخبار المنقولة على مرّ التأريخ، وقد تطرّقنا في هذا الكتاب إلى دراسة الكثير من آرائهم وتحليلها والتي نستشف منها أنّ السبب في تشكيكهم بمدلول إحدى الآيات أو العبارات القرآنية وتفسيرها وفق هدف معيّن وذوق شخصي، يعود إلى مجرد أوهام وتصوّرات ظنّيّة بحتة منبثقة من فرضيّات لا أساس لها من الصحة.

9. لا شك في أنّ الفرضيّات الظنّيّة القائمة على التصوّر والتخمين ليس من شأنها إقناع الطرف المقابل، بل تُعَدّ سببًا أساس لتشويش الذهن وتشتيته.

كما أنّ أتباع التيّار الفكري الإصلاحي الذي ظهر في الدراسات الاستشراقية المتأخرة، لم يتقيّدوا بالحدود المنطقيّة للتصوّر والظنّ حين البحث عن الحقائق، وهذا الأمر مشهودٌ في دراساتهم وبحوثهم؛ ومثال ذلك: وصفهم بعض القصص التأريخيّة المنقولة في النصّ القرآني، بأنّها مجرّدُ أساطير لا غير؛ في حين أن صياغتهم الجديدة للتأريخ - وهي في الحقيقة مجرّد تصوّراتٍ - تقوم برأيهم على شواهد تأريخية متقنة، وتعدّ أكثر انسجاما مع الأسس العقليّة

والطريف أنّ الحقائق التأريخية التي يتحدّثون عنها لم يطرحوها على طاولة البحث والتحليل؛ إذ تجاهلوا جميع الحقائق وهمّشوا كلّ احتمال يتعارض مع نظرياتهم وآرائهم، على ضوء فرضيّاتهم المرتكزة في أذهانهم حول طبيعة الوقائع والأحداث التأريخية.

10. غفل هؤلاء المستشرقون عن أنّ الله - تعالى - يبعث نبيًّا جديدًا إلى الناس بعد أن يُعرِضُوا

ص: 518

عن النصّ المقدّس الذي كان بين أيديهم ويتحيّرون في متاهات الضلال، إذ الهدف من هذه البعثة هو هدايتهم في رحاب كتاب مقدّس نزلت ألفاظه ومعانيه، أو معانيه -فقط-، على أقل تقدير، عن طريق الوحي؛ ليكون نبراسًا تهتدي به الأجيال اللاحقة، وسدا منيعا؛ كي لا يضلوا من جديد.

هذا النصّ المقدّس يظهر حينما يندرس النصّ السابق ويُعرض الناس عنه، أو حينما لا يُفهم بشكلٍ صحيح؛ لذا تبلغ الإرجاعات النصّيّة من قِبَل النصّ الجديد إلى النص القديم أدنى مستوياتها؛ بحيث لا تشير إلا إلى الخلفيّة الدينية والارتباط المتواصل بين سلسلة الأديان السماوية.

كما أن القسم الأعظم من المضامين القرآنيّة تُعدّ جديدةً من نوعها، وجاء بها النص القرآني نَفسه دون الاعتماد على أي من الكتب المقدّسة السابقة، وهي تبلغ التمام والكمال؛ لدرجة أنّها تغني المخاطب عن الرجوع إلى أيّ نصّ آخر؛ ولكن بما أنّه آخر الكتب المنزلة من السماء، ونظرًا إلى أنّه -بطبيعة الحال- يحمل رسالة التوحيد التي جاء بها جميع الأنبياء، والمرسلين إلى البشرية، فقد تطرّق في آياته إلى الحديث عما شاع في الأمم السالفة؛ من قيم، وثقافات، ومعتقدات، وأخلاق، كذلك ذكر بعض قصص أنبيائهم، لذا إن أردنا فهم مضمونه؛ فلا بدّ لنا من الاطلاع على تعالقه النصّي.

11. الغالبية العظمى من المستشرقين الذين ذكرنا آراءهم ونظرياتهم في هذا الكتاب، لم يوضّحوا المعالم الأساسية لنهجهم التفسيري، فضلاً عن أنّهم لم يوضّحوا مقصودهم من النهج التفسيري القائم على مبدأ التناص لدى تفسيرهم النصّ القرآني؛ لذلك نراهم -أحيانا- يخوضون في فوضّى منهجيّةٍ ضمن طرح وجهات نظرهم؛ لكن مع ذلك هناك مستشرقون وضّحوا منهجيّاتهم التي اعتمدوا عليها في تدوين دراساتهم القرآنية؛ مثل: أنجليكا نويورث، ونيكولاي سيناي، وأوري روبين، وحتّى غابريال سعيد رينولدز إلى حد ما.

12.إحدى الشبهات التي يتشبّث بها التيّاران الفكريّان الاستشراقيان في مجال تفسير الألفاظ والعبارات القرآنية؛ هي أنّ التفاسير التي طرحها غالبيّة المفسّرين المسلمين ليست معتبرةً، بل منبثقةً من دوافع عقديّةٍ، وقد تمّ الترويج لها في الحلقات الدراسية الإسلامية؛ ومنهم من تجاهل سياق المفردة القرآنيّة التي تطرّق إلى تفسيرها وأعرض عن سائر السّياقات المشابهة لها في النص

ص: 519

القرآني، وعلى هذا الأساس رفض المعنى المتداول لها؛ بادعاء إشاعته عن طريق الحلقات الدراسية، وعلى ضوء المعتقدات التي ظهرت في المجتمع الإسلامي بعد ظهور القرآن، أو بادعاء أنه نتيجةً لتواطؤ عدد من العلماء المسلمين! وبهذا التصوّر سعى إلى طرح معنى جديد لهذه المفردة، على ضوء سيمنطيقا تأريخيّة، واستنادًا إلى تصوّرات ظنّيّة لا صوابية لها.

13. يعدّ السّياق أفضل مرشد نتمسّك به لمعرفة مراد المتكلّم ، لذا تتعدّد -أحيانًا- مصاديق إحدى المفردات؛ بحيث تصبح مشتركا لفظيًّا، كما أنّه من المتعارف في الاستعمال اللغوي اللجوء إلى الاستعارات والألفاظ المجازية؛ وهذه الأمور موجودةٌ - أيضًا - في النص القرآني، لذا يأتي الدور -هنا- إلى السّياق، إذ بإمكاننا الاعتماد عليه لمعرفة المصداق الذي يقصده المتكلّم أو المعنى الذي يريده، كذلك يعيننا على معرفة ما إن كان اللفظ مستعملاً بصيغته الحقيقية أو المجازية.

وحينما نلجأ إلى السّياق سوف يُتاح لنا التعرّف على المصداق المراد في كلّ آيةٍ تكرّرت فيها المفردة، ولأجل معرفة السّياق الحقيقي، فلا بد لنا من تحليل الآيات التي تنضوي ضمن نطاق معيّن في رحاب معرفة ترتيب نزول السورة ومناسبة نزولها، وطبيعة مخاطبيها، والأجواء الثقافية التي اكتنفت بيئة الخِطَاب العربيّة، وحينما نتتبع التفاسير التي تبنّاها المستشرقون لبعض الألفاظ والعبارات القرآنية؛ نستشف منها ضعفًا تفسيريًا يتمثل في عدم اكتراثهم بالسياق، وتحميلهم فرضيّات على النصّ القرآني، واتهامهم المفسّرين المسلمين بتجاهل التفسير الصحيح.

14. في مطلع القرن العشرين شهدت الأوساط الفكرية الغربية اهتماما بالغا بالدراسات التحليلية النقدية، وقد انعكست تداعيات هذه الظاهرة في التراث الفكري لبعض المستشرقين؛ من أمثال: ألفيس شبرنغر، وويل ديورانت، و هرتفيك هرشفلد، وفي هذا المضمار فندوا بعض روايات السيرة؛ باعتبار أنها أقتبست وطوّرت في رحاب القصص والمواعظ الموجودة في الأسفار الخمسة؛ فهي -برأيهم- مجرّد اقتباس منها؛ وهذه الرؤية تبلورت في الآراء التفسيرية الاستشراقية التي ظهرت بين الأوساط الفكرية الاستشراقية في المنتصف الثاني من القرن العشرين والفترة التي لحقته، حيث فسّروا القصص والألفاظ والعبارات القرآنيّة على أساس توجّه من هذا القبيل.

15. لا تقتصر نقاط الضعف في التفاسير الاستشراقية على تجزئة الآيات القرآنية وتجاهل

ص: 520

السياق، بل هناك مؤاخذةٌ أخرى تَرِد عليهم؛ وهي: تجزئتهم المواضيع القرآنية؛ ومثال ذلك: ما ذكرناه في الباب الثالث من الكتاب، إذ على ضوء مساعيهم الرامية إلى إثبات أنَّ النبيَّ محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ليس خاتم الأنبياء والمرسلين، تطرّقوا إلى تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب ضمن المباحث الخاصة بالإرث وادّعوا بهذا الصدد أنّ المسلمين قد حرّفوا النص القرآني.

واحتذى هؤلاء بأسلافهم وراحوا يخوضون في بيان الموضوع على أساس فكرة وضع الأحاديث بأسلوب ممنهج، وفي هذا المضمار ادعوا أنّ المسلمين هم الذين ابتدعوا قصة زيد بن حارثة وزوجته زينب بنت جحش، حيث أرادوا الترويج لفكرة خاتميّة النبوّة عن طريق إعادة النظر في النصّ القرآني، وبما في ذلك إلغاء القوانين الخاصّة بزواج الرجل من الزوجة السابقة لابنه بالتبنّي كما عدلوا قوانين الإرث!

16. الاستدلالات التي تمسّك بها المستشرقون تضرب بجذورها في النظريات المطروحة من قبل الباحثين الغربيّين، فهذا الأمر مشهود في النهج التفسيري الذي ذكروا آراءهم في رحابه إذ غالبًا ما نجد أحد المستشرقين يستند في رأيه التفسيري إلى النظريات الشائعة في الأوساط الغربية.

17. هناك بعض الحالات التي نلمس فيها أنّ المستشرق؛ جرّاء عدم إلمامه باللغة العربية ودقائقها؛ مثل: الاستعارة، والتشبيه، والكناية، والمجاز...،يتبنّى رؤيةً تفسيريّةً خاصّةً.

18. هناك كلام للمستشرق البريطاني آرثر آربري حول الترجمات التي قام بها المستشرقون للنص القرآني، يصدق على التفسير الاستشراقي للألفاظ والعبارات القرآنية؛ حيث قال: إنّ الترجمة الأولى للقرآن دُوِّنَت في أوروبا إبّان القرن الثاني عشر الميلادي، لكنّها اتسمت الدقة بعدم وعدم فهم مضمونه بشكل صحيح، لذا فالبنية الفكرية الأولى التي تقوم عليها التفاسير الاستشراقية كانت تَنْهَلُ مِنْ هذه الترجمة السقيمة، لكن في ما بعد اتسمت التفاسير الاستشراقية تدريجيًّا بنهج أكثر واقعيةً وانسجاما مع التفاسير الإسلامية.

***

ص: 521

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

أولا: المصادر الفارسية:

1. القرآن الكريم المترجم إلى الفارسية (ترجمة ناصر مكارم الشيرازي).

2. أبو الأعلى المودودي، تفهيم القرآن ترجمة كليم الله متين، منشورات دار العروبة للدعوة الإسلامية، 1990م.

3. أبو الفتوح الرازي، روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن، تحقيق محمد جعفر ياحقي ومحمد مهدي ناصح، إيران، مشهد، منشورات معهد الدراسات الإسلامية التابع للعتبة الرضوية المقدسة، الطبعة الأولى، 1408ه_.

4. أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ترجمه إلى الفارسية مهدي كاظميان وزهراء رضا خواه، ایران، طهران، منشورات معهد بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، 2011م.

5. أحد فرامرز قراملکي، روش شناسي مطالعات ديني، إيران، مشهد، منشورات الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية،2006م.

6. أحمد باكتشي، ترجمه شناسي قرآن کریم روي کرد نظري و كاربردي، الطبعة الأولى، إيران، طهران، منشورات جامعة الإمام الصادق(علیه السّلام)، 2013م.

7. أحمد باکتشي، درس گفتارهايي درباره نقد متن، الطبعة الأولى، إيران، طهران، منشورات جامعة الإمام

الصادق(علیه السّلام)، 2012م.

8. أحمد بن محمد ميبدي، كشف الأسرار وعدة الأبرار، تحقيق علي أصغر حكمت، إيران، طهران، منشورات أمير كبير، الطبعة الخامسة، 1992م.

9. أحمد بهشتی، عیسی پیام آور اسلام، ایران، طهران، منشورات اطلاعات، 2000م.

10. آذرتاش آذر ننوش، واكاوي و معادل يابي تعدادي از واژگان قرآن،كريم ،إيران، طهران، منشورات الجهاد

الجامعي في مدينة طهران، الطبعة الأولى، 2011م.

11. أعظم ،بويا مواجهه قرآن با فرهنگ ،مسیحیت ،ایران طهران منشورات «هستی نما» 2006م.

12. أكبر هاشمي رفسنجاني، تفسير رهنما ،إيران، قم، منشورات المكتب الإعلامي الاسلامي في الحوزة العلمية ،الطبعة الخامسة، 2007م.

13. بهمن نامور مطلق، در آمدي بر بینامتنیت نظریهها و کاربردها ،إيران، طهران، منشورات «سخن»، الطبعة الأولى، 2011م.

14. توشيهيكو إيزوتسو، خدا و انسان در قرآن، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، إيران، قم، منشورات مكتب الثقافة الإسلامية، 1989م.

15. ثامر هاشم العميدي، مهدي منتظر در اندیشه اسلامي، ترجمه إلى الفارسية محمّد باقر محبوب القلوب،

إيران، قم، منشورات مسجد جمكران، الطبعة الثالثة، 2009م.

16. جعفر السبحاني، مکتب وحي امي بودن پیامبر(صلی الله علیه و آله و سلم)،ایران ،قم، منشورات رسالت، 1977م.

17. جعفر السبحاني، منشور جاويد ،إيران، قم، منشورات مؤسسة الإمام الصادق(علیه السّلام)الطبعة الخامسة 2011م.

18. جعفر نکونام پژوهشي در مصحف امام علي(علیه السّلام)،إيران، رشت، منشورات «کتاب مبين»، الطبعة الأولى، 2003م، الفصلان الثالث والرابع.

19. جوان أو غريدي، مسيحيت و بدعت ها، ترجمه إلى الفارسية عبد الرحيم سليماني اردستاني، منشورات

مؤسسة «طه» الثقافية، 1998م.

ص: 522

20. جون ناس، تاريخ جامع اديان، ترجمه إلى الفارسية علي أصغر حكمت ،إيران، طهران، منشورات «بیروز»، الطبعة الثالثة، 1975م.

21. حامد الجار، حضرت عیسی در قرآن: در درس گفتارهاي حامد الكار، ترجمه إلى الفارسية إسحاق أكبريان،

تحقيق أحمد رضا جليلي، إيران، طهران، منشورات «کتاب طه»، 2004م.

22. حسن المصطفوي، تفسير روشن ،إيران، طهران، منشورات مركز نشر كتاب، الطبعة الأولى، 2001م.

23. حسين بن أحمد حسيني شاه عبد العظيمي، تفسير اثنا عشري ،إيران، طهران، منشورات ميقات، 1984م. 24. خدا مراد سلیمیان، درس نامه مهدويت، إيران، قم، منشورات المركز التخصصي للفكر المهدوي، الطبعة

الخامسة، 2012م.

25. دانييل تشاندلر، مباني نشانه شناسي، ترجمه إلى الفارسية مهدي بارسا، منشورات معهد دراسات الثقافة والفكر الإسلاميين، الطبعة الأولى، 2011م.

26. دونيز ماسون، قرآن و کتاب مقدس: درون مايه هاي مشترك، ترجمته إلى الفارسية فاطمة سادات تهامي، إيران، طهران، منشورات السهروردي، 2006م.

27. رضا صدر، مسیح در قرآن، ترجمه إلى الفارسية علي حجّتي كرماني ،إيران، طهران، منشورات مشعل دانشجو، الطبعة الأولى.

28. ريجي بلاشیر، در آستانه قرآن، ترجمه إلى الفارسية محمود راميار، إيران، طهران، منشورات مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1986م.

29. شبير أحمد عثماني، تفسير كابلي، ترجمه إلى الفارسية عدد من علماء ،أفغانستان، إيران، طهران، منشورات

إحسان الطعبة الحادية عشرة، 2006م.

30. شهره شاهسوندي/ أميد خانه زاده، تغییر مخاطب در قرآن: راهكارهاي ترجمه إيران، طهران، منشورات

مركز دراسات العلوم والثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى، 2013م.

31. عباس أشرفي، مقايسه قصص قرآن وعهدين، إيران، طهران، منشورات «دستان»،2003م.

32. عبد الرحمن بدوي، دفاع از قرآن در برابر آراء خاورشناسان، ترجمه إلى الفارسية حسين سيدي، إيران، مشهد، منشورات «به نشر»، الطبعة الأولى، 2004م.

33. عبد الكريم بي آزار شيرازي، باستان شناسی و جغرافياي تاريخي قصص قرآن ،إيران، طهران، منشورات الثقافة الإسلامية، الطبعة الثالثة، 2001م.

34. عبد الله جوادي الآملي، تسنيم تفسير قرآن كريم ،إيران، قم، منشورات إسراء، الطبعة الثالثة، 2002م و 2014م.

35. عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن کریم: سیره رسول اکرم در قرآن ،ایران، قم، منشورات إسراء، الطبعة الأولى، 1997م.

36. عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن کریم: معاد در قرآن، ایران ،قم، منشورات مركز نشر إسراء، الطبعة الثانية 2003م.

37. علي رضا كاوند بروجردي أمي بودن پیامبر اکرم در منابع تفسيري وحديثي ونقد دیدگاه خاورشناسان، إيران،طهران، منشورات كلية العلوم القرآنية في طهران، الطبعة الأولى، 2013م.

38. علي قائمي نيا، بيولوژي نص، مؤسسة نشر معهد بحوث الثقافة والفكر الإسلاميين، الطبعة الأولى، 2010م.

39. فاطمة مدرّسي، فرهنگ توصيفي نقد و نظریه هاي ادبي، معهد بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية،

2011م.

40. فتح الله نجار زادکان، تفسیر موضوعي قرآن کریم (1): قرآن در قرآن ،ایران، طهران، منشورات جامعة طهران، الطبعة الثانية، 2012م.

41. قاسم فائز ومريم أميني، مرجع ضمیر در قرآن و نقش آن در تفسير ،إيران طهران، منشورات جامعة الإمام الصادق(علیه السّلام)، الطبعة الأولى، 2015م.

42. محمّد باقر حجتي، پژوهشي در تاریخ قرآن کریم، منشورات مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1981م.

ص: 523

43. محمد بن إبراهيم (صدر الدين الشيرازي)، تفسير سوره جمعه، ترجمه إلى الفارسية وصححه وعلّق عليه

محمد خواجوي ،إيران، طهران، منشورات مولى، الطبعة الثالثة.

44. محمد بن إبراهيم (صدر الدين الشيرازي)، مفاتيح الغيب، ترجمه إلى الفارسية محمد خواجوي، إيران، طهران، منشورات ملوى، الطبعة الأولى، 2005م.

45. محمد تقي المدرّسى، تفسير هدايت، ترجمه إلى الفارسية أحمد ،آرام ،إيران، مشهد، منشورات مؤسسة البحوث الإسلامية، 1998م.

46. محمد تقي مصباح اليزدي، قرآن شناسي ،إيران، قم، منشورات مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث

الطبعة الثانية، 2001م.

47. محمد حسن زماني، مستشرقان و قرآن: نقد وبررسي آراء مستشرقان درباره قرآن ،ایران، قم، منشورات مؤسسة بوستان کتاب، الطبعة الأولى، 2006م.

48. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ترجمه إلى الفارسية محمّد باقر موسوي همداني، إيران، قم، منشورات دار النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية.

49. محمد رضا جلالي نائيني، تاريخ جمع قرآن كريم، قدّم له أحمد مهدوي دامغاني، إيران، طهران، منشورات

«نقره»، 1986م.

50. محمد رضا غياثي كرماني، پژوهش هاي قرآني علامه شعراني در تفاسیر مجمع البیان، روح البیان و منهج الصادقين، إيران، قم، منشورات مؤسسة بوستان كتاب، 2006م.

51. محمد عابد الجابري، رهيافتي به قرآن کریم، ترجمه إلى الفارسية محسن آرمين، إيران، طهران، منشورات «ني»،الطبعة الأولى، 2014م.

52. محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان، ترجمه إلى الفارسية محسن آرمين، إيران، طهران، منشورات معهد بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، الطبعة الأولى، 2006م.

53. محمد علي لساني فشاركي وحسين مرادي زنجانی، روش تحقیق موضوعي در قرآن كريم، إيران، زنجان،

منشورات قلم مهر، الطبعة الثانية، 2007م.

54. محمد علي مهدوي راد، آفاق تفسير، إيران، طهران، منشورات «هستي نما»، الطبعة الأولى، 2003م.

55. محمد کاظم شاكر، علوم قرآني، إيران، قم، منشورات جامعة قم، الطبعة الثانية، 2009م.

56. محمد هادي معرفت، نقد شبهات پیرامون قرآن کریم، ترجمه إلى الفارسية حسن حكيم باشي وآخرون، إيران، ،قم، منشورات مؤسسة تمهيد، 2009م.

57. محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ترجمه إلى الفارسية مسعود أنصاري، إيران، طهران، منشورات ققنوس، الطبعة الأولى، 2010م.

58. محمود راميار، تاريخ قرآن ،إيران، طهران، منشورات أمير كبير، الطبعة الثالثة، 1990م.

59. محمود طالقاني، پرتوي از قرآن، إيران، طهران، منشورات مؤسسة تأريخ الدراسات المعاصرة في إيران، 2010م.

60. مرتضى كريمي نیا، زبان قرآن تفسير قرآن ،إيران، طهران، منشورات هرمس، الطبعة الأولى، 2013م. 61. مصطفى ذاكري، مسیحیت و اسلام، منشورات شركة النشر المساهمة، الطبعة الأولى، 2010م.

62. مهدي هادوي طهران، مباني کلامي اجتهاد در برداشت از قرآن کریم ،ایران، قم، منشورات مؤسسة «خانه

خرد» الثقافية، الطعبة الأولى، 1998م.

63. موريس بوكاي، مقايسه اي ميان تورات - انجیل و قرآن، ترجمه إلى الفارسية ذبيح الله دبیر، منشورات مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1993م.

64. مولوي محمد علي، عيسي از ديدگاه قرآن، ترجمة و تحقیق محسن بينا، إيران، طهران، منشورات "مروي"، 1994م.

65. میشیل توماس، كلام مسيحي، ترجمه إلى الفارسية حسين توفيقي، إيران، قم، منشورات مركز دراسات وبحوث الأديان والمذاهب، الطبعة الأولى، 1998م.

ص: 524

66. ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه، إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، 1995م.

67. وليام أرشيبالد روبرتسون، عيسي اسطوره يا تاريخ؟،ترجمه إلى الفارسية حسين توفيقي، منشورات جامعة

الأديان والمذاهب، 2008م.

68. وليام مونتغمري واط، اسلام و مسیحیت در عصر حاضر گامي براي گفتگو، ترجمه إلى الفارسية خليل قنبري، منشورات «پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامي، الطبعة الأولى، 2003م.

69. وليام مونتغمري واط، محمد پیامبر وسياستمدار، ترجمه إلى الفارسية إسماعيل والي زاده، منشورات إسلامية،الطبعة الأولى، 1965م.

70. ويل ديورانت، تاریخ تمدن، ترجمه إلى الفارسية علي أصغر سروش ،إيران، طهران، منشورات «إقبال».

71. يعقوب جعفري، تفسير كوثر، إيران، قم، منشورات هجرت، الطبعة الأولى، 1997م.

ثانيًا: المصادر العربية:

72. ابن أبي حاتم ، تفسير القرآن العظيم، تحقيق أسعد محمّد طيب، السعودية، الرياض، منشورات مكتبة نزار

مصطفى الباز، الطبعة الثالثة، 1419ه_.

73. أبو إسحاق الثعلبي، الكشف والبيان، تحقيق أبو محمد بن عاشور ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1422ه_.

74. أبو الحسن البلاذري، فتوح البلدان، مصر، القاهرة، منشورات لجنة البيان العربي.

75. أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد (ابن حجر)، فتح الباري، لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة.

76. أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن ،إيران، قم، منشورات مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة

الأولى.

77. أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، تأريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، لبنان، بيروت،

منشورات دار التراث الطبعة الثانية، 1387ه_ / 1967م.

78. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، 1412ه_.

79. أبو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب، متشابه القرآن ومختلفه ،إيران، قم، منشورات «بیدار» 1369ه_

80. أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء، معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف نجاتي، مصر، منشورات الدار المصرية

للتأليف والترجمة، الطبعة الأولى، 1980م.

81. أبو عبد الله الزنجاني، تاريخ القرآن ،إيران، طهران، منشورات مؤسسة الإعلام الإسلامي، 1404ه_.

82. أبو موسى الحريري، قس ونبي: بحث في نشأة الإسلام ،لبنان ،بیروت، منشورات دار لأجل المعرفة، 1985م.

83. أحمد بن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق أحمد عبد الله الموجود وعلي محمد معوض

،لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتب العلميّة، الطبعة الأولى، 1415ه_.

84. أحمد بن حنبل ،المسند ،لبنان ،بیروت، منشورات دار صادر، 1313ه_، أوفسيت للنسخة المطبوعة في مصر -القاهرة، 1313ه_.

85. أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1419ه_.

86. أحمد بن محمّد الخفاجي، عناية القاضي وكفاية الراضي، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1417ه_.

87. أحمد بن محمّد الفيومي المقري، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، إيران، قم، منشورات دار

الرضي، الطبعة الأولى.

88. أحمد عمران، الحقيقة الصعبة في الميزان، لبنان، بيروت، منشورات الأعلمي للمطبوعات، 1415ه_.

89. أحمد عمران، القرآن والمسيحية في الميزان ،لبنان، بيروت، منشورات الدار الإسلامية، الطبعة الأولى، 1995م.

90. أحمد مصطفى المراغي، تفسير المراغي، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى.

91. إسماعيل بن حماد الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، تصحيح أحمد عبد الغفور عطار، لبنان، بيروت،

منشورات دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 1410ه_.

ص: 525

92. إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1419ه_. 93. إسماعيل بن محمد القونوي، حاشية القونوي على تفسير البيضاوي ،لبنان ،بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1422ه_.

94. إسماعيل حقي البروسوي، روح البيان ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الفكر، الطبعة الأولى.

95. ثيودور نولدكه، تأريخ القرآن، تعديل فريدريش شفائي، ترجمه إلى العربية جورج تامر، لبنان، بيروت.

96. جعفر مرتضى العاملي، حقائق هامة حول القرآن الكريم، إيران، قم، منشورات جامعة المدرسين.

97. جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار الكتب العربية، الطبعة الثانية،1421ه_.

98. جلال الدين السيوطي، الدرّ المنثور، إيران، قم، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، الطبعة الأولى،

1404ه_.

99. جلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين، تحقيق عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ،لبنان، بيروت، منشورات

مؤسسة النور للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1416ه_.

100. الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني، تحف العقول، تصحيح علي أكبر غفاري ،إيران، قم، منشورات جامعة

المدرّسين، الطبعة الثانية، 1404ه_.

101. حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، لبنان، بيروت / مصر، القاهرة / بريطانيا، لندن، منشورات دار الكتب العلمية، مركز نشر آثار العلامة مصطفوي، الطبعة الثالثة 1430ه_.

102. حسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان داوودي ،لبنان، بيروت، منشورات دار القلم، الطبعة الأولى، 1402ه_.

103. حسين بن محمد الدامغاني، قاموس ،القرآن ،لبنان بيروت منشورات دار العلم للملايين، الطبعة الثانية، 1977م.

104. حسين مير حامد الهندي، عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، إيران، مشهد، مطبعة عبد الرحيم مبارك وآخرون، 2004م.

105. الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين ،إيران قم، منشورات هجرت، الطبعة الثانية، 1410ه_.

106. سامي عصاصة، القرآن ليس دعوةً نصرانيةً: ردّ على كتابي الحدّاد والحريري (القرآن دعوة نصرانية) و(قس ونبي)، سوريا، دمشق، منشورات دار الوثائق، الطبعة الأولى، 2003م.

107. سعيد حوّى، الأساس في التفسير ،مصر ، القاهرة، منشورات دار السلام ،الطبعة السادسة، 1424ه_. 108. سيد قطب، في ظلال القرآن ،لبنان، بيروت، مصر، القاهرة، منشورات دار الشروق، الطبعة السابعة عشرة، 1412ه_.

109. سيد محمد طنطاوي التفسير الوسيط للقرآن الكريم، مصر، القاهرة، منشورات دار النهضة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى.

110. الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة، تصحيح محمد حسن آل ياسين ،لبنان ،بیروت، منشورات عالم الكتاب، الطبعة الأولى، 1414ه_.

111. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، إيران، قم، منشورات الرضي، الطبعة الخامسة، 1993م. 112. عبد الأعلى الموسوي السبزواري، مواهب الرحمن في تفسير القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة أهل البيت(علیهم السّلام)، الطبعة الثانية، 1409ه_.

113. عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ،لبنان ،بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1422ه_.

114. عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، تحقيق عبد الرزاق - المهدي بن الجوزي، لبنان، بیروت، منشورات دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1422ه_.

115. عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تأريخ ابن خلدون ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي.

ص: 526

116. عبد الرحمن بن محمّد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ترجمه إلى الفارسية محمد پروین جنابادي، إيران

طهران، دار النشر العلمية والثقافية، الطبعة الثامنة، 1996م.

117. عبد الرحيم سعد داوود، دراسة نقدية لكتاب الإنجيل في القرآن للقس يوسف الحداد، إيران، قم، المعاونية

الثقافية في المجمع العالمي لأهل البيت(علیهم السّلام)، الطبعة الأولى، 1428ه_.

118. عبد القادر ملا حويش آل غازي، بيان المعاني، سوريا، دمشق، منشورات مطبعة الترقي، الطبعة الأولى، 1382ه_.

119. عبد الكريم الخطيب، التفسير القرآني للقرآن ،لبنان، بيروت، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى.

120. عبد الله بن أحمد النسفي، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ،لبنان ،بیروت، منشورات دار النفائس، الطبعة الأولى، 1416ه_.

121. عبد الله بن عقيل، شرح ابن عقيل، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو .

122. عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وإسرار التأويل ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي الطبعة الأولى، 1418 ه_.

123. عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تفسير غريب القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى.

124. عقيل حسين عقيل. عيسي من وحي القرآن، سوریا ،دمشق، منشورات دار ابن كثير 1431ه_ .

125. علي بن الحسين العاملي، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، إيران، قم، منشورات دار القرآن الكريم، 1413ه_.

126. عمر إبراهيم رضوان، آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره: دراسة ونقد، بإشراف مصطفى سليم، السعودية، الرياض، منشورات دار طيبة 1413ه_.

127. فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، تحقيق أحمد الحسيني ،إيران، طهران، منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، الطبعة الثالثة، 1996م.

128. الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن ،إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الثالثة، 1993م.

129. لطف الله الصافي الكلبايكاني، منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر، إيران، قم، منشورات مؤسسة السيدة معصومة(سلام الله علیها)، 1421ه_.

130. محسن الفيض الكاشاني، تفسير الصافي ،إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، 1977م. 131. محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير ،لبنان، بيروت، منشورات دار الفكر، الطبعة الأولى.

132. محمد الشيرازي، تقريب القرآن إلى الأذهان ،لبنان، بيروت، منشورات دار العلوم، الطبعة الأولى، 1424ه_.

133. محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، لبنان، بيروت، منشورات مؤسسة التأريخ العربي، الطبعة الأولى.

134. محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1403ه_.

135. محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، المنار المنيف في الصحيح والضعيف، سوريا، حلب، منشورات مكتبة

المطبوعات الإسلامية، 1391ه_.

136. محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، إيران، طهران، منشورات ناصر خسرو، الطبعة الأولى، 1985م.

137. محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، تركيا، أسطنبول، منشورات طبعة محمد ذهني أفندي، أوفسيت بيروت 1401ه_ / 1981م.

138. محمّد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى

139. محمد بن الحسن الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، إيران، طهران، منشورات المطبعة العلمية، 1959م.

140. محمد بن عبد الله (الحاكم النيسابوري)، المستدرك على الصحيحين ،لبنان ،بيروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1411ه_.

141. محمد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق مرعشلي وآخرون ،لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، منشورات دار المعرفة،1410ه_.

ص: 527

142. محمد بن عبد الله بن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، تحقيق عبد الله الخالدي ،لبنان، بیروت، منشورات دار الأرقم، الطبعة الأولى، 1416ه_.

143. محمد بن علي الشوكاني، فتح القدير، سوريا، دمشق، منشورات دار ابن كثير؛لبنان، بیروت، منشورات دار الكلم الطيب، 1414ه_.

144. محمّد بن عمر الفخر الرازي، مفاتيح الغيب ،لبنان ،بیروت، منشورات دار إحياء التراث العربي، 1420ه_.

145. محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب ،لبنان ،بیروت منشورات دار صادر، الطبعة الثالثة، 1414ه_.

146. محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، تصحيح علي أكبر غفاري ومحمد آخوندي، إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، 1407ه_.

147. محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي محمد جميل، لبنان، بيروت، منشورات دار الفكر 1420ه_.

148. محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ،لبنان، بیروت، منشورات دار الكتب اللبنانية، 1407ه_.

149. محمد بيومي مهران، دراساتٌ تأريخيةٌ من القرآن الكريم ،لبنان ،بیروت، منشورات دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1408ه_- 1988م.

150. محمد ثناء الله مظهري، التفسير المظهري، باكستان، منشورات المكتبة الرشيدية، الطبعة الأولى، 1412ه_.

151. محمد جمال الدين قاسمي، محاسن التأويل، تحقيق: محمّد باسل السود ،لبنان بيروت، منشورات دار الكتب

العلمية، الطبعة الأولى، 1418ه_.

152. محمد جواد البلاغي النجفي، آلاء الرحمن في تفسير القرآن، إيران، قم، منشورات مؤسسة بعثت، الطبعة

الأولى، 1420ه_.

153. محمد جواد مغنية، الكاشف في تفسير القرآن ،إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى، 1424ه_.

154. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسّرون ،لبنان، بيروت، منشورات دار إحياء التراث العربي.

155. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، إيران، قم، دار النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية.

156. محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن ،لبنان، بيروت، منشورات دار الملاك للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1419ه_.

157. محمد رشید رضا، تفسير القرآن الكريم الشهير بتفسير المنار، لبنان ،بیروت، منشورات دار المعرفة، الطبعة

158. محمد صادقي طهراني، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن، إيران، قم، منشورات الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية الثانية، 1986م.

159. محمد عبد الخالق عضيمة، دراسات لأسلوب القرآن الكريم، مصر، القاهرة، منشورات دار الحديث. 160. محمد عزّت دروزه، التفسير الحديث، مصر، القاهرة، منشورات دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الثانية

1383ه_.

161. محمد محمود حجازي، التفسير الواضح، لبنان ،بیروت منشورات دار الجيل الجديد الطبعة العاشرة، 1413ه_.

162. محمد مشهدي قمي، كنز الدقائق، تحقيق حسين دركاهي، إيران، طهران، منشورات وزارة الإرشاد الإسلامية الطبعة الأولى، 1989م.

163. محمد نجفي سبزواري، إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن ،لبنان ،بیروت، منشورات دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1419ه_.

164. محمود الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، لبنان، بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1415ه_.

165. محمود الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لبنان، بيروت، منشورات دار الكتاب العربي، 1407ه_.

ص: 528

166. محيي الدين محمّد بن علي بن عربي، رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن، تحقیق محمود محمود غراب ،سوریا ،دمشق، منشورات مطبعه نصر ، الطعبة الأولى، 1410ه_.

167. مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم، تركيا، أسطنبول،

منشورات طبعة محمد فؤاد عبد الباقي، 1413ه_ / 1992م.

168. مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق عبد الله محمود شحاتة ،لبنان، بيروت، دار إحياء التراث، الطعبة الأولى، 1423ه_.

169. الملا فتح الله الكاشاني، منهج الصادقين في إلزام ،المخالفين إيران طهران منشورات مكتبة محمد حسن علمي 1957م.

170. الملا محسن الفيض الكاشاني، الأصفى في تفسير القرآن، إيران، قم، منشورات مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1418ه_.

171. ميرسيد علي حائري طهراني، مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر، إيران، طهران، منشورات دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى، 1998م.

172. نظام الدین حسن بن محمد النيسابوري، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان ،لبنان، بیروت، منشورات دار الكتب العلمية، 1416ه_.

173. هاشم بن سليمان البحراني، البرهان في تفسير القرآن، إيران، طهران، منشورات مؤسسة "بعثت"، 1416ه_.

174. وهبه بن مصطفى الزحيلي، التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج، لبنان، وسوريا، بيروت ودمشق،

منشورات دار الفكر المعاصر، الطبعة الثانية 1418ه_.

175. ياقوت الحموي، معجم البلدان، تحقيق عبد الحسين شبستري ،لبنان ،بيروت، منشورات دار إحياء التراث

العربي.

176. يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ، الاستيعاب في معرفه الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي، لبنان، بيروت،منشورات دار الجيل، الطبعة الأولى، 1412ه_.

177. يوسف درّة الحدّاد، الإنجيل في القرآن ،لبنان، بيروت، منشروات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م.

178. يوسف درّة الحدّاد، القرآن دعوةٌ نصرانيةٌ ،لبنان ،بیروت، منشورات المكتبة البولسية، الطبعة الثالثة، 1993م.

179. يوسف درّة الحدّاد، مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، لبنان، بيروت، منشوارت المكتبة البولسية، الطبعة الثانية، 1986م.

ثالثًا: الكتب الإنجليزية والفرنسيّة

180. Ambros, Arne Amadeus. A Concise dictionary of Koranic Arabic. Wiesbaden: Reichert, (2004).

181. Arberry, Arthur. The Quran interpreted. Second Impression, George Allen Unwin Ltd, (1953).

182. Bell, Richard. A Commentary on the Qur'an. edited by: C. Edmond Bosworth M. E. J.

Richardson, University of Manchester, (1991).

183. Bloom, Harold. The Anxiety of Influence: A Theory of Poetry. 2nd ed. New York: Oxford, (1997).

184. Boyarin, Daniel. Intertextuality the Reading of Midrash. Indiana University Press, (1990).

185. Buhl, F. Das Leben Muhammad. tr. H. H. Schaeder, Heidelberg, (1961).

186. Cragg, Kenneth. Jesus the Muslim: an exploration. London: George Allen Unwin,

(1985).

ص: 529

187. Deedat, Ahmad. Crucifixion or crucifiction. (no place): Dar El Fadila, (1989).

188. Donner, Fred M. Muhammad the believers: on the origins of Islam. The Belknap Press of

Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts, London, England, (2010).

189. Ernst, Carl W. Following Muhammad: Rethinking Islam in the Contemporary World.

Chapel Hill: University of North Carolina Press, (2003).

190. Friedmann, Yohanan. Prophecy Continuous. Aspects of Ahmadi Religious Thought its

Medieval Background. Berkeley: University of California Press (1989).

191. Hirschfeld, Hartwig. New reasearches into the composition exegesis of the Qu'ran.

London: Royal Asiatic Society, (1902).

192. Horovitz, Joseph. Jewish Proper Names Derivations in the Koran. Hildesheim: George

Olms Verlag, (1964).

193. Jeffery, Arthur. The foreign vocabulary of the Quran. Lahor: Al - Biruni, (1977).

194. Katsh, Abraham Isaac. Judaism in Islam: Biblical Talmudic backgrounds of the Koran

its commentary. New York: A. s. Barnes, (1962).

195. Lane, Edward William. Arabic - English Lexicon. Beirut, Lebanon, (1865).

196. Lawson, Todd, Benjamin. The crucifixion the Quran: A Study in the History of Muslim

Thought. Oxford: Oneworld publication, (2009).

197. Madelung, Wilferd. The Succession to Muhammad: a study of the early Caliphate.

Cambridge University Press, (1997).

198. Masson, D. Le Coran et la revelation judéo - chrétienne. Paris: Adrien - Maisonneuve, (1958).

199. Mc Elwain, Thomas. Islam in the Bible. Adams McElwain Publishers, (1998).

200. Mir, Mustansir. Dictionary of Quranic Terms Concepts. New York: Gerland Publishing, (1987).

201. Parrinder, Edward Geoffery. Jesus in the Quran. Oxford: Oneworld Publication, (1995).

202. Powers, David. Muhammad is not the father of any of your men, The Making of the Last

Prophet. University of Pennsylvania Press, Philadelphia, (2009).

203. Reynolds, Gabriel Said. The Qur'an its Biblical Subtext. London New York: Routledge, (2012).

204. Robinson, Neal. Christ in Islam Christianity: The representation of Jesus in the Qur'an

the classical Muslim commentaries. London: Macmillan, (1991).

205. Watt, William Montgomery. Muslims Christians' encounters. Routledge, (1991).

206. Wild, Stefan. (ed.) Self- referentiality in the Quran. Wiesbaden: Harrassowitz, (2006)

Discovering the Qur'an: a contemporary approach to a veiled text. Georgetown University Press, (2003).

-. Introduction to the Quran. completely revised enlarged by W. M. Watt, Edinburgh University Press, (1970, rp. 1990). Meliseden, (2001).

Muhammad in the Qur'an the Task the Text. 1 st. ed. London:

ص: 530

The Event of the Qur'an: Islam in its Scripture. London: George Allen Unwin, (1971).

The origin of Islam its Christian environment. London, (1926).

The Quran as Scripture, New York: Moore, (1952). Translation of the Quran, ed. Edinburgh (1973).

رابعًا: المقالات الفارسية:

214. أحمد باكتشي وآخرون، "تثليث"، مقالة نشرت في الموسوعة الإسلامية الكبيرة، تحرير كاظم موسوي بجنوردي وآخرون، إيران، منشورات مؤسسة دائرة المعارف الإسلامية، ج 14، 1995م.

215. أحمد باكتشي وآخرون، "تفسير"، مقالةٌ نشرت في الموسوعة الإسلامية الكبيرة، تحرير كاظم موسوي بجنوردي وآخرون، إيران، منشورات مؤسسة دائرة المعارف الإسلامية، ج 15، 2008م.

216. أحمد باكتشي وآخرون،"خاتم النبيين"، مقالةٌ نشرت في الموسوعة الإسلامية الكبيرة، تحرير كاظم موسوي بجنوردي وآخرون، إيران، منشورات مؤسسة دائرة المعارف الإسلامية، ج 16، 2008م.

217. أحمد باكتشي، مطالعه معنا در سنت اسلامي، مقالةٌ نشرت في مجلة "پژوهش فرهنگي"، العدد الثالث، السنة التاسعة، 2008م.

218. أحمد باكتشي، مقالة تحت عنوان "نگاهی به مواضع قرآن نسبت به کتب مقدس پیشین"، نشرت في الموقع الإلكتروني التالي: 5http://sahargah.blog.ir/1394/07/

219. أحمد بور علي، رمز يا نماد، مقالةٌ باللغة الفارسية نشرت في مجلة "مشكات"، العددان 56 و57، 1997م.

220. آذرتاش آذرنوش، مصطلح "آیة"، مقالةٌ نُشرت في الموسوعة الإسلامية الكبيرة، منشورات الموسوعة الإسلامية الكبيرة، الطبعة الأولى، الجزء الثاني، 1987م.

221. أندرو ريبين، تحليل ادبي قرآن، تفسیر و سیره: نگاهي به روش شناسي جان ونزبرو، مقالة نشرت في مجلة (پژوهش هاي قرآني)، ترجمها إلى الفارسية مرتضي كريمي نيا، العددان 23 و 24.

222. أوليفر ليمان، مدخل كلمة (عيسى)، مقالةٌ نشرت في مجلة "دانش نامه قرآن کریم"،ترجمها إلى الفارسية محمد حسين وقار، إيران، طهران، منشورات اطلاعات، الطبعة الأولى، 2012م.

223. جعفر نکونام، بررسی چند شبهه درباره زبان قرآن، مقالةٌ نشرت في مجلة "مدرس علوم انساني"، العدد 9، 1998م.

224. جعفر نکونام، تفسیر آیه مس در بستر تاریخی، مقالةً نشرت في مجلة "مقالات و بررسی ها"، الکتاب 77 (1) علوم القرآن 2005م.

225. جعفر نکونام، تفسير معناشناسانه آیه محکم و متشابه، مقالةٌ نشرت في مجلة "پژوهش ديني"، العدد 16،

2008م.

226. ديفيد تومس، مدخل كلمة "تثليث"، مقالة نشرت في الموسوعة القرآنية، إيران، طهران، منشورات حکمت، الطبعة الثانية ،2014م، ترجمها إلى الفارسية جليل بروين، تحرير الترجمة الفارسية حسين خندق آبادي وآخرون.

227. سمية حاجي بابائي اركي، كاربرد قرآني واژه أمي، مقالة نشرت في مجلة "انسان پژوهش ديني"، العددان 17 و 18، 2008م.

228. صابر إمامي، شرح شطحيات، مقالةٌ نشرت في مجلة "كتاب ماه هنر"، العددان 47 و 48، 2002م، ص 62، نقلاً عن هنري كوربين و روزبهان شيرازي (مدخلي بر رمز شناسي عرفاني).

229. عباس همامي / رحمت شایسته فرد، نگاهي دوباره به مسئله أمي بودن پیامبر اکرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، مقالة نشرت في مجلة " پژوهش نامه قرآن و حديث، العدد 10، 2012م.

ص: 531

230. عبد الأمير سليم، أمي، مقالة نشرت في مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تبريز، العدد 101، 1972م.

231. علي محمّد حق شناس،"مولانا و حافظ دو همدل و یا همزبان؟"مقالة نشرت في مجلة "نقد ادبي" الفصلية،

السنة الأولى، العدد الثاني، 2008م.

232. عيسى متقي زاده وعلي محمّد عالي قدر، بررسی دیدگاه برخي خاورشناسان در مورد قرآن بسندگي و نفي احادیث، مقالةٌ نشرت في مجلة "قرآن پژوهي خاورشناسان"، العدد 8، السنة الخامسة، 2010م.

233. فريد وجدي، "مريم"، مقالة نشرت في موسوعة القرن العشرين، ج 8، الطبعة الثالثة، لبنان، بيروت، منشورات دار المعرفة، 1971م.

234. محمد أسعدي، قرآن مبين، مقالةً نشرت باللغة الفارسية في مجلة "معرفت"، العدد 83، 2004م.

235. محمّد باقر سعيدي روشن، حقیقت گروي - استراتژي اساسي در زبان قرآن، مقالةٌ نشرت في مجلة "الهيات و حقوق"، العدد 11، 2004م.

236. محمد سبحاني، جستاري در مجمل گويي قرآن، مقالةً نشرت في مجلة "مطالعات تفسيري" الفصلية؛ العدد

18، السنة الخامسة، 2014م.

237. محمّد شبستري وآخرون، مدخل عبارة "آخر الزمان"، مقالة نشرت في الموسوعة الإسلامية الكبيرة، الجزء الأوّل، تحریر كاظم بجنوردي وآخرون، منشورات الموسوعة الإسلامية الكبيرة، 1988م.

238. محمد كاظم شاكر / محمد سعید فیاض، هامان و ادعای خطای تاریخی در قرآن، مقالة نشرت في مجلة "قرآن شناخت"، العدد 5، 2010م.

239. محمد كاظم شاكر، بشارت هاي عهدین در مورد پيامبر اكرم، مقالةٌ نشرت في مجلة "پژوهش نامه قرآن و حديث"، العدد 7، 2010م.

240. محمد هادي معرفت، کتاب از دیدگاه قرآن، مقالة نشرت في مجلة "بينات"، العدد 7، 1995م.

241. محمود رجبی، گفتاري در نزول قرآن، مقالة نشرت في مجلة "معرفت"، العدد 2، 1992م.

242. نصرت نیل ساز بررسی و نقد دیدگاه و نزبرو درباره تثبیت نهايي متن قرآن، مقالة نشرت في مجلة "مقالات و بررسی ها"، العدد 88، 2008م.

243. نیل روبنسون،"عيسي در قرآن: عيساي تاريخي و اسطوره تجسد"، ترجمها إلى الفارسية محمد كاظم شاكر،مقالة نشرت في مجلة "هفت آسمان"، العدد 24، 2004م.

خامسًا: المقالات باللغة الإنجليزية:

244. Abedi, M. Fischer, M. J. "Translating Quranic Dialouges: Islamic Poetics Politics". in Hermenutics and Poetic motion, translation perspectives. Vol. 5. Binnghamton: State University of New York, (1990), 100 - 120.

245. Anawati, G. C. "Isa". EI. Vol. 4, edited by: E. VAN Donzel, B. Lewis Ch. Pellat, leiden: E.

J. Brill, (1997), 81 - 86.

246. Athamina, Kkalil. "Al - Nabiyy - al- umiyy": An Inquiry into the meaning of a Quranic verse. Der Islam, 69, issuel, (1992), 61 - 80.

247. Ayoub, Mahmoud Mustafa. “Toward an Islamic Christology, II. The death of Jesus, reality

or delusion". The Muslim World (Hartford, CT, USA) 70 ii, (1980), 91 - 121.

248. Berg, Herbert. "Tabari's exegesis of the Quranic term al - Kitab”. Journal of the Academy Of

Religion, 63 iv (1995), 761 - 774.

249. Bobzin, Hartmut. "The Seal of the Prophet: towards an understanding of Muhammad's prophethood". in The Quran in context: historical literary investigations into the Quranic

ص: 532

milieu, edited by Angelika Neuwirth, Nicolai Sinai Michael Marx, Leiden, New York

Koln: E. J. Brill, 2010, 565 583.

250. Bowering, Gerhard Heinrich. "Chronology the Quran". EQ. Vol. 1. Edited by: Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, New York, Koln: E. J. Brill, 316 - 335.

251. Buhl, F.; Welch, A. T. "Muhammad". EI. Vol. 7. 2 nd. Edition, (2005), 360 384.

252. Calder, Norman. "The ummi in early Islamic juristic literature". Der Islam: Zeitschrift fur

Geschichte und Kultur des islamischen Orients (Berlin) 67 i (1990), 111 - 123.

253. Friedmann, Yohanan. "Finality of Prophethood in Sunni Islam". Jerusalem Studies in Arabic Islam, 7, (1986), 177 - 215.

254. Graham, William A. "Scripture the Qur'an". EQ. Vol. 4, edited by Jane Dammen Mc Auliffe, leiden, New York Koln: (2001), 584 - 587.

255. Guillaume, Alfred. "The meaning of Amaniya in sura II: 78". The World of Islam, In honour of Philip Hitti, ed. James Kritzeck R. Bayly, Winder: London, (1960), 41 - 46.

256. Gunther, Sebasrian. "illiteracy". EQ. vol. 2, Ed. Jane Dammen Mc Auliffe, (2002), 492 - 500. 257. Hawting, G. R. February (2011). "Muhammad Is Not the Father of Any of Your Men: The

Making of the Last Prophet". Islamic Law and Society 18 (1), February (2011): 116 - 119.

258. Jones, Alan. "Orality Writing in Arabia". EQ. Vol. 3. edited by Jane Dammen Mc Auliffe,

Leiden, New York Koln: E. J. Brill. (2003), 584 -587.

259. Landau - Tasseron, Ella. “Adoption, Acknowledgement of Paternity False Genealogical

Claims in Arabian Islamic Societies". Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 66 ii (2003), 169 - 192.

260. Madelung, Wilferd (2014). "Social Legislation in Surat al-Ahzab". The Institute of Ismaili Studies, (2014). An edited version of an article that originally appeared in the Proceedings of the 25 th Congress of L'Union Européenne des Arabisants et Islamisants in 2013.

261. Madigan, Danial A. "Book". EQ. Vol. 1, edited by Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, New

York Koln: E. J. Brill, (2001), 242 - 251.

262. Mc Auliff, Jane Dammen. "Text Textuality: Q 3: 7 as a point of intersection". Literary Structure of Religious meaning in the Qur'an. Edited by Issa J. Bullata, Richmond (Surrey): Curzen, (2000), 56-76.

263. Mourad, Suleiman Ali. "Mary in the Qur'an: A reexamination of her presentation”. The Qur'an in its historical context, edited by Gabriel Said Reynolds, London New York: Routledge, (2007), 163 - 174.

264. Neuwirth, Anglika. "Epistemic Pessimism in Qur'anic studies". In a book under Publishing,

Not Yet Published.

265. Powers, David. "Adoption". in Oxford Bibliographies in Islamic Studies. Ed. John O. Vol.l,

New York: Oxford University Press, (2016), Not Yet published.

266. Reissener, H. G. "The Ummi Prophet the Banu Israel of the Quran". The Muslim World

(Hartford, CT, USA) 39 iv (1949), 276 - 281.

267. Reynolds, G. S. "On the Quran's Maida Passage And the Wanderings of the Israelites. The coming of the comforter: when, Where, and to whom?" Studies on the rise of Islam

:> 533 *

ص: 533

النَّص القُرآنِيُّ: التفسير الاستشراقي للنص القرآني

various other topics in memory of John Wansbrough, edited by Carlos Segovia, (NJ, USA): Gorgias Press (orientalia Judaica Christiana 3), (2012), 91 - 109.

268. Rippin, Andrew. "Aaron". EQ. Vol. 1, edited by Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, New

York Koln: E. J. Brill, (2001), 1 - 2.

269. Robinson, Jesus. "The Muslim Jesus: dead of alive?" Bulletin of the School of Oriental

African Studies, 72 (2009), 237 - 258.

270. 27. Rubin, Uri. "The shrouded messenger: On the interpretation of al - muzzammil al -

muddaththir". Jerusalem Studies In Arabic Islam, 16, (1993), 96 - 107.

271. Saleh, Walid A. “Review Article: Muhammad is not the Father of your Men: The Making of the Last Prophet, By David S. Powers. University of Pennsylvania Press, 2009", Comparative Islamic Studies 6. 1 2 (2010), 251 - 264. 272. Samir, Khalil Samir. "The Theological Christian influence on the Qur'an, a reflection in The Qur'an in its historical context", edited by Gabriel Said Reynolds, London New York: Routledge, (2007), 141 - 162.

273. Sebastian Gunther, Sebastian. "Muhammad, the illiterate Prophet: An Islamic Creed in the Quran Quranic Exegesis". Journal of Quranic studies, Vol. 4, No. 1, (2002), 1 - 26.

274. Shah, Mustafa. "Book Review: The crucifixion The Qur'an: A study in the history of Muslim thought, By Todd Lawson, Oxford: one publication, 2009", Journal of Qur'anic Studies, pp. 191 - 202. DOI: 10. 3366 / EI465359110001026.

275. Shamoun, Sam. "Mohammad's Idolatry Revisited". (www.answering-islam), (2013), 7 - 22.

276. Sinai, Nicola. "The Quran as process" in The Qur'an in context: historical literary investigations into the Qur'anic milieu, edited by Anglike Neuwirth, Nicolai Sinai

Michael Marks, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, (2010), 407 - 439.

277. Wensinck, A. J. "Maryam". in EI. vol.6, edited by: E. VAN Donzel, B. Lewis Ch. Pellat, leiden: E. J. Brill, (1997), 625 - 630.

278. Whelan, Estelle. "Forgotten Witness: Evidence For The Early Codification Of The Qur'an".

Journal of The American Oriental Society, Volume 118, (1998), 1 - 14.

279. Wild, Stefan. "Why self- referentiality?. in Self- referentiality in the Qur'an. edited by

Stefan Wild, Wiesbaden: Harrassowitz, (2006), 1 - 24.

"Antichrist". EQ. Vol. 1. Edited by Jane Dammen Mc Auliffe, leiden, New York Koln: E.J. Brill, (2001), 107 - 111.

"Crucifixion". EQ. Vol. 1. Edited by Jane Dammen Mc Auliffe, leiden, New York Koln: E. J. Brill, (2001), 487-489.

"Jesus Mary in the Quran: some neglected affinities. Religion (London) 20 (April 1990), 161 - 175; also in The Quran Contents, edited by Andrew Rippin, Aldershot: Ashgate, Variorum, (2001), 21 - 35.

“Jesus in the Qur'an, the historical Jesus the myth of God incarnate”.

ص: 534

Wilderness: Essays in honor of Frances Young, edited by R. S. Sugirtharajah, London: T.

T. Clark, (2005), 186 - 197.

"Jesus". EQ. Vol. 3. Edited by Jane Dammen Mc Auliffe, leiden, New York Koln: E. J. Brill, (2003), 7 - 21.

"Muhammad". EQ. Vol. 3, Edited by Jane Mc Auliffe, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, (2003), 440 - 458.

"Not of the East nor of the West, Q. 24: 35 Locating the Qur'an within the History of Scholarship". Not Yet Published.

"Quranic self- referentiality as a strategy of self- authorization". in Self-referentiality in the Quran. edited by Stefan Wild, Wiesbaden: Harrassowitz, (2006), 103 - 134. 5 - 23.

289. 46.

"The constitution of Medina, Some notes". Studia Islamica, LXII, (1985), "The limits of Self- referentiality In the Qur'an". in Self- referentiality in the Qur'an, edited by Stefan Wild, Wiesbaden: Harrassowitz, (2006), 59 - 70.

"The Seal of the Prophets The Finality of Prophecy: On the Interpretation of the Quranic Surat al-Ahzab (33)". Zeitschrift der Deutschen Morgelandishen Gesllschaft, (2014), 65 - 96.

Review, Journal of The American Oriental Society, Vol. 131, No. 3, September (2011), 470 - 473.

"Ahmadiyyah". EQ. Vol. 1, edited by Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, New York Koln: E. J. Brill, (2001).

"An Arabic Recitation, The Meta-Linguistic of Quranic Revelation". in Self-referentiality in The Quran, edited by Stefan Wild, Wiesbaden: Harrassowitz, (2006), 135 - 158.

سادسًا: الرسائل الجامعية:

294. إسماعيل إحسان بور، آینده بشریت از دیدگاه قرآن و عهدين، رسالة ماجستير، جامعة آزاد الإسلامية، فرع

العلوم والبحوث، 2006م.

295. أمير أحمد نجاد، بررسي عتاب هاي قرآن درباره پیامبر(صلی الله علیه و آله و سلم)،رسالة دكتوراه، جامعة قم، 2011م.

سابعًا: المواقع الإلكترونية:

296. "Muhammad is not the father of your men", www.researchgate.net/publication/259889147.

297. Christine Mitchell, www.jhsonline.org/reviews/review188.htm

298. Hawting, Gerald. "Muhammad is not the father of any of your Men: the Making

ص: 535

of the Last Prophet", 116-119, https://www.goodreads.com/book/show/1170492 doi:10.1163156851910/X538396 (www.researchgate.net/publication/259889147)

299. http://sahargah.blog.ir/139415/07/

300. http://www.jstor.org/stable/4145844.

301. https://www.goodreads.com/book/show/1170492.

302. Madelung, Wilferd."social legislation in surat - al - ahzab". https://ismailimail.wordpress.

com/201406/04/.

303. Shamoun, Sam. "Mohammad's Idolatry Revisited". (www.answering-islam) (2013).

304. St. Andrew's College Journal of Hebrew Scriptures - Volume 5 (2004 - 2005) - Review www.

jhsonline.org/reviews/review 188.htm.

305. www.academia.edu/772746/Adoption_acknowledgement_of_paternity_and.

ص: 536

هذا الكتاب

لم تتوقف حركة البحث العلمي التخصصي عند المستشرقين منذ القدم حول القرآن الكريم، حيث كثرت الدراسات والكتب المتعلّقة بمصدريّة القرآن الكريم، وعلومه، وتفسيره، والكثير من البحوث الموضوعيّة المتعلّقة به...

هذا الكتاب؛ النص القرآني (التفسير الاستشراقي للنص القرآني في النصف الثاني من القرن العشرين)، يتناول بالبحث والتحقيق والدراسة النهج التفسيري الذي اتبعه المستشرقون خلال النصف الثاني من القرن العشرين في تفسير آيات القرآن، وفق منهج تحليلي نقدي، مبينًا الوجهة التفسيرية التي تبنّاها المستشرقون في الفترة التأريخية المشار إليها، ومسلّطًا الضوء على الخلفيات التي نشأت هذه الوجهة على أساسها، ومقوّمًا للبحث وفق مداليل ظاهر

الآيات وسياقاتها وسياقات الآيات المشابهة.

المركز الاسلامي اللدراسات الاستراتيجية

http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com

ص: 537

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.