نحن و تراثنا الأخلاقي

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

سلسلة استراتجیات معرفیّة

نحن وتراثنا الاخلاقي (1)

إعداد وتحریر

أ.د.عامر عبدزيد الوائلي

ص: 1

المجلد 1

اشارة

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

1

نحن وتراثنا الاخلاقي

الجزء الأول

تحریر

أ.د.عامر عبدزيد الوائلي

المحرّر: محمدرضا دهقانزاد

2018 م

ص: 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

هوية الكتاب

* الوائلي، عامر عبد زيد

* نحن وتراثنا الأخلاقي / تحرير أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

* الطبعة الأولى، كربلاء، العراق، العتبة العباسية المقدسة المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1439 ه_، 2018م.

ISBN: 9789922604107 (set) *

* 3 مجلد 24 سم.

* يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

* -1 الأخلاق الإسلامية 2 الأخلاق - فلسفة. ألف. العنوان

BJ1291.W35 2018 *

* مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز ... 6

مقدمة التحرير ... 12

المحور الاول:

الكليات والمفاهيم والمبادئ التصورية

- الأخلاق والقيم.. في المعنى والمصطلح والتجربة ... 20

علي زين الدين

- فلسفة القيمة معناها ودلالاتها من سقراط إلى أزمنة الحداثة ... 20

جميل قاسم

- الأخلاق المعياريّة سبيلٌ لم يُطرق في مجال البحوث الأخلاقيّة الإسلاميّة .... 45

- محمد مطهري فريماني

- الأخلاق الدينية والواقعية الأخلاقية ... 73

- محمد لغنهاوزن

- الأخلاق الإسلامية ... 100

- عظيم نانجي

- الميتا أخلاق: السعي إلى أساس إبستمولوجي للأخلاق في الفكر الإسلامي ... 118

- مريم العطار

أخلاقيات الميديا ( دعاوي التنظير ومبررات التفعيل ) ... 145

- بهاء درويش

- المذهب الأخلاقي للفضاء الإلكتروني ... 165

- حميد رضا آية اللهي

ص: 4

المحور الثانى:

التراث النقلي «وهو التراث المعتمد على القرآن والعترة»

- البُعد القرآني للسلوك الأخلاقي عند أئمة أهل البيت الإمام الحسن (أنموذجاً) .... 200

حسين حمزة شهيد

- قرآنية القيم الأخلاقية في وصايا أئمة أهل البيت المعصومين ... 215

وسام حسين جاسم العبيدي

الإصلاح الأخلاقي في فكر آل البيت علیهم السّلام زيد الشهيد أنموذجاً» ... 242

حيدر زوين

- النسبة بين الفقه والأخلاق في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام ... 255

أحمد باكتجي

- اخلاق الوحي ... 277

المرجع الديني الشيخ جوادي آملي

- الأخلاق القرآنية والشريعة الإسلامية ... 293

خالد أبو الفضل

- العلاقة بين الدين والأخلاق في القرآن الكريم ... 308

عبد الحسین خسروپناه

ص: 5

مقدمة المركز

(اللهم اجعل نفسي... مفارقة لأخلاق أعدائك)

زيارة أمين الله

في نظرةٍ سريعةٍ وإجماليةٍ إلى تاريخ البشرية والمنظومة الإسلاميّة التي قطنت في هذه المعمورةٍ وما حملته من اختلاف وتقلَّباتٍ مستمرةٍ، نرى أنَّ مسألةَ الأخلاق تعدُّ أمراً محوريّاً في هذهِ المنظومة، إذ شهدَ العالم نزاعاً مستمرّا بين قوى الخير وقوى الشرِّ وهو نزاعٌ أخلاقيٌّ بامتياز، وذلكَ أنَّ معايير الأخلاقِ تعدُّ قانونا ملزماً بالاتباع، والإنسان يميلُ عادةً إلى السيرِ نحو الميولِ والأهواء والانفلات من الضوابطِ والقوانين ومن هنا يحصل النزاع.

وقد تنبّأت الملائكةُ بهذا الأمر حينما قالت: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» (1)، وهي ناظرة إلى هذا النزاع، ولكن نظرتها كانت أحاديةً ومن جانبٍ واحدٍ إذ رأتْ جانب الشرّ فقط، ولذا جاء الجواب الإلهي: «إنيِّ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(2) . هذه الإجابة تدلُّ أولاً على النظرةِ الثنائيةِ للمنظومةِ الإنسانيةِ، وتدلُّ ثانياً على غلبةِ جانب الخير، وعلى أنَّ ما رأتهُ الملائكةُ من شرِّ ليس إلّا المخاضَ الذي تنضجُ فيه النفس الإنسانيةُ لتصلَ إلى مقام الخلافةِ

ص: 6


1- البقرة: 30
2- النحل: 66

الإلهيةِ. فكما أنَّ اللبنَ لا ينضجُ إلّا عبرَ مخاضٍ مستمرٍّ بينَ فرثٍ ودم كما في قولهِ تعالى: «نُسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِعًا للشاربينَ» ، كذلك الإنسان الكامل (بمختلف مراتبهِ من الأعلى إلى الأدنى) لا يصلُ إلى مقامِ الخلافة الإلهية ِإلّا عبرَ مخاضٍ وصراعٍ مستمرٍّ بين قوى الخير وقوى الشرٍّ المتمثّلة بأدنى مراتبِ الوجودِ أي الدنيا.

***

من هذا المنطلق ورد هذا الدعاء الشريف في زيارة أمين الله، إذ ورد بطلبِ التوفيق لمفارقةِ الأخلاق السيئةِ أي أخلاق أعداء الله.

في هذا النص المبارك مداليل محوريّة نشيرُ إلى أهمها:

النطاق:

ونعني بنطاقِ الأخلاقِ شموليتها لتعمَّ جميعَ المنظومةِ الإنسانيةِّ لتشمل الفرد والمجتمع ونظام الدولة.

أمّا الفرد فمكلّفٌ بالإيمانِ والعمل الصالحِ والتعرّف على محاسن الأخلاقِ ومساوئها للالتزام بالأولى وترك الثانية في سلوكهِ الفردي والشخصي.

أما المجتمع فهو السلوك الأخلاقي الجمعي المتمثّل بالأسرةِ، والجار وأبناء الدين الواحد والمذهبِ الواحد، وكذلك سائر الأديانِ أو غير الملتزمينَ بدين إذ إنَّ أخلاقَ المجتمع تشمل جميع هذه ِالحالاتِ سيما بخصوص الآخر إذ ورد التأكيد بشأنه ِأيضا كقولهِ تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»(1) .

ص: 7


1- الممتحنة: 8

وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين علیه السّلام في نهج البلاغةِ من تقسيمِ الناس إلى: نظير لنا في الخَلْقِ وأخٍ لنا في الدين.

أمّا نظامُ الدولةِ فنقصد بهِ ما يلزم على أجهزةِ الدولةِ من الشخصِ الأول فيها إلى سائر مفاصلها من سلوك أخلاقي في تعاطيهم المهني سواء مع الوضع الداخلي من رعاية العدل والإحسانِ أو الوضع الخارجي من حيثِ الحفاظ على العزّةِ والشجاعةِ والإباء وعدم الرضوخِ للاستصغار والاستعمارِ وما شاكل، وعهد أمير المؤمنين علیه السّلام لمالك الأشتر هو خير مَعين ومُعين لأخلاق الدولة.

المنطلق:

نعني بمنطلق الأخلاق الأسس والمباني التي تُستنبطُ الأخلاق منها، إذ قد اختلفت مصادر الأخلاق في مدارس واتجاهات مختلفة كوّنت منظومات وتيارات متنوّعة ٍتعتمد إمّا على الدين أو العقل أو الطبيعة ِأو الوجدانِ أو الحبِّ وما شاكل، وستتعرّف عليها في هذا الكتاب الماثل بين يديكَ، ولكن ما يهمنا هو الأخلاق الدينية المنبعثة من العقل السليم والدين القويم، مضافا إلى الاهتمام بالسلوك الأخلاقي العملي مع قطع النظر عن التنظيرات المختلفة حول فلسفة الأخلاق ومصادرها المختلفة.

مثلما يشير هذا الدعاء المبارك الوارد في زيارة أمين الله فإنَّ الأخلاق كما تكون بالاكتساب والجهادِ، كذلكَ تكون جرّاءَ الفيضِ الإلهي، فهنا يدعو الزائر ليفيضَ الله عليه عنايتهُ في تركِ أخلاق أعدائهِ ليتحلّى بأخلاق أوليائه.

الاستراتيجيا :

وهي الخطّة والبرنامج العملي لإيصال الفرد والمجتمع إلى الكمال المطلوب

ص: 8

في وضعهِ الحالي وكذلك المستقبلي مع لحظ نقاط الخلل ومحاولة معالجتها.

***

لا يمكننا رسم معالم استراتيجيتنا الأخلاقيّة الإسلاميّةُ دون لحظ الهدف الأعلى أو الأهداف العليا الموجودة في الشريعة الإسلاميّة.

وعند تدبّر الآيات والروايات نصلُ إلى أهداف عدّة قد يكون من أهمها بخصوص الفرد إيصاله إلى الكمال المطلوب علما وعملا، أما بخصوص المجتمع فهو تحويل الأمّة الإسلاميّةِ إلى أمّة ٍوسط تكون ميزانا ومقياساً ونموذجاً يُحتذى بهِ من قبل سائر الأمم، كما تعلّقت الإرادة الإلهيةِ بذلك في قوله تعالى: «وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(1).

فالأمّةُ الإسلاميّةُ لا تكون وسطاً ومقتدى وشهيدة على سائر الأمم إلّا بمتابعةِ مكارم الأخلاق وترك مساوئها على مستوى الفرد والمجتمع ونظام الدولة طبعاً مع رقابة الوليّ المعصوم حتى يُرجعها إلى هداها ورشدها ويكون هو الميزان والمعيار لها: «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» ومن بعدهِ تتحوّل الوظيفة إلى وصيّه المعصومِ ليكون كالشمسِ ينتفع بهِ الناس سواء أكانَ ظاهراً، أو غائبا كالشمسِ الغائبةِ وراء الغيوم .

ومن هذا المنطلق فمعالم الاستراتيجيا الأخلاقية الإسلاميّة تعتمد على:

1. الموقف العلمي، وهو يتبلور بالتعرّف على نظام القيم وما يقابلها، وكذلك لزوم التعرّف على ملابسات العصر الحديث وما يستبطنه من خدع وإعلام زائف تصوّر القبيح حسنا والحسن قبيحا.

ص: 9


1- البقرة: 143

وكذلك التعرّف على التيارات والمدارس الأخلاقيّة المختلفة إن الدينية أو الوضعية للتعرّف على نقاط القوّة والضعف، وكذلك الإيجابيات والسلبيات، إذ إنَّ هذا الموقف العلمي الشامل يعيننا على وضع الخطط والبرامج القويمة.

.2 الموقف العملي، ووضع مخطط ونظام لتنميةِ تلك القيم بعد التعرّف عليها، وذلك من خلال بثّ تلك القيم وتعميمها والدعوة إليها من خلال مجالسِ الوعظ والكتبِ والمجلات والندوات ووسائل الإعلام، لتعمّ الفرد والمجتمع ونظام الدولة.

وهذا الأمر وإنْ يبدو بعيد المنال، فإنّ نظرتنا إليهِ ليستْ طوباويّة، فنحن أنَّ نعتقد مسير البشرية لا بدَّ وأن يتجه لهذه الجهة وهو وعد الله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بي شَيْئًا»(1) .

ولا تكون وظيفتنا إلّا التمهيد لتلكَ اللحظة من خلال بناء الجماعة الصالحة والدعوة إلى الخير

***

تلبيةً لهذهِ المهمةِ تمَّ تدوين ُهذا الكتاب ليشمل بمحاوره ِالستّةِ أهمَّ الآراءِ والنظريات المتعلّقة ِبالمنظومةِ الأخلاقيّةِ في العالمين الإسلامي والغربي.

ونحن إذ نقدّم هذا الكتاب للقارئ العربي، نعتقد بلزوم المزيد من الاهتمام بالجانب الأخلاقي وحاجة الساحةِ المعرفيّة إلى دراسات جادة بهذا الخصوص،

ص: 10


1- النور: 55

ولا يفوتنا أن نقدّم شكرنا وتقديرنا للأستاذ الدكتور عامر عبد زيد الوائلي الذي قام بمهمة متابعة المشروع والاستكتاب والتحرير ليخرج بهذه الحلّة الجميلة، وكذلك نشكر كلَّ من ساهم في تدوين وإخراج هذا السفر القيّم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين

وآله الميامين.

النجف الأشرف

المولد الحسيني 3 شعبان المعظم 1439ه_

ص: 11

مقدمة التحرير

مكارم الاخلاق: مقاربة في تراثنا الاخلاقي

إن طبيعة الثقافة يمكن أن تتحدد من خلال المرجعيات الموجه لها، وذلك في تبين أثرها في تشكيل وتصميم عالمنا المعيش؛ لأن الثقافة تبقى بمثابة المجال الروحي الذي يجد فيه الفرد وجوده النفسي وبحكم المجال أو البيئة الثقافية له، لأننا لا يمكن أن نفهم الفرد من دون الثقافة التي ينتمي لها.

في ظلِّ التحولات الراهنة، تُعَدُّ الأخلاق ركنًا من أركانِ الإصلاحِ المعنويّ الذي يمنحُ الفردَ أو الجماعةَ موجهات ٍمعنويّةً يمكنُ أن تجعلَ منهم أفرادًا صالحينَ يحققونَ الإصلاحَ الاجتماعيَّ، والنجاةَ في حياتهم الدنيويَّة والأخرويَّة، فهي أخلاقٌ مرتبطةٌ بحضارة معينةٍ، أو دينٍ معينٍ، إذ إنَّ عمرَ العلاقةِ بينَ الدين والأخلاقِ يمتدُّ إلى عمر ِالبشريَّةِ، وهذا يعني أنَّ له حضورًا راسخاَ في الثقافةِ البشريَّة.

بالأخلاقَ تعلو الأممُ وتنهضُ وتزدهر وتتقدّم، وهي دليلٌ على بقاء الحضارات وتقدّم شعوبها ورفعتِها؛ فيقلّ مُعدّل الجريمةِ والانحطاطِ والاستغلالِ، ولا يصعد الأغنياءُ والأقوياءُ على حِساب الفقراءِ والضُّعفاء. وهذا أيضا يجعل الأخلاقَ متفاوتةً بين النَّاسِ ؛ نظراً لاختلاف البيئاتِ الثقافيَّةِ والدينيِّةِ التي ترعرعوا فيها؛ ونظراً أيضًا لاختلاف أهميّتها عند النّاس، فقسمٌ من النّاس يضربون بها عرض الحائطِ ويعدُّونها معيقاً للطموحِ والتقدّمِ والنّجاح ، وهم بذلك يدوسونَ على إنسانيتهم وعلى مَن حولَهم؛ حتى يستطيعوا الوصولَ إلى أهدافهم وغاياتهم الدّنيئةِ الرّخيصة، التي ستسبّب لهم ولِمَن حولَهُم الهلاكَ والخسرانَ ؛ وبهذا هم يساهمون في تقريرِ مصيرِهم.

ص: 12

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ نجد أنَّ طبيعةَ الأخلاق طبيعةٌ تراكميّةٌ بامتياز، متنوّعة ٌمصادرها، فقد يستمدُ النّاسُ أخلاقَهم من العاداتِ والتقاليدِ والأعرافِ المتّبعةِ، وقد يقوِّمُ الدِّينُ أخلاقَ النّاسِ، بتأكيدِ الأخلاقِ الحميدةِ، ومحو الأخلاقِ السيئةِ التي نشأوا عليها؛ لهذا فالأديانُ ضروريَّةٌ جداً للنواحي الأخلاقيّةِ، إضافةً إلى وظيفتها الرّئيسةِ الأخرى والمتمحورة حولَ تعريفِ النّاسِ بخالقِهم وربِّهم المعبود .

ومن هنا يأتي الرّهانُ الباعِثُ على تناولِ المشكلةِ وما تمثِلُهُ من راهنيَّةٍ في حياةُ الناسِ ومعاشِهم، في ما يحتاجون إليه من تمثِّلٍ للقيم التي تُعَمِّقُ التعايش وتحقِّقُ السلوكَ القويمَ في علاقةِ الإنسان بربِّهِ وعلاقتِهِ بأخيهِ الإنسان الآخر، والعمل على تمثُّلِ السلوكِ الفاضلِ الذي نَجِدُهُ متمثلاً في سلوكِ كثير من الشخصياتِ الفاضلةِ في تاريخِ الاسلامِ، وهي تمثَّلُ الكارزمةَ الدينَّيَة التي تقومُ على قيمِ السماحةِ والفضيلةِ، كما عبّرَ عن أهميتها «ماكس فيبر». وهي تبدو راهنيَّةً غائبةً نحاول استحضارَها في الأقوالِ على صعيد النصِّ المقدَّسِ، أو على صعيد استعراضِ نماذجَ مِن السيرةِ من خلالِ عرضِ أقوالٍ تَحُثُ أقوالِ تَحُثُ على مكارمِ الأخلاقِ، بوصفها نماذج قِيميَّة قابلة للتمثُّلِ والمحاكاةِ على صعيدِ الفردِ والجماعةِ، أو نماذج في التربية والتعليم والإرشاد الأخلاقيّ؛ حتى يتحوَّلَ إلى باعثٍ نفسيٍّ داخليّ يُحرِّضُ الإنسان على اتباعِ الأخلاقِ النابعة من نفسٍ طَيبَّةٍ، وإرادةٍ خالصة؛ لأنَّ الأفعالَ التي تصدرُ عن تكلفٍ، لا خيرَ فيها . ولكنَّها إنْ كانت أصيلةً في بواعِثِها فإنَّها تبدو كالدستور الذي ينطوي على قواعدِ السلوك الذي يستندُ في تقييمه إلى الخير والشر بكل بواعثهما القِيَميَّة سواء كانت من الدين أم من المجتمع.

أوَّلاً: الأخلاق في اللغة:

إِنَّ الحفرَ في دلالة معنى الأخلاق في اللغة أمرٌ ضروريٌّ، لأنَّ اللغةَ هي خزينُ تجاربِ الأممِ، التي أُودعتْ فيها، ودلالة «مكارم الأخلاق» في اللغة بوصفها جمعَ خُلُقٍ تظهر لنا من خلال الآتي : مَكَارِمُ : جمع مَكْرُمَة، (كرم) اسم جامع لكل ما يُحْمَد، فالله عز وجل كريم حميد الفِعال ورب العرش الكريم العظيم. الكَرَم نقيض اللُّوْم

ص: 13

يكون في الرجل بنفسه، وإن لم يكن له آباء، ويستعمل في الخيل والإبل والشجر وغيرها من الجواهر إذا عنوا العِتْق، وأَصله في الناس (1) .

الأخلاق: جمع خُلُق - بضم اللام وسكونها: الدين والطبع والسجية، (2) (3) وحقيقته كما يقول ابن منظور - ويتكرر هذا المعنى في القواميس -: الخلق : الدين والطبع والسجية، «أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخَلقِ لصورته الظاهرة» (4).

وذهب ابنُ الأثيرِ الى المعنى نفسِهِ بقوله : وحقيقته انه لصورة الإنسان الباطن، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها ولها أوصاف حسنة وقبيحة (5) .

وهذا ما نجده في قول الجرجاني كذلك (الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورؤيا فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقا سيئا) (6).

وهو ما أكَّدَهُ الغزالي أنَّ الخلقَ عبارةٌ عن هيئةٍ في النَّفس راسخة، وقال: «إن الألفة ثمرة حسن الخلق والتفرقة ثمرة سوء الخلق» (7)؛ الخلق» بمعنى أنَّ هناك باعثًا نفسيَّا داخليَّا يحرِّضُ الإنسان على اتباع الأخلاقِ النابعة من نَفْسٍ طيّبةٍ، وإرادة خالصة، أمَّا الأفعال التي تصدر عن تكلُّفٍ، فلا خير فيها.

وهذا ما جعل بعض أهل العلم الدينيّ يؤكدون أنَّ ما أسرَّ عبدٌ سريرةَ خيرٍ، إلا

ص: 14


1- انظر لسان العرب دار صادر، بیروت، 2004
2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون ، ج 2 ، دار الفكر ، بيروت، 1399ه، ص213
3- فيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب قاموس المحيط تحقيق مكتبة التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف محمد نعيم العرقسوسي، 2005 ، ص 881
4- ابن منظور، لسان العرب، ج 5، ص 14
5- ابن الأثير النهاية في غريب الحديث، ج 2، دار الفکر، بيروت، 1399ه، ص 70
6- الجرجاني، علي بن محمد بن علي، التعريفات، ص101
7- الغزالي، إحياء علوم الدين، دار بن حزم، ط1، بيروت،2005، ص 611

ألبسهُ اللهُ رداءها، ولا أسرَّ سريرةَ شرّ قط، إلا ألبسهُ اللهُ رداءها .

في النتيجة تبدو الأخلاقُ كالدستورِ الذي ينطوي على قواعدِ السلوك الذي يستند في تقييمِهِ على الخير والشر؛ ولكن يظهر أنَّ تلك التعريفات تشير إلى أنَّ الأخلاقّ لها جانبان، أحدهما: نفسيٌّ باطنيّ، والآخر: سلوكيٌّ ظاهريّ، أي إنَّ الأخلاقَ نفسيَّةً أو معنوية منظرها الخارجيّ هو ما نسميه المعاملةَ أو السلوكَ فالأخلاق مصدر والسلوك مظهر (1).

ثانيا: الأخلاقُ في الاصطلاح:

يُعرَّفُ عِلْمُ الأخلاقِ بوصفهِ العلمَ الذي «يبحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، مع بيان الواجبات التي يلتزم بها الإنسان»(2) فالأخلاق هي «حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر أو رويّة وهذه الحال تنقسم قسمين منها ما يكون طبيعيا من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ومنها: ما يكون مستفادا بالعادة والرويّة ويكون مبدوءاً بالفكر ثم يستمر عليه شيئًا فشيئًا حتى يصير ملكا وخلقا » (3).

ويبدو أنَّ هذا التعريف يوظِّفُ المعنى اللغوي السابق، في تأكيد حكم أخلاقيّ يقوم أو يصف سلوك الفرد أو الجماعة والحكم عليه مستندًا على قيمتين؛ هما: الجمال والقبح، وهما مرهونان بالمصدرِ الذي يحكم عليهما، وفي الإسلام: «الجميلُ ما جمَّله الشرع، والقبيحُ ما لا يرضاه ولا يقرُّه الشرع». ولعل حاكمية الشرع حاضرة هنا في توصيف «مكارم الأخلاق» وهي الجنبة العملية التي تعتمد على الأوامر والنواهي الشرعية في النص سواء كان القرآن أم نصَّ المعصوم، ومن هنا جاء «مفهوم مكارم الأخلاق»: هي مجموعةُ من العادات والسُّلوكات والتّصرّفات والأقوال والأفعال التي تنبع من ذات الإنسان وضميره وقناعته؛ فالخير والشّر داخله في صراعٍ دائمٍ، فمتى

ص: 15


1- محفوظ علي عزام الأخلاق في الإسلام بين النظرية والتطبيق ، ص11 ، ص 12
2- مقدمة كتاب علم الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو : بارتلي. ترجمة أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب،1942م، ص 8
3- مسكويه، تهذيب الأخلاق دراسة و تحقيق عماد الهلالي، منشورات الجمل، ط1، بيروت، 2011

ما غلب خيرُه شره أصبح صاحب خُلُقٍ عظيمٍ، وجزءٌ من الأخلاق تُكتسب بالتّربية الصّالحة والاعتياد على سلوك الأوائل من ذوي الأخلاق الحميدة، وهذا الجزء يقع على عاتق كلّ وليّ أمر من الوالدين والمدرسة والمعلّمين والمجتمع. فالتعريف كأنَّهُ يراعي الأبعادَ الأربع: الجانب العقليّ الواعي القائم على التأمل في مورد النص، والثاني: الجانب النفسيّ الذي يكون عليه الفرد أو الجماعة، والثالث: الجانب الاجتماعيّ وما يحمل المجتمع من موروثٍ اجتماعيّ، والرابع: الجانب التكويني للفرد.

وهذا ما يمكنُ أن نستلهمَهُ من التعريف اللغويّ إذ نجد مفهوم الأخلاق يتحدد في جانبين، هما: الأخلاق والآداب التي حثَّ عليها الإسلام وذُكِرت في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة اقتداءً بالنبي محمد صلّی الله علیه و آله الذي هو أكمل البشر خُلقا لقول الله سبحانه عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم)، فمكارمُ الأخلاقِ أفضلُ الدّرجات في كلّ خُلُقٍ؛ فالأمانة خُلُقُ كريمٌ ومن اتّصف بكمالِ الأمانةِ فقد وصل إلى مرحلة المكارمِ في هذا الخُلُق، كما كان يُوصف الرسول صلّى الله عليه و آله بالصّادق الأمين، وهذا يعني أنَّ الأخلاقَ فيها جنبةٌ دينيَّةٌ مهيمنةٌ تتمثَّل بأوامر ونواهٍ إلهيَّة؛ ولهذا فان السّبب في اجتماع الأخلاق الحميدة مع التديّن الصّادق والعميق، هو أنّ المتديّن يسعى للوصول إلى الكمال المطلق، وكلما ارتقى أكثرَ في تديّنِهِ ومعرفته بالله كلما عظمت أخلاقُهُ؛ ولهذا كله فالرّسل هم أعظم البشر أخلاقاً؛ لأنّهم أعرف النّاس بالله. وهناك أحاديثُ تدعو إلى حسن الخلق، وأَنَّ أساس هذا الدّين العظيم هو مكارم الأخلاق ومحاسنها؛ فقد روى البيهقي أنّ النبي صلّى الله عليه و آله قال: «إنما بعثت لأتممّ مكارم الأخلاق»، وإنّ كلمة البرّ هي الجامعة لمعاني الدّين، قال عنه النّبي صلّى الله عليه و آله : «البرّ حسن الخلق»، رواه مسلم. وقد اتصف النبّي صلّى الله عليه و آله بما وصفه به الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بحسن الخلق، فقال جلّ وعلا: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ، القلم /4 .

***

يسعى هذا الكتاب المؤلف الجماعي بمجلداته الثلاثة إلى استعادة التراث الأخلاقي الإسلامي بأبعاده الدينية والفلسفية والسوسيولوجية وكذلك إلى التعرف

ص: 16

على التيارات والمذاهب الأخلاقية على نطاق إنساني شامل وذلك انطلاقاً من استراتيجية معرفية تهدف إلى إعادة تظهير مكارم الأخلاق كقيمة جوهرية لبناء الحضارات الإنسانية المعاصرة.

إنَّ أُطروحةَ الكتاب تمثّلُ الموقفَ الذي ننطلقُ مِنْهُ في مقاربةِ موضوعِنا، وهي راهنيّةُ الأخلاقِ وأثرُها في إقامةِ السلوك وتقويمه، وبَعْثِ قيمِ العدلِ والفضيلةِ من خلال تأصيلها في النصِّ الدينيّ؛ لما يمثلُهُ من مركزيَّة ثقافيَّة ووجدانيَّة في ضمير الناس. ولعل هذا يتحقق من خلال تناول قيم مكارم الأخلاق وهي تمثِّلُ رأسَ مالِ مشترك بين المسلمين .

المحرر: أ. د. عامر عبدزيد الوائلي

ص: 17

ص: 18

المحور الاول

الكليات والمفاهيم والمبادئ التصورية

« الاخلاق، علم الاخلاق، فلسفة الاخلاق»

ص: 19

الأخلاق والقيم .. في المعنى والمصطلح والتجربة

الأخلاق والقيم .. في المعنى والمصطلح والتجربة (1)

علي زين الدين (2)

عُرفت الأخلاق لدى علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، بأنّها قيم أو منظومة قيم، تعرف عليها الإنسان بإعتبارها جالبة للخير وطاردةً للشر، وهكذا تعرفها الفلسفة الليبرالية إذ تعطيها معنى نسبياً يخضع للواقع ولفهم الناس ولطبيعة البيئة. ولهذا فهي ليست من المطلقات، ولهذا أيضاً قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني كما تعدّ مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب، كالعدل والحرية والمساواة ، بحيث ترتقي إلى درجة أنها تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين وهي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاته. وأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخلق يكون قلبياً ويكون في الظاهر.

وعلم الأخلاق يعتني بدراسة السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معايير للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه أو يعتبرها التزامات وواجبات تتم بداخلها

ص: 20


1- يتناول هذا المقال من عالم المفاهيم، مفهومين متلازمين هما الأخلاق والقيم. وسيتطرق الكاتب إلى تعريفهما في مجال المصطلح والمعنى، وكذلك ظروف نشوئهما وتبلورهما فى إطار النظريات الأخلاقية التي سادت عصر التنوير فضلاً عن التراث الفلسفي اليوناني. المحرر
2- مترجم وصحافي لبناني

أعماله. فالأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، ومجردة». والكلمة الإنكليزية للأخلاق «Ethic» مستخلصة من القاموس اليوناني (إيثيه) أي «عادة». وتكون الأخلاق طقماً من المعتقدات أو المثاليات الموجهة، التي تتخلل الفرد أو مجموعة من الناس في المجتمع.

والديونتولوجيا - من الجذر اليوناني (ديون) أي «ما يجب فعله» و(لوغيا) أي «العلم» - أو علم الواجبات وهو مفهوم يستخدم كمرادف للأخلاق المهنية، فيختصّ هذا المجال بالواجبات ويحكم على الفعل راجعاً إلى القواعد والقوانين(1).

أما علم «الأخلاق» Ethics ، فإنّه يتعلق بوجه عام، بمعايير السلوك التي يتحدد بموجبها الإعجاب بموقف معين أو رفضه احترامه أو إدانته. وربما تسري هذه المعايير على المجتمع بأسره، لتشكل ميثاقاً شرفياً، أو ربما تنطبق فقط على بعض الممارسات المهنية لمجموعة بعينها من هذا المجتمع، وكلمة Moralis الأصل اللاتيني لكلمة «أخلاق»، وقد صاغ شيشرون Ciceron (السياسي والخطيب الروماني) هذه الكلمة ترجمة للكلمة اليونانية ethos (الطبع، العادة) بعد أن اشتقها من كلمتي mos و mores بمعنى «عادة» أو «عادات» (2) .

معنى القيم

مثل الأخلاق والعلوم التي تناولته بالتعريف والتحليل كذلك الحال بالنسبة إلى القيم ومعناها ودلالاتها الاصطلاحية.

ومفهوم القيمة، أو القيم، من المفاهيم المعقدة ذات استخدامات كثيرة ومعان متنوعة. فعلى سبيل المثال نجد هذه المفردة مستعملة بمعان مختلفة في الفلسفة والحقوق وعلم النفس وعلوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلم الأخلاق وغيرها، زد على ذلك، أننا لا نجد لها تعريفاً موحداً متفقاً عليه حتى في داخل كل اختصاص (3).

ص: 21


1- راجع «معنى الأخلاق»- https://ar.wikipedia.org
2- عبد المنعم الحفني، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الأول، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999، ص 106
3- أبو تراب طالبي، مفهوم القيم قراءة تاريخية ، فصلية ( المنهاج ) ، العدد 75 - خريف 2014

في المعجم الفلسفي ل_ «لالاند»، ذُكِرَت لمفهوم القيمة استخدامات توزعت على أبعاد أربعة هي:

-1 إلى أيّ مدى تكون مطلوبة وتتعلق بها رغبة الفرد أو الجماعة ؟

2 - ما هي الدرجة التي تحظى بها من الأهلية والمطلوبيّة؟

3 - ما هو الهدف الذي تثمره وتنتجه هذه القيمة؟

4 - ما هو مستوى التفاعل الذي تحققه هذه القيمة بالقياس إلى جماعة وزمان معینین (1).

عُرِّفت القيمة في علم الاجتماع بأنّها ما يُحكم عند الفرد أو الجماعة بكونه حسناً أو قبيحاً، لائقاً أو غير لائق، مطلوباً أو غير مطلوب. وعرفها بعضهم أيضًا بأنّها الميزان والمعيار المختار من قبل الفرد أو الجماعة من بين البدائل المتاحة المطروحة بالنسبة إلى موقع ما.

وذهب العالم الفرنسي غي روشيه متأثراً في ذلك بكل من دوركايم وبارسونز، إلى القول بأنّ القيمة هي الركيزة الأساسية التي يستند إليها الفعل، وقال: «القيمة طريقة في الحياة أو العمل ينظر إليها الشخص أو الجماعة بوصفها مفهوماً يتلبس ويتشخّص به الأفراد وتصرفاتهم ويصبح شعاراً لهم» ورأى إن القيمة ذات خصائص جوهرية، وهي عبارة عن:

1- القيمة هي الملهمة للعمل، أو - بتعبير بارسونز - هي الهادية والموجهة .

2 - القيم نسبية، (بالنظر إلى عوامل الزمان والمكان والاجتماع).

3 - للقيم ثقل وأساس عاطفي.

4 - للقيم سلسلة من المراتب ما يعني أن بروز قيم جديدة في المجتمع يكون أمراً نادراً. وأمّا ما يحدث في الغالب، فهو أنّ سلسلة مراتب القيم أو جماعة ما تكون

ص: 22


1- المصدر نفسه

عرضة للتغير. ولهذا السبب فإنّنا في تغيير القيم يجب حصول التغيير على مستوى سلسلة مراتب هذه القيم وحاصل هذا الأمر أنّ القيم الرفيعة ذات الدرجة العالية تهبط وتنخفض درجتها لتحل قيمٌ أخرى مكانها(1) .

إلى هذا نستطيع أن نجد في علم النفس تعاريف عدة أخرى لمفهوم القيمة، نشير من بينها إلى ما يأتي:

1- القيمة هي بمثابة الدافع والمحرك (motive) ، أو أنّها تعود في جذورها إليه. ]ويلسونم وماك ليلاند].

2- القيمة بمثابة التعلق والاهتمام (interest)، ]باريش أولبرت، وفرتون].

3- القيمة هي بمثابة الاعتقاد (beilef) [روكيتش]

4- القيمة هي بمثابة الميل والنزوع (2).

وعلى هذا الأساس فإنّ القيم هي عبارة عن الميزان والمعيار لتعريف وتحديد الوضع المطلوب الذي ينبغي أن تكون عليه الأمور، والميزان الذي على ضوئه يتم الاختيار من بين الخيارات المختلفة بشكل غير مشروط وغير نفعي (مطلق)، من قبل الفرد أو الجماعة، وبعبارة أخرى: القيم هي المعايير للاختيار بشكل غير مشروط وغير نفعي التي تحدد للفاعل الوضع اللازم والمطلوب.

وعلى ضوء هذا الذي ذكرناه، لا بد - في دراسة القيم والخصائص التي تتسم بها ؛ من أخذ النقاط الآتية بعين الاعتبار:

1 - تنتمي القيم إلى فصيلة الأمور الذهنية والمعرفية، وإن كان لها آثار عينية.

2 - تندرج القيم تحت الضروريات القطعية.

3 - تتصل القيم من ،داخلها وفيما بينها وفضلا عن سائر عناصر الثقافة من خلال سلسلة من المراتب البنيوية والجوهرية.

ص: 23


1- المصدر نفسه
2- المصدر نفسه

4 - ليست القيم بأسرها بمثابة واحدة مطلقة من المطلوبية والمرغوبية، بل هي درجات عدة ومتفاوتة. وهذه الميزة توجب أن تكون سلسة المراتب لكل القيم بلحاظ مطلوبيتها عند أفراد متعددين وسلسلة المراتب القيمة عند فرد ما (من بين القيم المختلفة) متنوعة ومتعددة . (1)

فلسفة الأخلاق ومعناها

يركز مصطلح «الأخلاق الفلسفية» أو «الفلسفة الأخلاقية» - وهما مصطلحان يستخدمان هنا بالتبادل - على قضايا «القيمة». وقد نشأت نظريات (في الأخلاق) تتفاوت إلى حد بعيد فيما تصبو إليه وتختلف في درجة شموليتها وتصنيفها وتفصيلها؛ إذ إنّ المفاهيم التي نحاول عن طريقها أن نجد معنى لأنفسنا ولنشاطنا ولحياتنا ولطبيعة التفكير ومداه وندرك من خلالها المسائل المتعلقة بمعنى الموت والخطايا التي لا تغتفر - تحتاج إلى التحليل والفهم. وبالمثل يحتاج بحث القيم التي نسعى إلى تحقيقها بأنماطها المختلفة من العلاقات الاجتماعية، إلى حسن السيطرة عليها والتحكم فيها. فعلى سبيل المثال، قد يكون من قبيل الخطأ أو الاستنتاج الفاسد أن نفكر في العلاقات الشخصية مثل الحب أو الصداقة، على اعتبار أنّها تتشكل من قواعد وأهداف، وقد تتضمن هذه القضايا تحقيقا أو بحثا في الأساسيات التي توجه السلوك الفعلي أو العملي. فيبحث الفلاسفة الأخلاقيون في دور المثل العليا في توجيه التفكير العملي والنشاط الفعلي، ويعالجون مسائل مثل(2): ما هو السلوك المقبول ،أوما الذي ينبغي أن يفعله شخص ما في حالات معينة («الإفتاء في قضايا الضمير» casuistry، يطبق مبادئ أخلاقية عامة على كل حالة، أمّا الأخلاق الوضعية، أي الأخلاق التي ترتبط بمواقف وأوضاع معينة، فهي تتعامل مع كل حالة كمسألة منفصلة قائمة بذاتها)، ويبحث الفلاسفة الأخلاقيون فيما يتجاوز الأعراف المحددة ومعايير السلوك وما لا يتجاوزها؛ وهذه المعايير هي في حد ذاتها حد ذاتها أهداف ربما نبحث في إيجاد تبرير لها. وتبحث الفلسفة الأخلاقية أيضا في طبيعتي الفضيلة

ص: 24


1- المصدر نفسه
2- موسوعة الفلسفة والفلاسفة، المصدر السابق، ص 112

والرذيلة ومعنى كل منهما ، كما تبحث في مفاهيم تقييم الذات، مثل الشرف والاعتزاز والمعصية والعار والخزي التخاذل والإقدام وهي المفاهيم التي قد تنشط أو تخبو في ظل ظروف معينة. إنّ بعض الفضائل والرذائل المحددة مثل الأمانة والخداع، قد يكون لها معنى خاص في علاقتها بأنفسنا وبالأخرين فيما يتعلق بفهم النفس، ومن ثم في علاقتها بالسلامة والأكراسيا arasia (اللامعقولية الشخصية / ضعف الإرادة). ويجري البحث في مجال الأخلاق في ماهية ما هو موجود، أو فيما يمكن أن ،يوجد، ليكون شراً أو سيئاً، أو دنيئاً، أو غير لائق، أو مبهرجاً، أو مقبولاً، أو جيداً، أو لطيفاً، أو مثيراً، أو رائعاً، أو مدهشاً، أو مثيراً للمشاعر بشكل آخر، فمواقفنا وتقييماتنا تحتاج دوما إلى الشرح والتبرير.

الأخلاق الشكلية والأخلاق الموضوعية

تتميز أخلاق الشكل أو الصورة Formal ethics عن أخلاق الموضوع objective ethics ، الأولى مجالها القيم الأخلاقية للأفعال والأشخاص، بينما تربط الثانية قيمة الشخص بنتائجه العملية، ولذلك يسميها كانط أخلاق نجاح ethics of success ، ويعرف كانط الأخلاق الصورية بأنّها الأخلاق التي تسترشد بقواعد الأخلاق التي يعرفها العقل العملي وهي قواعد صورية أو شكلية.

وفي مقابل أخلاق كانط الصورية قامت أخلاق الموضوع، بدعوى أنّه لا يمكن أن توجد أخلاق من دون موضوع. وتميزت في أخلاق الموضوع عدة نزعات، أولها: نزعات أصحاب فلسفة القيم وعلى رأسهم ماكس شيلر، الذي يرى أنّ القيم مُثل عليا وانفعالات من الإنسان نحو غايات يصنعها بحرية، وعرف القيمة بأنّها ما يجب فعله؛ وثانيها: نزعة أصحاب الأخلاق الوضعية، وهؤلاء تتوزعهم علوم البيولوجيا والنفس والاجتماع. ويرى البيولوجيون، وعلى رأسهم سبنسر، أن الأخلاق يجب أن تحترم دورة حياة الإنسان الفسيولوجية، وأن تقرر المفيد للإنسان علميًا وتبتعد عن الأحلام والتهاويل. يذهب الاجتماعيون، وعلى رأسهم دوركايم، إلى أنّ الأخلاق وقائع اجتماعية يمكن ملاحظتها ووصفها كالوقائع الفيزيائية، وبذلك يمكن إقامة علم أخلاق

ص: 25

يسميه بريل «علم الأعراف science of mores» . ويرى النفسانيون أن الأخلاق أفعال منعكسة شرطية تكونت بفعل التربية ، وأن الالتزامات الخارجية منشؤها الضغوط الوراثية والوالدية التي تشكل ما يسمى بالأنا الأعلى، ودوره الأساسي قمع الدوافع الغريزية، ويمثل الماضي أو الأخلاق المغلقة، بينما يمثل الأنا الصيرورة أو الأخلاق المفتوحة (1).

ولا توجد القيم الأخلاقية مستقلة فلا بد لها من حوامل، لكن إدراكها لا يتوقف على وجود الحوامل، وفي الإمكان أن نتحدث عن عالم من القيم كما تحدث أفلاطون عن عالم من المثل، فالإنسان يدرك القيم الأخلاقية بنوع من الرؤية الباطنة، كما في إدراكه للمعاني الكلية، وهو ما يفسر إدراكها من قبل الطفل والبالغ والجاهل والمثقف. وتتضارب آراء الفلاسفة في نشأتها، فمنهم من يرجعها إلى مصادر خارج الإنسان إلهية أو اجتماعية ومنهم من يقصرها على الإنسان دون سواه، فالإلهيون أو اللاهونيون يقولون بالأخلاق اللاهوتية theological ethics وينسبونها إلى مصدر واحد هو الله، ومن هؤلاء نفرٌ يقررون أنّ مصدر القيم هو الإنسان، ولكنه لا يدركها لا بتأثير علاقته الروحية بالله، وأنّ الله قد جعل الخير والشر في طبائع الأشياء ليدركها العقل، فما يراه فيها العقل من خير أو شر هو ما فطرها الله عليه وعلى رأس هؤلاء کیر کجارد.

ويغلب على الفلاسفة القول بأنّ الإنسان هو واضع القيم الأخلاقية، وعلى رأس هؤلاء نيتشه، وكان يرى أنّ الفعل الأخلاقي لا يصدر إلّا ممن في استطاعته اتيانه، لأنّه فعل مسؤول وصادر عن ارادة حرة، ومن ثم فأصحاب القيم الأخلاقية هم الأقوياء الأعلون بنفوسهم. أمّا العبيد والمستضعفون فهؤلاء لهم أخلاق العبيد، وهي أخلاقُ من الاتضاع والزهد والمسكنة والتضحية فضائل .

أربعة مبادئ لفهم المصطلح

في مرحلة متأخرة من الأبحاث حول فلسفة الأخلاق ينطلق الفيلسوف الاسكتلندي ألسدير ماكنتاي من أربعة مبادئ وهو يؤسس نقدياً لما يسميه زمن ما بعد الفضيلة.

ص: 26


1- عبد المنعم الحفني موسوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الأول ، مكتبة مدبولي القاهرة، 1999، ص 108

وهذه المبادئ تبدأ من زمن أرسطو إلى أزمنة ما بعد الحداثة. وهي على الشكل التالي:

- المبدأ الأول مبدأ سوسيولوجي مفاده أنّ المجتمع قبل الفرد، فالمجتمع يحتل مرتبة الأولوية في الواقع وفي الاعتبار، في حين يحتل الفرد المرتبة الثانوية.

- المبدأ الثاني مبدأ تاريخي وقد عنى أن الأخلاق تابعة للتاريخ أو لها علاقة بالتاريخ، فضائلها تتغير من زمن إلى زمن. فليس هناك فضائل أخلاقية مطلقة.

-المبدأ الثالث مبدأ غائي (Telos) أي إن للفضائل غايات ترمي إليها وليست بالأمور الاعتباطية المتروكة للفرد أو الأفراد ونزواتهم وتقلّباتها.

المبدأ الرابع مبدأ أخلاقي، وبالمعنى الدقيق، ومفاده، مصلحة المجتمع فوق كل مصلحة، وهو مبدأ أرسطو .

شكلت هذه المبادئ ما يشبه المطرقة النيتشوية التي نزل بها ماكنتاير على الفلسفات الفردية من أولها إلى آخرها، وبخاصة بعد إخفاق مشروع عصر التنوير (The Enligtenment) أيّما إخفاق، فحطمها تحطيماً. وفي هذا السياق يذكر المختصون على سبيل المثال لا الحصر، مذهب المنفعة (Utilitarianism) الذي وضعه جيرمي بنتام (Jeremy Bentham) والذي قال بالسعادة الكبرى للعدد الأكبر في كتابه: مبادئ الأخلاق والتشريع قاصداً العدد الأكبر من الأفراد. كما أذكر مذهب الفيلسوف الألماني كانط الذي قال بالواجب المطلق أو الأمر الأخلاقي المطلق الذي يجب أن يلتزم به الفرد. (1)

ولقد انقسم الفلاسفة بشأن وجود القيم إلى فريقين فريق الواقعين (ethical realism) الذين يقرون أنّ للقيم موضوعيّة ووجودًا ماديًا كوجود الكليات، وفريق الذاتيين (subjectivism ethical) الذين ينكرون أن يكون للقيم أي وجود موضوعي،

ص: 27


1- ألسدير ماكنتاي بعد الفضيلة، بحث في النظرية الأخلاقية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2013 أنظر : مقدمة المترجم حيدر حاج اسماعيل ، ص 18

ولا ينسبون إليها الّا وجودا ذاتيًا. وكان أفلاون من أنصار الفريق الأول حيث جعل للمثل عالماً بذاته على رأسه الخير ، وهذه المثل ليست تصورات ذهنية، أي موجودة ،الذهن، ولكنها موجودات حقيقية وإن اختلف وجودها عن الوجود المادي للأشياء. ومن أنصاره في العصر الحديث نيقولا هارتمن، ويجعل لها وجوداً ندركه ادراكا وجدانياً مباشراً بالحدث، إلّا أنّه وجود ذاتي مثالي، حيث القيم الأخلاقية ترتبط بالذوات التي تحملها، وقيم الأشياء، ولا يرتبط السلوك الأخلاقي إلّا بالأشخاص، لأنّه لا يندر عليه إلّا الذوات التي لها إرادة وتفعل في حرية، وتترسم الغايات والمقاصد. ولا ينبغي أن نفهم أنّ هارتمن يقول بقيم نسبية، فالشجاعة عنده لا تتوقف على الشجاع، بل إنّ الشجاع صار شجاعاً لأنّه قد امتلأ بالشجاعة، ولذلك إنّ هارتمن من القائلين بالوجود المادي (material essence) للقيم الأخلاقية (1).

ومن جهة مبادئ الحياة الأخلاقية ينقسم الأخلاقيون إلى مذاهب شتى، أهمها المذهب العقلي في الأخلاق ethical rationalism كما هو عند سبينوزا وكانط مثلاً، وهؤلاء يستندون إلى العقل في تقرير الخير وقواعد السلوك؛ والمذهب الطبيعي في الأخلاق ethical naturalism ويحدد أصحابه معنى الخير بمفهوم طبيعي، فهو كل ما يؤدي إلى لذة (أبيقور وبنتام) أو إلى منفعة الناس (مل)؛ ومذهب العاطفة في الأخلاق ethics of sympathy (آدم سميث وشوبنهاور).

ويمجد أصحابه العاطفة سواء على صورتها الحيوية، أو على صورة التعاطف والمحبة، ويجعلون أساس الأخلاق ما نستحسنه أو نميل إليه؛ ومذهب الإرادة الأخلاقية ethical voluntarism (نيتشه) ويصف القائلون به الخير: بأنّه كل ما يعلي الإنسان شعوره بالقوة وإرادة القوة، والشر بأنّه كل ما يصدر عن ضعف، والحياة بأنّها نمو وزيادة في الاقتناء، ومن ثم فهي إرادة قوة (2).

ص: 28


1- الموسوعة المصدر السابق، ص 109
2- المصدر نفسه، ص 107

أخلاق الاستحسان Approbation of Ethics

مجموعة من النظريات المثالية في الأخلاق تقوم على فكرة أنّ الصواب هو ما يستحسنه المجتمع أو الدين أو الضمير. ويصف ليفي بريل الضمير الفردي والاجتماعي بأنّه مجموعة من العادات والأعراف التي تستحسنها المجتمعات خلال عملية تطورها التاريخي، ومن ثم يسميها وقائع اجتماعية، ويبنى عليها علماً يسميه علم الأعراف science of mores أو علم الآيين وتدور النظريات الدينية في الأخلاق عند بارت ونايبور وغيرهما على فكرة أنّ الله أعلم بصالح عباده، ومن ثم فإنّ ما يأمر به الله كان واجب الفعل، لأن مصدره الله، فيه صالح البشر. غير أنّ النوع الثالث من نظريات الاستحسان يجعل الإنسان نفسه هو مصدر الإلزام الخلقي بمجموعة من الأفكار تسمى نظريات الحس الخلقي moral sense theories تقول بوجود حس أو إحساس خلقي في الإنسان حيث تسعده أفعاله التي تتوجه إلى الخير العام، وتصرفه عن متابعة اللذة إلى ممارسة الواجب الاجتماعي. وفسر شافتسبري بهذا الحس الأخلاقي إعجابنا بالتضحية بذواتنا من دون طمع في مكافأة، أو خوف من عقاب. وأطلق جوزيف بتلر (1692 - 1752) على هذا الحس الأخلاقي اسم الضمير، وهو هنا ضمير فردي وليس ضميراً اجتماعياً، ووصفه بأنّه حدس الواجب intuition of duty ، وجعله المصدر السيكولوجي للأخلاق. وردّ آدم سميث (1723 - 1790) - الأخلاق في التحليل النهائي إلى مصدر واحد هو التعاطف مع الناس، ومن ثم أطلق على هذا الضرب من الأخلاق اسم أخلاق التعاطف ethics of sympathy. ودورها ديفيد هيوم (1711 – 1776) إلى أخلاق الاستحسان، حيث قال بوجود عاطفة استحسان sentiment of approbation، ووصف الصواب بأنه ما نستحسنه وما يعطينا اللذة العاجلة أو ما يؤدي إلى لذة آجلة، ووصف الفضائل بأنّها ما يجعل الإنسان مقبولاً أو مفيداً لنفسه وللآخرين. وكان آدم سميث يشترط أن لا يترك لكل شخص على حدة أمر البت فيما يجوز وما لا يجوز، وإلا كان ما نستحسنه مسألة شخصية، وعلى ذلك افترض شخصية مثالية كان يتمنى لو توجد ونسب إليها ما يمكن أن يحظى باستحسان الجميع، وقامت على هذه الشخصية المفترضة مجموعة

ص: 29

من الأفكار سُميت بنظريات المراقب المثالي ideal observer theories في الأخلاق. وبالرغم من أنّ هذه النظريات تحاول أن تنسب الأخلاق إلى مصدر موضوعي، إلّا أنّها تظل مع ذلك ذاتية الطابع، وإن كانت لا تعد من نظريات النزعة الذاتية الخاصة في الأخلاق ethical subjectivism. (1).

مهما يكن من أمر، فقد احتل مفهوم الأخلاق في عصر ما بعد الحداثة موقعه المتجدد في عالم المفاهيم. حيث يأخذ النقاش في الغرب مساحات واسعة وخصوصاً لجهة إعادة تعريف ماهية الأخلاق في ضوء التحولات التي يشهدها العالم المعاصر.

ص: 30


1- الموسوعة - المصدر نفسه - ص 111

فلسفة القيمة .. معناها ودلالاتها من سقراط إلى أزمنة الحداثة

جميل قاسم (1)

ترجع فلسفة أو علم القيم (القيمة) أو نظرية القيم إلى كلمة أكسيوس axios اليونانية، وتدل على ما هو «قيم» أو «ثمين» أو «جديد»، والإكسيولوجيا axiology هو العلم الذي يبحث في ما هو «قيم» و «ثمين» و «جديد»، وتكون الفلسفة المتصلة به فلسفة القيم values Philosophy of أو نظرية القيم، أو القيمة.

ويعرّف العلامة المصري عادل العوا القيمة بأنّها «كل ما له شأو في التصور وفي الفعل لدى أفراد وجماعات»(2). وكلمة شأو، باللغة العربية، تعني القيمة «الجدارة»، «الكمال» «الوزن» و«السعر» و «القدرة» و«الطاقة». والقيمة، مشتقة من القوام أي «العدل» وحسن الطول، وحسن القامة، وهي تعني في اللغة القدر، وقوم السلعة أي قدّرها، وفي القرآن الكريم (فيها كتب قيمة) (3)، أي مستقيمة، تبين الحق من الباطل على استقراء وبرهان. وقوام كل شيء، ما استقام به، وقوام العيش: عماده، وقوام الجسم: تمامه. والتقويم: عملية التفضيل والترجيح، والشيء الراجح، في اللغة العربية، هو الوازن، والتفاضل بين القوم هو أن يكون بعضهم أفضل من بعض (4).

ص: 31


1- أستاذ الفلسفة وعلم الجمال في الجامعة اللبنانية، مؤدى هذا البحث الوقوف على فلسفة القيمة من خلال التعريف الاصطلاحي واللغوي وكذلك من خلال موقعها في الحقل المعرفي الغربي. ثم ينتقل إلى عرض السجال الذي دار حولها من زاوية نقديّة تبدأ من التأسيس الإغريقي لفلسفة الأخلاق وصولاً إلى أزمنة الحداثة وما بعدها. المحرر
2- العوا، عادل العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس، دمشق 1986، ص42
3- سورة البينة، الآية 3
4- ابن منظور، لسان العرب مادة، قيمة، رجّح، فضّل

والقيمة عند فردريك نيتشه تعني جينالوجية القيمة أي تقييم القيمة، أو إعادة تقييم القيمة، بحثاً عن بعدها الدلالي، لا العباري وحسب.

والقيمة في الفكر الحديث طراز من التفكير الفلسفي يراد تسميته بصيغة علم مستحدث تدل عليه كلمة إكسيولوجيا axiologie .

رأى لولي لافيل Lavelle)، «إننا نشعر أحياناً بأنّ مشكلة القيمة مشكلة جديدة، ولكن ليس من جديد سوى الاسم، وفي أيامنا في وسعنا إقامة علم مستقل نطلق عليه اسم الأكسيولوجيا» (1).

أما العوّا فيذهب إلى القول: «إن مفهوم القيمة هو نشاط ذهني يتصور أمراً ذا شأن ويسميه قيمة، وهذا التصور الفكري متصل أشد الاتصال بالفعل، وما الفعل الواعي إلّا استبصار واختيار، ونحن ما أن نتخذ قرارا بتفضيل إمكان على إمكان حتى يتم صنع الفكر ، أي : صنع اختيار القيمة وتحديدها(2) ، وإذا رجعنا إلى الاشتقاق اللغوي لهذا الاسم «أكسيولوجيا» في أصله الإغريقي لوجدناه يدل على ما هو «ثمين» أو جدير بالثقة، وهذا يعني أن الإكسيولوجيا علم يبحث في ما هو ثمنين بتقدير قيمته، وتكون الفلسفة المتصلة به فلسفة قيم أو نظرية قيم. ويضيف: إنّ الفكر ليطرح مشكلة القيمة منذ أن يتساءل عن شأن الوجود وقيمته (3).

إن كل نظرة ممعنة في تاريخ الفكر الفلسفي توضح أن كل فلسفة تنطوي على مسعى قيمي ولكن مشكلة القيمة لم تطرح بصورة منعزلة عن سواها إلّا في العصر الحديث، حين حرص الباحثون على استغلال مشكلة القيمة دون سائر المشكلات الفلسفية والميتافيزيائية المحضة، بل والنظر إلى هذه المشكلات الميتافيزيائة ذاتها من وجهة نظر قيمية.

كذلك لم ينفكّ الباحثون عن مسعاهم للإحاطة بمشكلة القيمة في علاقتها بالحاجات الإنسانية، سواء اتصلت بمجال الحياة الاقتصادية، أو العاطفية، أو

ص: 32


1- العوا، مرجع سابق ص44
2- العوا العمدة، مرجع سابق، ص 44
3- العوا، العمدة، مرجع سابق، ص 45

العقلية، أو الأخلاقية، أو الروحية، أو السياسية أو التربوية أو الفنية.

إن ذيوع أفهوم الإكسيولوجيا، اليوم، يتيح لنا القول «في البدء كانت القيمة»، وهكذا ما فتئت الفلسفة تنزل القيمة منزلة الصدارة من حيث اهتمامها الفعلي، وإن كان علم الإكسيولوجيا حديثاً، كعلم للقيمة(1).

ولأن الفلاسفة أخذوا يقربون الكائن من الكمال، وبدا البحث في قرب الكائن من الكمال أو بعده عنه منطلق تفاؤل أو تشاؤوم.

وكان كمال الكائن فى نظر أرسطو يتمثل فى «صورته» فى علاقة المادة بالصورة، وهذه الصورة تسوغ وجود الكائن أي هو أمرٌ يجعل الشيء مرغوباً به أو مراراً.

والكمال، في هذا المعنى، خاصة حيادية، أو حال إنجاز، وترجيح وتفضيل.

والثابت أن الفلسفات الكبرى، تتكشف عن أنّها فلسفات قيمة ما دامت تدّعي تقديم قواعد للفكر ذاته وقواعد للعمل والسلوك، وتقيم تسلسلاً قيمياً بين مختلف أشكال الكائن، كما أنّها تسعى لإقامة هذا التسلسل القيمي على مستوى الحكمة، أي الفعل التأملي المسؤول.

وتنفرد فلسفة القيم والتفكير القيمي بإتاحة الفرصة أمام العقل الإنساني، كيما يضفي على الحياة والوجود معنى قيمياً.

وقد شبه شارل لالو ch. lalo دور القيمة في الفكر الحديث بفكرة «الطاقة» أو فكرة «القوة» في العلم الحديث (2).

والقوة بالمعنى النيتشوي، هي إرادة القوة المقومة للأشياء والموضوعات، وهي قوة أو طاقة جينالوجية (تقويمية) يتعذر تحديدها كقوة، أو طاقة، إلاّ من خلال ظواهريتها (الظواهر ذاتها) أي من حيث تأثيرها في نشاط الأفراد، والجماعات، في تطورها التاريخي والانطولوجي.

والقيمة هي قوة وطاقة استحضار واستبصار خلاقة، أي خالقة للقيم.

ص: 33


1- العوا، العمدة، مرجع سابق، ص45
2- شارل للالو، الفن والأخلاق، ترجمة د. عادل العوا، دمشق، 1970، ص 120

ويذهب ريمون رويه Ruyer .R إلى أن القيمة هي التي تفسر القوى المرئية (واللامرئية) (1).

نشأة فلسفة القيم:

يمكن الكلام على ثلاث مراحل كبرى في تطور الفكر البشري. وهذه المراحل تطابق ثالوث أقسام التاريخ السياسي المدرسية وهي : «العصر القديم» وينتهي بنشأة الفكر الفلسفي في اليونان وقد كانت نهايته في العام ،529م ، عندما أغلق الإمبراطور جوستيبان مدرسة أثينا وشتت شمل ممثلي المذهب الأفلاطوني - الجديد، ثم رحلة «العصر الوسيط ويليها «عصر النهضة» وفيه ازدهرت الفلسفة العربية بوجه خاص، وكان من انتقالها إلى أوروبا الإسهام في نشأة النهضة وتحقق الانبعاث في الغرب، وما تلاه ذلك من تطور فكري ميز «العصر الحديث» في القرن السابع عشر حتى اليوم(2).

أ- العصر اليوناني:

عني الفكر اليوناني بالكائن من حيث هو كائن، وبالوجود من حيث هو موجود، وقد بلغ البحث عن الكائن أوجه في الأفلاطونية التي تنادي بأنّ سبب الوجود هو الخير (أو القيمة) . وتضم فكرة الخير المطلق فكرتي الحق المطلق والجمال المطلق، أمّا الكائنات الأخرى فهي ظلال متفاضلة لهذا الثالوث «الإلهي»(3).

ومقابل أفلاطون «الإلهي» الذي يرى أن المثل الأعلى أو الله، مقياس الأشياء كلها، وهو قيمة القيم. نجد بروتاغوراس «الإنساني» يرى بأنّ «لكل إنسان حقيقته» وبأن للقيمة بذاتها واقعاً ذاتيًا، وليست كامنة في المثل الأعلى. ومن ثمَّ فالإنسان هو معيار كل شيء .

كما يرى أن بروتاغوراس هو أول من تجرّأ على إخضاع الإنسان للحقيقة والقيمة

ص: 34


1- العوا، العمدة، مرجع سابق، ص 50
2- العوا العدة، مرجع سابق، ص 56
3- العوا العمدة، مرجع سابق ص58

باعتباره «مقياس الأشياء كلها» ولكنه يرى بأنّ صيغة بروتاغوراس تحفل بالإبهام (1).

لقد حاول سقراط الوصول إلى ربط القيمة بالمنفعة باعتبار القيمة سمة كلية معيارها الإنسان.

أما أفلاطون فقد اهتم بتعميق محاولة سقراط، من خلال ربط الكائن بالقيمة بالمثل الأخلاقي الأعلى، باعتبار أن جميع الموجودات تستمد وجودها وماهيتها من الخير الأعلى، وهي فضيلة التشبه بالله.

وخلافاً لسابقيه فقد اعتمد أرسطو على ثنائية المادة والصورة بدل ثنائية القيمة والواقع. ورأى أن القيمة متجسدة في الواقع تجسد الصورة في الهيولى وأن تحقق القيمة هو إنتاج الطبيعة ذاتها بذاتها.

عند أرسطو أن للمادة وجودًا بالقوة يصبح وجودًا بالفعل ناجماً عن اجتذاب الصورة المادة. خاصة وأن التسلسل الطبيعي لمختلف صور الوجود ينتهي في التأمل أو الخير ،المحض، أو الكمال، وبه تتحد النفس البشرية بالعقل الإلهي ، وتسهم في حياة الخلود لأن الله سعيد بذاته، وهو في وقت واحد عقل صرف وفعل صرف ويجعل أوستيب القورينائي - متأثراً بتعليم سقراط، من الوجود والخير الأقصى على معيار أو غاية للذة ،الحسية شرط أن تكون اللذة فاضلة.

وقد انازت فلسفة ابيقور النظرية باعتبارها اللذة التي تقوم على الحكمة، والحكمة اقتصادًا في اللذة أو لذة فاضلة. وشهدت النزعة الحسية أوج تطرفها مع الديونيسية الغريزية التي تعدّ اللذة لذة جسدية، وذوقية كلية: خمر، ومال وجنس (النزعة الكلبية - السوقية Cinique التي تقوم على إشباع الغرائز الحسية.

و في الفترة الهلينتسية حاول افلوطين التوفيق في نظريته للواحد، بين اليونان والمسيحية فرأى أن القيمة هي ينبوع حياة النفس والمبدأ المشترك بين المعرفة والوجود، بإخضاع الروح للفكر أو المثل الأعلى.

ص: 35


1- العوا العمدة، مرجع سابق ص67

ب - القيمة في العصر الوسيط

لقد شهد العصر الوسيط، المسيحي، إحلال «الشخص» محل الكائن. وفي ظل النظام اللاهوتي أو الديني السائد في العصر الوسيط، صار من المتعذر بلوغ الكائن إلا من حيث صلته بالشخص (الأنا) وخضعت الأنا لتراتبية المنظور اللاهوتي المسيحي، حيث المادة الأدنى، ثم الجسد والروح، المثال الأعلى في ثالوث اللاهوت المقدس، من ذروة الله، إلى حضيض العدم.

أما المسيحية فقد ألحقت على فكرة الإله - الإنسان المجسد الوسيط للقيمة في الوجود، باعتبار أن الله ذاته شخص وأنه يقتضي أن يعيش خلقه كافة حياة شخصية باتحاد معه ولا تكون الحياة سوى الوسط الذي يتم فيه هذا الاتحاد(1). وبناء على إناطة الاتحاد باللطف الإلهي باتت القيمة كلها قيمة دينية. وبهذا تكون قد خرجت عن المفهوم الفلسفي - العقلي للقيمة نحو منظور لاهوتي.

ج- القيمة في العصر الحديث

وفي العصر الحديث (عصر النهضة والأنوار) تنوس فلسفة القيمة بين الوضعية (بيكون) والمثالية العقلية (ديكارت) وتغدو القيمة مماثلة في السيطرة على الطبيعة والواقع في قواعد الفكر والسلوك.

وفي هذا العصر ثار ديكارت على فلسفة العصر الوسيط ورأى أن لا نهائية الكائن وكمال القيمة لا ينفصلان. ولقد ميّز ديكارت بين قرابة خمسة وأربعين لونّا من ألوان الهوى، يمكن إرجاعها إلى ستة أنواع رئيسية : هي الرغبة (الشهوة) اللذة والتألم والدهشة (أو الإعجاب) والحب، والكره. وفي وسع الإرادة أن تغير موضوع الهوى بأنّ تربط بين الأفكار بحيث يتمكن الإنسان من تغلب الأهواء المشروعة، أي أنواع اللذات والرغبات المعتدلة.

ورأى ديكارت أن كل لذة ينبغي أن تقاس بحسب قاعدة العقل ولما كان الخير

ص: 36


1- العوا، العمدة، م، س ، ص 73-74

الأسمى معرفة الحقيقة (أنا أفكر إذن أنا موجود) فإنّ الخير لا يمكن أن يتجلى إلاّ على الوجه العقلي، لأن من كمالنا نملكه. وبأنّ، القيمة تقوم على الذات المفكرة (الكوجيتو).

تخطى باسكال، جفاف العقل الديكارتي ويميز ما يسميه (نظام القلب) في ضمن ثالوث أنظمة هي نظام الأجسام ونظام العقول ونظام الإحسان. يقول باسكال: «إن جميع الأجسام، السماء، والنجوم، والأرض وممالكها، لا تساوي أدنى فكر. لأن الفكر يعم ذلك كله، ويعلم ذاته، والأجسام لا تعلم شيئًا. وأن الأجسام جميعًا، والعقول جميعًا، وجميع ما تنتج ، كل ذلك لا يساوي أدنى حركة من حركات المحبة، فالمحبة ترجع إلى نظام أرقى بما لا نهاية له.

وذهب سبيوزا إلى أن لا نهائية الكائن تستغرق كمال القيمة، بالرغم من أن القيمة تتصل بالحكمة والمعرفة. ورأى بأنّ القيمة هي قيمة مدنية كاملة.

واشتهر ليبنتز بتفاؤله المذهبي، ووجد أن فكرة الأفضل أو الأبدع هي وحدها القادرة على ربط الماهيات بعالم الموجودات.

وإذا كان عالمنا أفضل العوالم فذلك لأنّه ليس في الإمكان مما كان، لأن للقيمة في هذا العالم فاعلية أو فعل دينامي. وقد أكد ليبنتز أن العقل الإلهي عقل الحاسوب الأعظم، الذي يتصور سلفًا الممكنات كلها، وليس لهذا التصور معنى إلّا بالنسبة للاختيار الذي ستقوم به تلك الإرادة المبدعة التي لا تقرر إلا باختيار الأفضل.

وعلى هذا فإنّ ليبنتز يقرر تضامن القيمة والإمكان، في علاقة النسبي بالمطلق في منهجه المونادولوجي الذري المطلق.

تأويلية كانط للقيمة

كانط فيلسوف العقل قال بالعقل الذي هو عقلان نظري وعملي وميز بينهما من حيث الاهتمام والوظيفة والمجال. فعنده أن العقل النظري يتناول شؤون العلم

ص: 37

والمعرفة. أمّا العقل العملي فإنّه يتناول الجانب العملي.

تتجلى وظيفة هذا العقل العملي في توجيه أعمالنا وأفعالنا، ويتم ذلك على نحوين: فإما أن يفيد العقل العملي من معطيات التجربة ويدرك علاقات الحوادث بعضها ببعض بغية استثمار ارتباطها وتعاقبها وتحقيق هدف ما عندما تتوافر شروطه وأسبابه، أو عقل عملي محض ينص على أن القيمة الأخلاقية العليا هي ضرورة إطاعة الواجب لأنّه واجب، وأياً كان مادته، وسواء أكانت هذه المادة سارة أو مؤلمة، وهذا العقل العملي المحض هو في نظر كانط الوجدان الأخلاقي الصحيح، والقيمة الصحيحة.

وقد أبرز كانط مفهومي الجدارة والقيمة كمقومين لفلسفيته الأخلاقية، باعتبار أن جدارة الإنسان وأهميته تمثلان معيار القيمة والأخلاق.

إن مفهوم القيمة لايزم مفهوم الشخص الإنساني، على وفق قاعدة كانطية شهيرة: اعمل دائماً، على نحو تعدّبه الشخص الإنساني في نفسك وفي الآخرين غاية لا واسطة.

واعتبر أن للكائن العاقل كرامة، وهذه الكرامة تميزه عن سائر الكائنات التي ليس لها في ذاتها غاية، كالآلة والحيوان وغيرها من الوسائل، أمّا الكائنات العاقلة فغايتها في ذاتها (1).

وفي مجال الدين يتميز كانط برفضه الادعاء بأنّ الدين أساس الأخلاق وقوله على العكس إن الأخلاق أساس الدين، بل إنّ الدين هو نفسه أخلاقية Moralitat، وهو أمرٌ الذي ناهضته فيما بعد البراغماتية وكان له أثر كبير على تطور القيم وتوظيفها مادياً ومصلحياً.

وقد وافقه هيجل حيث اعتبر الدين قضية ،أخلاقية والقيمة الأخلاقية قيمة عقلية كلية. وقد وحد هيجل العقل بالموجود باعتبار كل موجود معقول، وكل معقول موجود في الجدل الديالكتيكي الكلي.

ص: 38


1- انظر: إيمانويل كانط في كتابيه المرجعين: «نقط العقل المحض» و «نقد العقلي العملي»

وهكذا فقد انبنى التصور الهيجلي على فكرة «الوعي الشقي» الذي تقوم عليه الأخلاق المسيحية اللاهوتية، وهو منظور يقوم على الاستلاب والاغتراب الإنساني.

وإذ يبدو جدل هيجل أساساً للجدل، الذي يقود إلى الفكر المثالي، أو (الروح) فإنّ ماركس، في تبنيه للجدل الهيجلي (جدل الطريحة والنقيضة والجمعية) يرى أن للعالم المادي، وجوداً موضوعياً مستقلاً عن الوعي في ثنائية - وجدلية - الوعي والمادة، أمّا القيمة بالمفهوم الماركسي فهي قيمة اقتصادية، تقوم على العامل الاقتصادي أو القيمة الاقتصادية كمقوم لكل قيمة أخلاقية، وجمالية وحقوقية.

وصفوة القول إن مفهوم القيمة بدا كأنه إعراب عن مثل أعلى إنساني، مختلفاً بذلك عن مفكري العصر القديم، وإذ رأوا أن الفلسفة هي التي تحدد مكانته في إطار النظام الطبيعي، وهو أمرٌ نشأ في اعتقاد هؤلاء بأنّ على المرء أن يحيا بحسب الطبيعة.

ونظر الفكر اليوناني «اللوغرقراطي» إلى الإنسان بما هو موجود، في علاقة العقل بالموجود، والخير بالقيمة، في عالم المثل (أفلاطون) أو عالم المادة والصورة (أرسطو).

و خرج بروتاغوراس على المفهوم الميتافيزيقي باعتبار «الإنسان معيار كل شيء» باعتبار أن لكل امرئ حقيقة.

وحلت الكلمة المسيحية محل اللوغوس الهليني، وتوحد بها، وأصبحت القيمة لاهوتية.

وفي عصر النهضة، وهو الذي يعني «البعث» الإغريقي عاد عصر النهضة إلى مفهوم الإنسان، والعقل (اللوغوس) ليحل نظام أنطولوجي جديد - إنساني، بدل النظام اللاهوتي.

ولم يقل التأثير الكبير الذي أحدثته المسيحية من قبل، في منظور الفكر الفلسفي القديم.

ص: 39

وفي العصر الحديث اكتشف الإنسان تعذر بلوغه الكائن إلّا من حيث علاقته بالأنا (الفاعل) ، ولم يعد الكائن مركز البحث بل المعرفة، وتشوق الفكر الحديث إلى امتلاك الطبيعة والسيطرة عليه، وما فتئ هذا الفكر ينوس في إطار المعرفة بين ضروب الوضعية والمثالية بحسب الحافه التماس الموضوع ، والسيطرة عليه باستثمار معرفة قوانينه، أمّا القيمة فإنّها تتمثل في ممارسة هذه السيطرة، وهي تتحقق بالعمل العقلي في المجال النظري، وبالفعل الأخلاقي في المجال العملي، ويجد الإنسان في فكره ذاته القدرة الخلاقة في السيطرة على الطبيعة قوانينها من قبل أن تملي عليه مشيئتها باستعمالها.

دلالة القيمة ومغزاها

هو إذاً، التطور العام لفكرة القيمة في العصور القديمة والوسطى والحديثة.

ما مغزى ودلالة القيمة : قد يرى بعضهم القيمة في الكمال، أو الجمال، أو الحق، أو الحقيقة، أو الجدة، أو الاستقامة أو الثبات أو الثبوتية، وقد تكون القيمة ذات معنى علمي، كنظرية الجاذبية، أو نظرية التطور، أو نظرية النسبية، فيقال عنها نظريات قيمة ؟ ! ، أو على العكس، فقد تكون القيمة لاهوتية، يقوم فيها مغزى الخير والحق والجمال على أساس ديني (لاهوتي) كمفهوم الدين القيم ، القرآن الكريم (و ذلك دين القيمة) و «فيها كتب قيمة» (البينة، الآية 8) .

وقد يكون للقيمة معنى جمالي (فني) فيقال عن العمل الفني بأنه عمل قيّم كالموناليزا في الرسم، والإهرامات في فن الهندسة، وأبي الهول (السفينكس) في فن النحت، وبرج ايفل في فن العمارة الحديدية، والأعمال الفنية الانطباعية، والتعبيرية، والتكعيبية والتجريدية والتجريبية الخ، أعمالاً قيمة.

وقد تكون القيمة ذات مغزى علمي كاكتشاف علم الميكانيكا، والثورة المعلوماتية، وعلم الجينوم، ويقال عن هذه الاكتشافات بأنّها قيمة.

وقد يكون للاقتصاد دور في ترسيخ القيمة ،والمعنى كنظريات التبادل، والإنتاج والتوزيع والتراكم وفائض القيمة ورأس المال فيقال عن هذه المصطلحات بأنه

ص: 40

مفاهيم قيمة لا نعلم من دونها دورة الحياة الاقتصادية الحديثة والمعاصرة.

وقد يكون للقيمة معنى سياسي، كتعريف أرسطو لأنظمة الحكم، الملكية، والديمقراطية، والبلوتوقراطية، والأوليغارشية في علم السياسة، ويقال عن هذه النظريات بأنّها قيّمة وهامة.

وقد يكون ثمة استعمال سيكولوجي للقيمة، فيقال أن نظرية «اللاوعي» الفرويدية قد أحدثت قطيعة أبستمولوجية في مجال القيمة السيكولوجية، وقد يضاف بأنّ نظريات علم النفس الفردي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الشكل الكلي (الجشطالت) هي نظريات قيمة وهامة.

وقد تضاف القيمة إلى كل إنجاز علمي، ورياضي وفولكوري، وانتربولوجي الخ.

وترتبط القيمة أيضاً بالأخلاق، تبعاً لاستخدام لفظ القيمة في محال فلسفة «الخير» في علاقة فلسفة القيمة بالحاجات الإنسانية والميول، والرغبات، والأمنيات، والخلاص والدين والدينونة والوجود في العالم والعالم الآخر، سواء اتصلت بالحياة والموت والاقتصاد والاعتقاد، والشؤون الروحية والسياسية والتربوية والجمالية.

وتتجلى فلسفة القيم على نحو «ذاتي» على صفة ما يقدره إنسان ما (قيمة ذاتية) أو نحو اجتماعي، أو جماعي، أو قانوني (قيمة موضوعية).

القيمة الذاتية يطلبها الناس كوسيلة لتحقيق غاية ذاتية، باختلاف الأفراد، وحاجاتهم، واختلاف الفئات الثقافية والطبقية، فقيمة السيارة مرهونة بما تؤديه من خدمات، لكن نوع و (موديل) السيارة، وثمنها قد تؤشر إلى قيمة خارجية «تدل على الغنى والموقع الاجتماعي، والطبقة الاجتماعية.

أما القيمة الموضوعية، فلا تتحدد بزمان ولا مكان ولا درجة أو طبقة، أو غني أو فقير، كالموت والحياة، والعلم، والارتقاء، والتطور، والعقل، وهنا قد يكون الفقير

ص: 41

بالمال غنياً بالعلم، كقيمة، وقد يكون الوضيع بالحسب والنسب عالماً ورائداً في العالم، وقد يكون الأمي رياضياً فذّاً (الملك بيليه في كرة القدم) وقد يكون العبد فارساً، وشاعراً مفوّهاً (عنترة) وقد يكون الأعمى أديباً (أبو العلاء، طه حسين).

والقيمة رغم ذلك، ليست بديهية، وقد رأى نيتشه في العصر الحديث أن القيمة تفاضلية (في ما يتعدى الخير والشر) تقوم على الرغبة، وإرادة القوة والسيادة والعبودية (أخلاقية الأسياد وأخلاقية العبيد).

وحتى بالمعنى السيكولوجي فإنّ القيم ترتبط بالعقل، والرغبة، والذوق والغريزة. وعلى سبيل المثال، فأنواع الطعام والرداء، واللحن والموسيقى ليست متطابقة، بل متفاضلة differencial فقد يكون لها قيمة عند فرد، ولا يكون لها القيمة ذاتها عند فرد آخر، وقد تثير الاشمئزاز والكراهية عند فرد ثالث من هنا الاختلاف باختلاف الأفراد، والجماعات والزمان والمكان والظروف والأحوال، مما يؤكد على الطابع النسبي للقيمة، وقد يكون للقيمة معنى حدّي hedomic كما يقول سبينوزا بهذا الصدد «نحن لا نرغب في شيء لأنّه قيم، بل إنّه قيم لأننا نرغب فيه».

ویریى رينيه جيرار أن المحاكاة بين البشر تقوم على الرغبة بالاستحواذ على «الملكية» وهذه الرغبة من طبيعة نزاعية تقوم على الرغبة بالاستحواذ على ما يملكه الآخر بنوع من الهيمنة والتسلط والحسد والغيرة، والرغبة بتحقيق الذات التيمولوجية (التيموس)، وهي تأخذ شكلين سلبي وإيجابي (تحقيق الذات، بالمعنى الإيجابي، وتحقيق الذات من أجل الهيمنة على الذوات الأخرى، بالمعنى السلبي) (1).

وقد يعتقد المرء بأنّ القيم كونية، بدأت مع شريعة حمورابي، مروراً بأديان التوحيد الكبرى التي تنص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبغي (لا تقتل، ولا تزن لا تسرق لا تعامل الآخرين بما لا تحب أن يعاملوك به، التقوى الإيمان، ولكن العصر الحديث في الغرب يعد القيم وجودية (لا دينية ولاهوتية) وتقدم الوجودية الذات والذاتية الإنسانية على الذات والذاتية الإلهية

ص: 42


1- انظر: رينيه جيرار، المقدس والعنف، دار الحصاد، ط1، دمشق، 2002، ص 75

(في فصل الوجود عن الماهية واعتبار الإنسان معيار ومناط القيمة والمعنى (فلسفة الإنسان الأعلى).

والقيم المرادفة للوجودية في العصر الحديث هي القيم الليبرالية، القائمة على مفهوم الحرية والمنفعة والمصلحة بالمعنى الاقتصادي، ويقابلها الاشتراكية، كنظرية تؤكد على أن المنفعة والمصلحة بالمعنى الاقتصادي ينبغي أن تكون اجتماعية (اشتراكية) وليست فردية.

وثمة معان موضوعية للقيمة، بالمعنى القانوني والحقوقي، وهي معان ضرورية، ودائمة (ولكنها قابلة للتعديل) تتخطى الأهواء الفردية ولا تتبدل بتبدل الأهواء والرغبات الذاتية.

وفي هذا الإطار يرى برتراند راسل أن عمومية القيم تعني الذاتية والموضوعية في آن معاً، فالقيم ذاتية من حيث هي صادرة عن الذات (الإنسانية) وموضوعية من حيث أنّها ملتقى الناس جمعياً، في علاقة الواقع بالمثل الأعلى.

طبيعة وتصنيف القيم:

وتصنف القيم، على الجملة إلى :

قيم نظرية، تقوم على نظرية المعرفة والحقيقة - لذاتها (على أساس ميتافيزيقي، وأنطولوجي، ومنطقي) كالقول بأنّ الخير هو العدل، أو الكمال، أو الاستقامة).

قيم مثالية: كالقول مع أفلاطون بأنّ القيمة العليا هي مثال المثل أو القول بأنّ القيمة الأخلاقية مناطها الفضيلة، وتعرف بما ينبغي عمله بناء على الوازع (العقلي) وهو موقف أرسطو في مؤلفه الأخلاق «إلى نيقوماخوس» وكتاب «السياسة».

وقد تقوم القيمة في العصور القيمة الحديثة على العمل (ماركس وماكس فيبر) أو الإرادة (نيتشه) أو المعرفة (العلم) أو القيمة الجمالية، وهو موقف يرى بناء على أسس جمالية وفنية مناطها حاسة الذوق الجمالية وهو موضوع تفاضلي بامتياز، أو

ص: 43

القيمة الدينية واللاهوتية، وهو يرى الذي يرى بأنّ معيار الخير والحق والجمال هو الله، والتقوى، والإيمان بالله، والخلص الروحي، والثواب والعقاب، واليوم الآخر والقيامة الخ.

ولا ننسى البيئة، والفلسفة الأيكولوجية، التي تعد الحفاظ على البيئة والمجال الحيوي غاية الأخلاق.

وأخيراً - لا آخراً - الفلسفة النباتية، التي تجد أن أصل الشر في العنف - ضد الإنسان والحيوان، وأن سقوط الإنسان في العالم Direlection بدأ مع تراجيدية القتل الأخوي Fratricide (قابيل وهابيل) وتحول الإنسان، بسقوطه في العالم مع الطبيعة الملائكية إلى الطبيعة الحيوانية، وأن العودة إلى الأخلاق المثلى (الطبيعية) تكون بعودة الإنسان النباتي (أصلاً) إلى الطبيعة وتحوله إلى إنسان أعلى - أو إنسان كامل (ملائكي) في تخلّصه من عادة سفك الدماء واعتماد النظام الغذائي الطبيعي، والصحي، النباتية.

ص: 44

الأخلاق المِعياريّة

سبيلٌ لم يُطرق في مجال البحوث الأخلاقيّة الإسلاميّة

تأليف محمد مطهّري فريماني (1)

تعريب (دار الترجمة الأمير محمد جمعة (2))

الخلاصة

هناك طريقٌ لم يُطرق بعدُ في مجال البحوث الأخلاقيّة، ولهذا الطريق آثارٌ عميقةً في تصرّفات الفرد، ويمُكن أن يُسمّى هذا الطريق ب_«الأخلاق المعياريّة» الذي لا نجد شيئًا عنه في ميراثنا الأخلاقي سوى بعض الإشارات، وتسعى الأخلاق المعياريّة لأن تضع بين يدي الفرد «تقريرًا أخلاقيّاً فِعليّاً عنه» ، وأن تُوفّر له المعايير التي يتمكّن بمساعدتها من اختبار نفسه فيرى أنّه يمتلك مثلاً خُلقًا حسنًا كالصدق أو أنّه بريءٌ من خُلقٌ سيءٍ كالحسد، ولا تكتفي بذلك وحسب بل تجعله مُطّلعاً على وضعه الأخلاقي العامّ والكلّي أيضًا، وبعض آيات القرآن وكذلك الروايات تلفتُ نظر الإنسان إلى الأمور الأخلاقيّة من هذا الاتجاه، ولكن مع ذلك نجد بأنّه لم يكن هناك تركيزٌ على الأخلاق المعياريّة كفرعٍ مستقل في الأخلاق، ويسعى هذا البحث إلى تبيين منزلة الأخلاق المعياريّة وخصائصها والتحدّيات التي يواجهها البحث في هذا الباب.

الكلمات المفتاحيّة : الأخلاق الإسلاميّة، الأخلاق المعياريّة، التقرير الأخلاقي، الفضائل النفسيّة، الرذائل النفسيّة.

ص: 45


1- أستاذٌ مساعدٌ في مؤسّسة الإمام الخميني (ره) للتعليم والأبحاث. muhammadmotahari@gmail.com
2- أستاذٌ في الحوزة العلميّة في قمّ، حائزٌ على ليسانس في الحقوق من الجامعة اللبنانيّة

مُقدّمة

قلّما يصرف شخصٌ وقته في المطالعة الدقيقة للإرث الأخلاقي الإسلامي المكتوب، ومع ذلك لا يُبدي إعجابه بالأمور الدقيقة والعميقة التي فيه، ومع ذلك نرى بأنّ هناك حلقةً مفقودةً تُقلّل من أثر هذه البُحوث الأخلاقيّة، بحيث لو وُجدت لأمكنها أن تُشكّل حلقة وصلٍ قريبة بين المحتوى الصافي للكتب الأخلاقيّة وبين المتلهّفين لامتلاك القدرة الفعّالة لذلك الإرث القيّم، وإذا لم تتوفّر هذه الحلقة لإيصال هذا الماء الزلال إلى المتعطّشين للأخلاق الإلهيّة في المجتمع الفكري، فهناك أشخاصٌ عديدون سيذهبون وراء الأخلاق التي هي من صُنع أنفسهم ولا أساس لها، وستتكرّر قصّة الماء الملوّث كما يصطلح عليه العرفان الحديث النشأة - والذي جذب إليه باسم العرفان الأصيل عددا من الشباب - وسيتكرّر ذلك في باب الأخلاق أيضًا.

ويمُكن أن تُسمّى هذه الحلقة المفقودة - أو بتعبيرٍ آخر : الطريقُ غير المطروقة في البحوث الأخلاقيّة - «الأخلاق المعياريّة»، تلك الأخلاق التي تُبرز الوضع الأخلاقي الفعلي لأيّ فردٍ من خلال توفير المعايير ، ويمُكن استلهام هذه النظرة المعياريّة في الأخلاق - كما سنستدلّ على ذلك لاحقًا - من القرآن وروايات المعصومين عليهم السلام، ورغم أنّ بحث المعيار قد طُرح في مواطن مختلفة في فلسفة الأخلاق، ومن ضمنها في البحث عن معيار الفعل الأخلاقي، إلّا أنّ «الأخلاق المعياريّة» الذي تسعى هذه المقالة إلى بيانه له ماهيّةٌ مختلفة.

من خلال هذه المقدّمة، سيتّضح الشوط أو الأشواط التي ينبغي لهذه المقالة أن تقطعها من أجل أن تُثبت المدّعى بل الدعاوى التي ليست بصغيرة، فسنوضّح في البداية وبنحوٍ مجملٍ المراد من «الأخلاق المعياريّة»، ثمّ سنبحث لماذا لم تحز الأخلاق المعياريّة على تركيز علماء الأخلاق بنحوٍ مستقلٍّ، وفي الخطوة التالية، سنتعرّض لأهميّة المنهج المعياري، وسنُشير إلى عناية القرآن وبعض الأحاديث بهذا المنهج، وبعد الفراغ من القسم الأوّل الذي خُصّص لتعريف الأخلاق المعياريّة ومنزلته، سننتقل إلى القسم الثاني، حيث سنتعرّض هناك إلى التحدّيات التي تواجه

ص: 46

الأخلاق المعياريّة، وفي هذا القسم سنبحث في الإشكالات التي يمُكن أن تُطرح حول كلِّ من إمكانيّة الأخلاق المعياريّة ومطلوبيّتها وضرورتها . أمّا الآن فسنبدأ بحثنا عن ماهيّة الأخلاق المعياريّة.

القسم الأوّل: ماهيّة الأخلاق المعياريّة ومنزلتها

1. ماهيّة الأخلاق المعياريّة

عند مطالعة كتب الأخلاق الإسلاميّة، يُواجه القارئ مراراً وتكرارًا المواضيع التي من قبيل: «تعريف الأخلاق» و«شرفُ عِلم الأخلاق» و«فائدة الأخلاق» و«أنواع الفضائل والرذائل والمقارنة بينها» و «مراتب الفضائل والرذائل» و«كيفية التخلّص من الرذائل والتحلّي بالفضائل» و «السبيل لحفظ الاعتدال في السلوك الأخلاقي».

ولم يكن هناك موضوعٌ تم التركيز عليه والاهتمام به في الكتب الأخلاقيّة(1) مثلما حصل بالنسبة لموضوع الفضائل والرذائل النفسانيّة، وطبعاً نحن لا نتوقّع من هذه الكتب غير ذلك؛ لأنّه: أوّلاً: الأخلاق جمع «خُلُق»، وعلماء الأخلاق يُفسّرون الخُلق بالمَلكة النفسانيّة (الفضيلة والرذيلة). ثانيًا : الهدف من تأليف الكتب الأخلاقيّة هو اكتساب الأخلاق الحسنة، ورفع الأخلاق السيئة، وقد بيّن علماء الأخلاق هذه الفكرة بعباراتٍ مختلفةٍ(2) ، ومن الطبيعي فإنّ الخطوة الأولى لاكتساب الفضائل وإزالة الرذائل - أو على الأقل إحدى الخطوات الأولى - هي أن يطّلع الإنسان على حالته ووضعه من ناحية فضائله ورذائله، وقد اهتمّ علماء الأخلاق وبأنحاء مختلفة بأصل هذه المسألة، يعني بضرورة اطلاع الإنسان على حاله من حيث ما لديه من فضائل ورذائل، ولكن كما سنرى لاحقاً، رغم أنّنا وللوهلة الأولى نجد في كتب الأخلاق أنّهم

ص: 47


1- من الواضح أنّ المقصود هو كتب الأخلاق في العالم الإسلامي، ولذا ومن أجل تجنّب تكرار كلمة «الإسلامية» سنتجنّب ذكر هذا القيد قدر الإمكان، كذلك من الواضح أنّ موضوع بحثنا منصبٌ على «الأخلاق الفاضلة» وهي ما اختاره علماء الإسلام في علم الأخلاق، وليس «الأخلاق الوظيفيّة»، فخلافًا للأخلاق الوظيفيّة إنّ ما يُطرح في الأخلاق الفاضلة هو تزيين النفس بالفضائل وتخليصها من الرذائل، وهي من مباني الأخلاق الإسلاميّة، ولهذا السبب قيل: «موضوع هذا العلم هو النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ولبّه» (جامع السعادات، ج 1، ص 59
2- كتب ابن مسكويه في مقدمة كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ما يلي: غرضنا في هذا الكتاب أنْ تُحصّل لأنفسنا خُلقاً تصدر به عنّا الأفعال كلّها جميلةً» (ص 81)

طرحوا بعض العناوين الواعدة من قبيل: «في تعرّف الرجل عيوبَ نفسِه» (الرازي، 1939 ، ص 33)، لكنّهم نادرًا ما قدّموا مِلاكاً ومعياراً يستطيع الإنسان أن يتعرّف من خلاله على وضع رذائل نفسه وفضائلها.

إنّ أغلب الأفراد مطّلعون على آثار ارتفاع اليوريا والكوليسترول في الدم التي تُضرّ بالحياة الطبيعيّة للإنسان، وكذلك على سُبل خفضها في الدم أيضًا، ولكنّ وهو أمرٌ يوجد الدافع والإرادة الجادّة للاهتمام بسلامة البدن بنحوٍ مؤثّرٍ أكثر في الإنسان، ليس التعليمات الصحيّة، بل الفحوصات الصحيّة التي تُعطي تقريرًا بمستوى اليوريا والكوليسترول في الدم لنفس «هذا الشخص».

لقد تكلّم علماء الأخلاق بأفضل ما يكون حول فضائل النفس ورذائلها، وكيفيّة تحلّيها بالأخلاق الحسنة، وكيفيّة إزالة الأخلاق السيّئة منها ؛ ولكن إذا غضضنا النظر عن الإشارات المتفرّقة، فإنّ الإنسان إذا طالع هذه الكتب، لن يحصل عنده تصوّرٌ واضحٌ عن وضعه وحاله الفعليّ، لا بالنسبة إلى فضيلة معيّنةٍ أو رذيلةٍ معيّنةٍ، ولا بالنسبة إلى وضعه الكلّي.

وقبل أن نقدّم مزيدًا من التوضيح، ينبغي علينا أن نُقدّم تعريفا لهذا وهو أمرٌ تفتقده الأبحاث الأخلاقيّة، والذي بإمكانه أن يسدّ هذا الفراغ.

«الأخلاق المعياريّة» هي فرعٌ من علم الأخلاق الذي يتكفّل بتوفير المعايير للفرد يتمكّن من خلالها أن يعرف وضعه الأخلاقي الفعلي سواءً بالنسبة إلى فضيلةٍ أو رذيلة ٍخاصّةٍ، أم بالنسبة إلى وضعه الأخلاقي العامّ والكلّي، وبعبارةٍ أخرى: الأخلاق المعياريّة تسعى لأن تعطي الإنسان «تقريرًا أخلاقيّاً فعليّاً»، وأن توفّر له المعايير التي يتمكّن بمساعدتها أن يختبر نفسه هل لديه الخُلْق الحَسن الفلاني، كالإخلاص مثلاً؟ وهل هو بريءٌ من الخلق السيّء الفلاني كالغرور مثلاً؟ وهي لا تقتصر على ذلك وحسب، بل تجعله مطّلعاً على وضعه العامّ والكلّي من الناحية الأخلاقيّة.

ومن خلال هذا التعريف يتضّح أنّ نطاق الأخلاق المعياريّة يشمل توفير

ص: 48

المعايير في ثلاثة مجالات:ٍ الأوّل: الرذائل كالحسد والكِبر والرياء. الثاني: الفضائل كالإخلاص والصبر والتوكّل. الثالث: الوضع الأخلاقي العامّ والكلّي للإنسان الذي يكشف - بعد الفراغ عن الوضع المتعلّق برذائل خاصّة أو بفضائل خاصّة - عن مقدار ما للرذيلة أو الفضيلة من جذورٍ في النفس (1).

2. منشأ عدم اهتمام علماء الأخلاق بالأخلاق المعياريّة

قليلاً ما تجد واحدًا من مؤلّفي كتب الأخلاق الإسلاميّة ممن لم يُشبّه النفس بالبدن إمّا صراحةً أو كنايةٌ ، وهذا الأمر واضحٌ جدًا في كتب المتقدّمين والمتأخّرين (2)، وفي الواقع لقد تفطّنوا جدًا بأنّ الأخلاق هو نوعٌ من طبابة النفس، وقد استعمل مصطلح «طبّ النفس» في كتب الأخلاق المتقدّمة، ومن بينها كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه (ابن مسكويه 1426ه_، ص 265) ولذا نجد أنّ محمّد بن زكريا الرازي قد رجّح تسمية كتابه المشهور في علم الأخلاق ب_«الطبّ الروحاني».

طبعًا، هذا الفرق الكبير بين النفس والبدن في علم الأخلاق كان محلاًّ للاهتمام، فنحن نجد أنّ خالق عالم الوجود قد وضع في البدن ما يُعبر عنه اليوم ب_«جهازُ إنذارٍ ذاتيٍّ» ، فالحرارة والخفقان والتهوّع و.... كلّها تعمل بمنزلة الإنذارات العامَّة، أمّا الآلام الخاصّة من قبيل الألم في القلب أو البطن أو ... فهي تعمل بمنزلة الإنذارات الخاصّة؛ لكنّنا لا نجد جهاز إنذارٍ كهذا في النفس، وبتعبير المرحوم الفيض الكاشاني إنّ أمراض القلب من الأمراض التي لا يستطيع نفس الإنسان أن يعرفها بنفسه، ولذا فهو يغفل عنها . (3)

ص: 49


1- من أجل تركيز البحث وتوضيحه بنحوٍ أكبر ، سنتعرّض في القسم الأوّل من هذه المقالة للرذائل فقط، وذلك مراعاةً للاختصار فقط، وإلّا فإنّ الاستدلالات والهموم التي تطرحها هذه المقالة شاملةٌ لها بأجمعها، أمّا المجالان الآخران (يعني: الفضائل وكذلك الوضع الكلّي للفرد) فسيتمّ بحثهما في القسم الثاني من المقالة بنحوٍ خاصٍّ
2- من جهة يا للأسف، ومن جهة أخرى يا لحسن الحظّ، إنّ مقدار ما في كتب الأخلاق الإسلاميّة المشهورة من المطالب والأمثلة المتكرّرة والمتشابهة، مقدارٌ كبيرٌ جدًا إلى الحدّ الذي يشعر معه الإنسان أحيانًا أنّ المحقِّقين في هذا المجال لا يحتاجون لذكر المصدر عن الإشارة إلى أحد الأفكار الموجودة في الكتب المتعدّدة، وموضوع التكرار خاصّةً يصدق فيما يتعلّق بما جاء في إحياء العلوم للغزالي؛ لكن طبعا إذا كانت الفكرة من الأمور التي لا خلاف فيها، وخصوصًا بين الشيعة والسنّة
3- وعبارة المرحوم الفيض كالآتي: «إنّ من الأمراض ما لا يعرفها صاحبهُا، ومرضُ القلب ممّا لا يعرفه صاحبُه فلذلك يَغفل عنه» (المحجة البيضاء ، ج 5، ص 11)0، وتجدر الإشارة إلى أنّ ما يُعبّر عنه ب_«الإحساس بالمسؤوليّة الأخلاقيّة» فيه من الإبهام أكثر ممّا يمُكن أن يورد على كلام المرحوم الفيض الكاشاني هذا

والآن بما أنّ أمراض النفس هي نوعاً ما من الأمور التي يصاحبها الغفلة عادةً، فهل كتبنا الأخلاقيّة بحكم الصيدليّة، بحيث تقتصر فقط على توفير نتاجها بنحوٍ مبوّبٍ ومرتّبٍ في رُتبٍ وطبقاتٍ، لكنّها لا تسأل الشخص الذي يدخل إليها عن علّته ومرضه، ولا تُبيّن له ما هو مرضه، وإنّما توفّر لمن يُراجعها جميع الأدوية الموجودة في صيدليّة الأخلاق؟ وبعبارةٍ أخرى: هل أنّ أطبّاء الأخلاق رغم معرفتهم للأمراض، إلّا أنّهم لا يعرفون أيّ المرض الذي حلّ بالشخص وما هي درجة معاناته منه، ولذا فهم يكتفون بتقديم صيدليّةٍ ممتلئةٍ بالأدوية وحسب؟

لحسن الحظّ، ليس الأمر كذلك. فنحن نجد أنّهم وضعوا سبيلاً لكي يتعرّف كلّ شخصٍ على أمراض نفسه، وكما أشرنا سابقًا، طرح محمّد بن زكريّا الرزاي بحثًا بعنوان «في تعرّف الرجل عيوب نفسه»، وطبعًا يمُكن أن نجد بسهولةٍ بعض العناوين الشبيهة به في الكتب السابقة عليه واللاحقة له، فمثلاً: نجد أنّ المرحوم الفيض الكاشاني قد استعمل عنوان «بيان الطريق الذي به يَعرفُ الإنسان عيوب نفسه» الفيض الكاشاني، 1403ه_، ج 6، ص 112) وأمّا الملّا مهدي النراقي فقد استعمل عنوان «طريق معرفة الأمراض النفسانيّة» (النراقي، 1209 ه_، ج 1، ص 131).

وأحيانًا قد لا تجد في الكتب الأخلاقيّة من قبيل كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه عناوين من قبيل: «طريق معرفة عيوب النفس»، ومع ذلك تجد أنّه تعرّض لهذا الموضوع (ابن مسكويه ، 1426ه_، ص 278 إلى 280)، وهو يرى في آخر بحثه أنّ ما طرحه يعقوب بن إسحاق الكندي في هذا المجال، هو أبلغ ممّا طرحه المتقدّمون (المصدر السابق، ص 280) طبعاً اكتفت بعض الكتب الأخلاقيّة بالسعي فقط لكشف العيوب، لكنّها لم تقدّم أيّ طريقةٍ لمعرفتها (1) ، ويجب الالتفات إلى أنّه لِمسألة كيفيّة معرفة عيوب النفس، سابقةٌ طويلةٌ جدًا حتّى خارج نطاق الأخلاق الإسلاميّة، مثلاً : نجد

ص: 50


1- مثلاً: نجد أنّ المرحوم الشيخ عبّاس القمي لم يُقدّم في كتاب «كلمات طريفة» معياراً أو أسلوبًا لتشخيص العيوب، وإنمّا اكتفى فقط بالتأكيد على أنّه ينبغي للشخص «أن يستقصي وأن يسعى سعيًا بالغاً في طلب عيوبه، ويتعرّف بدقّة على معايبه (كلمات طريفة، ص 60 [ وكذا المقامات العليّة، ص 170] ،

أنّ جالينوس قد ألّف كتابًا في القرن الثاني الميلادي في موضوع «معرفة عيوب النفس» والذي ينقل عنه ابن مسكويه أيضًا (المصدر السابق، ص 278).

على كلّ حالٍ، إنّ الحلول التي طرحها علماء الأخلاق من قبيل: ابن مسكويه والرازي والغزالي والفيض الكاشاني والنراقيّين وشُبّر وغيرهم تتشابه مع بعضها البعض، ولكي نستخرج العلاقة بين هذه السُبل وبين الأخلاق المعياريّة، سنقوم بتعداد خلاصة الحلول الأربعة التي ذكرها الفيض الكاشاني تبعًا للغزالي (الغزالي، 1406 ه_، ج3، ص 69) وذلك تحت عنوان «بيانُ الطريق الذي به يعرف الإنسان عیوب نفسه».

1. أن یرجع إلى شخصٍ بصيرٍ بعيوب النفس، ومثل هؤلاء الأشخاص نادرٌ جدَّا في زماننا.

2. أن يطلب من صديقٍ صدوقٍ أن يُراقب له تصرّفاته، وأن يُخبره بعيوبه.

3. أن يتعرّف على عيوب نفسه من لسان أعدائه.

4. أن يكتشف عيوب نفسه من خلال معاشرة الناس.

وكما هو ملاحظٌ، نجد أنّ جميع الحلول الأربعة - التي هي أساسًا تكرارٌ لكلمات جالينوس (جالينوس، 1353 ش ، ص 25) - تعتمد على وجود شخصٍ أو أشخاصٍ في البين، ففي السبيل الأوّل، كان الاقتراح هو الرجوع إلى عارفٍ مطّلعٍ على أسرار الباطن، وطبعاً المشكلة هنا لا تقتصر على «عدم إيجاد شخص كهذا»، بل حتّى لو وجدناهم من أجل أن يتحدّثوا عن عيوب الآخرين أو فضائلهم، فسنجد أنّ لديهم بعض الموانع، من ضمنها أنّ كتمانهم لا يسمح لهم أن يُظهروا هذه الأمور لغيرهم، وأمّا السُبل الثلاثة الأخرى، فرغم أنّ مشكلة الندرة غير موجودةٍ، لكن يبقى أنّه ليس هناك مِلاكٌ ولا معيارٌ في اختيار الشخص الذي يُخبرنا عن عيوبنا، بل تقتصر التوصية فقط على الاستعانة المباشرة أو غير المباشرة من الآخر؛ إذن فالنتيجة المُحصّلة من السبل الأربعة هي الاستعانة المباشرة من العارف والصديق

ص: 51

الصدوق ( في السبيلين الأوّل والثاني)، والاستعانة الغير مباشرة من الأعداء والناس ( في السبيلين الثالث والرابع).

بناءً على هذا، في الجواب على هذه المجموعة من الأسئلة: هل يمُكن لي أن أكتشف من خلال هذا الطريق أنّني أعاني من رذيلة الحسد أم لا؟ وهل أتمتّع بفضيلة الإخلاص أم لا ؟ سيكون جواب المرحوم الفيض الكاشاني وعلماء الأخلاق الآخرون: يجب أن ننظر إلى القائمة التي قدّمها لنا العارف ذو الضمير الصافي، أو الصديق الصدوق، أو إلى العيوب التي بيّنها لنا العدوّ الصريح اللهجة، فننظر هل أنّ هذه الرذائل أو الفضائل من ضمنها أم لا ؟ (1) ( وتجدر الإشارة إلى أنّ الحلّ الرابع لا يخرج تماماً عن الحلّين الثاني والثالث).

لو افترضنا أنّه كان هناك حديثٌ يجري حول /نالأخلاق المعياريّة» في الإرث الأخلاقي الإسلامي، فقطعًا كان ينبغي أن يطرحوا سبيلاً خامسًا لتشخيص أمراض النفس في نفس هذا البحث (معرفة عيوب النفس)؛ ولكن كما هو المُلاحظ لم يقترح علماء الأخلاق أيّ سبيلٍ آخر لذلك.

والسؤال المهمّ الذي يُطرح هنا: لماذا يعتقد علماء الأخلاق بأنّه ليس للفرد دورٌ في معرفة عيوب نفسه، وأنّه يجب عليه أن يطلب العون في ذلك من الآخرين وحسب؟

ينبغي علينا أن نبحث عن جواب هذا السؤال في كلمات جالينوس التي نُقلت في الكتب من قبيل كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه، حيث يقول هناك: «لمّا [كان] كلّ إنسانٍ يُحبّ نفسَه خَفيت عليهِ معايبُه ولم يَرها وإنْ كانت ظاهرةً» (2) (ابن مسكويه، 1429 ه_، ص 278)، ومن هنا يمكننا أن نجد جذور قِلّة الاهتمام بل الإهمال للأخلاق المعياريّة .

ص: 52


1- إنّ الحلول الأربعة التي ذُكرت بشكل متكرّر في كتبنا الأخلاقية، إنّما كانت ناظرةً إلى العيوب والرذائل، وهي ليس ناظرة إلى الفضائل على ما يبدو، وإذا طُرح هنا بحثٌ حول الفضائل، فذلك من أجل التهيئة للاستمرار بالبحث؛ لأنّ الأخلاق المعياريّة مضافًا إلى أنّها تُطبّق على الرذائل، فهي تُطبّق على الفضائل أيضًا؛ كذلك يمُكن تطبيق الأخلاق المعياريّة فيما يتعلّق بالوضع الكلّي والعامّ للفرد من الناحية الأخلاقيّة، وسيأتي فيما بعد مزيدٌ من التوضيح لهذا الأمر في أواخر هذه المقالة
2- لقد بُيّنت مسألة أنّ العاشق أعمى بالنسبة لمعشوقه بأنحاء مختلفة منذ القِدَم في المصادر الدينيّة وغير الدينيّة، والنفس بالنسبة للإنسان هي من أبرز مصاديق هذا المعشوق (راجع: «رازی در طب روحاني [= الرازي في الطبّ الروحاني]»، ص 24) ، وقد صارت هذه الفكرة عامّةٌ إلى الحدّ الذي صارت مضربًا للمثل

إنّ الفرضيّات المسبقة في ذهن العلماء هي أنّ تقييم الوضع الأخلاقي عن طريق شخصٍ ما يتلازم مع «الملاحظة» و«الرؤية» للمعايب بواسطة ذلك الشخص، ومن الصحيح جدًا أنّه في هذه الحالة هناك مانعٌ كبيرٌ اسمه «حبُّ الذات»، وقاعدة «حبُّ الشيء يُعمي ويُصمّ» تمنع من رؤية العيوب المذكورة؛ ومن هنا نجد أنّهم – ومن أجل اكتشاف عيوب الفرد - وضعوا نفس الشخص ]الذي يخضع للتشخيص[ جانبًا، وذهبوا خلف العارف والصديق الصدوق والعدو والمجتمع، وذلك من أجل أن يُخرجوا حبّ الذات من الطريق.

إنّ النقطة الأساسيّة هي أنّه إذا كانت معرفة الإنسان لعيوب نفسه لا تتمّ إلّا من خلال «أن ينظر إلى نفسه» فحبُّه لذاته سيمنع من تجويز أيّ دورٍ لنفس الإنسان في هذه المهمّة، ولكن إذا كُنّا نقترح أمرًا آخر، وهو أنّنا نُقدّم له المعايير بدلاً من أن نجعله ينظر إلى نفسه؛ وعندها سيزول دور حبِّ الذات أو على الأقل سيُصبح تأثيره قليلاً جدًا.

مثلاً إذا سُئلَ أحد أعضاء الهيئة العلميّة - ومن دون أيّ مقدّمات - : هل تحسد زملاءك على نجاحاتهم العلميّة الكبرى؟ فعلى الأغلب سيأتي الردّ بالنفي بشكلٍ قاطعٍ وصادقٍ، وعندما يُراجع نفسه، فكذلك قد لا يجد في نفسه أيّ حسدٍ، ولكن لو قُدَّم لنفس هذا الأستاذ معيارٌ بحيث يُطلَب منه أن يضع نفسه تحت المراقبة الدقيقة في المرّة القادمة وفي «اللحظات الأولى» التي يسمع فيها خبر نجاحٍ علميٍّ كبيرٍ لأحد زملائه، وأن يُراقب : «هل أحسّ بالغيرة في نفسه ولو في تلك اللحظات الأولى، أم أنّ حالته كانت كمن سمع خبر نجاح ابنه فسعد مباشرةً؟» وغالبًا ما يجد الشخص عند تحليل نفسه من خلال وضع هذا المعيار بين يديه أنّ جوابه الأول الذي رأى فيه بأنّ شجرة الحسد ميتّةٌ في نفسه، لم يكن صحيحًا.

ولا يمُكن القول: بما أنّ هذا الفرد لديه حبٌّ لذاته، لذا فإنّ الانزعاج الذي مرّ بخاطره في اللحظات الأولى ظلّ مخفيًا، وذلك رغم أنّه في الحالة الأولى (يعني: عند ملاحظته لنفسه من دون المعيار ) كان حبّه لذاته مانعا له من أن يطّلع على وجود

ص: 53

الحسد داخل نفسه، ولكن من خلال إعطائه هذا المعيار - وهو مجرّد نموذجٍ للتوضيح - نجد أنّ حبّ الذات لم يمنع هذا الشخص من تشخيص الحسد بنفسه.

ومن هنا، فإنّ الأخلاق المعياريّة وجدت علاجًا لمسألة حبّ الذات، وبدلاً من أن تعزل الشخص عن الحكم على نفسه بتهمة «حبّ الذات» ثمّ تُرجع كلّ شخصٍ إذا أراد أن يتعرف على عيوبه إلى عارفٍ ذي ضميرٍ منيرٍ أو إلى صديقٍ صدوق أو إلى عدوّ حقود أو إلى الناس العاديّين، بدلاً من ذلك كلّه تَضع بين يديه المعايير، فكُلّ شخصٍ له إمكانيّة الدخول إلى أمرٍ فريدٍ لا يستطيع أن يدخل إليه الأشخاص العاديّون وهو باطنه الخاصّ به، فهذا المصدر المهمّ والفريد لا ينبغي أن يُعزل جانبًا ببساطةٍ بسبب حبّ الذات، بل يمُكن من خلال توفير المعايير المحسوبة، أن يُسند إليه دورٌ أساسيٌّ في تشخيص العيوب (والفضائل)، وهذا هو المبنى الذي بُنيت عليه الأخلاق المعياريّة.

3. علماء الأخلاق وما وفّروه من معيار حول رذيلة الكِبر

كما رأينا، فإنّ علماء الأخلاق لم يعتنوا بدور الفرد بعنوانه أحد السُبل لمعرفة فضائل نفسه ورذائلها، ولكنّ ذلك لا يعني أنّنا لا نستطيع أن نجد أيّ فضيلةٍ أو رذيلةٍ قد وُضع لها معايير أحيانًا في طيّات الكتب الأخلاقيّة، فعلى سبيل المثال فقط، نجد أنّ أكثر الكتب الأخلاقيّة عندما تصل إلى رذيلة الكِبر، تُقدّم خمسة معايير يستطيع كلّ شخصٍ ومن دون مساعدةٍ أحد أن يعرف من خلالها هل أنّ نفسه مُصابةٌ بهذه الرذيلة أم لا ؟ وقد جاء هذا الأمر في كلِّ من كتب المتقدّمين والمتأخرين أيضًا، ومن بين كتب المتأخرين نجد أنّ العنوان الذي استعمله العالم المُكثر في التأليف المرحوم السيّد عبد الله شبّر والذي ضمّنه كلمة المعيار أيضًا، مناسبٌ جداً، حيث قال (1) : «في الميزان والمعيار الذي يَعرفُ به الإنسان نفسَه هل هو متواضعٌ أو متكبّرٌ» (شبر، 1382، ص 176).

ص: 54


1- أحيانًا لا يَستعمل علماء الأخلاق مصطلح «المعيار » أو «الملاك» وأمثالها ، إلّا أنّهم يطرحون نفس هذه الفكرة، فمثلاً وضع الغزالي هذا المعيار في «إحياء العلوم» تحت عنوان «بيان أخلاق المتواضعين ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبّر» (الغزالي 1406، ج 3، ص 273)

إنّ السُبل التي ذُكرت في الكتب الأخلاقيّة لتشخيص وجود الكبر عدة، وممّا ذُكر ما يأتي: هل قبوله للحقّ خلال نقاشه أقرانه صعبٌ؟ هل يجد أنّ جلوسه في الأماكن المنخفضة في المجالس والمحافل ثقيلٌ عليه؟ هل يستجيب لدعوة الفقراء؟ وهل يصعب عليه السعي في حاجات الآخرين بحيث يذهب إلى الأزقّة والأسواق من أجلهم ؟ هل يصعب عليه لبس اللباس الخفيف والقديم؟ هل يصعب عليه الجلوس مع الخدم على سفرةٍ واحدةٍ وتناول الطعام معهم؟ (المصدر السابق، 176 - 177)، وقد أضاف بعض علماء الأخلاق مثل الملّا مهدي النراقي فقراتٍ أكثر إلى هذه القائمة (راجع: النراقي، 1209ه_، ج 1، ص 394 - 395).

إنّ نظرةً نحو المعايير المطروحة لتشخيص رذيلة الكبر، تُظهر أنّ علماء الأخلاق إنّما نظروا إلى هذا الموضوع نظرةً إجماليّةً، ولم يُركّزوا على جوانب الموضوع بالشكل الكافي، ومن هنا، نجد أنّهم جعلوا عدم مبالاة الشخص بمكان جلوسه في المجلس، أحد المِلاكات والعلامات العامّة لتشخيص الكبرِ، في حين أنّ مِلاكاً كهذا قد يكون له معنى وموضعيّة بالنسبة لبعض الطبقات الخاصّة في المجتمع من قبيل العلماء والشخصيات الكبيرة، أمّا بالنسبة للأشخاص الاعتياديين من قبيل مجتمع طلّاب المدارس أو حتّى طلّاب الجامعات، فلا يُعدّ عدم الرغبة في الجلوس في صدر المجلس أو في ذيله معياراً أو علامةً تدلّ على عدم التكبّر ، بل كثيرًا ما لا يكون لصدر المجلس وذيله مفهومٌ بالنسبة لهم من الأساس.

وفي الضمن نسأل : إذا كانت الرذائل على درجات كما يقول به علماء الأخلاق، ومن ضمنها ما علّمونا إياه في بحث الكِبر، فهل يمُكن أن نُقدِّم مِلاكاتٍ ومعايير من دون أن نُرتّبها بحسب درجة الرذيلة ؟ فهل دور المعايير هو أن تتمكّن فقط تقديم إجابة إمّا بالنفي أو بالإثبات بالنسبة لوجود الكبرِ عند الإنسان، أم يجب أن تُوضّح لنا أيضًا مقدار الكِبر الذي عند الشخص؟ لم نجد أيِ متابعةٍ لهذه الأسئلة فيما عُرض من معيارٍ.

القرينة الأخرى التي تدلّ على أنّ علماء الأخلاق اقتصروا في نظرتهم على النظرة

ص: 55

الإجماليّة عند تقديمهم لمعيار تشخيص الكِبر ، هو أنّ القرآن الكريم قدّم لنا معيارًا للكِبر وأكّد عليه تأكيدًا خاصّاً، لكنّنا مع ذلك نجد أنّ الكتب الأخلاقيّة - في الحدّ الذي بحثنا فيه - لم تتعرّض في بحثها حول معيار الكِبر، للمعيار المطروح من القرآن، قال الله تعالى في سورة غافر : (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كبْرٌ) (غافر /56) .

ولو أنّ موضوع تقديم المعيار لرذيلةِ الكِبر كان مَركزاً لاهتمام علماء الأخلاق بنحوٍ جادٍّ، لَكان من المناسب أن يُوضّحوا لماذا لم يتعرّضوا أصلاً لهذه الآية المليئة بالمعاني، مع كلّ ما فيها من انحصارٍ في بيان المِعيار المتعلّق بتشخيص الكبر (طبعاً يمكن أن يُذكر سببٌ لذلك، لكن ليس بحثنا حول وجود سببِ أو عدمه، بل حول عدم تعرّضهم لذلك).

إذن لا تقتصر المسألة على المسألة على أنّ النهج والاتجاه المعياريّ في تشخيص الرذائل والفضائل لم يكتسب مكانته المناسبة بحيث يكون بمثابة منهجٍ في إرثنا الأخلاقي، بل حتّى البحث الذي جرى حول عددٍ من الرذائل أو الفضائل الخاصّة (1) هو الآخر لم يَحُز على الاهتمام المطلوب، بل كان بحثًا استطراديًا.

وهذا الأمر يستدعي التأمّل، فلماذا وقع الاختيار في باب تقديم المعايير المتعلّقة بتشخيص الرذيلة الأخلاقيّة على خصوص الكِبر من بين عشرات الرذائل ؟ ولماذا قُدّم علماء الأخلاق معيارًا في خصوص الكِبر دون غيره ؟

وفي هذا المجال، يمُكن أن نقدّم احتمالين على الأقل، والاحتمال الأوّل هو أن الكِبر على الخصوص إنّما يظهر في تصرّفات الأفراد بنحوٍ أفضل وذلك خلافًا لعدد من رذائل أخرى، فالتكبّر له القابليّة لأن يُكتشف في تصرّف المُتكبّر بنحوٍ أفضل من

ص: 56


1- إنّ مسألة تقديم معيار في باب الرذائل، لم تُبيّن في الكتب الأخلاقيّة بصورة شاملة إلّا فيما يتعلّق برذيلة الكبر، ولا - تجد نظيراً لذلك حول الرذائل أو الفضائل الأخرى إلّا ما ندر، مثلاً: في كتاب «مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقةَ»، وهو كتابٌ مجهول المؤلّف، تُوجد فيه روايةٌ حول الصدق تبدأ بهذا النحو : «فإذا أردتَ أن تعلم أصادقٌ أنتَ أو كاذبٌ ...» (راجع: الجيلاني، 1360 ش ، ص 411)؛ لكن هناك نقطةٌ جديرةٌ بالذكر فيما يتعلّق بالمحاسبي صاحب كتاب «الرعاية لحقوق الله» وهي ما سنتعرّض لها بعد قليل

اكتشاف الرياء في تصرّف المرائي؛ ومن ثمَّ، فتقديم المِلاك والمعيار ليس فيه مؤنه زائدة، فنفس سُهولة الوصول إلى المعيار، هو الدافع لطرح هذا الموضوع.

أمّا الاحتمال الثاني فهو أنّ علماء الأخلاق حينما كانوا ينظرون حولهم، أي إلى المجتمع العِلمي ، كانوا يرون أنّ هذه الرذيلة منتشرة ومحلّ ابتلاء فيما بينهم أكثر من باقي الرذائل، ولذا أرادوا من خلال تقديم هذا المعيار أن يُنبّهوا أنفسهم وغيرهم إلى تصرّفاتهم .

وأيّا يكن ،دافعهم، فهو يصلح لأن يكون السبب الذي جعل العلامات التي ذكروها لتشخيص الكِبر متشابهةً في أكثر الكتب الأخلاقيّة، لكنّه لا يرقى إلى درجة أن يُوجد حركةً بين علماء الأخلاق لتقديم معيارٍ دقيقٍ ومحسوبٍ في باب الكِبر، أو إلى أن يُقدِّموا معايير للرذائل الأخرى.

وكما ذُكر سابقاً، فما بُيّن في هذا المجال، عمدته في باب التكبّر، فضلا عن ما ندر فيما يتعلّق بعددٍ من الرذائل المعدودة، وكذلك من النادر أن يُقدِّموا معياراً بالنسبة إلى الفضائل (فقط في مواطن استثنائيّة جدًا)، مضافًا إلى ذلك نجد أنّ تقديم معيار يُبيّن الوضع الأخلاقي العامّ والكلّي للشخص لم يكن يُشكّل همًّا في الإرث الأخلاقي.

إلى هنا تم البحث عن المُراد من الأخلاق المعياريّة، وكذلك عن سبب خلوّ كرسيّه في فلسفة الأخلاق، لكن من غير الإنصاف أن ننهي هذه المقالة من دون أن نتعرّض للمحاسبي (المتوفى في 243 ه_) أو لكتابه القيّم «الرعاية لحقوق الله»، وهو الشخص الذي نجد في آثاره مواضيع مرتبطة بالأخلاق المعياريّة أكثر من أيّ شخصٍ في تاريخ علم الأخلاق الإسلامي؛ هذا على الرغم من أنّه هو الآخر لم يتعرّض لها بنحوٍ مستقلّ أو على شكل منهجٍ مستقلٍّ ، وفي الكتاب المذكور نجدُ فصلاً بعنوان: «بمَ يَعلم العبدُ أنّ نَفسه قد تركتْ الكِبْر على الصِدْق» (المحاسبي، 1289 ه_، ص 405) وفصلاً آخر بعنوان: «متى يَعلم العبدُ أنّه قد نفى الحَسد» (المصدر نفسه، ص 498).

قد يظنّ البعض بأنّ سبب عدم اهتمام علماء الأخلاق بالأخلاق المعياريّة، مردّه

ص: 57

إلى أنّ تعاليم «محاسبة النفس» ملأت مكانه وسدّت الفراغ بشكلٍ كاملٍ.

ولكن كون الأخلاق المعياريّة توفّر للإنسان تقريرًا أخلاقيًّا بين يديه، لا ينبغي أن يجعلنا نتصوّر بأنّ الأخلاق المعياريّة هي نفس المحاسبة؛ ومن ثمَّ، لا بدّ لنا هنا من إجراء مقارنةٍ بين الأخلاق المعياريّة ومحاسبة النفس وسنرى في هذه المقارنة أنّ هذين الأمرين رغم تشابههما في بعض الأمور ، إلّا أنّ هناك اختلافا رئيسيًا فيما بينهما، بل هما عبارةٌ عن تعليمَيْن وأمرين مختلفين وكلّ واحد منهما مطلوبٌ بنفسه على حدة، وقد اهتمّت الآيات والروايات بكلّ واحدٍ منهما على حدةٍ.

4. الأخلاق المعياريّة ومحاسبة النفس

إنّ محاسبة النفس مصطلحٌ شائعٌ ومعروفٌ ليس فقط في المجال الأخلاقي التخصّصي، بل حتّى بين عامّة الناس، ورغم أنّ مصطلح «محاسبة النفس» مصطلحٌ روائيٌّ أكثر من أن يكون قرآنيًا، لكنّ هذا المضمون استُعملَ في القرآن أيضًا، وقول تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدِ} (الحشر /18) يمُثْل نموذجًا على ذلك (راجع: الطباطبائي، 1291 ه-، ج 19، ص 19 ، ص 217) .

لقد أُكّد على محاسبة النفس في كلمات الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله وأمير المؤمنين علیه السّلام وبعض المعصومين علیه السّلام أيضًا، وقد بُيّن معناها في نفس نصّ أحد الأحاديث بشكلٍ واضحٍ، حيث جاء فيه: «ليسَ مِنّا مَن لمْ يُحاسب نفسه في كلّ يَومٍ، فإِنْ عَمِلَ خيراً استزادَ الله مِنه وحَمدَ الله عليه وإنْ عَمِلَ شيئًا شرّاً استغفر الله وتابَ عليه» (المجلسي، 1403 ه_، ج 77، ص 88).

كما هو واضحٌ، فإنّ محاسبة النفس تتعلّق بالأعمال، وتبحث في أنّه هل قام بأعمال الخير والشرّ أم لم يقم بها؟ ولا ينبغي الخلط بين الخطأ والمعصية وبين العيب والرذيلة، كما أنّه لا ينبغي لنا أن نَعتبر أنّ كلاً من العمل الصحيح والثواب من جهةٍ والفضيلة من جهة أخرى هي أمرٌ واحدٌ، فمحاسبة النفس، محاسبةٌ لأعمال النفس وليست محاسبةٌ لرذائلها وفضائلها، وطبعاً هذان الأمران ليسا منعزلان عن

ص: 58

بعضهما البعض تمامًا؛ لأنّ اكتشاف الرذائل والفضائل هو من نتائج مُحاسبة النفس وهو ما تمّ التصريح به في كلام أمير المؤمنين علیه السّلام حيث قال: «منْ حاسبَ نفسَه وقفَ على عيوبَه وأحاط بذنوبه» الآمدي، 1366 ش ، ج 2، ص 224).

وهذا الحديث الشريف يُبيّن هذه النقطة، وهي أنّ الوقوف على العيوب أمرٌ مختلفٌ عن الاطلاع على المعاصي، فالمعصية وصفٌ لبعض أفعال الإنسان، في حین أنّ العيوب هي وصفٌ للنفس.

وبناءً على هذا، فأحد الأهداف المهمّة والمشتركة بين محاسبة النفس والأخلاق المعياريّة، كشف عيوب النفس وفضائلها، لكنّ هذا الهدف يحصل في محاسبة النفس من خلال دراسة الأعمال، أمّا في الأخلاق المعياريّة فيحصل من خلال استخدام المعيار، وفي هذه الحالة، لا ينبغي أن يظنّ الإنسان بأنّه يمُكن أن يُوضَع كلاً من محاسبة النفس والأخلاق المعياريّة مكان بعضهما البعض، فمحاسبة الأعمال اليوميّة لها آثارها وبركاتها الخاصّة بها، ونحن بحاجة لأن نتذكّر معاصينا، كما أنّنا مُكلّفون بأن نذكر نعم الله علينا التي مِن ضمنها أعمالنا الصالحة، وهذا الأمر إنّما يجري في محاسبة النفس وليس في الأخلاق المعياريّة.

ورغم أنّ محاسبة النفس تُطلع الإنسان على ما «احتطب على ظهره» لكنّها لا تُعطيه معلوماتٍ مباشرةً عن (بِما كَسَبَت قُلوبُكُم) (البقرة/225)، فإنّ الوصول إلى عيوب النفس من خلال محاسبة النفس، يحتاج إلى دراسةٍ وتحليلٍ تفصيليٍّ للمعلومات التي يحصل عليها الإنسان من خلال محاسبته لنفسه (وأحياناً يحتاج إلى دراسةٍ ومراجعةٍ مستمرّةٍ للأعمال لمدّةِ عدّةِ أشهرٍ)، وهناك أمور دقيقة لا بدّ من مراعاتها (1)، في المقابل إنّ الأخلاق المعياريّة تمُكّن الإنسان من الوصول إلى هذا الهدف من خلال تقديم المعيار بشكلٍ مباشرٍ، ومن دون مراجعة الأعمال(2)، فطريق

ص: 59


1- قد نواجه أحيانًا في محاسبة النفس صدور بعض الأخطاء من الإنسان التي لا تحكي عن ملكة في النفس، في حين - أن الأخلاق المعياريّة تتعامل مع «الأخلاق» أي المَلكات فكثيراً ما يرتكب الإنسان خطأ يكون ناشّئًا عن قلّة الالتفات، وليس عن مَلَكة لديه، مثلاً الشخص الذي لديه مَلَكة السخاء والكرم ولكنّه قد يبخل في أحد المواطن بشكلٍ استثنائيٍّ بسبب سوء الظَّنّ، فخطؤه هنا، لا يكشف عن مَلَكةٍ خاصّةٍ
2- من أجل تحديد نسبة الذكاء لأحد الأشخاص ، فيُمكن أن يُطلب منه أن يُجيب على قائمة من 200 سؤال ؛ ولكن إذا كان بالإمكان تعيين نسبة ذكاء الإنسان من خلال بضعة أسئلة فقط، فبالتأكيد سيُصبح تعداد الأشخاص المشاركين في تحديد نسبة ذكائهم عشرات الأضعاف، تشبه حالة محاسبة النفس، حالةَ قائمة الأسئلة التي تحوي مئات الأسئلة، أمّا الأخلاق المعياريّة فتُشبه قائمة الأسئلة التي تحتوي على بعض الأسئلة فقط، وطبعاً من المسلّم بأنّ الأخلاق المعياريّة تفتقد لبعض مزايا محاسبة النفس ، ومن بينها حالة التوجّه التي تحصل للإنسان من خلال مراجعته لكل تصرّفٍ تصرّفٍ

وصول الأخلاق المعياريّة نحو كشف العيوب ( والفضائل) أقصر وأوضح، ولا حاجة فيها إلى محاسبة الأعمال.

والحقيقة هي أنّنا عبيد الله لسنا مُكلّفين بمراقبة أعمالنا وحسب، بل نحن مُكلّفون أيضًا بمراقبة قلوبنا أيضًا، ولذا نجد أنّ الله عزّ وجلّ يؤكّد بعد ذكره للسمع والبصر والفؤاد، بأنّنا سنُسأل عنها جميعًا، قال تعالى: {كُلُّ أُولئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً} (الإسراء/36) ، أفلا يُعتبر تحذير الله هذا نوعاً من لفت النظر إلى لزوم مراقبة القلب؟ إن كان الجواب نعم فالأخلاق المعياريّة تؤدّي هذه المهمّة من خلال آليّةٍ بسيطةٍ جدًا مقارنةً بمحاسبة النفس.

بناءً على هذا لا بدّ من التفريق بين «محاسبة النفس» و «وزن نفس» وهذا التفريق يمُكن استلهامه من تعاليم الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله، أيضًا، حيث قال: «حاسبوا أنفسكم قبلَ أنْ تُحاسَبوا وزِنوها قبل أنْ تُوزنوا». (المجلسي، 1403 ه_، ج 70 ، ص 73) .

وخلافًا لما يُقال عادةً، لا نعتقد بأنّ هذين المقطعين بصدد بيان مطلب واحدٍ، بل المقطع الأوّل ناظرٌ إلى محاسبة النفس، وهو ما يُوازي السمع والبصر في الآية الشريفة، في حين أنّ المقطع الثاني منها ناظرٌ إلى قياس ووزن النفس، وهو ما يُوازي الفؤاد في الآية السابقة، فالأخلاق المعياريّة تتمتّع بهذه الميزة الفريدة، وهي أنّها تُعطي تقريرًا «مباشراً» عن حالة النفس.

5. سبب كون الأخلاق المعياريّة مهمّةً

إنّ ما بذلناه من جهد في بيان المنزلة الخاصّة بالأخلاق المعياريّة، لم يكن من أجل إضافة مصطلحٍ إلى مصطلحات علم الأخلاق، بل كان مُنطلقنا من الأساس هو وضع معيارٍ سهلِ الوصول بين يدي الإنسان يُنجيه من الضلالة، ويُضفي أثرًا خاصًا على عمله، ويدفع المُخاطب للحركة والسعي، وهذا الأمر لا يَصْدُق في المسائل الأخلاقيّة

ص: 60

وحسب، بل يشمل نطاقاً واسعاً، فمثلاً: يمُكن توصية الناس بأن يسجدوا لله بالنحو الذي يليق به سبحانه؛ لكنّ هذا الأمر لا يضع بيد الناس مِلاكاً، ولا يجعلهم يعرفون في نهاية المطاف ما هي الحالة التي لا بدّ أن يشعروا بها حتّى تكون سجدتهم سجدةً أو غیر سجدةٍ؟ ونجد أنّ المرحوم آية الحقّ السيّد علي القاضي الطباطبائي رحمه الله قد أعطى لتلميذه المتميّز المرحوم آية الله السيّد محمّد حسن الإلهي الطباطبائي معيارًا يُبيّن له فيه كيف ينبغي أن يسجد في الحضرة الإلهيّة، وذلك من خلال هذا البيت:

وفي الصبح فاسجُد شاكِرًا ومُسبحًا.. تَراكَ تُرابَ الأَرْضِ للأَصْلِ مُلْصِقَا

(الطباطبائي، 1287 ش، ص 1129) (1).

وفي مجال المسائل الأخلاقيّة، الوضع بهذا المنوال، وهناك رواياتٌ تهزّ أعماق الإنسان في باب الإخلاص (2) وتجعل الإنسان يُراقب أحواله ونيّاته، ولكن أحيانًا يمُكن لتوفير ملِاكٍ متاحٍ بسهولةٍ أن يفتح الطريق جدًا، ومن ضمن ذلك ما قالوه مِن أنّ الإنسان إذا أراد أن يعرف بأنّ عمل الخير الذي قام به هل كان عن إخلاص أم لا؟ فعليه أن ينظر : لو أنّ شخصًا آخر قام بنفس عمل الخير هذا ، فهل كان سيشعر بنفس المقدار من السرور أم لا؟

ومِن المُسلَّم بأنّ معياراً كهذا - لو كان صحيحًا - يمٌكن له أن يجعل الإنسان مطّلعًا

ص: 61


1- ربما لو وُفّرت المعايير لكون الإنسان طالبًا للعلوم الدينيّة، لكان الوضع في أيّامنا بنحو مختلف، فإنّ الشخص الذي يعدّ نفسه طالبًا للعلوم الدينية، في حين أنّ مقدار ما يعرفه عن القرآن أقل بالنسبة لباقي العلّوم المتدّاولة من قبيل المنطق والنحو والفقه والأصول والفلسفة والعلوم الشرقيّة والغربيّة وهو للأسف وضعنا الغالب علينا نحن الطلّاب، فصدق عنوان طالب العلوم الدينيّة عليه في هذه الحالة فيه شكٍّ، هذا مع أنّنا مطّلعون جميعًا على الدعوة الأكيدة للقرآن بالتدبّر وكذلك على شكوة النبيّ صلّی الله علیه و آله القَطعيّة من هجر القرآن في محضر الله عزّ وجلّ، واليوم نجد أنّ بعضنا نحن الطلّاب ينكَبُّ على مواقع الأخبار ويُحقّق فيها قبل أن يُنفذ أمر الله عزّ وجل الذي يقول فيه {فَاقرَءوا ما تَيسَّرَ) (المزمل / (20)، وقد وصلَ هذا العبد [يعني نفسه[ بعد سنوات من الدراسة والتحصيل في العلوم الدينيّة وغيرها إلى هذه النتيجة بشكل صادق، وهي أنّه يصدق عليّ أني «طالبٌ لنَفسي» أكثر بكثير ممّا يصدق عليّ أنّي «طالبٌ للعلوم الدينيّة»، وربّما لو أنّهم وفروا لنا المعايير المتعلّقة بطلب العلوم الدينيّة من البداية، لَمَّا كُنّا اليوم في هذا الوضع، لكنّهم بدلاً من أن يمنحونا المعيار، منحونا الألقاب، ففتحنا «جامع المقدّمات» فأصبحنا «ثقة الإسلام» ، ولبسنا زيّ العلماء فأصبحنا «حُجة الإسلام» وبحمد لله لو أنّنا نجمع المريدين، ونتحدّث بأسلوب علمائيٍّ و ... فلن يطول بنا المقام حتّى نُصبح «آية الله». طبعاً وألْفُ طبعاً يختلف الأمر والحساب مع الأشخاص المخلصين والعلماء، وعددهم ليس بقليل بين رجال الدين
2- «أنا خيرُ شريكٍ مَن أشرَكَ معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً» (الكليني، ج2، ص295)

على حالة نفسه بالنسبة لفضيلةٍ معيّنةٍ أو لرذيلةٍ معيّنةٍ، وكما سنُبيّن لاحقاً يمُكن أيضًا توفير معايير تُبيّن حالةَ النفس العامّة والكلّيّة.

القسم الثاني: التحدّيات التي تواجه الأخلاق المعياريّة

1. إمكانيّة معرفة المَلَكات من خلال المِعيار

ذكرنا أنّ الأخلاق المعياريّة يمُكنها أن تُطلع كلّ شخصٍ على وضعه بالنسبة لما يملك من رذائل وفضائل وذلك من خلال توفير المعايير والإشكال الأوّل الذي يمُكن أن يُطرح هنا هو أنّ الأخلاق المعياريّة في الأساس تضع قدمها في طريقٍ سدّه الله عزّ وجلّ ولم يسمح به إلّا للخواص من عباده فاكتساب البصيرة فيما يتعلّق بعيوب النفس نعمةٌ من النِعم الإلهيّة الخاصّة، ولا يُريد الله أن يُطّلع كلّ الناس على أوضاعهم وأحوالهم من خلال توفير بعض المعايير لهم ، فكما أنّ الطريق الاعتيادي للكشف عن باطن الناس مسدودٌ، ولا يمُكن القيام بذلك إلّا من طُرقٍ خاصّةٍ، فكذلك الإحاطة بعيوب النفس لا يتيّسر إلّا بعنايةٍ خاّصةٍ من الله، ومن هذا المنطلق قال النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله لأبي ذر : «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقّههُ في الدين، وزهّدهَ في الدنيا، وبَصّره بعيوب نفسِه» (الصدوق، 1388 ش، ص 531).

فكما أنّ نعمة فهم الدين وكذلك نعمة الزهد إنّما مُنحتا لعددٍ قليلٍ من الأفراد، فكذلك الأمر بالنسبة للبصيرة بعيوب النفس، فهي لا تحصل إلّا لعددٍ قليلٍ من الأفراد، وبناءً على هذا لا يمُكن أن يكون هناك معايير تجعل الناس مطلعةً على عيوبها بسهولةٍ.

وفي الجواب على ذلك يجب أن يُقال: لا ينبغي أن يُستظهر من الرواية بأنّ الاطلاع على عيوب النفس مهما كان حجمه منحصرٍ بالأولياء وخواصّ عباد الله؛ لأنّه وكما مرّ في الحديث السابق في باب محاسبة النفس «مَن حاسبَ نفسَهُ وقفَ على عُيوبِه وأحاطَ بذنوبِه»، فإنّ محاسبة النفس التي يمُكن إجراؤها من قِبل الجميع، تُعدّ واحدةً من الطُرق لكشف العيوب؛ وبناءً على هذا، فالاطلاع على

ص: 62

عيوب النفس، هو أمرٌ ذو مراتبٍ، وبعض هذه المراتب لا يتيسّر للجميع.

والدليل الآخر الذي يدلّ على أنّ المراد من حديث «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً ... بَصّرهُ بعيوبِ نفسِه» مرتبةٌ خاصّةٍ من الاطلاع على العيوب، هو ما ورد في الحديث الآخر للرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله والذي يقول فيه : «إذا أراد الله بعبد ٍخيراً عاتبه في مَنامه» (پاينده، 1359 ش، الحديث 156). فهذا الحديث الشريف شاهدٌ واضحٌ على أنّ المُراد من البصيرة بالعيوب التي في الرواية السابقة كان نوعًا خاصًّا من الاطلاع على العيوب، لا كلّ نوعٍ من الاطلاع، وقد كتب العارف الربّاني المرحوم آية الله السيّد محمّد الحسين الطهراني حول رؤيا السلّاك على الخصوص ما يأتي:

«فإنّ تعبير رؤيا السالكين يختلف عن تعبير نفس الرؤيا لغير السالكين... وترك المشتهيات المادّيّة واللذائذ الشهويّة لله وفي الله وترك هذه الأمور - الذي هو عين أعمال التقرّب إلى الله - يتمثّل للسالك في النوم بصورة طعامٍ لذيذٍ وفاكهةٍ حلوةٍ وبشكل روضةٍ وبُستانٍ وحشائش خضراء وماءٍ صافٍ زلالٍ،... وإذا ما قدّم السالك أحيانًا لذّة نفسه فإنّه يرى تلك الليلة كأنّ عقربًا يلسعُه». (الطهراني، 1424 ه_، ص 138).

إذن فالاطلاع على عيوب النفس له أنحاء مختلفة ، وبعض مراتبه فقط، يقتصر على الخواصّ من عبيد الله، أمّا ما نقوله من أنّ اطلاع الإنسان على عيوب النفس بمرتبةٍ من المراتب مُمكن للجميع، ليس غير ممنوعٍ وحسب، بل هناك ما يدلّ عليه، وكنموذجٍ على ذلك، يمُكن الاستفادة من الآية النورانيّة: {رَبُّكُم أعلَمُ بما في نفوسِكُم} (الإسراء / 25) بأنّ للإنسان اطلاعاً على ما يجري في نفسه إلى حدٍّ ما (وتفصيل الاستدلال مع الالتفات إلى سياق الآية غير مُتيسّرٍ في هذه العجالة) وفي سورة القيامة النورانيّة، قال تعالى: {بَلِ الإِنسُنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ} (القيامة / 14) وفي هذه الآية نجد أنّه رغمَ النظرة البدويّة قد تجعلنا نظنّ أنها تتحدّث عن يوم القيامة، لكنّ الروايات التي نُقلت تدلّ على أنّ الإنسان يطّلع على خصائص نفسه في هذه الدنيا (الطباطبائي، 1391 ش، ج 20، ص 106) .

ص: 63

كذلك لا بدّ من الالتفات إلى أنّ السُبل المعروضة في أكثر الكتب الأخلاقيّة لاختبار الكِبر في النفس هي سُبلٌ للبحث عن عيوب النفس، ولم يعتبر أيّ عالمٍ من علماء الأخلاق أنّ هذه السُبل متعارضة مع حديث النبيّ صلّی الله علیه و آله الذي خاطب فيه أبا ذرٍّ، ومن الواضح أنّنا لا ندعي أنّ الأخلاق المعياريّة تُؤدّي إلى حصول الإنسان على «إحاطة علميّة» على الرذائل والفضائل النفسيّة، بل المدُّعى هو أنّه يمُكن للجميع الاطلاع من خلال الأخلاق المعياريّة على مرتبةٍ من العلم برذائلهم أو فضائلهم النفسيّة، وهو وهو أمرٌ له أثرٌ كبيرٌ في عمل الإنسان.

2. تطبيق الأخلاق المعياريّة بالنسبة للفضائل

الإشكال الثاني الذي يمكن طرحه هو أنّه لا يمكن للمرء أن يُعمّم الأخلاق المعياريّة حتّى بالنسبة للفضائل؛ لأنّه الإنسان سيتعرّف على الفضائل التي يتمتّع بها من خلال الأخلاق المعياريّة، في حين لا ينبغي للإنسان أن يَرْكن إلى فضائله، فتكليفنا هو أن نتّهم أنفسنا، وأن نعتقد بأنّنا معرّضون للخطأ، «وتعداد الفضائل» لأنفسنا، يُهيّءُ الأرضيّة لغرورنا، وهذا خلاف أحد أهمّ أهداف الأخلاق الإسلاميّة، يعني تنقية النفس من الرذائل.

والجواب على ذلك: أوّلاً : لا يمُكن الجمع بين الاعتقاد بكون الأخلاق المعياريّة مفيدةً في باب الرذائل، ومضرّةٌ في باب الفضائل، حيث يمُكن للإنسان بعد توفير معيارٍ له في باب رذيلةٍ من الرذائل، أن يصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه ليس لديه هذه الرذيلة في وجوده، أو أنّها ضعيفةٌ، وإذا لم نقل دائماً فعلى الأقل في كثيرٍ من الحالات يمُثّل فقدان رذيلةٍ ما دليلاً على أنّ الفضيلة التي تُقابلها موجودةٌ لدى الشخص، مثلاً: جاء في عددٍ من الكتب الأخلاقيّة ومن بينها: «إحياء علوم الدين» و «جامع السعادات»، بأنّ الصحابة لمّا كانوا يعلمون بأنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله ينزعج إذا قام له أحد الحاضرين إذا دخل إلى المجلس، لذا لم يكن أحدٌ منهم يقوم من مجلسه إذا دخل(1). وهذا بنفسه عبارةٌ عن معيارٍ حول مرتبةٍ من مراتب الكِبر؛ يعني إذا كان هناك شخصٌ يرى قيام

ص: 64


1- «وكانوا إذا رَأوه لم يقوموا له لِمَا يَعلمون مِن كراهته لذلك» (الغزالي، 1406 ه_، ج 3، ص 374 الغزالي، 1209 ه_، ج 1، ص 392)

شخصٍ له، فينزعج من ذلك واقعاً في قلبه، فيعرف أنّه تخلّص من الكِبر أو من مرتبةٍ من مراتبه، وهذا الأمر لا يمُكن أن يحصل ما لم توجد مرتبةٌ من مراتب التواضع فيه، مِن هنا نجد أنّ العلماء من قبيل الغزالي والفيض الكاشاني يرون في توضيحهم للمصطلحات الثلاثة المشهورة «التخلية والتحلية والتجلية» بأنّ المصطلحين الأوّل والثاني متلازمان دائماً، أي إنّ التخلية عن أحد الرذائل يتلازم مع التحلية بإحدى الفضائل (الغزالي، 1406ه_، ج 1، ص 26)، وبناءً على هذا، لا يمُكن القول بأنّ الأخلاق المعياريّة مُفيدةٌ بالنسبة للرذائل وفي نفس الوقت مضرّةٌ بالنسبة للفضائل.

ثانيًا : إذا اعتبرنا أنّ احتمال الغرور هو المانع من استعمال الأخلاق المعياريّة في باب الفضائل، فبنفس هذا الدليل يمُكن الاستدلال على لزوم الاقتصار على محاسبة النفس فيما يتعلّق بالرذائل فقط دون الفضائل، في حين أنّه في محاسبة النفس، كما أنّ الإنسان يُعدد معاصيه وأغلاطه ويستغفر منها ، كذلك يُعدد ما فعله من أمورٍ حسنةٍ ويحمد الله عليها، ويجب الالتفات إلى أنّ هذا الدستور العامّ لا يقتصر على علماء الأخلاق، بل هو عين مفاد رواية : «ليسَ مِنّا مَن لم يُحاسب نفسَهُ...» الذي ذُكر سابقاً حول محاسبة النفس.

ثالثًا : ذِكر الحسنات والفضائل أو الالتفات إليها ، إذا ما حصل بضوابطه، فليس فقط لن يُؤثر أثرًا سلبيًا وحسب، بل سيُصبح العبد أكثر عزمًا على عبوديّته لله، وكما نعلم فإنّ هناك ترابطاً بين صلاة الليل وبين الاستيقاظ في الأسحار، قال تعالى: {والمُستَغفِرينَ بالأسْحَار} (آل عمران / (17)؛ {وبالأسْحَارِ هُم يستَغفِرون} (الذاريات / 18). ولذلك نجد أنّ الإمام موسى بن جعفر علیه السّلام يدعو بهذا الدعاء بعد الركوع من صلاة وتره: «هذا مقامُ مَن حسناتُه نِعمةٌ منك وشكرُه ضعيفٌ وذنبُه عظيمٌ» (القمي، 1377 ش، قسم كيفيّة صلاة الليل ص 893). ففي صلاة الليل التي فيها اعتمادٌ شديدٌ على الاستغفار، يُشير من يُحيي الليل في قالب هذا الدعاء إلى حسناته أيضًا ، ولكنّه بالطبع ينسبها إلى الله عزّ وجلّ، ويعترف بشكره الذي لا قيمة له، وبناءً على هذا، ففي الأخلاق المعياريّة، إذا كان الالتفات إلى الفضيلة مصاحبًا للتبصّر والحذر ، فلن يَنجرَّ إلى الغرور (1) .

ص: 65


1- لو أنّ شخصًا يفهم الكلام المعروف والعميق للمرحوم آية الله السيّد محمّد حسن الإلهي الطباطبائي بشكلٍ صحيح، لكان كافيًا في أن لا يقع في الغرور، فهو كثيرًا ما كان يُكرّر هذه الجملة، وهي أنّه علينا أوّلاً أن نتوب من الأعمال الصالحّة التي عملناها فما بالك بالمعاصى (الطباطبائی، 1387 ش ، ص 46)، النقطة الأخرى التي يمُكن أن تُشكّل مانعاً من غرور الإنسان بما لديه من فضائل هي أنّ الفضائل نسبيّة، وأنّها إنمّا تظهر في بعض الظروف الآنيّة، وليس من المعلوم أن يُحافظ الإنسان عليها في الظروف الأخرى أيضاً، وبتعبير جلال الدين الرومي، الكلاب نائمةٌ في نفس الإنسان، وعددهم كبيرٌ وحتّى لو أنّهم كانوا نائمين وغير بارزين، فذلك فقط لأنّهم ليس لديهم الطعام المناسب، قال: چون ک ه در کوچه خری مردار شد *** صد سگ خفته بدان بیدار شد صد چنین سگ اندر این تن خفته اند **** چون خوراکی نیست شان بنهفته اند ]والمعنى: حينما مات حمارٌ في داخل الزقاق استفاق مائة كلبٍ من نومتهم، وهناك مائة كلبٍ مثلها مختفية ٌتحت هذه الثياب، ولكن لم يتوفّر طعامها، لذا فهي ما زالت نائمة[. النقطة الأخرى هي أنّ الفضائل - كالرذائل - لها مراتبٌ، ومن هنا لا تقتصر كلّ فضيلة على معيار واحدٍ، والناس الاعتياديون إذا كان لديهم فضيلةٌ ما، فليس لديهم إلّا مرتبةٌ منها لا جميع مراتبها؛ ومن ثمَّ فالاطّلاع علىً فضيلةٍ نفسانيّة أحيانًا ليس فقط لا يوجب الغرور، بل هو بنفسه يمُثّل دافعًا جديدًا للوصول إلى المراتب الأعلى، أمّا الذين يخرجونَ مرفوعين الرأس من امتحانات المعايير في جميع المراتب فهم الكُمَّل فقط، وإذا كان المفترض أن تزلّ أقدام هؤلاء أيضًا في وادي الغرور، فهذا يعني أنّهم لم يصلوا إلى هذه المقامات بعد، والتذكير بهذه النقطة لا يخلو من الفائدة أيضًا، و ، وهي أنّه إذا كان المفترض أن يكون لكلّ رذيلةٍ وفضيلةٍ معياراً ، فللغرور معيارٌ أيضًا، ويمُكن للإنسان من خلال مراجعته لمعيار الغرور أن يتعرّف هل أصابه الغرور في نفس الوقت وأن يحمي نفسه منه، وعلى كلّ حال، فمجرّد التدبّر في بعض الآيات، لا يُبقي للإنسان العاقل غروراً بالنسبة لفضائله، قال تعالى: {ولَولا فَضلُ الله عَلَيْكُم وَرَحمَتُهُ ما زكى مِنكُم مِن أحَدٍ أبَدًا ولكِنَّ اللهَ يُزَكي مَن يَشَاءُ واللٌه سَميعٌ عَليم} (النور / (21)

وعلى أيّة حالٍ فالفضائل النفسيّة هي نِعمٌ إلهيّةٌ، وليس لدينا من دليلٍ يجعلنا أن نستثنيها من حكمِ {وأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّتْ} (الضحى / 11).

3. الأخلاق المعياريّة والوضع الأخلاقي العامّ والكلّي

الإشكال الآخر ناظرٌ إلى توفير المعايير حول الوضع الأخلاقي الكلّي للفرد، فمن الممكن أن يُقال : قد نَقبل بأنّ الفرد يمُكنه أن يطّلع من خلال المعايير على ما يمتلكه مِن رذيلةٍ خاصّةٍ أو فضيلةٍ خاصةٍ، ولكن من غير الممكن التوصّل من خلال الأخلاق المعياريّة إلى أيّ نتيجةٍ تتعلّق بالوضع العامّ والكلّي لأخلاق الأفراد؛ لأنّه لا وجود لهذا النوع من المعايير، وبعبارةٍ أخرى كلّ فضيلةٍ أو رذيلةٍ، يمُكن أن يكون لها معيارها أو معاييرها الخاصّة بها، ولكن ليس لدينا رذيلةٌ عامّةٌ أو فضيلةٌ عامةً حتّى نرغب بتوفير معيارٍ كلىٍّ لها .

لقد نشأ هذا الإشكال من الفرض المسبق القائل بأنّ الرذائل (وكذلك الفضائل) مُنفصلةٌ عن بعضها البعض، ولا يوجد أيّ علاقةٍ خاصّةٍ فيما بينها، في حين أنّه على الأقل هناك ارتباطٌ بين بضع الرذائل (والفضائل)، بمعنى أنّه يمُكن لرذيلةٍ خاصّةٍ أن

ص: 66

تؤدّي إلى رذائل أخرى، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الفضائل (1)، وقد عَدّت الرواياتُ الفضائلَ مترابطةً مع بعضها البعض، [قال الإمام الصادق علیه السّلام[ : «إِنَّ خِصالَ المكارِمِ بَعضُها مُقَيَّدٌ بِبَعضٍ» (العاملي، 1403 ه_، ج 11، ص434) وقد أكّد أمير المؤمنين علیه السّلام على أنّ بعض الفضائل أحيانًا تجرّ فضائل أخرى، قال: «إِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ خَلَّةٌ رَائِقَةٌ فَانْتَظِرُوا ]مِنْهُ] أَخَوَاتِهَا» (السيّد الرضي، 1369 ه_، الحكمة رقم 445).

وإذا كان الأمر كذلك، بحيث يمُكن لفضيلةِ معيّنةِ أن تؤدّي إلى فضائل أخرى، وكذلك كان يمُكن لرذيلةٍ معيّنةٍ أن تستتبع رذائل أخرى - وذلك كما تُشعر به الرواية حول الكذب (2)- عندها يمُكن لنا من خلال تمييز بعض الفضائل والرذائل المِفتاحيّة أن نُزاوج بين ذلك وبين سبيل الاطلاع على الوضع الكلّي لنفوس الأفراد.

ويمُكن استنباط هذه الرؤية فيما يتعلّق بالرذائل أو الفضائل المفتاحيّة من القرآن أيضًا، فالقرآن يُؤكّد على وجود دورٍ أساسيٍّ لبعض الفضائل أو الرذائل في نيل السعادة أو في حصول البُعد.

إنّ المقارنة بين الآيتين التاليتين، تعطينا نتيجةً مثيرةً للإعجاب، قال تعالى: {فَأَما مَن تَابَ وَآمَنَ َوعَمِلَ صلِحًا فَعَسى أن يكونَ مِنَ المُفْلِحين} (القصص / 67)، وقال تعالى : {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحون} (الحشر / 9 ).

أفليس من العجيب أنّ الله في الآية الأولى لم يُعطِ وعدًا قطعياً بالفلاح حتّى بعد «التوبة» و«الإيمان» و «العمل الصالح» حيث قال: {فَعَسى أن يكونَ مِنَ المُفْلِحين}، وفي المقابل نجد أنّه يُعطي وعدًا قطعيًّا بحصول الفلاح لمن وقى نفسه من «شُحّ نفسه» بل حتّى استعمل لذلك تعبيراً يُفيد الحصر ، قال تعالى: {فَأولئِكَ هُمُ المُفْلِحون}! وقد جُعل «الشُّحّ» الذي يعني البخل المصاحب للحِرص، بنحوٍ من الأنحاء مركزا للاهتمام في الآية الأخرى – {وأحضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ} (نساء /128) - وهو ما يؤيّد الدور المفتاحي

ص: 67


1- لقد كانت العلاقة بين الرذائل والفضائل محلّ اهتمام أكيدٍ من قبل المرحوم الخواجة نصير الدين الطوسي في كتابه «أخلاق ناصري» (راجع الطوسي، 1360 ش، المقالةً الأولى، الفصل الرابع إلى الفصل الثامن)
2- «جُعِلَتِ الخَبَائِثُ كُلُّها في بَيْتٍ واحدٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهَا الكَذِبَ» (المجلسي، 1403 ه_، ج 69، ص 263)

لهذه الرذيلة النفسانيّة في مجال الوضع الأخلاقي الكلّي والعامّ للإنسان.

كذلك الأمر في جانب الفضائل ، حيث يُستنتج من بعض الآيات بأنّه يمُكن أن يكون لبعض الفضائل دورًا حياتيًا وأساسيّاً يُغيّر مسار الوضع العامّ والكلي للإنسان، وتمُثّل الآية 119 من سورة المائدة نموذجاً لذلك، قال تعالى: {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}.

وبناءً على هذا، فمع الالتفات إلى علاقة الفضائل ببعضها البعض وكذلك علاقة الرذائل مع بعضها البعض، يمُكن لنا من خلال التدبّر في آيات القرآن وفي الروايات، أن نَحصُل على المعايير الأساسيّة لتشخيص الوضع العامّ والكلّي للأفراد.

4. صعوبة وتعقيد توفير المعيار

التحدّي الآخر الذي ينبغي أن نُشير إليه، هو أنّ توفير المعايير في باب الرذائل والفضائل وعرضها يعتريه بعض التعقيدات ويحتاج إلى دقّةٍ خاصّةٍ، وقد عرضنا قبل قليلٍ معياراً لكشف وجود الإخلاص، وهو أنّ الإنسان إنّما يكون مخلصًا فقط حينما يكون مسرورًا من إنجاز العمل الصالح عن طريق شخصٍ آخر بنفس مقدار سروره لو صدر منه، وهذا المعيار - على الأقل - لا ينسجم للوهلة الأولى مع ما ورد في بعض الأدعية، ففي الدعاء لوليّ العصر عجل الله فرجه والذي يرويه يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا علیه السلام ، والذي جاء في «مفاتيح الجنان» بعد دعاء العهد، نجد أنه بعد أن يدعو الداعي بأن يكون من خُدّام الإمام الحجّة عجّل الله فرجه، يَطلب من الله المساعدة والمدد ، ويطلب منه أن يكون ذلك خالصًا من كلّ رياءٍ وسمعةٍ، ويستمرّ بهذه الحالة في الدعاء ويقول : «وَلَا تَسْتَبْدِلْ بنَا غَيْرُنَا فَإِنَّ اسْتبْدَالَكَ بنَا غَيْرُنَا عَلَيْكَ يَسِيرٌ وَهُوَ عَلَيْنَا كَثِير» (القمي، 1377 ش ، ص 723). فالإنسان المُخلِص إخلاصاً كاملاً ، يُريد من الله أن لا يستبدله بغيره في حصول هذا التوفيق الإلهي، ویری أنّ هذا الأمر ثقيلٌ وصعبٌ عليه، وهذا يعني أنّه لابدّ من بحث المعيار السابق حول الإخلاص بتأمّلٍ أكبر.

ومن الواضح أنّ الأسئلة التي يجب أن يُجاب عليها في باب الأخلاق المعياريّة

ص: 68

لا تتعلّق فقط بتعيين المعايير والأسئلة الآتية هي من ضمن الأسئلة التي ينبغي الحصول على إجابتها قبل تدوين المعايير : هل مصدر المعايير في الأخلاق يجب أن لا يكون إلّا القرآن والروايات وحسب، أم يمُكن أن يكون للمعايير العقليّة البحتة دورٌ في هذا المجال أيضًا؟ وهل يمُكن أن يكون للعلوم التي هي من قبيل علم النفس أن تُساعد الأخلاق المعياريّة؟ وما هي نسبة الخطأ المحتملة في الأخلاق المعياريّة؟ وهل يمُكن لخداع النفس أن يُؤثِّر سلبًا على فعاليّة التشخيص في الأخلاق المعياريّة؟ وهل تُوفّر الأخلاق المعياريّة للفرد تشخيصًا كاملاً للفضائل والرذائل النفسيّة؟ وهل الأخلاق المعياريّة عامّةٌ، بمعنى أنّها قابلة للتطبيق حتّى لو كان الإنسان مصداقاً لقوله تعالى: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (المنافقون / 3) ؟ وما هي الكلمات المفتاحيّة التي يمُكن 3)؟ الاستعانة بها لإيجاد المِلاكات في الآيات والروايات؟ وكيف يمُكن لنا الاستعانة بالإرث الأخلاقي الإسلامي بالنحو الأمثل من أجل الأخلاق المعياريّة؟

ينبغي التعرّض لهذه الأسئلة في مجالٍ آخر.

الاستنتاج

إذا غضضنا النظر عن العدد المحدود جدًا من المتعلّمين، فإنّ الإرث العظيم المكتوب في باب الأخلاق الإسلامي، قليلُ الفائدة بالنسبة لأغلب أفراد المجتمع، وأحيانًا يبقى من دون أن يُستفاد منه أصلاً، وعندما يُظهر طلاب الأخلاق الإسلاميّة عطشهم من أجل معرفةٍ أكبر في هذا الباب، يُرجع أجمعهم إلى نسخةٍ واحدةٍ من الكتب، من قبيل كتاب «معراج السعادة» ]بالنسبة للقارئ الفارسي، و«جامع السعادات» بالنسبة للقارئ العربي[، وفي النتيجة فإنّ الأشخاص الذين ليس لديهم المعرفة الصحيحة للرذائل والفضائل، سيُواجهون قائمةً طويلةً من الرذائل وعلاجاتها ومن الفضائل ومزاياها وسيبقون في حالةٍ من الحيرة والدهشة وأنّه كيف السبيل للعمل بهذه الوصفة التي كُتبت لجميع هذه الأمراض؟!

ومن خلال تجمیع المعايير الدقيقة في الرذائل والفضائل في كتابٍ واحدٍ صغيرٍ - والذي يحتاج تدوينه إلى همّةِ مجموعةٍ من المُحقّقين وإلى صرفِ وقتٍ طويلٍ من

ص: 69

أجله - ومن خلال توفير هذه المعايير للمجتمع ، يمُكن لكلّ واحدٍ إلى حدٍّ ما أن يَطَّلع على حالته فيعرف ما يمتلكه من الفضائل والرذائل في الحال، فيعرف مثلاً أنّه يُعاني من الرياء بشكلٍ ضعيفٍ أو متوسّطٍ أو شديدٍ، أو أنّ إخلاصه يقع في أيّ درجةٍ، ويمُكن له من خلال المعايير المفتاحيّة أن يتعرّف على وضعه وحالته العامّة، فكما نحتاج إلى «مفاتيح الجنان» نحتاج أيضًا إلى «مفاتيح الحياة» وكذلك نحتاج إلى «معايير الحياة» أيضًا كي يتمكّن كلُّ شخصٍ بمساعدة هذه المعايير من معرفة أيّ المفاتيح التي ينبغي عليه أن يذهب إليها أوّلاً، وأيّ الأبواب يفتح، ومن ثمَّ يتعرّف على مسيره في التكامل الأخلاقي، إنّ فرصة الحياة قصيرةٌ جدًا، بحيث يمُكن لجرس الانتهاء أن يُقرع في أيّ لحظةٍ، ولن يبقى مجالٌ للإنسان بأن يبقى متحيّراً في اختيار المفاتيح

إنّ الإنسان الذي يمُكن أن يكون بأعماله مصداقا لقوله تعالى: {وهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا} (الكهف / 104)، أو يُبتلى بسرطان {فَأَنسهُم أَنفُسَهُم} (الحشر (19) الذي لا علاج له، أو انسدّ طريقه نحو الكمال من خلال {فَطُبعَ عَلَى قُلوبِهِم} (المنافقون/3) يحتاج إلى أن يكون مُطَلعًا بنحوٍ مستمرٍّ على وضعه الأخلاقيّ والمعنويّ، وبرأينا فإنّ الأخلاق المعياريّة مضافًا إلى أنّها تستطيع أن تُساعد الإنسان في هذا المسير ولو بشكلٍ نسبيٍّ، فكذلك آثارها إن لم تكن أكثر من محاسبة النفس، فليست أقل.

ص: 70

المصادر

1. القرآن الكريم.

.2 ابن مسكويه أحمد : (1426ه_)، تهذيبُ الأخلاق وتطهير الأعراق، النجف طليعة النور.

.3 ابن بابويه (الشيخ الصدوق)، محمّد بن علي : (1338 ش)، الأمالي، طهران، کتابفروشی اسلامیه.

.4 الآمدي عبد الواحد: (1366 ش)، تصنيف غرر الحكم ، تحقيق مصطفى درايتي، قم، مكتب الإعلام الإسلامي.

.5 الإلهى الطباطبائي، السيّد محمّد حسن: (1387 ش)، إلهيّة (يادنامه) [=مذكّرات إلهيّة]، طهران شمس الشموس.

6. پاینده أبو القاسم: (1356 ش)، نهج الفصاحة، طهران، سازمان چاپ و انتشارات جاویدان.

.7 الطهراني، السيّد محمّد الحسين: (1424ه_)، الروح المجرّد، بيروت، المحجّة البيضاء.

8. جالينوس: (1353 ش)، جوامع کتاب طيماوس في العلم الطبيعي، إخراج حنين بن اسحاق، في «أفلاطون في الإسلام : نصوص، حقّقها وعلّق عليها عبد الرحمن بدوي»، طهران، مؤسسهء مطالعات اسلامی دانشگاه مک گیل.

.9 الرازي محمّد بن زكريّا : (1939م) ، رسائل فلسفيّة، كتاب الطب الروحاني، القاهرة، بول كراوس.

.10 السيّد الرضي، محمّد : (1369 ه_)، نهج البلاغة، تصحيح: محمد دشتي، قم، نشر إمام علي (ع).

.11 شبّر، السيّد عبد الله : (1383ه_)، الأخلاق، تدقيق جواد شبّر ، مُقدّمة السيّد محمّد القطيفي، النجف، مطبعة النعمان.

12. الطباطبائي، السيّد محمّد حسين: (1391ه_)، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

13. الطوسي، نصير الدين: (1360 ش)، أخلاق ناصري [=الأخلاق الناصريّة[، مجتبى مينوي وعلي رضا حيدري، طهران، خوارزمي.

14. العاملي، محمّد بن الحسن (الشيخ الحرّ) : (1403 ه_)، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

15. الغزالي، محمّد : (1406ه_)، إحياء علوم الدين، بيروت، دار الكتب العلميّة.

.16 . الفيض الكاشاني، الملّا محسن : (1378 ش)، الحقايق في محاسن الأخلاق، طهران، کتابفروشی اسلامیه.

ص: 71

17. الفيض الكاشاني، الملّا محسن : (1403 ه_)، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

18. القمي، الشيخ عبّاس: (1365 ش) كلمات طريفة، قم، مؤسسه در راه حق.

19. : (1377 ش)، كليّات مفاتيح الجنان، قم، انتشارات فاطمة الزهراء.

20. الجيلاني، عبد الرزاق: (1360 ش)، الشرح الفارسي لمصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، طهران، کتابخانه صدوق.

21 مجتبوي، السيّد جلال الدين: (1367 ش)، علم اخلاق اسلامی [=ترجمة كتاب جامع السعادات للفارسيّة[، طهران، حكمت.

.22. المجلسي، محمّد باقر : (1403 ه_) ، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الوفاء.

.23 المحاسبي، الحارث : (1389 ه_)، الرعاية لحقوق الله، بيروت، طباعة عبد القادر أحمد العطار.

.24 محقق، مهدي: (1346 ش)، رازی در طب روحانى [=الرازي في الطبّ الروحاني[ ، نشريهء دانشکدهء ادبیات و علوم انسانی دانشگاه تهران، السنة 4، (1346 ش) ، رقم 4.

.25 محمّدي الري شهري، محمّد: (1383 ش)، ميزان الحكمة، قم، دار الحديث.

26. النراقي، المُلّا أحمد: (1370 ش)، معراج السعادة، طهران، دهقان.

27 . النراقي، المُلّا مهدي: (1209ه_)، جامع السعادات، بيروت، مؤسسة الأعلمي.

ص: 72

الأخلاق الدينية والواقعية الأخلاقية

الأستاذ محمد لغنهاوزن (1)

ترجمة هبة ناصر

خُلاصة

تهدفُ هذه المقالة إلى استكشاف العلاقات بين الأشكال المختلفة من الواقعية الأخلاقية وبعض الآراء حول الأخلاق الدينية، وعلى وجه الخصوص الأخلاق الدينية في التراث الإسلامي. تجدرُ الإشارة إلى أنّ كلّ ما ورد في هذه المقالة ينطبقُ أيضاً على الآراء الأخلاقية في التعاليم الدينية الأخرى. أولاً ، تُقدّم هذه المقالة عرضاً تاريخياً موجَزاً لتصاعد الواقعية الأخلاقية في القرن العشرين، وتمُيِّزُ ثانياً بين الأنواع الرئيسية من الواقعية الأخلاقية، بينما تحتجُّ ثالثاً على أنّه لكلّ نوعٍ رئيسيٍ من هذه الواقعية - سواءً الواقعية الأخلاقية الشديدة أو الواقعية الأخلاقية الطفيفة - يمُكن صياغة وجهات النظر الدينية التي تتطابقُ مع كلٌّ من التوجِّه نحو تبنّي الواقعية أو رفضها. ولكن في كلتا الحالتين، ينبغي على عالِم الأخلاق أن يدفع ثمن تبنّيه أو رفضه. في الختام، يحتجّ الكاتب على أنّ الموقف الذي تبنّاه أبرز الفلاسفة المسلمين - والذي يرجع إلى ابن سينا مروراً بالملّا صدرا - يلتقي في نقاطٍ مهمة مع الموقف غير الواقعي.

المصطلحات الرئيسية

النظرية الأخلاقية الأخلاق الإسلامية الإبستمولوجيا الأخلاقية، الواقعية

ص: 73


1- أستاذ مُساعد في مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث

الأخلاقية، الواقعية الشديدة البنّائية ،الأخلاقية، الأشاعرة، المعتزلة، المشّائيون، الأخلاق الدينية، المافوق أخلاقية الشيعية.

مقدّمة

جورج إدوارد مور وأصول الواقعية الأخلاقية المعاصِرة

قد يحتجّ أحدهم على أنّ الواقعية الأخلاقية نشأت على يد أفلاطون، فالخير هو جزءٌ من ثالوث يضمُّ الجمال والحقيقة في قطْبيه الآخَرين ويُشكّلُ العالَم السامي للمُثُل الأفلاطونية. ولكن في القرن العشرين، وقف جورج إدوارد مور (1958-1873) وراءَ استحداث الواقعية الأخلاقية المعاصِرة. في العام 1903، نُشِر كتابُه «الأصول الأخلاقية»، ومع هذا الكتاب ظهرت الأخلاق الفوقية لأوّل مرة كفرعٍ متميّزٍ في علم الأخلاق حيث تُبحَث معاني المصطلحات الأخلاقية وتُحلَّل المفاهيم والافتراضات الأخلاقية.

يُعَدُّ جورج إدوارد مور أحد المؤسّسين للفلسفة التحليلية، وكتابه «الأصول الأخلاقية» هو من ضمن المؤلَّفات التي ساهمت في تعريف هذا النمط والمنهاج الفلسفي. ادّعى مور أنّه كان بصدد إجراء تحليلٍ مفهومي، أي: إرجاع الافتراضات إلى المفاهيم التي تتكوّن منها وتحويل المفاهيم إلى أفكارٍ أبسط حتّى يصل الفردُ إلى مفاهيم أولية غير قابلة للتعريف كالخير. قام برتراند راسل (Bertrand Russell) في جامعة كامبريدج بدعم مطالبه لاتّباع الصلابة المنطقية، ولاحقاً نال مور دعمَ لودفيغ فيتغنشتاين كذلك. بالرغم من أنّ المؤرّخين يعتبرون أنّ هؤلاء العلماء الثلاثة هم مؤسّسو الفلسفة التحليلية، إلا أنّ كلَّ واحد ٍمنهم كان لديه رأيه الخاص فيما يتعلّق بكيفية إجراء التحاليل.

في كتاب «الأصول الأخلاقية»، سعى مور لدحض جميع النظريات الأخلاقية الرئيسية التي عاصرها كالمثالية والتطوّرية والنفعية. بالرغم من أنّه قد دافع عن نوعٍ من النفعية المثالية، إلا أنّ هذا النوع كان بعيداً عن أشكال النفعية التي تبنّاها

ص: 74

المنظِّرون الأخلاقيون السابقون، فقد اتّخذ مور موقفاً ثائراً. فيما يتعلّقُ بالأخلاق العملية، لم يدافع مور عن الأخلاق الدينية، ولا عن النشاط السياسي الإصلاحي الذي كان يُناصره بينثام (Bentham) والفيلسوفَيْن من آل ميل (Mill)، ولا عن الصلابة الأخلاقية المنسوبة إلى أخلاقيات الواجب لدى كانط في الواقع، ناصَرَ مور مذهب الجمالية والتمتُّع بالصحبة الصالحة والصداقات العميقة، وتقدير الفن والجمال الطبيعي، والنظر إلى الحياة على النحو الذي كان ينظرُ إليها المؤلِّفون والفنّانون في العصر الفكتوري من أمثال أوسكار وايلد (Oscar Wilde) ووالتر بايتر Walter Pater). بعد طباعة كتاب «الأصول الأخلاقية»، أصبح مور الفيلسوفَ الحكيمَ في عيون نخبة طلّاب جامعة كامبريدج الذين شكّلوا معه جماعةً سريّةً تُدعى «الرُّسُل»، وفي عيون المفكّرين الذين أصبحوا يُعرفون بمجموعة بلومسبري(Bloomsbury).

في الأخلاق النظرية، بدا مور متمرّداً كذلك دخل آخرون في الجدال حول التعريف المناسِب ل_ «الخير» ولكن صرّح مور بأنّ الخير هو غير قابل للتعريف واتّهم أيَّ شخصٍ يعارضه بأنّه يرتكب خطأ أسماه «المغالطة الطبيعية». عدّ مور أنّه إذا فكّرنا بكلّ الأشياء الخيّرة سوف نجدُ بأنّها لا تشتركُ جميعاً بخاصيّةٍ طبيعيةٍ واحدة، ولا يمُكن تحديد الخير بالفائدة أو إرادة فعل الواجب أو أي شيء آخر. كما أشار برنارد ويليامز (Bernard Williams) وآخرون، فإنّ «المغالطة الطبيعية» ليست مغالطةً في الواقع لأنّها تنطبقُ على ما يعتبره مور آراءً خاطئة وليس استنتاجاتٍ مختلّة. علاوةً على ذلك، قام مور بتطبيق مصطلح «المغالطة الطبيعية» على نظريات الأمر الإلهي وأيضاً على النظريات التي تُعرِّف الخير على ضوء الخصائص الطبيعية. من ثمَّ، فإنّ علماء الأخلاق المتديّنين سيكونون بصدد ارتكاب الخطأ إذا قاموا بتفسير الهجوم على المذهب الطبيعي في نظرية مور الأخلاقية كدليلٍ على الخضوع للإيمان الديني.

يُقدّم مور مصطلح «المغالطة الطبيعية كما يأتي:

«قد يصحُّ أنّ كلَّ الأشياء الخيّرة هي شيءٌ آخر كذلك، كما يصحُّ أنّ كلّ الأشياء الصفراء تُنتجُ نوعاً معيّناً من الذبذبة في الضوء. يُفيدُ الواقع أنّ علم الأخلاق يهدفُ

ص: 75

لاستكشاف الخصائص الأخرى التي تنتمي إلى جميع الأشياء الخيّرة. ولكن ظَنّ عددٌ كبيرٌ من الفلاسفة أنّهم حينما أطلقوا الأسماء على تلك الخصائص الأخرى كانوا بصدد تعريف الخير فعلاً؛ أي إنّ تلك الخصائص ليست شيئاً «آخر» ببساطة بل هي نفس الخير بشكل مُطلق وتام. أنا أطرحُ تسمية هذا الرأي «مغالطة طبيعية» وسوف أسعى للتخلّص منه».

في تكملة لهذا النقاش، نجدُ أنّ مور قام بالتأكيد على ثلاثة ادّعاءات:

1. لا يمُكن استنتاج الافتراضات الأخلاقية بشكلٍ صحيح من الافتراضات غير الأخلاقية.

2. المصطلحات الأخلاقية (ومن ضمنها «الخير» على وجه الخصوص) ليست قابلة للتعريف على ضوء المصطلحات غير الأخلاقية.

3. الخصائص الأخلاقية تختلفُ في نوعها عن أيّ خصائص غير أخلاقية أو أيّ ترکيب لهذه الخصائص.

الادّعاء الأول منطقي، والثاني لفظي، والثالث ميتافيزيقي، وهذه الادّعاءات الثلاثة بتمامها هي مثيرةٌ للجدل ولا يمُكن ترسيخها عبر اتّهام من لا يقبل بها بارتكاب المغالطات. افْتَرِضُ أنّ أحدهم يتبنّى مذهب السعادة ويعتقد بأنّ الخير هو ما يقودُ إلى الهناء الأقصى. لقد ساد هذا الموقف في الأفلاطونية اليهودية والمسيحية والإسلامية. لا تردُ أيُّ مصطلحاتٍ أخلاقية في عبارة «يقودُ إلى الهناء الأقصى»، ومن ثمَّ وفقاً للادّعاء الثاني لا يمُكن الاستفادة منها لتعريف «الخير». ولكن لا يعتقد الأفلاطونيون أنّ خاصية الإيصال إلى الهناء الأقصى هي خاصيةٌ غير أخلاقية. أما مور، فإنّه يرى أنّ خاصية الخيرية تختلف في ماهيتها عن خاصية الإيصال إلى الهناء، وذلك لأنّه يعتبر أنّ هذه الخاصية الأخيرة ليست أخلاقية. قد يحتجّ المدافع عن مور بأنّ تعريف الخير على ضوء الهناء الأقصى لا يمُكن أن يكون صحيحاً، فحتّى لو أفادت نظرية مذهب السعادة أنّ الخير هو ما يقود إلى الهناء إلا أنّ هذا ليس معنى كلمة «الخير» في اللغة

ص: 76

الإنكليزية. بالرغم من ذلك، لا يهتمّ مور بالتعاريف اللفظية ويُصرّح أنّه حينما يدّعي عدم قابلية تعريف «الخير» فإنّه لا يقصد أنّ هذه الكلمة لا تمتلك معنی لفظياً في قاموس اللغة. من ثمَّ، هناك معيارٌ يمُكن من خلاله رفض انطباق التعريف القاموسي المتمثّل ب_«الإيصال إلى الهناء» على «الخير»، ولكنّ هذا المعيار لا يتّصلُ بمقصد مور حينما يدّعي بأنّ «الخير» هو غير قابل للتعريف .

اعترضتْ هيلاري بوتنام (Hilary Putnam) على مور معتبرةً أنّ بديهياتنا اللفظية لا تَكشِفُ شيئاً عمّا ننسبه إلى الموضوع حينما نُطبّق المحمول عليه. تُشيرُ بوتنام إلى أنّ الحصول على المفهوم يعني القدرة على استعمال الكلمات بأساليب محدّدة من ثمَّ، فإنّ إدراك مفهوم الخير يوازي معرفة الاستخدام المناسب للكلمات التي تُعبِّر عن هذا المفهوم، وقد يحظى الفرد بهذه الكفاءة من دون معرفته بأنّ الاستعمال المناسب المصطلح «الخير» يتمثّل بانطباقه على ما يُوصل إلى الهناء. من ثمَّ، لا يمُكن الحُكم على كوْن «الخير» قابلاً للتعريف أم لا من خلال الاعتماد على البديهيات اللغوية أو البصيرة المفهومية بل من خلال الإستناد إلى وهو أمرٌ يُوضّح قُدرتَنَا على استعمال العلامات المهمّة. يُشيرُ مَن يتبنّى مذهب السعادة إلى أنّ تصريحنا بأنّ الشيء هو خيرٌ يعني التصريح بأنّه يقود إلى الهناء، ولو عن غير قصد. قد يكون هذا الرأي خاطئاً ولكنّ إظهار خطئه يقتضي المزيد من التأمُّل حول ما نقصده من الكلمات التي نستعملها.

يُعرَف احتجاج مور ضدّ المغالطة الطبيعية ب_«جدلية السؤال المفتوح»، وقد تمّت صياغته بطرقٍ كثيرة إلا أنّ صياغات مور في الأغلب ليست على درجة الوضوح المطلوبة. فيما يلي نوردُ مقتطفاً من كتاب «الأصول الأخلاقية» حيث يتمّ تحديد الجدلية وتقديم نموذجٍ عنها:

«أظنُّ أنّه يتّضحُ أولاً أنّه ليس كلّ خيرٍ أمراً طبيعياً (اعتياديا)، بل على العكس فإنّ الغريب كثيراً ما يكونُ أفضل من الطبيعي من الواضح أنّ الامتياز الفريد - والوحشية الفريدة - ليسا طبيعيان بل هما غريبان ولكن مع ذلك يمُكن القول بأنّ الشيء

ص: 77

الطبيعي هو خير، وأنا بنفسي غير مستعد لمناقشة أنّ الصحة هي أمرٌ حسن. ولكن ما أؤكِّد عليه هو أنّه لا ينبغي اعتبار هذا الأمر واضحاً بل اعتباره سؤالاً مفتوحاً، فإنّ التصريح بوضوحه يعني الإشارة إلى المغالطة الطبيعية».

بما أنّ كوّن x أمراً حسناً يبقى سؤالاً مفتوحاً - حيث يمُكن استبدال x بأيِّ تحليلٍ مُقترَح لمفهوم الخير كالصحة أو الحالة الطبيعية كما ورد في الفقرة السابقة- يعتبر مور أنّ ما يترتّب على ذلك هو عدم إمكانية تحديد أنّ x هو أمرٌ حسن . يتّضحُ من خلال ذکر مور للصحة والحالة الطبيعية كأمثلة أنّ لديه هدفاً أفلاطونياً. كان أفلاطون وأرسطو قد اعتبرا أنّ الامتياز يتحقّق حينما تعمل المدارك البشرية بشكلٍ سليم، أي لدى الاعتدال في شهية الإنسان وطموحاته وذكائه، وهو ما ينطبق بالتتالي على فضائل العفة والشجاعة والحكمة. وعليه، فإنّ من يتّبع فلسفة أرسطو يعتبر أنّ الطبيعة تكمنُ في تفادي الإفراط أو التفريط المدمِّرَيْن. أمّا مور، فإنّه يُفسِّر الأمر الطبيعي بالاعتيادي أو الشائع. من ثمَّ، وفقاً لمتّبعي فلسفة أرسطو، فإنّ الصحة ليست أمراً حسناً لكوْنها الحالة الشائعة لدى البشر أو الحالة البدنية الاعتيادية للجسد، بل إنّ الصحة أمرٌ حسن لأنّها الحالة التي تعمل فيها أعضاء الجسد بشكلٍ سليم ومتناغم.

بسبب شعبية ما يُسمّى بالتيار الجديد لعلم دلالات الألفاظ الذي قامت بوتنام بتأييده، فإنّ الفلاسفة ينصحون بالاحتياط فيما يتعلّق بالخلط بين المسائل الميتافيزيقية واللغوية. إحدى الأمثلة على ذلك كلمة « الماء » . حينما يستفسرُ الفرد عن معنى «الماء» باللغة الإنكليزية فإنّه يكونُ قد طرح سؤالاً لغوياً. ولكن قد يقترح المرء استخدام كلمة «الماء» بطريقةٍ تختلفُ نوعاً ما عن الاستعمال العادي -مثلاً: الدعوة لضمّ الثلج والبخار في تعريف «الماء» - وكلّ هذا يندرجُ أيضاً في ضمن علم دلالات الألفاظ. كذلك، توجد أسئلةٌ إبستمولوجية حول كيفية معرفتنا بأنّ شيئاً ما هو «ماء». في النهاية، تنشأ قضايا ميتافيزيقية تتعلّق بالماهية الحقيقية للماء. على سبيل المثال، قد نعتبر بأنّ الماء هو الحالة السائلة من H2O ، ولكنّ كلمة «الماء» لا تعني «سائل ال_ H2O» لأنّه بمقدور الفرد أن يعرف معنى «الماء» من دون معرفة تركيبته الجُزيئية. من

ص: 78

الناحية الإبستمولوجية، قد يعلم المرء أن السائل في الكوب هو ماء من دون علمه بأنّ الماء هو سائل H2O. لا يعني أيٌّ ممّا سبق أنّ الماء بجوهره ليس سائل ال H2O. قد يُصرّ عالم الكيمياء أنّه لا يوجد عالَم ممكن حيث يكون الماء في كوب ولكنّه ليس H2O لأنّ الماء يتمتّع بتركيبٍ جُزيئي بغضّ النظر عن معنى الكلمة التي تصفه أو الطرق التي نُدركه من خلالها.

على ضوء هذا التمييز بين علم دلالات الألفاظ والميتافيزيقيا، يبدو أنّ أدلة مور الواردة ضدّ الطبيعية الأخلاقية في كتابه «أصول الأخلاق» هي مُشوَّشة. يحتج مور بأنّ «الخير» لا يعني x حيث يكون هذا الأخير نوعاً من الاختزال المزعوم للخير داخل خاصيّةٍ طبيعية أو خارقة للطبيعة. بناءً على التمييز بين معاني الكلمات، يستنتجُ مور أنّ تحديد الخصائص هو ارتكابٌ للخطأ. ولكن لا يمُكننا أن نستنتج بأنّ الماء لیس سائل ال_ H2O فقط لأنّ «الماء» لا يعني «سائل ال_ H2O ». من ثمَّ، لا يمُكننا أن نتوصّل إلى نظرية المتعة التي تُفيد بأنّ الخير هو ما يُثير المتعة ولا إلى الادّعاء اللاهوتي بأنّ الخير هو ما يكون قريباً من الله، والسبب ببساطة هو أنّ «الخير» لا يحملٌ أيَّ معنىً من هذا القبيل. إذا أمكن لجدلية السؤال المفتوح أن تُثبت شيئاً ما فإنّ ذلك هو فقط الادّعاءات بأنّ هيئة «y=x» ليست تحليليةً لدى السؤال المفتوح عن كوْن x هو y أم لا.

قام مور بالاحتجاج على معاني المفاهيم الأخلاقية، وأراد من ذلك الدفاع عن نظرية ميتافيزيقية حول طبيعة الخير تمُثَّلُ شكلاً صارماً من الواقعية الأخلاقية. بما أنّه لا يمُكن تقسيم مفهوم الخير إلى مفاهيم أبسط ومن ثمَّ يكون هذا المفهوم غير قابلٍ للتعريف، استنتج مور أنّ خاصية الخير هي بسيطةٌ ميتافيزيقياً ولا يمُكن إدراكها إلا من خلال الحدس المباشر.

بغضّ النظر عن العيوب الكامنة في أدلة مور، كانت آراؤه مؤثّرةً بشكلٍ هائل. اقتنع كثيرون بأنّ جدلية السؤال المفتوح قد أظهرتْ بأنّ تطبيق الخصائص الأخلاقية على الخصائص الطبيعية (أو الخارقة للطبيعة) هو أمرٌ خاطئ. ولكن بالرغم من ذلك، لم

ص: 79

تتمثّل النتيجة بتبنّي الناس للواقعية الأخلاقية غير الطبيعية التي أيّدها مور. مع أنّ فلاسفة من أمثال بريتشارد (Prichard)، روس (Ross)، وكاريت (Carritt) قاموا بالدفاع عن الواقعية لدى مور ، إلا أنّ كثيرين قد استنتجوا بأنّ دليل السؤال المفتوح قد أظهر بأنّه لا ينبغي اعتبار المصطلحات الأخلاقية مُحدّدة لأيّ خصائص على الإطلاق. على خلاف نوايا مور، فقد أدّت أدلّته إلى أن يقومَ العديد من الأفراد بتبنّي شكلٍّ معيّن من مذهب نفي الإدراكية أو المذهب التعبيري. على سبيل المثال، قام العلماء الوضعيون المنطقيون من أمثال آير (A.J. Ayer) وكارناب (Carnap) الذين لم يهتمّوا بالمبادئ الميتافيزيقية التي أيّدها مور وتلامذته بتبنّي مذهب نفي الإدراكية.

مع تراجُع الفلسفة الوضعية المنطقية وإنعاش الميتافيزيقيا على يد ويلارد ف . أ . كواين (Willard Van Orman Quine) وويلفريد سيلارز (Wilfrid Sellars) بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تظهرُ أشكالٌ أخرى من الواقعية الأخلاقية. استمرّت الأخلاق الأفلاطونية - التي كان أبرز مدافعيها غيرترود أنسكومب(Gertrude Anscombe)، بيتر غيتش (Peter Geach) وفيليبا فوت (Philippa Foot) - بالذبّ عن عناصر المذهب الطبيعي الذي هاجمه مور فضلا عن الدفاع عن هيئات المذهب التعبيري التي أعقبت الأشكال الأولية من مذهب نفي الإدراكية الذي تبنّاه العلماء الوضعيون كان غيتش وأنسكومب كاثوليكيَّيْن بينما كانت فوت مُلحدة، ولكنّهم استطاعوا معاً بناء أُسس أخلاقيات الفضيلة في القرن العشرين وما فتئ هذا المشروع يحظى بالمؤيِّدين في أوساط المفكّرين المتديّنين والملحدين.

يتمُّ أحياناً تقسيمُ الأشكال الأجدد من الواقعية الأخلاقية التي ظهرتْ على الساحة إلى فرعين: البريطانية والأمريكية. تأثّرت الواقعيةُ الأخلاقية البريطانية بفيتغنشتاين (Wittgenstein) وانطلق الدعمُ البريطانيُّ لهذه الواقعية من طرق استخدام اللغة الأخلاقية. اتّجه الواقعيون البريطانيون نحو التخصيص الأخلاقي وإنكار كوْن الخصائص الأخلاقية طارئة على الخصائص المادية. أمّا النموذج الأمريكي من الواقعية الأخلاقية، فقد تأثّر بالواقعية المتعلّقة بالوحدات النظرية في فلسفة العلم

ص: 80

الطبيعي. وفقاً لهذا الرأي، فإنّ الخصائص الأخلاقيّة تطرأ على الخصائص الطبيعية. تمثّل أسلوب الاستدلال المفضّل هنا باستنتاج أفضل التفاسير، وقد قام ريتشارد بوید (Richard Boyd) وديفيد برينك (David O. Brink) بتأييد القياس بين الواقعية العلمية والواقعية الأخلاقية.

في القرن الواحد والعشرين ظهر شكلان إضافيان من الواقعية الأخلاقية. مثّل أوّلُ شكلٍ مجرّد إعادة التعبير والدفاع عن الواقعية التي ناصرها مور التي أصبح اسمها «الواقعية الأخلاقية الشديدة». أمّا الشكل الثاني من الواقعية، فإنّه قد سار في الاتّجاه المقابل ويمُكن تسميته ب_«الواقعية الطفيفة». وفقاً لهذا الرأي، فإنّ إحدى النظريات المتقلِّصة عن الحقيقة تسمحُ لنا بالتصريح بوجود حقائق أخلاقية كطريقةٍ أخرى للإعلان عن الجمل الأخلاقية. تؤخَذُ عبارة «صحيح أنّ السرقة خطأ» بمعنى «السرقة هي خطأ» لا أقل أو أكثر. على هذا الأساس، يحتجّ سيمون بلاكبورن (Simon Blackburn) على أنّه : بما أنّ مناصري مذهب نفي الإدراكية هم مستعدّون لتأييد العبارات الأخلاقية، ينبغي عليهم أن يتخلّوا عن الادّعاء بعدم وجود الحقائق الأخلاقية، وقد منح رأيَه لقب «شبه الواقعية». قام مارك تيمونز (Mark Timmons) بتطوير نظرياتٍ أخلاقيةٍ طفيفةٍ أخرى والدفاع عنها بينما قام ماثيو كرايمر (Matthew Kramer) بمناصرة الواقعية الأخلاقية الطفيفة بجلاء. يمتلكُ مناصرو هذا النوع من الواقعية استعداداً للتصريح بوجود حقائق وخصائص أخلاقية ولكنّهم يعتبرون أنّ هذا الإذعان لا يقتضي التزاماتٍ ميتافيزيقية، أو بأنّه يستدعي إلتزاماتٍ ضئيلةٍ للغاية حيث لا يُوازي الاعترافُ بالحقائق الأخلاقية سوى الاستعداد للتأكيد على الادّعاءات الأخلاقية. كذلك، فإنّهم يعترفون بوجود خصائص أخلاقية ولكنّ تفسيرهم لدعوى وجود خاصية الخير هو أنّ هذه الدعوى هي مجرد طريقةٍ أخرى للتصريح بأنّ بعض الأمور هي خير .

يكفي هذا الاستعراضُ التاريخي الموجَز لأدلة الواقعية الأخلاقية منذ زمن مور للإشارة إلى الكم الهائل من المؤلّفات الموجودة حول الواقعية الأخلاقية في يومنا

ص: 81

الحالي. يُقدِّمُ المؤلّفون تعريفاتٍ مختلفة عن الواقعية الأخلاقية، وبعضها دقيقٌ للغاية بينما بعضها الآخر غير مُتقَن. عُرّفتْ الواقعية الأخلاقية بأنّها مبدأٌ ميتافيزقيٌ ولغويٌ وإبستمولوجي، ويمكن العثور على الأدلة لصالح أو ضدّ النماذج المتنوّعة من الواقعية الأخلاقية وعرضها بدرجةٍ عالية من الحنكة. لا أهدف في هذه المقالة إلى تقييم هذه الأدلة إلا بالقدر الذي تنعكسُ فيه على الأخلاق الدينية، ولكن أولاً ينبغي أن نتناول دائرة المواقف التي تبنّاها المفكرون الدينيون تجاه الأخلاق.

الإسلام والأخلاق

قدّم علماءٌ أخلاق الدين طائفةً واسعةً من الآراء حول العلاقة بين الأخلاق والدين، وكلّ الآراء تقريباً التي تبنّاها علماء الدين المسلمون لها نظيرٌ في الكتابات المسيحية. كذلك، وعلى الأغلب، فإنّ الآراء التي تُشبه وجهات نظر المؤلفين المسيحيين قد تمّ الدفاع عنها من قبل مؤلّفين مسلمين أو يمُكن الذبّ عنها من قبلهم . سوف أقومُ بتناول بعض الآراء التي يمُكن - أو قد تمّ فعلاً - التطرُّق إليها من منظورٍ إسلامي. بالرغم من التداخُل الكبير في الآراء الأخلاقية للتعاليم الدينية المختلفة، إلا أنّه توجد بعض المناقشات التي برزت بشكلٍ أوضح في أوساط المسلمين كالعلاقة بین الأخلاق والقانون الديني، وهذه المناقشة قد تُوفّر مدخلاً مناسباً لتناول الأخلاق الإسلامية والواقعية الأخلاقية.

إحدى أهم النقاشات وأكثرها إثارةً للجدل بين العلماء المسلمين هي العلاقة بين الأخلاق والقانون الديني. تُرجمتْ الكلمة اليونانية Ethikos إلى الأخلاق باللغة العربية، وكانت الترجمة جيدة لأنّ الكلمتين تنبعان من جذرٍ يعني الشخصية. أما في التعاليم الغربية، سُرعان ما توسّعت مادة الأخلاق إلى ما هو خارجٌ عن تعاليم الفلاسفة اليونانيين حول الفضائل، فأصبحت الأخلاق تتضمّن النقاشات حول الواجبات والحقوق والمبادئ والمعايير. تمّ النقاش في التعاليم الإسلامية أيضاً حول هذه القضايا، إلا أنّها لم تعدّ بشكلٍ عام جزءاً من الأخلاق فالحقوق والواجبات تردُ في الشريعة بينما تتناولُ الأخلاق موضوعَ الفضائل. اعتُبرت الشريعة التي تأمر

ص: 82

بحقوق وواجباتٍ معيّنة قانوناً دينياً بشكلٍ عام، ولم يكن هناك رأيٌ يُفيدُ وجودَ قانونٍ أخلاقي مُوازٍ للقانون الديني ولكنّه مُختلفٌ عنه. اعتقد المسلمون بأنّ كمية الأخلاق التي يتوصّل إليها العقل من دون إرشادٍ دينيٍ هي قليلةٌ جداً، وقاموا بالتركيز على مسألة وجود الحُسن و القبح العقلي بالرغم من احتجاج بعضهم على إمكانية استمداد الواجبات من المعرفة العقلية للخير والشر. كذلك ، اختلف العلماء المسلمون بشكلٍ كبير حول المقدار الدقيق من المعرفة الأخلاقية التي يمُكن التوصُّل إليها بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي.

بالرغم من أنّ علم الإلهيات لدى الأشاعرة معروفٌ بتبنّيه لمبدأ الإرادة الإلهية حيث يعتمدُ الصواب والخطأ بشكلٍ تام على أوامر الله، بينما علم الإلهيات لدى الشيعة - كالمعتزلة - يَسمحُ للعقل بتمييز الخير في بعض الحالات على الأقل ويُفيد بأنّ إحسان الله يتعارض مع إمكانية أمره بما يُعرف شرّه بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي، إلا أنّه توجد مجموعةٌ واسعةٌ من المواقف المختلفة التي تتوسّط طرفيّ هذين النموذجين.

قد يتَّخذُ الفرد موقف المعتزلة الذي يُفيدُ أنّه يستحيل على الله أن يأمر بما يعرف العقل أنّه ظُلم، ولكنّه في نفس الوقت قد يدّعي بأنّ ما يعلم العقل أنّه ظلُم يقتصرُ على البديهيات. من ثمَّ قد يأمر الله بالسرقة ولكن ليس السرقة الجائرة. لا يمُكن أن يأمر الله بالظلم لأنّه يستحيل على الله أن يأمر به، ويصدقُ بشكلٍ بديهي أنّ الظلم هو شر. قد يُعتَبَر هذا الرأي نوعاً خاصاً من الشكوكية الأخلاقية حيث لا توجد معرفةٌ أخلاقية غير بديهية مستقلة عن الوحي.

من ناحيةٍ أخرى، قد يتمُّ الدفاع عن الموقف الأشعري من خلال الاحتجاج بأنّ المعرفة الأخلاقية التي يتوصّل إليها العقل حول الحقائق البديهية ليست معرفةً أخلاقية على الإطلاق بل هي مجرد معرفة منطقية. أيّ محتوى يتضمّن مصطلحاتٍ أخلاقية خارج ما هو موجودٌ في المنطق والقواعد اللغوية ينبغي أن يكون من قِبَل المشرّع الإلهي. قد يصل الفرد إلى درجة نفى الأخلاق كلياً والادّعاء بأنّ الأوامر

ص: 83

الجوهرية الوحيدة هي تلك التي يُصدرها القانون الأخلاقي. أمّا إحدى الأشكال الأكثر اعتدالاً من العقيدة الأشعرية، فإنّها قد تُبقي على الرأي الذي يُفيدُ بأنّ العقل غير قادر على تمييز الحقائق الأخلاقية الجوهرية ولكنّها تُنكر كوْن الأوامر الإلهية غير عادلة. وفقاً لهذا الرأي، الخير والحق هو ما يأمر به الله ولكن ليس لأنّ الله هو الذي أمر به بل لأنّ الله يعلمُ ما هو خيرٌ وحق بينما لا يستطيع العقل البشري الوصول إلى هذه المعرفة بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي.

قد يُعتَبَرَ الرأي الذي أبرزناه آنفاً ضمن أنماط الاستنباط الأخلاقي من الكتاب المقدّس التي تعدّ أنّ المصدر الرئيسي لمعرفة الصواب والخطأ هو الوحي. يفترضُ مذهب إنكار هذا الرأي إمكانيةَ حيازة المعرفة الأخلاقية من مصادر أخرى مستقلّة عن القرآن والسنّة (بالنسبة إلى الشيعة تُضاف إلى سُنّة النبي سنّةُ الأئمة المعصومين) أو مندمجة معها. كما ذكرنا سابقاً، فإنّ المعتزلة والشيعة قد لجأوا إلى العقل. من بين المصادر الأخرى للمعرفة الأخلاقية التي ناقشها المسلمون نذكرُ الوجدان، العُرف، وحُكم العقلاء.

بالنسبة لأفلاطون، قد تعدّ معرفة هيئة الخير أقصى معرفة أخلاقية، ولا تتيسّر إلا لمن تُظهِرُ مداركه الروحية التناغم التراتُبيّ المناسب. في التعاليم الأفلاطونية، تمّ الاحتجاج بأنّ أولئك الذين يحيَون بشكلٍ مستقيم يمتلكون المعرفة الأخلاقية التي لا تتوفّر للآخرين. فقط من خلال تطبيق الفضائل يمكن للإنسان أن يعرف الهدف الذي تصبو إليه الحياة المستقيمة. تبرزُ الاتجاهات الأفلاطونية والأرسطية والأفلاطونية الجديدة في تراث الفلسفة الإسلامية، وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على الإبستمولوجيا الأخلاقية للفلاسفة المسلمين. سعى الفارابي بشكلٍ جلي للتوفيق بين العناصر الأفلاطونية والأرسطية في الفكر الأخلاقي والسياسي، وقد انعكستْ النظرة الأفلاطونية (والسقراطية) التي تُفيدُ بأنّ الفضيلة بحد ذاتها هي نوعٌ من المعرفة في قيام الفارابي بالمقابلة بين المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلة.

يمُكن تقديم كلّ الآراء حول المجال السابق كأشكالٍ شكوكية تقريباً، وهذا يعتمدُ على مقدار المعرفة الأخلاقية التي يمُكن استخراجها من المصادر الأخرى غير

ص: 84

الكتاب والسنّة. من ثمَّ، يمُكن للفرد أن يتّخذ موقفاً عقلانياً للغاية حيث يكون العقل وحده كافياً لمعرفة الحقائق الأخلاقية الجوهرية، مثلا:ً من الخطأ أذيّة الأفراد مُرهفي الحسّ للتسلية، وضرورة الاحتراز عن الأفعال التي تضرّ بالصحة من دون سببٍ وجيه، ووجوب عدم تقبُّل الموظّفين الحكوميين للرشاوي. قد يدّعي أحدهم على نحوٍ مثيرٍ للجدل بأنّ العقل يحكمُ بشكلٍ مستقل عن الكتاب والسنّة على النواهي التي تعدّدينيةً بالتحديد، ومن الأمثلة على ذلك حرمة شرب الكحول. ولكن مهما كانت الدعاوى الداعمة للعقل متطرفة أو مثيرة للجدل، يستطيع الفرد أن يعتقد بأنّ ميدان قيام العقل بإصدار الأحكام الأخلاقية هو محدودٌ للغاية، وأنّ العقل لا يستطيع تمييز الصواب من الخطأ في معظم القضايا من دون مساعدة الوحي الإلهي.

يمُكننا أن نُشكّل نموذجاً يتناول المواقف المتّخَذَة كالآتي:

1- المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنّة:

أ) المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنة من دون العودة إلى مصادر أخرى.

ب المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنّة مع العودة إلى مصادر وشروطٍ أخرى للمعرفة.

2 - المعرفة الأخلاقية المستقلة عن الكتاب والسنّة: العقل، العُرف، آراء العرفاء، آراء الصالحين، الوجدان.

فيما يأتي، سوف نتناول الاعتراضات الثلاثة التي يمُكن توجيهها إلى هذا الجدول.

أولاً، توجد اختلافاتٌ مهمة حول كيفية تقسيم المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنّة إلى الفرعين (أ) و (ب). من الواضح أنّه لا توجد معرفةٌ مُستندة إلى الكتاب والسنّة من دون العودة إلى مصادر أخرى، فلا يمُكن فهمهما من دون معرفة قواعد اللغة العربية وبلاغتها، وحتّى إنّ أبسط الاستنتاجات تعتمد على العقل. إذاً،

ص: 85

فلنعتبر أنّ الفرع الأول يتألف من المعرفة المستمَدّة من العلم بالمعاني اللفظية للكتاب والسنة فضلا عن جميع مُستلزمات هذا العلم التي يمُكن توسعتها لكي تتضمّن مجالاتٍ كالمعرفة التاريخية اللازمة لتقييم صحّة الأحاديث. قد يُعتَبَر الخلاف الأصولي الإخباري متمحوراً حول مسألة إمكانية الاستفادة في عملية استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة من المبادئ الزائدة عن المطلوب لفهم المعنى اللفظي، ولكنّ هذا ليس دقيقاً لأنّه يستحيلٌ تحديد دلالات مجموعة العبارات التي ينبغي ضمُّها إلى معناها اللفظي. علاوةً على ذلك، وبما أنّ الفرع الثاني ليس فارغاً، ينبغي السؤال عن المصادر الأخرى غير الدينية التي ينبغي الرجوع إليها من أجل استخراج الأحكام الأخلاقية من الكتاب والسنّة. حينما نفهم القرآن بشكلٍ صحيح ونُحدِّد الأحاديث الموثوقة، ما المعرفة الزائدة التي نحتاجُ إليها لكي نتوصّل إلى استنتاجاتٍ أخلاقية؟ هل يمُكن اتّباع هذه المبادئ العقلانية في حالات الشك؟ وهل يمُكن تصنيف هذه الحالات بحدّ ذاتها؟ بأيِّ طرقٍ تستطيعُ معالمُ النصّ، والسمات التاريخية، والأبعاد الأخرى المتعلّقة بسياق العبارة أن تُساهم في فهم هذه العبارة؟ ناقش علماءُ الأصول بعض هذه القضايا، وقد ادعى بعضهم أنّه يتحتّم على من يريد مزاولة الاجتهاد أن يفهم أغراض الأحكام الإسلامية المتعدّدة، وهذا الأمر غير متاحٍ إلا لمن يعيشُ حياةً مفعمة بالتقوى. لا تعدّ التقوى مصدراً للمعرفة الأخلاقية ولكنّها شرطٌ لجزءٍ من المعرفة الأخلاقية، أي الفهم الصحيح للقانون الأخلاقي الذي تُقدّمه الشريعة. وَقَعَ أيضاً جدالٌ كبير بين العلماء والمفكّرين المسلمين حول المدى الذي يتّصلُ فيه العلم بالقضايا المستجدّة والتكنولوجيا والأوضاع السياسية بعملية استنباط الحكم.

أحد أكثر الآراء تأثيراً في هذا الميدان يعود إلى الشهيد باقر الصدر، فقد انتهج الموقف المعاصر الذي تبنّاه أغلب علماء الشيعة والذي يُفيدُ إمكانية الاعتماد على الإدراك العقلي للتوصُّل إلى المبادئ التي يمُكن من خلالها استخراج الأحكام الدينية، وقد قام الصدر أيضاً بدراسة الاعتراضات على المواقف الأكثر تطرُّفاً. في سياق بحثه، قام بوصف أنواعٍ عدة من المعرفة العقلية : أ) المعرفة العقلية المبتنية على

ص: 86

الحس والاختبار ؛ ب) المعرفة العقلية المبتنية على البديهيات؛ وج) المعرفة العقلية المبتنية على التأمُّل النظري.

ثانياً، قد تختلف المواقف حول محتوى الفرع الثالث، أي المعرفة الأخلاقية المستقلة عن الكتاب والسنّة ومقتضياتهما. على سبيل المثال، قد يدّعي بعضُ العرفاء أنّه بإمكان الفرد حيازةَ المعرفة الأخلاقية بشكلٍ مستقل عنهما وذلك عبر الإلهام .العرفاني قد يُحتَجّ أيضاً بأنّ العقل يعلم أنّه لا ينبغي للفرد أن يؤذي نفسه حينما يمُكن تفادي ذلك بسهولة، ولكنّ الأفعال المؤذية تُعرف من خلال الاختبار وتطوُّر العلوم الطبية فقط (مثلاً: الضرر الذي يُسبّبه التدخين). من ثمَّ، هناك معرفةٌ أخلاقية يمُكن التوصُّل إليها فقط من خلال العقل والتجربة والعلم بشكلٍ مستقل عن الكتاب والسنّة . إزاء هذا الفرع ، قام الفلاسفة المسلمون بتطوير آراءٍ أخلاقية مستندة إلى تحليلاتهم للفضائل والاستدلال العملي.

ثالثاً، يبقى السؤال عن مقدار المعرفة الأخلاقية التي يمُكن التوصُّل إليها في الفروع الثلاثة. قد يرى أحدهم أنّه بالرغم من إمكانية التوصُّل إلى المعرفة الأخلاقية عبر العقل وحده إلا أنّ هذه المعرفة محدودةٌ للغاية. انتقد هيغل الصورية الفارغة في أخلاقيات كانط، وكذلك يمُكن للعلماء المسلمين أن ينتقدوا المحاولات الرامية إلى استخراج الأحكام الأخلاقية من العقل وحده لأنّها لا تُنتج أكثر من صوريةٍ فارغة. من هنا، قد يدّعي الفرد ضرورة اعتماد المعرفة الأخلاقية الجوهرية على الكتاب والسنّة، أو قد يلجأ إلى المصادر الأخرى للمعرفة الأخلاقية كالوجدان، الحدس الأخلاقي الشخصي أو المنسوب إلى المتّقين والصالحين، أو المصادر والشروط الأخرى التي تمّ اقتراحها للوصول إلى المعرفة الأخلاقية.

باعتقادي، فإنّ الواجبات الدينية هي واجباتٌ أخلاقية، ويمُكن دعم هذا الرأي من خلال الاستدلال الآتي:

1 - يقعُ على عواتقنا واجبٌ أخلاقيٌ متمثِّلٌ بإطاعة الله.

ص: 87

2 - لكي نُطيع الله ينبغي أن نتّبع الأحكام الدينية.

3 - إذا كان علينا واجبٌ أخلاقي يقتضي فعل ، ولكي نقوم ب_x ينبغي أن نأتي ب_ y، إذاً يقع على عاتقنا واجبٌ أخلاقيٌ متمثل بالقيام ب_y .

4 - من ثمَّ، علينا واجبٌ أخلاقي يستدعي امتثال الأحكام الدينية.

وقع خلافٌ حول المقدّمة الأولى حيث عدّ بعضهم أنّه لا يقع علينا واجبٌ أخلاقي بإطاعة الله، بل يقتضي العقل المحتاط طاعته. يمُكن صياغة هذا الرأي في إحدى أشكال العدمية الأخلاقية الدينية حيث نضطرّ لامتثال الأحكام الدينية انطلاقاً من الاحتياط وحده، وحيث تكون الأحكام الإلهية قوانين مفتقدة إلى العلل وبالكاد تتّصل بمفهوم الأخلاق اليوناني. أعتقد أنّه يمُكن تقديمُ احتجاجٍ لاهوتيٍ صائب يُخالف هذا الرأي، ولكنّني لن أُقدم على ذلك هنا فالغاية هي مجرد الإقرار بإمكانية وجود العدمية الأخلاقية الدينية.

إذا كانت هذه العدمية باطلة، وإذا لم تُعرَّف الأخلاق على نحوٍ يستثني الواجبات التي يمتثلها الإنسان لله، وإذا كانت التعاليم الدينية حول وجود الله وصفاته حقيقية، يمُكن الدفاع بشكلٍ جيد عن الفرع الأول، وذلك على قاعدة الإحسان الإلهي.

قمنا إلى حدّ الآن بعرض مجموعة آراء في أوساط العلماء المسلمين حول مصادر المعرفة الأخلاقية، ولكن يبقى السؤال عن دلالات المواقف بالنسبة لمناصري الميتافيزيقيا الأخلاقية الواقعية.

الأخلاق والميتافيزيقيا الإسلامية

من الواضح أنّ الميتافيزيقيا لدى بعض المعتزلة الأوائل كانت شكلاً شديداً من الواقعية الأخلاقية. عدّ جزءٌ من هؤلاء المتكلّمين الأوائل أنّ الخير والشر هما خصائص غير مادية للأفعال، كما أنّ إحدى الفواكه قد تكون تفاحةً أو ذا لونٍ أحمر. ولكن تكمنُ المشكلة في أنّ نسبة الشر إلى الفعل - كتجاوز حدود الأراضي الشخصية

ص: 88

- يعتمدُ على الظروف. إذا دخل أحدُهم إلى أرض غيره لكي يُنقذ طفلاً يتعرّض للغرق فإنّ هذا فعلٌ مُسوَّغ، ولكن إذا دخل آخر إلى هذه الأراضي لكي يتجسّس على جاره فإنّ هذا الفعل ليس جائزاً. من ثمَّ فإنّ الفعل ليس خيراً أو شراً بجوهره، فقد تكونُ حالةٌ ما شراً أو خيراً اعتماداً على الظروف. التفت المعتزلة في البصرة إلى هذا الأمر، فقاموا بتطوير نظرية متطوّرة ل_ «الوجوه» (الأبعاد)، وقد قامت هذه النظرية بإنقاذ الواقعية التي تبنّاها المعتزلة ولكن فقط من خلال جعلها نسبية.

نجد ٌفي كتابات مور مساراً مشابهاً ينطلقُ من بيانٍ مُطلق للخصائص الأخلاقية ويصل إلى اعتبار هذه الخصائص نسبية، ولكنّ هناك اختلافا مهما. العنصر النسبي للخير الذي اعترف به مور يتضمّن التثمين الواعي للشيء الذي يُعد خيراً. على سبيل المثال، العمل الفني ليس خيراً في جوهره ولكنّ الشيء الكليّ الذي يتضمّن تثمين هذا العمل الفنيّ قد يكون خيراً. بدأ مور مع الفكرة التي تُفيدُ أنّه لا يمُكن اختزال الخير الكامن في الشيء في أيِّ تركيبٍ لخصائصه الطبيعية (أو كوْن الله قد أمر به)، بل ذلك الخير يطرأ على الخصائص الطبيعية للشيء. بتعبيرٍ آخر، إذا امتلك x ولا نفسَ الخصائص الطبيعية، فلا يمُكن لهما أن يختلفا في خصائصهما الأخلاقية. هيمنتْ هذه الفكرة على كتاب «الأصول الأخلاقية»، ولكن حينما نُشر كتاب «الأخلاق» في العام 1912، كان مور قد توصّل إلى أن ينسبُ القيمة الجوهرية فقط إلى الكليّات التي تضمُّ الحالات الواعية.

إنّ التشديد على النظر إلى الخير بأسلوب أكثر دقّةً (يشتملُ على معرفة الكيفية التي يتلقّى من خلالها البشر أو الكائنات الواعية الأخرى ما يُعتبر خيراً) يُشكّلُ صعوباتٍ لنموذج المعرفة الأخلاقية الذي قام بتحريك الواقعية بادئ الأمر. وفقاً لهذا النموذج، فإنّ الأفعال والصفات الشخصية وأنماط الحياة والأشياء الأخرى التي تخضعُ للحُكم الأخلاقي - سواء كانت تفاصيلاً أم أنواعاً - لديها خصائص أخلاقية. توصّل البشر إلى إدراك هذه الخصائص عبر نوعٍ من الحدس الذي يمُكن تفسيره إمّا كحدسٍ عقلائي - يُقال عادةً بانطباقه على المبادئ العامة - وإمّا كحسٍّ

ص: 89

و

أخلاقي يتعلّق بأفعالٍ أو أحداث خاصة. ولكن إذا لم تكن الخصائص الأخلاقية متّصلة بالأشياء بشكلٍ مباشر بل بالأشياء المتعلقة بالكائنات الواعية فحسب، يُصبح نموذج المعرفة الحدسية مُثقلاً بالأعباء إلى حدٍّ بعيد. لا يُفيدُ الحدس العقلاني كثيراً خارج ميدان الاندراج والاستنباط المفهومي، ويتعثّر في مجال العلاقات إذا لم يكن مدعوماً بالبُنى الموجودة في المنطق والرياضيات المعاصِرَيْن. حتّى مع هذا الدعم، يضطرب الحدس العقلاني حينما يتطرّق إلى علاقة الأشياء بالفاعلين الواعين لأنّنا نفتقدُ إلى الدليل على قدرة مداركنا العقلية على الإدراك الحدسي لهذه العلاقات المعقّدة. هذا لا يعني أنّه لا يمُكن معرفة هذه العلاقات بل المقصود أنّ هذه المعرفة لا يمكن تسميتها بالحدسية. يبدو أنّ الحسَّ الأخلاقي لديه فرصةً أفضل في التعرُّف على هذه التعقيدات إذا كان الشعور والتعاطُف المطلوبَان متطوِّرَيْن بشكلٍ مناسب، ولكن من أجل التمييز بين المشاعر التي تقودنا إلى تبنّي المعتقدات الأخلاقية الصحيحة من الخادعة ينبغي تدعيمها باعتباراتٍ تمتدّ إلى ما هو أبعد بكثير من الحدسيات المباشرة.

هو

تكمنُ إحدى دوافع تبنّي أيِّ شكلٍ من أشكال الواقعية الأخلاقية في الفكرة التي تُفيد أنّ الدفاع عن الدعاوى الأخلاقية في مقابل اتّهامها بالشكوكية، النسبية، الذاتية، أو الاعتباطية لا يمُكن إلا أن يتمّ عبر تأسُّسٍ متين في الواقع. قد يندفع بعض المتديّنين للقبول بالواقعية الأخلاقية لهذا السبب أيضاً، ولكن ينبغي أن نحذر كثيراً من المبالغة في التعميمات. كما أشرنا سابقاً، يعتقدُ بعضُ علماء الأخلاق الدينيِّين بنوعٍ من الشكوكية الأخلاقية ويعتبرون أنّه ليس بمقدور العقل أو الشعور أو أيّ قدرةٍ بشرية إدراكية أخرى أن تميِّز الصواب من الخطأ، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الوحي. فيما يتعلّق بالنسبية، تعتمدُ الأمور على تحديد أيّ الأحكام الأخلاقية تتّصل بأيّ العوامل. يعتقدُ بعض المتديِّنين أنّ الحقوق والمسؤوليات تتّصل بالجنس، أو الانتساب إلى دائرة العلماء، أو اتّصال النسب بالنبي، أو الإيمان. يرفض كثيرٌ من المتديِّنين (ولكن ليس جميعهم) أن تكون النسبية متعلقة بالزمان أو المكان إذ إنّ حكم الله يُلزمنا في يومنا الحالي كما ألزم الناس في زمن النبي. تبنّى الشهيد الإيراني

ص: 90

مرتضى مطهري موقفاً معتدلاً فيما يتعلّق بهذه القضية فاعتقد بوجود بعض الثوابت والعناصر الأخلاقية التي تتفاعل مع طوارئ الزمان والمكان. فضلا عن ذلك، فإنّ الذاتية والاعتباطية مثيران للجدل ولا يُجمِعُ عليهما علماء الدين. تبدو بعض القوانين الدينية مفتقدة للعلل كتفاصيل الأفعال العبادية بالرغم من أنّ علماء الدين غالباً ما يدّعون أن الحكمة الإلهية تكمنُ خلف ما يبدو لنا أنّه حكم مفتقدٌ للعلة.

مسألة الذاتية هي أكثر إثارةً للجدل، فأحياناً توصَفُ نظرياتُ الأمر الإلهي في مجال الأخلاق على أنّها ذاتية. على سبيل المثال، يحتجُّ جورج حوراني على أنّ نظريات الأمر الإلهي لدى الأشاعرة هي ذاتية لأنّ «قيمة الفعل تُعرَّف عبر علاقتها بمواقف محدّدة أو بآراء عاقلٍ يتولّى منصب القضاء أو الرقابة، مثل الرغبة أو عدم الرغبة، الأمر والنهي الموافقة أو الرفض». يُكمل حوراني شرْحَه قائلاً: «العامل المحدِّد هو عقلٌ (الإله)، ومن ثمَّ تُصنَّف نظرية الأخلاق بشكلِ صحيحِ على أنّها «ذاتية». هذا استخدامٌ غريب لمصطلح «الذاتية» الذي يُستعمل عادةً في نظريات الحكم الأخلاقي حيث تقومٌ هذه الأحكام بوصف المواقف (أو الأوامر) الأخلاقية أو التعبير عنها. يرفض حوراني الوصف الأكثر شيوعاً «الإرادة الأخلاقية» لأنّ «هذه التسمية لا تُظهر بشكلٍ جيدٍ علاقتها بالأنواع الأخرى من النظريات». ليس الهدف هو الاختلاف حول التسميات بل فهم العلاقة بين النظريات الأخلاقية والميتافيزيقية. قابَل حوراني بين «الموضوعية العقلانية» في المذهب المعتزلي و «الذاتية الإلهية» في المذهب الأشعري، واعتبر أنّ دحض الأخير يُعَدُّ تأييداً كافياً للأول الذي يُشير - وفقاً لعبد الجبّار - إلى وجود السمات الأخلاقية.

قام حوراني بشكلٍ صريح بالمقارنة بين الموضوعية في المذهب المعتزلي ومذهب الحدسية البريطاني وأضاف إليها إشاراتٍ إلى كتاب مور «الأخلاق». اعتبر حوراني أنّ كُلاً من علماء المعتزلة وعلماء مذهب الحدسية البريطانيين قد توصّلا جوهرياً إلى نفس الاستنتاجات لأنّهما كانا يردّان على الأشكال المختلفة من الذاتية. سعى المعتزلة وراء قاعدةٍ موضوعية للأخلاق تُعارضُ الذاتية اللاهوتية، وقد سعى

ص: 91

علماء مذهب الحدسية البريطانيون إلى نفس الأمر في مقابل تيارات الذاتية المتواجدة في الفكر المسيحي ونظريات العَقْد الاجتماعي. يعتبر حوراني أنّ نفس النزاع قد وقع الفلسفة اليونانية :

«من هنا، فإنّ انتشار نظريات الذاتية بين السفسطائيين هو الذي أدّى بشكلٍ جزئيٍ إلى تحفيز جهود سقراط وأفلاطون للعثور على علم أخلاق موضوعي يعتمدُ على تعاريف المصطلحات الأخلاقية، ونظرية عالم المثُل، ونظريةٍ موازية للمعرفة. مع حلول زمن أرسطو كان هذا التحدّي قد انقضى، ويُلاحَظ الفتور في مؤلفاته حول أكثر القضايا جوهريةً في الأخلاق».

توجد نقاط عدّة جديرة بالملاحظة في هذا الاقتباس. أولاً، يُقدّم حوراني صورةً ثنائية لتاريخ الأخلاق حيث يعتبره صراعاً بين مناصري الذاتية والموضوعية. ثانياً، تمتلكُ الموضوعية مكوّناتٍ ميتافيزيقية وإبستمولوجية وهي الواقعية الأخلاقية ومذهب الحدسية تباعاً. الأمر الثالث والأهم هو اعتباره بأنّ أرسطو يعود بأدراجه نحو الذاتية فيما يتعلّق ب_ «أكثر القضايا جوهرية». استبقى أرسطو على لجوئه إلى الحدسيات العقلية في أخلاقه، وقد عدّه ديفيد روس مناصراً للحدسية. ولكنّ أرسطو لم يعتقد بأنّ ما يُحدَس هو ضمن المثل الأفلاطونية أو السمات الأخلاقية غير الطبيعية. من ثمَّ، يبدو أنّ ما يعتبره حوراني «فتوراً» في أكثر القضايا جوهريةً في الأخلاق هو رفض أرسطو للواقعية الأخلاقية التي تعثر على السمات الأخلاقية في الأشياء كما يُعثر على الأمور الطارئة في المادة.

يبدو أنّ الصراع المعتزلي الأشعري قد أدّى بالعلماء إلى الافتراض بأنّه إذا رفض أحدهم الإرادة الإلهية في الأخلاق وتجنَّب كلاً من الشكوكية ومذهب نفي الإدراكية، فإنّ الخيار الوحيد الذي يستحقّ التأمُّل هو الحدسية الواقعية. يبدو أنّ هذا الذي قاد البروفيسور راينهارت إلى اعتبار الصوفيين ورثة المعتزلة، حيث كتب ما يأتي:

«بمعنى ما ... فإنّ ورثة المعتزلة هم الصوفيون الذين يشتركون في أصول الدعوى والتقوى - ليس مع القشيريين أو أتباع محمد الغزالي بل مع أحمد الغزالي وابن عربي

ص: 92

والقنوي والسهروردي المقتول وذلك من خلال نظريتهم المعرفية حول الوح الوحي الخاص المتشعبة بشكلٍ غامض، وحركات القلب والدوافع المتصارعة والشغف والمخاوف والأحزان. لا يتمثّل الأمر فقط في أنّ أبرز شخصيات التاريخ المعتزلي كانت زاهدة، بل إنّ إحدى أهداف الزهد هو الإصغاء إلى التلقينات الداخلية».

هذه ملاحظةٌ عميقة. اعتبر المعتزلة والصوفيون (والإشراقيون) أنّه باستطاعتنا من خلال الزهد أن نكتسب المعارف الباطنية التي تسمحُ لنا بتثمين الحقائق الأخلاقية المختلفة. ولكن إذا قبلنا بعلم الوجود الخاص بالمعتزلة، فهذا يعني أنّه: كما أنّ الله قد خلق للأشياء في العالَم ألواناً وأصواتاً يمُكن إدراكها من خلال الحواس، فإنّه قد خلق لها سماتٍ أخلاقية يستطيعُ الزاهد أن يُدركها. لا يتّضحُ بالنسبة لي أنّ الصوفيين سوف يقبلون بهذا الأمر. فيما يتعلّق بعلم الإلهيات قد ينحاز كثيرٌ من الصوفيين إلى الأشاعرة ويقبلون بنوع معيّن من الإرادة الإلهية. يقومُ الزهد بتوفير الإدراك الأخلاقي للصوفي الأشعري لأنّ الصوفي يتّحد مع الألوهية ويحب ما يحبّه الله ويكره ما يكرهه، والسبب وراء ذلك الإدراك ليس الخصائص الأخلاقية للأمور المحبوبة أو المبغوضة بل الموقف الإلهي تجاهها الذي يتّخذه الصوفيُّ الزاهد.

قد يقوم الزهد بتسهيل الوصول إلى المعرفة أو الإلهامات الباطنية الأخلاقية بطريقةٍ أخرى، وقد ناقشها ابن سينا في آخر كتاب «الإشارات» مقدّماً بديلاً ثالثاً في النزاع حول المعرفة الأخلاقية، وهذا البديل ليس شكلاً من مذهب الحدسية الواقعية أو مذهب الإرادة الأخلاقية. يُفيد هذا الرأي المشّائي لابن سينا أنّنا نتبيّن الخير من خلال اعتباره ممتعاً، والمتعة ليست إحساساً بل هي الرضا بإنجاز الخير مع كونه خيراً. الخير ليس خاصيةً غير طبيعية بل يتّصل بغايات وكمالات ذلك وهو أمرٌ يُحكم على موضوعه بأنّه خير. من خلال الزهد، يستطيعُ المرء تفادي الأخطاء في الحُكم على ما هو خير التي تنشأ بسبب إهمال الكمالات الفكرية والاهتمام المفرط بالمتع المادية وفقاً لابن سينا، فإنّ المعرفة الباطنية التي تُكتَسب عبر الزهد لا تمُكّن الزاهد من إدراك الخير غير الطبيعي الكامن في الأشياء المتعدّدة، وذلك لأنّ الأشياء

ص: 93

هي خيرٌ فقط بالنسبة لمن يستطيع استخدامها لكي يصبح أكمل أو يتخلّص من العيوب.

يستطيع التفسير الآنف مُساعدَتنا في حلّ معضلةٍ وردتْ في نص «الإشارات» تتناولُ مسألة الحصول على بعض الأمور الممتعة ولكن كرهها بعد ذلك.

«قد يُكتَسَب الشيء الممتع ولكن يغدو موضع كراهية بعد ذلك، كما أنّ بعض المرضى يكرهون الحلويات ولا يشتهون الأشياء التي كانوا يرغبونها في السابق. هذا ليس نقضاً لما سبق ذكره فهذه الأشياء ليستْ خيراً في هذه الحالة لأنّ الحواس ليست مُدركة لها بالنظر إلى خيرها».

أنّ

تُخمِّنُ المترجِمة عِناتي أنّ جُملة «هذه الأشياء ليست خيراً في هذه الحالة» قد أتت ك_«نتيجةٍ لغفلة ابن سينا أو أحدٍ من كتابه»، وقد توصّلت الأستاذة إلى هذا الاستنتاج لأنّه من الواضح أنّ ابن سينا لم يكن من مناصري الذاتية ولم يعتبر الشيء يكون خيراً فقط حينما تُدرك الحواسُّ خيرَه. تُفسِّر عناتي المثال على أنّه بيانٌ لحصول الكراهية تجاه شيءٍ خيِّر بسبب المرض، ولكن يبدو أنّ ما يقصده ابن سينا هو أنّ الحلويات ليست جيّدة للمريض ومن ثمَّ لن يستطيع التمتُّع بها لأنّه ليس بمقدور الحواس حينئذ إدراك الحلويات عن الطريق التي تُدرَك المتعة خلاله، أي أن تكون خيراً. المعرفة الباطنية التي يظهر الخير من خلالها ممتعاً ليست تلك العملية التي يتمُّ من خلالها معرفة الخاصية غير الطبيعية للشيء، بل معرفة أنّ الشيء يستجلبُ كمال الإنسان - وهذا يختلف تحت الظروف المتنوّعة.

ص: 94

الاستنتاجات

في خلاصة القول، يمُكن تطوير علم الأخلاق الديني طرقٍ بعدّة مختلفة، وإحدى هذه الطرق هي نظرية الأمر الإلهي الصادر عن الإرادة في الأخلاق. بالرغم من وجود أسبابٍ فلسفية ولاهوتية تدعونا لرفض هذه النظرية - وتتمثّل على التتالي في أنّ طاعة الله لن تكون أخلاقية وأنّ الأوامر الإلهية سوف تفشل في إظهار الحكمة الإلهية - إلا أنّ هدف هذا البحث ليس تقديم هذه الأدلة أو تفحصّها بل الهدف هو تناول العلاقة بين المواقف التي يمُكن تبنّيها في الأخلاق الدينية فيما يتعلّق بالواقعية الأخلاقية.

وقد سبق وأن تمّ الترويج للواقعية في هيئاتٍ تضمُّ المعالم الآتية:

رفض النسبية المعيارية

رفض الذاتية

رفض مذهب نفي الإدراكية

رفض العدمية

رفض الشكوكية الأخلاقية

القبول بأنّه يمُكن معرفة بعض الحقائق الأخلاقية على الأقل، وذلك عبر الحدسيات العقلانية أو الحس الأخلاقي والضمير أو عبر كليهما معاً.

القبول بأنّ الحقائق والخصائص الأخلاقية تتواجد بشكلٍ مستقل عن العقل والفكر أو إرادة الفاعلين الأخلاقيين.

تستقلُّ آخر هذه النقاط عن غيرها، أي يمُكن إدخال نماذج من النقاط الأخرى في النظرة المشّائية للأخلاق من دون الالتزام الأنطولوجي بوجود الحقائق والخصائص الأخلاقية بالطبع، يوجد المزيد ممّا ينبغي قوله حول كيفية تعامل النظرة المشّائية مع الحدسيات الأخلاقية وكيف تختلف الإبستمولوجيا الأخلاقية المشّائية عن

ص: 95

إبستمولوجيا الواقعية الأخلاقية الشديدة في الواقع، فإنّ النزاع بين المشّائيين ومناصري الواقعية الشديدة لا يدور حول الأنطولوجيا بل حول العلاقة بين الإبستمولوجيا والأنطولوجيا. بالنسبة لمناصري مذهب الحدسية الواقعية، فإنّ الحدسيات تُقدِّمُ نافذةً على الواقع الأخلاقي حيث تُعلَم الحقائق الأخلاقية من خلال معرفة الأخلاق عبر الحدس أمّا بالنسبة للمشّائيين والبنّائين ،الأخلاقيين، يمُكن معرفة الحقائق الأخلاقية عبر تفحُّص شروط الاستدلال العملي والاهتمامات البشرية، بغضّ النظر عن القول بتوافُق هذه الحقائق مع الوقائع الأخلاقية أو وصْفها للخصائص الأخلاقية. بالإمكان مقارنةُ موقف البنّائية الأخلاقية مع موقف الملا صدرا حيال وجود المثال الأفلاطوني المتمثّل بالخير. وافق الملا صدرا على وجود عالم المثل الأفلاطونية لأنّه كان يعتبر أنّ المفاهيم العامة ينبغي أن تنعكس في الميدان الفكري، ولكنّه لم يكن يعتقد بأنّ اللجوء إلى المثل يُساهم في حلّ الإشكاليات المعرفية حول الأنواع الطبيعية. كذلك، قد يقبل المشّائيون والبنّائيّون بتفسيرٍ طفيف للواقعية التي تدور حول الحقائق والخصائص الأخلاقية مع إنكار كوْن اللجوء إلى الحدسيات المباشرة لهذه الوحدات يُقدّم معرفةً أخلاقية. ينبغي أن تعتمد المعرفة الأخلاقية المستقلة عن الوحي على العلم بالطبيعة البشرية والاستدلال العملي.

فيما يتعلّق بالإرادة الإلهية، قد نتخيّل بأنّ أشعرياً يقبلُ بشكل من الواقعية الأخلاقية ويعتقد بأنّ الخصائص الأخلاقية غير الطبيعية تكمنُ في الأشياء والأفعال بأمرٍ إلهي، فتترافق الإرادة التشريعية الإلهية بالضرورة مع مشيئته الإبداعية بأن تكون الخصائص الأخلاقية ملتصقة بالأشياء. قد يعتقد هذا الأشعريُّ أيضاً بأنّ البشر لا يستطيعون الوصول إلى الواقع الأخلاقي إلا عبر الحقيقة الموحاة. الأمر الجوهري بالنسبة لمتّبعي مذهب الإرادة الإلهية في الأخلاق هو ليس إنكار الواقعية بل الفرضية الإبستمولوجية التي تُفيدُ أنّه لا يمُكن معرفة الحقائق الأخلاقية عبر أيّ وسيلة أخرى غير الوحي.

يمُكن أيضاً تطوير نظريات الأمر الإلهي الخالية من الإرادة الأخلاقية بأساليب

ص: 96

تتوافق مع شكل شديد من الواقعية المتعلّقة بالقيم. ينبغي أن يُنظَر إلى مسألة إنكار الإرادة الإلهية الأخلاقية كفرضيةٍ إبستمولوجية وليس معرفية. يُتيحُ علمُ الأخلاق الدينيّ الذي يرفض الإرادة الإلهية في الأخلاق إمكانيةَ الوصول إلى معرفة بعض الحقائق الأخلاقية على الأقل بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي. يمُكن شرح كيفية معرفة هذه الحقائق الأخلاقية من خلال طرق عدّ، وأبرز طريقَيْن تمّ تطويرهما في العالَم الإسلامي كانا: أ) أسلوب المتكلّمين المعتزلة والشيعة الذين قدّموا نموذجاً واقعياً للحدسيات الأخلاقية؛ وب) أسلوب الفلاسفة مَن زمن الفارابي وصولاً إلى الطوسي والملا صدرا ومَن بعدهم مِن الذين دافعوا عن المقاربة المشّائية تجاه الأخلاق والحكمة العملية. مع أنّه يمُكن تصنيف المقاربة المشّائية على أنّها واقعيةٌ بنحوٍ طفيف، إلا أنّ لديها قواسم مشتركة مع بعض نماذج البنّائية الأخلاقية أكثر من الواقعية الشديدة التي دافع عنها مور والمعاصرون من مؤيِّديه .

قدّم الأستاذ راينهارت بديلاً معقولاً لاقتراح حوراني بأنّ الواقعية الأخلاقية تبدو كردّة فعلٍ ضدّ الذاتية، واعتبر أنّ السبب وراء الانتقال إلى مذهب الإرادة كان انحسار الحماس الدعوي الإسلامي. سعى الدعاة لاستحضار الحقائق الأخلاقية التي يعرفها غير المسلمين من أجل جذبهم إلى الدين الإسلامي، وقد اقتضى هذا الأمر الاعترافَ بالحقائق الأخلاقية التي يمُكن معرفتها بشكلٍ مستقل عن الوحي. حينما تدعّمت بُنى ومؤسسات الحضارة الإسلامية وانحصر النشاطُ الدعوي في حدود دار الإسلام، أصبح الالتزام بالأحكام الأخلاقية الإسلامية اختباراً للإيمان وليس وسيلةً لجذب الغرباء، ولم يُقدَّم سببٌ آخر للأوامر والنواهي غير أنّها تخضع للحكم الإلهي.

بما أنّ عبد الجبار (935-1025) وابن سينا (حوالي (980-1037) كانا عالِمَيْن مُعاصِرَيْن، يُعتَبَر بأنّ مؤلّفاتهم تعكسُ نفْسَ العوامل الاجتماعية المؤيِّدة للإقرار بوجود الحقيقة الأخلاقية المستقلة عن الوحي. يحتاجُ تبيانُ سبب بقاء هذا الإقرار في التراث الشيعي للفلسفة اللاهوتية منذ زمن الخواجة نصير الدين الطوسي (1274-1201) فصاعداً إلى تحليلٍ يربو عمّا بإمكاني تقديمه. لا داعي للقول بأنّ

ص: 97

العوامل الاجتماعية التي ينبغي تناولها تشتملٌ على أكثر من مجرد التحفيز على تقديم الإسلام والدفاع عنه أمام الغرباء. حينما نُوجِّه اهتمامنا نحو العوامل الاجتماعية التي قد تُشجّع على اتِّباع الاتّجاهات اللاهوتية المتنوّعة، لا ينبغي أن نسقط في فخّ التبسيط حيث يُرى الاستدلال خارجاً عن الموضوع بشكلٍ تام. يصعبُ الدفاع عن مذاهب الواقعية الأخلاقية الشديدة لأنّها تفترض وجودَ سماتٍ غير طبيعية وإمكانية الوصول إليها عبر حدسياتٍ مُلتبسة. لقد قادت هذه المعضلات الفلسفية المتعلقة بالواقعية الشديدة إلى أن يقوم كلّ من مور وعبد الجبّار بتعقيد نظرياتهما من خلال الاعتراف ببعض الأبعاد الارتباطية للسمات الأخلاقية، ولعلّ هذه التعقيدات بحدّ ذاتها هي التي جذبت علماء الشيعة من الطوسي فصاعداً إلى اتّخاذ موقفٍ حول الفلسفة الأخلاقية يميل أكثر إلى المشّائية.

في العالم الإسلامي المعاصر، لا يوجد إجماعٌ حول الإرادة الإلهية أو الواقعية الأخلاقية. يبدو أنّ سياسات الهوية تُروّج لنوعٍ من الإرادة الإلهية بينما يُتوقَّع من الدفاع الفكري عن الإسلام في الميادين العالمية أن يجري على وفق المقاربات التي تتضمن عناصر من العقلانية و/أو شكلٍ من الحدس الأخلاقي. لأسبابٍ تاريخية، ما زالت الإرادة الإلهية في الأخلاق مرفوضةً في علم الإلهيات لدى الشيعة بالرغم من أنّه _كما ذكرنا سابقاً قد تُساهم العوامل المروّجة لهذه الإرادة في الحدّ من نطاق المعرفة الأخلاقية المستقلّة عن الوحي مع عدم الوصول إلى إنكارٍ تامٍ لها، وهذا يُفضي إلى شكوكيةٍ أخلاقية مُخفّفة. في إيران كان التهديد الذي مثّلته الماركسية إحدى الدوافع العظمى للسماح بالتعليم العام للفلسفة في حوزات قم. بالرغم من أنّ بعض أشكال التحفُّظ أشكال التحفظ الديني قد تؤيّد الشكوكية المخفّفة التي تتعلّق بالاستدلال الأخلاقي وقد تحدّ من نطاق المعرفة الأخلاقية المستقلة نطاق المعرفة الأخلاقية المستقلّة عن الوحي، إلا أنّ مسيحيين غربيّين قد قاموا بتقديم دفاعٍ ديني لصالح الواقعية الأخلاقية في مقابل العناصر الذاتية التي تمّت مهاجمتها في ما يُسمّى ب_ «الحروب الثقافية»، ولن يكون العثور على ميول مُشابِهة في أوساط المسلمين الإيرانيين أمراً مفاجئاً. الواقعية الأخلاقية هي جذابةٌ بالنسبة لبعض الأشخاص لأنّهم يرون أنّها تُقدّم طريقةً للدفاع عن الادّعاءات

ص: 98

الأخلاقية المطلقة في مقابل النسبية الثقافية من ناحية أخرى، تتّجه عملية عولمة الخطاب الأخلاقي نحو ترويج الآراء الأخلاقية التي تبدو مختلفةً عن تلك التي تُقدّسها الشريعة الإسلامية، وقد يُساعد هذا الأمر في تقوية ميول العلماء المسلمين نحو التشكيك بقدرة العقل الطبيعي على دعم الأخلاق الإسلامية. من المتوقَّع أنّ الاعتماد على الادّعاءات بوجود الحدسيات المباشرة للحقيقة الأخلاقية لن يُساهم إلا في تصلُّب المواقف المتعارضة في هذه المرحلة، تُقدِّمُ البنّائية المشّائية بديلاً معقولاً يمُكن أن نؤسّس عليه الأخلاق الدينية التي تتلاءم مع الإصرار الشيعي على العقل والعدل، والله أعلم.

ص: 99

الأخلاق الإسلامية

عظيم نانجي (1)

ترجمة: هبة ناصر

خَلاصة

يتضمّنُ التراثُ الأخلاقي الإسلامي دراسةَ مُقارباتٍ مُتنوِّعة حول القيم الأخلاقية، ولقد نشأت التقاليدٌ الإسلامية المختلفة التي نشهدها في يومنا الحالي كنتيجةِ لهذه التأكيدات والمقاربات المتباينة. تشكّلتْ الواجباتُ الأخلاقية للأفراد تجاه بعضهم البعض داخل المجتمع فضلا عن العلاقات مع المجتمعات الأخرى بفعل الاعتبارات الفلسفية واللاهوتية والعملية السابقة، وقد تطوّرت هذه التطبيقات لاحقاً لتُشكِّل مصطلحاتٍ شرعية وأخلاقية تتبعُ لمدارس فكرية مختلفة. تختتمُ هذه المقالة بالإقرار بوجود التنوُّع في الأمة والتأكيد على أهمية «الانفتاح المستمر على احتمالات الاكتشافات الأخلاقية الجديدة والتحديّات التي تمُثُّلها».

مُقدِّمة

يندرجُ الإسلام في ضمن أحدث الأديان العالمية الرئيسية وينتمي إلى قسم الأديان التوحيدية التي تضمُّ اليهودية والمسيحية. منذ بداياته قبل أكثر من 1،400 عام في الموقع الجغرافي الذي يُدعى السعودية في يومنا الحالي، نما الإسلام وانتشر ليضمّ نحو مليار تابع يعيشون في كلّ ركنٍ من أركان العالم تقريباً. بالرغم من أنّ أغلبية

ص: 100


1- باحث في معهد الدراسات الاسماعيلية

أتباع الإسلام الذين يُطلق عليهم تسمية «المسلمين»- يقطنون في قارتيّ أفريقيا وآسيا (ومن ضمنها الجمهوريات الآسيوية التي كانت تنتمي سابقاً إلى الاتّحاد السوفييتي أو تقع شمال غرب الصين)، إلا أنّ عدد المسلمين في قارتيّ أمريكا وفي أستراليا وأوروبا قد ازداد بشكلٍ كبير خلال الربع الأخير من القرن العشرين. في الآونة الأخيرة، اتّجهتْ الدول والجماعات المختلفة التي تُشكِّلُ الأمة الإسلامية نحو التعبير - وإن بدرجاتٍ مختلفة- عن الحاجة لربط تراثها الإسلامي بمسألة تحديد الهوية الوطنية والثقافية. حينما ترافقتْ هذه الظاهرة مع ردود الفعل أو الصراعات المحلية أو الدولية، فإنّها قد تسبّبتْ بمقدارٍ كبيرٍ من التشويش وسوء الفهم حول دور الإسلام من ثمَّ، فإنّه من المهم أن نقوم بتنمية نظرةٍ تاريخية إلى الكيفية التي تمّتْ من خلالها صياغة المجال الكامل للقيم الإسلامية وافتراضاتها الأخلاقية الجذرية في مسار التاريخ الإسلامي وذلك من أجل تثمين تنوُّع التراث الإسلامي المتمثِّل بالفكر والحياة الأخلاقيَّيْن.

المنشأ والمسار: القيم التأسيسية

يكمنُ مصدر الإلهامُ الأول للقواعد والفرضيات التي طبعتْ الإيمان والعمل في الإسلام في مصدرين أساسيَّيْن: الأول هو الكتاب المقدّس الذي يُجسِّدُ الرسالة التي أوحاها الله إلى النبي محمد صلّی الله علیه و آله (المتوفّى في العام 632) المتمثِّلة بالقرآن، أمّا الثاني فهو تطبيق تلك الرسالة عبر النمط المثالي المشهود لأفعال النبي وأقواله وعاداته، أي ما يُسمّى بالسنّة . يعتقدُ المسلمون أنّ القرآن هو الختام في سلسلةٌ من الكتب الموحاة التي أرسلها الله إلى البشر وأنّ السنّة الظهور التاريخي لحياةٍ بشرية تجري على وفق الإلهام والهداية الإلهية وتتجلّى في شخص النبي محمد صلّی الله علیه و آله الذي يعتقدون بأنّه خاتم الرسل المبعوثين من قِبل الله.

المصادر التأسيسية للإيمان الإسلامي

احتجّ الباحث المرموق في الفكر الإسلامي المنتمي إلى جامعة شيكاغو والمفكِّر الإسلامي العصري الراحل فضل الرحمان أنّ اهتماماً عقلياً وأخلاقياً عميقاً بإصلاح

ص: 101

المجتمع قد دفع الإسلام في مرحلته الأولى، وأنّه تمّ تصور هذا المقصد الأخلاقي بأساليب تُحفّز على الالتزام العميق بالاستدلال والخطاب العقلي. كما في غيره من الأديان - وخصوصاً اليهودية والمسيحية - فإنّ الإسلام لدى الإجابة عن السؤال التالي: «ما الذي ينبغي فعله واجتنابه؟» كان لديه مفهومٌ محدّد عن مصادر المرجعية الأخلاقية. حينما أظهر الله مشيئته إلى البشر في القرآن، فإنّه قد حثّهم أيضاً على استخدام العقل في فهم الوحي. أدّى قسمٌ قسم من هذا الاستفسار العقلي لمعرفة معنى الوحي إلى أن يقوم المسلمون بتفصيل قواعد السلوك الأخلاقي والمبادئ التي تبتني عليها هذه القواعد مع مرور الوقت، تمّ أيضاً تفصيل العلاقة بين القرآن وحياة النبي كأسوةٍ في السلوك وذلك من أجل توسعة الإطار الذي يمُكن من خلاله تحديدُ القيم والواجبات. تضمّنت عمليةُ التحديد والتفصيل تطبيقَ الاستدلال البشري، وهذا التفاعل المستمر بين العقل والوحي فضلا عن إمكانيات ومحدوديات العقل مقارنةً بالوحي، قد وفّر أساسَ المصطلحات التي تُشكّل الفكر الأخلاقي في الإسلام.

القرآن والسنّة

تُشيرُ إحدى السور القرآنية المسمّاة ب_«الفرقان» إلى أنّ الوحي هو النقطة المرجعية لتمييز الحق من الباطل، وتمضي هذه السورة في تقديم الأمثلة حول أنبياء قد ورد ذكرهم في الإنجيل وعلى أدوارهم كوسطاء في إيصال كلمة الله إلى مجتمعاتهم. تماماً كاليهودية والمسيحية، فإنّ بداية الإسلام قد ترسَّختْ في الفكرة التي تُفيدُ أنّ الأمر الإلهي هو قاعدة تأسيس النظام الأخلاقي عبر المسعى الإنساني. في مواضع أخرى من القرآن، يُشيرُ التعبيرُ نفسه إلى مفهوم الأخلاق المنزَّلة التي تُقدِّمُ للبشرية تمييزاً واضحاً بين الحق والباطل اللذَيْن لا يخضعان للتبدّلات البشرية. من خلال تأسيس القاعدة الأخلاقية في المشيئة الإلهية، تتوفّر للإنسان فرصة الاستجابة عبر إنشاء وعي عقلاني يُبقي على صلاحية الوحي. وعليه، يمُكن أن يوجد أساسٌ أوسع للفعل البشري إذا تمّ تطبيق العقلانية كنتيجةٍ للوحي، وذلك من أجل تفصيل القواعد التي تشتملُ على مجموع الأفعال والقرارات البشرية.

ص: 102

التفاعل بين الوحي والعقل

تظهر هذه المواضيع في السرد القرآني لقصة خَلق آدم وتراجعه. تميّزَ الإنسان الأول آدم عن الملائكة الذين أُمروا بالسجود له بقدرته الموهوبة من قبل الله على «تسمية الأشياء»، أي إدراك العلم الذي يمُكن التعبير عنه لغوياً ومن ثمَّ تقنينه وهي قدرةٌ ليست مُتاحة للملائكة الذين يُعتبرون كائناتٍ ذات بُعدٍ واحد يترافقُ الواجب المتمثِّل بعدم تجاوز الحدود مع هذه القدرة الإبداعية. يرمزُ الشيطان في القرآن إلى التعدّي لأنّه قد عصى أمر الله بإكرام آدم والسجود له، ومن ثمَّ فإنّه قد تنكّر عن طبيعته الفطرية وحدوده.

إنّ قصة آدم تعكسُ القدرة على الخير والشر المدمَجَة في الوضع البشري فضلا عن القصة المنكشفة حول الاستجابة البشرية للوحي الإلهي المستمر عبر التاريخ. تمُثَّل هذه القصة الكفاح المتواصل للبشرية بُغية اكتشاف الوسيلة للوصول إلى الفعل الموزون والخضوع للدستور الإلهي بهذا المعنى، تُعبِّرُ كلمة الإسلام عن الوحي الأصلي وتستلزمُ الخضوع لإحراز التوازن. أمّا المسلم فهو الذي يسعى عبر العمل الحيازة ذلك التوازن في حياته الشخصية وفي المجتمع.

ما هي التقوى؟

تُلَخَّص الصفة الإنسانية التي تشتملُ على مفهوم القيمة الأخلاقية المثالية في القرآن في مصطلح «التقوى» الذي يرد في هيئاته المختلفة أكثر من مئتيّ مرّة في النص القرآني. من ناحية، تمُثِّلُ التقوى القاعدة الأخلاقية التي تُشكِّل أساس الفعل البشري، ومن جهةٍ أخرى فإنّها تدلُّ على الضمير الأخلاقي الذي يجعلُ البشر مُدركين لمسؤولياتهم تجاه الله والمجتمع. حينما يتمّ تطبيقها على الإطار الاجتماعي الأعمّ، تغدو التقوى العلامة الأخلاقية الشاملة على المجتمع الأخلاقى الحقيقي.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات، الآية 13)

على نحوٍ أدق، حينما يُوجِّه القرآن خطابَه إلى المسلمين الأوائل فإنّه يصفهم

ص: 103

ب_{ الأمة الوسط}، و {شهداء على الناس} كما أنّ الرسول محمدا شهيد على الأمة.

الإسلام طريقٌ حياة

وعليه، يُنظَرُ إلى الأمة الإسلامية كوسيلةٍ تُترجم عبرها المفاهيم والأوامر القرآنية على المستوى الاجتماعي، ويُصبحُ الأفراد أمناء يُطبّقون النظرة الأخلاقية والروحية في الحياة الشخصية. يتحمّل هؤلاء الأفراد المسؤولية أمام الله والأمة لأنّها القيِّمة على مسؤولية المحافظة على علاقة العهد مع الله . يؤكِّدُ القرآن على البُعد الثنائي في الحياة الإنسانية والاجتماعية الذي يتمثّل بالمادة والروح، إلا أنّه لا يعتبر هذه الأبعاد مُتعارضة ولا يفترضُ بأنّ الأهداف الروحية ينبغي أن تُسيطر بطريقةٍ تخفضُ من قيمة الأبعاد المادية فى الحياة. يعترفُ القرآن بالتكامل بين البعدين ويؤكِّدُ على أنّ السلوك والتطلٌّعات البشرية تتمتّعُ بالأهمية لأنّها أفعالٌ إيمانيةٌ تندرجُ ضمن الأُطُر الإنسانية والاجتماعية والثقافية الأوسع. بهذا المعنى، يمُكن أن نفهم بأفضل طريقةٍ الفكرة التي تُفيدُ بأنّ الإسلام يُجسِّدُ أسلوباً شاملاً للحياة.

يمُكن تقديمُ مثالٍ على أحد أبعاد هذه النظرة، وذلك عبر التأكيد القرآني على أخلاقيات إصلاح الفساد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. على سبيل المثال، حثّ القرآن الأفراد على إنفاق أموالهم على: 1) العائلة والأقربين؛ (2) الأيتام؛ (3) الفقراء؛ 4) أبناء السبيل؛ 5) المساكين؛ و6) فكّ الرقاب. تُحدّدُ هذه الأعمال المسؤوليةَ الملقاة على عاتق الإنسان المسلم التي تتمثّلُ بتطوير الضمير الاجتماعي ومشاركة الموارد الفردية والجماعية مع المعوزين. تأخذُ هذه الأفعال طابعاً تأسيسياً في القرآن عبر فرض الزكاة الذي يتضمّن معنى«العطاء»، «الفضيلة» ، «النماء»، و«التطهير». مع مرور الوقت، انضمّ هذا الواجب إلى أركان الإيمان وهي الصلاة والصوم والحج. سعى القرآن أيضاً لإزالة المعاملات الربوية من المجتمع التجاري في مكة والمدينة، ووُصمت هذه المعاملات بأنها تعكسُ انعدام أخلاقيات العمل وبأنها استغلالٌ غير مناسب للمحتاجين.

على المستوى الاجتماعي، يتضمّنُ تأكيدُ القرآن على مسألة العائلة اهتماماً بتحسين

ص: 104

وضع المرأة، وذلك عبر محو الممارسات الجاهلية كوأد البنات ومنح النساء حقوقاً جديدة. تشتملُ هذه الحقوق على الحق في الملكية، والإرث، وعقد الزواج، وإقامة دعوى الطلاق لدى الضرورة، والحفاظ على المهر. نُظِّمتْ مسألةُ تعدُّد الزوجات وقُيِّدتْ بحيث جاز للرجل الزواج من أربعة نساء ولكن فقط إذا استطاع أن يعدل بينهن في السابق فهم المسلمون هذا الحُكم في إطار القرن السابع حين نزل وبأنّه قد وفّر المرونة الضرورية لحلّ مسألة التنوّع الاجتماعي والثقافي الذي نشأ مع توسُّع الإسلام. ولكن من ناحيةٍ أخرى.

بما أنّ القرآن قد منحَ امتيازاً للمسلمين باعتبارهم {خير أمّةٍ} تتمثّل وظيفتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ وظيفة النبي محمد صلّی الله علیه و آله كغيره من الأنبياء السابقين قد تضمّنتْ إنشاءَ حكومةٍ عادلة مُقدَّرة إلهياً . انطوى الجهدُ الرامي لتحقيق هذا الهدف على دخول المسلمين في الحرب، والمصطلح القرآني الذي يَشتملُ على هذا الجهد بتمامه هو الجهاد كثيراً ما يُترجَم هذا المصطلح بشكلٍ مُبسَّط وخاطئ إلى «الحرب المقدّسة»، ولكنّه في الواقع يحملُ دلالةً أوسع بكثير تشتملُ على السعي بالأساليب السّلمية كالتبليغ والتعليم ، ويأتي أيضاً بمعنى شخصي ونفسي يتمثّل بالكفاح لتزكية الروح. حينما يُشيرُ هذا المصطلح إلى الدفاع العسكري في حرب مُحقّة، فإنّ القرآن يُحدِّد شروط الحرب والسِّلم ، وكيفية معاملة الأسرى، ومسألة حلّ النزاع، ويُشدّد على أنّ الهدف النهائي لكلمة الله هو دعوة الناس وهدايتهم إلى {سُبُل السلام}.

الواجبات الفردية في الحكومة الإسلامية

مع تشكُّل الحكومة الإسلامية، أصبح من الضروري تناول مسألة علاقتها وموقفها تجاه غير المسلمين الذين يمتلكون تعاليم مكتوبة مماثلة وعلى وجه الخصوص اليهود والمسيحيون الذين يُشيرُ إليهم القرآن ب_ {أهل الكتاب}. في الأماكن التي سكن فيها أهل الكتاب كرعايا في الدولة الإسلامية، تمّ منحهم «الحماية» عبر اتّفاقٍ مُتبادل يدفعون بمقتضاه ضريبةً إزاء حماية ممتلكاتهم الخاصة وقوانينهم وممارساتهم الدينية ولكن لا يُسمَح لهم بدعوة المسلمين إلى دياناتهم. يُفصِحُ القرآن عن خصوصية

ص: 105

المجتمع الإسلامي ومكانته البارزة، ويُشجّع على توجيه احترامٍ أكبر للاختلاف والتباين في المجتمع البشري مع تفضيل الأهداف الأخلاقية المشتركة ونبذ المواقف التفريقية والعدوانية

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيرات} (المائدة، الآية 48).

التعابير الشرعية والأخلاقية

تنعكسُ الحاجةُ للتناغم بين الأمر الإلهي الأخلاقي والحياة البشرية في الأحاديث النبوية المحفوظة التي يُنظَر إليها على أنّها مُوضِّحة للقيم والأوامر القرآنية ومؤكِّدة لها. مع الوقت، أصبحت مسألةُ تسجيل مشاهد من حياة النبي وكلماته وأفعاله وعاداته أمراً يُقدِّمُ للمسلمين نمطاً خالداً يُحتذى به في الحياة اليومية، وقد اتّخذت هذه المسألة أيضاً دوراً هاماً في شرح القرآن وتتميمه. بالنسبة للمسلمين، عزّزت شخصيةُ محمد وجهاده وتقواه ونجاحه النهائي من دوره كقدوةٍ وكخاتم الأنبياء، ويوجد في جميع اللغات تقريباً التي يتحدّث بها المسلمون تراثٌ غنيٌ من الشِّعر في مدح النبي ممّا يزيدُ من الاقتداء بسلوكه ويُعزِّز الشعور بالقُرب الشخصي منه ومن وأهل بيته ومودّتهم. بالنسبة للمسلمين، تتلازمُ رسالة القرآن وحياة النبيّ صلّی الله علیه و آله دائماً عبر التاريخ بوصفهما نماذج للسلوك الأخلاقي، وقد شكّلا القاعدة للمفكّرين المسلمين للقيام بتطوير الأدوات الشرعية اللازمة لتجسيد الأوامر الأخلاقية.

أدّتْ عمليّة تفصيل العلوم الشرعية إلى تقنين المعايير والتشريعات التي تُشكِّلُ مفهومَ القانون في الإسلام التي تُدعى ب_ الشريعة عموماً. تندرج ُالمدارس التشريعية الإسلامية المتنوِّعة ضمن الهيئات التي تمّ تطويرُها لتشمل الأمر الأخلاقي، وقد فصّلتْ كلُّ واحدةٍ من هذه المدارس أحكامها الشرعية عبر عملية الفقه، وذلك من أجل تكوين تفسيرها الخاص للكيفية التي ينبغي أن يقوم من خلالها المسلمون بالاستجابة للأوامر الإلهية في حياتهم اليومية.

ص: 106

بموازاة الأحكام الفقهية الآخذة بالتطوُّر، انبثقتْ مجموعةٌ من الفرضيات الأخلاقية التي تُعبِّرُ عن القيم الأخلاقية وتتجدّرُ في مفهومٍ أكثر ميلاً نحو التنظير والفلسفة حول السلوك البشري، وذلك كاستجابةٍ للقرآن وحياة النبي صلّی الله علیه و آله. على خلاف ما يُعتقد عموماً، فإنّ المجموعات الإسلامية ومدارس الشريعة لم تكن مُحدَّدة بوضوح خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي فقد كانت معظمها ما تزالُ تمرُّ في فترة التبلور ولم تُحدَّد وتُفصَّل حدودها ومواقعها بشكلٍ تام. لم تُحقِّق المنشآت العامة والفقهية والتعليمية في العالم الإسلامي في ذلك الحين تلك الهيئات أو الأهداف الكلاسيكية التي نُسبت إليها لاحقاً. تكمنُ إحدى مفاتيح عملية التعريف والتمييز في طبيعة الخطاب العام الذي طبع المجتمع الإسلامي المتنامي خلال قرونه الثلاث الأولى. أدّتْ الفتوحات والتوسُّع الإسلامي إلى الاحتكاك بثقافاتٍ مُختلفة، وقد قام المسلمون مع الوقت بانتقاء بعضٍ من التراث الفكري لهذه الثقافات وصقله وتطويره. صنعتْ عمليةُ دمج الإرث الفكري والفلسفي التابع لليونان والهند وبلاد فارس وغيرها ظروفاً معيّنة ونمطاً من النشاط الفكري أدّى لاحقاً إلى نشوء التراث العالمي للحضارة الإسلامية المنبعثة. لعِبَ العلماءُ المسيحيون واليهود الذين كانوا قد تعرّفوا بدرجاتٍ متفاوِتة على العلوم العالمية المذكورة آنفاً دوراً وسيطاً مهماً ك_ «مترجمين»، وعلى وجه الخصوص لأنّهم كانوا مُدركين بأنّ التوجُّه الأخلاقي للمسلمين قد تشكّل من المفاهيم التوحيدية التي يشتركون بها التي تستندُ إلى الأمر والوحي الإلهي. أصبح يُستخدَمُ مصطلح الأدب للدلالة على نطاقٍ واسعٍ من المعاني التي يُشيرُ إليها الخطاب الأخلاقي والفكري واللغوي المنبثِق، ويمُكننا أن نُلاحظ في هذه المدّة الممتدّة بين القرنين الثامن والعاشر ظهورَ ما أضحى لاحقاً مواقف لاهوتية وفكرية محدَّدةً بوضوح في المجتمع الإسلامي وقد عُرفت بتعاليم السنّة والشيعة والمعتزلة والفلاسفة المسلمين.

تحدّدتْ الخطوط الرئيسية للبيئة والمنظور الأخلاقيَّيْن المبتنيَيْن على الرسالة القرآنية عبر المواقف الأخلاقية العامة التي أصبحت تُعَدُّ معيارية بسبب التعبير عنها بلغةٍ ومصطلحاتٍ فقهية في الفترة المبكِّرة من التاريخ الفكري الإسلامي، قدِمت هذه القيم إطاراً مرجعياً للاستيعاب الانتقائي للفرضيات الفلسفية والأخلاقية من

ص: 107

التعاليم الأخرى وتطويرها، وشكِلت قاعدةً لتوسعة نطاق هذا الإطار الإسلامي وتطبيقه من أجل التعبير عن قيمٍ أخلاقية أخرى غير القيم المحدَّدة فقهياً فحسب. بما أنّه يصعبُ التأكيد على فروقٍ واضحة في الإسلام بين الدِّين والمجتمع والثقافة، يبدو أنّه من المناسب حينما نقومُ بمناقشة الأخلاق الإسلامية أن ندع المجال لتمام الاتّجاهات الفقهية واللاهوتية والفلسفية والعرفانية لتُشكّل مصادر الكشف عن الفرضيات والالتزامات الأخلاقية، وذلك من أجل تثمين كلِّ من التطوُّر والاستمرارية في المجال التام للفكر والحضارة الإسلامية.

المقاربات اللاهوتية والتقليدية

اتّسم التحوُّل إلى ما سمّاه مارشال هودجسون بالحضارة «الإسلاميكية» بنوعين من البدايات الأخلاقية والفكرية التي تستمدّ إلهامها من النصوص التأسيسية الإسلامية والعمليات العقلانية التي تعكسُ الذات. تضمّنت الأولى قيام المسلمين الأوائل بترك الثقافة العربية الجاهلية المرتبطة بشكلٍ أساسيٍ بالتراث المحلي الشفهي والانتقال إلى الثقافة المستِندة إلى النص الموحى الذي تسبّب حفظُه وتدوينه باللغة العربية إلى نشوء الظروف المناسِبة لانبعاث حضارةٍ إسلاميةٍ جديدة تعتمدُ على القرآن وتضمُّ الأمر التوحيدي المنعكس في اليهودية والمسيحية وتوسِّعه . أمّا «البداية» الثانية، فقد تأثّرتْ بشكلٍ جزئي بترجمة الكتب القديمة حول الفلسفة والطب والعلوم (التي تضمّنت الأعمال الفارسية والهندية القديمة بدرجةٍ أقل) إلى اللغة العربية ودراستها. ساهمتْ المناقشات الأخلاقية والقابليات الفكرية المنبعِثة من تراصُف ودمْج هذه الطلائع لتحويلها إلى بداياتٍ جديدة - التي قام العلماء اليهود والمسيحيون بتسهيلها إلى حدِّ ما - بالتحفيز على الاهتمام بالكيفية التي ينبغي من خلالها التوفيق بين وجهات النظر الدينية والأنماط الفكرية للاستفسار.

أدّى انبعاثُ النمط الفكري للاستفسار الذي يعتمدُ على تطبيق الوسائل العقلية كطريقةٍ لفهم الأوامر القرآنية إلى أن يقوم المسلمون بالاستفادة من علم مكرَّس الدراسة الكلام - أي كلام الله. كانت أهداف هذا العلم إلهية، بمعنى أنّ الهدف من

ص: 108

استخدام العقل هو فهم كلام الله وتعليله وقد تضمّنتْ المناقشات قيام المسلمين بتفصيل بعض الاهتمامات الأخلاقية وتعريفها مثل:

1. معنى بعض الأوصاف القرآنية الأخلاقية ك_ «العدل»، «الواجب»، «الخير»، «الشر»، وما إلى ذلك.

2. مسألة العلاقة بين الإرادة البشرية الحرّة والإرادة الإلهية.

3. قدرة البشر على الاستنباط العقلي للمعرفة بالقواعد والحقائق الأخلاقية الموضوعية.

من دون إجحاف عملية الجدال والمناقشة التي جرتْ بين الفرق الإسلامية المختلفة، يمكُن بشكلٍ عام الإعلانَ عن بروز موقفين واضحَين: الموقف المنسوب إلى المعتزلة والموقف التقليدي (المنسوب عموماً إلى المذهب السنّي في الإسلام).

المنهج المعتزلي

احتجّ المعتزلة أنّه : بما أنّ الله عادلٌ ويُثيبُ ويُعاقب وفقاً لعدله، ينبغي أن تكون إرادة البشر حرّة لكي يكونوا خاضعين للمساءلة. من ثمَّ، أنكر المعتزلة أن تكون الأفعال مقدَّرة سابقاً. ثانياً، اعتبروا أنّه: بما أنّ المفاهيم الأخلاقية تمتلكُ معنىً موضوعياً، فإنّ البشر يمتلكون القدرة الفكرية لإدراك هذه المعاني. وعليه، فإنّ العقل بالنسبة إليهم هو خاصيةٌّ رئيسية ويستطيعُ بشكلٍ مستقلٍّ عن الو- الوحي أن يصل إلى الملاحظات التجريبية ويستخرج استنتاجاتٍ أخلاقية. ولكن مع ذلك، اعتقد المعتزلة بأن العقل الطبيعي ينبغي أن يتكامل بالوحي الإلهي وأن يُؤيَّد به. يتّصلُ رأيٌ معتزليٌ آخر بهذه الفكرة ويُفيدُ أنّ طبيعة الله العادلة تحول دون أي اعتقادٍ بأنّ الله قد يقومُ عمداً بدفع المؤمنين نحو الذنوب.

اندثرتْ المدرسة الفكرية للمعتزلة على مرِّ التاريخ وقد اعتبر أغلبُ العلماء التقليديون أنّ آراءها غير مناسبة. يُشيرُ دحض العلماء التقليديين للنقاط الرئيسية لهذه المدرسة إلى

ص: 109

وجودِ مقاربةٍ مختلفة تجاه المصادر التي تُستَمَدَّ منها القيم الأخلاقية والإطار الإيماني الذي تتمتع فيه بالمعنى. يُفيدُ الموقف التقليدي الذي يتجلّى على سبيل المثال في نتاج الشافعي - وهو أحد مؤسِّسي المذاهب الفقهية الإسلامية - أنّ أصول الإيمان هي تطبيقية وليست تنظيرية. على خلاف الاعتقاد المعتزلي بأنّ العقل الطبيعي يُخوِّلنا تحديدَ الخير والشر، أكّد الشافعي على أنّ الوحي هو المصدر النهائي للتحديد. بما أنّ مبدأ المساءلة البشرية يمُثَّلُ أساس الفكر الفقهي، فإنّ الواجبات تعني القدرة على القيام بها ويتمُّ تحديدُ الخير والشر على أساس النص القرآني وامتداده أي السنّة النبويّة. من ثمَّ، فإنّ الأفعال هي خيرٌ أو شرٌ لأنّ التعاليم الإلهية تُحدِّد أنّها كذلك.

فيما يتعلّقُ بمسألة الإرادة البشرية للقيام بالفعل حُورِب الرأي المعتزلي من إحدى النواحي عبر مفهوم «الاكتساب». تمّ الاحتجاجٌ بأنّ القدرة الإنسانية على القيام بالأفعال ليست مُلكاً للفرد بل تأتي من الله إذ إنّ البشر «يكتسبون» المسؤولية عن أعمالهم ومن ثمَّ يُصبحون خاضعين للمساءلة. ينبغي التأكيد على أنّ المفكِّرين التقليديين لم يعترضوا على استخدام العقل بل العكس ولكنّهم قد اختلفوا مع العقلانيين حول القيمة الموهوبة له فقد اعتبروا بأنّه وسيلة وأداةٌ مُساعِدة لإثبات قضايا إيمانية ولكنّه يأتي في مرتبةٍ ثانويةٍ محضة في علاقته بتعريف الواجب الأخلاقي.

المقاربة السنيّة

في تلخيصه للموقف التقليدي، أكّد جورج مقدسي على أنّ القاعدة النهائية للواجب الأخلاقي من منظور الموقف التقليدي هي النصوص الإسلامية التأسيسية - أي القرآن والسنّة - وقد تمّ تفصيلها وتطبيقها باعتبارها الأوامر والنواهي الإلهية التي تُشكّل الشريعة المصاغَة في المدارس الفقهية الإسلامية. تمّ التعبير عن صياغات الأوامر والنواهي هذه في الكتب الفقهية بمصطلحاتٍ أخلاقية، وتمّ انتقاء خمس فئاتٍ لتقييم جميع الأفعال.

1. الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام.

ص: 110

2. المستحبات التي لا تعدّ واجبة كالصدقات والإحسان والنوافل.

3. المباحات التي يتّخذُ الفقه منها موقفاً مُحايداً التي لا تستدعي الثواب أو العقاب.

4. المكروهات التي يُردَع عنها وتُعدُّ مبغوضة إلى أنّها ليست محرَّمة. يختلفُ الفقهاء حول الأفعال التي تندرجُ ضمن هذه الفئة.

5. المحرّمات وهي الأفعال المحظورة كالقتل والزنا والكفر والسرقة والسُّكر.

فضلا عن ذلك، قام الفقهاء بوضع هذه الفئات ضمن إطارٍ ثُنائيٍ من الواجبات: تجاه الله وتجاه المجتمع. في كلِّ الحالات، تمّ النظر إلى الانتهاك من ناحيةِ قانونية ولاهوتية باعتبار أنّه يُشكّلُ جريمةً وذنباً في نفس الوقت. تخضعُ هذه الأفعال للعقوبة القانونية فحاول الفقهاء أن يُحدّدوا ويُفصِّلوا شروط العقوبة. على سبيل المثال، إحدى عقوبات السرقة أو قطع السبيل هي قطع اليد أو الجَلد في أحيان نادرة. حاول الفقهاء عموماً أن يأخذوا التوبة الفعلية بعين الاعتبار وذلك لكي يُخفِّفوا من هذه العقوبة مُتبعِّين بذلك سنّة النبي المتمثِّلة بتقييد العقوبات بالحالات القُصوى.

تلقَّتْ بعضُ هذه الفئات اهتماماً خاصاً في دولٍ إسلامية عدّة في الآونة الأخيرة حيث أُعيدتْ العمليات الفقهية التقليدية، ولكن يوجد قدرٌ كبيرٌ من الاختلاف في العالم الإسلامي حول ضرورة بعض هذه العمليات وإمكانية تطبيقها. حينما يُتَّخذ قرارُ التطبيق، يتمُّ تنفيذ العقوبة في المحاكم الشرعية من قِبل قضاة مُسلمين مُعيَّنين. كذلك، يتّخذ الفقهاء أو خبراء القانون دور المفسِّرين للشريعة وهم مخوّلون لتقديم آراء فقهية مُطّلعة. قد يقوم الأفراد الراغبون بالتأكُّد من المقصد الأخلاقي لبعض الأفعال بالتماس هذه الآراء، ولكنّ أغلب المدارس الفقهية الإسلامية يعتبرون أنّها لیست مُلزمة. تعدّ المدارس السنيّة الرئيسية الأربع نفسها بأنها تعكسُ المواقف المعيارية حول مسائل التفسير الفقهي والأخلاقي. بالنسبة لهؤلاء الفقهاء المسلمين،

ص: 111

يتعلّق كلٌّ من القانون والأخلاق بالواجبات الأخلاقية في النهاية ويعتقدون بأنّ هذه الواجبات هي محور الرسالة الإسلامية.

المقاربات الفلسفية

مثّلتْ عمليةُ إدخال التراث الفلسفي التابع للعصور القديمة إلى العالم الإسلامي عاملاً رئيسياً مكّن من استخدام المفكِّرين المسلمين لهذا التراث برزت شخصياتٌ من أمثال الفارابي، ابن سينا، ابن رشد، وغيرهم من العلماء الذين اشتهروا في القرون الوسطى في أوروبا باعتبارهم فلاسفة ومفسِّرين ودُعاة إلى التعاليم الكلاسيكية العائدة إلى أفلاطون وأرسطو. مثّل الأدب - أي الخطاب العام المبني على اللغة والاهتمامات الفلسفية والأخلاقية - جزءاً مهماً من التراث الأخلاقي العالمي في الإسلام وقد عكس الجهود الرامية إلى التوفيق بين القيم المستمِّدة من الدين والكتاب المقدّس وبين قاعدةٍ أخلاقية قائمة على الفكر والأدب. وعليه، يتمتّع التراث الإسلامي الفلسفي حول الأخلاق بأهميةٍ مُزدوجة، وذلك بسبب قيمته في استمرارية الفلسفة اليونانية الكلاسيكية ،وتعزيزها، والتزامه بالجمع بين الإسلام والفكر الفلسفي.

احتجّ الفارابي (المتوفّى عام 950) على وجود التناغم بين تصوّرات الدين الفاضل وأهداف الحكومة الحقيقية. من خلال الفلسفة، يستطيعُ المرءُ أن يفهم كيفية تحقيق السعادة الإنسانية ولكنّ العودة الفعلية إلى الفضائل والأفعال الأخلاقية تستدعي توسُّط الدين. قام الفارابي بمقارنة تأسيس الدين بتأسيس المدن أي إنّه كما يتحتّمُ على السكّان اكتسابَ السمات التي تجعلهم مواطنين في الحكومة الفاضلة، فإنّ مؤسِّس الدين يُنشئُ القواعد التي ينبغي الالتزام بها عملياً بُغية تأسيس مجتمعٍ دينيٍ سليم. يُشيرُ زخمُ جدلية الفارابي - وخصوصاً في تعبيره الوارد في كتابه «المدينة الفاضلة» - إلى وجود إطارٍ مجتمعي لإحراز السعادة النهائية ومن ثمَّ وجود أدوارٍ اجتماعية وسياسية مهمة للدين فضلا عن انشغال السياسيين باهتماماتٍ مماثلة. في هذا الصدد، يُشيرُ التركيزُ على الفضيلة ومعانيها الأخلاقية إلى وجود محوٍر مشترك في كلٍّ من الفلسفتين اليونانية والإسلامية، أي: تطبيق هذه المعايير والقواعد على

ص: 112

المجتمعات السياسية. كلّما ازدادت الحكمة والفضيلة التي يتمتّعُ بها الحكّام والسكّان، ترتفعُ إمكانية الوصول إلى الهدف الحقيقي للفلسفة والدين أي: السعادة.

أمّا ابن سينا (المتوفّى عام 1037)، فقد طوّر الحجة التي تُفيدُ أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله يُجسِّدُ مجموع الفعل والفكر الفاضل، وأنّ أفضل السلوك والتفكير ينعكسُ في إحراز الفضيلة الأخلاقية. اكتسبَ النبيُّ صلّی الله علیه و آله الصفات الأخلاقية الضرورية لرقيِّه، وبما أنّه قد حاز على الروح الكاملة فإنّه لم يتحلّ فقط بالفكر الحرّ بل أصبح أيضاً قادراً على وضع القواعد ليتّبعها الآخرون، وذلك من خلال الأحكام وإنشاء العدالة. هذا يعني أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله أعظم من الفيلسوف والحاكم الفاضل اللَّذيْن يمتلكان القدرة على التطوُّر الفكري والتحلّي بالأخلاق العملية تباعاً. وفقاً لابن سينا، فإنّ إنشاء العدالة هو أساسُ كلَّ خيرٍ بشري، وإنّ مزيج الفلسفة والدين يشتملُ على العيش المتناغم في هذه الدنيا وفي الآخرة.

واجه ابن رشد (المتوفّى عام 1198) المهمّة الشاقة المتمثِّلة بالدفاع عن في وجه الهجمات، ومن أشهرها هجمة عالم الدين السنّي الكبير الغزالي (المتوفّى في العام 1111) حاول الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» أن يعرض الفلاسفة كأفرادٍ متناقضين ومعارضين للكتاب، وقائلين بالبدع أحياناً. اعتمد دفاع ٌابن رشد على احتجاجه بأنّ القرآن قد حثّ على التدبُّر والتعقُّل، وأنّ دراسة الفلسفة تُتمّم المقاربات التقليدية تجاه الإسلام. كذلك، أكّد أنّ الفلسفة والإسلام يمتلكان أهدافاً مشتركة ولكنّهما يصلان إليها بأساليب مُختلفة. وعليه، توجد وحدةٌ أساسية بين المسلمين الذين يتبنّون الأُطر الفلسفية للاستفسار وأولئك الذين يؤكِّدون على الأُطر الفقهية .

بإيجاز ، قام الفلاسفة المسلمون من خلال توسعتهم ومراجعتهم الدورية للمفاهيم الكلاسيكية المتقدِّمة بربط الأخلاق بالمعرفة النظرية التي ينبغي أن تُكتسب بوسائل عقلية. بما أنّ البشر هم عقلانيون، اعتُبرت الفضائل والخصائص التي يقومون بتبنِّيها وتطبيقها مُقربةً للهدف النهائي للأفراد والمجتمع ، وهذا الهدف هو تحقيق السعادة.

ص: 113

وجهات النظر الشيعية والصوفية

اختلف الشيعة مع السنّة في نَسْبهم للسلطة الشرعية بعد موت النبيّ صلِّ الله علیه و آله إلى ابن عمّه وصهره علي علیه السّلام ومن ثمّ إلى أبنائه المنصوص عليهم المعروفين بالأئمّة علیهم السّلام، وقد تطوّر لدى الشيعة مفهومُ التعقُّل الخاضع لتوجيه الإمام . يؤمنُ الشيعة بأنّ الإمام مهديٌّ علیه السّلام من قبل الله، وقد اتّخذ الأئمة علیهم السّلام في أوائل التاريخ الشيعي دورَ الأمناء على القرآن وتعاليم النبيّ صلّی الله علیه و آله ، والأدلّاء على عملية تفصيل وتنظيم الرؤية القرآنية حول الفرد والمجتمع. تماماً كالمدارس الإلهية والفلسفية المبكِّرة، أكّد الشيعة على اعتماد الخطاب العقلاني والفكري والتزموا بإدخال العناصر المناسِبة الموجودة في الأديان الأخرى والتعاليم الفكرية غير الإسلامية وتطويرها.

من بين الأمثلة على المؤلّفات الأخلاقية الشيعية، يردُ كتاب «الأخلاق النصيرية» بقلم نصير الدين الطوسي (المتوفّى عام 1275) . طوّر الطوسي المقاربات الفلسفية الموجودة في أوساط المسلمين وربَطها بالمفاهيم الشيعية حول الهداية. كذلك، لفت الطوسي الاهتمام إلى الحاجة لأن تكون التشريعات الأخلاقية مُستنِدة إلى تفوُّق المعرفة ورُجحان الحُكم من قبل فردٍ «يتميّز عن الآخرين بالمدد الإلهي فيستطيع أن يُحقِّق كمالَهم». حاول ولفريد مادلونغ (Wilfred Madelung) أن يُظهِر بأنّ الطوسي قد مزج في كتابه الأخلاقي عناصر من الأفلاطونية الجديدة فضلا عن وجهات نظرٍ فلسفية وأخلاقيةٍ تابعة للشيعة الإثني عشريّة والإسماعيليّين .

تُطلَقُ على الشيعة الإثني عشرية هذه التسمية بسبب اعتقادهم بأنّ الثاني عشر من الأئمة الذين يؤمنون بهم قد غاب عن هذا العالم ولن يظهر شخصياً إلا في آخر الزمان لكي يُعيد العدل الحقيقي. في زمن غيبة الإمام، يقومُ العلماء المجتهدون الذين يُحدّدون الحق والباطل للأفراد في جميع قضايا الحياة الشخصية والدينية بهداية المجتمع. في التعاليم الشيعية، يلعبُ هؤلاء العلماء - الذين يُطلق عليهم «الملالي» في التعبير الشعبي - دوراً مهماً باعتبارهم قدوات، وفي الآونة الأخيرة اتّخذوا دوراً رئيسياً في الحياة السياسية في إيران ساعين وراء تشكيلها تمشياً مع رؤيتهم للحكومة الإسلامية.

ص: 114

وعليه، يبقى الاتّصال الشيعي بالتعاليم والقيم الإسلامية منوطاً بالسلطة الروحية المستمرّة الممنوحة للإمام أو نوّابه.

الأخلاق الإسلامية في العالم المعاصِر

يمُثَّل المذهب الصوفي البُعدَ العرفاني والباطني للإسلام، ويؤكِّدُ على تنمية الحياة الشخصية الباطنية سعياً وراء الحبّ والعلم الإلهي. بما أنّ قسطاً كبيراً من التعاليم إلى تمكين الفرد المسلم من التقرُّب إلى الله، فقد اعتُبر بأنّ هؤلاء المريدين ينبغي أن يلتزموا بحياةٍ باطنية تتّسم بالإخلاص وبأفعالٍ أخلاقية تؤدِّي إلى الإحياء الروحي. تتكاملُ مراعاة أحكام الشريعة مع التقيُّد بمسار التهذيب الأخلاقي ومن ثمَّ يتمكّن المريد من عبور «مراتب» روحية متعدّدة تُمثِّلُ كلُ واحدةٍ منها النماء الباطني الروحي حتّى يصل إلى فهم العلاقة الجوهرية المتمثِّلة بالحب والاتّحاد بين المريد والله. بما أنّ المغزى الباطني للفعل قد شكّلَ بُعداً مهماً للفهم الصوفيّ للسلوك الأخلاقي، فقد أكّد الصوفيون على الرابط بين الإدراك الداخلي التجريبي للأخلاق وبين التعبير الخارجي لها فأضحى الفعل الأخلاقي الحقيقي هو ذاك الذي يُحيط بتمام الحياة ويتغلغل فيها.

في البيئة المؤسّسية، قامت الفرق الصوفية المنظّمة بتدريس ضرورة الامتثال للتعاليم الإسلامية التقليدية ولكنّها قد أضافت عنصر التهذيب والتطهير الباطني. بسبب عدم تشابه الممارسات التي تغرسُ التهذيب والإدراك الأخلاقي في الثقافات والتعاليم التي قابلها الإسلام ، تمّ إدخال العديد من الممارسات المحليّة. على سبيل المثال، تمّ تقبُّل العادات والممارسات الأخلاقية التي كانت تلتزمُ بها الشعوب وفقاً التقاليدها المحلية، وذلك في دولٍ كإندونيسيا وغيرها من البلدان حيث حصلت موجات اعتناقٍ هائلة للدِّين الإسلامي. وعليه، قدّمت الممارساتُ الصوفية الأخلاقية جسراً لإدخال القيم والممارسات الأخلاقية التابعة للتعاليم المحلية إلى السلوك الأخلاقي الإسلامي ممّا يُظهرُ شمولية وجهات النظر الصوفية الإسلامية حول اتّحاد البُعد الباطني للأديان المختلفة . أصبح الغزالي - عالم الدين السّني الذي ذكرناه آنفاً -

ص: 115

مناصراً للفكر الصوفيّ ولكنه حاول أن يدمج الآراء الأخلاقية الواردة في الشريعة مع مفهوم التقوى الباطنية الذي طوّره الصوفيّون. اعتقد الغزالي بأنّ الواجبات المفروضة من قبل الله هي نقطة الانطلاق لتنمية الشخصية الأخلاقية شريطة أن تقود في الوقت المناسب إلى معنى التوجُّه الباطني للأخلاق. بالرغم من ذلك، تردّد الغزالي في قبول تأكيد بعض الصوفيين على وجود قاعدةٍ للفعل الأخلاقي تكونُ تجريبيةً محضة ومُنقادة إلى هداية الذات.

استمرّ تطبيقُ التراث الأخلاقي المتنوّع وتأثيره بدرجاتٍ متفاوتة على المسلمين في العالم المعاِصر. سواء كان المسلمون يُشكلّون الأغلبية في عدد من الدول المستقلّة التي نشأت خلال هذا القرن أو كانوا يعيشون في جماعاتٍ وأعداد كبيرةٍ في أماكن أخرى، فإنّهم يمرّون حالياً في مرحلةٍ انتقاليةٍ مهمة. يتنامى الوعيُ في أوساطهم حول ضرورة التعرُّف إلى تراثهم القديم وتكييفه مع الظروف المتغيِّرة وعولمة المجتمع البشري. كما في غيرها من القضايا، لا يمُكن أن تنعكس المسائل الأخلاقية في الردود الموحِّدة وينبغي أن يؤخذ التنوُّع والتعدُّدية اللذين اتّسم بهما المجتمع الإسلامي في الماضي والحاضر بعين الاعتبار.

أخذت المعاييرُ الأخلاقية التي تستطيع إدارة قضايا العدل الاقتصادي والاجتماعي من ناحية والإستراتيجيات الأخلاقية التي تتعامل مع مسائل الفقر واختلال التوازن من ناحيةٍ أخرى أكبر قسط ٍمن الاهتمام الإسلامي بالقضايا الأخلاقية. سواء كانت تُصنَّف هذه الردود على أنّها «عصريّة» أو «أصولية»، إلا أنّها تعكسُ جميعاً تفسيراتٍ محدّدة للرموز والأنماط الإسلامية القديمة، وحينما تُعيدُ الردود صياغة القواعد والقيم فإنّها تستخدم إستراتيجياتٍ مختلفة لإدراج واستبعاد و ترميز تمثيلاتٍ محدّدة في الإسلام. فيما يتعلّق بالاهتمامات الأخلاقية الإجمالية، يسعى هذا الخطاب المستمر إلى إنشاء قواعد لكلِّ من الحياة العامة والخاصة ومن ثمَّ فإنّه ثقافيٌ وسياسيٌ واجتماعيٌ ودينيٌ في آنٍ واحد.

بما أنّ المفهوم المعاصر للديِّن الذي يُدركه أغلب الناس في الغرب يفترضُ وجودَ انفصالٍ نظريٍ بين النشاط الديني المحض والنشاط العلماني المتصوِّر، تبدو بعضُ

ص: 116

أبعاد الخطاب الإسلامي المعاصر - الذي ينبذ هذا الانفصال غريبةً ومتقهقرة في أغلب الأحيان. حينما يرتبط هذا الخطاب المعبَّر عنه بلغةٍ دينيةٍ تقليديةٍ ظاهرية مع التغيير الراديكالي أو العنف، فإنّه يُساهمُ للأسف بتعميق التصوُّرات النمطية حول التعصُّب والعنف والاختلاف الثقافي والأخلاقي الإسلامي. كما تُشيرُ الأحداث والتطوُّرات في الربع الأخير من القرن العشرين لا يمُكن أن يكون ردُّ واحدٌ في المجتمعات الإسلامية العدة في العالم ردّاً معيارياً لجميع المسلمين.

في سعينا نحو رؤيةٍ تقودُ المسلمين في قراراتهم وخياراتهم حول القضايا الأخلاقية الحالية والمستقبلية، لا يتمثّل أهمّ تحدّي بمجرَّد الاتّصال بالدعامة الأخلاقية القديمة والتحاور معها ولكن - كما كان دأب المسلمين في الماضي - الانفتاح المستمر على احتمالات الاكتشافات الأخلاقية الجديدة والتحديات التي تمُثِّلها.

ص: 117

الميتا أخلاق: السعي إلى أساس إبستمولوجي للأخلاق في الفكر الإسلامي التقليدي

مريم العطار(1)

ترجمة إيمان سويد

ملخص

الهدف من هذه المقالة هو نقد أساس الميتا أخلاق لمقاصد الشريعة وتبدأ من خلال تقديم الميتا أخلاق الشريعة وتوضح المقالة باختصار، في قسمين فرعيين، العلاقة المتصورة بين الميتا أخلاق والأخلاق المعيارية والعلاقة بين الأخلاقيات، الفقه الإسلامي (أصول الفقه) وعلم اللاهوت (علم الكلام). وتدرس المقالة افتراضات الميتا أخلاق القرآن بحجة أن الأخلاق القرآنية تسمح بإعادة النظر في أساس الميتا أخلاق المقاصد بما أنها تتقبل القيم الأخلاقية الموضوعية وتسمح بإبستمولوجيا أخلاقية تقوم على المنطق. أما آخر وأطول قسم من المادة فيطرح الحجج التي تسلم بالمنطق البشري في صياغة المقاصد ويشير إلى أن هذا يتطلب أساسا أخلاقيا مختلفا، أساس أقرب إلى مفهوم المعتزلة للأخلاق. وتستند الحجج إلى عمل بعض العلماء التقليديين والمعاصرين الذين لاحظوا التناقض في نظرية المقاصد التقليدية، وفي آراء أولئك العلماء الذين عبَّرت وجهات نظرهم ومبادئهم الأخلاقية عن فهم للأخلاق يتعارض مع الطوعية الأخلاقية أو «نظرية الأمر الإلهي»

ص: 118


1- (دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، جامعة ليدز، تدرِّس التراث العربي في الجامعة الأميركية في الشارقة مجلة الأخلاق الإسلامية 1 (2017)

في الأخلاق. ويفترض بنظرية المقاصد هنا، وبوضوح، أن تكون معيارية وليس مجرد نظرية وصفية.

مقدمة

تركز هذه الورقة على وضع الحجج من أجل أساس الميتا الأخلاقية لنظرية المقاصد. وأرى بأن مقاصد الشريعة، كنظرية أخلاقية معيارية ينبغي تعديلها والتوفيق بينها وبين نظرية التكليف العقلي من خلال ترسيخها في أساس ميتا أخلاقية سليمة.

التكليف العقلي نظرية وضعها المعتزلة. وهذا يعني ضمنا أن جميع البشر وُهِبوا العقل والقدرة على التمييز بين الخير والشر. ويستند التكليف العقلي إلى المعرفة الضرورية عند البشر للمبادئ الأخلاقية مثل مبدأ الامتناع عن ارتكاب الإثم والالتزام بإعادة الوديعة. وفقا لهذه النظرية، كل البشر العقلانيين مكلفين بالقيام بما هو معروف بأنه خير. فالتكليف العقلي متمايز عن التكليفات المعروفة فقط من خلال الوحي مثل الطقوس، بما في ذلك الصيام، والصلاة والمتطلبات الغذائية. ولمزيد من المعلومات حول نظرية التكليف العقلي انظر، على سبيل المثال، عثمان 1971 والعطار 2010، 76-79.

النظرية التي قدمت، تقليديا الأساس الإبسمتي (المعرفي) للنظرية المعيارية هي نظرية الشريعة عن الخير والشر (الحسن و القبح) ، وهو ما يماثل «نظرية الأمر الإلهي» هذه النظرية تقول بأن القيم الأخلاقية (الخير والشر) لا معنى لها على الإطلاق بمعزل عن الأمر والنهي الإلهي. وفقا لذلك، فإن الأوامر والنواهي الإلهية لا تشكل فقط الأساس الإبستيمولوجي، ولكن أيضا على الأساس الأنطولوجي (الوجودي) للأخلاق؛ أي لا يوجد خير أو شر (حسن وقبح) حقا بمعزل عن ما يُؤمر ويُنهى عنه. وبالتالي، فإنه ينطوي بالضرورة على عدم إمكانية النظر إلى المعرفة الأخلاقية بمعزل عن الأوامر والنواهي الإلهية. فأولئك الذين شددوا على إرادة الله عوضا عن أوامره فضلوا أن يطلقوا على ذلك اسم الطوعية الأخلاقية أو الطوعية اللاهوتية، مما يعني أنه يجب تفسير أوامر الله وفقا لإرادته. ولا بد أنهم افترضوا أن

ص: 119

«إرادته» أو قصده غير معروف بشكل أوضح من «أوامره» . نظرية القيادة الإلهية تسود أيضا في الأخلاق المسيحية البروتستانتية. وأنصار هذه النظرية في المسيحية تشمل مارتن لوثر (توفي عام 1546) كارل بارث (توفي عام 1968) وإميل برونر (توفي عام 1966) وغيرهم.

أقر بعض علماء المسلمين التقليديين بوجود القيم (الخير والشر) بمعزل عن الوحي، لكن دون ربطها بالأحكام الأخلاقية - الشرعية (الصواب والخطأ) أو الأحكام الأخلاقية المعروفة في الإسلام (المحرمة أو المفروضة أو الموصى بها أو المشجع عليها أو الجائزة). وكان هذا هو موقف معظم علماء الشريعة الراحلين(1) الذين ستتم مناقشة مواقفهم في نهاية هذه المقالة، بما أن الفضل يعود اليهم في تأسيس «مقاصد الشريعة»، والتي أصبحت شائعة في أوساط المسلمين الإصلاحيين الحديثين والمعاصرين. فمن جهة، لقد أيدوا صراحة الطوعية الأخلاقية، في حين أنهم، من جهة أخرى، أسسوا نظرية أخلاقية تتطلب بوضوح اعتمادا واسع واسع النطاق على العقل. ومن أجل تطوير مفهوم المقاصد وفهمه وأدواره وشرعيته في عصور مختلفة من التاريخ الإسلامي، نتناول ممثليه الرئيسيين بدءا من الجويني والشاطبي وابن عاشور وانتهاء بالمفكرين المعاصرين الإصلاحيين، انظر الخطيب 2007.

تقدم هذه المقالة اقتراحا يقول بأن إعادة التفكير في أساس الميتا الأخلاقية الذي يوفر الأساس المعرفي (الإبسمتي) لنظرية المقاصد أمر ضروري لتطوير نظرية أخلاقية أكثر اتساقا ورسوخا. ومن الضروري أيضا خلق حالة ذهنية، والتي إذا ما تم تأييدها، فإنها سوف تتيح للناس صنع أحكام أخلاقية من شأنها أن ترشدهم وتوجههم في حياتهم وتساهم في خلق جو فكري يدعم ويشجع «المنطق الأخلاقي الإبداعي»، بدلا من الخوف والتقليد والاتهامات بالكفر. فإعادة التفكير في الأسس المعرفية (الإبسمتية) قد تسهم في الحد من الظاهرة التي وصفها سمير رشواني ب_ «المطالب المفرطة من أجل الفتاوى المنتشرة على نطاق واسع، وتكشف عن حالة

ص: 120


1- أعني بعلماء الأشعرية المتأخرين، الأشاعرة الذين برزوا في أواخر القرن الحادي عشر فصاعداً، بدءاً من إمام الحرمين الجُويني

اعتزال «المنطق الأخلاقي الإبداعي» التي يعاني منها العديد من المسلمين» (رشواني 2015).

كما أنه، وعندما يعتقد المرء أن الأخلاق مبنية على العقل الممنوح للبشر، عوضا عن الأوامر والنواهي التي يفسرها علماء الدين حصرا، فإن المرء سيتمكن من التفكير بشكل خلاق والانخراط في منطق أخلاقي منتج. بيد أن إعادة النظر في أسس الميتا الأخلاقية لنظرية المقاصد تتطلب توضيحا لما هو المقصود بالميتا أخلاق وما هي العلاقة المفترضة بين الأخلاق الميتا أخلاق ، «أصول الفقه»، و الكلام(1) في الفكر العربي الإسلامي.

الأخلاق المعيارية والميتا أخلاق

الميتا أخلاق هي ذلك الفرع من الفلسفة الأخلاقية الذي يعنى بتحليل المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في الأخلاق المعيارية. مصطلح «ميتا» يعني ما بعد أو ما وراء وبالتالي فإن مفهوم الميتا أخلاق ينطوي على نظرة معزولة أو على نظرة شاملة خاطفة لمشروع الأخلاق بأكمله. ويمكن تعريف الميتا أخلاق بأنها دراسة لأصل ومعنى المفاهيم الأخلاقية (فيسر، بحث 2014). وتكمن أهمية الميتا أخلاق في كونها أداة مهمة تساعدنا على فهم أفضل للمصطلحات والمفاهيم التي تستخدم في أي كلام معياري (بيان معياري). على سبيل المثال، إذا قال شخص ما «يجب أن تحفظ وعودك»، فإننا قد نشركه في مناقشة معيارية عن طريق سؤاله عما إذا كان يجب على المرء أن يحافظ دائما على وعوده أم أن المرء يكون معفى من حفظ هذه الوعود في ظل ظروف معينة؟» مع ذلك قد نختار أولا أن نفهم معنى المصطلحات المستخدمة في الكلام المعياري وبالتالي نسأل «ماذا ينبغي أن يعني حقا هنا؟ مثال آخر، إذا قال أحدهم: «السرقة حرام» فإننا قد نسأل ما إذا كانت السرقة

ص: 121


1- أمتنع عن ترجمة كلمة «الكلام» إلى علم اللاهوت الدراسي أو التأملي، لأنها تتعلق أساساً بمبادئ الدين (أصول الدين)، وقد وُضعت إلى جانب «أصول الفقه» من أجل توفير الأسس النظرية للمعتقد والممارسة. ويتداخل التخصصان أحيانًا، خاصة عند التعامل مع ما قد يطلق عليه الآن الفلسفة الأخلاقية في هذا المقال أستخدم مصطلح «الكلام» الأكثر تداولا من «أصول الدين» وسأحتفظ بمصطلح «الأصول» للشارة إلى «أصول الفقه»

محرمة بالمطلق أو ما إذا كانت جائزة في ظروف معينة ؟ هذا السؤال سيأخذنا إلى مناقشة معيارية، كما سنحاول البحث عن القواعد أو المعايير التي بموجبها تكون السرقة محرمة. وقد نرغب أولا فهم المصطلحات الهامة أخلاقيا التي يتم استخدامها البيان أعلاه ونجد بالتالي المعنى لمصطلحات المحرم ، الخير، الواجب، وهلم جرا. هل يعني ذلك أن سلطة معينة أعلنتها كذلك ؟ هل هذا يشير إلى أن العمل هو ضار بالنسبة للعامل؟ هل يعني ذلك أنه يعاقب عليه القانون (الشرع)؟ ما هو المعنى الحقيقي لل_ «المحرم» ؟ إن البحث عن المعنى الحقيقي للمصطلحات المستخدمة في البيانات الأخلاقية المعيارية هو ما نعنيه حقا بالميتا أخلاق. بيد أنه تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد معالم واضحة بين الأخلاق والميتا أخلاق، لأن مجالي التحقيق متشابكان بشكل وثيق. ويمكن للمرء أن يناقش قضايا ميتا أخلاقية في سياق البحث المعياري أو إثارة مسألة أخلاقية معيارية في سياق بحث ميتا أخلاقي.

في هذه المقالة يُنظر إلى نظرية «مقاصد الشريعة» على أنها نظرية معيارية، حيث تستند معايير الحكم على أي عمل على المعايير التي توفرها هذه النظرية، وهي الأهداف الشاملة الخمس «الكليات الخمس» الضرورية لرفاهية المجتمع «المصالح الضرورية» المعروفة باسم «المقاصد»(1). وليست النظرية المعيارية نفسها هي التي تمت مناقشتها في هذه المقالة، والتي تتعلق أساسا بفرضية الميتا الأخلاقية للنظرية التي تتعلق بمعنى محدد لمصطلحات القيم الأساسية للخير والشر أو الحسن والقبح. (لمناقشة نظرية مقاصد الشريعة واستخدامها في الفكر الإصلاحي للمسلمين المعاصرين، انظر دودريجا 2014).

الأخلاق، الفقه (أصول الفقه) والكلام

من الأهمية بمكان ولأغراض هذه الدراسة توضيح العلاقة المفترضة بين الأخلاق والفلسفة الأخلاقية ومبادئ الشرع (أصول الفقه)، لأن الاستفسارات الأخلاقية الأكثر صدقا في الفكر العربي الإسلامي هي تلك المنتشرة في كتب «أصول

ص: 122


1- تعتبر الكليات الخمس، تقليديا، بأنها تشمل الحفاظ على الدين، الحياة، النسل، الملكية والفكر. وأضاف إليها العلماء الحديثين والمعاصرين قيما أخرى

الکلام». (انظر، على سبيل المثال، صبحي 1969، 14؛ حوراني 1985، 20؛ راينهارت 1983). وقال إدوارد معاد بحق ، أن «أسئلة الإبستيمولوجيا الأخلاقية يتم التعامل معها، وتحدد جزئيا، بواسطة مجموعة من الطروحات الميتافيزيقية والميتا أخلاقية، والإبستيمولوجية المترابطة والتي يتم التعامل معها في ميادين متمايزة لكنها ذات صلة عضويا ب_ «أصول الفقه السليم» (معاد، 2007).

إن البحث عن الأساس المعياري للأحكام الأخلاقية مسألة تهم فيلسوف الأخلاق والعالم الأصولي (أصول الفقه) على حد سواء. على سبيل المثال، لقد اعتبر العديد من الفلاسفة المنفعة هي المعيار النهائي للأحكام الأخلاقية(1). واعتبرها البعض بأنها الفائدة للعامل(2)، وأصر آخرون على أنها مصلحة الأغلبية هي التي تهم، في حين طور بعض الفلاسفة النظرية بإضافة مبادئ وقوانين وقیود، ردا على الانتقادات التي أثيرت ضد مبدأ المنفعة واعتبر بعض علماء الأخلاق بعض القواعد العقلانية المطلقة والأخلاقية الشاملة المعايير من أجل حقيقة الأحكام الأخلاقية (3). بينما أيد آخرون النسبوية الأخلاقية (النسبية الأخلاقية) ورأوا أن الأحكام الأخلاقية نسبية وتختلف عبر الثقافات. وبطريقة مماثلة، قام الباحثون في أصول الفقه بالتحقيق في موارد ومبررات الأحكام الأخلاقية؛ بعضهم تقبل «العرف»، بعضهم اختلفوا حول مفهوم «التفضيل الفقهي» (الاستحسان) ووضع آخرون أنظمة حول «المصلحة» (الرفاهية أو المصلحة العامة)، واختلفوا على معنى الإجماع. ويبدو أن من غير الملائم الاعتراض والقول أنه لا ينبغي مقارنة علماء الأصول مع فلاسفة الأخلاق، بما أن الأوائل يعتبرون الأوامر والنواهي الإلهية هي المعايير النهائية للأحكام المعيارية، بينما يعطي الفلاسفة العقل والمنطق الأولوية الأولى. فالمقارنة قابلة للتطبيق بما أن علماء الأصول يأخذون بالاعتبار موارد مختلفة، كما ذكر أعلاه. مع ذلك، فإن السبب الأهم الذي يرتبط بالغرض من هذه الدراسة هو عدم توافق العلماء على المبرر

ص: 123


1- مثل جيريمي بينثام (توفي عام 1832) وجون ستيوارت ميل (توفي عام 1873)
2- أشير إلى الأنانية الأخلاقية حيث مصلحة العامل هي المعايير النهائية للعمل الأخلاقي
3- الذين تم تفسير آدابهم على أنها أدب غير وجودي في التقليد الفلسفي الغربي، مثل إيمانويل كانت (توفي عام 1804)

النهائي للأحكام الأخلاقية الذي يختلف وفقا لافتراضاتهم المضمنة الميتا أخلاقية الصريحة أو الضمنية.

الافتراضات المضمنة الميتا أخلاقية للقرآن (1)

تمت مناقشة الوضع الأنطولوجي (الوجودي) للقيم الأخلاقية والأسس الأبسمتية (المعرفية) للأخلاق في تاريخ الفكر العربي - الإسلامي تحت عنوان «قضية الخير والشر» (مسألة الحسن و القبح). والسؤال كما صيغ من قبل العلماء الأوائل هو ما إذا كان الشرع (القانون الإلهي) يحدد أو يشير فقط إلى الأخلاق (الشرع مثبت أم مبين)؟ بالطبع ليس هناك جوابا قرآنيا واضحا من شأنه أن يدعم أي من المواقف المتنافسة التي اعتمدها المعتزلة والأشاعرة تقليديا. مع ذلك، فإن الروح والأخلاقيات القرآنية تدعم بوضوح الأساس الموضوعي للأخلاق وما أعنيه هنا بالأساس الموضوعي للأخلاق هو الخير والشر الملحوظين في سلوك وأعمال البشر التي يمكن الحكم عليها من خلال ملاحظة العواقب الضارة أو المفيدة للعمل والسياق والظروف والتطابق مع المفهوم الطبيعي للقيم الأخلاقية المشتركة بين الناس بغض النظر عن دينهم. وقد تم التحقيق في هذه القضية من قبل علماء الكلام الأوائل الذين اختلفوا وأبدوا آراء متباينة بشأن طبيعة الخير والشر. وقد اعتبر بعضهم مثل أبو الهذيل العلاف (توفي عام 841/227) أن القيم الأخلاقية للأعمال هي خصائص جوهرية للأعمال واعتبرها كيانات طبيعية متأصلة فى الأشياء والأعمال واعتبرها ،آخرون، مثل أبو هاشم (توفي عام 933/321) بأنها ذات صلة بحالة العامل في حين اعتبر عبد الجبار أن قيمة

ص: 124


1- يفترض أن تكون الافتراضات الضمنية الميتا أخلاقية للقرآن هي نفسها تلك الموجودة في «السنة». هذا الأمر مبرر بما أن العناصر غير «العبادية» [لا علاقة لها بالطقوس الدينية[ لمفهوم «السنة» مرتبطة بشكل تأويلي (هيرمينوطيقيا) مع تلك الموجودة في القرآن بطريقة غير مقيدة بنظرية أصول الفقه التقليدية، كما حاجج دودرجا (231 ،2015 Duderija). فضلا عن ذلك، كانت الصلة المفاهيمية والتأويلية (الهيرمينوطيقية) للسنة مع القرآن واضحة في العلم الكلاسيكي الإسلامي (230، ibidem) . ومن المهم الإشارة إلى أنه «من جهة، كانت هناك دائما أزمة قائمة بين مفهوم السنة المعتمد على الحديث على الصعيدين الإبستيمولوجي والمنهجي لدى المتخصصين بالحديث الذين يتبعون فهم «أهل الحديث» ل_«السنة» (بالإضافة إلى بعض الفقهاء المسلمين المشاركين لنفس هذا المفهوم)، وبين المعتزلة وبعض المنظرين الشرعيين (الأصوليين) الحنفيين والمالكيين الذين كان فهمهم ل_ «السنة» أقرب إلى كيفية فهم السنة قبل عملية كتابة الحدیث» في السنة وعملية تقليد الفكر الإسلامي .» دو دريجا (2015 Duderija). للبحث في الافتراضات الضمنية الأخلاقية للحديث، انظر العطار 2010، 21-25

العمل سواء كان خيرا أو شرا تحددها حالة العمل ظروفه، وعواقبه. (لنظريات مختلفة فيما يتعلق بطبيعة الخير والشر، انظر: العطار ،2010 ، 123-135). في حين رأى علماء الشريعة بالإجماع أنه ليس هناك من خير أو شر حقيقي بمعزل عن الأمر والنهي الإلهي، وفي حين أن معظم الفقهاء وعلماء المعتزلة يعتقدون أن المعرفة الأخلاقية ممكنة بمعزل عن الدين رأى علماء الشريعة أن القانون الديني (الشريعة) هو المصدر الوحيد للمعرفة الأخلاقية. ويعتزم القسم التالي تسليط الضوء على وضع القرآن فيما يتعلق بهذه المسألة، مع الأخذ بعين الاعتبار تفسيرات بعض علماء الكلام الذين فسروا القرآن باستخدام المصادر التقليدية (تفسير المأثور) وأولئك الذين يعتبرون بأنهم قد أنتجوا تفسيرات تأخذ منحى الرأي (1).

الأنطولوجيا الأخلاقية (موضوعية القيم الأخلاقية في القرآن الكريم)

غير أن القول بأن القيم الأخلاقية موضوعية لا يعني بأنها خصائص فيزيائية توجد من تلقاء نفسها وبشكل مستقل عن وعي الإنسان فالموضوعية هنا تعني فقط وجود أساس حقيقي متعلق بعمل، بما في ذلك سياق العمل والنتائج التي من شأنها أن تبرر الحكم. وتشير الموضوعية أيضا إلى أن القيم الأخلاقية مستقلة عن أي ذوق أو رغبات للفرد. بعبارة أخرى، عندما نقول إن القيم الأخلاقية موضوعية فإننا نعني بأنها ليست ذاتية وليست نسبية.

ودعما للوضع الموضوعي للقيم الأخلاقية في القرآن، من المهم الانتباه إلى أن القرآن قد استخدم لغة قائمة من قبل في وحي الرسالة الإلهية. وقد استخدم المفاهيم الخاصة بمعانيها ودلالاتها الخاصة، وتناول العديد من المصطلحات الأخلاقية بالنسبة إلى الوثنيين (المشركين)، مثل العدل، الظلم، الخير، الشر. ولذلك فقد استخدم مصطلحات أخلاقية بطريقة يمكن أن يفهمها الناس. فإذا كانت أعمال الخير

ص: 125


1- يقسم «الذهبي» 1976 «التفسير» إلى أنواع مختلفة، بما في ذلك الأعمال التي استخدمت المصادر التقليدية (التفسير بالمأثور) والتفسير الذي يأخذ بالرأي. ويصنف الأخير في خانة الرأي الذي تمت الموافقة عليه والرأي المدان. وصنف الأعمال التفسيرية للمعروفين بأن لديهم ميولا معتزلة بأنها «تفسير» بواسطة الرأي المدان بما في ذلك «الكشاف» للزمخشري ، و«تنزيه القرآن عن المطاعن» لعبد الجبار. في حين صنف التفسير الأشعري من بين التفاسير التي تأخذ بالرأي المعتمد انظر المجلد 1، ص. 205 . وصنف «تفسير» الطبري وابن كثير في قائمة «التفسير بالمأثور»

والشر مذكورة في آيات مثل الآية 90 في سورة النحل «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ * يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»، فإن الله بالتأكيد يأمر بالعدل وفعل الخير (للآخرين) وإعطاء ذي القربى، وبأنه يحرم الفتن والشر والعصيان إن الله يحذرك بأنك إذا كنت ملتفتا إلى أن ذلك معناه فقط الامتثال للأوامر ، فإن الجملة بأكملها ستكون تكرارا لا معنى له وغير مجد تقريبا. ومن بين اكثر المصطلحات الشائعة في القرآن عن الأعمال الفاضلة هي «المعروف». ففي موسوعة القرآن (Encyclopedia of the Qur'an)، يلفت راينهارت الانتباه إلى حقيقة أنه، على الرغم من أن هذا المصطلح يظهر ثلاثين مرة في القرآن الكريم، فإن المعلقين لا يشعرون بالحاجة إلى شرحه لأنه يعتبر أمرا مفروغا منه. ويضيف:

«من الجدير بالذكر أن ما ينطوي عليه من معان، كمصطلح أخلاقي، هو أن الأمر الصحيح معروف (راينهارت ،2002، 62). هذه الآيات تدعم الرأي القائل بأن القيم والواجبات التي يروج لها القرآن كانت معروفة جيدا لبعض الناس قبل الإسلام، وهذا يعني أن الأوامر الإلهية التي أعرب عنها القرآن ليست أوامر تعسفية، وإنما صالحة، تنشد المعرفة الأخلاقية الإنسانية. ويؤكد خالد أبو الفضل أيضا أن «القرآن غالبا ما يستخدم مصطلحات مثل الظلم، العدل أو الصالح (الخير) بطريقة موضوعية، وكأنها حقائق أنطولوجية - مستقلة وموضوعية». ويبدو أنه يعترف بالطبيعة الموضوعية للقيم الأخلاقية وصحة المعرفة الأخلاقية بمعزل عن الوحي. ففي فقرة بليغة يقارن أبو الفضل المبادئ الأخلاقية مع النور الإلهي المتاح لجميع الناس:

«مجازيا، المبادئ المعنوية والأخلاقية هي مثل العناصر الفائقة الساطعة في نور الله». ويرى أن من الممكن البحث عن هذه العناصر المضيئة والاعتراف بها دون الوحي. (أبو الفضل 2004).

الإبستمولوجيا الأخلاقية (الأخلاق المعرفية) والقرآن الكريم

معظم المسلمين العاديين يتقبلون إجابة بسيطة بشأن حكم الأعمال. قد يسعون

ص: 126

ببساطة لمعرفة ما إذا كان العمل مسموحا به (حلال) أم محظورا (حرام)، مع ذلك فإن الكثيرين سيجدون أنه من المشروع طرح أسئلة أكثر عن أسباب كونه حلالا أو حراما. وسيؤدي هذا التحقيق المشروع بالتأكيد إلى تأسيس الأحكام المعنوية أو الأخلاقية القانونية في أحكام القيم. إن تأسيس الأحكام الأخلاقية (الصواب والخطأ) أو الأحكام الأخلاقية الشرعية الواجبة، المباحة، المستحبة، المحرمة، والمكروهة) في أحكام القيم ( الخير والشر) أو (الحسن والقبح) هو ما يميز حقا الإبستيمولوجيا الأخلاقية التي تقوم على العقل والمنطق. لذلك، يتم اعتبار عمل أو سلوك ما خاطئ ومحرم لأنه شر، ولا يعتبر شرا لأنه محرم.

مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذا لا يتعارض مع الاعتقاد بأن «القبيح» و «الحرام» يدلان على نفس العمل.

يقول تعالى صراحة أنه وهب الناس معرفة الخير والشر وجعل هذه المعرفة في الطبيعة البشرية وتقول الآيات 107 في سورة الشمس : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، أي أن النفس التي جعلها كاملة ومثالية وألهمها معرفة الصح من الخطأ، فإن من يطهرها سينجح ومن يفسدها سوف يفشل بكل تأكيد». وهنا معرفة الخير والشر تكون واحدة من القدرات الفطرية التي خلقها الله في الإنسان. ولذلك ذكر الله هذه المعرفة بصفتها هبة خاصة . وفي تفسير ابن كثير (توفي عام 1372/773) يذكر أن ابن عباس فسر الآية: (فألهمها فجورها وتقواها)، بأنها تعني «أن الله أوضح الخير والشر لها (للروح)». وأكد أيضا سعيد بن الجبير على ذلك بقوله أن: «الله منح الروح الإلهام لمعرفة ما هو الخير وما هو الشر» (ابن كثير (2000، 10 : 497). في حين يطلعنا عبد الجبار المعتزلي (توفي عام 1024/415) في كتابه «تنزيه القرآن» أن بعض الناس فسروا الآية بطريقة تؤكد عقيدة الحتمية، معتبرا أن الفجور والتقوى هي صفات الإنسان التي خلقها الله فيه. وبطبيعة الحال، لا يتفق عبد الجبار مع هذا التفسير ويذكر بأن «ما هذا التفسير ويذكر بأن «ما هو المقصود من كلمة ألهمها هو أن الله أطلع الروح الإنسانية وكشف لها الشر حتى يمكنها تجنبه وأظهر لها الصواب كي تتبعه (عبد الجبار، لا تاريخ 463).

ص: 127

تقول الآيات 8-10 من سورة البلد: «أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن» - هذه الآيات تشير إلى أن القدرة على التمييز بين الخير والشر هي أيضا نعمة من الله وقال ابن كثير في «تفسيره» بأنه ذكر عن ابن عباس (توفي عام 687/68)، وعبد الله ابن مسعود (توفي عام 652/32) وآخرين قولهم أن كلمة «النجدين» (أي الطريقين) تعني : «الخير والشر» (ابن كثير 10، 2000: 484). وأضاف عبد الجبار أن «هذا يدل على أن الله قد أرشد الجميع، المؤمنين وغير المؤمنين» (عبد الجبار، لا يوجد تاريخ، 463). الإنسان أيضا وهبه الله نفحة إلهية وهي التي وصفها الله في القرآن في الآية 29 من سورة الحجر : فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. كما يؤكد القرآن الكريم على أن الإيمان هو طبيعة الإنسان، لكنه عرضة للنسيان. وكان الله يبعث رسله لتذكير الإنسان بهذا الإيمان المنسي. ولذا، تقول الآية 30 من سورة الروم : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّين حَنِيفًا * فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا * لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ * ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيَّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون. وتقول الآيتان 53 و 54 من سورة غافر : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ، هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الألْبَابِ. وفي الآية 35 من سورة النور: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةِ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرَبِيَّةِ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، يصف الله الطبيعة الخيرة والوحي الإلهي بأنهما «نور على نور». ومن هنا، فإن الوحي الإلهي ليس نورا على ظلمة وإنما نور على نور.

إن عهد الله مع البشر مذكور في القرآن الكريم، حيث أقر كل البشر بالتزامهم طاعة الله، خالقهم. ففي الآية 172 من سورة الأعراف : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، الجملة الأخيرة توضح كون البشر مسؤولون أخلاقيا بشكل فطري. وهكذا فإن العهد مع البشر والنفحة الإلهية في البشر يشيران إلى أن جميع أحفاد آدم يمتلكون ضميرا يميز الخير من الشر، الأمر الذي يتفق مع تفسير عبد

ص: 128

الجبار (المرجع السابق، 153)، الزمخشري، والنسفي من بين آخرين. (الزمخشري طبعة عام 1407 هجرية، 2 : 176؛ النسفي، 11998: 617).

لذلك يمكننا أن نخلص إلى أن القرآن يفترض قدرة الإنسان على التمييز بين الخير والشر، ولا يستثني دور العقل في المعرفة الأخلاقية. أما تفسيرات أولئك الذين تم تصنيف أعمالهم التفسيرية بصفتها تفسيرا يعتمد على المصادر التقليدية (التفسير بالمأثور) والتفسير الذي يأخذ منحى الرأي فتؤكد ذلك بوضوح في الواقع، إن التأكيد على أن العقل المستقل غير قادر على معرفة الخير والشر، وأنه لا يوجد خير وشر قبل الوحي لا يقوض دور العقل في الأخلاق فحسب، بل ويؤدي إلى وجود فجوة بين الأخلاق والدين. فتعطيل العقل ودوره في المعرفة الأخلاقية كان وراء إصدار بعض الفتاوى الشرعية المعاصرة اللاعقلانية، وتتناقض المعرفة العلمية (1) مع وغيرها والتي تعتبر بغيضة ولا يمكنها الصمود أمام التفكير الأخلاقي (2).

ومن بين العلماء المعاصرين يلفت عبد العزيز ساجدينا الانتباه إلى حقيقة أن التحقيق الأخلاقي المرتبط بالابستيمولوجيا الأخلاقية أو الأنطولوجيا الأخلاقية غير متطور في المناهج الدراسية الإسلامية (ساجدينا 2009، 41). وقال إن «غالبية العلماء السنة، وتماشيا مع الطوعية اللاهوتية للشريعة التي بررت أولوية إرادة الله على الفكر (مما أدى إلى تحديد الأخلاق بالشرع الإيجابي الإلهي وإنكار إمكانية أن يكون للقيم الأخلاقية أي أساس آخر عدا إرادة الله)، قاوموا الدافع العقلاني للقرآن» (المرجع السابق، 86). بينما يؤكد خالد أبو الفضل أن «المسلمين يشجعون على البحث عن المسلمات الأخلاقية التي يمكن أن تكون أهدافا مشتركة مع الإنسانية

ص: 129


1- على سبيل المثال إنكار حقيقة أن الأرض تدور حول الشمس ومناقشة الدكتور نضال قسوم لهذا الأمر في //:http - movedoesntnidhalguessoum.org/earth، تم الدخول إليه في 20 يناير/ كانون الثاني 2015
2- على سبيل المثال، انظر نقد الفتوى لأحمد ريشوني والتي تسمح بالزواج بنية الطلاق فيقول : «الزواج موضع التساؤل لا يعلن شيئا عن التوقيت حيث أن الزوج يبقيه سرا بينما يتم الإعلان عن توقيت زواج المتعة وهو مقبول من كلا الطرفين. في الواقع، إن الزواج بنية الطلاق أسوأ من زواج المتعة، لأنه زواج مؤقت ويتضمن الخداع والغش عندما يخدع الرجل المرأة وعائلتها. ويجب أن يكون هذا الزواج أكثر جدارة بالتحريم من غيره». في «الأخلاق والتشريع في القرآن الكريم»، وهي ورقة قدمت في الندوة: «القرآن والأخلاق: النهج والأهداف والأمثلة»، التي نظمها مركز أبحاث التشريع الإسلامي والأخلاقيات (CILE)، الدوحة، من 4 إلى 6 يناير / كانون الثاني 2015

ككل. ويبدو لي أن هذه سمة أساسية لدين عالمي يستهدف البشرية جمعاء، وليس جماعة ثقافية، أو اجتماعية أو عرقية» (أبو الفضل 2014). وذكر عبد الله دراز أنه «وفقا للقرآن نفسه، يأتي قانون الضمير، على الصعيد الوجودي، أولا قبل الدين الحقيقي (الدين الذي له مؤسِّس تاريخي محدد). إن شعور الخير والشر، الصواب والخطأ، قد نُفخ في كل روح إنسان منذ خلقه». وأكد دراز على ذلك بقوله، «لم يأت الشرع الحقيقي لإلغاء القانون الطبيعي وتدمير السلطة الداخلية التي أسسها (دراز 2008، 286). مع ذلك، وكما لاحظ سمير رشواني»، فقد تجاهل دراز مناقشة بعض القضايا الخطيرة، بما في ذلك الحكم الأخلاقي قبل دعوى الشريعة الإسلامية التي أيد فيها بإيجاز مذاهب مدرسة اللاهوت الأشعرية وانتقد وجهات نظر المعتزلة دون الدخول في التفاصيل» (رشواني 2015).

الجدل حول المبرر النهائي للأحكام الأخلاقية

رأى الأشاعرة أن القانون الديني يحدد ويوضح الأخلاق (الشرع مثبت ومبين)، مما يعني أنه لا يوجد خير ولا شر بمعزل عن الوحي، ومن دون الوحي الأعمال ليس لها قيمة أخلاقية. وعلى النقيض من ذلك، اعتبر المعتزلة أن الوحي يدل على الخير والشر ولا يثبتهما (الوحي مبين لا مثبت). ووفقا للمعتزلة، دور الوحي هو مجرد الإشارة، منذ أن تم تأسيس كل شيء بطريقة معينة منذ بداية الخلق. فالإنسان قادر بطبيعته الفطرية وعقله على التمييز بين الخير والشر. والشرع الإلهي بحسب المعتزلة لم يكن من الممكن أن يكون بوحي تغيير طبيعة الأشياء ولا لتحويل الخير إلى الشر والشر إلى الخير. فضلا عن ذلك، الأوامر الإلهية ليست تعسفية؛ فهي أوامر أخلاقية تتفق مع العقل والميول الطبيعية. ويستتبع موقف الأشاعرة بالضرورة أن تكون الأوامر الإلهية تعسفية، لأن تلك الأوامر تنطلق من الإرادة المطلقة، ولا يقيدها حتى واقع الخلق بحد ذاته وهذا ما يفسر لم رأى الأشاعرة أن من الممكن فرض «التكليف بما لا يطاق» وهي عقيدة كان الأشاعرة المتأخرون قد الغوها والذين رفضوا بعض العقائد الموجودة بالضرورة ضمنا في نظرية الأشاعرة حول الخير والشر، بما في ذلك

ص: 130

تعسفية الأوامر الإلهية. (لمزيد من المعلومات حول خلافات المعتزلة - الأشاعرة انظر: العطار، (2010)، ص. 75-76).

وتتبنى النظرية التي وضعها علماء الأشاعرة المتأخرين (1) والتي تعرف باسم نظرية مقاصد الشريعة، فكرة أن الأوامر والنواهي الإلهية هادفة وليست تعسفية. فأولئك الذي اعتنقوا مفهوم الأوامر الهادفة يبدو أنهم يناقضون ما يستدل عليه بالضرورة من أي «نظرية منسجمة عن الأمر الإلهي»، أي أن الأوامر والنواهي تعسفية. مع ذلك، ووفقا لهؤلاء ، فإن «الأغراض» ليست، وكما قد يعتقد البعض، لتحقيق «المصلحة» العامة أو الرفاه التي تم تحقيقها حفاظا على «الكليات الخمس». ف_ «المصلحة» وفقا للأشاعرة هي التقيد بالمقاصد، التي لا تعرف إلا عن طريق المنطق الاستقرائي الذي يتضمن استخلاص الأغراض من الأوامر والنواهي الإلهية الصريحة. وهذا يعني أن أولئك الذين تمسكوا بنظرية «أغراض الشرع» من بين الأشاعرة بقوا مخلصين لأشعريتهم من خلال رؤيتهم بأن «المصلحة» فقط ما يأخذه الشرع بالاعتبار، ولا تشمل ما يمكن تحديده حسب المنطق والعقل. فالمصلحة الحقيقية، وفقا لهم لا يمكن أن تكون معروفة إلا بالتحقيق في مختلف الأحكام وملاحظة الأهداف الكامنة وراءها. وبالتالي، لا يمكن معرفة «المصلحة العامة» أو «الأغراض» ، بمعزل عن الأوامر والنواهي، تماما كما من غير الممكن معرفة الخير والشر الحقيقين قبل ظهور الوحي.

لذلك، وعلى الرغم من أن الأشاعرة قد عدلوا «نظرية الأمر الإلهي» من خلال استيعاب الأوامر والنواهي الإلهية الهادفة في نظريتهم، إلا أنهم ما زالوا مخلصين للأشعرية من خلال تنظيم وتعديل مفهوم «المصلحة» بما يتناسب مع المفهوم الأشعري للخير والشر، وانكارهم بذلك دور العقل البشري في تحديد المصلحة والمقاصد. يمكن للمرء أن يقول أنهم وضعوا العربة قبل الحصان كما وصف الأمر أبو الحسن الأشعري، على الرغم من أنهم زادوا من قوة الحصان وحسنوا من قدرته على القفز ومن خلال افتراض الهدف . الأوامر والنواهي، فإن المعيار النهائي

ص: 131


1- مثل الجويني (توفي عام 1085/478)، الغزالي (توفي عام 1111/505)، القرافي (توفي عام 1285/684)، العز بن عبد السلام (توفي عام (1261/660) والشاطبي (توفي عام 1388/790)، وذلك من بين آخرين

للأحكام ليس الأوامر والنواهي نفسها، بل الأغراض التي تقف وراء هذه الأوامر والنواهي. بيد أن الاستدلال الاستقرائي للأحكام الدينية - الشرعية المنتشرة في النصوص المقدسة الطريقة المتبعة من قبل العلماء الأشاعرة. ويبدو أن هذه المنهجية لم تعد مناسبة ويجب تعديلها بطريقة تعطي العقل الدور الذي يستحقه.

صحيح أن الطوعية الأخلاقية أو نظرية الأمر الإلهي بقيت هي الموقف الميتا الأخلاقي السائد في المقاصد ذات المنحى الفكري، ولكن، وكما رأينا، فإنها ليست الخيار الوحيد الممكن في الأخلاق وأصول الفقه ولا تمثل بالتأكيد الموقف القرآني.

ومن الجدير بالذكر أن التعريفات الأولى للأحكام الأخلاقية - الشرعية قد تأسست في أحكام القيم . وقال التهناوي (توفي بعد عام 1745/1158) أن المعتزلة عموما قد اتفقوا على التعريفات التالية للأحكام المعيارية للأعمال:

الواجب هو الفعل أو حكم الفعل، الذي إذا لم يتم تنفيذه، فإنه يستتبع أو يؤدي إلى الفساد أو الأذى (مفسدة).

الحرام هو حكم الفعل، الذي إذا تم تنفيذه فإنه يؤدي إلى فساد (مفسدة).

المندوب هو حكم الفعل الذي إذا تم تنفيذه فإنه ينطوي على بعض الفائدة (المصلحة).

المكروه هو حكم الفعل، الذي إذا لم يتم تنفيذه، فإنه ينطوي على فائدة.

المبارك هو حكم الفعل الذي لا يترتب عليه أي فساد أو فائدة.

هذه هي أحكام الأفعال قبل وبعد الوحي في الفكر المعتزلي. ووفقا للزركشي (توفي عام / 1392/749) : «العقل اعتبر بأن الله، وبسبب حكمته العظيمة، لا يمكن أن يكون قد ترك، في أي وقت من الأوقات، الأمر بمصلحة دون أن يجعلها واجبة ومجزية، ولا يمكن أن يكون قد أمر بترك أي ضرر، في أي وقت دون أن يكون قد جعل ذلك الترك محرما ومعاقبا عليه مما يثبت حكمته، وإلا لن تكون هناك حكمة في الألوهية» (الزركشي 1994/1414، 1: 190). بيد أننا نعلم أن غالبية الفقهاء

ص: 132

قبل الأشعري، وليس فقط المعتزلة، قد اتفقوا على أن المصلحة هي المعيار النهائي للأحكام الأخلاقية، وبالتالي فإن التعريفات المذكورة أعلاه لا يمكن أن تكون موضع نزاع من قبل معظم العلماء المسلمين. (انظر على سبيل المثال نيازي 1996، 43). ويطلعنا التفتازاني (توفي عام 793 / 1390) على الموضوع فيقول بأن »هذه المسألة مأخوذ بها في كتب الأصول [أصول الفقه] للشافعية والأشعرية لتتفق مع معتقد المعتزلة بأن العقل يمكن أن يحكم على الخير والشر» (التفتازاني لا تاریخ 2: 216)، والتي من الواضح أنها تشير إلى أن الأشاعرة الذين اتبعوا المدرسة الشافعية للفقه قد تقبلوا عقيدة المعتزلة في فقههم (أصول الفقه). في الواقع، لقد لاحظ علماء العصور الوسطى والعلماء المعاصرين التناقض القائم بين كتابات الأشاعرة في الفقه وكتاباتهم في أدب «الكلام» (قراري 2010) على الرغم من أن العقل، وفقا للأشاعرة، كما نعلم، لا يمكن أن يعرف بشكل مستقل الخير والشر، فإننا نجد بأن القرافي (توفي عام 1285/684)، وهو أشعري، يقول بأن «الأوامر تتبع المصلحة وأن المحرمات تتبع الأضرار». ورأى القرافي بأن «المشرع (صاحب الشرع) لم يترك شيئا يُعتبر سببا لجعله عملا واجبا معينا من دون أن يتضمن ذلك العمل مصلحة تتناسب مع كونه واجبا. أما إذا كانت فائدة العمل أقل، فقد جعل منه سببا للتوصية بالقيام به. كما أنه أيضا لن يجعل من مطلق شيء سببا لتحريم عمل ما بالنسبة للعامل ما لم يتضمن هذا السبب ضررا متناسبا مع التحريم. فإذا كان الضرر أقل من ذلك، فقد جعل السبب لهذا العمل مكروها. على سبيل المثال، إعطاء رغيف الخبز لشخص ما جائع وعلى وشك الموت، أمر واجب وسبب وجوبه هو ضرورة الحفاظ على حياته، وهي مصلحة كبرى تتناسب مع الواجب» (القرافي لا تاريخ 3: 113).

ومن الواضح أن البيان أعلاه للقرافي أقرب إلى مفهوم المعتزلة عن الخير والشر العقلاني منه للأشاعرة، ويوافق تماما تعريفات الأحكام المعيارية للأعمال. مع ذلك، وفي أماكن أخرى، يوضح القرافي نقطة الخلاف مع المعتزلة ويظهر لنا توافق الأشاعرة مع المعتزلة على معنيين من معاني الخير والشر العقلانية ما يحتكم إلى التصرفات

ص: 133

الطبيعية للمرء وما له سمة التميز أو النقص في حين أن المعنى الثالث، والذي هو الأهم، من حيث أنه المعنى المعياري الأخلاقي ويرتبط بالخلاص النهائي، لا ينشأ إلا بمقتضى القانون الديني الشرعي، وفقا للقرافي وجميع الأشاعرة. فهو يقول: «الشر هو الذي حرمه الله والخير هو ما لم يحرمه» القرافي 1973/1393، 1: 88).

ينبغي للمرء أن يتساءل حقا، كيف يحدث أن العمل يكتسب سمة التميز ويتفق مع الأحكام الطبيعية للمرء، لكنه مع ذلك لا يستحق الثواب في الآخرة، أو كيف يمكن أن يكون للعمل سمة النقص والتخلف أو عدم التوافق مع الأحكام الطبيعية و مع ذلك فإنه لا يستحق اللوم والعقاب؟ صحيح أن القرآن الكريم يقول في الآية 15 من سورة الإسراء: «مَنِ اهْتَدَى فَإِنما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ * وَمَنْ ضَلَّ فَإِنما يَضِلُّ عَلَيْهَا * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»، مع ذلك، فإن هذا يمكن أن ينطبق على الواجبات الدينية التي لا يعرفها العقل، مثل الصلاة والصوم. إذ وفقا للمعتزلة الذين يعتبرون العدالة مبدأهم الرئيسي فاعل الشر سوف يُعاقب. أما الأشاعرة، وعلى الرغم من عمق بعض تحليلاتهم وأهمية مساهماتهم، فقد ظلوا أوفياء لنظرية الأشعري في الأخلاق التي تتوافق مع نظرية الأمر الإلهي في الفكر الغربي المعاصر.

نقد الأساس الأشعري لنظرية المقاصد

إن الطوعية الأخلاقية، التي دعا إليها الأشعري، تعني ضمنا أن «من المستحيل نهاية المطاف تفسير أوامر الله من حيث أي غرض أو هدف» (فرانك 1983، 214_215). وبالتالي، ظلت الطوعية الأخلاقية موقفا لاهوتيا ولم تنجز في «أصول الفقه»، حيث واصل الفقهاء من جميع المدارس استخدام العقل واستخلاص الأحكام من خلال مختلف المنهجيات التي لم يكن يمكن استخدامها دون إدراك الأسباب القائمة وراء الأوامر الإلهية. وهناك مثال جيد على الطوعية الأخلاقية هو موقف الأشعري (توفي عام 935/323) وداوود الظاهري (توفي عام 882/270) اللذان كانا على استعداد لقبول العواقب الأكثر تطرفا لموقفهم هذا أنه لو كان

ص: 134

الله قد أمر بالسرقة والوثنية، فسيكون من حق البشر بعد ذلك الحق في ارتكاب السرقة والعبادة الوثنية. فبالنسبة للأشاعرة، لا يوجد سبب مقنع لإرادة الله لشيء على حساب عكسه وبأن ليس هناك من سبب بالنسبة له ليأمر بشيء بدلا من عکسه. حتی أن الأشاعرة المتأخرين بدءا من الجويني (1085/478) وما بعده تقبلوا هذا الموقف الذي استدعى الانتقاد من ابن تيمية (توفي عام 1328/728)، عندما قال: «أولئك الذين يجادلون ضد مسألة تأكيد الحكمة في أعمال الله تعالى، فقههم يتناقض مع مبادئ «كلامهم»؛ بما أنهم بالتأكيد يؤكدون العكس في قضايا الفقه والتفسير والحديث. ونفى الرازي المنطق في الكلام، لأن سيده هو الأشعري، بينما قبل الاستدلال ]عند التحقيق في قضية ذات صلة بالفقه، لأن سيده في ذلك المجال كان الشافعي» (ابن تيمية، منهاج السنة، المجلد1، 34. p - 35، المستشهد به في كتاب صبحي 1969، 85-86).

أدرك فخر الدين الرازي (توفي عام 1209/606) والأشاعرة الآخرون أن هناك ثلاثة طرق معترف بها عموما لتعريف الحُسن والقبح. وقد اتفقوا مع المعتزلة حول المعنيين الأولين، ولم يتفقوا على الثالث. وقال: «التعريف الأول يدل على ما هو جذاب أو مثير للاشمئزاز في التصرف الطبيعي للمرء (ملائمة الطبع ومنفراته)، والثاني، يدل على أن شيئا له خاصية التميز أو الكمال (صفة الكمال) أو العيب و الخلل (النقص). وهذان المعنيان [الخير والشر] هما معنيان عقلیان، على حد سواء. مع ذلك، يقال أحيانا أن هذه المصطلحات تشير إلى أن عملا معينا يفرض العقاب أو الثواب، والمدح أو اللوم. إذا كان هذا يعني أنها بالنسبة لنا [الأشاعرة[ هي مسألة شرعية، فإنها على النقيض من ذلك بالنسبة للمعتزلة» (الرازي 1991/1411، 478_479).

وهكذا، فقد أكد الرازي مثل القرافي، على أن أسباب الأحكام الإلهية لا يمكن أن تكون أغراضا وأسبابا إنسانية، وذكر أن هذا مخالف لما أكد عليه المعتزلة ومعظم الفقهاء (الرازي (1991/1411 (483). وكان الرازي باحثا يجمع بين اللاهوت والمعرفة الفلسفية والشرعية. كان مفكرا متطورا ويطلعنا أيمن شحادة، على أن مناقشات

ص: 135

الرازي حول مواضيع أخلاقية معينة هي من بين المناقشات الأكثر اختراقا في التاريخ الإسلامي وتتطابق بسهولة مع مناقشات مقابلة في أي نص موجود من نصوص المعتزلة. (شحادة 2006، 2).

قيل لنا أنه «وفقا لعلماء الدين (المتكلمين) فإن «العقل» هو مصدر المعرفة، وعلى هذا النحو، فإنه نقيض النقل أو التقليد. وكلمتا «الفطرة» و «الطبيعة» تستخدمان له أيضا. وبالتالي فإن العقل هو وسيلة طبيعية لمعرفة ما هو الصواب والخطأ بشكل مستقل عن سلطة الوحي» (رحمان 1986).

مع ذلك كان السؤال عما إذا كان العقل يتضمن القدرة على معرفة الصواب والخطأ موضع خلاف عند الأشعري (260 / 873-324 / 935)، الذي أصر على الأولوية الأبسمتية (المعرفية) للوحي على حساب المعرفة الأخلاقية. وكان هناك حجة فعالة قد أثيرت ضد موقفه هي أنه سيكون من المستحيل معرفة الله وصدق وشرعية وحيه ما لم يكن لدى المرء القدرة على التمييز بين الخير والشر.

وقد اعترف بالوظيفة المعيارية للعقل علماء لم يلتزموا بالمدرسة الأشعرية، وهذا يشمل أيضا معظم الفقهاء حتى زمن الجويني (توفي عام 1085/478). ويبدو أن هذا الأخير هو الأول الذي يجمع، على الصعيد المنهجي، الفقه الشافعي مع اللاهوت الأشعري، ويستثني المعرفة الأخلاقية مما هو معروف بالضرورة(1). والمعرفة وفقا لأبو الحميد الغزالي (450-505/ 1058-1111) هي إما دين إما دين أو أغراض إنسانية. (الغزالي 1995، 1:72). بيد أن الغزالي لا ينكر أن المبادئ الأخلاقية والمقاصد والغايات المقبولة عموما يمكن تحديدها من خلال البحث والتحقيق في مقاصد البشر. مع ذلك، هذه المقاصد دقيقة ومخفية، لذلك لا ينتبه لها إلا المحققون (2).

وأوضح الغزالي الأغراض الأساسية التي تعرف بالمقاصد (الشرع) والتي تعكس

ص: 136


1- لقد أيد المعتزلة البصرانيون المعرفة الضرورية عن الخير والشر التي تعتبر عامة. ويتضمن ذلك معرفة شر الإثم، وخير الشكر لفاعل الخير ، وما إلى ذلك. أما الأشاعرة فقد أنكروا ذلك. على سبيل المثال، أنظر الجويني 1950/1369، 260
2- المرجع نفسه

في الواقع المقاصد النهائية للإنسان. تلك الغايات الشاملة المعروفة (الكليات الخمس) أو مقاصد الشرع . وظل الغزالي مثل معلمه الشافعي الجويني ومثل الفقيهين المالكيين القرافي (1285/684) وبعد ذلك الشاطبي (توفي عام 1388/790) وفيا للتصور الأشعري للأخلاق. ووفقا للشهرستاني، فقد رأى أبو الحسن الأشعري (توفي عام 935/324)، مؤسس الأشاعرة الذين يكنون بكنيته ، أن «المعرفة مشتقة من العقل، لكن التأسيس للالتزام بالواجب يكون من خلال الوحي». ويوضح الشهرستاني أن هذا تم التأكيد عليه من أجل منع الالتزام الرشيد (الوجوب العقلي) من عدم إنكار المعرفة التي تحدث بواسطة العقل. (الشهرستاني، لا تاريخ، 371).

مع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن ليس كل العلماء ممن ساهموا في تطوير مفهوم المقاصد كانوا أشاعرة. فعلى سبيل المثال، لقد اعتبر القفل الشاشي (توفي عام / 976/365) العقل قادرا على معرفة الخير والشر. وقال في كتابه انه يعتبر أن الخير في الشريعة يستند إلى العقل والحكمة اللذان يقفان وراء كل ما تفرضه وهو ينظر إلى بعض التشريعات العلمانية المتعلقة بالسياسة وإدارة الحياة اليومية بصفتها خيرا وواجبا ويؤكد أن صلاحها يقرره العقل (واجب بالعقول)، في حين أضاف أن السياسات الفضيلة لا تتم إلا به. (الشاشي (2007، 30). ويبدو أن الفقهاء الحنفيين الأوائل والشافعيين قبل الجويني كانوا يشاركونه هذا الموقف. على سبيل المثال، لقد أكد العالم الشافعي ابن سراج (توفي عام 918/306) ، الذي كان أيضا أحد معلمي الشاشي، أكد على أن شكر فاعل الخير واجب، وأن العقل غير المساعد يمكن أن يميز الخير من الشر في بعض الأمور (راينهارت ،1995، 17، في إشارة إلى كتاب البحر المحيط للزركشي، (MS Paris Bibliotheque Nationale، 811Arabe)) ومن الواضح أن أعمال القفل الشاشي وغيرهم من علماء الشافعية تتضمن مراجع واضحة عن الفكر الأخلاقي المعتزلي كما نوه بذلك أيضا أحمد الشمسي. (الشمسي 2014، 20-25)

بعض المراجع الأولى حول مفهوم المصلحة (مفهوم أساسي في أصول الفقه

ص: 137

وفقه المقاصد) ربطت هذا المفهوم بقانون وجد خارج نصوص الوحي كما هو الحال في كتاب ابن المقفع (ص 757/139) والماتريدي الأول أبو بكر الجصاص (توفي عام 980/370). فبالنسبة للجصاص، أي قضية لم يتم تناولها في الكتاب المقدس يمكن أن يقررها العقل. ووفقا لفيليستا أوبويس (Felicita Opwis)، «هذا من شأنه أن يكون مجالا للتفكير المستقل والأحكام الناتجة تقع خارج نطاق القانون الديني والمساءلة الدينية» (أوبويس 2010، 31). ومن المثير للاهتمام، أنه يبدو أن هناك وجهة نظر مماثلة لتلك التي للجصاص كانت مقبولة لدى المعتزلي المتأخر أبو حسين البصري (1044/436) .

لقد اعتبر البصري، مثل الجصاص، أن الأحكام التي لم يتم تناولها صراحة في الكتاب المقدس وعلى أساس الفكر وحده تقع خارج عالم الدين وبالتالي فإنها مستثناة من المساءلة الدينية. (إبيديم (Ibidem)، 34). واعتبر أن قانون الوحي هو وحده الذي يضفي المعرفة حول المصلحة الشرعية (إبيديم (Ibidem)، 34).

المشكلة في الرأي المذكور أعلاه أنه يقلل من شأن الأحكام الأخلاقية والسلوك الأخلاقي عندما لا تستند بشكل صريح إلى الوحي. هذا يعني أيضا أن الأشخاص الذين لا يتبعون أي شريعة وحي سوف يكونوا مستثنين من الثواب والعقاب الإلهي . فمن جهة، هذا أمر مثير للقلق لأنه يقيد بالتأكيد نطاق الشريعة. مع ذلك، ومن جهة أخرى، هو تحرر لأنه يعني عدم وجود قوة أو سلطة دينية أو سياسية قادرة على ادعاء الجزاء الإلهي بالنسبة للشرائع التي هي من صنع الإنسان. مع ذلك، ليس كل المعتزلة يوافقون على وجهة النظر المذكورة أعلاه، بما أن عبد الجبار (توفي عام 1024/415)، على سبيل المثال، كان يرى أن ما «يستحق الثواب هو العمل الذي يتميز في حد ذاته من خلال ما يستلزم كونه واجبا أو مستحبا» (عبد الجبار، لا تاريخ، 12 : 279). وقد ميز هو وغيره من المعتزلة قبله بين الواجبات الأخلاقية التي أسموها التكليف العقلي والواجبات الدينية التي أسموها التكليف الشرعي. الأول هو الالتزام بالمبادئ الأخلاقية المعروفة لدى جميع الكائنات العقلانية، والثاني يشمل الالتزامات التي لا يمكن للمرء

ص: 138

معرفتها من دون الوحي مثل الالتزامات بأداء الطقوس الدينية والعبادة. فبالنسبة لعبد الجبار، معرفة الله تعتبر لطفا، بما أن المرء يعلم أن أفعال الشر تستحق العقاب وأعمال الخير تستحق الثواب. وهكذا يصبح الشخص المكلف أقرب إلى تجنب الشر. بمعنى آخر، ومع العلم بأن الله سوف يجزي على الأعمال الصالحة ويعاقب على أفعال الشر، فإن هذا سوف يساعد المؤمن على بذل جهده وبشغف في ما يفعله.

رد الفقهاء الأشاعرة على مفهوم «المصلحة» لدى الفقهاء المعتزلة. وقالت أوبويس أن «شكوك الأشاعرة تجاه «قوانين البشر» أجبرهم على إيجاد الطرق التي من شأنها تمكين الشرع الديني من مخاطبة جميع التجارب الإنسانية، حتى وإن لم يتم تناولها صراحة في مصادره النصية. وكان رائدا في هذه الجبهة اللاهوتي الأشعري والفقيه الشافعي الجويني». ووفقا لأوبويس، «حاول الجويني حماية امتيازات علماء الدين في إصدار أحكام دينية موثوقة بخصوص مسائل دنيوية عن طريق وضع منهجية واضحة لاستخلاص أحكام تتعلق بمواقف غير مسبوقة، والتي تقف حيالها مصادر الشرع صامتة» (أوبويس 2010، 42).

لا بد أن الأشاعرة قد استفادوا من عمل أسلافهم المعتزلة في العثور على ما يشكل «المصلحة» وفقا للعقل البشري، ولكن من خلال الاعتقاد بأن المعنى الحقيقي للمصلحة هو الحفاظ على المقاصد الإلهية وليس مقاصد البشر الذين كانوا قادرين على الحفاظ على الشرعية الدينية لأي حكم جديد يقوم على مبدأ «المصلحة» ونظرية المقاصد . وفي «المُغني» ، العمل الضخم الذي تضمن تتويجا لمعتقدات المعتزلة، كتب عبد الجبار : «في حالة الخلاف حول معنى نص معين، [أي من القرآن[، يجب أن يكون فهمه وتفسيره بطريقة تتفق مع نوايا أو أهداف المسلمين (المقاصد). (عبد الجبار، لا تاريخ 6-ب: 331) هذه المقاصد هي بالضرورة مقاصد الشرع ومغزاه المقصود. فضلا عن ذلك، إنها مسلمات أخلاقية وأهداف مشتركة بين جميع البشر .

ملاحظات ختامية

يجد الشمسي بأن حقيقة الاستخدام المنهجي ل_ «المصلحة» كشعار في اشتقاق

ص: 139

القاعدة التناظرية قد بدأ بعد تراجع المعتزلة ومع صعود اللابديهية الأشعرية. (الشمسي 2014: 20). إنه على حق، بما أن الأشاعرة، من جهة، أيدوا صراحة الطوعية الأخلاقية، رافضين بذلك الواجب العقلاني، ومحددين دورا ثانويا للعقل في المسائل الأخلاقية للحد منه واقتصار دوره على تفسير النصوص، في حين أنهم، ومن ناحية أخرى، وضعوا نظرية أخلاقية تتطلب بوضوح اعتمادا واسع النطاق على العقل، وهو أمر لا يتناسب مع دوره (العقل) التابع الذي عينه له الأشاعرة. وبصرف النظر عن الحقيقة بأن الأشاعرة المتأخرين الذين وضعوا نظرية المقاصد ما زالوا مؤمنين بالعقيدة الأشعرية في الأخلاق، لكنهم استفادوا كثيرا من مساهمات المعتزلة. وقد وضعوا نظرية المقاصد على أساس أهداف إنسانية يعرفها العقل ويدعمها الوحي .

هذه الأهداف، كما أشار إليها الغزالي خفية ولا يمكن ملاحظتها إلا من قبل الذين يحققون فيها حقا. لذلك فإن أهداف أو مقاصد الشريعة ليست مشتقة من نصوص المصادر الكتابية، كما لاحظ ذلك أيضا أنفر إيمون (Anver Emon)، الذي أضاف قائلا أن «نصوص المصدر ، في الغالب، تؤكدها وتؤيدها»(1).

بالنسبة للغزالي، يبدو أن هذه القيم معروفة بديهيا فهي تتعلق بأنواع القيم التي يمكن لأي مجتمع أو تقاليد شرعية التمسك بها إذا كانت تحافظ على المجتمع وتجعله يزدهر. وقال من المستحيل على أي مجتمع (ملة من الملل) أو أي نظام قانوني (شريعة من الشرائع) يهدف إلى إصلاح الخلق أن لا يشمل محرمات في مقابل الاهمال وضبط النفس من هذه القيم الخمس» (الغزالي، المصطفى، 1 : 637 ، مقتبس في كتاب إيمون 2013، 135).

وهذا ما يعترف به الشاطبي، الذي يضيف: «ومعرفة الضروريات الخمس (الكليات

ص: 140


1- إيمون (2013،135 Emon). يحاجج إيمون (Emon) في كتابه فيقول بأن الآشوريين طوروا نسخة معينة من نظرية القانون الطبيعي التي تعتمد على مفهوم «المصلحة والمقاصد». وقد ميز هذا المفهوم عن نظرية المعتزلة الأخلاقية التي سماها نظرية القانون الطبيعي الصعبة. ولكن لا يوجد في أي مكان في الكتاب أي تعريف واضح لما يعنيه القانون الطبيعي. ويظل الكاتب يشير على امتداد الكتاب إلى مفهوم «دمج الحقيقة والقيمة» ، ولكن ذلك أيضا لم يتم توضيحه. مقالة حديثة، كشف أندرو مارس ( Andrew March) عن مفهوم «القانون الطبيعي» محاججا بأنه مفهوم غامض ويمكن تطبيقه على أي تفسير للشريعة الإسلامية، والذي يبدو أنه ينطبق على تفسير إيمون (Emon) أيضًا. انظر: مارس/ آذار 2015

الخمس) الدين، والحياة، والذرية، والممتلكات والفكر التي تهدف الشريعة إلى الحفاظ عليها، أمر أقرب إلى المعرفة اللازمة ...» (الشاطبي 1997، 1: 20).

لقد سبق أن أشرت إلى أهمية مفهوم «المعرفة الضرورية» في الأخلاق وشرحت معناها. والمعرفة اللازمة هنا تشير بالتأكيد إلى المعرفة التي تكون مستقلة عن الوحي.

وتتفق نظرية الاشعري عن الخير والشر بالتأكيد مع بقية النظريات الأشعرية في «الكلام»، ولكنها ليست بالنظرية التي لا غنى عنها في مبادئ أصول الفقه إن القبول والاعتراف بالوكالة الإنسانية في صياغة وتأسيس «الضرورات الشاملة الخمس» (الكليات الخمس) أو المقاصد أمر يتطلب أساسا ماديا أخلاقيا مختلفا. وهي نظرية من شأنها القضاء على التناقض الذي لاحظه العلماء التقليديون والمعاصرون، وتفتح الباب للتفكير الأخلاقي في المسائل النظرية والعملية من وجهات نظر مختلفة مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم المعرفة الإنسانية.

ص: 141

المراجع

*عبد الجبار، عماد الدين أبو الحسن بن أحمد ، لا تاريخ ، «تنزيه القرآن عن المطاعن»، بيروت، لا تاريخ. تم استرجاعه من http://books.rafed.net/view.php؟type=c_fbookb_ 761 = id، تم استرداده في 20 فبراير/ شباط 2015 .

*عبد الجبار، عماد الدين أبو الحسن بن أحمد. 1958-1965. «المُغني في ابواب التوحيد والعدل» (20 مجلدا منها 16 فقط موجودة). «النظر والمعارف»، المجلد 12. الإرادة، المجلد 6 – ب. القاهرة: وزارة التربية والتعليم.

*خالد ابو الفضل ، 2004. «مكان الواجبات الأخلاقية في الشريعة الإسلامية». UCLA مجلة القانون الإسلامي والشرق الأدنى 4، 1-40.

*خالد ابو الفضل ، 2014 . «عندما تفشل السعادة : منظور إسلامي». مجلة القانون والدين 29: 123_109 .

*مریم العطار، 2010. «الأخلاق الإسلامية: نظرية الأمر الإلهي في الفكر العربي الإسلامي». لندن: روتليدج (Routledge).

*الذهبي، محمد حسین. 1976. «التفسير والمفسرين». القاهرة: مكتبة وهبه، 3 مجلدات.

*دراز، 2008 .M.A. «العالم الأخلاقي للقرآن». ترجمة دانييل روبنسون (DanielleRobinson) وريبيكا ماسترتون (Rebecca Masterton.). لندن نيويورك بوريس.

*أديس رودريجا (Adis Duderija)، طبعة 2014، «المقاصد والفكر الإسلامي الإصلاحي المعاصر : دراسة . نيويورك: بالغريف ماكميلان (Palgrave Macmillan US.).

* أديس دودريجا (Adi Daderija) ، «الوضع النسبي للحديث والسنة كمصدر للسلطة الشرعية في مقابل القرآن في الفكر الحداثي الإسلامي». في أديس دودريجا (Ads Duderija)، (طبعة)، «السنة ومكانتها في الشريعة الإسلامية : البحث عن حديث سليم، 211-231. نيويورك: بالغريف (Palgrave) .

*أفنر إيمون ، طبعة 2013 ، «نظريات القانون الطبيعي الإسلامي»، أكسفورد: مطبوعات جامعة أوكسفورد.

*جيمس فيسر ، «الأخلاق، موسوعة الإنترنت عن الفلسفة» - استعراض الأقران المصادر الأكاديمية» - /A Peer Reviewed Academic Resource URL= http://www.iep.utm.edu ethics/H1 تم استرداده في 18 ديسمبر/ كانون أول 2014 .

*ريتشارد .م. فرانك، 1983. «الواجب الأخلاقي في اللاهوت الإسلامي الكلاسيكي»، مجلة الأخلاق الدينية 11، 204- 223 .

ص: 142

* أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، 1995. «المصطفى من علم الأصول». مجلدان. بيروت: دار صادر.

* جورج ف. حوراني، 1985. «العقل والتقليد في الأخلاق الإسلامية». كامبريدج: مطبوعات جامعة كامبريدج.

*اسماعيل ابن كثير، 2000 ، «تفسير ابن كثير». مختصر من قبل مجموعة من العلماء تحت إشراف الشيخ صفي الرحمن المباركبوري. دار السلام نيويورك، لاهور.

*إمام الحرمين الجويني، 1950/1369. «كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد». تحریر محمد یوسف موسى وعلي عبد المنعم . القاهرة: مطبعة سعادة.

* معتز أ. الخطيب، 2007. «الوظيفة المقصدية : مشروعيتها وغاياتها»، إسلاميات المعرفة 12/48 ، ص. 9_34.

*أندرو ف. مارش 2015. «تطييع الشريعة الالتباسات التأسيسية في الدفاع عن العقائد الاسلامية الحديثة». القانون والمجتمع الاسلامي، 22: 45-81.

*ادوارد عمر معاذ، 2007. «الطريق إلى الواحة : الشريعة والعقل في الإبستيمولوجيا الأخلاقية الإسلامية». المجلة الدولية للفلسفة والدين 3/62 ، 135-148.

* أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي . 1998/1419. «مدارك التنزيل وحقائق التأويل»، 3 مجلدات. تحرير يوسف علي بديوي. بيروت: دار الكلام الطيب. المجلد 1.

*عمران احسان خان نیازي. 1996. «نظريات الشريعة الإسلامية : منهجية الاجتهاد. دلهي: آدم للناشرين.

*فليسيتيس أوبويس(Felicitas Opwis) ، 2010. «المصلحة ومقاصد الشريعة: الخطاب الإسلامي حول التغيير الشرعي من القرن الرابع / العاشر إلى الثامن / الرابع عشر ليدن: بريل.

*أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي. بدون تاريخ. «أنوار البراق أنواء الفروق» ، 4 مجلدات بيروت عالم الكتب. المجلد 3.

*أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي. 1973/1393. «شرح تنقيح الفصول». مجلد .1 تحرير طه عبد الرؤوف القاهرة: شركة الطباعة الفنيه .

*سليمان بن الحسن القراري، 2010. «رفع التعارض المنسوب الى الأشاعرة في نظريات التعليل» . الرابط : htm. 131689_86_artshow/nawafeth/net.islamtoday.www//:http الذي تم الدخول إليه في 29 أغسطس/ آب 2015 .

* أ . رحمان، 1986. «عقل» . EI2. ليدن بريل.

*سمير رشواني، «الدرس الأخلاقي للقرآن قراءة في بعض المقاربات الحديثة». وهي ورقة مقدمة في الندوة: القرآن والأخلاق: النهج والأهداف والأمثلة، نظمها مركز بحوث التشريع والأخلاق الإسلامية (CILE)، الدوحة، من 4 إلى 6 يناير/ كانون الثاني 2015.

ص: 143

*محمد بن عمر فخر الدين الرازي. 1991/1411. كتاب «المحصل وهو محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين والحكماء والمتكلمين». تحرير حسين عطاي. القاهرة : مكتبة دار التراث.

*كيفن راينهارت ، 1983. «الشريعة الإسلامية كأخلاق إسلامية». مجلة الآداب الدينية 2/11، 186-203.

*كيفن راينهارت، 2002. «الأخلاق والقرآن». موسوعة القرآن المجلد 2، 55-79. ليدن: بريل.

*عبد العزيز ساجدينا، 2009. «الإسلام وتحدي حقوق الإنسان». أوكسفورد: مطبوعات جامعة أكسفورد.

* أحمد محمود صبحي ، 1969. «الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي». القاهرة: دار المعارف .

*محمد بن عبد الكريم الشهرستاني،. 2009/1430. «نية الإقدام في علم الكلام». تحرير ألفريد غیوم. القاهرة : مكتبة الثقافة الدينية.

*محمد حبيب شاكر (مترجم) 1983. «القرآن الكريم». شركة TahrikeTarsile QuranInc .،، المهورست ،نيويورك، (بدون تاریخ)، المجلد 2، ص. 216.

*أحمد الشمسي، 2014. «الحكمة من قانون الله: نظريتان». في الشريعة الإسلامية نظريا: دراسات في الفقه تكريما لبرنارد فايس. تأليف كيفن راینهارت وروبرت غليف، 19-37. ليدن: بريل.

*القفل الشاشي، 2007. «محاسن الشرع». تحرير أبو عبد الله محمد علي السماك. بيروت: دار الكتب العلمية.

* الشاطبي، واسمه إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي. 1997/1417. «الموافقات». 7 مجلدات. تحرير أبي عبيدة مشهور بن حسن السلمان. القاهرة: دار ابن عفان.

*أيمن شحادة، 2006. «الأخلاق الغائية لفخر الدين الرازي». ليدن: بريل.

*سعید الدین مسعود بن عمر التفتازاني، بدون تاریخ، «شرح التلويح على التوضيح». مجلدان. القاهرة : مكتبة صبيح.

* محمد علي تحناوي. 1996. «موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم». مجلدان. ترجمه من الفارسية إلى العربية عبد الله الخالدي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

*عبد الكريم عثمان، 1971. «نظريات التكليف: آراء عبد القاضي الجبار الكلامية». بيروت: مؤسسة الرسالة.

*أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري، 1407 ه_. «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل». بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 4 مجلدات المجلد 2.

*عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. 1994/1414. «البحر المحيط فى أصول الفقه». 8 مجلدات. القاهرة: دار الكتب.

ص: 144

أخلاقيات الميديا

(دعاوي التنظير ومبررات التفعيل)

بهاء درويش

ربما علينا أن نبدأ البحث بمقدمة نبين فيها كيف بدأ مبحث الأخلاق مبحثاً فلسفياً نظرياً إلى أن نشأت أخلاقيات العلم والتكنولوجيا أو «الأخلاقيات التطبيقية» والتي يُعد مبحث «أخلاقيات الإعلام» أحد فروعها. نحاول بعد ذلك الإجابة عن السؤال: لماذا ظهرت أخلاقيات العلم والتكنولوجيا؟ ثم ننتقل بعد ذلك إلى معالجة محاولات تنظير هذا المبحث من خلال وضع مبادئ ضابطة وموجهة له. ولما كانت صناعة الإعلام ذات تأثير خطير في تشكيل الرأي العام وكان العلم واكتشافاته التكنولوجية المتلاحقة ذات تأثير بعضها نافع وآخر ضار، كان للإعلاميين الذين يتحدثون عن العلم ومنتجاته دور مهم في تبصير الجمهور وتوعيته بكيفية التعامل مع هذه المنتجات. وأخيراً يناقش البحث - محاولاً دحض - دعاوي بعض الكتاب الغربيين الذين يزعمون أن مبادئ أخلاقيات الإعلام الكونية Global media ethics - التي تصلح للانطباق في كل مكان - وهو الاتجاه الأكثر حداثة في أخلاقيات الإعلام مبادئ غربية في الأساس، إسهامات الثقافات الأخرى فيها قليل.

مقدمة

كان مبحث الأخلاق منذ الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية القديمة مبحثاً فلسفياً نظرياً يهتم بوضع قواعد ومبادئ أخلاقية عامة حول ماهية الخير والشر أو يهتم بتحديد القيم الأخلاقية الواجب اتباعها ولكن مع تقدم العلم والتكنولوجيا - وتحديداً بدءاً بالقرن العشرين بدأت تظهر مشكلات أخلاقية ناجمة عن هذا التطور

ص: 145

العلمي المستمر والمتلاحق وذلك في شتى المجالات مثل مجال الاقتصاد والبيولوجيا والهندسة والفضاء والإعلام ... الخ . تمثل المشكلات الأخلاقية لكل علم مجال بحث مستقل، هناك أخلاقيات لعلم الطب، وأخلاقيات للبيولوجيا، وأخلاقيات للهندسة، وأخلاقيات الإدارة وأخلاقيات الإعلام.....الخ. هذه المباحث - التي تشكل في مجموعها ما يعرف بأخلاقيات العلم والتكنولوجيا - مباحث فلسفية بينية. توصف هذه المباحث بالأخلاقيات التطبيقية، أي تطبيق المعايير والمبادئ الأخلاقية في حل المشكلات الناجمة عن تطور هذه العلوم. تُعد أخلاقيات الطب والتي تستخدم بشكل خاطئ أحيانا مرادفاً لأخلاقيات البيولوجيا- أكثر هذه المباحث اكتمالا، لقدمها النسبي عن بقية فروع الأخلاقيات التطبيقية، بينما يقف مبحث «أخلاقيات الإعلام» ضمن المباحث الأكثر حداثة التي لم تتشكل بعد بشكل نهائي، بل وتتطور باستمرار.

لماذا أخلاقيات العلم والتكنولوجيا ؟

للإنسان كرامة تميزه من بقية الكائنات الحية: كرامة المريض تتطلب أن تعامله معاملة كريمة وأن تقدم له أفضل علاج متاح ومن ثم أن تحمي حياته (أخلاقيات الطب)، وكرامة الإنسان تتطلب أن يضع المهندس ومنتج التكنولوجيا بصفة عامة - في اعتباره حياة الإنسان ورفاهيته وهو يقدم المنتجات الهندسية أو التكنولوجية، إذ إن لكل نواتج التكنولوجيا تقريباً تأثيراتها في صحة الإنسان وحياته ورفاهيته (أخلاقيات الهندسة والتكنولوجيا). وكرامة الإنسان تتطلب أن تستأذنه قبل استخدامه مادة بحث في تجربة، وتكون صريحاً تجربة، وتكون صريحاً معه بإعلامه بكل المنافع والمضار التي قد تنتج عن التجريب عليه (أخلاقيات البحث العلمي في مجال الطب والصيدلة). وكرامة الإنسان تتطلب ألا تضره باحتكار بعض البضائع حتى ترهقه مادياً (أخلاقيات الإدارة). وكرامة الإنسان تتطلب عدم الإضرار به والخاصة بمنتجات التقانات الدقيقة (النانوتكنولوجيا) بحيث لا تظهر في السوق سوى البضائع التي تم اختبار سلامتها وضمان عدم إضرارها بالمستهلك، سواء على المدى القصير أو الطويل (أخلاقيات النانوتكنولوجيا)، وكرامة الإنسان تقتضي ألا تقدم له صورة مزيفة للواقع تؤثر في

ص: 146

حكمه على مجريات الأحداث التي تدور في العالم حوله (أخلاقيات الإعلام). يتسارع التقدم التكنولوجي في شتى المجالات بصورة مدهشة، تاركاً لنا مشكلات أخلاقية لا يمكن أن نقف منها موقف المتفرج. فها هو ذا الإنسان قد شارف على أن يتمكن من استنساخ إنسان آخر، وها هو ذا قد أصبح في إمكانه أن يتحكم في جنس الجنين القادم، وها هو ذا قد أصبح في إمكانه إفناء الأرض ومن عليها بضغطة زر. فالاستنساخ وتحديد جنس الجنين وإفناء الكرة الأرضية نواتج تكنولوجية. ألا تثير مشكلات أخلاقية؟ وماذا عن المجتمعات مثل عالمنا العربي - المجتمع المتدين الذي يحيل المشكلات الأخلاقية لرجال الدين ليحكموا له عما هو مقبول أخلاقيا (شرعاً) وما هو غير مقبول ؟

لا شك أن الإجابة قد أصبحت واضحة. نعم: لا علم دون أخلاقيات توجهه، وذلك إذا ما أردناه علماً يخدم البشرية، ويحقق للإنسان رفاهيته. العلم كما أصوره دائما عربة قائدها الحكيم هي الأخلاقيات، من دونه لا ضمان لوصول العربة بسلام إلى مبتغاها أي لا ضمان لتحقيق العلم لهدفه ألا وهو خدمة البشرية

ماهية أخلاقيات الإعلام

قلنا إن «أخلاقيات الإعلام» مبحث فلسفي شديد الحداثة بالنسبة للفروع الأخرى من الأخلاقيات التطبيقية يعني بالتساؤل حول ما الذي يشكل الممارسات الإعلامية الأخلاقية ولماذا وما الذي يجب على رجال الإعلام من الناحية الأخلاقية أن يفعلوه. الإجابة عن هذين التساؤلين تقتضي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الفرعية مثل : هل يجب على رجال الإعلام دائماً من الناحية الواقعية الالتزام بالصدق في نشر الأخبار؟ هل يجب على رجال الإعلام الالتزام بالموضوعية في عرض الأخبار والأحداث؟ وإذا أرادوا ذلك ، فهل بمستطاعهم ؟ هل من حقهم نشر الأخبار الخاصة بالشخصيات العامة واقتحام حيواتهم الشخصية؟ هل يمكن تسويغ اتجاه رجال الإعلام أحيانا للكذب من أجل الحصول على قصة ما ؟ هل هناك ما يسوغ اقتحامهم خصوصيات الآخرين تحت اسم المصلحة العامة ؟ هل عرض الأفلام الجنسية في

ص: 147

التلفاز أو السينما أمر يمكن تسويغه أخلاقيا ؟ هل من حقنا أن نقلق بشأن عرض أفلام الرعب ؟ هل يمكن تقديم تسويغات عقلية للرقابة بكل صورها ؟ هذه هي بعض الإشكاليات التي يقدمها مبحث «أخلاق الإعلام».

4.1 هل هناك أخلاقيات في الإعلام ؟

بداية فإنه يجب أن نعرف أن الأبحاث التي تدور حول أخلاقيات الإعلام تسير في اتجاهين: اتجاه يرفض القول إن هناك أساساً ما يمكن تسميته بأخلاقيات الإعلام انطلاقا من أن تصور أخلاق الإعلام هو في ذاته تصور متناقض ذاتياً، ذلك أنه كيف يمكن للصحفي أن يكشف عن بعض القصص التي يريد الناس معرفتها إذا كان يجب عليه دائما التحلي بالأخلاقيات واحترام مشاعر وخصوصيات أولئك الذين يقوم بفضحهم ؟ ثم إن نوع الأخبار التي ينشرها والطريقة التي يحصل بها عليها أحيانا ما تكون غير أخلاقية، كيف يمكن أن يكون هناك - إذاً - اتساق بين مهنته ومسؤوليته الأخلاقية ؟ أضف إلى ذلك أن الغالبية من الناس ينظرون إلى رجال الإعلام - أو الصحافة تحديداً - على أنهم أولئك الذين يبحثون دائما عما يروج بضاعتهم أكثر، أي عن فضائح الناس، إذ هي مصدر كل من الشهرة والمال للصحفي. كيف يمكن إذاً - أن تكون هناك أخلاقيات للإعلام أو للصحافة ؟ وما يقوي هذه النظرة هي إصرار رجال الإعلام على ما يسمى حرية التعبير. ثم إنه إذا كانت وظيفة رجال الإعلام تتراوح من نشر الفضائح السياسية لبعض الشخصيات إلى عرض الأحداث المهمة التي تحدث في العالم فإن هذه المهام جميعها لا صلة لها من قريب أو من بعيد بالأخلاق.

أما الفريق الآخر فيرى على العكس أنه إذا كانت وظيفة الصحفي نشر الأخبار المهمة ذات الدلالة بما في ذلك عرض أشكال الفساد والغش والمسائل اللا أخلاقية التي تحدث في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ومن بعض السياسيين والحديث عن الجريمة المنظمة وفضح الثراء غير الشرعي لبعض الشخصيات وهو ما جعل من الصحافة «السلطة الرابعة» كما يسمونها من حيث إنها من يملك

ص: 148

مراقبة ذوي السلطة والنفوذ في المجتمع، فإذا كانت وظيفة الصحفي باختصار هي الكشف عن الفساد وفضحه، فإن هذا وحده يقف دليلاً على صلة الإعلام بالأخلاق، بمعنى أنه إذا كانت مهمتها الكشف عن المسائل اللاأخلاقية، فإنه يجب على رجالها أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الذي يريدون كشفه وفضحه فرجال الإعلام عليهم واجب أخلاقي يتمثل في الكشف بإخلاص عن الأعمال غير الأخلاقية، من هنا فإنه لكي يكونوا متسقين مع أنفسهم فإن هدفهم يجب أن يتمثل في احترام المعايير الأخلاقية للسلوك التي يطلبون من غيرهم التمسك بها.

والجدير بالذكر أنه إذا كان فحص الممارسات الصحفية والتحقق من فهم العامة للدور الذي تلعبه الصحافة يندرجان أيضا ضمن اهتمام الدراسات الإعلامية وعلم النفس وعلم الاجتماع، فإن هذه الدراسات جميعها لا يمكنها الإجابة عن السؤال: ما الذي يجب - وما الذي لا يجب - على الصحفي - من الناحية الأخلاقية - أن يفعله؟

- إن البحث في الالتزامات الأخلاقية للصحافة والإعلام مبحث فلسفي خالص من حيث إنه مبحث معياري.

أخلاقيات الإعلام - إذاً - مبحث أخلاقي يعني بالبحث في تلك المعايير التي تجعل من الإعلام إعلاماً جيداً، بمعنى أن المعايير الأخلاقية معيار التمييز بين الإعلام الجيد والإعلام غير الجيد، وبما أنه بحث في المعايير فهو بالأساس مبحث فلسفي.

والآن ما المعايير التي تجعل من الإعلام إعلاماً جيداً ؟

كما هي الحال في سائر المباحث الفلسفية فإن هذه المعايير مثار خلاف بين الفلاسفة كما سنرى الآن :

الصدق

دعنا نتساءل أولا ما المقصود بالصدق في نشرات الأخبار. المقصود بالصدق في نشرات الأخبار هو تقرير أمور واقعية، أي أمور لا يتدخل فيها الصحفي بالخيال،

ص: 149

أمور حدثت بالفعل، ذلك أن الأخبار قد أصبحت بشكل متزايد مصدرنا الرئيس في معرفة ما يدور في العالم من حولنا، من دون أن يتدخل فيها بالتحريف أو الإضافة أو عرضها عرضاً جزئياً.

والحقيقة أنه ما إذا كان على الإعلامي أن يكون صادقاً في نقل الخبر أو عرضه أو المادة الإذاعية يرتبط بالضرورة بتصورنا لوظيفة الإعلامي.

لقد اختلف الباحثون حول تصور وظيفة الإعلامي، خاصة وأن تصور الإعلام من حيث إنه السلطة الرابعة يكاد يكون أمراً متفقاً عليه. ومن هنا فإن السؤال هو ما الذي نعنيه بأن الإعلام هو السلطة الرابعة ؟

أحد تفسيرات أن الإعلام هو السلطة الرابعة أنه ما يملك سلطة مراقبة ذوي السلطة والنفوذ لصالح الشعب. فالشعوب في الدول الديمقراطية تريد أن تعرف ما إذا كان أصحاب السلطات الثلاث الأخرى - التشريعية والتنفيذية والقضائية - يؤدون عملهم الذي أنابهم الشعب عنهم على أكمل وجه. فإذا كان الشعب قد فوض أصحاب السلطات الثلاث في إدارة شؤونه من تشريع لتنفيذ لقضاء، فإنه يريد أن يطمئن على أن هؤلاء يعملون لصالحه، أي إن القوانين توضع ويتم تنفيذها لمصلحة الشعب لا لأغراض خاصة، وأن رجال القضاء يحكمون بالعدل العين التي تراقب هذا بالنيابة عن الشعب هي الصحافة. من هنا كانت هي السلطة الرابعة، فهي الجهة الموجودة لتطمئن الشعب أن الأمور تسير على ما يرام أو لتنبهه على أن هناك خللاً يحدث. وأن تفعل ذلك يتطلب بالضرورة صدق نقل الأخبار من هنا كان على الإعلامي أن يكون صادقاً في نقل الأخبار أو عرضها.

إلا أن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن هذا التصور لوظيفة الإعلامي يضيق من إطار هذه الوظيفة، أو أنه يحصرها في الإعلام السياسي وحسب. فالناس تهتم بالمثل بأخبار نجوم الكرة والمسرح والسينما والحوادث وغير ذلك من الأمور، من هنا فإن وظيفة الإعلامي هي نقل الأخبار التي تهم الناس من حيث إنهم كائنات بشرية، لا أن تنحصر وظيفته في الإعلام السياسي

ص: 150

هنا نجد أنه حتى مع هذا الرأي، فإن الإعلامي يجب أن يتصف بالصدق. ذلك أن الصدق هو ما يساعد الناس على الحكم على شتى أمور الحياة التي تنقلها له وسائل الإعلام حكما صحيحاً. أما تشويه الأخبار بالنقل المتعاطف أو الجزئي للمعلومات فمن شأنه تقديم صورة مشوهة للواقع ومن ثم لا يمكن الناس من الحكم حكماً صحيحاً مما قد ينعكس على سلوكياتهم وردود أفعالهم.

رأي ثالث يذهب إلى أن وظيفة الإعلام تسلية الناس وهو ما يعني أن ميول الناس ورغباتهم هي ما تحدد الأجندة الإذاعية، أو تحدد نوع القصص والأخبار التي يريدها الناس أو تكون مثار اهتماماتهم.

يرى المعترضون على هذا الرأي أن جعل رغبات الناس وميولهم هي المحدد المطلق للخدمات الإخبارية التي يقدمها الإعلام سيؤدي حتما إلى إعلام سيء، لأن ذلك لن يؤثر فقط في نوع الأخبار المختارة للعرض والتي قد تهم الناس، ولكنه سيؤثر أيضا في طريقة تغطية الأخبار إذ سيعتمد بالضرورة على استثارة مشاعر الناس أو محاولة جذب تعاطفهم أو عرض القصة أو الخبر من الزاوية التي تجذب المشاهد أو المستمع أو القارئ، وهو ما يعني البعد عن الحقيقة والموضوعية في عرض الخبر، فقد يكون الخبر صحيحاً ولكن الوقائع التي يتم اختيارها للتركيز عليها في النشر دون غيرها من وقائع الحدث، ونبرة المراسل الصحفي أو المحلل والألفاظ التي يختارها للتعبير بها، كل هذا قد يمثل الحدث تمثيلاً سيئاً للدرجة التي قد ينتهي بها المتلقي إلى الانطباع المعاكس تماما للانطباع الذي كان يجب أن يخرج به المتلقي إذا ما تم نقل الخبر نقلاً موضوعياً.

ولكن أليس لهذا الصدق الواجب على الصحفي أن يلتزم به حدود أو استثناءات؟ مما لا شك فيه أن الأمن القومي يعد أحد استثناءات هذا الصدق الواجب على الإعلامي أن يلتزم به. إذا ما شعر الإعلامي أن قص قصة ما من شأنه أن يوقع الضرر بمجتمعه، فلا شك أن الامتناع عن الإعلام بالخبر هو التصرف الأكثر أخلاقية في هذه الحالة، فهو أفضل من الكذب أو القص المتجزئ. ويندرج تحت مبدأ أن دفع الضرر يقدم هنا على جلب المنفعة.

ص: 151

الموضوعية

على الصحفي - إذاً - الالتزام بالموضوعية في نقل الخبر أو الواقعة أو الشريط الإخباري، والموضوعية مقصود بها عرض المادة الإعلامية من شتى جوانبها، لا عرضها من جانب واحد كما تعني عدم تدخل الإعلامي بأهوائه أو ميوله في اختيار جانب معين يعرض من خلاله الموضوع. وإذا ما تم عرض المادة الإعلامية من زاوية محددة لأنه یری أن هذه هي الزاوية الصحيحة التي من خلالها يتم عرض مادته عرضاً أميناً فعليه أن يضع دائما إمكانية أن تكون هناك زوايا أخرى من الممكن تفسير الموضوع من خلالها. كذلك تعني الموضوعية ضرورة تحقق الإعلامي من صحة وشمولية مصادره.

ولكن السؤال :الآن هل يمكن لمعيار الموضوعية هذا أن يتحقق ؟

يرى رافضو معيار الموضوعية في الإعلام أن مطلب الموضوعية كشرط للإعلام الجيد أمر خيالي صعب التحقق للأسباب الآتية:

1- إنه حتى على افتراض أمانة الصحفي ورغبته الصادقة في النقل والعرض الموضوعي للخبر ، فإن لكل منا بالضرورة - من حيث إننا بشر - رؤيته الخاصة وتصوره الخاص لأمور الواقع، من هنا ينشأ التساؤل : ألن يتأثر الصحفي - رغماً عنه - بهذه الرؤية الشخصية للواقع الذي يحيط به؟ ألن يتأثر بفهمه الخاص للأمور ؟ هل يمكن للصحفي أن يفصل تحليلاته الصحفية عن تراثه واعتقاداته وتصوراته التي تكونت عبر السنين لشتى أمور الحياة؟ ألن يؤثر هذا في عمله رغما عنه ؟

2- كيف يمكن الفصل بوضوح بين ما هو مجرد ،وصف، وما هو تفسير وما هو تقييم للحوادث؟ وما دامت الأفراد والمجتمعات المختلفة تفسر وتقيم العالم بصور ،مختلفة، أي ينظر كل منهم إلى العالم من وجهة نظر مختلفة، فإن الخبر على هذا النحو ذو طبيعة نسبية، أي إن الخبر هو كذلك بالنسبة لجماعة معينة في سياق معين. ثم إن لكل خبر عادة العديد من التفسيرات والتقييمات من قبل محللين مختلفين.

ص: 152

انظر مثلا - وإن كان هذا مثالاً بسيطاً ولكنه مثال مُمثل - لمباراة في كرة القدم، واستمع إلى محلل من الفريق الضيف، ثم استمع لتحليل آخر - للمباراة نفسها من الفريق المضيف تجد اختلافاً في التحليلين قد يصل إلى أن تشعر وكأنك تستمع لتعليق عن مباراة مختلفة.

3- كثيرا ما نرى صحفاً تنشر خبراً واحداً ولكن كلاً منهم ينشره من زاويته المختلفة. ثم إن الصحفيين والصحف تختار عادة الأخبار التي ترى أهمية نشرها. يكمن في عملية الاختيار هذه والزوايا المختلفة للحدث الواحد التي تركز كل صحيفة على إحداها أو بعضها تبرير القول إن رجال الإعلام يقومون بتغطية الأحداث مدفوعين باهتماماتهم وقيمهم الخاصة وإن ما يسمى الموضوعية في الإعلام أمر خيالي.

أما دعاة الموضوعية فعلى الرغم من أنهم يسلمون بأن النشر يخضع دائما لعملية اختيار، وأن لكل محلل ميولاً وعواطف وتحيزاً لجانب معين يرى منه صحة الخبر، إلا أن هذا لا يمنع من القول بموضوعية النقل أو التحليل. تكمن الموضوعية في عرض الأمور من جوانب شتى وفي استعداد المحلل دائما أو الإعلامي أن يرى أنه أحيانا كان على خطأ ، لا أن يتخذ من الحدث مثالا يدعم به تحيزه فهذا هو ما من شأنه أن يمكن المشاهد من الخروج بحكم موضوعي وهو ما يمثل الصحافة الجيدة. إن جوهر الصحافة الجيدة لدى أنصار الموضوعية يكمن في القدرة على وزن الأدلة بموضوعية وكتابة قصة من الممكن التحقق منها أو تكذيبها بواسطة الأدلة والوصول إلى نتيجة مبررة، لا أن يكتب من زاوية عاطفية.

هل الصدق والموضوعية يسوّغان عرض العنف في وسائل الإعلام

قلنا إن الإعلام الجيد هو ذلك الإعلام الذي يقدم صورة صادقة وموضوعية للواقع، صورة تمكن المتلقي من الحكم على ما يدور حوله في العالم بشكل صحيح وهو ما لن يتمكن من فعله متی قدمنا له صورة غير أمينة ومشوهة للواقع. من هنا فإنه لما كان العنف والجريمة أحداثا فعلية وواقعية تحدث وتشكل جزءا من الأحداث التي نحياها، كان عرضها - سواء في صورة أخبار أو أفلام - يمثل جزءاً من واجب

ص: 153

الصحفي المتمثل في ضرورة تقديمه لصورة صادقة وموضوعية للواقع الذي نحياه. لذا يرى أولئك الذين لا يعارضون عرض الجريمة والعنف عن طريق وسائل الإعلام - سواء أكانت الجرائم المدنية (القتل والسرقة) أو جرائم الحرب (القتل والدمار) أو الأفلام التي تعرض لقصص الجريمة - أن أولئك الذين يقفون ضد عرض صور العنف على شاشات العرض، إنما ينطلقون من أيديولوجية معينة تكمن في محاولة تقديم صورة جيدة مثالية لواقع لا نحياه.

ومع هذا فإنه على الرغم من أن واجب الإعلامي تقديم صورة واقعية وموضوعية للواقع، فإن هناك كثيرون ممن يقفون ضد عرض صور العنف. يمكن إجمال الأسباب التي يستندون إليها على النحو الآتي:

للإعلام تأثير قوي في المشاهد والقاريء والمستمع يصل إلى حد غرس سلوكيات معينة لديه تصل إلى حد تقليد ما يراه - بدءا بما يعرضه ممثلو الإعلانات مروراً بالمغنيين وصولا للممثلين - وذلك في حركاتهم وأقوالهم بل وحتى في طريقة ارتدائهم ملابسهم . من هنا كان عرض الجرائم وطرق ارتكابها من شأنه أن يولد عند بعضهم بعض السلوكيات العنيفة.

إن التعريض المتكرر للمشاهد لصور العنف قد يحوله إلى كائن لامبالٍ لا يتعاطف مع ضحايا العنف، ولا يقدر بصورة صحيحة حجم المعاناة التي يعانيها ضحايا العنف في صورتيه المدنية والعسكرية.

إن فضح مرتكبي الجرائم قد يحولهم إلى أشخاص مستهجنة اجتماعياً هم وعوائلهم، ونكون بذلك قد عاقبناهم مرتين مرة عقاباً قانونياً محدد المدة (كالسجن مثلا) ومرة عقاباً اجتماعياً يظل يطاردهم إلى الأبد.

يزداد القلق من عرض العنف متى أخذنا في الاعتبار تزايد سهولة إمكانية رؤية الأطفال لمثل هذه الأنواع من الأفلام، ذلك أن الأطفال - خلاف الكبار - ليس لديهم خبرة سابقة بنوعية هذه الأحداث والمشاعر التي يتم عرضها مما قد يجعلهم يعتقدون

ص: 154

أن هذه الصورة المشوهة للحب والجنس والعنف والمقدمة عن طريق الفيلم مثلاً هي الصورة الطبيعية لهم وأن هذه هي السلوكيات الطبيعية التي يجب أن يسلكها الإنسان العادي. ويزداد الأمر سوءاً مع الطفل الذي يعاني إهمالاً عاطفياً فيعتقد هو الآخر أن هذه هي العواطف والمشاعر الطبيعية التي يسلكها الناس الطبيعيون، فالطفل يتعلم بالخبرة والتقليد ومن ثم فإذا كانت هذه فقط أمثلة المشاعر والسلوكيات التي رآها نتيجة إهماله وعدم رؤيته لمشاعر أو سلوكيات مختلفة، فقد يعتقد أن هذه هي المشاعر والعواطف والسلوكيات الطبيعية. وأخيرا فإن الإفراط في عرض أفلام العنف قد يعكس صورة لمجتمع يتبنى ضمن ما يتبنى ثقافة العنف.

الأمانة

أن يرى الجمهور في الصحافة السلطة الرابعة يعني ضمن ما يعني ثقة من جانب الشعب في الصحافة. هذه الثقة ثقة في أمانة الأخبار والتحليلات والمصادر التي تأتي بها الصحافة، كما أنها ثقة في أمانة رجال الإعلام وصدقهم.

من هنا يثار السؤال: هل هناك ما يسوّغ للصحافة ورجال الإعلام أحيانا الكذب والغش والالتواء والمناورة وسيلةً يكشف بها رجال الإعلام عن فساد ما وذلك المصلحة الشعب؟ هل «الغاية تبرر الوسيلة» مبدأ يمكن للصحفيين أحياناً اتخاذه من أجل الكشف عن أوجه فساد بعض ذوي السلطة أو النفوذ وذلك من أجل إعلام الشعب بالحقيقة ؟

هناك رأيان متعارضان:

يرى كانط أن الكذب والغش وعدم الوفاء بالوعد أساليب لا أخلاقية لا يوجد على الإطلاق ما يسوّغها، وبالتالي يجب على المرء - صحفياً كان أو أياً ما كانت مهنته - ألا يتبعها.

يرى الرأي الآخر أن الصحفيين إذا ما اتبعوا الصدق والأمانة دائما فلن يحصلوا على أخبار تمكنهم من فضح المفسدين، ومن ثم فإنه كما أننا نقبل أحيانا في أوقات

ص: 155

الحرب والأزمات سرية بعض الأخبار والكذب على الشعب من أجل الحفاظ على السرية أو لعدم إثارة الفزع بين الناس، فإن هناك بالمثل ما يسوّغ للصحافة المناورة في الحوار مع رجال السلطة وعدم الفصح عن النيّات وراء الأسئلة الموجهة لهم وذلك من أجل التأكد من سلامة سلوكياتهم وأنها موجهة لصالح الشعب وكذلك هناك ما يسوّغ مراقبة أفعالهم سراً وذلك للتحقق من عدم استغلالهم سلطاتهم استغلالا سيئاً، كأن نتحقق من عدم تعرضهم لأخذ رشاوي أو من عدم إساءة استغلال مواقعهم لمصالحهم الخاصة.

حق الخصوصية

هنا نجد بالمثل رأيين متعارضين :

هناك من يميل عادة لافتراض أن اقتحام الخصوصية يعد شكلاً من أشكال الاعتداء عليها إذا ما تم من دون موافقة صاحبها سواء تم هذا الغزو بواسطة الصحفي أو البرامج الإعلامية ومن ثم فهو مرفوض أخلاقياً. إذ إن أدنى ما يعنيه هذا هو عدم احترام أحد حقوقنا بوصفنا أفراداً. ولهذا السبب فإن القوانين تكفل للفرد صيانة حرمة المنزل والأوراق الخاصة ليس لأحد الحق في معرفة خصوصياتنا. إن جزءاً مما تعنيه الصداقة هو حقنا في الكشف للأصدقاء فقط عن بعض خصوصياتنا. من هنا تكمن قيمة الخصوصية في أنها تمنع الآخرين من ممارسة أي حقوق تضر بنا. من هنا كان غزو الخصوصية لا يعني فقط الحصول من دون إذن على معلومات خاصة بنا ولكن تعني معرفة الآخرين بالعلاقات والنشاطات والاهتمامات التي نراها لا تهم أحداً سوانا.

ثم إن الخصوصية تمكننا من تنمية هويتنا وشخصيتنا بوصفنا أفراداً وإقامة علاقات وصداقات خاصة، بحيث إنه إذا ما قلنا لكل الناس كل شيء يخصنا أو سلكنا المسلك نفسه مع الأصدقاء والغرباء والزملاء، فإن دلالة كثير من الأفعال الخاصة والأقوال التي نخص بها بعضهم دون بعضهم الآخر ستتلاشى. نحن عادة نختار أن نكشف فقط لبعضهم عن جوانب خاصة من جوانبنا وهو ما يساعدنا على إقامة علاقات تثري حياتنا.

ص: 156

إلا أن هناك من يرى أنه قد لا يكون لدينا حق في خصوصية بعض المعلومات أو النشاطات التي نمارسها متى كان يجب أن يتم عرض هذه المعلومات والنشاطات في إطار عام. متى كان ما يتم ممارسته بصورة خاصة يندرج تحت المصلحة العامة، هنا يزول حق الفرد في الخصوصية فحق السياسي في الخصوصية لا نقول إنه تم غزوه أو الاعتداء عليه متى قام أحد الصحفيين بالتحري والبحث في أحد الصحفيين بالتحري والبحث في أحد شؤونه السياسية الخاصة تحققاً من واقعة فساد مثلا. فلو اعتبرنا حق السياسي في الخصوصية حقاً مطلقاً، فإن هذا سيعطي الفساد الفرصة للازدهار والتفشي. من هنا لا يُعد بحث الصحفي في الأوراق الخاصة لرجل السياسة اعتداء على خصوصيته خاصة إذا كانت هذه الأوراق هي التي ستكشف عن بعض تفاصيل واقعة فساد معينة، بل هو فعل مبرر من أجل المصلحة العامة، إذ لا يمكن إدراج الفساد السياسي مثلا ضمن الشؤون أو الأفعال الخاصة لأي شخص والتي لا يجب لأحد الاقتراب منها.

من هنا كان هناك ما يسوّغ البحث في الشؤون الخاصة لذوي السلطة متى كان لدى الصحفيين مسوّغ قوي للاعتقاد في تورطهم في إحدى وقائع فساد، كأن يكون هناك اعتقاد أن أحد رجال السلطة هؤلاء قد تلقى مثلا أموالاً لاستخدام سلطته السياسية، وما يسوغ لرجال الإعلام هذا البحث والتدخل في خصوصية ذوي السلطة أن جمهور العامة قد أنابهم لمعرفة ما إذا كان ممثلو الشعب يمثلون مصالح الشعب تمثيلاً صحيحاً أو لا . فواجب رجال الإعلام هنا واجب أخلاقي تجاه الشعب وهو أن يكشفوا للشعب عن أشكال الفساد. وبالمثل متى لم يكن رجال الإعلام والأطباء والمعلمون يعملون من أجل مصلحة من هم من المفترض أن يعملوا لصالحهم ، ولكن يستغلون وظائفهم لمصالحهم الشخصية، فإن أفعالهم لا تندرج تحت الخصوصية التي يجب عدم الاقتراب منها. فمن حق الناس أن يطمئنوا إلى أن استثماراتهم تتم بالشكل الصحيح وأن الأطباء يلتزمون بالقواعد الأخلاقية لمهنتهم، وأن المعلمين يوجهون أبناءهم التوجيه الصحيح.

ص: 157

4.2 إعلام العلم وأهميته

هناك جانب على قدر كبير من الأهمية بدأ الإعلاميون والمشتغلون بالعلم معاً الانتباه إلى أهميته في الآونة الأخيرة ألا وهو مسؤولية الإعلاميين في نقل أخبار العلم والعلماء.

لما كان نقل المعلومات العلمية للعامة - من خلال وسائل الإعلام بصورة غير دقيقة وإعطاء العامة صورة غير صحيحة عن العلم والمنتجات التكنولوجية من شأنه أن يفقد العامة الثقة في العلم والعلماء، كان للإعلاميين دور مهم في الحديث عن العلم قناعة بهذه الأهمية بدأت تظهر في أماكن كثيرة من العالم - وخاصة في الولايات المتحدة - مؤسسات أو جمعيات للكتاب في مجال العلم. تُعد المؤسسة القومية لكتاب العلم the National Association of Science Writers إحدى هذه المؤسسات التي تأسست عام 1955 في الولايات المتحدة. وضعت هذه المؤسسة مدونة أخلاقية تم تحديثها عام 2014 حددت فيها الواجبات الأخلاقية التي يجب على الإعلاميين في مجال العلم اتباعها، نوجزها فيما يأتي:

على الإعلاميين في مجال العلم أن يتحروا دقة المعلومات العلمية ومصادرها ودقة صياغتها ونشرها.

على الإعلامي تجنب كل أشكال التمييز القائم على الجنس أو العرق أو الدين أو أي شكل من أشكال التمييز غير المسوّغ.

يجب أن يكون عمل الإعلامي في مجال العلم هو عمله الخاص وليس منقولاً من غيره. الانتحال غير مقبول تحت أي ظرف.

على كتاب العلم مع هذا، تشجيع تبادل الآراء في مجال العلم، وتجنب أي تضارب في المصالح والإبلاغ الفوري عن أي تضارب مصالح لا يمكن تجنبه.

على الكتاب في مجال العلم أن يقبلوا الإعلان الفوري والعلني عن أية أخطاء

ص: 158

وتصحيحها فوراً.

هذه الثقافة - ثقافة الكتابة الإعلامية عن العلم ومنتجاته - مع الأسف ما زالت غائبة عن محيط ثقافتنا العربية لعدة أسباب أهمها أن العالم العربي متأخر إلى حد كبير في إنتاج العلم لا يشارك في إنتاجه، فهناك فجوة علمية وتكنولوجية عميقة بيننا وبين ،الغرب، فالعالم العربي بالأحرى مستهلك لمنتجات العلم أكثر منه منتج لها وبالتالي فمسألة القلق من التصوير غير الدقيق لمنتجات العلم لا تقلق المتمعات العربية مثل المجتمعات الأجنبية. السبب الثاني: غياب تطبيق مبدأ المحاسبية في معظم البلاد العربية أو ضعفه من ذا الذي يمكن أن يحاسب إعلامياً عربياً أعطى معلومة خاطئة عن منتج تكنولوجي معين ؟ أضف إلى هذا أن معظم الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية لا تفرد مساحات كافية تبرز بها أهمية العلم والتكنولوجيا، فالنسبة العالية للأمية والبطالة تجعل نسبة قراءة الصحف والمجلات نسبة ضعيفة وتأتي القراءة في العلم في ذيل اهتمامات القاريء العادي. تفسر هذه الأسباب عدم إدراج أي قواعد أخلاقية ضابطة للإعلاميين في مجال العلم ضمن مدونات أخلاقيات الإعلام.

ولكن لما كانت الإرادة السياسية في الآونة الأخيرة في كثير من الدول العربية قد أظهرت اهتماماً بالعلم والتكنولوجيا حين قطع قادة العرب - الذين اجتمعوا في سرت - ليبيا 2010 في الدورة 22 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة وعداً على أنفسهم ب_ «زيادة الإنفاق على البحث العلمي والتقني وتوطين التقنية الحديثة وتشجيع ورعاية الباحثين والعلماء وتطوير القدرات العربية العلمية والتكنولوجية والنهوض بمؤسسات البحث العلمي» وصدرت بالفعل استجابة لهذا الاجتماع من خلال «الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار» الصادرة في 2014 ، فمن الضروري أن يواكب الاهتمامَ بالعلم والتكنولوجيا اهتمامٌ بأخلاقياته، وهو ما يعني في مجال حديثنا هنا ضرورة رفع درجة الثقافة العلمية للإعلاميين الذين يتحدثون في العلم وأن تتضمن مدونات السلوك الإعلامي ضوابط لسلوكيات هذه الفئة من الإعلاميين.

ص: 159

3. 4 هل يمكن أن تكون هناك أخلاقيات كونية للإعلام؟

Global Media Ethics

مع بداية سبعينيات القرن الماضي نشأ اتجاه ينادي بما عرف بأنه أخلاقيات كونية للإعلام. نشأ هذا الاتجاه في بدايته كمحاولة لإصلاح نظام الإعلام الكوني أو تطويره وذلك بعد أن سيطرت قلة من البلدان الغربية على الإعلام لاستحواذها على أدوات تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة وهو ما عُد شكلاً من أشكال عدم المساواة. إذ أصبح الإعلام الإخباري يستخدم تكنولوجيا الاتصال لجمع النصوص والأفلام والفيديوهات حول العالم بسرعة غير مسبوقة وتوزيعها على الجمهور في مختلف أنحاء العالم بسرعة أيضاً. من هنا جاءت المطالبة بأخلاقيات كونية للإعلام والتي عنت وضع مجموعة من المبادئ والمعايير العامة لممارسة الصحافة والإعلام في عصر العولمة تنطبق على كل مكان وزمان. وخشية أن تهدد القيم الغربية التي يحملها الإعلام الغربي القيم الأخلاقية للبلدان الأخرى غير الغربية وبصفة خاصة البلدان النامية، نشأ تجمع أطلق عليه «النظام العالمي الجديد للمعلومات والاتصالات New World Information and Communication Order» تكون هذا التجمع من دول عدم الانحياز واليونسكو وأعضاء لجنة ماكبرايد MacBride. وخرج التقرير باسم «عالم واحد وأصوات متعددة One World Many Voices» ولم ترض الولايات المتحدة ولا بريطانيا عن هذا التقرير.

ولم يمت حلم الوصول إلى مجموعة واحدة من المبادئ والسياسات التي تنظم النشر المسؤول والعادل للأخبار على مستوى العالم. فلقد عقدت الأمم المتحدة عام 2003 اجتماعاً في جنيف تحت عنوان «القمة العالمية لمجتمع المعرفة» انتهى بتبني 175 دولة إعلان لمبادئ موحدة تلا هذا الاجتماع اجتماع آخر في تونس عام 2005 للنظر في كيفية تطبيق مبادئ جنيف. كان أهم ما شغل هاتين القمتين هو النمو المتزايد للإعلام عبر الإنترنت online media.

يمكن أن نجد على الأقل سببين لنشأة اتجاه محاولة إيجاد أخلاقيات كونية

ص: 160

للإعلام. السبب الأول أن الأخلاقيات المحلية الإقليمية لم يعد بمقدورها مناقشة المشكلات الجديدة التي تواجه الصحافة العالمية. الثاني : لقد فرضت مسؤوليات عالمية جديدة نفسها وأصبح لها تأثير كوني عالمي. فالتقارير الإخبارية من خلال الأنترنت أو الأقمار الصناعية تصل إلى كل مكان في العالم وقد تؤثر في الحكومات وجيوش البلاد المختلفة. من هنا أصبح هناك حاجة لأخلاقيات كونية تناسب عالماً تصل فيه الأخبار لجماعات ذات ثقافات وأديان وتقاليد مختلفة. كما أن مبدأ الموضوعية التقليدي الذي يجب أن يتصف به الصحفي التقليدي أصبح معناه الآن أن يكون الصحفي موضوعياً في تقاريره بإزاء عالم متعدد الرؤى والتقاليد والثقافات وليس فقط بإزاء مجتمعه الذي كان يخاطبه الصحفي في الماضي.

يضيف بعضهم مسوّغاً آخر للحاجة لأخلاقيات كونية للإعلام، ألا وهو أننا نحيا الآن في عالم هو بالأحرى قرية كونية يحكمها مجموعة أنساق من الإعلام الحكومي، يحتكر كل منها بناء صورة للآخر تغذي روح الانقسام والفرقة هي في أغلب الأحيان صورة ليست صحيحة. نحن في حاجة إلى إعلام مختلف يؤسس لصحافة سلمية peace journalism تهدف للوصول إلى فهم للتعددية الثقافية والكونية التي نحياها. إذا كانت أخلاقيات الإعلام قد ركزت حتى وقت قريب على أخلاقيات الإعلامي الفرد، فإننا في حاجة لأخلاقيات للإعلام تناسب العالم الكوني الذي نعيش فيه، تتأسس على اتفاقيات دولية ترى في التواصل حقاً من حقوق البشر.

4.4 ماهية هذه الأخلاقيات الكونية.

يرى بعض أدعياء هذا الاتجاه أنهم في محاولتهم تأسيس هذا النسق الكوني من ثقافات مختلفة، لم تكن التصورات الأخلاقية لهذه الثقافات غير الأوربية والأميركية - مثل ضرورة احترام الكرامة الإنسانية وقول الصدق وعدم اتباع العنف سوى تصورات غربية اقتبسها أصحاب هذه الثقافات اللاأورو أمريكية وضمنوها أنساقهم الفكرية بحيث تناسب ثقافتهم. وبالتالي تبقى الأطر الممثلة للأخلاقيات الكونية للإعلام في النهاية أطراً غربية.

الحقيقة أن هذا الزعم يجافيه الصدق والموضوعية، إذ إن هذه القيم - وسأقصر

ص: 161

حديثي هنا على الثقافة العربية الإسلامية - ليست في أساسها قيماً غربية. لقد كتب صاحب هذه الأسطر مقالاً بعنوان Arab Perspectives نُشر عام 2014 شرح فيه المنظور العربي الإسلامي للخمسة عشر مبدأ من مبادئ أخلاقيات البيولوجيا التي أقرتها سائر الدول الأعضاء في اليونيسكو عام 2005 في وثيقة الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان Universal Declaration of Bioethics and Human Rights . هذه المبادئ هي احترام الكرامة الإنسانية المنفعة والضرر الاستقلالية والمسؤولية الفردية، الموافقة المستنيرة، ناقصي وفاقدي الأهلية، احترام الضعف البشري والسلامة الشخصية، الخصوصية والسرية، العدالة والمساواة والإنصاف، عدم التمييز وعدم الوصم، احترام التعددية والتنوع الثقافي، التضامن والتعاونف المسؤولية الاجتماعية والصحة، التوزيع العادل للمنافع، حماية الأجيال المستقبلة، حماية البيئة والتنوع البيئي والمحيط الحيوي. لم يعن كاتب هذه الأسطر بشرح المنظور العربي الإسلامي لهذه المبادئ من حيث إنها في أصلها مبادئ غربية تم الاستعانة بها في ثقافتنا العربية الإسلامية ولكنه أراد أن يبين كيف أنها جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية منذ نشأة الإسلام. حيث دلل كاتب هذه الأسطر على ذلك باستشهادات من القرآن والسنة. كان ملخص رأي كاتب هذه الأسطر أن سائر المبادئ يمكن أن نجد أساسها في المبدأ الأول ألا وهو احترام كرامة الإنسان للإنسان كرامة في المفهوم الإسلامي لأن الله اختاره خليفة له على الأرض . لحفظ هذه الكرامة يجب الامتناع عن الإضرار بها ونسعى إلى نفعها واحترام كرامة الإنسان تعني احترام خصوصيته واستقلاليته في اتخاذ القرارات وهي الاستقلالية المحكومة بالمسؤولية تظهر استقلالية الإنسان في حقه في تقديم الموافقة. يجب حماية ناقصي الأهلية وفاقديها كجزء من احترام كرامتهم، وكذلك يجب احترام ضعفهم ولأن البشر خلفاء الله على الأرض، فلا تمييز بين شخص وآخر وهو ما يعني ضرورة تحقيق العدالة والمساواة والإنصاف، وعدم التمييز وعدم الوصم. لا ينطبق هذا على الأجيال الحالية فقط ولكن ينسحب على الأجيال المستقبلية أيضا. ولأن البيئة بكل مكوناتها من خلق الله فلها قيمة في ذاتها، وهو ما يعني ضرورة حمايتها لذاتها وليس فقط من أجل الأجيال القادمة.

ص: 162

نعم يتفق كاتب هذه الأسطر على أن حظ العرب حتى الآن من التنظير قليل، للدرجة التي يزعم بها أنه لا وجود لنظرية أخلاقية عربية إسلامية تتأسس على مبادئ أخلاقية نابعة من البيئة الإسلامية يمكن الاستعانة بها بشكل كلي في حل المشكلات الأخلاقية لأي ميدان من ميادين الأخلاقيات التطبيقية. إلا أن هذا لا أن هذه المبادئ غير موجودة وأنها ليست جزءاً من ثقافتهم. هناك فارق بين عدم تنظيري للمبادئ التي تحكم - أو يجب أن تحكم - سلوكي وبين عدم وجودها. قد يقول قائل إن هذه المبادئ التي شرحها كاتب هذه السطور في المقال الأجنبي سالف الذكر مبادئ خاصة بميدان بحث آخر وهو أخلاقيات البيولوجيا ولكننا نقول إن كثيرا من هذه المبادئ ينطبق على مجال الإعلام مثل حماية كرامة الإنسان، وعدم الإضرار والمنفعة وعدم التمييز والعدالة واحترام التعددية والتنوع الثقافي والخصوصية والسرية والمسؤولية الاجتماعية، وأن معنى المبادئ الأخلاقية ثابت لا يتغير. يختلف الأمر فقط في طريقة تطبيق المبادئ واستخدامها من مجال لآخر. فمعناها لا يختلف سواء طبقت على مجال البيولوجيا أو الإعلام أو الإدارة أو أي مجال من مجالات الأخلاقيات التطبيقية.

ص: 163

المراجع المستخدمة

أولا: المراجع العربية

الكسو «الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار». جامعة الدول العربية 2014 2017-06-20 تم الدخول بتاريخ html.24-56-07-06-04_http://www.alecso.org/en/2016

ثانياً: المراجع الأجنبية

Darwish. B. (2014). 'Arab Perspectives' (2014) in H.A.M.J. ten Have, B. Gordijn (eds.), Handbook of

Global Bioethics. Springer Reference. pp. 269291 -

Kieran, Matthew (1999). Media Ethics. Praeger, Westport, Connecticut London.

National Association for Science Writers (2014). Code of Ethics for Science Writers. In https://www.nasw.org/code_ethics_science_writers. 18 تم الدخول بتاريخ 2017-12-.

Shakuntala Rao and Herman Wasserman (2007). Global Media Ethics Revisited. A postcolonial critique. in Global Media and Communication [7665-(2007)17423:1] Volume 3 (1): 29 50_. In http://journals.sagepub.com/doi/pdf/10.1177/ تم الدخول بتاريخ 17 - 12 - 2017 1742766507074358

Tehranian, M. (April 1, 2002) Peace Journalism: Negotiating Global Media Ethics. In The International Journal of Press/Politics. In Journals. Sagepub.com/doi/ .abs/10.11771081180/x0200700205تم الدخول بتاريخ 17 - 12 - 2017 .

Ward, S. Global Media Ethics. Center for Journalism Ethics. School for Journalism and Mass Communication. University of Wisconsin-Madison. In https://ethics.journalism.wisc.edu/resources/global_media_ethics/تم الدخول بتاریخ 2017_12_17.

ص: 164

المذهب الأخلاقي للفضاء الإلكتروني

الأستاذ الدكتور : حميدرضا آية اللهي

1. المقدمة

كل عمل يقوم به الإنسان مبني على نظام من القيم والأخلاق حيث يتخذ قراره بناءً عليه، ورغم أننا نؤمن بمعايير أخلاقية عامة متشابهة، لكن تطبيق هذه المعايير على الظروف الجزئية في فعالياتنا يواجه العديد من المشاكل، مما يدفعنا إلى اتخاذ قرارات مختلفة ناجمة عن ظروف تلك الفعاليات لكن بالتحليل الدقيق لقراراتنا نواجه اختلاف المعايير الأخلاقية فنعتبر ما هو غير أخلاقي أخلاقياً، ولا نهتم بالوجه الأخلاقي للعمل الأخلاقي الذي نقوم به. ومن هذا المنطلق، يحاول علماء الأخلاق تحليل الظروف الخاصة لفعالية ما لتنظيم المهام الأخلاقية بما يتناسب مع الفعاليات التي نقوم بها، لكي يتمكن سائر الأفراد من العيش بشكل أخلاقي في نظام موحد من المعايير. يطلق على هذه التعليمات «المذهب الأخلاقي» أو «مدونة «الأخلاق» أو «التعليمات الأخلاقية». إن إحدى أهم هذه الفعاليات تتمثل في العمل ضمن الفضاء الافتراضي مما يجعلنا نواجه ملاحظات أخلاقية مختلفة؛ وبالتالي فنحن بحاجة إلى معايير لممارسة الفعاليات بشكل جيد ضمن الفضاء الافتراضي. سنحاول في هذه المقالة تنظيم التعليمات الأخلاقية لمختلف أنواع الفعاليات ضمن الفضاء الافتراضي وتقديمها لجميع الناشطين في هذا المجال.

لإعداد المذهب الأخلاقي في الفضاء الإلكتروني قمنا بجمع وتصنيف العديد

ص: 165

من المذاهب التي وضعت على مستوى العالم في هذا المجال من خلال دراسة قوالب المذاهب الأخلاقية، فقد تم تصميمه بشكل معين في النهاية ليتناسب مع العقيدة المشتركة للمذاهب الأخلاقية في الفضاء الإلكتروني في بلدنا الإسلامي. على الرغم من أن العديد من المبادئ الأخلاقية العالمية في هذا المذهب الأخلاقي مشتركة، ولكن بما أن المعايير الأخلاقية يمكن أن تتأثر بالثقافات المختلفة، فقد جرى تقويم محتوى هذه المذاهب من حيث تناسبها مع الثقافة الإيرانية الإسلامية وتم استقصاء النقاط الرئيسية والتي يجب الانتباه إليها بناءً على ثقافتنا. وتتم مراجعة القضايا الأخلاقية في مختلف المجالات (مثل الأخلاق، والأخلاق المعيارية والأخلاق التطبيقية، الخ)، وتحليلها. من الواضح أن التحليلات الأخلاقية في الفضاء الإلكتروني في المذهب الأخلاقي مختلفة من المداولات الأخلاقية الأخرى. حاولنا في البداية تحديد ما نعنيه بالضبط بالمذهب الأخلاقي واختلافه عن مجالات التفكير الأخلاقي الأخرى، لكي نركز بالضبط على ما نتوقعه من المذهب الأخلاقي، و ألا نخطئ بينه وبين قضايا الفروع الأخرى للأخلاق.

هناك عدة مراحل لإعداد المذاهب الأخلاقية، حيث ذكرت الخطوات اللازمة الواحدة تلو الأخرى لتدوين المذهب الأخلاقي لكي يتعرف القارئ على خريطة الوصول إلى المذهب الأخلاقي النهائي.

كما تقدم فعلى الرغم من اشتراك المذاهب الأخلاقية في بعض الجوانب، غير أنها تتأثر بالثقافة التي يتم تقديمها ضمنها. ولذلك فإن من الضروري في المذهب الأخلاقي في الفضاء الافتراضي والذي يقدم على أساس المنهج الإسلامي أن نبين كيف يمكننا اتباع المنهج الإسلامي. حاولنا بداية تحليل العناصر المكونة للأخلاق ذات المنهج الإسلامي وتقديم إطار لها، فقمنا بتحليل وجهات نظر المفكرين الإسلاميين حول الأخلاق الإسلامية وتقديم نموذج لبيان الأخلاق ذات المنهج الإسلامي مستندين إلى وجهات النظر تلك لكي نشير إلى الاختلافات بين الأخلاق ذات المنهج الإسلامي والأخلاق ذات المنهج العلماني الذي تعتمد عليه أكثر

ص: 166

المذاهب الأخلاقية الموجودة. ورغم استخدام مصطلح الأخلاق الإسلامية بكثرة في الأوساط العلمية، غير أننا لم نشهد أية نظرية حتى الآن تبين لنا السمات التي تتمتع بها الأخلاق الإسلامية سنحاول من خلال النظرية التي نعتمدها في هذا البحث أن نقدم خطة شاملة للأخلاق ذات المنهج الإسلامي لنصل عن طريقها إلى المذهب الأخلاقي ذي المنهج الإسلامي في الفضاء الافتراضي.

لتنظيم القواعد الأخلاقية في الفضاء الافتراضي، يجب أن نبين التحديات التي تواجه هذه الأخلاق في الفضاء الافتراضي الذي يختلف عن الفضاء المادي. ولهذا السبب، قمنا بدراسة وجهات نظر المفكرين في هذا المجال لبيان وجه اختلاف الفضاء الافتراضي عن الفضاء المادي.

في القوالب المستخدمة لتدوين المذاهب الأخلاقية، هناك عدة محاور أساسية. يجري في البداية تصنيف الفعاليات إلى أنواع رئيسية . وبما أن للأفراد مواقف مختلفة وبالتالي ملاحظات مختلفة في كل فعالية، لذلك يتم تصنيف الفعاليات لكي نعرف مستخدمي تلك الفعاليات

من البديهي أن هذه التصنيفات استقرائية ولا ضرورة منطقية لها. ولذلك يمكن لأفراد آخرين تقديم تصنيف آخر. في الخطوة التالية تذكر المبادئ العامة الأخلاقية التي تشكل المحاور الرئيسية للمذهب الأخلاقي. وبما أنه يجب تنظيم المبادئ المذكورة بمنهج إسلامي، ولذلك فإنها أكثر من سائر مبادئ المذاهب الأخلاقية. وبناءً على ثلاثة أنواع من الفعاليات وخمسة أنواع من المستفيدين من الفضاء الافتراضي، فقد تبين أنه يجب تحديد الواجبات والمحرمات الأخلاقية لكل منها .

لتدوين الرموز الأخلاقية لكل مستخدم في فعالية معينة، لجأنا إلى أربعة مصادر:

1. جمع وتنقيح المحاور المختلفة للمذاهب الأخلاقية في المجتمع العالمي ولا سيما حول الفضاء الافتراضي وغيره وذكر الموقع الإلكتروني لكل منها في النهاية.

ص: 167

2. الكتب والمقالات التي تتحدث حول التحليل الأخلاقي للفضاء الافتراضي في العالم.

3. الأعمال المنشورة على أساس وجهة نظر إسلامية من قبل بعض المفكرين في مجتمعنا حول البحوث الأخلاقية النظرية في الفضاء الافتراضي، ولقد حاولنا تحليل وجهات النظر هذه للوصول إلى مذهب أخلاقي إسلامي.

4. الكتب والمقالات التي تتناول التحديات الأخلاقية للفضاء الافتراضي والأضرار الناجمة عنه حيث استعنا بمجموعة الملاحظات الموجودة فيها لتدوين التعليمات اللازمة للمذهب الأخلاقي.

ورغم الاستعانة بهذه المصادر، ولكن بما أن هذا النوع من المذهب الأخلاقي يتم إعداده للمرة الأولى، لذلك فقد تم تدوين وتنظيم كافة التعليمات بناءً على أساس استنتاج المؤلف واجتهاده.

وأغلب المذاهب الأخلاقية تتمحور حول الوظائف والواجبات والمحظورات، لكنها لا تأخذ بعين الاعتبار الحقوق التي توجدها الوظائف لكل من المستخدمين. وأخيراً فقد تم تنظيمها على أساس الوظائف الأخلاقية للنظام الحقوقي الناجم عنها.

ولكي تكون التعليمات الأخلاقية هذه دقيقة، فقد حاولنا إرسال النص الأولي للمذهب الأخلاقي إلى العديد من نخب البلاد للحصول على ملاحظاتهم وانتقاداتهم و دراستها وتطبيقها في المذهب الأخلاقي النهائي لدى الضرورة. ونتقدم بالشكر الجزيل للتدقيق الذي قام به كافة أولئك الأعزاء مما يترتب عليه إثراء المذهب الأخلاقي وتصديقه وتأييد مضمونه.

نتمنى أن نكون قادرين من خلال هذه المذاهب الأخلاقية على الاستفادة الأخلاقية المثلى من الفضاء الافتراضي .

ص: 168

2. المنهج الإسلامي للأخلاق في الفضاء الافتراضي الاختلافات والأساليب

على الرغم من أن الصلاح والطلاح العقليين معياران في الرؤية الشيعية للأخلاق، لكن الرؤية الأخلاقية للفكر الإسلامي تختلف عنها في الفكر العلماني وتميزه عن الأخلاق العلمانية والمسيحية والأشعرية والإخبارية. لتدوين منهج إسلامي للأخلاق في الفضاء الافتراضي، يجب أخذ ملاحظات أساسية بعين الاعتبار للحفاظ على الروح الإسلامية له. يهتم هذا المنهج في الجانب البنيوي - المضموني بحسن النية ويقر بالتفصيل لا بالإجمال بعجز العقل عن تغطية كافة الجوانب الأخلاقية، وبالتالي فهو يعتبر نفسه بحاجة إلى إرشاد الوحي. ويتطرق العقل إلى الاجتهاد في حالات أكثر تفصيلاً بناءً على تعاليم الوحي. ويتم بيان كافة هذه التعليمات بناءً على الربوبية الإلهية.

إن نظرة الإسلام إلى الأخلاق لا تعتبر توجه الأخلاق مقتصراً على الرفاهية والاستقرار المادي للإنسان، بل يعتبر النمو المادي والمعنوي للإنسان المتمثل في القرب الإلهي من المخاوف الرئيسية له ويفكر بوجهي النظام المتعادل.

أما من الجانب الحقوقي فقد قام بتطبيق شريعة تضمن حقوق كافة الكائنات بالاستناد إلى الباري تعالى ويعتبر أن أساس شرعية الفعاليات الأخلاقية هو الولاية الربوبية ولا يمكن سلب هذه الحقوق إلا بإذن الله لقد منح الله الإنسان كرامة تعتبر حياة الإنسان معادلة لحياة جميع البشر. يجب أن يتكون التعاليم الأخلاقية مبنية على الحقوق الإلهية.

ولا يكتفي الإسلام في تطبيق الأخلاق بالنصائح، بل أخذ بعين الاعتبار نظاماً جزائياً لإحقاق حقوق الإنسان وتخلقه بالأخلاق الإلهية حيث يعتبر نظام الثواب والعقاب الأخروي أهم جزء فيه.

خصائص أخلاق الفضاء الافتراضي

ص: 169

للفضاء الافتراضي خصائص عدة:

1. نطاق عالمي واسع جداً

2. ظروف هوية مختلفة

3. إمكانية النسخ (6 ,2009 ,Johnson-62)

4. سرعة كبيرة

5. وفرة محيرة من المعلومات

6. إمكانية التأثير الفوري والواسع

وهكذا فإن العلاقات الأخلاقية في الفضاء الافتراضي تتسم بخصائص يؤدي الاهتمام بها إلى ملاحظات معينة. ويواجه المستخدمون من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العديد من القضايا الأخلاقية منها ما هو غير معلوم. ويمكن اعتبار أكثر هذه القضايا شيوعا مختلفة عن الفضاءات المادية وذلك نظراً للأسباب التالية :

1. امتزاجها بالمجهول: من الإمكانات التي يتيحها الفضاء الافتراضي، إمكانية الاحتفاظ بسرية الهوية أو الدخول بأسماء مستعارة، وليس من الضرورة أن تنطبق هوية الأفراد الافتراضية على هويتهم الواقعية، وهكذا لا يمكن الكشف عن الهوية الحقيقية. يمكن لهذا الأمر أن يوجد العديد من القضايا الأخلاقية في العلاقات الافتراضية بين الأفراد (ثقة الإسلامي، 2012م، ص 194-187).

2. تنوع الشعور بالمسؤولية وقبولها: لكل فرد مسؤولية تجاه الإمكانات التي يتمتع بها ويجب أن يتحمل هذه المسؤولية في الاستفادة من هذه الإمكانات. إن التقنيات المعلوماتية والاتصالات توفر الكثير من الإمكانات للمستخدمين مما يخلق العديد من المسؤوليات.

3. دائرة النطاق المعلوماتي والنطاق الخصوصي الفردي : تم تعريف معايير مادية

ص: 170

في العالم المادي لتمييز خصوصية الأفراد ونطاقاتها. ومع ظهور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أصبحت هذه المعايير المادية تعاني من النقص والعجز في تعيين معايير الخصوصية في العالم الافتراضي. إن تعريف نطاق خصوصية الأفراد في الفضاء الافتراضي واحترامه من قبل الآخرين من أهم القضايا المطروحة في هذا المجال.

4. الغموض في امتلاك المعلومات والملكية الفكرية: نظراً لاختلاف المضمون الافتراضي والإلكتروني عن المادي، فلا يمكننا تطبيق قوانين الملكية الفكرية في الفضاء المادي على محتويات الفضاء الافتراضي. ومن هذا المنطلق، وإذا فرضنا أن كل محتوى إلكتروني في العالم الافتراضي خاضع للحماية الفكرية، فيجب علينا تعريف وتعيين معايير الملكية المذكورة واحترامها.

5. نطاق الجرائم في الفضاء الافتراضي: نظراً لاختلاف الفضاء الافتراضي عن المادي، فإن ماهية الجريمة في الفضاء الإلكتروني وسببها وطريقتها تختلف عنها في الفضاء المادي. وهذا ما يجعل نطاق تعريف ومعايير الجريمة في العلاقات بين الأفراد عبر الفضاء الافتراضي واسعاً أكثر من الفضاء المادي.

6. ميزة أمن المعلومات والمعلومات الآمنة: من أهم مخاوف مستخدمي الفضاء الافتراضي، الحصول على المعلومات الآمنة والموثوقة من المحتويات الإلكترونية الموجودة لتحقيق هذا الهدف يجب أن يكون لدى المعنيين بأمر توليد ونقل ونشر المحتويات الإلكترونية في الفضاء الافتراضي شعور بالمسؤولية.

إن ما أشرنا إليه في وصف كل من القضايا المذكورة أعلاه وتعيين المعايير غير الأخلاقي في الفضاء الافتراضي وما يتبعه من تعيين المفاهيم الأخلاقية المناسبة مقابل تلك المعايير ، ورغم أنه يمكننا وضع ذلك تخت عنوان القضايا المذكورة أعلاه، ولكن يمكن أن تحظى هذه القضايا بالاهتمام في كل من تقنيات الاتصالات،

ص: 171

وبالتالي أخذ مذاهب أخلاقية محددة للعالم الافتراضي بعين الاعتبار.

4. المستفيدون

إن السلوك الأخلاقي في الفضاء الافتراضي متناسب مع الدور الذي يمكن لكل فرد أن يلعبه فيه. ولذلك فإن فرز المستفيدين من الفضاء الافتراضي يساعد على تشخيص واجباتهم الأخلاقية. ورغم وجود الكثير من أنواع المستفيدين في الفضاء الافتراضي، لكن أهم الأنواع تتمثل فيما يلي:

1. صانعو القرار السياسي: الأفراد الذين يقومون بتحديد الاستراتيجيات والتخطيط الكلي في البيئة الافتراضية، واستنادا إلى السياسات التي يضعونها الترتيب الذي تقومي يتم تصميم الفضاء الافتراضي، ويقومون بتعيين جميع الإجراءات لاستعمال المستخدم للفضاء الافتراضي، ونتيجة لذلك يقوم المستثمرون بدفع ثمنها يمكن أن تكون الحكومة من صناع السياسات لأجل تحقيق واجباتها.

2. مصممو الفضاء الافتراضي: وهم من يقوم بتصميم وتطبيق البرمجيات والمعدات حسب السياسات المتبعة.

3. مسؤولو وملاك الفضاء الافتراضي: وهم الأفراد المسؤولون عن فضاء افتراضي في الإنترنت ويملكونه من الناحية الحقوقية والفكرية.

4. الموظفون وهم الأفراد المسؤولون عن تطبيق وتنصيب البرمجيات والمعدات المذكورة لتسهيل تقديم الخدمات للمستخدمين.

5. مستخدمو إرسال المعلومات واستقبالها: بعض المستخدمين يستقبلون المعلومات فقط والبعض الآخر منهم يرسل المعلومات ويستقبلها وأهم هؤلاء المستخدمين أعضاء الشبكات الاجتماعية.

6. الرقابة الحكومية: تواجه الحكومات بعض القضايا الأخلاقية بما يتناسب مع

ص: 172

المسؤولية الاجتماعية لها ومن البديهي أننا لا نعني هنا دور الحكومة في الرقابة على الأعمال الحكومية الخاصة بها، فالحومة قادرة على لعب دور فعال مثل صناع السياسة أو مسؤولي الفضاء الافتراضي.

إن التصنيف المذكور أعلاه تصنيف استقرائي يضم أهم أنواع المستخدمين، و مع ذلك فهناك العديد من الأنواع الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها هنا. وفضلاً عن اختلاف الواجبات الأخلاقية لمستخدمي الفضاء الافتراضي، فإن نوع علاقة المستخدمين ببعضهم يؤثر على التعاليم الأخلاقية ونوعها. ولذلك فإن كل من المواقع، والدردشة، والأخبار، والبريد الإلكتروني، والشبكات الاجتماعية، ومحركات البحث، والاتصالات المتنقلة، والإعلان على الإنترنت، والمواقع الإعلامية وغيرها يمكنها أن تتمتع بالمذهب الأخلاقي الخاص بها، وقد قمنا في هذه المقالة بتقسيم الفعاليات إلى ثلاث فئات كلية تشمل أنواع الفعاليات المذكورة. تم التصنيف هنا حسب كيفية تفاعل الأفراد في الفضاء الافتراضي، ولذلك فكافة هذه الفعاليات تشمل الفئات الثلاثة التالية:

أ- المذهب الأخلاقي الخاص بالفعاليات أحادي الجانب في الفضاء الإلكتروني، مثل مواقع الأخبار، والمواقع ، ومحركات البحث ومواقع المعلومات وبعض ألعاب الكمبيوتر.

ب- المذهب الأخلاقي الخاص بالتفاعل المتبادل في الفضاءات الافتراضية مثل البريد الإلكتروني، والدردشة وغيرها.

ج- المذهب الأخلاقي الخاص بالتفاعل متعدد الأطراف، مثل الشبكات الاجتماعية مثل الفايبر، الفيسبوك، الواتس أب، التلغرام والإينستاغرام وغيرها.

5. المبادئ الأساسية الأخلاقية للفضاء الافتراضي

يمكن تصنيف المبادئ الأساسية الأخلاقية في الفضاء الافتراضي إلى ما يلي:

ص: 173

1. النزاهة

2. الحفاظ على الخصوصية والامتناع عن الغيبة

3. الأمن وعدم إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالآخرين

4. الأمانة واحترام حقوق الآخرين

5. الحفاظ على القيم الدينية والعرفية

6. النية الصحيحة الأخلاقية

7. مبدأ تعميم الفائدة والمساعدة في تطوير وارتقاء الآخرين

1. النزاهة: كل نوع من الأنشطة في الفضاء الافتراضي من طرف المصممين والمشغلين والمستخدمين يجب أن يتمتع بالنزاهة ويجب عدم عرض المعلومات المخالفة للواقع أو المعلومات التي تفهم بغير مكانها.

2. الحفاظ على الخصوصية والامتناع عن الغيبة كل شخص ممن يعمل في الفضاء الافتراضي له معلومات خاصة والتي بدون موافقتهم لا يمكن الوصول إليها ولا يمكن نشر أو نقل هذه المعلومات الخاصة بطريقة أولية. وهذا ما يعني أن الشخص لا يمكنه أن يدخل إلى المعلومات الخصوصية للآخرين ولكنه الدخول للفضاء الافتراضي من أجل نشر وإعادة نشر المعلومات الخاصة للآخرين بدون موافقتهم. أو بعبارة أخرى ما يسمى بالغيبة - في مصطلح السنة الإسلامية- وفي حال حدوثها يجب تأمين الرضا من الشخص.

3. الأمن وعدم إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالآخرين: كل الإجراءات القائمة في الفضاء الافتراضي يجب ألا أن تلحق الضرر بالمستخدمين أو المشغلين أو المصممين بشكل فردي أو جماعي إلا إذا كان مطابقاً للقانون في الموارد التي يكون فيها نشاط افتراضي فيه ضرر للآخرين في المجتمع. لا يمكن استخدام الفضاء الافتراضي من أجل إلحاق الضرر بأموال وشرف أوالروح المعنوية للآخرين.

4. الأمانة واحترام حقوق الآخرين في الفضاء الافتراضي يجب على كل

ص: 174

فرد احترام حقوق الآخرين وألا يلحق الضرر بهم. لذلك يجب احترام الملكية المعنوية. وفي حال عدم مراعاة هذا العمل فإن ذلك ما يسمى عدم رعاية حق الناس في العرف الديني.

5. الحفاظ على الأخلاق الدينية والعرفية: في كل مجتمع هنالك مجموعة من القواعد والقيم الأخلاقية والثقافية بما يتناسب معها ولذلك يجب أن تكون أنشطة الفضاء الافتراضي لا تسبب ضرراً لهذه القيم (إذا كانت لا تخالف القوانين الدينية). كما أنه يجب احترام الخصوصيات الدينية وكل سلوك يؤدي إلى الضرر في هذه القيم يجب أن يكون ممنوعاً.

6. النية الصحيحة الأخلاقية : يجب على المستفيدين من الفضاء الافتراضي لديهم دوافع مختلفة لاستخدامه والتي غالباً ما تكون هي القيام بنشاط معين. هذه الدوافع والنوايا يجب ألا تكون منافية للأخلاق العامة. فالأنشطة التي تقام بالنية الصحيحة دائماً ما تستحق الإعجاب.

7. مبدأ تعميم الفائدة والمساعدة في تطوير وارتقاء الآخرين: يجب أن يكون الهدف الأصلي للاستفادة من الفضاء الافتراضي قيماً, وبما أن الفضاء الافتراضي هو مكان للتعامل بين المستخدمين لذلك فإن التعامل الأخلاقي يجب أن يكون من أجل تعمیم الفائدة والمساعدة في تطوير وارتقاء الآخرين.

6. المبادئ الأخلاقية لمشتركي الفضاء الافتراضي (من أجل الأنشطة الأحادية الجانب في الفضاء الافتراضي)

صانعو القرار السياسي:

صناع سياسات الأنشطة المختلفة في الفضاء الافتراضي يجب أن:

1. يجب الانتباه أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

ص: 175

2. إن العواقب الأخلاقية ستكون محل مراقبة وبحث وفي حال وجود مخالفة أخلاقية في ذلك يجب أن يجدد نظره في سياسته وسلوكه، حتى لا تسبب تلك السلوكيات ظهور مشاكل لا تحمد عقباها. ويجب على واضعي السياسات أن يظهروا أنهم قاموا بهذه الدراسة.

3. والإعلان عن نقاط الضعف والمخاطر للسياسات الخاصة بهم بكل صدق وإخلاص والشعور بالمسؤولية. كل سياسة في الفضاء الافتراضي مهما كانت جيدة، لكنها في النهاية لها نواقص ومن هذا الاحتمال من الممكن وقوع بعض المشاكل في هذه السياسات.

4. في جميع الإجراءات التي يقومون بها يجب أن يكون هنالك نزاهة ويجب اجتناب الأفعال التي تؤدي إلى خداع المصممين والمالكين في الفضاء

الافتراضي.

5. أن تكون السياسات مهتمة بالمعلومات الشخصية للمستخدمين ويجب تجنب السياسات التي تسبب الضرر لخصوصية المستخدمين من البديهي أننا نتحدث عن السياسات التي تناقض الخصوصية للمستخدمين وليس الاستفادة غير المناسبة من قبل المستخدمين.

6. يجب الاهتمام بحقوق المصممين حيث يجب التواصل لاتفاق معهم قبل وضع السياسات.

7. يجب متابعة هذه السياسات لكي لا توقع الأفراد والمجتمع في الخطر ويجب ألا تنظم بما لا يسبب الضرر بهم.

8. متابعة هذه السياسات بحيث لا تسبب الضرر للقيم الثقافية والدينية.

9. اجتناب الدوافع غير الأخلاقية في إجراءاتهم وأن تكون نيتهم سليمة في تنظيمها.

ص: 176

10. أن يوضحوا في سياساتهم وسلوكهم المخاطر من الاستفادة من الفضاء الافتراضي مثل الاعتياد بالأنترنت وانفصام الشخصية، وعدم التحرك، والتأثيرات الجسمية غير المناسبة، والآثار الاجتماعية وخاصة العائلية، والابتعاد عن المجتمع والاضطراب وطرح الحلول من أجل حل هذه المشاكل.

11. أن ينظموا سياستهم على أن تساهم في تطوير المجتمع والأفراد من الناحيةالأخلاقية والمعنوية.

12. أن تشمل سياستهم التطوير المادي والمعنوي للأفراد والمجتمعات والاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل رفع التخلف والجهل في بعض المجتمعات مثل الدول الأفريقية.

13. أخذ المشورة من علماء الأخلاق والفلسفة والدين وباقي العلوم الإنسانية من أجل وضع سياساتهم.

مصممو الفضاء الافتراضي:

مصممو الفضاء الافتراضي يجب أن:

1. يحب الانتباه إلى أن المبادئ الأخلاقية فى الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

.2 النزاهة والأمانة والاحترام للقيم العرفية والدينية والاحترام للحدود الدينية ورعايتها في تصاميمهم.

3. أن يكون هنالك احترام وأمانة مع أرباب العمل، واعلامهم بأي نقص حاصل في النظام.

4. أن يعملوا بدقة من أجل حفظ الأمور السرية لمالكي المواقع

ص: 177

5. أن يسعوا بكامل طاقاتهم من أجل ارتقاء وإزالة المشاكل الفنية في الموقع والنظام من أجل حفظ المعلومات الشخصية والخاصة للمستخدمين.

6. يجب أن يصمموا الموقع في حال كان هنالك إعلانات للبضائع والخدمات أو معلومات غير مرغوبة في هذا الموقع أن يكون المستخدمون قادرين على إيقافها والأفضل من ذلك أن يكون هنالك تدابير خاصة، ليكون للمستخدم القدرة على اختيار استلام الإعلانات .

7. إذا كان هنالك بعض المشاكل الأخلاقية في تصميمه يمكنه التعاون مع مصمم آخر لحل هذه المشاكل .

8. مراعاة الراحة والأمان من أجل المستخدمين في تصميمهم بشكل دقيق.

9. مراعاة الأمن الأخلاقي والمعنوي للمستخدمين في تصميمهم بشكل دقيق.

10. تصميم برامج مختلفة من أجل تعليم الطبقات المختلفة مقل العميان والصم والبكم أو ذوي الإعاقة الخاصة الفكرية ومن لديهم ضعف في النمو المادي والمعنوي.

11. العمل لإزالة التخلف في بعض البلدان وتسهيل الوصول الميسر والرخيص لإمكانات الفضاء الافتراضي في العدالة الاجتماعية.

يجب على المصممين ألا يقوموا بما يلي:

1. ألا يستخدموا في تصميمهم على أمور تخالف العفة.

2. أن يتبعوا السياسات غير الأخلاقية لمالكي المواقع

3. ألا يكون تصميمهم بطريقة تسمح للمعلومات القادمة من المستخدمين أن تكون في اختيار المواقع والأشخاص والمجتمعات بدون إذن أصحابها.

ص: 178

مالكو الفضاء الافتراضي:

يجب على مالكي الفضاء الافتراضي:

1. يحب الانتباه أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. النزاهة والأمانة في حفظ المعلومات الخصوصية للآخرين، ورعاية الأمن الفكري والاقتصادي للآخرين في الفضاء الافتراضي، وتجنب الإضرار بأي عمل أو حقوق للأفراد.

3. لا يحب فقط عدم الإساءة والافتراء على الآخرين ولكن منع الإساءة والافتراء من قبل أي من المستخدمين.

4. حذف الحساسيات الشخصية الوهمية وغير المعتبرة.

5. قبول جميع المطالب المقررة وفي حال وجود ضرر أو أذية من أجل الغير، العمل على حلها .

6. رعاية الحقوق الفكرية للآخرين، واجتناب إعادة نشر مواضيع الآخرين بدون ذكر المنبع . ويجب ألا يقوموا بإعطاء المعلومات السرية والشخصية للمستخدمين مثل الايميل أو كلمة السر و ... ولا بأي شكل من الأشكال للأفراد والحقوقيين الآخرين.

7. اجتناب أي نوع من التفرقة بين المستخدمين مثل التفرقة القومية، والجنسية والأممية.

8. أن يكون سلوكهم قائما على الشفافية والإنصاف والحياد .

9. أن تكون أولويتهم التطور الأخلاقي والمعنوي للمستخدمين.

10. أن يكونوا متيقظين لأي نوع من الجريمة أو الأمور المخالفة للأخلاق العامة

ص: 179

في مواقعهم من قبل المستخدمين والعمل على عدم انتشارها.

11. احترام الأعراف الدينية والحدود الدينية، ومنع كل نوع من التبليغ عليها.

12. إجراء تدابير خاصة من توثيق الهوية الواقعية للأفراد والشخصيات المعروفة الفنية والسياسية والرياضية ...وغيرها .

13. أن يتابعوا أي شكاية من قبل المستخدمين أو الدول في حال إخلال الأمن وإقلاق راحة الأفراد في الفضاء الافتراضي وإجراء المتابعة في حدود السلطة الممنوحة.

يجب أن لا يقوم مالكو الفضاء الافتراضي :

1. يجب أن يعلموا السلطات عن أي نوع من الجريمة السرقة، النهب القتل أو الأمور التي تخالف الأخلاق.

2. أن تكون نيتهم غير سليمة في أنشطتهم ولكن يفضل أن تكون هذه النية صافية وجيدة من أجل إتمام العمل.

المستخدمون

يجب على مستخدمي الفضاء الافتراضي أن يلتزموا بما يلي:

1. يحب الانتباه إلى أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. النزاهة والأمانة وحفظ الخصوصية والأمن المادي والمعنوي لجميع المستخدمين عند الاستفادة من الفضاء الافتراضي

3. أن يعملوا على حفظ المعلومات الشخصية لهم ولأصدقائهم بشكل دقيق ومحاولة عدم الاستفادة منها ضمن الفضاء الافتراضي والاستفادة من كامل إمكانات المواقع من أجل حفظ خصوصية الأفراد.

ص: 180

4. أن يكونوا على اطلاع كامل من آثار الاستفادة من الفضاء الافتراضي مثل الاعتياد على الأنترنت وانفصام الشخصية وعدم التحرك اللازم والتأثيرات الجسمية غير المناسبة والضرر الاجتماعي - وخاصة على المجتمع، الابتعاد عن المجتمع-، إضافة إلى اضطراب المعلومات. تنظيم برنامج من أجل التخفيف من هذه المشاكل مثل اتباع حمية إعلامية.

5. الاحترام المادي والمعنوي لسؤولي الفضاء الافتراضي وعدم تضييع حقوقهم.

6. في الموارد التي يحتاج فيها مسؤولو الموقع معلومات عن المستخدمين في الفضاء الافتراضي يجب أن يعلموهم بشكل شفاف، فقط في الحالة التي يكون فيها الفرد يستخدم معلومات غير واقعية ويستفيد من معلومات كاذبة يمكنهم القيام بذلك. ومن البديهي أن التكليف الأخلاقي لهذا الشخص تماثل باقي الأفراد وهي واجبة الاتباع.

7. احترام الحقوق المادية والمعنوية للآخرين في الفضاء الافتراضي وبرعاية الملكية الفكرية للآخرين يجب عدم الإضرار بهم.

8. احترام القيم العرفية العقلية والدينية والحدود الدينية وتجنب الإساءة والإضرار بمقدسات المجتمع بأي شكل من الأشكال(مثل الكتابات، الصور أو الفيلم والصوت).

9. رعاية مبدأ السرية والشفافية في الحالات الضرورية، وتجنب التفرقة والتعصبات القومية والدينية والثقافية.

10. اجتناب الدعاية للمواقع التي تنشر الكذب والغيبة والتهمة والسرقة وخيانة الأمانة والإساءة للمقدسات والمواضيع التي تضيع الدين والاستهزاء بالإفراد والجماعات أو إفشاء أسرار الناس أو الاعتداء على خصوصيات الآخرين.

11. اجتناب إيجاد حسابات شخصية وحساب مستخدمين بأسماء أخرى.

ص: 181

12. استخدام الشخصية الواقعية من أجل أي نشاط في الفضاء الافتراضي.

13. الاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل التطوير المادي والمعنوي للإنسان وعدم الكذب في إجراء المشورات الصحيحة للأفراد المحتاجين.

14. الاهتمام بالمبادئ الإنسانية والمعنوية والأخلاقية مثل الظلم ونشر العدالة في الأنشطة القائمة في الفضاء الافتراضي.

يجب أن لا يقوم مستخدمو الفضاء الافتراضي:

1. عدم نشر المواضيع التي لا تكون موثوقه (مثل المواضيع الدوائية والطبية أو الإجراءات الأمنية أو التوصيات الدينية والسلوكية) ولا تكون مؤيدة من قبل المرجع الرسمي.

2. عدم الاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل القيام بأمور تنافي الأخلاق وتروح للجريمة والجناية والسرقة والإساءة والافتراء والكذب والغيبة والاستهزاء وغيرها ..

3. عدم الاستفادة من المواقع التي تنشر الصور أو الأفلام أو الكتابات المنافية للعفة وتنشر الفحشاء والانحرافات الجنسية وفي حال وجود مثل هذه المواقع القيام بإجراءات مناسبة للحد من انتشارها.

4. عدم الاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل إيجاد العداوة والنزاع بين الأفراد والمجتمعات. ومن الأفضل استخدام الفضاء الافتراضي من أجل تنمية المحبة والخير وإزالة الخلافات.

5. السعي قدر المستطاع لعدم الاطلاع على المعلومات الخاصة والمحرمة لباقي المستخدمين.

الحكومات

ص: 182

يجب على الحكومات أن تقوم بما يلي :

1. يحب الانتباه إلى أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. القيام بالإجراءات القانونية المناسبة من أجل المحافظة على الأشخاص بما يتناسب مع الضرر اللاحق بهم، وذلك لأن محتوى الفضاء الافتراضي قد يسبب الضرر لبعض الأفراد وخاصة الأطفال منهم.

3. القيام بالإجراءات القانونية المناسبة كما في الحياة الواقعية من أجل منع الجريمة والجناية والقتل والأعمال المنافية للعفة وإشاعة الفحشاء والترويج للمواد المخدرة والسرقة والتدليس والكذب والعمل على مواجهتهم بالقانون بما يناسب تصرفاتهم.

4. السعي لحفظ خصوصيات الأفراد والمعلومات المحرمة، أو الضغط على الأفراد من أجل الحصول على المعلومات، إلا إذا كان هنالك ضرر أصيل، يجعل شخصاً آخر في المجتمع والتي تحتاج لمراجع قضائية للحصول على هذه المعلومات.

5. السعي قدر المستطاع من أجل نشر الأفكار الحرة في الفضاء الافتراضي.

6. القيام بإجراءات مناسبة من أجل إيجاد الفضاء الافتراضي السالم والآمن والاستفادة بشكل جيد منه من أجل التطوير والتنمية الاقتصادية والعلمية والثقافية والدينية والأخلاقية في المجتمع.

7. القيام بإجراءات من أجل الارتقاء بالتعليم في المجتمع وتدوين برامج مؤثرة من أجل القيام بذلك.

8. السعي من أجل حفظ الحقوق المادية والمعنوية للأفراد، وتحقيق الراحة والأمن في الفضاء الافتراضي من خلال سماع الشكاوى وإحقاق

ص: 183

حقوق الأفراد من خلال الإجراءات والإقدامات المناسبة.

9. الاستفادة بشكل جيد من الفضاء الافتراضي من أجل حماية الطبقات التي ممكن أن تتأذى مثل المتخلفين وذوي الإعاقات الخاصة المادية والفكرية .

10. توسعة الخدمات الإلكترونية من أجل الاستفادة السهلة والعادلة للمواطنين الخدمات الدولة وأن تكون هذه الخطوة من أولوياتها.

يجب ألا تقوم الحكومات بما يلي:

1. يجب عليها ألا تقوم بتفتيش عقائد وأفراد الحسابات بأشخاص واقعية وحقوقية أو لمالكي المواقع.

2. عدم استخدام الفضاء الافتراضي من أجل وضع المخالفين والمعارضين تحت الضغط.

7. المذهب الأخلاقي الخاص من أجل التعاملات الثنائية في العالم الافتراضي (مثل الإيميل أو البريد الإلكتروني)

البريد الإلكتروني يمكنه أن يقدم خدمات كبيرة لمستخدميه وبسبب خصائصه فإنه يواجه مسائل أخلاقية خاصة والتي توجب أن تكون واضحة المبادئ التوجيهية والأخلاقية وهو الأساس في تعامل كل أصحاب العمل. في البريد الإلكتروني يمكن تصنيف أصحاب المصلحة الرئيسيين في العمل إلى ما يلي :

1. أصحاب مزودات البريد الإلكتروني الأصلي والذين يقدمون خدمات البريد الإلكتروني

2. المستخدمون للبريد الإلكتروني والمستفيدون من الخدمات ذات الصلة

3. الحكومات والمحاكم

ص: 184

أصحاب مزودات البريد الالكتروني الأصليون

بالنسبة لأصحاب مزودات البريد الإلكتروني الأصليين والذين يقدمون خدمات البريد الإلكتروني فينطبق عليهن بعض من المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها لدى أصحاب العالم الافتراضي ولكن في غير الموارد المذكورة يجب أن يتم الانتباه للمبادئ الأخلاقية التالية:

أصحاب مزودات البريد الإلكتروني الأصليون

1. بما أنهم بإعلاناتهم سيحصلون على تكاليف الإيميل ومن خلاله يكسبون أجرهم، لذلك يجب أن تكون كل طرق استخدام المعلومات في البريد الإلكتروني حصراً من أجل الأمور التجارية، كما أنها يجب أن تكون شفافة وواضحة بالنسبة للمستفيد وفقط في الحدود المسموح بها من عنوان الايميل ومحتوى البريد الإلكتروني للمستخدم.

2. احترام الكرامة الإنسانية للمستخدمين والتعامل معهم بكل نزاهة في أي وقت كان.

3. الحياد في التعامل والإنصاف في التعامل مع المستخدمين للبريد الإلكتروني وإذا كان هنالك مجال معين للخدمات المقدمة يجب ألا يكون هنالك أي تفريق عنصري أو عرقي أو جنسي أو ديني ... وإذا كان العمل على المستوى العالمي يجب ألا يكون هنالك مثل هذا التفريق.

4. يجب ألا تستخدم الإعلانات لتوجيه الإهانة لأفراد أو أقوام أو تجريح مقدسات الآخرين بأي شكل من الأشكال وأن يبتعدوا عن أي نوع من الإعلانات التي تخالف الأخلاق والأعراف.

5. يجب أن يجهزوا تدابير للشكوى في حال قيام أحد المستخدمين بالاستفادة من الايميل بأمور تخالف الأخلاق والتصرف المناسب معهم، وفي حال التكرار يجب أن يتم حذف حسابه بالكامل.

أصحاب المزودات يجب ألا:

ص: 185

1. يقوموا بحذف أو تغيير أي معلومة متعلقة بالمستخدمين بدون إذن منهم أو من أجل إغرائهم ليتم تقديمها لهم.

مستخدمو البريد الإلكتروني

لقد تم الحديث مسبقاً عن المبادئ الأخلاقية التي يجب مراعاتها من قبل مستخدمي العالم الافتراضي بشكل عام ولكن بالنسبة لمستخدمي البريد الإلكتروني يجب مراعاة الأمور التالية:

يجب على مستخدمي البريد الإلكتروني :

1. أن يحترموا خصوصيات المستخدمين الآخرين وأن يتجنبوا إرسال الرسائل الإلكترونية التي تخدش حقوق الآخرين وكرامتهم.

2. حول إرسال رسائل البريد الإلكتروني الشامل لمختلف المستخدمين هذا الحق محفوظ للمستقبل ويمكنه من خلال قائمة المراسلات إخراجها بشكل سهل. لذلك يجب أن يكون هذا الحق للمستقبل محفوظاً في الإيميلات المرسلة، مع وجود إمكانية حذف اسمه من قائمة الايميلات المرسلة بشكل بسيط.

3. إذا كان المستقبل لا يرغب باستقبال بريد إلكتروني من شخص آخر، يجب إعلامه ويجب على المرسل ألا يرسل له مرة أخرى.

4. عند إرسال البريد الإلكتروني يجب الانتباه لهذه الملاحظة وذلك لأن بعض الأفراد لا يرغبون أن يظهر اسمهم في البريد الإلكتروني المرسل بطريقة الإرسال الجماعي(forward) لذلك يجب أن يحذف اسم من لا يرغبون بذلك من الرسائل الإلكترونية المرسلة بهذه الطريقة.

5. يجب الانتباه إلى أن كل المبادئ الأخلاقية العامة تطبق في المواضيع المرسلة لذلك فإن كل هذه المبادئ مثل النزاهة واجتناب الغيبة والتهمة والافتراء والاستهزاء بالآخرين وتوجيه الإهانات والإضرار بهم يطبق عليها

ص: 186

نفس المبادئ وفي هذا حق للناس أيضاً وفي حال مخالفة هذه القوانين يجب التعويض لهم.

6. يجب الانتباه إلى عدم إرسال الفيروسات إلى البريد الالكتروني للآخرين.

7. احترام القوانين الاجتماعية لديهم وعدم التصرف بما يخالف هذه القوانين.

يجب على مستخدمي البريد الإلكتروني ألا:

1. أن يفتحوا البريد الإلكتروني باسم شخص آخر وأن يستخدموا اسمه بإرسال واستقبال الرسائل .

2. أن يحاولوا الحصول على كلمات سر الحسابات الأخرى أو بطريقة ما أن يحاولوا الوصول إلى حساب أشخاص آخرين وفي حال حدوث ذلك صدفة، واستطاعوا الوصول إلى محتويات البريد الإلكتروني للآخرين، يجب ألا يطلع أحد على هذا المحتوي أو يجعلهم الفضول يفعلون ذلك .

3. ألا يرسلوا البريد الإلكتروني والذي يؤدي إلى إيجاد العداوة بين الأشخاص أو يجعل الآخرين يكرهون بعضهم.

4. يجب ألا يستخدموا البريد الإلكتروني لنقل المواضيع المحرمة.

الحكومات

بالإضافة إلى المبادئ الأخلاقية المذكورة عموماً في الفضاء الإلكتروني يجب على الدول :

1. أن تقوم بكل ما بوسعها لاحترام حرية الأفراد في إرسال واستقبال الرسائل الإلكترونية.

2. يجب اتخاذ الإجراءات القانونية للحفاظ على الأشخاص وبما يتناسب من أذيتهم بدون الدخول إلى خصوصيات المستخدمين وذلك لأن محتوى

ص: 187

بعض الرسائل الإلكترونية قد يكون مسيئاً وخاصة بالنسبة للأطفال.

3. يجب أن يكون هنالك تأمين السلامة والأمن و تبادل للمعلومات مع أصحاب المزودات وذلك في حال الاستفادة من البريد الإلكتروني من قبل المستخدمين بجريمة أو جناية أو قتل أو أفعال تنافي العفة أو إشاعة الفحشاء أو التشجيع على المواد المخدرة أو السرقة أو الكذب والاختلاس .

4. السعي من أجل حفظ خصوصية الأفراد والمعلومات السرية عنهم في البريد الإلكتروني، فلا يجب الحصول على المعلومات منهم تحت الضغط، إلا إذا كان هنالك ضرر عام، أو هنالك خطر على حياة فرد من أفراد المجتمع والذي يحتاج إلى حكم المرجع القضائي للسماح بالحصول على هذه المعلومات.

5. حفظ الحقوق المادية والمعنوية للأفراد وحقيق الأمن والراحة لهم في تبادل الرسائل الإلكترونية ووضع خطة للوصول إلى شكايات المستخدمين في هذا المجال من أجل إحقاق الحق والقيام بالإجراءات المناسبة.

يجب على الحكومة ألا تقوم بما يلي:

1. ألا تضع معارضيها تحت الضغط من خلال إرسال رسائل إلكترونية لهم.

2. يجب ألا يكون هنالك ضغط على أصحاب المزودات من أجل معرفة الآراء الفردية من خلال الحسابات حقيقية وحقوقية .

8. المبادئ الأخلاقية الخاصة من أجل التعامل مع الفضاء الإلكتروني المتعدد (مثل الشبكات الاجتماعية)

أصحاب المصلحة المعنيين بهذا الأمر يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام رئيسية :

أصحاب ومنتجو الشبكات الاجتماعية -2 - المستخدمون -3 الدول

المبادئ الأخلاقية لصاحبي ومنتجي الشبكات الإجتماعية:

ص: 188

يجب على صاحبي ومنتجي الشبكات الاجتماعية أن:

1. أن يتذكروا بشكل عام إن المبادئ الأخلاقية في الشبكات الاجتماعية، هي نفسها المبادئ الأخلاقية في الحياة الواقعية بشكل كامل.

2. أن يمنعوا قدر الإمكان إطلاق ونشر وإعادة نشر الأخبار الكاذبة.

3. السعي قدر المستطاع من أجل الارتقاء بالموقع وإزالة المشكلات الفنية والتقنية فيه من أجل حفظ المعلومات الشخصية والخصوصية للمستخدمين.

4. يجب أن يتخذوا الإجراءات المناسبة في حال وجود شكاوى من قبل الدولة أو المستخدمين الآخرين بما يخل الأمن والراحة في فضاء الشبكات الاجتماعية والمجتمع.

5. السعي قدر المستطاع من أجل الارتقاء بالموقع وإزالة المشكلات الفنية والتقنية من لتحقيق الأمن والراحة للمستخدمين.

6. ان تكون الإعدادات آمنة لكي يتكن المستخدمون استخدام هويتهم الحقيقية.

7. حذف الحسابات الشخصية الوهمية أو الغير معتبرة.

8. أن يكون هنالك إجراءات خاصة لحماية الهوية الشخصية للأفراد الواقعيين والمشاهير الفنيين والسياسيين والرياضيين و..

9. مراعاة القوانين والاتفاقات الدولية بما يناسب الإسلام حول الحريات السياسي والمدنية وذلك بما يتعلق بتقديم الخدمات .

10. في حال تغيير محتوى الاتفاق مع أصحاب مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، يجب إعلام المستخدمين بشكل شفاف ومباشرة.

ص: 189

11. في حال تم استخدام الحساب من قبل المستخدمين في الشبكات الاجتماعية من أجل السرقة أو القتل أو الاتهام أو إشاعة الفحشاء أو إيجاد التفرقة أو العداوة، يجب التعامل معهم بشكل مناسب وفي حال اضطر الأمر يجب حذف حسابهم.

يجب ألا يقوم أصحاب ومنتجو شبكات التواصل الاجتماعي بما يلي :

1. وضع المعلومات الشخصية والخاصة للمستخدمين مثل اسم الحساب أو كلمة السر بيد الأفراد والمستخدمين الآخرين.

2. لا يجوز تحت أي شرط من الشروط ، استخدام المعلومات الخاصة والسرية لأغراض شخصية، وذلك من أجل استخراج البيانات أو رصد الرسائل الخاصة أو تخزين المعلومات.

3. أن يستخدم الحساب كمنبع للمعلومات من أجل كشف جرم، أو كشف مكان ما، قبول أو رفض ادعاء ما وكذلك إفشاء المعلومات الشخصية والمحرمة مع الدولة أو المسؤولين المحليين، إلا في حالات خاصة محددة تحت إشراف السلطات الرقابية.

4. يجب عدم التفريق بين المستخدمين من حيث الدين والعرق والحكومات والجماعات من خلال تقديم الخدمات.

المستخدمون:

يجب على مستخدمي الشبكات الاجتماعية:

1. أن يتذكروا بشكل عام إن المبادئ الأخلاقية في الشبكات الاجتماعية، هي نفسها المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. يجب الانتباه إلى أن الأنترنت له ذاكرة طويلة وحذف المعلومات عن حساباتهم لا تعني بالضرورة حذف كل معلوماتهم الشخصية بشكل كامل،

ص: 190

ولذلك يجب عليهم أن يكونوا على دراية كافية بهذا الموضوع.

3. يجب الاستفادة من كل الإعدادات الموجودة في الشبكات الاجتماعية من أجل حفظ المعلومات الشخصية والسرية (مثل :Privacy Check-up)

4. حجب الأفراد الذين يقلقون راحتهم ويفقدونهم الأمان.

5. بتطبيق مبادئ الإعدادات الأمنية في الشبكات الاجتماعية سيساهم ذلك في تأمين الراحة والأمن للمستخدمين.

6. يجب مراعاة حقوق النشر في نشر وإعادة نشر وصياغة المحتوى.

7. التصرف بمسؤولية في مقابل الأذية الناجمة عن نشر وإعادة نشر المعلومات.

8. يجب تجنب إهانة الآخرين في التعبير عن وجهات نظرهم فيما يتعلق بمضمون المستخدمين.

9. أن يكونوا على اطلاع كامل بمضمون ما يقومون بإعادة نشره.

10. أن يستخدموا المعلومات الحقيقية مثل (الاسم البريد الإلكتروني، سنة الميلاد، اسم البلد و ...) في الدخول إلى حساباتهم. ويجب الابتعاد عن اختيار الهوية المستعارة وغير الحقيقية في استخدامهم للحسابات.

11. عدم التعامل مع المستخدمين مجهولي الهوية

12 . اجتناب إيجاد حسابات شخصية وحسابات لمستخدمين آخرين .

13. استخدام الشخصية الواقعية عند القيام بأنشطة اقتصادية أو تجارية في الشبكات الاجتماعية.

14. تجنب إنتاج أو نشر أو إعادة نشر أي محتوى مثل ( نص، فيلم، صوت، صورة) فيه إهانة للأديان وخاصة الأديان السماوية.

ص: 191

15. تجنب إنتاج أو نشر أو إعادة نشر أي محتوى مثل (نص، فيلم، صوت، صورة) فيه منافاة للعفة والأخلاق العمومية مثل إشاعة الفاحشة والانحرافات الجنسية.

16. أن يكونوا مسؤولين وصادقين و محترمين في إظهار ونشر وإعادة نشر آرائهم ونظراتهم

يجب على مستخدمي الشبكات الاجتماعية ألا يقوموا بما يلي :

1. السعي قدر المستطاع عدم وضع معلوماتهم الشخصية والسرية وصورهم الشخصية وأفلامهم الخصوصية على الشبكات الاجتماعية

2. عدم إفشاء المعلومات الشخصية والسرية للأصدقاء الآخرين والأعضاء في الشبكات الاجتماعية.

3. يجب ألا يقوموا بنشر معلومات خاصة أو عامة متعلقة بالمستخدمين الآخرين في خارج الشبكات الاجتماعية في داخل الشبكات الاجتماعية.

4. عدم السعي للوصول إلى المعلومات الشخصية والسرية للمستخدمين الآخرين

5. ألا يستخدموا بعض الوسائل مثل : طلب الصداقة أو إرسال رسالة خاصة أو النكز أو وضع الإعجاب بما يخلق إزعاجاً للآخرين

6. عدم نشر محتوى (مثل نص، فيلم، صور) من أجل تهديد أو تخويف المستخدمين الآخرين أو أفراد خارج الشبكات الاجتماعية.

7. عدم نشر أو توزيع أو تبادل أو إرسال أي نوع من البرامج والتي تساهم في الإخلال بالأمن أو إقلاق الراحة للمستخدمين الآخرين وخاصة في الشبكات الاجتماعية.

ص: 192

8. عدم نشر أو إعادة نشر أو إطلاق المحتوى الكاذب أو المخالف للواقع أو الشائعات في هذه الشبكات.

9. عدم استخدام هذه الشبكات من أجل القيام بعمليات إجرامية مثل السرقة أو الابتزاز أو القتل ..... في المجتمع.

الحكومات

المبادئ الأخلاقية للدول في الشبكات الاجتماعية هي نفسها المبادئ الأخلاقية العامة في الفضاء الافتراضي

المصادر المستخدمة في البحث بشكل مباشر أوغير مباشر:

ابراهيمي، ياسر؛ نيستاني، زهرا (إعداد وترجمة) (2012م) منشورهاي اخلاقي در عرصه فن آوري اطلاعات و ارتباطات؛ قم، دانشگاه قم؛ طهران: شوراي عالي اطلاع رساني، دبيرخانه امامي، سيدمحمد حسين (2013م) بايسته ها و نبایسته هاي اخلاقي: (سبک اخلاق اسلامي در فضاي مجازي)؛ اصفهان: نشر دارخوین

آيت اللهي، حميدرضا (2004م) «تاثير بستر ديني در بيشرفت علم» در مجله بژوهش هاي فلسفي كلامي، فصلنامه دانشکاه قم، سال چهارم شماره اول، بهار 2004م، صص 75-65

بارتازيان كامبيز (2009م) نگاهي به تاثیرات اینترنت و فضاي مجازي بر روند دينداري ویرایش داود میرزایی مقدم؛ تهیه و تنظیم موسسه دارالمعارف؛ قم: دارالمعارف.

بالمر، مايكل (2006م) مسائل اخلاقي، ترجمه علي رضا آل بویه، قم: بژوهشكاه علوم وفرهنك اسلامي.

بايا علي (2008م) فناوري ، فرهنك واخلاق؛ طهران: بژوهشگاه فرهنك ، هنر و ارتباطات

ترلو، كريسبين؛ لنکل، لورا؛ تومیک، آلیس (2009م) ارتباطات کامبیوتر- واسط (CMC): تعاملات اجتماعی و اینترنت؛ ترجمه سروناز تربت، طهران: جامعه شناسان.

ثقه الاسلامي، عليرضا (2009م) چالشهاي اخلاقي در عصر اطلاعات : جستارهايي در اخلاق اطلاعات؛ طهران: چابار همارا.

ثقه الاسلامي، عليرضا (ویراستار و ترجمه) (2012م) چکیده مقالات؛ قم: دانشکاه قم ؛ طهران: شوراي عالي اطلاع رساني،

جانسون، دبورا جي؛ ميلر كيث دبليو (2013م) اخلاق رایانه: تجزيه و تحليل فناوري اطلاعات مترجمان ایمان آقابابایي، عليرضا ثقه الاسلامي و بيمان لولوئیان ؛ به سفارش دبیرخانه شوراي عالي

ص: 193

اطلاع رسان،: قم: دانشگاه قم.

جعفري، ن؛ اعتمادي، ع؛ عاصمي، ع (2011م) خانواده و آسیب رسانه اي: رايانه و اینترنت؛ اصفهان: آموخته.

جمعي از نویسندگان (2012م) مسائل اخلاق فن آوري اطلاعات در روایات اسلامی؛ قم: جوادي آملي (2005م) حق و تکلیف در اسلام، قم: مرکز نشر اسراء

جوادي، محسن (2009م) بژوهشنامه اخلاق وفناوري اطلاعات؛ طهران: وزارت فرهنك و ارشاد اسلامی بژوهشگاه فرهنك، هنر و ارتباطات.

جهانکیر، عيسي (2010م) شیعه در فضاي سايبر: رويكردي اجتماعي؛ قم: موسسه آموزشي وبژوهشي امام خميني (ره)، مركز دار.

چاوشي روح اله (2013م) به دنياي مجازي خوش آمدید؛ قم: دانشگاه قم؛ طهران: شوراي عالي اطلاع رساني، دبيرخانه.

حبیبیان روح الله (2013م) کلیک های مثبت و منفي، مشهد: آستان قدس رضوي.

حسین زاده ثاني، نازیلا (2011م) دختران، اینترنت (والدین- مدرسه – جامعه)؛ مشهد: ضریح آفتاب.

حسيني، سيدمحمد (2013م) تلفن همراه، آسیب ها و راه حل ها، قم: عطر ياس.

خاني جزني، جمال (2006م) اخلاق و فناوری اطلاعات؛ با همکاري مركز تحقيقات مخابرات ایران؛ طهران: بقعه.

خاني جزني، جمال (2009م ) آداب فضاي مجازي؛ طهران: سازمان پژوهشهاي علمي و صنعتی ایران.

دربیکی، بابک (ویراستار) (2000م) چالشهاي حقوقي، اخلاقي واجتماعي فضاي رايانه اي؛ کروه مترجمان احمد حمزه لوئي... وديكران؛ طهران: خانه کتاب

دريس، ليلا (2011م) فرهنك بديده ها: ماهواره، اینترنت، تلفن همراه؛ با همکاری اداره آموزش وبرورش شهرستان نجف آباد؛ نجف آباد: انصار الامام المنتظر (عج)

دهقاني بور، راحله (2012م) حكم فقهي وحقوقي ارتباط زن و مرد نامحرم در فضاي مجازي؛ طهران: بليكان.

رجبي، اكرم (2012م) نقض حریم خصوصي در فضاي سايبري؛ طهران: آرمان رشد.

رشادیان، خلیل (2012م) دانش نامه اخلاق اطلاعاتي و امنيتي؛ مشهد: سبحان توس

ریچلر، جیمز (2008م) فلسفه اخلاق ترجمه آرش اخكري، طهران: دار حکمت

رینالدر، جورج دابليو (2013م) اصول اخلاقي در فناوري اطلاعات (اخلاق حرفه اي) ترجمه میثم محمدبور، ویراست سوم، بابل: علوم رایانه

ص: 194

سبحاني، جعفر (2000م) مدخل مسائل جدید در علم کلام، قم: موسسه امام صادق (ع)

سبحاني، جعفر (2002م) حسن وقبح عقلي يا بايه هاي اخلاق جاودان، قم: موسسه امام صادق (ع)

سيد سعادتي، فهيمه (2012م) هنجارهاي اخلاق اسلامي در حریم خصوصي فضاي مجازي؛ ]به سفارش[ دانشکاه هنر اسلامي تبريز .؛ تبريز : فروغ آزادي.

شبيري، فاطمه (2008م) راهنماي والدين در استفاده فرزندان از رایانه؛

شبيري، فاطمه (2008م) رایانه در خانه؛ طهران: سبيدبرك.

شعاع كاظمي، مهرانكيز ؛ مومني جاويد، مهرآور (2012م) آسيبهاي اجتماعي (نوبديد) با تاکید بر تئوري هاي زير بنايي و راهکارهاي مقابله اي، طهران : آواي نور.

شکرخواه، يونس (2011م) (سرویراستار) فضاي مجازي ملاحظات اخلاقي ، حقوقي واجتماعي؛ برگزار کننده موسسه مطالعات آمريکاي شمالي و اروباي دانشکاه طهران، مرکز بژوهش سياستهاي فضاي مجازي دانشکاه طهران؛ طهران: دانشکاه طهران، موسسه دار.

شکوفیان، شهرام (2012م) اخلاق حرفهراي (فناوري اطلاعات): طهران وينا.

شهرياري، حميد (2009م) اخلاق فناوري اطلاعات، قم: دانشگاه قم.

صفر بيكي، حمزه (2013م) از مجاز تا واقعیت، طهران: ایران فرهنگ

طباطبايي، محمد حسین (لاتا) فرازهایی از اسلام، طهران: جهان آرا

الطوسي، نصیر الدین (1987م) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، قم: دار شكوري

فرامرز قرا ملكي، احد؛ درخشاني، لعبت؛ رضايي شريف آبادي، سعيد (2011م) اخلاق حرفه اي در کتابداري و اطلاع رساني طهران: سازمان مطالعه و تدوين كتب علوم انساني.

فرانکنا، ویليم كي (2006م) فلسفه اخلاق، ترجمه هادي صادقي، چ2 ، قم: كتاب طه.

كاتب، مجتبي (2013م) اصول و مباني اخلاق حرفه اي، طهران: وينا.

كاظمي، احسان و دیگران (2013م) زندگي در فضاي مجازي: جنبه هاي رواني/ اجتماعي اینترنت؛ اصفهان: دانشگاه آزاد اسلامی، واحد خوراسکان، معاونت بژوهشي.

كرم اللهي، نعمت الله (2011م) اینترنت و دین داري، قم :

كوبر، ال (2009م) اینترنت و کمین اخلاقي : نیمه بنهان قدرت ترجمه حميد مرتضوي،

لنک ،کریستین؛ هوب، نیلز؛ اندورنو، روبرتو (ویراستاران) (2012م) اخلاق وحقوق مالكيت فكري (مباحث جاري در حوزه سیاست گذاري علم و تکنولوژي) ترجمه ارمغان عبيري، طهران : میزان مشكيني، علي (2004م) درس هايي از اخلاق ترجمه حسین استاد ولي، قم: دار الهدي مصباح مجتبي (2005م) بنیاد اخلاق، قم: دار موسسه امام خميني (ره)

ص: 195

مصباح فرف عليرضا (2011م) آداب استفاده از تلفن همراه و رایانه؛ یزد: تیک.

مطهري، مرتضي (1983م) فلسفه اخلاق، قم: بنیاد 15 خرداد

مطهري، مرتضي (2003م) عدل الهي، طهران: دار صدرا

ملكان، ليلا (2010م) مسایل اخلاقي واجتماعي در فناوري اطلاعات طهران: اتحاد: آتي نکر منطقي، مرتضي (2009م) چت رومهاي ايراني، جوانان واولياء؛ طهران: جهاد دانشگاهي، واحد طهران.

ميرباقري، سيدمحمدمهدي (2013م) نكاهي بنيادين به نسبت اخلاق و فن آوري اطلاعات؛ قم نهاد نمايندگي مقام معظم رهبري در دانشکاهها، دفتر نشر معارف

میكاييلي جعفر (2011م) دنياي مجازي : بررسي آثار مخرب اینترنت؛ به سفارش معاونت فرهنکي سازمان فرهنکي هنري شهرداري طهران؛ طهران: موسسه فرهنگي هنري شهرداري طهران؛ موسسه نشر شهر

ميكاكيزا، جوزف (2013م) مسایل اخلاقي و اجتماعی در عصر اطلاعات

هاني، سيدحسن (2012م) اخلاق و فناوري اطلاعات (7) پنج کتاب در پنج مقاله؛ قم: دانشگاه قم وشوراي عالي اطلاع رساني، دبيرخانه .

Code of Ethics for Virtual Space

A Bloggers' Code of Ethics, Society of Professional Journalists Code of Ethics, http://www.spj.org/ethicscode.asp

ACS (Australian Computer Society) Code of Ethics, https://www.acs.org.au/- data/assets/pdf_file/00057835//Code-of-Ethics.pdf.

American Institute for Constructors, the AIC Code of Ethics, http://www. professionalconstructor.org/?page=Bylaws

API Code of Ethics, The Australian Property Institute, http://www.api.org.au/ assets/media_library/000218/000//original.pdf?1315789593,

Astromech Company Ethics for Web Design.

CAI Code of Ethics, http://courses.ncsu.edu:8020/classes-a/computer_ethics/

Can you improve your code of ethics? Craig Branson, American Society of Newspaper Editors, http://www.asne.org/index.htm

Chat Etiquette, By Jody-Ann Beelby http://im.about.com/od/acronyms/a/ acronyms.htm

Christian Internet Code of Ethics, http://www.naznet.com/index

ص: 196

CIPS Code of Ethics and Professional Code of Conduct (Canada's Association of Information Technology (IT) Professionals), www.cips.ca/ethics.

Code of Ethics and Conduct for TLA (The Lost Art), By Wingnut Jones in The Lost Souls TLA, http://the-lost-art.com/code-of-ethics/

Code of Ethics and Professional Conduct, Project Management Institute.

Code of Ethics for Bloggers, Social Media and Content Creators, http://mor10. com/code-of-ethics-for-bloggers-social-media-and-content-creators/

Code of Ethics for Web Design, Julie Denise Underwood, 2008.

Code of Ethics of The University of Southern California, March 28, 2004, https:// about.usc.edu/files/201107//USC_Code_of_Ethics_2004.pdf

Computer Ethics Policy, Georgia State University, March 6, 1995, http://courses. cs.vt.edu/professionalism/WorldCodes/GSU.html

Email Ethics and Good Practice- A Sample Policy, Lynmar Solutions Limited, Lynmar Computer Solution, www.lynmarsolutions.co.uk

Email Ethics, Prof. Simon Rogerson, Febuary 2000, Centre for Computing and Social Responsibility, De Montfort University, http://www.ccsr.cse.dmu.ac.uk/esources/general/ethicol/Ecv10nol.pdf

Email Etiquette Ethics, Nelly Bava, http://www.citehr.com/40817-email- etiquette-ethics.htmlixzz33ZLFrO8p

Ethical Code of the Bulgarian Media, National Council for Journalistic Ethics, November 2004, http://ethicnet.uta.fi/bulgaria/ethical_code_of_the_bulgarian_ media

Ethical Framework for Web Design, RJM Web Design, http://www. rjmwebdesign.com/web-design-ethics.php.

Ethics Web Design, http://www.dcnicholls.com/code.html

Ethics, E-mail, and the Counselling Profession, By Dan L. Mitchell and Lawrence J. Murphy, Therapy Online, www.therapyonline.ca

Excite Media's Code of Ethics, Web Designers | Graphic Design | Search Engine Marketing Brisbane, http://www.excitemedia.com.au/Code-of-Ethics-pg14844. html

ص: 197

Immediate Media Co. Website Code of Conduct, October 2013, http://www. immediate.co.uk/website-code-of-conduct/

Internet E-mail Code of Conduct Policy, February 2001.

Internet Code of Ethics, Public Library Colchester http://lovemylibrary.ca/ policies/internet-code-of-ethics/

On Codes of Ethics for Web Design, James K. Harris, Georgia Southern University

Professional Ethics for Freelance Web Design Jobs, CV Tips, http://www.cvtips. com/career-success/professional-ethics-for-freelance-web-design-jobs.html

Search Engine Optimization Code of Ethics, Grimnes Associates, of Bruce Clay LLC, http://www.grimnes.com/codeofethics.aspx

Simon Rogerson, Ben Fairweather, Steve McRobb, New Code of Ethics, Febuary 2001, http://www.ccsr.cse.dmu.ac.uk

The Code of Ethics of the Albanian Media Association of Professional Journalists of Albania, 2006.. http://ethicnet.uta.fi/country/albania

The Ethics of Email Amongst Colleagues: A Manifesto, March 24, 2012 by Mike Langlois, LICSW 12 Comments

The Polish Journalists' Association (SDP), Media Ethics Charter. Wes Morgan, Network Computing Policy, http://ethicnet.uta.fi/poland/media_ethics_charter.

The Power of Email, The Art of Successful Efficient Office Communication.

The Site Code of Ethics, Society for Incentive Travel Excellence, http://www. siteglobal.com/p/cm/ld/fid=25

The Visualscope LLC Code of Ethics.

The Website Ethics Code of Ethics, www.websiteethics.org/coe.shtml

Using a Code of Ethics, Texas AM University NSPE's Board of Ethical Review Cases, Michael Pritchard's Applied Ethics Cases University of Waterloo American Anthropological Association St. Louis University Santa Clara University The Funeral Ethics Association Online Ethics Center.

ص: 198

المحور الثاني

التراث النقلي

« وهو التراث المعتمد على القرآن والعترة »

ص: 199

البعد القرآني للسلوك الأخلاقي عند أئمة أهل البيت علیهم السّلام الإمام الحسن (أنموذجاً)

د. حسين حمزة شهيد(1)

مقدمة

يُعد مبحث الأخلاق من المباحث المهمة التي اهتم بدراستها المفكرون من علماء وفلاسفة، لما يترتب على الفعل أو السلوك الخلقي من آثار خيرة وشريرة في حياة الفرد والمجتمع، فانحراف الإنسان عن سلوكه الصحيح يفقده وظيفته بوصفه خليفة الله الأرض، تلك الوظيفة التي تحتم عليه الحفاظ عليها من خلال الالتزام بالعبادة والسلوك الأخلاقي الحميد، وهو أمرٌ يؤذن بخطورة واضحة تُهدد المجتمع الإنساني.

ومن هنا حاول الباحث في هذه الدراسة أن يُبين الأخلاق عند الإمام الثاني من أئمة الهدى وهو الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام) ، والكشف عن الأصل القرآني لها، كونه الإمام الوحيد من بين الأئمة الذي ما زلنا نحن كباحثين مقصرين بأقلامنا في حقه، ويحاول دراسة هذا المبحث دراسة معاصرة بإضفاء مصطلحات أخلاقية معاصرة، كالأخلاق النظرية والعملية، والكشف عن مدلولاتها عند الإمام الحسن علیه السّلام.

ص: 200


1- أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة الكوفة، كلية الآداب قسم الفلسفة ، ارجع " الباحث " الاهتمام بالمبحث الأخلاقي، لما يترتب على الفعل أو السلوك الخلقي من آثار خيرة وشريرة في حياة الفرد والمجتمع، فانحراف الإنسان عن سلوكه الصحيح يفقده وظيفته بوصفه خليفة الله في الأرض، تلك الوظيفة التي تحتم عليه الحفاظ عليها من خلال الالتزام بالعبادة والسلوك الأخلاقي الحميد، وقد حاول في بحثه، أن يُبين الأخلاق عند الإمام الثاني من أئمة الهدى وهو الإمام (الحسن المجتبى علیه السّلام) ، لهذا قسم بحثة إلى الأخلاق في القرآن الكريم ، و الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام وخاتمة المحرر

هذا الجانب من شخصية الإمام السبط علیه السّلام له حين نتناوله بالدراسة لم نكن لنقصد بحال أن ألائمة الهداة عليهم السلام يتباينون في هذا الجانب أو سواه من عناصر الشخصية الإسلامية المثلى، فهم سواء في ذلك، وحين نسلط الضوء على الجانب الأخلاقي من شخصية الإمام الحسن الله علیه السّلام فإنما نعني بذلك عرض نماذج من أخلاقه وأسلوب تعامله مع الناس وتماشياً مع خطتنا هذه نذكر طرفا من أخلاقه المثلى، لكي تكون مثلا يُحتذى ومنهجا يُقتدى.

وقد انقسم البحث على مبحثين وخاتمة، تناول الباحث في المبحث الأول تحديد القرآن الكريم للسلوك الأخلاقي من خلال أشارته لعدد من القيم والفضائل الأخلاقية.

أما المبحث الثاني فقد بينتُ فيه الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام من خلال تحديده لعدد من المفاهيم والفضائل الأخلاقية وسلوكه الأخلاقي مع المجتمع ، والذي جمع فيه بين الجانبين النظري والعملي، وكانت مصداقاً للمفاهيم الأخلاقية التي دعا إليها القرآن الكريم.

أما الخاتمة فقد تضمنت أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.

المبحث الأول: الأخلاق في القرآن الكريم

يرمي الباحث في هذا المطلب إلى ذكر بعض القواعد والتعاليم الأخلاقية التي دعا إليها القرآن الكريم، بوصفهما الرافد أو المنبع الذي استقى منه أئمة أهل البيت علیهم السّلام سلوكهم الأخلاقي، وتمثلت تعاليم الإسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأخذ العرب يتدبرون هذه التعاليم وما اشتملت عليه من آداب وتشريع، فاتسعت مداركهم وتفتحت عقولهم على آفاق جديدة من العلم والمعرفة(1).

والإسلام في حقيقته عقيدة وشريعة وعبادات وأخلاق، وهذا يعني أن الأخلاق الإسلامية نابعة من الدين وهي جزء منه، وهي الثمرة الحقيقية للعقيدة والعبادة،

ص: 201


1- يُنظر : زقزوق، د. محمود حمدين، مقدمة في علم الأخلاق، ط3، دار القلم ، بيروت، 1983، ص 56

والتدين الحقيقي يورث الأخلاق القويمة السديدة ، ولا دين بلا خلق(1). وقد تجسد هذا المعنى في قول الرسول صلّی الله علیه و آله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (2)، فالغاية الأسمى للدين قد حصرها الرسول صلّی الله علیه و آله واقصرها على الأخلاق الصالحة الحميدة.

والقرآن الكريم أراد مجابهة حياة الفرد وتنظيمها على وفق ما يخدم الفرد والمجتمع معاً فقدم للإنسانية صورة النشاط الفردي الذي ينبغي أن يسير عليه ويحقق متطلباته الأساسية بحكمة واعتدال في حال توازن تام بين رغبات النفس ورغبات الجسد انطلاقاً الحاجة الطبيعية لكل منها ، وعدم إهمال أحدهما من أجل الآخر(3).

وفي مجال علم الأخلاق يعالج القرآن الكريم المشكلات التي يعالجها الفلاسفة عادةً، وهي ما في الأخلاق من واجب أو إلزام ومشكلة الخير والشر، والفضائل والرذائل، وحرية الإنسان، ويحاول الباحث أن يقف على بعض التعاليم الأخلاقية التي دعا إليها القرآن الكريم التي كان مصداقها العملي هم أئمة أهل البيت علیهم السّلام .

الفضائل والرذائل:

أول المسائل الأخلاقية التي دعا إليها الباري (عز وجل) في كتابه المجيد هو الالتزام بالفضائل والابتعاد عن الرذائل ، جاعلاً سعادة الدنيا والآخرة جزاء من التزم

بالفضائل، والشقاء والعذاب في الدارين جزاء من لم يلتزم بها، يقول تعالى ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (4)، وقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (5).

كما أشار الله تعالى إلى العمل الصالح ودوره في فلاح الإنسان، ((وَالْعَصْرِ، إِنَّ

ص: 202


1- يُنظر : الشرقاوي، د. محمد عبد الله الفكر الأخلاقي، دار الجيل، بيروت، القاهرة، 1990، ص111
2- رواه مالك
3- موسی، محمد یوسف، القرآن والفلسفة، القاهرة 1958، ص 22
4- سورة النحل، اية 90
5- النحل ، 97

الإنسان لَفِي خُسْرِ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (1).

كما أشار القرآن إلى الفعل الخلقي ومدى علاقته بالخير أو الشر، قوله تعالى(إنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً، إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلا الْمُصَلِّينَ) (2).

ونجد القرآن الكريم يتحدث عن طبائع الإنسان الأخلاقية، ومنها قوله تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(3).

2) الأخلاق والنفس الإنسانية:

الإسلام كسائر رسالات السماء يعتمد في إصلاحه أخلاق الفرد على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء، لان النفس هي بمثابة الجوهر الروحي من الإنسان بخلاف الجسد المادي الفاني، والذي هو بمثابة أداة للتعبير عن السلوك الإنساني، فكل ما للإنسان من أدراك بأقسامه من بصر وشم وسمع وذوق ولمس، هو أدراك خاص بالجوهر الروحاني أو النفس(4).

من هنا جاء اهتمام المفكرين من علماء وفلاسفة بهذا العنصر من الإنسان، وقد سبقهم في ذلك القرآن الكريم من خلال تمييزه بين الفضائل والرذائل التي تكتسبها النفس الإنسانية.

وحسبنا هنا أن نبين صفات السلوك الإنساني السوي كما رسمها القرآن الكريم، التي منها :

الاعتدال أو عدم الإفراط والمغالاة في الأفعال والانفعالات، قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقكَ وَلا تَبْسُطها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (5).

حُسن الخلق، وهو التسامي في السلوك الإنساني، فلا تنحدر النفس في سلوكها

ص: 203


1- العصر ، آية 1-3
2- المعارج ، 19-21
3- آل عمران 14
4- يُنظر : العقاد / عباس محمود الإنسان في القرآن الكريم / دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986، ج 3، ص 270
5- الاسراء 29

حين يكون عنوانها حسن الخلق وحين تكون صفاتها الدماثة واللين والعطف قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (1).

التواضع، وهي الصفة التي تشير إلى اعتراف الإنسان بضعفه أمام خالقه، قوله تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خَاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (2).

الصدق، قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (3) .

الأمانة، قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَميعاً بصيراً) (4).

الحلم والرفق، وهما من صفات الإحسان والخير (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (5) وقوله (الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (6).

المحبة، وفي مقدمتها حب الله تعالى إذ يعدُّ أقدس وأنبل معاني الحب، ولهذا الحب مظاهر كثيرة ، منها الإحسان والصبر والتوكل والتطهر وغيرها، وهذا ما تضمنته مجموعة من الآيات، قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (7)، وقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسطينَ) (8) ، وقوله ( الله يحب المتطهرين) (9).

ص: 204


1- القلم آية 4
2- الفرقان، 63
3- التوبة، 119
4- النساء، 58
5- الأعراف، 199
6- آل عمران، 134
7- المائدة ، 13
8- المائدة،42
9- آل عمران 159

الجود والكرم، وهي متضمنة في معاني الإنفاق، قوله تعالى (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (1) وقوله (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (2) .

الأمانة، قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاس أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعمَّا يَعِظُكُمْ به إنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بصيراً) (3).

كما حدد القرآن الكريم مجموعة من الخصال السلبية للنفس البشرية، منها:

الضعف، بمعنى أن الإنسان خُلق ضعيف في تكوينه المادي وهو من اضعف المخلوقات، قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً) (4).

العَجلة، قوله (خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُون) (5).

الكُفر، وهو من أرذل الصفات واشرها قوله (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةٌ كَانَتْ آمَنَةٌ مُطْمَئِئَةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْف بما كانُوا يَصْنَعُونَ) (6).

البخل، قوله (وَأَنْفَقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسه فأولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (7).

الطغيان، قوله تعالى (كَلاً إِنَّ الإنسان لَيَطغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنِي، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرّجْعی) (8).

ص: 205


1- البقرة، 272
2- آل عمران، 93
3- النساء، 58
4- النساء، 28
5- الأنبياء، 37
6- النحل ، 112
7- التغابن ، 16
8- العلق ، 86

الهلع، أو الجزع في النفس، (إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً، إلا المُصَلِّينَ) (1).

النميمة والحقد، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْناً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحيمٌ) (2).

النفاق والرياء، ( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (3).

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأخلاق الإسلامية أصيلة في مصدرها، لان مصدرها الوحيد هو القرآن والسنة الطاهرة ، ولا يجوز أن يقال بحال من الأحوال أن للأخلاق الإسلامية مصدراً آخر أو مصادر أخرى مثل الفلسفات الشرقية القديمة أو الفلسفة اليونانية، وإذا جاز لنا قبول تأثير هذه الفلسفات على الفلسفة الإسلامية أو غيرها من مناحي الفكر الإسلامي، فلا يجوز لنا قبول ذلك على الأخلاق الإسلامية، ذلك لأن هذه الأخلاق ولدت كاملة في القرآن وطُبقت كاملة في سنة الرسول صلّى الله عليه وآله تطبيقاً نموذجياً كاملاً، ومن بعده طبقها أهل البيت علیهم السّلام، علی ما يتضح في سياق حديثنا عن أخلاق الإمام الحسن علیه السّلام.

المبحث الثاني - الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام

إن من أقوى العلل في ظهور الشرائع السماوية وبقاء سلطانها الروحي عنايتها بالأخلاق، واهتمامها بتهذيب النفوس وتهذيبها بالنزعات الخيرة.

وقد اهتم النبي محمد صلّی الله علیه و آله بها اهتماماً بالغاً واعتبرها من ابرز الأسباب التي بعث من اجلها بقوله (أنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)، وقد استطاع بمكارم أخلاقه أن يوقظ البشر من سباته ويؤسس معالم الحضارة في العالم الإسلامي، ويغير مجرى

ص: 206


1- المعارج ، 19-22
2- الحجرات، 12
3- النساء،138

التاريخ، فقد ألف ما بين القلوب ووحد المشاعر والعواطف وجمع الناس على صعيد المحبة والإخاء(1).

وهذه الأخلاق الرفيعة قد تمثلت من بعد النبي عند وصيه أمير المؤمنين على بن أبي طالب علیه السّلام، ومن بعده عند سبطه الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام ، بحكم ميراثه من جده العظيم وأبيه سيد البلغاء(2) .

ويحاول الباحث أن يدرس مبحث الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام الدراسة معاصرة من خلال الكشف عن ما يسمى عند فلاسفة وعلماء الأخلاق (بالأخلاق النظرية) و (الأخلاق العملية)، ومن ثم لا بد من الكشف عن معاني هذين المصطلحين عند ذوي الاختصاص قبل ذكر مضامينها في فكر الإمام الحسن علیه السّلام.

أولاً الأخلاق النظرية:

إنّ كلمة الأخلاق لها مفهوم واسع، وآخر ضيّق؛ فهي في مفهومها الضيق تعني الصدق والوفاء، والإصلاح بين الناس، وعدم الغيبة والتهمة والنميمة، وتجنّب سائر الصفات الرذيلة، بينما تعني في مفهومها الواسع الخلفيات الروحية للأخلاق الفاضلة؛ فالصدق - مثلاً - نابع من الاستقامة في النفس والإصلاح ناتج عن رؤية صافية إلى الحياة، والوفاء منبثق من شجاعة نفسية لدى الإنسان.. أما الكذب والنميمة والتهمة والغيبة، فانّ هذه الصفات السلبية نابعة من انحرافات نفسية، وتشوّش واضطراب في الرؤية، وفقدان البصيرة في الحياة (3).

وعلى هذا وطبقاً للمفهوم الضيق تأتي مرتبة الأخلاق بعد كثير من الواجبات، على عكس المفهوم الواسع الذي يعتبر الأخلاق قاعدة لسائر الفضائل، بل منطلقاً حتى للإيمان بالله سبحانه وتعالى سلوك الإنسان نتاج تربيته(4).

ص: 207


1- يُنظر : الشرقاوي، د. محمد عبد الله، الفكر الأخلاقي، دار الجيل بيروت، 1978 ، ص 112
2- القرشي، الشيخ باقر شريف، حياة الأمام الحسن، ج1، ص290
3- المصدر نفسه، ص 293
4- المدرسي السيد محمد تقي الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق العمل، ص 10

والأخلاق قسمان: الأول نظري أو ما يُعرف بالبعد النظري للأخلاق، والآخر البُعد العملي أو ما يُعرف بالأخلاق العملية، فالأول هو الأخلاق النظرية التي تدرس الضمير والخير والشر والحرية والإرادة والفضيلة وماهيتها وأنواعها، والحق والواجب والنية والقصد والاختيار والمعايير والقيم والبواعث (1).

أما الأخلاق العملية فتبين وتدرس الواجبات المختلفة، واجب الإنسان نحو نفسه، وخالقه، ونحو عائلته ونحو الوطن ، والدولة والإنسانية، وبعبارة أخرى تعرض الأخلاق العملية لمباحث الأخلاق النظرية بالتطبيق على ظروف الحياة المختلفة لتقول فيها كلمتها ببيان ما يتفق مع الخير والشر والحق والفضيلة والواجب (2).

والعلاقة بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية ليست علاقة تنافي وتعارض، بل هي علاقة تداخل وتفاعل وإلا لكان فيلسوف الأخلاق شريراً بالضرورة و لكان كل إنسان فاضل دمث الأخلاق، غبياً أو على الأقل عديم التأمل والتبصّر والنظر، إنما هي تقسيمات أكاديمية يراد بها التحليل والتبسيط تجنباً للتعقيد الذي تتصف به الظاهرة الخلقية وتسهيلاً للبحث والدراسة (3) .

وبرأي الباحث فإن الأخلاق بشقيها النظري والعملي قد تجسدا في فكر الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام، ويمكن لنا تلمس هذا الجانب النظري عند الإمام الحسن علیه السّلام من خلال تحديده وتعريفه لمصطلحات عدة يمكن تسميتها بلغة العصر (مكارم الأخلاق) في إجابته على أسئلة أبيه المرتضى علیه السّلام نختار منها ما يلي (4):

* السداد: دفع المنكر بالمعروف

* الشرف: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة ( موافقة (الإخوان)

ص: 208


1- مغنية ، محمد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم ، بيروت، 1977، ص 12-54
2- ينظر: مرحبا، د. محمد عبد الرحمن المرجع في تاريخ الأخلاق، جرس برس، ط1، طرابلس، 1988، ص14-15
3- ينظر: مرحبا، محمد عبد الرحمن، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، ط ،3 ، بیروت، 1983، ص 125
4- الشيرازي حسن كلمة الإمام الحسن، ص 63

* المروءة : العفاف وإصلاح المرء ماله إصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، وإفشاء السلام والتحبّب إلى الناس)

* السماحة البذل فى العسر واليسر

* الإخاء : الوفاء في الشدّة والرخاء

* الغنيمة : الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا

* الحلم : كظم الغيظ وملك النفس

* الغني: رضى النفس بما قسم الله وإن قلّ، فإنّما الغنى غنى النفس

* المنعة : شدّة البأس ومقارعة أشد الناس

* الصمت: ستر العيب وزين ،العرض وفاعله في راحة، وجليسه آمن

* المجد : أن تعطي في الغرم، وأن تعفو عن الجرم

* العقل : حفظ القلب كلّ ما استرعيته (استوعيته) أو حفظ القلب لكلّ ما استتر فيه

* الثناء: إتيان الجميل وترك القبيح

* الحزم : طول الأناة والرفق بالولاة والاحتراس من الناس بسوء الناس

* الكرم: العطيّة قبل السؤال والتبرع بالمعروف والإطعام في المحلّ

* النجدة : الذبّ عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد

وأجاب الإمام علیه السّلام بكل استرسال وعدم تكلّف على مجموعة أخرى من أسئلة أبيه فيما يخصّ (مساوئ الأخلاق) ونختار منها ما يأتي:

* الدنيئة : النظر في اليسير ومنع الحقير

ص: 209

* اللؤم : احتراز المرء نفسه (ماله) وبذله عرسه (عرضه)

* الشحّ: أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً

* الجبن : الجرأة على الصديق والنكول عن العدوّ

* الفقر: شره النفس في كلّ شيء

* الجرأة: موافقة الأقران

* الكلفة : كلامك فيما لا يعنيك

* الخُرْق : معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك

* السفه : إتباع الدناة ومصاحبة الغواة

* الغفلة : تركك المسجد وطاعتك المُفسِد

* الحرمان : تركك حظّك وقد عرض عليك

* شرّ الناس من لا يعيش في عيشه أحد

وتحدّث الإمام علیه السّلام عن أصول الجرائم الأخلاقية وأمهات الرذائل قائلاً: هلاك الناس في ثلاث : الكبر ، الحرص، الحسد

* الكبر : به هلاك الدين وبه لُعِن إبليس

* الحرص: عدو النفس وبه أُخرج آدم من الجنّة

* الحسد: رائد السوء و به قتل هابیل قابیل

كما نجد الإمام علیه السّلام يُحدد أربعة مستويات من الناس على وفق مستواهم الخلقي، يقول (( إن الناس أربعة ، فمنهم من له خِلاق وليس له خُلق، ومنهم من له خُلق وليس له خِلاق، ومنهم من ليسه له خُلق وخِلاق، فذاك اشر ،الناس ومنهم من له خُلق وخِلاق، فذاك أفضل الناس)) (1).

ص: 210


1- المصدر نفسه، ص 65

بمعنى انه لا يكفي أن يكون للإنسان طرف ويتمسك به، ويفقد الطرف الآخر العملي، بل لا بد من توافر الطرفين معاً حتى يكتمل السلوك الأخلاقي قولاً وفعلاً.

ويقول مخاطباً أهل الكوفة ((إن الحكم زينة والوفاء مروءة والعجلة سفه، والغرور ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين ومخالفة أهل الفسوق ريبة)) (1) . وروي عنه انه قال ((مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والترحم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب، وقري الضيف، ورأسهن الحياء)) (2).

كُل ذلك يوحي لنا أن الإمام الحسن علیه السّلام كان يهتم بتحديد المصطلحات الأخلاقية تحديداً دقيقاً، وهذا ما نعني بمصطلح اليوم (الأخلاق النظرية)، كما انه يقسم الناس إلى طبقات حسب سلوكهم الأخلاقي، وهو أمرٌ ينم عن أدراك الإمام الحسن علیه السّلام أهمية وخطورة الفعل الخلقي وما يترتب عليه من آثار خيرة أو شريرة ومستويات حسب فعله الأخلاقي.

الأخلاق العملية:

كان الإمام الحسن علیه السّلام آيةٌ في الخُلق الإنساني والرفعة وحسن الأخلاق، ما رآه احد إلا هابه، ولا خالطه إنسان إلا أحبه، ولا سمعه صديق أو عدو يتحدث أو يخطب إلا أحب أن يصغي إليه حتى ينهي حديثه(3). قال محمد بن إسحاق ((ما بلغ احد من الشرف بعد رسول الله صلّی الله علیه و آله ما بلغ الحسن بن علي، كان يبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمر احد ... فإذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس، لقد أعطاه الله وقاراً خاصاً وهيبة نبوية)).

وقال الزركلي من المؤرخين واصفاً الإمام الحسن علیه السّلام ((كان عاقلاً حليماً محباً للخير ، فصيحاً من أحسن الناس منطقاً وبديهةً، وكان معاوية يوصي أصحابه باجتناب

ص: 211


1- المصدر نفسه، ص 67
2- يُنظر: دخيل، علي محمد علي، أدعية الإمام الحسن، دار المرتضى، ط1، بيروت، 2000،ص59
3- الحاج حسين، حسين إبراهيم، الإمام الحسن رائد الواقعية السياسية، دار الهادي، 2007، ص 40

محاورة رجلين هما الحسن بن علي وعبد الله بن عباس، لقوة بداهتمها)) (1). ومصداق أخلاق الأمام علیه السّلام العملية كثيرة يُحدثنا بها من أرخ له، كان من بينها انه كان يغضي عمن أساء إليه، ويقابله بالإحسان، فقد كانت عنده شاة فوجدها يوماً قد كسرت رجلها فقال لغلامه من فعل هذا بها ؟ قال الغلام أنا، قال الأمام علیه السّلام: ولما ؟ قال: لأجلب لك الهم والغم، فتبسم الإمام علیه السّلام وقال له : لأسرك، فاعتقه وأجزل له العطاء(2).

ومن عظيم أخلاقه علیه السّلام لانه كان جالساً في مكان فأراد الانصراف منه، فجاء فقير فرحب به ولاطفه وقال له: إني جلست على حين قيام منا، أفتأذن لي بالانصراف؟ فقال له : نعم يا ابن رسول الله صلّی الله علیه و آله(3).

وهنا إشارة من قبل الإمام علیه السّلام إلى أن حق الجليس من الآداب الاجتماعية التي توجب المحبة والألفة، وتوجد التعاون والترابط بين الناس، فلذا أمر الإسلام بها وحضِّ عليها .

وقد روي انه في يوم من الأيام امتاز جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق وهم يأكلون منها، فدعوه إلى مشاركتهم، فأجابهم إلى ذلك وهو يقول: إن الله لا يُحب المتكبرين، ولما فرغ من تناول الطعام معهم، دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم(4).

تلك هي بعض شمائل الإمام علیه السّلام و بعض مواقفه السخية مع أبناء الأمة التي كان لها أبعد الأثر في تجسيد الخلق الإسلامي الرفيع.

وقد ذكر ابن عائشة أن رجلاً من أهل الشام قال: دخلت المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فرأيتُ رجلاً راكباً على بغلة لم أرَ أحسن منه وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً، ولا دابة منه فمال القلب إليه، فسألت عنه، فقيل هذا الحسن بن علي بن

ص: 212


1- الزركلي (خير الدين) ، ج 1 ، الإعلام، دار العلم للملايين، بلا0ت، ص 230
2- الخوارزمي مقتل الحسين ، ج 1، ص 147
3- القرشي، الشيخ باقر شريف، حياة الأمام الحسن ، ص292
4- أعيان الشيعة، ج4، ق1، ص24

أبي طالب علیه السّلام، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه وقلت له: أأنت ابن علي ؟ فقال : أنا ابنه فقلت: فعل بك وبابنيك اسبهما . فلما انقضى كلامي قال لي : أحسبك غريباً ؟ قلت: أجل، قال: مل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاونّاك، قال: فانصرفت عنه ما على الأرض أحب إلي منه وما فرت فيما صنع وصنعت معه إلا شكرته وخزيت نفسي (1).

وقد شهد له أعداؤه بذلك، إذ لما استشهد الإمام الحسن علیه السّۀام، بکی علیه مروان في جنازته، فقال الحسين علیه السّلام: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه، فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا، وأشار بيده إلى الجبل (2).

هكذا شب الحسن ونهل العلم من بيت النبوة والرسالة وكذلك الأدب والخُلق هو وأخوه الحسين علیه السّلام، ولقد أثمرت هذه التربية في بيت علي وفاطمة وفي حجر الرسول صلّی الله علیه و آله هذا النمط الغرير من الخُلق الرفيع الذي لا مثيل له، فضلاً أنه كان مثالاً للإنسانية الكريمة ورمزاً للخلق العظيم، لا يثيره الغضب ولا يزعجه المكروه وكان مصداقاً لقوله تعالى((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم))، وقد قابل جميع ما لقيه من سوء وأذى ومكروه من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل(3).

الخاتمة

اتضح لنا من خلال البحث كيف أن الأئمة علیهم السّلام كانوا مثالاً للأخلاق السامية، وأنهم امتداد لجدهم الرسول صلّی الله علیه و آله، وقد جسد الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام هذه المُثل والأخلاق على مستوياتها النظرية والعملية الواقعية، وكانت أخلاقه نموذجاً للأخلاق التي دعا إليها القرآن الكريم من فضائل، وطاعات، وخُلق حسن، ومحبة، وحلم، وجود وكرم.

ص: 213


1- ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: محمد محى الدين عبد الحميد ، ج2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1949 ، ص 68
2- العسقلاني، ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج 2، ص 298
3- الموسوي، محمد، السياسة الملتزمة في نهج الإمام الحسن، ط1، دار المحجة البيضاء، لبنان، 1999، ص16

أما على المستوى النظري فيتمثل في تحديد الإمام لعدد من المصطلحات الأخلاقية سواء التي تعرف (بمكارم الأخلاق) ، أو ما تعرف(بمساوئ الأخلاق)، وهو أمرٌ يوحي بأن الإمام قد سبق الفلاسفة وعلماء الأخلاق في بحثهم هذه الموضوعات.

وقد جسد الإمام علیه السّلام هذه المعاني الأخلاقية على مستوى الواقع الإنساني بمستوياته المتعددة، وهو ما يُعرف بالأخلاق العملية، إذ عرف عنه تواضعه وزهده وتقبله للأخر، وهذه كلها من سمات السلوك الإنساني الرفيع.

مصادر البحث

القرآن الكريم

ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان،تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد ، ج2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1949.

إمام، د. عبد الفتاح إمام، فلسفة الأخلاق، ، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1990.

الحاج حسين، حسين إبراهيم، الإمام الحسن رائد الواقعية السياسية، دار الهادي، 2007.

الخوارزمي، مقتل الحسين ، ج 1.

دخيل، علي محمد علي، أدعية الإمام الحسن دار المرتضى، ط1، بيروت، 2000.

الزركلي (خير الدين) ، ج 1 ، الإعلام، دار العلم للملايين، بلا0ت.

زقزوق، د. محمود حمدین، مقدمة في علم الأخلاق، ط3، دار القلم، بيروت، 1983.

الشرقاوي، د. محمد عبد الله، الفكر الأخلاقي، دار الجيل، بيروت، القاهرة، 1990.

العقاد، عباس محمود/ الإنسان في القرآن الكريم، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986.

القرشي، الشيخ باقر شريف، حياة الإمام الحسن ، ج 1.

المدرسي، السيد محمد تقي الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق العمل.

مرحبا، د. محمد عبد الرحمن المرجع في تاريخ الأخلاق ، جرس برس، ط1،طرابلس،1988.

مغنية ، محمد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم، بيروت، 1977.

مغنية ،محمد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم،بيروت،1977.

من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، ط3، بيروت، 1983.

الموسوي، محمد، السياسة الملتزمة في نهج الإمام الحسن، ط1، دار المحجة البيضاء، لبنان ، 1999.

موسی، محمد يوسف القرآن والفلسفة، القاهرة، 1958 .

ص: 214

قرآنية القيم الأخلاقية في وصايا أئمة أهل البيت المعصومين علیهم السّلام

قراءة في رسالة الحقوق للإمام السجاد علیه السّلام أنموذجا

د. وسام حسين جاسم العبيدي (1)

من بين أبرز القضايا التي شكّلت مثار جدلٍ ونقاشٍ في عصرنا الراهن، هي قضية التعايش السلمي، وتفترض هذه القضية أهميتها عبر ما نلمسه من وجود صراعات إثنية وعرقية وقومية ومذهبيّة و... الخ من صراعات تقوم على أساس مبدأ تفضيل هوية على أخرى، ولعلّ هذه المشكلة أخذت بُعدها السياسي المؤثر في المنطقة العربية بخاصة حين زُرع الكيان الصهيوني القائم على استقطاب كل شخص يحمل انتماءً دينيًا معروفًا مهاجرًا من دولته التي ترعرع فيها ونشأت عشيرته في حماها لاجئًا إلى هذه الدولة ليكون مواطنًا ينتمي إليها، وهنا يجدر بنا أن نعي أهمية مبدأ التعايش السلمي لا كما قنّنه الفكر الغربي بوصفه مُصدّرًا للأفكار الجديدة إلى دول العالم الأخرى، وقد لا نختلف على أهمية الفكر الغربي في بلورة مثل هذه الأفكار، إلا أنّنا لا بُدّ لنا من الرجوع إلى الحاضنة الإسلامية التي أسهمت بفضل رجالاتها الأوائل بدءًا بالرسول الأكرمه صلّی الله علیه و آله وانتهاءً بآل بيته الطيبين الطاهرين علیهم السّلام فهم تراجمة وحي الذين اؤتمنوا على كتاب الله الكريم، فكانوا بحق أفضل من فهم النصّ القرآني الإلهي وحمله إلى الناس فهماً وتطبيقاً، وفي هذه الحالة سيكون لنا وعيٌ جديد لفهم

ص: 215


1- أستاذ في كلية الإمام الكاظم (ع) ، يؤكد الباحث على أحد المفاهيم الأخلاقية العملية أنها مفهوم التعايش ويرجع تناوله إلى هذا المفهوم لما تركه من جدلٍ ونقاشٍ في عصرنا الراهن؛ وقد وجد اغلب المرجعيات تحيله إلى أصول غربية إلا انه يحاول تأصيل المفهوم في القرآن الكريم والتراث الإسلامي عامة والإمامي خاصة ولعل هذا ما تجلى في عنوان البحث بوضوح ، وقد اكد على تميز هذا التراث عن الغرب بحضور الغيب إذ يأخذ البعد الأخروي جانبًا كبيرًا من تحفيز المؤمن على أدائه حقوق عبادته مثلما أراد لها المشرِّع الحكيم. المحرر

المبادئ الحياتية التي يحتاجها الناس وبحسب مفهومها يتقرر عليهم كيفية العيش فيما بينهم.

إنّ الرجوع إلى تراث أهل البيت علیهم السّلام وبالتحديد رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علي بن الحسين علیه السّلام سيكون لنا مرجعًا أساسًا في ترسيم العلاقات الاجتماعية بين الناس فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الخالق سبحانه من جهة ثانية، وهذا ما سيمنح البحث دفعةً للأمام؛ ذلك لأن الخوض في مدوّنة إسلامية تنتمي إلى القرن الأول الهجري، من شأنِها أنْ تعزّز الصورة المشرقة للدين الإسلامي بوصفه دينًا عالميًا منفتحا على جميع الديانات الأخرى، وليس مقتصرًا بأحكامه على معتنقيه فحسب، بل يشمل الجميع بنظرته التسامحية المعبّرة عن رحمة الله المطلقة لعباده من بني البشر .

وليكن قبل الولوج في متن (رسالة الحقوق منطلقنا من النصّ القرآني، بوصفه المدرسة الإلهية التي تتلمذ في أروقتها أئمّة أهلِ البيت علیهم السّلام فهم تلاميذ القرآن الذين عملوا على ترسيخ مفاهيمه عمليّاً وطبّقوا أفكاره من حيث لم يكن لها مطبّق، ولو بنظرة عجلى نمرُّ على النصّ القرآني، فنقرأ مثل قوله تعالى : ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الممتحنة: 8] فالآية تدعو بصريح خطابها إلى معاملة الآخرين ممّن ليسوا على دين الإسلام، بالبرّ والإحسان وإنصافهم لهم من الحقوق الإنسانية العامة ما يحفظ كرامتهم بوصفهم بشرًا خلقهم الله مثل ما خلق المؤمنين به.

فكرامة الإنسان هي المِلاك الذي دعانا إليه الخالق العظيم، ولا سبيل إلى حفظ هذه الكرامة إلا عن طريق معرفة الحقّ الذي على المكلّف أنْ يمتثله، وفي المقابل أنْ يتعرّف على حقوق الآخرين فينبغي له في هذا المقام من أدائه كاملاً صحيحًا معبرًّا عن احترامه للآخرين، ومعبّرًا عن شكره نعمة الوجود التي أسبغها الله سبحانه عليه، فلم يجعله جمادًا أو لم يخلقه أساسًا، وهذا الشرط يقرّره الدرس الكلامي فيما يعد مسوّغًا أساسيًّا لمعرفة (واجب الوجود).

ص: 216

وقد أقسم الله العظيم سبحانه في كتابه الكريم أنّ هذا المخلوق الذي جعله خليفةً في أرضه لا يكون سعيدًا رابحًا تلك الفرصة الوجودية في حياته ما لم يكن مؤمنًا، وهذا الشرط الأول، وعطفه على شرطٍ آخر يكمّل الأول ، وهو العمل الصالح الذي يعكس مدى صلاحية الإيمان الذي تغلل في عقله، فقال جل شأنه: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر: 1 - 3] فالآية تؤكّد على شرط الربح الأبدي لذلك الإنسان إذا أراد أنْ يكون خليفةً يمثّل إرادة الله ومشيئته النافذة على جميع مخلوقاته، وذلك بالعمل الصالح، والتواصي بالحق، والصبر، فالحقّ والصبر على أدائه مع النفس و مع الآخرين يمثّلان المحكّ الأساس الذي يكشف عبودية الإنسان الخالصة لوجه الخالق العظيم.

ومن هذا التجوال السريع في أفنية تلك المعالم القرآنية الزاخرة بالعِبر والدروس سنُعرّج إلى رياض تلك الحقوق الناضرة بثمار الأخلاق الإنسانية السامية والمعطّرة بأريج تلك النفحات الإلهية الخالدة، فنبدأ بالتدرّج فيها بحسب الآتي:

- عتبة الرسالة: تبدأ رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علیه السّلام بقوله: ((اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة حركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت بها بعضها أكبر من بعض وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع، ثم ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك)) وهي عتبة تمنح المخاطب كثيرًا من الطمأنينة والراحة؛ هذا لأنّها تكفّلت ببيان ماهية الحقوق التي ينبغي على الإنسان من القيام بها، ومعلومٌ أنّ النفس الإنسانية تميل إلى الراحة وتطمئنّ إلى ما لا يدفعها إلى مهاوي الصعوبة، فالحق من جملة الأشياء التي تضع النفس الإنسانية على محكّ الامتثال لما هو مطلوبٌ منها، هو التزامها على الدوام بأداء الحق، ففيه مشقّة على النفس، ولكن هذه المشقّة ليست إلا لرقيّ تلك النفس وصعودها في مدارج الكمال، بوصفها النفس التي أودعها الله سبحانه من روحه في جسد الخليفة المؤهّل لتنفيذ حكم الله في أرضه؛ ولهذا عقّب الإمام علیه السّلام داعيًا

ص: 217

لمن وجّه إليه الخطاب بالعلم ب_ (رحمك الله) فهذه الحقوق التي سيذكرها الإمام علیه السّلام ليست من باب معاقبة الإنسان وتكبيله بهذه القيود المعيقة لحريّته كما يتصوّر بعض المادّيين ممّن أبوا أنْ ينعتقوا من أوهام أفكارهم السطحية المتعلقة ببريق هذه الحياة ولم يفكّروا بما بعد ذلك، بل هي منطلقة من باب الرحمةِ به، ورحمة الله كما يقول عنها في كتابه وسعت كلّ شيء، إلا إذا أبى ذلك المخلوق أنْ يستقبل نفحات تلك الرحمة، ويوصد باب قلبه إزاءها، فلا تسعه حينذاك، وبهذا يكون الإنسان ظالماً لنفسه كما عبرت عن ذلك أكثر من آية كريمة(1) عن ذلك منها قوله تعالى : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (يونس: 44) فللرحمة الإلهية ظروف موضوعية تعمل على إنفاذها إلى قلوب عباده، ولعلّ معرفة الإنسان ما يتوجّب عليه من فعل إزاء نفسه أوّلاً، ومن ثمَّ إزاء الآخرين، بما يُعرف ب_(الحق) يمثّل السبيل الأوحد لتلقّي فيوضات رحمة الله وإلا تكون الرحمة من دون هذا الضابط، خارجةً عن قيد حكمة الله وعدله .

ولو أتينا إلى النفس الإنسانية ونظرنا إلى ما جُبِلت عليه من طباع، كان أوّلها ظهورًا هو حبّ النفس، التي يعبّر عنها علماء الأخلاق ب- القوّة السَّبُعيَّة) ولعله شعورٌ غريزيٌّ ينطلق من مقوّمات عدّة، فليس هناك أحد من لا يحبّ نفسه ويحرص على إشباع رغباتها، ولكن لا بُدّ لهذا الإنسان من ترويض نفسه على وفق ما أمر الله سبحانه من حقوقٍ وواجبات تعمل على توجيهها بحسب المشيئة الإلهية التي اختطها لعباده، فكانت الحقوق ميدانًا لترشيد سلوك النفس الإنسانية، والحقوق جمعٌ المفرد (الحق) و((هو يَدُلُّ عَلَى إِحْكَامِ الشَّيْءِ وَصِحَتِهِ. فَالْحَقُّ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ فَرْعِ إليه بِجَوْدَةِ الاِسْتِخْرَاجِ وَحُسْنِ التَّلْفِيقِ وَيُقَالُ حَقَّ الشَّيْءُ وَجَبَ)) (2). فمعنى الحق هو الإحكام والتثبيت وكل شيءٍ تريد أنْ تثبته يكون واجبًا، فإذا أراد هذا الخطاب أنْ يكون مؤثرًّا في متلقّيه، جعلها في سياق وصفٍ يحمل الآخرين على أخذها مأخذ الجد والاهتمام، وهو وصف تلك الأوامر بالحقوق؛ لتكون منهجًا ثابتا يسير عليه

ص: 218


1- ينظر: البقرة: 57 ، وآل عمران: 117 ، والأعراف: 160 والتوبة 70 ، والنحل: 33 ، و : 118، والعنكبوت: 40، والروم: 9
2- مقاييس اللغة: 16/2

الإنسان فيعرف صلاح عمله من فساده ومن ثمّ يضمن سعادته في الدارين عبر الحفاظ على تنفيذ تلك الحقوق.

وقد أجاد الإمام علیه السّلام في وصف تلك الحقوق بالمحيطة؛ وذلك لشموليتها في تغطية جميع شؤون الفرد المسلِم بها، ولعظمة المدبّر الحكيم الذي أوجدها، وبيان دقيق مشيئته في خلقه الذين لم يخلقهم عبئًا، كما قال جل شأنه: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)) [المؤمنون: 115] فكل حركةٍ يقوم بها الإنسان أو سكنة أو مقامِ يصل إليه - على تنوّع تلك المقامات عليه أنْ يعرف حق ذلك المقام أو ذلك الشأن الذي هو فيه، فيؤدّيه، وهذا البيان إنما يكشف قدرة الله على خلقه وأنه كفيلٌ لهم بأن يكونوا سعداء في حياتهم إذا امتثلوا لأداء تلك الحقوق والتزموها مع أنفسهم ومع الآخرين. وهذا أبرز مصاديق الدين الذي فرضه الله على الناس؛ هذا لأن الدين التزام الإنسان بمجموعة من الأوامر والنواهي التي تمثّل كيان الدين وهويّته، وعلى فرض كون مثل هذه الأوامر والنواهي صدرت لغاية رفعة البشر وصلاح شأنهم، فمع الالتزام بها يكون الإنسان مثابًا في الآخرة وسعيدًا في الدنيا بتطبيقها، وبمخالفتها يكون معاقبًا في الآخرة.

وفي مطلع هذه العتبة أراد الإمام علیه السّلام أن يوجِزَ تلك الحقوق بصورةٍ عامة، فأجملها أبلغ إجمال، عبر ذلك التوصيف الرائع الذي راعى فيه التسلسل من حيث الأهمّية وجلالة الشأن، بدءًا بحق الله على الإنسان، ثم حقّ النفس على الإنسان، متجليًّا حقّها بما يؤدّيه الإنسان من أفعالٍ عبر جوارحه التي من خلالها يتم التواصل مع الآخرين في هذه الحياة، ومن ثمّ بعد أداء تلك الحقوق التي تخصّ الإنسان بوصفه المخاطب في هذه الرسالة تنطلق الوصايا الحكيمة لتعريفه بما عليه فعله والالتزام به من حقوق إزاء الآخرين بدءًا بحق الأئمة ومن ثمّ حقوق الرعية، ثم حقوق الوالدين.

ولا يخفى على أيّ مطّلع لهذه الرسالة أنّها تمثّل مدرسةً أخلاقية متكاملة، ينهل منها الدارسون الذين يبتغون تشييد علمٍ للأخلاق، فموضوع علم الأخلاق المرسوم لدى المتشرعة هو الإنسان من حيث اتصافها بصفات مختلفة حسنة أو قبيحة وملكات

ص: 219

كثيرة، مذمومة أو ممدوحة، منها ما هو ذاتية موهوبية : ومنها ما هو عَرَضيٌّ اكتسابيٌّ. أما الغرض منه فيتحقق في تكامل الإنسان وتعاليه وتمامية مكارم أخلاقه ونيله إلى مراتبه التي خلقه الله تعالى لأجل الوصول إليها، وتخلقه بأخلاق الله تعالى وتأدبه بآداب رسله وأوصيائه لكي يتقرب إلى ربه ويسعد في الدنيا والآخرة بقربه لأن يبعثه ربه مقاماً محموداً ويلحقه بالأبرار والمتقين(1).

مضمون الرسالة وهو لبابُها الذي يُشكّل جوهر الرسالة، وقد تقسّمت موضوعاتها الأساسية بين ثلاثة محاور هي:

1 - الحقوق الشخصية والفردية : وهذه الحقوق أخذت الجانب الأوّل من الرسالة ؛ لأنّها ابتدأت ببيان ما على الإنسان فعله مع ربّه من واجبٍ وحقوق تنبغي مراعاتها وعدم التفريط فيها؛ لأهميتها القصوى، ولأثرها فيما بعد ذلك من واجبات تنبني على أوّل تلك الحقوق. وقد انطلقت تلك الحقوق من مبدأ الاستخلاف، وهو مبدأ يُؤسّس على أصالة حرية الإنسان. وكما هو معلوم أنّ حرية الإنسان لا تتحقّق ما لم يعرِف من أين تبدأ مساحة الحرية وإلى أين تنتهي تلك المساحة وبالجهل بتلك القضية يتمّ الاعتداء والتجاوز على حدود الله ومن ثمّ معصيته، فبمعرفة الله يعرف العبد نفسه بامتثاله أوامره وانتهائه عن نواهيه، وهو أمرٌ يتحقق عبره معرفة الإنسان لنفسه، وعليه يكون الإنسان عارفًا ما أودع الله فيه من إمكانات تتجسّد عبر حواسّه التي أنعمها عليه. ومن أبرز تلك المبادئ التي تشكّل هوية الإنسان (الخليفة) من خلال معرفته بالله وعبادته حقّ عبادته هو احترام الذات الإنسانية بوصفها ذاتاً مؤهّلة للخلافة الربانية على الأرض التي خلقها الله وجميع الموجودات لأجل ذلك الإنسان المثال. فقوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56] وهذه العبادة إنما تكون نتيجةً وثمرةً لتلك المعرفة التي أشار إليها الإمام علیه السّلام في قوله: ((فأما حق الله الأكبر فأنك تعبده لا تشرك به شيئا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والأخرة، ويحفظ لك ما تحب منها)) وقد اشترط الإمام علیه السّلام أنْ تكون

ص: 220


1- دروس في الأخلاق: 7-8

العبادةُ لله خالصةً من دون شريك، فهي العبادةُ الحقّة التي تؤهّل العبد لرقيّ مدارج الكمال؛ ذلك أنّه لا يستحقّ العبادة بمعنى الامتثال المطلق إليه والخضوع لأوامره ومن ثمّ تطبيقها غير الله سبحانه وتعالى بوصفه (واجب الوجود) الذي أنعم على كل الموجودات بنعمة الخلق والإيجاد في عوالم الإمكان، فليس من العدل أنْ يجعل العبد بينه وبين الله شريكاً أو معه شريكاً يخالفه في الأوامر، وهذا هو الظلم العظيم بحق النفس الإنسانية حين تنحرف عن جادّة الصواب، المُشار إليه في قول العبد الصالح لقمان الحكيم في وصيته لابنه فيما قصّه القرآن الكريم على نبيّه صلّی الله علیه و آله بقوله سبحانه: ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13] فحين يُشرِك الإنسان أحدًا بعبادته لله يكون بين إرادتين متناقضتين، فضلاً عن كونه فعلاً منافيًا للحكمة، حين يتّخذ الإنسان مثيلا له بإمكان وجوده، مساويًا للخالق العظيم، وهذا العمل منافٍ للعدل في أبسط مصاديقه، ومنطبقٌ عليه وصف (الظلم العظيم) الذي لا يُغفر للإنسان، وبهذا صرّح الباري جلّ شأنه في محكم كتابه: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)) [النساء: 48] وهو المعنى نفسه الذي فصله الرسول الكريم محمد الله بقوله : ((الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لا يَدَعُهُ اللهُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالإِشْرَاكُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَذُنُوبُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَدَعُهُ اللَّهُ فَظَلْمُ الْعِبَادِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، لا يَدَعُهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ)) (1). وبالإخلاص لله سبحانه في العبادة، يضمن الإمام علیه السّلام للمسلم المؤمن بالله، الفوز بالغنى عن المخلوقين؛ لأنّ الله هو الخالق الذي تعهّد لعباده ولجميع مخلوقاته أنْ يرزقهم فيما لو أدّوا حقّ طاعته وأخلصوا له في العبادة، إذ يقول جل شأنه: ((مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقِ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (*) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذاريات: 57 – 58[ ويتحقّق الأمن الغذائي والوقائي والاقتصادي بمعرفة الإنسان حدود الله، فلا يعتدي على خلقه، بل لا يعتدي على جوارحه التي هي أمانةٌ جعلها الله في عنقه،

ص: 221


1- مسند أبي داود الطيالسي، أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى (المتوفى: 204ه_)، تحقيق: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر - مصر، ط1، 1419 ه_ - 1999م : 3/ 579

وفي خلاف ذلك يكون الفقر والإذلال في الدنيا والعقوبة في الآخرة؛ لخروج الإنسان من دائرة عبوديّته ودخوله حبائل الشيطان، التي لا تورده إلا المهالك، يقول سبحانه مخبراً عن حال أقوامِ حال أقوام عصوا أوامر أنبيائه فخسروا كل ما لديهم في الدنيا بما اقترفوه من ظلم بحقّ أنفسهم أولاً وبحق الآخرين، وخسروا الآخرة، فقال عنهم جلّ شأنه: ((وَأَلَّو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّريقَة لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)) [الجن: 16] .

أما الحقوق التي تخصّ الفرد، فتتوزّع على جوارحه واحدةً بعد الأخرى فتبدأ باللسان، وتنتهي بالفرج، وهي بحسب الآتي:

- حق اللسان

- حق السمع

- حق البصر

حق الرجلين

- حق اليد

- حق البطن

- حقّ الفرج

وجميع الحقوق التي ذُكرت لهذه الأعضاء التي بوساطتها يتمّ للإنسان العيش في هذه الحياة، والتعامل مع الآخرين ويجني ثمار ما يكسبه بوساطتها، تؤكّد على حق الصيانةِ لها من الوقوع في الحرام، سواء في القول أو الفعل باليد أو السعي إليه، أو أكله، فحقّ هذه الهبات الربّانية أنْ توظّف في طاعة خالقها الذي أوجدها من عدم، ومن الظلم بحقّها أنْ يستعملها الإنسان لإرضاء شهواته، بعيدًا عن تحكيم العقل الذي يوجب على الإنسان بمقتضى فطرته النقيّة أنْ يتجنّب الحرام لما فيه من مضارٍّ على الجسد قبل أنْ يكون منهيًّا عنه من قبل الله، كذلك لما فيها من إشغال وتضييع وقتٍ في غير فائدة تعود على صاحبها بالخير والصلاح فمثلا يشير الإمام علیه السّلام في

ص: 222

ضمن حق اللسان على الإنسان (وإعفاؤه عن الفضول الشنيعة القليلة الفائدة التي لا يُؤْمَنُ ضررُها مع قلة عائدتها ويُعدُّ شاهدَ العقل والدليل عليه وتزيُّن العاقل بعقله: حسنُ سيرته في لسانه) وقد استدلّ الإمام علیه السّلام بالعقل كونه دليلاً لا يختلف اثنان في أرجحية الحكم الصادر منه، بما يمنح مضامين الرسالة بُعدًا إنسانيًّا خارج التوصيف الديني أو الإثني، بأنّ العاقل محمودٌ في جميع المجتمعات، ولا دليل يُشير إلى حسن عقله غیر حسن لسانه مع الآخرين. وفي حقّ السمع أولى الإمام علیه السّلام إلى ما يستفيد الإنسان منه فيما يكسبه عن طريق هذه الحاسّة المستقبلة لكلام الآخرين على اختلاف مضامينه، فحقّه يتمثّل ب_ ( تنزيهه عن أنْ تجعله طريقًا إلى قلبك إلا لفوهةٍ كريمة تُحدِثُ في قلبِكَ خيراً أو تُكسِبُك خُلُقًا كريماً فإنّه بابُ الكلام إلى القلب يُؤدّي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خيرٍ أو شرٍّ) ولما كان السمع مثل الباب - بحسب تشبيه الإمام له - بوساطته يدخل كلام الآخرين إلى القلب - بمعنى العقل- كان الأولى بصاحبه أنْ ينتقي من ذلك الخطاب ما يرقى بنفسه إلى الطهارة المعنوية التي تربأ به عن الفحشاء من القول والأفكار التي تحضّ على الرذيلة، فالاقتصاد فيما يستلمه الإنسان من ذلك الخطاب الداخل إليه، ينبغي أنْ يكون طيّب الأثر والنتيجة على صاحبها، فاكتساب الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة المرضية عند الله لا تكون إلا عبر ذلك التواصل المادّي لها من خلال حاسّة السمع، وقد بالغ الرسول صلّی الله علیه و آله و أئمة أهل البيت علیهم السّلام في إسماع مخالفيهم طيّب الكلام وأحسنه؛ وذلك لإيمانهم أنّ الكلمة الطيّبة تؤثّر في النفوس، وتهدي صاحبها إلى طريق الحق، والكلام حين يوظّف لغاية أخلاقية رفيعة لا يضيع أجر قائله عند الله؛ لما في آثاره الناجمة عنه من إصلاح النفوس بهدى الله، يقول تعالى : ((إليه يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر: 10] .

ويتجلّى الجانب الوقائي في حق البصر، في غضّه عن كلّ ما يحرّك الغريزة الشهوية عند الإنسان، وهذا هو معنى الابتذال في النظر ، أما السبيل الأوحد لصيانة حق البصر، تتجسّد في جعلها مستقبلاً لكل مشهدٍ أو منظر يؤدّي إلى الاعتبار من سِيَر الماضين، أو الاستفادة عمليَّا منها في نقل تجارب الآخرين المفيدة للإنسانية،

ص: 223

فقال علیه السّلام: (وأمّا حقّ بصرك : فغضّهُ عمّا لا يحلّ لك وتركُ ابتذالهِ إلا لموضع عبرةٍ تستقبلُ بها بصراً أو تستفيدُ بها عِلمًا، فإنّ البصرَ بابُ الاعتبار) فبالنظر يحفظ الإنسان تلك التجارب ويكرّرها لإدامة عجلة التواصل مع الآخرين بوصفها مشاهد دافعة لحفظ البشر ومطوّرة لإمكاناتهم وصقلها في تجارب أخرى. وتلتقي هذه التوصية مع ما ذكره الله سبحانه في كتابه الكريم، حين خاطب المؤمنين: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [النور: 30] وهو الأمر نفسه في حق الرِجلين، حين يوصي الإمام علیه السّلام أنْ لا يكون السعي إلا في حلال ،الله، ومعلومٌ أنّ حلال الله لا يخرج عن مدار الفائدة العملية العاجلة للإنسان قبل تحصيل الثواب في الآجلة، فكثيرٌ من الناس من يسعى إلى قضاء وقته فيما حرّم الله، سواء أكان في الاعتداء على حقوق الآخرين من عباده، أم كان سعيًا لإشباع غريزته الحيوانية بما يكسبه إثماً عظيمًا لتعدّيه حدود الله، فيقول: (وأما حقّ رجليك: فأنْ لا تمشي بهما إلى ما لا يحلُّ لك، ولا تجعلهما مطيّتك في الطريق المستخفّةِ بأهلها فيها فإنها حاملتكُ وسالكةُ بك مسلك الدِّين والسبقُ لك) وفي هذه الحقّ يذكر الإمام أنّ حقّ الرجلين أنْ لا يخرج عن دائرة مرضاة الله تعالى، على أنّها مطيعةٌ لأوامرك كالمطيّة التي تنقلُ صاحبها من دون معاندةٍ منها، فلا بدُّ إذن من إكرام هذه النعمة الإلهية التي فوّض الله أمرها إلى صاحبها، بما يكسبه حمدًا وثوابًا وفائدةً تعمّ المجتمع في الدنيا، والثواب في الآخرة.

أمّا حقّ اليد على الإنسان، فهو الاعتدال في التعامل مع الآخرين عبرها، فيقول: (وأما حقّ يدك فأن لا تبسطها إلى ما لا يحلّ لك، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل، ومن الناس بلسان الأئمة في العاجل، ولا تقبضها مما افترض الله عليها، ولكن توقّرها بقبضها عن كثيرٍ مما لا يحلّ لها وبسطها إلى كثيٍر مما ليس عليها. فإذا هي قد عُقلت وشُرّفت في العاجل وجبَ لها حسن الثواب في الآجل) وهي قريبة الصلة بالآية القرآنية: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقكَ وَلَا تَبْسُطُهَا كُلَّ البَسْط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء: 29] إذ التوسّط في الأمور يجنّب الإنسان الوقوع في موارد الهلكة، فضلاً عن كونه سلوكًا مذموما يبتعد عن سلوك العقلاء الذين حُمّدت

ص: 224

سيرتهم فكان الأنبياء وأولياء الله الصالحين أجلى مصاديقهم، فلا يخرجون عن دائرة الاعتدال والوسطية في تعاملهم مع الآخرين، فالعاقل - كما يعرّفه الإمام علي علیه السّلام - هو الذي يضع الأمور في مواضعها ، والأحمق على العكس من ذلك، فلا يكونون بخلاء مع من يستحقّ العطاء فيحرمونه ما أوجب الله عليهم من إيتاء المعروف، فيكون سلوكاً مذموما ًعقلاً، ومخالفًا لشرع الله، ولا يكونون مسرفين للخير في غير موضعه، وبهذا يضيع الخير المقدّم في ظرفٍ لا يستحقّ ذلك البذل، وهذا ما ابتعد عنه الصالحون من أنبياء وعباده الصالحين، فقال عزّ من قائل واصفًا إيّاهم بقوله : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67] .

ومسلك الاقتصاد لم يقتصر على حقّ اليد فحسب، بل توفّر أيضا في حقّ البطن، فالوقوع في القليل من الحرام مثل كثير منه، كذلك في الحلال من المكسب لا ينبغي للإنسان أنْ يُسرِف في الطعام، لما في الشبع من مضارٍّ صحّية تُفسد الجسد وتُسرع في إهلاكه، وهو قوله: (وأمّا حقّ بطنك فأنْ لا تجعله وعاءً لقليلٍ من الحرام ولا لكثير. وأن تقتصد له في الحلال، ولا تُخرجه من حدّ التقوية إلى حدّ التهوين وذهاب المروءة. وضبطهٌ إذا همّ بالجوع والظمأ، فإنَّ الشبع المنتهي بصاحبه إلى التُّخم، مكسلةٌ ومثبطةٌ ومقطعةٌ عن كلّ برٍّ وكرم وإنَّ الريّ المنتهى بصاحبهِ إلى السُكرِ مسخفةٌ ومجهلةٌ ومذهبةٌ للمروءة) كلُّ هذه المضارِّ الصحّية والنفسية تنتج عن الإسراف في الطعام، فهي نتاجٌ طبيعي لتجاهل حقّ البطن من الابتعاد عن حلال الله والاقتصاد فيه. وأجد أنّ هذا الحقّ تبيانًا لقوله تعالى: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)) [الأعراف: 31] فَالنَّهْيُ عَنِ السَّرَفِ نَهْيُ إِرْشَادِ لا نَهْي تَحْرِيمِ، وَلِأَنَّ مِقْدَارَ الإِسْرَافِ لَا يَنْضَبط فَلَا يَتَعَلَّقُ بهِ التَّكليف، وَلَكِنْ يُوكَلُ إلى تَدْبِيرِ النَّاسِ مَصَالِحَهُمْ، فَإِنَّ تَرْكَ السَّرَفِ مِنْ مَعْنَى الْعَدْل(1).

ص: 225


1- ينظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور: 5/95

ويختم الإمام بآخر عضوٍ يمثّل هو وعضو اللسان الذي ذكره في أوّل كلامه، يمثّلان مخرجات الإنسان، بخلاف السمع والبصر والبطن فهما يستلمان فقط، وبخلاف اليدين والرجلين، فهما أداتان يحقق الإنسان بهما مُراده بالمنظور المادّي القريب، أمّا اللسان والفرج، فأثرُهما يتجلّى بعد حين، وكلّما يبتعد أثرهما يزداد خطرهما عليه، فعليه إذن أنْ يُراعي حقّهما ، وأنْ يُبالغ في صيانة تلك المخرجات عبر تينك الأداتين، فبالكلمة الطيّبة التي يُصدرها العبد الله مع ومع الآخرين لا يزداد إلا رفعةً وثناءً في الدنيا وثوابًا جزيلاً في الآخرة، وبخلافه يخسر الإنسان كلّ أعماله حتى الحسن منها، ولعل حديث النبيّ صلّی الله علیه و آله جوابًا على معاذ بن جبل خيرُ دليلٍ على خطورة ما أشرنا إليه، إذ قال له في ضمن بيان أهمية العبادات وارتباطها كلها بعمل اللسان، ((ثُمَّ قَالَ: «أَلَا خبرك بملاك ذلكَ كُلَّه ؟ « فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا نَبيَّ الله. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهم؟))(1)، ويُقرّر الشيخ محمد مهدي النراقي (ت: 1209 ه_) خطورة اللسان بوصفه ((أعظم آفة للشيطان في استغواء نوع الإنسان، فمراقبته أهم، ومحافظته أوجب وألزم ، والسرُّ فيه - كما قيل- أنه من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه وإنْ كان صغيراً جِرمُهُ، عظيمٌ طاعتهُ وجُرمُه، إذ لا يتبيّن الإيمان والكفر إلا بشهادته، ولا يُهتدى إلى شيء من أمور النشأتين إلا بدلالته وما من موجود أو معدوم إلا وهو يتناوله ويتعرّض له بإثبات أو نفي، إذ كلُّ ما يتناوله العلم يعبّر عنه اللسان إما بحق أو باطل، ولا شيء إلا والعلم يتناوله)) (2) ، ومن هنا نُدرك السّر في تقديم حق اللسان من قِبَل الإمام علیه السّلام قبل استعراضه حقوق سائر الأعضاء.

والأمر نفسه يكون مع حفظ الفرج، بتنزيهه عن مواطن الحرام والشُبهة، ولا يتمُّ ذلك الحفظ والتمكّن من صيانته إلا عن طريق غضّ البصر عن النساء، ومعلومٌ أنّ المقصود بغضّ البصر هو النظر إلى النساء بشهوة الملامسة لهنّ، ولعل قول الرسول

ص: 226


1- مسند الإمام أحمد بن حنبل : 345/36
2- جامع السعادات، النراقي: 1/ 130

صلّی الله علیه و آله كفيلٌ ببيان ما نحن فيه، فحين حذر من الجلوس في الطرقات العامة التي يمرُّ بها جميع الناس، لم يكن منعه ناشئًا من فراغٍ وحاشاه من ذلك، بل أراد ذلك المنع الذي يُسبب فتنةً وفساد للشخص الجالس فيها، فكان له أنْ يبيّن الاحتياطات اللازمة لدرء تلك المفاسد بقوله المبارك: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرْقَاتِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُةٌ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: «إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُ البَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنكَرِ»(1)، أما السبيل الآخر الذي طرحه الإمام علیه السّلام لصيانة الفرج من الوقوع في حبائل الشيطان وتزيينه للشهوة وإيقاظه لغريزة الجنس. فيتمثّل باستذكار الموت الذي يوقظ الإنسان من سُبات الغفلة ويهيّئه لعالم الخلود الدائم إما في النعيم وإما في الجحيم، وهذا التخيير يرتكز على مقدار الأعمال الحسنة المرضية عند الله سبحانه، أو عكس ذلك من أعمال ظلمٍ أوقعت صاحبها في الحرام الموجب لعقاب الله وغضبه، ولا يخفى أنّ القرآن الكريم أبان من خلال بعض مضامين آياته السامية أنّ الإنسان المُسلّم بتعاليم الله والمحبّ للقائه يتمنّى الموت، أما الكافر الجاحد بتعاليمه والمخالف لها، لا يتمنى أنْ يموت، فقال جلّ شأنه مبيّنا إحدى خلال المعاندين من بني إسرائيل، ((قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُون النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (*) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [البقرة: 94 - 95] ولذا كان رسول الله صلّی الله علیه و آله كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول : ((أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات حائل بينكم وبين الشهوات يا عباد الله ما بعد الموت لمن لم يغفر له أشد من الموت القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته)) (2). وعبر هذه المراقبة التي وجّه النبيُّ الأكرم صلّی الله علیه و آله وآل بيته المعصومين إليها، يتحقّق حفظ الفرج من الوقوع في الحرام المؤدّي لسخط الله، بل أكثر من ذلك حين يجعله متساويًا وسائر مخلوقاته التي لا تفرّق بین الحلال والحرام، في حين أنّ المولى سبحانه جعل ((الموجود البشري... يتمتع بمقدرة خاصة لا نجد لها نظيراً على الإطلاق في كافة مستويات العالم الحيواني وهي

ص: 227


1- صحيح البخاري: 8/ 50
2- الأمالي، للشيخ المفيد: 264- 265

القدرة على مراقبة سلوكه والحكم عليه ، وهنا ضبط وإشباع وهي عند الحيوان إشباع لشهوات إلا أنّ الإنسان يُوجِد اتّزاناً بينهما وهي المسافة الواعية بين المسافة الواعية بين الإنسان والحيوان فلا يأكل ولا يشرب مثله، بل يقضي على ضرورة الحيوان بطريقته الإنسانية)) (1).

بقي لنا أن نشير في ختام هذا المطلب الأخلاقي فيما يخصّ حق الفرج أنّ الإمام ذكره في ختام حقوق الأعضاء الأخرى؛ لما بيّناه آنفًا من ارتباط مخرجاته بما يدخل لتلك المستلمات من الأعضاء، فبما تكسب تلك الجوارح تنعكس النتيجة فيما بعد ذلك في آخر الأعضاء، فالنظر والسمع واليدين والرجلين والبطن إنْ كانت مدخلاتها حراماً فلا تخرج منه عن طريق الفرج إلا حرامًا، وإذا كانت مدخلات تلك الجوارح حلالا فتكون نتيجة ذلك أيضًا على الفرج، فلا يبغي إلا حلال الله، ويصدق فيه ما يقال في أمثال المناطقة - من باب التشبيه - أنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات. ولعلّه ذكر حقّ الفرج من باب كونه أسفل تلك الجوارح وألزمها بالستر والصيانة، ولأنه عورةً تقع في أسفل جسد الإنسان؛ فلذا كان حفظ الفرج وصيانته من الحرام التزاما بأوامر الله سببًا موجبًا للمغفرة الإلهية والأجر العظيم المتمثّل بجزاء الله العادل لعباده المطيعين، فقال عزّ من قائل: ((وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)) [الأحزاب: 35] .

ويشرع الإمام السجّاد علیه السّلام بعد تبيان حقوق الأعضاء على الإنسان، يبيّن له حقوق الله عليه من عباداتٍ افترضها، ينبغي أنْ تؤدّى كما أرادها الله سبحانه لا شكلاً فحسب، بل بمراعاة الغاية التي تنضوي عليها كلُّ عبادة، فلا فائدة يجتنيها الإنسان المسلم من امتثاله لتلك الفرائض الإلهية ما لم تحقّق هدفها العاجل في حياته الدنيا؛ لأنه سبحانه حكيمٌ يقدّر المنافع والآثار التي يستفيد منها العبد في قضاء حاجته في الدنيا فضلاً عن قضاء حوائج المؤمنين والناس الذين يشاركهم فرصة العيش في هذه الحياة، وكذلك تقدّر العبادات المفروضة عليه بعين الله وتثمينه لها بالثواب الجزيل في عالم الآخرة، ولكن لا يمكن أنْ تحقّق مثل تلك العبادات أثرها الآجل في الآخرة ما لم تُحرز هدفها في تكامل الإنسان ورقيّه مراتب السعادة في الدنيا أيضًا..

ص: 228


1- فلسفة الأخلاق، د. مصطفى عبده : 22- 23

يبدأ الإمام علیه السّلام بحقّ الصلاة على الإنسان، بوصفها أوّل الأعمال التي ينظر الله فيها؛ لأهميّة تلك العبادة على حياة الإنسان وما تتركه عليه من مضامين عمليّة جليلة، فلا بُدّ إذنْ من إيلائها الأهمية القصوى، فقال: (فأمّا حق الصلاة: فأنْ تعلمَ أنّها وِفادةٌ إلى الله وأنّك قائمٌ بها بين يدي الله. فإذا علمتَ ذلك كُنتَ خليقاً أنْ تقوم فيها مقام الذليل. الراغب الراهب، الخائف الراجي، المسكين المتضرّع، المعظّم من قام بين يديه بالسُكون والإطراق وخُشوع الأطراف ولين الجناح وحُسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فَكاكِ رقبتك التي أحاطت به خطيئتك واستهلكتها ذنوبُك ولا قوة إلا بالله) فحقّ الصلاة التي فرضها الله سبحانه على عباده المؤمنين، أن تكون بدرجة الاستشعار العالي الأهمية والتهيُّؤ لها؛ وذلك لعظمة من تفِدُ عليه، وبموجبها يتمّ قبول الإنسان في حضيرة المؤمنين المبشّرين برحمة الله والمنعّمين بجنانه الخالدة، فهذا الاستشعار يفرضُ على صاحبه أنْ يكون متخلّقًا بسيماء الصالحين الذين عبدوا الله وكأنهم يروه رأي العين، فتظهر علامات ذلك الخشوع على جوارحهم، من سكونٍ وإطراق وخشوعٍ يبدو على سائر أعضاء الإنسان، إلى آخره من علاماتٍ تتجلّى على سلوك المصلّي في كل حالات الصلاة؛ لعظمة المطلوب من الله العظيم، وهو الخلاص من العقوبة بسبب الذنوب التي يرتكبها الإنسان الذي يستسهل المعاصي في حياته، فيقع في وهادها، ويستمرأ الباطل فيعلق في شراكه؛ لذا كان على الإنسان في صلاته أنْ يدعو الله مخلصًا في قراءته سورة الحمد وحين رفع اليدين بالقنوت وحين الركوع عليه أنْ يستشعر الذلّ أمام الخالق المتكبّر وكذلك في السجود والقيام والتشهد لأجل أنْ تؤتي هذه العبادة ثمارها العمليّة في حياته، كان له أنْ يمتثل لمضامين الصلاة وأنْ يعزم على أدائها، وهذا ما حمده الله سبحانه في عباده المؤمنين حين يصفهم بقوله الشريف: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون: 1 - 2] فالفلاح لا يحققه المؤمنون إلا أذا كانت صلاتهم مشفوعة بالخشوع؛ لما فيه من تفعيلٍ للقلب على سائر الجوارح، وفي قبال ذلك وصف أقوامًا من المسلمين الذين آمنوا بالله ظاهرًا، ولكن كان إيمانهم قشرًا خفيفًا لم يتغلغل إلى حياتهم وسائر سلوكهم فتتغيّر بموجب تلك العبادة الموجبة لمغفرة

ص: 229

الله ورضوانه التي بتحققها تُقبل سائر عباداتهم ومعاملاتهم بعين القبول والرضا عند الله سبحانه، فقال: ((وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)) [التوبة: 54] فمثل هؤلاء على الرغم من أدائهم الزكاة أو غيرها من نفقات أوجبها الله سبحانه عليهم يعدّون كفّارًا عند الله ؛ لأنه سبحانه يعلم ما في سرائرهم من كراهية لأداء حقوقه منهم، على الرغم من أنّ الله غنيُّ عن عباده، ولكن أوجب مثل تلك الحقوق، ليختبر إيمان المؤمنين به بما رزقهم من أموال، فكانت عند الله غير مقبولة، هذا لأن صلاتهم لم تحقق الغاية المُثلى في استشعار العبودية لله، فلم يكن ركوعهم وسجودهم بداعي امتثال الرغبة في التواصل مع الله والدعاء المخلص له بالهداية، بل كانت تلك العبادة شكليّةً صاحبها الكسل من أدائها، وواحدٌ من أبرز مصاديق الكسل هو التماهل في أدائها، أو الاستعجال في قضائها. وهو أمر دعا الرسول الكريم صلّی الله علیه و آله أنْ يذمّ أمثال أولئك ممّن يتظاهر في الصلاة ولا يعطيها حقّها، فقد ورد عنه أنه قال: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنِيَ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذَّكَّرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَليلاً)) (1).

ويلتمسُ الإمام السجاد علیه السّلام الغاية نفسها في تحديد حقّ الصوم، بوصفه حجابًا يقي الإنسان لا من الطعام والشراب فحسب، بل يقي لسانه من الكلام الخارج عن دائرة الحق، وكذلك السمع والبصر والفرج والبطن، كلّ تلك الجوارح ينبغي أنْ تكونَ محجوبةً عن الحرام قولاً وفعلاً، فإنْ ظهر ذلك الحجاب عليها، كان للصومِ أَنْ يُؤتي أُكُله بما أراد له الله سبحانه وخطّط له من حكمة، وإنْ لم يظهر الأثر المبتغى ففي ذلك خيانةٌ لحق هذه العبادة، إذ قال علیه السّلام : (وأما حقّ الصوم: فأن تعلم أنه حجابٌ ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار. فإنْ سكنتْ أطرافُك في حجبتها رجوتَ أنْ تكون محجوبًا. وإنْ أنتَ تركتها تضطربُ في حجابها وترفع جنبات الحجاب فتطّلع إلى ما ليس لها، بالنظرةِ الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حدّ التقية لله لم تأمَنْ أنْ تخرِقَ الحجاب وتخرُجَ منه) فرعاية حقّ الصوم تتحقّق

ص: 230


1- صحیح مسلم: 1/ 434

في صيانة مبدأ التورّع عن محارم الله وبمقتضاه يصل الصائم مبتغاه المتمثّل برضا الله عليه وثوابه الجزيل، أمّا حين تنتهك تلك الحُجُب فلا يُقبل أداء مثل تلك العبادة؛ لكونها أفرِغت من محتواها وتجرّدت عن هدفها السامي بجعل الإنسان متحكّماً في شهواته بحسب ما يراه العقل صواباً، ولذا يُنبّه الله في قرآنه الكريم إلى بعض الممارسات التي تخرج بالمسلم عن حدوده، فقال عزّ شأنه : ((وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [البقرة: 187].

وينبغي الالتفات إلى قولِ الإمام في ذيل استعراضه هذه الحق والذي قبله (حق الفرج، حق الصلاة) والذي بعده (حق الصدقة، حق الهدي، حق السلطان، حق المعلم حق السائس، حق الرعية) إذ يختم بالعبارة : (ولا قوّة إلا بالله) تأكيدًا إلى إخلاص النية في طلب الاستعانة من الله في استمداد القوّة لأجل صيانة تلك الحقوق، والصبر على أدائها؛ هذا لأن الإنسان مجبولٌ على التعجّل في إنجاز أكثر أموره، وقد وصف الله سبحانه الإنسان بقوله: ((وَكَانَ الإنسان عَجُولًاً)) [الإسراء: 11] فلا بُدّ من الصبر والتأنّي في أداء حقوق جوارحه وحقوق عباداته التي يؤدّيها، ومن دون ذلك تستحيل إقامة هذه الحقوق، فلا مناص من الالتجاء لله سبحانه والتماس القوّة منه، فهو القادر على منح أوليائه الصالحين من القوّة على أداء حقوق عبادته بما أودع في الإنسان من قُوى خفية أهّلته أنْ يكون خليفته في الأرض وأنْ يحمل أمانةً عجزت الجبال عن حملها، فمشيئته نافذةٌ بين الكاف والنون إن أراد لها أنْ تتحقق فيمن هداه الله واستحقّ ذلك اللطف الإلهي المخصوص بعباده الصالحين.

ويأخذ البعد الأخروي جانبًا كبيراً من تحفيز المؤمن على أدائه حقوق عبادته مثلما أراد لها المشرِّع الحكيم؛ هذا لأن الحياة الخالدة تكمنُ فيما وراء هذا العالم المادّي، وعلى أساس العمل في هذه الحياة يكون الثواب والعقاب في ذلك العالم، على أنّ الإسلام لم يفرّط بالجانبين، فلم يطلب من الإنسان أنْ ينسى نصيبه من دنياه من التماس الطيب من العيش ولكن وضعه في حدود حلال الله، كما قال سبحانه: ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ

ص: 231

اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) [القصص: 77] وهذا ما ينبغي أنْ يكون عليه كل الملتزمين بأوامر الله ونهيه، فالتماس الأجرِ من الله إنما يترجم إيمان العبد بأنَّ الله سبحانه أوكل إليه التصرّف بما رزقه من مال، والأمر الآخر يُظهر يقينه بأنّ الجزاء على ذلك العمل سيكون أكبر عند الله في ذلك العالم الذي لا ينفع الإنسان شيئًا مثلُ عمله الذي قدّمه في الحياة الدُنيا، ولذا كان حقّ الصدقة تبيانًا لهذا الجانب، يقول الإمام علیه السّلام في ذلك: (فأن تعلم أنّها ذُخر عند ربّك. ووديعتُك التي لا تحتاجُ إلى الإشهاد ، فإذا علمتَ ذلك كُنتَ بما استودعته سرًّا أوثقَ بما استودعته علانية، وكُنتَ جديرًا أنْ تكون أسررتَ إليه أمرًا أعلنته، وكان الأمرُ بينك وبينه فيها سِرًا على كلّ حال) فمِلاك تحقيق هذه العبادة المتمثّلة بالصدقة للتي يستحقّها من الفقراء، في عدم إعلانها؛ وذلك لسحق القوّة الأنانية في النفس، إمعاناً في الإخلاص لوجه الله من دون أحدٍ من المخلوقين، ولأنّ الله وحده هو الذي يُجازي المتصدّق بجزيل ثوابه، كان له وحده ينبغي التوجّه إليه، ولا فضلَ لمن يبتغي مدح الناس على ما يرائي به من عمل مهما كان كبيراً. فالأجر العظيم كلُّه لمن أخلص لله سواءَ أكان ذلك الإخلاص متمثّلاً في عباداته أم في معاملاته، وهم الذين وصفهم الله في كتابه الكريم بقوله: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَة أَعْيُنٍ جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [سورة السجدة: 16 - 17] . والعملُ إنما يشمل العبادة التي تكون بين العبد وربّه، ويشمل المعاملة والسلوك الذي يكون بينه وبين الآخرين.

ونستطيع القول: إنّ المحور الأساس الذي انطلقت منه رسالة الحقوق، يتمثّل في تحقيق الإخلاص، فهو الشرط الأساس الذي بموجبه يتمّ قبول الأعمال لصلاح النيّة التي تبتغي رضا الخالق من دون المخلوقين وبهذه النية يصلح العمل وينفذ أثره في المجتمع ؛ لكونه عملاً يراعي الجانب الإنساني فقط، لا لأجل كسب دعايةٍ سياسية، أو تحشيد الرأي الإعلامي لجهة لها مآربها الخفية وراء ذلك العمل، ولعل قوله تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا تريد منكم جزاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبَّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا *

ص: 232

فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)) [الإنسان : 8 - 11] يلخّص مفهوم الإنسانية كلّها، وهذه ألتفاته إلهية عظيمة كانت في هذه السورة العظيمة المسماة ب_ (الإنسان) وبمقتضاها أنّه لا يصحّ وصف مجتمعٍ ما بالإنساني، ما لم يُحرز أفراده شرط الإخلاص لله في سلوكهم الحياتي فيما بينهم، فالإطعام أو المساعدة أو تقديم العون أو قضاء حوائج الآخرين... الخ من أعمال حين تبتغي وجه الربّ الكريم، تُؤتي أكلها في تحقيق الشرط الإنساني لها، ومن ثمّ تكون النموذج الأمثل للإنسان الخليفة الذي أكرمه الله من دون سائر مخلوقاته بتسخير كل ما في الوجود له. وهذا الشرطُ ما أفصح به الإمام السجاد علیه السّلام في أكثر من موردٍ من موارد رسالة الحقوق العظيمة المحتوى، ولعلّ أكثر الموارد وضوحًا هو في قوله مبيّنًا حق الهدْيِ بقوله: (وأمّا حقّ الهدي فأنْ تُخلِصَ بها الإرادةَ إلى ربّك والتعرّض لرحمته وقبوله ولا تُريد عُيونَ الناظرين دونه. فإذا كُنتَ كذلك لم تكُنْ متكلّفًا ولا متصنّعًا وكُنتَ إنّما تقصِدُ إلى الله) ويكشف الإمام علیه السّلام عبر التزام العبد شرط الإخلاص في العمل، أنّه لمّا كان العمل المقدّم من العبد إلى الآخرين بنية القُربة إلى الله واكتساب الأجر والثواب منه لا من المخلوقين، سيكون بعيدًا عن المظاهر الخادعة ومجرّدًا عن كلّ ما يُشعر بالتكلّف والحرج وإرهاق النفس، كما هو الحال فيما يكون من أعمال بروتوكولية يقوم بها بعض الناس لأجل استرضاء أحد الخصوم، أو لأجل أنْ يظهر فيما بين أفراد مجتمعه بالمظهر اللائق، إذ تكون مثل تلك الأعمال مصحوبة بالتكلّف من النفس، فمثلاً تجد البذخ الزائد في إعداد الطعام، ولم يؤكل منه حين الطعام إلا أقلُّ من نصفه، وما يتبقى يكبّ في النفايات، أمّا لو كانت النية خالصة لله، لكانت بتلك الأموال التي استُهلكت في إعداد هذه الموائد الطافحة بما لذ وطاب من طعام قضاء حاجة مؤمنٍ أو مؤمنة أو السعي في إصلاح ذات بينٍ أو معونة مدينٍ يستحقّ قضاء حاجته طلبًا لما عند الله من أجرِ جزيلٍ أعدّه لمن يعمل على قضاء حوائج الناس بما رزقه الله من مال؛ لأنّ الإسراف من أخلاق الشيطنة في التعامل، وقد وصف سبحانه أولئك بأنهم إخوانٌ يعينون إبليس في إضلال الآخرين وإيقاعهم في شراك المعصية لتحقيق مآرب إبليس في الصدّ عن

ص: 233

رحمة الله التي شاءت أن يكون بني آدم خلفاء في الأرض، فقال: ((وَآتِ ذَا الْقُرْبيَ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)) [الإسراء : 26 – 27[ . وفي ظلّ هذا المعنى، يُعلّل الإمام علیه السّلام بيان الإخلاص في العمل وتجنّب التكلّف فيه بقوله: (واعلم أنّ الله يُراد باليسير ولا يُراد بالعسير كما أراد بخلقه التيسير ولم يُرد بهم التعسير، وكذلك التذلّل أولى بك من التدهقن؛ لأنّ الكُلفةَ والمؤونة في المتدهقنين. فأمّا التذلل والتمسكن فلا كُلفةَ فيهما ولا مؤونة عليهما، لأنّهما الخلقة، وهما موجودان في الطبيعة. ولا قوة إلا بالله) فواحدةٌ من أبرز ثمار الإخلاص في العمل، يظهر في التيسير وعدم التكلّف فيه؛ لأنّ الله يعلمُ ما في سريرة العبد، فيكافئه على صلاح نيته، صغُر ذلك العمل أم كبُر، فهو القائل: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة: 185] وهو الأمر نفسه الذي أكّد عليه الرسول الكريم صلّی الله علیه و آله بقوله : ((«إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنَّيَّةِ ، وَإنَّمَا لِامْرِئ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةِ يَتَزَوَّجُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»)) فالنيّة الخالصة إنّما تنسجم وطبيعة النفس، أما التكلّف فهو خروجٌ من فطرة الله، ومن ثمّ تعدٍّ لحدوده التي رسمها بمقتضى حكمته وعدالته.

وتتفرّع من محور الإخلاص في النية مبادئ أخلاقية عدّة تحقّق حياةً سعيدةً لأفراد المجتمع في حياتهم بقبولهم الآخر ، مع إبداء النُصحِ فيما بينهم؛ لأجل التكامل الأخلاقي والوصول إلى مصداق (خيرِ أمّة) ذلك العنوان الذي رسمه الجليل في قرآنه بقوله: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران: 110] فمعيار أفضلية هذه الأمة لالتزامها شرع الله في إسداء النُصح والتوجيه بما يُسمّى فقهيًا بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمثّل هذا المبدأ حقًّا للسلطان عليك، وذلك بقول الإمام علیه السّلام: (فأمّا حقّ سائسك بالسُلطان: فأن تعلم أنّك جُعِلتَ له فتنةً. وأنه مُبتلًى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان، وأنْ تُخلِص له في النصيحة. وأن لا تُماحكه وقد بُسِطتْ يدُهُ عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلّل وتلطّف لإعطائه من الرضا ما يكفّهُ عنك ولا يضرُّ

ص: 234

بدينك. وتستعينُ عليه في ذلك بالله) وهنا يكون التلطّف لأجل إدامة عجلة النُصح والتوجيه بما يُصلح حال المجتمع، فالتلطَّف في إبداء النُصح مهمٌّ جدًّا بما يتركه من أثرٍ إيجابيٍّ في الآخر مهما كان عاتيًا في سلطته، وهو أمرٌ أكّد الباري سبحانه على التزامه حين أرسل كليمه موسى وهارون علیهم السّلام إلى الطاغية فرعون، بأنْ يلتزما منطق الحوار المُنتج ؛ لعلّه يُؤتي أكُله في استلانة المخاطَب ومن ثمّ كسر شوكة ضلاله بذلك الطرح الهادئ، وذلك بقوله سبحانه: ((اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) [طه 43 - 44] وكذلك حين يُخاطب رسوله الخاتم صلّی الله علیه و آله يركّز على صفة اللطف في الحوار لأجل غايةٍ أسمى، وهي هداية الآخرين لطريق الهداية والصواب، فيقول: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكَّلِينَ)) [آل عمران: 159] ولعمري إنها خصلة الصدّيقين من عباده حين يتحلّون بالصبر لا لأجل تحقيق مصلحة شخصيةٍ بل لأجل غاية أسمى من ذلك، وهي إصلاح من حولهم ولكن عبر هذا الأسلوب الطيّب الذي يفرض على الآخرين الاستجابة له والاستماع إليه.

2 - الحقوق الاجتماعية المتعلقة بالآخرين

لمّا كان الإنسان محور هذه الحقوق، فقد نظر الإمام علیه السّلام ((بعُمقٍ وشمولٍ إلى الإنسان، ودرس جميع أبعاد حياته وعلاقاته خالقه ونفسه وأسرته ومجتمعه وحكومته ومعلّمه وكلّ من يرتبط به أدنى ارتباط، ويمكن أن يُقال: إنّ تنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس تعيين مجموعة الحقوق بشكل دقيق هو الرصيد الأوّل للنظام الاجتماعي الإسلامي، وهو المبنى المعقول للتشريعات الإسلامية عامة)) (1) ، وهنا نجد الجانب الأخلاقي بارزاً بوضوح في كل حقٌّ من هذه الرسالة، إذ لم تقتصر على الحقوق الخاصة بالعبد وربّه، بل كانت تلك الحقوق مقدّمة لحقوق الآخرين على الإنسان، وبهذه تتحقق القاعدة العقلية في التهذيب الذي يبدأ بسلوك الإنسان

ص: 235


1- أساليب الإصلاحات الاجتماعية عند الإمام زين العابدين، محمد محسن الجلالي: 150

مع خالقه، ثم ينطلق ذلك التهذيب إلى رعاية حقوق الآخرين، فالمعلّم له الحق على من يُعلّمه ب_ (التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه. والإقبال عليه. والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم بأنْ تُفرّغ له عقلك. وتُحضِرَه فهمك. وتُزكّي له قلبك وتجلّي له بصرك بتركِ اللذّات ونقص الشهوات وأن تعلمَ أنّك فيما ألقى إليك رسولُهُ إلى من لقِيكَ من أهل الجهل فلزِمَك حسنُ التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته والقيامِ بها عنه إذا تقلّدتها) يتلخّص فحوى هذه الرسالة في صيانة أمانة العلم، والإخلاص في أدائها، بوصف هذين الشرطين تعبيراً عن شكرِ المعلّم لما قدّمه من خدمةٍ جليلة؛ ميّزته عن سائر المخلوقات فجعلته كائناً مميزاً بالعلم، يقول الشهيد الثاني العامليّ: ((إنّ امتيازك عن سائر جنسك ليس إلا بهذه القوة العاقلة، التي قد خصّك الله بها من بينها المميزة بين الخطأ والصواب، الموجبة لتحصيل العلوم النافعة لك في هذه الدار وفي دار المآب، فقعودك عن استعمالها فيما خُلقتَ له، وانهماكك في مهلكك من المأكل والمشرب، وغيرهما من الأعمال التي يُشاركك فيها سائر الحيوانات حتى الديدان والخنافس... مع أنّك قادرٌ على أن تصير من جملة الملائكة المقرّبين باستعمال قوّتك في العلم والعمل بل أعظم من الملائكة عينُ الخسران المبين)) (1). وقد أشاد الله سبحانه بمقام العالم الذي ينفع الآخرين بعلمه من حيث الأجر والثواب لديه، فقال: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)) [الزمر: 9]، وفي آية أخرى: ((إِنمَّا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر: 28]، وكذلك قوله: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتِ)) [المجادلة: 11] كلُّ تلك الآيات البيّنات تُظهر مقام العالم بوصفه مصداقاً للإنسان الخليفة المستحق لتكريم الله له بأنْ يُسجِدَ له جميع مخلوقاته حتى الملائكة، وأنْ يسخّرها لخدمته طوعًا، وهذا التبجيل الإلهي المقام العالم إنّما يعمل على حضّ الآخرين أنْ يتسابقوا لأن يكونوا بهذه المنزلة، فإنْ لم يقدروا فعليهم أنْ يوقّروا العالم، وبهذا نصّ كلام الإمام السجاد علیه السّلام على ضرورة إعظام العالم وإجلال مقامه من قِبل المتعلّم والإخلاص في اكتساب المعارف منه

ص: 236


1- منية المريد في أدب المفيد والمستفيد : 392- 393

ونقلها إلى الآخرين؛ لتعمّ الفائدة على الجميع، وبموجبها يتقدّم المجتمع خطواتٍ إلى الأمام وصولاً إلى مدارج الكمال، أو المجتمع المعصوم المؤهّل لخلافة الأرض، تلك الفكرة التي أشار إليها بعض العلماء الأجلاء، لانسجام مثل ذلك المجتمع مع فكر القائد المنتظر والمصلح العالمي المنشود لإرساء دعائم العدل والصلاح وتطبيق الدين الإسلامي كما أراد الله له أنْ يكون دينًا خاتماً لكل الأديان بما يملك من حلولٍ لجميع إشكالات العصر الراهنة فضلاً عن السابقِ منها.

ويتكرّر وصف السائس في موارد عدّة من رسالة الحقوق، لملاحظة الفرق بينه وبين المدبّر، يقول أبو هلال العسكري (ت: 395ه_) : ((بَين السياسة وَالتَّدْبير وَذَلكَ أن السياسة هِيَ النّظر في الدقيق من أُمور السوس مشتقه من السوس هَذَا الْحَيَوَان الْمَعْرُوفِ وَلهَذَا لَا يُوصف الله تَعَالى بالسياسة لأن الأمور لا تدق عَنهُ التَّدْبير مُشْتَقٌ من الدبر ودبر كل شيء آخره وأدبار الأمور عواقبها فالتدبير آخر الأمور وسوقها إلى ما يصلح به أدبارها أي عواقبها وَلِهَذَا قيل للتدبير المستمر سياسة وَذَلِكَ أَن التَّدْبير إذا كثر وَاسْتمرّ عرض فِيهِ مَا يحتاج إلى دقة النّظر فَهُوَ رَاجع إلى الأول)) (1).

ويستمرُّ الإمام السجاد علیه السّلام في استعراض حقوق الآخرين على اختلاف مقاماتهم، بما يمنح هذه الرسالة بعدًا اجتماعيًا شاملاً يغطّي أكثر فئات المجتمع، ولا يحصرها في فئة من الناس، أو مقام اجتماعي دون مقامٍ آخر، فحين يكون الشخص من ضمن الرعية، تنبني حقوقٌ ينبغي أداؤها وهذا ما تجسد في (حق السائي بالملك) أما حین يكون المخاطب حاكمًا فعليه تكون ثمة حقوق ينبغي أداؤها فيما يخصّ رعيته، فيقول في بعضٍ منها: (فأمّا حقوقُ رعيّتك بالسُلطان: فأن تعلم أنّك إنّما استرعيتهم بفضلِ قوّتكَ عليهم فإنّه أحلّهم محلّ الرعية لك ضعفُهُم وذلُّهُم، فما أولى من كفاكه ضعفُهُ وذلُّه حتى صيّره لك رعيةً وصيّر حُكمَك عليك نافذا، لا يمتنعُ منكَ بعِزّةٍ ولا قُوّة، ولا يستنصرُ فيما تعاظمهُ منك إلا بالله بالرحمة والحياطة والأناة وما أولاكَ إذا عرفتَ ما أعطاكَ الله من فضلِ هذه العزّة والقوّة التي قهرتَ بها، أنْ تكونَ لله شاكرًا؟!)

ص: 237


1- الفروق اللغوية : 27

ولا يخفى على كل مطلع بصير أنّ الإمام علیه السّلام يرى أنَّ سطوة السلطان هي التي منحته القدرة على أنْ يُنفذ مشيئته في رعيّته، وهذه القُدرة على حُكم الآخرين إنّما هي نعمةٌ خوّلها الله لبعض عباده ممّن يتسنّم الحكم؛ فهو محاسبٌ على هذه النعمة بأنْ يكون عادلاً مع رعيّته لا يظلمهم أو يسلب حقوقهم، على أنّ الاختلاف في مراتب الناس تقتضيه الضرورة الاجتماعية، وليس من باب الظلم أنْ يكون اختلاف في مقامات الناس، فهذا حاكم وذلك محكوم وكلٌّ له حقوق وعليه واجبات، وكلٌّ يقدّم للآخر خدمةً من موقعه بلا أيِّ منّةٍ منه أو استعلاء على الآخر، يقول تعالى: ((وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيَّا)) [الزخرف: 32] فالتفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول، لأجل حكمةٍ إلهية تقتضي اختبار البشر من خلال تعاملهم فيما بينهم على اختلاف مراتبهم الاجتماعية وعلى اختلاف ما وهبهم الله من إمكانات أهّلت كل واحدٍ منهم أنْ يكون مختلفًا بما عند الآخرين، فلو سوّى خالقهم فيما بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحدٌ أحدا ولم يصر منهم مسخرا لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدنيا(1)؛ فلذا كان للحاكم أنْ يتذكّر حقّ هذه النعمة بأن يجعل قوّته فيما يُرضي الله من عدلٍ بين رعيته، وهذا الحقُّ الذي يؤدّيه في هذا المقام بالذات إنّما يُترجم شكره لله القوّي القادر على كلّ شيء، وبخلافه لا يرقب إلا الهلاك سريعاً؛ فالعدلُ هو المعيار الأسمى في الوفاء لحقِّ الرعية من قبل الحاكم، يقول سبحانه: ((وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصيرا)) [النساء: 58] .

وتأتي الحقوق التي يقرّها الله سبحانه وتعالى على المكلّف بها من عباده باتجاه الآخرين، في المرحلة الثانية؛ لأنّها ثمرة الحقوق الأولى المتعلّقة بذات الشخص فمن عرف ربّه عرف ما عليه من حقوق وواجبات إزاء نفسه، ومن ثمّ عرف ما عليه من حقوق للآخرين ينبغي أداؤها، وما له من واجبات ويبتني على مبدأ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. بعبارة عصرية أن الحرية الشخصية تضمن حرية الآخرين ولا

ص: 238


1- ينظر: مفاتيح الغيب، الرازي 491/32

تتعدى على حقوقهم، وانتفاؤها يكون بالتجاوز. وكذلك على مبدأ التعاقد التكافل الاجتماعي، فالزوجة والأم والأب والولد والأخ وحتى المملوك ملك يمين والجارية، كلُّ أولئك لهم حقوقٌ ينبغي أداؤها بما يُرضي الله سبحانه.

وكذلك فيما يخص التعامل مع الآخرين من طبقات المجتمع بدءًا بالجار، والغريم والمستشير، والخليط والخصم والمشير والناصح والصغير والكبير، والسائل والمسؤول وأهل الملّة وأهل الذمّة، كلَّ هذه الحقوق تمثّل منظومة أخلاقية متكاملة تُصعّد الروح الإنسانية في آفاق التعامل وتضمن التكافل والتراحم فيما بينهم، وتعمل على ردم الهوّة الاجتماعية عبر ذلك التواصل المحبوب عند الله خالق الناس أجمعين، إذ يقرّر سبحانه تلك الحكمة من خلقه الناس على اختلافهم بقوله : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [الحجرات: 13] فالتقوى التي يصلها الإنسان لا تتجلّى إلا من خلال تعامله مع الآخرين بما يُرضي الله وبما أمر في محكم قرآنه من تشريعاتٍ تضمن للجميع سعادتهم فيما لو اتّخذوا حكمه نهجًا في سائر أمورهم، وهو المجتمع الإنساني الصالح الذي يُؤهّل للاستخلاف على الأرض بما يُسارع إليه من خيرٍ سواء أكان بين أفراد المجتمع الواحد، أم بين المجتمعات، يؤطّر كلّ تلك الحقوق الخشية من الله والتورّع عن معاصيه؛ لما فيها من مفاسد تعود عليه في الدنيا بالخراب الاجتماعي والاقتصادي، وفي الدار الآخرة تورده موارد الهلكة في نار الجحيم، وقد مدح سبحانه أولئك الذين يعملون الصالحات بما استشعروه من إيمانٍ عميقٍ تغلغل في قلوبهم، فنتج عن ذلك الإيمان كلّ خير وصلاح في دُنياهم وآخرتهم، بقوله : ((إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) [المؤمنون: 57-60[.

ويختم الإمام علیه السّلام في ذيل هذه الرسالة العظيمة بقوله: (فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك

ص: 239

لا تخرُجُ منها في حالٍ من الأحوال يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها والاستعانة بالله جلّ ثناؤه على ذلك. ولا حول ولا قوة إلا بالله والحمد لله رب العالمين) ولا يخفى أنّ وصفَ الالتزام بهذه الحقوق بالواجب؛ لأهميتها القصوى في سعادة الإنسان، ولكونها ضرورية في تحقيق الشرط المائز في كيان هذا المخلوق ألا وهو الإنسانية، فمن دونها لا يستأهل الإنسان أن يوصف بهذا الوصف الرفيع الذي يجعله ممثّلاً للمشيئة الربّانية في عالم الدنيا ومستحقًا لثواب الله العظيم بموجب الالتزام بها.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم

أساليب الإصلاحات الاجتماعية عند الإمام زين العابدين محمد محسن الجلالي، الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدّسة، ط1، 1436ه_ .

الأمالي للشيخ المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (ت: 413ه_)، مراجعة : علي أكبر غفاري، دار التيار الجديد دار المرتضى، قم، د.ت.

التحرير والتنوير: التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393ه_)، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 ه_.

جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، انتشارات اسماعیلیان، قم، ط7، مطبعة سرور، 1428ه_ .

دروس في الأخلاق، آية الله المشكيني، نشر الهادي قم 1379ه_.

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي (ت: 256 ه_)، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر ، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه_.

صحیح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261ه_)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، د.ت.

الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت: نحو 395ه_)، حققه وعلق عليه : محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، د.ت.

فلسفة الأخلاق، د. مصطفى عبده، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1999م.

مسند أبي داود الطيالسي، أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى (المتوفى: 204ه_)، تحقيق: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر - مصر، ط1، 1419 ه_ - 1999م.

ص: 240

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241ه_)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 ه_ - 2001م.

معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي (ت: 395ه_)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر ، عام النشر : 1399ه_ - 1979م.

مفاتيح الغيب = التفسير الكبير محمد بن عمر الملقب بفخر الدين الرازي (ت: 606ه_)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط3، 1420 ه_.

منية المريد في أدب المفيد والمستفيد الشيخ زين الدين بن علي العاملي المعروف بالشهيد الثاني (ت: 966ه_)، تحقيق: رضا المختاري، د.ت.

ص: 241

الإصلاح الأخلاقي في فكر آل البيت علیهم السّلام «زيد الشهيد أنموذجاً»

د. حیدر زوین(1)

المقدمة

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الغر الميامين ومن والاهم إلى يوم الدين.

وبعد، فيعد الخلق الحسن من الأهداف المباركة التي دعا إليها الرسول الأكرم محمد (ص) ، وأئمة أهل البيت فهذه السمة الاجتماعية تعد من السمات الأساسيّة في بناء الإنسان الصالح وتكامله؛ نظراً لما تحمله من مضامين ومثل عليا ترفع من منزلة الأشخاص التي يتسمون بها، ومردها إلى النشأة والبيئة.

والتأديب كما ورد عن الأثر في قول الرسول الأعظم صلّی الله عله و آله : ((لقد أدّبني ربي؛ فأحسن تأديبي)) يدل من دون شك على ندرة هذا المبحث الإنساني في المجتمع وذلك؛ لأنّ لفظة تأديب في المعجم تعني : كثرة الأدب وتكريره؛ فالتأديب: يقتضي حمل سمات الآداب العامة الرئيسة، وما يتمخض عنها من سمات إضافيّة وهي بزنة تفعيل التي تقتضي المبالغة في الأمر.

ص: 242


1- كلية الآداب جامعة الكوفة - قسم اللغة العربية، جاء بحثه حفرا في مفهوم الإصلاح الأخلاقي عبر التأصيل اللغوي والشرعي من اجل كشف جذور هذا الإصلاح في القرآن ومن ثم في في فكر آل البيت عليهم السلام " زيد الشهيد أنموذجاً "، المحرر

وقد قسمت بحثي الموسوم: ((الإصلاح الأخلاقي في فكر أهل البيت علیهم السّلام زيد الشهيد أنموذجاً)) على ثلاثة مباحث سبقا بمقدمة وانتهيا بخاتمة تبين أهم النتائج التي توصل إليها الباحث فضلاً عن قائمتين إحداهما لهوامش البحث والأخرى لمظان البحث الرئيسة : (المصادر والمراجع) ، وقد قسِّم المبحث الأول الذي جاء :بعنوان مفهوم الإصلاح بين اللغة والاصطلاح والقرآن الكريم على ثلاثة محاور حمل الأول عنوان: الإصلاح لغة واصطلاحاً، والثاني: مظاهر الإصلاح في القرآن الكريم أما المبحث الثاني فقد وسم بعنوان: الإصلاح الأخلاقي في فكر آل البيت علیهم السّلام ودرس المبحث الثالث: مظاهر الإصلاح الأخلاقي في خطبة زيد بن علی علیه السّلام.

وقد استعان الباحث بمجموعة من المصادر التاريخية والأدبية واللغوية والدينية كي ينجز هذا البحث المتواضع فهو لا يدعي الكمال في كل ما قام به وما بذله من جهد؛ لأن الكمال لله عز وجل وحده والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

المبحث الأول: مفهوم الإصلاح بين اللغة والاصطلاح والقرآن الكريم

أولاً : مفهوم الإصلاح في اللغة: الإصلاح هو مصدر للفعل الرباعي (أصلح)، (يصلح) والمصدر (إصلاحاً) وثمة فارق أسلوبي بين إصلاح وصلاح فصلاح مصدر للفعل الثلاثي : (صلح) وإصلاح للرباعي (أصلح) (1).

ثانياً: مفهوم الإصلاح (اصطلاحاً): الإصلاح قد يرد في دلالات عدة دلالات عدة وهي على النحو الآتي.

الإصلاح نقيض الفساد أقول: أصلحت نفسي أي عالجت فسادها (2).

الإصلاح بمعنى معالجة الخطأ السلوكي للفرد أقول أصلحت الطالبة من سلوكها أي قوّمتهُ بالإصلاح(3).

ص: 243


1- ينظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة (صلح)
2- ينظر: المفردات في غريب القرآن المؤلف : أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502ه_)، 134
3- ينظر: المصدر نفسه: 168

الإصلاح قد يقابل السيئة في موضع آخر ودلالة ثانية كقولنا عمل فلان عملاً صالحاً وتبعه عملاً سيئاً (1).

الإصلاح يحمل دلالة هداية ورشاد من رب العزة لعباده وذلك من خلال قول الصدق واتباع الحق (طريق الصواب) (2).

الإصلاح يعني إزالة البغضاء والتشاحن ومحو التنافر والعداء بين طرفين متخاصمين(3) .

ثالثاً: مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم

وردت لفظة الإصلاح في ثمانية مواضع في القرآن الكريم في وقد جاءت على النحو الآتي:

وردت هذه اللفظة لمرتين فقط بصيغة المصدر ( إصلاح) الأولى في قوله تعالى: «وَلاتُفْسِدُوافيالأرضبَعْدَإِصْلاحِهَا»(4) و تارة ثانية في قوله عز من قائل: «إِنْ أُرِيدُ إِلّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أنيب»(5) .

ووردت بصيغة اسم الفاعل (صالح) من الفعل الماضي الثلاثي (صلُح) في ثلاث آيات في قوله تعالى: «خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَ آخَرَ سَيِّئًا»(6) ، وفي قوله تعالى : «وَلَقَد اصْطَفَيْنَاهُ في الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ»(7) ، وفي قول العزيز الحكيم «وَيُكَلَّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ»(8).

ص: 244


1- ينظر: المصدر نفسه: 321
2- ينظر: المصدر نفسه : 245
3- ينظر المصدر نفسه : 90
4- (سورة الأعراف : الآية 56)
5- (سورة هود: الآية 88)
6- (سورة التوبة: الآية 102)
7- (سورة البقرة: 130)
8- (سورة آل عمران 46)

ووردت بصيغة اسم الفاعل (مصلح) على زنة جمع السلامة من اسم الفاعل المصاغ من الفعل الرباعي في سورة البقرة في قول الحكيم الخبير: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) (1) .

فيما وردت بصيغة الفعل المضارع (يصلح) في قوله تعالى:

(«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ»)(2) ،

وبصيغة الفعل المضارع المنصوب بحذف النون في قول العزيز الحكيم: («وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»)(3) .

فالمتمعن في الآيات المتقدمة يستنتج منها المفهوم الذي أراده القرآن الكريم وهو كما يشير المفسرون إلى أن الإصلاح هو تغيير تدريجي جزئي. ومن أدلّة الإصلاح قوله صلّی الله علیه و آله ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (4).

ويعد الإصلاح نمطاً أساسياً من أنماط التغيير الذي يتخذ أشكالاً عدّة من أهمها التقويم والتقويم يعبر عن موقف يتجاوز كل من موقفي الرفض المطلق والقبول المطلق إلى موقف نقدي قائم على أخذ وقبول الصواب، ورد ورفض الخطأ، فهو نقد للسلطة لتقويمها لغرض الكشف عن أوجه قصورهاعن أداء دورها. ومن أشكال الإصلاح النصيحة وما يدل على ذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله ! ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (5) يقول

ص: 245


1- ( سورة البقرة: الآية 11)
2- (سورة الأحزاب : الآية 71)
3- (سورة البقرة الآية 224)
4- (صحیح مسلم المسمى بالمسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل الى رسول الله (ص) للإمام الحافظ أبي الحسين هشام بن الحجاج القشيري النيسابوري (261206ه_) : الحديث 78)
5- المصدر نفسه: الحديث 260

الباقلاني بعدما ذكر فسق الإمام وظلمه ((... بل يجب و عظه و تخويفه و ترك طاعته في شيء ممّا

يدعو إليه من معاصي الله)) (1).

رابعاً: مفهوم الإصلاح الأخلاقي في فكر أهل البيت علیهم السّلام.

وما نقصده بالإصلاح الأخلاقي الإصلاح الذي يهدف إلى مكارم الأخلاق التي دعا إليها النبي الأكرم محمد صلّی الله علیه و آله و أئمة أهل البيت علیهم السلام؛ بغية الحفاظ على القيم الاجتماعية والثقافية والدينية في المجتمع الإسلامي ويتحقق ذلك من خلال النصح والإرشاد والوعظ .

ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه الأكرم محمد صلّی الله علیه و آله: ((وإنّك لعلى خلق عظيم)) (2) .

وقول الرسول صلّی الله علیه و آله : أ) (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (3).

ب) وقوله صلّی الله علیه و آله: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وخياركم خياركم لنسائكم)) (4).

ت) وقوله صلّی الله علیه و آله : ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم؛ فسعوهم بأخلاقكم)) (5) .

ث) وقوله صلّی الله علیه و آله: ((أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافا الذين يألفون

ويؤلفون)) (6).

ج) وقوله صلّی الله علیه و آله: ((أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً، وخيركم لأهله)) (7).

ص: 246


1- ينظر : تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403ه_)، 186
2- (سورة القلم، الآية 4)
3- جامع الأصول : 4/4 و السلسلة الصحيحة: 75/1
4- سنن ابو داود: 632/2 ت: 4682 و الكافي: الكليني، 99/2، وجواهر البحار 373
5- العيون 53/2 ، وأمالي الصدوق : 268
6- الكافي : 102/2
7- العيون: 38/2

-3 وقول الإمام علي علیه السّلام: أ) ((حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق)) (1).

ب) وقوله علیه السّلام : ((وعليكم في طلب الحوائج بأشراف النفوس وذوي الأصول الطيبة، فإنّها عندهم ،أقضى، وهي لديهم أزكى)) (2) .

ت) وقوله علیه السّلام: (( عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقهِ)) (3) .

-4 وقول الإمام الحسن علیه السّلام : ((إنّ أحسن الحسن الخلق الحسن)) (4) .

5- وقال الإمام الصادق علیه السّلام : أ ) (( إن الله خصّ رسله بمكارم الأخلاق وطبعهم عليها، فامتحنوا أنفسكم؛ فإن كانت فيكم فاحمدوا الله عز وجل واعلموا أنّ ذلك من خير، وإن لم تكن فيكم فاسألوا الله تعالى التوفيق لها واجتهدوا)) (5).

ب) (( مكارم الأخلاق عشرة : اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والمروءة والغيرة والشجاعة)) (6).

ت) (( ما يقدم المرء على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقهِ)) (7) .

وقد أشار الشعراء إلى هذه الخلّة الحميدة، أشادوا بها ومن ذلك قول الشاعر حبيب ابن أوس (أبو تمام):

فلم أجد الأخلاق إلا تخلقاً ...... ولم أجد الأفضال إلا تفضلا

ص: 247


1- غرر الحكم ودرر الكلم: الآمدي، مطبعة: دار الثقافة - النجف ، 167
2- المصدر نفسه: 214
3- ميزان الحكمة: الريشهري، 359/1
4- المصدر نفسه، 411/2
5- الكافي : 56/2
6- ميزان الحكمة: محمد الريشهري ، 856/2
7- الكافي : 100/2

أحمد شوقي:

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ...... فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ

وقال معروف الرّصافي في الموضوع نفسه:

هي الأخلاقُ تنبتُ كالنباتِ ...... إذا سقيتْ بماء المكرماتِ

وقد أشاد الشاعر محمود الأيوبي بهذه الصفة وبحاملها إذ يقول:

والمرءُ بالأخلاقِ يسمو ذكره ...... وبها يفضّلُ في الورى ويوقّرُ

المبحث الثالث : أنماط الإصلاح في خطبة زيد بن علي رضي الله عنه:

قال زيد الشهيد رضي الله عنه في خطبته الشهيرة حين أراد الخروج إلى المعركة :

(( الحمد لله الذي منّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة وأسماعاً واعية، قد أفلح مَن جعل الخير شعاره والحقّ دِثاره، وصلّى الله على خير خلقه محمد الصادق الذي جاء بالصدق وصدّق به من عند ربه والطاهرين من عترته وأُسرته والمنتجبين من أهل بيته أيها الناس العَجَل قبل حُلول الأجل، وانقطاع الأمل، فوراً.. كم طالب لا يفوته هارب إلّا هرب منه إليه، ففِرّوا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم وأنتم اليوم حجّة على مَن بعدكم، إن الله يقول: ليتفقّهوا في الدِّين وليُنذروا قومَهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يَحذرون. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات أولئك لهم عذاب عظيم. عِبادَ الله، إنا ندعوكم إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً مِن دون الله سبحانه وتعالى، إنّ الله دمّر قوماً اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. عباد الله، كأنّ الدنيا إذا انقطعت وتقضّت لم تكن، وكأنّ ما هو كائن قد نزل، وكأن ما هو زائل قد رحل، فسارعوا في الخيرات واكتسبوا المعروف تكونوا مِن الله

ص: 248

بسبيل، فإنّ من سارع في الشرو اكتسب المنكر ليس من الله في شيء أنا اليوم أتكلّم وتسمعون ولا تنصرون وغداً بين أظهركم هامة فتندمون، ولكن الله ينصرني إذا ردّني إليه، فهو الحاكم بينا وبين قومنا بالحق، فمن سمع دعوتنا وأناب إلى سبيلنا وجاهد بنفسه نفسه ومَن يليه من أهل الباطل لادّعائهم الدنيا الزائلة الآفلة على الآخرة الباقية، فالله من أولئك بريء؛ وهو يحكم بيننا وبينهم. إذا لقيتم قوماً فادعوهم إلى أمركم؛ فإن يُستجبْ لكم برجلٍ واحد خيرٌ مما طلعت عليه الشمس من ذهب وفضة؛ وعليكم بسيرة أمير المؤمنين علیه السّلام بالبصرة ؛ لا تتبعوا مُدبراً؛ ولا تُجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً، والله على ما نقول وكيل. عبادَ الله، لا تقاتلوا عدوكم على الشكّ فتضلّوا عن سبيل الله ، ولكن البصيرة ثمّ القتال؛ فإنّ الله يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حقّ؛ إنّه مَن قتل نفساً يشكّ في ضلالتها كمن قتل نفساً بغير حق عباد الله البصيرة ثمّ البصيرة)) (1).

يتمثل الإصلاح في ثورة زيد بن علي علیه السّلام في الأنماط الآتية /

الإصلاح السلوكي: فهذه الكلمات التي سطّرها سلام الله عليه تعبر بحق عن الإصلاح الحقيقي الذي مثلته تلك الثورة المعطاء فهو لم يخرج طمعا في منصب أو رغبة إلى مال وإنما طلباً إلى الإصلاح السلوكي لأمة جده رسول الله صلّی الله علیه و آله والاقتداء بسيرة سيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب علیه السّلام واستكمالاً للمشروع الريادي الذي بدأه الإمام الحسين السبط علیه السّلام . والأئمة من ذريته أجمعين. إذ يتمثّل هذا الإصلاح في قوله رضي الله عنه: (( الحمد لله الذي منّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة وأسماعاً واعية، قد أفلح مَن جعل الخير شعاره والحقّ دِثاره، وصلّى الله على خير خلقه محمد الصادق الذي جاء بالصدق وصدّق به من عند ربه والطاهرين من عترته وأُسرته، والمنتجبين من أهل بيته، أيها الناس العَجَل العَجَل قبل حُلول الأجل، وانقطاع الأمل، فوراً.. كم طالب لا يفوته هارب إلا هرب منه إليه، ففِرّوا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم وأنتم اليوم حجّة على مَن بعدكم)) (2).

ص: 249


1- الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية، تأليف: شيخ الإسلام: الشهيد حميد بن أحمد بن محمد المحلي 143/3
2- المصدر نفسه: 143/3

فقد وشحت هذه الخطبة بمظاهر اجتماعيّة رئيسة أكد عليها القرآن الكريم وحثّ عليها الرسول الكريم التي تتمثل في رفض الظلم ونبذ العبودية وعدم الركون إلى الحاكم الجائر وعدم مداهنة الباطل في سلوكياته؛ لأنّ ذلك سيجلب مزيداً من الويلات والمآسي ويلحق بأمّة الإسلام العار والشنار.

الإصلاح الأخلاقي: ويتمثل هذا النمط من الإصلاح في وصاياه (رضوان الله تعالى عليه) لجنوده قبل النزول إلى ميدان الحق ومقارعة الباطل إذ يذكر هؤلاء الجند بأخلاق وتصرفات جيش الإمام علي علیه السّلام في معركة الجمل إذ قال: ((وعليكم بسيرة أمير المؤمنين عليه السّلام بالبصرة؛ لا تتبعوا مُدبراً؛ ولا تُجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً، والله على ما نقول وكيل )) (1) ، فجميع هذه الأفعال والتصرفات مجموعة من الوصايا الاجتماعيّة التي ركّزت على الخلق السامي الذي يجب أن يتمتع به الإنسان المسلم بوصفه مقاتلاً قبل أن ينزل أرض المعركة.

الإصلاح القرآني: ويتمثل في اقتباساته رضي الله عنه المتعددة من القرآن الكريم، ومن ذلك قوله: ((إن الله يقول: ليتفقّهوا في الدِّينِ وليُنذروا قومَهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يَحذرون)) (2)، وهنا جاء بالاقتباس القرآني المباشر ليكون أقرب إلى نفس المتلقي من غيره (غير المباشر) الذي استعمله أيضا في موضع آخر في قوله: ((ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات أولئك لهم عذاب عظيم)) (3)، وقوله في موضع آخر : ((عِبادَ الله، إنّا ندعوكم إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نُشرك به شيئا)) (4)، وقوله في موضع ثالث: ((ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً مِن دون الله سبحانه وتعالى)) (5)، والملاحظ أنّ هذا الاقتباس أكثر استعمالاً من النوع الأوّل لما يحمله من خاصيّة تتمحور في تخفّي الآيات القرآنية في ثنايا الخطابة فيبدو النصّان

ص: 250


1- المصدر نفسه : 143/3
2- (سورة التوبة : الآية 122)
3- (سورة آل عمران: الآية 105)
4- (سورة آل عمران: الآية 64)
5- (سورة التوبة: الآية 31)

(القرآني، والخطابي) كأنهما نصٌ واحد، وهذه المزيّة هي التي ترفع من القيمة الفنيّة للخطابة، وتعمِق أهداف الخطابة في نفس السامع.

الإصلاح التأديبي: ويشمل هذا الإصلاح الموعظة والنصيحة؛ لأنّه يدخل من باب الآداب العامّة التي يجب أن يتحلى بها الشخص بوصفه إنساناً، وقد يطلق عليه بالإصلاح الإنساني ويتجلّى ذلك في قولِه: ((لا تتبعوا مُدبراً؛ ولا تُجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً)) (1)، فقد استعمل (رضوان الله تعالى عليه) أسلوب النهي المتمثل ب_(لا الناهية الجازمة)، والفعل المضارع المجزوم في ثلاثة مواضع ، وهذه الأفعال نهي لجنده من أجل الابتعاد عن هذه الممارسات التي قد يرتكبها الجند في الحروب من بعد أن يدخلوا المدن فالأعراف الاجتماعيّة تُحتِم على سليل النبوة اتِباع هذا النمط ؛ لأنّه القدوة الصالحة من تلك الشجرة النبويّة المباركة وهذا يظهر المذهب الحق الذي دعا إليه زيد الشهيد.

الإصلاح الوعظي (الإرشادي): وقد تحدثنا عن هذا النمط في المبحث الأول وأشرنا إليه وذكرنا أنه يدخل في جوانب النصيحة والإرشاد ويتمثّل هذا النمط في قوله (رضوان الله تعالى عليه) : ((أيها الناس العَجَل العَجَل قبل حُلول الأجل، وانقطاع الأمل، فوراً .. كم طالب لا يفوته هارب إلّا هرب منه إليه، ففِرّوا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه ، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم وأنتم اليوم حجّة على مَن بعدكم)) (2) .

فقد شاع عن العرب الأوائل في عصر ما قبل الإسلام استعمال الحكم والمواعظ والأمثال القديمة وتضمينها خطبهم الحربيّة؛ وذلك من أجل حث المقاتلين على الاستبسال والمضي قدما نحو النصر والشائع في هذا النمط استعمال أفعال الأمر، وقد جاءت هنا على التتالي: ( ففروا إلى الله، واستجيروا بثوابه) وهذه الأفعال مبنية على الضم؛ وهي مسندة إلى واو الجمع وهذا الإسناد يحمل دلالة الكثرة من المخاطبين ومن الملفت في

ص: 251


1- الحدائق الورديّة: 143/3
2- المصدر نفسه: 143/3

هذا النمط أيضا استعمال أسلوب التكرار في قوله : (العَجَلْ العَجَلْ) والمظهر الفني في هذا الجانب هو شد الأذهان على اللفظ المكرر الذي يحمل فائدة السرعة والتوكيد وتمكين جرس الألفاظ حتى تتزامن هذه اللفظة مع الألفاظ التي تنتهي بصوت اللام.

فضلاً عن ذلك نلمح سمة فنيّة صوتيّة أخرى تتمثل في استعماله (رض) للجناس الاشتقاقي في قوله : ((كم طالب لا يفوته هارب إلّا هرب منه إليه)) (1) فالجذر (هرب) هو الأصل ولذا اشتق منه اسم الفاعل هارب.

وهرب منه في المعجم تختلف في الدلالة عن هرب إليه ؛ لأن هرب منه أي خاف منه وهرب وابتعد عنه، وهرب إليه: أي: هرب نحوه والتجأ إليه وهذا هو الذي يحقق الانسجام الصوتي والصرفي في هذا المقطع من الخطبة.

ص: 252


1- المصدر نفسه 143/3. قائمة بمظان البحث الرئيسة (المصادر والمراجع) خير ما نبتدئ به كتاب الله العزيز (القرآن الكريم). تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل المؤلف : محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403ه_) المحقق: عماد الدين أحمد حيدر الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية - لبنان الطبعة: الأولى، (1407ه_ - 1987م)، عدد الأجزاء: 1. الحدائق الورديّة في مناقب أئمة الزيديّة: تأليف/ شيخ الإسلام الشهيد حميد بن أحمد بن محمد المحلي ت(652ه_)، تحقيق: د. المرتضى بن زيد المحظوري الحسني، مطبعة: مركز بدر للطباعة، والنشر والتوزيع، ط2، صنعاء- (1423ه_ 2002م.) (صحيح مسلم المسمى بالمسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل الى رسول الله (ص) للإمام الحافظ أبي الحسين هشام بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 - 261ه_)، تحقيق: نظر بن محمد الفاريابي (أبو قتيبة)، منشورات: دار طيبة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، الرياض (1427ه_ - 2006م). لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مکرم بن منظور، سنة النشرف 2003م (د. ت)، منشورات: دار صادر، بيروت، عدد الأجزاء (15). المفردات في غريب القرآن المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502ه_) المحقق: صفوان عدنان الداودي الناشر : دار القلم الدار الشامية - دمشق بيروت الطبعة: الأولى - 1412 ه_

الخاتمة

في نهاية هذا البحث لابد من ذكر النتائج التي توصّل إليها الباحث

الإصلاح يحمل معاني عدة وهي تختلف بين المعجم العربي والقرآن الكريم وهذا يعود إلى طبيعة استعمال المفردة وموقعها في السياق فضلا عن تفسير السورة في القرآن الكريم ورؤية المفسر، استعملت لفظة الإصلاح في القرآن الكريم في ثمانية مواضع، إذ وردت بصيغة المصدر (إصلاح) في موضعين وفي المواضع المتبقية: (بصيغة الفعل الماضي وصيغة الفعل المضارع وصيغة اسم الفاعل)

مفهوم الصلاح مأخوذ أساساً من الفعل الماضي الثلاثي (صلح)، في حين أن مصطلح الإصلاح مرجعه الفعل الرباعي (أصلح).

تمخّض الإصلاح في خطبة زيد الشهيد رضي الله عنه بمجموعة من الأنماط والمضامين التي اتّضحت من خلال خطبته، وقد جاءت هذه الأنماط على النحو الآتي:

الإصلاح القرآني.

الإصلاح التأديبي

الإصلاح الأخلاقي.

الإصلاح السلوكي.

الإصلاح الوعظي.

يتمثّل الإصلاح القرآني في الاقتباس القرآني الذي استعمله زيد الشهيد رضي الله عنه بين الفينة والفينة وقد جاء هذا الاقتباس على نوعين الأول غير المباشر والآخر المباشر وفائدة الأول الانسجام النصي بين النص القرآني والخطابي والآخر فهو يحمل قيمة فنيّة تتمثل في تخفي الآيات الكريمات في ثنايا هذا الفن فيبدو النصّان بنصٍ واحد.

ص: 253

يتمثّل الإصلاح الوعظي أو الإرشادي في كثرة استعمال الإمام لأسلوبي النهي والأمر وعادةً ما يستعمل الفعل المضارع المسبوق ب_( لا ) الناهية الجازمة فضلاً عن ذلك نلمح أسلوب الأمر يتمثّل في استعمال أفعال الأمر والخاصيّة الثالثة هي توافد الأمثال والمواعظ والحكم وهي سمة من سمات الخطابة في عصر ما قبل الإسلام.

الإصلاح التأديبي الذي حملته خطبة الشهيد زيد تمثّل في الحث على نبذ الأعراف الشائنة التي كان اعتاد عليها الجند العرب في حروبهم وغاراتهم وقد جاء الإسلام المحمدي الأصيل ونهى عنها ونفر منها الثلة الصالحة المتمثلة بآل البيت علیهم السّلام.

ص: 254

النسبة بين الفقه والأخلاق في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام

تعريب: حسن مطر

بقلم: أحمد باكتجي(1)

الخلاصة

لقد كانت النسبة بين الفقه والأخلاق موضع تأمل علماء الدين، وشغلت اهتمامهم منذ القدم ولا تزال، ولكنها في الظروف الراهنة - حيث نشهد تحولاً في العلاقات الاجتماعية والثقافية وتغيّراً في أنماط الحياة - فقد تضاعفت الحاجة إلى بيان هذه النسبة إثر تطور الفقه والاهتمام بمكانة الأخلاق في الحياة الاجتماعية، وهو أمرٌ ضاعف من ضرورة إعادة النظر في هذه المسألة. ومن بين الأئمة الأطهار علیهم السّلام يبدو أن الإمام الرضا علیه السّلام قد أبدى - بسبب الظروف الاجتماعية والثقافية القائمة عصره - أهمية خاصة بالفقه والأخلاق، وقد بحث مختلف جوانب هذه المسألة على نطاق واسع. وفي هذا الإطار يمكن لنا أن ندرك أن رؤية طيف إلى التكاليف الدينية، والاهتمام بعلل الشرائع ومناشئها الأخلاقية والإنسانية، والاستناد إلى التأديب في السلوك الديني وغير ذلك من أساليب المواجهة الخاصة مع مسائل الشريعة التي نشاهدها في أحاديث الإمام الرضا علیه السّلام، قد شكلت أرضية صلبة للربط والأخلاق في تعاليم هذا الإمام الهمام، حيث يمكن لإدراك دقائق هذه التعاليم أن يمثل نموذجاً ناجعاً لإعادة النظر في مسائل عصرنا.

الكلمات المفتاحية: الأخلاق الفقه الإمام الرضا علیه السّلام، المعارف.

ص: 255


1- أستاذ مساعد في علوم القرآن والحديث في جامعة الإمام الصادق (عليه السلام). apakatchi@gmail.com

المقدمة

لقد كانت النسبة بين الفقه والأخلاق موضع بحث بين العلماء منذ القدم، بيد أن هذه النسبة إنما تزداد تعقداً بشكل خاص عندما يصل بنا الأمر إلى الحديث عن الأخلاق الدينية. إن المصادر الرئيسة للفقه والأخلاق الدينية في النصوص الدينية تتلخص في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكلاهما يتحدث عن الواجبات والمحظورات، ولذلك لا يكون هناك فرق بينهما لا من الناحية المضمونية ولا من ناحية المصادر والمراجع. وربما أمكن القول: إن وجه الاختلاف والتمايز الوحيد بين الفقه والأخلاق الدينية يكمن في الحدود المرسومة بشكل تعيّني في تاريخ العلوم الإسلامي، وهذا في حين أنه عند الحديث في حقل النصوص، يكون تطبيق هذه الحدود صعباً، بل وقد يكون متعذراً في بعض الأحيان. وفيما يتعلق بالقرآن الكريم يستحيل رسم الحدود بين الآيات الفقهية آيات الأحكام والآيات الأخلاقية، كما يبدو الأمر مشكلاً بنفس النسبة فيما يتعلق بأحاديث النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السّلام أيضاً. فما أكثر الأحاديث التي يعتبرها الفقهاء من الأحاديث الفقهية، وفي الوقت نفسه يذهب علماء الأخلاق إلى اتخاذها مستنداً لاستنباط القواعد والأصول الأخلاقية.

ليس هناك من خلاف بين علماء الإسلام في القول بأن التخلق بالفضائل الأخلاقية واجتناب الرذائل من شأنه أن يوصل الإنسان إلى التعالي، بيد أن السؤال يدور بينهم حول الحد الأدنى الضروري من ذلك. وفي الوقت الذي يذهب طيف من العلماء إلى القول بأن الفقه والأخلاق حقلين متعاشقين، ولا يعتبرون الحد الأدنى من الإلزامات المفروضة على الإنسان منحصراً بالتعاليم المبوّبة بوصفها أحكاماً فقهية، يذهب طيف آخر من العلماء إلى نوع من الورع الفقهي، ويعملون على تحديد الإلزامات العملية بالإلزامات الفقهية.

وفي خصوص ما تقدم يبدو من المهم جداً أن نبحث من أجل العثور على موقف الأئمة الأطهار علیهم السّلام والحلول المطروحة من قبلهم والمقالة الراهنة تبحث في الإطار

ص: 256

العام لهذا الموقف والحل، رغم أن التفصيل في ذلك يحتاج - بطبيعة الحال - إلى مساحة أكبر من مجرّد مساحة مقالة. وفي هذا السياق يبدو أن البحث بشأن النسبة بين الفقه والأخلاق في الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام من الكثرة والأهمية بحيث يمكن من خلال تحليلها التقدم خطوة في إطار تصوير هذا الارتباط.

إطلالة على المدارس المنافسة في التربية الأخلاقية

من بين المدارس الأخلاقية في التاريخ تتجلى مدرسة الأئمة من أهل البيت علیهم السّلام في القرن الهجري الأول بوصفها مدرسة تجمع بين الترابط والانسجام وبين عدم انفصالها عن الأوضاع الاجتماعية والحاجة الثقافية لعصر كل واحد من الأئمة الأطهار علیهم السّلام.

لقد تجلت خصوصية تعاليم الإمام الباقر علیه السّلام - طوال القرن الهجري الثاني - بالمقارنة إلى الأئمة السابقين بسعة التعاليم والخوض التفصيلي في تحليل مكارم الأخلاق ومساوئها، وإن الذي تمّ الاهتمام به في تعاليم هذا الإمام الهمام أكثر من غيره يمثل وجوهاً من الأخلاق الاجتماعية، من قبيل: التأكيد على قضاء حوائج المؤمنين، وكيفية تنظيم العلاقات بينهم، بل وحتى آداب مصاحبتهم، واختيار الصاحب من بينهم (1).

وفيما يتعلق بمورد التعاليم الأخلاقية للإمام الصادق علیه السّلام يمكن لنا أن نؤكد بعض الأمور ، وهي تعاليم بشأن كيفية تعامل الشيعة مع عامة المسلمين، وتعاليم بشأن وظائف وحقوق الشيعة على بعضهم ومواعظ متنوّعة في باب التخلق بمكارم الأخلاق، وتجنب مساوئ الأخلاق. وكذلك جانب من تعاليمه الناظرة إلى نقد الاتجاهات الصوفية التي كانت مدوّنة آنذاك في شكلها البدائي، وفي المقابل كان علیه السّلام يوصي أتباعه بممارسة حياة طبيعية ومتعارفة وعيشة معتدلة (2).

ص: 257


1- انظر مثلاً : الكليني، (1391ه_)، ج 2، ص 181؛ أبو نعيم الإصفهاني، (1351 ه_)، ج 3، ص 184 – 187
2- انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 5، ص 65 - 70 ، وج 6، ص 441 – 444؛ أبو نعيم الإصفهاني، (1351ه_)، ج 3، ص193

يجب القول إنه بالتوازي مع هذه المدرسة في القرن الثاني للهجرة قد تبلورت مدارس أخرى، دخلت في حوار مع هذه المدرسة. وهي المدارس التي تم تأسيسها في القرن الأول للهجرة بهمّة الفقهاء السبعة في المدينة المنوّرة على أساس رؤية فقهية، وقد تمّ الاستناد فيها إلى ورع فقهي هو عبارة عن امتثال الواجبات الدينية وتجنب محرّمات الشرع (1) . وقد استمرّ هذا المسار في القرن الهجري الثاني على يد عالم المدينة الشهير (مالك بن أنس)، حيث كان يؤكد على التعاليم التقليدية لأصحاب المدينة في باب الزهد والتنسّك، وكان يخالف الامتناع عن النعم الدنيوية، مقدماً تفسيراً فقهياً للزهد والورع (2) . وفي مقدمة رسالة خاطب فيها الخليفة العباسي هارون الرشيد أكد - بعد ذكر الموت وأهوال القيامة - على إقامة العبادات الشرعية برؤية فقهية (3) .

وفي معرض جولتنا على المدارس الأخلاقية في العراق يجب أن نشير إلى ثلاث مدارس رئيسة تبلورت في نهاية القرن الأول للهجرة واستمرت طوال القرن الثاني للهجرة، وهي: مدرسة البصرة ذات الاتجاه التخويفي بزعامة الحسن البصري (م: 110ه_)، حيث تقوم على التخويف من العقاب، وعدم الانكباب على الدنيا، والتأكيد على الزهد والإكثار من العبادة وملازمة الحزن، وإن رؤيتها المفرطة إلى الزهد وترك الدنيا، قد وضعت تعاليمها على مسافة بعيدة من التكاليف الفقهية. ومدرسة الرجاء البصرية بزعامة ابن سيرين (م: 110ه_)، وهي تؤكد على الرجاء وتمتاز بخصائص من قبيل: الدعوة إلى السعي من أجل الدنيا في الحدود المتعارفة، والورع واجتناب المحرمات والشبهات والاقتصاد والاعتدال في العبادة، والتأكيد على كثرة الاستغفار، ومعاشرة الناس ومخالطتهم بالبشر والمعاملة الحسنة، وموقفها تجاه النسبة بين الفقه والأخلاق أقرب إلى موقف مدرسة المدينة ومدرسة الإرجاء الكوفية بزعامة أبي حنيفة الذي كان في الحياة الفردية يعتبر العمل - برغم قيمته - منفصلاً عن حقيقة

ص: 258


1- انظر : أبو نعيم الإصفهاني، (1351 ه_)، ج 2، ص 162
2- انظر: الدميري، (بلا تاريخ) ، ج 2، ص 2، ص 317 – 318
3- انظر: مالك بن أنس، (1373 ه_)، ص 6 - 8

الإيمان، وهو رغم عدم تبشير العاصي بالجنة إلا أنه يعتبره مؤمناً وأخاً دينياً لسائر أفراد المجتمع. إن هذه المدرسة - التي كان بعض أتباعها من مشاهير الفقهاء - حيث لم تكن تربط العمل بالإيمان مباشرة ، لم تكن ترى حاجة إلى فصل اتباع الحدّ الأدنى من المستوى الفقهي عن اتباع الحد الأقصى الذي يفوق التعاليم الفقهية (1) .

بعد هذه الإطلالة والجولة القصيرة على آراء المعاصرين من العامة والفضاء الذي کان يسود المحافل العلمية في خصوص العلاقة بين الأحكام الفقهية والأخلاقية، نسعى إلى بيان موقف الإمام الرضا علیه السّلام من هذه المدارس المختلفة، وما هي النسبة المرسومة في الروايات المأثورة عنه بين الفقه والأخلاق.

تبويب مقولة الأحكام والنسبة بين الفقه والأخلاق

إن من بين التحديات الهامة التي شهدتها المحافل الفقهية طوال القرن الهجري الثاني، نمط التعاطي مع أحكام القرآن الكريم والارتباط بينه وبين السنة النبوية. طوال ذلك القرن كان هناك تياران متوازيان، وقد أدى التعارض الفكري بينهما إلى حدوث بعض التحديات العلمية في القرن الثاني.

إن أحد هذين التيارين انخفض مستوى أهميته في القرون اللاحقة، ولكنه كان أكثر تناغماً مع المضامين القرآنية والأحاديث النبوية وتعاليم أهل البيت علیهم السّلام، ولم يكن هذا التيار يضع السنة في عرض الكتاب وإنما في طوله. وكان هذا التيار يعتبر أمر الله في الكتاب أصل الشريعة، و(ما سنّه رسول الله) يمثل بسط ذلك الأمر، وإن الكتاب والسنة ليسا أدلة على الحكم الشرعي، بل هما التشريع بعينه، وفي نظرة تراتبية، كان الكتاب - بوصفه حكم الله - يقع في مرتبة أعلى من السنة. وبطبيعة الحال فإن هذه الرؤية التراتبية إلى الكتاب والسنة كانت مقرونة بأصل ثابت أيضاً، وهو أن التخلفعن واجبات السنة النبوية بدوره لم يكن جائزاً أيضاً. وفي هذه الرؤية تكون ثمرة النظرة التراتبية إلى الكتاب والسنة بشكل طولي لا عرضي، أولاً: هو أن أحكام

ص: 259


1- انظر : باكتجي (1377 ه_ ش)، ص 222 -233)

الشريعة ذات ماهية تراتبية، فهي ليست على مرتبة واحدة، وأنه للمواجهة التخلف مع عن الشريعة، يجب أن تكون المواجهة بدورها ذات مراتب أيضاً، وثانياً: في موارد السهو والنسيان أو التزاحم، يجب أن يكون مبنى الترجيح هو المراتب الراجعة إلى منشأ الحكم، وهل هي مأخوذة من الكتاب أو السنة أو من طرق أخرى.

هناك شواهد تثبت أن الرأي الأخير بشأن الارتباط بين الكتاب والسنة يمكن العثور عليه في تعاليم الإمام الباقر علیه السّلام(1) ، والإمام الصادق(2) علیه السّلام، والإمام الكاظم علیه السّلام(3). وقد تواصل - كما سيأتي ذكره في السطور اللاحقة - في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام أيضاً .

وفي قبال هذا التيار كان هناك تيار آخر، أضحت تعاليمه في القرون اللاحقة هي الغالبة والسائدة في المحافل العلمية، وقد كان هذا التيار يرى أسبقية أحكام الشريعة بالقياس إلى الكتاب والسنة وكان يسعى من خلال الاستفادة من بعض الأدوات إلى بلوغ المحتوى الموجود وراء الكتاب والسنة. لقد قام هذا الرأي في القرن الثاني للهجرة، ولا سيما في محافل أصحاب الحديث، وتم تقديم صيغته المدوّنة والمكتوبة في (الرسالة) لمحمد بن إدريس الشافعي (م: 204 ه_) إمام المذهب الشافعي(4). وقد كان هذا التيار يرى أن الكتاب والسنة أدلة للوصول إلى الحكم الشرعي، وحيث كان يرى آليتها هي الدلالة، لم يكن يرى تمايزاً في المراتب بينهما على نحو ما تقدم سنخه آنفاً. فالمسألة هي بيان حكم في إطار دليل، وكان بإمكان الشارع المقدس أن يرشد الناس إلى حكم معيّن من أحكام الشرع بواسطة دليل من الكتاب أو السنة أو بواسطة دليل آخر .

جدير بالذكر أنه في ظل التحديات الماثلة بين هذين التيارين، كان تقسيم الأحكام - بالنسبة إلى القائلين بعدم التراتبية بين أحكام القرآن والكتاب(5) - على نحو من الحصر العقلي أو في ما إذا كان في مجموع الأدلة حكم أم لا . فإن لم يكن هناك حكم

ص: 260


1- انظر مثلاً : ابن بابويه، (1404ه_)، ج 1، ص 338 - 339
2- انظر مثلاً : الكليني، (1391 ه_)، ج 2، ص 383
3- انظر مثلاً : الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 1، ص 109
4- انظر مثلاً : الشافعي، (1358 ه_)، ص 19 - 20 ، و 39
5- هكذا ورد في النص، ولعل المراد (بين الكتاب والسنة)!

كان الوضع قائماً على الإباحة، وإن كان هناك حكم فهو إما مقرون برخصة الترك أم لا، فإن كان مقروناً برخصة الترك وكان أمراً فهو من الندب (الاستحباب)، وإن كان نهياً فهو من الكراهة، وإن لم يكن مقروناً برخصة الترك، وكان أمراً فهو واجب، وإن كان نهياً فهو محرّم. وهذا هو النموذج الذي عُرف لاحقاً في المصادر الأصولية في القرون اللاحقة بالأحكام الخمسة. أما بالنسبة إلى الذين يقولون بالتراتبية في الأحكام فقد تم بسط هذه المقولة واتخذت صورة طيفية. ويمكن لنا أن نشاهد انعكاس هذا النوع من الرؤية ونتيجتها في تبويب الأحكام في حديث مأثور عن الإمام الرضا علیه السّلام رواية أحمد بن الحسن الميثمي، على النحو الآتي:

(إن الله - عز وجل - حرّم حراماً وأحل حلالاً وفرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله أو دفع فريضه في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك مما لا يسع الأخذ به؛ لأن رسول الله صلّی الله علیه و آله لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرّم الله، ولا ليغير فرايض الله وأحكامه، وكان في ذلك كله متبعاً مسلماً مؤدياً عن الله وقول الله - عز وجل – إِنْ( أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (1)، فكان متبعاً لله مؤدياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرساله... وكذلك قد نهى رسول الله صلّى الله عليه و آله عن أشياء نهي حرام فوافق فذلك نهيه نهي الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرايض الله تعالى، ووافق في ذلك أمره أمر الله تعالى، فما جاء في النهى عن رسول الله صلّی الله علیه و آله نهي حرام جاء خلافه لم يسع حرام جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به [الأئمة الأطهار علیهم السّلام] ، ل أنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلّی الله علیه و آله ولا نأمر بخلاف ما أمر رسول الله صلّی الله علیه و آله إلا لعله خوف ضروره؛ ف إما أن نستحل ما حرم رسول الله صلّی الله علیه و آله أو نحرم ما استحلل رسول الله صلّی الله علیه و آله ، ف لا يكون ذلك أبداً؛ ل أنا تابعون لرسول الله صلّی الله علیه و آله مسلمون له كما كان رسول الله صلّی الله علیه و آله تابعاً ل أمر ربه - عز وجل - مسلماً ، وقال - عز وجل - (مَا أَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (2) ، وإن رسول الله صلّی الله علیه و آله نهى عن أشياء نهي حرام بل إعافة وكراهة وأمر بأشياء ليس فرض ولا واجب بل

ص: 261


1- الأحقاف: 9
2- الحشر : 7

أمر فضل ورجحان في الدين رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله صلّی الله علیه و آله نهي إعافة أو أمر فضل فذلك يسع استعمال الرخص) (1) .

فكما نشاهد في هذه الرواية هناك نظرة تراتبية إلى أحكام الكتاب والسنة، تمهّد الأرضية إلى رؤية طيفية إلى الواجبات والمحظورات، وإن هذه الرؤية قد أوجدت لرفية في هذا النموذج يمكن معها للكلام في الفضائل ونقائض الفضائل أن يندرج في طيف من الواجبات والمحظورات؛ إذ يقع في طرف منه الواجبات القرآنية، بينما تقع المحظورات القرآنية في الطرف الآخر.

جدير بالذكر أن هناك نظرة مماثلة نجدها عند المتقدمين من علماء المذهب الحنفي أيضاً، وقد سبق أن تحدّثنا عن ارتباط هذا المذهب الفقهي بمدرسة الإرجاء الكوفية، وأشرنا هناك إلى كيفية إعداد هذه النظرية لإيجاد رؤية طيفية بالنسبة إلى أفعال الإنسان. وعلى كل حال فإن التبويب المتداول في الكتب الأصولية لدى الأحناف لأعمال المكلفين تشير بوضوح إلى مدى قرب رؤيتهم من الرؤية المأثورة عن أهل البيت علیهم السّلام ولا سيما منهم الإمام الرضا علیه السّلام منهم . فقد ورد في تبويب الأحناف للأحكام أن العمل الذي يكون القيام به مطلوباً من الشرع يشمل طيفاً من الفرائض والواجبات والسنن والمندوبات (المستحبات)، وإن ما طلب تركه يشمل الحرمة وكراهة التحريم وكراهة التنزيه(2) (3).

علل الشرائع والنسبة بين الفقه والأخلاق

إن التدقيق في الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام ، يثبت أن هناك مساحة واسعة من أحاديثه علیه السّلام لقد تم بيانها في مقام بيان علل الشرائع أو أنها أحكام شرعية صيغت في إطار التعليل. وبغض النظر عن التطبيق الفقهي لهذه الروايات إذا صحت

ص: 262


1- ابن بابويه، (1984) م، ج 2، ص 22 - 24
2- في التعاريف التي قدمها الأحناف في القرون المتأخرة تم إلحاق السنة المتواترة بالكتاب، وفي الحقيقة بدلاً من أن تقام علاقة تراتبية بين حكم الله وحكم رسول الله (ص) ، يناط فصل الأطياف بمقدار قطعية صدور مرجع الحكم
3- انظر: السرخسي، (بلا تاريخ) ، ج 1، 110 - 115؛ ابن نجيم، (بلا تاريخ) ، ج 1 ، ص 69، وج 2، ص 277؛ البيضاوي، (بلا تاريخ) ، ج 1 ، ص 76 - 77 ؛ الطحطاوي، (1318 ه_)، ج 1، ص 181

من الناحية السندية، وبغض النظر عن شأن كفاية دلالتها أن تعدّ من قبل الفقيه علة منصوصة تمهّد الطريق للقياس المنصوص العلة أو ما يُعرف - بعبارة أخرى - بتعميم الحكم، فإن التطبيق الآخر لهذه الروايات يكمن في إيجاد اللحمة بين الفقه والأخلاق. لا بدّ من الالتفات إلى أنه في الكثير من العلل المذكورة للأحكام الفقهية هناك التفات إلى الدوافع التي تندرج - طبقاً لكل تعريف - في دائرة الأخلاق، وبذلك فإن الإمام في هذا النوع من الأحاديث يؤكد على نوع من العلاقة السببية بين تشريع الأحكام والوصول إلى التعالي الأخلاقي. إن هذا النوع من التلاحم الذي يعني التشريع من أجل بلوغ التعالي الأخلاقي، يمكن العثور عليه - كنموذج - في الحديث القيّم الذي يرويه محمد بن سنان عن الإمام الرضا علیه السّلام، إذ يقول :

(إن علة الصلاة أنها إقرار بالربوبية لله عز وجل، وخلع الانداد، وقيام بين يدي الجبار - جل جلاله - بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاماً لله - جل جلاله - وأن يكون ذاكراً غير ناس ولا بطر، ويكون خاشعاً متذللاً راغباً طالباً للزيادة في الدين والدنيا، مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله - عز وجل - بالليل والنهار، لئلا ينسى العبد سيده ومدبره وخالقه فيبطر ويطغى ويكون ذلك في ذكره لربه - جل وعز - وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي ومانعاً له من أنواع الفساد) (1) .

وفي فقرة أخرى من رواية محمد بن سنان ورد في بيان علة الزكاة - فضلا عن رفع حاجة الفقراء - قيل : إنها تستوجب تعليم النفس على الصبر، واعتياد الإنسان على شكر النعمة، وبناء روح الرأفة والعطف تجاه المستضعفين والمساكين والحثّ على مساعدتهم(2).

وفي ذات هذه الرواية عند الحديث عن علّة الحج يُشار إلى بعض العلل، من

ص: 263


1- ابن بابويه، (1385ه_)، ج 2، ص 317 ؛ ابن بابويه (1404ه_)، ج 1، ص 214 - 215؛ وقريباً من هذا المضمون ما ورد في حديث عن الفضل بن شاذان، انظر: ابن بابویه، (1385ه_)، ج 1، ص 256 - 257؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 110 - 111
2- انظر: ابن بابویه، (1385ه_)، ج 2، ص 369 ؛ ابن بابويه (1404 ه_)، ج 2، ص 8 ؛ ابن بابويه، 1984م)، ج 2، ص 69

قبيل : إن الحج إنما شرّع ليخرج الإنسان من جميع الذنوب، وأن يتوب عما مضى، ويبدأ صفحة ناصعة في المستقبل، ويضاف إلى ذلك أن إنفاق المال والتعب الذي يصيب الجسم في الحج يدفع الإنسان نحو الحذر من اتباع الشهوات واللذائذ. ثم يستطرد في بيان ثمار أخرى مترتبة على الحج من قبيل التخلي عن قسوة القلب، وعدم الغفلة عن ذكر الله، والاهتمام بحقوق الآخرين، وكفّ النفس عن الفساد، كما تمّت الإشارة إلى أن الحج فرصة لاجتماع المسلمين والتعرّف على مشاكل بعضهم؛ وبذلك يمكن لأهل المكنة أن يقدموا يد العون لإخوتهم من ذوي الحاجة(1).

وفي موضع آخر من حديث محمد بن سنان عند الحديث عن علة تشريع الصوم تمّت الإشارة إلى موارد من قبيل: تقوية الصبر، والابتعاد عن الشهوات، والاهتمام بمشاكل المحتاجين والبائسين (2) .

وفي هذا الحديث الرفيع، في معرض الكلام عن الأبحاث الخارجة عن دائرة العبادات، نشاهد إثارات أخلاقية على نطاق واسع، من ذلك على سبيل المثال ما ورد في بيان سبب حرمة الزوجة على الزوج أبداً بعد التطليقة التاسعة، حيث قيل في بيان علة ذلك: إنه لاعتبار الزوج كي لا يستضعف المرأة ولا يظلمها، وأن يعمل الشخص ألف حساب قبل أن يسارع إلى تطليق زوجته (3) .

وهناك نصّ مماثل في باب علل الشرائع يرويه الفضل بن شاذان النيسابوري، عن الإمام الرضا علیه السّلام، حيث يشتمل بدوره على معطيات واسعة في بيان العلاقة والارتباط الوثيق بين الفقه والأخلاق من ذلك أن هناك فقرة في هذا الحديث بشأن العلة الملزمة للإنسان بعبادة الله تقول : (فإن قال قائل : لم تعبدهم؟ قيل: لئلا يكونوا ناسين ،لذكره ولا تاركين ، لأدبه ولا لاهين عن أمره ونهيه إذا كان

ص: 264


1- انظر: ابن بابويه، (1385ه_)، ج 2، ص 404 - 405؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 97
2- انظر: ابن بابويه (1385ه_)، ج 2، ص 378؛ ابن بابويه (1404 ه_)، ج 2، ص 73؛ ابن بابويه، (1984م)، ج 2، ص 98. وقريب من هذا المضمون ما ورد في حديث عن الفضل بن شاذان، انظر: ابن بابویه، (1385 ه_)، ج 1، ص 270؛ ابن بابويه 1984م)، ج 2، ص 123
3- انظر: ابن بابویه، (1385ه_) ، ج 2، ص 507 ؛ ابن بابويه (1404 ه_)، ج 2، ص 502؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 102

فيه صلاحهم وفسادهم وقوامهم فلو تركوا بغير تعبد لطال عليهم الأمد وقست قلوبهم) (1) .

وجاء في حديث ابن شاذان في بيان علة صلاة الجماعة: إن الاجتماع للصلاة يمهّد الأرضية ليتعاون المؤمنون على البر والإحسان والتقوى واجتناب الذنوب (2) .

وكذلك ورد في حديث ابن شاذان بشأن علة الإحرام في الحج، موارد من قبيل: الخشوع قبل الدخول إلى الحرم، وتجنّب اللهو والاشتغال بمتع الدنيا، والإقبال على بيت الله بشكل كامل مع الخشوع والخضوع عند التوجه إلى البيت(3).

الاحتياط في حدود الفقه والأخلاق

إن من بين الأمور التي حظيت باهتمام العلماء المسلمين في حدود الفقه والأخلاق على الدوام، هو الاحتياط والسلوك المقرون بالحزم. إن الاحتياط - سواء أكان من قبل المفتي أو من قبل المقلد، وسواء أكان منبثقاً من الشبهة الحكمية أو من الشبهة الموضوعية هو في جميع الأقسام المعروفة في الأبحاث الفقهية - سلوك في إطار تدارك الجهل، بيد أن هناك نوعاً خاصاً من الاحتياط يفوق الحالات المتقدمة، وأن الدافع له في الأساس ليس هو تدارك الجهل والشك في الحكم أو الموضوع، بل الغاية منه تأديب النفس، وراحة الضمير، والاطمئنان من ناحية الحصول على رضوان الله. وفي الوقت الذي يقع الاحتياط الاستدراكي في دائرة الورع الفقهي، فإن الاحتياط التأديبي يرفع الأسوار القائمة بین الفقه والأخلاق. وخلافاً للاحتياط الاستدراكي الذي يرتبط بوضع ذي حالتين، فإن الاحتياط التأديبي يمكن أن يكون عبارة عن طيف متفاوت الدرجات والمراتب.

إن الاحتياط الاستدراكي إذا كان متعلقاً بتشخيص الحكم، يتعلق بالمفتي عندما

ص: 265


1- ابن بابويه، (1385ه_)، ج 1، ص 256؛ ابن بابويه، (1984م)، ج 2، ص 110
2- انظر ابن بابويه، (1385ه_)، ج 1، ص 262؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 116
3- ابن بابويه، (1385ه_)، ج 1، ص 274 ؛ ابن بابويه، (1984م)، ج 2، ص 127

يكون بصدد استنباط حكم من الأدلة التفصيلية بالطرق الظنية، بيد أن افتراض أن يقع المعصوم في حالة الجهل بالحكم، وهو أمرٌ يضطره إلى الاحتياط الاستدراكي، مخالف للفرضية المعروفة في عقائد الإمامية في حقل علم الأئمة علیهم السّلام. وعليه عندما نواجه في الأحاديث المأثورة عن الأئمة علیهم السّلام كلاماً بشأن الاحتياط في مقام بيان الحكم، لا ينبغي حمل الاحتياط هنا على الاحتياط الاستدراكي أبداً، وبناء على الفرضية المذكورة في أعلاه يجب حمل الاحتياط في هذه الموارد على الاحتياط التأديبي.

وفي الروايات المأثورة عن الأئمة علیهم السّلام النواجه الاحتياط بوصفه مصطلحاً محورياً في كثير من الموارد، وهناك من بينها - بطبيعة الحال - ما يتحدّث عن الاحتياط الاستدراكي، ومن ذلك يمكن الإشارة إلى حديثين يرويهما عبد الرحمن بن الحجاج عن الإمام الكاظم علیه السّلام، أحدهما بشأن كفارة محرمين قاما بصيد حيوان(1)، والآخر بشأن شخص يريد بيع سيف مرصّع بفضة ديناً وجعل ثمنه ذهباً(2). وأما الإمام الذي استعمل - من بين الأئمة الأطهار علیهم السّلام - مصطلح الاحتياط في عدد من موارد الاحتياط التأديبي، فهو الإمام الرضا علیه السبلام، وعلى هذا الأساس فإن تعاليم هذا الإمام في حقل الربط بين الأخلاق والفقه تحظى بمنزلة خاصة.

من ذلك على سبيل المثال يمكن الإشارة - من بين هذا النوع من الاحتياط - إلى الحديث الذي يرويه البزنطي عن الإمام الرضا علیه السّلام في خصوص عدّة المتعة. وقد جاء في نص هذا الحديث المقتضب عن الإمام علیه السّلام قوله: (قال أبو جعفر علیه السّلام: عدة المتعة خمسة وأربعون يوماً، والاحتياط خمسة وأربعون ليلة) (3). وكما نرى فإن هذه الرواية تتألف من شقين الشق الأول كلام للإمام الباقر علیه السّلام ينقله الإمام الرضا علیه السّلام، وأما الشق الثاني فهو كلام الإمام الرضا نفسه. جدير بالذكر أن كلام الإمام

ص: 266


1- انظر: الكليني، (1391ه_) ، ج 4، ص 391؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 5، ص 467
2- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 251؛ الطوسي، (1364ه_ ش)، ج 7، ص 113؛ المصدر نفسه، (1363 ه_ ش، ج 3، ص 98
3- الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 458)

الباقر علیه السّلام مروي عنه بكلا اللفظين: (خمسة وأربعون يوماً)، و(خمسة وأربعون ليلة) من قبل بعض أصحابه علیه السّلام ، ومن أمثال : زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم (1). أما الاحتياط المذكور في العبارة المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام، فيبدو أن سببه يعود إلى شیوع روايات أخرى بين الإمامية مأثورة عن الإمام الصادق علیه السّلام ، ومضمونها أن العدة في المتعة بمقدار حيضة لمن تحيض، وبمقدار شهر لمن لا تحيض(2). (3) كما نجد نسبة هذا المضمون في رواية غير مشهورة عن الإمام الباقر علیه السّلام أيضاً (4)، ونشاهد أيضاً في طيف من الروايات المأثورة عن الإمام الصادق علیه السّلام القول بخمسة وأربعين يوماً (5).

وهناك بعض الروايات تحكي بوضوح عن مثل هذا الاختلاف بين أصحاب الإمام الصادق علیه السّلام بشأن عدّة المتعة (6) ، ويبدو أن الحديث المأثور عن الإمام الرضا علیه السّلام يمثل من الناحية العملية وجهاً من الجمع بين القولين، وذلك بحمل الخمسة وأربعين يوماً على الاحتياط، وإن هذا الاحتياط - بطبيعة الحال - هو من نوع الاحتياط التأديبي. وفي الحقيقة يجب القول: إن ذلك القول المتروك في حديث الإمام الرضا علیه السّلام من حيث الاحتياط، هو القول بعدة الشهر الواحد.

كما يمكن العثور على نموذج آخر من الاحتياط التأديبي في النسة بین المتعة، وتحديد عدد الزوجات بأربعة. وبطبيعة الحال فإن القول المشهور عند الإمامية

ص: 267


1- انظر: الحميري، (1413ه_)، ص 361؛ أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 83 و 89؛ البرقي، (1331 ه_ ش)، ص 330 الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 458 وج 6، ص 175؛ ابن بابويه، (1404 ه_)، ج 3، ص 464؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 259
2- انظر: أحمد بن محمد بن عيسى، (1408 ه_)، ص 85
3- في أغلب المصادر الروائية تم تبديل عبارة (وإن كانت لا تحيض شهر) (انظر: أحمد بن محمد بن عيسى، (1408 ه_، ص 85) إلى (وإن كانت لا تحيض، فشهر ونصف)، (انظر: الكليني، 1391ه_)، ج 5، ص 451 و 458؛ الطوسي، (1364 ه_ ش ، ج 8 ص 165). بيد أن هذا الأمر واضح ؛ إذ إن الفترة الزمنية الممتدة بين حيضتين هي في حدود الشهر تقريباً، وهو أمرٌ يدفعنا إلى القول بأن الصيغة الأخيرة هي نتيجة تحريف الحديث الأصلي من أجل تناغمه مع الأحاديث التي ترصد مدّة العدة بخمسة وأربعين يوماً
4- انظر: الحميري، (1413ه_)، ص 361
5- انظر: عاصم بن حميد، (1405ه_)، ص 31؛ أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 82 و 85 ؛ الطوسي، (1363 ه_ ش)، ج 3 ، ص 150 و 152 ؛ المصدر ذاته، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 264- 265)
6- انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 5، ص 451

هو أن تحديد الزوجات بأربعة إنما يخص النكاح الدائم، وأما النكاح المنقطع فلا يشمله هذا التحديد. وقد نقل هذا القول المشهور في أحاديث الإمامية، عن الإمام الباقر (1) علیه السّلام، وعن الإمام الصادق علیه السّلام أيضاً (2).

في مثل هذه الأجواء هناك حديث مأثور عن الإمام الرضا علیه السّلام مضمونه يأمر بإدراج (المتعة ضمن الزوجات الأربعة). إن الراوي - الذي هو صفوان بن يحيى، وفي رواية أخرى البزنطي - يسأل الإمام علیه السّلام قائلاً : (هل يكون ذلك احتياطاً؟)، ويجيبه الإمام: (أجل). وفي أحد الضبطين لهذا الحديث ينقل الإمام إدراج المتعة في ضمن الزوجات الأربعة عن الإمام الباقر(3) علیه السّلام ، وفي رواية أخرى يروى هذا الكلام عن لسانه (4).(5) وقد نقل القول بإدراج المتعة ضمن الزوجات الأربعة عن الإمام الصادق علیه السّلام أيضاً(6). وعلى كل حال نشاهد أن الإمام يرجّح أحد القولين - المنقولين عن الإمام الباقر والإمام الصادق علیه السّلام - على الآخر ، من باب الاحتياط التأديبي.

وفي الختام يجدر بنا القول إنه في بعض الموارد التي ورد فيها الكلام في أحاديث الإمام الرضا علیه السّلام عن احتياط يفوق الاحتياط الاستدراكي، يمكن العثور على نماذج تعود إلى أصل تشريع الحكم، وهو بصدد إثبات أن الحكمة من التشريع قد أمرت برعاية الاحتياط بشكل كامل أو على نحو جزئي، وهو احتياط ربما أمكنت تسميته بالاحتياط التشريعي، ولا بد من الالتفات إلى اختلافه المبنائي عن الاحتياط التأديبي.

ص: 268


1- انظر: أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 89؛ الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 451؛ الطوسي، (1363 ه_ ش ، ج 3، ص 147؛ المصدر ذاته، (1364ه_ ش)، ج 7، ص 259
2- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 451؛ العياشي (1380 ه_)، ج 1، ص 234؛ ابن بابويه، (1404 ه_)، ج 3، ص 461 الطوسي، (1363ه_ ش)، ج 3، ص 147؛ المصدر ذاته، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 259
3- انظر : الطوسي، (1363ه_ ش)، ج 3، ص 148 المصدر ذاته، (1364ه_ ش)، ج 7، ص 259
4- انظر: الحميري (1413 ه_)، ص 362
5- من الجدير ذكره أن دقة الضبط في رواية الحميري من جهات مختلفة أقل من رواية الشيخ الطوسي، فأولاً: إن الراوي في كلا الحديثين هو البزنطي، وأما في رواية الطوسي فنجد البزنطي يقرر السؤال والجواب بين صفوان بن يحيى والإمام الرضا (ع)، وفي حديث الحميري يلعب البزنطي دور السائل. وثانياً : إن السائل في رواية الشيخ الطوسي هو الذي يستعمل كلمة (الاحتياط)، ويحصل بعد ذلك على تأييد الإمام وإمضائه، وأما في رواية الحميري فقد نقلت كلمة الاحتياط كتتمة لكلام الإمام الرضا (ع)
6- انظر: الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 259

و من بين نماذج الاحتياط التشريعي في الكلام المنقول عن الإمام الرضا علیه السّلام، يمكن لنا الإشارة إلى الموارد الآتية:

رواية محمد بن سنان عن الإمام الرضا علیه السّلام في خصوص تحقق البينونة في الطلاق بالنسبة إلى المملوك بطلاقين(1)، في حين أن أصل هذا الحكم قد نقل عن النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله مرفوعاً ، و عن عدد من الصحابة والتابعين موقوفاً، وكذلك عن بعض المتقدمين من الأئمة الأطهار علیهم السّلام، وليس هناك متسع في الأقوال يسمح بالاحتياط التأديبي (2).

والمورد الآخر من موارد الاحتياط التشريعي يتعلق بجواب الإمام الرضا علیه السّلام عن سؤال محمد بن سنان بشأن العلة في كون القاعدة في جميع الحقوق تقوم على (أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، إلا في بحث القتل، حيث يكون اليمين على المدعي ّ على المدعى عليه (3) . هناك روايات في هذا الشأن تدل على أن تشريع هذا الحكم يعود إلى النبي الأكرم (4) صلّی الله علیه و آله.

كما ورد توضيح هذا التشريع في رواية عن أبي بريد بن معاوية عن الإمام الصادق (5) علیه السّلام ، وكذلك في رواية عن أبي بصير عنه علیه السّلام أيضاً، وهو أمرٌ يثبت أن

ص: 269


1- انظر: ابن بابويه، (1385ه_)، ص 507 ؛ المصدر ذاته، (1984م)، ج 2، ص 102
2- نقلاً عن عائشة عن النبي (ص) ، انظر: الدارمي ، (1407 ه_)، ج 2، ص 224؛ البخاري، (1397 ه_)، ج 2، ص 128؛ أبو داود السجستاني، (1369ه_)، ج 2، ص 257؛ الترمذي، (1395ه_) ، ج 3 ، ص 488؛ ابن ماجة، (1952 م)، ج 1 ص 672 . ونقلاً عن ابن عباس عن النبي (ص)، انظر: أبو داود السجستاني (1369ه_)، ج 2، ص 257 . ونقلاً عن ابن عمر عن النبي (ص) ، انظر : ابن ماجة (1952م)، ج 1، ص 672 ؛ الدارقطني (1386 ه_) ، ج 4، ص 38. ونقلاً عن الإمام علي (ع) ، انظر: القاضي نعمان (1409 ه_)، ج 2، ص 321 الطوس (1413 ه_)، ص 238 و 575 . ونقلاً عن عمر بن الخطاب انظر: الصنعاني، (1403ه_) ، ج 7، ص 221 ، منصور، (1403ه_)، ج 1، ص 344 - 345 . ونقلاً عن: عبد الله بن عمر، انظر: الدارقطني (1386 ه_)، ج 4، ص 38 - 39؛ البيهقي، (1414 ه_) ، ج 7، ص 369 . ونقلاً عن: إبراهيم النخعي انظر : سعيد بن منصور (1403 ه_)، ج 1، ص 344 . ونقلاً عن القاسم وسالم، انظر: البخاري، (1397 ه_)، ج 2، ص 128. ونقلاً عن الإمام الباقر (ع) ، انظر الكليني، (1391ه_)، ج 6، ص 169. ونقلاً عن الإمام الصادق (ع)، انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 6، ص 169؛ الطوسي، (1364ه_ ش)، ج8، ص 154. ونقلاً عن الإمام الكاظم (ع)، انظر: الطوسي، (1363ه_ ش) ، ج 3 ، ص 335؛ المصدر ذاته، (1364ه_ ش)، ج 8، ص 135
3- انظر: ابن بابویه، (1385ه_)، ص 542؛ المصدر ذاته، (1984م)، ج 2، ص 103
4- انظر: البخاري، (1407 ه_)، ج 6، ص 2630؛ مسلم (1955 م)، ج 3، ص 1295 - 1296؛ الكليني، (1391 ه_)، ج (1955م)، ج 7، ص 361؛ القاضي نعمان، (1383ه_)، ج 2، ص 428؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 10، ص 166
5- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 7، ص 362 و 415 ابن بابويه (1404 ه_)، ج 4، ص 98؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 6، ص 229

الاحتياط فيه تشريعي ومن سنخ الاحتياط المذكور في المورد السابق.

الاتجاه ما فوق الفقهي في بيان الأحكام

في معرض البحث عن الارتباط بين الفقه والأخلاق في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام، يجدر بنا في هذا القسم الإشارة إلى بعض المسائل التي تندرج من حيث الموضوع تحت دائرة المسائل الفقهية، ومن هنا يعمل الفقهاء على بحثها، بيد أن هناك في الروايات المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام نوعاً من البيان ما فوق الفقهي سواء بشكل کامل أو على نحو جزئي.

إن قسماً من هذه البيانات ما فوق الفقهية ترتبط بالمسائل التي يرد فيها الوجوب والفضيلة في إطار الأمر، أو ترد الحرمة ونقيض الفضيلة في إطار النهي. وبطبيعة الحال فقد ورد التصريح بالوجوب والحرمة في هذا النوع من الأحاديث أحياناً، وفي بعض الأحيان على نحو افتراضي.

وكنموذج للأمر يمكن الإشارة إلى حديث في باب شراء ماء باهظ الثمن للوضوء، حيث يشتمل متن الحديث على سؤال يطرحه صفوان بن يحيى على الإمام الرضا علیه السّلام بشأن شخص بحاجة إلى الوضوء للصلاة ولا يكون معه ماء للوضوء، ثم يصادف شخصاً يبيعه الماء بمئة درهم أو ألف درهم، وتكون لديه القدرة على بذل ذلك المال، فهل يجب عليه شراء الماء للوضوء أو يمكنه الاكتفاء بالتيمم ؟ فيجيبه الإمام الرضا علیه السّلام بوجوب شراء الماء للوضوء (1) . علينا أن نعلم بأن كثيرا من الفقهاء لم يفتوا بالوجوب على طبق هذه الرواية، حيث مالوا إلى جانب وجوب الوضوء بوصفه فرضية في البحث إلى اعتبار مضمون هذا الحديث نوعاً من الأمر بالفضيلة. ولم يذهب إلى تفسير الأمر الموجود في هذا الحديث بالوجوب سوى نزر قليل من الفقهاء من أمثال السيد المرتضى (2).

ص: 270


1- انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 3، ص 74؛ ابن بابويه، (1404 ه_)، ج 1، ص 35؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 1، ص 406
2- انظر: الآبي، (1408ه_)، ج 1، ص 97؛ العلامة الحلي (1414)، ج 2، ص 163- 164؛ ابن فهد، (1407ه_)، ج 1، ص 197 - 198

وكنموذج للنهي يمكن لنا أن نذكر حديثاً بشأن أكل لحم بعض الحيوانات من قبيل الخيل والبغال - من وجهة نظر الفقهاء في الحد الأدنى - إلى اعتبار أن النهي الوارد هنا هو بمنزلة ترك الفضيلة، وليس النهي المحرم (1) . وقد ذهب عموم الفقهاء ومن بينهم الشيخ الطوسي إلى حمل النهي الوارد في هذا الحديث على الكراهة دون الحظر (2).

إن جانباً مما يمكن اعتباره بوصفه اتجاهاً ما فوق فقهي في بيان الأحكام الموارد التي يبدو أن الإمام الرضا علیه السّلام قام بتفصيل شقوقها أو تعميم الحكم الفقهي فيها من خلال إرجاعها إلى المناطات الأخلاقية. ومن بين الأمثلة على هذا الاتجاه يمكن مشاهدة رواية ناظرة إلى توسيع دائرة الموارد التي يجوز فيها العزل للزوج. طبقاً لهذا الحديث الذي يرويه يعقوب الجعفي عن الإمام الرضا علیه السّلام ، تنقسم موارد جواز العزل إلى ستة أقسام من النساء، وفي طيف منها تندرج العلة في طيف فقهي تام - من قبيل أن تكون المرأة جارية - وفي طيف آخر تذكر علة عقلية - من قبيل عقم المرأة - ومن ثمَّ هناك طيف ثالث من العلل الأخلاقية من قبيل تنمّر المرأة أو كونها سليطة اللسان، وهي من الأمور النسبية ومن سنخ نواقض القيم الأخلاقية، ولا يمكن تبويبها فقهياً، أو أنه لم يتم تبويبها حتى الآن في الحد الأدنى(3).

وربما أمكن الإشارة إلى نموذج آخر من هذا النوع إلى حديث يرويه معمر بن خلاد عن الإمام الرضا علیه السّلام ، قائلاً : (سألت أبا الحسن الرضا علیه السّلام عن الرجل يتزوج المرأة متعة فيحملها من بلد إلى بلد ؟ فقال : يجوز النكاح الآخر ولا يجوز هذا) (4). فإذا قرأت بوصفها جملة خبرية (5)، كان المعنى أن إجبار الزوجة على الصحبة في ، السفر يتعلق بالنكاح الآخر - وهو الدائم - وفي هذا النوع من النكاح - أي المتعة -

ص: 271


1- انظر: الطوسي، (1363 ه_ ش)، ج 4، ص 74؛ المصدر ذاته، (1364 ه_ ش)، ج 9، ص 42
2- انظر: المصدر أعلاه
3- للوقوف على هذا الحديث، انظر: ابن بابويه، (1362ه_ ش)، ص 329؛ المصدر ذاته، 1404 ه_)، ج 3، ص 443؛ المصدر ذاته، (1984م) ، ج 1، ص 251 الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 491
4- الكليني، (1391 ه_)، ج 5، ص 467
5- هناك من المتأخرين من اعتبر هذه الجملة استفهامية، معتبراً إياها من الاستفهام الاستنكاري، مستفيداً نقيض المعنى المتبادر من الحديث، وعندها لن يكون في الحديث شاهد لنا . (انظر مثلاً: الخواجوي، (1411 ه_)، ج 2، ص 280-281)

لا يجوز هذا النمط من الإجبار. يبدو أن المراد من هذا الحديث - كما ذهب بعض الشارحين إلى ذلك أيضاً - أن أساس مناط المتعة لا يتناغم مع مثل هذا الإجبار، ولا يمكن إكراه المرأة في النكاح المنقطع على السفر مع الزوج من بلد إلى بلد، وأما إذا كانت المرأة هي التي ترغب في مرافقة الزوج في مثل هذه الأسفار ، فلا شك في جواز ذلك ولن يكون هناك بحث في هذا الشأن (1).

إن جانباً من المباحث ما فوق الفقهية التي يمكن لها بيان الارتباط بين الفقه والأخلاق، هي الإشارة إلى الوضع الأفضل في مورد الفعل الذين يكون الحكم الفقهي فيه واضحاً. من ذلك يمكن الإشارة - على سبيل المثال - إلى مسألة المهر حيث أن أصل مسائله واضحة، فلا يوجد غموض بشأن هذه المسألة في الاستناد إلى الكتاب والسنة حيث يكون المهر أمراً لازماً في تحقق عقد النكاح، أو يكون من الواجب على الزوج دفعه بعد إتمام النكاح بيد أنه قد تمّت الإشارة في حديث عن الإمام الرضا علیه السّلام إلى هذه النقطة، أن المرأة في عصر النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله كانت تكتفي أحياناً بجعل تعلم سورة من القرآن أو درهم أو قبضة من حنطة كمهر للزواج من رجل، وبذلك تمّ التأكيد على فضيلة التساهل في المطالبة بالمهر وعدم إرهاق كاهل الرجل بالمهور الغالية (2) (3).

ومن ثمًّ لا بد في نهاية المطاف من الإشارة إلى موارد من (الأمر) في الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام ، التي لا يكون فيها الأمر ناظراً إلى الوجوب الشرعي، وإنما تكون ناظرة إلى تنظيم العلاقات بين الناس وحسن السلوك، ويكون صدورها من

ص: 272


1- انظر: الفيض الكاشاني، (1365 ه_ ش) ، ج 22 ، ص 676 ؛ المجلسي، (1393ه_)، ج 8، (1363 ه_ ش)، ج 20، ص 257
2- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 414؛ أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 115؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 366
3- لا بدّ من الالتفات - بطبيعة الحال - إلى أن التأكيد على أفضلية حالة بالقياس إلى حالة أخرى، لا تكون تعبيراً عن فضيلة أخلاقية دائماً، بل قد تكون ناظرة إلى التقاليد والأعراف السائدة في ثقافة ما، من قبيل الاختلاف في الأعراف والتقاليد بين العرب والإيرانيين بشأن زمن دفع المهر ، وفي حديث البزنطي عن الإمام الرضا (ع) بالنسبة إلى الشخص الذي يروم دفع المهر وفقاً للتقاليد الإيرانية في بداية النكاح، أمر لامتثال التقليد والعرف الآخر بشكل جزئي بدفع شيء من المهر قبل الزفاف (انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 413؛ الطوسي، (1363 ه_ ش) ، ج 3، ص 221، المصدر ذاته، (1364 ه_ ش) ، ج 7، ص 358). وبطبيعة الحال لم يتعامل عموم الفقهاء مع هذه الحالة بوصفها حالة ملزمة

أجل الحيلولة دون النزاعات وسوء الفهم وأفضل نموذج لهذا النوع من الأحاديث الناظرة إلى الارتباط بين الفقه والأخلاق، الحديث الذي يرويه سليمان بن جعفر الجعفري عن الإمام الرضا علیه السّلام. حيث يشار في هذا الحديث إلى أن الإمام الرضا أمر من حوله بتعابير قاطعة وحاسمة بعدم استئجار شخص لعمل إلا بعد بيان أجره بشكل دقيق، وعدم ترك الاتفاق على ذلك إلى ما بعد إنجاز العمل (1) . هذا في حين أنه لو تم الصلح لاحقاً بين الأجير والمستأجر، يمكن للإجارة - من الناحية الفقهية - أن تكون خالية من الإشكال، وحتى إذا لم يمكن الصلح، يمكن حل الخصومة بعد ذلك على أساس دفع أجرة المثل.

الاستنتاج

من مجموع ما تقدم يمكن لنا أن نستنتج بأن الإمام الرضا علیه السّلام قد سار على منهج التأكيد على التماهي بين الفقه والأخلاق، وبغض النظر عن مجرّد التأكيد على الالتزام بالأصول الأخلاقية، يتم تقديم بعض المباني في إطار هذه المماهات، ومن خلال مختلف الأحاديث والوقائع الحادثة تمّت إقامة أنواع متعددة من العلاقة والارتباط بين حقل الفقه والأخلاق ويبدو أن بالإمكان بيان هذه المباني على النحو الآتي: الاستناد إلى الرؤية الطيفية تجاه التكاليف الدينية بدلاً من الرؤية المحدودة على أساس الملاكات الثنائية (الصفر والواحد)، والاهتمام بعلل الشرائع، والخوض في المناشيء الأخلاقية للتشريع، والاهتمام بالاحتياط التأديبي، والاتجاهات ما فوق الفقهية في بيان المسائل الفقهية. يبدو أن بسط معطيات هذا النوع من الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام وكذلك تتبع التعاليم المماثلة في أحاديث سائر الأئمة الأطهار علیهم السّلام من شأنه أن يمهّد الأرضية من أجل توسيع إطار العلاقة بين حقل الفقه والأخلاق، وهما الحقلان اللذان لا نشاهد بينهما حدّاً فاصلاً في أصل الشريعة، وإن الضرورات الراهنة المتعلقة بتوسعة نطاق علم الفقه، تقتضي أن تتمّ هذه التوسعة بحيث يكون التلاحم بين الفقه والأخلاق مأخوذاً بنظر الاعتبار على الدوام، فلا يتمّ تجاهل الأصول الأخلاقية في مسار هذه التوسعة.

ص: 273


1- انظر: الكليني، (1391ه_) ، ج 3 ، ص 288 - 289؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 212

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

- الآبي، الحسن بن أبي طالب (1508 ه_)، كشف الرموز، إعداد الاشتهاردي واليزدي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

- ابن بابویه، محمد بن علي (1362 ه_ ش)، الخصال، إعداد: علي أكبر غفاري، قم، جماعة المدرسين.

- ابن بابويه محمد بن علي (1385ه_) ، علل الشرائع النجف المكتبة الحيدرية.

- ابن بابویه، محمد بن علي (1404 ه_)، من لا يحضره الفقيه، إعداد: علي أكبر غفاري، قم، جماعة المدرسين.

- ابن بابويه، محمد بن علي (1984م) ، عيون أخبار الرضا (ع)، بيروت، مؤسسة الأعلمي.

- ابن فهد الحلي، أحمد بن محمد (1407 ه_)، المهذب البارع، إعداد: مجتبى عراقي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

- ابن ماجة، محمد بن يزيد (1952 - 1953م)، سنن ابن ماجة، إعداد: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.

- ابن نجيم، زين بن إبراهيم (بلا تاريخ)، البحر الرائق، بيروت، دار المعرفة.

- أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث (1369 ه_)، سنن أبي داود، إعداد: محمد محيي الدين عبد الحميد القاهرة، دار إحياء السنة النبوية.

- أبو نعيم الإصفهاني، أحمد بن عبد الله (1351ه_)، حلية الأولياء، القاهرة، مطبعة السعادة.

- أحمد بن محمد بن عيسى (1408ه_)، النوادر ، قم ، مدرسة الإمام المهدي (ع) .

- البخاري، محمد بن إسماعيل (1397 ه_ / 1977م) ، التاريخ الصغير، إعداد : محمود إبراهيم زاید، حلب / القاهرة، دار الوعى / دار التراث.

- البخاري، محمد بن إسماعيل (1407 ه_)، صحيح البخاري، إعداد: مصطفى ديب البغا، بیروت، دار ابن كثير .

البرقي، أحمد بن محمد (1331 ه_ ش)، المحاسن، إعداد: جلال الدین محدّث، طهران، دار الكتب الإسلامية.

ص: 274

- البيضاوي، عبد الله بن عمر (بلا تاريخ) نهاية السؤول في شرح منهاج الأصول، بيروت، عالم الكتب.

- البيهقي، أحمد بن حسين (1414 ه_)، السنن الكبرى، إعداد: محمد عبد القادر عطا، مكة، دار الباز.

- باکتجي، أحمد (1377 ه_ ش)، أخلاق ديني دائرة المعارف بزرگ اسلامي، ج 7، طهران، مركز دائرة المعارف بزرگ إسلامي.

- الترمذي، محمد بن عيسى (1398 - 1395 ه_)، سنن الترمذي، إعداد: أحمد محمد شاكر وآخرين ،القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي .

- الحميري، عبد الله بن جعفر (1413ه_)، قرب الإسناد، قم، مؤسسة آل البيت (ع).

- الخواجوي، محمد بن إسماعيل بن حسين (1411 ه_)، الرسائل الفقهية، قم، مطبعة سيد الشهداء.

- الدار قطني، علي بن عمر (1386 ه_)، سنن الدار قطني، إعداد: عبد الله هاشم اليماني، بيروت، دار المعرفة .

- الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن (1407ه_)، سنن الدارمي، إعداد: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، بيروت، دار الكتاب العربي.

- الدميري، محمد بن موسى (بلا تاريخ)، حياة الحيوان، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

- السرخسي، محمد بن أحمد (بلا تاريخ)، الأصول، إعداد: أبو الوفاء الأفغاني، حيدر آباد دكن، لجنة إحياء المعارف النعمانية.

- سعيد بن منصور (1403 ه_)، السنن، إعداد: حبيب الرحمن الأعظمي، بمبعي، الدار السلفية.

- الشافعي، محمد بن إدريس (1358ه_) الرسالة، إعداد: أحمد محمد شاكر، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

- الصنعاني، عبد الرزاق بن همام (1403ه_)، المصنف، إعداد: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي.

- الطحاوي، أحمد بن محمد (1318ه_)، حاشية على مراقي الفلاح، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

- الطوسي، محمد بن حسن (1363 ه_ ش)، الاستبصار، إعداد: حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية.

- الطوسي، محمد بن حسن (1364 ه_ ش)، تهذيب الأحكام، إعداد: حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية.

ص: 275

- الطوسي، محمد بن حسن (1413 ه_)، الأمالي، قم، مؤسسة البعثة.

- عاصم بن حميد (1405 ه_) أصل ضمن الأصول الستة عشر، قم، دار الشبستري.

- العلامة الحلي، الحسن بن يوسف (1414 ه_)، تذكرة الفقهاء، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)

- العياشي، محمد بن مسعود (1380 - 1381ه_)، التفسير طهران كتابخانة علمية إسلامية.

- الفيض الكاشاني، محمد محسن (1365ه_ ش) ، الوافي، إصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين (ع).

- القاضي نعمان (1383ه_) ، دعائم الإسلام، إعداد: آصف فيضي، القاهرة، دار المعارف.

- القاضي نعمان (1409 - 1412ه_)، شرح الأخبار، إعداد: محمد الحسيني الجلالي، قم، جامعة المدرسين.

- الكليني، محمد بن يعقوب (1391ه_)، الكافي، إعداد: علي أكبر غفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية.

- مالك بن أنس (1373 ه_)، الرسالة القاهرة، مكتبة محمود علي صبيح.

- المجلسي، محمد تقي (1363 ه_ ش)، مرآة العقول، إعداد: هاشم رسولي محلاتي، طهران، دار الكتب الإسلامية.

- المجلسي، محمد تقي (1393ه_)، روضة المتقين، إعداد: حسين موسوي كرماني وعلي بناه اشتهاردي، طهران، بنیاد کوشانبور.

- مسلم بن حجاج (1955 - 1956م) ، صحیح مسلم، إعداد: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، عيسى البابي.

ص: 276

أخلاق الوحي

المرجع الديني الشيخ جوادي آملي

ترجمة: علي الحاج حسن

ملخص

يمتاز النظام الأخلاقي الإسلامي عن الأنظمة الأخلاقية الأخرى من جهات عدة من أبرزها الاختلاف في البعد الفاعلي. اعتبرت الأنظمة الأخرى أن بعض الأمور من أمثال العقل، الفطرة، الطبيعة وأسباب أخرى، دخيلة في وجود القضايا الأخلاقية؛ إلا ان العلماء المتدينين اجمعوا على مصدرية الوحي للأخلاق الإسلامية. يمكن الحصول على مواد علم الأخلاق من خلال مبادئ خاصة تعود بشكل مباشر إلى مصادر الوحي. وقد اجتمعت هذه العناصر الثلاثة (المواد المبادئ والمصدر) مع بعضهما بحيث لو لم تستند مادة واحدة من مواد الأخلاق لمبدأ يعود إلى مصدر الوحي، لأدى الأمر إلى عدم إطلاق عنوان «الأخلاق الإسلامية» على تلك الأخلاق. يتعرض المقال الحالي لتوضيح مضمون الأخلاق الإسلامية وتميزها عن المدارس الأخلاقية الأخرى.

الكلمات المفتاحية: علم الأخلاق، أخلاق الوحي، حقيقة العدل والظلم، ماهية الإنسان.

الحمد الأزلي لله تعالى والسلام الأبدي على الأنبياء بالأخص خاتم الأنبياء محمد صلّی الله علیه و آله. والسلام اللامتناهي على الائمة الاطهار علیهم السّلام بالاخص الموجود الموعود المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف). نتولى هذه الذوات المقدسة ونتبرأ من معانديهم.

ص: 277

العناصر المحورية في الأخلاق

يمتلك علم الأخلاق الهام وكما علوم الفقه الحقوق والقانون ثلاثة عناصر محورية: المواد المبادئ والمصادر . أما سبب احتياج هذه العلوم للعناصر الثلاثة أنها من سنخ الأعمال - مع أنها ذات مصادر علميّة - والمسألة العملية يجب أن تكون جزئية ومحدودة وواضحة؛ لان الكلي والمطلق والمبهم لا يمكن أن يكون معياراً للعمل. وعلى هذا الأساس يجب أن تقدم العلوم المتقدمة على شكل مواد منضبطة ومنظمة ويجب أن تعتمد كل أن تعتمد كل مادة على مبدأ تندرج تحته حيث ينطبق المبدأ الذي هو قانون حاكم وجامع على المادة؛ فلا يكون اندراج الفرع تحت الأصل مشكوكاً فيه ولا يمكن أن يكون انطباق الأصل على الفرع مدعاة للترديد. ويستنبط كل مبدأ من مصدر خاص حيث يعود المبدأ بعد التحليل إلى المصدر، فيترعرع المبدأ تحت المصدر من خلال تعليل خاص.

تنماز مواد علم الأخلاق الخاص - كما العلوم الأخرى بانها تستفاد من مبادئ خاصة وينماز المبدأ أيضاً بانه يُستخرج من مصادر خاصة.

الوجه في تسمية أخلاق الوحي

ان السبب الذي يدفع لإطلاق الوحي على علم الأخلاق أن المواد الجزئية لهذا العلم تُستخرج من مصادر خاصة حيث تكون مصادر المبادئ وحيانية؛ بحيث لو لم يجرِ إرجاع مادة من مواد الأخلاق وأمثالها إلى مبادئ معينة تعود إلى مصدر الوحي، عند ذلك لن تكون الأخلاق المذكورة وحيانية. فيما يأتي نشير إلى نقاط أساسية عدة.

قواعد الأخلاق الأساسية

الأولى : المبادئ العلمية

صحيح أن الأخلاق من جملة العلوم العملية، إلا أنها لا يمكن أن تكون من دون العلم؛ لان عنوان عمل الإنسان الذي هو موجود مفكر ومختار، يختلف عن عنوان

ص: 278

اصل الفعل الذي يستخدم لمطلق العمل. أن العمل الذي يؤديه الإنسان المفكر والحر يكون بعد تقييم وجه الحق والباطل أو النافع والضار فيه. أن تشخيص الخير والشر فيه هو على عاتق قوى الإنسان العلمية وأما تحققه العيني بحيث يكون له وجود خارجي، فهو على عاتق قواه العملية وقوى الإنسان الحر العلمية والعملية قد تكون ضعيفة وقد تكون قوية وكما أنها قد تكون مستقيمة وقد تكون معوجة. ان النبوغ أو البلادة - التي تتعلق بقواه الإدراكية - والفروقات الأخرى - ذات العلاقة باختلاف قواه الجاذبة والدافقة - كلها ترتبط بالقوة نفسها وليس بالأوصاف النفسانية التي تُطرح في الأخلاق. طبعاً هناك طرق عدة ليس المجال لذكرها في هذا المقال تتعلق بحفظ كمال القوة عند الوجدان والحصول عليها عند الفقدان.

الهدف الأساس هنا الإشارة السريعة للاختلاف بين القوى العلمية والعملية لنفس الإنسان المفكر والحر وبين أوصافه النفسانية. قد يكون الشخص عادلاً من حيث الفعل - فهو لا يقترف الذنب عمداً- لكنه قد لا يكون كذلك من ناحية قوة الإتيان بالعمل الإنسان البليد أو الجبان أو الحريص قد يكون عادلاً من حيث الفعل وفي الفقه الأصغر عند قياسه بجمع مال مباح وحلال من خلال تراكم الأعمال إذ انه يؤدي الحقوق الإلهية وحقوق الناس؛ إلا انه لا يكون عادلاً في الفقه الأكبر باعتبار قوة العمل؛ لان العدل في الفقه الأكبر هو أن تكون كافة قوى الشخص العلمية والعملية في حدّ الاستواء ومن دون عيب الإفراط ونقص التفريط . والغرض من القول أن عدل القوى هو ما يُطرح في الفلسفة والعدل في الأخلاق هو وصف وفعل وهذا ما يعالجه هذا المقال.

الثانية: المبادئ العملية

أن علم الأخلاق هو من الأخلاق هو من شُعب الحكمة العملية والحكمة العملية كالحكمة النظرية على عاتق العقل النظري أو من يتولى الحصول على العلوم المختلفة باعتبار أن الأخلاق من سنخ الحكمة والمعرفة. واختلاف المعلومات ومنها الحقيقة الخارجية التي يكون العلم بها من نوع العلم بالكون وعدمه، ومنها الأمر الاعتباري

ص: 279

التي يكون العلم بها من سنخ الوجوب وعدمه لن يكون مؤثراً من هذه الناحية. الحكم في هذا الاصطلاح هي ما يدركه العقل النظري مطلقاً ووظيفتها التصور، التصديق، الجزم وأمثال ذلك وأما الأوصاف والأعمال فهي مطلقاً على عاتق العقل العملي وتتولى مسؤولية الإرادة، الانتخاب، العزم، القصد، النية، والإخلاص. وإذا كان هذا الاصطلاح غير رائج بين أصحاب الفلسفة وأصحاب علم الأخلاق، إلا انه يطابق الحديث المعروف: «قُلتُ له ما العقل ؟ قال : ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» (أصول الكافي، ج 1، ص11) حيث يتولى العقل العملي العمل وليس العلم بالحكمة العملية.

الثالثة: تعين المبادئ

تستفاد مواد علم الأخلاق من خلال مبادئ معينة من قبيل الخير والشر، الحسن والقبح العدل والظلم الصدق والكذب الاستقلال والتبعية، الحرية والعبودية ..... واهمها العدل والظلم. طبعاً فإن معنى كل واحدة من العنوانين واضح؛ لان العدل عند الجميع عبارة عن وضع كل شيء موضعه والظلم هو تجاوز كل شخص عن حده : «العدل يضع الأمور مواضعها» نهج البلاغة، الحكمة (437) .

ماهية العدل والظلم

أن مفهومي العدل والظلم واضحين؛ ولكن ليس من السهل معرفة كنه وحقيقة المفهومين عند العقل؛ العقل بمثابة مصباح يضيء شعاعاً محدداً وينتشر نوره في تلك الأرجاء، العقل يدرك الكون بمقدار ما يشاهده وأما ما هو أعلى من ذلك فيتضح من خلال الوحي. هناك كثير من الأمور التي تبقى مجهولة للعقل ولا بد من اللجوء في معرفتها إلى الوحي؛ ومن جملة ذلك حقيقة العدل والجور؛ لان أماكن ومواضع الأشياء والأشخاص والأجناس والقبائل والمجموعات المختلفة، ليس واضحاً. هل يستوي مكان الشراب والخل أو الخنزير والنعجة ؟ هل تتساوى منزلة الرجل والمرأة في الأمور المالية وغير المالية كافة؟

ص: 280

ان الشخص الوحيد الذي يدرك أماكن الأشياء والأشخاص هو خالقها والطريق الوحيد للوصول إلى قانون الله هو الوحي الإلهي. لا يمكن لأي شخص الاطلاع على حكم خالق الأشياء والأشخاص الخاص من دون الاطلاع على الوحي الذي خصص للكاملين من الناس والمعصومين. من هنا يصبح المصدر الوحياني ضرورياً للمبادئ الأخلاقية، وإلا فالإنسان غير المعصوم وغير الكامل يضع الأشياء والأشخاص على أساس وهمه وخياله - في الفكر - وعلى أساس شهوته وغضبه - في الدافعية - ويظن أن تنظيم الأمور بهذا النحو يجري على مدار العدل والتعدي عنه يدور مدار الظلم.

أن قسماً كبيراً من مسائل حقوق الإنسان التي تتولاها المنظمات الدولية، قد سقطت في هذا التهافت بين القول والفعل؛ لان عددا من مدافعي حقوق الإنسان، يتحدثون بشكل عادل إلا انهم ظالمون من ناحية الفكر والعمل . هؤلاء تنطلق ألسنتهم للحديث بالعدل الذي لا يعني شيئاً سوى الظلم؛ لأنهم وضعوا الأشياء ظلماً وتعاطوا مع حقوق الأشخاص جوراً إلا انهم ظنوا أن رعاية هذا القانون الظالم هو العدل والظلم حسب ظنهم هو تجاوزه. فقد اعتبروا على سبيل المثال أن من العدل تشريد أمة مظلومة ومن الظلم أن تنهض الأمة للدفاع عن ارضها.

الرابعة: وحيانية مصدر الأخلاق

أن السّر وراء حصرية المصدر الأساس لمبادئ العلوم الأخلاقية والفقهية والحقوقية والقانونية بالوحي أن المصادر العدة لعلم المعرفة البشري، الأعم من التجربة الحسية، التجربة المجتزئة، التجريد الفلسفي والكلامي، التجريد الفلسفي والكلامي، التجريد الخالص في العرفان النظري والشهود العرفاني الذي يمكن خلاصته في العلم الحصولي والحضوري، كل ذلك هو من سنخ علم معرفة القانون وليس وضع القانون.

بعبارة أخرى، فإن الإنسان وكذلك الموجودات الممكنة لم تتمكن من خلق ذات أي موجود على الإطلاق، ولم تخلق العوارض الذاتية والمفارقة ولم تؤدِ دور الارتباط

ص: 281

بين العرض والجوهر وبين العارض والمعروض. وعلى هذا الأساس ليس لها ايّ دور في التقنين؛ نعم ينحصر دورها في معرفة القانون فقط أما التقنين فهو حق حصري لخالق الأشياء والأشخاص؛ لان المقنن يجب أن يمتلك إحاطة ومعرفة بكافة الأمور ليتمكن من وضع قانون جامع أن الذي يتأتى من قانون الملازمة أو «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس» - بعد امتلاك تصور صحيح لهاتين القاعدتين وفرض صحتهما في الجملة وليس بالجملة - هو في إطار معرفة القانون فقط والتلازم بين العقل والنقل، وليس في إطار التقنين الخاص بخالق الكون. وتتحقق المسألة الآتية بأدنى مستويات الترديد وهي أن التوحيد هو التقنين بالمعنى الجامع في الأخلاق والفقه والحقوق و.... وان وضع كافة القوانين هو بيد الذات الإلهية المتعالية وأما وضع أي قانون من جهة الإنسان فهو « هباءً منثوراً».

الخلاصة أن:

التقنين بمعناه الجامع حق حصري لخالق الإنسان والكون وخالق الربط بينهما.

معرفة القانون الموضوع تحصل عن طريق الوحي الإلهي للكاملين والمعصومين علیهم السّلام من البشر .

البرهان العقلي - الأعم من التجربي وغير التجربي - وكذلك الدليل النقلي المعتبر كل ذلك هو سراج ينير ذاك الصراط المستقيم والسراج لا يصنع جادة ولا يهندسها وللدين بمعناه الجامع - الذي هو صراط الحق المستقيم مهندس وصانع واحد وهو الله. والأنبياء علیهم السّلام هم أشخاص معصومون يعرفون القانون وليسوا مقننين: «أن الحكم إلا لله» (سورة الأنعام، الآية 75) أما تفويض بعض الأحكام للمعصومين عليهم السلام الذي يحصل من خلال الإلهام فهو ذو معنى خاص يتناسب مع التوحيد الربوبي وحصرية التقنين بالله تعالى.

الشهود العرفاني كالعلم البرهاني الحصولي، ليس له دور اكبر من معرفة القانون. أن مشاهدة الحق والصدق والعدل والخير لا تعني على الإطلاق وضعها العيني.

ص: 282

وعلى هذا الأساس وبلحاظ الرؤية الكونية لم يكن أي شخص حقيقي أو حقوقي مقنناً ولن يكون كذلك. الله تعالى هو المقنن الوحيد والمعصوم علیه السّلام هو الإنسان العارف بالقانون بشكل مباشر ومن دون واسطة وأما الآخرون فيعرفونه عن طريق العقل والنقل ويفهمون الحكم الموحى به إلى الرسول صلّی الله علیه و آله.

الخامسة: وحدة المصدر والمبدأ

أن القوانين الأخلاقية التي تعرض في قالب مواد مستخرجة من مبادئ خاصة، يجب أن تعتمد من جهتين على الحقائق العينية؛ الأولى من جهة معرفة المصدر حيث يجب أن تستند المبادئ الأخلاقية إلى مصدر وحياني مرتبطة بالموجودات التكوينية في نظام الخلق برباط وثيق. والثانية من جهة التلازم بين تكامل الموجود العيني وأشكال الكمال الخارجي. وتوضيح ذلك أن:

الإنسان موجود عيني وتكويني ولن يكون اعتبارياً.

هذا الموجود عيني، متكامل وحيوي ولم ولن يكون موجوداً جامداً وراكداً.

تكامل الموجود الحقيقي وحيوية الموجود العيني هو بتحصيل الكمال العيني والوجود الحقيقي، وليس الاعتباري.

القوانين الفقهية والأخلاقية والحقوقية والقانونية تتشكل بأجمعها من وجوبات وعدم وجوبات اعتبارية أن عناوين المالكية الرئاسة والمرؤوسة ليس لها وجود خارجي على الإطلاق. كما أن الحلية والحرمة أو الصحة والبطلان وبعضها أحكام تكليفية والآخر أحكام وضعية، تقع جميعها في دائرة اعتبار الواقع وليس العينية الخارجية.

لو لم تكن القوانين الأخلاقية وأمثالها وحيانية وإذا لم تستند إلى معايير عينية من قبيل المصالح والمفاسد الخارجية، عند ذلك لن يبقى أي سبيل لإثبات ارتباطها بالواقع العيني. وفي النتيجة لن يكون هناك أي طريق لتكامل المجتمع البشري

ص: 283

الحقيقي؛ لان خيال البشر العاديين وأوهامهم وكذلك غضبهم وشهواتهم وهي أمور تهيء أرضية الأمر والنهي، لا يدعو أي منها إلى الطمأنينة ولا تؤدي إلى العلم بالارتباط بين قوانين الموضوع والواقع العيني. ومن خلال هذا الطريق فقط يمكن إثبات ضرورة استناد مبادئ المواد الأخلاقية والقوانين إلى الحقائق الخارجية.

السادسة: علاقة الصفات الأخلاقية بالحقائق العينية

أن القوانين الأخلاقية كالقواعد الفقهية والحقوقية والقانونية ترتبط بالحقائق العينية عند اعتمادها على الوحي؛ لان الإنسان مسافر ينتقل من الدنيا إلى القبر ومن هناك إلى القيامة ومن ثم إلى ساحة الثواب أو العقاب أي الجنة أو النار. أن كل ما يحصل في المحطات القادمة كلها موجودات عينية وكل ما يحصل في مراحل هجرته، هو تلك الثمار اللذيذة والمرة من تلك الشجرة التي زرعها ورواها بأخلاقه وأعماله. لا يمكن إجبار الشخص بأي شيء خارج عن عقيدته وخُلقه وعمله. وعلى هذا الأساس فإن مواد علم الأخلاق الوحيانية وكما أنها مسبوقة بالحقائق العينية أي المعايير الواقعية من قبيل المصالح والمفاسد، فهي ملحوقة أيضاً بالحقائق الخارجية، أي القبر والجنة والنار وجمعيها موجودة في حاق الخارج. إذا كانت المواظبة على تعاليم الطبيب أو تركها تظهر في هوية الإنسان - من قبيل السلامة أو المرض وهو الموجود الخارجي، فكيف يكون الأمر مع الشيء الموجود خارج إطار البدن.

السابعة: الأخلاق والحقيقة الإنسانية

ترتبط الأخلاق الوحيانية من بُعد آخر بالحقيقة العينية. يحصل الإنسان في بداية ولادته على هوية تكون الروح أعلى مراتبها والبدن أدناها. أن هذين الموجودين الجارين يشكلان حقيقة واحدة ثم تصل الثنائية الابتدائية إلى التثليث النهائي. تمتلك كلمة خُلق (بالضم) وكلمة خلق (بالفتح) معنىً مشتركاً وهو الخلق، الأول في الظاهر والآخر في الباطن؛ لأن خُلق (بالضم) لا يقصد منه ظهور الأوصاف النفسانية فقط؛ بل يتناسب مع ذلك، فيخلق البدن البرزخي بمقدار وهيئة وأعضاء وجوارح والإنسان

ص: 284

المتخلق، يمتلك روحاً عالية وبدناً مادياً ضعيفاً، والبدن البرزخي المتوسط يرافقه في رحلاته أثناء النوم ويحشر في القبر مع البدن البرزخي. ويعيش في المعاد ببدنه الأصلي والدنيوي.

وعلى هذا الأساس، يتحول الإنسان ذي البعدين (الروح والبدن المادي) في البداية إلى إنسان ذو أبعاد ثلاثة (الروج، البدن البرزخي والبدن المادي). أن جمال البدن المتوسط وقبحه مرهون حُسن خُلقه أو سوءه ويكون تعلق الروح بذاك البدن البرزخي والمثالي مستمراً ودائماً؛ على الرغم من ظهورها عند النوم فقط؛ وهذا يعني أن اتصال الروح بذاك البدن المثالي الذي يظهر في الرؤيا، أمر حقيقي؛ مع العلم أن اصل وجود ذاك البدن البرزخي واقعي أيضاً (وليس اعتباري).

الخلاصة، أن البدن البرزخي الذي يظهر في الرؤيا ليس اعتبارياً على الإطلاق كما أن علاقته بروح الإنسان ليست مقطعية فالبدن البرزخي قد يكون مشهوداً عند بعض الأشخاص من أصحاب البصر. الفارق الهام بين البدن البرزخي والبدن المادي - بغض النظر عن مثاليته أو ماديته - هو في الظهور والخفاء.

الثامنة : التكامل في ظل سلامة القوى الإنسانية

يشكل الجزء المهم من الأخلاق إصلاح القوى العملية واستخدامها بشكل صحيح ومن هنا فالعمل الصحيح يستعين بالعلم الصادق ويتولى هذا العلم القوى العلمية لذلك لم يبحثوا عنه بشكل مباشر. ولتوضيح انفصال القوتين عن بعضهما وإمكان سلامتهما، اعتلالهما أو سلامة احدهما واعتلال الآخر، يدفعنا للاستعانة بتمثيل من صور القوى الخارجية الأربعة لتتضح من خلال ذلك حالات القوى الباطنية الأربعة المراد تمثيلها يمتلك الإنسان جزأين منفصلين عن بعضهما من ناحية القوى الظاهرية؛ فهو يمتلك عينين وأذنين يهيء بواسطتهما الإدراك الخارجي؛ فيرى بالعين ويسمع بالأذن ويمتلك ايدٍ وأرجل يؤدي بها حركات خارجية؛ فهو يأخذ ويلقي بإحداها ويتحرك بالأخرى. ومن هنا فالصور الأربعة للجوارح عبارة عن : قوى

ص: 285

الإدراك أو قوى التحريك وهي:

أما أن يكونا سالمين أو

أن يكونا معتلين أو

أن تكون قوة الإدراك سالمة وقوة التحريك معتلة أو

أن تكون قوة التحريك سالمة وقوة الإدراك معتلة.

إذا شعر الشخص بخطر ، كما لو شاهد عقرباً أو أفعى، فإذا كانت كلتا قوتيه سالمتين تحرك بسرعة وابتعد عن العقرب أو الأفعى أو انه يقوم بإبعادهما ومن ثمَّ يبقى سالماً. أما في الحالة الثانية فهو لن يشعر بالخطر ولن يمتلك القدرة على الفرار. أما في الحالة الثالثة، فهو وان شعر بالخطر، إلا انه لن يمتلك القدرة على النجاة منهما .

وفي الحالة الرابعة فهو وان كان يمتلك القدرة على الحركة، ولكن وبما انه لا يشعر بالخطر فلن يدرك الاتجاه الذي سيفر إليه لا بل قد تكون جهوده عبارة عن الاقتراب من الخطر. فلو أن شخصاً رأى الحية والعقرب على سبيل المثال وبما أن يديه ورجليه عاجزتان عن الحركة سيتعرض السمومهما ، ومع ذلك لا يمكن الاعتراض عليه وسؤاله عن عدم الابتعاد رغم أحساسه بالخطر كما لا ينبغي الإضافة على قدراته العلمية وتزويده بالنظارة أو المنظار أو التلسكوب أو الميكروسكوب..... لأن هذا الأشخاص لا يعاني من أي إشكال إدراكي، بل مشكلته الوحيدة أن أعضاءه لا تتحرك والعلاج هو محاولة فك قيوده.

يمتلك الإنسان في داخله قوتين منفصلين عن بعضهما تتولى إحداهما الفكر والثانية الدافعية. يجري الحديث عن الأولى تحت عنوان العقل النظري وعن الثانية تحت عنوان العقل العملي ويكون الإنسان على اربع صور بناءً على هاتين القوتين: أن تكون قوتاه هاتين ،سالمتين، أن تكونا معتلين أن تكون قوته العلمية سالمة وقوته العملية معتلة، وأخيراً أن تكون قوته العملية سالمة والعلمية معتلة.

ص: 286

في الحالة الأولى تكون بعض المفاهيم من أمثال العدل والظلم، الخير والشر، الضرر والنفع، الحسن والقبح الحق والباطل والصدق والكذب واضحة لديه فيميل نحو الكمال ويبتعد عن الانحراف . يُعرف هذا الإنسان الكامل بعنوان «العالم العادل» . الحالة الثانية، يكون الخير والشر غير معلومان لديه ولا يتمكن من التوجه نحو الحق والانحراف عن الباطل حيث يُعرف هذا الشخص بعنوان «الجاهل المتهتك». أما في الحالة الثالثة وان كان الحسن والقبح معلوماً، إلا أن القوة الموكلة بالإرادة والعزم والتصميم والإخلاص فهي معطلة ويكون هذا الشخص العالم ملوثاً ويطلق عليه «العالم الفاسق»، كما لا يمكن توجيه الاعتراض العلمي إليه وسؤاله : لماذا فعلت هذا ألم تكن تعلم؟ لان مشكلته هي في تعطل عنصر الإرادة والعزم العملي وليس الجزم العلمي. أما في الحالة الرابعة وان كانت قدرة اتخاذ القرارات وقوة الإرادة سالمة، إلا انه قد يقترب تارة من الحق وقد يبتعد تارة أخرى عنه وذلك لجهله العلمي بالحق والباطل. ويُعدّ عن هذا الشخص بالناسك قليل الإدراك المعرض لخطر الخداع.

أن الذي نقُل عن الإمام علیه السّلام عندما قال: «كم من عقل أسير تحت هوى أمير» (نهج البلاغة الحكمة 211) يراد به تعطل قوى العمل الصحيح؛ على الرغم من أن الشخص الهائم قد يكون عاجزاً عن الإدراك الصحيح. تحاول الأخلاق الوحيانية تقسيم القوى العلمية والعملية الباطنية هذا من جهة، وعلاج أمراضهما من جهة ثانية، ودعم وتقوية السالم منها من جهة ثالثة والاستفادة الصحية من القوى السالمة والمفيدة من جهة رابعة لتترتب بعد ذلك المراحل اللاحقة عليها. ومن هنا فهي تتضمن الخصائص اللازمة لتكامل الأخلاق الإلهية الإنسانية.

التاسعة: الأخلاق هي الفصل المقوم للإنسان

إن رعاية القواعد الأخلاقية قد تكون عند البعض بمثابة الحال وعند البعض الآخر بمثابة الملكة وتكون لا وحدي من المتخلقين بالأخلاق الإلهية بمثابة الفصل المقوم؛ بحيث يكون هذا الأخير قد انتقل من رتبة العرض المفارق إلى رتبة العرض الذاتي ثم عَبَرَ عن تلك المرحلة فتجذرت في هوية الشخص المتخلق بحيث يؤدي

ص: 287

عدم وجود الخصوصية الأخلاقية إلى عدم ثبات واستقرار اصل هوية الشخص. أن هذا الإنسان الكامل يمتاز بامتلاكه وضعاً أخلاقياً وعملاً أخلاقياً أيضاً نشأ كلاهما من تلك الهوية ولا يمكن اعتبار وصفه الأخلاقي مساوياً لوجوده، عدا عن انه لا يمكن أن يكون أعلى منه ؛ لا الوصف المزبور والفعل المذكور وان كانا موجودين كاملين إلا انهما أثران للهوية المتخلقة والأثر لا يكون أعلى من المؤثر ولا مساوياً له، بل كل مؤثر يكون أعلى من اثره : «فاعل الخير خير منه» ( نهج البلاغة، الحكمة32).

بما أن الخلق الحسن هو اثر كمالي للإنسان صاحب الأخلاق وكل اثر مقهور للمؤثر، لذلك عَبّر القرآن الكريم حول أخلاق خاتم النبوة بكلمة «على»: «انك لعلى خلق عظيم» (سورة القلم، الآية 4) أي انك مسلط على الخلق العظيم والخلق العظيم تحت سيطرتك. وهذا التعبير الإلهي يصدق على بعض أهل الإيمان المستفيدين من الفيض الخاص والفوز الإلهي : «فهو على نور من ربه» (سورة الزمر، الآية22) أي أن النور وصف وفعل اسند إليه من جانب الله تعالى، فهو كالمركب الذي يتحرك بإرادته. أما الاختلاف بین الكمال الذاتي وبين الكمال الوضعي والفعلي فهو في درجة الوجود؛ أي انهما يشتركان في مفهوم ،واحد، إلا أن مصداقهما الأعلى فهو في داخل هوية الإنسان المتخلق بالأخلاق الإلهية ومصداقهما المتوسط والأدنى هما في حد وضعه وفعله أن الاشتراك المفهومي مقبول على مبدأ التشكيك في الحقيقة الواحدة ولا حاجة للغرق في أوحال الاشتراك اللفظي؛ طبعاً لا يمكن أن يُطرح هنا موضوع الجوهر والعرض للشيء الواحد من خلال إرجاع أشكال الكمال الحقيقي إلى سنخ الوجود؛ لان أي من مصاديق الخُلق الكمالي الثلاثة (الذاتي، الوضعي الفعلي) ليس ذا ماهية، ولا يندرج تحت أي مقولة من المقولات المعروفة؛ لان جمعيها تعبر عن حقيقة الوجود وهي كما حقيقة الوجود منزهة عن الماهية وبريئة عن مقولتي الجوهر والعرض.

يشير تمثل أو تجسد وتجسم الإنسان المتخلق بصورته الخلقية إلى أن الخلق المذكور هو من سنخ الوجود وليس الماهية. مع العلم انهم يعتبرونه في الحكمة

ص: 288

العملية الرائجة من الكيفيات النفسانية وهو من سنخ الماهية بناءً على الحكمة النظرية المتداولة، ومع ذلك فهناك عدد من الشواهد التي تبين ان الخُلق الكريم والعظيم والحسن كحقيقة العلم من سنخ الوجود وليس الماهية.

العاشرة: علم الأخلاق يقبل الاستدلال

الأخلاق من جملة العلوم الجزئية التي تندرج تحت علم كلي وجامع هو الفلسفة والمقصود من ذلك الأخلاق النظرية التي تكون في رديف العلوم الحصولية والاستدلالية وهي تقع تحت مجموعة الرؤية الكونية؛ ويقابل ذلك الأخلاق العملية التي هي سير وسلوك خارجي ويحصل الوصف الأخلاقي فيها بواسطة الفعل الأخلاقي وتظهر من خلال السير الجوهري للصيرورة الخلقية التي عرضناها في النقطة التاسعة.

ويمكن البحث بشكل مستقل عن الاختلاف بين الأخلاق العملية والعرفان العملي والشهودي. أما خلاصة الأخلاق العملية فهي تحصيل الزاد وخلاصة العرفان العملي فهي شهود المقصد والوصول إلى المقصد حيث يكون تهيئة الزاد من المقدمات.

طبعاً يجب الالتفات إلى نقطة هامة وهي أن فعالية الأخلاق في تدبير الأمور، إصلاح الفرد والمجتمع، أيجاد الاستقلال والحرية للامة والوصول إلى كافة الكمالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية كل ذلك مرهون لاستناد مبادئها إلى المصادر الوحيانية؛ لان الإنسان الكامل يمتلك المبادئ كافة باعتبار انه كون جامع وهو يرتبط بالمقصد بالأخص النهائي برباط وثيق؛ إلا أن ذلك لن يكون محلاً لاستفادة المجتمع البشري. أمر القرآن الكريم صاحب الخُلق العظيم الاهتمام بالأشخاص التابعين وتعليمهم قوانين وتعاليم وآداب الارتقاء: «واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين» (سورة الشعراء ، الآية 215) كما أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم كما سائر الأنبياء ينبغي عليه حفظ اصل الرفقة مع السائرين نحو الحق وان لا ينفصل عنهم : «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم

ص: 289

من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً» (سورة النساء، الآية (69) أما مجال الرفقة بين الأنبياء والأشخاص العاديين فهو الأخلاق العملية وليس العرفان الشهودي؛ لان الذوات القدسية موجودون مع بعضهم البعض في دائرة العرفان العملي الذي هو الحضور في بلاط المقصود، والأشخاص الاعتياديون قليلاً ما يصلون إلى ذاك المقام المنيع. وإذا وصل بعض الأفراد النادرون أمثال الحارثة بن مالك إلى مقام الإحسان - وهو مقام كان وليس قممه - فإن ذلك بسبب التأسي بأسوة العرفاء الواصلين والاقتداء بقدوة المتخلقين؛ على الرغم من أن المرتبة الخاصة للرسول الأكرم تصحح ذلك حيث قال: «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل» ( منهاج النجاح، 1384، ص 274).

خلاصة الكلام:

أن علم الكلام النظري يدور حول معرفة الزاد ومعرفة كيفية توسيع الزاد وطرق استكشاف الراحلة .

يسعى السير والسلوك في الأخلاق العملية لتحصل الزاد العملي، تهيئة الزاد في الخارج والحفاظ العيني عليه ومن ثم تهيئة الراحلة والحفاظ الخارجي عليها.

يبحث العرفان النظري حول معرفة المقصد وإدراكه.

العرفان العملي والشهودي هو الخطوات في وادي الفناء عند مقام الواحد الأحد والبقاء بعد الفناء فيه .

من هنا لا يمكن إنكار ضرورة الاهتمام بالعلم النظري والعملي للأخلاق الوحيانية؛ لان الأخلاق هي الضمانة لإجراء الأحكام الفقهية والحقوقية والقانونية وأما إذا احتوى القانون على نقص وإذا وجد فيه عيب، فالأخلاق الوحيانية هي التي بإمكانها جبران الفراغ أو تصحيحه.

النتيجة

ص: 290

يبني علم الأخلاق على مبادئ علمية وعملية متعددة أما منشأ تلك المبادئ فهو الذات الإلهية المقدسة ومصدرها إرادته ومشيئته السارية والجارية. وتكون الأخلاق الإسلامية وحيانية باعتبار عجز العقل عن وضع قوانين جامعة؛ لان نقصه واضح في ذلك ولعل أفضل برهان على هذا الأمر كلام أمير البيان حيث قال: «غاية العقل الإقرار بالجهل». (تصنيف غرر الحكم و درر الحكم ، ص52) وما ظن بعضهم من أن الأوصاف الأخلاقية من الأمور الاعتبارية، فغير صحيح؛ لان هذه الأوصاف قد امتزجت بالحقائق العينية والخارجية إن الحقيقة الإنسانية مركبة من روح وجسم مادي والخلقيات الإنسانية هي من الملكات النفسانية حيث تتجلى تلك الملكات في الظاهر الجسماني. الأخلاق أمر نفساني ومعيار الشخصية الإنسانية ويمكن بواسطتها الوصول إلى رتبة العدنية ومقام الخلة ؛ وقد جاء الحديث حول مقام إبراهيم علیه السّلام انه وصل إلى مقام الخلة واصبح خليلاً لله لامتلاكه صفتين أخلاقيتين عدم الحاجة إلى غير الله وإطعام الفقراء والإحسان اليهم.

ص: 291

المصادر:

القرآن الكريم

البسطامي، علي بن طيفور (1384)، منهاج النجاح في ترجمة مفتاح الفلاح، طهران: حکمت الطبعة السادسة.

التميمي الامدي، عبد الواحد، (1366)، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، قم: مكتب الأعلام، الطبعة الأولى.

السيد الرضي، أبو الحسن محمد، (1414ه_ ق)، نهج البلاغة، قم: هجرت، الطبعة الأولى.

الكليني، محمد بن يعقوب (1362) ، الكافي، طهران: الإسلامية، الطبعة الثانية.

جلال الدین محمد البلخي الرومي (مولوي)، (1382)، مثنوي معنوي، باهتمام: توفيق سبحاني، طهران، الطبعة الثالثة.

ص: 292

الأخلاق القرآنية والشريعة الإسلامية

خالد أبو الفضل (1)

يساهم هذا البحث في توضيح الوسائل والطرق الممكنة لفهم طبيعة العلاقة بين الأخلاق والشريعة. يسعى الباحث البروفسور خالد أبو الفضل - وهو أميركي مسلم من أصل هندي - إلى تبيين حقيقة معرفية مفادها أن فهم العلاقة الدقيقة بين الأخلاق والشريعة هو من البديهيات التأسيسية الآيلة إلى تشكيل نظرية معرفة في الأخلاق القرآنية. يشير أبو الفضل إلى أن النظرية الإسلامية عرضت وتم تقديمها في إطار المبادئ الإسلامية العامة، إلا أنه يؤكد بصورة حاسمة على دينامية وحيوية الشريعة كمنظومة تدبيرية ينبغي المحافظة عليها وإعادة تظهيرها بما يخدم الحضارة الإنسانية المعاصرة. وهذه النتيجة لا تكون ممكنة برأيه إلا بالإبقاء على القدرات الإبداعية للأفراد والجماعات في المجتمع الإسلامي

الكلمات المفتاحية: القرآن - الأخلاق الإسلامية - التشريع الإسلامي - الشريعة - اللاهوت الإسلامي.

***

ص: 293


1- أستاذ الشريعة والقانون في جامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس، والأستاذ الزائر في جامعة ييل للقانون، ومن أشهر الباحثين المسلمين في الولايات المتحدة. وعضو لجنة الحريات بالكونغرس. العنوان الأصلي للبحث Quranic Ehics and islamic law المصدر: 7 (2017)1 28-journal of islamic ethics ترجمة: عماد الدين عبد الرزاق – مراجعة: كريم عبد الرحمن

شَغِل السؤال عن الكيفية التي يصبح فيها القانون (الشريعة) معروفاً، أذهان المفكرين المسلمين منذ زمن بعيد. وقد ركزت المناقشات والمناظرات الحامية الوطيس التي جرت في العصور الحديثة، على دور المبادئ الأخلاقية والعقل في تطوير وتنمية التعاليم الدينية. كثيرا من الآراء رأت إلى رسالة النبي محمد صلّى الله عليه و آله كجزء لا يتجزأ من المشروع الأخلاقي الكوني الذي تم تشييده وفق مبدأ تطوير وتنمية الوجود الأخلاقي الطبيعي للبشرية. وهذا أمرٌ تم تدعيمه عن طريق النص القرآني. وهو النص المقدس الذي اثنى الله تعالى من خلاله على نبيِّه صلّى الله عليه و آله والاستقامته وسمو أخلاقه كما ورد في الآية الكريمة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . (1) والى جانب النصوص القرآنية الداعية إلى مكارم الأخلاق، هناك الأحاديث النبوية التي تؤكد على العلاقة الوثيقة، والصلة القوية بين الإسلام والأخلاق. من أبرز هذه الأحاديث قوله صلّى الله عليه و آله «أقربكم مني مجلسًا يوم يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً». وإذا أخذنا في الاعتبار الدور المحوري الذي تؤديه الأخلاق في العقيدة الدينية، لن يكون مثيرًا للدهشة أن نرى الأجيال السابقة من المفكرين المسلمين كيف ناقشوا بعمق البحوث الفلسفية اليونانية المتصلة بطبيعة الالتزامات الأخلاقية. في هذا السياق نشير إلى أنه في التراث الإسلامي القديم كان يوجد فرق متنازعة ومتعارضة يمثل المعتزلة قطبها الأول. فلقد تبنى المعتزلة وجهة النظر التي تقول إن بالإمكان معرفة العدالة والفضيلة عن طريق العقل البشري. أما القطب الثاني فهم التقليديون (أهل الحديث) الذين دافعوا عن وجهة النظر القائلة أن العدالة والفضيلة يمكن معرفتهما عن طريق الوحي الإلهي.

في القرون الأولى من التشريع الإسلامي، كانت المناقشات التي تتعلق بالطبيعة الفعلية الحقيقية للعدالة الأخلاق، ودور العقل والوحي، ذات أثر فعال لجهة حيويتها ودينامياتها. أما في العصر الحديث، فقد شهدت المناقشات والمناظرات ضموراً وانخفضت إلى أدنى حد؛ ذلك على الرغم من وجود مصلحین مسلمین مثل محمد إقبال اللاهوري توفي (1938) ومحمد عبده (1905) وسواهما. لقد سعى أمثال هؤلاء لإعطاء العقل دوراً وازناً وحاسماً في القانون الإسلامي(الشريعة). إلى

ص: 294


1- سورة القلم - الآية 4

جانب هؤلاء المصلحين بعض الأصوليين الحديثين مثل أبو الأعلى المودودي توفي (1979)، الذي تعامل مع القواعد الشرعية كمصدر أساسي لجميع المبادئ الأخلاقية والعدالة لقد رأى أن التراث التشريعي الإسلامي ذو وظيفة إرشادية وتنويرية، وليس ذلك فحسب، بل أيضاً يملك وظيفة نقدية. فضلاً عن ذلك يوجد العديد من المصلحين المعاصرين راحوا يتبنون الرأي القائل بضرورة خضوع التعاليم والتقاليد والأعراف التشريعية القديمة إلى الفحص والنقد الدقيق. وهو ما يعتني به بحثنا هذا لجهة الدوافع والبواعث الأخلاقية المتضمنة في الوحي القرآني، وإمكانية انتقال هذه الدوافع والبواعث الأخلاقية إلى مفاصل القانون والنظام الإسلامي (1).

1- العدالة كطريق وسبيل للألوهية. (طبيعة التشريع الإسلامي)

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(2). تحمل هذه الآية رسالة واضحة وجلية مفادها أن الإنسان بصفة عامة، ومن قبل أن يحمل أمانة الله في التكليف والاختيار، ويوافق على هذا الامتحان الصعب والشاق من التكاليف الدينية، هو في الوقت نفسه مسؤول عن قراراته وأفعاله في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وبناء على ذلك منحنا الله العقل لكي نختار البدائل لذا فالإنسان محاسب على أفعاله، فلو نجح كان له الثواب، ولو فشل وأخفق استحق العقاب. إنها أمانة التكليف الشاقة والصعبة. ولا يقتصر الأمر على حمل أمانة التكليف الشاقة، بل جعل الله الموجودات البشرية نائبة عنه، أي أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض كما في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِف في الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُر كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(3). لذا فإن الهدف الأسمى للإنسان في هذه الحياة هو إدراك وتحقيق صراط الله المستقيم، وهذا يستلزم كفاحاً أخلاقياً مستمراً ودائماً للوصول إلى هذا المسار الإلهي. وعندما

ص: 295


1- ملحوظة : معظم الفقهاء والقضاة والمشرعين يستخدمون كلمة القانون الإسلامي بمعنى الشريعة، وهذا ما يلمح إليه الباحث تكراراً فى هذا البحث
2- سورة الأحزاب - الآية 72
3- سورة يونس - الآية 14

تحدث القرآن الكريم عن صراط الله المستقيم، والذي ينشأ من دوافع أخلاقية، تعامل مع الصراط كحقيقة واقعية فعلية وموجودة. والصراط المستقيم وكذلك الجانب الأخلاقي منه هما أمران متساويان في الامتداد الزماني والمكاني، وفي الوقت نفسه غير منفصلين عن الله. يستخدم القرآن عدة مصطلحات مثل «الظلم» أو «العدل» أو «الجيد» بطريقة موضوعية، كما لو كانت حقائق أنطولوجية - مستقلة وموضوعية. فالإلهية تجسيد لكل ماهو أخلاقي ومعنوي وجيِّد وصحيح، ومن ثمَّ فإن وجود الإلهية كحقيقة موضوعية يعني بالضرورة وجود قيم أخلاقية من قبيل العدالة والخير. وبناءً على ذلك لا معنى أن يدعي امرؤٌ ما وجود الله وفي الوقت نفسه يقول بعدم وجود العدالة والخير . فوجود الله يتضمن وجود كل من العدالة والخير على اتمِّهما . العدالة الجزئية أو الخير الجزئي يمكن أن تكون سياقية وطارئة ونسبيّة، لكن العدالة المطلقة، والخير المطلق ليسا كذلك العدالة المطلقة والكمال والخير هي صفات إلهية، لأن الإلهية تجسد كل ماهو حق وخيِّر . والله تعالى يجسد كل أنواع الجمال {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}(1) . ومن العدل أن نقول إن الله يجسد كل جميل وجيد والصراط المستقيم يعلمه الله، أما الإنسان فلا يعرفه، ولذلك فهو يحتاج إلى الله من أجل إرشاده وهدايته. والقرآن الكريم في كثير من آياته يحض المسلمين على أن يسلكوا الصراط المستقيم {اهْدِنَا الصَّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(2). ومع انه لا يوجد كهنوت في الإسلام، إلا أن التجارب التاريخية للمسلمين أنتجت نوعًا من الخبرات القانونية عرفت باسم الفقه. في الإسلام السني (أهل السنة والجماعة) فإن سلطة الفقهاء احتمالية وعارضة وطارئة بصورة تامة خصوصًا في الاختلافات الشخصية في مسائل الفقه. ولذا لا يوجد عالم دين يمكن أن يدعي لنفسه سلطة دينية مقدسة، أو أن يدعي العصمة من الخطأ. من ناحية أخرى، فإن القرآن وتعاليم الأنبياء عموماً تدعو الناس إلى الاعتماد على قدراتهم الشخصية في فهم وإدراك الصراط الأخلاقي المستقيم. وعلاوة على ذلك، ووفقًا للقرآن الكريم لا يمكن الإنسان أن يهرب من المسؤولية والجزاء أو

ص: 296


1- سورة الحشر - الآية 24
2- سورة الفاتحة - الآية 6

الحساب، عن طريق الاعتماد على الممارسات المعتادة والمألوفة وتعاليم أجدادهم التي ليس لها علاقة بتعاليم الإسلام، كأعذار عن الفشل أو الإخفاق في الوصول إلى الصراط. هنا نتحدث عن علاقة الفرد بالصراط المستقيم كحقيقة موضوعية. بمعنى آخر نتحدث عن المبادئ والقواعد الأخلاقية، ومسؤولية الأفراد في أن يحيوا ويعيشوا حياة أخلاقية.

الشريعة والالتزام الأخلاقي

لدى الحديث عن الالتزامات الأخلاقية في القانون الإسلامي (الشريعة). فإن من الأمور الحاسمة أن نميز بين الإلزام، والمسؤولية القانونية. كل كائن بشري مفطور على التزام أخلاقي ومسؤولية أخلاقية في السعي لمعرفة الصراط المستقيم، وكذلك في سعيه إلى اعتماد المبادئ الأخلاقية التي لا تنفصل عن الألوهية ذاتها. والقرآن الكريم يصف معرفة الصراط المستقيم الذي يتضمن الاعتقاد في الله بأنه فعل ينشأ خارج أو بعيدًا عن المعرفة العقلية، ذلك بأنه مسألة من مسائل الحس المشترك. فالقرآن الكريم يصف نفسه ككتاب ذكر ، ووظيفته الأساسية أن يذكِّر الناس بحقيقة الله، وهذه الحقيقة تتضمن وجود وحضور الله في كل شي. كما يؤكد القرآن على أن من وسائل معرفة وإدراك هذه الحقيقة (العقل - التذكر – الفكر) وان الحقيقة هي الله والله هو الحقيقة. ولكن معرفة الله توجب وتحتّم معرفة القيم التي تتعلق ذاتها بالله - هذه القيم مثل العدالة- الأمانة وغيرها. في هذا الصدد يقول الراغب الأصفهاني (502 ه_ 1108م) إن فعل الخير يرادف ويساوي الإلزام بتبني القيم الإلهية. بمعنى (أن نتخلَّق بخلق الله). يذكر القرآن العديد من عناصر الاستقامة، ويرى أن الصراط المستقيم متضمَّن في الطبيعة الفعلية للموجودات البشرية، أي أنه حدس طبيعي (فطرة) تُنسجُ وتُحاكُ في بنية وتركيب الوعي الإنساني والفطرة هي التي تساعد في التمييز بين ما يكون ربَّاني إلهي، وما هو بشري. وكذلك بين ما هو خيِّر (حسن) وما هو شر (قبيح) . وعليه يدعو القرآن الناس ويحضُّهم على التفكير، والتأمل والتعقُّل كوسيلة من وسائل الوصول إلى حقيقة الله وصراطه المستقيم. أن

ص: 297

حتمية ووجوب هذا التأمل والتعقل جرى تأكيدها عن طريق حديث النبي صلّی الله علیه و آله (تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة) (الدارمي حديث رقم 658) . وأما عناصر الصراط المستقيم فيمكن أن تصل إليها الموجودات البشرية من خلال فعل التفكير والتذكّر، بما يعني أن الصراط لا يكون تاماً وكاملاً إلا من خلال الاعتقاد بتوحيد الله. ورغم أن العديد من عناصر الصراط يمكن التماسها عن طريق القدرات العقلية والحدسية، فإن بلوغه في تمامه وكماله يتطلب قوة إضافية أخرى إنه يحتاج إلى النعمة الإلهية. فالقرآن الكريم يصف الله بأنه نور محض، ويصر على أن من ينكر وجود الله فهو أعمى من الناحية الروحية، بمعنى أنه لا يملك بصيرة روحية. إن المبادئ الأخلاقية والقيم تمثل سمات وخصائص تنسب إلى الإلهي بطريقة مجازية، والقواعد والمبادئ الأخلاقية تشبه عناصر عُلْوية سماوية مضيئة تُفاض من داخل النور الإلهي. ومن وجهة نظر لاهوتية أو من منظور لاهوتي فإن هذا يعني أن الشخص الذي يفعل هذا يصبح أعمى جزئياً، أو يستطيع أن يرى أشياء ومواد مضيئة، لكنه لا يرى النور الإلهي التام. ومن هنا فإن كل الموجودات البشرية تملك مسؤولية فردية إيجابية لتحقيق هذا النور بقدر الإمكان من ناحية أخرى، فإن هذه المسؤولية تبدو مختلفة تماماً عن الإلزام نفسه. على سبيل المثال الموجودات البشرية ملزمة بالسعي نحو الصراط ، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها مسؤولة عن الإخفاق والفشل في تحقيق الصراط، أو حتى الفشل في البحث عنه، أو السعي إليه في الاعتقاد الإسلامي فإن المسؤولية الإلهية تكون شيئًا موجودًا في حرية الاختيار الإلهي أو حرية التصرف الإلهي وحده. إذ لا يملك أحد أن يقول لله أن يغفر أو يسامح أو يعاقب، فالله تعالى يملك الحرية التامة في فعل ذلك، وتلك المسؤولية يمكن أن نبحث عنها من خلال وسائل وأدوات التشريع الإسلامي وبصورة جوهرية وأساسية، فإن التشريع الإسلامي يهتم بالبحث في الالزمات وترسيخها تكاليف الحلال والحرام وأيضا يبحث في المسؤوليات الدنيوية أو القانونية للمسلمين (المسؤوليات القانونية والمدنية). هناك وسيلة أخرى لفهم وظائف التشريع الإسلامي تتمثل هذه الوسيلة في البحث عن الوسائل والأدوات المنهجية لتفسير وإدراك الحقوق سواء كانت هذه الحقوق تتعلق بالله

ص: 298

أو بالناس والحقوق من ناحية أخرى توجد بصورة موضوعية وفعلية، ووجودها لا يكون مشروطاً أو طارئاً في حقل المعرفة البشرية، ولو سلمت الموجودات البشرية أو أقرت بالحق الشخصي ،الفردي، فذلك لا يستتبع بالضرورة أن هؤلاء الناس يملكون القوة لإجبار ولإلزام الأفراد أن يتحملوا مسؤولية قانونية عن تجاوز أو انتهاك كل من حقوق البشر وحقوق الله.

الشريعة كأيديولوجيا وتطبيق

الشريعة من الناحية التاريخية ظاهرة اتضحت مساراتها كممارسة قانونية اجتماعية معقدة ومركبة، ونسجت مع حتمية نصِّية، وكذلك مع هوى سياسي وأنماط اجتماعية متعلقة بالعرف، كل هذا أُدمج ونُسج ضمن مسار تاريخي غني وخصب ومعقِّد يصعب فصله. ولكن المظهر التاريخي للشريعة كان أيضاً مذهبياً وعقائدياً وطموحاً بشكل مثالي. لم تكن الشريعة مجرد ممارسة تاريخية مفيدة فحسب، بل أيضاً ذات فعالية أيديولوجية استجوبت وواجهت الواقع الاجتماعي والسياسي.

وفقاً للنظرية القانونية الإسلامية فإن الغرض من الشريعة الإسلامية هو السعي من أجل الصراط المستقيم، ومتى فعلنا ذلك نستطيع أن نساهم في تحقيق سعادة ورفاهية البشر. ففي القانون الإسلامي (الشريعة) يعني تحقيق رفاهية وخير الناس؛ ومصلحة الناس هي تعبير أو عبارة تقنية وفنية يُقصد بها تحويل القيم المجردة مثل العدالة والرحمة، إلى منافع ومصالح مادية حسية، ليتم الاستمتاع بها. غالباً ما يعرِّف المؤلفون المسلمون وغير المسلمين إلى مصطلح القانون الإسلامي بالشريعة من الناحية اللغوية تُشتّق من الفعل شرع أي أمر . وقد أطلق هذا الاسم على مورد المياه، أي الماء الجاري، وشرعت الإبل أي جاءت وحضرت إلى مكان الماء. والشريعة اصطلاحًا هي كل ما شرعه الله لعباده من أحكام جاء بها الأنبياء. والشريعة الإسلامية هي ما نزل به الوحي على محمد بن عبد الله صلّی الله علیه و آله من أحكام لإصلاح أحوال الناس في الدنيا والآخرة، سواء في ذلك الأحكام العقائدية أو الأحكام العملية الأخلاقية. وفي هذا السياق تقدم الشريعة المعايير والقواعد النظرية والعملية المتعلقة بالنظام

ص: 299

الإسلامي. ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن القرآن هو المصدر الأساسي والرئيس للشريعة. والكلام الإلهي بوجه عام يركز على المبادئ الأخلاقية العامة والقليل من القوانين الخاصة المحددة (تقريباً يوجد ثمانون آية في القرآن يمكن رؤيتها كقوانين خاصة محددة بالمعنى الدقيق) لكن القرآن يمثل بصورة أساسية كتاب هداية وتخلُّق. وهكذا فإن القوانين الخاصة التي تعدّ جزءاً من الشريعة الثابتة يجب أن تحقق معيارين:

المعيار الأول، يتمثل في القوانين الخاصة التي ينبغي أن يتم صياغتها بواسطة ما هو إلهي، وبطريقة واضحة وغير غامضة.

المعيار الثاني، ويتمثل في وجوب أن يكون القانون الخاص في طبيعته وفي ذاته متضمِّناً المبدأ الأخلاقي الذي يقصد منه. ومن الأمثلة على تلك الأوامر، الأمر بالصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان، وإيتاء الزكاة، وحرمة ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج، والتشهير (الغيبة) شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير الخ .... مثال آخر يتضمن ويشمل الأمر القرآني بأن العقود والمواثيق يجب أن تكون بالرضا والقبول وليس بالجبر والقسر، كما يجب أن تتحرر من الخداع. وعلى جميع المشاركين في العقود والمواثيق أن يبذلوا قصارى جهدهم للمحافظة على عقودهم ومواثيقهم. ولقد حاول الفقهاء والمشرّعون المسلمون وغير المسلمين أن يبرهنوا على أن هذه الأوامر والقوانين تمثل تفويضاً رسمياً عن طريق الله، وأنها في ذاتها مبادئ وقواعد أخلاقية من سماتها وطبيعتها عدم الخضوع للتغيرات الطارئة العارضة، والتغيرات الزمنية. ومن الضروري ملاحظة أن هذه الأوامر والقواعد الخاصة تعدّ جزءاً من الشريعة الإلهية، وتمثل نوعًا خاصاً من القوانين، التي يتم وصفها غالباً عن طريق القوانين والأوامر القرآني (أحكام القرآن). سوى أن هذه القوانين تشكل جزءاً فقط وتوصف إلى حد ما، كقوانين ثابتة أي مطلقة وغير مشروطة. وفي هذا المجال نذكر حقيقة مهمة، وهي أن استعمال أو تطبيق بعض هذه القوانين والأحكام يمكن أن يعطل مؤقتاً أو يعلّق في حالة الضرورة. وتوضيح ذلك أن قيم الشريعة تمثل القيم الأعلى والأسمى التي تتفوق على جميع القيم الأخرى. ولو كانت المصلحة

ص: 300

العامة متساوية مع المصالح السياسية، فإن هذا يعني أن الشريعة تعزز النظام النفعي للقيمة، أو نظام القيم النفعية بصورة تامة. لذا لا بد من التمييز بين الحاجة والدعوى للاستثناء القائم على الضرورة، والتعطيل المؤقت لقوانين الشريعة على أساس المصلحة العامة دعوى الضرورة هنا تمثل وسيلة وأداة لحماية القيمة الأخلاقية أو المبدأ الأخلاقي، أما الاستثناء القائم على المنفعة فسيكون متناقضا مع موضوعية الشريعة ودعوتها إلى القيم الأخلاقية المطلقة. هذا في حين لا يوجد ما يدل على أن القرآن قصد أن يقر أو يصادق على النسبية الأخلاقية، كأساس لقانون الشريعة. أنا لا أدعي أن الشريعة الإسلامية لا تعترف بإدماج المصالح العامة في حالات محدودة؛ وهذه الإحالة لا تتعارض مع القيم الأخلاقية العليا للشريعة، كما أنني لا أدعي أن القانون الإسلامي يحصر نفسه في التسليم بحالات الضرورة العامة. ومما لا شك فيه أن التشريع الإسلامي يقر بالاستثناءات في القانون وفي الحالات التي تستدعي ذلك وتكون ذات طابع عام. بعض المشرعين المعاصرين استنتجوا أن التمييز بين الضرورة والمصلحة العامة يكون فقط في الدرجة، وليس في طبيعة كل منهما. وهذا غير صحيح، فالضرورة تعلق تطبيق القانون من أجل الحفاظ على قيمة أعلى، لكن الادعاء بأن جميع القوانين يمكن تغييرها من أجل خدمة المصلحة العامة يجعل القانون خاضعًا للقاعدة الشاملة ومبادئ الرفاه العام أو الرفاهية مع هذا الالتزام النفعي الشامل، يصبح من الصعب الدفاع عن الموضوعية وإطلاق أي قيمة أخلاقية.

عقوبات الحدود.. مثالاً

إن وضع قانون المصالح العامة موضع التنفيذ كوسيلة وطريقة لإيجاد الاستثناءات القانونية بات إلى حد ما مسألة مرئية ومحسوسة في العصور الحديثة. ذلك لأن القانون القرآني يفترض أن يكون جزءاً من الشريعة الثابتة والقوانين والأوامر القرآنية أو النوع الخاص من الأوامر والمبادئ الأخلاقية المحددة والخاصة. وعلى الرغم من أن هذه الأوامر الخاصة هي جزء صغير ومحدود من النظام القانوني، إلا أنها ذات أهمية رمزية كبيرة. فالقوانين الخاصة تتضمن مجموعة من العقوبات والجزاءات

ص: 301

الرادعة التي تعرف باسم عقوبات الحدود وعقوبات الحدود هذه تشمل الحقوق المتعلقة بالله وبالإنسان معاً. وهي (حقوق مختلطة) Mixed Rights)) من أمثلتها الجلد، والرجم حتى الموت ، وقطع اليدين، وكل هذه العقوبات تمثل جوانب خلافية وجدلية في قانون الشريعة في العصر الحديث. وكثيرون من المسلمين، أصبحوا يمتلكون دليلاً لا يقبل الشك على الهوية الفريدة للنظام القانوني الإسلامي، حيث يمثل رمزاً بالنسبة اليهم لجهة الاستقلال السياسي والثقافي. أما عقوبات الحدود بالنسبة لغير المسلمين فهي تمثل دلالة واضحة على وحشية وبربرية وقسوة العصور الوسطى المظلمة. وهنا يجب لفت الأنظار إلى أن كثيرا من علماء المسلمين وغير المسلمين يتعاملون مع هذه القوانين كما لو كانت تمثل لب وجوهر النظام القانوني الإسلامي. وعليه فقد زعموا أن قانون الشريعة بصورة أساسية وجوهرية يتعارض مع المفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان. ومما لا شك فيه أن معظم الفقهاء المسلمين في العصور الوسطى اعتبروا عقوبات الحدود جزءًا من الشريعة الثابتة، ومن أجل هذا لم يجعلوا عقوبات الحدود خاضعة للتغيير والتعديل أو الإلغاء والإبطال، سواء بصورة متعمدة أم لا. كما أن معظم الفقهاء المسلمين في العصور الوسطى رسخوا الانطباع بأنه من غير الممكن تحقيق وإنجاز قانون الشريعة من دون وضع عقوبات الحدود موضع التنفيذ ذلك بأن الحدود بوجه عام تكون متمِّمة ومكملة للنظام القانوني الإسلامي، أو النظام التشريعي في الإسلام ولكن من المثير للاهتمام أن عقوبات الحدود بالكاد كانت متحققة ومنجزة في تاريخ القانون الإسلامي، وما ذلك إلا لأن الفقهاء المسلمين وضعوا حاجات ومطالب تحتاج إلى دليل وبرهان وشروط مسبقة لتنفيذ الحدود بطريقة عملية وتطبيقية. وعلى العموم يمكن النظر إلى عقوبات باعتبارها جزءاً ثابتاً من مبررات ومسوغات الشريعة.

على سبيل المثال أن عقوبات الزنا والسرقة . مؤشرات قوية ودلالات واضحة على القيمة التي وضعتها الشريعة لقيمة العفَّة. ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن العقوبات ذاتها، متوقفة على القرينة والحجة، كما تعتمد على مجموعة من العوامل مثل التخفيف، إلى جانب تحرّي نية وغرض وهدف مرتكب الجريمة أو الفعل الذي

ص: 302

يستوجب إقامة الحد . هنالك أحاديث نبوية كثيرة تدعو المسلمين للبحث عن وقاء وستر وغطاء لاجتناب نزول عقوبة الحد، والتسرع في تطبيقها قبل التثبت والتحقق. من ناحية ثانية يجب أن نساعد من يتوب عن هذه الجرائم التي تستوجب إقامة الحدود، وعدم فضحه أو كشف ستر الله عنه . تجدر الإشارة إلى أن عقوبات الحدود ذاتها متضمنة في القيمة الأخلاقية، وهي معدة لمنع السلوك غير الأخلاقي. ومن المعقول بل من المقبول أن نتعامل مع القيم الأخلاقية في الشريعة كقيم ثابتة ومطلقة، ونتعامل مع القوانين الخاصة والأوامر الخاصة كقوانين موقوفة على تبيَّن القرينة والسياق الزماني والمكاني الذي حصلت فيه.

السعي نحو حقيقة الألوهية

في ما وراء المبادئ الأخلاقية العامة والقوانين الخاصة المتضمنة في المبدأ الأخلاقي، يوجد معنى لنموذج أصلي ثابت في الشريعة. فالشريعة قانون إلهي رباني، والله يعرف تمامها وكمالها، أما النظام القانوني الوضعي فهو نظام يصنعه الإنسان ويقوم على إمكانيات محددة وهدفه من أجل تحقيق وإنجاز العدالة، المساواة، والأمان، وتحقيق هذه القيم هو تحقُّق فرديٌّ، كما أن هذه القدرات والإمكانيات تكون احتمالية. كذلك فإن السعي إلى تحقيق النظام القانوني متوقفٌ على مجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتداخلة والمركبة والشريعة، من ناحية أخرى لا تكون إمكانية فقط، بل أيضاً حالة متحققة بواسطة الله. فالشريعة ربانية إلهية، وليست طارئة ،احتمالية وهي في معناها الصحيح حقيقة إلهية، ونموذج مطلق وتام وكامل ذلك بأنها نموذج من الوحي الإلهي الذي يمنح المعنى والهدف لحياة هؤلاء الذين يسلكون صراط الله المستقيم. ولأن الإنسان خليفة الله في الأرض، كانت الموجودات البشرية مأمورة أن تصلح في الأرض ولا تفسد فيها، بل وجب على الناس أفراداً وجماعات أن يكافحوا للوصول إلى صراط الله المستقيم، وأن يتبعوا سبيل الله، ويعملوا على نشر الخير ومقاومة الشر، بمعنى تحقيق ما هو أخلاقي، ومقاومة غير الأخلاقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فالأمر بالمعروف هو

ص: 303

سبب جوهري في نيل رضاء الله وهذا هو العهد والميثاق الذي أخذه الله على العباد ليكونوا خلفاء في الأرض.

أن عناصر الميثاق الإلهي تتطابق مع طبيعة الإلزام الذي يدين به المسلمون تجاه الشريعة، ولكي تحافظ البشرية على العهد والميثاق الإلهي، فهي مأمورة أن تشارك في عملية تفويض أو انتداب من خلال تلك العملية تسعى الموجودات البشرية إلى ما هو خيِّر، وتتجنب ما يجلب الشر. ومع أن الله يُظهر الحقيقة التامة للخيرية، فإن الموجودات البشرية لا تملك حرية الدخول لمعرفة الله، وأن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تتساوى مع حقيقة الألوهية. علاوة على ذلك، فإن الموجودات البشرية يمكن أن تحقق وتنجز أجزاء من الحقيقة، لكنها لا يمكن أن تحيط بالحقيقة الكلية للشريعة، إذ كيف يمكن للموجودات البشرية أن تمثل الحقيقة الإلهية الكاملة، وهي تقترف الآثام والذنوب.

الأوامر الأخلاقية القرآنية في عصر الكوزموبوليتانية

كما بيَّنا سابقاً، فإن القرآن يقرّ بمبادئ أخلاقية معينة بصورة كلية وتكون قابلة للتطبيق. والقرآن في هذا السياق غالبًا ما يؤيد ويدعم تلك المبادئ الأخلاقية بطريقة واضحة وجلية وإلزامية، ويحض الناس والمسلمين بخاصة على السعي إلى تحقيق وإنجاز تلك المبادئ الأخلاقية الكلية، التي تصلح كأهداف مشتركة بين الحضارات الإنسانية كلها. وهذا ما يمثل سمة جوهرية وأساسية للإسلام كدين شامل يخاطب البشرية ككل. في السياق إياه يؤكد القرآن على أنه يحمل رسالة عالمية لجميع البشرية، وليس لقبيلة معينة أو جنس معين. كما يؤكد أن نبي الإسلام(ص) جاء للبشرية ككل بالرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (1) فالرحمة سمة وخاصِّية أخلاقية رئيسية في الإسلام، وهذه الخاصيِّة تتضح أيضاً بصورة ظاهرية خارجية في كل شيء يفعله الإنسان وهو ما يعرف قرآنياً باسم (الإحسان). فالإحسان هو أن تعرف الآخر، وتنشر المحبة والسلام بين الناس، وهو هبة ونعمة عظيمة من رحمة الله يؤدي إلى أن تنعم

ص: 304


1- سورة الأنبياء - الآية 107

البشرية بالسلام والأمان والسعادة. ومعرفة الآخر لا تكون ممكنة من دون نعمة الإحسان، الذي يجعل الناس تقترب من بعضهم البعض. كما أن القانون الإسلامي يجب أن يشيّد على أساس الزخم الأخلاقي في القرآن، أو على أساس مجموعة الإمكانيات والمسارات الأخلاقية القرآنية. والغالب في التوجيه الأخلاقي القرآني أن على الناس أن يكافحوا من أجل الحصول على نعم الله وعطاياه. ونعم الله تشمل التطور الاجتماعي، وبالمثل فهي تتضمَّن كثيرا من الحقوق بالنسبة للموجودات البشرية. وعلى الرغم من أن نعم الله لا يتم التفكير فيها بطريقة معيارية، فإن القرآن يتحدث بصفة دائمة عن الشروط والأحوال المتميزة اجتماعيًا، مثل السلام والأمان والنجاح المادي والاقتصادي، ويتحدث عن هذه الأشياء كنعم وعطايا من الله تكون متوقفة على جهود البشر. كما أنه من الضروري قراءة النصوص القرآنية لكي نأخذ منها العبر الأخلاقية، وهذا يحتاج إلى تغيير وتغير معرفي كبير في فهم الوسيلة والطريقة التي يؤكد الله بها المبدأ الأخلاقي. إن إحدى الوسائل في فهم المسارات الأخلاقية القرآنية، وفهم ديناميات القرآن في التعامل مع ترسيخ الحقوق الأصلية، فضلا عن الحقوق الفرعية يجري من خلال فهم الآيات لجهة إنهاء الاستضعاف (ظلم واضطهاد يتم بواسطة القوي لنزع شي ما بالقوة من الآخر الضعيف) داخل السياق التاريخي في الإسلام الأول أو المبكر. يشير القرآن على الدوام إلى الشروط والأحوال الاجتماعية التي شكلت وكوَّنت مجموعات معينة من الأمم المستضعفة ويذكّر بأن الخضوع والاستسلام النموذجي والمثالي يكون بالخضوع لله، أما خضوع الإنسان للإنسان ففيه ظلم وذل وإذلال، ولذا فإن الخضوع لله يمثل حلاً وسطاً وتسوية لخضوع الموجودات وضعفها أمام موجودات أخرى، فالاستضعاف ليس فكرة أو مفهوماً مادياً فقط، بل هو يتضمن أيضا عناصر سيكولوجية للمستضعفين (ضحايا الاستضعاف). هؤلاء الضعفاء يتم رؤيتهم كمضطهدين، وإذا أخفقوا وفشلوا في القيام بفعل إيجابي ضد هذا الظلم والاضطهاد فإن القرآن يلومهم على ما فعلوا ويصفهم ب_ «ظالمي أنفسهم». قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ مُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ * قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ * قَالُوا أَلَمْ تَكُنَّ أَرْضُ اللَّهِ

ص: 305

وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ * وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(1)، فإذا لم يحاول المستضعفون تغيير تلك الحالة من الضعف والظلم، كانوا من الظالمين لأنفسهم.

هناك أذن، نقطتان تدوران حول الخطاب القرآني في حالة الاستضعاف:

أولاً : أن التوجيهات القرآنية تعمد غالباً إلى إنهاء حالة الاستضعاف، وكسر الاستكبار والغطرسة التي تتخلل تلك العلاقة. وهذا يعني أن هذه التوجيهات ملائمة ومناسبة للحياة الإنسانية، فضلاً عن أنها توضح الحاجة إلى وضع نهاية لظروف وأحوال الاستضعاف.

ثانياً : العلاقة بین الاستضعاف والغطرسة هي سبب آخر لدعوة القرآن الناس إلى الكفاح من أجل تحقيق وإنجاز كثير من الحقوق التي تكون متسقة ومنسجمة مع الحقوق الأصلية الأساسية التي أمر الله بها . فلو تعاون الناس فيما بينهم وساعدوا أنفسهم بوضع نهاية لموقف الاستضعاف، لتسنى لهم السير والعمل في سبيل الله، حتى يكسبوا نعم الله ويستحقونها. فضحايا الاستضعاف يحتاجون إلى أن يكونوا أقوياء، والقوة هنا ليست قوة مادية فقط، بل قدرة نفسية ووجدانية لمواجهة الطغيان في آثاره الأخلاقية.

الشريعة الإسلامية والرشد

إن الجوهر الأساسي لمفهوم الشريعة، هي أنها وحي إلهي، وطموح نسعى إليه، وهي تشريف وتكريم للإنسان، والموجودات البشرية مكرَّمة، لأنها مفطورة على الاتصاف بصفات الله ، ومن ثمَّ فهي قادرة على فعل أشياء من عند الله. وأمانة التكليف التي قام الإنسان بحملها، ورفضتها السموات والأرض والجبال، هذه الأمانة هي مهمة شاقة وعبء ثقيل، لذا كرم الله الإنسان من أجلها والله قادر على خلق وإيجاد الأفعال التي لا حد لها من الجمال الحقيقي؛ وحين كفَّت الموجودات البشرية عن السعي نحو الجمال، وغفلت عن ميثاقها ووعدها والتزاماتها تجاه السامي والجليل والمهيب والسماوي، وسقطت في الكسل والتراخي، والقنوط واليأس، انحرفت عن الصلاح والتقوى والورع، وسقطت في نقيض ذلك. والتذكير بحقيقة خلافتنا لله على

ص: 306


1- سورة النساء الآية 97

الأرض، وقربنا من الطبيعة الإلهية، وأن الله خلقنا على صورته يجعلنا نقترب من النور الإلهي. وعندما نعيش ونحيا في الجمال الزائف، ومن دون خصائص وصفات الألوهية، فإننا نبتعد ويتعثّر سيرنا نحو النور الإلهي، كما نصبح عرضة للانحراف عن الصلاح والتقوى والورع. والشريعة في هذا السياق تُفهم بصورة دقيقة كمرادف لفضائل التقوى والصلاح والورع، وكنماذج سامية عليا. والقرآن الكريم يصرح ويعلن أننا عندما نفعل الخير، فإن الله يحب المحسنين وفهم الشريعة كمجموعة من الفضائل الطبيعية، وتبنيها كمرشد وموجه معياري يثبت الميزة والخاصية والهوية الأخلاقية للبشر. ونحن كمسلمين ملزمون بتنفيذ المبادئ الأخلاقية القائمة على التعاليم الإلهية. ولسبب بسيط، هو أننا سوف نلقى الشرف والكرامة في الخضوع والتسليم بالتوجيه الإلهي.

الخاتمة : إن المبادئ الأخلاقية المطلقة بمثابة البوصلة والأضواء المرشدة الهادية في الشريعة. والقرآن الكريم يؤكد صحة وصدق وحقيقة المبادئ الأخلاقية كفضائل غير قابلة للانفصال عن الخير والجمال والألوهية ذاتها. ومن المعروف أن القوانين والقواعد القرآنية تقدم أمثلة توضيحية من أجل تحقيق المبادئ الأخلاقية المطلقة في حدود الاعتدال والمعقولية. وما يكون في حدود الاعتدال والمعقولية لا يتم تعريفه بواسطة القانون، وإنما عن طريق العلاقات القائمة على السياق الاجتماعي، والمشاركة المتبادلة والشعور المعرفي والعمليات الثقافية والاجتماعية.

نشير أخيراً إلى أن حقيقة الاستخلاف هو تكليف الإنسان بعمارة الأرض، وهذا أمرٌ يلزم المسلمين أن يعيدوا بناء التعهد بالمشاركة في التعاليم التي بينَّتها الشريعة الإسلامية على أساس فهم مقتضيات الحضارة الإنسانية عقلانياً وأخلاقياً.

ص: 307

العلاقة بين الدين والأخلاق في القرآن الكريم

العلاقة بين الدين والأخلاق في القرآن الكريم (1)

عبد الحسین خسرو پناه (2)

ترجمة: محمد زراقط

الخلاصة:

يشتغل علم الأخلاق في مجالات عدّة بعضها توصيفي وبعضها له طبيعة آمريّة أو فلنقل تهدف إلى التوصية ببعض الأمور. وتوضيح العلاقة بین الأخلاق والدين واحدة من الموضوعات الأساسية في البحث الأخلاقيّ المعاصر. والمقصود من الأخلاق في دراستنا هذه هو قضايا علم الأخلاق (الصدق حسن، والكذب قبيح...) والمقصود من علم الأخلاق ومن الدين الحقائق التي تكشف للإنسان عن الرؤية الصحيحة المتعلّقة بالسلوك والنظر بما يضمن له سعادته في الدنيا والآخرة. وفي توضيح هذه العلاقة بين الأخلاق والدين ثمّة توجّهات ثلاث هي: التباين، والاتّحاد، والتفاعل. وقد كشف لنا البحث في القرآن الكريم عن أنّ التوجّه الصحيح هو الأخير أي التفاعل والتعامل بين الدين والأخلاق.

الكلمات المفتاحية: الدين الأخلاق، العلاقة، القرآن.

ص: 308


1- العنوان الأصلي للمقالة : «رابطه دین و اخلاق در قرآن»، مجلة: أخلاق وحياني، التخصّصية الفصلية، السنة الأولى، العدد الأوّل، خريف 1391ه_.ش
2- أستاذ في الحوزة العلمية في قم، وأستاذ باحث في المعهد العالي للثقافة والفكر الإسلامي

شرح الإشكالية:

العلاقة بين الدين والأخلاق من المسائل التي شغلت أذهان الفلاسفة والمتكلّمين وعلماء الأخلاق، وما زالت تشغل أذهانهم على مدى قرون متمادية. ومن الشواهد الدالة على هذا الانشغال رواج التعبير المركّب من كلمة أخلاق، مضافةً إلى الإسلام تارةً واليهوديّة طورًا، والمسيحيّة طورًا آخر والبوذيّة كذلك، وعلى هذه الأديان يُقاس ما سواها، إن كان ثمّة سواها ... وقد طُرِحت آراء وأفكار حول هذه العلاقة فثمة فلاسفة يونان ورومان من أمثال سقراط وأفلاطون وغيرهم يعتقدون باستقلال الدين عن الأخلاق، ثمّ ما لبثت هذه النظريّة أن تطوّرت إلى حدودها القصوى على يد ماركس وفرويد، كما إنّ بعض علماء الكلام الإسلاميّ العدليّة منهم وغير العدليّة طرحوا أفكارًا تعبّر بشكلٍ أو بآخر عن شكلٍ من أشكال العلاقة أو القطيعة بين المجالين، وقد عبّروا عن هذه العلاقة أو القطيعة في مواقفهم من التحسين والتقبيح على أساس الشرع أو العقل. ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ الأسئلة التي يمكن معالجتها والبحث فيها في هذا المجال كثيرةٌ منها :

- إلى أيّ مدًى يجب أن تكون الأخلاق دينيّةً، وألا يمكن أن تكون علمانيّةً؟

- هل يمكن تحويل الدين والأخلاق كلَّ منهما إلى الآخر وإرجاعه إليه، أم أنّ كلاً منهما مستقلٌّ عن الآخر ولا يمكن إرجاعه إليه ؟

- هل ينبغي أن تؤخذ التعاليم الأخلاقية من النصوص الدينية، أم أنّ العقل والضمير قادران على اكتشاف هذه التعاليم دون مساعدة العقل ؟

- هل الدين في مجال الأخلاق يضع الحدود الدنيا المطلوب الالتزام بها، أم هو يتولّى بيان الحدّ الأعلى لهذه التعاليم؟

- وفي حال تبنّي الانفصال بين الدين والأخلاق، فهل تسود بين الطرفين حالةٌ من الوئام والانسجام أم أنّهما يتعارضان في بعض الحالات؟ وبناء على التعارض أيّهما يُقدّم على الآخر؟

ص: 309

سوف نحاول في هذه المقالة النظر في طبيعة العلاقة بين الدين والأخلاق على ضوء القرآن الكريم، في سعيٍ منّا لتحصيل الجواب القرآنيّ عن الأسئلة المطروحة أعلاه أو بعضها على الأقلّ.

ماهيّة الدين في القرآن وحدود نطاقه:

قبل التعرّف إلى الدين القرآن ينبغي معرفة العلاقة بين الدين والمفاهيم الكلّيّة والتوجهات المختلفة في تفسير الدين.

الدين والمفاهيم الكليّة:

الدين من المفاهيم الكلّية العامّة التي تقبل الانطباق والحمل على مصاديق عدّة. ولا بدّ في مثل هذا البحث من تحديد طبيعة هذا المفهوم لمعرفة أنّه من المفاهيم الماهويّة أو الفلسفية أو المنطقيّة. ولعلّنا قبل ذلك نحتاج إلى شرح المراد من هذه المصطلحات الثلاثة في تصنيف المفاهيم:

1- المفاهيم الماهويّة، أو المعقولات الأوليّة هي المفاهيم التي تخطر في ذهن الإنسان بطريقة آليّة ودون الحاجة إلى ممارسة عمليّات ذهنيّة أو مقارنات بين شيئين أو أشياء، وهذه المفاهيم تُنتزع عادةً من المصاديق الجزئيّة، مثل: الإنسان والبياض وغيرهما من المفاهيم المشابهة التي تنطبق على مصاديق عدّة أو فلنقل تُنتزع من مصاديق عدّة. وذلك أنّه بمجرّد تحقّق الاتّصال الشخصيّ بين الإنسان وبين مجموعة من المصاديق سواء كان ذلك بواسطة الحواسّ أو بواسطة الشهود الباطنيّ، يعمد العقل إلى انتزاع مفهوم كلّىٍّ ينطبق على مجموع المشاهدات الجزئيّة التي تحقّق الاتّصال بها حسيّاً أو شهوديًّا. ومن خصائص المفاهيم الماهويّة أنّها ترسم الحدود الوجوديّة لماهيّات الأشياء، وتكون لمصاديقها بمنزلة القالب ينطبق عليها جميعًا.

2- المفاهيم الفلسفيّة أو المعقولات الثانية الفلسفيّة، وهي المفاهيم التي يتوقّف انتزاعها على النظر والمقارنة. ومن أمثلتها: العلة والمعلول، وهما مفهومان يتوقّف انتزاعهما على ملاحظة العلاقة بين شيئين وإدراك توقّف أحدهما على الآخر. فعندما

ص: 310

نلاحظ النار والحرارة الناجمة عنها ويدرك العقل العلاقة بينهما ينتزع من النار مفهوم العلّة ومن الحرارة مفهوم المعلول. ولولا هذه المقارنة والاستنتاج لما أمكن انتزاع هذين المفهومين. ومن أبرز خصائص هذا النوع من المفاهيم أنّه ليس لها بإزائها مفاهيم وتصوّرات جزئية؛ بحيث ينتزع الذهن المفهوم الكلي للعلية من الصور والمفاهيم الجزئية التي له.

-3 والمفاهيم المنطقية أو المعقولات الثانية المنطقيّة هي المفاهيم التي تُنتزع من ملاحظة مفاهيم أخرى والنظر في خصوصيّاتها. مثلاً عندما يلاحظ العقل مفهوم الإنسان ويدرك قابليّته للانطباق على مصاديق كثيرةٍ، ينتزع مفهوم «كليّ» . ومن هنا كانت هذه المعقولات صفاتٍ لمفاهيم أخرى. وجميع المفاهيم الأصلية التي تُستخدم في علم المنطق هي من هذا النوع. (رحیق مختوم، ج 1؛ آموزش فلسفه، ج 1، درس 15).

وبالنظر في شرحنا لأقسام المفاهيم المتقدّمة يتبيّن أنّ الدين ليس واحدًا من أيٍّ منها، وذلك لأنّه لا يبيّن حدود مصاديقه حتى يكون من المفاهيم الماهويّة ، ولا يُنتزع من ملاحظة العلاقة بين شيئين أو أشياء حتّى يكون من المفاهيم الفلسفية، وليس حكمًا أو صفة لمفهوم آخر حتى يكون من المفاهيم المنطقية.

والسرّ في عدم إمكان تصنيف الدين في إطار مجموعة من المجموعات المتقدمة هو أنّ المقسم لهذه الأقسام الثلاثة هو المفاهيم البسيطة؛ أي المفاهيم البسيطة تنقسم إلى : ماهويّة وفلسفية ومنطقية؛ والدين ليس مفهوماً بسيطاً حتى يدخل تحت قسمٍ من هذه الأقسام؛ بل هو مركّبٌ اعتباريٌّ له أجزاء وفروع متعدّدة. وهو من هذه الناحية يشبه مفهوم العلم الذي ينطبق على الفيزياء، وعلم النفس، والرياضيّات، والتاريخ. مفهوم العلم مركّب اعتباريٌّ أطلقه العلماء بطريقة تعاقديّة وبناء على توافق على أجزاء محدّدة.

اختلاف التوجّهات في تعريف الدين

اختلفت التوجّهات في تعريف الدين وتنوّعت وأهمّ ما يمكن الإشارة إليه في هذا

ص: 311

المجال ثلاثة توجّهات هى: التجريبية، والعقليّة، والنقليّة.

1- الاتجاه التجريبي والاجتماعيّ

ينطلق هذا الاتجاه في تعريفه للدين من النظر إلى جميع مصاديق الدين الموجودة سواء كانت إلهيةً أو بشريّة، وتوحيدية أو شركية، وسماويّة أو أرضية، وذلك بهدف العثور على تعريف جامع مانع ينطبق على جميع مصاديق الدين، ويمنع ما ليس دينًا من الدخول في دائرة هذا التعريف.

ويرى عددٌ من الباحثين عدم إمكان تبنّي تعريف جامع مانع تنضوي تحته جميع مصاديق الدين المحقّقة والموجودة؛ وذلك لأسباب عدّة:

أولاً : إنّ الأديان تعرّضت خلال مسارها التاريخيّ لكثير م التغييرات والتفسيرات التي أفضت إلى تأسيس فرقٍ ومذاهب عدّة. وهذه الفرق أو المذاهب تتبنّى معتقدات ومقولات مختلفة وفي بعض الأحيان متضادّة أو متناقضة. ومن الصعوبة بمكانٍ، طرح تعريف يجمع تحت لوائه جميع هذه التنوّعات على الرغم من تناقضها واختلافها؛ إلا إذا استفدنا في هذا التعريف من الكلمات المبهمة التي ليس لها دلالات محدّدة واضحة. ومثل هذا الخيار لا يتناسب مع مقام التعريف.

ثانيًا : إنّ تعريف الدين ليس هو أوّل حالات الاشتغال العلمي على الدين ودرسه والبحث فيه. فالبحث في حقيقة الدين والنقاش في تعريفه مسبوقٌ بمجموعة من المبادئ التي ينبغي حسمها في علوم أخرى مثل: علم المعرفة، والإناسة (الأنثروبولوجيا)، والفلسفة، كما هو مسبوقٌ بتحديد موقفٍ من الواجب والدور الذي يمكن أن يؤدّيه الدين. وكمثال على تأثير هذه الاختلافات في التعريف نشير إلى أنّ النظر في النصوص الدينيّة يعطي تعريفاً يختلف عن النظر إلى الدين من الخارج وبعيدًا عن هذه النصوص.

ومهما يكن من أمرٍ ، فإنّه يبدو لنا أنّ النظرة التجريبيّة والاجتماعيّة إلى الدين تفيدنا

ص: 312

بوجود ثلاث خصوصيّات مشتركة موجودة في جميع الأديان سواء كانت إلهيّة أو بشريّة والخصوصية الأولى هي الاعتقاد بوجود عالم باطنيٍّ ملكوتيّ مضافًا إلى العالم المُلكيّ الظاهريّ، والثانية هي الاعتقاد بالنجاة (الخلاص) والفلاح، والثالثة هي تقديم الدين منظومة وصفيّة وقيميّة للعلاقة بين الملك والملكوت وتكون وسيلة لنيل الخلاص والنجاة. وجميع الأديان إلهيّةً كانت أم بشريّة تدّعي أنّها تكشف للإنسان كيف يمكن أن ينفذ من الظاهر إلى الباطن ومن عالم المُلك إلى عالم الملكوت، وتدّعي أنها تقدّم للإنسان الوصفة الصالحة للنجاة والفلاح. هذا ولكن الاتّجاه التجريبيّ لا يمكنه الحكم بحقّانية هذه الدعوى أو عدم حقّانيّتها، أو التمييز بين الدين الحقّ والدين غير الحقّ، ولأجل هذا نجده يقنع بالاكتفاء بوصف هذه الأديان والحكاية عن ما تدّعيه. وبناء عليه نرى أنّ إصدار الأحكام على الدين ودعاواه تحتاج إلى الاشتغال بآليات أخرى غير آليّات هذا الاتجاه، والاتّجاه المرشّح هو الاتّجاه المنطقيّ.

2- الاتجاه العقليّ المنطقيّ

يبتني هذا الاتّجاه في مقام فهم الأديان على النظر في حقيقة الدين بطريقة عقلية منطقيّة، بغضّ النظر عن ما تحقّق من الدين في الواقع، وذلك ليحكم على مدّعيات الدين بالصحة والفساد، وليقوّم مدى صحّة وصدقيّة مدّعياتها. وممّا يمكن لهذا الاتّجاه الاستفادة منه مجموعة من المبادئ المعرفية والإناسيّة والفلسفية، ويستند إلى هذه المبادئ للقول في تعريف الدين والحكم على ما تحقّق من مصاديقه أو عليها. وأحد مسارات هذا الاتّجاه هو أن يثبت بالاستناد إلى مجموعة من المقدّمات والمفاهيم البديهيّة أنّ وجود الله الحكيم العادل الجامع لجميع الكمالات، ثم يثبُت وجوب الحياة بعد الموت على ضوء حكمة الله وعدله ويتّضح بالاستناد إلى ما ذكرناه وغيره أنّ معتقدات الإنسان وسلوكه في هذه الحياة ينعكس في الحياة الآخرة ويرتبط بها. وبعبارة أخرى : يثبُتُ على ضوء هذه المقدّمات والقواعد المنطقية أنّ عالم الظاهر ليس مقطوع الصلة بعالم الباطن، وأنّ عالم الملك ليس منبتًّا عن عالم

ص: 313

الملكوت. وفي مرحلة لاحقةٍ يثبِتُ أصحاب هذا الاتّجاه أنّ الأدوات والوسائل العاديّة المتاحة للبشر كالعقل والتجربة والشهود لا تسمح لهم باكتشاف الصلة بين العالمين، ولا تسمح لهم بتقديم وصفة ناجعة لتأمين السعادة والنجاة والفلاح الأبديّ. وعليه تقتضي الحكمة الإلهيّة ضرورة مدّ يد الهداية للناس وهذا يتحقّق عندما يبقى الوحي الإلهيّ مصوناً من يد التحريف والعبث البشريّ به.

وحقيقة الدين وفق هذا الاتّجاه، تتوفّر على المبدإ الفاعليّ، والمبدإ الغائيّ والمبدإ المضمونيّ (تبيّن العلاقة بين الملك والملكوت وكيفية نيل السعادة). ومثل هذا التعريف لا ينطبق سوى على بعض الأديان وليس على جميعها. والأديان البشريّة على الرغم من أنّ بعضها على الأقل يدّعي بعض الدعاوى المشار إليها وخاصّة قضية الربط بين الملك والملكوت على الرغم من ذلك فإنّ هذا التعريف لا ينطبق عليها ولا يصدق عليها الدين حقيقةً وواقعًا، وهي ليست قادرةً على هداية البشر إلى طريق سعادتهم، وهي عاجزةٌ عن اكتشاف العلاقة الحقيقيّة بين ظاهر العالم وباطنه. (المصدر نفسه.)

3- الاتّجاه النقلي والداخل دينيّ

وردت كلمة دين في بعض النصوص الدينيّة مثل : الأفستا (Avesta) ، والتوراة والقرآن. ومن هنا فإنّ النظر في هذه النصوص وكيفية استخدامها لهذا الكلمة يسعفنا في فهم الدين ويكشف لنا وجه الحقّ في تعريفه.

كلمة الدين في الآفستا(Avesta)

الدين (دَئِنا = daena) في نصوص الآفستا من الجذر «داوس» والمعنى الذي يشير إليه هذا الجذر بحسب المعجم الاصطلاحي الآفستي، هو التفكير، والوعي والمعرفة. ودئنا في الديانة الزرادشتية عُدّ أساسًا وبنيانًا. وذلك لأنّه بحسب الأفستا القوّة الدرّاكة والعاقلة هي التي تعطي الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشرّ، وبالتالي تكون سببًا لفلاحه ونجاته. ويرى بعض الباحثين في الزرادشتية أنّ كلمة دَئِنا

ص: 314

تعود إلى الجذر «داي» (day) الذي يعني الرؤية من الفعل ديدن باللغة الفارسية؛ ولأجل هذا فسّر هؤلاء هذه الكلمة بالنظر والرؤية، ولكن ليس النظر والرؤية بالمعنى المتداول العاديّ في الحياة اليومية؛ بل النظر والرؤية في مجال الدين والشهود، أي الفعل الذي ينجم عنه في نهاية المطاف إدراك الإنسان الحقيقة الإلهيّة. (اوستا، ص 115 ، و 424)

كلمة دين في التوراة

لم ترد كلمة دين في العهد الجديد والأناجيل الأربعة المعتمدة في المسيحية، ولكنّ هذه الكلمة وردت مع بعض اشتقاقاتها في التوراة ودلّت في هذه الاستعمالات على معنى الحكم والجزاء في الحياة الدنيا، وليس في الآخرة. فقد ورد في سفر التكوين أنّ الله أدان البشر بمجموعة من الحوادث منها طوفان نوح وتدمير مدينتي سدوم وعمورة. ويُحتمل أن الاسمين «دان» (Dinnah) (Dan) و «دينة» اللذين يذكر أنّهما اسمان لابنين من أبناء يعقوب مشتقّان من هذه المادة التي تعني الإدانة والجزاء. وتروي التوراة أنّ أحد أبناء الأمراء يعجب بإحدى بدينة ابنة يعقوب ويزني بها ثم يرغب في الزواج منها بعد ذلك، ويطلب من أبيه أن يخطبها له، فيفعل الأب ولكنّ يعقوب وأبناءه يشترطون في الموافقة على الخطبة أن يختتن هو وجميع ذكور قومه لأنّهم لا يزوّجون ابنتهم لرجل أغلف، فيوافق الرجل ويطلب من أقرانه من بني قومه الاختتان فيستغل شمعون ولاوي ابني يعقوب فرصة معاناة الرجال من ألم الاختتان ويدخلان مضاربهم فيقتلون الرجال ويسبون النساء والأطفال وينهبون الأموال انتقامًا لشرفهم . وهكذا يدينون القوم بسبب انتهاكهم شرف أختهم ويظهر من التوراة أنّها سُمِّيت بهذا الاسم بسبب هذه الواقعة. (سفر التكوين، الإصحاح 34)

وكلمة دان ترد هي أيضًا في سفر التكوين من التوراة. ففي سياق الحديث عن راحيل إحدى زوجات يعقوب التي كانت لا تلد، بخلاف أختها وضرّتها التي كانت كثيرة الذريّة، تخبرنا التوراة أنّ راحيل غارت من أختها وقالت ليعقوب: «هب لي بنين، وإلّا فأنا أموت!». فيغضب يعقوب على راحيل ويقول لها: «ألعليّ مكان الله

ص: 315

الذي منع عنك ثمرة بطنك؟»، فوهبته جاريتها المسمّاة بلهة وطلبت منه يطأها فتلد وتأخذ ولدها ويكون لراحيل بدل أمّه، فاستجاب يعقوب لطلبها وحبلت وولدت له ابنًا، فقالت راحيل: «قد قضى لي الله وسمع أيضًا لصوتي وأعطاني ابنًا. «لذلك دعت اسمه دانا» (سفر التكوين، الإصحاح 30)

وبناء على هذا يمكن القول إنّ كلمة دين في التوراة تعني الجزاء والإدانة ثوابًا وعقابًا في هذه الدنيا، أمّا في التلمود فإنّها تفيد الجزاء والإدانة في الآخرة.

كلمة دين في القرآن

وردت كلمة دين في القرآن مرّات عدّة وأفادت معاني عدّة تختلف بحسب السياق الذي وردت فيه، ومن هذه المعاني التي دلّت عليها هذه الكلمة عند ورودها في القرآن الكريم:

1 - الدّين بالمعنى المعروف (النظام المعرفي والقيمي) سواء كانت حقًا أم باطلاً، ومن موارد استعمال هذه الكلمة في هذا المعنى في القرآن الكريم يمكن الإشارة إلى هذه الآيات «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون» (سورة التوبة : الآية 33). و «لكم دينكم ولي دين» (سورة الكافرون: الآية 6)، وقوله تعالى: «ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» . (سورة آل عمران: الآية 85)

2 - الدين (النظام المعرفي والقيميّ) الحقّ الإلهيّ: ومن الآيات التي استعملت : فيها كلمة دين في هذا المعنى قوله تعالى: «ما تعبدون من دون إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألّا تعبدوا إلا إيّاه ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون» (سورة يوسف: الآية 40)، ومنها قوله تعالى: «وأن أقم وجهك للدين حنيفًا ولا تكونّن من المشركين» (سورة يونس: الآية 105)، ومنها أيضًا قوله تعالى : «إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذي أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع

ص: 316

العقاب» (سورة آل عمران الآية 19)، وقوله تعالى: «أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون» (سورة آل عمران: الآية 83)، وقوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون» (سورة التوبة : الآية 33)؛ وقوله تعالى: «ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون» (سورة البقرة: الآية 132).

3- الجزاء والحساب: ومن الآيات التي وردت فيها كلمة دين بهذا المعنى نشير إلى الآيات الآتية، وهي قوله تعالى: «مالك يوم الدين» (سورة الفاتحة: الآية 4)، وقوله: «والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين» . (سورة الشعراء: الآية 82)

4- قوانين الشريعة؛ (الميزان في تفسير القرآن، ج 15، ص 79) وذلك في قوله تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ * هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ * مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ * هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ * فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا باللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ * فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (سورة الحج: الآية 78)؛ ومنها قوله تعالى: «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ * كَذَلِكَ كِدْنَا ليُوسُفَ * مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ * وَ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَّن نَّشَأ * وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (سورة يوسف : الآية 76). وتجدر الإشارة إلى أنّ المعنين الأوّل والثاني محتملان في هاتين الآيتين أيضًا.

5 - الطاعة والعبودية والتديّن؛ (الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 233)، وذلك كما في قوله تعالى: «إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ فاعبد الله مخلصًا له الدين» (سورة الزمر : الآية 2)، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام) قوله : «الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين». (نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة 125)

6 - الاعتقادات القلبية والإيمان؛ (الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 428) وذلك

ص: 317

كما في قوله تعالى: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (سورة البقرة: الآية 256)، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ أيضًا: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنُ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً» (سورة النساء: الآية 125)

7 - الإسلام، مضافًا إلى الآية 19 من سورة آل عمران ثمّة روايات وأخبار عدّة تفيد أنّ كلمة «دين» تعني الإسلام والشريعة الخاصّة التي نزلت على رسول الله محمد صلّی الله علیه و آله ومن ذلك ما ورد عن النبيّ نفسه صلّی الله علیه و آله حيث يقول : «جائني جبرائيل فقال لي: يا أحمد الإسلام عشرة أسهم وقد خاب من لا سهم له فيها، أوّلها شهادة أن لا إله إلا الله وهي الكلمة، والثانية الصلاة وهي الطهر والثالثة الزكاة وهي الفطرة، والرابعة الصوم وهي الجُنّة، والخامسة الحج وهي الشريعة، والسادسة الجهاد وهو العزّ، والسابعة الأمر بالمعروف وهو الوفاء، والثامنة النهي عن المنكر وهو الحجة، والتاسعة الجماعة و هي الألفة، والعاشرة الطاعة وهي العصمة . » (العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 65، ص 380)

وسأل كميل بن زياد أمير المؤمنين علیه السّلام عن قواعد الإسلام ماهي؟ فقال: «قواعد الإسلام سبعة، فأوّلها العقل، وعليه بُني الصبر، والثاني صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة تلاوة القرآن على جهته، والرابعة الحبّ في الله والبغض في الله، والخامسة حقّ آل محمد ومعرفة ولايتهم، والسادسة حقّ الإخوان والمحاماة عنهم، والسابعة مجاورة الناس بالحسنى». (المصدر نفسه، ص 381.) وورد عن الإمام الباقر علیه السّلام قوله : «الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية» . (الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 18.)

يرى بعضٌ أنّ كل كلمة لها معنى أساسيّ، وهذا المعنى الأساس يبقى على الرغم من احتمال طروء تحوّل في معناها. فكلّ عنصر في نظام عنصر في نظام حيٍّ، من الطبيعيّ أن تطرأ على العلاقات بين عناصره حالات من التبدّل والتغيّر، وكثيراً ما يؤدّي هذا

ص: 318

العنصر أدوارًا جديدةً لم يكن يؤدّيها من قبل، وذلك أشبه بالأدوار التي يؤدّيها الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه. ودور الكلمات يشبه إلى درجة بعيدة دور الفرد في المجتمع. وإذا لم نقبل هذه القاعدة في اللغة والكلمات بشكلٍ كاملٍ، فلا مجال لإنكارها بالكامل أيضًا، ويبدو أنّه لا مناص من الموافقة عليها ولو بشكلٍ جزئيٍّ ومورديّ ومن هذه الموارد كلمة دين في القرآن الكريم. فإنّ تكرار استخدام هذه الكلمة في سياقات مختلفة تستدعي بالضرورة القبول بتعدّد المعاني التي تشير إليها هذه الكلمة بحسب السياق، ولكنّ استفادة هذه المعاني المختلفة مشروطٌ بانسجام هذا المعنى مع النسيج السياقيّ الخاصّ به، وبعدم تعارض هذه المعاني مع المعنى المركزي الأساس.

من أشكال الخلل في المعاجم وكتب اللغة أنّها في كثير من الأحيان تستعيض عن اكتشاف المعنى الأساس بالإشارة إلى مجموعة من المعاني الاستعمالية التي غالبًا ما تكون نسبيّة مرتبطة بهذا السياق أو ذاك، أو بهذا الزمن والمرحلة الزمنية أو تلك. ومن النماذج التي يمكن الإشارة إليها نموذج كتاب المنجد وهو أحد معاجم اللغة العربية المعاصرة. فهذا المعجم يذكر لكلمة «دين» حوالي تسعة وعشرين معنٍّى. وكلّ واحدٍ من هذه المعاني قد يكون صحيحًا في سياقه الخاصّ وفي إطار استعماله؛ ولكن عندما نخرج هذا المعنى من ذلك السياق نجد أجنبيًا عن المعنى الأساس لهذه الكلمة. ويكشف النظر في موارد استعمال كلمة «دين» في القرآن الكريم عن أنّ المعنى الأساس للدين كان واحدًا على الرغم من دخول بعض الاختلاف في الآداب والمناسك وقواعد السلوك والقوانين الاجتماعية وغيرها... على الرغم من هذا الاختلاف فإنّ الجوهر الذاتيّ والجوهريّ للدين لا يتقيّد بزمان ولا بمكان، ولا يرتبط بأشخاص بأعيانهم. أمّا المعاني النسبية فهي معاني مقيّدة بالزمان والمكان والأشخاص.

والاستفادة من هذا المبدأ اللغوي التفسيريّ؛ بل ربّما من دونه وبالاكتفاء بجمع الآيات التي ترد فيها كلمة دين، تسمح باكتشاف المعنى الحقيقيّ والأساسيّ لهذه

ص: 319

الكلمة في القرآن الكريم والروايات. ونحن نرى أنّ حقيقة الدين في النصوص الدينيّة هي: «مجموعة الرؤى والقواعد السلوكيّة من أوامر ونواهٍ، تبيّن للإنسان سبيل نجاته وسعادته».

والدراسة الدلاليّة (السيمانطيقية) لموارد استخدام كلمة «دين» في القرآن الكريم تكشف عن أنّها استخدمت في أكبر عددٍ من المرّات في معنيين يبدوان في الظاهر متنافيين. والمعنى الأول من هذين المعنيين هو الشريعة والآداب والقوانين ومن موارد الاستعمال في هذا المعنى الآيات الآتية: «لَكُمْ دِينَكُمْ وَليَ دِينِ»، «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»، «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا»، «وَالْيَوْمَ يَيْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ»، «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» ... والمعنى الثاني هو الجزاء والثواب والعقاب وهو ما ورد في عدد من الآيات منها : «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ، «إِنَّ الدِّينَ لَواقع»، «الَّذِينَ يُكَذَّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ»، «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» . هذا ومن المعاني التي استخدمت كلمة «دين» فيها معنى التديّن وهذا لا بدّ من إرجاعه إلى المعنى الحقيقي الذي نسعى في البحث عنه.

وخلف الظاهر الذي يوحي بالاختلاف بين المعنيين، يمكن بالتأمّل في موارد استعمال كلمة «دين» اكتشاف المعنى الأساس والمرجعيّ لهذه الكلمة. والمنشأ الذي يبرّر الوحدة بين المعنيين المذكورين أعلاه يستند إلى فرضٍ قرآنيٍّ يبين العلاقة التكوينية بين الأعمال ونتائجها، وهذا ما يُستفاد من عددٍ من آيات القرآن الكريم. ومثال ذلك من عالم الطبيعة أنّ من يزرع القمح مثلاً في الظروف الطبيعيّة، له أن يتوقّع الحصول بعد مدّة من الزمان على محصول من القمح الذي زرعه. ووفق القاعدة نفسها يكشف القرآن الكريم عن العلاقة الوثيقة بين العمل وبين جزائه أو فلنقل بين العمل وبين المصير الذي ينتهي إليه الإنسان ومن هنا نلاحظ أنّ الرسالة التي تتضمّنها آيات عدّة من القرآن الكريم تفيد أنّ جميع عقائد الإنسان وأعماله ومناسكه وسلوكه والآداب التي يتأدّب بها والتعاليم التي يلتزم بها في حياته الدنيا، تخضع للتقويم في الآخرة، وينال الإنسان جزاءه على أساسها، وبعبارة أقرب إلى

ص: 320

المقصود تنعكس الآخرة وتترتّب عليها نتائجها : «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَانًا لَيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿6﴾ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (سورة الزلزلة : الآيات 86)

ففي يوم القيامة تظهر العلاقة الوثيقة بين الأعمال ونتائجها، وهذا ما يسمح بالتعبير عن الدين بأنّه الجزاء، وذلك لأنّ العقاب والثواب هما نتائج ما اعتقده الإنسان وما مارسه في هذه الدنيا دغدغه فرجامین، ص 9573)

ولعلّ بعض الناس يعتقدون أنّ العمل ونتيجته أمران منفصلان أحدهما عن الآخر؛ وبناء على هذا الاعتقاد يتساءلون عن صحّة الربط بين المعنيين لهذه الكلمة؟ وفي الجواب عن هذا السؤال نقول إنّ بعض آيات القرآن تكشف بوضوح عن هذا الاتّحاد وتبيّن أنّ الجزاء هو النتيجة التي ينتهي إليها العامل في الآخرة بحيث تكون العلاقة بين العمل والجزاء علاقة الظاهر بالباطن، وبعبارة أخرى : العمل ونتيجته أحدهما ظاهر حقيقةٍ والآخر باطنها. ففي سورة العنكبوت يخاطب الله أهل جهنّم بقوله: «ذوقوا ما كنتم تعملون» ، فهو تعالى يأمرهم بتذوّق نفس ما كانوا يعملون وهذا هو ما ندّعيه، وقد استعمل الله عزّ وجلّ الأمر بالتذوّق بدل الأمر بالرؤية. وفي سورة البقرة يقول الله تعالى عن لسان الصالحين فى الجنّة: «هذا الذي رزقنا من قبل» . فهم يتحدّثون عن أنّ الرزق الذي ينالونه هو عين ما كانوا يرزقونه من قبل.

وحاصل الكلام، ومع غضّ النظر عن المبدأ الذي أشرنا إليه، فإنّ لكلمة «دين» في القرآن الكريم معنيين أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة وبعد الموت. والمعنى الدنيويّ للدين هو الأعمال والقواعد السلوكيّة والحدود والقيود المبتنية على تعاليم القادة الإلهيّين، وهذا ما يُعبّر عنه ب_«الدين القيّم» ، و «دين الحقّ». والمعنى الأخروي أي عالم ما بعد الموت هو انتقال المؤمنين والصالحين إلى الجنّة والخلود فيها، وانتقال الكافرين إلى النار والخلود في عذابها الأبديّ. والإعلان عن هذين العالمين والحديث عنهما في القرآن يعني أنّ كلًّا منهما مقدّس بحسب القرآن الكريم. وعليه فالدين هو الحقائق التي تبيّن للإنسان أعماله في هذه

ص: 321

الدنيا ونتائجها في الآخرة. فإذا كان هذا الدين منتسباً إلى الله تعالى فهو دینٌ حقٌّ وصادق يمكن الوثوق به والاعتماد على بياناته وتقديراته. أما إذا كان منتسبًا إلى غير الله تعالى فلا مجال للوثوق بهذا البيان ولا الاعتماد على تشخيصه لما سوف يؤول إليه حال التديّن بتعاليمه في ذلك العالم.

والمرجع في تشخيص القضايا الدينيّة وتمييزها عن غير الدينيّة هو كل ما أو من يتوقّع في حقّ القدرة أو صلاحية اكتشاف العلاقة بين عالم الملك والملكوت أو بين ظاهر الأعمال والاعتقادات وباطنها. وما له هذه الصلاحية من المصادر هو ما أنزله الله تعالى وأرسل به بعض البشر إلى الناس وهو الكتب السماوية أو الكلام الصادر عن هؤلاء الرسل (في الإسلام هو الكتاب والسنّة)، أو القوّة التي يمكن بها اكتشاف هذه العلاقة المشار إليها على أن يكون هذا الكشف قطعيًّا ويقينيًّا (العقل). وبناء على هذا فإنّ جميع القضايا والإخبارات الشرعية هي إخبارات دينيّة؛ لأن الأصل الأوليّ فيها أن تكون صادرةً بهدف بيان سبيل السعادة أو سبيل الشقاء، وبيان الأعمال وما يترتّب عليها في العالم الآخر. ولا نخرج عن هذه القاعدة إلا بدليل ومبرّر يجعلنا نحكم أنّ هذا الإخبار الوارد في السنّة مثلاً لا يقصد منه هذا بل صدر لأجل أمرٍ آخر . وهذا استثناء له أمثلته في السنّة الشريفة، كما لو ثبت أنّ هذا القول أو التصرّف صدر عن المعصوم على وجه التقيّة، ففي هذه الحالة لا يُعدّ مضمونه المباشر تقيّةً على الرغم من أنّ كونه تقيّة أمرٌ دينيٌّ .

وحاصل ما تقدّم أنّ جميع تعاليم القرآن الكريم وجميع ما تضمَّنته السنّة من أخبار عن المعصومين هو قضايا دينيّةً؛ حتى لو لم يكن في ظاهره أمراً عباديًّا، كالإخبارات التي وردت في علاج بعض الأمراض، أو التوصية بهذا الطعام أو ذاك. وجميع هذه التوصيات لها تهدف إلى بيان الصلة بين الأعمال في الدنيا وآثارها في الآخرة حتّى لو لم يُصرّح بهذا الأمر الأخير في الآية أو الرواية. والأمر نفسه ينطبق على مدركات العقل في مجال الاعتقادات والتعاليم؛ حيث إنّها أوّلاً تبيّن الصلة وتكشف عن العلاقة بين الحياة الدنيا وبين السعادة والشقاء الأخرويين، أو فلنقل تكشف عن العلاقة بين

ص: 322

عالمي الملك والملكوت؛ وثانيًا لأنّ مدركات العقل وأحكامه في هذا المجال قطعيّةٌ يمكن الاطمئنان إليها، فهي لأجل هاتين الملاحظتين يمكن عدّها من القضايا الدينيّة. وأما المدركات العقلية التي لا تتوفّر فيها هاتان الخصوصيّتان فلا يمكن عدّها قضية دينيّةً. وعلى ضوء هذا يظهر أنّ الأبحاث التي تصنّف في الفلسفة في باب الإلهيّات بالمعنى الأخص (المباحث المتعلّقة بمعرفة الله والنبيّ أو الإمام ومباحث المعاد) هي أبحاث دينيّة ونتائجها نتائج دينيّة على الرغم من استنادها إلى العقل لإثبات هذه الفكرة أو نفي تلك. وأما المباحث المتعلّقة بالرياضيات أو المباحث الفلسفية العامّة فلا شيء يقتضي عدّها قضايا دينيّة؛ وذلك لأنّها لا تهدف إلى بيان الآثار والنتائج التي تترتّب على الأعمال في الآخرة. وبكلمة عامّة: كلّ قضية تهدف إلى الكشف عن العلاقة بين العمل وآثاره في الآخرة، بطريقة يقينية أو موجبة للاطمئنان هي قضية دينيّة، سواء كان مصدرها العقل أو النقل (القرآن والسنّة).

والصراط المستقيم في القرآن الكريم هو الدين الإلهيّ: «قل إنني هداني ربّي إلى صراطٍ مستقيم دينًا قيّماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (سورة الأنعام: الآي 161). وقد ورد عن الإمام الباقر علیه السّلام في حديث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله وقد ذكر إبراهيم علیه السّلام: دينه دينيّ وسنّته سنّتي... (نور الثقلين، ج 1، ص 785) «اَلر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (سورة إبراهيم: الآية 1)

ويرى الشيخ جوادي آملي أنّ الدين هو: مجموعة العقائد، والأخلاق، والقوانين والمقرّرات التي تهدف إلى إدارة أمور المجتمع الإنسانيّ وتربية الإنسان. وإذا كانت هذه الأمور حقًّا أمكن التعبير عنها بدين الحقّ. وعليه فإنّ الدين الحقّ هو مجموعة العقائد والقوانين والمقرّرات التي نزلت من لدن الله تعالى، والدين الباطل هو الدين الذي لا يستند إلى الله عزّ وجلّ. (شریعت در آینه معرفت، ص93- 95)

ص: 323

الأخلاق في القرآن الحقيقة والمجال

الأخلاق هي الصفة النفسانيّة أو الهيئة الراسخة التي على أثرها تصدر عن الإنسان أفعال محدّدة ٌدون حاجة إلى كثير من التفكير والتأمّل. وهذا المعنى اللغوي ينطبق على الفضائل والرذائل، ومن هنا يمكن تقسيم الأخلاق الأخلاق بحسب هذا التعريف إلى أخلاق فاضلة وأخرى رذيلة.

والأخلاق (Ethics) في الاصطلاح علمٌ يتحدّث عن أهم ميادين الحياة الإنسانية. فكلّ فردٍ من بني البشر يواجه في حياته على الدوام أسئلة حول ما يجب فعله وما لا يجوز ولا ينبغي أن يفعله. فيسأل نفسه مثلاً: هل يجب أن أكون صادقًا في الشهادة التي أؤدّيها في المحكمة؟ هل إيذاء الناس أمرٌ سيئ؟ هل الفرار من السجن قبيحٌ ؟ هل يجب علينا تجنّب الكذب في أحاديثنا ؟ إلى غير ذلك ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تتعلّق بكلّ فعلٍ من أفعالنا الاختياريّة. وهذه الأسئلة المتعلّقة بالسلوك الإنسانيّ، هي منشأٌ الأسئلة من نوع آخر، من قبيل: ما هو المعيار الذي على أساسه تُصنّف الأفعال إلى حسنة وقبيحة ؟ هل القضايا ذات الطابع الأخلاقيّ تتوفّر على معيار يساعد على التمييز بين الصادق منها والكاذب؟ ما هي طبيعة العلاقة بين الأخلاق وبين سائر العلوم أو الساحات الفكرية مثل: الدين والفنّ والتربية ... ؟ هل يمكن استنتاج الأحكام الأخلاقيّة من القضايا الخبريّة؟ وأسئلة أخرى تتجاوز العشرات. والمباحث الأخلاقيّة يمكن تقسيمها إلى سبع محاور رئيسة، هي:

1 - توصيف المعتقدات الأخلاقيّة

هذا النوع من القضايا العلمية أو بعبارة أوضح هذا البحث العلميّ له طابعٌ تجريبيٌّ توصيفيّ، وتاريخيّ. وهذا الاشتغال هو اشتغال علميٌّ اهتمّت به علوم عدّة مثل علماء التاريخ، وعلماء النفس، والاجتماع. والهدف الذي يراد من البحث في القضايا الأخلاقية في هذا المحور هو توصيف الأخلاق أو النظم الأخلاقية واكتشاف ما فيها ووصف واقعها وهو ما يُسمّى ب_ «الأخلاق التوصيفيّة» (Discriptive Ethics)

ص: 324

(فلسفه أخلاق، ص 25). وقد تعرّض القرآن لأخلاق الأمم وقدّم وصفًا لها ولو على نحو الإيجاز والاختصار.

2 - القضايا الأخلاقيّة

والحديث عن القضايا الأخلاقية هو حديث عن الحسن والقبح وما يجب ولا يجوز من أعمال الإنسان، وعن الصفات الحسنة والصفات القبيحة التي يمكن أن يتّصف بها الإنسان. والبحث في هذا النوع من القضايا يُسمّى ب_ «الأخلاق المعياريّة» (أو الأخلاق الآمرة) (Normative Ethics) وأحيانًا تُستخدم عبارة «الأخلاق من الدرجة الأولى» للتعبير عن هذا النوع من المباحث. وتنقسم الحقائق الأخلاقية إلى قسمين: القسم الأول هو القضايا التي محمولها مفاهيم من قبيل حسن وقبيح؛ والقسم الثاني هو القضايا التي محمولها مفاهيم من قبيل يجب ولا يجوز . وقسم كبير من المسائل التي تعرّض لها القرآن ذات طابع قيمّي يحدّد القيم الإيجابية والسلبيّة، والأوامر والتعاليم الأخلاقيّة.

3 - الدفاع الفلسفي عن القضايا الأخلاقية

تبرير القواعد والأحكام الأخلاقيّة من أهمّ ما يشغل بال فلاسفة الأخلاق. وبعبارة أخرى يشتغل فلاسفة الأخلاق على مجموعة من القضايا الأساسية واحدة من أهمّها البحث في المبرّرات والدواعي التي تدفع إلى الالتزام بالقواعد والأحكام الأخلاقية. فبعض علماء فلسفة الأخلاق يبرّرون ذلك بالإشارة إلى الآثار والنتائج السلبية التي تترتّب على مخالفة قواعد الأخلاق، وهذه الآثار تارة تلحظ من الناحية الاجتماعية وأخرى من الناحية النفسية الفرديّة. وآخرون يرون أنّ كون الإنسان أخلاقيّاً ومتخلّقًا يتوقّف على أن لا يكون للمصلحة الشخصيّة أي دور في الدفع نحو هذا الفعل، أو المنع عنه، وبالتالي فإنّ التخلّق مرهونٌ بموافقة القواعد الأخلاقية دون أن يدخل الإنسان أي تبرير آخر في حسبانه وهؤلاء المفكّرون يرون أن نداء الواجب قطعيٌّ ومطلقٌ وبالتالي كافٍ في الدفع نحو الفعل الأخلاقيّ. وثمّة جماعة ثالثة من علماء

ص: 325

فلسفة الأخلاق يرون أنّ التبريرات الميتافيزيقيّة والدينية لها دورٌ مهمٌّ وأساسٌ في تفسير وتبرير الالتزامات الأخلاقيّة. ويحاول هؤلاء إثبات أنّ الأخلاق تفقد معناها عندما تفتقد إلى الحدّ الأدنى من التبرير الدينيّ أو الميتافيزيقيّ. (فرهنگ ودين، ص 13 و 14).

ومن الأبحاث الأساسيّة في مجال الأخلاق محاولة أهل الاختصاص في هذا الميدان تقديم معيارٍ عامٍّ يُستند إليه في الحكم على الأفعال بالحسن أو القبح، من وجهةٍ أخلاقيّةٍ. فعندما يُقال ملاك الحسن أو الوجوب هو: اللذّة، أو الضمير الشخصيّ، أو الانسجام مع الكمال الإنسانيّ، أو البعد العلويّ في الإنسان، يكون القائلون بهذه المعايير بصدد محاولة تقديم معيارٍ عامٍّ صالحٍ لتقويم جميع الأفعال. ومثل هذه الأبحاث التي تُناقش في كلٍّ من فلسفة الأخلاق وفي علم الأخلاق نفسه، ، هي من المبادئ التصديقيّة التي يُبنى عليها علم الأخلاق. ويمكن تقسيم النظريّات التي تهدف إلى تبرير الأخلاق المعياريّة أو الأمريّة إلى قسمين: النظريّات الغائية (Teleological Theories)، ونظريات أخلاق الواجب (Deontological Theories).

الغائيّون يلاحظون في تقويم الأفعال والحكم عليها من ناحية أخلاقيّة يلاحظون نتائجها والآثار المترتّبة عليها، سواء كانت هذه النتائج المترتّبة منفعة شخصيّة للفاعل كالحصول على اللذة أو غير ذلك من النتائج المذكورة، ومن الفلاسفة الذين يميلون إلى هذا الأسلوب في التفكير يمكن الإشارة إلى: هيوم، وبنتام، وجان ستيوارت مل.

وأمّا مؤيّدو نظريات أخلاق الواجب فهم لا يهتمّون بالنظر إلى النتائج والآثار المترتّبة على الفعل؛ بل يرون أنّ الفعل في حدّ ذاته ينقسم إلى حسنٍ وقبيح، وإلى ما يجب فعله وما لا يجوز فعله، بغضّ النظر عن النتائج والآثار المترتبّه عليه. ومن الفلاسفة الذين يفكّرون بهذه الطريقة، كانط وبريتشارد.

وفي القرآن الكريم في مقام الدفاع عن بعض القضايا والتقويمات الأخلاقيّة،

ص: 326

تعّتمد طريقتان إحداهما التبرير العقلانيّ (بالغاية أو بالاستناد إلى الواجب)، والثانية التعبّد المقرون بالحكمة.

4 - تبيين المفاهيم القيميّة

ومن القضايا التي أخذت نصيبها من البحث في علم الأخلاق أو على ضفافه، البحث في معاني المفاهيم المستخدمة في النقاشات الأخلاقيّة، كالبحث في معنى الحُسن أو القبح ؛ حيث المختصّون ماذا يُقصد عندما يُقال عن فعل إنّه حسن ٌأو قبيحٌ؟ ويبدو أنّنا لا نجد في القرآن آية تبيّن هذا المعنى؛ ولكن الأخبار والروايات الواردة في التراث الإسلاميّ فيها ما يجيب عن هذا السؤال ومثله.

5 - واقعية القضايا الأخلاقيّة

و من الأبحاث التي تطرح في علم الأخلاق البحث حول طبيعة القضايا الأخلاقيّة، بهدف الكشف عن الخلفية التي تنطلق منها هذه القضايا وبعبارة أخرى محاولة العثور على جواب لهذا السؤال: هل القضايا الأخلاقيّة هي قضايا خبريّة لها واقعٌ وراءها تُقاس به فتكون صادقة في حالة التطابق معه وتكون كاذبة إذا لم تطابقه، أم أنّ القضايا الأخلاقية هي قضايا إنشائية لا توصف بالصدق ولا بالكذب. ويبدو لنا أنّ هذا القرآن لم يتصدَّ لبيان الحال في هذا النوع من المباحث.

6 - المباحث المرتبطة بالاستنتاج

هل يمكن استنتاج القضايا الأخلاقية من القضايا التي تقع خارج نطاق علم الأخلاق أو العكس، وهل يمكن أن نجد قضايا خارج دائرة علم الأخلاق تُستنتج من القضايا ذات الطابع الأخلاقيّ؟ وهذا السؤال من الأسئلة المهمّة في ميدان الأبحاث الأخلاقية ويعبّر عنه في بعض النقاشات بعبارة : هل يمكن استنتاج ما ينبغي أن يكون من ما هو كائنٌ؟ وبعبارة ثانية : هل يمكن العبور من ما ينبغي وما لا يجوز إلى الصحيح والخطإ؟ ومثل هذا السؤال لا ينبغي توقّع العثور على جواب له في آيات القرآن الكريم.

ص: 327

7 - العلاقة بين الأخلاق وسائر العلوم والمعارف

والطائفة الأخيرة من المباحث الأخلاقية التي نودّ الحديث عنها والإشارة إليها هي البحث عن العلاقة بين الأخلاق وسائر العلوم والمعارف، ومنها: الفنّ، والتربية، والقانون والدين... ومن الأسئلة التي تطرح في هذا المجال: هل الأخلاق الفردية أو الاجتماعية تترك أثرها في الثقافة وبناء الحضارة؟ وهل ثمّة علاقة بين الواجبات والممنوعات الأخلاقية والتعاليم الدينيّة؟ وهل يتولّد الدين من الأخلاق، أو العكس هو الصحيح بحيث إنّ الأخلاق من نتائج الدين وآثاره؟ وهذه الأسئلة يمكن تحصيل جوابها من القرآن الكريم، على الرغم من عدم الحديث عنها بصراحة فيه.

والمحور الرابع إلى المحور السابع تُعطى الأسماء والعناوين الآتية: الأخلاق التحليلية، والنقدية، وما وراء الأخلاق (الأخلاق النظرية)، ومبادئ الأخلاق، والأخلاق من الدرجة الثانية (Second order Ethics). الأخلاق التحليلية لا تهدف إلى تقديم أجوبة عن الأسئلة الأخلاقية ولا تقدّم أجوبة معياريّة وقيميّة؛ بل تهدف إلى الإجابة عن الأسئلة ذات الطابع المنطقيّ والمعرفيّ والمعنائي (السيمانطيقي). والعلاقة بين الدين والأخلاق محلّ البحث عنها في المحور السابع من المحاورة المتقدّمة. على الرغم من أنّنا سوف نتحدّث عن المحور السادس لنجيب عن السؤال حول استنتاج الأخلاق من الدين ومرادنا من الأخلاق في هذه المسألة علم الأخلاق أو الأخلاق المعياريّة والآمرة.

الأخلاق في النقاش حول العلاقة مع الدين، هي وسيلة من وسائل قوننة سلوك الأشخاص في المجتمعات البشريّة. والأخلاق هي ردّ فعلٍ على مشكلة العلاقة بين الأفراد أو الجماعات المنافسة، والهدف من الأخلاق هو ضبط أو التخفيف من حدّة النزاعات التي تنتج عن هذه المنافسة. ولا شكّ أيضًا في أنّ السلطة وسيلة من وسائل ضبط النزاعات المشار إليها. ولكن بين الأخلاق والسلطة فارقٌ كبير ومن أهم الفوارق بين الأمرين أنّ الأخلاق تستند إلى الموافقة بالقوّة (بالمعنى المنطقيّ للقوّة) على مقتضياتها وقواعدها، بخلاف السلطة التي لا تستند بالضرورة إلى القبول

ص: 328

والموافقة. (فرهنگ و دین، ص 65). وبكلام موجز: المقصود من الأخلاق في هذه المقالة هو العلم الذي يشتغل على سلوك الإنسان والذي يميّز بين الحسن والقبيح، وما يجب وما لا يجوز.

العلاقة بين الأخلاق والدين

العلاقة بین الأخلاق والدين يمكن أن تُفهم بطريقتين : الأولى؛ العلاقة المضمونية والمحتوائيّة؛ أي بأن نستخرج القواعد والتعاليم الأخلاقيّة من النصوص الدينيّة. وبناء على هذا الفهم لا مجال للحديث عن الأخلاق خارج إطار النصوص الدينيّة، فلولا النصوص والمصادر الدينيّة لما توفّر بين أيدينا قضايا تخبر عن حسن الأفعال أو قبحها، ولا قواعد تحدّد للإنسان ما يجب عليه وما لا يجوز له. الطريقة الثانية؛ أن نرى أنّ هذه العلاقة بين الطرفين هي علاقة مبنائيّة؛ بحيث لا تُستنتج الأخلاق من الدين والنصوص الدينيّة، بل من مصادر أخرى كالعقل والضمير أو الفطرة أو غير ذلك؛ ولكن على أن تعدّ التعاليم الدينيّة مستندًا داعماً لتطبيق القواعد الأخلاقيّة، ومن أهمّ هذه التعاليم الاعتقاد بوجود الله والمعاد. وبناء على الفهم الأول سوف تكون الأخلاق جزءًا من الدين أو عينه. أمّا إذا صح الفهم الثاني، فإنّ الأخلاق سوف يكون لها مجالها المستقلّ عن الدين على الرغم من أنّ بعض التعاليم الدينيّة سوف تؤدّي دور المبادئ التصديقيّة للأخلاق .

مجال الدين ونطاقه في الأخلاق: مقاربات متنوّعة

ثمّة مقاربات ثلاث لنطاق الأخلاق الدينيّة والنظرة إلى العلاقة بين الدين والأخلاق، وهذه المقاربة هي: التباين، الاتّحاد، التفاعل. فبعض المفكّرين يرون انفصال مجال الدين ونطاقه عن مجال الأخلاق، ولا يقبلون أيّ شكلٍ من أشكال التواصل والتداخل بين المجالين. وآرخون يرون وجود علاقة عضويّة واتّحاد بين الطرفين. وأصحاب المقاربة الثالثة يؤمنون بوجود شكلٍ من أشكال التفاعل والتأثير المتبادل بين الطرفين. وفي ما يأتي سوف نحاول عرض هذه المقاربات بشيء من التفصيل.

ص: 329

1 - مقاربة التباين

يرى أصحاب هذه المقاربة إلى الدين والأخلاق على أنّ لكلٍّ منهما مجاله ونطاقه الخاصّ به، أو ساحته التي يبدئ القول فيها ويعيد، بحيث يكون له الكلمة الفصل في مجاله دون أن يكون بينه وبين الطرف الآخر أيّ شكلٍ من أشكال التواصل أو الترابط المنطقيّ، وإذا التقيا مرّة فهو لقاء عابرٌ كما يلتقي مسافران دون أن يخطّط أحدهما للقاء بالآخر . («دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13، ص 32) وقد تبنّى هذه المقاربة عددٌ من المفكّرين الملحدين والمؤمنين بالمسيحيّة، من أمثال الفيلسوف الوجودي کیرکیجارد . فهو يرى أنّ الشخص الذي يبقى في دائرة الأخلاق لا يمكنه أن يخطو إلى مرحلة الإيمان. ومن هنا يرى أنّ إبراهيم علیه السّلام لم يتّبع حكم الأخلاق في مسألة التضحية بابنه وإنّما اتّبع حكم الدين وقدّمه على ما تقتضيه الأخلاق. وبناء على هذه المقاربة ليس ثمّة ترابطٌ بين الدين والأخلاق، وإذا التقيا مرّة فإنّ ذلك يكون بالعرض، ولا يكشف اللقاء عن ترابط منطقيّ. وإلى هذا الشكل من اللقاء أشرنا عندما ذكرنا مثال المسافرين الذي يلتقي أحدهما بالآخر في محطة من المحطات على الرغم من أنّ كلا منهما له مقصد يختلف عن مقصد الآخر وغايته.

وأنصار هذه المقاربة يستندون لإثبات صحّتها إلى مجموعة من الأدلّة منها، الاستناد إلى أنّ بين الدين والأخلاق تفاوتاً واختلافاً موضوعيًّا. وذلك أنّ الدين يتدخّل في مجال العلاقة بين الإنسان والله وينظّم هذه العلاقة ويضع لها القواعد، أمّا الأخلاق فأمرٌ له صلة بالعلاقة بين الناس. ومن الواضح أنّ هذا الدليل يتهاوى إذا وسّعنا دائرة الدين وأثبتنا أنّ الدين يدخل على خطّ العلاقة بين الإنسان وبين الله كما يدخل على خطّ العلاقة بين الإنسان والإنسان.

والمستند الثاني الذي يلجأ إليه هؤلاء هو أنّهم لا يرون أيّ اشتراك بين الدين والأخلاق على مستوى الهدف والغاية؛ وذلك أنّ هدف الدين هو تأليه البشر (جعلهم إلهيّين وتقريبهم من الله) وتمكينهم من التعالي والرقيّ الروحيّ، بينما هدف الأخلاق هو تقديم توصيات عملانية لتصحيح العلاقات الاجتماعية بين الناس وهذا الدليل

ص: 330

يمكن المناقشة فيه ببيان أنّ من الوسائل والطرق التي تؤدّي إلى تصحيح العلاقات الاجتماعية تعاليهم وترقيتهم الروحية أو تأليههم بحسب المدّعى أعلاه، وبناء عليه يكون هدف الأخلاق هدفًا متوسّطاً للدين.

ويرى بعض المفكّرين الغربيّين أنّ ربط الأخلاق بالدين يؤدّي إلى التضحية بالأخلاق وانهيارها؛ وذلك لأنّ ضعف العقيدة الدينيّة يؤدّي بالضرورة إلى ضعف الوازع الأخلاقيّ عندما نربط بين الأخلاق والدين. وبعبارة أخرى: إنّ طروء الشكّ على قضية الإيمان بالله تعالى، يؤدّي إلى سدّ باب التكامل الأخلاقيّ وإلى سدّ باب تنمية الاستعدادات الخلّاقة الأخرى عند الإنسان عندما تربط هذه الاستعدادات ومقتضياتها بالإيمان الدينيّ. (فلسفه دین، ص 80، تاریخ فلسفه، ج 7، ص 313)

وهذا الاستدلال يسقط أيضًا إذا شكّكنا في التلازم المدّعى بين ضعف الإيمان الدينيّ وضعف الوازع الأخلاقيّ، فكثيراً ما يضعف اعتقاد بعض الناس ومع ذلك يبقى التزامهم الأخلاقيّ على حاله، حتى في مجال الأخلاقيّات الدينيّة، أضف إلى ذلك أنّه لا يصحّ تجاهل الوجه الآخر من القضية، فالإيمان بالله والاعتقاد بالمعاد يعدّان ضمانةً من الضمانات التنفيذيّة للتوصيات الأخلاقية.

2 - مقاربة الاتّحاد

يرى أكثر المفكّرين المسلمين أنّ الدين هو مجموعة العقائد والأخلاق والأحكام التي شرّعها الله بهدف هداية الإنسان والأخذ بيده نحو تأمين سعادته في الدنيا والآخرة، والواسطة بين الناس وبين ربّهم هم الأنبياء. وبناءً على هذا، ليس فقط لا قطيعة بين الدين والأخلاق، بل بينهما علاقة واتّحاد فبعض الدين أخلاق وبعض الأخلاق دينٌ وهذا ما يُسمّى بنسبة العموم والخصوص من وجه بين المفهومين بحسب الاصطلاح المنطقيّ. («دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13، ص 32) ويمكن تشبيه الدين بالشجرة فتكون العقيدة جذرها، والأخلاق جذعها، والأحكام أغصانها وأوراقها وثمارها.

ص: 331

3 - مقاربة التفاعل

تقتضي هذه المقاربة أنّ الدين والأخلاق لكلٍّ منهما هويّته المستقلّة عن هويّه الآخر ، ولكن مع تفاعل وتأثير متبادل على الرغم من هذا الاستقلال. وكلّ من الطرفين محتاج إلى الآخر من زوايا عدّة. وذلك أنّ قبول بعض القضايا الدينيّة يتوقّف على قضايا وأحكام أخلاقيّة، والتصديق ببعض القضايا الأخلاقية يتوقّف على الاعتقاد ببعض القضايا الدينيّة. وعليه ليس بين الدين والأخلاق انفصالاً تامّاً وليس بينهما ارتباطٌ عضويٌّ يجعل أحدهما جزء الآخر؛ بل بينهما علاقة علّية ومعلوليّة، وتأثير وتأثر متبادل، وهذا ما أسميناه بالتفاعل. ووجوه التفاعل بين الطرفين متعدّدة نشير إلى بعضها في ما يأتي:

أ - حاجات الدين إلى الأخلاق

1 - يذكر عددٌ من المتكلّمين في بداية كتبهم الكلامية أنّ وجوب شكر المنعم من المنطلقات الأساس التي تدعو إلى البحث عن وجود الله تعالى. وذلك أنّ الإنسان يواجه هذا السؤال قبل البدء بالاستدلال على وجود الله: لماذا يجب عليّ البحث عن وجود الله والتعرّف إليه؟ والجواب الذي يتبنّاه هؤلاء المتكلمين هو: إنّ الإنسان يرى نفسه في نعمةٍ فعليه أن يتعرّف إلى هذا المنعم ليشكره ؛ لأنّ القاعدة الأخلاقية تقتضي شكر المنعم ووجوبه. ومن الذين استندوا إلى الأخلاق لإثبات وجود الله الفيلسوف الألماني كانط الذي يشكّك في كثيرٍ من البراهين العقلية التي يُراد بها إثبات وجود الله. ويرى فلاسفة آخرون أنّ المعرفة البديهيّة بوجود أوامر ونواهٍ أخلاقية دليل على وجود آمرٍ وناهٍ، وهذا الأمر والناهي هو الله تعالى الذي يعرف من أوامره ونواهيه الأخلاقيّة. (خدا در فلسفه، ص 97؛ تاریخ فلسفه غرب، ج 2، ص 971)

2 - حاجة الدين إلى الأخلاق على مستوى الغاية

حاجة الدين إلى الأخلاق على مستوى الهدف والغاية من الموارد التي تكشف عن التفاعل بين الدين والأخلاق. وذلك أنّ إدارة الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للإنسان،

ص: 332

من الأهداف التي يبتغيها الدين ويريدها، وهذا الهدف لا يتحقّق إلا في ظلّ بعض التعاليم والتوصيات الأخلاقيّة، وبناء عليه لا تتحقّق غايات الدين وأهدافه إلا بواسطة الأخلاق.

3 - حاجة تبليغ الدين إلى الأخلاق

من أهمّ الوسائط والأساليب في تبليغ الدين وإيصال رسالته إلى المخاطبين به، السلوك الأخلاقيّ الذي يتحلّى به الدعاة والمبلّغون عن الله. ومن هنا نجد أنّ الله تعالى يعلن النبيّه صلّی الله علیه و آله بوضوح وصراحة أنّ حسن خلقه من الوسائل المهمّة التي تسمح بالناس بالتحلّق حوله وعدم الانقضاض عنه : «وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (سورة آل عمران: الآية 159)

ب - حاجة الأخلاق إلى الدين

يقع الحديث عن حاجة الأخلاق إلى الدين على الضفّة المقابلة للموقف الذي يتبنّاه دعاة علمنة الأخلاق. وحاصل الاعتقاد بالأخلاق الدينيّة أنّ الأوامر والنواهي الأخلاقيّة تحتاج إلى الدين في مقامي الثبوت والإثبات؛ مضافًا إلى أنّ الدين يعدّ ضمانة تنفيذيّة للتعاليم والتوصيات الأخلاقية كما أشرنا أكثر من مرّة.

من الخدمات التي يقدّمها الدين أنّه يسهم في تبيين بعض القيم الأخلاقيّة، بالاستعانة بالتعاليم الدينيّة، ويرسم على ضوء هذه التعاليم حدود السلوك الإنسانيّ ومعاييره. («دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13، ص 34) فجزئيّات التصرّفات الإنسانيّة الاختياريّة يعجز العقل وحده في كثير من الحالات عن اكتشاف الموقف منها وتشخيص الحسن منها من القبيح. وبناءً عليه إذا كنّا نعترف للعقل بالقدرة على تشخيص الموقف الأخلاقيّ من كليّات الأفعال، فإنّ هذا العقل يعجز في كثير من الحالات عن إدراك انطباق هذا المدرك العقليّ الكلّيّ والعامّ على هذا المورد الجزئيّ أو عدم انطباقه، ومن هنا يحتاج إلى مساعدة الدين في تحديد الجزئيّات.

ص: 333

والدين مضافًا إلى إسهامه في الكشف عن حسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، هو ضمانة تنفيذية للالتزام بكثير من القيم الأخلاقية. فكثيرٌ من الناس يحتاجون إلى التحفيز لمساعدتهم على فعل الحسن وتجنّب القبيح. ومن هنا الإيمان الدينيّ عمومًا وما يتضمّنه من وعدٍ ووعيدٍ حافزًا يساعد في مزيد من الإقبال على الحسن، أو رادعاً عن القبيح.

ولا شكّ في تأثير المنافع الدنيويّة والأخروية المترتّبة على الأفعال في مدى التزام الناس بهذا السلوك أو ذاك، والدين يقدّم هذه الخدمة للإنسان حيث إنّه يكشف له عن ما يترتّب على الأفعال من نتائج. يُضاف إلى هذا أنّ الأفعال الأخلاقية تتوقّف على غايتها وكلّما كانت هذه الغاية أعلى كلّما ارتقت الأخلاق وتعالت، والدين يبيّن للإنسان الأخلاقيّ الغاية العليا والهدف الأقصى للالتزام بالتعاليم الأخلاقيّة.

النتيجة

عندما تكون الدنيا مزرعة للآخرة، ومقدّمة للحياة الأبدية الخالدة، وعندما يكون للأفعال الاختياريّة نتائج وآثار تترتّب عليها عندها يتّضح أنّ أفعال الإنسان لها انعكاس وتأثير في سعادته النهائية. والعقل الإنسان عاجزٌ عن اكتشاف جميع تفاصيل الآثار والنتائج المترتّبة على الأفعال، ومن هنا فإنّه يحتاج إلى من يأخذ بيده ليبيّن له ما عجز عن اكتشافه، وهذا العجز هو أول الأبواب التي تفتح باب التواصل بين الدين والأخلاق. (فلسفه أخلاق، ص 186)

وعلى الرغم من عدم توقّف إدراك معنى الحسن والقبح على النصّ الدينيّ والوحي، فإنّ الأخلاق تحتاج إلى الدين في كشف التعاليم والقيم والأخلاقيّة. مضافًا إلى أنّ الدين يسهم في تحديد الهدف الأسمى للتخلّق والالتزام بالتعاليم الأخلاقيّة كما يمثّل الدين ضمانةً تنفيذيّة مهمّة توثّق عرى الالتزام بهذه التعاليم، وخاصّة عند الأشخاص الذين يحتاجون إلى حوافز للتخلّق.

وعندما ننظر إلى العلاقة بين الدين والأخلاق من الخارج نرى بوضوح أنّ الإيمان

ص: 334

الدينيّ والاعتقاد بالله والمعاد والثواب والعقاب في الآخرة، له دور مؤثّر في تحقّق التعاليم الأخلاقية في مقام العمل، وإذا نظرنا إلى هذه العلاقة من داخل الدين فإنّنا نرى هذه الحقيقة بوضوح أكبر حيث تؤكّد كثير من التعاليم الدينيّة على الأخلاقيّات وتدعو إليها وتبيّن أهميّتها. والإسلام كما يبيّن بعض المبادئ الكبرى في مجال الأخلاق كالعدل والظلم وما شابه ويبيّن مصاديق هذين الأمرين، كذلك هو يبيّن غايات القيم الأخلاقية وأهدافها، وبعض هذه المصاديق وهذه الغايات لا یبدو أنّ معرفتها من خارج الدين أمر ممكنٌ، ولأجل ذلك لا مناص من الرجوع إلى الدين لتكميل المعرفة الأخلاقية وتوثيق الالتزام بتوصياتها.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

نهج البلاغة.

آوستا (1379 ه_.ش.)، الترجمة الفارسية هاشم رضي، لا مكان، انتشارات بهجت، الطبعة الأولى.

جوادي آملي، عبد الله، (1372 ه_.ش.) شریعت در آینه معرفت طهران، مرکز نشر رجا.

جوادي آملي، عبد الله، (1381 ه_.ش.) ، رحیق مختوم، قم، اسراء.

طباطبائي، محمد حسين، (1394 ه_ .ق.) ، الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسسة إسماعيليّان.

طهماسبي علي، (1379 ه_.ش.) ، دغدغه فرجامین، طهران، انتشارات یادآوران .

العروسي الحويزي، عبد علي بن جمعة، (لا تاريخ)، تفسير نور الثقلين، قم، المطبعة العلمية، الطبعة الثانية.

فرانكا، ويليام كي، (1382 ه_.ش.) ، فلسفه اخلاق، الترجمة الفارسية: هادي صادقي، قم، مؤسسه طه.

کاپ لستون، فردريك (1375 ه_.ش.) ، تاریخ فلسفه کاپلستون، ج 8، الترجمة الفارسية: بهاء الدين خرّمشاهي، طهران، شرکت انتشارات علمي و فرهنگی.

كتاب مقدّس، (1380 ه_.ش.) ، الترجمة الفارسية: فاضل خان همدانی، طهران، انتشارات اساطير، الطبعة الأولى.

الكليني، محمد بن يعقوب، (لا تاريخ)، الأصول من الكافي، طهران، انتشارات علمية اسلامية.

ص: 335

المجلسي، محمد باقر ، (1983 م.)، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت، مؤسسة الوفاء.

مصباح يزدي، محمد تقي (1373 ه_ . ش . ) ، آموزش فلسفه، طهران، انتشارات سازمان تبلیغات.

مصباح يزدي، محمد تقي، (1373 ه_ . ش .) ، «دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13.

هاس پرز، جان، (1372 ه_.ش.) ، فلسفه دین، قم، دفتر تبلیغات.

الیاده، میرچا، (1374 ه_.ش.)، فرهنگ ودين، بإشراف بهاء الدين خرّمشاهي، طهران، انتشارات طرح نو.

الیاده، میرچا، (1384 ه_.ش.) خدا در فلسفه، الترجمة الفارسية: بهاء الدين خرّمشاهي، طهران، پژوهشگاه علوم انسانی و مطالعات فرهنگی.

ص: 336

هذا الكتاب

يسعى هذا الكتاب المؤلف الجماعي بمجلداته الثلاثة إلى استعادة التراث الأخلاقي الإسلامي بأبعاده الدينية والفلسفية والسوسيولوجية وكذلك إلى التعرف على التيارات والمذاهب الأخلاقية على نطاق إنساني شامل، وذلك انطلاقاً من استراتيجية معرفية تهدف إلى إعادة تظهير مكارم الأخلاق كقيمة جوهرية لبناء الحضارات الإنسانية المعاصرة.

إنَّ أُطروحةَ الكتاب َتمثَّلُ الموقفَ الذي تنطلقُ مِنْهُ في مقاربةِ موضوعِنا، وهي راهنيّةُ الأخلاقِ وأثرُها فى إقامةِ السلوك وتقويمه ، وبَعْثِ قيم العدلِ والفضيلةِ من خلال تأصيلها في النصّ الدينيّ؛ لما يمثلُهُ من مركزيَّة ثقافيَّة ووجدانيَّة فى ضمير الناس. ولعل هذا يتحقق من خلال تناول قيم مكارم الأخلاق وهي تمثَّلُ رأس مال مشترك بين المسلمين.

المَرکَز الإسلامي للدراسات الاستراتجیّة

تظبیق المرکز

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 337

المجلد 2

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

نحن وتراثنا الاخلاقي

الجزء الثاني

تحریر

ا.د.عامر عبدزيد الوائلي

2018 م

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

هوية الكتاب

الوائلي، عامر عبد زيد

نحن وتراثنا الأخلاقي / تحرير أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

الطبعة الأولى، كربلاء، العراق، العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439ه، 2018م.

ISBN: 9789922604107 (set)

3 مجلد 24 سم.

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

-1 الأخلاق الإسلامية -2- الأخلاق - فلسفة . ألف . العنوان

BJ1291 .W35 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

المحور الثالث

التراث الفلسفي والكلامي الإسلامي

- مفهوم الأخلاق في الفلسفة الإسلامية ، نموذج الفارابي....8

د . محمود كیشانه

- المعتزلة .. مقاربةً في التّراثِ العقلي والأخلاقي....33

نبيل علي صالح

- التصور الأخلاقي لمفهوم الخير والشر عند ابن سينا....52

د . عماد الدين إبراهيم عبد الرزاق

- التراث الأخلاقي في المدرسة الأشعرية ، الإمام الغزالي أنموذجاً....68

رعد سليمان حسين

- الفلسفة الأخلاقية العقلانية عند ابن باجة الأندلسي....87

الدكتور زياد عباس كريم

- المسؤولية والجزاء وأثرهما الأخلاقي عند إخوان الصفا....111

د . محمود كيشانه

- الأسس الكلامية للفكر الأخلاقي عند العلامة الحلّي....146

د. محمد حمزة إبراهيم

- آراء الخواجة نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق....170

قاسم بور حسن

ص: 4

- الاعتبار والحقيقة في الأخلاق - نقاط التلاقي والاختلاف....195

د . سروش دباغ

- العناصر البنيوية في فلسفة الأخلاق عند الملا صدرا....217

محمد لغنهاوزن

- الأخلاق عند النراقي «الجمع بين الدين والعرفان والفلسفة»....245

د . نوال طه ياسين

المحور الرابع

التراث العرفاني

- البحث الأخلاقي وتجلياته العرفانية عند صدر الدين الشيرازي....276

حسين حمزة شهيد

- التراث الأخلاقي عند الفيض الكاشاني....312

د . ياسين حسين الويسى

- مكارم الأخلاق بما هي غاية النبوّة ومقصدها....334

محمود حيدر

- نظرية الأخلاق العرفانية....354

محمد فنائي إشكوري

ص: 5

ص: 6

المحور الثالث

اشارة

التراث الفلسفي والكلامي الإسلامي

ص: 7

مفهوم الأخلاق في الفلسفة الإسلامية نموذج الفارابي

د. محمود کیشانه (1)

مدخل :

يمكن القول إنه لما كان البحث الذي نحن بصدده يدور حول مفهوم الأخلاق عند الفارابي، فإن من الواجب أن أعرض لمفهوم الأخلاق وأنواعها ومصادرها ومنزلتها؛ حيث إن ذلك يكشف عن المنابع الرئيسة التي تنهل منها فلسفة الفارابي آراءها وأفكارها واتجاهاتها عامة كما يكشف عن الأهمية التي توليها للأخلاق والقيمة التي تنالها، كما أنه يكشف عن الاتجاه الفكري والمذهب العقدي الذي تعتنقه، ويفصح - في التحليل الأخير - عن الخلفية السياسية فيه. وعلى هذا يقتضي الأمر أن نعرف الأخلاق عند الفارابي، ومدى أصالتهم في هذا التعريف، وهل كان لهذا التعريف مردود عند اللاحقين ؟ وما القيمة الحقيقية التي يمثلها هذا التعريف عنده؟

وقد اهتم الفارابي بالأخلاق اهتمامًا كبيراً ، بحيث يمكن القول - من دون شك - إن فلسفة الفارابي هي فلسفة تقوم في الأساس على بناء أخلاقي واضح، غير أن الفارابي كانت نظرته أكثر اتساعا ؛ ذلك أنه أراد مبادئ أخلاقية وفضائل إنسانية تعم المعمورة كلها، وإن انطلق فيها من المدينة، فالمدينة عند الفارابي هي النموذج المصغر للعالم.

ص: 8


1- محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه باحث فلسفي مدرس محاضر بجامعة القاهرة. يؤكد الباحث ان هذا البحث يدور حول مفهوم الأخلاق عند الفارابي، الذي أراد مبادئ أخلاقية وفضائل إنسانية تعم المعمورة كلها، ولهذا يؤكد الباحث أنه يمكن القول إن هناك علاقة وطيدة بين نظريته في المعرفة ونظريته في الأخلاق. وصولا الى السعادة والفضائل الفردية والمجتمع الفاضل لان حقيقة السعادة هي الخيرات والأفعال الجميلة والفضائل، رغم هذا الا ان علم الأخلاق عند الفارابي هو علم الأفعال الإرادية الاختيارية، فهو عنده علم مكتسب لا دخل فيه للطبع . المحرر

ويكشف الحديث عن مفهوم الأخلاق وأنواعها عن مكانة الأخلاق ومصادرها عند الفارابي. إلا أننا مع هذا يمكننا القول إن البحث الأخلاقي عند الفارابي لا ينفك عن دعواته المتكررة لما يسمى بالمدينة الفاضلة، فالمدينة الفاضلة عنده تقوم في الأساس على كيان أخلاقي قائم بدوره على أساس نظري معرفي، فالأخلاق عند الفارابي لها علاقة وطيدة بالمعرفة، ولذا يمكن القول إن هناك علاقة وطيدة بين نظريته في المعرفة ونظريته في الأخلاق.

أولاً: مفهوم الأخلاق وأنواعها عند الفارابي:

لقد كان الفارابي أكثر الفلاسفة المشائيين معالجة ودراسة للجانب الأخلاقي، فقد كانت دراساته ومؤلفاته تأكيدًا على هذا المنزع الذي فاق به كثيراً من أقرانه الفلاسفة. إن شغله الشاغل في كتبه : تحصيل السعادة، التنبيه على سبيل السعادة، آراء أهل المدينة الفاضلة، السياسة المدنية - هو الأخلاق ومن ثم فليس من المبالغة في شيء أن يعد الفارابي - جنبًا إلى جنب مع ابن مسكويه - مدرسة أخلاقية في القرن الرابع الهجري امتد أثره إلى وقتنا هذا وهذا ما دفع الأستاذ الدكتور محمد السيد الجليند في حديثه عن قضية الخير والشر في الفكر الإسلامي إلى التأكيد على أن حديث الفلاسفة المسلمين - وعلى رأسهم الفارابي - عن السعادة والفضائل الفردية والمجتمع الفاضل وبحوثهم في النفس يعد إسهاما واضحًا في علم الأخلاق(1)، بما يعني أن الفارابي يمثل الفلاسفة في باب الأخلاق بوضوح شديد(2)؛ ولذا يحتل مكانًا ذا امتياز في الفلسفة الغربية لكونه ملتقى الفكر الإغريقي بالفكر العرب(3) وإذا كانت بعض الدراسات ترى أن أبرز ممثلي الفكر الأخلاقي في الإسلام مسكويه والغزالي مستبعدة الفارابي (4)، فإن ذلك مردود عليه؛ لأننا أمام مدرسة فلسفية أو مذهب فلسفي يجعل من الأخلاق والاتجاه الأخلاقي لحمته وسداه، مذهب قوامه

ص: 9


1- انظر قضية الخير والشر في الفكر الإسلامي، ط مطبعة الحلبي القاهرة الثانية، 1981م، ص 125
2- انظر د. عبد الحميد مدكور ، ود. عبد الفتاح الفاوي ، دراسات في علم الأخلاق، ص 107.
3- انظر جاك لانغاد، من القرآن إلى الفلسفة «اللسان العربي وتكوين القاموس الفلسفي لدى الفارابي» ترجمة وجيه أسعد، ط منشورات وزارة الثقافة، سوريا، 2000م، ص 8 .
4- انظر د. محمد یوسف موسى تاريخ الأخلاق في الإسلام، ط القاهرة الثانية، 1953م، ص 151.

الأساسي هو البحث الأخلاقي، وخاصة فيما يتعلق بمسألة السعادة؛ حيث اعتنى الفارابي بالجانب التنظيري للأخلاق والجانب العملي لها على نحو يدعو إلى القول بوجود اتجاه أخلاقي يعبر عن الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية في تلك الفترة وتأثيرها الواضح في الفترات التاريخية التالية لها .

أ - مفهوم الأخلاق:

لئن ذهب كثير من الباحثين القدامى إلى أن الأخلاق حال في النفس داعية إلى فعل الشيء من غير فكر ولا روية(1) ، أو هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير فكر ولا روية(2) فإن الفارابي يقول في تعريفه لعلم الأخلاق: «علم الأفعال الجميلة، والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، والقدرة على أسبابها، وبه تصير الأشياء الجميلة قنية ( ملكة ) لنا»(3) . وفي كتاب إحصاء العلوم يذكر الفارابي تعريفا آخر أكثر تفصيلاً، يقول فيه: «أما العلم المدني فإنه يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التي تكون عنها الأفعال والسنن، وعن الغايات التي لأجلها تفعل، وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها على النحو الذي ينبغي وجودها فيه والوجه في حفظها عليه، ويميز ، بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال وتستعمل السنن... ويبين أن التي ينال بها ما هو الحقيقة سعادة هي الخيرات والأفعال الجميلة والفضائل، وأن ما سواها هو الشرور والقبائح والنقائص، وأن وجه وجودها في الإنسان تكون الأفعال والسنن الفاضلة موزعة في المدن والأمم، وتستعمل على ترتيب، وتستعمل استعمالاً مشتركا».(4)

ص: 10


1- انظر الأصفهاني الذريعة إلى مكارم الشريعة، ط مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، 1393 ه، ص 44
2- انظر أبا حامد الغزالي، إحياء علوم الدين ط دار الشعب القاهرة، من دون تاريخ، ص 1434
3- التنبيه على سبيل السعادة (الفارابي الأعمال الفلسفية) تحقيق وتقديم وتعليق د جعفر آل ياسين، ط دار المناهل بيروت، لبنان، الأولى، 1413ه - 1992م. ص 20، 21 .
4- إحصاء العلوم، ص 124 تحقيق وتصحيح وتقديم عثمان محمد أمين مكتبة الخانجي - مطبعة السعادة، 1350ه - 1931م، وللفارابي تعريف مشابه في كتاب الملة يقول فيه : " والعلم المدني الذي هو جزء من الفلسفة يقتصر فيما يبحث عنه من الأفعال والسير والملكات الإرادية، وسائر ما يفحص عنه على الكليات وإعطاء رسومها، ويعرف أيضًا الرسوم في تقديرها في الجزئيات كيف وبأي شيء وبكم شيء ينبغي أن تقدر، ويتركها غير مقدرة بالفعل؛ لأن التقدير بالفعل لقوة أخرى غير الفلسفة عسى أن تكون الأحوال والعوارض التي بحسبها يكون التقدير بلا نهاية، وغير محاط بها. وهذا العلم جزءان جزء يشتمل على تعريف السعادة، وعلى إحصاء الأفعال والسير والأخلاق والشيم والملكات الإرادية الكلية التي شأنها أن تكون في الأمم والمدن، ويميز الفاضل منها من غير الفاضل، وجزء يشتمل على تعريف الأفعال التي بها تمكن الأفعال والملكات الفاضلة، وترتب في أهل المدن والأفعال التي بها يحفظ عليهم ما مكن فيهم.“ كتاب الملة، ونصوص أخرى، حققها وقدم لها وعلق عليها د. محسن مهدي، الطبعة الثانية، دار المشرق، بيروت، 1991م ص 59 ، وانظر الفارابي في العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام ضمن كتاب الملة ونصوص أخرى، ص 69، 70، 71، 72 .

وأتفق بعض الباحثين ممن قال بأن الفارابي على الرغم من حديثه عن العلم المدني بشكل عام السياسة والأخلاق، فإنه بتعريفه هنا قصد علم الأخلاق دون علم السياسة؛ ذلك لأن الفارابي هنا لم يذكر في تعريفه هنا ما يشير إلى علم السياسة(1)، إلا إذا اعتبرنا أن الفارابي يجعل الأخلاق مقدمة لحياة سياسية رشيدة تقوم على أساسها مدينته الفاضلة، أو إذا اعتبرنا أنه يرى أن الحارس على قيام أخلاق فاضلة هو سياسة رشيدة توجه نحو الأفعال وتبصر بالغايات، وتحفظ على الإنسان أخلاقه، وتضمن عدم الوقوع في الشرور والقبائح، وقد يدل على ذلك أن الفارابي - في نهاية النص السابق - يجعل السعادة مشتركة، وتتحقق للمجتمع ككل بتوجيه سياسي من الرئاسة الفاضلة.(2)

ويتضح من تعريف الفارابي أمور عدة:

الأول: أن الفارابي يعطي مخططاً واضحًا لأي دارس لما يجب أن تكون عليه دراسة الأخلاق، فالمتأمل لتعريف الفارابي يرى وكأن الفارابي يضع خطة بحث في علم الأخلاق، رتب فيها الفصول الواحد تلو الآخر على نحو دقيق، فبدأ بتصنيف الأفعال، وتصنيف الأفعال يشمل حتماً تعريفها للانطلاق منها إلى مفهوم واضح ومحدد للأخلاق، ثم تحدث عن مصدرية هذه الأفعال، وعلاقة الطبع فيها بالاكتساب، ثم تحدث عن شروط الفعل الخلقي، وذلك له مثاله هنا وهو الإرادة، ثم تحدث عن أسباب الأفعال والغايات التي تدفع الإنسان إلى فعلها، وهذا يعد دعوة إلى البحث في الدوافع النفسية للفعل، ثم تحدث عن الإلزام الخلقي فذكر كيفية وجوب وجود الأفعال في الإنسان، وكيفية حفظها عليه، ثم تحدث عن المعيار الخلقي من خلال كيفية التمييز بين ما يجب أن يفعل ويستعمل من الأخلاق للوصول

ص: 11


1- انظر د. إبراهيم عاتي ، الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي)، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م، ص 212
2- انظر كتاب الملة ونصوص أخرى، 54 ، 55 .

إلى السعادة وبين ما يجب أن يجتنب. وهذا يجب أن يجتنب . وهذا - في الحقيقة - يعد رسماً نموذجيًا من الفارابي لدراسة علم الأخلاق عامة أو علم الأخلاق عند أي من المفكرين أو الفلاسفة، ولذا هذا لدينا أن الفارابي كان يهدف إلى تأسيس فلسفة أخلاق يرجح تكون نتاجًا نهائيًا لفلسفته عامة .

الثاني: أن الأخلاق عند الفارابي ليست جبرية، وإنما تنطلق من إرادة واختيار؛ لأنه يعطي الإنسان الحرية في اتخاذ سلوكه الأخلاقي الذي ينشده، فعلم الأخلاق عند الفارابي هو علم الأفعال الإرادية الاختيارية، فهو عنده علم مكتسب لا دخل فيه للطبع، فالإنسان بمداومته على الأفعال وكثرة استعمالها تتكون لديه ما يشبه الملكة أو السجية أو الشيم التي تصدر عنها الأفعال بعد ذلك تلقائيًا ودون تكلف، ولذا كانت الأخلاق عنده اكتسابًا القبيح منها والحسن على حد سواء، وفي هذا انتصار لمبادئ الدين الحنيف.

الثالث: علم الأخلاق عند الفارابي يبحث - في الأساس - عن الدوافع التي تملي على الإنسان الاتجاه إلى فعل ما دون غيره أو الالتزام باتجاه أخلاقي ما دون غيره، فالكشف عن الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال، هو كشف عن الدوافع التي تدفع إلى فعلها، ودراسة هذه الأفعال وتنميتها إذا كانت في جانب الخير، وتهذيبها وتقويمها إذا كانت في جانب الشر.

الرابع: علم الأخلاق عند الفارابي علم يعنى بوضع إلزام أخلاقي يدفع الناس دفعًا إلى الخير واجتناب الشر، وبوضع مصادر الإلزام الخلقي المناسبة التي تكفل تحقيق الخير والبعد عن الشر، وما قول الفارابي : «وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها على النحو الذي ينبغي وجودها فيه، والوجه في حفظها». إلا دليلاً على اهتمامه بضرورة وجود إلزام خلقي متعدد المصادر.

الخامس: علم الأخلاق علم يعنى بوضع معيار أخلاقي يميز من خلاله الناس بين الخير والشر أو الحسن والقبح، ويفرق بين الغايات الحميدة والغايات القبيحة،

ص: 12

ويبين ما هو في الحقيقة غايات، وما هو مظنون فيه ؛ ولذا قال: «ويميز بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال والسنن....».

السادس: علم الأخلاق عند الفارابي هو علم البحث عن السعادة القصوى، فالسعادة الحقيقية تكون مترتبة على الأفعال الجميلة والفضائل، أما ما عداها من الأفعال التي يظن أنها سعادة فإنها شرور وقبائح ونقائص. ومن ثم فإن علم الأخلاق عنده علم غائي يبحث عن السعادة غير أنها ليست السعادة الفردية فقط، بل السعادة الجماعية التي تشمل الجميع، وهذه السعادة لا تتحقق عنده - في نظري - إلا بالسياسة الرشيدة التي تبصر الجميع، وتأخذ بيدهم وصولاً إلى هذه السعادة، وقد أكد على فكرة ارتباط علم الأخلاق بالسياسة عند الفارابي غير باحث(1). وقد يدل على ذلك أنه في كتاب الملة يتحدث عن العلم المدني بشقيه الأخلاقي والسياسي، وكأنهما شيء واحد(2).

السابع: علم الأخلاق عند الفارابي علم يهتم بدراسة السلوك؛ حيث جعل الفارابي منهجه في دراسته منصبًا على اعتبار أن الأخلاق والفضائل هي الصورة الباطنة في النفس، أو الهيئة الراسخة، في حين أن صورتها هي السلوك الظاهر، فاتجاه الإنسان عند الفارابي إلى الأعمال الإرادية التي تهدف إلى غاية معينة معناه السلوك. وقد ذهب أحد الباحثين إلى أن السلوك بهذا المعنى يمنع أن يدخل فيه أعمال الحيوان، حيث إنه وإن كان يتصور الغاية فإنه لا يشعر بها، ولا يفكر فيها.(3) فالسلوك أحد جوانب التجربة الإنسانية التي تعنى بها الأخلاق .(4) فالفارابي كان ينظر للأخلاق على أنها تقوم على ركيزتين: الأولى فهم، والثانية سلوك، وهما عنده على علاقة وثيقة؛ حيث أعطى الفارابي لهذا الفكر دورًا أساسيًا في تقويم السلوك، وهذا ما ذهب إليه أحد الباحثين عندما أكد على قيمة العلاقة بين الفكر والسلوك في أي اتجاه أخلاقي(5).

ص: 13


1- انظر الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي)، ص 213
2- انظر كتاب الملة، ص 52 وما بعدها.
3- انظرد منصور علی رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ط مطبعة مخيمر ، القاهرة، 1953م، ص 180.
4- انظر د. عبد الحميد مدكور، د. عبد الفتاح الفاوي دراسات في علم الأخلاق، ص 5.
5- انظر د. عادل العوا، مقدمة كتاب الفكر الأخلاقي المعاصر لجاكلين ،روس ترجمة وتقديم د. عادل العوا، ط عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001م، ص 5.

ويبدو لي أن الفارابي كان من أنصار الاتجاه الذي ينظر للأخلاق على أنها علم عملي نظري في آن واحد(1)، ويبدو الجانب النظري في اتجاه الفارابي الأخلاقي في دراسته للأخلاق في إطارها التنظيري خاصةً في كتاب تحصيل السعادة، وكتاب التنبيه على سبيل السعادة؛ حيث يأخذ الفارابي الناس إلى دراسة الأخلاق، ويبنيها على أساس معرفي، ويبدو الجانب العملي في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، وكتاب السياسة المدنية أو فصول المدني؛ حيث يمهد السبل إلى عمل الخير، وأداء الأفعال التي تأخذ بيد الفرد والجماعة والبشرية جميعًا إلى السعادة والكمال. وهذا ما أكدت عليه الدراسات الأخلاقية الحديثة؛ إذ لما كان علم الأخلاق يبحث في الحق، كما يبحث في الخير فهو علم نظري حينما يبحث عن الحق، وهو علم عملي حينما يوجهك إلى الخير(2). وبذلك يكون علماً نظريًا تطبيقيًا.(3)

ب - أنواع الأخلاق عند الفارابي:

إن منشأ الأخلاق عند الفارابي ينحصر في:

أ - الجبلة والغرائز التي فطر عليها الإنسان، وهي لا تعدو أن تكون عنده مجرد استعداد قابل لفعل الضدين .

ب - البيئة والمجتمع المحيطان بالإنسان.

ج - العادة والدربة والتريض باستعمال الأفعال الأخلاقية.

د - العلم والمعرفة اللذان كسبهما الإنسان.

ويمكن القول - انطلاقا من هذا - إن أنواع الأخلاق عند الفارابي من حيث علاقتها بالطبع والاكتساب هي : أ - أخلاق الطبع ب - أخلاق الاكتساب .

ص: 14


1- هناك دراسة للأستاذ الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن تقوم بالأساس على إثبات أن الأخلاق علم عملي نظري، انظر الأخلاق بين النظرية والتطبيق، القاهرة، 1997م.
2- انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 27.
3- انظر د. محمد السيد الجليند .د. أبو اليزيد العجمي ، دراسات في علم الأخلاق، دار الثقافة العربية، 1996م ص 48 .

النوع الأول:

أخلاق الطبع (علاقة الأخلاق بالطبع عند الفارابي):

إن الطبع عند الفارابي استعداد يقبل أنواعًا مختلفة من الأخلاق؛ إذ يمكن القول إنه عنده عبارة عن هيئة طبيعية تكون موضوعة للأخلاق، بيد أن هذه الهيئة لا تبرز صورتها، ولا تخرج إلى حيز التنفيذ إلا من خلال إرادة حرة واكتساب قائم على العادة والدربة وكثرة الاستعمال ، فإذا حدث هذا تكون الأخلاق قد خرجت من طور الهيئة المعدة بالقوة إلى هيئة بالفعل تخرج عنها الأخلاق وهو في ذلك متأثر بأرسطو الذي ذهب إلى أن الفضائل لا تنشأ فينا بالطبع، ولا خلافًا للطبع، وإن كنا نفطر طبعًا على اكتسابها، وتستكمل فينا الفطرة بحكم العادة.(1) وإن كان مخالفًا أتباع الديانة البوذية والبراهمة ممن يقولون إن الإنسان خلق شريرًا بالطبع(2) لكن الفارابي قد يلاحظ عليه أنه يخرج عن هذه الفكرة في حديثه عن خصائص وخصال رئيس المدينة الفاضلة، حين يجعل منه أخلاقياً بالطبع (3)، وكأني بالفارابي يحاول أن يذهب إلى أن رئيس المدينة الفاضلة اختيار إلهي .

لكن إذا كانت بعض الدراسات ترى أن طبيعة الناس الشر(4)، فمن الصحيح القول إن أخلاق الطبع عند الفارابي تميل بالإنسان إلى حيز الأخلاق الفاضلة، وهذا يؤكد على أن الكمال عنده فكرة فطرية أودعها الله تعالى - كما يرى أحد الباحثين - في نفوسنا؛ لأن الكائن الناقص لا يعرف بطبيعته إلا النقص.(5) والفارابي بموقفه هذا قريب جدًا من أفلاطون الذي ذهب إلى القول بأن أشد ما في الإنسان من الاستعدادات

ص: 15


1- انظر أرسطو، علم الأخلاق الى نيقوماخوس، ترجمة د. أحمد لطفي السيد، ط مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1924م ، ج 1 ص 226.
2- انظر د. الجليند ود العجمي ، دراسات في علم الأخلاق ص 43 انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 95.
3- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة طبع بمعرفة الشيخ فرج الله زكي الكردي والشيخ مصطفى القباني الدمشقي، - الطبعة الأولى، مطبعة النيل، مصر، من دون ص 86، 87 .
4- انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 89 .
5- د. نازلي إسماعيل، الفلسفة الحديثة " رؤية جديدة " ط مكتبة الحرية، جامعة عين شمس، 1979م، ص 120، 121 .

الفطرية، هو أن نفسه تجانب الشر، وتجري وراء الخير، وتلزمه متى وصلت إليه.(1)

وإذا كان الفارابي قد عدّ الطبع مؤثراً بقوة على الانفعالات(2)، فلا يعني ذلك عودًا منه عن رأيه في الطبع وعلاقته بالأخلاق، وإنما يعني أنه أخرج الانفعالات من دائرة الأخلاق مع اعترافه بأنها إحدى دوافعها. وهذا المسلك يقتفي فيه الفارابي أثر أرسطو ؛ ذلك أن الأخير كان يفرق تفريقًا حازمًا بين الفضائل والانفعالات، فلم تكن الفضائل عنده ،انفعالات فالانفعالات عند أرسطو استعدادات لا توصف بالحسن أو القبح إلا بمقدار ما يترتب عليها من خير أو شر، وإنما عد الفضائل هيئات وملكات تنتج بالعادات(3). ومن ثم يقول : «ولهذه الأسباب لا تكون الفضائل خواص مجردة؛ لأنه لا يقال علينا إننا فضلاء أو أشرار لمجرد أن لنا خاصة التأثر بالانفعالات، كما أن هذا ليس سببًا كافيًا في أن نمدح أو نذم».(4) ونفهم من ذلك أن الفضلاء والأشرار لا يكونون عند أرسطو بالانفعالات الطبعية، بما يعني أنه لا يجعل للطبع دورًا في توجيه الإنسان إلا بمقدار ما ينطوي عليه من استعداد لفعل الأمرين؛ حتى نكون أهلاً للثواب أو العقاب.

وهذا يقود إلى القول بأن الطبع لا دخل له بالأخلاق عند الفارابي إلا بمقدار ما يكمن فيه من استعداد يتم توجيهه إلى أي من الاتجاهين الأخلاقيين أراد كما أنه يمكن للإنسان تغيير أخلاقه بما يمتلك من إرادة قوية مختارة. فالإنسان عند الفارابي لا يمكن أن يفطر من أول أمره بالطبع ذا فضيلة، ولا ذا نقيصة، كما أنه لا يمكن أن يفطر بالطبع حائكاً أو كاتبًا، غير أن منطق الفارابي يذهب إلى أنه يمكن أن يكون الإنسان معدًا بالطبع نحو أفعال فضيلة أو رذيلة، بحيث تكون أفعال تلك أسهل عليه من غيرها، كما هو الحال نحو أفعال الكتابة أو صناعة أخرى، وذلك الاستعداد لا يقال فيه أنه فضيلة، كما أن الاستعداد الطبيعي نحو أفعال الحياكة لا يقال فيه أنه حياكة.(5)

ص: 16


1- انظر مقدمة كتاب علم الأخلاق الى نيقو ماخوس لأرسطو، ص 64.
2- انظر فصوص الحكم (كتاب الثمرة المرضية فى بعض الرسالات الفارابية)، ط ليدن، 1890م، ص 80
3- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ج1 ص 241، 242.
4- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج1 ص 242.
5- انظر الفارابي، فصول المدني، نشرة دنلوب كمبردج لندن، 1961م، ص 110.

والفارابي هنا يسير على درب أرسطو الذي أكد على أن الفضائل ليست فينا بفعل الطبع وحده، كما أنها ليست ضد إرادة ،الطبع، بيد أن الطبع قد جعلنا قابلين لها على سبيل الاستعداد، والعادة تتممها وتنميها فينا(1) . فالطبع عند أرسطو استعداد فقط، وهو قابل لفعل الضدين، وليس ملزمًا للإنسان لاتباع اتجاه أخلاقي دون الآخر، بما يعني أن الطبيعة ليس لها تأثير أخلاقي عنده ، وأن الأمر كله منوط بالاكتساب والاعتياد - ويتفق ابن مسكويه معهما في مصدرية الخلق - مؤكدًا على مسألة الاستعداد الطبيعي في الإنسان لقبول الخلق(2).

وتأكيد الفارابي على أن الاستعدادات الفطرية في الإنسان ليست في مستوى واحد من جهة سهولة الانتقال منها إلى غيرها بالدربة والعادة أو صعوبتها لكن العسر أو الصعوبة لا يعنيان عند الفارابي الاستحالة أو الامتناع، فهو عسير ممكن، وليس بمستحيل.(3) قد أكدت بعض الدراسات الجادة عليه مستندة في ذلك إلى أن درجات التدين الثلاث: الإسلام الإيمان، الإحسان تعد سلما صاعدًا نحو الأمثل في سلم المسلم، وهذا يقتضي المجاهدة للتنقل صعودا إلى الأمثل، بما يعني أن الناظر في هذا يجد دلالة واضحة على إمكانية تغير الخلق من إطار الحسن إلى إطار الأحسن فكيف به إذا كان التغير انتقالاً من القبيح إلى الحسن ومن المعصية إلى الطاعة؟(4)

بما يعني أن فكرته هنا مأخوذة في الأساس من الفكر الأرسطي الذي ذهب إلى أن بعض الناس يمكنهم التنقل من خلق إلى آخر بسهولة ويسر، وبعضهم يجد صعوبة وعسر في الانتقال بأخلاقهم، وقد بين أرسطو أكثر من ذلك في كتاب الأخلاق، فقد عدد أسبابًا لصعوبة وعسر الانتقال من خلق لآخر، وعرض في الوقت نفسه لأسباب سهولة التنقل عند بعض الناس (5)، والفارابي هنا يشرح ويفسر ويضيف إلى ما سبق أن

ص: 17


1- أنظر أرسطو، الأخلاق النيقوماخية، ج1، ص 226، وانظر ج1 ص 242.
2- انظر فصول المدني، نشرة دنلوب ،کمبردج ،لندن 1961م ص ،111 ، 112 ، انظر ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، ط مطبعة الوطن، القاهرة حرره وصححه محمد عبد القادر المازني، 1298ه، ص 19 .
3- انظر الجمع بين رأيي الحكيمين، ص 18.
4- انظر د. الجليند د العجمي دراسات في علم الأخلاق، ص 53.
5- انظر أرسطو، علم الأخلاق الى نيقو ماخوس، ج2 ص 179، 180.

ذكره أرسطو في كتابه الخطابة من أن كتابه الخطابة من أن حد الخير هو الذي يؤثر لذاته، وأنه هو الذي يؤثر غيره لأجله، وأنه هو الذي يتشوقه الكل من ذوي الفهم والحس. والشر عكس ذلك تماما عنده.(1) ومن ثم نفهم الدور الذي يوليه الفارابي لأخلاق الاكتساب، كما نفهم الدور الذي يوليه للإرادة والاختيار في تنمية عملية الاكتساب والمداومة عليها، لكن بقي للفارابي أصالته في إضافاته وفي بعض الأفكار الجديدة المبتكرة، التي قد يرجع الفضل فيها لعقيدته الدينية أو لهذه العقيدة بجانب الفلسفة التي اتخذها منهجًا لنفسه.

وإذا كان الانتقال من خلق لآخر أمرًا لا مفر منه عند الفارابي؛ إذ في استطاعة الإنسان التغلب على الاستعدادات الطبعية فإن هذه الفكرة نأت به عن أن يقع فيما وقع فيه شوبنهاور الفيلسوف الألماني، الذي ذهب إلى أن الناس يولدون أخيارًا أو أشرارًا، كما يولد الحمل وديعًا، والنمر ،مفترسًا، وليس لعلم الأخلاق عنده إلا أن يصف سيرة الناس كما يصف التاريخ الطبيعي حياة الحيوان.(2) وإلى هذا الرأي الغريب ذهب ليفي بريل (3). وهذا الرأي يخالف بالكلية ما ذهب إليه جمهور المفكرين من كبار الفلاسفة وعلماء النفس قديمًا وحديثًا.(4) ومن ثم فإن للإنسان إمكانية الخير وإمكانية الشر، إذ لولا تلك الإمكانية على فعل الشر لما وجدت لديه أي قدرة على فعل الخير.(5) وهذه الإمكانية تعني توافر الإرادة الحرة؛ ولذا اشترط أرسطو في الفعل الخلقي أن يكون الفاعل فيه حراً مختارا (6).

وترتبط مسألة المزاج بالطبع ارتباطًا وثيقًا؛ لأن المزاج مرتبط ارتباطاً قويًا بتأثيرات الطبيعة الإنسانية، فإن الأمر عند الفارابي كان أكثر منطقية وترتيبًا وتماشيا مع أسس الثواب والعقاب والتكليف الشرعي، فالمزاج عند الفارابي ليس ملازما للفرد على

ص: 18


1- انظر أرسطو، الخطابة، حققه وعلق عليه د. عبد الرحمن بدوي، الناشر وكالة المطبوعات، الكويت، ودار القلم بيروت، 1979م، ص 27
2- انظر د. الجليند د. العجمي، دراسات في علم الأخلاق، ص 41
3- انظر ليفي بريل، الأخلاق وعلم العادات الاجتماعية، نقلاً عن السابق، ص 41.
4- انظر د. الجليند د. العجمي ، دراسات في علم الأخلاق، ص 43
5- انظر د. مصطفى عبده، فلسفة الأخلاق، ط مكتبة مدبولي، القاهرة، الثانية، 1999 م، ص 24 .
6- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، ج 1 ص 238، وانظر د. محمد الجبر، الفكر الفلسفي والأخلاقي عند اليونان أرسطو نموذجا، ط دار دمشق، الأولى، 1994م، ص 97، 98.

الدوام، بل مزاج الإنسان يتغير فيتوارد عليه مجموعة من الأمزجة في أوقات مختلفة، فقد تعرض له عوارض يتغير بها مزاجه فيكون معدًا بذلك لأن يقبل عن العقل الفعال بعض هذه العوارض في وقت اليقظة أو النوم ، فبعض الناس يبقى فيهم زمانًا، وبعضهم إلى وقت ما ، ثم يزول، وحينها ينصلح مزاجه وتصدق تخيلاته، في حين قد تعرض للإنسان عوارض تفسد عليه مزاجه وتخيلاته.(1) ومن ثم يمكن القول إن الفارابي وصل إلى الحل الذي أراده؛ إذ إن الأجسام الكائنة من الأركان الأربعة عنده فيها قوى تعطيها الاستعداد للفعل - أي لفعل الشيء - وهي الحرارة والبرودة، وقوى أخرى تعطيها الاستعداد لقبول الفعل، وهي الرطوبة واليبوسة، «وهذه المواد الأربع التي هي أصل الكون والفساد قابلة لاستحالة بعضها إلى بعض، والأشياء الكائنة الفاسدة التي تظهر إنما تظهر من الأمزجة التي تظهر فيها على النسب المختلفة التي تعطيها الاستعداد لقبول الخلق المختلفة والصور المختلفة التي بها قوامها».(2) وإلى هذا الرأي ذهب ابن سينا الذي جعل العناصر الأربعة المؤثرة في الطبع الإنساني قابلة للاستحالة والتحول بما يعني استحالة وتغير المزاج (3)، وقد كان سقراط زعيم القائلين بتغير الأخلاق، مما يحمل في داخله ضمنًا القول بتغير المزاج.(4)

والفارابي هنا يتفق أيضًا مع أرسطو في نظرته المنطقية إلى المزاج وأثره، وقدرة الإنسان على التحكم فيه وصولاً إلى مرحلة الاعتدال، ويضرب أرسطو مثالاً افتراضيًا على ذلك قائلاً: «مثال ذلك إذا كان اعتدال مزاج الجسم ينحصر في كثافة اللحم

ص: 19


1- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 76.69
2- عيون المسائل، (كتاب الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية)، ط ليدن، 1890م، ص 62، 63، ومن المعروف أن الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة هي عند الفارابي وغيره من الفلاسفة السابقين عليه هي المبادئ التي بها تفعل الأسطقسات الأول بعضها في بعض. انظر الفارابي، الرد على جالينوس فيما ناقض فيه أرسطو طاليس ضمن کتاب رسائل فلسفية تحقيق د. عبد الرحمن بدوي ط بيروت، 1980، ص .45 والأسطقسات - كما عرفها الفارابي من حيث تأثيراتها - هي توجد فيها قوى مهيأة نحو الفعل، وهو الحرارة والبرودة، وقوى مهيأة نحو الانفعال السريع والبطئ، وهو الرطوبة واليبوسة . انظر فلسفة أرسطو طاليس تحقيق د. محسن مهدي، بيروت، 1961م، ص 101، كما عرفها - من جهة بساطتها - قائلاً : " الأسطقسات هي الأجسام التي متى اعتقد معتقد أن في جملة العالم أجسامًا بسيطة لم يعتقد ذلك في غيرها، وهي النار والماء والهواء والأرض. الفارابي، الرد على يحيى النحوي، ضمن كتاب رسائل فلسفية تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، بيروت، 1980م، ص 109 .
3- انظر د. ماجد فخري، أرسطو طاليس المعلم الأول، ط المطبعة الكاثوليكية، بيروت، من دون تاریخ، ص 41: 44.
4- انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق ص 31 .32

ينتج من ذلك ضرورة أن سوء المزاج ينحصر في نحافته، وكل ما يسبب اعتدال المزاج يكون هو أيضًا ما يسببه نمو الجسم».(1) وعلى الرغم من جدلية هذا الافتراض وتهافته وبعده عن الواقع - إذ لا علاقة بين النحافة واعتدال المزاج، كما أنه لا علاقة بين السمنة وسوء المزاج، وإنما يكون الاعتدال نتاجًا لما يحدثه الإنسان من تناغم بين جميع أعضائه بإرادته هو واختياره هو - فإنه يؤكد على أن أرسطو يعطي الإنسان القدرة في تعديل مزاجه وتغييره دون أن يفرض عليه من خارج، حتى مع فرض أنه يأتي من خارج فالإنسان قادر على التحكم فيه بإرادته واختياره.

أما الفارابي فقد ذهب إلى أن مزاج الأبدان لا يؤثر في الأخلاق بحال ما، بل أعطى النفس من خلال بعض قواها أن تتحكم في تأثيرات هذا المزاج؛ لأن الفارابي أعطى لقوى النفس مرونة كبيرة في تفادي هذه التأثيرات بما تملكه النفس من قوى تستطيع السيطرة على ذلك التأثير، فقوى النفس المختلفة عند الفارابي تقبل من تلك التأثيرات بحسب جوهرها واستعدادها؛ حيث تواجه الأخلاط الأربعة بالمحاكاة التي توائمها بالقبول أو بالرفض حسب طبيعة هذه القوى مما يعني أنها ترفض مختارة أو تقبل مختارة أي تدخل خارجي في توجهاتها الأخلاقية، فالنفس إذن هي المسئولة عن اتجاهاتها الأخلاقية، فهي إما أمارة بالسوء أو لوامة أو مطمئنة.

ولكن هل يوجد علاقة بين الطبع وتأثيرات الكواكب ومطالع النجوم؟! أو بعبارة أخرى هل تلعب تأثيرات الكواكب والنجوم دورًاً فاعلاً في طبع الإنسان وتوجيهه نحو اتجاه أخلاقي معين ؟! لقد كان الفارابي يحصر دور الأفلاك والكواكب والنجوم التأثير على بدن الإنسان لا أخلاقه؛ استنادًا إلى علاقة سببية بينهما قائمة على الاتصال بين عالم الأفلاك وعالم الإنسان. وهو في ذلك يسير على درب أستاذه أرسطو الذي كان يدرك تأثيرات العالم العلوي في العالم السفلي، إلا أنه لم يبالغ فيعطي لها دوراً في توجيه الإنسان أخلاقيا؛ لأن أرسطو كان يدرك أن الأخلاق ليست وليدة ،الطبع، وإنما وليدة الاكتساب وكثرة الاستعمال (2)، وإلى هذا الرأي ذهب

ص: 20


1- أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج 2 ص 57.
2- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس ، ج 1 ص 242، ج2 ص 131.

أفلاطون في محاورة مينون عندما ذهب إلى أن الأخيار ليسوا أخيارًا بالطبع، بل بالتعلم والاكتساب(1).

فالأفلاك والكواكب ومسارات النجوم لم يكن لها أدنى تأثير في أخلاق الإنسان عند الفارابي أو في توجهاته السلوكية. فلئن كان العقل الأخير عنده هو سبب وجود الأنفس الأرضية من وجه وسبب وجود الأركان الأربعة بوساطة الأفلاك من وجه آخر، فإنه يحصل من الأركان الأربعة الأمزجة المختلفة على النسب التي بينها المستعدة لقبول النفس النباتية والحيوانية والناطقة من جهة الجوهر الذي هو سب- لأمر أكوان هذا العالم.(2) وهذا يدل على أن الفارابي يعطي للأفلاك تأثيرًا في إيجاد الأركان الأربعة - التي هي لديه تحت مظلة العقل الأخير - التي بدورها يحصل منها الأمزجة المختلفة بنسب مختلفة مستعدة لقبول قوى النفس المختلفة، فالأمر لا يعدو مجرد استعداد طبيعي.

ولا يفتأ الفارابي يربأ بالكواكب والأفلاك والنجوم أن تتدخل في غير الأمور الطبيعية بإذن من الله تعالى على وفق نظرية الفيض عنده، فالأجرام والأفلاك لا تتخيل المحال؛ إذ لو تخيلت المحال لكانت كاذبة ،(3) ومن ثم فبما أن الأخلاق ليست من الأمور الطبيعية المادية، فإن من المحال عقلاً أن تتدخل الكواكب والأفلاك، فتوجه الإنسان ناحية اتجاه أخلاقي معين بناءً على هذه القسمة المنطقية.

فالأفعال الأخلاقية إذن بمنأى عن تدخل أي من هذه الأمور الخارجية؛ إذ إن الكواكب والأفلاك والنجوم لا تفرض نوعا معينًا من الأخلاق، ولو كانت تفرض نوعًا معينًا من الأخلاق لكان حريًا بها أن توجه الإنسان نحو الخير لا الشر؛ وذلك استنادًا إلى فكرة جوهرية عند الفارابي قوامها أن إرادة الفلك والكواكب تكون في تشبهها بالأول أو الخالق سبحانه واستكمالها ،به فيتبع إرادتها حركة، ويلزم

ص: 21


1- انظر أفلاطون محاورة مينون أو الفضيلة ترجمة وتقديم د. عزت ،قرني، ط دار ،قباء، 2001م ص 129، 130.
2- انظر عيون المسائل، ص 59
3- انظر التعليقات تحقيق وتقديم وتعليق د جعفر آل یاسین ط دار المناهل بيروت لبنان، الأولى، 1413ه- . 1992م. ص 395.

عن هذه الحركة وجود هذه الأمور الكائنة.(1) ومن ثم فإن من أراد التشبه بالإله لا يكون مقصده إلا خيراً، إذ كيف يتصور ممن أراد التشبه بالإله والتقرب منه أن تكون أفعاله شرًا وتؤدي بغيرها إلى فعل الشر ؟ ومن ثم فقد رفض الفارابي أن توصف بعض الأجرام العلوية أو الأفلاك السماوية بالنحوسة أو السعادة، أو أن تؤثر في الإنسان من هذا الجانب، فليس عند الفارابي القول بأن هناك أفلاكًا وكواكب تجلب النحس على الإنسان، فتجعله يتجه اتجاها أخلاقيًا قوامه الشر بكل أنواعه وصنوفه، لا ذنب للإنسان هنا إلا أنه ولد في مطالع أحد البروج أو الأفلاك السماوية، أو أن يكون هناك كواكب وأفلاك تجلب السعادة للإنسان، فتجعله يتجه اتجاها أخلاقيًا قوامه الخير بكل أنواعه وصنوفه لا دخل للإنسان ولا لإرادته في هذا الخير من دور سوى أنه ولد في مطالع البروج السعيدة.

علاقة الطبع بالاعتقاد عند الفارابي:

يقول الفارابي مؤكدًا على هذه الفكرة في تفريقه بين الطبع والاعتقاد: «ولما كان أمر هذه القضية على ما وصفنا من استحكامه واستعلائه على الطبائع ، ثم وجد أفلاطون وأرسطو طاليس وما بينهما في السير والأفعال وكثير من الأقوال خلاف ،ظاهر، فكيف يضبط الوهم معهما بتوهم، وتحكم بالخلاف الكلي بينهما مع سوق الوهم إلى القول والفعل جميعًا تابعين للاعتقاد، ولا سيما حيث لا مراء فيه ولا احتشام مع تمادي المدة؟» (2)فالفارابي لا يستنكر - من خلال النص السابق - أن تكون الأخلاق كلها تابعة للاعتقاد ؛ إذ لا يفعل المرء شيئًا خلافا لما يعتقد ويؤمن، فالفارابي يرفض أي سلطة للطبع ، وإن كان لا يرفض أن يكون الاعتقاد موجهًا الناس على الدوام إلى الأخلاق، غير أن الاعتقاد الذي فهمه الفارابي هو اليقين الجازم الذي يختاره الإنسان فيكون موجهًا له طوال حياته إلى أن يثبت له العكس.

ص: 22


1- انظر السابق، ص 391
2- الجمع بين رأيي الحكيمين (كتاب الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية)، ط ليدن، 1890م ص 4.

النوع الثاني:

أخلاق الاكتساب (علاقة الأخلاق بالاكتساب) عند الفارابي:

لقد أدرك الفارابي حقيقة الطبع الإنساني من حيث إنه مجرد استعداد، فحلّ بذلك الإشكالية التي وقع فيها الكثيرون من قبله من الفلاسفة الذين لم يستطيعوا معالجتها، فكانت وجهة نظره تدور حول أن الإنسان مفطور من أول وجوده على قوة تكون بها أفعاله وعوارض نفسه وتمييزه على ما ينبغي مما هو صالح وخير، وبها أيضًا تكون أفعاله وعوارض نفسه وتمييزه على ما ينبغي مما هو طالح ،وشر، فهذه القوة هي مجرد استعداد فطري من خلاله يفعل الإنسان الأفعال الجميلة، ومن خلاله أيضًا يستطيع أن يفعل القبيح من الأفعال، ومن ثم فإن الإنسان يختار بجودة تمييزه أيا من هذين الاتجاهين.(1) ويدخل التغيير في الأخلاق في الغالب - كما يقول الدكتور الجليند والدكتور أبو اليزيد العجمي - عن طريق تعويد هذه الطبيعة أو الجبلة على أفضل ما يناسبها، بدلاً من تركها، أو أن توجه إلى أسوأ ما يتاح لها.(2)

وتلك هي الفكرة الرئيسية التي ينطلق منها الفارابي ليؤكد على أن الأخلاق في الأساس اكتساب ينتج عن استخدام الاستعدادات الفطرية في الإنسان وتقويتها بالمداومة والاعتياد فينشئ الإنسان لنفسه اتجاها أخلاقيًا يقوم على أساس من الاستعداد الفطري؛ لإبراز اتجاه الإنسان الأخلاقي الذي يختاره بإرادته. وتلك كانت إحدى الفكر الرئيسة التي قام عليها اتجاه أرسطو الأخلاقي، وعليها بنى منظومته الأخلاقية الموسومة بعلم الأخلاق إلى نيقوماخوس، فقد كان للطبع عند أرسطو حدوده كما كان للاكتساب ،مقوماته، وهذه الحدود كانت المبادئ الأساسية التي وعاها الفارابي في فلسفته الأخلاقية.(3)

فإذا كان لدى الإنسان جودة تمييز اختار الأفعال الجميلة، أما إذا كانت لديه رداءة

ص: 23


1- انظر التنبيه على سبيل السعادة ضمن كتاب الفارابي الأعمال الفلسفية، تحقيق وتقديم وتعليق د. جعفر آل ياسين ط دار المناهل، بيروت، الأولى، 1413ه - 1992م، ص 232، 233 .
2- انظرد الجليند د. العجمي، دراسات في علم الأخلاق، ط دار الثقافة العربية، القاهرة، 1996/1995م، ص 53
3- انظر أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج1 ص 242.

في التمييز فإنه يختار الأفعال القبيحة، ولما كان حال تلك القوة من إمكانية فعل القبيح متساويًا مع إمكانية فعل الجميل، فإن الإنسان يحدث له بعد ذلك - من خلال الاكتساب والدربة وكثرة الاستعمال - ثلاثة أحوال(1) أن تكون أخلاقه جميلة، أو أن تكون أخلاقه قبيحة، أو أن تجمع أخلاقه بينهما، ولكن على اعتبار زيادة أحدهما ونقصان الآخر.

ومن ناحية أخرى فإن الفارابي يربط ربطًا واضحًا بين جودة التمييز والأفعال الأخلاقية وعوارض النفس وبين عملية الاكتساب، فكلما كان التمييز لدى الإنسان جيدًا كانت أفعاله جميلة، وكلما كان التمييز لدى الإنسان رديئًا كانت أفعاله قبيحة، لذا يسمي الفارابي جودة التمييز قوة الذهن ويسمي رداءة التمييز ضعف الذهن أو بلادة الذهن.(2) والفارابي هنا يعد قريبًا جدًا من سقراط - فيما حكاه عنه تلميذه أفلاطون - وذلك لأن الآراء والأفعال الحسنة عند سقراط تنتج عن العقول السليمة، في حين تنتج الآراء والأفعال القبيحة عن عديمي العقل.(3) ومن ثم فإن الخلق عند الفارابي هو الذي تصدر به عن الإنسان الأفعال القبيحة أو الحسنة، وتكون فيه علاقة وثيقة بين الأفعال وجودة التمييز أو رداءته؛ حتى ينال الشقاء أو السعادة.

والخلق عند الفارابي اكتساب من الدرجة الأولى؛ إذ لما كانت القوة التي فطر عليها الإنسان - وهي الطبع - بحيث لا يصدر عنها أحد الأمرين فقط دون الآخر، وكانت الحال المكتسبة تحدث بعد ذلك بحيث يصدر عنها أحد الأمرين فقط ، لزم أن تكون الأفعال وعوارض النفس إنما تكون منا بحيث ننال بها السعادة لا محالة متى حصل لنا خلق جميل، وتكون لنا جودة التمييز لكي ننال السعادة لا محالة، متى كانت قوة الذهن ملكة لا يمكن زوالها أو يعسر، فالخلق الجميل وقوة الذهن هما جميعا الفضيلة الإنسانية من قبيل أن فضيلة كل شيء هي التي تكسبه الجودة والكمال في

ص: 24


1- انظر التنبيه على سبيل السعادة، ص 233
2- انظر السابق، ص 233
3- انظر أفلاطون، محاورة أقريطون ، أو عن الواجب، ضمن كتاب أفلاطون محاكمة سقراط، ترجمة وتقديم د. عزت قرني، ط دار ،قباء القاهرة الثانية، 2001م، ص 154.

ذاته، وتكسب أفعاله جودة، وهذان جميعًا هما اللذان إذا حصلا حصلت لنا الجودة والكمال في ذاتنا وأفعالنا، فبهما نصير نبلاء أخيارًا فاضلين، وبهما تكون سيرتنا في حياتنا سيرة فاضلة وتصير جميع تصرفاتنا تصرفات محمودة».(1) ولا تصير جودة التمييز والأخلاق الفاضلة على سبيل المداومة والاستمرارية إلا إذا صارت قوة الذهن ملكة فينا، راسخة في نفوسنا،، ولا تصبح هذه القوة ملكة إلا بالدربة وكثرة الاستعمال والارتياض، فطريقة تنميتها أساسها الاكتساب(2)، فالإنسان بقدر اكتساب الأخلاق الفاضلة والتمرس بها وكثرة الاستعمال تنمو قوة الذهن وتكبر حتى تصبح ملكة فيه تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، وبقدر اكتساب الأخلاق القبيحة والتمرس بها وكثرة استعمالها تزداد رداءةً، فبالأخلاق الفاضلة تنمو قوة الذهن، وبقوة الذهن تنمو جودة التمييز التي تحكم بسهولة على الفعل بالخير أو الشر.

وبذلك كان أكثر اتفاقاً مع منهجه الذي يرى أن الأخلاق في مجملها - سواء أكانت جميلة أم قبيحة - اكتساب، ومن ثم فإن الإنسان باكتسابه يصنع لنفسه ملكة تصدر عنها أفعاله الأخلاقية بسهولة ويسر، وبها تكون لديه القدرة على إدراك الصواب، بحيث لا يمكن زوال هذه الملكة أو يعسر زوالها. يقول الفارابي مؤكدًا على هذه الفكرة التي تعطي الاكتساب دوره المنوط به في الأخلاق: «إن الأخلاق كلها الجميل منها والقبيح هي مكتسبة، ويمكن للإنسان متى لم يكن له خلق حاصل أن يحصل لنفسه خلقًا، ومتى صادف أيضًا نفسه في شيء ما على خلق إما جميل أو قبيح أن ينتقل بإرادته إلى ضد ذلك الخلق».(3)

ومن ثم نفهم من النص السابق أمورًاً تكشف عن فهم الفارابي الدقيق لمعنى الأخلاق ومصادرها، ومن هذه الأمور:

أ - أن الأخلاق كلها اكتساب

ص: 25


1- التنبيه على سبيل السعادة، ص 234، 235
2- وهذا نهج أرسطي صرف يجعل العادة والاستمرار على الأفعال أساس تكوين الملكات والفضائل. انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس ، ج 1 ص 228، 232، 242، 316.
3- التنبيه على سبيل السعادة، ص 235 ، 236

ب - أن الإنسان يستطيع أن يغير خلقه الذي وجد نفسه عليه إلى خلق آخر يختاره لنفسه.

ج - أن اتجاه الفارابي هنا أقرب ما يكون إلى الفهم الصحيح لمسألة الحرية والقضاء والقدر.

ولكن يطرأ هنا سؤال مهم مؤداه ما أدوات الإنسان هاهنا لكي يرسم لنفسه اتجاها أخلاقيًا حسنًا كان أم قبيحاً ، أو لكي ينتقل بنفسه إلى خلق آخر ارتآه لنفسه وارتضاه؟ يؤكد الفارابي على أن الوسيلة الوحيدة في ذلك هي الاعتياد أو العادة، وهو يعني عنده تكرار فعل الشيء الواحد مرات كثيرة زمانًا طويلاً في أوقات متقاربة(1)، وفي موضع آخر يضع للعادة أو الاعتياد شروطاً ثلاثة(2) أن تحصل في طول زمان، وأن تحصل في كل حال من أحوال المعاشرة، وأن تحصل مع كل الأقوام، وليس مع قوم دون آخر بما يعني أن الدربة والارتياض وكثرة الاستعمال وسائل الإنسان لبلوغ اتجاهه الأخلاقي الذي يريده وهذا ما ذهب إليه أفلاطون وأرسطو؛ إذ الفضيلة أو الأخلاق عند أفلاطون لا تكون ملكة - ويقصد بها حال النفس المكتسبة - إلا بالمران فهي طبيعة ثانية وليدة التكرار(3) كما استند أرسطو إلى العادة في اكتساب الأخلاق، وتكوين الهيئات الأخلاقية في النفس.(4)

ويقرب الفارابي فكرة اكتساب الأخلاق إلى العقول والأفهام بفكرة اكتساب الصناعات، فالحال هنا كالحال هناك، إذ إن الحذق في الكتابة يحصل للإنسان متى اعتاد فعل الكاتب الحاذق(5) ، وهذا هو حال الخلق الجميل عند الفارابي، فإن الفعل الجميل ممكن للإنسان إما قبل حصول الخلق الجميل بالقوة التي فطر عليها،

ص: 26


1- انظر السابق ص 236 ، وانظر فصول المدني، نشرة دنلوب ،كمبردج ،لندن، 1961م ، ص 108 ، 109
2- انظر تلخيص نواميس أفلاطون، تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، ضمن كتاب أفلاطون في الإسلام، طهران، 1974م، ص 63
3- انظر ألبير نصري ،نادر مقدمة كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، ط دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية)، بيروت، ،لبنان الثانية، 1986م، ص 36
4- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ج1 ص 232، 238، 239.
5- انظر الفارابي فصول المدني، نشرة دنلوب ،كمبردج ،لندن، 1961م، ص 108، 109

وإما بعد حصولها بالفعل(1) بما يعني أن الاكتساب مبني على أساس من الاعتياد والمحاكاة وكثرة الاستعمال.

ومن ثم نفهم من هذا كله أن الأخلاق عند الفارابي هي في الأساس اكتساب، فعلى حين رفض أن يكون الخلق هيئة طبعية يصنعها الطبع، فإنه يدلل في أكثر من موضع على أن الإنسان يكتسب هيئته أو يصنع هيئته، فلما كانت أفعال أهل سائر المدن رديئة، فقد أكسبتهم هيئات نفسية رديئة، وضرب في ذلك مثالاً بأفعال الكتابة وكلما واظب أحدهم على تلك الأفعال ازدادت هيئته النفسانية نقصًا، فتصير أنفسهم ،مرضى ويصورهم الفارابي هنا بالمرضى؛ ليؤكد على أن حالتهم هنا نفسانية من الدرجة الأولى، فإنهم ربما يستلذون بالهيئات التي يستفيدونها بتلك الأفعال، كما أن مرضى الأبدان مثل كثير من المحمومين يستلذون بالأشياء التي ليس شأنها أن يلتذ بها من الطعوم، ويتأذى بالأشياء التي من شأنها أن تكون لذيذة، «كذلك مرضى الأنفس - بفساد تخيلهم الذي اكتسبوه بالإرادة والعادة - يستلذون الهيئات الردية والأفعال الردية، ويتأذون بالأشياء الجميلة الفاضلة، أو لا يتخيلونها أصلاً».(2)

ولكن يفهم من مثال الفارابي هنا أمر قد يكون ليس هناك ما يؤيده أو يدلل عليه، ولكن يبقى على كل حال فرضًا مطروحًا قد تثبت صحته أو فساده، وهذا الأمر مؤداه: هل يقصد الفارابي هنا أن هناك عقلاً جمعيًا يفرض على أهل المدن أمرًا أخلاقيًا - أو بشيء من الدقة - اتجاها أخلاقيًا معينًا ؟ إن مثال الفارابي هنا يدعو إلى شيء من هذا؛ لأنه يفترض أن أهل المدن إذا كانت أخلاقهم رديئة فإنها تكسب النفوس هيئات نفسانية رديئة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ودون تكلف، وكلما ازدادت هذه الأخلاق فسادًا ازدادت الهيئات فسادًا، فأنتجت بالتبعية جيلاً فاسدًا أخلاقيًا، ومما قد يقوي ذلك الزعم ما نجده عند الفارابي من تقسيم شائع للمدن ينحصر في مدن فاضلة، ومدن جاهلة ضالة، وأخلاق أهل المدن الفاضلة أخلاق فاضلة، وأفعالهم جميلة، وتتماشى مع شروط الفعل الخلقي، أما أخلاق أهل المدن الجاهلة فهي

ص: 27


1- انظر التنبيه على سبيل السعادة ص 237
2- آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 97 .98

أخلاق فاسدة وأفعالهم قبيحة لا تتوافر فيها شروط الفعل الخلقي الفاضل.

ومما يقوي هذا الفرض مجموعة من الأمور:

الأول انتصار الفارابي لفكرته القائمة على أساس أن اعتياد أهل المدن الجاهلة على الأفعال القبيحة أصابهم بما يشبه المرض النفسي وعلى أساس أن اعتياد أهل المدن الفاضلة على الأفعال الجميلة أقرهم على صحتهم النفسية المعتدلة؛ إذ يذهب إلى أن من أهل المدن الأولى من لا يشعر بعلته أو بمرضه(1)، وقد أكد أحد الباحثين على موقف الفارابي هذا عندما ذهب إلى أن الحالات الباتولوجية - الحالات المرضية نسبة إلى المرض - ليست من تلك الآثار الجسدية على النفس التي تستطيع وسائل التربية والعادة إلى نقضها أو مقاومتها سبيلاً(2).

الثاني، أن الفارابي يذهب في أكثر من موضع إلى تقسيم المدن تقسيما فيه بعض شبه بما يوجد عند إخوان الصفا الذين قسموا الناس إلى أهل جنة وأهل نار، فالفارابي يقسم الناس إلى أهل مدن فاضلة وأهل مدن جاهلة ومما يقوي وجهة النظر القائلة بوجود ما يسمى بالعقل الجمعي عند الفارابي ذهابه إلى أن أهل المدن الفاضلة تبقى أنفسهم غير مستكملة، بل محتاجة في قوامها إلى مادة، والمادة التي يقصدها الفارابي هنا - في التحليل الأخير - هي مجموعة الأخلاط التي يكون عنها الإنسان(3)، وكأن الفارابي يوحي لنا بأن أهل المدن الفاضلة اتفقوا فيما بينهم - ولو نفسيا - على اتجاهات أخلاقية معينة؛ نتيجة ما تكون لهم من عقلهم الجمعي، هذه التوجهات في مجملها تدعوهم إلى التمسك بكل ما هو مادي ونفعي في حياتهم، ونبذ كل ما هو روحي وفيه سمو روحي لهم ولمدنهم؛ تحقيقا لملذاتهم الشخصية ورغباتهم النفعية في حين أن أهل المدن الفاضلة لديهم عقلهم الجمعي الذي تكون نتيجة الهيئات النفسانية التي اكتسبوها من آراء أسلافهم(4). وإن كان هناك من يرى أنه لا

ص: 28


1- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 98.
2- انظر د. منصور علي رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 132.
3- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 99.
4- انظر السابق، ص 99.

سبيل لنقل الحكمة المكتسبة إلى الأجيال الناشئة، رادًا الأمر إلى أن لكل جيل حكمته الخاصة ، ولكل فرد موقفه الذاتي في اكتشاف شروط توازنه .(1)

الثالث، أن الفارابي يؤكد على أن أهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة يعلمونها ويفعلونها، وأشياء أخرى من علم وعمل تخص كل رتبة وكل واحد منهم، ويصير أهل هذه المدن في حد السعادة بالمشترك الذي بينهم .

ولكن العقل الجمعي الذي أقصده عند الفارابي هنا ليس إذن على شاكلة ما نجده عند بعض أعلام الفكر الغربي الذين جعلوا القول بالعقل الجمعي نقطة انطلاق للقول بالدين العالمي بدعوى إزالة الفوارق بين البشر، وإنما العقل الجمعي عند الفارابي يستمد أسسه ومبادئه من تعارف الجماعة على أسس وقواعد تتوارثها الأجيال عن الأسلاف؛ ولذا كانت الجماعة البشرية مجتمعة على أن الأخلاق الفاضلة خير، وأن الأخلاق القبيحة شر، فالعقل الجمعي هنا يختلف عن العقل الجمعي هناك.

ونستطيع أن نفهم إذن أن الإنسان في المدينة الفاضلة بقدر تحصيله للأفعال الجميلة والاستدامة عليها تزداد هيئته حسنًا وأخلاقًا وترتبط الأعمال والأفعال الجميلة في المدينة الفاضلة بالتقسيمات الاجتماعية حينًا، وبالأدوار والمسئوليات الموزعة على أهلها حينًا آخر عند الفارابي ؛ ذلك أن كل إنسان في مدينته إذا فعل الأدوار والمسئوليات الموكولة إليه من علم وعمل أكسبته أفعاله هيئة نفسانية جيدة فاضلة، فإذا داوم عليها أكثر صارت هيئته أقوى وأفضل، وتزايدت قوتها وفضيلتها، وتلك حال الأفعال التي ينال بها السعادة عند الفارابي.(2) وموقف الفارابي هنا تأكيد واضح لما ذهب إليه أرسطو في حديثه عن العادة وأثرها في تكوين الفضيلة(3) ومن ثم يقول الأخير تأكيدًا على هذا المنزع: «إن الإنسان يصير عادلاً بإتيانه أفعالاً عادلة، ومعتدلاً بإتيانه أفعالاً معتدلة، وأنه إذا كان الإنسان لا يمارس البتة أفعالاً

ص: 29


1- انظر د. مصطفى عبده، فلسفة الأخلاق
2- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 93، 94.
3- انظر أرسطو، علم الأخلاق الى نيقوماخوس، ج1 ص 232.

الجنس، فمن المحال - أيا كان - أن يصير ألبتة فاضلاً».(1) ويقول في موضع آخر: «إذا كانت الفضائل ليست انفعالات ولا خواصا فيبقى أن تكون عادات أو ملكات» (2).

ويبني الفارابي عملية اكتساب الأخلاق على أساس معرفي، وتظهر وجهته لبناء نسق أخلاقي معرفي في إلحاحه على وجوب إحصاء الأخلاق خلقا خلقا لمن أراد أن يكتسب، أو ينتقي الأخلاق الجميلة، ثم يحصي الأخلاق الكائنة عن خلق، ثم تأتي مرحلة التأمل والنظر والتفكر في هذه الأفعال وتلك الأخلاق؛ ليختار لنفسه خلقا قد يجد نفسه عليه، ثم لينظر هل هذا الخلق الذي اتفق له من أول أمره جميل أم قبيح، وسبيل الإنسان في هذا أن يتأمل ذلك، وينظر أي فعل إذا فعله لحقه من ورائه لذة، وأي فعل إذا فعله لم يلحقه من ورائه أذى، فإذا وقف على هذا الأمر نظر إلى هذا الفعل هل هو فعل يصدر عن الخلق الجميل ، أم صادر عن الخلق القبيح؟ فإن كان ذلك عن خلق جميل، حكم عليه بأن له خلقًا جميلاً، وإن كان ذلك عن خلق قبيح، حكم عليه بأن له خلقا قبيحًا.(3) فبهذا نقف على الخلق الذي نصادف أنفسنا عليه أيًا كان هذا الخلق «كذلك متی صادفنا أنفسنا على خلق جميل احتلنا في حفظه علينا، ومتى صادفناها على خلق قبيح الحيلة في إزالته، فإن الخلق القبيح هو سقم نفساني، فينبغي أن يحتذى في إزالة أسقام النفس حذو الطبيب في إزالة أسقام البدن».(4) وهذا ما ذهب إليه أرسطو عندما عد الذين يأتون الأفعال المعتدلة المتوسطة ويمارسونها بالفضلاء أصحاء النفوس، في حين صور الذين لا يمارسون هذه الأفعال المعتدلة بالمرضى، «وذلك على التقريب هو ما يفعله أولئك المرضى الذين يستمعون بعناية للأطباء، ولكن لا يفعلون شيئًا مما يؤمرون، كما أن هؤلاء لا يكادون يكونون أصحاء الأجسام بأن يعالجوها على هذه الطريقة، كذلك الآخرون لن يكونوا أصحاء النفوس بأن يفلسفوا هذه الطريقة».(5) ففكرة ربط الاعتدال في الأفعال بالصحة النفسية، وفكرة ربط عدم

ص: 30


1- أرسطو، السابق، ج 1 ص 239.
2- أرسطو، السابق، ج 1 ص 242
3- انظر التنبيه على سبيل السعادة، ص 244
4- السابق، ص 244
5- أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج 1 ص 239.

الاعتدال في الأفعال بالمرض النفسي حد مشترك بين أرسطو والفارابي.

ومرحلة الاكتساب عند الفارابي تمر بعدة مراحل فرعية من شأن كل واحدة منها أن تمكن للمرحلة الفرعية السابقة عليها وتثبتها وهذه الأخلاق المكتسبة الجديدة اعتيادية، ثم بمرور الوقت والمداومة على اكتساب أخلاق ثالثة تصير هذه بمنزلة السابقة عليها طبيعية، وذلك باعتبار الأخلاق الأخيرة المكتسبة (1)ومن ثم نفهم أن كل مرحلة من مراحل اكتساب الأخلاق لها مجموعة من المميزات:

الأولى، أن المرحلة الأولى في الاكتساب أساس للثانية، والثانية أساس للثالثة.

الثانية، أن المرحلة الثالثة في الاكتساب تجعل الثانية السابقة عليها تصير كالطبيعية، فلا تكلف فيها ولا تصنع، والمرحلة الثانية تجعل الأولى تصير طبيعية دون تكلف أو اصطناع أيضًا.

الثالثة، أن حياة الإنسان مرحلة اكتساب دائم لا يتوقف إلا إذا أراد الإنسان لنفسه أن يحيا على اتجاه أخلاقي واحد يتمسك به ويطبقه، بيد أنه حتى في هذا الاتجاه الواحد الأخلاقي لا يتوقف عن أن يكتسب في داخله أخلاقا جديدة تعضد وتقوي من الأخلاق الأولى عنده.

ولكن هذا لم يمنع الفارابي من أن يقبل بنوع من الفضيلة الطبعية الناتجة عن الفطرة ولكن على نوع خاص جدًا لا يقدح في فكرته الأساسية التي ترى أن الاكتساب هو الرافد الأساسي للأخلاق الفاضلة، ومن ثم فهو لا يمنع أن يكون كل إنسان مفطورًا على أن تكون قوة نفسه في أن يتحرك إلى فعل فضيلة ما من الفضائل أو ملكة ما من الملكات وتكون أسهل عليه من فعل الضد، فالإنسان على هذا يتحرك إلى حيث تكون الحركة عليه أسهل، إن لم يقسر على شيء آخر غيرها(2) . وهذا ما نجد له شبهاً

ص: 31


1- انظر الجمع بين رأيي الحكيمين، ص 18
2- انظر تحصيل السعادة (الفارابي الأعمال الفلسفية) تحقيق وتقديم وتعليق د جعفر آل ياسين، ط دار المناهل بيروت، لبنان، الأولى، 1413ه - 1992م ص ،162 ، وانظر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق د، محسن مهدي، ط دار ،المشرق، بيروت، من دون. ص 40

عند الراغب الأصفهاني الذي ذهب إلى أن الناس في غرائزهم مختلفون من حيث أن بعضهم جبل على سرعة قبول فعل ما وبعضهم جبل على البطء في قبوله له،

وبعضهم جبل على أن يكون في موقف وسط بين السرعة والقبول.(1)

ولعل الفارابي هنا يكتنف رأيه بعض الإشكاليات حول دور الطبع، وأقول إشكاليات؛ لأن الفارابي أفسح مجالاً لما يسمى بأخلاق ،الطبع، بيد أن تلك الإشكالية لا تمثل سوى لبس بسيط لو أزيل عنه ما يكتنفه لعلمنا أن الفارابي إنما يقول شيئًا واحدا لا تناقض فيه. فالفارابي يزيد شيئًا هنا عن فكرته عن الطبع، فهو يرى أن الإنسان قد يولد ولديه ميول أكبر إلى فعل أحد الضدين دون الآخر، بمعنى أن الإنسان يمتلك - لا محالة - استعدادًا فطريًا لفعل الضدين، غير أنه من الممكن أن يكون هناك إنسان ما مفطورًا مثلاً على الشجاعة أو المكر أو غيرهما من الصفات من خلال أن استعداداته الفطرية أميل إلى أحدهما مع إمكانية فعل ضده، وهو ما يمكن تسميته بالموجود بالقوة الذي هو عند الفارابي معد لأن يحصل بالفعل(2) ، وهذا لا يعد فضيلة أخلاقية عنده إلا بإرادة واختيار وكثرة استعمال تتحول إلى هيئة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ودون تكلف؛ إذ الملكة الإرادية عنده إذا تمكنت يعسر زوالها(3). وهذا هو السبب الذي من أجله عد الشرور - وهي عنده غير موافقة للسنننوعين: نوعًا بإرادة وروية، ونوعًا بالطبع من غير روية(4)، وهذا النوع الثاني ليس إلا نتيجة ميل النفس إليه، غير أن الإنسان بالدربة والعادة عليه صار اكتسابًا له.

ص: 32


1- انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 51.
2- انظركتاب الحروف تحقيق د محسن مهدي ط دار المشرق، بيروت، ص 119
3- انظر الفارابي قاطيغورياس / المقولات مجلة المورد العراقية، المجلد الرابع العدد الثالث، 1975م ص 153
4- انظر الفارابي تلخيص نواميس أفلاطون، ص 81

المعتزلة .. مقاربةٌ في التّراث العقلي والأخلاقي

البعد الأخلاقي والعقل العملي

الباحث: نبيل علي صالح(1)

مقدمة

تعاني المكتبةُ العربية عموماً من نقص كبير في نوعية الكتب والدراسات الشاملة والتحليلية النقدية الخاصة بمنظومات القيم الأخلاقية والتراث الأخلاقي في الثقافة العربية والإسلامية الراهنة، وفي مجمل تاريخ الفكر الأخلاقي في تراثنا الإسلامي. ولا يمكن اعتبار مجرد وجود كلمات ومواعظ أخلاقية عامة، حالة فكرية معيارية مستقلة كعلم قائم بذاته. حيث تحفلُ كثير من كتب التراث بروايات وأحاديث ومواقف تدور حول سلوكيات الناس في يومياتها ومعايشها وعلاقاتها الخاصة والعامة، التي تعكس واقعها القيمي الأخلاقي الحقيقي الذي تختلط فيه قيم الدين بعادات الناس وتقاليدها الموروثة التي باتت بحد ذاتها قيمةً حاكمة على العقول والنفوس.

ولولا بعض الكتب القليلة المتناثرة هنا وهناك والجهود الفكرية الكلامية التي قامت بها فرق وتيارات واتجاهات دينية كالمعتزلة، لكانَ الأصرح أن نقول بوجود فراغ حاد - وربما حالة انعدام- لهذا الاتجاه البنائي التخصصي في بنية الفكر الإسلامي لجهة المؤسسة والتنظير المعرفي، مع أنّ محور هذا الدّين وجوهر دعوته الرسالية السمحاء قام وانبني على موضوعة القيم والأخلاق والفضائل الأخلاقية كركيزة أساسية لبناء الفرد المسلم على طريق كماله الممكن له، معنوياً ومادياً.

وهذا الكمال الروحي لا ينطلق ولا يتفجر في الذات من دون قوة محركة نفسية قيمية، هي الفضائل الأخلاقية الإنسانية، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ المسلمين

ص: 33


1- كاتب وباحث في الفكر الإسلامي، سوري البحث يقوم على مقاربة تحليلية حول المعتزلة والتراث الأخلاقي في الإسلام، حيث اصل المفهوم لغة واصطلاح ثم تناول حضور السؤال الأخلاقي ومصدره في الفكر المعتزلي. المحرر

لم يعتنوا بهذا المجال القيمي، أو لم يكتبوا كلياً في عصورهم السابقة حول موضوعة الأخلاق، بالعكس، سيجد أي متابع للكتابات الأخلاقية في تراث المسلمين، الاهتمام الكبير بعلم الأخلاق، وسيلحظ واقعاً الحديث عن الفضائل والرذائل وما سواها من مفردات السلوك الأخلاقي، وقوى النفس وطريقة علاج الملكات السلبية، وتنمية الملكات الإيجابية. وقد كُتبتْ في ذلك موسوعات كبيرة كمثل كتاب «إحياء علوم الدين للغزالي» (1058 - 1111) م ، وكتاب «المحجّة البيضاء» للفيض الكاشاني (1598- 1680)م ، وجامع السعادات للنراقي (1716-1794)م ..

أما الحديث عن أسس الأخلاق ومعاييرها، كمنهجية فكرية مدرسية نقدية، فلا يجد أي اهتمام أو أنهم تناولوه بشكل عرضي ومبتسر ومبثوث في علوم الكلام والأخلاق وأصول الفقه بما يعني أنه توجد هناك جوانب مضيئة، على هذا الصعيد، تمثلت في أبحاث المدرسة الكلامية العقلية (العدليّة)، في تناول أصحابها البحث في الحسن والقبح العقليين، وما فرّعوا عليه من مسائل متعددة، وقد هدفوا فيما أقدموا عليه بيان الأساس العقلي للأحكام الخُلقية.(1)

ولا ننسى أيضاً وجود باب حيوي ومصدر غني وواسع لموضوعة الأخلاق الإسلام، وهو باب الدعاء والمناجاة وتربية النفس على الفضائل والقيم الروحية، والارتباط بالله تعالى وقيم التقوى والصلاح والتكامل النفسي، حيث تأتي أدعية وأحاديث أهل البيت علیهم السلام (وخاصة في كتاب نهج البلاغة وكلماته المعنية بالمسائل الأخلاقية) وتراث الإمام علي زين العابدين علیه السلام في كتابه «الصحيفة السجادية» المسماة «زبور آل محمد»، وأيضاً رسالته في الحقوق (رسالة الحقوق)، تأتي كلها على رأس تلك المواقع الأصيلة والراسخة والغنية التي يمكن عدّها من أهم منطلقات بناء (وتمكين) أسس (وأصول) الفكر الأخلاقي والقيم الرسالية الأخلاقية بين المسلمين ، التي أضحت لاحقاً مرتعاً خصباً ومرجعاً نوعياً قيمياً مهماً للمعارف الروحية الأخلاقية في تاريخ الإسلام والمسلمين، حتى باتت من أهم مراجع المسألة الأخلاقية في الفكر الإسلامي الشيعي.

ص: 34


1- مازن المطوري. فلسفة الأخلاق الماهية الضرورة، الأهداف». معهد المعارف الحكمية، لبنان بيروت. الرابط: http://maarefhekmiya.org/8081

وأيضاً، ليست أفكار علماء ومفكرين معروفين في التاريخ العربي والإسلامي ک «مسكويه» أو «أبي حيان التوحيدي» أو الأفكار والأحاديث الأخلاقية كثيرة جداً المبثوثة (والمنثورة) في مختلف كتب التراث الإسلامي، أو المدرسة العدلية الاعتزالية، ليست هي وحدها ما يمثل الفكر الأخلاقي في التراث الإسلامي الوسيط، بل إن هذا الفكر مبثوثُ أيضاً في الموروث الفقهي والأصولي والأدبي وأدب الرقائق والروحانيات(1).

وفي هذا المبحث المخصص لدرس «المدونة الأخلاقية»، عند تيار كلامي وفكري إسلامي مهم ومؤثر هو تيار المعتزلة، سنحاول توثيق تلك الجهود الفكرية والكلامية المتراكمة لهذه المدرسة العقلية، وتحليل رؤيتهم للمسألة الأخلاقية ومجمل التفكير الأخلاقي الديني، على مستوى النصوص والأفكار والصياغات الكلامية التي اعتمدوا فيها على التحليل العقلي.

المبحث الأول: الأخلاق والعقل والتراث في اللغة والاصطلاح

أولاً- معنى الأخلاق واصطلاحها النظري والعملي:

بتحليل كلمة «خُلُق» أو «خُلق» (بضم الخاء، ثم بتسكينها)، نجد أنها مكونة من حروف ثلاثة، وردت في كل المعاجم والقواميس اللغوية العربية في مادة «خ.ل.ق»، التي تأتي مفتوحة الأول أو مضمومة؛ فإذا كانت مفتوحة الأول «خَلق» دلّت على التقدير والإبداع ؛ وإذا جاءت مضمومة «خُلق» دلّت على السجية والطبع.

وقد ذكر حب اللسان بأن: «.. الخُلُق : بضم اللام وسكونها، وهو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصّة بها، بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة،

ص: 35


1- هناك تراث واسع من الأحاديث جُمع في كتب ومدونات تاريخية كثيرة مثل كتاب «سفينة البحار» للمجلسي، والكتب التي تتحدث عن «الآداب والسنن والسير والسلوك»، التي كتب فيها كثير من علماء الشيعة نصوصاً أخلاقية وعرفانية وأفكار صوفية حول السلوك الأخلاقي والرقي العرفاني شرحوا من خلالها أحاديث كثيرة عن آل البيت(ع). وقد ذكرت تلك الكتب والشخصيات في تصانيف العلامة الطهراني.

والثواب والعقاب يتعلَّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة؛ ولهذا تكرّرت الأحاديث في مَدْح حُسْن الخُلُق في غير موضع»(1).

وقال الفيروز آبادي: «الخُلق : بالضم ، وبضمتين: السّجية والطبع، والمروءة والدين» (2).

وقال صاحب «الصحاح»: «الخلق : التقدير . يقال: خلقت الأديم إذا قدرته قبل القطع . والخليقة ،الطبيعة، والجمع الخلائق والخلقة بالكسر : الفطرة ورجل خليق ومختلق أي تام الخلق معتدل وفلان خليق بكذا، أي جدير به. وقد خلق لذلك بالضم ، كأنه ممن يقدر فيه ذلك، وترى فيه مخائله. وهذا مخلقة لذلك، أي مجدرة له .... والخلوق : ضرب من الطيب. وقد خلقته، أي طليته بالخُلوق، فتخلّق به».(3)

أما المعنى الاصطلاحي لكلمة الأخلاق:

أو لمفردة الخُلُق، فيعني - من جملة ما يعني - السلوك والفعل الذي يقوم به (ويسلكه) الإنسان في حياته الخاصة والعامة بلا ضغوط ولا قسر أي يصدر عنه بطريقة عفوية وتلقائية، (بأريحية)، وبلا تكلُّف أو تصنُّع، وبهذا يصح نسبته إليه، فيقال فلان كريم أو شجاع أو حليم، من دون النظر إلى بعض الحالات النادرة، التي تصدر من الشخص وتكون مخالفة لتلك الصفات كغضب الحليم، وجبن الشجاع، وبخل الكريم. ويعرفُ الخُلق بكونه صفة نفسية وليس شيئاً خارجياً، أما المظهر الخارجي للخلق فيسمى السلوك أو المعاملة ، والسلوك دليل الخُلق ومظهره ، فإذا رأينا معطياً يعطي باستمرار في الظروف المتشابهة استدللنا من ذلك على وجود خلق الكرم عنده (4).

وفي تعريف آخر للأخلاق، ومفردها «الخُلق»، هو الدين والطبع والسجية. أي الصورة الباطنية للإنسان، كما أنَّ «الخَلق» بالفتح عبارة عن الصورة الظاهرية للإنسان،

ص: 36


1- ابن منظور، لسان العرب. دار صادر للنشر، لبنان بيروت، طبعة عام 2003م الجزء: 10، ص: 86-87
2- الفيروز آبادي «القاموس المحيط» دار الفكر لبنان بيروت، ص: 793.
3- إسماعيل بن حماد الجوهري . «تاج اللغة وصحاح العربية» تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين لبنان بيروت، ط 4 ، 1987م ، ج 4، ص: 1470-1472.
4- عبد العزيز أحمد . مباحث في نظريات الأخلاق» . دار الفكر العربي مصر / القاهرة، طبعة عام 1965م، ص: 63-64.

فعند ما يقال: «فلان حسن الخَلق والخُلق» المراد أنّه حسن الظاهر والباطن. وهذه الصورة الباطنية يظهر جمالها أو قبحها من خلال صدور الأفعال عنها، فإن كانت الأفعال الصادرة عن تلك الهيئة أفعالا محمودة وحسنة عقلاً وممدوحة وراجحة شرعاً، سمّيت تلك الهيئة «خلقاً حسناً»، وإن كان الصادر عنها أفعالاً ذميمة وقبيحة شرعاً أو عقلاً سمّيت «خلقاً سيئاً».(1)

وأما عند علماء المسلمين، فالأخلاق، تكيف النفس، وردّها إلى ما رسمته الشريعة، وخطّه رجالُ المكاشفة من كبار الإسلام، ومن سبقهم من الأنبياء والمرسلين.(2) أي إن معنى الأخلاق في الدين والشريعة (لدى علماء الدين)، يقوم على قاعدة الدين ذاته، بما يعني أنّ الإسلام هو جذر الأخلاق وأساسها المتين في مدونة السلوك الأخلاقي للفرد المسلم وعند النظر والاستقراء لنصوص الشارع يمكن أن نجد أنّ الاستخدام الشرعي للفظ «الخُلُق»، لا يختلف كثيراً عن الوضع اللغوي لهذه الكلمة. فقد جاءت كلمة الخُلُق في القرآن في موضعين الأول، في قوله تعالى على لسان قوم :هود: «إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ» (سورة الشعراء 137) . أي ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين يُلفّقون مثْلَه ويدعون إليه، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها، أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدَّمونا من الآباء وغيرهم.(3) فخُلُق الأولين هنا بمعنى دينهم وعادتهم وأخلاقهم ومذهبهم. والموضع الثاني، في قوله تعالى مخاطباً النبي الكريم محمد صلی الله علیه و آله وسلم : «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (سورة القلم : 4). أي إنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه به، وهو الإسلام وشرائعه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل والخلق العظيم هنا كما في رأي كثير من المفسرين هو الإسلام، بقيمه وأخلاقياته.(4) وهي هنا آداب الله وأخلاق الشريعة السمحاء.

ص: 37


1- عبد الله شبر «الأخلاق». الناشر: ذوي القربي إيران قم، الطبعة الأولى لعام 2007م، ص: 25.
2- زكي مبارك . الأخلاق عند الغزالي مطبعة الرحمانية، مصر القاهرة، طبعة عام 1977م، ص: 160.
3- الألوسي. «روح المعاني». دار الكتب العلمية، لبنان بيروت، طبعة عام 1994م، المجلد: 11، ص: 167
4- محمد بن جرير الطبري جامع البيان في تأويل القرآن تفسير الطبري“. مؤسسة الرسالة، لبنان بيروت، طبعة عام 2000م، المجلد: 29 ص: 24-25 .

وعند الحديث عن الأخلاق يجب التمييز الفكري والمنهجي بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية، فالنظرية منها تعني مجموعة الأسس والمعايير والمبادئ والنظريات التي يتقوّم بها، ويتأسس عليها السلوك الإنساني، والعملية منها تعني البحث في التطبيقات والنماذج العملية لهذا السلوك داخل كيان عيني ونموذج عملي محدد. والسلوك هو دليل الخُلق ومظهره وفعله الخارجي.(1)

وأما علم الأخلاق فكل التعاريف التي قيلت حوله ، أجمعت على أنه العلم الذي يبحث في أصل الفضائل والرذائل التي يعيشها الإنسان بإرادته واختياره، في حركته الواقعية الإنسانية، وذلك بهدف تحديد أخلاق الحق والفضيلة للتحلي بها والالتزام بمعاييرها، وتحديد قيم الرذيلة ومعانيها للتخلي عنها وتركها. ويعرف العلامة الطباطبائي (رض) هذا العلم بأنه «الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والإنسانية، ليميّز الفضائل من الرذائل، ليستكمل الإنسان بالتحلي والاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد التام والثناء الجميل من المجتمع الإنساني».(2)

ثانياً: معنى العقل النظري والعملي

تباينت آراء المفكرين والعلماء - من مختلف الاتجاهات الفكرية والمشارب الأيديولوجية والمواقع العلمية - في تحديد معنى واحد ومحدد لمفردة «العقل»، واختلفوا حول ماهيته وطبيعته وجوهره وبنيته. فقد قال بعضهم، إنّ العقل ما هو إلا فعالية ذهنية بشرية مركوزة داخل الدماغ البشري (بالمعنى المادي العضوي)، يقوم بها (هذا الدماغ) في مستويات متقدّمة من التفكير العضوي. وقال بعضهم الآخر، إن العقل فعالية روحيّة لا علاقة للمادة بها إلا من حيث تهيئة الأجواء والمقدمات المادية الأولى للحصول على آلية التفكير، ومن ثمَّ لتكون محل اشتغال العقل بالمعنى الروحي لاحقاً.

ص: 38


1- عبد العزيز أحمد . «مباحث في نظريات الأخلاق» . دار الفكر العربي مصر عابدين طبعة عام 1965م، ص: 63-64.
2- محمد حسين الطباطبائي. «الميزان في تفسير القرآن». مؤسسة المجتبى للمطبوعات، إيران/قم، ط: 1، عام 2004م، ج: 1، ص : 268.

والعقل - عند الحكماء - عقلان، عقل الطبع وعقل التجربة(1). عقل الفكر (النظري)، وعقل الفعل (العملي). فالأول (العقل النظري هو الذي به يحوز الإنسان علم ما ليس من شأنه ذلك العلم أن يعمله والثاني هو الذي يعرف به ما الذي يعرف به ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته. وظاهر هذه العبارة أنّ هنا عقلين أحدهما نظري والآخر عملي ولكنّه خلاف التحقيق، بل الظاهر أنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدركات من حيث أنّ المدرك من قبيل أن يُعلَم، أو من قبيل ما ينبغي أن يؤتى به لا يؤتى به، فالأول هو العقل النظري والثاني هو العقل العملي. وعلى ضوء ذلك فالنظري والعملي وجهان لعملة واحدة لا يختلفان جوهراً وذاتاً، فإن كان المدرك مما ينبغي أن يعلم فيسمى المدرك عقلاً نظرياً، وإن كان المدرك مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، فالمدرك هو العقل العملي.(2)

وبشكل أكثر وضوح يمكن القول بأن العقل العملي في الفلسفة هو استخدام العقل لاتخاذ قرار بشأن كيفية التصرّف. بإزاء العقل النظري أو العقل الخالص، هو استخدام العقل لتحديد ما الذي سيحصل. فعلى سبيل المثال، يستخدمُ الناسُ العقل العملي لاتخاذ قرار بشأن ما إذا كان ينبغي بناء تلسكوب، في حين يُستخدم العقل النظري لتحديد أيّ نظريات الضوء والبصريات هي الأفضل. ويذهب الرأي الأوّل إلى أنّ العقل هو مبدأ الإدراك، ولا يوجد في هذا الصدد أي فارق بين العقل النظري والعقل العملي، وإنما يكمن الفارق في الهدف والغاية ونقطة الوصول؛ فإذا كان الهدف من إدراك الشيء هو معرفته لا العمل به، يُسمّى مبدأ الإدراك حينئذ بالعقل النظري من قبيل إدراك حقائق الوجود، أمّا إذا كان الهدف من الإدراك هو العمل فيسمى مبدأ الإدراك عند ذاك بالعقل العملي، من قبيل معرفة حسن العدل وقبح الجور، وحسن الصبر وقبح الجزع، وحسن الفضائل عموماً وقبح الرزائل، وما إلى ذلك. وقد نُسب هذا الرأي إلى مشاهير الفلاسفة، ويمثل العقل العملي - وفقاً لهذا الرأي - مبدأ للإدراك وليس كمحفّز أو دافع. ويذهب الرأي الثاني إلى القول بأنّ

ص: 39


1- في إشارة إلى حديث الإمام علي (عليه السلام) «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة وكلاهما يؤدي إلى المنفعة، والموثوق به صاحب العقل والدين ......» (راجع «مطالب السؤول» 49 سفينة البحار، الجزء: 78، ص: 6).
2- جعفر السبحاني مفاهيم القرآن“. مؤسسة التاريخ العربي لبنان بيروت، طبعة أولى عام 2010م، ج 6، ص: 181.

التفاوت بين العقل النظري والعقل العملي تفاوت في الجوهر؛ أي في طبيعة الأداء الوظيفي لكلّ منهما ؛ فالعقل النظري هو عبارة عن مبدأ الإدراك سواء كان الهدف من الإدراك هو المعرفة أم العمل، والعقل العملي مبدأ للدوافع والمحفّزات لا الإدراك، ومهمة العقل العملي هي تنفيذ مدركات العقل النظري. وأوّل من قال بهذا الرأي على الأشهر - هو ابن سينا ، ومن بعده قطب الدين(1).

ويعود الفرق بين العقلين إلى تفاوت المدركات. فإذا كانت المدركات من الأمور النظرية التي لا صلة لها بالعمل والفعل ، سُمّي العقل عقلاً نظرياً. وإذا كانت المدركات

من الأمور العملية التي «ينبغي» أو «لا ينبغي» أن تفعل، سُمّي العقل عقلا عملياً(2).

ثالثاً - معنى التراث وأقسامه:

التراث، اسم. وهو يعني في اللغة، الإرث، (وتراث الأمة)، ما له قيم باقية من عادات وآداب وعلوم وفنون، وينتقل من جيل إلى جيل كالتراث الإسلامي والتراث الأدبي.. وغيرها.. وهو يأتي أيضاً بمعنى ما يخلفه الميت لورثته. وفي السياق «اللغوي - التاريخي» هو كل ما خلفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادية كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضارية المنتقلة جيلاً بعد جيل، مما يعد نفيساً بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه التراث الإسلامي /الثَّقافي/ الشعبي.(3)

والتراث كمصطلح في المعرفة الإسلامية، يتسع لكل ما له علاقة بالإسلام من نصوص القرآن والسنة النبوية وأحاديث آل البيت علیهم السلام واجتهادات العلماء السابقين وآرائهم و اعتقاداتهم التأويلية في فهم هذه النصوص، والعمل على تطبيقها في حياة الناس التي تلتزمها حتى باتت تشكل هوية للمسلمين بأنظمة معنى ومحددات فكرية وعقدية ثابتة. ويقسم التراث إلى قسمين، الأول (التراث المقدس)، وهو القرآن الكريم النازل وحياً على الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم ، والأحاديث

ص: 40


1- محمد الرّيشهري . «موسوعة العقائد الإسلامية»، دار الحديث للطباعة والنشر، قم /إيران ، طبعة ثالثة عام 2008م المجلد 1، ص: 480-481
2- محمد حمود العاملي. الفوائد البهية . الجزء: 1، ص: 282-284
3- ابن منظور . لسان العرب». مصدر سابق ص: 195.

الصحيحة التي رويت عنه صلی الله علیه و آله وسلم و عن آل بيته الطاهرين علیهم السلام . (والثاني) هو التراث غير المقدس (النسبي) (التراث المشروح) الذي صدر عن العلماء والمفسرين والمجتهدين، وشرحوا من خلاله معاني ومقاصد آيات القرآن، ونصوص الأحاديث الشريفة، وهذا التراث المنقول (أحاديث وشروحات وتفسيرات وغيرها) خضع أصحابه لظروف عصورهم، ومؤثرات واقعهم الحياتي الذي عاشوه ذاتاً وموضوعاً، وانطبع في شعورهم ووعيهم، ومن ثم تدخل بوعي أو لا وعي منهم في كثير من مقولاتهم واجتهاداتهم وآرائهم النسبية غير المقدّسة.

المبحث الثاني

سؤال الأخلاق ومصدره وقيمته في الفكر المعتزلي

ظهرت أفكار المعتزلة في التاريخ الإسلامي في الفترة الزمنية التي أعقبت قيام ما اصطلح على تسميته ب__«الدولة الإسلامية الواحدة»، واستقرارها «السياسي- الاجتماعي» في مدى جغرافي واسع ضمّ بلداناً كثيرة من حدود الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً. وقد كان لهذه الحركة من التوسّع والفتح والامتداد الجغرافي، كثير من النتائج الإيجابية على صعيد الاحتكاك والتفاعل الحي الخلاق مع حضارات وثقافات مغايرة جديدة تميّزت برؤى (ومعارف ونظرات) معيّنة خاصة بها تجاه الكون والوجود والحياة والإنسان. ونجم عنه أيضاً عن هذا التفاعل) انتقال كثير من الطروحات والأفكار (التي لم تعرف في البيئة المعرفية الإسلامية) إلى صميم الفكر الإسلامي نقلاً أو ترجمة أو امتزاجاً.

وكانت قد برزت خلال هذه المرحلة في معترك هذه الأحداث السياسية والاجتماعية (التي تمحورت حول قضايا الصراع السياسي والأيديولوجي المغطّى بمسميات دينية، وحول ماهية كثير من القضايا والمسائل الفكرية والاجتماعية والأخلاقية التي انفتحت كأسئلة في ذهنية كثير من العلماء والمفكرين نتيجة هذا الاحتكاك مع الآخر) برزت تيارات فكرية ومذاهب كلامية وآراء فلسفية وعرفانية

ص: 41

مختلفة كثيرة، ادّعى كلّ منها قبضه على ناصية الحق وامتلاكه للحقيقة الربانية المقدّسة التي لا يعرفها غيره، وبدأ كلّ واحد منها يدعو الناس إلى قناعاته وأطروحاته ومبادئه ليكسب المزيد من الأتباع والأنصار والمريدين.

وفي خضم هذا الصراعات الفكرية والسجالات الكلامية، ظهر المعتزلة كمدرسة من تلك المدارس والتيارات الفكرية والفرق الدينية في بداية القرن الثاني الهجري تحديداً، في مدينة البصرة التي كانت آنذاك معقلاً من معاقل الفكر والمعرفة، ومجمعاً للعلم والأدب. وكانت أيضاً موضعاً يلتقي فيه أتباع الأديان المختلفة.(1)

تمكن المعتزلة من رسم طريق «فكري-كلامي» اجتهادي محدد ومضبوط يخصهم، فيما يتصل بإجاباتهم الفكرية والفلسفية على كثير من المسائل الدينية التي طرحت في وقتها سواء حول التوحيد والعدل والأخلاق والمحسن والمسيء، والحق والواجب، والحرية والاختيار وغيرها. وتمظهرت مقولات هذه الجماعة منهجياً، في أسس خمسة هي القول ب-: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما بالنسبة لأداة المعرفة التفكيرية التي اعتمدتها هذه المدرسة لبناء آرائها الكلامية وفلسفتها الأخلاقية، فقد قامت على ركيزة العقل، وضرورة اعتماده كمعيار أولي وقيمة ذاتية في كل ما يتعلق بشرح وتفسير كافة المسائل المرتبطة بالعقائد الإسلامية، ومجمل متعلقاتها بحركة الفرد المسلم في حركة الواقع.

بلغ لاتجاه العقلاني المعتزلي في فهم نصوص الكتاب والسنة، ذروته وأوجه في عهد الخليفة المأمون، لما أصبح الاعتزال المذهب الرسمي للدولة، في مواجهة الاتجاهات الأخرى القائمة على منطق الجبر الأشعري القاضي بأنّ الإنسان مسير وليس مخيراً. وقد شكّل هذا العصر مفصلاً ومنعطفاً مهماً في تاريخ الفكر الإسلامي من حيث بروز تيارات ذات نزعات إنسانية، حاولت الكشف عن الأصالة الإنسانية

ص: 42


1- يمكن لمن يريد التوسع والاستزادة مراجعة محمود مزرعة تاريخ الفرق الإسلامية، مصر القاهرة، دار المنار، طبعة: 1، عام 1991م.

في الدين الإسلامي، وعياً واجتهاداً، حيث كان من الممكن لها المساهمة الفاعلة ة في نهضة الحضارة الإسلامية وتقدمها الكبير، لو استمرت في دعوتها وعرض أفكارها ونشر أطروحاتها الإسلامية الإنسانية، لو ما كان من أمر مواجهتها وإسقاطها ورفضها من قبل أصحاب الفهم التقليدي للإسلام ممن كرّسوا وثبتوا في ذهنية الأمة ككل، هذا الفهم والوعي والممارسة الشكلية المحافظة للدين، التي قامت تاريخياً على منطق القسر والجبر والتبعية، ورفض الانفتاح وتقبل الآخر، ومواجهة كل تفكير اجتهاد عقلي حتى لو بني على أسس الإسلام ذاته.

ولكن رغم الصعوبات، فقد تمكن المعتزلة ولو جزئياً من بناء تفكير عقلاني شبه مستقل عن المألوف والسائد آنذاك، على مستوى تفسير النصوص وتأويلها، واستعانوا من أجل ذلك بالعقل معياراً رئيسياً كما قلنا، في الفهم والتأويل والتفسير، كما استخدموا مقولات الفلسفة وعلم الكلام في تليين (وتلطيف) كثير من تفاسير حقائق الدين المتصلبة، كما كانت معروفة في ذلك العهد، فكانوا بالفعل ورثة الفلاسفة في المرحلة الإسلامية، والأوائل والرواد في تعميق حرية التفكير في التاريخ العربي الإسلامي من خلال أفكارهم التي كانت تتمحور حول فكرة أن الإنسان هو غاية الوجود وهو صاحب الإرادة والاختيار، وأن أفعال العبد متوقفة على قدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار أي إنّ الإنسان حرّ في اختيار أفعاله.

إنّ هذه الفكرة - التي هي أساس التأصيل الأخلاقي عند المعتزلة - لم تأتِ من فراغ بل كان لها واقع فكري وسياسي مضاد، انطلق مما كانت تقوم به الدولة الأموية من توظيفات سياسية للمبدأ الجبري(1) الذي كانت تعتقد به فكراً، وتتبناه سياسةً عملية، وهو كان يحررها من التكليف والمسؤولية عن أفعالها وعما ارتكبته بحق الفرد والمجتمع، من انتهاك القيم الأخلاقية الإسلامية الإنسانية، إذ كان استسهال ارتكاب

ص: 43


1- نشير هنا إلى أن بروز (وانتعاش) الفكر الديني المحافظ المؤسس عند الإمام أحمد بن حنبل على فكرة الاعتقاد بعجز العقل، هو الخط والعنوان العريض الذي سيطر ، وما زال يسيطر على التاريخ الثقافي والعملي لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهو يركز على فكرة أن العقل ليست له أية قدرة أو فائدة أو جدوى في أمور العقيدة، وتحريم الجدل في الدين، كما وجود كم هائل من نصوص الدين (قرآناً وسنة) تُعلي من شأن العقل ومكانته وقدره، وتركز على أهميته ودوره النوعي، وعياً واجتهاداً وسيرورة حياة خاصة لجهة كونه رسولاً من الداخل، كما جاء في أحد أهم المرويات الوضاحة حوله.

الفواحش والموبقات أمراً متاحاً لها، أي القتل والقمع والدماء من أبرز العناوين والمشاهد المؤلمة التي صبغت تلك المرحلة التاريخية بلون الدم، وكلها أفعال غير أخلاقية وغير إنسانية كان يجري تبريرها بناءً على بعض النصوص والأفكار الدينية التقليدية، وخاصة فكرة أن الإنسان مجبور على أفعاله، ولا حرية له في أي سلوك أو فعل وسبب، بناءً على مبدأً القضاء والقدر. بينما كان الرأي المعتزلي مبدأ عقلياً يقوم على حرية الفرد في اختياره العملي بما يحمّل كل فرد وكل سلطة مسؤولية أفعاله وأفعالها، وبما يحرر قيم الدين أيضاً من أية استخدامات أيديولوجية قدرية وسياسية تنتهك بموجبها أبسط بديهيات حقوق الفرد ولهذه الفكرة علاقة بالعقل كذلك، إذ عَدَّ المعتزلة - امتداداً لرفض مقالة الجبر التاريخي - إشكالية العقل والنقل لا تُحَلَّ إلا بتأسيس الدين على العقل، أي بجعل العقل حكماً ومرجعاً في أمور الدين والعقيدة رافضين بذلك الاتجاه الذي يؤسس سلطة الدين على النص والنقل لا غير، كما هي حالة الأشاعرة وغيرهم من أتباع المنهج النقلي التقليدي الذي أسس لاحقاً لكثير من الأزمات والصراعات والاحترابات الأهلية الإسلامية.

انشغلَ المعتزلة بسؤال الأخلاق، الذي سبق له أنْ طُرح كثيراً في منظومة التفكير الفلسفي منذ أيام الإغريق، وكانوا متقدمين وجريئين في طرحه على مستوى القيمة والمبدأ، واختلفوا فيه عن الطرح القديم الذي كان يبحث عن جواب عما يجب أن يكون عليه الإنسان من حيث هو إنسان»، فطرحوا في مقابله سؤالهم الأخلاقي - إذا صح التعبير - حول ماذا يجب على الإنسان العاقل أن يفعله، من حيث هو مسؤول ومكلّف ؟ ! بيد أن أمر التكليف هذا، وكما هو وارد في صميم السؤال، لا ينصرف إلى التكليف الشرعي فحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن ، وإنما ينسحب أيضاً على التكليف العقلي، بحكم أنّ الإنسان مكلف بالعقليات - أو بالأحرى بالأخلاقيات - قبل إرسال الرسل والنبوات، ومن ثم؛ فإنّ الناس محجوجون بعقولهم سواء منهم من بلغه خبر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو من لم يبلغه!.. وتأكيداً على المنحى الأخلاقي في فلسفة المعتزلة، فقد ربطوا بين معرفة الله من جهة (باعتبار ذلك أوّل الواجبات التي يتعين على المكلف الإلمام بها) وواجب الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً أخلاقياً من جهة

ص: 44

أخرى. وتلك إذن هي نقطة التقاء الميتافيزيقيا بالأخلاق في فلسفة المعتزلة.(1)

يعتقد المعتزلة أنّ استحقاق الثواب هو غاية التكليف؛ ولكن ذلك ليس هو وجه وجوب الفعل الأخلاقي؛ لأن الواجب لا يكون واجباً بإيجاب موجب، وإنما يختص بذلك لصفة له لا بد أن يعرفها المكلف، تستوي في ذلك الواجبات العقلية والشرعية على حد سواء. أما الواجبات العقلية؛ فتجب لصفات تخصها يكشف عنها العقل، وأما نظيرتها الشرعية فإنها - وإن وجبت للأمر - فذلك لكونها لطفاً ومصلحة من حيث إنّ إرادة العدل(2) الحكيم تقتضي ذلك.

وبعد معرفة الله تأتي السلوكية الأخلاقية التي هي محطّ الاهتمام الأبرز في الفكر المعتزلي بعد الإيمان والتوحيد، حيثُ لا بد وأن يعكس الإيمان، فعلاً أخلاقياً للتمييز بين الفعل الشرير والفعل الحسن بين الفعل السيئ والفعل الجميل.. وبذلك يصح القول هنا، إن جلّ اهتمام المعتزلة في المعرفة ينصب على نوع المعرفة المتصلة بالسلوك الأخلاقي للمسلم، كما يتركز اهتمامهم كذلك على العقل بوصفه مصدراً للأخلاق الفردية والجماعية في الجانب العملي منه، على عكس المعرفة النظرية التي لا تجب على الإنسان من حيثُ هو مكلّف، ومن ثم لا تجب على الناس جميعاً.(3) وهذه هي نقطة الخلاف الأساسية بين المعتزلة وبين غيرهم من مدارس الكلام الإسلامي فهم قدسوا العقل بالمطلق، إلى حد اعتقادهم بكون الأفعال إنما تحسن أو تقبح لذاتها.

ص: 45


1- محمد حلمي عبد الوهاب« العقل بوصفه مصدراً للإلزام الخلقي». صحيفة الشرق الأوسط، العدد: 12075، تاريخ: 2011/12/20م. الرابط : http://archive.aawsat.com/details.asp?section=17article=655114issueno=12075.Wlo3cLwjTIU
2- وتعد قيمة العدل معياراً أساسياً ومبدأ جوهرياً في فكر المعتزلة، فقد ربط هؤلاء بين صفة العدل والأفعال الإنسانية المعبرة عن أخلاق المسلم في سلوكياته العملية وكانوا يعتقدون أن للمسلم كامل الحرية في تصرفاته لكي يكون مسؤولاً عنها فيما يتعلق بالتكليف الشرعي على صعيدي الثواب والعقاب، ليكون الثواب عدلاً والعقاب عدلاً. وحرية الاختيار للفعل التي لا تكتمل العدالة والمسؤولية إلا بها، خالف من خلالها المعتزلة رأي العموم التقليدي المهيمن عليه من قبل أتباع النظرة الجبرية الأشعرية الذين آمنوا بأن المرء مجبر على أفعاله التي هي من خلق الله، وهذا ما ينفي أساس الثواب والعقاب، ويرفع المسؤولية عن كاهل الفرد المسلم الملتزم إلا أنّ المعتزلة رأت هنا أن عدل الله يقتضي أن يكون الإنسان هو صاحب أفعاله. يترتب على القول بالعدل الإلهي بأنّ الله لا يفعل الشر، فأفعال الله كلها حسنة .وخيرة. الشر إما أن يوجد من الإنسان، أو لا يكون شراً، إنما لا نعرف أسبابها، أو لا نستطيع أن نجد لها مبرر لكنها ليست شراً. (راجع : علي عبد الفتاح المغربي. «الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة» م، س، ص: 218-219).
3- المصدر السابق نفسه.

ومعلوم أنّ الاتجاه العقلي في دراسة الأخلاق يتمحور حول هذه المقولة حتى تتصفُ القيم الخلقيّة بالضرورة والكلية وهنالك تصبح مهمة العقل البشري متركزة في قدرته على الكشف عن هذه الحقيقة الموضوعية دونما حاجة - بحسب زعم المعتزلة وغيرهم لاحقاً - إلى نص ديني مقدس. فالعقل - في نظرهم - هو الوحيد القادر على الكشف عن وجه الحسن أو وجه القبح في كل فعل بعينه.

لقد عدَّ المعتزلة - وهم تيار من تيارات العدلية - أنّ الحسن والقبح في الأشياء ذاتي بالضرورة (العقلية)، ويمكن إدراكه بالعقل. فالفعل نفسه بغض النظر عن الشرع، له جهة محسنة تقتضي استحقاق الفاعل مدحاً وثواباً أو جهة مقبحة تقتضي استحقاق فاعله ذماً وعقاباً.(1) يقول أبو الهذيل العلاف: «ويجب على المكلف قبل ورود السمع ... أن يعرف الله تعالى بالدليل.... إن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حُسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن (والأفعال الأخلاقية الحسنة) كالصدق والعدل والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور»(2).. ويقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: «قد ذكرنا أنّ وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل»(3) . ويقول في موطن آخر «فليس لأحد أن يقول إنما يحتاج إلى السمع ليفصل العاقل بين الحسن والقبيح».(4)

إذاً، قدم المعتزلة العقل على الشرع، وجعلوا منه فيصلاً وحيداً ومعياراً أوحداً، حيث قسّموا الأفعال إلى ما هي حسنة في ذاتها، وما هي قبيحة بذاتها، أي إن صفات الأشياء من حسن وقبح موجودة في الأشياء قبل أن يرد بها شرع، ثم يأتي دور الشرع ليكشف بدوره عن حقيقة الأفعال من حيث حسنها أو قبحها. والواضح أن توصيف المعتزلة لموضوع الحسن والقبح الأخلاقيين، وسعيهم لاثباتهما في عالم الوجود،

ص: 46


1- محمد المدخلي. «الحكمة والتعليل في أفعال الله». طبعة عام 1988م، ص: 83.
2- راجع كتاب الملل والنحل للشهرستاني، مؤسسة الحلبي، القاهرة، سنة النشر : 1968 ، الجزء: 1، ص: 51. وكتاب المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق مكتب الرشد للنشر، السعودية الرياض ، ط : 2 لعام 1995م، ص: 164
3- القاضي عبد الجبار . شرح الأصول الخمسة مصر / القاهرة بلا دار نشر طبعة عام: 1965م، ص: 565.
4- القاضي عبد الجبار المعنى في أبواب العدل والتوحيد». الناشر : الشركة العربية، مصر القاهرة، طبعة أولى لعام 1959م، ج 14، ص: 7.

يعطينا فكرة عن أنهم لا يربطون ذلك بإرادة الله وتشريعه. كما إنهم يعرفون مفهوم الحسن والقبح من دون الرجوع إلى أوامر الله وإرادته وكذلك، من أجل معرفة الحسن والقبح الأخلاقيين، لا يحتاج المعتزلة إلى مساعدة من الوحي والنص أو النقل، أي إنّ علم الأخلاق بالنسبة إليهم هو علم مستقل بذاته، وهو من ثم عضو في مجموعة العلوم العقلية ولا ينتمي إلى العلوم النصية أو النقلية. وهذا هو منطوقهم للعدل كقيمة ومبدأ جوهري في الدين يتصل بموضوعة الأخلاق، حيث كانوا يقيسون أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده، وقالوا: إنّ العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم، إن خيراً، وإن شراً.(1)

لكنّ المشكلة أنّ العقل الذي بايعه المعتزلة مصدراً وحيداً للقيم الأخلاقية والسلوك الأخلاقي - طبعاً مع أهميته القصوى دينياً وعملياً، ومع تقديرنا لما قام به المعتزلة من محاولات جادة فريدة لاستكشاف دور العقل في المجال الثقافي والتاريخي الإسلامي - هو عنصر نسبي ومحدود ومؤطر بظروف وأحوال زمانية ومكانية، وخاضع لمؤثرات نفسية خاصة بفاعله أي إنه محكوم بشروط إنسانية، تاريخية واجتماعية وتديين المعتزلة له (بجعله عنصراً متعالياً لا يأتيه الباطل)، أفقدهم توازنهم الفكري لجهة كونه مجرد ظاهرة إنسانية بشرية قابل للخطأ. فالعقل على صعيد الأخلاق والقيم - غير قادر على ولوج مناطق لا يعرف مدار ذاتية الحسن فيها من ذاتية القبح. نعم، قد يتمكن في بعض الأحيان من اكتشاف (ومعرفة) حُسن أو أو قُبح هذه الأفعال، بغض النظر عن حكم الشارع، حيث يكون حكم الشارع - في هذه الحالة - مجرد تنبيه ليلتفت الإنسان إلى حكم العقل . لكن أيضاً قد لا يتمكّن هذا العقل نفسه من اكتشاف ومعرفة حسن أو قبح هذه الأفعال، وذلك لخفاء ملاكاتها عليه، فيكشف الشارع له ذلك. ويعود أصل هذا الخفاء إلى قصور العقل في تلك الحالات عن إدراك المحاسن والمصالح الكامنة في تلك الأفعال(2).

ص: 47


1- فاخر سلطان المعتزلة والأخلاق النص يتبع العقل». موقع إيلاف تاريخ النشر: 2011/5/21م، الرابط : htm?sectionarchive=AsdaElaph.283902/11/http://elaph.com/Web/AsdaElaph/2007
2- أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت الياقوت في علم الكلام .. القول في «العدل» تحقيق علي أكبر ضيائي الناشر : مكتبة المرعشي النجفي إيران قم، طبعة ثانية عام 2007م، ص: 45.

فضلا عن أنّ من الأفعال ما ليس لها حسن أو قبح في ذاتها، فيقف العقل عند الحكم على حسنها أو قبحها، ويكون الشارع في هذه الحالة هو المصدر الوحيد لبيان حسن وقبحها هذه الأفعال وكمثال على هذا حسن العمل بالشرائع وقبح تركه من قبيل : الطهارة والنجاسة والأعمال العبادية .. فالعقل يدرك - أحياناً - الجهة الداعية لأمر الله تعالى والجهة الباعثة على نهيه، وقد تُخفى عليه هذه الجهات غير أنّ العقل يحكم حكم اليقين بأنه لو اطلع على ما خفي عليه، لكان حكمه موافقاً تماماً لحكم الشرع. فكل ما حكم العقل بحسنه ، هو محبوب شرعاً. وكل ما حكم العقل بقبحه، فهو مذموم شرعاً. ولهذا اشتهر عند الفقهاء قولهم : «ما حكم به العقل حكم به الشرع» .(1)

وقد يقول بعضهم كما قالت الأشاعرة بأنّ هناك موارد ومواقع حياتية يحسن فيها عقلياً - الفعل القبيح، وطرح الأشاعرة هنا مثالاً وهو ضرورة الكذب لإنقاذ حياة نبي من يد ظالم، حيث يجوز هنا عقلاً الكذب، ويحرم الصدق لأن فيه هلاك للنبي على يد ظالم. ولكن حقيقة الكذب يبقى قبحاً حتى في الحالة الأولى وقبحه لا يزول أبداً. وإنّ القول بحسن الكذب عند اشتماله على مصلحة عامة، ليس لكونه كذباً، بل لاشتماله على المصلحة العامة، فيكون الحُسن للمصلحة العامة لا للكذب. كما أن القول بحسن الصدق لا يزول أبداً. إذ إن القول بقبح الصدق عند اشتماله على مفسدة عامة ليس لكونه صدقاً، بل لاشتماله على المفسدة العامة، فيكون القبح للمفسدة العامة لا للصدق(2).

وهذا التركيز من قبل المعتزلة على العقل، بل تقديسهم له(3)، وإضفاء طابع العصمة

ص: 48


1- علاء الحسون «العدل عند مذهب أهل البيت» الناشر : المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت إيران طهران طبعة عام 2008. ص: 71.
2- العلامة الحلي . «كشف المراد». المقصد الثالث الفصل الثالث، المسألة الأولى، دار الأعلمي، لبنان بيروت، طبعة عام 1995م، ص: 419-420.
3- لا شك إن هذا التأسيس الإعتزالي لعلم الكلام وللأخلاق على العقل، لم يأت من فراغ، إذ هو - في الأصل- مبسوط (ومطروح) في الإسلام كنص مقدس، فضلاً عن ضرورته الحيوية للتطور والتقدم، فقد لاحظنا أن تناول القرآن الكريم لكلمة العقل جاء في سياقه التجريبي العملي وليس في بعده التأملي النظري فقط، كما تخبرنا الآيات الآتية: "أفلا تنظرون" و"أفلا تعقلون" و"انظروا ماذا في السموات والأرض" ، "أفلا يتدبرون"، ولا تنفذون إلا بسلطان“، وغيرها من النصوص الكريمة التي قاربت الستين مورداً قرآنياً. وحتى في السنة الكريمة فقد وردت أحاديث لا تحصى حول مكانة العقل، ولعل حديث أن العقل رسول من الداخل أبرزها. يقول الرسول (ص) : "إن لله على الناس حجتين ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة فهي الرسل والأنبياء، وأما الباطنة فهي العقل " (راجع: كتاب الكافي للكليني، مركز بحوث دار الحديث، إيران قم، ج 1، ص 16. بما يدلنا على أن للعقل أهمية قصوى وعليه الدور الأكبر في البناء والتحسين والازدهار الفردي والمجتمعي، مع تضخم التحولات والاحتياجات البشرية واتساع نطاق العلوم، وما تطرحه من إشكاليات وحاجات وهنا يأتي الإمداد والعون من فهمنا العقلي للدين.

عليه، خاصة في مجال الأخلاق والتحسين والتقبيح، مغفلين طابعه النسبي وتاريخيته ومحدوديته، كما سبق القول، حال دون وصولهم إلى تصور للعقل يتعايش مع حرية الرأي والفكر ، أي مع فكر الآخر المختلف. والواقع أن نظرتهم الدوغمائية للعقل قد ساهمت في تدعيم الفكر المحافظ، ذلك أن ارتباط هذه النظرة بالعنف الذي سلّطه حتى المعتزلة أنفسهم، على العلماء القائلين بأولوية النقل، قد رفع من شأن هؤلاء في نظر العامة، خصوصاً أن تفكيرهم «تفكير أهل السنة والجماعة» هو تفكير السّواد الأعظم الذين صاروا بعد المحنة (أقصد محنة خلق القرآن) يتبركون بالإمام أحمد بن حنبل، ويتمسحون بقبره. وكانَ لفشل المعتزلة في فرض تصورهم العقلاني للدين (في العقيدة والأخلاق) أن انتعش الفكر المحافظ المؤسس عند الإمام أحمد بن حنبل على الاعتقاد بعجز العقل وعدم جدواه في أمور العقيدة، وتحريم الجدل في الدين وانفصال أبي الحسن الأشعري عنهم، وإعلانه تبعية العقل للنقل. فعلى عكس "أهل السنة والجماعة الذين لا يزال مذهبهم ثابتاً ومسيطراً إلى اليوم، فإنّ تأثير المعتزلة قد اقتصر على النخب المثقفة وظهرت خصوبته خصوصاً في المجال الثقافي، إذ أنّ عصر سيادتهم السياسية كان أرقى العصور الحضارية التي عرفها العرب.(1)

ص: 49


1- إبراهيم سعدي. «الفكر المعتزلي وإشكالية العقل والنقل». مركز آفاق للدراسات والبحوث تاريخ النشر: 2010/10/30م. الرابط :2010/10/30م 390/https://aafaqcenter.com/post

أهم مراجع البحث:

أحمد بن يحيى بن المرتضى. «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة». دار مكتبة الحياة، لبنان بيروت، طبعة عام 1961م.

ابن منظور، «لسان العرب». دار صادر للنشر لبنان بيروت، طبعة عام 2003م.

الألوسي «روح المعاني» . دار الكتب العلمية لبنان بيروت، طبعة عام 1994م.

إسماعيل بن حماد الجوهري. تاج اللغة وصحاح العربية». تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين لبنان بيروت، ط 4 ، 1987

أبو جعفر محمد ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب. دار الأضواء لبنان بيروت، طبعة ثانية، عام 1991 م.

أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت الياقوت في علم الكلام.. القول في «العدل». تحقيق: علي أكبر ضيائي الناشر: مكتبة المرعشي النجفي، إيران قم، طبعة ثانية عام 2007م.

أبو الفتح الشهرستاني. «الملل والنحل». مؤسسة الحلبي، مصر/القاهرة، سنة النشر: 1968م.

جعفر السبحاني. «مفاهيم القرآن». مؤسسة التاريخ العربي لبنان بيروت، طبعة أولى، عام 2010م.

جمال الدين الحلي. «كشف المراد». المقصد الثالث الفصل الثالث، المسألة الأولى، دار الأعلمي، لبنان / بيروت، طبعة عام 1995م.

زكي مبارك «الأخلاق عند الغزالي». مطبعة الرحمانية، مصر القاهرة، طبعة عام 1977م.

عبد العزيز أحمد . «مباحث في نظريات الأخلاق» . دار الفكر العربي مصر القاهرة، طبعة عام 1965م

عواد المعتق . «المعتزلة وأصولهم الخمسة» مكتب الرشد للنشر، السعودية الرياض، ط: 2، لعام 1995م.

عبد الجبار بن أحمد (القاضي)، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تونس، 1972م.

عبد الجبار بن أحمد («شرح الأصول الخمسة». مصر القاهرة، بلا دار نشر، طبعة أولى لعام 1965م.

ص: 50

عبد الجبار بن أحمد (القاضي). «المعنى في أبواب العدل والتوحيد» الناشر : الشركة العربية، مصر / القاهرة، طبعة أولى لعام 1959م.

عبد الله شبر . «الأخلاق» . الناشر : ذوي القربي إيران قم، الطبعة الأولى لعام 2007م.

عبد العزيز أحمد. «مباحث في نظريات الأخلاق». دار الفكر العربي مصر عابدين، طبعة عام 1965م.

علاء الحسون «العدل عند مذهب أهل البيت» الناشر : المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت إيران طهران، طبعة عام 2008.

محمد بن جرير الطبري. «جامع البيان في تأويل القرآن تفسير الطبري» مؤسسة الرسالة، لبنان بيروت، طبعة عام 2000م.

محمد الريشهري . «موسوعة العقائد الإسلامية»، دار الحديث للطباعة والنشر ، قم إيران، طبعة ثالثة عام 2008م

محمود مزرعة تاريخ الفرق الإسلامية، مصر / القاهرة، دار المنار، طبعة: 1، عام 1991م.

محمد المدخلي. «الحكمة والتعليل في أفعال الله». طبعة عام 1988م.

محمد باقر الصدر. «الفتاوى الواضحة». دار الكتاب اللبناني لبنان بيروت ودار الكتاب المصري، مصر القاهرة، طبعة: 3 ، عام 1977م.

محمد حسين الطباطبائي. «الميزان في تفسير القرآن». مؤسسة المجتبى للمطبوعات، إيران قم، ط: 1 عام 2004م.

محمد بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق). «أمالي الصدوق». دار الأعلمي، لبنان بيروت، طبعة أولى عام 2009م.

ص: 51

التصور الأخلاقي لمفهوم الخير والشر عند ابن سينا

د. عماد الدين إبراهيم عبد الرازق(1)

مقدمة

لقد حظيت مشكلة الخير والشر باهتمام كبير من سائر الفلسفات سواء القديمة أو الوسيطة أو الحديثة، ففي الميثولوجيا الإغريقية كانت الأساطير تقدم تفسيراً جاهزا ، فلم يكن الخير والشر موضوع تفكير وتساؤل بقدر ما كان مجالاً للوصف ، ومع فلاسفة اليونان أخذت مشكلة الخير والشر منحى جديد، حيث أدمجت في ضمن نظرة فلسفية إلى كون مغلق، فكلما تم الانتقال من أعلى إلى أسفل قل مستوى الخير وازداد مستوى الشر. أما في الثنوية الفارسية القديمة كان هناك صراع بين الخير والشر من خلال وجود إلهين أحداهما للنور والآخر للظلمة.

أما في الفكر الإسلامي فقد اتخذت مشكلة الخير والشر اتجاها جديدًا وبعدًا مختلفا، فقد تم ربط مفهوم الخير والشر عند المتكلمين بدلالات عقدية وتربوية

وأخلاقية.

أما عند ابن سينا فقد اتخذ مفهوم الخير والشر شكلاً أكثر عمقا ، فهو لم ينظر إلى الخير والشر من زاوية تربوية أخلاقية بحتة ولا من زاوية فلسفية خالصة، بل جمع

ص: 52


1- أستاذ الفلسفة الحديثة من مصر، ينطلق الباحث من إشارة إلى أن ابن سينا قسم الشر إلى ثلاثة أقسام: أولا الشر الطبيعي ويتضمن كل ما يؤذي الإنسان ويلحق ضررا بسلامته الجسدية، وبحاجاته ورغباته، ووسيلة الإنسان لتمييزه اللذة والألم . ثانيا : الشر الأخلاقي ويتعلق بما يراه العقل العملي ضارا أو مؤذيا من الأفعال التي تقع باختيار الإنسان. ثالثا: الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يلحق الموجودات الممكنة ليمنعها من الوصول إلى الكمال الواجب لها. وثالثا: الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يلحق الموجودات الممكنة ليمنعها من الوصول إلى الكمال الواجب لها. لهذا تناول الباحث يتناول سبع نقاط مركزا على أمرين الأول، تحديد مفهوم الخير والشر عند ابن سينا، فيما الثاني، ميتافيزيقيا الخير والشر وعلاقتهما بالإرادة الإلهية، ثم يخلص إلى القول كما أن ابن سينا حاول أن يقدم بتفسيره للخير والشر، وعلاقتهما بالإرادة الإلهية والعناية أن يقدم تفسيرا معتدلا وليس مغاليا فيه، المحرر.

ودمج ما هو ديني في ضمن ما هو فلسفي من هنا يرى ابن سينا ليس كل ما نعتبره ناقصا في حياتنا نحكم عليه بأنه شر، فهذا الحكم والتقييم لا يشمل من وجهة نظره كل الموجودات، ولا ينطبق إلا على دائرة محددة من النقائص والحاجات فالشر عنده يتمثل في حرمان الموجود من كماله الضروري وليس الثانوي.

ويجب أن نشير في هذا السياق أن ابن سينا قد ميز بين تعريفين للشر، يرتبط التعريف الأول منهما بثنائية الوجود، بينما الثاني يرتبط باللذة والألم. فالأمور التي يقال أنها شر بحسب التعريف الأول إما أن تكون أمورًا عدمية، وإما تكون أمورا وجودية، فإذا كانت أمورا عدمية فأنها تكون عدما لضروريات الشي أو لأمور نافعة غير ضرورية، أو لأمور كمالية مستغنى عنها، والشر بالذات هو الذي يطلق على القسمين الأول والثاني، أما إذا كانت الأمور التي نحكم عليها بأنها شرور وجودية، فالأمر يتعلق بأشياء موجودة في الواقع لا مجرد عدم ، ويشير ابن سينا إلى أن الشر المتعلق بالأفعال الإنسانية ليس شرًا ذاتيًا مطلقا، بل هو نسبي عرضي أيضا، فهو شر من جهة، وخير من جهة آخري ويرى أن مقياس الشر في الأفعال الإنسانية مرتبط بمدى الأذى الذي يلحقه بكمال الإنسان لقواه العقلية والنفسية والبدنية، فكمال الشهوة هو الخيرات المادية مثل المأكل والمشرب وكمال القوة الغضبية الغلبة، أما كمال العقل يستند على الخيرات العملية التي ترتبط بتدبير العلاقة بالآخرين داخل المنزل أو المدينة.

ويؤكد على أن الشر هو العدم، والخير هو الوجود ، كما أن الأصل في الأشياء هو الخير، وكل شيء يبتهج بالخير ويشتاق إليه. كل هذا سوف نوضحه من خلال بحثنا حيث نلقى الضوء على مفهوم الخير والشر، وعلى علاقة الخير والشر بالإرادة الإلهية، وعلاقة الخير والشر بالعناية الإلهية وغيرها من الإشكاليات.

أولاً : تحديد مفهوم الخير والشر عند ابن سينا:

بداية نشير إلى أنه من الأهمية بمكان أن نحدد مفهومي الخير والشر حتى ننطلق إلى بيان علاقتهما بغيرهما من الموضوعات، ولقد وضع ابن سينا تعريفين رئيسيين

ص: 53

للشر وبالتبعية أيضا يرتبط بهما مفهوم الخير. يرتبط التعريف الأول للشر بثنائية الوجود والعدم، بينما الثاني يرتبط باللذة والألم فالأمور التي يقال عنها أنها شر بحسب التعريف الأول، تكون إما أمورا عدمية، وإما أمورا وجودية، فإن كانت أمورا عدمية فإنها تكون عدما لضروريات الشي، أو لأمور نافعة غير ضرورية،أو لأمور مستغنى عنها، والشر بالذات هو الذي يطلق على القسمين الأول والثاني، فيقال شر للنقص الذي هو مثل الجهل والضعف هذه تسمى شرور بالذات لأنه يترتب عنها أن يفقد الشي كماله الذي يتوقف عليه في وجوده أو ماهيته، على سبيل المثال العمى يعد شرًا؛ لأنه مانع للعضو من كماله ومن سلامته ، وعليه فالعمى لا يجوز في العين ومن حيث هو في العين لا يجوز أن يكون إلا شرًا(1).

أما إذا كانت الأمور التي نحكم عليها بأنها شرور وجودية، فالأمر هنا يتعلق بأشياء موجودة في الواقع لا مجرد عدم ، ومع ذلك رغم أن هذه الشرور وجودية أي متعلقة بأشياء ،واقعية، إلا أنها ليست شرورًا بالذات، بل بالعرض من حيث إنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، فما من فعل من الأفعال الوجودية التي يقال أنها شر، سواء بالنسبة إلى الموجودات الطبيعية أو إلى الموجودات العاقلة، إلا هو خير بالنسبة إلى ذلك تكون شرا بالنسبة لمن وقع له ضرر وأذى من ذلك الفعل، وفقد فاعله، لكن مع بسببه شيئا من كمالاته .(2)

وما يتعلق بظواهر الطبيعة ينطبق أيضا على أفعال الإنسان، فالأفعال تعد شريرة بسبب كونها إعداما أو عدمًا لكمالات وجودية يجب أن تكون للإنسان، هذا الشر الإنساني ليس شرًا ذاتيًا مطلقا فحسب، بل هو نسبي عرضي أيضا، فهو شر من جهة وخير من جهة آخري، لذا يقول ابن سينا لا نجد شيئا مما يقال له شر من الأفعال، إلا هو كمال بالنسبة للفاعل له، وإنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى فاعل آخر.(3)

ص: 54


1- ابن سينا : النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تقديم ماجد فخري، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985، ص321.
2- فخر الدين الرازي: المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات ، ج2، مكتبة الاسدي طهران، 1966، ص 520.
3- ابن سينا النجاة، ص324

مثال ذلك الاستبداد ، يمثل كمال للقوة الغضبية التي يصدر عنها، لأن هذه القوة إنما خلقت لأجل أن تتوجه نحو الغلبة، ومتى ضعفت عن التحكم كان ذلك شرا لها، وإنما عد شرًا بالنسبة إلى المظلوم لحرمانه من حقوقه ، أو إلى النفس العاقلة؛ لأنه مانع لها عن كمالها الذي كسر شهوة التسلط والغلبة أو السياسة المدنية لما يفوته عليها من خيرات.

ويرى ابن سينا أن مقياس الشر في الأفعال البشرية يكون مرتبطا بمدى الأذى الذي يلحقه بكمال الإنسان ولقواه العقلية والنفسية والبدنية، فكمال الشهوة هو الخيرات المادية مثل المأكل والملبس وغيرها، وكمال القوة الغضبية الغلبة، وكمال العقل يتحقق بنوعين من الخيرات الخيرات العملية التي ترتبط بتدبير العلاقة بالآخرين داخل المنزل، وبها يكمل العقل العملي، ثم الخيرات الروحية التي يستكمل بها العقل النظري وتشمل سائر المعارف، وبالخصوص تلك المتعلقة بذات الباري وصفاته وأفعاله. ثم يلفت الانتباه إلى أن النفوس التي حققت الخيرات العقلية المتمثلة في المعارف والاعتقادات الحقة الأجدر بالسعادة، وتلك التي فوتت هذه الخيرات تكون نفوس شريرة شقية. من هنا يتضح لنا أن الشر عند ابن سينا يكون محصورا في النقائص الضرورية، وأن هذا الشر ليس أمرا وجوديا ولا ذات له، بل هو أما عدم جوهر أو عدم صلاح الجوهر.(1)

ثم يشير ابن سينا إلى أن الأصل في الأشياء هو الخير ، وكل شيء يحصل له،بحكم نوعه وطبيعته، كمال يستحقه مثل البصر للعين، وهذا الكمال هو كمال ضروري، يتوقف عليه الوجود والشخص، والكمال للشي يكمله في وجوده الواجب له، وكل شيء بحكم طبيعته يبتهج بالخير ويشتاق إليه، لذا يقول: خير كل شي ما يشتاقه ويبتهج به من كماله، لكن أحيانا يعدم الشيء كماله فيسمى شرا من حيث هو عادم لكمال الواجب له، ويؤكد في هذا السياق على حقيقة مهمة وهي ليس للشر المطلق وجود، لأنه لو وجد لكان ضد نظام الطبيعة وضد الإرادة الإلهية التي تهب الكمال لكل ما من شأنه أن يكون

ص: 55


1- ابن سينا : التعليقات تحقيق عبد الرحمن بدوي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ، 1973 ص21.

مستعدا له بحكم إمكانه ، ومن هنا يوجد ترتيب للموجودات تتدرج من الأعلى خيرا إلى الأدنى خيرا، الله هو الخير المطلق وباقي الكائنات تتدرج في درجة الخيرية، فواجب الوجود بذاته هو الخير المحض ، فهو مفيد لكل وجود ولكل كمال وجود، فهو لا يتوقف وجوده على غيره ، كما لا يوجد فيه أي شكل من أشكال النقص.(1)

هذا بالنسبة للتعريف الأول للشر عند ابن سينا، أما التعريف الثاني فهو مرتبط باللذة وبالألم، وفي هذا السياق يربط ابن سينا الخير والشر في الأفعال الإنسانية، باللذة والألم، ومن هنا يرى أن اللذة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ، والألم هو إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر.

هنا الشر يحمل أيضا معنى وجوديًا عرضيًا غير ذاتي، فهو وجودي لأن الآلام ليست معاني عدمية بالمعنى السابق، لأنها تحدث عن شي مؤلم، وتحدث إدراكا وجوديًا غير ملائم ، مثل النار التي تحرق الجسد، لأن المتألم لا يتألم لفقده شيئا، بل لإدراكه شيئًا وجوديًا مؤذياً، من هنا تعد النار شرا بالنسبة إلى المتألم بها، بناء على ذلك نرى أن إدراك الملائم أي اللذة ،والخير إنما هو في حقيقته كمال وجودي للمدرك، وكذلك إدراك غير ملائم أي الألم والشر من هنا كل ما يحقق الكمال واللذة والإدراك المناسب يعد خيراً وذلك هو الوجود ، وكل ما يعد نقصًا ويسبب ألما وإدراكا غير مناسبًا يعدّ شرًا، فالخير هو الموجود والشر هو العدم.(2)

ويجب الإشارة إلى أن ابن سينا قسم الشر إلى ثلاثة أقسام:

أولا الشر الطبيعي: ويتضمن كل ما يؤذي الإنسان ويلحق ضررا بسلامته الجسدية، وبحاجاته ورغباته، ووسيلة الإنسان لتمييزه اللذة والألم.

ثانياً: الشر الأخلاقي: ويتعلق بما يراه العقل العملي ضارا أو مؤذيا من الأفعال التي تقع باختيار الإنسان.

ص: 56


1- ابن سينا النجاة، ص.267
2- الامدي: شرح التمويهات في شرح الرازي على الإشارات والتنبيهات لابن سينا دار الكتب العلمية، بيروت، 2013 ، ص 309.

ثالثاً: الشرّ الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يلحق الموجودات الممكنة ليمنعها من الوصول إلى الكمال الواجب لها.(1)

من هنا فإن تعريف ابن سينا للخير والشر يكون مرتبطاً بالاعتبارات الميتافيزيقية، لأنه جعل الله واجب الوجود هو المصدر الأساسي لكل خير، والموجودات تستمد كل خير من فيضه، لذا هو الخير المطلق.

ثانياً: ميتافيزيقيا الخير والشر وعلاقتهما بالإرادة الإلهية:

لقد انطلق ابن سينا من نقطة أساسية في تحديد علاقة الخير والشر بالإرادة الإلهية، تتمثل تلك النقطة في تحديد مقدار وحجم الشر في الكون، وموقعه ضمن سائر الموجودات الخيرة الأخرى، ومن هنا یری أن الشر ليس له وجود أصيل في العالم بمعنى أنه عرضي، كما أن هذا الشر مرتبط بالمادة، وعلى هذا الأساس الموجودات إما أن تكون لامادية، وهنا فلا يوجد نقص فيها كما أنها معصومة من الشر، أما الموجودات الأخرى أو الثانية فهي مادية وهنا تكون معرضة للنقص وللشر أيضا.(2)

من هنا نستخلص حجم وجود الشر عند ابن سينا في أن الموجود إما أن يكون خيرا من كل الوجوه، أو شرًا من كل الوجوه، أو خيرًا من وجه وشرًا من وجه وهذا الأخير يكون على ثلاثة أقسام، فإنه إما أن يكون خيره غالبًا على شره، أو يكون شره غالبا على خيره، أو يتساوى خيره مع شره، وهنا يكون عندنا خمسة أقسام، القسم الأول فقد وجب وجوده في نظر ابن سينا، لأن الخير هو الموجود، والموجود الذي يكون خيرا من كل وجه ومنزها عن كل شر، إما أن يكون خيرا لذاته وهو واجب الوجود، إذن هو الخير المطلق، لذا يقول ابن سينا الوجود الذي لا يقارنه عدم فهو خير محض، وإما أن يكون خيرا لغيره هو العقول المفارقة والأفلاك السماوية، وجميع الشر يوجد فيما تحت فلك القمر. أما القسم الثاني فانه لو وجد لكان شرا مطلقا، ولكن لما كان الشر ملازما للعدم، فقد استحال وجود هذا القسم، وكذلك القسم الثالث الذي يكون شره غالبا

ص: 57


1- ابن سينا النجاة، ص 268
2- فخر الدين الرازي: المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ص 520

والرابع الذي يكون شره مساويا لخيره، فهما لا يمكن إيجادهما، لأنهما لو وجدا لكان وجودهما منافيا للحكمة الإلهية التي خلقت الموجودات على وجه يمكنها من أن تبلغ الكمالات التي يجب لها بحكم ما فيها من إمكانات. أما القسم الخامس الذي يكون خیره غالبا علی ،شره فيعترف بوجوده ، إلا أنه يؤكد محدودية شره مقارنة بخيره الغالب، فهذا الشر يكون قليل بالقياس إلى سائر الوجود(1).

وهناك سؤال مطروح في هذا السياق وهو إذا كانت غلبة الخير على الشر تبدو مقبولة في عالم الطبيعة، فماذا عن عالم الإنسان؟ الإجابة من جانب ابن سينا هي التأكيد على أن الغالب على الناس هو السعادة الدنيوية والأخروية، أما الشقاوة فتبقى أقلية، لذا لا يتفق مع من يقول أن الغالب على أكثر الناس هو الجهل وطاعة الشهوة والغضب، والخلو من الأخلاق الفاضلة ، ويرى أن أهل السعادة والخير يكونون أكبر من أهل الشقاوة والشر، ومن هنا يكون الخير غالبا على الشر في الآجلة كما هو الحال في العاجلة، فالشر بوجه عام موجود؛ ولكن حجمه محدود، ثم أنه غير مقصود لذاته بل لغيره (الخير) فهو عارض طارئ.(2)

من هنا نرى أن ابن سينا من أنصار نظرية وجود الشر من أجل غاية أكبر وأعظم هي الخير ، فالشر في العالم يكون من أجل خير أسمى، ووجود الشر يكون محدود

بالمقارنة بالخير.

ثالثا الخير والشر في التصور الديني والميتافيزيقي:

إذا كان الشر موجودا عرضيًا في هذا العالم، سواء نسب إلى الإنسان أم الطبيعة، فهنا يجب أن نطرح سؤالاً جوهريًا يتعلق بما إذا كان مبرر وجود الشر ينحصر في حرية الإرادة، وهنا يكتسب دلالة أخلاقية خالصة، أو يندرج ضمن تدبير إلهي شامل، فيكتسب بعدًا دينيًا وميتافيزيقيا، وفي هذا السياق نشير إلى ابن سينا ربط مفهوم الشر بالبعد الديني والميتافيزيقي، وربطه أيضا بالإرادة الإلهية، ويشير إلى أنه رغم وجود

ص: 58


1- ابن سينا النجاة، ص 322
2- ابن سينا: الإشارات والتنبيهات تحقیق سلیمان دنیا دار المعارف، القاهرة ، 1960، ص 551.

الشر في العالم، إلا أن الله لا يكون سببًا مباشرًا أو فاعلاً له أو متصفا به، ذلك أن الله لم يخلق موجودات شريرة شرا مطلقا ولا شرا ذاتيًا، كما أنه لم يخلق عالما يسيطر عليه الشر، ولا حتى يتساوى خيره مع شره، وإذا كان الشر موجودا في هذا العالم فوجوده من أجل خير أعظم والضرورة اقتضت أن لا توجد الموجودات الخيرة ولا تدوم خيريتها إلا بوجود بعض الأفعال الشريرة ومن هنا فالله مريد للشر لكنه بالعرض وليس بإرادة ابتدائية فالشر داخل في القدر بالعرض وبهذا المعنى يسمح الباري بوجود الشر، وهو يريد الخير إرادة أولية ويريد الشر أيضا لكن بالعرض، وبناء على ذلك نستنتج أن الله تعالى غير مسؤول عن الشر، لأنه خلق موجودات هي في ذاتها خيرة وتساهم في كمال باقي الموجودات، ولكن وجودها ما كان يتم دون أن تصدر عنها بالعرض بعض الآفات والشرور(1).

وفي هذا السياق يشير ابن سينا إلى أن وجود الشر في هذا العالم يعود بالدرجة الأولى إلى المادة التي تقبل العدم، وهذه المادة توجد دائما وجودًا بالقوة، ومن هنا لا تسمح بوجود موجودات كاملة كمالاً تامًا ، لذا الشرور توجد لضرورة الهيولى . ومما سبق يتضح لنا كيف أن ابن سينا ينزه الله عن كل نقص، وكيف أن الله لا يصدر عنه شر، ورغم إيمانه بأن الحكمة الإلهية اقتضت وجوده والسؤال هنا من يتحمل إذا مسؤولية حصوله ؟ الإجابة أنه رغم صدور الشر بموجب القضاء الإلهي، فإن المسئول المباشر عنه ليس العلة الفاعلة بل العلة القابلة، فالشر لازم لأشخاص الموجودات وطباعها واستعداداتها الكامنة في مادتها، وإلا فإن المخلوقات التي تتعالى عن حركة الزمان ولا تتلبس بالمادة والشهوة تكون منزهه عن الشر، كما هو الشأن في الأنواع والأجناس، ومن هنا يقول ابن سينا أن الشرور يجب إضافتها إلى الأشخاص والأزمان والطباع، وأنه متى حصل نقص في أحاد نوع ما كان ذلك النقص عائدا إلى ضعف في القابل وقصور في المستعد (2). من هنا نرى أن الشر لا ذات له، وليس في ذاته أمرا

ص: 59


1- ابن سينا: الإشارات والتنبيهات، شرح نصر الدين الطوسي، تحقيق سلیمان دنیا ، ج4، ط3، دار المعارف، القاهرة، 1980 ، ص 305 .
2- ابن سينا: الرسالة العرشية في حقائق التوحيد وإثبات النبوة، تحقيق وتقديم إبراهيم هلال، جامعة الأزهر، القاهرة ، 1988 ، ص 38

وجوديا صادر عن الله والشر يقع بسبب امتناع الموجود عن تلقي الوجود، وعجزه بحكم مادته عن قبول الفيض الصادر عن واجب الوجود.

رابعا، مشكلة القضاء والقدر وعلاقتها بالخير والشر:

بداية نشير إلى أن مذهب ابن سينا في القضاء والقدر يتلاءم مع مذهبه القائل بارتباط الأسباب بالمسببات ارتباطا ضروريا وبما يشتمل عليه العالم من نظام ،وترتيب وبما قال به من تقسيم الموجودات إلى واجب وممكن. ولقد تناول ابن سينا موضوع القضاء والقدر وعلاقته بالخير والشر في مجموع رسائله الإشراقية مثل رسالة القضاء والقدر، ورسالة سر القدر، والرسالة العرشية، وفي هذا السياق يشير ابن سينا إلى أن العالم مركب من مادة وصورة، أو قوة وفعل وعنهما توجد الموجودات وتعدم، ففي وجودها خير وفي عدمها شر، وهذا النظام ضروري لصلاح العالم، ولو كان العالم لا يجري فيه إلا الصلاح المحض، لم يكن هذا العالم عالما، بل كان عالماً آخر ولكان يجب أن يكون مركبًا على هذا الوجه والنظام، فأنه يجرى فيه الصلاح والفساد جميعاً.(1)

ومن هنا يرى أن ما ينتج في العالم من شرور هي ينتج في العالم من شرور هي ضرورية لخير العالم وصلاحه، إذ لو كان العالم يجري على الخير فقط لكان ثابتا غير متحرك، والمادة لأبد أن يطرأ عليها التغيير والفساد، ولذا كان ترك هذا الخير وهذا النظام على ما يبدو فيه من شرور قليلة هو شر كثير والحكمة الإلهية اقتضت وجود هذه الشرور لما فيه من صلاح ونظام العالم، وهذا الشر الجزئي الموجود هو خير لأن موجود ومن سبب خير في نفسه لمعنى كلي فلا يكون إذا شراً .(2)

ويضرب أمثلة يدلل بها على ما ينتج من شرور جزئية ناتجة عن الخير هو أمور لازمة لصلاح نظام العالم مثل الشمس بما تؤدي مما ينفع الإنسان والنبات والحيوان، فإذا فرض تعرض الإنسان في صيف شديد الحرارة وقت انتصاف النهار، وكان في

ص: 60


1- ابن سينا رسالة في القضاء والقدر، ضمن جامع البدائع، مطبعة السعادة، ط1، القاهرة،1917ص46.
2- ابن سینا رسالة في إبطال أحكام النجوم، ص ضمن مجموعة رسائل ابن سينا تحقيق حلمي ضيا أولكن ص59.

مغارة وليس معه ماء فيهلك عطشا، فإن هذا الهلاك شر لذلك الرجل، الرجل بعينه، وربما قيل كان يجب أن تكون الشمس بحيث لا يصاب لها، ولكن إذا لم تفعل الشمس المراد من وجودها لما كانت خيرا، فإذن هذا الهلاك ليس شرا مطلقا، بل هو خير، لأنه حاصل عن مثل هذا الخير المطلق وما ينتج عن القدر كما يرى ابن سينا هو لارتباط الأسباب بالمسببات وهو لصلاح العالم.(1)

ويوضح ابن سينا بعد ذلك علاقة الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويرى أن الله فالق الظلمة بنور الوجود، وهو المبدأ الأول الواجب بذاته، وأول الموجودات الصادرة عنه هو قضاؤه، ويشير إلى أن هذا القضاء ليس فيه شر، وما يحدث من شرور فهي تحدث في القدر، لأنها تحدث عندما لا تتأدى الأسباب بمصادماتها إلى شرور لازمة عنها بعد قضائه، ومن هنا فإن السبب في وجود هذه الشرور هو خلقه، فلذلك قال تعالى ( من شر ما خلق) فجعل الشر في ناحية الخلق والتقدير، كما أن الأجسام من قدره، وليس من قضائه، فليس في قضائه أجسام على الإطلاق، بل جواهر عقلية، وهذه الجواهر هي خير، وهي العقول المفارقة، ولا يلحقها شر بأي وجه من الوجوه، أما الأجسام فهي مصدر الشر لأنها مكونة من المادة والإمكان وهما منبعا الشر في الوجود، فالأجسام لا توجد إلا في قدره أي في عالم الموجودات الأرضية، ولكن من حكمة الله أنه أفاض على الموجودات بالخير أولا، ولذا فإنه سبحانه قدم الانفلاق، وهو إفاضة نور الوجود على الماهيات الممكنة من الشر اللازم عن الخلق، فالانفلاق هو الخير الفائض من السابق على وجود الشر الذي يلزم عن وجود الموجودات وإذا كان الخير مقصودا بالقصد الأول وبالذات فالشر داخلا في القضاء الإلهي بالعرض، لذا يقول إن الفالق لظلمة العدم بنور الوجود هو واجب الوجود والشرور غير لازمة عنه، أولا في قضائه وثانيا في قدره، لذا أمر بالاستعاذة برب الفلق من الشرور اللازمة عن الخلق.(2)

ص: 61


1- مني أبو زيد: مفهوم الخير والشر في الفلسفة الإسلامية دراسة مقارنة في فكر ابن سينا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1،1999، ص172.
2- ابن سينا: تفسير المعوذة الأولى من جامع البدائع، مطبعة السعادة، القاهرة، 1917 ص 25

خامساً: علاقة الفعل الإنساني بالخير والشر:

يرى ابن سينا أن أفعالنا إذا كانت على حسب ما هي مقدرة عند الله فهي أفعال تتجه إلى الخير ، أما إذا خالفت هذا التقدير فهنا يدخل الشر، فإذا التزم الإنسان في فعله الأسباب الصحيحة الموضوعة في نظام العالم والمراد بها صلاحه أدى هذا إلى خيرية الأفعال، أما إذا خالفت نظامها صارت أفعاله شرورا، فالشر الناتج من أفعال الإنسان ليس بقدرة الله، وإنما ناتج عن الإنسان غير المتابع لما في القضاء من نظام وخير ، وهنا يصح قول ابن سينا أن الشرور تنسب إلى الأشخاص، فالشر الجزئي والخير الجزئي الذي يوجد في ظاهر الأمر إنما يوصف فضلا عن أشخاص معينة (1). وكذلك ترتبط الأفعال عند ابن سينا بالقدرة والإرادة والقادر هو الذي يصدر منه الفعل على وفق الإرادة، وهو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لابد من أن تكون مشيئة الله وإرادته مختلفة، حتى يشاء تارة ولا يشاء تارة آخري، ومشيئته وإرادته متحدة، فهو علم نظام الخير على الوجه الأكمل والأبلغ ، لذا لا تتغير مشيئته ولا إرادته.

سادساً: الخير والشر وعلاقتهما بالعناية الإلهيةک

تتعلق تلك المشكلة بسؤال مهم ومحوري وهو إذا كانت الموجودات تقع بإرادة الله وحكمته، فلماذا لم يخلقها بلا شر ابتداء، حتى لا تكون في الأصل محتاجة إلى بلوغ خيريتها إلى هذا الشر القليل، كان يخلق النار مثلاً عندما تكون سببا للخير، ويمنع وجودها عندما تكون سببا للشر، وبذلك يكون عالمنا ممكنا خاليا من كل شر؟ إجابة ابن سينا بأنه لو خلقها كذلك لكان هذا هو القسم الأول من الموجودات أي ذلك الذي يكون خيرا تاما وليس ذلك إلا لواجب الوجود المتفرد بالخيرية المطلقة، نعم ذلك يكون ممكن في عالم غير عالمنا الطبيعي عالم السماء والعقول المفارقة، فأنه تنزه عن الشر ولم يصل إلى درجة الكمال المطلق في الخيرية، وذلك

ص: 62


1- ابن سينا الرسالة العرشية ضمن رسائل ابن سینا حیدر آباد دائرة المعارف العثمانية، 1353ه، ص 11.

مما فاض عن المدبر الأول ووجد في الأمور العقلية والنفسية السماوية .(1)

أما عالم الإنسان والطبيعة عالم المادة والتغير والنفس الشهوانية، فقد ظل محلاً لكل شر، بل ما كان ليكون ممكن الوجود إلا بأن يكون ناقصًا عاريًا عن الكمال الواجب لواجب الوجود، وشريته ليست شيئا آخر غير هذا النقص المتأصل في ماهيته، لكن لو كان كله شرا أو لو كان شره طاغيا على خيره لما كان ممكن الوجود أصلا لأن البارئ تعالى بحكم وجوده وعنايته يمتنع في حقه أن يخلق عالماً مثل هذا ، أما وأن العالم كان واجب الصدور عن البارئ، بناء على الاعتقاد في قدمه، وأن البارئ موجب غير مختار في صدور الموجودات عنه، ولم يكن بالإمكان أن يكون العالم مطلق الخير، ولا مطلق الشر، ولا حتى أن يكون شره غالبا، وهنا يؤكد ابن سينا أن الشر واجب الوجود في أفعال الإنسان والطبيعة على السواء لكن من دون أن يكون متعارضا مع العناية الإلهية، بل يجب أن يكون منسجما معها، إذ إن العناية الإلهية اقتضت أن يصدر العالم عن إله على أحسن نظام وأفضل كمال بحسب الإمكان، لذا يقول ابن سينا العناية هي كون الأول عالما بما عليه الوجود من نظام الخير وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان، وراضيا به فيفيض أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان (2). ثم يشير ابن سينا إلى نقطة جوهرية وهي أن الشر لا يتنافى والعناية الإلهية بالعالم بل لا يمنع أيضا أن يصدر عن الباري أفضل العوالم الممكنة خيرية، وفي هذا السياق يرى ابن سينا أننا لسنا مختارين في هذا العالم الخاضع للعناية الإلهية بين عالم تام الخير وآخر ناقص، بين عالم أكثر شرا وآخر أقل شرا ولما كان الباري تعالي منزهًا عن العبث اقتضت إرادته هذا العالم كثير خيره والقليل ،شره فلو افترضنا عالما خاليا من كل شر، لكان كامل الوجود، ولكان من ثمّ ندًا لواجب الوجود، فوجود مثل هذا العالم إذن ممتنع، وبالمقابل لا يبدو وجود الشر ممكنا فقط، بل يبدو واجبا أيضا لا بحكم الطبيعة الناقصة للإنسان والكون،فحسب، بل بحكم خضوعهما للتدبير الإلهي .(3)

ص: 63


1- ابن سينا النجاة، ص 323
2- المرجع السابق: ص 380
3- ابن سينا النجاة ، ص 284.

سابعاً: الخير والشر وعلاقتهما بالثواب والعقاب:

ينصب هذا الموضوع في أسئلة عدة محورية جوهرية عما إذا كان الإنسان في فعله لا يخرج عن قدره وأفعال صادرة على سبيل الوجوب ، فلما يعاقب إذن؟ وهل يعاقب على أفعال هو مجبر عليها ؟ أليس العقاب هو شر بالنسبة للإنسان؟ وكيف يصدر العقاب الذي هو شر عن الله الذي هو خير؟ في البداية يجب أن نشير إلى تعريف ابن سينا للثواب والعقاب لكي نحدد بعد ذلك علاقتهما بالخير والشر. الثواب عنده هو البقاء في العناية الإلهية، وهو حصول استكمال النفس لكمالها الذي تتشوقه، أما العقاب فهو تعريض النفس غير المستكملة لان تستكمل ، ويلحقها أذى من قبل جهلها ونقصانها، والحال في ذلك شبيهة بالحال في المرض، إذا عولج بما يكرهه ليعقبه ذلك صحة(1).

ويلفت الانتباه في ذلك السياق إلى أن المقصود بالثواب والعقاب هو الإنسان فقط، ذلك أن البهائم مهملة عن الخطاب، مسلمة من الحساب والعقاب والثواب والعقاب لتخليص النفس من شرورها والعقاب هو نتيجة لما قامت به النفس من شرور وهو يخلصها من تلك الشرور لتصبح نفسا نقية صافية، كما يرى أن العقاب هو لازم للأفعال المذمومة، وارد على النفس منها لا من الخارج، فهي نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. والسؤال كيف صدرت العقوبة التي شر من الله الذي هو خير؟ يرى ابن سينا أن ما صدر عن الله في البداية هو الخير، لأنه قد جعل للنفس كمالا معينا مخصصا لها، حين كانت لا تزال في العلم الإلهي كلفها بما مستعدة

هي له، ولكن هذا الكمال لا تستطيع الحصول عليه إلا عندما يكون لديها استعدادات تحصل من أفعالها، لكن النفوس لا تستطيع أن تحصل على هذا الكمال بسهولة، لان فيها نزاعا بين القوى العقلية التي هي خيرها وكمالها، وبين قوى الشر المتمثلة في القوى الغضبية والشهوية، لذا وجب على الإنسان أن يقاومها للحصول على كماله الذي هي خیره، ، لذا يساعده الله تعالي بالتخويف من العقاب، فالعقاب ليس إذن

ص: 64


1- ابن سينا التعليقات: ص119

شرا بل هو ،خير فصدوره عن الله هو صدور للخير وليس صدورا للشر. فالتخويف من العقاب هو خير لازم، فوجب أن يكون التخويف موجودا في الأسباب التي تثبت فتنفع في الأكثر .(1)

من هنا نستنتج أن التخويف والعقاب الصادر عن الله هو فعله للخير. ويرى ابن سينا كذلك أن الخير سابق على الشر في العقاب، وأن التخويف سابق على التقدير على العقاب، أي إنه تعالى انذر الإنسان أولا بالعقاب، فإذا فعل الشر بعد ذلك لزمه العقاب، فالتخويف متقدم في التقدير على العقاب، ولا محذور منه أصلا. ويعتقد ابن سينا أن العقاب هو خير لأنه شي عادل للنفس، وهو نتيجة لفعلها وعدم التزامها بالحدود المصرح لها به والذي حدده لها الرسل والمشرعون، والعقاب يكون على شي باق بعد الموت، وهو لا محالة معترف بذنوب، وأفعال يستحق عليها العقاب، وهو مع ذلك معترف بحاكم عادل يعاقب على السيئات لا على الحسنات.(2) من هنا وجب على الإنسان أن يحترز من الذنب ويجتنبه وكان العقاب دافعًا للإنسان على اجتناب الشرور وهو لازم عما ارتكبه من الأفعال المنهي عنها، ولذا عاقبه اله على عصيانه. ويعتقد ابن سينا أنه من الخير أيضا أن يصدق الله في عقابه، فكان واجبا عليه إذا وعد بالثواب وتوعد بالعقاب أن يصدق في قوله، لأن التصديق تأكيد للتخويف، فالإبقاء بذلك التخويف بتعذيب المجرم تأكيد للتخويف ومقتض لازدياد النفع فهو حسن وخير ، فإذا كان التخويف من الأفعال الخيرة لله، فكذلك التصديق به، لذا يقول فإذا عرض من أسباب القدر أن عارض واحد مقتضي التخويف، والاعتبار فركب الخطأ، وأتى بالجريمة وجب التصديق لأجل الغرض العام.(3) ويشير ابن سينا في هذا السياق إلى أن العقاب خير لأنه يؤدي إلى خير العالم ونظامه، وقد يعترض بعضهم على ابن سينا بأن هذه العقوبة ليست خيراً بل هي شر وعذاب للمعاقب، يجيب ابن سينا عن ذلك بأنه ربما يكون هذا شرا بالنسبة إلى الشخص المعذب ولكنه

ص: 65


1- ابن سينا: الإشارات، ص 743 .
2- ابن سینا رسالة عدم الخوف من الموت، ضمن رسائل ابن سينا في الحكمة المشرقية، ليدن، 1889 ص 253. أيضا. شرح قطب الدين الرازي شرح الإشارات المعروف بالمحاكمات، ص459
3- ابن سينا الإشارات، ص 745.

خير بالنسبة إلى كثيرين من نوعه وهذا الشخص المعذب هو جزء من أقل والمهم هو المجموع الأكثري، لذا يرى انه لا يلتفت لفت الجزئي لأجل الكلي، كما لا يلتفت الجزء لأجل الكل فيقطع عضو يؤلم لأجل البدن بكليته يسلم.

فالعقوبة وإن كانت شرا بالقياس إلى الشخص المعذب لكنها سبب لكمالات باقي النفوس، ولا يلتفت إلى ذلك الجزئي، لأن ترك خير كثير من أجل شر يسير هو شر كثير، فهو من جهة الخير كثير الذي يلزمه شر قليل، ثم بعد ذلك يضرب ابن سينا مثالاً يثبت به خيرية العقوبة التي تؤدي إلى حفظ النظام وصلاح العالم فيقول أن الشي الواحد الجزئي الذي تتوافى إليه الأسباب وان كان مستنكرًا في العقل كسرقة السارق، لو لم يكن نظام العالم محفوظا، فأن الأسباب المؤدية إليه هي الأسباب في حفظ نظام العالم، وهو كالضروري التابع لها والعقوبة التي تلحق السارق وغيره، إنما تقع عليه لحفظ نظام الكل، فأنه إن لم يتوقع المكافأة، أو لم يخف المكافأة مع ظلمه وفعل الشر والقبيح ، لم يقلع عن فعله ولم ينزجر، فلم يبقى نظام الكل محفوظاً.(1)

الخاتمة

رأينا فيما سبق أن تعريف ابن سينا للخير والشر كان مرتبطا بجميع بجميع فلسفته، بمعني أن الدارس للخير والشر يجب أن يدرسهما في ارتباطهما بالجوانب الإلهية والأخلاقية والميتافيزيقية عنده .

كما أن ابن سينا حاول أن يقدم بتفسيره للخير والشر، وعلاقتهما بالإرادة الإلهية والعناية أن يقدم تفسيرا معتدلا وليس مغاليا فيه، ويضفي بذلك معنى متوازنًا ومتكاملاً، فلم ينظر إلى الخير والشر من زاوية أخلاقية بحتة ولا من زاوية طبيعية ضيقة، بل أدمج كل هذه الجوانب معا، وأخذ في الاعتبار مسؤولية الإنسان والأسباب الطبيعية وربطهما بالإرادة الإلهية. كما رأينا أيضا رغم وجود الشر في العالم واعتراف

ص: 66


1- ابن سينا: التعليقات، ص47.

ابن سينا في وجوده، فهو أولا ضيق ومجاله محدود ، وثانيا وجوده يكون من أجل خير أعم وأشمل ، والله يمثل الخير الأعظم ومنه تستمد الموجودات خيرها، فهو الفيض الأزلي للخير، أيضا وجود هذا الشر لا يمنع من سيطرة الإرادة الإلهية عليه. والخير والشر مرتبطان بالثواب والعقاب وهذا يمثل قمة العدل الإلهي، فارتكاب الأفعال الشريرة لا يمنع من وجود عقوبة لكي يرجع من يقوم بهذه الأفعال، وهذه العقوبة تكون لصالح المجتمع وخيره، رغم أنها تبدو شرا لمن يقوم بها، لكنها في النهاية تمثل صلاح المجتمع ، وحفظ النظام، ويؤكد على أن الخير هو الأصل في الوجود، والإنسان يسعى إلى ذلك الخير وينزع إليه ويشتاق إليه، ويسعد بفعله. والشرور تمثل توازن في الكون من أجل خير أعظم وأكبر . وفعل الخير يمثل نزوع نحو كمالات النفس البشرية، لذا من الضروري القيام بالأفعال الخيرة من أجل استكمال النفس لكمالاتها. كما أن الخير يمثل الوجود، والشر هو العدم لأنه نقص.

ص: 67

التراث الأخلاقي في المدرسة الأشعرية الإمام الغزالي أنموذجاً

ا.د. رعد سليمان حسين (1)

المقدمة

يمثل التراث بصورة عامة مرجعا في حضارة كل أمة ؛ لاسيما الدين والأخلاق منه وحضارتنا الإسلامية تفخر بتراث كبير من حيث الفكر والمعرفة نحترمه، ونجله ونأخذ منه ما يجعلنا في مصاف الأمم على وجه الأرض، وذلك للخيرية التي أرادها الله تعالى لنا ومن تراثنا انبثقت مدرسة عريقة في فكرها إلا وهي مدرسة أبي الحسن الأشعري وأعلام هذه المدرسة ومنهم حجة الإسلام الإمام الغزالي، فقد وضع لنا منهجا فكريا وسطا شمولياً متزنا إلى يومنا هذا، إذ نهل المفكرون والفلاسفة من منهلهم، فكرا عذبا زلالا، ونافسوا فيه ما موجود في حضارة الغرب.

من هنا اردنا أن نسلط الأضواء على هذه المدرسة من خلال تراثها الأخلاقي المتمثل بفكر الإمام الغزالي، فقد وصل بين ماضي الأمة حاضرها بمصنفاته المتعددة فتراه متكلماً في اقتصاده وقواعده، وفيلسوفاً بمقاصده وتهافته، وأصولياً بمستصفاه، وفقيها زاهدا بأحيائه ومنهاجه، فجاءت هذه الدراسة لتضيف إشراقه ولمعة في تراثنا

الفلسفي الأخلاقي، فقد تناولت في بحثي هذا مسألة علم الأخلاق، وفلسفته

فجاء بمبحثين بعد المقدمة تناولنا في المبحث الأول: حد الأخلاق وأهميته

ص: 68


1- أستاذ جامعي من العراق، اكد الباحث على أهمية التراث عامة وتراث المدرسة الأشعرية في المنتج الأخلاقي وخصوصا لدى حجة الإسلام الإمام الغزالي، فقد وضع لنا منهجا فكريا وسطا شموليا متزنا. ولتحقيق هذه الفرضية جاء بحثه مقسما إلى ثلاثة مباحث تناول في الأول، حد الأخلاق وأهميته، وفي الثاني، تكلم على نشأة المدرسة الأشعرية، أما في الثالث فقد تناول فلسفة الأخلاق عند الغزالي وأهميتها ، وأنواع فضائلها، وما وضعه من قواعد أخلاقية للمعلمين والمتعلمين . المحرر

وفيه مطالبان، وفي المبحث الثاني: تناولت فلسفة الأخلاق عند الغزالي واهميتها وأنواع فضائلها، وما وضعه من قواعد أخلاقية للمعلمين والمتعلمين، ثم ختمته بخاتمة في اهم النتائج التي توصلت إليها، ثم قائمة المصادر والمراجع، ومن الله تعالى التوفيق والسداد.

المبحث الأول: مفهوم الأخلاق واهميتها.

المطلب الأول: الأخلاق لغة واصطلاحاً .

الأخلاق لغة : الخلق - بالضم اللام وسكونها - السجية والطبع ، والمروءة والدين.(1) وجاء في لسان العرب الخلق بضم اللام وسكونها وهو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها المستقرة.(2)

الأخلاق اصطلاحاً: عرف الإمام الغزالي الخلق بانه ((عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية)) (3). وعرفها بعض العلماء فقالوا: ((مجموعة من المعاني والصفات في النفس، وفي ضوئها وميزانها يحسن الفعل في نظر الإنسان أو يقبح، ومن ثَمَّ يقدم عليه أو يحجم عنه)) .(4).

ويقول الراغب الأصفهاني، وهو يفرق ما بين لفظ (الخلق) بسكون اللام، و(الخلق) بضم اللام، خاصة بالمظهر والأمور الخارجية، والمعنى الثاني خاص بالباطن، فيقول (خص الخلق) بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر.

وخصّ الخلق بالقوى والسّجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ

ص: 69


1- القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت: 817ه)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط8 (1426 ه - 2005 م): ص881.
2- لسان العرب محمد بن مكرم بن على أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (ت 711ه)، دار صادر - بيروت، ط3، 1414ه : 86/10 . مادة خلق
3- إحياء علوم الدين أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه) : الغد الجديد، القاهرة، 2014م : 63/3.
4- أصول الكريم زيدان مؤسسة الرسالة، بيروت ،لبنان، ط9، 2001: ص 79.

عَظيمٍ»(1). والْخَلاقُ : ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه.(2)

يتبين مما سبق أن الخلق بمعناه اللغوي والاصطلاحي إنما ينحصر معناه وينصرف إلى شيء في داخل الإنسان يتحكم فيه بشريطة أن يأتي هذا الفعل الصادر من داخل النفس البشرية من غير تكلف، لذلك أشار إلى هذه الحقيقة رسولنا الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، بقوله (أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً : إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ) (3).

فسلوك الإنسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معان وصفات، وفي هذا يقول الإمام الغزالي: (فإنَّ كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح، حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة).(4)

ومعنى ذلك أنَّ صلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه ؛ لأنَّ الفرع بأصله، إذا صلح الأصل صلح ،الفرع(5)، وإذا فسد الأصل فسد الفرع ، قال تعالى «وَالْبَلَد الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا»(6) .

ولهذا يتبين لنا المعنى الكامل لمفهوم الخلق استوفيناه من تعريفات لعلمائنا السابقين.

المطلب الثاني: أهمية الأخلاق

للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان، وما يصدر عنه، ولهذا اكد الإسلام على صلاح النفوس وبين أن تغير أحوال الناس من سعادة وشقاء

ص: 70


1- سورة القلم: آية: 4
2- المفردات لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت: 502ه) (المفردات في غريب القرآن) دار المعرفة، بيروت، لبنان ط6، 2010: ص 164.
3- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي (ت 260) ، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه ، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه : 1/ 20 برقم (52)
4- إحياء علوم الدين: 63/3
5- أصول الدعوة ص 79.
6- سورة الأعراف آية: 58

ويسر وعسر ورخاء بأنفسهم من معان وصفات قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».(1)

لذلك لا تعجب إذا وجدت بعض النصوص تجزل الأجر والثواب بشكل كبير على خصلة، أو خصال خُلقية معينة، أو تحجب الخير والفلاح في الآخرة بسبب

خصال رديئة معينه .

من هنا بین الله سبحانه في نصوص عدة الغاية من إرسال الرسالات السماوية التي ختمها بالإسلام، فقال تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (2).

وفي هذه دعوة عامة لكل معاني الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، لكن الذي يهمنا من هذا الاستدلال بهذه الآية إن الله جعل القسط وهو العدل، خصلة خُلقية تتفرع إلى ميادين الحياة، جعلها غاية لإرسال رسله وإنزال كتبه (3).

وتظهر أهمية الأخلاق أيضًا من ناحية أخرى، ذلك أنَّ الإنسان قبل أن يفعل شيئًا أو يتركه يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الأخلاق المستقرة في نفسه، فإذا ظهر الفعل أو الترك مقبولاً انبعث في النفس رغبة فيه، ثم إقدام عليه، وإن كان الأمر خلاف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته ، وأحجمت عنه تركا كان أو فعلاً.(4)

سأل رجل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن حسن الخلق فتلا قوله تعالى: «خُذ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»(5). وقال صلی الله علیه و آله وسلم : (إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق) (6).

ص: 71


1- سورة الرعد أية : 11
2- سورة الحديد أية: 25
3- ينظر: أصول الدعوة: ص80. والنظم الإسلامية، منير البياتي، وفاضل النعيمي، ط1، بغداد، 1987 م ص 69-70.
4- ينظر: أصول الدعوة: ص 80.
5- سورة الأعراف: أية: 99.
6- مسند البزار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار (ت 292ه)، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، وعادل بن سعد، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، ط1، 2009م: 364/15 برقم (8949).

وكان من دعائه صلی الله علیه و آله وسلم في افتتاح الصلاة (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)(1)، وقال صلی الله علیه و آله وسلم(لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ)(2).

ومن الآثار التي تروى في بيان أهمية الأخلاق ما حكاه لنا الإمام الغزالي في كتابه الإحياء قال: (قال لقمان الحكيم لأبيه: يا أبت أي الخصال من الإنسان خير؟ قال الدين قال فإذا كانت اثنتين قال الدين والمال قال فإذا كانت ثلاثا قال: الدين والمال والحياء قال: فإذا كانت أربعا قال الدين والمال والحياء، وحسن الخلق قال ؛ فإذا كانت خمسا قال الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء قال ؛ فإذا كانت ستا قال: يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو نقي تقي والله ولي ومن الشيطان بري يوقفنا(3).

فكل ذلك يوقف على نوع المعاني الأخلاقية التي يحملها كل إنسان من حيث جودتها أو رداءتها، ومدى رسوخها في نفسه فلا يكفي لظهور اثر الأخلاق في فعل الإنسان وتركه أن يصرف الإنسان الجيد والرديء منها ، يخزن هذه المعرفة في رأسه ويتكلم بها في المناسبات بل لابد من انصباغ كيانه بها، وتأسيساً على ما تقدم؛ فان الإسلام، وان كان قد دعا إلى الأخلاق دعوة عامة في صورة مبدأ عام.

كما في قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ».(4)

وقوله تعالى «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(5) ؛ إلا انه لم يكتف بذلك بل فصل كل ما يدخل تحت البر والتقوى والفضيلة من جزئيات وتفاصيل وفصل كل ما

ص: 72


1- المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (ت 261ه) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، كتاب صلاة المسافرین وقصرها، کتاب صلاة المسافرين وقصرها : 534/1 برقم (771).
2- سنن ابن ماجه ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (ت 273ه) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى: 1410/2 برقم (4218).
3- إحياء علوم الدين: 52/3.
4- سورة المائدة آية : 2.
5- سورة لقمان آية: 17.

يدخل تحت الإثم والعدوان والمنكر من جزئيات وتفاصيل(1).

لذلك قدم الإسلام نصوصا فيما هو محمود من الأخلاق وما هو مذموم منه من خلال القرآن الكريم ونكتفي بعرضها ونترك للقارئ فهم هذه النصوص والوقوف على معانيها.

أمثلة من القرآن بالأخلاق المحمودة:

الوفاء بالعهد: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».(2)

طهارة النفس: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»«فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَاهَا»«وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا».(3)

غض البصر والعفة «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ».(4)

قول الصدق: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».(5)

اللين والتواضع: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَميرِ».(6)

كظم الغيض والعفو: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسنينَ».(7)

العدل في كل شيء: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبيَ».(8)

ص: 73


1- النظم الإسلامية : ص76-77 ، أصول الدعوة ص 83-84 .
2- سورة الإسراء آية : 34
3- سورة الشمس آية: 7-10
4- سورة النور آية: 30
5- سورة التوبة آية : 119 .
6- سورة لقمان آية: 19
7- سورة آل عمران آية: 134
8- سورة الأنعام آية:152.

صلة الرحم: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ».(1)

الإحسان: لكل محتاج : «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ».(2)

أمثلة من القرآن في الصفات المذمومة

النفاق «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».(3)

البخل وكنز الأموال «إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا»الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبُخْل».(4)

الكبر «إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ».(5)

الكذب «إنمَّا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ».(6)

الحسد والطمع «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».(7)

الظلم «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذقْهُ عَذَابًا كَبيرا».(8)

الغش تطفيف الكيل: «الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ»«وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ».(9)

ص: 74


1- سورة النساء آية 1.
2- سورة البقرة آية : 215
3- سورة البقرة آية: 204
4- سورة النساء آية: 37 .
5- سورة النحل آية: 23
6- سورة النحل آية: 105 .
7- سورة النساء آية: 54.
8- سورة الفرقان آية: 19 .
9- سورة المطففين آية: 2

خيانة الأمانة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ».(1)

اكل أموال اليتامى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا».(2)

وورد في السنة ما يؤكد على هذه المعاني والقيم منها قوله صلی الله علیه و آله وسلم : (إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء).(3)

وقوله صلی الله علیه و آله وسلم : (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ،دمه وماله وعرضه).(4)

ونختم بالقول هاهنا بقول رسولنا الكريم صلی الله علیه و آله وسلم : (مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُق) .(5)

فما أوردناه فيه كفاية لكل عاقل وغنى عن الأهمية.

المبحث الثالث: الأخلاق عند الغزالي

المطلب الأول: الأخلاق عند الغزالي وأهميتها.

إن كلمة أخلاق عرفت قبل زمن الغزالي من مبادئ هذا الدين ومن قبله في جاهلية العرب قال صلی الله علیه و آله وسلم : ((إنما بثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وقد عرف العرب في اليونان

ص: 75


1- سورة الأنفال آية: 27 .
2- سورة النساء آية: 10
3- اخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الزهد باب الحياء 2 / 1399 برقم (4181).
4- صحیح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله: 4 / 1986 برقم (2564).
5- سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني (ت 275ه) :تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية صيدا - بيروت كتاب الأدب، باب في حسن :الخلق 4 / 253 برقم (4799).

كتابا لأرسطو في الأخلاق ووضع ابن مسكويه كتابا في صناعة تهذيب الأخلاق، حتى كاد أن يكون هذا كتاب أصلا في علم الأخلاق والذي يهمنا هو علم الأخلاق كما فهمه الغزالي يقول الباحث والأديب زكي: ((أني بعد مراجعة كتبه لم أجده تقدمه يساوي من من مجددي الفلسفة اليونانية وإنما يفهم من علم الأخلاق شرح طرائق السلوك، ووفقا لما سنته الشريعة السمحة ورسمه الصوفية، ومن نحا نحوهم من الفقهاء، فهو تارة يسميه طريق الآخرة، وأخرى بعلم صفات القلب وعلم أسرار

معاملات الدين وعلم أخلاق الأبرار ، واهم كتبه في هذا (إحياء علوم الدين)) .(1)

ثم يسترسل زكي مبارك في كتاب الميزان للغزالي فيورد تعريفات عدة من صفحات عدة بعدها يعلق على جميع هذه التعريفات ونترك الكلام لزكي مبارك: نرى) الغزالي في ص56 من الميزان يعرف الخلق الحسن بانه إصلاح القوى الثلاث قوة التفكير وقوة الشهوة وقوة الغضب، ونراه في ص 64 يعرف الخلق الحسن بفعل ما يكره المرء، ويستشهد بالحديث: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات))(2) ، وبالآية «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌ لَكُم»(3)، وتراه يقول في ص47 ((وأما حسن الخلق، فبأن يزيل جميع العادات السيئة، التي عرف الشرع تفاصيلها، ويجعلها بحيث يبغضها، فيجتنبها كما يجتنب المستقذرات، وأن يتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها فيؤثرها، ويتنعم)). ثم يعلق فيقول : وإنما ذكرنا هذه التعاريف المبهمة التي لا تغني شيئا في التحديد ؛ لندل على ميل الغزالي إلى الخطابيات .(4)

وإنا استغرب وأتساءل بنفس الوقت كيف لباحث كبير مثل زكي مبارك أن يعلق مثل هذا التعليق في ما أورده الغزالي من تعاريف عدة للخلق وحسن الخلق؟ ونحن إذا عدنا لكتاب (الأحياء) نرى الغزالي وهو يتحدث عن بيان حقيقة الخلق وسوء الخلق بقوله : ((اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيقة حسن الخلق وأنه ما هو وما

ص: 76


1- ينظر: الأخلاق عند الغزالي، زكي مبارك، كلمات عربية للنشر والترجمة مصر - القاهرة: ص149-150.
2- صحیح مسلم کتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4 / 2174 برقم (2822).
3- سورة البقرة آية: 216
4- ينظر الأخلاق عند الغزالي: ص 150

تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته))(1) ، ثم يورد أقوالا للعلماء بل حتى للصحابة كأمثال سيدنا الإمام علي علیه السلام في بيان حسن الخلق فالذي يتكلم بهذه الثقة والمعرفة بخفايا الأمور لا يميز بين الحد والثمرة، فهل لعالم كالغزالي أن يكون له كلام لحقيقة ما يورد كلاما مبهما أو نوعا من الخطابيات؟ وكأن الغزالي في تيه من حقائق الأمور ولا يدرك حقيقة ما يقول .

أقول إن ما تكلم به الغزالي من تعاريف إنما أصاب بها كبد الحقيقة في كشف اللثام عن الخلق وهيئته فهو تارة يعطي حقيقته وماهيته وتارة يتحدث في وسائل اكتساب حسن الخلق، كما فعل في كتابه ميزان العمل، حينما تحدث عن بيان مجامع الفضائل التي بتحصيلها تنال السعادة، فهو يتناول حسب رأيي طرق اكتساب حسن الخلق،فقال (بانه يزيل جميع العادات السيئة)، فناسب المقال المعنى المراد والله واعلم.

وأما عن تعريفه للخلق بالحديث الشريف : ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات))(2) فكان مقام المقال يدور حول معرفة الخواطر ومراتب النفس فيها، وإشارة الهوى والعقل ولا أرى مناسبة للوقوف عند تعريف حسن هنا والاطلاع على كنه ،وحقيقته، وفي التعريف به بانه إصلاح القوى الثلاث قوة التفكير وقوة الشهوة وقوة الغضب، فأتصور أنه الكلام كان حول ثناء الشرع عن مكارم الأخلاق وطرق تقويمها، وهذه الثلاث هي مقومات حسن الخلق وليس الخلق بهيئته الأولى التي أرادها وهي جوهر المقولة فالجوهر ليس كالعرض فهو يفرق بين الخلق وعبارة الفعل، فيقول في كتابه (الأحياء) وليس الخلق عبارة عن الفعل، وبالوصول عن كمالات حسن الخلق يجب أن تستوي أركانه وما هي أركانه؟ قال: (فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل من الخلق وهو قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة، وقوة العدل بين هذه القوى الثلاث)(3).

ص: 77


1- إحياء علوم الدين: 62/3
2- سبق تخريجه في الصفحة السابقة.
3- إحياء علوم الدين: 62/3

فكما يقال هنالك فرق بين (الأخلاق) وبين (علم الأخلاق) فذات الشي بين الخلق ومصدره (خلق) وبين (حسن الخلق)، وما يتم اكتسابه ونيله وتحصيله، فحينما قال: بيان حقيقة حسن الخلق ، عرف بالخلق منفردا فقال : (فالخلق)، فالإمام الغزالي كان دقيقا جدا في تناول الخلق وتعريفاته وحقيقته والوقوف على باطنه والغور فيه، ووضع الحلول المناسبة لكل أمر من أموره الخفية، ولا يقال للغزالي صاحب اكبر موسوعة ثقافية وعلمية وفلسفية من خلال كتابه الأحياء انه كان ذو خطابيات في تناوله لمادة الخلق وحسن الخلق.

فهذا محض وهم وخيال وقصور وسوء فهم حينما استدرك الأديب والشاعر زكي مبارك رحمه الله فلو انه تواضع قليلا من كبريائه وعجبه بذاته ونفسه فمن تواضع لله رفعه الله.

المطلب الثاني: أنواع الفضائل عند الغزالي.

جمع الإمام الغزالي أمهات الفضائل في أربعة أنواع وهي:

(الحكمة الشجاعة، العفة، والعدالة)، ثم أخذ يفصل القول في كل واحدة من هذه الأنواع معرفاً بها، ودالاً على فضيلتها يقول: (الفضائل وان كانت كثيرة فتجمعها الأربعة، تشتمل شعبها وأنواعها، وهي الحكمة فضيلة القوة العقلية والشجاعة: فضيلة القوة الغضبية والعفة فضيلة القوة الشهوانية والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوة على ترتيب الواجب فيها تتم جمع الأمور ؛ ولذلك قيل بالعدل قامت السماوات والأرض).(1)

وهو ما تناوله في كتابة الأحياء، فقال عنها، فأمهات محاسن الأخلاق تكمن في هذه الفضائل الأربعة، وأضاف بقوله : (ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا

رسول صلی الله علیه و آله وسلم والناس فيه متفاوتون في القرب والبعد منه)(2) ، وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين لقوله: «إنَّما الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ

ص: 78


1- ميزان العمل أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه) تحقيق الدكتور سليمان دنیا دار المعارف، مصر، ط1، 1964ه: ص 264.
2- إحياء علوم الدين: 65/3

لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ»(1)، وقد فسر الغزالي موضحاً هذه القوة منه المعنى الوارد في هذه الآية فيقول: (فالإيمان بالله ورسوله هو قوة اليقين، وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة والمجاهدة بالمال هو السخاء يرجع إلى ضبط قوة الشهوة، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وهو الاعتداء).(2)

وفي تحديد الفضيلة ذاتها فيقول الأستاذ زكي مبارك أن الغزالي لا يفرق بين كلمة الفضيلة، وكلمة خلق، فهما عنده عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، وأرجع زكي مبارك قول الغزالي إلى هذه المعاني أن سبب أخذه عن أرسطو، وبعضه إلى ما أخذه عن افلاطون فقد أخذ عن أرسطو نظرية (التوسط) التي يسميها الاعتدال ويأخذ عن افلاطون نظرية المماثلة، أي مشابهة ،الله فان الله فيما يرى افلاطون هو الوحدة التي تجتمع فيها وتتصالح جميع كمالات المخلوقات .(3) وان يكن القول أن الغزالي عن هؤلاء فان المتتبع لكلام الغزالي لا يرى هذا القول واضحاً في حديثه عن الفضائل وأنواعها وتطابقه مع فلاسفة اليونان فهو قد فصل تفصيلاً وأضاف معاني وحقائق ما وجدت عند أرسطو ولا افلاطون فجهد علمائنا في هذا المجال لاسيما الغزالي لا يمكن التقليل والاستهانة به فنراه يضيف ويقول: ((فأما الفضائل بجملتها، فتنحصر في معنيين: أحدهما جودة الذهن والتمييز والآخر حسن الخلق)).(4)

ثم يضيف بعد فيقول ((فهذه مجامع الفضائل، وغايتها أن تصدر منه الفضائل أبداً بغير فكر وروية وتعب، ويطلع على الحق بغير تعب طويل، حتى كأنه يصدر منه ، وهو في غفلته كالصانع الحاذق في الخياطة والكتابة. وغاية الرذالة أن ترشح الرذائل بغير تكلف ولا فكر ولا روية))(5).

ص: 79


1- سورة الحجرات آية: 15
2- إحياء علوم الدين: 65/3 .
3- الأخلاق عند الغزالي : ص 165.
4- میزان العمل: ص 256
5- المصدر نفسه : ص 256

ثم يحصرها أي - فضائل الأخلاق بوجهين أثنين يرجع كل واحد منها في الأخير - إليهما ولا ثالث لهما، وهي (أما بتعلم بشري وتكلف اختياري، يحتاج فيه إلى زمان وتدرب وممارسة، والثاني يحصل بجود إلهي، نحو أن يولد الإنسان، فيصير بغير معلم عالماً، كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، فيصير الإنسان بغير معلم معلما)(1) وهكذا.

وبهذه العبارة نختم فهم الإمام الغزالي لمادة الأخلاق وتأكيد القول فيها باعتبارها جوهر وبوصفه لها بانها هيئة راسخة في النفس، فتتقبل كل ما يبنى عليها من عوارض الإنسان بكسبه وتحصيله لها تأكيدا لقوله تعالى: «كُلُّ نَفْس بمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»(2) ، وما احسن القول حين اعترض سؤالا افتراضيا فقال : ((فإن قلت: فبماذا اعلم أن الحاصل لي هو الخلق الجميل، وهو الوسط المعتدل بين طرفي الإفراط والتفريط ؟ فطريقك أن تنظر في الأفعال التي يوجبها ذلك الخلق الذي فيه مجاهاتك، فإذا التذذت بفعله، فاعلم أن الخلق الموجب له راسخ في نفسك، فإن كان ذلك الفعل قبيحاً فاعلم أن الخلق قبيح، مثل أن تلتذ بإمساك المال وجمعه. فموجبه خلق البخل، فعوّد نفسك نقيضه)) .(3)

وأخذ عن افلاطون نظرية التوافق ويسميها العدل والتوافق عند افلاطون هو تناسب القوى والملكات لتكمل في المرء جوانبه الخلقية وقد اكد الغزالي هذه القوى، وفصل فيها طويلا مبحرا في خفاياها، فهو يعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية، ويعني بالعدل حالة للنفس وقوة تسوس الغضب والشهوة وتحملهما على مقتضى الحكمة، ويعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وأحجامها، ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع، ومن اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن، ومن إفراطها تصدر المكر والخداع والدهاء ومن تفريطها يصدر البله والغمارة والحمق والجنون، وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة أما إفراطها وهو التهور فيصدر منه

ص: 80


1- المصدر نفسه ص:257
2- سورة المدثر آية: 38
3- میزان العمل : ص 262

الصلف والبذخ والتكبر والعجب، وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة، وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة، وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث، ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه.(1)

فبهذه الفلسفة لنظرية فضائل الأخلاق نرى الغزالي قد شرح ما أوجزه غيره وفصله وبينه بقوة عقله، واستنباطه حتى وصل إلى خفايا حقائق ألفاظه ومعانيه وهذا مما لا يوفق له كل احد إلا من نور الله قلبه و شرح صدره وان كان ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق قد تناوله إلا إن عبارة الغزالي كانت أوسع وأعمق .

المطلب الثالث: آداب العالم والمتعلم في فكر الإمام الغزالي

من أهم عناصر مهنة التعليم وجود القيم الخلقيّة، إذ لا بد من وجودها حتّى تُعد مهنة، إلا أنَّ الوضع القائم حاليا في كثير من الأنظمة التربوية التعليمية الحديثة قائم على العلمانيّة (اللادينيّة) فضلا عن انفصال القيم الخلقية عن مهنة التعليم.(2).

كما اعترف المربون الغربيون بضرورة الأخلاق في مهنة التعليم، نقل الدكتور محمد زكي قول (هكسلي) بهذا المعنى: (إنَّ العلم ينتعش تمامًا بمقدار ما يكون دينيًّا، إنَّ الأعمال العظيمة للفلاسفة لم تكن نتاج فكرهم بقدر ما كانت نتاج توجيه هذا الفكر من قبل نعمة دينية بشكل غالب في العقل).(3)

بناءً على هذا فإنَّ المبادئ الأخلاقيّة الفاضلة التي يوصي الغزالي طلبة العلم بها بعد الابتدائية، ويختم رسالته (أيّها الولد) بوصايا تربوية منها :

أوّلاً: ترك المجادلة من غير هدف وروية ووعي.

ص: 81


1- إحياء علوم الدين : 65/3
2- التربية الإسلامية التقليدية، محمد زكي بردي، من سلسلة بحوث المؤتمر العالمي الأول التعليم الإسلامي، مكة، .1397 : ص 38.
3- نقلاً عن المصدر السابق نفسه، ص 33

ثانيًا : العالم مثل الطبيب يُعالج جهل النفوس (العقول) كما يُعالج الطبيب الأبدان.

ثالثًا : يوصي المعلّم الذي يقوم بتعليم التلاميذ الابتعاد عن أسلوب الوعظ المجمل والإطالة مع أنّ المطلوب عبارات واضحة مفهومة، متسلسلة ومنطقية.

رابعا: الالتزام بمبدأ الاحترام المتبادل في طلب العلم بين المعلمين والدارسين لذا يهمس الغزالي في أذني طلاب العلم بالأمس واليوم وغدًا قائلاً: (أحب لسائر الناس ما تُحبّ لنفسك) و(العلم الحق هو الذي يصلح القلب ويُزكي النفس) هكذا يسطر لنا الغزالي قبل تسعة قرون، وصاياه التربوية التي مازال بعضها يحتفظ بأهميته وحيويته وعلميته حتى يوم الناس في القرن الواحد والعشرين، في زمن مازال كثير من الذين يشتغلون في حقل التعليم حتى الجامعية منها على أسلوب (الرواية) و(التلقين) و(الملازم المحدودة) التي لا توفر إلا الكفاف المعرفي وتبلد العقل وتشجع على الغش وتقتل في الطالب القدرات والإمكانات الخفية في بدنه وعقله وقلبه هذا هو المفكر الذي يسبق زمانه ويتقدّم لأبناء الأجيال المستقبلية وكأنّه ينتمي إلى عصرهم، بل ويتفوّق عليه.(1)

وقد تكلّم الغزالي عن التعليم، وأطال في كتابه الإحياء وتكلّم عنه في الإملاء على ما أشكل في الإحياء، وذكر (أنّه أفضل من سائر الحرف والصناعات) وبين وجه هذه الأفضليّة بالتفضيل .

كما أنَّ الغزالى لا يفكّر أن يكون المرء معلما، فقد كان من المعلمين وإنما يُطالب المعلّم بتعليم علوم الآخرة أو علوم الابن على قصد الآخرة، وسنرى فيما يذكر من آداب المعلّم عدم أخذ الأجر ولكن هذا لا يقدح في نظره إلى التعليم كمهنة، وقد وضع للمعلم الآداب الآتية:

أن يُشفق على المُتعلّمين، ويُجريهم مجرى بنيه، ويقول الغزالي في توابع هذه البنوّة، وكما أنّه حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابّوا ويتعاونوا على المقاصد كلّها، وكذلك حق تلامذة الرجل التحاب والتواد.

ص: 82


1- ينظر: أبو حامد الغزالي وأثر على الفكر الإنساني، مجموعة باحثين، بغداد، 2011م: ص39 - 40.

أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه، فلا يطلب أجرًا على إفادة العلم.

أن لا يدع من نصح المتعلّم شيئًا، والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من العلم الجلي.

أن يزجر المتعلّم عن سوء الأخلاق، بطريق التلميح والرحمة لا بطريق التوبيخ، فإنّ التصريح يهتك حجاب الهيبة.

أن لا يُقبّح في نفسه المتعلّم العلوم التي وراء علمه، فليس لمعلم اللغة أنّه يقبح علم الفقه مثلاً، بل ينبغي أن يوسع عليه طريق التعليم في غيره، وأن يُراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة.

أن يقتصر المعلّم على قدر فهمه، ولا يلقي إليه ما يبلغه عمله .

أن يعمل المعلّم بعلمه، فلا يكذب قوله فعله.

أن يجمل نفسه كي يعظم في نفوس طلبته فلا يستصغروه.

هذا بإجمال ما وضعه الغزالي من آداب المعلم وفلسفته النافذة فيها، بقي أن نعلم ما على المتعلّم من ،آداب، فقد أضافه الغزالي جملة منها فقال:

أن يقدم طهارة النفس من رذائل الأخلاق ومذموم الصفات.

أن يُقلل من اشتغاله بالدنيا، فإنّه مهما توزّعت الفكرة قصرت عن إدراك الحقائق.

أن يُذعن لنصيحة المعلّم إذعان المريض للطبيب.

أن يحترز في مبدأ أمره عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإنّ ذلك يحير ذهنه ويفتر رأيه.

أن لا يدع فنّا من الفنون المحمودة إلا وينظر فيه نظرًا يطلع به على مقصوده وغايته.

ص: 83

أن لا يخوض في فن من الفنون دفعة بل يُراعي الترتيب .

أن يعرف أنَّ العلم إنما يرجع إلى شرف الثمرة أو قوة الدليل، فعلم الدين أشرف من علم الطب، لأنَّ ثمرة الأول سعادة الأخروية وثمرة الثاني السعادة الدنيوية، والآخرة خير من الأولى.(1)

بهذه القواعد الأخلاقية للمعلم والمتعلّم أفاد الغزالي الساحة المعرفية بفلسفة ونظرة ومتطوّرة جدًّا، في عملية التعلم والتعليم، ومن هنا يمكن القول إنَّ القواعد الأخلاقية هذه التي استطرد الغزالي في تفاصيله تستطيع أن تسهم في بلورة الميثاق الأخلاقي للمعلم والمتعلّم الذي نحن بحاجة إلى ممارسته وتطبيقه في العالم الإسلامي.

الخاتمة

بعد هذه الدراسة المتواضعة والجهد المقل توصلنا إلى جملة من النتائج، وستناول أهمها :

الاهتمام بدراسة التراث الإسلامي التربوي والأخلاقي منه والذي خلفه العلماء المسلمين، والابتعاد عن الخلافات المذهبية التي تطعن في صلب العقيدة وان يكون الفهم الشامل والمعتدل لتراث الأمة والمعيار الدقيق لها والقصد السامي الذي يرجوه كل باحث.

يلاحظ من خلال فلسفة الغزالي التركيز على الجوانب الأخلاقية في التربية الإسلامية وهي سمة من سماتها المميزة.

لا يكون التركيز في العملية التعليمية على الجانب المعرفي فقط وإنما تمتد لتشمل الاتجاهات الفكرية وجوانب السلوك والقيم.

اهتم الغزالي اهتماما كبيرا في فلسفته ومنهجه على منطق الحوار والمجادلة ووثاقة الدليل في مناظرته وكلامه.

ص: 84


1- ينظر: الأخلاق عند الغزالي زكي مبارك : ص252 - 256، وإحياء علوم الدين: 64/1 - 76.

للعبادة دور في تثبيت السمات الخلقية في شخصية العالم والمتعلم.

تنمية الأفكار والقدرات الأخلاقية تحتاج إلى أعداد وتزكية خاصة للمعلمين والدارسين.

إن جميع ما ذكر في مجال الأخلاق التي قررها الفكر الأشعري، والغزالي خاصة مستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة بخلاف التربية الغربية .

يمكن للمؤسسات التربوية والتعلمية اليوم الاطلاع على القواعد والمبادئ الأخلاقية والتربوية التي قررها الغزالي؛ للاستفادة منها في الوصول إلى تصور

إسلامي معتدل في فهم علم الأخلاق، والدعوة إليها.

المصادر والمراجع

بعد القرآن الكريم

أبو حامد الغزالي وأثر على الفكر الإنساني، مجموعة باحثين، بغداد، 2011م

إحياء علوم الدين ، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه)، الغد الجديد، القاهرة 2014

الأخلاق النظرية، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، ط2، 1976 .

الأخلاق عند الغزالي، زكي مبارك ، كلمات عربية للنشر والترجمة مصر - القاهرة: ص149-150.

الأخلاق لدى المدارس الفلسفية قديما وحديثا، محمد عبد الرحيم .

أصول الدعوة، عبد الكريم زيدان مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، ط9، 2001.

الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي الدمشقي (ت 1396ه-)، دار العلم للملايين ط2002.15 م.

تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف مكرم مكتبة الدراسات الفلسفية، ط (د - ت).

التربية الإسلامية التقليدية، محمد زكي بردي، من سلسلة بحوث المؤتمر العالمي الأول التعليم الإسلامي، مكة، 1397.

سنن ابن ماجه ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (ت 273ه) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي.

ص: 85

سنن أبي داود أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني (ت 275ه) تحقیق: محمد محيي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية، صيدا – بيروت .

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي (ت 260 ، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر ، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه

القاموس المحيط ، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادی :(ت 817ه-) :تحقیق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط8 1426 ه- 2005 م).

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي القسطنطيني المشهور باسم حاجي خليفة أو الحاج خليفة (ت 1067ه-)، العلوم الحديثة، ودار الكتب العلمية، 1941م.

لسان العرب محمد بن مكرم بن على أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (ت 711ه) ، دار صادر - بيروت، ط3 ، 1414 ه-.

مباحث في فلسفة الأخلاق، محمد يوسف موسى، مطبعة الأزهر، مصر ، 1943م .

مدخل إلى دراسة علم الكلام، د. حسن محمود الشافعي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، باكستان، كراتشي، 1989 .

مسند البزار ، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار (ت 292ه)، تحقیق: محفوظ الرحمن زین الله وعادل بن سعد، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، ط1، 2009م.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (ت 261ه) تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت

المفردات في غريب القرآن لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت: 502ه-) دار المعرفة، ،بیروت، لبنان، ط6، 2010

مقدمة ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ولي الدين تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب 1425 - 2004

المنقذ من الضلال، الإمام الغزالي ت 505ه- ، تحقيق: جميل إبراهيم حبيب، دار الكتب العلمية سنة 1287ه__

ميزان العمل، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه) تحقيق : الدكتور سليمان دنیا دار المعارف، مصر، ط1، 1964ه.

النظم الإسلامية، منير البياتي، وفاضل النعيمي، ط1، بغداد، 1987 م.

ص: 86

الفلسفة الأخلاقية العقلانية عند ابن باجة الأندلسي

عند ابن باجة الأندلسي *(1)

الدكتور زيد عباس كريم (2)

مقدمة

العقلانية بتعريف أولي بسيط هي أي رؤية تدعو لاعتماد المنطق الفكري والاستدلالي مصدراً للمعرفة والتبرير، فهي تؤمن بان بعض الافتراضات يمكن معرفتها عن طريق البداهة وحدها، ومن جهة أخرى يمكن معرفتها عبر الاستدلال بحجج سليمة من افتراضات فطرية. وعليه فهي تثق بفكرة أن الحقيقة لها بناء عقلاني بحيث يمكن فهم جميع مظاهرها من خلال المبادئ الرياضية والمنطقية فقط وليس من خلال التجربة الحسية. وقد قدمت العقلانية نفسها بوصفها اتجاهاً فلسفياً اكتسب زخما كبيراً خلال ما يعرف بعصر العقل في القرن السابع عشر. فقد ارتبطت العقلانية باستخدام الطرق الرياضية والمنطقية في الفلسفة من جانب كبار المفكرين العقلانيين أمثال ديكارت لايبنتز وسبينوزا.

ويعتبر ديكارت من اشهر المناصرين الأوائل للعقلانية، حتى سميت العقلانية في بعض الأحيان بالديكارتية،(وأتباع صيغة ديكارت في العقلانية عُرفوا بالدیکارتین). فقد اعتقد ديكارت إن المعرفة بالحقائق الأبدية (مثل الرياضيات والأسس الإبستيمولوجية والميتافيزيقية للعلوم) يمكن اكتسابها عن طريق العقل وحده، دون الحاجة لأي نوع من الخبرة الحسية. فمثلا القول الشهير ((أنا أفكر إذن أنا موجود)) هو استنتاج تم الوصول

ص: 87


1- أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي من أبرز الفلاسفة المسلمين في المغرب العربي، اهتم بالطب والرياضيات والفلك والأدب والموسيقى إلى جانب الفلسفة، وكان أحد وزراء وقضاة الدولة المرابطية. يعرف عند الغرب باسم: Avempace : آفيمبس. ولد في مدينة سراقوسا الإسبانية، أوائل القرن الثاني عشر، ولم تعرف على وجه التحديد سنة ولادته وتوفي مسموماً من قبل أعدائه الذين وصموه بالكفر والإلحاد في مدينة فاس المراكشية عام 1138م 533-ه.
2- قسم الفلسفة - كلية الآداب - جامعة الكوفة

إليه قبليا وليس من خلال الاستدلال من التجربة. ويؤكد ديكارت أن هنالك أفكاراً فطرية تأتي من الحدس وحده، وهنالك أفكار أخرى تأتي من الخبرة الحسية، ونوع آخر من الافكار هي ! الخيالية. والأفكار الصالحة من بين هذه الأنواع بحسب ديكارت هي فقط الأفكار الفطرية. وقد تأثرت المذاهب الفلسفية الحديثة المتعاقبة بوجهات النظر العقلانية، ويرى كثير من الباحثين إن الاتجاه العقلاني يتبلور - بل يكاد أن يكون ما يميز الحداثة الفلسفية التي تبدأ - مع الرؤية الديكارتية والأفق الديكارتي في صياغة مفهوم الأنا المفكرة ، أي الأنا التي يتعلق وجودها بالتفكير ولكن في الوقت نفسه هذه الأنا هي التي تملك هذا التفكير وينسب لها. إلا أن أحدا من الباحثين لم ينتبه إلى ذلك السبق التاريخي والنموذج العقلاني الواضح والمتميز الذي قدمه الفكر الفلسفي الإسلامي متمثلا في فلسفة ابن باجة الأندلسي .

إذ نرى أن ابن الصائغ (أبي بكر بن باجة) هو أحد ابرز الفلاسفة المسلمين الذين ظلت مساهمتهم الفلسفية في هذا المجال معزولة ومغمورة. ((فقد انطلق هذا الفيلسوف في نظرته للإنسان من ثلاثية الدوافع التي تحركه الإنسان (الجسد)، والإنسان (العقل)، والإنسان (القلب) ، انه المنهج العقلاني في سياسة النفس والتعبير عنها بالقول والسلوك الأشمل والأكمل، وهو يبني فلسفته ليحرر الإنسان من دوافعه الحيوانية ويرتقي به نحو افقه الأخلاقي الرحيب تتحول فيه الذات إلى كل)).(1)

لا نهدف في هذا البحث أن نثبت فقط مسألة أصالة ابن باجة في هذا المجال من خلال نصوصه التي تنقلنا إلى قضية اتصال العقل بالإنسان. وهو اتجاه سنتبعه في فقرات من رسائله وأقواله- من حيث إن هذا الاتجاه هو الأصالة الحقيقية في مذهب ابن باجة العقلاني في الأخلاق. بل إن ما نهدف إليه أيضاً هو الإجابة عن سؤال إشكالي يتعلق بكيفية إمكان قيام فكر ذو منطلقات وثوابت إسلامية من بناء مذهب أخلاقي يستند إلى تلك الواقعة المضمرة في الأنا المفكرة في الاتجاهات العقلانية: واقعة انتساب التفكير للإنسان كانتساب الحس والفعل الإرادي إليه ؟ وليتسنى لنا

ص: 88


1- محمد إبراهيم د. نعمة والميالي د. سامي شهيد الفلسفة الإسلامية ، ج 2 ، دار الضياء النجف، ط1، 2007 ، ص 12

الإجابة هذا السؤال كان علينا أن نذهب إلى التأسيس المعرفي العقلاني للأخلاق عند ابن باجة بما يتضمنه هذا التأسيس من إشكالات معرفية تتعلق بأبعاده الأنطولوجية من جهة والسيكولوجية من جهة أخرى من اجل الوصول إلى بناء إبستمولوجي لنظرية في الأخلاق أي أن حدود بحثنا هنا هي حدود تأسيسية معرفية من دون أن ندخل في عرض تفاصيل فلسفته الأخلاقية التي تناولها كثير من الباحثين في كتبهم وأبحاثهم. فان هدفنا فقط وبعبارة مختصرة هو البحث عن كيفية تمكن ابن باجة الفيلسوف المسلم من وضع نظرية في الأخلاق ضمن حدود نظرية المعرفة العقلانية التي لا تؤمن بشيء سوى العقل؟

أولاً: العقلانية في فلسفة ابن باجة:

تفرض علينا الضرورة المنهجية في البداية نطرح السؤال الآتي: ما الذي يجعل الإنسان إنسانا من وجهة نظر ابن باجة (أي ليس نباتا ولا حيوان)؟ ومنه نخلص إلى قضية أساسية نجدها ضمنية في فلسفة ابن باجة قضية تشابه كثيرا قضية ديكارت: أنا أفكر فإذن أنا موجود.

فوجود الإنسان لا يتعلق بالجسم بوصفه واقعة أساسية، إنما يحضر النوع الإنساني في الجسم بالقوة لا بالفعل. كما أنه لا يتعلق بالمجتمع، لأن المجتمع لا يكمل إلا بالفكر ولا يكون إنسانيا إلا بالفكر : فالحيوان يعرف تجمعات غريزية والتجمع البشري إن كان على الفطرة تغلب عليه البهيمية (1). والحيوانية ليست واقعة أساسية لأنها تتناقض مع الإنسانية لسببين : السبب الأول أن الإنسان طفرة نوعية في الكائنات الفاسدة تماثل طفرة الحيوان بالنسبة للجماد والسبب الثاني: أن كل تماثل للفعل الحيواني ب__ الإنساني إنما هو سلب ونفي لما هو إنساني: يلاحظ ذلك في الفضائل العملية التي لها نظائر في الحيوان حيث يفقد الإنسان ذاته ويصبح خادما لغيره كما يلاحظ في أفعال الغريزة في الإنسان البهيمي الذي يعد حيوانا في مظهر إنساني(2).

ص: 89


1- انظر: الميالي سامي شهيد الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص 18
2- أبو ريان د. محمد على تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1973، ص426

أنا أفكر إذن أنا موجود، قضية مضمرة ستكرر بصيغ مختلفة في رسائل ابن باجة وأقواله، وتكاد تتضمن كوجيتو باجوي لأنها تعني أن لا وجود للإنسان قبل واقعة التفكير. لكن هذا الكوجيتو ليس واضحا تماما أي ليس قائما بذاته، إذ كان يتعين على ابن باجة أن يبحث عما يجعل التفكير في الإنسان متحققا بالفعل رغم التسليم المنطقي والطبيعي بحضوره بالقوة في النوع الإنساني.

فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى تحقيق ذلك أي معرفة الإنسان نفسه بنفسه، ومعرفته العقل الفعال. وكتابه (تدبير المتوحد) يبين معالم الطريق الموصل إلى العقل الفعال (1). ويبين أيضا معالم نظرية ابن باجة المعرفية وهي نظرية ذاتية تصورية محضة تنطلق فيها التصورية من أدنى الصور وهي الهيولانية إلى أعلاها، وهي العقل المفارق، لتؤلف سلسلة. والعقل الإنساني يجتاز في تكامله، مراحل تقابل تلك السلسلة، حتى يصير عقلا كاملا.(2) فالمعقولات بالقوة - كما تظهر في نص لابن باجة - عندما تجرد من الهيولى، تصبح موضوعات للفك، ويصبح وجودها وجود صور خالصة لم تعد متعلقة بمادة. وعلى هذا فان صور الكائنات حينما تصبح معقولات بالفعل - وهذا هو الحد الأسمى الذي يمكنها بلوغه - يمكن لها أن تفكر بدورها كعقل بالفعل. وبذلك يكون هدف المتوحد أن يصل إلى التفكير في الصور المعقولة من دون تجردها من مادة فكأنه بهذا يفكر في ذاته من حيث انه سيكون حاصلا على معقولات بالفعل خالصة تماما من أي تعلق بالهيولى أي أن ذاته ستكون موضوعا لتفكيره .(3)

ويمكننا أن نستخلص من سلسلة انتقال العقل من القوة إلى الفعل، ومن القول بأن التفكير في الإنسان هو العقل، إن ابن باجة أراد القول بأن الإنسان لا يمتلك العقل إلا عن طريق التفكير ، وهذا يعني بعبارة أخرى أنا أفكر فأنا هو هو العقل. ولابد من أن نبين أن لفظ الأنا المتكلم وإن كان في نص (ابن باجة) الفلسفي غير مصرح

ص: 90


1- المصدر نفسه، ص 420
2- دي بور، ت . ج: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة د. عبد الهادي أبو ريدة دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1948، ص 304
3- أبو ريان د. محمد علي المصدر السابق، ص 421

به، فإنه يحضر ضمنيا وبقوة في ضمير المخاطب أنت أو ضمير الغائب هو أو فيما يشبه فعل الأمر . أي حينما تفكر فأنت هو العقل أو عليك أن تفكر لكي تكون العقل. فالتفكير بحسب فهمنا لنص ابن باجة، هو عملية امتلاك تدريجي لما يكوّن العقل أي المعقولات أو الصور العقلية، لكنه ليس مجرد حضور لأي معقول أو صورة. فهذا التفكير المختلط ليس له دلالة خاصة ((فالقوة الفكرية إنما تحصل للإنسان إذا حصلت المعقولات، فبحصول المعقولات تحدث الشهوة المحركة إلى الفكر وما يكون عنه وبهذه الشخص لا تلك)).(1) فالتفكير استحضار لصور صادقة صور لموضوعات خارجية - فصدقها يرتبط فضلا عن المحسوسات- وفي قمة التفكير تعدم هذه الإضافة ويستمر الصدق واليقين دون أن يتحول المعقول إلى خيال أو وهم لفظي. تلك إذن تجربة واقعة التفكير ومحكها الحقيقي. ويشعر ابن باجة بحراجة هذه اللحظة في القمة ودقتها والتباسها. ويرى أنها لا تتم بالتفكير الاستدلالي السائد في علوم التعليم والعلوم الطبيعية. إنها نظر جديد يمتلك فيه الفكر معقولية خالصة بنظر حدسي مباشر وعبره يكون امتلاك المطلق ممكنا.(2) ولكن بين الأنا أفكر التي تفترض لزوم الاستدلال النظري والإضافة الحسية والأنا أفكر التي تستخلص منها، صلة وثيقة وعميقة. فمن دون امتلاك الحقيقة العقلية الاستدلالية الحسية لا يمكن امتلاك الحقيقة العقلية الخالصة. لأن الأخيرة هي الأولى في ذاتها. فامتلاك الأولى هو شرط الحصول الامتلاك الثانية وان ما يحدث في التفكير ليس خلق التصورات أو المعقولات، بل استحضارها عبر الحس ثم تصفيتها وتطهيرها وتوحيدها.(3)

من هذا كله يتضح أن العقل الذي نتملكه بالتفكير هو هذا المعقول في أكمل صوره. وبحسب (ابن باجة) فإننا نرى العقل في المعقولات كما نرى الشمس في الأشياء التي ينعكس فيها ضوءها. لكن هذا التمثيل المجازي يظل مجازيا، لأن إدراك الشمس لا يمتلك الشمس بينما إدراك العقل يعني امتلاكه فالتعقل والعقل

ص: 91


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق د. ماجد فخري دار النهار بيروت، ط1، 1968 ، ص 160.
2- كوربان هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة نصير مروة، دار عويدات، بيروت، بلا ط، 2004، ص 354
3- وقيدي محمد الكوجيتو بين ديكارت وكانت ضمن كتاب دراسات مغربية دار التنوير، بیروت، بلا ط، ص 120

والمعقول بالفعل يصبح شيئا واحدا.(1) فنحن نعلم أن (ابن سينا) سيسخر من هذا التماهي بين التفكير والعقل الذي كان حاضرا في التراث المشائي قبل ابن باجة، وسيعزوه إلى الحشو الذي أحدثه (فورفوريوس) الصوري في هذا التراث. ولكن خطورة هذا التماهي - التي سيؤكدها التوظيف الباجي - ولعلها هي التي أزعجت الشيخ الرئيس ، تكمن في كونه يهدد بردم الهوة بين الإنسان والعقل الردم الذي يلوح بشروط في فلسفة ابن باجة. ذلك لأن الطريق الباجي لا يمنح هذا الامتياز للجميع أي للإنسان من حيث هو إنسان (2).

فالامتلاك الواعي للعقل ليس أعدل الأشياء قسمة، بل إنه امتلاك نخبوي لكنها نخبوية لا تنفي عموم الإمكان في الخطاب الباجي (لأنه يقصد كل من فكر تبعا لشرائط الطريق) يصبح العقل عينه كما أنها لا تنفي عن عموم النظار والجمهور امتلاكا معينا للعقل : امتلاكا لا شعوريا غير مباشر وامتلاكا لعقول متكثرة ومتنوعة. فأنا أفكر إذن أنا العقل في وحدته وكماله وصفائه لا تنفي في قاعدة الهرم أنا أفكر فأنا العقل في تنوعه واختلافه وارتباطه بالحس .(3)

هذا الطريق المعرفي لامتلاك العقل سيطرح مشكلة أنطولوجية صعبة. فكيف يلتقي الوجودان في الإنسان الوجود الجسماني والوجود العقلي؟. لم يكن التراث الأفلاطوني في هذه القضية مقنعا تماما، لأنه يحمل قضيتين مرتبكتين: قضية وجود الإنسان قبل وجوده وقضية التناسخ . أي: إن أي جسم يمكن أن يكون إنسانا. وهو ما ينتهي إليه دوما أي قول بوجود جوهرين متناقضين في الإنسان. وهو أيضا ما يصدق على المشائين الذين تبنوا هذا الاتجاه أو لمحوا إليه للتخلص من القول (بحسية الفكر ونفي الخلود) ولذلك يبدو أن حل هذه المعضلة كان دوما يتجه بصورة عامة إما إلى نفي العقل أو نفي الإنسان الذات المتفردة، ولكن يبدو أيضا أن ابن باجة

ص: 92


1- أبو ريان، د. محمد علي المصدر السابق، ص 423
2- ينظر: الميالي، سامي: الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص 49-52.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 63-64 ، اذ يخلص الدكتور في بحثه عن ابن باجة في انه كان ((واقعيا استقرائيا ينتقل من الجزء إلى الكل ...)) .

(فيلسوف القرن 12م) ممن حاول أن يشذ عن هذا الاتجاه العام لأنه تصور وحدة جوهرية في الإنسان، وحدة العقل والجسم.

ونظرا لدقة المسألة وتعدد تأويلات الدارسين وتناثر شذرات أفلوطينية مخطوطات ابن باجة سنعمد في هذا القسم من القول إلى استقراء العبارات الباجية التي نعول عليها لبيان ما نقصد إليه :

ففي تدبير المتوحد يتحدث ابن باجة عن أصناف من الصور الروحانية، فالصنف الأول الذي هو ((صور الأجسام المستديرة ليس هيولانيا بوجه...... أما الصنف الثاني الذي هو العقل الفعال والعقل المستفاد فرغم أنه غير هيولاني أصلا إلا أن له نسبة إلى الهيولي أي مستفاد فعال لها وهو العقل الفاعل)).(1)والعبارة الباجية واضحة في كون العقل الفاعل والمستفاد في الإنسان بسبب هذه النسبة إلى الهيولى لا يرقى إلى صور الأجسام المستديرة التي لا نسبة لها مطلقا للهيولى.

ويلاحظ أيضا في خاتمة التدبير، أن ابن باجة يلح على الصلة الجوهرية بين العقل والإنسان. فالمعقول كما يقول ((لا يوجد إلا للإنسان خاصة فهو موضوع نوع الإنسان على أنه يوصف به وهو موضوعه على أنه ذو وجود وذو ملكة)).(2) لكن ذلك لا يعني أن الإنسان يمكن أن يدمج عالم الأجرام السماوية.

فالإنسان فيما يظهر كالواسطة ((بين السرمدية والكائنة الفاسدة. ففيه معنيان معنى هو في تلك السرمدية فيكون به سرمديا ومعنى يشبه الكائنة الفاسدة فيكون به كائنا فاسدا)).(3) ويخلص ابن باجة في هذه الخاتمة ((إلى أن الإنسان من عجائب الطبيعة، وأن فيه أمورا كثيرة.. وهو إنسان بمجموعها .. ففيه القوة الفانية.. فليس هذه تعقل صورتها ... وفيه القوى الحساسة والخيالية ،والذاكرة وهذه كلها لا تعقل ذواتها فلا تلحقها ... وفيه القوة الناطقة وهذه الخاصة بها)).(4)

ص: 93


1- ابن باجة تدبير المتوحد: رسائل ابن باجة الإلهية ت م ف ص 49-50
2- ابن باجة المصدر نفسه
3- المصدر نفسه، ص 95.
4- المصدر نفسه، ص 96.

ثانياً مشكلة العقل الهيولاني:

يفرق ابن باجة بين العقل الهيولاني والعقل بالفعل والعقل المستفاد والعقل الفعال. ففي رسالة الاتصال يبين ابن باجة أنه إذا كان الإنسان لا يكون إنسانا إلا بالقوة الفكرية . و ((القوة الفكرية إنما تحصل إذا حصلت المعقولات لأنه بحصول المعقولات تحدث الشهوة المحركة إلى الفكر وما يكون عنه))(1).

ولما كان المعقول ((ليس صورة لهيولي أصلا)) ولا هو صورة ((روحانية لجسم)) كالخيالات. فإن ابن باجة يخلص إلى أن المعقول ((صورة هيولاها الصور الروحانية الخيالية المتوسطة))(2) وهي الصور الروحانية التي ذكرت في تدبير المتوحد.

إن هذه النتيجة تبدو مستغربة لأن ابن باجة قد رفض في القول الذي يتلو رسالة الوداع - اعتبار العلاقة بين القوى في آلية التحريك العقلي علاقة الصورة بالهيولى لما ينشأ عن ذلك من فساد اللاحق بفساد السابق، ويبدو أن هذا الاعتبار إما أنه قد اختفى أو أن علاقة الصورة بالهيولى قد حملها ابن باجة معنى جديدا لا يلزم عنه مثل هذا التعلق الوجودي.

لكنها نتيجة رغم ذلك تنسجم تماما مع ما سبق ذكره في تدبير المتوحد حيث وردت الإشارة إلى أن للعقل نسبة للهيولي. فهذه النسبة لا تعدو أن تكون نسبة الصورة إلى الهيولي مادام أن العقل الفاعل للمعقولات والمتمم لها هو ذاته المعقول بالفعل أي هو الصورة العقلية.

يبقى الإشكال في الهيولى وهو ما تم حسمه في رسالة الاتصال. فما دام من المتعذر أن يكون المقصود هو الهيولى الطبيعية التي تؤسس مادة الجسم وعناصره. لأن ذلك يعني أنه لا وجود لجسم حي من دون عقل فما يصدق على النفس كصورة للجسم لا يصدق على العقل كصورة للجسم. فقد عدّ ابن باجة الصور الروحانية

ص: 94


1- ابن باجة رسالة الاتصال: رسائل ابن باجة الإلهية ت ماجد فخري ص 160 .
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 160-161

هي هذه الهيولى التي للعقل نسبة إليها، لأنه لا يمكن أن نتصور إنسانا عاقلا دون أن يكون قبلياً جسماً حياً.

لكن هذه النسبة ليست مطلقة دون شرائط، فهي لا تلزم بالضرورة عن الحياة ذاتها في الجسم، إنها تلزم عن نوع من الأجسام. فالحياة تتضمن هذا الاستعداد في فطرتها ويستمر فيها عبر التوالد وهو النوع البشري كما سبقت الإشارة إلى ذلك في تدبير المتوحد.

كما يتعين أن تكون هذه النسبة تبعا لما سبق ذكره في رسالة الوداع والقول الذي يتلوها هي نسبة المحرك للمتحرك. ففي رسالة الاتصال يقول ابن باجة ((إن المعقولات التي هي صور غير متصلة بالجسم إنما تحرك الجسم بتوسط الصور الروحانية التي هي آلة)).(1)

وتبعا لما ذكره ابن باجة مرارا فإن نسبة المحرك للمتحرك في هذه العبارة تعني تحريك المحرك الذي لا يتحرك. وهو تحريك له وجه مماثلة مع تحريك الإله للعالم: فهو تحريك الفاعل للمعقولات وتحريك الغاية المتمم للمعقولات. لكن حضور النسبة إلى الهيولي واعتبار الهيولي هي الصور الروحانية يجعل هذا التحريك متميزا. إنه تحريك باطني في عالم نفسي للإنسان. تحريك المفارق بالمعنى وليس المفارق بالذات .(2)

وهنا نعيد إثارة السؤال الآتي مرة أخرى: ما هو العقل في الإنسان؟ أي ما هو العقل في ضوء ما اشرنا إليه أعلاه من رسائل ابن باجة وما علاقته بالقوة الناطقة؟

نستطيع أن نستشف في رسائل ابن باجة (التدبير / الوداع الاتصال). إجابتين لهذا السؤال.

ص: 95


1- ابن باجة : المصدر نفسه، ص 160-161
2- يذهب الدكتور سامي شهيد الميالي: الفلسفة الإسلامية ج2 ، مصدر سبق ذكره ، ص 5-53 ، إلى تأكيد هذا الرأي الرأي، أما الدكتور محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، مصدر سبق ذكره،ص422-423، فيذهب إلى العقل يعقل الصورة المفارقة كما هى فى ذاتها، وهو بذلك يحيل إلى اثر نظرية أفلاطون المثالية على فلسفة ابن باجة. وهو أمر سبق وأثبتنا بطلانه.

الجواب الأول: أن العقل في الإنسان يعني إدراك المعقولات في ذاتها.

وهذا يعني ان العقل في الإنسان ينير له العالم . يقدم له العالم الخارجي معقولا. جواب ضمني عن سؤال لا يزال يحير التأمل الفلسفي : ما الذي يجعل العالم معقولا؟ يجيب ابن باجة بقوله ((إن العقل يدرك ماهية الشيء أما الحس والخيال فيدركان الشيء)).(1)

ولما كانت ماهية الشيء هي معناه ومعناه صورته بنسبته إلى المادة، وكانت الصورة والعقل واحدا ،بالموضوع وإثنين بالقول. يخلص ابن باجة إلى أن العقل حينما يعقل الشيء فإنما يقصد تحصيل الصورة من حيث هي أحد الموجودات لا من حيث هي مضافة إلى موجود هيولاني. وهذا يعني تجاوز مرتبة الحس والخيال ومرتبة العقل النظري.

فالذي بالقوة في الحس والخيال إنما هو الجسم والصورة. فالصورة في الحس والخيال مقترنة بالأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالصورة تتقوم بهذه الأعراض على أنها كلها في الهيولى في ذات الوقت. أما العقل النظري فإنما ينظر في صور الموجودات وهي ما هي فهو لا ينظر في الصورة كماهية مطلقة. إنه ينظر إليها من حيث حصل لها هذه الإضافة أي من حيث إضافتها للأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالصورة في الحس والخيال تقومها الهيولى وفي العقل النظري تضاف للهيولي، إنه ينظر إليها من حيث حصل لها هذه الإضافة أي من حيث أضافتها للأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالعقل النظري إنما يروم تحصيل هذه الصورة في هذه الإضافة.

لكن هذه المعقولات الهيولانية لابد من أن يكون لها وجود آخر غير كونها ماهيات، أي إن وجودها في عقل لا يتقدم وجوده بالهيولى بوجه، ويكون لها حال غير ما هي عليه المعقولات . ذلك لأنه لابد من أن يكون في الوجود شيء ما وجوده ماهيته، ويكون وجوده الذي يخصه لا في هيولى على أنه ((لم يتقوم بالهيولى)).(2)

ص: 96


1- ابن باجة : كتاب النفس، تحقيق د. محمد صغير حسن المعصومي، دار صادر، بيروت، ط1992 ،2 ، ص 78.
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 78 .

لكن ابن باجة يضيف، في انسجام تام مع ما سبق أن ذكره في الرسائل: ((أن هذا الذي وجوده الذي يخصه لا في هيولى ولم يتقوم بالهيولى غير مباين لما في الهيولي جملة بل يتصل بالهيولي ليس اتصالا على أن يكون له وجود فقد كان موجودا دونها وليس اتصالا مباشرا بالهيولي كأعراض تقومه بل إنما يتصل بالمعقولات الهيولانية ليتممها وعند تمامها تكون لمعقولات الهيولانية التي بالفعل وهي التي وجودها في الهيولي كالهيولي لهذا)).(1)

أما الجواب الثاني فهو : أن العقل في الإنسان يعني(فعل العقل) في ذاته.

وهو فحص التعقل في الإنسان. وهو فحص لأهم أفعال القوة الناطقة التي بها يتم

تحصيل المعرفة، فحص ينتهي أيضا إلى إثبات عقل أيضا إلى إثبات عقل في الإنسان له اتصال ضرورة بالهيولى. ذلك أن في التعقل يحضر الظن واليقين ويلتقي في تصوره (للكلي وللحد) المعقول بالمشار إليه، وينتهي فيه العلم بالغاية والمحمول إلى ضرورة علم بما ليس له محمول ولا هيولى.

يخلص ابن باجة من هذا إلى ((أن التعقل (العقل) رغم أنه لا يمكن أن يكون له شيء يجري مجرى الهيولى لأن له صورة تخصه وعقلنا إياها هو وجودها فإن هذا التعقل يماثل تعقل المادة الأولى. فيكون الوجه في عقلنا المادة الأولى مقابلا للوجه الذي يعقل العقل الأول . ذلك أننا إنما عقلنا المادة الأولى بتلك النسبة التي لها إلى الأجسام من دون توسط فنسبتها إلى المادة الأولى لا صورة لها فلا ماهية لها فلا يمكن أن تعقل في ذاتها لأن ما يعقل إنما هو ماهية شيء وقد صارت لها هذه النسبة بمثابة صورة لها وكذلك هذا العقل فإنه يعقل بالنسبة إلى الصورة القريبة منه دون توسط ووجود هذه النسبة ليست له لأنه لا يعقل في ذاته كالمادة الأولى بل إن ذلك يعود لطبيعة وجوده فلنقص وجود هذا العقل تكون تلك الصورة القريبة تقوم له مقام الهيولى)).(2)

ص: 97


1- ابن باجة المصدر نفسه، ص 79.
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 96.

وهكذا يفصل ابن باجة بين وجودين للعقل . وجوده الكامل كصورة يدرك من دون إضافة، ماهيته عين وجوده. ووجوده ناقصا يفتقر إلى نسبة يتعقل بها هي نسبته إلى أقرب صورة له تقوم له مقام الهيولى.

فنجده يربط المعرفة بالعقل الذي يخرجها من القوة إلى الفعل وهو الذي يوحد بين الكثرة وتحقيق الوحدة فيرى ((إن غاية النظر الفلسفي أن يبلغ العالم مرحلة يدرك بها جميع المعقولات لا من حيث هي معقولات هيولانية ولا روحية بل من حيث المعقولات احد موجودات العالم وصوره)).(1)

ثالثاً البعد السيكولوجي للأخلاق:

يرى ابن باجة أن العلم بالنفس يتقدم سائر العلوم الطبيعية أنواع الشرف كلها وليس يمكننا أن نقف على مبادئ العلوم ما لم نقف على النفس ونعلم ما هي كم من لا يعرف حال نفسه فهو اخلق أن لا يوثق به في معرفة غيره .(2) ولكي يصلح الإنسان نفسه يجب أن يعرفها أولا، فالمعرفة الحقيقية هي معرفة الذات واستخراج ما فيها من عناصر الخير والحق والفضيلة.(3) والعلم بالنفس جزء من العلم الطبيعي بحسب أرسطو، بل أن العلوم العقلية الخلقية إنما تنشأ من رجوع النفس على ذاتها وتعرف أحوالها .(4) وفي سياق بحث ابن باجة في النفس نراه يقسمها إلى اربع قوى هي: القوة الغاذية والقوة الحاسة، والقوة المتخيلة والقوة الناطقة أي العقل .(5) فيعدها العامل المحرك للإنسان في أفعاله على تنوع دوافعه واختلاف نواياه وغاياته الأخلاقية. وهكذا يتدرج بها من الأقل إلى الأكثر كماً مثلما يذكرها على سبيل الجدل النازل، وعلى سبيل الجدل الصاعد يرتقي بها الإنسان ،كيفاً، فيرتقي في أفعاله خلال فترة حياته من الصور الحسية إلى الخيالية حتى يكون إنساناً بالقوة الفكرية فيرى أن

ص: 98


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان ضمن رسائل ابن باجة الإلهية تحقيق ماجد فخري، ص 167.
2- الاهواني احمد فؤاد، ابن باجة، دار الأنوار بيروت، 1965، ص54.
3- الميالي، سامي شهيد، الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص30.
4- كرم يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت، ط1، 1977، ص 153.
5- ينظر: ابن باجة النفس، ص 9 و ما بعدها.

((القوة الفكرية إنما تحصل له إذا حصلت المعقولات فبحصول المعقولات تحدث الشهوة المحركة إلى الفكر وما يكون عنه وبهذه لا بتلك من نتائج عملية تتجلى في أفعال الإنسان العاقل)).(1) فالقوة الناطقة عند ابن باجة وهي أعلى قوى النفس عنده تقال أولا على الصورة الروحانية من جهة أنها تقبل العقل وتقال على العقل بالفعل .

السؤال هنا يتعلق بهذا العقل الذي له صلة بالهيولى والذي يؤسس مع سائر القوى النفسانية وحدة الإنسان وذاتيته ومركزيته وموقعه المتفرد في الكون هذا العقل كيف يتصل بالجسم ؟ إن مثل هذا الاتصال الذي لم تعد دلالته تتجاوز كيان الإنسان يتعين بيان كيفيته وتلك هي قضية الرسائل الأخرى. ففي رسالة الوداع يقول ابن باجة ((إن العقل في نفسه إذا تجرد لا يتحرك أصلا لأنه محرك صرفا... فوجوده متحركا من أنقص وجوداته)).(2)

إن هذه المقدمة التي تنسجم مع ما ورد في الشروح وفي كتاب النفس سرعان ما يتجاوزها ابن باجة مستدركا أن هذا العقل ((من شأنه أن يوجد تارة ولا يوجد وهو بهذا المعنى أنقص رتبة من الجواهر الثواني... ولذلك أيضا احتاج هذا العقل للبدن.. ليتحقق وجوده. فالجسم أداة لإثبات وجود العقل. فالعقل في البدن إنما يبتغي نفسه لا آلاته، وهو إنما يصلح لآلاته وأصلحت له. ليوجد هو .. وهو على أفضل أحواله)).(3)

لكن وجود العقل في الإنسان يختلف عن وجود سائر القوى فيه بحسب ابن باجة، إذ إن وجوده يرتبط بالتصور. ((فتعقلنا لهذه القوة التي نحكم بها على أشياء غير متناهية لم نشاهد فيها إلا أشخاصا قليلة أو لم نشاهد منها شخصا أصلا. ليس يكون بالوهم ولا بالتخيل فإن أكثر ذلك كاذب.. وإنما تعقلنا بأن نتصور ما هي)

) .(4)

ويضيف ابن باجة موضحا أن العقل لأنه ليس في مادة ( كان حصوله هو تصوره.

ص: 99


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان، ص 161
2- ابن باجة رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية ت ماجد فخري ص 127
3- المصدر نفسه، ص 127.
4- المصدر نفسه، ص 136.

وهذا ما يميز تصور العقل عن تصور الأشياء. فإن تصور الخزانة ليس هو حصول شخص من أشخاصها عندنا. فإنه قد يتصورها من لا يملك واحدا من أشخاصها. أما العقل فتصوره هو وجوده)).(1)

لكن من جهة أخرى ((قد نتصور ما ليس موجودا كعنقاء غراب وعنز أيل. فإن تلك أيضا تصورها هو وجودها لكن الفارق بين التصورين أن تصور المتخيلات يصنعها أو يختلقها، فهي متصورة على أنها مفعولة لنا ومركبة من أفعالنا أما تصور العقل فليس كذلك لأن العقل لم يوجد بالتصور حتى كان التصور فاعله أو مركبه)) .(2)

لو تأملنا هذا المعنى في ضوء الأفكار السابقة فإن الالتباس الذي قد تثيره نصوص ابن باجة أعلاه يتعلق بوجود (الله) الذي لا يدرك إلا بالتصور أيضا فكيف يكون ما لا صلة له بالجسم يماثل ما لا يمكن أن تكون له هذه الصلة؟

وحقيقة الأمر، لا ترد الإجابة صراحة في نصوص ابن باجة تلك. لكن رغم الوصف الإلهي للعقل (المنقول عن النيقوماخوس) في هذه النصوص، فإن الإجابة يمكن أن نستنبطها استنباطا منها . ف__ الله في شرح ابن باجة للمقالة الثامنة من السماع يتعلق تصوره بحركة العالم وافتقاره الغائي إلى محرك لا يتحرك لا بالذات ولا بالعرض. والله في مدخل التدبير تفوق مرتبته مرتبة العقول عموما ولا يقاس بالإنسان: إنه ما يفوق كل وصف وتصور.

لكن ما يرفع هذا اللبس ويضع العقل في مرتبته الجسمانية في الإنسان، هو ما ورد في القول الذي يتلو رسالة الوداع. فتصور العقل في ذاته يلزم عنه تصوره في جسم بعينه تصوره محركا لهذا الجسم في العيان الحركة الإنسانية وليس الحركة الطبيعية القسرية ولا الحركة الحيوانية الخيالية. فالعقل في الإنسان هو حركة الرأي فيه التي يمكن استبطانها في الوعي. لأن ((الحركة الإنسانية هي الحركة الكائنة عن الرأي صوابا كان أم خطأ.. فإذا تقدم الرأي تحركت الخيالية لتدرك ما أوجه الرأي.- وأحضر

ص: 100


1- المصدر نفسه، ص 138.
2- المصدر نفسه، ص 139.

الحس المشترك - صنم ذلك الرأي. وعندئذ يحضر الاشتياق فيتحرك الج- الجسم)) (1).

إن هذه الآلية السيكولوجية التي خلص إليها ابن باجة تفسير لما ورد في (رسائل الوداع) أي إن الجسم آلة العقل وأداته فيبدو الآن أنه آلته بمعان ثلاثة:

1 - بمعنى الرأي المحرك : فالعقل في الإنسان بهذا المعنى هو مجموع الآراء التي تخطر بالذهن صائبة كانت أو خاطئة. وما يمنحها انتسابا للعقل وتمثيلا له في آن واحد هو كونها تملك قدرة على التحريك أي خلق حركة متميزة تخالف حركة الطبيعة والحيوان: حركة الرأي أي الحركة الإنسانية الاختيارية.

2 - بمعنى الفاعل السيكولوجي: إنه هو الذي يمنح للإنسان صفة الفاعل ومسؤولية الفاعل على الحقيقة. إنه يبلور الذات الفاعلة وتتحقق فيه وحده. وهو أمر أكده ابن باجة في الشروح وفي الرسائل غير أن هذه الفعالية السيكولوجية المشار إليها لا يتم إلا بتضافر مع أفعال أخرى فعل الخيال والحس والشوق مما يتعين معه افتراض حد أدنى من المشاركة في الطبيعة بين الرأي وبقية القوى الفاعلة النفسية والبدنية.

3 - إن الجسم آلة العقل بتوسط القوى النفسانية : فإن ابن باجة يشير في هذا القول الذي يتلو رسالة الوداع إلى أن العقل الذي لا يدركه ((البلى ولا السن)) كما ورد في كتاب النفس وفي رسالة الوداع لا يمكن للجسم قبوله إلا بعد وجود هذه القوى في الجسم، أي القوى الروحانية الخيالية والحسية، وجودا تراتبيا، لا يعني أن وجود اللاحق يتعلق بوجود السابق كما هو الشأن في علاقة المادة والصورة. إنه تراتب وجودي تفاضلي .(2)

في عموم هذه المعاني نلمس ولو بغموض أن تفسير وجود العقل في الإنسان يتجه نحو اعتبار هذا الوجود معلقا بالوجود النفسي بنوع من المشاركة أو النسبة. فهو ملحق وفاعل في نطاق الآلية النفسية وبتكامل مع سائر القوى النفسانية. ولا يمكن أن نفهم أبعاد هذه الآلية السيكولوجية التي خلص إليها ابن باجة إلا في حدود أبحاث

ص: 101


1- ابن باجة، قول يتلو رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية ت ،فخري ص 151
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 152

علم النفس المعاصر الذي ينطلق أساسا من مفهوم الذات، فقد أكد (كارل روجرز Carl Rogers)(1) إن استنتاجات الفرد عن العالم المحيط به مستمدة من تجربته الشخصية، وتسوقه هذه الاستنتاجات قسرا نحو التحيز لحاجات الذات، ويؤكد (روجرز) إن الفرد في مسيرة نموه يتعب كثيرا لتحقيق الذات والدفاع عنها وتعزيزها (2). ومن جهة أخرى شدد (لودفيك بينس فانجر Ludwing Beins Wanger)(3) على مفهوم الوجود المتعين الذي اهتم فيه بكلية الوجود الإنساني، وفي هذا النمط من الفهم ينظر إلى النمو بشكل خلاق يتمكن الإنسان من خلاله من تحقيق ذاته، بإتباع نظام مستمد من قيمه الذاتية(4).

والجدير بالذكر هنا أن علم النفس المعاصر يتوجه إلى الإنسان بوصفه موجودا يتكئ على ذاته تماما، وفي هذه الرؤية ينظر إلى الإنسان بفردانيته كشخص لا كنوع ونظام القيم المتحكم بسلوك كل فرد من الأفراد، فهو قائم بذاته كليا، إذ أن هنالك عللا فاعلية وأخرى غائية داخل الإنسان أيضا إلى حد أن الفرد يحقق عمليا جميع استعداداته وقواه الذاتية، وهو وحيد منقطع عن العلل الخارجية. وأكثر ذلك، بإمكانه التحكم في غاية وجوده (5).

رابعاً: ديالكتيك الأخلاق العقلانية

عطفا على ما تقدم فان صور العالم بحسب ابن باجة تأتي على مراتب متعددة من أفعال الإنسان أعلاها مرتبة هي صور المعقولات الخالصة من أي علاقات جسمية، وأدناها مرتبة الصور الجسمانية. فإذا كانت الصور الجسمانية ملونة بالكثرة فان الصور الروحانية العالية مطهرة بالوحدة والتفرد والتطور الفكري من مرتبة الصور الدنيا إلى

ص: 102


1- (كارل روجرز Carl Rogers) معالج نفسي أمريكي ولد عام 1902 لمزيد من الاطلاع انظر زيعور، د. علي مذاهب علم النفس دار الأندلس، بيروت، ط2، 1977، ص 128.
2- ينظر مراد د. يوسف مبادئ علم النفس العام، دار المعارف، القاهرة، ط7، 1978، ص 372
3- (لودفيك بينس فانجر Ludwing Beins Wanger) عالم نفس سويسري ولد عام 1881م وهو احد طلائع علم النفس الوجودي، توفي عام 1957م. انظر ،زيعور، د. علي مذاهب علم النفس، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1977، ص135.
4- ينظر زيعور، د. علي المصدر نفسه، ص 128 .
5- انظر: المصدر نفسه، ص129

مرتبة الصور العليا يتم بمساعدة العقل الفعال التي يبلغ بها الفعل الإنساني إلى كمال سعادته عبر مستويات ثلاث من المعرفة العقلانية توازي أو تطابق ثلاث درجات أو مراتب من الدوام والخلود في الأفعال، فمن كان عمله محددا بحدود الحس وكان رهنا بتغيير الإحساسات فهو لا يستطيع في أفعاله الاتصال بالأمر الدائم، ومن ثم يفنى بفناء الموضوعات الحسية. أما من كان فعله وعمله قائما على الاستنباط فهو أعطى من الأمر الدائم ذلك القدر فقط. أي القدر الذي يتناسب مع الدرجة التي تحتلها المعرفة بقوانين الطبيعة في سلم الشمول والثبات. أما من بلغ مرتبة العلم الكلي فان الحال الحاصل له إنما هو الأمر الدائم بفضل الجوهر الأخلاقي لأفعاله العقلية المتوازنة والمعتدلة والسامية(1).

وهكذا تتحرك نظرية ابن باجة في الأخلاق العقلانية في حدود الربط بين العقل والتعقل وفي حدود الاتصال والمفارقة عبر خط الانتقال من الكثرة إلى وحدة تلغيها وخط آخر هو عكسها أي النزول من الوحدة إلى الكثرة، وحركتا الصعود والنزول تمكن الإنسان من الاتصال مع الكائن الأول أن كان في إرادته ومعرفته ودوافعه وان كان في أفعاله وسلوكه(2). وهذه الربط بين العقل والتعقل، والاتصال والمفارقة، يسمح لنا باستنتاج أنّه رغم صياغته لإشكالية العقل والتعقل تبقي في جوهرها ذات ملامح صورية، إلا أنها من الناحية المنهجية ذات صبغة ديالكتيكية، يمكن الوقوف عليها بسهولة عند التمعن في المفارقات التي يضعها. ومن الطرق التي يقترحها ابن باجة لحل تلك الإشكالية . نراه يقدم إمكانية ثانية لارتقاء الإنسان بأفعاله العملية والعقلية إلى مرتبة العقل الفعال إلى جانب الإمكانية الأولى إذ يرى أن الإمكان صنفان صنف طبيعي مادي وهو الذي يدرك بالعلم ويقدر الإنسان الوقوف عليه من تلقائه، أما الصنف الثاني الإلهي فإنما يدرك بمعونة إلهية، لذلك بعث الله الرسل وجعل الأنبياء ليخبروا معشر الناس بالإمكانات الإلهية عن طريق الوحي والنقل والنص

ص: 103


1- إبراهيم نعمة محمد والميالي سامي ،شهيد الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص 47.
2- زيادة معن الحركة من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة دراسة في فلسفة ابن باجة الأندلسي، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1985، ص 35.

الشرعي(1) فأفعال الإنسان وأقواله وتصرفه تبقى العامل الأول الحاسم في التواصل مع العقل الفعال. وهذا بعداً أنطولوجياً نلمس حضوره أيضا في ثنايا الخطاب الباجي في نظرته إلي العقل يمكن تمييزه عن البعد المعرفي، فإذا كان العقل في وحدته الأنطولوجية هو الغاية التي نصل إليها فإن التعقل من حيث طابعه المعرفي هو الذي يجعل عملية الوصول تلك ممكنة، فالمعرفي يمثل إذن السبيل الذي نسلكه بينما يمثل العقل في وحدته الأنطولوجية المقصد الذي نطلبه. وهنا يتضح لنا مقصد ابن باجة في حركتي الصعود والنزول في نظريته الأخلاقية، وهو عكس ما قد يفهم عادة منه في أن طريق الصعود هو طريق استقرائي يراد منه الصعود من الجزئي النسبي المحسوس إلى الكلي المطلق المعقول، بل هو طريق في إدراك المعقولات التي هي تصورية بحتة لموجودات هذا العالم ورؤيتها ليست متيسرة لجميع الناس بل لبعضهم أي لأولئك الذين يتجاوزون مرتبة الجمهور إلى مرتبة النظار والمتوحدين. أما طريق النزول هو ليس طريق استنباط الجزئيات من الكليات وإنما هو الهبوط عن طريق الوحي. وبذلك يحدد ابن باجة أن من يتصل بالعقل الفعال هم فقط الفلاسفة والأنبياء، الفلاسفة بطريق الصعود عبر صور المعقولات والأنبياء بطريق نزول الوحي. وبالرغم من قوله بطريقين في الارتقاء الإنساني إلا انه ليس أمامه سوى طريق الارتقاء الطبيعي الأول لان الرسالات السماوية قد ختمت برسالة نبي الله محمد صلی الله علیه و آله وسلم . كما انه ينتقد أصحاب الحدس والإلهام من الصوفية، فنراه كثيرا ما يؤكد في رسائله أن العقل والمعرفة هما سبيل السعادة وليس التصوف والمعرفة العرفانية، فنراه يرفض ادعاء المتصوفة إدراكهم السعادة القصوى قد يكون بلا تعلم بل بالتفرغ. وعليه يعد ابن باجة العلم هو الطريق الأمن الذي إذا اتبعه الإنسان يؤدي في النهاية إلى الاتصال بالعقل الفعال، فبما أن العلم كسبي فعليه يكون الاتصال كسبياً يستطيع الإنسان تحصيله بنفسه وهذه ذروة النتائج للنيات الحسنة وللوسائل الفاضلة التي توسل بها الإنسان الفاضل المتوحد في تحقيق السعادة الكاشفة تحقيق السعادة الكاشفة عن جلال الفعل الإنساني الأخلاقي لهذا قسم ابن باجة القوة العقلية الحرة والمريدة ممثلة بالنفس

ص: 104


1- ابن باجة رسالة الوداع، ص 141.

الناطقة إلى عقل عملي وعقل نظري الأول يقصد به العقل الذي ما يحركنا إليه النزوع نحو طلب حاجة ما فهو يطلب الحقيقة في مجال الميول والشهوات للإنسان الجسد. أما العقل النظري فهو يطلب الحقيقة لذاتها وموضوعها الكلي والموجودات الدائمة الثابتة، أي الكليات والصور العقلية المجردة التي يحصلها العقل الإنساني. لذا يعد ابن باجة أن العقل النظري هو الذي نستطيع بواسطته الوصول إلى درجة العقل المستفاد في جميع أفعالنا الصادرة عن إرادة ،واختيار، إذ يرى أن الكمال له مراتب مختلفة، وواجب على الإنسان أن يختار بتبصر أيها له ((إنه من حصلت له هذه الرتبة حصل في حالة لا تصارعه فيها الطبيعة ولا تنازعه النفس البهيمية، وعلم هذا الحال التي بها يكون الخلاص من هاتين المنازعتين أعني الطبيعة والبهيمية حال لا يمكن أن توصف بأكثر من هذه، وهذه الحال يفوق النطق جلالها وشرفها ولذتها وبهائها وبهجتها ...... وإذا بلغ الإنسان هذه الدرجة درجة العقل المستفاد صار هو ذلك العقل بعينه لا فرق بينهما بوجه ولا حال وصار احب المخلوقات إلى الله وعلى قدر قربه منه قربه إلى الله)).(1) وعندما يتسنى للإنسان الاتصال بالعقل الفعال فانه يبلغ الغاية القصوى فيصير بموجب ذلك هو ذلك العقل نفسه ((لأنّ فضل الإنسان ذلك العقل بعينه لا فرق بينهما بوجه ولا على حال، وإذا حصل فقد حصل ذلك للإنسان أحب المخلوقات إليه وعلى قدر قربه منه قربه من الله، ورضي الله عنه، وهذا إنما يكون بالعلم، فالعلم مقرب من الله والجهل مبعد عنه، واشرف العلوم جميعا هو هذا الذي قلناه واجله مرتبة هذه المرتبة التي تصور الإنسان ذاته حتى يتصور ذلك العقل الذي قلناه قبل)) (2). هذا ما يذكره ابن باجة في الرسالة التي بعث بها إلى تلميذه ابن الإمام مما يعني أن العقل ليس فقط وسيلة وإنما كذلك غاية وان العلم الأقصى هو مبتغي المتوحد. ومن ثمة فإن المعرفة لا تمكن من تحقيق الاتصال بين العقل والإنسان إلا بعد أن تكون قد أثبتت مفارقة العقل للإنسان، فمهمتها مزدوجة، إذ يتطلب الاتصال المفارقة كما تتطلب المفارقة الاتصال، ولا يمكن وجود هذا من دون ذاك، فكل جانب ضمنها يقود إلي الجانب الآخر. وعلي قاعدة الارتباط بين

ص: 105


1- ابن باجة رسالة الوداع، ص 141.
2- المصدر نفسه، ص 142

هذين المفهومين يبني الخطاب الباجي ذاته ويبلور مضامينه وأهدافه.

ما أراده ابن باجة هو القول بنوع من الاتصال مع العقل الفعال ينعكس طرديا على أخلاق الإنسان، لكن هذا الاتصال له مراتب و درجات تختلف باختلاف قدرة الإنسان في الوصول إليه، فالواصلين إلى مرتبة السعادة إنما يصلونها بالمعرفة الواحدة المستمدة من العقل الفعال الذي يوحد بينهم بمقولاته الواحدة وينقلهم من حال التكثر إلى حال الوحدة، لكن بلوغ ذلك يقتضي مجاوزة الأفعال الناشئة عن العقول الهيولانية التي هي سبب كل تكثر يعترض سبيل الاتصال بالعقل الفعال المبرئ من الهيولى فكان التكثر مظهراً ماديا خادعا لا يكشف للإنسان حقيقة الأفعال الفاضلة ويبتعد به عن الوحدة وهو يظهر لأولئك الذين لم يبلغوا مرتبة المعرفة التي تصل به عقولهم إلى الأعمال المفضية إلى مرتبة السعادة. وكأن ابن باجة سبق زمانه بالحديث عن ضرورة انتقال أفعال الإنسان من الفعل إلى الصورة العقلية الفاضلة وصولا بها إلى العقلنة لكي تكتسب مشروعيتها الأخلاقية وهو موقف قلما اجتمعت فيه عند فلاسفة الأخلاق لكي يستوي فيه طابع السعادة العقلية والنفسية والوجدانية والروحية في العالمين الدنيوي والأخروي.(1) وهي مسالة عرفت عند فلاسفة الأخلاق الذين يرون في أفعال الإنسان دورة كاملة لا تنتهي بموت الإنسان بل تكتمل بالحياة الثانية وتعطي ثمارها الأخلاقية المنشودة لكل فاضل وحكيم. وبهذه الكيفية نكتشف الخيط الذي يربط الاتجاه العقلاني لابن باجة مع فلسفته الأخلاقية المعبرة عن الهدف الأخلاقي من الحياة والوجود وتتكامل دوافع الضرورة الطبيعية التي تترجمها العلوم حلها لمشكلات الإنسان بما هو جسد في مقدماتها الهيولانية التي يروم الإنسان في تطمينها امتلاك حريته العقلانية الدافعة نحو أخلاق تتوافق ومنطق العقل والوحي. ومن هذه الآصرة بين ضرورات الإنسان الجسدية وحريته العاقلة يتمكن الإنسان من أفعال أخلاقية تفصح عن عقلانية مدركة لصور الروحانية الكلية أو العقلانية المجردة وتنتقد في كيانات تلك الأفعال الفاضلة من دوافعها الروحية الجزئية الفردية الأنانية الضيقة إلى افقها الإنساني الروحي الأشمل الذي لا يكتمل إلا في افقه الميتافيزيقي

ص: 106


1- إبراهيم نعمة محمد والميالي، سامي شهيد الفلسفة الإسلامية ، ج2 ، مصدر سبق ذكره، ص52.

الذي ينطبع بطابع العقلنة كما اجتمعت عليها وصايا الشرع وتجليات العقل. فالناظر في (تدبير المتوحد) و (رسالة الاتصال) و (رسالة الوداع) يرى أن ابن باجه يستعمل لفظة التوحد على نحوين أخلاقيين النحو الاجتماعي الأخلاقي، والنحو المدني الأخلاقي. ومؤدى التوحد آخر الأمر، اتحاد العقل الإنساني بالعقل الفعال والنظر من هذه الجهة عنده هو الحياة الآخرة، وهو السعادة القصوى المتوحدة والتوحد الاجتماعي، هو الجزء الكبير من الرسالة الموسومة (تدبير المتوحد)، وتقرير مبادئها إنما يتصل بالفحص عن الأفعال التي تخص الإنسان التي تقود إلى الفحص عن الغايات التي تليق بالإنسان، أي عن الصور الروحانية. ولأن الإنسان المتوحد يستجيب إلى مراعاة الظروف المدنية، فعليه إذا ما تنافت مع الطبيعة العقلية الروحانية الإلهية الانفصال عنها، تحقيقاً لغاياته الإنسانية العقلية المثلى.

ومتوحد ابن باجة فيلسوف واحد أو فلاسفة عدة يعيشون متوحدين في المدن غير التامة أو المجتمعات غير الفاضلة التي يشوبها النقص ويسميهم ابن باجة (النوابت). والمتوحد هو الذي يرتب أفعاله بحق نحو غاية مقصودة، فالمتوحد الأخلاقي الفاضل والعقلاني النابت يقوم بالأفعال عن اختيار حر أي أن أفعاله أفعال إنسانية لأنها تحصل عن إرادة كائنة وعن روية (1). أي أن الأعمال التي تصدر عن الإنسان العاقل التي يختص بها دون سائر الحيوان التي يجب أن تكون أعمال المتوحد هي التي تكون صادرة عن العقل والإرادة والبصيرة لتحقيق غايات مشروعة. لذلك ينحصر التدبير على أصناف منها: تدبير الإله للعالم، وتدبير المدن، وتدبير المنزل. وتدبير المتوحد سواء كان فردا أو جماعة هو المعنى الذي يقصده ابن باجة وهكذا فان التدبير يستلزم تنظيم الأفعال والتصورات تنظيماً واعيا وتوجيهها عن سبق تفكير وتصميم بحيث تسير إلى قصد مرسوم . وان هذا التدبير يتقدم بعضه بعضا بالشرف والكمال، واشرف الأمور التي يقال عنها تدبير تدبير النفس، وتدبير المنزل، وتدبير المدن، أما تدبير الإله للعالم وهو المطلق وهو أشرفها.(2) وهو بهذا المنهج الأخلاقي

ص: 107


1- ابن باجة تدبير المتوحد، ص 11
2- المصدر نفسه، ص 4

العقلاني في تدبير النفس والتعبير عنه بالقول والفعل يبني فلسفته الأخلاقية ليحرر الإنسان من دوافعه الحيوانية ويرتقي به نحو افق أخلاقي رحيب تتحول فيه الذات إلى كل يسهم في قيام المجتمع الفاضل وتحقيق السعادة.

لذا يهدف التوحد إلى الانتقال من مستوى العقل الفردي المتكثر بأصوله الحسية إلى مستوى العقل الكلي الذي يتواصل بكينونته من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرة ((فالنظر من هذه الجهة هي الحياة الأخرة وهي السعادة القصوى الإنسانية المتوحدة)).(1) فالغاية الإنسانية الأخلاقية المثلى هي أن يكون التوحد وجها من وجوه الاتصال الأخلاقي العقلاني بالعقل الفعال، وبهذا تصبح غاية المتوحد جعل الإنسان يدرك ذاته كانسان عقلي أي بوصفه جوهراً معقولاً مثله كمثل العقول المفارقة التي ليس لها أي صلة بالمادة التي هي من ثم خالدة كخلود تلك العقول نفسها.

الخاتمة:

نصل في ختام هذا البحث إلى مجموعة من النتائج يمكن أن نجملها على النحو التالي

إذ يعالج ابن باجة تلك القضايا، فإنما يؤسس لمشروع فلسفي يمثل فيه تحقيق الاتصال بين الإنسان والعقل حجر الزاوية، فمثلما يؤلف بين مفهومي العقل والتعقل فإنه يؤلف أيضا بين مقولتي المفارقة والاتصال فلكي يتحقق الاتصال بين العقل والإنسان ينبغي أن نثبت أولا مفارقة العقل للإنسان، وإلا فإن الحديث عن الاتصال سوف يكون مفرغا من معانيه الحقيقية، وهو بذلك قد تجاوز المشكلة المعرفية العقلانية الغربية في نموذجه العقلاني الإسلامي الذي قدمه لأنه منذ البداية أرسى قواعده لحل إشكالية الاتصال والمفارقة على أسس منطقية ترقى فيها الذات درجة نحو كمالها.

وهذا يعني من وجهة نظر أخلاقية أن الإنسان مطبوع على الخير وما عليه إلا أن يقوم بتعزيز هذه الطبيعة وإبرازها من خلال جعل النوابت بوصفهم مثلا يقتدى بهم

ص: 108


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان، ص 166.

في إصلاح العادات وأخلاق المجتمعات الناقصة.

ولأنه صاحب اتجاه عقلاني فلا وسيلة معرفية لديه سوى العقل، لذا فإننا لا نراه يميل إلى قضية التوفيق بين الدين والفلسفة لأنه وبموجب وبموجب عقلانيته يرى أن ميدان الدين مستقل عن ميدان الفلسفة وما عدا ذلك فهو يرى بعض التوافق في الدوافع بين العقلي والشرعي من جهة الحث على الأفعال الفاضلة.

ومن خلال بحثه في أصناف الصور العقلية والروحانية والجسمانية، الخاصة منها والعامة، المحركة للفعل الإنساني نحو الفضائل يصل إلى الصور الكلية العامة بوصفها المحرك الأول في الإنسان نحو الأفعال المحمودة التي تتصف بالدوام، التي بموجبها تتحقق السعادة.

والطريق الأمثل للوصول إلى معرفة حقائق الأشياء هو الطريق المؤدي للاتصال بالعقل الفعال يكون فيه العقل هو القائد للأفعال والموجه للنفس وقواها وجسده وحاجاته. وبهذا احتفظ ابن باجة للعقل بحق القيادة والتوجيه واتخاذ القرار في الأفعال، فكانت عقلانيته شاملة وعميقة وأخلاقية.

قائمة المصادر:

1. آل ياسين ،جعفر فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط، مكتبة الفكر العربي بغداد ، ط3، 1985

2. ابن باجة كتاب النفس تحقیق د. محمد صغیر حسن المعصومي، دار صادر، بيروت، ط2، 1992.

3. ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق د. ماجد فخري دار النهار بيروت، ط1، 1968.

4. ابن باجة رسالة الاتصال: رسائل ابن باجة الإلهية ت م .ف.

5. ابن باجة، تدبير المتوحد: رسائل ابن باجة الإلهية، ت م ف.

4. ابن باجة رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية، ت م .ف.

ص: 109

7. ابن باجة قول يتلو رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية، ت م ف.

8. أبو ريان، د. محمد على تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1973.

9. الاهواني احمد فؤاد، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط1، 1954.

10. دي بور، ت ج : تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة د. عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، .1948

11. زيعور، د. علي مذاهب علم النفس، دار الأندلس، بیروت، ط2، 1977.

12. كرم يوسف تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط4، القاهرة 1966.

13. كرم، يوسف تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت، ط1، 1977.

14. کوربان ،هنري تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة نصير مروة دار عويدات، بيروت، بلا ط، 2004.

15. محمد إبراهيم، د. نعمة والميالي د. سامي شهيد الفلسفة الإسلامية ، ج 2 ، دار الضياء، النجف، ط1، 2007.

16. مراد د. يوسف : مبادئ علم النفس العام، دار المعارف، القاهرة، ط7 ، 1978.

17. زيادة معن الحركة من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، دراسة في فلسفة ابن باجة الأندلسي، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1985.

ص: 110

المسؤولية والجزاء وأثرهما الأخلاقي عند إخوان الصفا

د. محمود کیشانه(1)

أولاً: علاقة المسؤولية والجزاء بالفعل الخلقي

إن إخوان الصفا يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها أي مسئولية أو جزاء؛ لأنها تقع على عاتق الإنسان بفعل الطبيعة التي جعلتها في غريزته وطبيعته وفطرته؛ بما يعني أن الأخلاق المركوزة في الجبلة بفعل تأثيرات الطبيعة مجبر الإنسان على فعلها، وفعل الجبر لا يترتب عليه مسئولية أو جزاء، في حين أن أخلاق الاكتساب هي التي يترتب عليها مسؤولية وجزاء؛ لأن الإنسان فعلها بعقله وإرادته واكتسابه واجتهاده وأعمل فيها فكره ورويته متبعًا فيها أوامر الشرع الإلهية والنواميس الربانية.

فإخوان الصفا حين يتحدثون عن الناس أخلاقيا نجدهم يقسمونهم إلى قسمين:

أ - أخلاق أبناء الآخرة.

ب - أخلاق أبناء الدنيا.

ص: 111


1- محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه، باحث فلسفي، مدرس محاضر بجامعة القاهرة. يؤكد الباحث: إن إخوان الصفا يعتقدون اعتقادا جازمًا بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها أي مسئولية أو جزاء، في حين أن أخلاق الاكتساب هي التي يترتب عليها مسئولية وجزاء لأنها تعتمد على إعمال العقل والفكر والروية والإرادة الحرة المترتبة على ما سبق، واتباع أوامر الناموس وتأديبه وطول الدأب وكثرة الاستعمال لتصير عادة ومن ثم فان الجنة مصير النفوس البريئة المطهرة بالعلوم والمعارف، أما النفوس الشريرة، فإنها تهبط ، وترد إلى أجسادها في عالم الكون والفساد؛ لتجازى على أعمالها، أي إن الجزاء واقع على النفس والجسد معًا. ثم يخلص الباحث إلى نتيجة أن الفلسفة الأخلاقية هي نتيجة مصادر متنوعة منها مبادئه الإسلام وأصوله، ومبادئ وأصول الأديان السماوية الأخرى والديانات الوضعية، وآراء الفلاسفة والحكماء المحرر

فأخلاق أبناء الآخرة هي التي اكتسبوها باجتهادهم بموجب العقل والروية والفكر، أو بموجب اتباع أوامر الناموس وتأديبه، فتصير أفعالهم بطول الدأب فيها وكثرة الاستعمال لها، وعلى ذلك يجازون ويثابون . (1)بما يعني أن الفعل الخلقي الذي يترتب عليه المسؤولية والجزاء عند إخوان الصفا يتضمن:

أ - إعمال العقل والفكر والروية

ب - الإرادة الحرة المترتبة على ما سبق.

ج - اتباع أوامر الناموس وتأديبه.

د - طول الدأب وكثرة الاستعمال لتصير عادة بما يعني أن يكون الفعل الخلقي صادرًا عن هيئة راسخة في النفس ؛ لتصدر عنها الأفعال من دون تكلف أو معاناة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أيضًا هنا إذا كان إخوان الصفا يؤمنون إيمانًا جازمًا بأن الطبع والشهوات المركوزة في الجبلة الإنسانية يتنافى مع أوامر الشرع ومقتضياته، فلماذا أفسحوا المجال لآرائهم فيه؟ ألا يعد موقفهم من الطبع والأخلاق المركوزة في الجبلة تقييدا من الإرادة الإلهية لإرادة الإنسان على اعتبار أنهم ينسبون أفعال الطبع وحركات الكواكب وتأثيرها إلى المسبب الأول وهو المولى سبحانه؟ إننا مع أحد الباحثين في أن الطبع عند إخوان الصفا يقف عائقًا أمام الإنسان الذي يريد أن يصل إلى أعلى الدرجات الأخلاقية التي ترتبط بالنفس الحكمية والنفس الناموسية، فالإنسان في حاجة دائمة إلى مساعدات عقلية وناموسية؛ كي يتمكن من الوصول إلى هذه الدرجات والمراتب . (2)ولما كان الطبع يمثل عائقًا أمام النفوس الإنسانية للوصول إلى الدرجات الأخلاقية، فإنهم ينطلقون من هذا الأساس إلى القول بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها جزاء ثوابًا أكان أم عقابًا؛ لأنها مفتقرة إلى الإرادة والمسؤولية، فكيف يثاب الإنسان أو يجازى على أفعال خارج إرادته ومسئوليته ؟!

ص: 112


1- انظر رسائل إخوان الصفا، تحقيق بطرس البستاني ط دار صادر، بيروت، من دون ، ج 1 ص 333
2- انظر.د غسان علاء الدين الأخلاق عند إخوان الصفا، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، من دون، ص 70

والحق أن إخوان الصفا جاؤوا برأي غريب في أخلاق الطبع، وتأثيره في الأركان الأربعة وأخلاط الأجساد، وتحت تأثير من الكواكب والأفلاك والطبيعة السماوية عامة، فلما وجدوا أن رأيهم هذا يعد اتجاها جبريًا صرفًا ظهر رأي آخر من قبلهم يحاول التخفيف من وطأة الرأي الأول، مستندين إلى أساس شرعي واضح قوامه أن المسؤولية أساس الثواب أو العقاب؛ لأنهم وجدوا أن هناك عائقًا أمام نظريتهم الجديدة في الطبع الإنساني، فخشوا عليها من النقد، فاتجهوا إلى القول بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها جزاء.

ولو أن إخوان الصفا تمعنوا قليلاً لوجدوا أن رأيهم في الطبع يعد - في التحليل الأخير - اتهامًا للمشيئة الإلهية - حاشا لله - بأنها تكره الخلق على اتباع أسلوب أخلاقي معين وهذا الاستنتاج ناتج من وجهة نظرهم في وحدة الوجود، ونظرية الفيض أيضًا؛ اعتمادًا على أن الله هو المسبب الأول، وأن التأثيرات تفيض منه إلى النفس الكلية ومنها إلى الأفلاك... وهكذا إلى أن يصل التأثير إلى المولى سبحانه، بما يعني أننا نستطيع أن نرجع تأثير الطبع إلى المشيئة الإلهية !

ولكن إذا كان إخوان الصفا يظهرون التزاما بالشرع، فلماذا لم يظهر هذا الالتزام في موضوع أخلاق الطبع أو الطبع عامة ؟ ألم يكن من الممكن أن يراجع إخوان الصفا أنفسهم في مسألة الطبع، خاصة أنها تتعارض مع بعض مبادئ الدين؟ لقد كان هناك مجموعة من الأمور التي جعلت إخوان الصفا مصرين على موقفهم من الطبع الإنساني وتأثيراته الأخلاقية أهمها:

أ - اعتقادهم الأيديولوجي.

ب - اعتقادهم بأن تأثيرات الطبع لا تقوم بدورها إلا من خلال المشيئة الإلهية.

ج - اعتقادهم بأنهم جماعة مختارة من قبل المشيئة الإلهية، أو من قبل الطبع، وأفعالهم وأخلاقهم المكتسبة مؤيدة لما طبعوا عليه.

ص: 113

والجزاء المترتب على العمل عند إخوان الصفا لا يتم في الآخرة فقط، ولكن الجزاء عندهم يكون في الدنيا أيضًا، فمن كانت أخلاقه حميدة نال المكافأة في الدنيا والآخرة، ومن كانت أخلاقه غير ذلك كانت عقوبته في الدنيا والآخرة أيضًا، ودليل ذلك قول إخوان الصفا : «إن من نعم الله وإكرامه ما يخص به خواص من عبيده بحسب اجتهادهم وسعيهم وحسن معاملتهم، ويحرمه قومًا آخرين عقوبة لهم، إذا كان سعيهم واجتهادهم ومعاملتهم بخلاف سعي أولئك واجتهادهم، فهذا الباب من عدله وإنصافه بين خلقه إذا كان الإحسان إليهم والنعم التي هي من قبله تفضلاً عليهم تعمهم كلهم، التي يستحقونها بحسب سعيهم ويستأهلونها باجتهادهم لا يساوي بينهم فيها ، إذا لم يكونوا متساوين في العمل» .(1)

ومن الخطأ تفسير النص السابق على أن إخوان الصفا يرون أن الله -تعالى - هو الذي يختار بعضًا من عباده ويخصهم بالأخلاق الحميدة والأخلاق الرفيعة، ويحرم بعضا آخر منها عقوبة دنيوية لهم، رغم أننا نؤمن إيمانًا جازمًا بأن تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها رأيهم في الطبع. وإنما الذي يمكن استنتاجه من النص السابق أن الأفضلية وأساس التفضيل عند الله هو اجتهاد الإنسان وسعيه ومعاملاته، فإذا كانت حسنة نالت المكافأة من الله دنيا وآخرة، وإن كانت سيئة نالت العقوبة فيهما ، وهذا من باب العقل والإنصاف بين الخلق وليت إخوان الصفا قد ثبتوا على هذا الرأي؛ إذ لو ثبتوا على هذا الرأي لكانوا أقرب إلى مبدأ الثواب والعقاب، وأكثر تنزيها للذات الإلهية من الرأي الخاص بالطبع وأركانه.

لكن من المؤكد أن رأيهم هذا يعد فصلاً من سلسلة تناقضات تعتري فكر إخوان الصفا؛ ذلك أن الطبع عندهم قسم الناس سلفًا إلى قسمين قسم سعيد وقسم شقي، قسم سعيد؛ لأنه ولد في مطالع بروج الحظ والسعادة، وقسم شقي؛ لأنه ولد في مطالع بروج النحس ،والألم فليس من المعقول أن يعود إخوان الصفا فيقولون إن الاجتهاد والسعي في اكتساب الأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة هما أساس

ص: 114


1- رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 343 .

السعادة والمكافأة في الدنيا والآخرة، في حين أن السعي والاجتهاد في اكتساب الأخلاق غير الفاضلة والمعاملة السيئة هي أساس العقوبة في الدنيا والآخرة. فما دام الناس قد قسموا سلفًا بحسب مطالع البروج والأفلاك ومساراتها، فإن الحديث عن السعي والاجتهاد عبث لا جدوى منه . ولذا فإن الخلاصة النهائية التي ينتهي إليها رأي إخوان الصفا هو أن الله - في رأيهم - يختار صنفًا من الناس ويخصهم بالأخلاق الحميدة، ومن ثم يكونون من السعداء في الدنيا والآخرة، في حين يختار صنفًا آخر من العباد يخصهم بالأخلاق السيئة، ومن ثم يكونون من الأشقياء في الدنيا والآخرة. ولئن قيل إن هذه الأمور منسوبة إلى الأفلاك وتأثير النجوم، فإن الرد على ذلك أن إخوان الصفا يرجعون تأثيرات الأفلاك والنجوم إلى الله تعالى، أي أنهم ينسبون تلك الأمور إليه ؛ لأنه موجدها وخالقها.

وهذا يؤكد على حقيقة مهمة وهي أن إخوان الصفا لم يستطيعوا أن يتخلصوا من تأثير الطبع والطبيعة؛ لأن آراءهم فيهما كانت من الاتساع والقوة بحيث لا يهدمها أي رأي آخر معارض من إخوان الصفا ذاتهم، وليس لدينا مسلك حينها إلا إدراج إخوان الصفا داخل أحد إطارين : إما القول بشيوع الجبر في فلسفتهم الأخلاقية، أو القول بوجود تناقض واضح في آرائهم، وهذا أخف النقدين.

ومن ثم فإن إخوان الصفا لم يستطيعوا أن يبينوا لنا كيف يبقى الإنسان مكبلاً أمام فطرته وغريزته وما ذنب من وقف أمام طبعه مكبلاً لا يستطيع الارتقاء إلى مدارج الأخلاق الحميدة ؟ بل ما ذنبه في توقيفه عند حدود النفس الشهوانية دون الارتقاء إلى النفس الناطقة أو الناموسية أو الملكية؟ وما السبب في أن بعض الناس يرتقون إلى مرتبة النفس الناموسية أو النفس الملكية؟ ألا يعد هذا تقييدًا لبعض الناس أو بعض النفوس من اتخاذ اتجاه أخلاقي محدد؟ إذ مهما تقلب دهره في السعي والاجتهاد فلن يستطيع فكاكًا من طبعه وفطرته ؟ وكيف يستطيع ذلك وسعيه مناف لطبعه؟ ثم كيف يستقيم كل هذا مع مبدأ العدل والإنصاف الإلهي؟

إننا نفتقد عند إخوان الصفا في مسألة الطبع مبدأ المسؤولية القائم على أهلية الإنسان

ص: 115

لأن يحاسب على أفعاله؛ إذ لا توجد المسؤولية إلا في وجود الأهلية، أي الصلاحية والكفاءة في تحمل ما يترتب على هذه الأفعال من نتائج.(1)فالمسؤولية إذن تعني الحرية؛ إذ لا وجود لها أيضًا إلا في وجود الحرية، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه يشعر بالرضا إن أصاب، ويشعر بالأسى إن أخطأ .(2) إلا أننا لا نفتقد مبدأ المسؤولية عندهم في مسألة الأخلاق المكتسبة - وإن تعارضت الآراء هنا مع الآراء حول أخلاق الطبع - إذ إننا نجد إخوان الصفا يجعلون سعيد الدنيا والآخرة سعيد باجتهاده وسعيه وأخلاقه، وشقي الدنيا والآخرة شقي باجتهاده وسعيه السيئين وأخلاقه غير الحسنة.(3)فقد أعطوا الإنسان – في أخلاق الاكتساب – المسؤولية والأهلية والحرية في اختيار الاتجاه الأخلاقي الذي يريده، ومن ثم فقد كان الجزاء عندهم مترتبا على هذه المسؤولية وتلك الأهلية، بيد أن المسؤولية الكاملة عند إخوان الصفا هى المسؤولية القائمة على حرية الاختيار بين الخير والشر، أو بين الالتزام بأوامر الشرع وعدم الالتزام بها.

وقد حاول إخوان الصفا أن يشوا للناس بوجود رابط قوي بين الجزاء والشرع؛ إذ إن من قبل وصايا الشرع وعمل بها وثبت عليها كان جزاؤه وثواب عمله في الدنيا عاجلاً قبل وصوله إلى الآخرة. أما من ترك وصاياه، ولم يعمل بها، فإن جزاءه وعقوبته أن يترك في ريبه مترددًا في دينه متحيراً شاكاً مذبذبًا قلبه معذبًا ونفسه متألمة.(4) فاجتهاد الإنسان واختياره القائم على حرية واضحة هما ما يجعلان الإنسان إما يصحب جزاءً حسنًا مكافأة له، وإما يصحب جزاءً سيئًا عقوبة له، فربط إخوان الصفا واضح بين الثواب والالتزام بالشرائع والنواميس وبين العقاب وعدم الالتزام به. «فقد تبين بما ذكرنا طرف من كيفية اختصاص الله تعالى المؤمنين بإفضاله وإنعامه وإحسانه إلى قوم دون قوم مكافأة لهم بحسب معاملتهم مع ربهم في عاجل الحياة الدنيا قبل وصولهم إلى الآخرة، وكيف يحرم تلك النعم قومًا آخرين عقوبة لهم وجزاء لما تركوا

ص: 116


1- انظر د ماهر كامل مبادئ الأخلاق، ط الأنجلو المصرية 1958، ص 59 .
2- انظر د. علي عبد الواحد المسئولية والجزاء، ط مكتبة نهضة مصر، 1963 م، ص 47.
3- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 331 ، 332
4- انظر السابق، ج1 ص 344 ، 345

من وصاياه ولم يعملوا بها».(1) إذن فإن المشيئة الإلهية لا تتدخل إلا بناءً على اختيار الإنسان بعقله وإرادته فعله الذي تكافئه عليه أو تعاقبه عليه، فالإنسان في الأخلاق المكتسبة إرادته حاضرة ،وبقوة، في حين لا نجد مثل هذا الحضور في الأخلاق المركوزة في الجبلة التي ارتضتها المشيئة الإلهية دونما تدخل من الإنسان؛ يبلغوا أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.(2)

ولئن كان رأي إخوان الصفا في أحكام الطبع الإنساني لا يسمح للإنسان بالترقي الأخلاقي، فإن الترقي الأخلاقي مسموح به عند إخوان الصفا عندما يكون الحديث بصدد الأخلاق المكتسبة، وقد ربط إخوان الصفا بين الترقي الأخلاقي والالتزام بمبادئ الشرع؛ إذ إن المولى سبحانه أمر بأشياء، ونهى عن أشياء؛ ليبتلي بها المؤمنين، فكانت الأوامر والنواهي عللاً وأسبابًا يرتقي فيها المرء ، وينتقل من حال لأخرى؛ حتى يبلغوا أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم .(3)

كما ربط إخوان الصفا بين الترقي الأخلاقي وبين استيفاء شرائط كل مرتبة حتى ينال المرء الجزاء المنوط به عمله في الدنيا؛ إذ إن الجزاء عندهم كما سبق أن ذكرنا ليس وقفًا على الآخرة، إنما تظهر ثمار الأعمال في الدنيا كدليل على القبول والسعادة في الآخرة، ومن ثم فلا يرتقي الإنسان من درجة ورتبة إلا إذا طبق شروطها وقام بحقوقها، فعندئذ يكون جزاؤه وثوابه أن تساعده المشيئة الإلهية على الانتقال إلى الدرجة والرتبة التي فوقها بما يعني أن ارتقاء الإنسان ووصوله إلى المراتب الأشرف والأجل مرتبط باجتهاده وسعيه؛ استنادًا إلى أن المشيئة الإلهية تتدخل وفقا لإرادة الإنسان ورغبته، في حين أن من لم يقم بتطبيق هذه الشروط والحقوق، ولا اجتهد طلب المزيد كان جزاؤه أن يقف عند حدوده ومكانه فيقف حيث انتهى به عمله، ويحرم المزيد من المزيد من الدرجات ،والمراتب فكان هذا الفوت والحرمان هو عقوبته .(4)

ص: 117


1- السابق، ج 1 - ص 345
2- انظر السابق، ج 1 ص 345.
3- انظر رسائل إخوان الصفا؛ ج ص 345.
4- انظر السابق، ج 1 ص 345، 346

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل الأخلاق المكتسبة التي يجازى عليها الإنسان كلها خير فقط أم شر فقط ؟ أو بعبارة أخرى هل الأخلاق المكتسبة عند إخوان الصفا مذمومة أو محمودة؟ أم منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم؟

يمكن القول إجابة على هذا السؤال أن الأخلاق المكتسبة عند إخوان الصفا منها ما هو محمود منسوب إلى الملائكة ومنها ما هو مذموم ومنسوب إلى الشيطان فليست الأخلاق المكتسبة كلها خير عند إخوان الصفا غير أن إخوان الصفا لم يفصلوا عمليًا بين الأخلاق المذمومة المركوزة في الجبلة والأخلاق المذمومة المكتسبة، حتى نتبين أيا منهما ينال الجزاء أو العقاب؛ إذ إنه رغم كثرة المفاهيم التي تناولها إخوان الصفا التي حاولوا أن يضعوا لها مدلولاً عمليا، إلا أنه ليس هناك حدود فاصلة بین الأخلاق المذمومة المركوزة والأخلاق المذمومة المكتسبة، خاصة أن إخوان الصفا يرجعون الأخلاق المكتسبة المذمومة إلى أمهات الرذائل المركوزة في الجبلة بما يعني أن مسألة الفصل بين الاكتساب والطبع لم تكن واضحة عند إخوان الصفا؛ بل يصيبها كثير من الغموض والتداخل إلى الحد الذي لا يمكن معه معرفة الجزاء المترتب عليها بناءً على غموض كثيف يعتري آراءهم وأفكارهم.

فالأخلاق المذمومة - أو أخلاق الشياطين كما يحلو لإخوان الصفا أن يسموها - ترتد في الأساس إلى ما هو مركوز في الجبلة؛ إذ إن أمهات المعاصي المركوزة في الجبلة، التي هي أصول لكل شر تتفرع منها أخلاق كالأغصان والفروع، هي الأخلاق الأخيرة المكتسبة.(1)وهذا يشي - في التحليل الأخير- أن الأخلاق المكتسبة ناتجة في الأصل عن أمهات المعاصي المركوزة في الجبلة، وهي: كبر إبليس، وحرص آدم وحسد قابيل «فقد تبين بما ذكرنا أن الكبر والحرص والحسد أصول وأمهات لسائر الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة المنتشئة منها الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي منها، فإن قيل ما الحكمة والفائدة في كون هذه الخصال الثلاث موجودة في الخليقة مركوزة

ص: 118


1- انظر السابق، ج1 ص 351.

في الجبلة؟ فنقول أما التكبر فهو من كبر النفس وكبر النفس من علو همتها، وعلو الهمة جعل في جبلة النفس لطلب الرياسة، وطلب الرياسة من أجل السياسة».(1)

ويفهم من ذلك أن إخوان الصفا - متناقضين مع أنفسهم في القول بأن الأخلاق المركوزة شر وجاء الشرع بخلافها - يسبغون صفة المشروعية على أمهات المعاصي المركوزة في الجبلة بدعوى أنها مركوزة في الجبلة لغاية إصلاحية دنيوية. فالسياسة لكي يقوم القائم بها بمهامه خير قيام لا بد من اشتماله على صفة الكبر، وهي مهام الرياسة عندهم، والإنسان في حاجة إلى الحرص ؛ لأنه يجعله يحرص على حياته وبقائه واستمراره وبقاء ،نسله، والحسد مهمته التنافس في الرغائب من نعم الدنيا غير أن إخوان الصفا تنطق آراؤهم هنا - وهي من المرات النادرة - بأن الطبع - خاصة فيما يتعلق بأمهات الشهوات المركوزة في الجبلة - يقبل فعل الضدين، فقد يوجه إلى الخير، وقد يوجه إلى الشر.

بيد أن إخوان الصفا أرادوا أن يكون هناك شروط؛ لكي تكون الأخلاق المركوزة في الجبلة محمودة، خاصة فيما يتعلق بالخصال الثلاث سابقة الذكر، فكانت الشروط على النحو الآتي:

أ - استعمال الخصلة كما ينبغي.

ب - استعمال الخصلة في الوقت الذي ينبغي.

ج - استعمال الخصلة بمقدار ما ينبغي.

د - استعمال الخصلة من أجل ما ينبغي.

وإخوان الصفا هنا يتفقون مع الفارابي الذي سبق أن حدد شروطًا للفعل الخلقي، حصرها في سبعة، وتعد هذه الشروط الأربعة إجابة على تلك الأسئلة السبعة التي طرحها الفارابي في تأسيسه لعناصر الفعل الخلقي غير أن أن من المؤكد أن الفارابي

ص: 119


1- السابق، ج 1 ص 353

وإخوان الصفا تأثروا هنا بأرسطو الذي أسس الفعل الفاضل على هذه الشروط(1).

هذا يعني أن إخوان الصفا - في عود حميد عن رأيهم السابق في الأخلاق المركوزة في الجبلة - يفرقون بين نوعين من الأخلاق المركوزة في الجبلة : أخلاق مركوزة مذمومة، وأخلاق مركوزة محمودة، إذ إنه إذا خالفت تلك الأخلاق شرطًا من الشروط السابقة أو جملتها كانت مذمومة، أما إذا طابقت الأخلاق هذه الشروط كانت محمودة، إلا أنه يمكن القول إن تلك الفكرة السابقة تشير إلى عدم وضوح العلاقة بين الطبع والاكتساب ، أو قل إن شئت هناك علاقة تداخل بين الطبع والاكتساب أو الاعتقاد عند إخوان الصفا؛ إذ إن الإنسان لا يستطيع القيام بالخصلة في الوقت المناسب بمقدار مناسب من أجل غاية مناسبة مستعملاً إياها كما ينبغي إلا إذا اكتملت فيه شروط الفعل الخلقي من عقل وإرادة وحرية، وهي عوامل أساسية ترتد إلى الاكتساب، يؤديها صاحبها بالدربة والعادة وكثرة الاستخدام حتى تصير له اعتقادًا جازمًا واكتسابًا راسخًا، بما يعني أن الأخلاق المركوزة في الجبلة يمكن أن تكون خيرًا ويمكن أن تكون شرًا؛ وذلك بحسب استخدام الإنسان لها وفق الشروط السابقة. إذن لماذا قدم إخوان الصفا أطروحة عريضة مؤداها أن الشرع جاء مخالفًا لما جاءت به الأخلاق المركوزة في الجبلة؟! ألا يعد هذا تناقضا صرفًا في آرائهم حول الطبع والأخلاق المركوزة؟! ألم يكن من الأجدى أن يقدم لنا إخوان الصفا نظرية سلسلة بدلاً من نظريتهم التي تقوم على التناقض، فضلاً عما تقوم عليه من التنجيم والكهانة والعرافة ؟ !

هذا فضلاً عن أن القول بأمهات المعاصي يعني أن الأخلاق المكتسبة ترتد إلى الطبع والأخلاق المركوزة في الجبلة؛ لأنه ما دامت أخلاق الإنسان لا تخرج عن هذه الخصال الثلاث المطبوعة في الجبلة، فإن الأخلاق المكتسبة تعود في النهاية إليها، لكن يبقى سؤال مهم: هل الاكتساب في تطبيق الشروط الأربعة السابقة؟ أم عدم تطبيق أي من الشروط السابقة يعدّ طبعا ؟ كيف يحكم إخوان الصفا على الأخلاق الناتجة عن الخصال الثلاث الكبرى؟ هل هي أخلاق مكتسبة أم أخلاق مركوزة؟

ص: 120


1- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ترجمة د. أحمد لطفي السيد، ط دار الكتب المصرية، 1924م، ج 1 ص 234 ، ص 238

إن المراد من وراء طرح هذه الأسئلة محاولة التعرف على كيفية حكم إخوان الصفا على هذه الأخلاق وكيفية إصدار الجزاء المناسب لها أو عليها. إننا أمام معضلة عند إخوان الصفا لا أظن أننا نجد لها إجابة، وهذه المعضلة ذات جانبين :

الأول مؤداه، إذا فعل الإنسان فعلاً ما مفتقرًا لأي من الشروط السابقة فإن الفعل حتما مذموم والخلق الناتج عنه مذموم، فهل يرتد هذا الفعل إلى الاكتساب فيجازى عليه أو يعاقب أم يرتد إلى الطبع، فلا يجازى عليه ولا يعاقب طبقًا لنظريتهم في المسؤولية والجزاء؟ وهذا ما لا نجد إجابة عليه، والآخر مؤداه إذا كان ذلك كذلك فما حدود الطبع ؟ وما حدود الاكتساب؟ إننا أمام نظرية تتحدث عن الطبع، ولا ترسم له حدودًا فاصلة عن الاكتساب ثم تتحدث عن الاكتساب ولا ترسم له حدودًا فاصلة عن الطبع، وهذا التداخل يقوي الزعم عندي بأن الاعتقاد عند إخوان الصفا يشمل الأمرين معًا الطبع والاكتساب ؛ ذلك أن ما طبع الإنسان عليه اعتقاد له حتى يتبين له نقيضه، والاكتساب اعتقاد هدي إليه الإنسان بعقله وإرادته الحرة وكثرة الدربة والاستعمال، ومن ثم فإن هذا يفسر لنا لماذا كان هناك تداخل دائم بين الطبع والاعتقاد عند إخوان الصفا ؟

وأيا ما كان الأمر فإن الأخلاق التي يترتب عليها مسئولية وجزاء عند إخوان الصفا هي الأخلاق المكتسبة لا المركوزة في الجبلة؛ لأن الأولى هي التي استخدم الإنسان فيها عقله ورويته متبعا أوامر الشرع ونواهيه.

ويحاول إخوان الصفا التأكيد على فكرتهم الجديدة في أن الأخلاق المركوزة في الجبلة منها خير ومنها شر؛ حيث إنهم يقولون : «ثم تأملت وبحثت ودققت النظر فوجدت جميع الأعمال الزكية، والأفعال الحسنة التي هي منسوبة إلى النفس الناطقة، انما هي لها بحسب آرائها الصحيحة واعتقاداتها الجميلة ثم وجدت تلك الآراء والاعتقادات إنما هي لها بحسب أخلاقها المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية والعادات الجارية العادلة أو ما كانت مركوزة في الجبلة، فتبينت بعد ذلك وعرفت بهذا الاعتبار أن أصل جميع الخيرات وصلاح الإنسان كلها هي الأخلاق المحمودة

ص: 121

المكتسبة بالاجتهاد والروية والمركوزة في الجبلة، وتبين لي وعرفت أيضًا أن أصل جميع الشرور وفساد أمور الإنسان كلها هي الأخلاق المذمومة المكتسبة بالعادات الجارية منذ الصبا غير بصيرة، أو ما كانت مركوزة في الجبلة».(1)

وهذا يعني أن الأخلاق المركوزة منها الخير ومنها الشر خلافًا لما زعموه من قبل من أنها أخلاق شر وجاء الشرع مخالفًا لها، كما يفهم أن الأخلاق المركوزة بشقيها لا يترتب عليها جزاء عند إخوان الصفا في حين أن الأخلاق المكتسبة بالاجتهاد والعادة هي التي يقع عليها الجزاء المناسب.

لقد كان في استطاعة إخوان الصفا - لو أرادوا خيراً بالأخلاق والبحث الفلسفي ولو أرادوا أن ينأوا بأنفسهم عن دائرة التناقض والأمور الجدلية - أن يقولوا إن الأخلاق المركوزة في الجبلة بما تتضمنه من شهوات مجرد استعداد قابل للاستخدام في الخير أو الشر، وبما أنها مجرد استعداد فهي لا تقع تحت حيز المسؤولية والجزاء؛ لأنها مجرد استعداد قابل للتشكل على أرض الواقع بإرادة الإنسان وعقله ورويته، فإذا استخدم الإنسان هذا الاستعداد في الأمور النافعة الصالحة كان الفعل خيرًا ويثاب عليه، أما إذا استخدمه في الأمور الضارة كان الفعل شرًا ويعاقب عليه، ولكي يستخدم الإنسان هذه الاستعدادات الاستخدام الأمثل كان عليه أن يلتزم بأوامر الشرع ويجتنب نواهيه؛ لأن الشرع جاء بما هو مخالف للشهوات المركوزة المذمومة، غير أن إخوان الصفا لم يقدروا أن يصوغوا فكرتهم صياغة جامعة مانعة، وإن التفوا حولها، ولم يقدر لهم الوصول إليها، ولكن منعتهم آراؤهم المتناقضة في أخلاق الطبع والاكتساب، ولو قالوا ذلك لأعطوا لفكرتهم الأخلاقية شيئًا من القبول العقلي والشرعي.

إلا أنه يفهم من إخوان الصفا أن الأخلاق المركوزة في الجبلة استعداد أكثر إلى فعل الشر لا الخير؛ إذ إن مسلكهم في معرض رسائلهم ينتصر لجانب الشر لا الخير، وخير مثال يؤكد على ذلك قولهم فيما سبق من أن الشرع جاء مخالفًا للأخلاق المركوزة في الجبلة ويؤكد إخوان الصفا على فكرة انتساب الشر إلى الأخلاق

ص: 122


1- رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 366.

المركوزة من خلال قولهم : «فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملتها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ،ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ ولهب لا يخمد أو كأمواج بحر متلاطمة أو رياح عاصفة تدمر كل شيء، أو كعساكر أعداء حملت في غارة.»(1) فأخلاق الطبع وشهواته المركوزة نيران في جسد الإنسان كالكبريت سريع الاشتعال، إذا تم الاحتكاك بينها وبين الدنيا فإنها تشتعل اشتعالاً جباراً، بما يعني أنها شر، وتصير أشد شرًا عند اتصالها بالجسد ودنياه. وبهذا يقترب إخوان الصفا كثيرا- بفكرتهم هنا - من ذلك الاتجاه الذي يرى أن أصل الأخلاق في الإنسان الشر لا الخير .(2)

ويضرب إخوان الصفا أمثلة تدل على شدة الاشتعال، وأنه مستمر إلى ما لا نهاية كما هو الحال في أمواج البحر المتلاطمة، أو الإغارة على الأعداء، أو الرياح العاصفة المدمرة، أو النيران المشتعلة التي لا تخمد، بما يعني أنهم ينظرون إلى تلك الأخلاق المركوزة على أنها في صراع دائم مع الإنسان منذ اتصالها بالجسد وبالحياة الدنيا، وبما أنها تصارعه ، فهي في جانب الشر الذي مظاهره الإغارة والعدوان والصراع، فإذا كان الأمر على هذا النحو، فهل يترتب عليها مسئولية وجزاء؟!

إن رأي إخوان الصفا هنا مبني على أساس نظريتهم إلى أن النفس من عالم الملائكة، وأن اتصالها بالبدن هو سبب تعاستها وشقائها، ومن ثم فلكي ترتقي النفس إلى عالمها الأول عليها أن نقتل البدن، وهذا الرأي المثالي، وإن كان قريبًا من الفلاسفة اليونان خاصة أفلاطون، حيث كانت فكرتهم المثالية هنا معينًا خصبًا نهل منه فلاسفة الشرق والمغرب الإسلامي على حد سواء بما فيهم إخوان الصفا والفارابي(3)، فإنه

ص: 123


1- رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 368.
2- ويطلق على أصحاب هذا الاتجاه مذهب المتشائمين، ويبدأ من البوذية، فأصحاب اللذة والمنفعة،، وعلى هذا الرأي معظم فلاسفة المسيحية، انظر د الجليند، د. العجمي ، دراسات في علم الأخلاق، ط دار الثقافة العربية، القاهرة، 1996/1995م، ص 43.
3- انظر د عزت ،قرني مقدمة كتاب أفلاطون، فيدون في خلود النفس ترجمة وتقديم وشرح د. عزت قرني، ط دار قباء، 2001م، ص 61.

أقرب ما يكون إلى أفلوطين، الذي اعتبر البدن سجن النفس، وسبب شقائها وبلائها، وأنها لا تستطيع منه فكاكًا إلا بطرح الشهوات والملذات والترقي في سلم الأخلاق والمعرفة .(1)

ثانيًا: سمات المسؤولية الخلقية:

وأيا ما كان الأمر فإننا نفتقر المسؤولية عند إخوان الصفا في أفعال الطبع والأخلاق المركوزة في الجبلة؛ لأن هذه الأفعال وتلك الأخلاق لا تستند إلى أساس مهم تتحقق المسؤولية من دونه، وهذا الأساس هو أهلية الإنسان لتحمل تبعة أفعاله، بينما لا نفتقر هذه المسؤولية عندهم في الأفعال أو الأخلاق المكتسبة؛ لأنها تعتمد عندهم على هذا الأساس الراسخ، وهذه الأهلية تتحقق في الأفعال عند إخوان الصفا بشروط استنتجها الباحث من ثنايا رسائلهم، وهي:

أ - استخدام عقله وفكره.

ب - توافر الإرادة الحرة وحرية الإرادة

ج - العلم بالسلوك ونتائجه من خلال الشرع ونواهيه.

د - صلاحية القيام بالأدوار والمسئوليات.

فتلك كانت الشروط الواجب توافرها كي تكون الأخلاق المكتسبة تترتب عليها مسئولية، فأرادوا أن يكون الإنسان بذلك أهلاً لتحمل تبعة سلوكياته وأفعاله، ومن ثم فقد أولى إخوان الصفا في هذه الأخلاق للعقل دورًا كبيرًا في التأمل وإعمال الفكر والروية قبل إصدار الفعل، ولذا فلا أظن أن إخوان الصفا قد قرروا مبدأ المسؤولية على الطفل والمجنون والمعتوه؛ لأنها حينها تكون في غير أهلها، لأن الأصناف السابقة ممن رفع القلم عنهم.

ص: 124


1- انظر أفلوطين، التساعية الرابعة في النفس، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970م، ص 327 .324

كذلك فطن إخوان الصفا إلى أن المسؤولية لا تقع على من افتقر مبدأ حرية الإرادة، وحرية اختيار الفعل، فقد فطنوا نظريًا إلى أنه لا مسئولية على المجبر؛ ذلك أنهم لما أدركوا أن الأخلاق المركوزة في الجبلة الناتجة عن الطبع وتأثيراته، قالوا إن المسؤولية غير واقعة على الإنسان هنا ؛ إذ إن ذلك يعد من قبيل القيود الخارجية التي تعوق تدخل حرية الإرادة والاختيار عند الإنسان إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأن إخوان الصفا مارسوا نوعًا من القيود الداخلية - داخل الجماعة - على الأتباع؛ حيث كانت هذه القيود عبارة عن أفكار وآراء يجبر أخو الصفا على اعتناقها، مما كان معوقاً عن الاختيار أو التفكير الموضوعي .

ومن ثم فقد تعاورت القيود الداخلية ممثلة في الطبع والقيود الخارجية عند إخوان الصفا على الحد من حرية الإنسان وحبسه عن العمل القائم على التفكير الحر، فكانت بذلك كتلك الاتجاهات التي فرضت على أتباعها طريقًا جامدًا وأفكارًا معينة وآراء محددة بيد أن إخوان الصفا فطنوا إلى خطورة القيود الخارجية، فقرروا أن لا مسئولية على الإنسان فيها؛ لأنه ليس قادرًا على الاختيار أو استخدام إرادته، فعاملوه كالمجبر أو المعتوه أو المجنون قياسًا على التوجه الإسلامي في هذه الجزئية.

ولما كان إخوان الصفا قد وضعوا شروطًا للفعل الخلقي حتى يكون أهلاً للمسئولية تقوم على العقل والإرادة والحرية، فإنني أظن أنهم جعلوا المسؤولية خاصة بالإنسان وحده، فهم وإن أشركوا جميع الكائنات في تأثيرات الطبع والأفعال المركوزة في الجبلة، فقد عنوا الإنسان وحده في الأفعال المكتسبة. ورأي إخوان الصفا هنا هو ما يتفق مع العقل والمنطق والشرع أيضًا؛ إذ إن أحدًا لا يستطيع أن يجرؤ، فيقول إن المسؤولية تقع على الحيوان أو النبات مثلاً؛ ذلك لأنهما فاقدا الأهلية والمسؤولية.

والقرآن الكريم يخاطب الإنسان وحده محملاً إياه الأمانة في قوله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً». (1)وقوله تعالى: «أيحسب الإنسان أن

ص: 125


1- سورة الأحزاب : الآية 72.

يترك سدى»(1). وقوله : «قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون»(2) وقوله : «ولتسألن عما كنتم تعملون».(3)

ولكن يبقى هناك سؤال مهم مؤداه إذا كانت المسؤولية بشكل عام تقع على العقل والإرادة والحرية، فهل المسؤولية الأخلاقية عند إخوان الصفا لها خصائص أو سمات بارزة قد تميزها عن غيرها، أظن أن هناك بعض الخصائص أو السمات التي قد تميزها عن غيرها، وهي على النحو الآتي:

أ - إن المسؤولية الخلقية عند إخوان الصفا يشعر معها أخو الصفا أنه لا يمثل نفسه فقط، وإنما يمثل الجماعة والاتجاه الأخلاقي الذي تدين به فالمسؤولية عندهم ذات وجهين مسئولية فردية وأخرى جماعية، وهذا يفسر لنا لماذا يعد أي رأي في الرسائل الاثنتين والخمسين ينسب للجماعة أكثر مما ينسب لصاحبه الذي كتبه، خاصة إذا علمنا أنه لم يكتبها فرد أو فردان وإنما كتبها جماعة متشعبة من المفكرين الذين أسسوا لأفكار الجماعة ومبادئها.

ب - بل إن المسؤولية الخلقية عندهم لا تقف عند حدود الفرد بأنه يمثل نفسه أو يمثل الجماعة، بل يشعر أخو الصفا معها أنه يمثل الإنسانية ممثلة في الإنسان الكلي المطلق الذي هو عندهم النفس الكلية الإنسانية؛ حيث إن الإنسان المطلق الكلي هو المطبوع على قبول جميع الأخلاق، وإظهار جميع الصنائع والأعمال؛ لأن الإنسان الجزئي ليس في استطاعته ذلك عندهم؛ لأنه لو كان في استطاعة الأخير ذلك لما كان عليه كلفة في إظهار كل الأفعال وجميع الصنائع.(4) بل يظهر بعض الأفعال دون بعض، لكن مجموع الناس يعبرون بخيرهم وشرهم وأفعالهم وصنائعهم عن ذلك الإنسان الكلي حسبما يعتقدون ولئن كان الإنسان المطلق الكلي عند إخوان الصفا يعبر عن جموع الإنسانية، فإنه يخالف تمامًا فكرة العقل الجمعي القائمة على مجرد

ص: 126


1- سورة القيامة: الآية 36
2- سورة سبأ: الآية 25.
3- سورة النحل : الآية 93 .
4- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 306 .

تلقي المرء لانطباعاته والتصرف في ضوئها وحدودها، فيؤدي ذلك إلى اتفاق أفراد المجتمع واشتراكهم في قالب واحد، فقد كانت فكرة إخوان الصفا أوسع وأشمل من ذلك، فإن فكرتهم أرادت الإنسانية بمعناها وخير دليل على ذلك أن إخوان الصفا أنفسهم يعتبرون ردًا على فكرة العقل الجمعي؛ لأن فكرة العقل الجمعي مجرد تلقي الإنسان لانطباعات العقل الجمعي لا يخرج عن حدودها، لا تسمح لأي فرد من أفراد المجتمع بالخروج عن قالبها، ومن ثم فإن خروج إخوان الصفا عن قالب المجتمع الذي نشؤوا فيه يعد رفضًا لفكرة العقل الجمعي؛ إذ إن من الردود الموجهة لفكرة العقل الجمعي أنه لو كانت الأخلاق والأفعال تعبيراً عن العقل الجمعي لما رأينا الأفذاذ الذين خرجوا من مجتمعات تموج بالفساد والانحلال الأخلاقي.(1) ومن الظاهر تاريخيًا أننا نجد كثيرًا من المصلحين أو المجاهدين فكريًا أو أخلاقيًا خرجوا وسط مجتمعات تموج بالفساد فيقف كل واحد منهم أمة وحده في مواجهة هذا المجتمع الماجن يقاوم ويناضل.

ج - إن المسؤولية الخلقية عند إخوان الصفا لا تستمد قوتها من المجتمع، ولا من القيم الإنسانية، ولا من تجارب الإنسان في الحياة بقدر ما تستمد ذلك من الجماعة ذاتها، فهى لا تهدف إلى تحقيق القيمة الذاتية للإنسان بقدر ما تهدف إلى تحقيق إصلاح عملي أو إفادة للمجتمع ، ولو كانت من وجهة نظرهم هم، وإن كانت الغاية الإصلاحية لا تتحقق إلا بالاستناد - من ضمن ما تستند إليه - إلى القيم الإنسانية.

ثالثًا: المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية:

ولكن يبقى سؤال آخر مهم مؤداه : هل المسؤولية عند إخوان الصفا مسئولية فردية أو جماعية ؟! قبل الإجابة على هذا السؤال يجب الإشارة إلى أن بعض الاتجاهات الأخلاقية ترى أن المسؤولية فردية فحسب، وهناك بعض آخر يرى أن المسؤولية جماعية، فالمسؤولية الفردية هي تلك التي يسأل فيها الإنسان عن سلوكه هو واتجاهه الأخلاقي هو، في حين أن المسؤولية الجماعية هي تلك التي يسأل فيها المجتمع

ص: 127


1- د. ماهر كامل بالاشتراك، مبادئ الأخلاق، ط الأنجلو المصرية، 1958م ص 71.

كله عن سلوك أفراده؛ استنادًا إلى أن الفرد عضو في مجتمع، فإذا أصاب هذا العضو الفساد، فإنه يؤثر في بقية أعضاء الجسد، والمسؤولية لا تقع على العضو وحده، ولكن تقع على الجسد كله.

الواضح من خلال الاستقراء العام لفكر إخوان الصفا أن إخوان الصفا يعولون على أن المسؤولية على الإنسان فردية في المقام الأول؛ إذ إن كل إنسان مسئول عن الأفعال التي أداها والحديث عن المسؤولية الفردية عند إخوان الصفا يتعلق أساسًا بأخلاق الاكتساب لا أخلاق الطبع، فمادام الإنسان في الأخلاق المكتسبة حراً في اختيار أفعاله مستندًا إلى عقله وإرادته، فإنه يكون مسئولاً عما يترتب عليها، إن خيرًا ،فخير وإن شرًا فشر؛ إذ «يبقى هو بحزنه ومصيبته معاقبًا بما كسبت يداه».(1)

والحق أن المسؤولية الفردية مبدأ إسلامي واضح تظهر معالمه في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، يقول المولى تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة»(2)، وقوله سبحانه: «ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»(3)، وقوله جل شأنه: «ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى».(4)

غير أنه لا نعدم اتجاها خافتًا عند إخوان الصفا حول كون المسؤولية قد تكون جماعية، أو الظن بأن إخوان الصفا يدعون إلى القول بأن هناك جزءًا من المسؤولية تقع على الجماعة كلها، وهذا يفسر لماذا كانوا حريصين على أن تكون أخلاق الأتباع والأنصار واحدة والاعتقاد واحد والمذهب واحد أيضًا.

ولقد حاول الباحث التماس بعض النصوص التي تظهر هذا الاتجاه من المسؤولية الجماعية عندهم، فمن ذلك قولهم : «واعلم أن الطريق بعيدة، والشياطين بالمرصاد قعود كقطاع الطريق فاعتبر ، فكما أنك لا تقدر على أن تعيش وحدك إلا عيشًا نكدًا،

ص: 128


1- رسائل إخوان الصفا، ج 2 ص 358.
2- سورة المدثر 38
3- سورة النجم 38 ، 39
4- سورة الأنعام الآية 164

ولا تجد عيشًا هنيًا إلا بمعاونة أهل مدينة وملازمة شريعة، فهكذا ينبغي لك أن تعدّ لتعلم بأنك محتاج إلى إخوان أصدقاء متعاونين لتنجو بشفاعتهم من جهنم، وتصعد إلى ملكوت السماء بمعاونتهم، وتدخل الجنة بلا حساب»(1).

والنص وإن كان يفهم منه دعوة إخوان الصفا إلى التعاون والاتحاد وعدم العزلة والانفراد ؛ لأن ذلك هو الأرض الخصبة التي يرعي فيها الشيطان، فقد يفهم منه أن هناك مسئولية جماعية تأخذ بيد الإنسان أو الجماعة إلى النجاة من النار والفوز بالجنة بفضل شفاعة الجماعة.

وإن كان النص السابق لم يفصح صراحة عن المسؤولية الجماعية فإن النص التالي يفصح عنها بدرجة أكبر . «واعلم يا أخي علمًا يقينًا أنه لو كان يمكن أن تنجو بنفس واحدة بمجردها لما أمر الله تعالى بالتعاون؛ حيث قال (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقال : (واصبروا وصابروا)، وكذلك قال: (ويوم نبعث من كل أمة فوجًا)، وقال الله: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا)».(2)

ومن ثم يفهم من النص السابق أن النفس لا تنجو وحدها، وإنما تنجو مع من طائفة جنسها والجماعة التي نشأت فيها، فالمسؤولية بينهم مشتركة، والجزاء المترتب عليها مشترك أيضًا، وهذا يشي في التحليل الأخير بأن المسؤولية عند إخوان الصفا مشتركة داخل الجماعة والنتائج المترتبة عليها ، ومن أراد النجاة بالنفس عليه الانضواء تحت لواء الجماعة؛ لأنها كفيلة بتحقيق الفوز والنجاة له في الدنيا والآخرة.

والحق أيضًا أن الإسلام قد قرر المسؤولية الجماعية وأكدها كثير من الشواهد القرآنية والنبوية، عندما أكد على أن العقاب أو الفتنة لا يصيب المفسدين فحسب، وإنما يتعداه إلى من سمح لهم بالإفساد دون محاولة ردعهم، يقول الله تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة»(3) بما يعني أن الإسلام، وإن أكد

ص: 129


1- رسائل إخوان الصفا، ج 2 ص 139 ، 140
2- السابق، ج 2 ص 139
3- سورة الأنفال: الآية 25.

على المسؤولية الفردية، فإنه بين أن هناك مسئولية جماعية تقع على الجميع.

ولعل هذا يدل على تأثر إخوان الصفا بالإسلام في القول بوجود مسئولية جماعية بجوار مسئولية فردية، بيد أن المسؤولية الجماعية عند إخوان الصفا لا تقع، ولا يكون لها معنى إلا في داخل الجماعة جماعة إخوان الصفا ،ذاتهم، فإذا كانت المسؤولية جماعية، فإن المعنى هنا يعود إلى جماعة إخوان الصفا بما يشي بنوع خاص من التعصب للمذهب الفكري فالمسؤولية الجماعية إذن ذات دائرة ضيقة ولا يتسع المجال فيها لغير الأتباع من إخوان الصفا.

والمسؤولية الجماعية أو المسؤولية المشتركة تظهر أكثر ما تظهر بين الراعي والرعية أو الحاكم والمحكومين؛ إذ العلاقة بينهما كالعلاقة بين الرأس والجسد، أو كالعلاقة بين البدن والأعضاء؛ إذ لا قوام لأحدهما إلا بالآخر ، ولا صلاح لهما إلا بصلاح الآخر(1). فالمسؤولية مشتركة والجزاء المترتب عليها مشترك، وهذا يدل على أن البعد السياسي متداخل عند إخوان الصفا مع المسؤولية الجماعية، فالمسؤولية المشتركة أو المسؤولية الجماعية عندهم تقوم على أساس سياسي مذهبي في المقام الأول.

رابعًا: أدلة إثبات الجزاء:

وإذا كانت المسؤولية ذات وجهين عند إخوان الصفا مسئولية فردية ومسئولية مشتركة فإن الجزاء المترتب عليها حتمًا ذو وجهين فردي وجماعي، والجزاء عندهم مثبت بوجهين النقل والعقل فيذهبون إلى أن الشرع أثبته وأكده بالطرق العقلية والأدلة المنطقية التي تشير إلى وجوب محاسبة العاصي على عصيانه ومحاسبة المطيع على طاعته، مما يدل على اعتقاد إخوان الصفا في الجزاء الجماعي؛ لأنهم يعتقدون أنه كلما مضت طائفة وانقرضت وبليت أجسادها ، ألحقت نفوسها بنفوس من مضى قبلها من رؤسائها ومعلميها وأستاذيهم من القرون الماضية، ثم خلفتها أخرى على سننها ومنهاجها .(2)بما يعني أن النفوس الشقية تتلاقي في الآخرة مع

ص: 130


1- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 2 ص 303
2- انظر السابق، ج 4 ص 87 .

معلميها ورؤسائها فيما يشبه الجزاء الجماعي، في حين تتلاقي وتتألف النفوس السعيدة في الآخرة في جزاء جماعي لا نهاية له.

وهذا يتنافى مع النص القرآني؛ حيث يقول الله تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة»، وغيره من النصوص، فضلاً عن أن يتنافى مع أبسط قواعد المنطق ومقتضيات العقل؛ ذلك أن الإنسان مسؤول عن أفعاله، ومن ثمّ يتحمل تبعتها بمفرده، ولا يتحملها في سياق جماعي؛ فلا هو يحمل وزر أحد، ولا يحمل أحد وزره.

ولئن كان الإسلام قد خص الجزاء الأخلاقي بمجموعة من السمات بوصفه يحمل الثواب للمطيعين والعقاب للعاصين وكون مجاله الدنيا والأخرة، وكونه له صورتان مادية ومعنوية .(1) فإن إخوان الصفا أرادوا أن يتخذوا الاتجاه نفسه الذي يجعل الجزاء الأخلاقي يحمل في طياته الثواب والعقاب ويمتد أثره في الدنيا والأخرة، ويحمل في طياته صورتين مادية ملموسة ومعنوية تحس فيها النفس بارتقائها إلى عالم الأفلاك، عالم المثل الذي وردت منه.

ويجب التركيز على أن الأخلاق التي يترتب عليها الجزاء عند إخوان الصفا هي الأخلاق المكتسبة المعتادة؛ إذ هي مناط الجزاء ثوابًا كان أم عقابًا عند إخوان الصفا، أما الأخلاق المركوزة في الجبلة فلا يقع عليها جزاء؛ لأن الإنسان جبل عليها عندهم بيد أن الجزاء عندهم لا يكون على الأخلاق فحسب، بل إنهم حددوا أربعة أشياء يترتب عليها الجزاء في الأخرة، وهي:

أ - الأخلاق المكتسبة المعتادة.

ب - العلوم التعليمية.

ج - الآراء المعتقدة المكتسبة.

د - الأعمال المكتسبة بالاختيار والإرادة

ص: 131


1- د. عبد المقصود عبد الغني النظرية الخلقية في الإسلام، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1991م. ص 117، 118.

والواضح أن الأمور الأربعة يتدخل فيها الاكتساب؛ إذ إن الإنسان فيها يستخدم إرادته واختياره وعقله وفكره ورويته، فيكون الفعل الخلقي صادرًا من مكانه الطبيعي وعلى أساس أخلاقي، والواضح أن الأشياء الأربعة لا يتدخل فيها الطبع؛ إذ هي اكتساب خالص للإنسان.

فإخوان الصفا يقرون بأن القيامة لا محالة كائنة، وهي النشأة الأخرى، وأن الخلق كلهم يبعثون ويحشرون، ويحاسبون، ويثابون بما عملوا من خير ومعروف،

ويجازون بما علموا من شر ومنكر، وذلك بدليلين:

الأول، نقلي؛ وذلك في قول الله تعالى: «والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»(1)، وقال: «(واليوم الآخر)، فهذا هو الإيمان الظاهر الذي دعت الأنبياء، عليهم السلام الأمم المنكرة لهذه الأشياء إلى الإقرار به، وهو يؤخذ تلقيناً، كما يتلقن الصغار من الكبار ، والجهال من العلماء، الإقرار به»(2).

الثاني عقلي اعتبروا فيه أحوال هؤلاء الأخيار الذين تقدم ذكرهم، والذين قد أفنوا أعمارهم كلها في أعمال الخير، ثم ماتوا، ولم يحصل لهم عوض على ما عملوه قبل الموت، فتعلم العقول وتقضي بالحق أن ذلك لا يضيع منه عند الله شيء، فيصبح هذا الاعتبار أن بعد الممات - الذي هو مفارقة النفس الجسد - حالة أخرى يجازى فيها الأخيار، وهي التي تسمى الدار الآخرة. وهكذا اعتبروا حال الأشرار الذين سعوا في الأرض بالفساد، ثم ماتوا ولم يعاقبوا على ما فعلوا، فتعلم العقول وتقضي أن هؤلاء لم يفوزوا، وأن حالهم بعد الممات ليس كحال أولئك الأخيار(3)، وذلك قوله تعالى: «أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون»(4) . وهذا الدليل العقلي هو ما سبق أن قال به أفلاطون

ص: 132


1- البقرة 286
2- رسائل إخوان الصفا، ج 4، 46.
3- انظر السابق، ج 4 ص 152
4- سورة الجاثية : 21

في معرض حديثه عن خلود النفس بعد الموت لتحاسب على ما عملت في الدنيا.(1)

وهذا يعني أن إخوان الصفا هنا قد جمعوا بين آراء الأنبياء وآراء الفلاسفة البرهنة على خلود النفس، فكان توفيقا بين الشريعة والفلسفة، ولكن على طريقة إخوان الصفا؛ لأن بعض الباحثين يعد ما ذهب إليه إخوان الصفا توفيقا، إلا أن ما صنعه إخوان الصفا لا يعد هنا توفيقا(2)، بقدر ما هو تغليب رأيهم العقلي الفلسفي على الرأي الديني .

وجزاء المحسنين يتفاضل في الآخرة عند إخوان الصفا بحسب درجاتهم في المعارف واجتهادهم في الأعمال الصالحة، والناس متفاوتو الدرجات في أعمالهم، كلّ على شاكلته، ويميز إخوان الصفا بين موضوع اجتهاد الخاصة، وموضوع اجتهاد العامة والجهال، فأجود أحوال العامة والجهال كثرة الصوم والصدقة والصلاة والقراءة والتسبيح، وما شاكل ذلك من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، المشغلة لهم عن فضول وبطالة، وما لا ينبغي لهم؛ كي لا يقعوا في الآفات وأفضل أعمال الخواص عندهم التفكر والاعتبار بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات ، وبخاصة ما يتعلق بالدين.(3) ومن ثم كان الجزاء المترتب على ذلك مختلف درجته ، ولا شك أنهم هنا يعلون من درجة وجزاء الخاصة على درجة وجزاء العامة، على اعتبار أنهم آمنوا على بصيرة ونور لا عن طريق التقليد والرواية.

خامسًا: الجزاء الروحاني:

غير أن مسألة الجزاء هل بالبدن والروح أم بالروح فقط من المواطن ذات الإشكالية عند إخوان الصفا، فتارة يقول إخوان الصفا بأن الجزاء واقع على البدن والنفس وتارة يقولون بأن الجزاء خاص بالنفس فقط، ومن ثم فلست مع أحد الباحثين ممن

ص: 133


1- انظر أفلاطون محاورة فيدون، تحقيق د. عزت ،قرني، ط دار ،قباء الثالثة، 2001م.، ص 282 283.
2- انظر د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا، ط دار المعرفة الجامعية، 1989م.
3- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 4 ص 74 .

ظن أن تصور إخوان الصفا لفكرة المعاد والحساب يتفق مع الشريعة الإسلامية(1)؛ لأن الشريعة الإسلامية كانت واضحة في هذه القضية، حيث أكدت في آيات عدة وأحاديث نبوية شريفة أن البعث بالنفس والجسد معًا، فهل تردد إخوان الصفا في أمر هذه القضية، وتناقض موقفهم فيها وتأرجحهم بين ثلاثة آراء يعني الاتفاق بينهم وبين الشريعة فيها ؟ !

ومن النصوص التي تؤيد الرأي الأول قول إخوان الصفا: «فأما النفس، يعني الروح، فهي جوهرة سماوية نورانية حية علامة فعالة بالطبع، حساسة دراكة، لا تموت ولا تفنى بل تبقى مؤبدة؛ إما ملتذة وإما مئتلمة. فأنفس المؤمنين، من أولياء الله وعباده الصالحين، يعرج بها بعد الموت إلى ملكوت السموات، وفسحة الأفلاك، وتخلّى هناك، فهي تسبح في فضاء من الروح، وفسحة من النور، وروح وراحة إلى يوم القيامة القيامة الكبرى فإذا انتشرت أجسادها، ردت إليها، لتحاسب وتجازى بالإحسان إحساناً، والسيئات غفراناً وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار فتبقى في عماها وجهالاتها، معذبةً متألمة، معتمةً حزينة، خائفةً وجلةً، إلى يوم القيامة، ثم ترد إلى أجسادها التي خرجت منها، لتحاسب وتجازى بما عملت من سوء»(2). وقولهم : «واعلم يا أخي أن بعث النفوس من القبور الدارسات، وقيامها من التراب إنما يكون ذلك إذا ردت إليها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتاً من الزمان فيما سلف من الدهر، فتنتعش تلك الأجساد، وتحيا تلك الأبدان وتتحرك وتحس بعدما كانت جموداً، ثم تحشر وتحاسب وتجازى، لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافأة»(3). وهناك نص آخر يقول: «فكذلك تكون النشأة الثانية صورة بين الجسماني والروحاني، فحدها الجسماني ما يكون في ذلك الوقت من الأمر للنفس بموجب معرفة العقل من الأمر والنهي، وكونها بحد الروحاني فهو ما يتجلى فيها من صورة العقل والنفس بمجردها».(4).

ص: 134


1- انظر .د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفاء ، ص 234 .233
2- رسائل إخوان الصفا، ج 3 ص 86.
3- السابق، ج 3 ص 86
4- الرسالة الجامعة تاج رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، تأليف الإمام المستور أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، تحقيق د. مصطفى غالب، ط دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1981 م، ص 464، 463

وهذا يبين أن الجزاء والحساب عند إخوان الصفا بالروح والجسد، تستوي في ذلك أنفس العصاة وأنفس المؤمنين.

غير أن إخوان الصفا يعودون فيترددون في أمر الجسد هل الجسد الذي يقع عليه الجزاء هو بعينه الذي كان في الدنيا أم جسد آخر يقوم مقامه؟ وهنا ينتهي رأيهم إلى جواز الأمرين، وذلك عندما يقولون: «وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف فهو يرى ويعتقد بأن مع هذه الأجساد جواهر أخر أشرف منها وأفضل وليست بأجسام تسمى أرواحاً أو نفوساً فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا برد تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها، أو أجساد أخر تقوم مقامها، ثم يحشرون ويحاسبون ويجازون بما عملوا من خير أو شر. وهذا الرأي أجود وأقرب إلى الحق، وفي اعتقادهم له صلاح لهم ولغيرهم، كما تقدم من قبل»(1). ويقولون في موضع آخر: «فأما النفس فهي جوهر سماوي، نورانية حية علامة فعالة حساسة دراكة، لا تموت بل تبقى مؤبدة، إما ملتذة وإما متألمة. فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين يعرج بها بعد الموت إلى فسحة الأفلاك في روح وراحة إلى يوم القيامة. فإذا نشرت أجسادها ردت إليها لتحاسب وتجازى بها بالإحسان إحساناً بالسيئات غفراناً. وأما أنفس الكفار والفساق والفجار والأشرار فتبقى في عمائها وجهالتها معذبة متألمة حزينة خائفة إلى يوم القيامة، ثم ترد إلى أجسادها التي أخرجت منها لتحاسب و تجازي بما عملت» (2).

ثم يخالف إخوان الصفا هذين الرأيين فيأتون في موضع آخر برأي ثالث يرون فيه الجزاء للنفس فقط ويرفضون فيه أن يكون الجزاء بالجسد، وذلك عندما يقولون: «أترى أنهما أرادا اللحوق بالصالحين بجسديهما أو نفسيهما؟ وهل ألحق جسداهما إلا بتراب الأرض التي منها خلقا، وإنما أرادا نفسيهما الزكيتين الشريفتين الروحانيتين

ص: 135


1- رسائل إخوان الصفا، ج 3 ص 88، 89.
2- السابق، ج 4 ص 260 .

والسماويتين النورانيتين لا جسديهما المؤلفين من اللحم والدم والعظم والعروق والعصب، وما شاكلها من الأخلاط الأربعة»(1) وقولهم : «فيا ليت شعري إلى من يتوجه هذا الخطاب؟! أإلى الأنفس الجزئية بمجردها ؟ أم إلى الأجسام البالية التي قد صارت ترابًا ؟ إن الله سبحانه وتعالى خاطب أولي الألباب».(2) ومن أقوى الأدلة على هذا الرأي قولهم: «فعند ذلك يكون الإنسان بنفسه الشريفة الروحانية اللطيفة ملكا مستغنيًا عن الحيوان الصامت - يقصدون بذلك الجسم - وغير محتاج إليه، وبالبرهان إذا استغنى الإنسان عن الآلة التي كان محتاجًا إليها في وقت من الأوقات لا يبالي بفقدها، ولا يتألم لزوالها وعدمها، إذا فلا بقاء للحيوان - أي الجسم - يوم القيامة، ولا وجود له بالنوع الذي عليه الآن، وأنه يرقى تدريجيًا حتى يلحق بالصورة الإنسانية».(3)

ويؤكد إخوان الصفا على هذا الرأي في موضوع آخر قائلين: «فلعلك أن تنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتحيا بروح العلوم، وتعيش عيش السعداء، وتوفق للصعود إلى ملكوت السماء؛ لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتكون هناك بنفسك الزكية الطاهرة النقية الشفافة، مسروراً ،فرحاً منعماً ملتذاً أبداً، لا بجسدك الثقيل المظلم المستحيل الفاسد، وفقك الله أيها الأخ للصواب وهداك إلى الرشد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد».(4) وهناك نص آخر يتحدثون فيه عن أن الجنة دار الأرواح، هذا النص هو : «هي الجنة دار السلام ومعد الأرواح، ومسكن نفوس الأخيار، ومستقر الأبرار، فإن أنت دمت على ما أنت عليه إلى الموت، فسيكون مصيرك إلى هناك، بعد مفارقتها جسدها، فتجد لذة ،العيش وسرور النعيم صافياً، بلا تنغيص ما بقي من الدهر».(5) ويقولون في نص آخر: «وأن الأعمال والأفعال التي تكتسبها النفوس في هذا العالم إنما هي أمكنة ومساكن لها غرف من فوقها، غرف في جنات النعيم والملك القديم، في عالم الأفلاك ومحل السموات، وهي مساكن

ص: 136


1- السابق، ج4 ص 118.
2- جامعة الجامعة تحقيق د. عارف تامر ص 71.
3- جامعة الجامعة، تحقيق د. عارف تامر ص 171
4- رسائل إخوان الصفا، ج 4 ص 141.
5- السابق، ج 4 ص 161

تسكن إليها نفوس العارفين، وتأنس بها أرواح المؤمنين ، مبنية بالحكمة الإلهية، فيها من كل الثمرات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكذلك الأفعال القبيحة والأخلاق السيئة هي أيضًا مساكن ،وحشة، وبيوت ،مظلمة، وجهالات متراكمة، وظلمات من فوقها ظلمات».(1) ويقول إخوان الصفا أيضًا: « أن الجسم فاسد متغير مضمحل، وأن أجزاءه لا تجتمع بعد فرقتها، وأن النفس هي صفوة الطبائع»(2).

ويبدو لي أن هذا التردد عند إخوان الصفا، أو - إن صح التعبير - هذا التناقض الواضح كانت نتيجة منطقية للتردد بين اتجاهين في هذه المسألة؛ حيث حاول إخوان الصفا استلهام رأي من بين ثنايا ما جاء به أفلاطون وأرسطو، على الرغم مما هو معروف من اختلاف هذين الفيلسوفين في هذه القضية قضية خلود النفس. فإخوان الصفا - على رأي أحد الباحثين - تابعوا الرأي الأفلاطوني الذي يعتقد في إثبات خلود النفس على القول بأنها لا مادية بسيطة، ولئن كانت المادة وحدها هي التي يسري عليها قانون التحلل والفساد والكون، فإن النفس بالضرورة خالدة، وبذلك يعتقد إخوان الصفا بقاء النفس بعد مفارقتها البدن، ومتى كانت طيبة خيرة تصعد إلى ملكوت السماوات، وتدخل في زمرة الملائكة وتحيا بروح القدس، فإذا كانت شريرة سيئة تهبط إلى قعر الأرض في أسفل سافلين؛ كي تنال جزاءها(3). وهذا الرأي الذي انتهى إليه إخوان الصفا هو رأي فلسفي عقلي - لا رأي ديني كما يظن للوهلة الأولى - لأنه يبني أكثر من أي شيء آخر على برهان الأضداد المتلازمة عند سقراط، والذي استخدمه الأخير في البرهنة على خلود النفس، حيث يبني هذا البرهان على أساس تتابع الأضداد، أي إن الحياة يجب أن يعقبها موت، وهذا الموت يجب أن تعقبه حياة(4). ومن هنا فرأي إخوان الصفا رأي عقلي أكثر منه عقديًا.

ولما كانت مسألة خلود النفس عند أرسطو من المسائل التي يدور حولها إشكالية؛

ص: 137


1- الرسالة الجامعة، ص 234
2- الرسالة الجامعة، ص 330
3- انظر د وجيه أحمد، الوجود عند إخوان الصفا، ص 224.
4- انظر د.محمد علي أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ط دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، الأسكندرية الثانية، 1967م، ج2، ص 194.

حيث تردد أرسطو بين القول بفناء النفس مع البدن وبين القول ببقاء الجزء المتصل بالعقل الفعال، فإن تردد إخوان الصفا هنا - في رأيي - نابع من تردد أرسطو ذاته، وقد أفاض الدكتور أبو ريان في مسألة الخلود عند أرسطو مؤكدًا على حالة النقاش الدائر حول هذه المسألة منتهيًا إلى أن الذي يفسد عند أرسطو من قوى النفس القوى المتعلقة بغرائز البدن، أما العقل الفعال الذي يتعلق بالجزء الناطق من النفس فلا يفنى بفناء الجسد.(1) وهذا الرأي هو ما انتهى إليه إخوان الصفا في رأيي مع شيء من التعديل؛ لأن القول الذي ذهب إليه إخوان الصفا بأن من غرق في بحر الهيولي يجازي ببدنه، ومن نجا من بحر الهيولي خالد بنفسه، يعني - في التحليل الأخير أنهم يبنون رأيهم على أساس من قوى النفس، فمن غرق في بحر الهيولي فقد غلب شهواته ونفسه الغضبية ونفسه الشهوانية فحق له خلود مقيد، أما من نجا نجا من بحر الهيولي، فقد غلب نفسه العاقلة على قوى النفس الأخرى، وهذه مرحلة الاتصال بالعقل الفعال عند إخوان الصفا، بما يعني أن إخوان الصفا يتفقون مع أرسطو في القول بأن نتيجة الاتصال بالعقل الفعال الخلود العقلي، وفي القول بأن النفس الغضبية والنفس الشهوانية تمنع من الوصول إلى هذا الخلود.

وإن كنا نعتقد أن إخوان الصفا يميلون إلى أن بعث الأجساد لا يكون إلا لمن غرق في بحر الهيولي، ولم يرتق بنفسه إلى عالم الأرواح، في حين أن بعث النفوس لا يكون إلا لمن نجا من بحر الهيولي، وارتقي إلى عالم الأرواح عالم الأفلاك وسعة السماوات، وقد يدلك على ذلك قولهم : «واعلم يا أخي أن من لا يوقن ببعث الأجساد، ولا يتصوره، فليس من الحكمة أن يخاطب ببعث النفوس؛ لأن بعث الأجساد يمكن تصوره ، ويقرب فهمه وعلمه، فأما من لا يقربه ولا يتصوره، فهو لبعث النفوس أنكر وبه أجهل، ومن تصوره أبعد؛ لأن بعث النفوس هو من علم الخواص، ولا يتصوره إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية، وإنما وعد الكفار أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم، ويجازيهم بسوء أفعالهم، ووعد الله

ص: 138


1- انظر .د علي سامي النشار، ود. محمد علي أبو ريان قراءات في الفلسفة، ط الدار القومية للطباعة والنشر، الأولى 1967م ص 284

المؤمنين أن يحيي نفوسهم، ويبعث أرواحهم ليجازيهم على حسناتهم، ويثيبهم بأعمالهم. فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد، ويؤمل نشر الأبدان، فإن ذلك ظلم عظيم في حقك إذا كنت تتوهم ذلك. ولكن إذا استوى لك، فكن من الذين ينتظرون بعث النفوس، ويؤملون حياتها ووصولها إلى عالمها الروحاني ودار قرارها الحيواني، مخلداً في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك».(1)

وهذا الرأي فيه شبه كبير بما في الفلسفة الهندية خاصة عقيدة البراهمة؛ إذ غاية النفس في الفلسفة الهندية الوصول إلى الاتحاد ببرهمة بتجردها من الهيولي، فإذا تجردت النفس من الهيولي وتطهرت من أدرانها نالت السعادة القصوى، وهي الاتحاد ببرهمة، أما إذ غرقت في بحر الهيولي فتلك النفوس الشريرة التي تعذب في ناراكا مائة سنة من سني برهمة، واليوم البرهمي يساوي ثمانية مليارات و 650 مليون سنة شمسية(2).

ومن ثم فإن إخوان الصفا يؤكدون على أن النفس المؤمنة العارفة يعرج بها بعد مفارقة البدن إلى ملكوت السماوات فتظل تسبح حتى تقوم القيامة؛ حيث تعود أجسامها إليها؛ لتحاسب، في حين أن النفس الشريرة بعد مفارقتها البدن تظل خائفة وجلة إلى يوم القيامة، حتى ترد إليها أجسادها؛ لتحاسب و تجازي.(3)

وهذا التضارب دخل على إخوان الصفا نتيجة الاعتقاد بأن الجنة هي عالم الأفلاك وسعة السماوات، تصعد إليها النفوس البريئة المطهرة بالعلوم والمعارف، وتظل خالدة دائمة بها، وعلى ذلك فالبعث هنا ،نفسي، أما النفوس الشريرة، فإنها تهبط، وترد إلى أجسادها في عالم الكون والفساد؛ لتجازى على أعمالها، أي إن الجزاء واقع على النفس والجسد معاً .(4)

ص: 139


1- رسائل إخوان الصفا، ج 3 ص 85.
2- انظر حنا أسعد فهمي تاريخ الفلسفة، ط المطبعة اليوسفية من دون، ص 10. وانظر تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 96
3- انظر .د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا، ص 81
4- انظر د وجيه أحمد عبد الله السابق، ص 82.

لقد ظن إخوان الصفا أن أوصاف الجنة والنار التي وردت في الكتب السماوية رموز وإشارات إلى حقائق، ربما تكون مادية فقط أو مادية ولا مادية، وذلك بقدر فهم القوم؛ ليسهل تصورها عليهم، ولذا كانت النار - في نظرهم - هي عالم الكون والفساد، والجنة هي عالم الأفلاك .(1) بل إن إخوان الصفا يرون أن الاعتقاد بأن أجسام أهل الجنة لحمية وطبيعية لا يتوافق مع ما وصفهم الله تعالى فيها بأنهم لا يمسهم فيها ،نصب، ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وأنهم خالدون (2). بل إنهم يعتقدون أن من الآراء الفاسدة الاعتقاد بأن الله الرؤوف الرحيم الغفور الودود البار يعذب الكفار والعصاة في خندق واحد من النار ، وكلما صارت جلودهم فحما ورمادًا عادت فيها الرطوبة والدم؛ لتحرق مرة ثانية؛ وليذوقوا العذاب مستندين خطأ إلى أن هذا الرأي يسيء ظن صاحبه بربه، وأنه يعتقد فيه قلة الرحمة وشدة القساوة.(3) ولما كانت الجنة ليست دار أجساد لحمية، فإن الجزاء في هذه الحالة لا يقع على الأجساد، ولكنه يقع على النفوس؛ لأن الخلود عندهم للنفس لا الجسد، وهم بذلك يخالفون جمهرة المسلمين(4)؛ إذ الأمر لا يتعلق برأي عليه خلاف كبير أو قليل، وإنما يخالفون النصوص الصريحة الشرعية . ومع هذا فمن الغريب أن تجد من يدافع عن إخوان الصفا هنا ويستنتج أن هذه الجماعة العقلانية - في رأيه - ترى أن ما ورد في الكتب المنزلة، وما جاء على لسان الأنبياء والرسل قول صدق لا شك فيه البتة.(5) فكيف (5) يستقيم هذا مع ما يذهب إليه إخوان الصفا من شك في مسألة البعث بالجسد ؟ !(6)

سادسًا: الجزاء الجماعي العقلي:

ولكن ما حقيقة الجزاء عند إخوان الصفا ؟ يمكن القول إن إخوان الصفا يتشابه

ص: 140


1- انظر د وجيه أحمد عبد الله السابق، ص 86.
2- انظر جامعة الجامعة، ص 203
3- انظر رسائل إخوان الصفا، ج4، ص 89
4- انظر د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا، ص 87.
5- انظر د . وجيه أحمد عبد الله السابق، ص 90 .
6- يرى الدكتور سليمان دنيا أن مسألة البعث بالجسد فيها شك عند كل من ابن سينا والغزالي عند حديثهما عن السعادة الروحية، مما عده ارتباكا في مسألة السعادة عندهما . انظر الحقيقة في نظر الغزالي ط دار المعارف، القاهرة الثالثة، 1971م، ص 358 .264

موقفهم هنا إلى حد كبير مع موقف الفارابي فيما انتهت إليه آراؤه من النعيم العقلي والنعيم الجماعي؛ لأنهم يرون أن النفوس الشريرة التي تفارق أجسادها على هذه الأوصاف تحن إلى أبناء جنسها من النفوس المتجسدة الشريرة التي على سننها وسيرتها في شهواتها ، كما يحن الأعمى البصير إلى أبناء جنسه إذا سمع أصواتهم، وتستروح هذه النفوس أيضاً إلى وسوسة أبناء جنسها وحثالتهم على فعل تلك العادات التي كانت فيها مما تقدم من الشرور وطلب الشهوات؛ لما تجد من ألم شهواتها المركوزة في ذاتها من سوء عاداتها القديمة فيما يستروح، كمن قد عدمت شهوته للطعام والشراب وضعفت حرارة معدته فهو يشتهي ما لا يستمرئ ، وبه شبق وآلته لا تؤاتيها، فهو عند ذلك يستروح بالنظر إلى الآكلين والشاربين والفاعلين من أجل ما يجد في نفسه من الشهوات المركوزة والعادات الجارية، مؤولين في ذلك بعض الآيات التي تخدم فكرتهم الغريبة، كقوله تعالى: «... شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً»(1)فشياطين الجن عندهم هي النفوس المفارقة الشريرة التي قد استجنت عن إدراك الحواس، وشياطين الإنس النفوس المتجسدة المستأنسة بالأجساد. كما يرون أن هذه هي النفوس المتجسدة الشريرة إخوان لتلك النفوس المفارقة، فإذا فارقت أجسادها بعد الموت لحقت بتلك النفوس المتقدمة التي قد خلت في القرون الماضية، وحصلت في العذاب معها.(2) ويرى الدكتور عمر الدسوقي - مؤكدًا على هذه الفكرة - أن الآخرة عند إخوان الصفا حالة هي النفس بعد مفارقتها الجسد فإن كانت صالحة لحقت بالنفوس الصالحة وصارت مع الملائكة، أما إن كانت فاسدة، ولم تستكمل فضائلها، فإنها بعد مفارقة البدن تهوى في عالم الهيولي دون فلك القمر ؛ لتصير شيطانًا مع الشياطين(3).

ومما يدل على أن إخوان الصفا يميلون إلى الجزاء العقلي أنهم يرون أن أهل العذاب إذا حل بهم الموت، أخذت الملائكة - وهي عندهم روحانيات زحل

ص: 141


1- سورة الأنعام: 112
2- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 4 ص 172.
3- انظر إخوان الصفا ط عيسى البابي الحلبي، القاهرة من دون ص 232

والمشتري - تسومهم العذاب في سلسلة متعددة منه، فإذا بلغت الأنفس العاصية آخر أذرع السلسلة المعدة لعذابها غاصت بها ملائكة العذاب، وزجرها مالك الغضبان فاتحدت بها لطائف العذاب وصارت ظلمة بمجردها، تتراءى لها في ذاتها، كلما لحظت نفسها أشخاص السلسلة التي سلكت فيها.(1) وهذا - في التحليل الأخير - جزاء عقلي خالص؛ ذلك لأن موقف إخوان الصفا هنا يعني أن النفس العاصية تتراءى لها في ذاتها ظلمة ما اقترفته من أعمال وما يترتب عليها من جزاء، ويزداد عندها هذا الألم النفسي العقلي كلما تراءت لها صور العذاب الذي تراءى لها، كما أن تخصيص إخوان الصفا النفس هنا بالحديث يدل دلالة قاطعة على ذلك الجزاء العقلي؛ لأنهم هنا لا يتحدثون عن الجسد، وإنما يتحدثون عن النفس، وما تلاقيه من صور العذاب والألم النفسي والعقلي.

والأمر نفسه ينطبق على أهل النعيم ، فإذا حل الموت بساحة النفس المطيعة تلقتها الملائكة - وهي روحانيات الزهرة والمشتري - بالنعيم، فتبقى النفس علامة دراكة مع الملائكة إلى ما شاء الله تتصل بالمؤمنين في الدنيا، وتتراءى لهم في مناماتهم بالبشارة والطمأنينة.(2) وهذه كلها صورة من صور النعيم العقلي واللذة النفسية التي يقوم الجزاء الأخروي على شطر كبير منها عند إخوان الصفا. ولم يكتف إخوان الصفا بالقول بالجزاء الأخروي، بل يرون أن هناك جزاءً سابقا عليه في الدنيا؛ إذ إن من قبل - عندهم - وصايا المنذرين واتبع ،المرشدين وأطاع ربه، وعرفه حق المعرفة، نال السعادتين، وحصلت له المنزلتان منزلة الإنسانية الكاملة، والفلسفة الفاضلة في الدنيا، وصورة الملائكة وجوار الرحمن في دار الجنان، دار الحيوان في الآخرة .(3)

غير أن إخوان الصفا قد يؤدي رأيهم في مسألة خلود النفس إلى الاعتقاد بأنهم يروجون لفكرة تناسخ الأرواح المرفوضة إسلاميًا؛ ذلك أن إخوان الصفا يعتقدون أن النفس الناطقة إذا فارقت ظلمة الطبيعة الجسمانية والهيولى لحقت بأنوارها، وعادت

ص: 142


1- انظر الرسالة الجامعة، ص 317.
2- انظر السابق، ص 319
3- انظر السابق، ص 256

إلى إشراقها بشوقها إلى ذاتها وتذكارها مكان لذاتها الروحانية وفوائدها النورانية؛ إذ كانت بدت من جوهر الكلمة الإلهية، في حين يعتقدون أنه متى غفلت عن هذا بقيت في عالم الكون والفساد، والهبوط والاتحاد في عالم الأجسام، وتبقى حيث أرادت واختارت كمن اختار طول السجن على النجاة منه .(1) بما يعني - في التحليل الأخير - أن النفس تبقى معذبة في الدنيا في عالم الأجسام الذي اختارته. وهذا هو مذهب تناسخ الأرواح الذي يقوم على أساس انتقال النفس من جسد إلى آخر، وهكذا دواليك إلى يوم القيامة عقابًا لها على ما اقترفت من آثام.

وكم ثم فإن قضية الجزاء الجماعي والعقلي عند إخوان الصفا ليس مصدرها الإسلام فقط، بل يدخل فيها معتقدات الديانات السماوية الأخرى، كالمسيحية واليهودية، بل إن من مصادرها عندهم الديانات الوضعية، بل تمتد مصادر المعاد عندهم إلى الفلاسفة والحكماء وأصحاب الرسائل الناموسية على ظنهم، ومن ثم فقد خلط إخوان الصفا الأخلاق بما يعد غير إسلامي البتة ومن ثم وجدناهم يتحدثون عن أصحاب الديانات الوضعية كحديثهم عن الأنبياء والرسل؛ لأنهم أخذوا على أنفسهم ألا يعادوا علمًا من العلوم، أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصبون على مذهب من المذاهب ؛ ظنًا منهم أن مذهبهم يستغرق المذاهب كلها والعلوم جميعها(2)، ومن ثم فقد كان هذا المبدأ هو المنطلق الذي انطلقوا منه لتأسيس اتجاه تجميعي ،بحت يأخذ من آراء الفلاسفة والحكماء وأصحاب الديانات الوضعية مبادئهم وأصولهم الأخلاقية جنبًا إلى جنب مع الدين الإسلامي، بل إنهم أفسحوا الطريق لمن ترقى في المعارف الإلهية يمثل مبادئ

، يصنع ناموسًا إلهيًا - على ظنهم - أخلاقية يهتدي بها الإنسان؛ لأنهم يعتقدون أن أفضل صناعة يمكن أن يصل إليها الإنسان صناعة النواميس الإلهية، وربما هذا يفسر لنا نظرتهم التي فيها كثير من التقدير والاحترام للبراهمة والبوهميين وزاردشت و بود است وبلوهر وغيرهم ممن ظن إخوان الصفا خطأ أنهم أصحاب ناموس إلهي أتي بمبادئ أخلاقية، وجب على

ص: 143


1- انظر جامعة الجامعة، تحقيق د. تامر عارف، ط منشورات دار مكتبة الحياة ،بيروت من دون . ص 213 214.
2- انظر بطرس البستاني، مقدمة تحقيق رسائل إخوان الصفا، ص 8.

البشرية عدم الخروج عليها، بل إننا وجدنا ما يشبه أن يكون دعوة صريحة إلى أن السعادة الأخروية مترتبة على فهم أسرار الناموس الوضعي؛ لأنه يساعد عندهم على التنبيه من نوم الغفلية والاستيقاظ من رقدة ،الجهالة فيعيش المرء عيش السعداء، ويجاور الملائكة المقربين مخلدًا أبد الدهر.

وهذا ما ظهر في فلسفة إخوان الصفا عامة وفلسفتهم الأخلاقية خاصة، فقد مزجوا بين مبادئ الإسلام وأصوله، ومبادئ وأصول الأديان السماوية الأخرى والديانات الوضعية، وآراء الفلاسفة والحكماء، ولعل الحوار الذي عرض له إخوان الصفا بين اليهودي والمجوسي ليدل على تلك الفكرة؛ لأنه ينتهي إلى مدح اعتقاد كل منهما وحرصه على تطبيق مذهبه واعتقاده(1). وما دعوتهم الأتباع من إخوان الصفا ليصنعوا ما صنع المسيحيون واليهود من العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا دليلاً على صحة هذا الحكم.

المصادر والمراجع

1 - أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق الإمام المستور، الرسالة الجامعة تاج رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، تحقيق د. مصطفى غالب، ط دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع بیروت، لبنان، 1981 م.

2 - إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا، تحقيق بطرس البستاني ط دار صادر، بیروت، من دون.

3 - أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة د. أحمد لطفي السيد، ط دار الكتب المصرية، 1924.

4 - أفلاطون محاورة فيدون تحقيق د. عزت ،قرني ط دار قباء، الثالثة، 2001م.

5 - أفلوطين، التساعية الرابعة في النفس، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970م.

ص: 144


1- انظر بطرس البستاني، مقدمة تحقيق رسائل إخوان الصفا، ص 9.

6 - جامعة الجامعة، تحقيق د. تامر ،عارف ط منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، من دون.

7 - حنا أسعد فهمي، تاريخ الفلسفة، ط المطبعة اليوسفية، من دون.

8 - د. سلیمان دنيا ، الحقيقة في نظر الغزالي ط دار المعارف، القاهرة، الثالثة، 1971م.

9 - د. عبد المقصود عبد الغني النظرية الخلقية في الإسلام، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1991م.

10 - د. عزت ،قرني مقدمة كتاب أفلاطون، فيدون في خلود النفس ترجمة وتقديم وشرح د. عزت ط دار ،قباء القاهرة الثالثة، 2001م.

11 - د. علي سامي النشار، ود. محمد علي أبو ريان قراءات في الفلسفة، ط الدار القومية للطباعة والنشر، الأولى، 1967م.

12- د. علي عبد الواحد، المسؤولية ،والجزاء، ط مكتبة نهضة مصر، 1963 م.

13 - د. عمر الدسوقي، إخوان الصفا، ط عيسى البابي الحلبي، القاهرة، من دون.

14 - د غسان علاء الدين الأخلاق عند إخوان الصفا دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، من دون.

15 - د. ماهر كامل مبادئ الأخلاق، ط الأنجلو المصرية 1958.

16 - د. محمد الجليند د. أبو اليزيد العجمي، دراسات في علم الأخلاق، ط دار الثقافة العربية، القاهرة، 1996/1995 م.

17 - د. محمد علي أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ط دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، الأسكندرية الثانية، 1967م .

18 - د. وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا ط دار المعرفة الجامعية، 1989م.

ص: 145

الأسس الكلامية للفكر الأخلاقي عند العلامة الحلي

د. محمد حمزة إبراهيم(1)

مقدمة

العلامة الحلي (ت 762ه) من العلماء الموسوعيين الذين شمل اشتغالهم مساحة واسعة من حقول الفكر الإسلامي، من فلسفة وكلام وأصول وحديث وتفسير وغيرها، وقد تميز نتاجه بالغزارة والدقة والعمق، وهذه الموسوعية أعطته قابلية استحضار عدة علوم في معالجة موضوعاته سواء كانت فلسفية أو كلامية أو أصولية أو أخلاقية، فنجد التداخل في الأسس والمباني أو المناهج والمطالب، وهذا البحث سوف يقف عند أنموذج لهذا التوظيف متمثلا بالأسس الكلامية للأخلاق كما بدت لنا عند تحليل الموضوعات الأخلاقية عند العلامة الحلي.

فالبعد الأخلاقي لا ينفك يمارس حضوره الفاعل والمباشر في العلوم، وخاصة الإنسانية منها والإسلامية على وجه الخصوص، والحضور المعني هنا هو الحضور البنيوي وليس التوجيهي، بمعنى أن كثيرا من مباحث العلوم الإنسانية والإسلامية يمكن تصنيفها تحت موضوعات أخلاقية، أو تقع في مجال الأخلاق أو تلامسه بصورة أو بأخرى، حتى وان لم تطرح مسميات أخلاقية لهذه الأفكار، فان حضورها الأخلاقي يمثل البعد المسكوت عنه والملازم لباقي الأفكار يحضر بحضورها ويغيب بغيابها، فكل الموضوعات التي تلامس الإنسان هي تلامس الأخلاق بوصفها حيثية أصيلة في الإنسان، والبحث هنا لا يعنى بالأخلاقيات التطبيقية ممثلة بالفضائل والرذائل،

ص: 146


1- جامعة بابل / كلية الدراسات القرآنية.

أو تفعيل اثر الأوامر والنواهي، وإنما هو بحث نظري يبحث في الأسس الكلامية للأخلاق؛ ولذا فان البحث هنا فلسفي ،الطابع، مما يستلزم غلبة الجانب النظري على البعد التطبيقي العملي، شأنه في ذلك شان كل الموضوعات ذات الطابع الفلسفي.

وفيما يرتبط بمدى أهمية البحث الفلسفي النظري في موضوع قيمته وغايته في بعده العملي؟، يمكن أن نلحظ أمورا عدة:

أولا: قلة الدراسات التي تعرض للأسس الفلسفية في موضوع الأخلاق، وهو الأمر يسجل لصالح مثل هذه الدراسة، لتداركها بعض النقص في مباحث علم

الأخلاق.

ثانيا: أن قوة وعمق الموضوعات العملية والتطبيقية إنما يُستمد من قوة الأسس وإحكامها وتماسكها، وعلى هذا الأساس تصنف الأفكار في مدى قوتها وضعفها، فالأفكار المستندة إلى أسس هشه تكون ضعيفة في تماسكها، على العكس من تلك التي تمتلك رصيدا غنيا من المقدمات والأسس النظرية فان منظومتها ستكون أكثر قوة وتماسكاً.

ثالثا: الأمر الآخر يرتبط بموضوع البحث لان مكانة العلامة الحلي في الفكر الشيعي الأمامي خاصة والفكر الإسلامي عامة، تستدعي إعادة قراءته وتدارسه لمرات عدة، وذلك لثرائه المعرفي، وإعادة القراءة هذه تارة تكون باستخراج أفكار مباشرة من نصوصه وأخرى بقراءة تلك النصوص في ضوء معطيات فروع معرفية أخرى، فيقرأ تارة قراءة فلسفية وأخرى اجتماعية وثالثة نفسية.... وهذا التنوع هو المحك الحقيقي لعمق تلك النصوص وثرائها، وحسب المناهج المعاصرة فان معيار عمق النص هو قابليته في إعادة إنتاج المعنى باستمرار، ولذا سعى هذا البحث لتطبيق هذه الرؤية على فكر العلامة الحلي، في محاولة لاستنطاق نصوصه والإفصاح عن المسكوت عنه في هذه النصوص، وإعادة توجيه نصوصه لهذا الغرض الأخلاقي هي في حد ذاتها محاولة تثوير المعنى وإعادة إنتاجه من هذه النصوص.

ص: 147

رابعا: استخراج المعنى خارج فضاء المنطوق المباشر والدلالة الحرفية للنص، لا يعني أن تلك النصوص غريبة عن موضوع البحث وان البحث هو عبارة عن جهد متكلف لتحميلها ما لم تحتمل، فهذا الكلام يصح لو إنا ادعينا أن مراد صاحب النص وهو هنا العلامة - هو ما ذهبنا إليه من استنتاج، ولكن المقصود أن هذه النصوص قدمت إجابات لأسئلة مطروحة في حقول معرفية أخرى – وفي موضوعنا الأخلاق- بحيث يمكن إدراج هذه الإجابات كأسس ومقدمات لمسائل تلك الحقول المعرفية، فمثلا العمق الفلسفي للفعل الأخلاقي يمكن تلمس بعض جذوره في مسائل علم الكلام لتشكل هذه المسائل سندا عقليا للأخلاق وان اختلف الحقلان وتمايزا.

تمهيد

لقد تطور المبحث الأخلاقي في الدراسات الحديثة والمعاصرة كثيرا عما كان عليه في المراحل القديمة والوسيطة، إذ كان البعد التهذيبي للنفس وتقويم السلوك هو الطاغي في مباحث الأخلاق، أما اليوم وبفعل تطور مقولات فلسفة الأخلاق صار موضوع علم الأخلاق، يبحث في الأساسات الأعمق للقيم، والاشتراطات غير المباشرة للفعل الأخلاقي كالإرادة والإدراك ... .

ولذا فان قراءة نصوص الحقبة الوسيطة وما قبلها في ضوء تطور مفاهيم فلسفة الأخلاق سيعيد استنطاق تلك النصوص وإخضاعها إلى حقولها الأخلاقية، وان لم يلحظ المؤلف حينها البعد الأخلاقي الثاوي في معالجاته، فان ذلك لا يمنع من ربطها بمجالها الأخلاقي.

والعلامة الحلي بوصفه واحدا من اكبر منظري القرنين السابع والثامن الهجريين وعلى الرغم من كثرة الدراسات عن هذه الشخصية الفذة، إلا أن نصيب الفكر الأخلاقي عنده بقي عنده بقي هو الأضعف حضورا عند الباحثين من بين بقية جوانب فكره الأخرى، ونظرا لغزارة منتجه المعرفي فان إعداد دراسة شاملة عن منجزه الأخلاقي يحتاج جهدا مضاعفاً ووقتا مديدا ، غير أن ذلك لا يمنع من التعرض لبعض الأبعاد

ص: 148

الأخلاقية ممثلة بتناول أسس الأخلاق في منظومته الكلامية وذلك عبر تسليط الضوء على بعض المحاور في موضوعاته الكلامية كأنموذج، تاركين التوسع إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى .

أولا: علاقة النفس الإنسانية بالأخلاق

النفس الإنسانية هي الحامل للأخلاق والمحور لكل المعاني الأخلاقية، لوجود علاقة بين المعنويات ومنها الأخلاق، وحالة النفس اللامادية، لذا عرف الخلق بأنه (ملكة نفسانية تقتدر النفس معها على صدور الأفعال عنها بسهولة من غير تقدم روّية)(1)، فالأخلاق هي ليست الأفعال الظاهرة وإنما هي معان قائمة بنفسها، والفعل الخارجي يتأتى في مرتبة متأخرة عن وجود هذا الخلق في النفس، فالشجاعة مثلا هي ملكة الإقدام في النفس بلا تردد ومن دون الوقوع في التهور، فهذه الصورة للنفس هي المصطلح عليها من قبل علماء الأخلاق بخلق الشجاعة، أما السلوك الخارجي فهو فعل الشجاعة وهيئات النفس هذه تارة تكون راسخة وهي ما تعرف ب_«الملكات وتارة غير راسخة وإنما تعرض وتزول بسرعة وهي «الأحوال»، وفي الحالين فان النفس هي الموضوع لها.

ومثلما نلاحظ أن هذا التفسير لا يمكن له أن يستقيم من دون إثبات بعد آخر في روح الإنسان تختلف خصائصه عن البعد المادي، ولذا فموضوع علم الأخلاق (هو الإنسان ونفسه الناطقة من حيث قابليتها على الاتصاف بالصفات والخصائص الحسنة أو السيئة)(2) ، فلا مناص من الوقوف عند النفس لإثبات وجودها و بیان تمایزها عن المادة وبعض خصوصياتها الأخرى.

والعلامة الحلي ينطلق في معالجته لموضوع النفس من منطلقات كلامية، لا تركز على

ص: 149


1- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام ، تحقيق، فاضل العرفان مؤسسة الإمام الصادق، إيران - قم 1430ه، ج 2، ص 273 ، وينظر : النراقي، محمد مهدي جامع السعادات، ج 1، ص26، وابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1401ه 1981-م. ص25، والغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، طبعة مصر، بلا ، ج 3 ، ص 53.
2- ينظر النراقي، محمد مهدي جامع السعادات، مؤسسة التاريخ العربي ، ط1، 1425ه2004- م، ج 1، ص 60.

أصل وجود النفس وإنما على خصائصها، لأنه لم يقع بين المتكلمين جدل في وجود النفس من عدمها، بل وقع الخلاف في طبيعتها وماهيتها ، وإذا كان لمثل هذا المبحث من حضور فهو بحكم التأثر بالمنظومة الفلسفية، إذ في زحمة الجدل الدائر ما بين الفلاسفة والمتكلمين تسربت الكثير من المفاهيم والأفكار الفلسفية إلى علم الكلام.

ویرى العلامة الحلي أن وجود النفس من الواضحات بحكم الأدلة القوية على وجودها، فان من الأجسام ما يشاهد منه صدور الحس والحركة الإرادية كالتغذي والنمو، مع اشتراك في الجسمية ولوازمها، فيجب أن تكون لها مبادئ مغايرة للجسم والمادة، لان المادة لكونها قابلة يستحيل أن تكون فاعلة لأنها مشتركة في العنصريات (1)، بمعنى أن صدور أفعال متباينة من الأجسام على الرغم من أن مفهوم الجسمية واحد عند الجميع، يدل على أن مبدأ هذه الأفعال هو أمر وراء الجسمية المشتركة وهو النفس، وطبعا تسمى نفسا بلحاظ انضمامها إلى الجسم، أما لو لحظناها كمبدأ للأفعال فعندها يقال لها «قوة»، وأما إذا انضمت إلى المادة فيحصل منها نبات وحيوان فيقال لها «صورة»، فحقيقة النفس واحدة ولكنها تختلف من جهة حيثياته.(2)

وإذا كان وجود النفس من الواضحات فان الكلام والخلاف وقع في ماهيتها وصفاتها المشتركة ،والخاصة وهنا لابد من الدخول في بعض هذه التفاصيل حتى نتوافر على فهم عام للنفس بوصفها موضوعا ومحلا للأخلاق، بل انه لا يمكن العرض للكثير من تفاصيل علم الأخلاق على أسس فلسفية ما لم نفهم ماهية النفس

وقواها.

يورد العلامة الحلي تعريفا فلسفيا للنفس، هو أرسطي في أصله ينص على أن النفس «كمال أول لجسم طبيعي»(3) ، فما معنى ذلك؟، في الواقع أن العلامة ذكر

ص: 150


1- ينظر: الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد مؤسسة النشر الإسلامي، ط14، 1433ه، ص 347 .
2- ينظر: المصدر نفسه.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 348 ، . ، وأيضا : ينظر عن تعريف النفس، الرازي، محمد بن عمر المباحث المشرقية مطبعة دائرة المعارف النظامية ، ط 1 ، 1343ه . ج 2، ص 231 ، وأيضا الكندي رسالة الحدود، ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب، د. عبد الأمير الاعسم مكتبة الفكر العربي، بغداد ، ط1، 1404ه 1985- م . ص 190، وأيضا : ابن سينا، علي بن الحسين رسالة الحدود المصدر نفسه، ص 241 الجرجاني التعريفات، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، بلا ص313، وأيضا : خليف فتح الله ابن سينا ومذهبه في النفس، جامعة بيروت العربية، 1974، ص63.

هذه الجملة في تعريف النفس ولم يتعدَّها إلى غيرها من التفاصيل حتى تشمل كل النفوس فيكون بمثابة جنس لباقي التفاصيل في تعريف باقي النفوس.

والكمال منه كمال أول ومنه كمال ثان فالكمال الأول ما تكون فيه ذات الشيء موجودة، أما باقي الكمالات الإضافية فهي كمالات ثانوية، فمثلا وجود ذات العالم هو كمال أول، وإضافة العلم لها هو كمال ثانٍ(1)، وبعبارة أخرى الكمال الأول هو ما يصير به النوع نوعا بالفعل مثل الشكل للسيف والكمال الثاني هو الذي يتبع نوعية الشيء من أفعاله وانفعالاته كالقطع للسيف(2) ، أما أن هذا الكمال يكون لجسم طبيعي فذلك لإخراج الصورة الصناعية لأنها كمال أول ولكن لجسم غير طبيعي وإنما صناعي كالسرير(3)، وبعد هذا يمكن إضافة قيود للإشارة إلى نفوس معينة نرغب بتعريفها ، فإذا أريد تمييز النفوس النباتية من غيرها أضافوا إليه : تصدر عنها أفعال مختلفة من غير قصد ولا اختيار، وإذا أريد تمييز الحيوانية من غيرها أضافوا تصدر عنه الأفعال المختلفة بواسطة القصد وتكون لها القدرة على الفعل والترك، وإذا أريد تمييز الإنسانية أضافوا: يصدر عنها إدراك حقائق الموجودات على سبيل الفكرة والحدس.(4)

والنفس الناطقة غير المزاج(5) ويقصد من المزاج هي العناصر المكونة للتركيب المادي الإنساني، والغرض من إثبات مغايرة النفس للمزاج هو دحض فكرة مادية النفس، وأنها لا تجري عليها كل أحكام المادة، وان من القيم والمعنويات ما نطلب له عللا أخرى خارجة عن معطيات المادة ومنها اغلب القيم الأخلاقية، فان للمادة

ص: 151


1- ينظر: الحيدري كمال علم النفس الفلسفي دار ،فراقد، قم - إيران، ط3، 1426ه - 2005م، ص 23.
2- ينظر الرازي المباحث المشرقية ، ج 2، ص 234 ، وعرفها بالكمال الأول ولم يعرفها بانها «قوة» لان القوة تقع بالاشتراك على القوة الفعلية والانفعالية واللفظ المشترك يحترز عنه في التعريفات كما لم يعرفها بانها صورة لان النفوس الفلكية والإنسانية غير حالة في البدن فلا تكون صورة فيه، بمعنى إن إطلاق تسمية صورة على النفس فيه إيحاء إنها حالة في المادة ومنطبعة فيها، والنفوس الإنسانية غير منطبعة في المادة وإنما هي مجردة كما سيأتي
3- ينظر: الحلي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص348.
4- ينظر : المصدر نفسه، ص349.
5- عن المزاج ينظر الرازي، المباحث المشرقية ، ج 2، ص 156 ، وأيضا زيد منى احمد، الإنسان في الفلسفة الإسلامية دراسة مقارة في فكر العامري، المؤسسة الجامعية، ط1، 1994 ، ص 44-45.

نحن وتراثنا الاخلاقي (2)

152

أحكامها وخواصها ولوازمها، وللنفس أحكامها وخواصها ولوازمها، مع وجود علاقة تسوغ لنوع من التأثير المتبادل مثلما سيأتي.

ولأهمية موضوع مغايرة النفس للبدن، يورد العلامة الحلي أدلة عدة على ذلك منها(1) :

الأول: أن الإنسان قد يغفل عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة والباطنة، في حين يبقى ملتفتا لذاته غير غافل عنها وهذا دليل على مغايرة الذات أو «الانا» لبدنه المادي.

الثاني: أن أعضاء البدن وأجزاءه دائمة التبدل، في حين أن النفس باقية لا تتبدل ولا تتغير فيبقى الإنسان بذات يشعر أنها هي طيلة حياته، ومن المؤكد أن المتغير غير الثابت فهذا دليل على المغايرة بين النفس والبدن .

وبعد أن يبين العلامة الحلي أن النفس ليست نتيجة وأثرا للبدن، وأنها بوجودها مغايرة له ومستقلة عنه، يبين أيضا أنها مجردة في طبيعتها عن المادة والدليل على ذلك أن العلم أمر مجرد عن المادة، فلابد من أن يكون المحل الذي يعرض فيه مجرد أيضا، لاستحالة حلول المجرد في المادي فثبت أن النفس وهي محل العلم مجردة (2) . ومما يدل عليه أيضا أن القوة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف الجسم، والنفس بالضد من ذلك ففي وقت الشيخوخة كلما كبر الإنسان زادت وكثرت تعقلاته، ولو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلها والأمر ليس كذلك، وهذا دليل على أنها ليست جسمانية(3).

والنتيجة أن النفس إذا كانت مجردة فهي باقية ولا يطرأ عليها العدم لان كل قابل للعدم فهو مركب والنفس ليست مركبة مثلما تقدم فلا تكون النفس فانية.(4)

ص: 152


1- ينظر: الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد،ص 277-276, وأيضا : ينظر، الرازي، المباحث المشرقية، ج2، ص359، وأيضا العاتي، إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية أنموذج الفارابي، الهيئة المصرية للكتاب، 1993، ص108 ، وأيضا : خليف عبد الله ابن سينا ومذهبه في النفس، ص104.
2- ينظر : المصدر نفسه، ص 278.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 279 ، وأيضا زيد منى احمد الإنسان في الفلسفة الإسلامية دراسة في فكر العامري، ص 40.
4- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط1،1432ه - 2005م، ص 399.

فإذن النفس في عمومها كمال أول وأنها ليست معلولة للمزاج بل هي أمر وراء المزاج، كما أنها مغايرة للبدن ومجردة عن المادة ولذا فهي باقية ولا يتطرق إليها الفناء.

فهي ليست نتيجة من نتائج المادة ولا هي . منفعلة لها بشكل مطلق، بل على العكس فهي المؤثرة في المادة، والأخلاق بحكم معنويتها هي هيئة نفسية كما تقدم والسلوك الخارجي اثر من آثارها ولذا أعطيت للنفس الأولوية على البدن في الموضوع الأخلاقي، فالنية وهي فعل نفسي يعدها المحقق الحلي هي المعيار لحسن أو قبح الفعل الخارجي فنجده يقول: (إن الأفعال متساوية وإنما يمحضها للطاعة أو المعصية النية، فان لطمة اليتيم ظلما أو تأديبا واحدة والمميز بينها ليس إلا النية، ولان نفس صدور الفعل لا يوجب الطاعة لأنه أعم لوجوده في صورة الرياء وغيره)(1) ثم أن دوام النفس وعدم فنائها يعني ديمومة الأثر الأخلاقي لأنها ملكات وصور للنفس تبقى ببقائها ولا تفنى بفناء البدن، وهذه الصور لها أحاكمها الخاصة في مباحث المعاداة.(2)

ثانياً: ميتافيزيقا الفعل الأخلاقي

الميتافيزيقا تبحث في ما وراء الظواهر المادية من العلل والأسباب، ومن هذا المنطلق سيقف البحث هنا عند العلل النفسية والعقلية لصدور الفعل الأخلاقي، وليس المقصود من هذه العلل القيم التي تمثل إحدى بواعث السلوك الأخلاقي، إذ أن للفعل الأخلاقي أكثر من بعد يسهم في تحققه منها بعد حقيقي معني بالأسس والمقدمات الوجودية لصدور هذا الفعل مثل قوى النفس ومراتب الإدراك، ومنها بعد اعتباري توجيهي مثل القيم الموجهة للسلوك أي ما ينبغي وما لا ينبغي، والبحث هنا في البعد الوجودي تحديداً.

يرى العلامة الحلي أن كل فعل يصدر عن فاعله لابد من أن يستند إلى قوتين

ص: 153


1- ينظر: الحلي، محمد بن الحسن الرسالة الفخرية في النية، تحقيق صفاء الدين البصري، (د.ت)، ص33.
2- ينظر الشيرازي محمد بن إبراهيم الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، طليعة النور، ط3، 1430ه. ج 9، :وأيضا الحيدري، السيد كمال المعاد، دار فراقد، قم - إيران، ط1، 2010م - 1431ه، وأيضا لنفس المؤلف كتاب المعاد من شرح الأسفار الأربعة، دار ،فراقد، ط 1 ، قم ،إيران، 2010م 1431 ه، ج1.

وهما قوة إدراك وقوة تحريك، وهما ما يميزان النفوس الحيوانية عن النفوس الأدنى منها وهي نباتية، وقوة الإدراك عند الحيوان قد تكون بحواس ظاهرة وقد تكون بقوى باطنة، ومن المشهور أن الحواس الظاهرة خمس هي قوى اللمس والذوق والشم والسمع والبصر(1)، وهي أول سلم المعرفة وتوجد عند الحيوانات العجماوات، وأما القوى الباطنة فخمس أيضا هي : الحس المشترك والخيال والوهم والمتخيلة ،والذاكرة والعلامة يسترسل في شرحها (2).

وأما قوة التحريك فإنها تنقسم إلى قوة محركة على إنها باعثة، وقوة محركة على أنها فاعلة فالباعثة هي القوة الشوقية، لان الحيوان ما لم يشتق إلى ما يدركه حسا أو خيالا أو عقلا لا يتحرك إليه بالإرادة، والشوق غير الإدراك لأنا ندرك أشياء لا يقع إلينا لها ،شوق والشوق إنما يكون لجذب الملائم أو لدفع منافر والأول هو القوة الشوقية الشهوانية، والثاني هو القوة الغضبية، والقوة الفاعلة هي المحركة للأعصاب والعضلات (3).

هذه القوى الحيوانية هي بمثابة المادة للقوى الأرقى منها وهي الإنسانية، فالنفوس الإنسانية تتميز كما يرى العلامة الحلي ب__(اعتباران احدهما تدبير البدن والثاني إدراك المعقولات فلها قوتان بحسب هذين الاعتبارين، فالقوة التي تقبل بها النفس على تصرفات البدن تسمى عقلا عمليا، والقوة التي تقبل بها النفس على ما تفيدها المعقولات تسمى عقلا نظريا)(4) نلاحظ هنا اختلافا في التعبير عند العلامة على الرغم من الحديث عن قوة تكاد تكون نفسها عند الحيوان والإنسان، فنجده يسمي القوة المحركة عند الحيوان بالباعثة والفاعلة، ويسمي الباعثة بالقوة الشوقية، في حين يسمي هذه القوى عند الإنسان بالعقل العملي، ولهذا التفريق أسباب ستمر علينا.

ص: 154


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 363 ، وأيضا : كشف المراد، ص 290 ، وأيضا ينظر الرازي، المباحث المشرقية، ج 2، ص 247 وما بعدها.
2- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، ص375-381 ، وأيضا : كشف المراد، ص 296.
3- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، ص 381 382 ، وينظر أيضا ابن سينا، علي بن الحسين المبدأ والمعاد، مؤسسة مطالعات إسلامي ،تهران، ط1، 1363 ، ص 96 ، والإشارات والتنبيهات تحقیق سلیمان دنیا دار المعارف، ط3، 1950، ج2، ص387.
4- الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، ص.386

ومسألة العقلين النظري والعملي لم تكن محل وفاق تام في طبيعة وظيفتهما عند الفلاسفة وعلماء الأخلاق، ففي حين يذهب فريق إلى أن الأول يعنى بالمسائل الفلسفية النظرية خارج دائرة الأخلاق والآخر يعنى بالمسائل العملية(1)، يذهب آخرون إلى فهم مختلف قوامه أن فلسفة الأخلاق أيضا من شؤون العقل النظري، أما وظيفة العقل العملي فتتعدى ذلك إلى البعث والتحريك (2).

هذا الاختلاف في تحديد وظيفة كلا العقلين النظري والعملي، من شأنه أن يحدث حالة من الإرباك في فهم وظيفة كل منهما، ويبدو انه يوجد خلط في بيان هذه الوظيفة.

ويمكن التوفيق بين الرأيين في الأخذ بنظر الاعتبار عدم التمييز بين الحكمة العملية والعقل العملي، إذ العقل النظري الذي من شأنه الإدراك يتفرع إلى الحكمة النظرية التي تدرك الموجودات الخارجة عن محيط قدرتنا واختيارنا، والحكمة العملية التي تدرك ما هو داخل دائرة قدرتنا واختيارنا أما العقل العملي فهو غير الحكمة العملية التي هي من أقسام العقل النظري(3)، إذ هو يقابل العقل النظري وليس الحكمة النظرية التي هي إحدى قسمي العقل النظري ) ، ويشير العلامة الحلي إلى هذا التداخل في احد نصوصه فيقول : (والحاصل أن الحكمة العملية قد يراد بها العلم بالخلق، وقد يراد بها نفس الخلق، وقد يراد بها الأفعال الصادرة عن الخلق).(4)

ص: 155


1- الآمدي، سيف الدين كتاب المبين ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب، د. عبد الأمير الأعسم، ص364. وينظر بهذا الصدد أيضا الشيرازي محمد بن إبراهيم مفاتيح الغيب تعليق المولى علي النوري، تقديم محمد خواجوي، مؤسسة التاريخ العربي ، ط3، 1424ه - 2003 م ، ج2، ص 602 ويوجد رأي لتلميذ ابن سينا بهمنيار يحصر فيه وظيفة العقل العملي بالعمل فقط ، ولم يعطه أي هامش من الإدراك، إذ يقول : (.... ويسمى عقلا عملياً، لأن بها تعمل النفس... وليس من شأنها ان تدرك شيئا بل هي عمالة فقط ... والقوة التي تسمى عقلا عمليا على ما ذكرت) وهذا الرأي لم يشاركه فيه أحد في حدود اطلاع الباحث ينظر المرزبان بهمنیار، التحصيل، تصحيح ،وتعليق مرتضى مطهري، انتشارات جامعة طهران 1375ه، ص 789 - 790.
2- ينظر : النراقي، جامع السعادات، ج1، ص48-53.
3- ينظر الآملی حسن زاده من تعليقته على النفس من كتاب الشفاء لابن سينا مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، ط1، 1417ه- هامش ص.285. وينظر الحيدري: السيد كمال، مقدمة في علم الأخلاق، دار فراقد، ط1، 1425ه - 2004م، ص36.
4- الحلي، الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام تحقيق فاضل ،العرفان مؤسسة الإمام الصادق، ط2، 1430ه، ج2، ص 275.

وهذا المعنى نجده بوضوح في آراء محمد مهدي النراقي التي تأتي في سياق حديثه عن العقل العملي، أو الحكمة العملية في كتاب جامع السعادات، ففي حديثه عن العقل العملي دائما يصفه كقوة محركة وباعثة (1)، وأما الحكمة فيؤكد أنها معرفة حقائق الموجودات، وهذه المعرفة تارة تتعلق بأمور خارجة عنا فتكون حكمة نظرية، وتارة أخرى تتعلق بأمور وجودها بقدرتنا واختيارنا وهي الحكمة العملية .(2)

ويرى النراقي أنه لا مانع من جعل الأخلاق موضوعا للحكمة، إذ إن وظيفة الحكمة البحث في أحوال الموجودات، والموجودات منها موجودات إلهية أي واقعة تحت قدرة الباري سبحانه، ومنها موجودات إنسانية أي واقعة بقدرة الإنسان، فالعلم بأحوال هذه الأخيرة هو جزء من الحكمة .(3)

وبهذا التصور يمكن رفع التعارض في كلمات بقية الفلاسفة بخصوص هذا الموضوع، خصوصا وانهم يظهرون بعض المسامحة في استعمال هذه التسميات فيطلقون تسمية العقل العملي ويصفون وظيفته تارة بالإدراك وتارة بالتحريك، ويطلقون تسمية العقل النظري ويحددون وظيفته بإدراك الأمور العامة تارة، وبإدراك الكثير من المسائل الحسن والقبح تارة أخرى.

والمعيار الأساس حسب ما تقدم هو تحديد الوظيفة المنسوبة للعقل إن كانت إدراكية عامة فهي من مختصات الحكمة النظرية المتفرعة عن العقل النظري، وإذا كانت إدراك قضايا أخلاقية فهي من شؤون الحكمة العملية التابعة للعقل النظري أيضاً، وإن كانت هذه الوظيفة تتعدى لتشمل السياسة والتحريك فهي من مختصات العقل العملي.

فالعلاقة تكاملية بين العقلين النظري والعملي، وسيتضح ذلك عبر التطرق لكيفية تكوين العقل النظري لمعقولاته وأثره في العقل العملي، ذلك لأن العلوم تشكل

ص: 156


1- ينظر : النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 48-53
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 49.
3- المصدر نفسه، ج 1، ص 54.

جوهر العقل عند المتكلمين وهي قوام العقل النظري عندهم، ولذلك بعد أخلاقي هام فان اهتمام المتكلمين لتفسير معنى العقل يأتي (لتحديد المستوى المعرفي الذي يستأهل الفرد البشري من خلاله أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية، ومن ثمَّ يصلح أن يكون شخصا مكتمل الشخصية وان يخاطب بالتكليف الشرعي الذي تحمله له الرسالة النبوية).(1)

يسرد العلامة الحلي بشيء من التفصيل كيفية تشكل المعقولات لدى النفس، يكتفي البحث بإيراد ما يناسب المقام، فالنفس في بدء فطرتها كانت خالية من جميع العلوم الضرورية والكسبية وهذه النفس من دون شك فيها استعداد وقابلية للعلوم، ومقتضى ذلك أن تفاض عليها العلوم والمعارف من المبدأ العام فور حصول الاستعداد إذ لا بخل في ساحته وإنما التقصير من جهة القابل، وسبب عدم قبول نفوس الأطفال للمعارف في أول أمرها، أن استعدادها لم يكن تاما أول الأمر، فلم يكن الاستعداد المصاحب لها في مبدأ الفطرة كافيا في فيضان المعقولات عليها من مبادئها، ثم يشتد هذا الاستعداد ويزداد بسبب اكتساب النفس للتصورات من العالم الخارجي بواسطة الحواس(2)، وهكذا تنمو المعرفة ويترقى الإدراك شيئا فشيئا حتى تكتمل النفس من الناحية العلمية.

فالقوة النظرية لها مراتب متعددة بحسب تعدد مراتبها في الاستكمال، وتلك المراتب تنقسم إلى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالقوة والى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالفعل والقوة تختلف بحسب الشدة والضعف، فأول تلك المراتب كما يكون للطفل من قوة الكتابة، وأوسطها كما يكون للرجل الأمي المستعد لتعلم الكتابة، وآخرها كما يكون للعالم بالكتابة والقادر عليها الذي لا يكتب لكن له أن يكتب كما يشاء(3).

ص: 157


1- المدن، علي، تطور علم الكلام الإمامي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط1، 1431ه - 2010م، ص364.
2- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف، نهاية المرام في علم الكلام ، ج 2، ص 168-169
3- ينظر: المصدر نفسه، ج 2، ص 57.

وتختلف مراتب الأشخاص في تحصيل القوة النظرية كما وكيفاً، أما بحسب الكم فبكثرة المعلومات النظرية وقلتها وأما بحسب الكيف فبسرعة حصول تلك المعلومات وبطئه فان من الناس من يحصل العلوم الكسبية لشوق بالنسبة إليها يبعثها على حركة فكرية شاقة في طلب تلك المعقولات، وهؤلاء أصحاب الفكر، ومنهم من يظفر بها من غير حركة إما مع شوق ما إليها أو من دون شوق، وهؤلاء أصحاب الحدس وتتكثر مراتب الصنفين ، وصاحب المرتبة الأخيرة ذو النفس القدسية.(1)

ومعارف ومعلومات العقل النظري تشكل الأساس للعقل العملي في بناء أحكامه وتوجهاته، بل أن خصوصية العقل الإنساني هي هذه الحيثية العملية أو التأسيس لما ينبغي وما لا ينبغي فعله، ولذا فالعلامة يذهب إلى أن (الفعل الاختياري الذي يختص بالإنسان لا يتأتى إلا بادراك ما ينبغي أن يعمل في كل باب، وهو إدراك رأي كلي مستنبط من مقدمات كلية أولية، أو تجريبية أو ذائعة، أو ظنية، يحكم بها العقل النظري، ويستعملها العقل العملي في تحصيل ذلك الرأي الكلي من غير أن يختص بجزئي دون غيره والعقل العملي يستعين بالنظري في ذلك، ثم انه ينتقل من ذلك باستعمال مقدمات جزئية أو محسوسة إلى الرائي الجزئي الحاصل فيعمل بحسبه، ويحصل بعمله مقاصده في معاشه ومعاده)(2) ، فإذن العلاقة تكاملية ما بين العقلين النظري والعملي، ابتداءً من الأفكار النظرية العامة، ومن ثم المقدمات النظرية المرتبطة بالأخلاق، وأخيراً الحركة العملية لتطبيق تلك الأفكار على مصاديقها الجزئية.

ثالثاً: حرية الإرادة الإنسانية بوصفها شرط لقيام الأخلاق

الحرية شرط جوهري لتحقق الأخلاق فلا تترتب المسؤولية الأخلاقية على الإنسان ما لم يكن مختارا فيما يصدر عنه من أفعال، ولذا وقف المتكلمون عند

ص: 158


1- ينظر المصدر نفسه، ج 2، ص 57-58 ، والقوة القدسية هي أعلى قوة يمكن أن يتوفر عليها الإنسان وهي من شؤون النبوة، وكان أول من أشار إليها ابن سينا في تنظيراته للنبوة، ينظر، طرابيشي، جورج، وحدة العقل العربي الإسلامي، دار الساقي، ط3، بيروت - لبنان، 2010، ص 278
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 56.

هذا الموضوع، وقفة مطولة، وبأدلة كلامية تعتمد الحسيات والمشهورات في تنظيم حججها، وهو ما يميز المنهج الكلامي من الفلسفي ،البرهاني، والعلامة الحلي وقف عند هذا الموضوع في أكثر من موضع من أعماله، إذ أن للمبحث أهمية خاصة في المسالة الأخلاقية، فالإرادة هي ما يميز الإنسان لان شرط الإرادة كلاميا انضمام الوعي والإدراك إلى الفعل أي هو الفعل المقرون بقصد ، وليس أي فعل اتفق وإنما هو الفعل الذي تترتب عليه مسؤولية عند العقلاء ولا يتحقق الاختيار ما لم تسبقه القدرة على الفعل؛ لذا اقتضى الأمر البدء ببحث موضوع القدرة.

فإذن البحث ذو شقين إثبات القدرة، واثبات حرية الإرادة، فالحرية هي جذر الفعل الأخلاقي، بحيث تنتفي أخلاقية الفعل بانتفاء الحرية، وبحسب التعبير المنطقي تكون سالبة بانتفاء الموضوع، لذا كان لزاما أن نقف عند هذين الشكلين من الحرية المؤسسة للأخلاق.

فيما يرتبط بموضوع القدرة يذكر العلامة الحلي أربعة أقسام للقوة ما يعنينا منها هو القسم الرابع لصلته المباشرة بموضوع الأخلاق فيورد تعريفها على النحو الآتي: (القوة[هي] التي تصدر عنها أفعال مختلفة مع الشعور بتلك الأفعال)(1)، فالفعل لا يقع منها على وتيرة واحدة ومن دون شعور مثل فعل الطبيعة، ولا يقع من الفعل أفعال عدة ومن دون شعور مثل القوة النباتية.

ويشترط عضد الدين الإيجي الإرادة في تحقق القدرة فهي عنده (صفة تؤثر وفق الإرادة)(2) ، وهو بذلك اخرج ما لا يؤثر كالعلم، أو ما يؤثر من دون إرادة مثل الطبيعة، ولكنه في هذا التعريف يقيم علاقة أكثر تلازما ما بين القدرة والإرادة.(3)

وينبه العلامة الحلي إلى المغايرة ما بين القدرة والفعل بعدة أدلة كلامية(4):

ص: 159


1- الحلي الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام ، ج 2، ص 243.
2- الايجي، عبد الرحمن بن احمد المواقف في علم الكلام، عالم الكتب، بيروت (د.ت)، ص150.
3- ينظر، المصدر نفسه.
4- الحلي الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الکلام، ج 2، ص 250-255

منها: أن الكافر مكلف بالإيمان وذلك بإجماع المسلمين، فإما أن تكون القدرة ثابتة عند تكليفه أم لا ، فان كانت القدرة ثابتة حصل المطلوب، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق لان التكليف ثابت حال الكفر والقدرة غير ثابتة.

ومنها: إنما يحتاج إلى القدرة لأجل أن يُخرج القادر الفعل من العدم إلى الوجود، فلو لم توجد إلا حال حدوث الفعل لم تكن هناك حاجة إليها.

ومنها: أن الفرق بين القدرة والعلة هو وجوب الأثر ،وعدمه، فلو وجب الاقتران بین القدرة والفعل لم يبق بين القدرة المؤثرة على سبيل الصحة والإمكان والعلة المؤثرة على سبيل الوجوب تغاير، وهو محال بالضرورة.

ومنها: أن القدرة متعلقة بالضدين الفعل والترك، ولو وجب ملازمتها لأثرها للزم اجتماع ،الضدين، أو أنها ليست قدرة ، أصلا، ولذلك لأسباب منها(1):

1 - إن الضرورة قاضية أن القدرة متعلقة بالضدين فان من قدر على الحركة يمنة قدر عليها يسرة علما أن القدرة واحدة وان القادر على شيء قادر على تركه.

2 - أن معنى القدرة هو وقوع أفعالنا بحسب دواعينا، وانتفائها بحسب صوارفنا أن نوصف بصفة القادرين، وإنما يصح ذلك لصحة تحركنا في سائر

بحيث يصح الجهات وإيقاع مختلف الأفعال.

3 - لو لم تتعلق القدرة بالضدين لزم تكليف ما لا يطاق، والتالي باطل فالمقدم مثله .

کل الأدلة المتقدمة تثبت وجود قدرة متحققة قبل الفعل وبسببها يكون الإنسان مختاراً في أفعاله،وسبب تأكيد هذا التمييز أن بعض متكلمي الأشاعرة استند إلى

مسألة القدرة في إثبات معلولية الأفعال إلى الله تعالى ومن ثم الوقوع في محذور الجبر بحجة أن الإنسان مفتقر في قدرته إلى الله فهو إذن مفتقر في أفعاله إليه تعالى .

وبعد التفكيك ما بين القدرة والفعل يعرج العلامة الحلي على إثبات حرية الفعل

ص: 160


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 261 - 262 .

الانساني و هي عماد الفکرة الاخلاقية،بعد ادلة عقلية و نقلية منها(1):

الأول: إنا نفرق بالضرورة بين أفعالنا الاختيارية والاضطرارية، فانا نفرق بين حركتنا يمنة ويسرة وبين الوقوع من شاهق، ولو كانت الأفعال كلها صادرة عن الله تعالى انتفى الفرق بينهما وهو معلوم البطلان بالضرورة.

الثاني: إن أفعالنا تقع بحسب قصدنا ودواعينا، وتنتفي بحسب كراهتنا، فانا إذا أردنا الحركة يمنة أوجدناها كذلك، وإذا أردنا الصعود حصل ذلك وليس النزول، وإذا أردنا الأكل وقع وليس الشرب، وهذه الأحكام ضرورية، ولو كانت الأفعال ليست بإرادتنا وإنما من الله تعالى فإنها قد تقع وان كرهناها ولا تقع وان أردناها.

الثالث: إن الله تعالى قد كلفنا بالقيام ببعض الأفعال والامتناع عن أفعال أخرى، وما كلفنا به إما أن يكون مقدورا لنا أو لا، فان لم يكن مقدورا لنا لزم التكليف بما لا يطاق وهو قبيح عقلا وشرعا وان كان مقدورا ثبت المطلوب.

الرابع: انه يلزم من سلب الاختيار أن يكون الله تعالى اضر على العبد من الشيطان؛ لان الله تعالى لو خلق الكفر في العبد ثم عذبه عليه، كان اضر من الشيطان الذي لا قدرة له على العبد سوى التزيين والوسوسة.(2)

ص: 161


1- الحلي الحسن بن يوسف الرسالة السعدية تحقيق عبد الحسن محمد، دار الصفوة، بيروت لبنان، ط1، 1310ه، ص 65-67، وأيضا تسليك النفس ، تحقيق فاضل رمضاني، مؤسسة الإمام الصادق، قم - إيران، ط1، 196-167 ، وأيضا : كشف المراد، ص423، وأيضا : معارج الفهم تحقيق عبد الحليم عوض، مطبعة نكارش قم - إيران، ط1، 1428ه، ص 408.
2- ويستعرض العلامة الحلي مراحل صدور الفعل الاختياري من مرحلة الإدراك إلى مرحلة التحقق، وهي أربع مراحل حسبما يذكرها وهي: أولها: القوى المدركة، وهذه القوى أما الخيال والوهم في الحيوان، وإما العقل العملي بتوسطهما في الإنسان. ثانيها: قوة الشوق فإنها تنبعث عن القوة المدركة وتتلوها وتنشعب إلى شوق نحو الطلب ينبعث عن إدراك الملائمة للشيء اللذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابقا وتسمى الشهوة، والى شوق نحو دفع وغلبة تنبعث عن إدراك المنافاة في الشيء المكروه أو الضار وتسمى غضبا. وثالثها: العزم ويسميه العلامة «الإجماع» وهو الجزم بعد التردد في الفعل والترك، وهو المسمى بالإرادة والكراهة، وهو مغاير للقوة الشوقية؛ لان كل واحد منهما يوجد من دون صاحبه، فمثلا أن الإنسان في حال مرضه يريد تناول الدواء وهو لا يشتهيه، ويكره تناول الغذاء وهو يشتهيه، وعند وجود هذا الإجماع يرجح احد طرفي الفعل أو الترك على صاحبه. وآخرها: القوة العضلية المنبثة العضلات المحركة للأعضاء، وهي مغايرة لسائر المبادئ السابقة، لان الإنسان قد يشتاق إلى شيء ويعزم عليه وهو غير قادر على تحريك أعضاءه، القادر على التحريك قد لا يشتاق ولا يعزم. ينظر: الحلي، الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام ، ج 2، ص 268 .

وإذا كانت حرية الإرادة تأسس للأخلاق الإنسانية، فإنها من جهة أخرى تدعم أصلا أخلاقيا في العقيدة هو أصل العدل، وهو الأصل الذي ينزه الله تعالى عن فعل القبيح ومعلوم أن الحسن والقبح مفاهيم أخلاقية يحكم بها العقل -كما سيأتي-، وفرارا من شبهة تحكيم العقل الإنساني في الله وصفاته رفض الأشاعرة سحب أحكامنا الأخلاقية على الله تعالى، وإنما الأخلاق خاضعة لمشيئته فما حسنه يحسن وما قبحه يقبح، فتكون الحيثية الأخلاقية حاضرة بقوة في مبحث العدل والجدل الدائر حوله.

رابعا: المسوغ العقلي للأخلاق (في الحسن والقبح)

موضوع الحسن والقبح من الركائز الهامة في المبحث الأخلاقي، لان الفعل الاختياري الذي يصدر عن الإنسان ضربان فعل للفاعل أن يقوم به وهو الحسن، وآخر للفاعل أن يتركه وهو القبيح، والفعل الحسن هو ما لا يستحق فاعله الذم، بخلاف القبيح الذي يستحق فاعله الذم ، ولهذا ينقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة : الواجب والمباح والمندوب والمكروه، طالما أن كل هذه الأقسام لا يستحق فاعلها ،الذم فالواجب ما يستحق المدح بفعله والذم بتركه والمباح لا مدح فيه على الفعل والترك، والمندوب يمدح صاحبه على فعله ولا يذم على تركه، والمكروه يستحق المدح بتركه ولا يذم على فعله.(1)

وفي الواقع أن العلامة الحلي يبني هنا على احد معان الحسن والقبح، إذ للحسن والقبح ثلاثة معان هي(2):

الأول: أن الحسن صفة كمال كالكرم والشجاعة والعلم والقبح صفة نقص كالبخل والجبن، وكثير من الأخلاق الإنسانية حسنها وقبحها على هذا النحو، فالعدالة والعفة والحياء حسنة بوصفها كمالاً للنفس، والبخل والجبن قبيحة بوصفها نقصاً للنفس، وهما بهذا المعنى يقعان وصفا للأفعال الاختيارية.

ص: 162


1- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الرسالة السعدية، ص53 ، وأيضا : كشف المراد، 418.
2- ينظر ،عليان، د. رشدي محمد عرسان، دليل العقل عند الشيعة الإمامية، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت، 2008، ص 129-131

الثاني: الحسن ما يلائم الطبع ويوافق الغرض والقبيح ما ينافر الطبع ويخالف الغرض، مثل الأكل عند الجوع حسن وخلافه الأكل عند الشبع قبيح، أو المنظر الحسن والمنظر القبيح.

الثالث : كون الفعل بحيث يستحق فاعله عليه المدح أو الذم عقلا، فالعدل حسن أي يستحق فاعله المدح عند العقلاء، والظلم قبيح أي يستحق فاعله الذم عند العقلاء. وهذا المعنى الأخير هو محل النزاع بين المتكلمين لذا ركز عليه العلامة الحلي.

ويذهب العلامة الحلي إلى أن الحسن والقبح معان ذاتية لبعض الأفعال فهي بذاتها حسنة أو قبيحة مع غض النظر عن أي دليل خارجي فان (القبائح إنما قبحت لما هي عليه وكذا الواجبات، فان العقلاء متى علموا الظلم أو منع رد الوديعة أوترك شكر المنعم ذموا فاعل ذلك، ومتى علموا رد الوديعة أو شكر النعمة مدحوا فاعله العلة بادروا إلى ذكر الظلم أو منع رد الوديعة أو كفران النعمة... فلولا فإذا طلب منهم علمهم الضروري بالعلم لما بادروا إليها).(1)

ويورد العلامة الحلي أدلة عدة لإثبات الحسن والقبح العقليين وهو رأي المدرسة الإمامية، منها:(2)

الأول: إنكار الحكم الضروري، فان كل عاقل يحكم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، وحسن ردّ الوديعة والإنصاف، وإنقاذ الغرقى وقبح الظلم والتعدي ومن كابر ذلك فقد كابر مقتضى عقله، ولو لم يكونا عقليين، لم تكن هذه الأحكام مركوزة في عقول العقلاء.

الثاني: إنا نعلم بالضرورة أن من من خير شخصا بین أن يصدق ويعطى دينارا، أو يكذب ويعطى دينارا، ولا ضرر عليه فيهما ، فانه يختار الصدق على الكذب بالضرورة ولولا جهة القبح العقلي لما اختار ذلك.

ص: 163


1- الحلي الحسن بن يوسف تسليك النفس، ص 165.
2- الحلي الحسن بن يوسف الرسالة السعدية، ص54.

الثالث: إن منكري الشرائع والأديان كالبراهمة، يحكمون بحسن بعض الأشياء وقبح البعض، ولو كانا شرعيين لما كانا كذلك.

الرابع: إن معرفة الله تعالى واجبة وليس مدرك الوجوب السمع، لان معرفة الإيمان متوقف على معرفة الموجب له وهو الله تعالى فيستحيل معرفة الإيجاب قبل معرفة الموجب، فلو أسندت معرفة الموجب به دار بمعنى آخر لو أن وجوب معرفة الله تعالى بالشرع، ومعرفة الشرع متوقفة على معرفة الله تعالى، لحصل دور فتكون معرفة الله متوقفة على الشرع ومعرفة الشرع متوقفة على معرفة الله، ولذا لابد من أن يكون الوجوب عقلياً.

الخامس(1): انهما لو ثبتا ،شرعا، لم يثبتا لا شرعا ولاعقلا، لانا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه من الله تعالى، فإذا اخبرنا بشيء انه قبيح لم نجزم بقبحه ، وإذا اخبرنا في شيء انه حسن لم نجزم بحسنه، لتجويز الكذب ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وينهانا عن الحسن، لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير.

وكان الأشاعرة قد خالفوا الإمامية والمعتزلة في مذهبهم في التحسين والتقبيح وقد تبنوا القول بالحسن والقبح الشرعيين، نافين أن تحمل الأشياء صفات ذاتية يحكم العقل في ضوئها بالحسن والقبح، ومن ثم فهذه الأحكام هي أمور توقيفية يحكم بها الشرع ولا مجال فيها للذوق ولا تحمل قيمها الذاتية، بل أن القيم تتشكل على وفق رأي الشرع توجيهاته ، يقول إمام الحرمين الجويني: (المعني بالحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله والمراد بالقبيح ما ورد في الشرع بذم فاعله)(2)، ولو أن الحسن والقبح أمورا عقليه لما حصل فيها هذا الاختلاف الواسع بل أن مخالفي المعتزلة هم الأكثرية حسب رأي الجويني وفي هذا دلالة على نقض مدعاهم بالمنشأ

ص: 164


1- الحلي، الحسن بن يوسف كشف المراد، ص 418.
2- الجويني ابو المعالي ،الارشاد، مكتبة الخانجي، مصر، 1950، ص258.

العقلي للحكم بالحسن و القبح(1) ، وامتناع صدور القبائح عن الله تعالى ليس من جهة استدلال العقل، بل من جهة انه تعالى نزه نفسه عن القبائح، (فان قال قائل هل يجوز وقوع الكذب منه والأمر به وبسائر المعاصي؟ ، قيل له أما الكذب فلا يجوز عليه لا لأنه يستقبح منه، ولكن لان الوصف له بانه صادق من صفات نفسه).(2)

هذه الأدلة وغيرها يقف منها العلامة الحلي موقفا نقديا مبينا أوجه الخلل في مثل هذا النوع من الاستدلالات، ولا حاجة للخوض في تفاصيل الرد ومن يرغب في الزياد فعليه بكتب العلامة.(3) وما يهمنا هنا رأي العلامة الحلي في إسناد الحسن والقبح إلى العقل وكذلك كل الأحكام الأخلاقية بصورة مباشرة أم غير مباشرة، فمن الأحكام الأخلاقية ما يثبت بدلالة العقول، ومنها ما يثبت بدلالة الشرع الذي لا تثبت له دلالة من دون حكم العقل.

خامساً: التكليف أو الإلزام

موضوع التكليف من المباحث الكلامية الهامة المرتبطة بالبعد الأخلاقي، لأنه من الممهدات للمسؤولية فلا مسؤولية من دون تكليف أو إلزام، والإلزام يكون من سلطة عليا تأمر وتنهى أي تلزم الأفراد الذين عليهم هم بدورهم أن يأتمروا ويلتزموا بهذه التوصيات(4) ، إن التكاليف العامة في الفقه هي الواجبات والمحرمات، والتكاليف المعمقة هي المستحبات والمكروهات، وهي التي تربي الفرد في خطوة أعلى من مجرد الالتزام بما هو إلزامي في الشريعة، فتكون المستحبات والمكروهات الفقهية هي أحكاما أخلاقية بطبيعتها(5)، فمحور كل من التكليف الفقهي والأخلاقي هو فعل الإنسان.(6)

ص: 165


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 260.
2- الباقلاني أبو بكر محمد بن ،الطيب التمهيد المكتبة الشرقية، بيروت، 1957 ، ص 343
3- ينظر : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 418 وما بعدها وأيضا تسليك النفس، ص163، ونهج الحق وكشف الصدق، ص 83 وما بعدها.
4- ينظر : مغنية محمد جواد فلسفة الأخلاق في الإسلام، نشرة بيك فدك، ط1، (د.ت)، ص57.
5- ينظر: الصدر ، محمد صادق، فقه الأخلاق، دار البصائر، بيروت - لبنان 2012م 1433 ه، ج 1، ص 20.
6- ينظر الحسيني، إبراهيم الفقه والأخلاق، ضمن كتاب العقلانية والأخلاق في المنظور الإسلامي، كتاب المنهاج مركز الغدير بيروت - لبنان، ط 1 ، 2010م 1431 ه، ص 407.

وخطاب الشريعة بالأساس متوجه إلى الإنسان، فلا وجود للحكم الشرعي إذا لم يكن هناك مكلف(1)، وتوجيه التكليف إلى الإنسان ينطوي على تشريف لكون هذا التكليف يكشف عن أهلية الآدمي لتحمل الأمانة الإلهية.

فالتعاليم الإلهية تجمع بين الأحكام الفقهية والأصول الأخلاقية؛ لأن التفرقة بين هذين الجانبين فيه إبطال لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين، سبب انحطاط المسلمين الاقتصار على أجساد الأحكام الشرعية وظواهرها والأعراض عن روحها وجوهرها.(2)

ويعرف العلامة الحلي التكليف بأنه (بعث من يجب طاعته على ما فيه مشقة على جهة الابتداء بشرط الإعلام)(3) ، فمفهوم التكليف يقتضي وجود جهة واجبة الطاعة تدفع باتجاه العمل ولأنها واجبة الطاعة فان الإنسان يكون مسؤولا أمامها، وهذا الدفع يتعلق بأمور فيها مشقة وكلفة ومنها سمي تكليفاً، ولابد من أن يكون المكلف عالما بأمر التكليف وإلا بطل عن كونه تكليفا.

والتكليف وان جاء عند المتكلمين في سياق أوامر الشارع، إلا انه في نفسه أوسع دائرة ، ولذا لم يقرن في التعريف بالشرع وإنما بالوجوب، ومعلوم أن عنوان الوجوب أوسع من حصره في الوجوب الشرعي، وسوف ترد بعض القرائن على ذلك .

فقد وضع العلامة الحلي الأفعال المشمولة بعنوان التكليف ضمن دائرة الأفعال الأخلاقية، يقول: (أما التكليف فانه طلب لمكارم الأخلاق التي يستحق بها المدح والتعظيم، وليس إلجاء إلى الفعل)(4) ، والسبب في أن التكليف لا يجوز فيه إلجاء

ص: 166


1- ينظر: البغا د. مصطفى ديب، الجوانب التربوية في أصول الفقه الإسلامي، عالم الكتب الحديثة، ط1، 2006، عمان - الأردن، ص 291
2- ينظر الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت لبنان، ط1، 1417ه- 1997 - . ج 2، ص 239.
3- الحلي الحسن بن يوسف مناهج اليقين في أصول الدين ص319، ومعارج الفهم في شرح النظم، ص415 وتسليك النفس، ص 172.
4- الحلي، الحسن بن يوسف مناهج اليقين في أصول الدين تحقيق، قسم الكلام والفلسفة في مجمع البحوث الإسلامية، ط2، 1430ه، ص 321.

وإكراه لان (ما يضطر إليه الغير ففعله لا تأثير له في استحقاق الثواب).(1)

وفلسفة التكليف قريبة من فلسفة وضع القوانين إلا إنها تزيد عليها في أن للتكليف أبعادا تربوية وليست وظيفته الاجتماع على المصالح ودرأ المفاسد فقط مثلما الحال في القانون، وهذا ما يعطي التكليف صبغة أخلاقية أكثر مما هي عليه في القانون.

ينطلق العلامة تبعا لأستاذه الطوسي في بيان فلسفة التكليف من كون الإنسان مدني بالطبع، فهو لا يمكن له البقاء ولا يستطيع تحصيل كمالاته إلا بالتعاون، لان توفير غذائه ومستلزماته وأكثرها صناعية يقتضي الاجتماع والتعاون فيما بينهم، ولكن المشكلة أن الناس متفاوتون في أمزجتهم وقواهم وشهواتهم مما يؤدي إلى النزاع ووقوع الفساد فيما بينهم، لذا توجب وضع قانون وسنة عادل يحتكمون إليها فيما بينهم، وهذا القانون لا يمكن أن يضعوه هم لأنه سوف تتطرق إليه نفس المفاسد المحذورة من تحكيم أهوائهم وأمزجتهم ووقوع الخلاف فيما بينهم، وإنما لابد من أن تضعه جهة مهابة وتلزمهم بالطاعة والانقياد وهذا ما يقع على أيدي الأنبياء المؤيدين بالمعاجز إذ يبشرون بشرائع إلهية يجر الالتزام بها إلى منافع ثلاث: إحداها رياضة النفس لأنها تحث على الإمساك عن الشهوات وضبط القوة العقلية الثانية: تعويد الإنسان النظر في العلوم العالية ورفع نظره من الأرض إلى السماء والتفكر في الله وملكوته والمعاد الثالث : تذكيرهم بمنافع الانقياد للتكليف وأضرار التخلف عنه من ثواب و عقاب(2).

ونظرا للعلاقة القوية ما بين التكليف والأخلاق، نجد أن شروطهما متقاربة جدا، فمن هذه الشروط التي يوردها العلامة في مؤلفاته هي:

- أن يكون المكلف عاقلا(3).

ص: 167


1- ينظر المصدر نفسه.
2- الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 440.
3- الحلي، الحسن بن يوسف، نهج الحق وكشف الصدق، منشورات دار الهجرة قم - ايران ط4، 1414ه-، ص 135.

- وان يفهم الخطاب فلا يصح تكليف من لا يفهم الخطاب.(1)

- وإمكان الفعل إلى المكلف فلا يصح تعلق التكليف بالمحال.(2)

- وان يكون التكليف سابقا على الفعل.(3)

- وان يكون المكلف قادرا في نفسه ومتمكنا من الآلة التي يحتاج إليها في فعله.(4)

- وان يكون الفعل ما يستحق عليه الثواب وإلا لزم العبث والظلم.(5)

- وان لا يكون الفعل حراما.(6)

فإذن صلة التكليف بالأخلاق عند العلامة الحلي يمكن إرجاعه إلى سببين:

الأول: أن الأحكام الشرعية هي أحكام ذات صبغة أخلاقية واضحة.

والثاني: للتنبيه على أن دائرة الوجوب تشمل ماهو أوسع من الوجوب الشرعي، مثل وجوب المحافظة على النظام أو حتى الوجوب الذي يمليه المجتمع نتيجة أعراف معينة، ففي جميع الموجبة هذه الأحوال يكون الإنسان مأمورا ومكلفا أمام الجهة وإلا تعرض إلى العقاب كل بحسبه.

الخاتمة

يعد العلامة الحلي احد كبار المنظرين الموسوعيين في ثقافتنا الإسلامية، وكان للأخلاق حضور في أغلب مساحة اشتغاله، إلا انه لم يحظ بالأهمية التي يستحقها من قبل الباحثين فيما يرتبط بالجانب الأخلاقي في فكره، وقد تصدى هذا البحث

ص: 168


1- ينظر المصدر نفسه.
2- ينظر المصدر نفسه.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 133
4- الحلي الحسن بن يوسف مناهج اليقين في أصول الدين، ص324.
5- الحلي الحسن بن يوسف نهج الحق وكشف الصدق، ص 136.
6- ينظر: المصدر نفسه، ص 137.

لتسليط حزمة ضوء على جهوده الكلامية وحاول استخلاص مفاهيما وأبعادا أخلاقية ثاوية فيها .

البعد الحاضر الغائب في العلوم الإنسانية والإسلامية على وجه الخصوص، فكل بحث يلامس الإنسان هو يلامس الأخلاق بالضرورة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وعلم الكلام الإسلامي بوصفه من العلوم الأصيلة في ثقافتنا الإسلامية، نجده ينطوي على الكثير من المباحث الأخلاقية الهامة.

إن البحث في الأسس النفسية والعقلية للفعل الأخلاقي، وكيفية تدرج الأخلاق من الفكرة إلى السلوك، وبحث حرية الإنسان كشرط أساس لتحقق أخلاقية الفعل، وقابلية العقل مستقلا في الحكم على الحسن والقبح، فضلا عن فكرة الإلزام والتكاليف في موضوع الأخلاق، كلها مسائل هامة في الدراسات الأخلاقية المعاصرة، وقد عرض لها البحث من زاوية قراءة النصوص الكلامية للعلامة الحلي، محاولا استخراج الثاوي في جوانبها وتوظيفها للفكر الأخلاقي، بعد أن وظف اغلبها لغايات عقدية كلامية .

كشف البحث عن التداخل في العلوم الإسلامية، فالمباحث الفلسفية والكلامية والأصولية والأخلاقية لا يمكن فصلها في وحدات مستقلة معزولة عن بعضها، وإنما تتداخل فيما بينها في المباني والمقدمات، فبعض المطالب الأخلاقية تدخل فيها مباني كلامية والعكس صحيح أيضا، ونفس الأمر يقال في بقية فروع المعرفة الإسلامية الأخرى.

ص: 169

آراء الخواجة نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق

بقلم: د. قاسم بور حسن(1)

الخلاصة:

تعريب حسن علي مطر

يذهب أكثر الباحثين والمؤرّخين في الغرب إلى الاعتقاد بأن العقلية الإسلامية قد توقفت عند ابن رشد، بمعنى أنهم يعتبرونه آخر الفلاسفة الذين يمثلون الفلسفة في التاريخ العقلي للحضارة الإسلامية. ومن هنا ندرك أنهم لم يبذلوا الاهتمام الكافي بالتراث العقلي الشيعي. وعلى الرغم من التشيّع كان هو العنصر القوي - وربما كان الطريق الوحيد إلى بلوغ العقلية الإسلامية في الحكمة والعلوم - إلا أنه قد تم تجاهله . وقد أدى هذا التجاهل والغفلة إلى تفشي نوع من الفقر النظري والانحطاط الفكري في المرحلة التي أعقبت عام 615 للهجرة. تسعى هذه المقالة إلى بيان ضعف وهشاشة الرأي القائل بانتهاء العقلية الإسلامية وعدم استمرارها إلى ما بعد عصر ابن رشد، وتعمل على إظهار دور نصير الدين الطوسي في إنعاش الحياة العقلية في بعد علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق في القرن السابع للهجرة تبرز جهود الخواجة نصير الدين الطوسي في الفلسفة والأخلاق في مرحلة الانحطاط. تثبت الدراسات العلمية أن نصير الدين الطوسي قد لعب دوراً كبيراً في ظهور المدارس الفلسفية والعقلية الثلاثة في كل من شيراز وأصفهان وطهران. ويُعدّ كتابه (الأخلاق الناصرية)(2)أوّل وأهم كتاب له في علم الأخلاق. إذ ألف (الأخلاق الناصرية) بوصفه أثراً أصيلاً ومستقلاً

ص: 170


1- أستاذ مساعد في قسم الفلسفة من جامعة العلامة الطباطبائي.
2- عنوان الكتاب في الأصل الفارسي (أخلاق ناصري) نسبة إلى الحاكم الإسماعيلي (ناصر الدين عبد الرحيم)، وقد ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور محمد صادق فضل الله وأبقى على عنوانه الفارسي كما هو، ولكننا آثرنا تعريب العنوان في نص هذه المقالة رعاية للذائقة العربية، مع الإبقاء على العنوان الفارسي عند الإحالة إليه في الهوامش المعرب

- بحسب تعبيره - في تهذيب الأخلاق الخاصة في حقل تدبير المنزل والسياسة. يتناول هذا الكتاب دراسة ثلاثة أبحاث جوهرية، وهي (علم النفس)، و(الفضائل والسعادة)، و(العدالة).

يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاعتقاد بأن السعادة تمثل موضوع وغاية الأخلاق ومن هنا فقد دفعت به هذه الغاية إلى تخصيص مساحة كبيرة من كتابه للبحث والتنقيب في مفهوم السعادة، وكمال ونقصان النفس، وأعمال الخير، وبناء النفس. كما أن نقده لأرسطو وابن رشد فيما يتعلق بأصناف الفضائل وأنواع الرذائل - على أساس التعاليم القرآنية - جدير بالاهتمام ويحظى بأهمية بالغة.

الكلمات المفتاحية:

1 - نصير الدين الطوسي . 2 - الأخلاق. 3 - الفضائل . 4 - السعادة. 5 - العدالة.

1 - المقدمة

يحظى اهتمام نصير الدين الطوسي بموضوع وعلم الأخلاق - في مرحلة عدم الاستقرار الذي اقترن بانهيار الأنظمة السياسية وزوال وانحطاط الحياة العقلية - بأهمية خاصة حيث يقوم إحياء وإعادة صياغة التراث الأخلاقي والاهتمام الجوهري بالسعادة المعنوية في مرحلة الزوال على كاهل شخصية وفكر نصير الدين الطوسي. يُعدّ الشيخ الطوسي من بين المفكرين الكبار في العالم الإسلامي الذين لم يتم تناول مكانتهم بالشكل الذي يستحقونه أو كما ينبغي. والجزء البسيط الذي ناله من البحث يقتصر على تراثه العلمي الأعم من الرياضيات وعلم الهيئة والنجوم وبنائه لمرصد مراغة الفلكي. بيد أنه قد تم تجاهل مكانته العقلية والأخلاقية، وأخذ ابن رشد (520-559) الآثار التي تؤرّخ للفلسفة الإسلامية يُعرف بوصفه خاتم الأفكار في جميع الفلسفية. قال (هنري كوربان) في كتابه القيّم (تاريخ الفلسفة الإسلامية):

(إن القوم - كما أعربنا عن أسفنا لذلك آنفاً - قد درجوا على النقل والترديد بأن ابن رشد) كان أبرز اسم وأبرع ممثل لما يُسمّى ب__(الفلسفة العربية)، وأن هذه الفلسفة بلغت

ص: 171

معه ذروتها ثم انقضى أمرها عندما قضى الرجل. ولقد غرب عن بالهم - والأمر كذلك ما كان يحدث في الشرق، حيث مرّت مؤلفات ابن رشد دون أثر ملحوظ. فلا دار في خلد (نصير الطوسي) أو (ميرداماد) أو (هادي السبزواي) ما تعلقه تواريخ الفلسفة عندنا من أهمية ومعنى على ذلك النقاش الجدلي الذي دار بين الغزالي وابن رشد. بل إننا إذا ما أوضحنا لهم ذلك، لأثار الأمر دهشتهم، كما يثير دهشة خلفهم اليوم).(1)

لقد تجلت أكبر جهود الخواجة نصير الدين الطوسي حتى ما قبل عام 645 للهجرة حيث اجتياح واستباحة وتدمير قلعة ألموت بعد بنائها بقرنين - التي كانت تمثل معلماً مذهلاً لأتباع المذهب الإسماعيلي - حيث تمحورت حول حقلي الأخلاق والفلسفة. وهما الحقلان العلميان اللذان زعم نصير الدين الطوسي أن جميع معالمهما كانت على مشارف الانهيار بفعل الهجمات الوحشية والمباغتة للجيوش المغولية الجارفة. إن الدفاع العقلاني لنصير الدين الطوسي وردّه لشبهات الإمام الفخر الرازي، والتهافت الفلسفي لحجة الإسلام الغزالي، يعكس السهم الأوفر لنصير الدين الطوسي في إعادة الحياة العقلية لعصر الزوال والانهيار على أفضل وجه. إن إعادة قراءة الآثار الأخلاقية الضخمة وتهذيب الأثر الخالد (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، لأحمد بن محمد بن يعقوب الملقب ب__(ابن مسکویه) (330 - 421 ه) يمثل نموذجاً لاهتمام الشيخ نصير الدين الطوسي بتوسيع رقعة الحياة المعنوية وإقامتها على دعائم العقل وركائز الأخلاق في مرحلة الانحطاط.

وقال حمد الله المستوفي(2) (لا شك في أن الخراب الذي حدث بفعل ظهور المغول، والقتل الذريع الذي أحدثوه في تلك الفترة، لن يمكن تداركه - إذا لم تحدث - حادثة أخرى - حتى على مدى ألف عام)(3)

ص: 172


1- هنري ،كوربان تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 370
2- حمد الله المستوفي (682 - 750 ه) : حمد الله بن أتابك، وقيل: أبو بكر بن حمد بن نصر القزويني المستوفي، :وقيل: اسمه أحمد ولقبه حمد الله جغرافي ورحالة وموسوعي وأديب فارسي. ولد بقزوين. وكان ينسب نفسه إلى الحر بن يزيد الرياحي له كتاب (نزهة القلوب) فى الجغرافيا الطبيعية والبشرية للعالم الإسلامي
3- حمد الله المستوفي، نزهة القلوب ص 27. (مصدر فارسي).

هناك كثير مما قيل حول شخصية نصير الدين الطوسي ودوره في الإحياء في عصر هجوم المغول ومرحلة الضياع والدمار. إن الشيخ نصير الدين الطوسي يعد من وجهة نظر (إيفانوف) شخصية موسوعية (جامعة للمعارف)، وقد وصفه (أفنان) بأنه أجدر من شرح آثار ابن سينا في إيران. وبفضل تصحيح وشرح الشيخ نصير الدين الطوسي للترجمات الإغريقية للرياضيات والنجوم وما إلى ذلك، لا يمكن لشخص أن لا يتأثر بفنونه المذهلة(1).

إن الذي نرمي إلى بيانه في هذه المقالة هو مجرد آراء نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق فقط. وذلك فى إطار هذين السؤالين:

1 - ما هي دوافع اهتمام الشيخ نصير الدين الطوسي بالأخلاق في مرحلة الانحطاط والانهيار؟

2 - هل كانت آراء الشيخ نصير الدين الطوسي فيما يتعلق بأسس علم الأخلاق تقوم على مجرّد الترجمة والتهذيب أم تأسيس علم في هذا الحقل؟

2 - دوافع الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاهتمام بتدوين الأخلاق

إن المصادر الخاصة بتوثيق سيرة الشيخ نصير الدين الطوسي لا تشتمل على تقرير دقيق يسلط الضوء على حياته وذهابه إلى قلاع الإسماعيلية. والذي نعرفه على نحو أكيد هو أنه كان حتى عام 617 للهجرة مقيماً في نيسابور، وبفعل الحصار الذي أطبق على هذه المدينة اضطرّ إلى اللجوء إلى قلعة قهستان الإسماعيلية في مواجهة هجوم المغول. وقد صرّح الخواجة نصير الدين الطوسي بنفسه في المقدمة الملحقة بكتاب (الأخلاق الناصرية) - الذي ألفه بعد التحرر من قلعة ألموت سنة 654 للهجرة - فيما يتعلق بالأسباب التي دفعته إلى تأليف هذا الكتاب القيم، قائلاً:

(إن تحرير هذا الكتاب - الموسوم ب__(الأخلاق الناصرية) - قد اتفق في وقت

ص: 173


1- محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 806 - 807 (مصدر فارسي)

اضطرني فيه تقلب الدهر إلى الجلاء عن الوطن - ولم يترك لي خياراً آخر - غير التسليم ليد التقدير التي دفعتني إلى الإقامة في قهستان).(1)

لقد رام الحاكم الإسماعيلي في قهستان (ناصر الدین عبد الرحيم) - بالنظر إلى ما يتمتع به الشيخ نصير الدين الطوسي من الإمكانات والقدرات العلمية في مختلف الحقول، ومن بينها علم النفس والأخلاق - أن يترجم كتاب (تهذيب الأخلاق) لأبي علي بن مسكويه، إلى اللغة الفارسية.

وقد عمد الشيخ الطوسي إلى تلبية هذا الطلب في بادئ الأمر، بيد أنه في مستهل ترجمة النصوص العربية من كتاب (تهذيب الأخلاق) إلى اللغة الفارسية طرأ عليه التردد. ومن هنا صار بصدد تأليف كتاب مستقل في هذا الحقل. وقد أشار الشيخ الطوسي بنفسه مقدمة (الأخلاق الناصرية) إلى أوجه هذا التردد. وكان أول تلك في الوجوه هو الخشية من (الخدش في أصل كتاب ابن مسكويه وتحريفه)، ومن هنا رجحت عنده كفّة التأليف المستقل على الترجمة والوجه الثاني هو نقص الأقسام المرتبط بتدبير المنزل والفلسفة السياسية (2).

ومن هنا نجد في كتاب (الأخلاق الناصرية) فصلاً مسهباً ومشبعاً في حقل تدبير المنزل، وباباً مفرداً خاصاً بالسياسة. إن الكلام المتقدم يثبت أن السبب الأول من هذين السببين يعود إلى دواع خارجية، والثاني إلى دواع داخلية هي التي دفعت بالشيخ الطوسي إلى تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية) بشكل خاص، وموضوع الأخلاق بشكل مطلق. أما السبب الخارجي فهو طلب الإسماعيلية وشخص (ناصر الدين) الحاكم الإسماعيلي لقهستان. وإذا أردنا الإجمال أمكن لنا القول: إن الهاجس الذي حمل الشيخ الطوسي على تأليف هذا الكتاب وتدوين هذا الدستور أو المنهج (أو الاستبيان بعبارة عصرية)، يعود إلى النزاع بين الفاطميين وبني العباس في بغداد. فإن الفاطميين بعد أن استقرّ بهم المقام في مصر وشيّدوا الجامع الأزهر، رفعوا لواء

ص: 174


1- نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 34.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 36

الخلافة. إن الجهود الزاخرة والواسعة من قبل الخلافة الرامية إلى تدوين (الأحكام السلطانية) لأبي يعلى الماوردي، و(سير الملوك) للخواجة نظام، وتأسيس جامعات النظامية في كافة أنحاء الإمبراطورية وأقاليم الخلافة في النصف الثاني من القرن الخامس للهجرة، وكذلك تأليف (نصائح الملوك) للماوردي والغزالي، و(المستظهر) للغزالي، إنما تأتي في هذا السياق. وبعد انهيار الدولة الفاطمية في مصر، واصل الإسماعيليون في إيران - حيث كان أكثرهم من المتخرجين من جامعة الأزهر مباشرة أو بواسطة - هذا النهج. ومن هنا يأتي دستور تدوين كتاب (الأخلاق الناصرية)، وكذلك مطالبة ناصر الدين المحتشم بترجمة كتاب (زبدة الحقائق) لعين القضاة الهمداني، ومن ثمَّ تصنيف (الرسالة المعنية) باسم معين الدين نجل ناصر الدين، كاستمرار لهذا المنهج في كتابة الدساتير من أجل دعم وتعزيز أركان الحكومة الإسماعيلية، وإعداد الأرضية الأيديولوجية لنظامهم السياسي في مواجهة الخلافة في بغداد (وحتى المغول) (1). وأما السبب الداخلي فيجب البحث عنه في التحولات الاجتماعية والمنعطفات الفكرية، وانحطاط القواعد الأخلاقية في ذلك العصر. إن الشيخ الطوسي الذي كان قد شهد يوماً ما جامعة نيسابور والعلوم المتداولة فيها من قبيل: الحكمة والطب والهيئة والنجوم والأخلاق والرياضيات والحديث والتفسير والأدب وشاهد بأم عينه مقتل أستاذ الحكمة والطب (قطب الدين المصري) سنة 618 للهجرة أثناء الإبادة الجماعية التي تعرّض لها أهالي نيسابور، ورؤيته لتدمير العلم والثقافة، وهو أمر حمله على السعي إلى إنقاذ العلم من ورطة الفناء مستغلاً بذلك الموقع الاستراتيجي لقلعة قهستان، حيث أقام قواعد متينة في الحكمة والأخلاق.(2)

3 - (الأخلاق الناصرية)، كتاب أصيل

لم يكن هناك فيلسوف أو مفكر في حقل العقل يرى نفسه في غنى عن تدوين وتأليف أثر أخلاقي. فها هو سقراط في حواره مع (ترازيماخوس) يؤكد على هذه النقطة الهامة، إذ يعد السياسة والحكومة - في تقسيمه للأنظمة السياسية - فرعاً من

ص: 175


1- انظر: السيد جواد الطباطبائي، در آمدي بر تاريخ انديشه سياسي در ايران، ص 10 - 19. (مصدر فارسي).
2- انظر : حنا الفاخوري، تاریخ فلسفه در جهان اسلام ص 270 - 282 (مصدر فارسي)

الأخلاق، مستعملاً في ذلك مصطلح الدولة الصالحة والدولة الطالحة. ومنذ ذلك الحين أصبح تقديم الأطروحات الأخلاقية المستقلة على سلّم أولويات الفلاسفة ولا سيما منهم الذين يهتمون بنوع السياسة المدوّنة بشكل خاص - في إقامة بنيتهم الفلسفية. كما أن كتاب علم الأخلاق إلى نيقوماخوس) لأرسطو يعكس أهمية علم الأخلاق في تدوين الأفكار والآراء العقلية في هذا الشأن. وعلى كل حال يجب أن نبحث عن اهتمام نصير الدين الطوسي بالأخلاق وتأكيده على تدوين أثر أصيل ومستقل في كلتا الناحيتين: (السياسية والفلسفية). وإن كل تحقيق في كتاب (الأخلاق الناصرية) لا يؤخذ فيه الأهمية الكبيرة لهاتين الناحيتين بنظر الاعتبار سيكون عبارة عن تحقيق غير منجز ولا مكتمل الأطراف. ربما أمكن اعتبار أبي نصر الفارابي في الربط بين هذه الحقول الثلاثة داخل الحضارة الإسلامية هو المؤسس. لقد سعى نصير الدين الطوسي في البداية أن يعمل على تدوين دعائم محكمة في علم الأخلاق، ثم يعمل بعد ذلك على بيان ارتباطها بسائر الحقول العلمية الأخرى.

1 - لقد ألف الخواجة نصير الدين الطوسي كتابين في الأخلاق، أحدهما : (الأخلاق الناصرية) الذي كتبه سنة 633 للهجرة(1) . والآخر : (أوصاف الأشراف) في بيان أخلاق الصوفية. وقد جاء في مقدمة كتاب الأخلاق (الناصرية في معرض البحث عن سيرة الخواجة نصير الدين الطوسي: إذا كان تاريخ 633 للهجرة - سنة تأليف هذا الكتاب - صحيحاً، سيكون هذا الكتاب من أقدم مؤلفاته التي وصلت إلينا. والمقدمة الأخرى التي كتبها نصير الدين الطوسي لهذا الكتاب، بعد عام 654 للهجرة، وبعد تحرره من قلعة ألموت (أي بعد تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية) بواحد وعشرين سنة)، تؤيد كتابة هذا الأثر في مرحلة إقامته في قلعة قهستان في قائن، إذ يقول:

(أما بعد، فيقول محرر هذه المقالة ومؤلف هذه الرسالة، أحقر العباد محمد بن الحسن الطوسي المعروف ب__(النصير): إن تحرير هذا الكتاب - الموسوم ب__(الأخلاق

ص: 176


1- انظر: علي دواني، مفاخر إسلام ص 105 (مصدرفارسي). وقد جاء في هذا الكتاب أن الخواجة نصير الدين قد ألف هذا الكتاب ما بين عامي 630 - 636 للهجرة، وهو عبارة عن ترجمة لكتاب (تهذيب الأخلاق طهارة الأعراق) لابن مسكويه، مع إضافات من الخواجة نصير الدين الطوسي.

الناصرية) - قد اتفق في وقت اضطرني فيه تقلب الدهر إلى الجلاء عن الوطن - ولم يترك لي خياراً آخر - غير التسليم ليد التقدير التي دفعتني إلى الإقامة في قهستان، وبما أنني هناك - للسبب الذي تقدم ذكره في صدر الكتاب - قد بدأت بهذا التأليف ...).(1)

تمّ تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية) في ثلاث مقالات وثلاثين فصلاً. المقالة الأولى في تهذيب الأخلاق، وهي تشتمل على قسمين، القسم الأول: في المبادئ، حيث تشتمل على سبعة فصول والقسم الثاني في المقاصد، حيث تشتمل على عشرة فصول. أما المقالة الثانية : فهي في تدبير المنزل ضمن خمسة فصول. والمقالة الثالثة : في السياسة المدوّنة، إذ تشتمل على ثمانية فصول. لقد أكد الخواجة نصير الدين الطوسي - مثل ابن مسكويه - على الارتباط بين علم النفس وعلم الأخلاق، حيث بحث أكثر من عشرة مسائل في هذين العلمين ضمن القسم الأول، وهي مسائل من قبيل : معرفة النفس الإنسانية، وكمال ونقصان النفس والخير والسعادة وحد وحقيقة الخلق، وتهذيب الأخلاق، وفضائل الأخلاق ومكارمها، وفي شرف العدالة والسعادة ومراتبها .

وعلى الرغم من التبويب المختلف عن (تهذيب الأخلاق) لأبي علي بن مسكويه، إلا أن عمدة تأملات الخواجة نصير الدين الطوسي تدور حول تدور حول محور ثلاثة مفاهيم ، وهي: الحكمة والشجاعة والعفة؛ لتؤدي بأجمعها إلى الفضيلة الرابعة المتمثلة في التوازن والتناغم بين هذه الفضائل الثلاثة(2). إن السعادة القصوى عند الخواجة نصير الدين الطوسي تمثل الغاية الجوهرية في الأخلاق، حيث تتعين مع مقام الإنسان في التكامل الكوني، ويكتب لها التحقق من خلال التأسي بالنظم والتبعية لها.(3)

2 - لا يمكن التحقيق في كيفية اكتساب الفضائل وبلوغ الكمال والسعادة، دون بحث (النفس الإنسانية). ومن هنا فقد أفرد الخواجة نصير الدين الطوسي للحديث

ص: 177


1- نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 17
2- انظر: أبو علي الرازي، المعروف ب__(ابن مسكويه)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 18 - 21
3- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 808 (مصدر فارسي).

عن النفس الإنسانية ستة فصول من الفصول السبعة من القسم الأول من المقالة الأولى. ومما قاله في الفصل الأول :

(لذلك فإن موضوع هذا العلم الأخلاق] هو النفس الإنسانية من جهة الأفعال الحسنة والمحمودة أو القبيحة والمذمومة التي يمكن إن تصدر عنها بإرادتها. وحيث يكون الأمر كذلك يجب أن نعلم ما هي النفس الإنسانية، وما هي غايتها وكمالها وقواها التي إذا استعملها على وجهها المطلوب بلغت به إلى الكمال والسعادة المنشودة).(1)

وبعد هذه المقدمة انتقل الخواجة نصير الدين الطوسي إلى بحث البساطة والجوهرية ،والتجرد، مؤكداً بقاء النفس الناطقة بعد مغادرتها للجسد. ثم ذكر للنفس الحيوانية ،قوتين وهما القوّة الإدراكية الآلية والقوة التحريكية الإرادية، ثم عدد ثلاث قوى للإنسان، وهي كالآتي:

القوّة الأولى : قوّة إدراك المعقولات والتمييز بين مصالح ومفاسد الأعمال، وهي أطلق عليها تسمية (القوّة الناطقة).

القوة الثانية: القوّة الشهودية التي هي مبدأ دفع الأضرار، والإقدام على الأهوال، والشوق إلى التسلط والترفّع.

وقد أرجع الخواجة نصير الدين الطوسي هذه القوى الثلاث إلى ثلاث أنفس. وهي النفس الأولى (النفس الملكية)، والنفس الثانية (النفس السبعية)، والنفس الثالثة والأخيرة (النفس البهيمية). ومن خلال شرحه للمقالة المتقدمة يلفت الخواجة نصير الدين الطوسي الانتباه إلى مراتب صعود الكائنات ولا سيما منها الإنسان، ويرى أن العبور من النقصان إلى الكمال بواسطة أدوات وقوى النفس الناطقة يستوجب الحصول على الفضيلة وزيادة الشرف. وقد بلغ الخواجة نصير الدين الطوسي بالمراتب إلى كسب العلوم والمعارف وصولاً إلى الوحي والإلهام، ويكتب في ذلك قائلاً:

ص: 178


1- نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري ص 48

(ومنهم الذين يتلقون - بالوحي والإلهام - معرفة الحقائق والأحكام عن المقربين من الحضرة الإلهية من دون توسط الأجسام... وهذه هي نهاية مدارج النوع الإنساني. ويكون التفاوت في هذا النوع أكثر من التفاوت في أنواع الحيوانات... وعندما نصل إلى هذه الدرجة من اتحاد الموجودات ، يكون ذلك ابتداء الاتصال بالعالم الأشرف والوصول إلى مراتب الملائكة المقدّسين، والعقول والنفوس المجرّدة، حتى تصل في النهاية إلى مقام الوحدة).(1)

يقيم الخواجة نصير الدين الطوسي في هذا البيان ارتباطاً بين الكمال الإنساني والعامل السماوي، في حين أن مفهوم الكمال والسعادة الغائية - في نظر أرسطو - يخلو من العامل السماوي، ولا يُشير إلى موقع الإنسان من الكون. وأما ابن مسكويه فنراه فيما يتعلق ببحث السعادة والكمال يقتفي أثر أرسطو في آرائه ويذهب إلى الاعتقاد بأن الكمال والسعادة لا يمكن تحصيلهما من دون صحة وسعادة الجسد.(2)

وبعد تقسيمه الكمال الإنساني إلى نوعين وهما: (القوة العلمية)، و (القوة العملية) وتحرير الأول بالشوق إلى إدراك المعارف واكتساب العلوم والإحاطة بالموجودات والاطلاع على حقائقها بحسب الاستطاعة حتى تصل في نهاية المطاف إلى عالم التوحيد بل ومقام الاتحاد، وتعريف القوّة العلمية بترتيب وتنظيم القوى وأفعالها الخاصة بحيث تتوافق وتتطابق فيما بينها، يضيف الخواجة نصير الدين الطوسي أن الكمال الأول هو بمنزلة الصورة، والكمال الثاني بمنزلة المادة.(3)

ونطالع هذا التقسيم في كتاب (تهذيب الأخلاق) أيضاً، حيث يقوم أبو علي بن مسكويه بتقسيم الكمال الإنساني إلى نوعين وهما الكمال النظري، والكمال العملي، ويقول : من طريق الكمال الأول يتم الوصول إلى العلم الكامل، ومن طريق الكمال الثاني يتم الوصول إلى الأخلاق الكاملة.(4)

ص: 179


1- المصدر أعلاه، ص 3 - 63.
2- انظر: أبو علي الرازي، المعروف ب__(ابن مسكويه)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 47 - 51 .
3- انظر: نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري ص 69 - 70.
4- انظر: أبو علي الرازي، المعروف ب__(ابن مسكويه)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 46 - 48 .

هناك تقسيمان في كلا الكتابين يميزان بين آراء الخواجة نصير الدين الطوسي وأبي علي ابن مسكويه. إذ يذهب الخواجة إلى اعتبار الاتحاد مع العالم ومقام التوحيد يمثل الكمال الغائي والعلمي، وهذا الرأي يتناسب مع رؤيته الكونية والسماوية. أما أبو علي ابن مسكويه فهو بسبب تأثره بآراء أرسطو في كتابه (الأخلاق إلى نيقو ماخوس)، لا يبدي اهتماماً كبيراً بالعامل السماوي. وهذا الاختلاف يظهر - بشكل ما - التمايز بين كتاب (الأخلاق الناصرية) و(تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) فيما يتعلق بمسألة الكمال.

3 - إن من بين أهم الأبحاث في كتابي (الأخلاق الناصرية) و(تهذيب الأخلاق)، دراسة مفهومي الخير والسعادة. فقد عرّف (ابن مسكويه) السعادة - تبعاً لأرسطو - بأنها الشيء الذي تسعى جميع الأشياء نحوه. وقد جاء هذا التعريف للخير في بداية كتاب (علم الأخلاق إلى نيقوما خوس) ل__(أرسطو) أيضاً . يقول ابن مسكويه : إن الذي ينفع في الوصول إلى هذه الغاية من الممكن أن يكون خيراً، بمعنى أن الوسيلة قد تكون خيراً مثل الغاية، أما السعادة أو الرفاه فهي من الخير النسبي، فهي خير لشخص ،واحد، وهذا نوع من أنواع الخير، وليس له ماهية متميّزة ومستقلة(1).

من الواضح أن هذه النظرية تخالف آراء الفلاسفة المسلمين قبل (ابن مسكويه). إن الفارابي الذي ألف كثير من الكتب في موضوع الأخلاق، قد ذهب - على غرار أفلاطون - إلى الاعتقاد بأن الغاية الرئيسة من الأخلاق هي الوصول إلى السعادة. وقد أظهر الفارابي في كتابه (رسالة في التنبيه على سبل السعادة) توجهاً مغايراً ل__(ابن مسكويه)، ومن الواضح أن الخواجة نصير الدين الطوسي قد اقتبس آراءه في الأخلاق من (المعلم الثاني)؛ إذ يقول أبو نصر الفارابي: إن السعادة هي الهدف الأخير الذي يصبو إليه الإنسان، وإن الذي يوصله إليه هو الخير وغاية الكمال، وإن السعادة هي منتهى الخيرات. وكلما أجهد المرء نفسه في الوصول إلى ذلك الخير، كانت سعادته أقرب إلى الكمال(2).

ص: 180


1- انظر: میر محمد ،شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 675. (مصدر فارسي).
2- انظر: حنا الفاخوري تاريخ فلسفه در جهان ،إسلام ص 432 (مصدر فارسي)

قال الخواجة نصير الدين الطوسي في الفصل السابع من القسم الأول من المقالة الأولى من كتاب (الأخلاق الناصرية): إن الخير على نوعين، أحدهما مطلق، والآخر مضاف. والخير المطلق هو المعنى المقصود من وجود الكائنات، وهو غاية جميع الغايات، أما الخير المضاف فهو عبارة عن الأمور النافعة في الوصول إلى تلك الغاية. وأما السعادة فهي من قبيل الخير، ولكن فضلا عن كل شخص. فسعادة كل شخص هي غير سعادة الشخص الآخر، في حين أن الخير عند جميع الأشخاص واحد(1). إن هذه العبارة من الخواجة نصير الدين الطوسي تبدو للوهلة الأولى متناغمة مع رؤية (ابن مسكويه)، بيد أن هذه العبارة لا تمثل وجهة النظر الحقيقية للخواجة نصير الدين الطوسي؛ إذ يصرّح بأن هذا ما قاله الحكماء المتقدمون وأرسطوطاليس في هذا الشأن. أما الخواجة نصير الدين الطوسي فإنه يؤكد - مثل الفارابي - على أن الخير التام هو الذي يُسمّى سعادة، وعليه فإن السعادة هبة وعطاء منه سبحانه وتعالى في أشرف المنازل وأعلى مراتب الخير (2). يقول الخواجة نصير الدين الطوسي بعد بيان معنى الخير وانقسامه إلى قسمين وهما قسم الغايات وغير الغايات وتقسيم الغايات إلى تامة وغير تامة، وتسمية الخير التام بالسعادة: إن السعادة غاية جوهرية ونهائية، وحيث تحصل لا يصبو صاحبها نحو المزيد. ثم يدخل بعد ذلك في بيان السعادة وآلياتها، ويقول: إن السعادة تشتمل على أربعة أجناس، وهي أجناس الفضائل ،الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة.(3)

إن هذه الفضائل الأربعة هي ذات الفضائل الأفلاطونية التي تنشأ من القوى الثلاث، وهي: العقل أو النفس، والغضب، والشهوة. وقد قسم ابن مسكويه هذه الفضائل على التوالي إلى سبعة، وأحد عشر، واثني عشر، وتسعة عشر نوعاً. وقد ارتضى الخواجة نصير الدين الطوسي بوضوح هذه الرأي من ابن مسكويه في (الأخلاق الناصرية)، بيد أنه يدخل عليه بعض التغييرات. حيث قام أولاً بخفض

ص: 181


1- انظر: نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 81.
2- انظر: المصدر أعلاه ص 84-83
3- انظر: المصدر أعلاه

أنواع العدالة من تسعة عشر إلى اثني عشر نوعاً. وعمد ثانياً إلى تمييز النفس بالعقل النظري والعقل العملي والغضب والشهوة وقام ثالثاً - وخلافاً لابن مسكويه - باستنباط العدالة من العقل العملي، واعتبر التفضل - في نهاية المطاف - أسمى من العدالة، واعتبر المحبة - بوصفها المصدر الطبيعي للاتحاد - أسمى من التفضل .(1)

لقد تم بيان هذا الرأي من الخواجة نصير الدين الطوسي بالنظر إلى آراء الفارابي في كتابيه الأخلاقيين القيمين وهما : (تحصيل السعادة)، و (التنبيه على سبيل السعادة). فقد اعد الفارابي الفضيلة في (تحصيل السعادة) مبدأ الخير والعدالة والسعادة، وقال ما معناه : (هناك أربعة أمور إن وجدت في المجتمع، حصل الناس على السعادة في الدارين، وهذه الأمور الأربعة هي: الفضائل النظرية والفضائل الفكرية، والفضائل الأخلاقية، والفضائل العلمية) .(2)

لقد أشار الخواجة نصير الدين الطوسي في بحث السعادة إلى قسمين من السعادة، وهما: السعادة الحقيقية والسعادة غير الحقيقية، وهو اقتباس تام لتقسيم الفارابي. فقد كتب الفارابي في كتاب (الملة): إن السعادة على قسمين، أحدهما السعادة الحقيقية وهي المطلوبة لذاتها، وتكون جميع الأمور والخيرات بحكم الوسائل بالنسبة لها، وهي السعادة القصوى والقسم الآخر هو ما يراه الجمهور يراه الجمهور سعادة فى حين أنه في الحقيقة ليس من السعادة(3).

يقول الخواجة نصير الدين الطوسي: إن سعادة الإنسان - بما هو إنسان - في إحدى مرتبتين في المرتبة الأولى لا يخلص من شائبة الآلام والحسرات.. وعليه تكون هذه السعادة ناقصة في الحقيقة وتكون السعادة التامة لأصحاب المرتبة الثانية الذين يكونون أبداً خالين من هذه الآلام والحسرات مستنيرين بالأنوار الإلهية، وبفيض الآثار .اللامتناهية. وكل من يصل إلى تلك المنزل يكون قد وصل إلى نهاية مدارج السعادة(4).

ص: 182


1- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام، ص 808
2- حنا الفاخوري تاريخ فلسفه در جهان ،إسلام ص 432 (مصدر فارسي).
3- انظر رضا داوري فارابي، ص 164.
4- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 88 - 89

يؤكد مجموع ما جاء في كتاب (الأخلاق الناصرية) على أن الفضائل تنقسم إلى أربعة أقسام، وهي على النحو الآتي:

القسم الأول: الحكمة، وهي تحصل من تهذيب القوة النظرية.

القسم الثاني: العدالة، وهي تحصل من تهذيب القوّة العملية.

القسم الثالث : الشجاعة، وهي تحصل من تهذيب القوّة الغضبية .

القسم الرابع: العفة، وهي تحصل من تهذيب القوة الشهوية.

لو أن الخواجة نصير الدين الطوسي قد اكتفى بهذا الأمر، أمكن لنا أن نعتبر أخلاقه تمثل نوعاً من الأخلاق السياسية، حاله في ذلك حال الفارابي. بيد أنه لا يكتفي بذلك، ونراه في الفصل الرابع من القسم الأول يعمل على تشريح الأنواع الواقعة تحت أجناس الفضائل، حيث يتبع مساراً أخلاقياً تماماً، ومن هنا يجب علينا اعتبار کتاب (الأخلاق الناصرية) من الناحية الخارجية كتاباً سياسياً، ومن الناحية الذاتية كتاباً أخلاقياً - حكمياً.

وفي الفصل الرابع من القسم الأول من المقالة الأولى، يبحث الخواجة نصير الدين الطوسي - مثل ابن مسكويه - على نحو الإجمال في أنواع أجناس الفضائل، وهو بحث ضروري لفهم آراء الخواجة نصير الدين ، حول موضوع الرذيلة.

يعدد الخواجة نصير الدين الطوسي تحت جنس الحكمة سبعة أنواع من الحكمة، وهي كالآتي: 1 - الذكاء . 2 - سرعة الفهم. 3 - صفاء الذهن. 4 - سهولة التعلم. 5 - حسن التعقل . 6 - التحفظ . 7 - التذكر .

أما الأنواع التي تكون تحت جنس الشجاعة، فهي أحد عشر نوعاً، ويمكن بيانها على النحو الآتي: 1 - كبر النفس. 2 - النجدة (الثقة بالنفس). 3 - علو الهمة. 4 - الثبات (قوّة مقاومة الآلام بالنسبة إلى النفس) . 5 - الحلم. 6 - سكون النفس (وعدم الطيش) . 7 - الشهامة. 8 - التحمّل (التوظيف الكامل لأدوات الجسم في اكتساب

ص: 183

الأمور المحمودة). 9 - التواضع . 10 - الحمية (عدم التهاون في حفظ الأمة). 11 - الرقة (تأثر النفس من مشاهدة الآلام التي يعاني منها الجنس البشري).

أما الأنواع الواقعة تحت جنس العفّة، فهي إثني عشر نوعاً، نبينها على النحو الآتي: 1 - الحياء . 2 - الرفق (انقياد النفس) . 3 - حسن الهدي (رغبة النفس في تحصيل كمالها والتحلي بالمزايا المحمودة). 4 - المسالمة (مجاملة النفس). 5 - الدّعة (سكون النفس في وقت تحرك الشهوة) . 6 - الصبر . 7 - القناعة . 8 - الوقار . 9 - الورع . 10 - الانتظام (تقدير الأمور وترتيبها بحسب المصالح). 11 - الحرية. 12 - السخاء.

ومن ثم فإن الخواجة نصير الدين الطوسي - خلافاً لابن مسكويه الذي عدد تسعة عشر نوعاً للعدالة - يختزل أنواع العدالة باثني عشر نوعاً، وهي: 1 - الصداقة. 2 - الإلفة. 3 - الوفاء. 4 - الشفقة. 5 - صلة الأرحام. 6 - المكافأة. 7 - حسن الشركة. 8 - حسن القضاء. 9 - التودّد (مودة أهل الفضل) . 10 - التسليم. 11 - التوكل. 12 - العبادة.

يرى الخواجة نصير الدين الطوسي أن موجبات السعادة للنفس الإنسانية تكمن في تحصيل الفضائل الأربعة والأقسام الواقعة تحت كل واحد منها(1). إن السعيد هو الذي تتصف ذاته بجميع هذه الأنواع والصفات. وبطبيعة الحال فإن جنس الحكمة وأنواعها يرتبط بالقوة النظرية ، وإن الأجناس الثلاثة وهي: الشجاعة والعفة والعدالة فتتعلق بالجسد والقوة العملية. يذكر الخواجة نصير الدين الطوسي بحثين كتتمة لمباحث الأخلاق وموضوع الفضائل، سوف نتناولهما في العنوانين الآتيين.

4 - يختص الفصل الخامس من القسم الأول من كتاب (الأخلاق الناصرية) بأضداد أجناس الفضائل أي الرذائل. يقدّم الخواجة نصير الدين الطوسي متأثراً بالتعاليم القرآنية رأياً مختلفاً عن ابن مسكويه وأرسطو اللذين قدما أهم بحث في هذا الحقل، وبذلك يقدم طرحاً جديداً في هذا الشأن يذهب أرسطو إلى الاعتقاد

ص: 184


1- انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 112 - 117.

بأن الرذيلة تمثل عدولاً عن الفضيلة سواء في جانب الإفراط أو في جانب التفريط . كما عدّ الإسراف إفراطاً في الحرية معتبراً إياه عيباً إيجابياً. وبعد أن ذكر ابن مسكويه ثمانية أنواع للرذيلة، وهي: السفه والبلاهة، والتهوّر والجبن والشره والخمود، والجور والمهانة - تبعاً لأرسطو - قال إن هذه الأمور من الانحراف عن الفضائل تمثل انحرافاً كمياً(1) . وبالالتفات إلى آيات القرآن الكريم، يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي - بعد بيان الأصول الأخلاقية العامة للاعتدال - إلى اعتبار الرذيلة مرضاً أخلاقياً. قال تعالى في سورة البقرة :

- «خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً».(2)

- «في قُلُوبهمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا».(3)

وجاء في كتاب (الأخلاق الناصرية) اعتبار المرض على أنه انحراف النفس من السلامة والاعتدال، ولم يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى اعتبار هذا الانحراف خلافاً لأرسطو وابن مسكويه - مجرد انحراف كمي، بل ذهب إلى اعتباره انحرافاً كيفياً ومعنوياً أيضاً، وأطلق عليه اسم (الرداءة). ومن هنا فإنه يعزو الأمراض الأخلاقية إلى ثلاثة أسباب وهي: 1- الإفراط . 2 - التفريط . 3 - رداءة العقل والغضب والشهوة.(4)

يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي - في بادئ النظر - إلى القول بأن أضداد الفضائل على أربعة أنواع، وهي الجهل الذي هو ضد الحكمة، والجبن الذي هو ضد الشجاعة، والشره الذي هو ضدّ العفة، والجور الذي هو ضد العدالة. أما بحسب النظر المستقصي والبحث المستوفي، فلكل فضيلة الحد الذي عندما يتم تجاوزه (سواء من حيث الغلو أو من حيث التقصير)، فإنه يؤدي إلى الرذيلة. بناء على هذا تكون كل فضيلة بمثابة ،وسط وتكون الرذائل خارجها بمنزلة الأطراف كالمركز

ص: 185


1- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 809 (مصدر فارسي).
2- البقرة: 7.
3- البقرة: 10
4- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 809 (مصدر فارسي).

والدائرة. إن للفضيلة حدّ يكون في غاية البعد عن الرذائل، وإن الانحراف الذي يقع عن ذلك الحد في أي جهة وجانب موجب للاقتراب من الرذيلة. وهذا هو مراد الحكماء من قولهم : إن الفضيلة هي في الوسط، والرذائل على الأطراف. يقول الخواجة نصير الدين الطوسي فمن هذا الوجه إذن يكون مقابل كل فضيلة رذائل لا متناهية؛ إذ الوسط محدود، والأطراف غير محدودة .(1)

وقبل أن ينتقل الخواجة نصير الدين الطوسي إلى تعداد أقسام الرذائل الثمانية، يشير إلى نقطة أخلاقية - حكمية في غاية الأهمية، إذ يذهب إلى الاعتقاد قائلاً: إن الفضيلة مثل الخط المستقيم، وارتكاب الرذائل كالانحراف عن ذلك الخط. ثم إن الخط المستقيم لا يكون أكثر من واحد، وأما الخطوط غير المستقيمة فيمكن لها أن تكون لامتناهية، ولذلك لا يمكن تصور الاستقامة في سلوك طريق الفضيلة إلا على نهج واحد، ويكون الانحراف عن ذلك النهج غير محدود، ومن هنا تكمن الصعوبة التي تقع في التزام طريق الفضائل . ثم عاد الخواجة نصير الدين الطوسي بعد ذلك إلى الاستشهاد بالدين مشيراً إلى ما جاء في بعض الشرائع من أن (صراط الله تعالى أدق من الشعرة وأحد من السيف)(2). وبعد بيان هذه النقطة الدقيقة التي تمثل الأساس لفهم الفضيلة والرذيلة يرى أن جانبي الإفراط والتفريط يؤديان إلى ظهور نوعين من الرذيلة بإزاء كل فضيلة ويذهب إلى الاعتقاد بأن الفضيلة تقع في الوسط، وإن تينك الرذيلتين تقعان في طرفيها. ومن هنا يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى اعتبار أنواع الرذائل ثمانية، وهي : السفه والبله في (الانحراف عن الحكمة)، والتهوّر والجبن (بإزاء الشجاعة)، والشره وخمود الشهوة (في طرفي العفّة)، والظلم والانظلام (في قبال العدالة)(3). إن الخواجة نصير الدين الطوسي من خلال توظيفه لنظرية ثلاثية أسباب مرض النفس، يقسم الأمراض الأساسية للعقل النظري على شكل الحيرة، والجهل البسيط، والجهل المركب. حيث لا نشاهد هذا التقسيم في آثار أبي علي ابن مسكويه

ص: 186


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 117 - 118.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 118
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 119

في تهذيب الأخلاق. يذهب الخواجة نصير الدين إلى القول بأن الحيرة معلولة لعجز النفس عن تمييز الحق من الباطل، وعلاجها يكمن في تبيان المتضادتين، إذ يكون الأمر من قبيل مانعة الجمع، بمعنى أن الشخص المتحير يدرك بأن القضية الصادقة لا يمكن أن تكون كاذبة والقضية الكاذبة لا يمكن أن تكون صادقة. والجهل البسيط هو عدم علم الفرد بالموضوع، من دون أن يتصور علمه. وهذا النوع من الجهل يمثل الشرط الأول لتحصيل العلم وعلاجه هو إفهام الحقيقة للمريض.

أما الجهل المركب فهو عدم علم المرء بالموضوع، مقروناً بتصور أنه يعلمه، بمعنى أن الشخص رغم جهله لا يعلم أنه جاهل. ويرى الخواجة نصير الدين الطوسي أن هذا النوع من المرض لا يرجى علاجه .(1)

وفي كتاب (الأخلاق الناصرية) فضلا عن الأبحاث التفصيلية، تمت الإشارة أيضاً إلى أصناف اللواحق السبعة وأسباب الغضب السبعة أيضاً، كما تم - تبعاً لابن مسكويه - ذكر رذائل من قبيل الحزن والحسد والغبطة والخوف (من الموت)، والإفراط في الشهوة، والإفراط في المحبّة، والتفريط في المحبة، ويخضعها للبحث والاهتمام بوصفها من الأمراض النفسية البارزة.

5 - العدالة تمثل أكثر الأبحاث الأخلاقية تفصيلاً في هذا الكتاب القيّم الذي كتبه الخواجة نصير الدين الطوسي. يمثل بحث العدالة واسطة عقد مسائل التفكير السياسي، كما ورد في كتاب (السياسة) لأرسطو(2). ويتجلى ذلك على نحو جذري في كتاب (علم الأخلاق إلى نيقوماخوس). هناك من الباحثين من يعتقد أن الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب قد أقامت قاعدة ثابتة ل__(العدالة) بحيث شكلت أهم الأبحاث في باب العدالة حتى بداية المرحلة المعاصرة، وإن كل واحد من كبار الفلاسفة الإسلاميين بدءاً من أبي نصر الفارابي إلى الخواجة

ص: 187


1- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 809 - 810. (مصدر فارسي).
2- Aristotle. (1282). La Politique. 10sq.

نصير الدين الطوسي قد وقع تحت تأثير أفكاره في موضوع العدالة .(1)

إن الخواجة نصير الدين الطوسي - خلافاً لأصحاب التنظير في الشأن السياسي في العصر الذهبي - لا يبحث العدالة في ضمن حقل السياسة، وإنما قام ببحثها في إطار الأخلاق، مرجحاً لها على سائر الفضائل الأخلاقية الثلاثة الأخرى.

إذ يصرّح قائلاً: ليست هناك فضيلة أشرف من العدالة. ليس هناك من بين الفضائل ما هو أكمل من فضيلة العدالة فكل ما يتم بيانه في علم الأخلاق فإن العدالة تمثل الوسط الحقيقي له، وتعدّ المرجع لكل ما عداها مما يقع في أطرافها. إن العدالة من قبيل الوحدة التي تستوجب الثبات، وتمثل قوام الكائنات، وتقتضي الشرف والكمال. يؤكد الخواجة نصير الدين الطوسي على أن واضع العدالة - في الحقيقة - هو الناموس الإلهي. وقد أشار - تبعاً لآراء أرسطو - إلى ثلاثة عناصر، قائلاً: إن حفظ العدالة بين الخلق لا تكون إلا عند توفر هذه العناصر الثلاثة وهي: الناموس الإلهي، والحاكم الإنساني، والدينار. قال الخواجة نصير الدين الطوسي : في كتاب (نيقوماخيا): إن الناموس الأكبر هو من عند الله، والحاكم ناموس ثان من قبل الناموس الأكبر، والدينار ناموس ثالث .(2)كما يذهب إلى الاعتقاد بأن هذا المعنى هو المراد بعينه في قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ»(3) . ثم يلتفت الخواجة نصير الدين الطوسي إلى معنى العدل ويربط عمارة الدنيا بالعدل المدني، ويربط خرابها بالجور المدني، وينقل الأنواع المتضادة للعدل عن أرسطاطاليس ويضيف قائلاً: الجائر على ثلاثة أنواع، النوع الأول: الجائر الأعظم، وهو الشخص الذي لا ينقاد للناموس الإلهي. والنوع الثاني الجائر الأوسط، وهو الشخص الذي لا يطيع الحاكم. والنوع الثالث: الجائر الأصغر والفساد الذي يحصل عن جور هذه المرتبة هو

ص: 188


1- انظر: السيد جواد الطباطبائي، در آمدي بر تاریخ اندیشه سياسي در ايران ص 58. (مصدر فارسي).
2- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 134 .
3- الحديد: 25

الغصب ونهب الأموال وأنواع السرقة والخيانة. بيد أن الفساد الذي يأتي من الجور الأول فهو أعظم من هذا الفساد.(1)

إن الذي كتبه الخواجة نصير الدين الطوسي في فصل العدالة مبعثر ومبسوط وغير متناغم. وإن فهم آرائه لن يكون يسيراً إلا من خلال العمل على تبويبه، ومن هنا نضطر إلى بيان التبويب الآتي:

أ - إن العدالة هيئة نفسانية؛ إذ تعد بثلاثة أوجه الوجه الأول: مع ذات تلك الهيئة، والوجه الثاني: بالاعتبار مع ذات صاحب الهيئة، والوجه الثالث: باعتبار الشخص الذي توافق معه المعاملة بتلك الهيئة وبناء على هذا تسمى ملكة نفسانية بالاعتبار الأول،وفضيلة نفسانية بالاعتبار الثاني، وعدالة بالاعتبار الثالث.(2)

ب - العدالة على ثلاثة أقسام القسم الأول ما يجب أن يقوم الناس به من حق الحق تعالى الذي هو واهب الخيرات ومفيض الكرامات.. وتقتضي العدالة كذلك أن يسلك العبد أفضل الطرق.. والقسم الثاني: ما يجب أن يقوم الإنسان به من حقوق أبناء الجنس، وأداء الأمانات والإنصاف في المعاملات. والقسم الثالث: ما يجب القيام به من أداء حقوق الأسلاف.(3)

ج - قال أفلاطون الإلهي: عندما تحصل العدالة يشرق نور قوي من أجزاء النفس على بعضها البعض ؛ إذ إن العدالة تستلزم كل الفضائل وحينئذ تستطيع النفس أداء فعلها الخاص على أفضل وجه ممكن ، وهذه الحالة هي منتهى قرب النفس الإنسانية من الله سبحانه وتعالى .(4)

د - إن العدالة مستجمعة للفضائل، وهي المرتبة الوسط. إن توسط العدالة ليس كتوسط الفضائل الأخرى من جهة أن الجور هو من كلا طرفي العدالة، ولا يوجد

ص: 189


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 135.
2- المصدر أعلاه، ص 147.
3- المصدر أعلاه، ص 137 - 138.
4- المصدر أعلاه، ص 143

للرذيلة أية فضيلة من الطرفين وبيانه أن الجور يطلب الزيادة والنقصان معاً.. فالعدالة هي عامة وشاملة لجميع الاعتدالات.(1)

ه - إن العدالة ليست جزءاً من الفضيلة، بل هي الفضيلة كلها، وإن الجور - الذي هو ضد العدالة - ليس جزءاً من الرذيلة، بل هو الرذيلة كلها .(2)

إن منحنى التبويب أعلاه لحدّ وتعريف العدالة إلى بيان غايتها ودائرتها يثبت بوضوح أن مدخل الخواجة نصير الدين الطوسي إلى العدالة يختلف عن آراء أرسطو وابن مسكويه، ويميل في الغالب إلى آراء أفلاطون في الأخلاق. وعلى الرغم من أن الخواجة نصير الدين الطوسي قد ألف هذا الكتاب بطلب من الحاكم الإسماعيلي بوصفه دستوراً للعمل، بيد أن المقالة الأولى من (الأخلاق الناصرية) قد كتبت بتوجه مختلف عن مقالة تدبير المنزل وسياسة المدن إن التأملات المحورية الفلسفية - الكلامية للخواجة نصير الدين الطوسي في النظرة الاستقلالية إلى الحقول الثلاثة المتقدمة قد أدت به في كتاب (الأخلاق الناصرية) إلى التفكير في الأخلاق على نحو ما كان يفكر في كتابه (أوصاف الأشراف).

6 - تمثل السعادة ومراتبها البحث الأخير من المقالة الأولى في (الأخلاق الناصرية)، وقد سبق للخواجة نصير الدين الطوسي أن تحدث في الفصول السبعة من القسم الأول من المقالة الأولى بالتفصيل عن السعادة وكمال النفس الإنسانية ومعرفة النفس الناطقة، وعدّ تحصيل السعادة والخير الإنساني هو الغرض الجوهري في حياة الإنسان، وعدّها - على غرار الفارابي - غاية بالذات وكمالاً نهائياً. وبعد تأكيده على اکتسابية الفضيلة والسعادة وعدم كون الإنسان مفطوراً عليها، اهتم بمسألة ضرورة التعلّم والخوض في تربية النفس منذ الطفولة، ومن خلال تقديم نموذج لمسار التعليم، قال: إن أول ما يجب على المتعلم أن يقوم به هو الخوض في فن يعمل على صيانة الذهن من الضلال ويهديه إلى طريق اقتباس المعارف، ثم ينتقل بعد ذلك

ص: 190


1- المصدر أعلاه، ص 145-143
2- المصدر أعلاه، ص 136.

إلى الفن الذي يساعده على تذوق اليقين، حتى تغدو ملازمته للحق ملكة، وبعد ذلك يجب أن يقصر البحث على معرفة أعيان الموجودات وكشف حقائقها وأحوالها.. وعندما يصل إلى هذه المرتبة يكون قد فرغ من تهذيب هذه القوى الثلاث وعندما يراعي بعد ذلك هذه الدقائق يكون قد صار إنساناً بالفعل، ويستحق عنوان الحكمة وصفة الفضيلة .(1)

وفي القسم الأخير من البحث يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاعتقاد بأن السعادات على ثلاثة أنواع وهي السعادات النفسية، والسعادات البدنية، والسعادات المدنية. وقد عدد ترتيب مدارج السعادات النفسية على النحو الآتي:

الأول: علم تهذيب الأخلاق والثاني : علم المنطق والثالث: العلم الرياضي،والرابع العلم الطبيعي والخامس: العلم الإلهي.

وأما السعادة البدنية فهي العلوم التي تعود لنظام حال البدن، من قبيل: علم الطب وعلم النجوم.

وأما السعادة المدنية فهي العلوم التي تتعلق بتنظيم شؤون الأمة والدولة، وأمور المعاش والمجتمعات من قبيل: علوم الشريعة من الفقه والكلام والأخبار وعلوم الظاهر كالأدب والبلاغة والنحو والحساب والمساحة والاستيفاء.(2)

4 - النتائج

قام كثير من الباحثين بختم تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية بابن رشد، وبذلك فقد غفلوا عن النتائج العقلية في دائرة الفكر الشيعي. وحيث كان العالم الشيعي بعد القرن السابع للهجرة قد أصبح معقلاً للنشاط العقلي الإسلامي ولا سيما في حقل الحكمة، فقد أدّت هذه الغفلة إلى ظهور نظرية خاطئة مفادها أن العالم الإسلامي بعد عام 615 للهجرة أخذ يتجه نحو الأفول والانحطاط التام،

ص: 191


1- المصدر أعلاه، ص 153 - 154.
2- المصدر أعلاه، ص 154

حتى تحقق الاضمحلال الكامل للعالم الإسلامي في حقبة الخواجة نصير الدين الطوسي حيث يذهب هؤلاء إلى اعتبار اهتمام الخواجة نصير الدين الطوسي(1)

بتأليف كتاب (أوصاف الأشراف)، وانشغاله في الحكمة العملية ببسط مساحة الأخلاق وتصفية (تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه دليلاً على مرحلة الانحطاط (2). إن التحقيق والبحث في هذا الشأن يشير إلى أن تبلور المدارس الثلاث في الحكمة في كل من شيراز وأصفهان وطهران التي قامت على أساس النزعة العقلية قد قامت على أساس المنهج العقلي الذي صدع به الخواجة نصير الدين الطوسي في مرحلة الظلام والضياع. إن المؤسسين لمدرسة شيراز إنما كانوا قد اكتفوا بشرح تراث الخواجة نصير الدين الطوسي، حتى صارت تأملاته وحكمته الذوقية وتتبعه في الأخلاق أساساً ثابتاً في مرحلة أصفهان. ثم إن الآثار الأخلاقية للخواجة نصير الدين الطوسي، من قبيل: (الأخلاق الناصرية)، تعود إلى المرحلة الأولى من حياته عندما كان له من العمر ما بين ثلاثين وستة وثلاثين سنة، وأما عندما بلغ شتاء العمر واقترب من خريفه، فقد اقتصرت مؤلفاته على شرح وتأليف الأفكار الفلسفية وحتى السياسية. لقد ذكر الخواجة نصير الدين الطوسي أن إحدى الأسباب التي دعته إلى تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية)، وإحجامه عن الاكتفاء بترجمة (تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه هي غفلة أبي علي ابن مسكويه في كتابه عن قسمين هامين وهما تدبير المنزل وسياسة المدن، وقال بأن هناك جوانب هامة من الحكمة العملية تمّت الغفلة عنها في (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، ومن هنا يعد كتاب (الأخلاق الناصرية) أثراً أصيلاً ومستقلاً للخواجة نصير الدين الطوسي.

إن كتاب (الأخلاق الناصرية) يتناول بالبحث ثلاث مسائل جوهرية، وهي معرفة النفس الناطقة، والفضائل والسعادة، والعدالة. إن اهتمام الخواجة نصير الدين الطوسي

ص: 192


1- انظر: السيد جواد الطباطبائي، در آمدي بر تاریخ اندیشه سياسي در ايران ص 223. (مصدر فارسي).
2- وبطبيعة الحال يجب في الوقت نفسه عدم غض الطرف عن جهود بعض المستشرقين، من أمثال: (غوبينو)، و (دونالدسن)، و (براون) في فهم التراث الشيعي. كما أن ل__(هنري كوربان) - من خلال تحقيقاته الواسعة والعميقة في العوالم العقلية الشيعية - دوراً كبيراً في التعريف بالتراث الشيعي الزاخر والغني. وللمزيد من الاطلاع انظر كتاب (زوال اندیشه سیاسي در ايران) لمؤلفه السيد جواد الطباطبائي.

بجزئيات وتفاصيل كل موضوع، وتعداد أنواع وأصناف كل واحد منها يعكس إحاطته وتضلعه بهذا العلم. يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاعتقاد بأن الموضوع والغاية الرئيسة لعلم الأخلاق هي تحقيق السعادة، وقد أدى هذا التصوّر به إلى تخصيص جميع القسم الأول ونصف القسم الثاني من المقالة الأولى ببحث السعادة والكمال والنقصان الإنساني والخير والسعادة ومعرفة النفس الإنسانية. إن نقد الخواجة نصير الدين الطوسي لأرسطو وابن مسكويه في تعداد أجناس الفضائل وانقسامها وكذلك بيانه العميق للرذيلة وأنواعها استناداً إلى التعاليم القرآنية، جدير بالاهتمام. إن ترجيح الخواجة نصير الدين الطوسي للفضيلة على العدالة واعتباره المحبّة بوصفها مصدراً طبيعياً للاتحاد، وترجيحها على الفضيلة، ومن ثم فإن تدوين النظريات الثلاثة في علية أمراض النفس وربطها بالأمراض المزمنة التي تصيب العقل النظري، وتقديم الأسلوب والمنهج النظري في علاج هذه الأمراض بملاحظة التعاليم الحكمية، تعد من جملة الإبداعات الفلسفية للخواجة نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق.

يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى اعتبار المدينة الفاضلة والمجتمع الإنساني أساساً طبيعياً للحياة الأخلاقية؛ لأنه - على غرار الفارابي - يرى - كمال السعادة في التعاون والتكافل والتربية الوجودية بين أفراد البشر. لقد قامت الأصول الأساسية للنظرية الأخلاقية التي صدع بها الخواجة نصير الدين الطوسي على المحبة والصداقة، وهي النظرية التي نشاهد فيها طرح العلاقات القائمة بين الفرد والمجتمع بوضوح. يصبّ جهد الخواجة نصير الدين الطوسي في التدوين العقلاني لعلم الأخلاق وتعليمه على الأساس العقلي. إن التعليم والتأديب الذي يشكل أساساً لاكتساب الفضائل الأربعة في فلسفة أبي نصر الفارابي(1) ، ينعكس في نظرية الخواجة نصير الدين الطوسي أيضاً. إن الخواجة نصير الدين الطوسي من كبار علماء الإسلام الذين عاشوا في عصر الانحطاط والأفول، وهو أمر أسدل فيه الستار دونهم وحال دون اكتشاف قدرهم ومنزلتهم، وأدى ذلك إلى الغفلة عنهم، وعدم إعطاؤهم المكانة التي

ص: 193


1- انظر رضا ،داوري فارابي، ص 152 - 163 (مصدر فارسي).

يستحقونها.(1) وعلى الرغم من التأثير العميق للآثار المنطقية والفلسفية والأخلاقية للخواجة نصير الدين الطوسي على المفكرين المسلمين في القرون اللاحقة، لا يزال هناك سبب صوري ومانع ذهني يحول دون التعرّف عليه بالشكل المطلوب.

المصادر:

القرآن الكريم.

1 - إبراهيمي ديناني غلام حسين (1379ه ش) از خواجه نصير الدين الطوسي تا جلال الدين دواني، ماجراي فکر فلسفی در جهان اسلام طهران انتشارات طرح نو، ط 2.

2 - الفاخوري حنا خليل 1358ه ش)، تاریخ فلسفه در جهان اسلام کتاب زمان، ج 2، ط 2.

3 - داوري رضا (1374 ه ش)، فارابي، طهران، انتشارات طرح نو، ط 1.

4 - دواني علي (1378 ه ش)، مفاخر إسلام طهران مرکز اسناد انقلاب إسلامي، ج 2، ص 2

5 - الرازي أبو علي المعروف ب_(ابن مسكويه) (1329ه / 1911م)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق مصر.

6 - مير محمد شريف (1362 ه ش) تاریخ فلسفه در اسلام طهران مرکز نشر دانشگاهي، ج 1.

7 - الطباطبائي، سيد جواد 1374ه- ش) در آمدي بر تاریخ اندیشه سیاسي در ايران، طهران، انتشارات کویر.

8 - الطباطبائي، سيد جواد زوال اندیشه سیاسی در ایران طهران، انتشارات کویر

9 - الطوسي، نصير الدين (1360 ه- ش)، أخلاق ناصري، تنقيح وتصحيح مجتبى مينوي وعلي رضا حيدري طهران انتشارات خوارزمي ط 2

10 - کوربان هنري (2004 م) ، تاريخ الفلسفه الإسلامية، ترجمه إلى اللغة العربية نصير مروة وحسن قبيسي، مراجعة وتقديم الإمام موسى الصدر، بیروت، دار عويدات.

11 - المستوفي، حمد الله (1336 ه- ش)، نزهة القلوب، إعداد: محمد دبير ساقي، طهران، مكتبة طهوري.

Aristotle. (1282). La Politique. 10sq - 12

ص: 194


1- انظر: غلام حسين إبراهيمي ديناني از خواجه نصير الدين الطوسي تا جلال الدین ،دواني ماجراي فكر فلسفي در جهان ،إسلام ص 21 - 22 ، وص 270 - 271.

الاعتبار والحقيقة في الأخلاق - نقاط التلاقي والاختلاف

بين أخلاق (العلامة الطباطبائي ) وأخلاق ( فتغنشتاين ) المتقدّم

بقلم: د. سروش دباغ (1)

وحسين دباغ (2)

تعريب: حسن علي مطر

زبدة المخاض

إن لمفردة الاعتبار استعمالاً واسعاً في الفلسفة والكلام الإسلامي. وعلى ما يبدو لم يقم أحد - باستثناء (شهاب الدين السهروردي) من المتقدمين، و(العلامة الطباطبائي) من المتأخرين - بفتح فصل مستقل في بيان الاعتباريات وكيفية التمييز بينها وبين سائر المفاهيم الأخرى. في هذا المقال تحت عنوان (الاعتباريات)، نبحث في فلسفة الأخلاق عند الطباطبائي، حيث نتناولها من ثلاث زوايا، وهي: الزاوية الأنطولوجية، والزاوية الدلالية،والزاوية الإبستيمولوجية. وفي الختام عمدنا - في إطار فهم رؤية (العلامة الطباطبائي) بشكل أفضل - إلى بيان نقاط التلاقي والافتراق بین فلسفة أخلاق العلامة وفلسفة أخلاق (الودفيغ فتغنشتاين).(3)

المفردات المفتاحية:

الاعتباريات الأخلاق، الأنطولوجيا، الدلالة الإبستيمولوجيا، العلامة الطباطبائي، فتغنشتاين.

ص: 195


1- عضو اللجنة العلمية في مؤسسة الحكمة والفلسفة الإيرانية للتحقيقات. Soroush.dabbagh@irip.ir
2- طالب على مستوى الماجستير في فلسفة الغرب من جامعة الشهيد البهشتي
3- لودفيغ فتغنشتاین (1889 - 1951م): فيلسوف نمساوي.

المقدمة:

إن من بين الأبحاث الهامة وغير المسبوقة التي احتدمت بين الفلاسفة المسلمين بحث النسبة بين المدركات الحقيقية - الكاشفة عن عالم الواقع - والمدركات الاعتبارية (المتواضع عليها) التي تتضمّن التوصيف والإنشاء وإقامة التناغم وقد سعى العلامة الطباطبائي من خلال التفكيك والفصل بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية إلى العمل بدوره على تقديم إجابة عن هذا السؤال الفلسفي .الهام. وفي هذا المقال تمّ السعي من خلال تقرير آراء (العلامة الطباطبائي) في الأخلاق إلى التمييز بين النواحي الأنطولوجية والدلالية والإبستيمولوجية في آرائه التي قلما تم بحثها بهذا الشكل مع بيان اللوازم المنطقية المترتبة عليها. وفي الختام وعلى أساس الحكمة القائلة: (تعرف الأشياء بأضدادها) تم السعي من خلال تقرير أخلاق (فتغنشتاين) وزواياها المختلفة، إلى إلقاء مزيد من الضوء على مختلف أبعاد أخلاق (العلامة الطباطبائي) بالمقارنة مع أخلاق (فتغنشتاين) وغيره من الفلاسفة الآخرين في حقل الأخلاق المعاصرة.

1 - أخلاق العلامة الطباطبائي

لكي نفهم معنى المدركات الاعتبارية عند العلامة الطباطبائي بشكل أفضل يجب أن نذكر قبل كل شيء التقسيم الذي جاء به الفلاسفة المسلمون، وهو تقسيم الاعتباريات إلى الاعتباريات بالمعنى الأعم والاعتباريات بالمعنى الأخص. وإن الاعتباريات بالمعنى الأعم تعني - باختصار شديد المفاهيم الانتزاعية (الانتزاعيات) أو المعقولات الثانية. ومن بين الذين تعرّضوا إلى هذا النوع من الاعتباريات في تاریخ الفلسفة الإسلامية، يمكن لنا أن الإشارة إلى ابن سينا في كتاب (المباحثات)(1) وشيخ الإشراق السهروردي في كتابيه (المشارع والمطارحات)، و (حكمة الإشراق).(2)

ص: 196


1- لقد تحدّث أبو علي ابن سينا في كتاب (المباحثات) عن الأوصاف الافتراضية وغير المتقررة للأشياء، ويعمل على إحلالها في قبال الأوصاف الذاتية والمتقررة. ثم أطلق على هذه الأوصاف الافتراضية مصطلح اللواحق الاعتبارية للأشياء. (ابن سينا 1371 ، ص 131)
2- لقد طرح الحكيم الإشراقي في كتابه المشارع والمطارحات) قاعدة لتمييز الاعتباريات من غير الاعتباريات (انظر: السهروردي 1372، ج 1، ص 343). كما تحدث في (حكمة (الإشراق عن الوجود العيني والذهني، وقال بأن الاعتباريات هي التي يتحد وجودها الخارجي مع وجودها الذهني (انظر: السهروردي، 1372، ج ص 64 - 71). كما يرى شيخ الإشراق أن البحث عن اعتبارية الوجود بسبب وقوع التسلسل يدخل ضمن هذه المجموعة من الأبحاث. ويجب اعتبار النزاع الواسع بين أصالة الوجود واعتبارية الماهية أو بالعكس على هامش هذه المجموعة من الاعتباريات بالمعنى الأعم.

وبطبيعة الحال لا يمكن العثور على التفكيك والفصل بين المعقول الثاني الفلسفي والمعقول الثاني المنطقي في مؤلفات هؤلاء الفلاسفة، أو في الحد الأدنى لا نجد في كلامهم تصريحاً بهذا الشأن.

أما البحث في الاعتباريات بالمعنى الأخص ، فيتم طرحها بشكل رئيس في ثلاثة علوم وهي علم الفقه، وعلم الحقوق، وعلم الأخلاق وفي الاعتباريات الحقوقية يرد البحث عن المالكية، كما يرد البحث في الاعتباريات الفقهية عن أحكام الحلال والحرام. وأما الاعتباريات الأخلاقية - التي هي موضوع هذه المقالة أيضاً - فيبحث فيها عما يجب وما لا يجب، كما يُبحث فيها عن الحُسن والقبح. وتقع المقالة السادسة من كتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي) للعلامة الطباطبائي (1)، تحت عنوان: (المدركات الاعتبارية) في ذيل هذه المجموعة.

إن بحث (العلامة الطباطبائي) في المقالة السادسة، حيث هو بحث في فلسفة الأخلاق، ويدور حول مقولة الحُسن والقبح واستنتاج ما يجب من الواقع، فإنه يستهدف الاعتباريات بالمعنى الأخص . أي (المدركات الاعتبارية بالمعنى الأخص). وإن عدم الالتفات إلى هذه النقطة من شأنه أن يؤدي إلى غموض وتشويش البحث.(2)

إن هذه المقالة من كتاب (أصول الفلسفة) قد أثارت لغطاً كبيراً في الأوساط الفلسفية الإيرانية، وقد قدم شارحوها آراء متضادة ومختلفة في توضيحها وتفسيرها. وهناك من يرى أن السبب في هذا الاختلاف يعود إلى العلامة الطباطبائي نفسه، إذ [13] يكمن في بساطة لغته وأسلوب كتابته(3). وهناك من الشارحين من هاجم العلامة

ص: 197


1- من الآن فصاعداً سوف نشير إلى هذا الكتاب اختصاراً ب__(أصول الفلسفة).
2- انظر: الداوري، 1363، ص 131 - 177؛ المدرسي، 1360، ص 63 65 گرامي، 1359، ص 41-37
3- قال الدكتور الداوري في (ذكرى العلامة الطباطبائي): (إن العلامة الطباطبائي قد كتب (أصول الفلسفة)، ومن بينها مقالة المدركات الاعتبارية بشكل مبسط ولغة سهلة وغير فنية ولا متقنة، ولا تتصف بالعمق والدقة أو البلاغة والفصاحة...). (الداوري، 1363، ص 139).

الطباطبائي بلطف، معتبراً أخلاقه بحسب الظاهر - في الحد الأدنى - نرجسية ومادية. بل قارن بين أخلاقه وأخلاق (برتراند راسل) واعتبرهما شيئاً واحداً.(1) ومن ناحية أخرى هناك من تعاطف مع الأفكار الرئيسة المطروحة في هذه المقالة، وأعرب عن تناغمه معها (2).

إن الاعتباريات - باختصار تام - تعني (المفاهيم التي يتخذها ويفترضها الشخص بسبب احتياجاته في الحياة، وذلك بمساعدة من عواطفه وميوله الداخلية). وفي المقابل فإن (الحقائق تعني المفاهيم التي يكتشفها العقل من خلال النظر في الواقعيات الخارجية للأشياء والعلاقات القائمة بينها) ، (انظر: سروش 1358 ص 243). إن قضايا من قبيل: (إن قمة جبل إيفرست أعلى قمة في العالم)، أو (إن الماء يغلي عندما تبلغ درجة حرارته مئة درجة على مقياس سانتيغرات) هي بأجمعها من الحقائق التي لا يمكن لأي شخص أن يتدخل أو يتصرّف فيها بالاستناد إلى دواعيه وعواطفه الشخصية.

قال العلامة الطباطبائي في تعريف الاعتباريات: (لو قلنا إن التفاحة فاكهة كان هذا أمراً حقيقياً. وأما إذا قلنا: يجب أكل التفاحة، أو يجب لبس هذا الثوب، كان هذا أمراً اعتبارياً). (العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 200).

ص: 198


1- ذهب الشيخ المطهري في كتابه (نقد الماركسية) إلى اعتبار أخلاق (العلامة الطباطبائي) عين أخلاق (برتراند راسل) وقال : (يقول راسل: علينا أن نفلق مسألة الأخلاق ... وتحليله هو عين تحليل السيد الطباطبائي، ويقول: إن أصل الحسن و القبح مفهوم نسبي). (انظر المطهري، ص 194 - 196). وفي كتابه (دروس الأخلاق) اعتبر أخلاق – الطباطبائي أخلاقاً مادية (انظر:سروش [تحت النظر]،1360). كما أنه في حاشيته على كتاب (أصول الفلسفة) من خلال عدم مواصلة التهميش صرّح بمخالفته للمسائل المذكورة.
2- لقد كان الدكتور عبد الكريم سروش من بين أوائل الذين تعاطفوا مع فلسفة أخلاق العلامة الطباطبائي. فقد عمد الدكتور سروش في كتابيه (دانش وارزش) و (تفرّج صنع) إلى مقارنة العلامة الطباطبائي بالفيلسوف الإسكتلندي (ديفد هيوم) ورأى بينهما بعض مواطن الشبه. وعلى الرغم من انتقاده لنظريات (العلامة الطباطبائي) بيد أنه يثني عليه في طرح مسألة (عدم استنتاج ما يجب عدم استنتاج ما يجب من الواقع). (انظر: سروش 1366 ، ص 354 ،سروش 1358، ص 238 و 257). ثم قام الدكتور آرش نراقي لاحقاً في مقالة له تحت عنوان (ملاحظات بشأن اختلاف آراء العلامة الطباطبائي والشيخ المطهري بشأن العلاقة بين الأحكام الحقيقية والاعتبارية) (انظر: نراقي 1387) باقتفاء أثر سروش في الدفاع عن العلامة الطباطبائي في مواجهة الشيخ المطهري، معتبراً مخاوف الشيخ المطهري من النسبية الأخلاقية عند العلامة الطباطبائي غير مبررة. وهناك من الشرّاح الآخرين من خالف الدكتور سروش، ويمكن لنا أن نذكر من بين هؤلاء الشيخ جعفر السبحاني (انظر: السبحاني 1368) ، والمدرسي (انظر: المدرسي 1360) ، وگرامي (انظر: گرامی 1359). كما يأتي الفقيد الحائري في كتابه (كاوشهاي أخلاق عملي) على ذكر توضيحات حول فلسفة أخلاق هيوم، ويقدم شرحاً للعلاقة القائمة بين (ما يجب) و (ما هو كائن) . (انظر: الحائري، 1384 ص 24-21).

وذهب الشيخ المطهري في حاشيته على تلك المقالة إلى شرح الاعتباريات قائلاً: (افتراضات يختلقها الذهن بسبب احتياجات الحياة، فيكون لها صبغة وضعية واعتبارية، ولا شأن لها بالواقع) ، (العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 181، حاشية الشيخ المطهري).

لقد قدّم الشراح للمدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية بعض المعايير. فقالوا بأن المدركات الحقيقية هي المدركات التي تتحدّث عن الموجود والمعدوم، وتكون مشمولة لمطابقة الخارج أو عدم مطابقته. وأما ملاكات المدركات الاعتبارية فأحدها وجود (الوجوب) فيها، والملاك الثاني إمكانية إلغائها والملاك الآخر تعميمها على جميع الحالات. وفيما يتعلق بملاكات المدركات الحقيقية يجب القول بأن (الموجود) يستعمل فيها، ولا توجد بسبب حاجة أحد إليها، وهي عامة وموجودة في كل الأمكنة، ومن ثم لا تقبل الإلغاء أبداً. (سروش، 1358، ص 243).

يجب اعتبار مقال (المدركات الاعتباري) في سياق ترجيح كفة معرفة المسألة (سروش،1366 ، ص 345 - 349). وهذا يعني أن بحثه لا يحتوي أولاً وبالذات على صبغة أنطولوجية. ويأتي التذكير بهذا الأمر من باب وجوب عدم اعتبار بحث الأخلاق عند العلامة الطباطبائي شبيهاً ببحث الأخلاق عند فيلسوف خاص مثل دينسي. إن صورة المسألة عند دينسي تتجه ناحية وجود أو عدم الأصول الأخلاقية، وبذلك تكون ذات صبغة أنطولوجية. في حين يجب اعتبار كل هم العلامة الطباطبائي في إطار البيان الإبستيمولوجي للنسبة القائمة بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية. إن التعبير ب__(المدركات) أو (التصديق المجازي) الذي يستعمله العلامة الطباطبائي في هذا المقال يؤيد هذا المعنى وهو ترجيح الكفة الإبستيمولوجية من البحث. وفي الوقت نفسه يمكن تقديم بيان للصبغة الدلالية في البحث أيضاً. وبذلك يكون معنى الحُسن والقبح في أخلاق العلامة الطباطبائي على نحوين، أحدهما المعنى الحقيقي والآخر المعنى المجازي. وبعبارة أوضح : يذهب العلامة الطباطبائي إلى القول بأننا عندما ندخل في دائرة الأخلاق تكتسب مفردات من قبيل: (الحسن) و(القبح) معنى

ص: 199

استعارياً، وما أن نخرج من دائرة الأخلاق حتى تكتسب تلك الألفاظ ذاتها معنى حقيقياً .(1)

1/1- الربط والنسبة بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية

يفتتح (العلامة الطباطبائي) مقال (المدركات الاعتبارية) بيت من الشعر ل__(حافظ الشيرازي). وفي الحقيقة فإنه يستمد من المجازات والاستعارات، ويعتبر الأفكار الاعتبارية الأخلاقية من صنف المجازات. وقد عرف المدركات بأنها عبارة عن (حدّ شيء بشيء آخر) (العلامة الطباطبائي، 1385 ، ج 2 ،ص 165) . وبذلك يمكن لنا أن نعتبر المدركات الاعتبارية نوعاً من التصديق، فهي ليست نوعاً من التصوّر. وبعبارة أوضح إن المدركات الاعتبارية من صنف التصديقات المجازية. ويذهب سماحته إلى الاعتقاد بأن المدركات الاعتبارية الوهمية تقوم على أمور حقيقية، بمعنى أنها تقوم على دعائم التصوّرات الحقيقية، إذ يقول: (إن كل واحد من المعاني الوهمية يقوم على حقيقة، بمعنى أن كل حد وهمي أن كل حد وهمي نعطيه لمصداق، يكون له مصداق آخر أيضاً قد أخذ من ذات الموضع ...) (الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 165 - 166).

وفي الحقيقة - بناء على رأي (العلامة الطباطبائي) - لا يمكن للفرد أن يصوغ تصوراً اعتبارياً من عنده. وإن لكل تصور أخلاقي (من قبيل : مفهوم الحُسن) نسبة مع تصوّر غير أخلاقي مثله (من قبيل: مفهوم الحسن في معنى الملائمة مع الطبع) في واقع الأمر.

الأمر التالي في المنظومة الأخلاقية للعلامة الطباطبائي هو عدم الارتباط الإنتاجي بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية. بمعنى أنه لا يمكن من أي طرف

إقامة علاقة بين هذين السنخين من التصديقات:

(.... إن هذه المدركات [الاعتبارية] والمفاهيم حيث تكون وليدة العناصر

ص: 200


1- جدير بالذكر أن هذا النوع من الفصل والتفكيك بين المساحة الأنطولوجية والمعرفية والدلالية من البحث لم تكن منظورة للعلامة الطباطبائي، وإنما يأتي ذلك من قبل المتأخرين، وكأن العلامة الطباطبائي لم يبد اهتماماً بهذه التفكيكات التي هي في الغالب من نتائج الفلسفة الغربية.

الحسية، لا يكون لها علاقة إنتاجية مع المدركات والعلوم الحقيقية) (الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 167).

بيد أن عدم الارتباط الإنتاجي هذا يجب اعتباره مرتبطاً بمادة القضايا لا إلى صورها، بمعنى أن العلامة الطباطبائي لا يقول بوجود مثل هذه المغالطة في المنطق من الناحية الصورية، بيد أن المسألة هي أن طبيعة القضايا الأخلاقية بحيث لا تنتهي إلى القضايا الاعتبارية. فلا يمكن لنا - على سبيل المثال - أن نستنتج من القضية التجريبية قضية ميتافيزيقية(1) ، بمعنى ذات البحث الجدلي في التوصل من الحقيقة إلى المجاز، أو من الواقعية إلى الاعتبار (2).

يرى العلامة الطباطبائي أن هذه المدركات الاعتبارية رغم كونها وهمية وكاذبة، إلا أنها مؤثرة، فلا يمكن عدها أوهاماً لاغية، بل هناك آثار تترتب عليها: (... إن هذه المعاني الوهمية، على الرغم من عدم واقعيتها إلا أن لها آثاراً واقعية...) (العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 166)

ومن هنا تعدّ المدركات الاعتبارية قضية لا شبه قضية. ومن هذا الموضوع يمكن لنا أن نتوصل إلى أن المدركات الاعتبارية عند العلامة الطباطبائي ذات معنى. فحيث أنه يستخدم عبارة المدركات والتصديقات، فإن هذا يتضمن مفهومية هذا النوع من المدركات.

حيث إن التصديقات الحقيقية لا يمكن الحصول عليها من التصديقات الاعتبارية ، والعكس صحيح أيضاً، يمكن لنا أن نعلم أن المدركات الاعتبارية لا تشتمل على

أحكام المدركات الحقيقية :

ص: 201


1- إن هذه المسألة تمثل واحدة من الأبحاث التي أزعجت بعض المعاصرين. (انظر: العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2 حاشية المطهري؛ الداوري 1363؛ الحائري، 1384؛ السبحاني، 1368).
2- يعد بحث (عدم استنتاج الواجب من الواقع) في تاريخ الفلسفة من إبداعات (ديفد هيوم). فقد صدر له كتاب ما بين عامي 1739 - 1740م تحت عنوان (رسالة في الماهية الإنسانية). وتشتمل هذه الرسالة على ثلاثة كتب الكتاب الأول (حول العقل)، والكتاب الثاني (حول المشاعر والعواطف)، والكتاب الثالث (حول الأخلاق). والأقرب إلى مرادنا في هذه المقالة هو القسم الأول من الفصل الأول من الكتاب الثالث، والذي هو بعنوان (في حقل أن المعتقدات الأخلاقية لا يمكن استنتاجها من العقل). فقد عمد في هذا الفصل - من خلال الإحالة والإرجاع إلى الأبحاث المتقدمة (الكتاب الثاني الفصل الثالث القسم الثالث) - إلى بيان السبب في عدم إمكان توقع إثبات أو إبطال قضية أخلاقية من العقل والمنطق. للبحث في هذه المسألة، انظر: (521 - 510 .Hume، 1969، pp).

(... في مثل هذه الصورة لن تجري بعض تقسيمات المعاني الحقيقية في مورد هذه المعاني الوهمية من قبيل: البديهي والنظري، ومثل الضروري والمحال والممكن) (العلامة الطباطبائي، 1385 ، ج 2، ص 166)

فعلى سبيل المثال يجوز في الأحكام الاعتبارية تأخر الشرط عن المشروط، في حين يستحيل ذلك في الأحكام الحقيقية. ومن خلال توظيف هذه المسألة أورد العلامة الطباطبائي الكثير من الإشكالات على الأصوليين، معتبراً أن الكثير من اجتهاداتهم ناشئ من الخلط بین الاعتبار والحقيقة. من ذلك أنه في حاشيته على (كفاية الأصول) قد أشكل على آراء العلماء من أمثال الشهيد الثاني، والسيد الخوئي، والآخند الخراساني، قائلاً : إنها من (التعسفات) (انظر: سروش).

1 / 2 - الحسن والقبح الاعتباري

يذهب العلامة الطباطبائي - طبقاً لرأي الشرّاح - في كتابيه (أصول الفلسفة)، و (الميزان في تفسير القرآن) إلى القول بنوعين من الحُسن والقبح، أحدهما: الفعل الذي يتم إسناده في الخارج إلى ذات الفعل مستقلاً عن الفاعل والآخر : الحُسن الذي يسنده الفاعل أو المعتبر إلى الفعل أثناء القيام به.

(إن الحَسَن والقبيح (الحُسن و القبح في الأفعال) صفتين اعتباريتين، إذ يعتبران في كل فعل يصدر - أعم من الفعل الفردي والاجتماعي - ولا يخفى أن (الحُسن) بدوره مثل (الوجوب) ينقسم إلى قسمين: الحُسن الذي هو صفة للفعل في نفسه، والحُسن الذي هو صفة لازمة لا تتخلف عن الفعل الصادر ...) (الطباطبائي، 1385 ، ج 2، ص 204).

ولتوضيح هذا المعنى يجب القول : إننا نجد عند العلامة الطباطبائي مفهوماً حقيقياً ل__( الحُسن)، ومفهوماً مجازياً واعتبارياً. أما المعنى والمفهوم الحقيقي للحسن فهو ما كان يقوله المتقدمون أيضاً، بمعنى الملاءمة مع الطبع، والموافقة مع الأغراض والغايات. من ذلك - على سبيل المثال - أن القضايا التي هي من قبيل: (هذا الرسم

ص: 202

جميل)، و (إن الطقس بديع هذا اليوم)، أو (إن هذا الحذاء مناسب لتسلق الجبال)، هي بأجمعها إما بمعنى المطلوب والموافق للطبع أو أنها تسهل عملية الوصول إلى الغاية المنشودة. إن المعنى الاعتباري والمجازي للحسن إنما يتحقق إذا تم استعمال (الحسن) في الأخلاقيات والأمور القيمية والمناسبة من قبيل القضايا القائلة: (إن الوفاء بالعهد (حسن) أو (إن الكذب قبيح). إن بحث العلامة الطباطبائي في (أصول الفلسفة) ناظر إلى الحُسن الفاعلي دون الحسن الفعلي، بمعنى نمط اعتبار الفرد في ذلك المقام.

يقول العلامة الطباطبائي في كتابه (أصول الفلسفة) - في معرض توضيح اعتبارية الحُسن والقبح - إن الحُسن والقبح ليسا جزءاً من أوصاف الأفعال في واقع الأمر (الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 204)؛ إذ يمكن للفعل الواحد أن يتصف في موضع بصفة القبح، ويتصف في موضع آخر بصفة الحُسن. بمعنى أن الحسن والقبح يعودان إلى اعتبارنا، وليس إلى كشفنا لأوصاف الأفعال. بمعنى أن الزنا والنكاح أو الكلام الكاذب والصادق، بحسب الظاهر والتجسيد الخارجي يمثلان شيئاً واحداً، وليس هناك فرق من الناحية الشكلية بينهما. إن هذه الأوصاف الاعتبارية لا يمكن العثور عليها تكويناً في العالم الخارجي. وعليه فإن الحُسن و القبح أو الأخلاق - بشكل عام - أداة للعمل باعتبارنا، وليست للكشف عن الواقع. وقال سماحته في تفسير الميزان):

(يشبه أن يكون الإنسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه مشاهدة من الجمال... فحسن وجه الإنسان كون كل من العين والحاجب والأذن والأنف والفم وغيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركب في نفسه عليها، وكذا نسبة بعضها إلى بعض، وحينئذ تنجذب النفس ويميل الطبع إليه ويسمى كون الشيء على خلاف هذا الوصف بالسوء والمساءة والقبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة) (الطباطبائي، بلا تاریخ، ج 2، ص 9-11)

ص: 203

1 / 3 - النزعة المعرفية إلى الأخلاق عند العلامة الطباطبائي

الأمر الآخر الذي يجدر دراسته بشأن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي)، هو النزعة الواقعية(1) ، والمعرفة الأخلاقية(2). وهناك في الأبستيولوجيا الأخلاقية المعاصرة اتجاهان رئيسان وهما اتجاه أصحاب النزعة المعرفية(3)، واتجاه أصحاب النزعة اللامعرفية(4) يذهب أصحاب الاتجاه الأول إلى الاعتقاد بأن المدعيات الأخلاقية تقبل الصدق والكذب وتقدم المعرفة، في حين أن أصحاب الاتجاه الثاني (اللامعرفيون) لا يرون المدعيات الأخلاقية قابلة للصدق والكذب. وفي الوقت نفسه لا بد من الالتفات إلى أن الاتجاه المعرفي لا يستلزم الواقعية في حقل الأخلاق. يمكن الشخص أن لا يقول بوجود الأوصاف الأخلاقية في العالم، ويتحدّث في الوقت نفسه عن معرفية المدعيات الأخلاقية على نحو ذهني. وبعبارة أخرى: لا يوجد هنا ارتباط وثيق بين الموقف الأنطولوجي للأخلاق، والموقف الإبستيمولوجي. يمكن لشخص أن يقول في الأنطولوجيا الأخلاقية بعدم وجود ما بإزاء في العالم الخارجي لصفات أخلاقية من قبيل الحسن والقبح والواجب وما إلى ذلك، وفي الوقت نفسه يتحدّث عن معرفية قضايا من قبيل: (الوفاء بالعهد حسن).

مما تقدم يبدو أن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) يجب إدراجها ضمن مجموعة المعرفيين. ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي: كما رأينا فإن (العلامة الطباطبائي) في كتابيه (تفسير الميزان) و (أصول الفلسفة) قد أخذ بنظر الاعتبار نوعين من الحُسن والقبح، وهما: (الحُسن) الحقيقي و(الحُسن) المجازي - الاعتباري. ومعنى (الحسن) الحقيقي هو الملاءمة للطبع والموافقة للأغراض والغايات. إن هذا المعنى ل__(الحُسن) لا يمكن أن يكون (حُسناً) أخلاقياً بأي حال من الأحوال. يذهب (العلامة الطباطبائي) إلى الاعتقاد بأن هذا (الحُسن) عندما يدخل في دائرة

ص: 204


1- moral realism.
2- moral cognitivism.
3- cognitivist.
4- non-cognitivism.

الأخلاق، فإنه يغدو استعارياً ومجازياً. وكأن (الحُسن) يتصف بصفات متنوعة تبعاً لتنوع الأوعية التي يُسكب فيها . وأما في مورد المعنى المجازي ل__(الحسن) فيجب القول طبقاً لرأي (العلامة الطباطبائي) : إن لهذا (الحُسن) معن اعتبارياً؛ بمعنى أنه فيما يتعلق بالقضية القائلة إن هذا الشيء حسن)، يجب القول: أجل، إن هذا الشيء حسن، ولكن اعتباراً وليس حقيقة. وبعبارة أخرى: إن هؤلاء لا يقولون بخارجية صفة (الحُسن).

إن القضايا الأخلاقية - بناء على رأي الطباطبائي - من حيث تعلقها بوعاء آخر، يمكن لها بحسب القاعدة أن تقدم ،معرفة، وأن تعدّ في زمرة التصديقات. وفي هذه الحالة يمكن اعتبار (العلامة الطباطبائي) واحداً من القائلين بالاتجاه المعرفي، رغم يرى للمفاهيم الأخلاقية من قبيل (الحُسن) أي مطابق في عالم الخارج، وليس واقعياً بالمعنى الأنطولوجي. وبعبارة أخرى يمكن بحسب القواعد أن يكون الإنسان في مسرح الأخلاق مناهضاً للواقعية، ويكون في الوقت نفسه من القائلين بالنزعة المعرفية بتوضيح أن القضايا الأخلاقية لا تكشف عن العالم الواقعي، ولا توجد أي نسبة بينها وبين الواقع المحيط بنا ، ولكن في الوقت نفسه يمكن الحوار حول صدق وكذب وحجية المدعيات الأخلاقية على نحو ذهني.(1)

2 - الأخلاق عند (فتغنشتاين)

لكي نحصل على إدراك صحيح لرأي فتغنشتاين في حقل الأخلاق، من الضروري قبل كل شيء التذكير بعدد من النقاط في باب تصوير المعنى، وهو الموقف الذي اختاره (فتغنشتاين) في مرحلته الفلسفية الأولى.

يرى (فتغنشتاين) أن العالم مؤلف من الأمور الواقعة(2)، وهي بدورها تشتمل على أمور(3) . إن الوحدة المفهومية تمثل قضية والقضية بدورها تنظر إلى أمر واقعي

ص: 205


1- للمزيد من الاطلاع بشأن الربط والنسبة بين الواقعية الأخلاقية والمعرفة الأخلاقية وأقسامهما، انظر: ; (Miller ، Smith. 1997. pp. 399-410) (2003 ،ch. 1)
2- facts.
3- things.

ومشتمل على روابط تعمل على ربط الأشياء ببعضها في عالم الخارج. وإنه تبعاً ل__(فريغه)(1) - الذي كان يتحدّث عن توابع القضايا(2) - قد تحدّث عن روابط القضايا(3). إن القضية تعمل على بيان العلاقات بين أجزائها، وليس من الضروري أن تكون بين آحاد عناصر القضية ما بإزاء خارجي. وطبقاً لرأيه فإن القضية إنما تكون ذات معنى على القاعدة إذا كان لها .تصور. وإن الصدق والكذب يتفرّعان عن المعنى. فإذا تمّ تصوير قضية، كان هذا يعني أن هناك إمكانية لتصويرها ، ومن ثم ستكون تلك القضية ذات معنى، وإلا لن يكون لها معنى. فإذا كانت تلك الصورة متطابقة مع الواقعية في عالم الخارج، كانت تلك القضية صادقة وإلا فإنها ستكون كاذبة. فإن القضية القائلة: (إن القطة نائمة على الطاولة)، إنما تعبر عن وضع ممكن(4) إذا لم تكن القطة في الواقع نائمة على الطاولة، بمعنى أن بالإمكان تصورها على أساس التأليف والربط بین عناصر وأجزاء عالم الخارج. ولكنها حيث لا تكون ناظرة إلى أمر واقعي في عالم الخارج، فهي كاذبة.

إن للغة - طبقاً لتعاليم المعرفة الدلاية ل__(فتغنشتاين) - ماهية القضية، وللقضية بدورها ماهية تصويرية. فإذا كان الأمر كذلك فإن الناظر إلى ظواهر عالم الخارج وحده، وكل ما يبحث عنه في العلوم التجريبية - توسعاً - يمكن اعتباره كلاماً ذا معنى ولا يمكن خارج حقل العلوم التجريبية الحديث عن كلام محصل ذي معنى. ومن هذه الناحية لا نرى كبير فرق بين الرياضيات والمنطق والدين وغيرهما.

وعليه لنشاهد حالياً ما الذي يمكن قوله في أجواء (الرسالة المنطقية - الفلسفية) (1961 ،Wittgenstein)(5) ، في حقل الأخلاق والقضايا الأخلاقية؟

ص: 206


1- جوتلوب فريغه (1848 - 1925م) عالم رياضيات ومنطقي وفيلسوف ألماني. يُعد أشهر من اهتم بمنطق الرياضيات الحديثة والفلسفة التحليلية كان لعمله تأثير كبير في تأسيس فلسفة القرن العشرين وفي الدلاليات. يُعدّ أحد أكبر المناطقة بعد أرسطو.
2- functional proposition
3- relational proposition.
4- possible states of affairs.
5- سوف نطلق عليها من الآن فصاعداً عنوان (الرسالة) اختصاراً.

إن (فتغنشتاين) ينكر وجود القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا صراحة. إن مدلول هذا الكلام المتقدم هو أن القضايا الأخلاقية يجب أن تكون ضرورية كما هو حال القضايا المنطقية والرياضية؛ وذلك لأنها لا تتضمن إخباراً عن العالم المحيط بنا، وليست ناظرة إلى الأوضاع الممكنة ولكنها في الوقت نفسه تشابه القضايا المنطقية والرياضية من حيث كونها استعلائية (الفقرات: 6/41 و 6/421 1961 ،Wittgenstein). وبعبارة أخرى رغم أنه لا يمكن صبّ المفاهيم الأخلاقية في قوالب القضايا لتصنع قضية أخلاقية ذات معنى إلا أنها في الوقت نفسه تعبر عن رؤية الفرد إلى العالم لا يمكن للقضايا الأخلاقية أن تتخذ موقفاً إزاء العالم المحيط بنا وأحداثه، وإنما هي تخبر عن مجرد كيفية الرؤية الأخلاقية لمستخدم اللغة إلى العالم المحيط به. وإن المثال الذي يسوقه (فتغنشتاين) في (الرسالة) بهذا الشأن، مثال معبر وبليغ. فهو يقول في الفقرة (6/422): خذ بنظر الاعتبار الأحكام الأخلاقية التي يتم صبها في قوالب من قبيل القضايا القائلة: (يجب عليك أن لا تسرق)، و(يجب عليك أن لا تقتل) وما إلى ذلك. فلو سأل الشخص المخاطب بهذه الأحكام: حسناً، ما الذي سوف يحصل لو أني لم ألتزم بهذه القضايا الأخلاقية؟ فلو أشرنا - في مقام الجواب عن هذا السؤال لبيان حسن وقبح هذه الأمور - إلى النتائج المترتبة على هذه الأفعال، والاستعانة بها، سنكون قد خرجنا من دائرة الأخلاق؛ لأننا سنكون بذلك قد دخلنا في دائرة العالم ونكون قد اتخذنا موقفاً بالنظر إلى آثار هذه الأعمال في عالم الخارج، في حين أنه حيث لا يمكن العثور على القيم في العالم المحيط بنا، إذن لا يمكن قول كلام محصل وإيجابي في هذا الشأن. وفي الحقيقة لا يوجد لدينا - طبقاً لتعاليم (الرسالة) - شيء يمكن أن يندرج تحت عنوان الثواب والعقاب بمعناهما المتعارف؛ إذ أن لازم هذا الأمر هو النظر إلى كيفية تحقق الفعل في عالم الخارج. إن مدلول هذا الكلام هو أن الأحكام الأخلاقية تمثل أحكاماً سابقة، وإن صدورها من الفاعل الأخلاقي ليس له أي علاقة بالعالم المحيط بنا.

وبذلك فإن (فتغنشتاين) - فيما يتعلق بدائرة الأخلاق - يذهب إلى الاعتقاد بأننا ما دمنا نسير في عالم التجربة لا نواجه أي أمر يتعلق بدائرة أخرى (من قبيل: القيم

ص: 207

الأخلاقية). فإن كل ما يخضع للتجربة سيكون له شأن أنطولوجي مماثل للأمور الأخرى. لننظر إلى عبارة (فتغنشتاين) الآتية:

(لنفترض شخصاً عالماً مطلقاً، وأن هذا الشخص قد جمع کامل أحداث العالم في كتاب ثم لنفترض أن هذا الكتاب - الذي يحتوي على جميع وقائع العالم - قد اشتمل على مشهد يمثل جريمة قتل، وتحدّث عن جميع جزئيات وتفاصيل تلك الجريمة المروّعة بدقة. إن بيان هذه الواقعة لن يحتوي على أيّ قضية أخلاقية لأن القتل يتجلى في مرتبة سائر حقائق العالم أيضاً. ربما تثير قراءة هذه الأوصاف شعوراً بالغضب أو المقت، ولكن مع ذلك لن يكون هناك شيء غير الحقيقة والواقع) (فتغنشتاین، 1379، ص 333-325)

إن كل ما من شأنه أن يساعدنا على بيان حكاية بشكل أدق وأكثر وفاءً إلى حقيقة ما يحدث في العالم المحيط بنا عبر اللغة يكون أجنبياً عن الأمور والقيم الأخلاقية بالمرة.

لننظر أيضاً إلى الفقرات الآتية:

(إذا كان البناء قائماً على أن تحقيق الخير والشر يغير إرادة العالم، فإنه إنما سوف يستطيع تغيير حدود العالم، وليس الأمور الحقيقية أو ما يمكن بيانه بواسطة اللغة. وباختصار يجب أن يكون تأثيره بحيث يكون العالم بشكل كامل عالماً آخر. وبعبارة أخرى: يجب أن يتعرّض العالم بوصفه كلاً إلى القبض والبسط. إن عالم الإنسان السعيد يختلف عن عالم الإنسان الشقي) (الفقرة : 19616/43 ،Wittgenstein).

(إن الأخلاق لا تنبس عن العالم ببنت شفة. إن الأخلاق يجب أن تتحدث - مثل المنطق - عن شرائط العالم) (نقلاً عن ماونس، 1379، ص 122)

إن الأخلاقيات حيث لا تكون تجريبية لا يمكنها التأثير في الأمور الواقعية ومن هنا فإنها تكون بذلك شبيهة بالمنطق، الذي يحدد إطار فهمنا للعالم المحيط بنا، كذلك الأخلاق أيضاً؛ إذ يمكن للأخلاق في الحد الأقصى أن تبين لنا حدود العالم

ص: 208

فهي عاجزة عن إطلاق الكلام الماهوي في حقل العالم المحيط بنا.

صحيح أن عالم الإنسان السعيد يختلف عن عالم الإنسان الشقي، وأن عالم الإنسان الأخلاقي يختلف عن عالم الإنسان اللاأخلاقي (طبقاً للفهم المتعارف للحياة الأخلاقية)، إلا أن هذا الاختلاف لا ينبثق عن عالم الخارج، وإنما يعود إلى مجرّد الاختلاف في رؤية هذين الشخصين إلى العالم.(1)

إن (فتغنشتاين) - طبقاً لما تقدم - يتحدث عن عدم وجود نسبة تربط الأوصاف والقضايا الأخلاقية بالعالم المحيط بنا. وفي أجواء (الرسالة) لا يمكن إطلاق كلام ذي معنى في حقل الأخلاق والقضايا الأخلاقية؛ وذلك لأنها تفتقر إلى العناصر الأصلية لاحتواء المعنى أو امتلاك التصوير. إن هذه القضايا الفاقدة للتصوير - طبقاً لتعاليم (فتغنشتاين) - إنما تظهر نفسها فقط، ولا يمكن إبداء أي كلام محصل بشأنها. كما أنه في رسالته إلى (برتراند راسل) يرى أن أهم مسألة في الفلسفة تكمن في الفصل والتمييز بين القول والإظهار إن على الفيلسوف من حيث كونه فيلسوفاً أن يعيّن الحد بین الأمور التي تقال وتلك التي لا تقال في فضاء (الرسالة) تنتمي الأبحاث الأخلاقية - من قبيل: حدود مفهوم الحُسن وقبح الإضرار بالغير وما إلى ذلك - إلى دائرة الأمور التي لا تقال، وعليه لا يكون من الممكن بيانها بحسب الأصول. وقد سمّى (فتغنشتاين) في (الرسالة) تلك الظواهر غير المقولة التي تظهر نفسها، أموراً ملغزة. إن الإلغاز الذي يشير له يتضمن عناصر سلبية، قبل أن يتضمن عناصر إيجابية.

طبقاً لما تم بحثه حتى الآن يمكن اعتبار أخلاق (الرسالة) أخلاقاً ذات نزعة لا معرفية(2) . وعلى أساس هذا الفهم فإن القضايا الأخلاقية المشتملة على الأوصاف

ص: 209


1- من الضروري هنا التذكير بهذه النقطة وهي أن الذي بحثناه هنا تحت عنوان الأخلاق عند (فتغنشتاين)، يقوم على القراءة السائدة لكتابه (الرسالة المنطقية - الفلسفية). وفي هذه القراءة - خلافاً لرأي بعض أعضاء حلقة فينا - يكون للأمور التي يمكن إظهارها في فضاء هذه (الرسالة) محلاً من الإعراب. وطبقاً لهذه الرؤية تكون الأمور الأخلاقية من الأمور التي يمكن إظهارها، من دون أن يكون لها معنى بطبيعة الحال؛ لأنها تفتقر إلى التصوير. إن فهم (فتغنشتاين) للأخلاق في أجواء (الرسالة)، بين الشارحين ل__(فتغنشتاين) أمر مجمع عليه، وقلما احتدم الاختلاف بينهم في هذا الشأن.
2- .Non-cognitivist

الأخلاقية البسيطة(1)، من قبيل: الحسن والقبح وما يجب وما لا يجب، والأوصاف الأخلاقية العظيمة(2) من قبيل: الوفاء بالعهد والإحسان، وعدم الإضرار بالآخرين وما إلى ذلك من الأمور التي لا تقبل الاتصاف بالصدق والكذب بحسب الأصول، ولا يمكن التحقيق والبحث بشأنها بشكل عقلاني. وبعبارة أخرى إن (فتغنشتاين) المتقدم - في الحقيقة - فضلا عن كونه في حقل الأخلاق مناهضاً للنزعة الواقعية(3) ويرى العالم المحيط بنا مجرّداً من القيم الأخلاقية، فإنه كذلك يعتقد بعدم إمكانية العثور على قضايا أخلاقية من خلال الحجية الأخلاقية والصدق والكذب يرى (فتغنشتاين) أن المعرفة - بحسب الأصول - عبارة عن قضية معرفية(4)، ويعتبر القضية تبعاً لأصل النسيج(5)عند (جوتلوب فريغه) وحدة ذات معنى. وبعبارة أخرى: يجب أن يغدو بالإمكان إدراج كل ما يقدم معرفة ضمن إطار القضايا. وكل ما يندرج تحت عنوان القضايا الأخلاقية، حيث لا يمكن تصويره، لا يكون في الحقيقة من القضايا، ولذلك لا يمكن له أن يقدم لنا معرفة بحسب الأصول.(6)

الاستنتاج: الافتراق والاشتراك

كما رأينا فإن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) على خلاف النزعة الواقعية، ولكنها في الوقت نفسه أخلاق معرفية. إن المفاهيم الأخلاقية - من وجهة نظر (العلامة الطباطبائي) - ليس لها مدلول وما بإزاء في العالم الخارجي؛ وذلك لأنها إنما تعدّ من قبل الفاعل الأخلاقي واعتبار المعتبر ، وليس هناك من طريق مباشر إلى الأمر الواقعي. وفضلا عن ذلك حيث يذهب العلامة الطباطبائي إلى القول بأن القضايا الأخلاقية تندرج في ضمن المدركات والتصديقات - حتى وإن كانت تلك

ص: 210


1- Thin moral properties
2- Thick moral properties
3- Anti- real properties
4- Propositional knowledge
5- Context Principle.
6- للمزيد من التعرف على التعاليم الأساسية في (الرسالة)، وفهم (فتغنشتاين) للأخلاق في مرحلته الفلسفية الأولى (المتقدمة)، انظر: (نورمن ملكم وآخرين، 1384)؛ (دباغ، 1387)؛ (1985 ،Ayer )؛ (2006 White)؛ (1 Barrett، 1991 ، part).

المدركات ،والتصديقات من قبيل المدركات الاعتبارية والتصديقات المجازية - يجب اعتبارها ضمن دائرة الأخلاق المعرفية. وبعبارة أخرى: إن القضايا الأخلاقية في هذه الرؤية تقبل الاتصاف بالصدق والكذب بحسب القاعدة، وإن كان ذلك لا على نحو المدركات الحقيقية في الكشف عن العالم الخارجي وقبول الاتصاف بالصدق والكذب.

وعلى هذا الأساس يمكن تبويب البحث بشأن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) من مختلف الزوايا الفلسفية، على النحو الآتي:

1 - من الزاوية الأنطولوجية: إن القيم الأخلاقية - أو القيم الأخلاقية البسيطة على حد تعبير (برنارد وليمز)(1) ، من قبيل (الحُسن و القبح، وما يجب، وما لا يجب، وغير ذلك من القيم الأخلاقية البسيطة الأخرى) - ليس لها تعين أنطولوجي في العالم المحيط بنا. وبعبارة أخرى إن الأوصاف من هذا القبيل لا تعد جزءاً من مهر وجهاز العالم الخارجي. وبهذا المعنى يعدّ أشخاص من أمثال : (هير) و(ميكي)، مخالفين للنزعة الواقعية.

2 - من الزاوية الدلالية: إن (العلامة الطباطبائي) - خلافة للفلاسفة الآخرين من أمثال (مور)(2)- يرى قابلية تعريف مفردات من قبيل : الحُسن والقبح، وما يجب. : وبعبارة أخرى : إنه يذهب إلى الاعتقاد بأن الحسن ليس صفة بسيطة، وإن بالإمكان بيان وتحديد حدودها المفهومية من خلال الاستعانة بسائر التصورات الأخرى. ومن هذه الناحية يمكن مقارنة العلامة الطباطبائي بأصحاب النزعة الطبيعية، واعتبار موقفه شبيهاً بموقفهم.

3 - من الزاوية الإبستيمولوجية على الرغم من أنطولوجية العلامة الطباطبائي

ص: 211


1- برنارد ولیامز (1929 - 2033 م) : فيلسوف أخلاقي إنجليزي. وصف بأنه أهم وأعظم فيلسوف أخلاقي بريطاني في عصره، تضمنت آثاره مسائل في الذات والحظ الأخلاقي، والأخلاق وحدود الفلسفة والحق والصدق. تم منحه وسام الفروسية وصار يلقب رسمياً ب__(السير وليامز) سنة 1999 م.
2- جورج إدوارد مور (1873 - 1958م) : فيلسوف بريطاني أثر في كثير من الفلاسفة البريطانيين المعاصرين دافع عن نظريات الفطرة السليمة، وشجّع على دراسة اللغة العادية بوصفها أداة للفلسفة.

مجردة من القيم الأخلاقية إلا أن هذا الكلام لا يلزم منه القول بأن المدعيات الأخلاقية لا تقبل الاتصاف بالصدق والكذب بحسب الأصول والقواعد، ولا تكون معرفية. بل حيث يذهب العلامة الطباطبائي إلى اعتبار المدعيات الأخلاقية في زمرة المدركات يمكن الإذعان - بحسب الأصول - بكونها معرفية. إن موقف العلامة الطباطبائي في هذا الشأن يذكرنا بموقف الفيلسوف الألماني (إيمانوئيل كانت)، رغم اختلافهما من حيث التبويب والمبادئ والمباني. إذ يذهب (كانت) بدوره إلى القول بأن عالم الظواهر مجرد من القيم الأخلاقية، ويرى أن القيم الأخلاقية لا يوجد لها تعين أنطولوجي في العالم المحيط بنا. ومن هنا كان يأخذ وصف التعميم والضرورة لهذه الأحكام بنظر الاعتبار. وفي الحقيقة فإن المدعيات الأخلاقية في فلسفة (كانت) تنظر إلى الموضوع الميتافيزيقي وعالم الذوات المعقولة. بيد أننا - من حيث خلوّ العالم المحيط بنا من القيم الأخلاقية في المنظومة الكانتية - لا نستطيع أن نستنتج عدم معرفية هذه المدعيات إن المدعيات الأخلاقية تعدّ قضايا تركيبية سابقة مثل المدعيات الرياضية، وبذلك فإنها تتصف بوصف التعميم والضرورة، وتقدم لنا معرفة رغم انسلاخها من العالم المحيط بنا.

ومن ناحية أخرى فإن فيلسوفاً مثل (ميكي) يتماهى مع (العلامة الطباطبائي) و(إيمانوئيل كانت) في القول بعدم العثور على القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا، ولكنه يذهب - خلافاً لهما - إلى الاعتقاد بوقوع الأخطاء التنظيمية في إحراز المعرفة الأخلاقية من قبل الفاعلين وعليه فإن (ميكي) يخالف النزعة الواقعية، كما أنه يرى أنه لا يمكن أن تكون لدينا في الأساس - معرفة أخلاقية، ولكن العلامة الطباطبائي - في قباله - يذهب مثل (كانت) إلى مخالفة النزعة الواقعية، ولكنه في الوقت نفسه يعتبر من أصحاب النزعة المعرفية. وفضلا عن ذلك يجب فصل موقف ورؤية (العلامة الطباطبائي) عن موقف القائلين بالعدمية النهلستية.(1) نعم، إن العلامة الطباطبائي يتفق مع العدميين في خلوّ العالم المحيط بنا من القيم الأخلاقية، ولكنه يختلف معهم عندما يتجاوزون الحدود في إلغاء التعهد الأخلاقي والذهاب إلى عدم وجود

ص: 212


1- العدمية أو النهلستية (nihilism) مذهب ينكر أن يكون للمبادئ الأخلاقية أي أساس موضوعي

إلزام يفرض على الناس الانصياع للسلوك الأخلاقي في تنظيم علاقاتهم اليومية.

وعليه يمكن لنا - طبقاً لما تقدم - مقارنة الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) بالأخلاق عند (فتغنشتاين).(1) وفي هذا الشأن من المناسب أن نعدد الأبعاد الأخلاقية عند (فتغنشتاین) من مختلف الزاوية على النحو الآتي باختصار:

1 - الناحية الأنطولوجية: لا يمكن العثور على القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا. إن العالم عبارة عن جميع الأمور الواقعة، وإن القيم الأخلاقية ليس لها نسبة إلى هذه الأمور الواقعة.

2 - الناحية الدلالية: إن الوحدة المفهومية عند (فتغنشتاين) المتقدم، تمثل قضية. وفي هذا الإطار لا يوجد للمفاهيم الأخلاقية من قبيل : الحُسن والقبح، مدلول وما بإزاء، وليس لها من تطبيقات كما أن تلك القضايا الأخلاقية التي تتألف من عدد من الألفاظ والمفاهيم لا معنى محصل لها؛ إذ أنها لا تنظر إلى حالة الأمور الممكنة في العالم المحيط بنا، ولذلك لا يوجد تصوير لها .

3 - الناحية الإبستيمولوجية في أجواء (الرسالة) يعتبر صدق وكذب القضايا متفرعاً عن مفهوميتها . وبعبارة أخرى: إن القضية المفتقرة إلى المعنى لا يمكن لها في الأساس أن تكون مشمولة لصدق وكذب الواقع، ولا تحمل قيمة الصدق ومحتواه. وعليه فإن القضايا الأخلاقية التي هي من قبيل المعرفة الجمالية لا تحتوي على

مضمون معرفي، ولذلك فإنها لا تقبل الاتصاف بالصدق والكذب.

وعليه يمكن لنا أن نقدم هنا مقارنة بين الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) والأخلاق عند (فتغنشتاين)، وذلك على النحو الآتي:

1 - من الناحية الأنطولوجية: يتفق العلامة الطباطبائي وفتغنشتاين في مخالفة

ص: 213


1- فيما يتعلق بالأعمال التطبيقية باللغة الفارسية بين العلامة الطباطبائي وفتغنشتاين على سبيل المثال، انظر: (كلانتري، 1386). حيث يقوم هذا الأثر بالمقارنة بين العلامة الطباطبائي وفتغنشتاين المتأخر، وفي الوقت نفسه يحصر البحث في مقولة الأخلاق فقط.

النزعة الواقعية، واعتبار العالم عارياً من القيم الأخلاقية.

2 - من الناحية الدلالية : يذهب (العلامة الطباطبائي) - خلافاً ل__(فتغنشتاين) - إلى القول بأن للمفاهيم الأخلاقية - بنحو ما وفي وعاء ما - ما بإزاء ومدلول خارجي. وإن الوعاء المذكور وعاء ذاتي ومختلف عن العالم المحيط بنا . وأما (فتغنشتاين) فيرى أن العالم المحيط بنا يمكن بحثه بوصفه وعاء يمكن للأمور أن تستقر فيه على نحو أنطولوجي. ولازم هذا الكلام أن القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا حيث لا تحتوي على تعين أنطولوجي، فإن المفاهيم الأخلاقية ليس لها مدلول أو ما بإزاء خارجي.

3 - من الناحية الإبستيمولوجية: يذهب العلامة الطباطبائي - خلافاً ل__(فتغنشتاين) - إلى القول بأن المدعيات الأخلاقية تقبل الاتصاف بالصدق والكذب وتقديم المعرفة. بيد أن (فتغنشتاين) حيث يرى أن المدعيات الأخلاقية فاقدة للمعنى، فإنه يؤكد على عدم قابلية المدعيات الأخلاقية للاتصاف بالصدق والكذب وعدم اشتمالها على المضمون والمحتوى.

المصادر:

- ابن سينا (1371)، المباحثات إعداد محسن بیدار فر، قم بیدار .

- الحائري، مهدي (1384)، كاوش هاي عقل عملي طهران مؤسسه بژوهشي حكمت و فلسفه إيران. (مصدر فارسي).

- داوري، رضا (1363)، (ملاحظاتي در باب إدراكات اعتباري) الذكرى الثانية للعلامة الطباطبائي، طهران، مؤسسة مطالعات و تحقیقات فرهنگي (مصدر فارسي)

- السبحاني، جعفر (1368)، حُسن وقبح عقلي، طهران، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي. (مصدر فارسي).

- سروش عبد الكريم (1366) ، تفرّج صنع طهران انتشارات سروش. (مصدر فارسي).

ص: 214

- سروش، عبد الكريم [تحت النظر] (1360)، جاودانگي وأخلاق، ذكرى الشهيد المطهري، ج 1. (مصدر فارسی)

- سروش، عبد الكريم (1358) دانش وارزش طهران انتشارات ياران (مصدر فارسي).

- سروش عبد الكريم (اعتباريات)، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، طهران، بنياد دايرة المعارف بزرك اسلامي، ج 13. (مصدر فارسي).

- السهروردي شهاب الدين (1372) مجموعة مصنفات شيخ الإشراق إعداد هنري ،كوربان طهران بژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي ثلاث مجلدات.

- دباغ سروش (1378) سكوت :ومعنا: جستارهايي در فلسفه ،ویتگنشتاین، طهران، صراط، التنقيح الثاني. (مصدر فارسي).

- العلامة الطباطبائي، محمد حسين (1385)، أصول فلسفه و روش رئاليسم (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي)، تقديم وتهميش مرتضى المطهري، طهران، انتشارات صدرا، ج 2، (مصدر فارسي).

- العلامة الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسسه مطبوعاتي إسماعيليان، ج 2.

- كلانتري، عبد الحسين (1386)، معنا وعقلانیت در آراي علامه طباطبائي وبيتر وينج (المعنى والعقلانية في آراء العلامة الطباطبائي وبيتر فينتش)، قم، طه (مصدر فارسي).

- گرامي محمد علي (1359) فلسفه شناخت اعتباریات جهان بيني، ايدئولوژي، قم، انتشارات أميد. (مصدر فارسي)

- ماونس هاوارد (1379)، درآمدي بر رساله ویتگنشتاين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: سهراب علوي نيا طهران، طرح نو.

- مدرسي، محمد تقي (1360) فلسفه ارزش ها، قم. (مصدر فارسي).

- المطهري، مرتضی، نقدي بر مارکسیسم، طهران، انتشارات صدرا. (مصدر فارسي).

ص: 215

- نراقي آرش (1387)، (ملاحظاتي درباره اختلاف آراي طباطبائي ومطهري در خصوص رابطه احکام حقيقي واعتباري)، كتاب ماه فلسفه، العدد: 13. (مصدر فارسي).

- نورمن ملكم وآخرون (1364)، ویتگنشتاین و تشبه نفس به چشم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: ناصر زعفرانتشي طهران، هرمس .

- ویتگنشتاین، لودويك (1379)، (خطابه اي در باب اخلاق) ترجمه إلى اللغة الفارسية: مالك حسيني، فصلية أرغنون الفلسفية الأدبية الثقافية، العدد 16.

Ayer، J (1985) ، Wittgenstein، USA: The University of Chicago press.

Barrett. C (1991). Wittgenstein on Ethics and Religious Belief. UK USA: Blackwell.

Hume. David (1969). A Treatise of Human Nature. Book ii. Ethics. Penguin Books.

Miller، A )2003(، An Introduction to Contemporary Meta Ethics، Oxford: Clarendon Press.

Smith، M )1997(، “Realism، A Companion to Etics، Singer، P (ed.)، Oxford: Blackwell.

White، R (2006) Wittgenstein's Tractatus Logico-Philosophicus، London New York: Continum.

Wittgenstein. L (1961). Tractatus Logico-Philosophicus. trans. Pears. D. and Mc

Guinns. B. London and New York: Routleage and Kegan Paul. Revised Edition 1974.

ص: 216

العناصر البنيوية في فلسفة الأخلاق عند الملا صدرا

محمد لغنهاوزن

ترجمة طارق عسيلي

خلاصة:

عرفت تيّارات كثيرة من البنيوية الأخلاقية. فهناك البنيوية الأخلاقية الإبستيمولوجية وهي الأطروحة القائلة باكتساب المعرفة أو المبرّر الأخلاقي عن طريق الموقف العملي والتدبّر فيه أو الإجراءات المعدّة لتوضيح الموقف العملي. وهناك البنيوية الأخلاقية الدلالية وهي الرأي القائل إن الحقائق والمعاني الأخلاقية قائمة على هذه الظروف أو الإجراءات. وأخيراً، هناك البنيوية الأخلاقية الميتافيزيقية التي ترى أن طبيعة ووجود الحقائق الأخلاقية والخصائص قائمة في خصائص الموقف العملي أو الإجراءات التي يظهر فيها هذا الموقف لأن وجهة النظر العملية تفهم بطريقة مختلفة في تقاليد الفلسفة الأخلاقية المختلفة، كما يمكن أن نجد بنيويات أرسطية وهيومية وكانطية وهيغلية ونيتشوية وغيرها من أشكال البنيوية. أما من جهة فلسفة الملا صدرا الأخلاقية فهي الفلسفة التي تدمج خصائص الفلسفة الإسلامية المشائية، والتراث العرفاني الإسلامي. وهذان التراثان يحويان عناصر بنيوية مهمة : للأول جذور في مبادئ العقل العملي التي وضعها أرسطو، وللثاني جذور في روحية تهذيب النفس البارزة في المصادر الإسلامية والتي تطورت على أيدي العرفاء. وهناك أمثلة على التراثين نوقشت في سياق عرض العناصر البنيوية لرسالة الملا صدرا، الأصول الثلاثة.

ص: 217

ما هي البنيوية الأخلاقية؟

يمكننا أن نفهم البنيوية الأخلاقية على أنها موقف في فلسفة الأخلاق وفي الأخلاق المعيارية. ففي الأخلاق المعيارية، يقدم البنيويون معياراً للأحكام الأخلاقية قد يكون مختلفاً عن المعايير التي يؤيّدها النفعيون، والساعون للكمال والحدسيون. إذ يتم الدفاع عن بعض المزاعم الأخلاقية مقابل مزاعم بديلة من خلال الاحتكام إلى المعايير البنيوية، مثل الإجراءات المعدّة لتوضيح التفكير العملي. غير أن النقاش المعاصر للبنيوية الأخلاقية ركز بمعظمه على العقيدة كنموذج للنظرية الميتا أخلاقية(1)، وهي نظرية معدّة لوضع حلول للمشاكل المرتبطة بإبستمولوجيا الأخلاق، ودلالات المصطلحات الأخلاقية، وميتافيزيقا الأخلاق، وسيكولوجيا الأخلاق.

في ما يلي، سأتحدث عن عدد من نماذج البنوية، وسأعرض تفسيراً للأساس المشترك الذي تقوم عليه هذه النماذج. لكن رغم اعتقادي بوجود بعض أشكال البنيوية الأخلاقية على المسار الصحيح، فإنني لن أدافع عن نظرية بنيوية محددة هنا أو أعرض النقاشات الموجودة في النصوص الفلسفية اللازمة لهذا النوع من الدفاع. لأن هدفنا تفسيري وتحليلي.

يمكن توصيف البنيوية الأخلاقية بأنها النظرية التي ترى أن المعايير الأخلاقية تتأسس على الموقف الأخلاقي أو وجهة النظر الأخلاقية. وقد صاغ اسم الموقف جون راولز(2) John Rawls ، الذي نسبه إلى كانط، وتبنّاه بعده عدد من الكتاب الذين ينطلقون إلى حد كبير من مواقف عرّف بها ،راول، والذي دافع عن نماذج من البنيوية

ص: 218


1- من أجل نظرة عامة أنظر : (Bagnoli، 2011( (Bagnoli، 2011; Bagnoli، 2011(; (Street، What Is Constructivism in Ethics and Metaethics?، 2010(; and the Introduction to (Lenman Shemmer، 2012).
2- بدأ راولز استعمال اصطلاح «البنيوية الكانطية» في محاضراته حول فلسفة الأخلاق عام 1970، وكانت بؤرة تركيزه محاضرات دووي عام 1980 في جامعة كولومبيا Rawls، Lectures on the History of Moral Philosophy .(2000)، xii-xiv; (Rawls، Kantian Constructivism in Moral Theory، 1980

الأخلاقية التي استلهمت من أرسطو(1)، وسبينوزا(2)، وهيوم(3)، وهيغل (4)، ونيتشه(5) أو بعض الفلاسفة السابقين عوضاً عن كانط (6). عند صدور کتاب کرستین کورسغارد KorsgaardChristine (7)، التلميذة السابقة لراولز، باتت البنيوية نظرية مهمة في الميتا أخلاق التي كانت تتباين في الغالب مع الواقعية الأخلاقية والتعبيرية. كما شكلت البنيوية الأخلاقية بديلاً عن النظريات اللامعرفية بزعمها أنها لا تحتاج إلى التزامات أنطولوجية للكيانات الميتافيزيقية غير المألوفة التي رأى ج . ل . ماكي .. Mackie أنها من مسلمات مزاعم الحقيقة الأخلاقية. ورغم تقديم كورسغارد لبنيويتها باعتبارها نظرية كانطية، فإنها سعت للتوفيق بين هذا الموقف وبين المقاربة الأرسطية للأخلاق ؛ وبيّنت أنه رغم الاختلافات وسوء الفهم بين الأرسطيين والكانطيين، يمكن أن توضع كثير من الأفكار الريادية بين الفلسفات الأخلاقية لهذين المفكر ينفي إطار بنيوي تتوافقان فيه ويرفد بعضهما الآخر .(8)

وإذا رجعنا بعد ذلك إلى التراث الفلسفي في الإسلام من أجل البحث فينوع الميتا أخلاق الذي يتناسب معها أكثر، نجد ما يبشر بنوع من البنيوية الأرسطية بسبب التأثير الأرسطي القوي. ساعدت المناقشات الأرسطية للعقل العملي، التي تتفق مع التفسيرات الدينية للتعاليم الأفلاطونية، على فهم التعاليم الأخلاقية الإسلامية التي أتى بها الوحي لكن في الفلسفة الإسلامية المتأخرة، بات التصوف العقلي الذي شكل ابن عربي ركيزته تياراً . ركيزته تياراً في غاية القوة. وبرز في الوقت عينه، نقل الموضوعات

ص: 219


1- (Korsgaard C. M. 1996). ch. 8; (Korsgaard C.. The Constitution of Agency. 2008). part 2; (LeBar. 2008).
2- (Jarrett 2014); (Zuk، 2015 .
3- (Street. Coming to Terms with Contingency: Humean Constructivism about Practical Reason 2012).
4- (Laitinen, forthcoming), available at: https://www.academia.edu/8263284/Hegelian_constructivism_in_ethical_theory.
5- (Katsafanas. 2013).
6- بالإضافة إلى كتب راولز وكورسغارد المذكورة لا بد من ذكر (1989 O Neill).
7- (Korsgaard et al، Sources of Normativity، 1996(); (Korsgaard C. M. 1996).
8- (Korsgaard C.. The Constitution of Agency. 2008). 174206-; (Korsgaard et al. Sources of Normativity. 1996). 147-156.

الأخلاقية الرواقية إلى الأدب الإسلامي. لكن لا يمكننا أن نعرف بدقة كيف تمزج أنسجة الأفكار الأخلاقية مع غيرها، أو تفرض نفسها من خلال تراث الفكر الأخلاقي الإسلامي. لكن ما يمكننا أن نلاحظه هو أن الموضوعات البنيوية المختلفة ظاهرة في كل مكان وما زالت مستمرة.

يصرّ البنيويون على أن المبادئ الأخلاقية الأساسية تنشأ من شروط الاختيار الأخلاقي أو بطريقة ما تُبنى عليه. وهذا مبهم لجهة اشتماله على مجموعة واسعة من المواقف البنيوية والبنيوية كما عرفت هنا لا تستدعي ضرورة أن تنتج الإلزامات الأخلاقية عن أفعال إرادية محددة(1) على الرغم من وجود أشكال ذاتية وموضوعية من البنيوية الأخلاقية.

يدافع بعض البنيويين مثل شارون ستريت Sharon Street (2)عن النموذج الهيومي من البنيوية، الذي يركز على الرغبات والحالات العاطفية التي تعتبر أساسية للإرادة الأخلاقية، لأن هذه الحالات تجعل الدافعية ممكنة. ويدافع آخرون عن الأشكال الأكثر عقلانية من البنيوية الكانطية، والهيغلية، أو الأرسطية، التي تعتبر معايير التفكير العملي أساساً للأخلاق ومهما كانت الأشكال التي يدافعون عنها، فإن البنيويين يعتقدون أن الأحكام الأخلاقية هي نوع من الأحكام المعيارية، أي، أن الأحكام الأخلاقية تحتكم إلى المعايير أو إلى مبادئ السلوك والتقييم، ومن خلال هذا النوع من الاحتكام للمعايير المشتركة تحصل الأحكام الأخلاقية على القوة البين ذاتية التي تبديها.

وبينما البنيوية الأخلاقية هي مجموعة من الآراء الميتا أخلاقية التي ترى أن الأخلاق تنشأ من ظاهرة تبنّي وجهة نظر عملية فهناك نظرية في الإرادة الإنسانية وثيقة الصلة بها البنيوية، التي ترى أن الإرادة تتشكل من خلال المعايير التي تحكم وجهة النظر العملية. وقد استخدم دمج كورسغارد للمكونات الأرسطية والكانطية من

ص: 220


1- يرفض وود نسبة البنيوية الأخلاقية إلى كانط بسبب تفسيره لها بهذه الطريقة أنظر : Wood، Kantian Ethics .2008). 107
2- (Street، Coming to Terms with Contingency: Humean Constructivism about Practical Reason، 2012).

أجل إعداد نماذج من البنيوية وأنا أعتقد أن ثمة مكوّنات شبيهة تظهر في المنظومة الأخلاقية الإسلامية عند الملا صدرا للتعبير عن الرؤية البنيوية للإرادة والرؤية البنيوية للأخلاق / الروحانية.

ولأن البنيويين الأخلاقيين يرون أن الحقائق الأخلاقية مرتبطة بوجهة النظر العملية فإن البنيويين الأخلاقيين يرفضون تلك الأشكال من الواقعية التي تحتاج إلى حقائق أخلاقية للتلاؤم مع الوقائع الأخلاقية المستقلة عن المواقف الإنسانية المثالية أو الواقعية. ونظراً لأن الواقعية الأخلاقية تعرف بطريقة تحتاج إلى استقلال ذهني، فأحياناً توصف الأخلاق البنيوية بأنها أخلاق معادية للواقعية؛ لكن لأن البنيويين الأخلاقيين لا ينكرون وجود الحقائق والصفات الأخلاقية بالإجمال، فإنهم يكرهون وصف أنفسهم بأعداء الواقعية. وهكذا يمكننا أن نعرف البنيوية الأخلاقية الميتافيزيقية بأنها الموقف الذي يرى أن طبائع ووجودات الحقائق والصفات الأخلاقية تتأصل في خصائص الموقف العملي أو الإجراءات التي تظهر ذلك الموقف، إما في الحياة الحقيقية أو في شكل مثالي. وإن كان هذا النوع من البنيوية الأخلاقية الميتافيزيقية لا ينكر وجود كل الحقائق والصفات الأخلاقية، إلا أنه ينكر أن المبادئ الأخلاقية والقيم، والإلزامات، والفضائل موجودة بشكل مستقل عن الإرادة الإنسانية أو إضفاء المثالية على الإرادة الإنسانية. وهكذا سيكون أحد أشكال البنيوية الميتافيزيقية (الكانطية) الرأي القائل إن ما يجعل السرقة خطأ من الناحية الأخلاقية هو أن السرقة إضعاف لإرادة المرء من خلال ما تسببه من تناقض عملي. رغم أن ارتباط المسائل الميتافيزيقية بوجود الحقائق والصفات الأخلاقية المستقلة عن العقل جذب الكثير من الانتباه (وربما انتباه مفرط) في فلسفة الأخلاق المعاصرة، كان البنيويون مهتمين إلى أقصى الحدود بالمسائل الإبستيمولوجية.

ليست البنيوية الإبستمولوجية مجرد وجهة نظر ترى أن بعض الإجراءات أو التأملات حي الطبيعة الإرادة والمعيارية التي تبين أنها وسائل نافعة لمعرفة شيئ عن الأخلاق كما يمكننا استعمال المنهج الاختباري كوسيلة للحصول على المعرفة

ص: 221

بتركيب مادة كيميائية(1) . فالمدعى أقوى من هذا بكثير. فممارستنا للتأمل والتبرير الأخلاقي (سواء أتجسدت في مناهج المعالجة أو في بعض خصائص المواقف العملية) ستمكننا من الوصول إلى المعتقدات الأخلاقية المعروفة، والمبررة، أو المعقولة بسبب البنى والمعايير الأساسية التي يجب أن تتكيف المعتقدات الأخلاقية معها من أجل اتخاذ المواقف العملية. فالمعرفة الأخلاقية (التبرير، الوسطية) تكتسب عن طريق ممارسة الأحكام الأخلاقية الإجراءات الأخلاقية، الموقف الأخلاقي) لأن هذه الممارسات أساسية للمعرفة الأخلاقية (التبرير الوسطية)، باختصار، النجاح الإبستيمولوجي حيال المسائل الأخلاقية هو في الأساس مبني على الموقف العملي (من جديد الحقيقي أو المثالي). تختلف البنيوية الإبستيمولوجية بشكل واضح عن الرأي الذي تبنّاه الواقعيون اللا - طبيعيون حيال البديهيات الأخلاقية. يعتقد البنيويون إذا وفّرت البديهيات الأخلاقية أي تبرير للاعتقادات الأخلاقية، فذلك لأنها مؤشرات على مقتضيات (أو الفرضيات المسبقة) تبنّي وجهة النظر العملية، وليس لأن البديهيات توفر لنا إطلاله إلى عالم الحقيقة الأخلاقية المستقلة عن إرادتنا.(2) قد يكون الشكل الدلالي من البنيوية الأخلاقية هو الشكل الذي تتأسس وفقه معاني المصطلحات الأخلاقية أو الحقائق الأخلاقية في الموقف العملي أو في الإجراءات المعدّة لتوضيح هذا الموقف. وبتعبير أدق إن كيفية تحديد العلاقة المؤسسة سيكون كافياً لوضع نظرية بنائية جزئية.

رغم أن البنيوية الأخلاقية هي بالدرجة الأولى أطروحة إبستمولوجية(3)، يمكن إعادة تشكيلها لتنتج مواقف دلالية أو ميتافيزيقية بالطرق التي أشرنا إليها أعلاه. ورغم استقلالية المواقف الإبستيمولوجية والدلالية والميتافيزيقية، فإنها إذا جمعت معاً تتجه نحو شكل متماسك وشامل من البنيوية الأخلاقية. أما أهم ما يميّز البنيوية الأخلاقية

ص: 222


1- يرفض (2011 Enoch) فكرة أن تكون البنيوية نظرية إبستيمولوجية لو فهمت بأنها تعني هذا: «نحن نوافق - بنيويون وغير بنيويين على حد سواء - أننا نوظف الإجراءات المعرفية لكي نعرف أن الحقائق الأخلاقية والإجراءات (ربما جزئيا) تحدد ما بررناه باعتقادنا. وهذا الأمر المعروف لا يستلزم البنيوية».
2- دافع ريتشارد برايس عن نوع من البنيوية، كما قدم روبرت أودي دفاعا مهما عن البنيوية الأخلاقية خلال مهنته وفي أحدث كتاب له. (2013 Audi).
3- (See the contributions of Lenman and Tiberius in (Lenman Shemmer، 2012.

عن أهم النظريات المنافسة لها هو أنها تتفادى الصعوبات الشائعة للنظريات اللا معرفية بدون إثارة الاعتراضات الإبستيمولوجية التي أفسدت الواقعيين اللا طبيعانيين الذين زعموا أن البديهيات الأخلاقية توفر نوعاً من إدراك الحقائق الأخلاقية اللا طبيعانية. البديل الذي قدمه البنيويون هو الذي ينشأ فيه تبرير أخلاقي من التفكير بالمعايير المؤسسة في قدرة الاختيار الإنسانية والموقف العملي. الحدسيات الأخلاقية ليست شكلاً من الإدراك المباشر للحقائق والملكات الأخلاقية، بل هي علامات تشير مؤقتاً إلى أن الشروط اللازمة للتبرير قد تحققت.

من المسائل الجاذبة للفلاسفة الذين يميلون إلى الطبيعانية في البنيوية الأخلاقية، منذ مناقشات ،راولز، أنها تبشر بنظرية أخلاقية بدون التزامات ميتافيزيقية. في هذا الخصوص، تختلف الموضوعات البنيوية الموجودة في الفلسفة الإسلامية عن تلك الموجودة في كثير من نظريات فلسفة الأخلاق المعاصرة فالفلاسفة المسلمون لا يستغلون الموضوعات البنيوية من أجل اجتناب الالتزامات للكيانات المجردة. وهذا ما يلاحظ بشكل خاص في كتابات الملاصدرا، وهو ما سنتحدث عنه في الفقرات التالية.

أصول ثلاثة للشرّ

ولد صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا، في شیراز إبان العهد الصفوي عام ،2-1571 وتوفي في البصرة أثناء عودته سيراً على الأقدام من رحلته السابعة إلى الحج عام 6-1635.(1) كان فيلسوفاً منهجياً، ومتكلما، وعارفاً.(2) توزّعت آراؤه الأخلاقية على كتبه، حيث نجدها في أبحاث الأسفار العقلية

ص: 223


1- See Rizvi، Sajjad، Mulla Sadra، The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2009 Edition) ، Edward N.Zalta (ed.). URL = http://plato.stanford.edu/archives/sum2009/entries/mulla-sadra/.
2- اشتق مصطلح العارف من عرف في زمن الملا صدرا كان مشاهيؤ الصوفيين يستخدمونه مثل العطار والقونوي وكل الذي اتبعوا الطريق الروحي بحثا عن معرفة الله او الفناء في الله والعرفان كلمة مشتقة من نفس الجذر وهو ينقسم الى عرفان نظري و عرفان عملي ورغم ان كلمتي عارف وعرفان ترجمتا الى عنوصي وغنوصية فهذا سيكون مضللا لو تم الربط بينه وبين الاشكال اليونانية والمسيحية من الغنوصية والترجمة الأخرى السرانية والسراني وهذا سيكون مضللا بسبب الربط بالاسرار المخفية على العقل وخصوصا مع الاشخاص المسيحيين المعروفين بالسرانيين وعقائدهم، وهذا بالتأكيد نفى لأوجه الشبه المهمة التي يمكن ايجادها في اراء الصوفيين المسلمين والمسيحيين للمزيد عن العرفان الشيعي :أنظر : (2014) Legenhausen، The Irfan of the Commander of the Faithful Imam Ali).

الأربعة، وتفسير آيات من القرآن الكريم، وعلم النفس الفلسفي. فمنظومته الأخلاقية لا تنفصل عن آرائه الميتافيزيقية. إذ يعتبر صدرا أن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة تبدأ من المادة الأولى وتبلغ ذروتها في الوجود الصرف الذي يهب الوجود لكل شيء والإنسان في حال من التغير ويبلغ وجوده أشده بوصوله إلى كماله عن طرق التحرر من سيطرة الشهوات المادية وبلوغ مرتبة القرب من الله.

بيد أن أهم مصادر فهم الفكر الأخلاقي للملا صدرا هو رسالته الفارسية سه أصل(1)، وكلمة سه أصل تعبير فارسي يعني «المبادئ الثلاثة» أو «الأصول الثلاثة» سأعرض في هذا القسم بعض الموضوعات الأساسية من هذا الكتاب وسأسلّط الضوء على العناصر البنيوية في النظرية الأخلاقية للملا صدرا. غير أن الملا صدرا لم يسعَ في أي من كتبه إلى طرح واضح لنظرية في فلسفة الأخلاق؛ لذا فإن نسبة رأي بنيوي إليه (أو أي موقف ميتا أخلاقي آخر) لا يمكن أن يكون أكثر من البحث عن دليل عليه في النصوص التي تتناسب مع هذا النوع من النظريات أكثر من الأدلة على النظريات البديلة ذات الصلة بالموضوع. لن أقيم قابلية بنيوية الملا صدرا للدفاع الفلسفي، لأن هذا سيحتاج إلى مراجعة جميع كتاباته الأخلاقية ودراستها في ضوء الكتابات عن البنيوية التي تراكمت على مدى الأربعين سنة الماضية. لكن هدفي أن أبين أن الموضوعات البنيوية يمكن أن تكون موجودة في كتابات الملا صدرا، وأن أقترح أن اكتشافها يمكن أن يساعد في فهم النظام الأخلاقي واللاهوتي الصدرائي.

قد تبدو فلسفة عارف مسلم غير منسجمة تماماً مع البنيوية الأخلاقية، لأن البنيوية الأخلاقية نظرية ترتكز على فكرة الاستقلال. فقد كانت كتابات كانط حول الاستقلال جزءاً مهماً ممّا سمّاه السدر ماكلينتاير Alasdar MacIntyre «مشروع التنوير»، وهو

ص: 224


1- (Shirazi B. a.-d.، 1376/ 1997). References to this work will be by paragraph as used in this edition. "n/m", where n is the chapter number and m is the number of the paragraph in the chapter. The work is in Persian. All translations are my own. In what follows. I will refer to the book as Three Roots. There is also an earlier edition of the Persian text that was edited by Seyyed Hossein Nasr and published in Tehran in 1961. An English translation by Colin Turner is scheduled to be published by Routledge later this year (2016).

مشروع فشل في إيجاد بديل علماني عن الأخلاق الدينية . [1] لكن وفقاً لدراسة آراء كانط الدينية والأخلاقية، لم يكن كانط ربوبياً كما كان يوصف أحياناً؛ فقد رأى أن علينا أن «نفهم أن كل واجباتنا أوامر إلهية» . 2) ومن جهة أخرى، فإن فكرة وجود أساس للأخلاق في التفكير العملي هي ميزة لفسلفة الأخلاق الأرسطية، والتي يمكن العثور عليها عند غيره من اليونانيين القدامى، وعند الكتاب الدينيين الذين قرؤوا تراثهم، سواء أكانوا يهوداً أم مسيحيين أم مسلمين. فالإنسان بالنسبة للملا صدرا كما بالنسبة لكانط وهيغل، يسعى إلى الحرية، وكلما تقدم في سعيه إلى الحرية يتقدم أخلاقياً، فالقيود التي تفرضها الذنوب والتعلق بالدنيا لن تكبّل من كانت الحرية غايته في الدنيا والآخرة.

يعالج كتاب الأصول الثلاثة ما يعتبره الملا صدرا أهم أصول للشر والأصول الثلاثة للشر التي يناقشها الملا صدرا هي: (1)الجهل بمعرفة النفس (2)حب الدنيا (3)تسويلات النفس الأمارة ، وتظهر هذه الرذائل الثلاث حسن فضائل الغنوصي، الصوفي أو العارف وهي معرفة النفس العزلة، والنتيجة التي تترتب على قهر النفس الأمارة الصفاء أو الطهارة. والجدير ذكره أن خيار صدرا للرذائل غاية في العقلانية. فمثلاً لا مكان في مناقشاته لضعف الإرادة والرذائل الثلاثة التي يعتبرها أصولا للشر هي الرذائل المعرفية. أما الرذائل الأخلاقية فإنها نتيجة للرذائل المعرفية. فمثلاً يضع حب الدنيا أهدافاً للنفس غير ملائمة تنتج عن الاعتقاد الخاطئ بأن الغايات الدنيوية أكثر قيمة عن الغايات الأخروية الكتاب جدال طويل مع من يزعمون التمسك بالدين والتقوى والذين يفهمون الدين بطريقة سطحية ويدينون الفلاسفة والعرفاء. كما تنعكس الأصول الثلاثة للشر في عالم مثال الحياة الآخرة كرؤوس ثلاثة للشيطان أو أفاع تعذب الذين تسيطر عليهم.

ص: 225


1- MacIntyre، 2007(، 117
2- For a discussion of the للمزيد من المناقشة حول العلاقة بين الأخلاق والاوامر الالهية في فلسفة كانط أنظر relation between morality and divine commands in Kant, see (Kain. 2005). An especially important defense of Kant's theology is to be found in the works of Stephen Palmquist. See (Palmquist S. ، 2016); (Palmquist S. R.. 2000). In (Stern. 2012). Part I. Stern argues that Kant's view of moral obligation is R.، I، a hybrid between moral realism and moral constructivism.
3- Shirazi B. a.-d.، 13762/7 ،1997

عالم المثال بالنسبة للملا صدرا، ليس مجرّد عالم خيالي أو وهمي(1). في الحقيقة إن العالم المبني بالخيال يوفر الشروط التي تجد النفوس ذاتها فيها في الآخرة هو أكثر واقعية من عالم الحس الذي نجده مألوفاً لنا؛ والعالم العقلي الصرف أكثر واقعية وأكثر رفعة عندما تزول حجب عالم الحس، ينكشف العالم الداخلي في صور الأشكال الدينية المألوفة من العقاب والثواب لا مفرّ من العقوبات الإلهية لأنها في الواقع مظاهر حقيقية للنفس ولا مفر للمرء من نفسه.

تشكّل الأصول الثلاثة الصدرائية الجهل بالنفس وحب الدنيا، وتسويلات النفس، عوائق أمام الاختيار الناجح وأن تكون مبادئ كل الشرور هي العوائق أمام

أطروحة بنيوية، كذلك فكرة أن يكون البشر مدعوين من الله الاختيار الناجح هي لقهر هذه العقبات وتحقيق كمالهم. وهذا لا يعني أن الملا صدرا سبق كورسغارد، كما لا يعني أنه تبنّى نظرية في فلسفة الأخلاق في غير زمانه، لكن ثمة دليل على أن الملا صدرا رأى أن أصوله الثلاثة هي مصدر الشر الإنساني تحديداً لأنها تعيق قدرة الاختيار عند الإنسان والكمال التدريجي الذي ينطوي على ترقي النفس بالأسفار العقلية. واضح أن هناك أطروحة بنيوية ميتافيزيقية حيال طبيعة الشر الأخلاقي بينة في تحديده للخصائص التي تقوض حرية الاختيار بوصفها مبادئ للشر؛ كما توجد بنيوية إبستمولوجية فاعلة في محاولاته لتبيان شرية الرذائل التي يناقشها عندما يبحث في كيفية منعها للتطور الروحي الناجح الذي يلعب بالنسبة لصدرا دوراً في بنيويته الأخلاقية شبيه بالدور الذي لعبته تدابير القرار العقلي للبنيويين الكانطيين (مثل الموقف الأصلي لراولز). اتضح فهمنا للفضيلة والرذيلة الأخلاقية من خلال دراسة تأثيرات سمات الشخصية على التطور الروحي أو الخسارة في هذه الحياة، وكيف ينعكس هذا في الآخرة. ولا حاجة للقول إن الملا صدرا يرى أن الله يثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات، فالملا صدرا لا يفسّر فهم الصفات الأخلاقية من

ص: 226


1- The term imaginal world. is from mundus imaginalis introduced by Henry Corbin in his discussions of Sohravardi (Corbin. 1977). 7677-. Sohravardi's idea of the imaginal world was considerably revised by Mulla Sadra. For more discussion of this see (Legenhausen. Mulla Sadra's View of God's Relations to the Sensible and Imaginal Worlds: Imagination and the Variable Intensity of Being، 2015).

خلال معايير نظرية الأمر الإلهي، والاستشهاد بالنص لا يتممن أجل اكتشاف الوضع الأخلاقي لفعل أو صفة، بل ليبين كيف يثبت الوحي ما يكتشفه العقل عن نفسه ويزوّد بإشارات تجاه مستويات أعمق من البصيرة.

تتألف الأصول الثلاثة من مقدمة يليها أربعة عشر فصلاً (يحتوي الكتاب على 182 فقرة) وقد اشتمل فهرس المحتويات على:

0. المقدمة.

الجهل بمعرفة النفس.

حب الدنيا.

تسويلات النفس الأمارة وتدليسات الشيطان المكّار .

نتيجة الإعراض عن معرفة النفس وعلم المعاد.

نتيجة الأعراض الدنيوية

في نتائج النفس الأمارة.

بيان النصيحة والتنبيه على طريق السعادة والشقاء.

في العثور على سبيل الله الذي هو مسير السالكين ومسلك المبصرين.

إنكار للذين يحصرون المعرفة الدينية بأمور الدين الظاهرية.

في بيان الإيمان الحقيقي وحال معانديه.

القلب ومرآته والموانع الخمسة الواقعة بينها وبين الإيمان الحقيقي.

علم الآفاق والأنفس وعلم التوحيد.

التقليد والعلم الحقيقي.

في معرفة العمل الصالح والعلم النافع.

ص: 227

معرفة النفس

لیست معرفة النفس من باب العلم الحصولي أو معرفة مفهومية بقوى النفس أو بسيكولوجيتها . أنها معرفة عملية بالهوية الشخصية للمرء، بقوته وضعفه، بمبدئه وغايته. بالطبع المعرفة السيكولوجية ضرورية للفهم التام للنفس، لكن الفهم المكتسب ليس مجرد اكتشاف الحقائق. فهو ليس معرفة عقلية، بل معرفة القلب». أن نعرف من نحن وكيف نبحر في الحياة. وكما يعبر صدرا إن معرفة النفس هي حقيقة أن تكون إنساناً، وهذا ما يمكن أن نفهم أنه معرفة بإنسانيتنا، التي تشكل بنيتنا الإرادية الذاتية. وهذا بالنسبة للملا صدرا أساس الإيمان بالآخرة، وليس مجرد إثبات عقلي للعقيدة، لكنوعينا بهويتنا لا يمكن أن يختزل بأي مجموعة من ظروف العالم المحسوس، وأن الجانب المتعالي من هويتنا يتحدد جزئياً من خلال أفعالنا في عالم الحس. لذا فإن الملا صدرا عندما يقول إن معرفة النفس هي معرفة بمبدأ النفس ومعادها ، يكون مضللاً إذا فهمنا أن هذا يعني أن معرفة النفس محصورة فقط بالمعرفة العقائدية للتعاليم الدينية.

الدعوة لمعرفة النفس جزء من التراث الفلسفي المذكور في الإحالة السقراطية المتكررة لعرافة دلفي «Gnothi iseautone» (1). وقد أصبحت معرفة النفس موضوعاً متواتراً في منظومة الأخلاق الرواقية وما لاقته في الآثار المتأخرة من عناية بتهذيب النفس أو الاهتمام بها (epimelia beaution)(2). وفي فلسفة الملا صدرا، باتت معرفة النفس أم الحكمة.(3)

يبدأ الملا صدرا بمناقشة معرفة النفس في الأصول الثلاثة مستشهداً بالحديث الشهير «من عرف نفسه فقد عرف ربه» . ثم يلفت نظر القارئ إلى أن هذا بمثابة عكس النقيض

ص: 228


1- Know thyself" at Charmides (164D). Protagoras (343B). Phaedrus (229E). Philebus (48C). .(Laws (II.923A). Alcibiades I (124A. 129A. 132C
2- . For a discussion of themes of care of the self in the Qur'an. see (Neuwirth. 2014). xxii. 72. 262
3- (Shirazi S. a.-D. 2003). xxi-xxiii; 91 n. 16)

للآية «نسوا الله فأنساهم أنفسهم»(1)، ثم يكمل ، لأنه مادام نسيان الرب يسبب نسيان النفس، فإن تذكر النفس يوجب تذكّر الرب، وتذكر الرب موجب لتذكّر النفس» .(2)

يكمل الملا صدرا الحديث عن ذكر الله فذكر الله من الأعمال التفكرية التي يتكرر ذكرها في كتب العرفاء. (3)ويحدّر صدرا من أن ذكر الله لا يجب أن يفهم على أنه مجرد ممارسة عملية، كما ينتقد بعض المتصوّفة بسبب تحويله إلى طقوس فارغة. ثم يدعي أن العلامة الواضحة على أن ذكرهم ليس تحويلاً صحيحاً للانتباه إلى الله أنهم صرفوا وجوههم عن جانب القدس وطلب اليقين، وتوجهوا إلى محراب أبواب السلاطين، وتركوا الإخلاص والتوكل، وطلبوا الرزق من غيره تعالى فهم يسعون لبناء قصورهم في هذا العالم بدل بناء أنفسهم وهذا يعني أن القادرين فعلاً على الفعل المسؤول، الذين يصفهم الملا صدرا بأنهم أحياء تماماً، وأولي الألباب ولهم نور وبصيرة، إنهم الذين يعرفون أنهم ليسوا مجرد حيوانات، وأن قدرهم العيش في عالم روحي. إن الذين يعرفون أنفسهم سيعرفون أنهم ليسوا أجساماً مادية فقط، لأنهم يبنون لأنفسهم حياة في الآخرة ، «لأن أساس الاعتقاد بالآخرة قائم على معرفة النفس» (4).

يتابع الملا صدرا ذاكراً عدداً من الرويات عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن الحياة بعد الموت، ويعلق أن معرفة النبي بخلود النفس ناجم عن معرفته بالروح. ويوصي قراءه بالبحث عن النفس الناطقة في داخلهم التي يشبهها بكنز في الخراب مستشهداً ببعض الرباعيات الشعرية.

اكتشف النفس المسماة بالناطقة

حتى يتبين لك معنى الكنز المخفي في الخراب

ص: 229


1- القرآن الكريم (59:ة 19)
2- Shirazi B. a.-d.، 13761/1 ،(1997/.
3- For a discussion of the forms of the practice and a quotation from a manual see (Ernst 1997( ، 9298-. For an insightful discussion of the remembrance of God. see (Chittick. 2008). 6373-.
4- (Shirazi. a.-d.. 137614/1 (1997).

تقول : عقلنا وقلبنا روحنا ...

قل لي من قال هذا ال__«نحن» وال__«أنا» ؟

إنه نجم بشير تشرق من جهته

حقيقة الإنسان التي بفضلها ينتسب

هو لب وجودك وأنت القشر

فبدون عبور من هذا القشر، كيف سترى اللباب(1)

لا يذكر اسم الشاعر ، لكن أبيات الشعر متناثرة في النص لإثبات المسائل المهمة. لا يرى غير السطح لن يقدر على تشكيل مقاصد غير سطحية. ومن لا يعرف خلود نفسه سيحدّ أهدافه بالملذات الدنيوية. حدود ما يمكن قصده هو إعاقة القدرة على الاختيار. تنشأ الأخلاق من الخطوات اللازمة لتجاوز هذه القيود على الإرادة أو الشخصية، من خلال توسعة المرء حدود مقاصده إلى ما يتجاوز الملذات والراحة الجسدية. هناك نوع من المفارقة ذات مرجعية ذاتية واضحة في البنيوية الأخلاقية، فهي تجيب عن السؤال الذي يطرحه العقل، حيال كيفية اتخاذ القرارات الأخلاقية من خلال الإشارة إلى الظروف اللازمة للأداء الصحيح للقوى التي تتخذ القرار الأخلاقي. ال__«أنا» أو ال__«نحن» التي تطرح السؤال هي النفس الناطقة ذاتها التي يمكن العثور على الجواب فيها.

إذا توافقت معرفة النفس مع تعزيز القدرة على الاختيار، وبالتالي لأن هذا الإصلاح يكون تدريجياً، لا يمكن أن تتشكل معرفة النفس فقط من معرفة أن للمرء نفساً خالدة. وهكذا ينهي الملا صدرا الفصل الأول في معرفة النفس بإنكار وجود جوهر إنساني واحد مشترك بين كل أفراد الإنسان فللإنسانية درجات أعلاها النبي (الأنبياء)، وهذا ما جعله يقول «من رآني فقد رأى الحق»، أما أدناها فهناك ما وصفه القرآن «أُوْلَئِكَ

ص: 230


1- القرآن الكريم (197:7) .

كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ»«أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ».(1)

بعد تخصيص فصول منفصلة لحب الدنيا ووسوسات النفس، يرجع إلى موضوع معرفة النفس لكي ليدرس تأثير معرفة النفس والجهل بها بالنسبة للآخرة.

العزلة

الفصل الثاني تحذير من حب الدنيا، ومن سيطرة ،الغضب والهوى والشهوة. غير أن التحذير من هذه الصفات أو الملكات لا هذه الصفات أو الملكات لا يعني أنها شر بالفطرة، بل جلّ ما تعنيه أنها لا يجب أن تسيطر على المرء. يُحث القارئ على التغلب على القوى الحيوانية كي يحقق إنسانيته . وهذا ليس حثاً سهلاً. فالعاجزين عن سيطرة العقل على الرغبات الدنيئة مدانون بسبب غرقهم في الملذات والأهواء، كمن في قلوبهم كلب مجنون ولا نقاش في ضعف الإرادة.

بينما يركز الملا صدرا على الجانب السلبي وعلى حب الدنيا، فإن الفضيلة التي تقابلها هو الفضيلة تنسب دائماً إلى الرواقيين، وهي العزلة. وكما رأى كثيرون، فإن للعزلة سمعة سيئة في الثقافة الحديثة لأنها فقدان للمشاعر ولامبالاة. كما يمكن أن يساء تفسير إدانات حب الدنيا التي نجدها في كتابات الملا صدرا باعتبارها إسراف في الحشمة. لكن الملا صدرا لا يدعو إلى فقدان الالتزام والاهتمام، أو حتى إلى عدم التمتع بالملذات الدنيوية. إن ما يحذر منه هو الانقياد لسلطة الأهواء الدنيوية بشكل يعيق أو يحدّ من شخصياتنا ككائنات مختارة مسؤولين قادرين على بناء أنفسنا التي تتجاوز عالم الحواس.

والذين لا هم لهم إلا إرضاء الرغبات الحيوانية يحولون أنفسهم إلى حيوانات وفي البعث ستظهر هذه لهم عندما يأخذون أشكال البهائم.

كما يمكن للإنسان أن يرتقي من مقام وضيع إلى أعلى عليين وأرفع المراتب ومقامات الملائكة المقربين [إلى الله] عن طريق الترقي في العلم والعمل والفناء

ص: 231


1- (1376 ،.Shirazi 8. a-d/1997) ، 24/1. القرآن الكريم (7:ة9)

والبقاء، وكذلك يمكنه أن يهبط من مقامه الحالي إلى أسفل سافلين وإلى مرتبة الحشرات والبهائم، وسوف يحشر في الآخرة مع الشياطين والبهائم والوحوش لأنه اتبع النفس والهوى، وبسبب نزوعه إلى طبائعها وماديتها . (1)

باكتساب العلم واتخاذ الخطوات العملية الضرورية في المسار الروحي، يسعى المرء لخلاص نفسه من «السجون المظلمة» للرغبات البهيمية. إنه موضوع يعود إليه الملا صدرا بشكل متكرر:

إن أرواح الأحرار كالروضة وأرواح الأشرار الضيقة إنما هي كالحفرة .(2)

الأصالة

في التقاليد الإسلامية، وانطلاقاً من المصطلحات الموجودة في القرآن، يقال إن للنفس مراتب مختلفة. وتُسمّى كل مرتبة نفساً، لذا يقال إن لكل شخص عدداً من الأنفس. فللإنسان في التراث المشائي نفس نباتية ونفس حيوانية ونفس ناطقة. كما تسمى النفس الدنيا بالنفس الأمارة وقد ورد هذا التعبير في الآية التي قال فيها النبي يوسف علیه السلام «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِيٌّ إِنَّ رَبِيٌّ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(3)

يرى الملا صدرا، أن النفس جسمانية الحدوث، وهذا كمالها الأول، أو الصورة الحية للجسم، لكن عن طريق الحركة الجوهرية أو التغير، تحوّل النفس ذاتها وتصل إلى مراتب أعلى من الفعلية كالنفس الناطقة الأبدية. الملا صدرا لا يفسّر هذا في الأصول الثلاثة، لكنه يتحدث عنه بشكل تفصيلي في أهم وأشهر كتبه، الأسفار الأربعة .(4) يرى الملا صدرا أن الفضيلة تكتسب، عندما ينتزع المرء السيطرة على نفسه

ص: 232


1- (Shirazi . a. -d.. 13765/8 (1997/; there are similar but more detailed remarks to this effect at 51/; also see: 53/11;5/8;9/.
2- (Shirazi B. a.-d.، 13766/4 ،(1997/.
3- القرآن الكريم (12 : 53)
4- See (Shiriazi، 2008); I have briefly summarized Sadra's doctrine of the soul in (Legenhausen. A Muslim's Spirit. 2010); and I have discussed his philosophical psychology of the imagination in (Legenhausen. Mulla Sadra's View of God's Relations to the Sensible and Imaginal Worlds: Imagination and the Variable Intensity of Being. 2015).

من النفس الأمارة من خلال ارتقاء النفس إلى مراتب أعلى.

يقول الملا صدرا في الأصول الثلاثة إن عمل النفس الأمارة، شبيه بعمل الشيطان، وهو تضليلنا عن طريق الوهم والخداع لأن هذه التسويلات من طبيعة لا ينخدع بها إلا الناقصين وأصحاب الطباع الصبيانية، والتعلّق بها يؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة. يشبّه صدرا من تسيطر عليه النفس الأمارة بمن يخوضون في الجدل من أجل إشباع رغباتهم لا من أجل تحري الحق وسبيل الهدى يخادعون أنفسهم عندما يعتقدون أنهم نجحوا بتحقيق النصر في الجدل. مثال آخر على خداع الذات موجود عند الذين يظنون أنهم متقدمون روحياً فقط لأنهم يؤدون الأعمال العبادية : «لن تصبح سيد طبيعتك بالصلاة والصوم، لأنك إذا استمريت بفعل هذا ستزداد ظلاماً كل يوم بهذين الأمرين»(1). فالتطور الروحي يتحقق من خلال قهر النفس وليس بالتنسك والعبادة السطحية.

يصوّر صدرا خداع النفاق من خلال الإشارة إلى كلمات منسوبة للمسيح (ع) في التراث الإسلامي: روي عن المسيح عليه السلام أنه قال : «كيف يكون من أهل العلم من يكون مسيره إلى الآخرة وهو مقبل على دنياه، وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به».(2)

السعادة

في التراث الأخلاقي الإسلامي، تتحول كلمة (بهجة)ευτυχία إلى سعادة، فالكلمتان اليونانية والعربية تترجمان إلى «happiness“ ”سعادة، لكن مفهومهما مختلف. والتحول شبيه بما هو موجود في التراث المسيحي، الذي يستعمل عادة عبارة بهجة . إن نتيجة نقل ευτυχία في التراثين الدينيين، إلى الآخرة هي، استبعاد الاحتمالات التييرى أرسطو ، أنها يمكن أن تقضي على فرص الحياة الهانئة، مثل بلاء الولادة، والتشوهات الخلقية، والكوارث. يمكن لأي من هذه الأمور الممكنة أن يجعل المرء تعيساً في حياته، لكن هذا قد لا يكون ملائماً لوضع المرء في العالم الآخر.

ص: 233


1- (Shirazi . a.-d.. 13765/3 (1997/.
2- (Shirazi B. a.-d.، 13762/14 ،)1997/.

من هنا، باتت البهجة هدفا أكثر صفاءً من السعادة ευτυχία الأرسطية. لكن بالنسبة لكانط، السعادة لهو يمكن أن ينتقص من صفاء الإرادة الحرة. فلو أنا تصرفت فقط من أجل الحصول على بعض الثواب في الدنيا أو في الآخرة، تكون إرادتي غير مستقلة. لأنني أتصرف فقط من أجل الحصول على بعض الملذات لا على أساس الإرادة الحرة. (1)وهكذا واجهت كريستين کورسغارد Christine Korsgaard بعض الصعوبات أثناء التوفيق بين أرسطو وكانط في هذه المسألة فقد أساء كانط فهم السعادة ευτυχία عندما اعتبرها شعوراً. فهي بالنسبة لأرسطو حياة الفضيلة الناشطة. ومتى يتضح هذا، يمكن أن يحل النزاع بين أرسطو وكانط . فأرسطو يعتقد، كما يعتقد كانط، أن إنجاز عمل مقرر بسبب نبله يفوق إنجاز العمل الذي تم اختياره كوسيلة لإرضاء بعض المصالح الشخصية. وإذا افترضنا أن كورسغارد وفّقت بين كانط وأرسطو مبينة أن السعي لتحصيل السعادة لا يتنافى مع استقلال الإنسان، يبقى الإشكال قائماً حول إمكان أن يكون طلب الغبطة أو السعادة منسجماً مع البنيوية الأخلاقية. تنشأ المشكلة لأن مفهوم الآخرة يرمز إلى فكرة السعادة. لم تعد حياة الفضيلة الناشطة فقط والسعي للغايات الخارجية غير متناسقة مع فعل شيئ من أجل هذا الشيء أو من أجل الخير الكامن في الفعل وبمعنى أدق تعتبر الغايات الأخروية غير متناسبة مع البنيوية الأخلاقية لأن هذه الغايات كافية لتحديد الحق والباطل بدون أي اعتبار لوجهات نظر عملية أو لطبيعة القدرة على الاختيار عند البشر. إن تفسير الملا صدرا للسعادة بوصفها انعكاساً خيالياً للحياة الفاعلة للأسفار العقلية يسمح بتطوير فلسفة الأخلاق الأخروية التي لا تزال مبنية على شروط قابلية الإنسان على الاختيار.

بالطبع تم الدفاع عن توافق الاستقلال الأخلاقي مع الإيمان بإمكان تفسير الأحكام الأخلاقية على أساس الأوامر الإلهية، وعن الثواب والعقاب بطرق عدة من جانب عدد من الكتاب أمثال شلغ F . W . J Shellin (2)وآدمز(3) Adams R . M . Adams

ص: 234


1- لمزيد من البحث حول المسألة :أنظر : (2000 Wood، Kant versus Eudaimonism).
2- (Ffytche، 2012(، 102; (Wood، Kantian Ethics، 2008(، 107.
3- 270 ، (1999 Adams-276. يميز آدمز بين معاني الاستقلال التي يعتبرها متناسبة وغير متناسبة مع نظرية الأمر الإلهي حول الإلزامات الأخلاقية التي يدافع عنها.

وهير .J .E .Hare (1)لكن عند الملا صدرا نجد طريقة خاصة لتأسيس وجهة نظر استقلالية قوية جداً حيال أخلاق الطاعة لله أملاً في الثواب الإلهي التي تتضح في مناقشاته للسعادة.

أولاً، السعادة الحقيقية هي القرب من الله ويمكننا القول إن هذا المستوى العقلي للسعادة على المستوى الخيالي يوجد الثواب والعقاب الإلهيين، وهي حقائق تتجاوز الطبيعة الجسمانية للإنسان وعالم الحس ونتاج القوى الخيالية اللامادية الأبدية للإنسان. وهناك أيضاً سعادة جسمانية، وهي الغاية الوحيدة للبهائم، والبشر الشبيهين بالبهائم.

ثانياً لكي تتحقق السعادة، نحتاج لمساعدة إلهية، لكن جهودنا الشخصية ضرورية أيضاً. وعلى مستوى أولي، نحن بحاجة للسعي من أجل تحقيق حريتنا، ولإيجاد طريقة لتحرير أنفسنا من الجهل وحب الدنيا والخداع. لذا ينصحنا الملا صدرا بأن نسبر أغوار أنفسنا كي نتبين إذا كنا قد أصبنا بهذه الأمراض. وعندما نكتشف أن أنفسنا مصابة بالمرض، يجب أن نفتح أنفسنا على معالجات من اجتازوا السبيل الروحي بنجاح. أما إذا لم نجد مرضاً في داخلنا، فعلينا أن نحذر من خداع أنفسنا، ربما من الخلط بين المعرفة الدينية السطحية والصحة الروحية في هذا الخصوص يقول الملا صدرا إن عيسى عليه السلام قال : «لست أعجز عن معالجة الأكمه والأبرص، ولكنني أعجز عن معالجة الجهل المركب [جهل الجاهل بأنه يجهل] ؛ وذلك لأنه من الأمراض النفسانية، وكل الأمراض النفسانية إذا رسخت في النفس؛ أوجبت الهلاك الأبدي واستحال زوالها». ولكي نحرر أنفسنا من خداع النفس، يجب أن ندرك أن المعرفة التي نحتاجها ليست العلوم التي تعلمناها أو أي شيء آخر في أدمغتنا:

ينطفئ سراج العقل في رؤوسكم بأقل نفحة مما يحتمل فيها من رياح النخوة والكبر كيف لا وهو خافت الضياء أصلاً .

تطفئ شمع قلوبهم دائماً

تلك الرياح التي في أدمغتهم (2)

ص: 235


1- -(Hare. 2007). 266269-.
2- -(Shirazi . a.-d.، 13766/7 ،(1997/.

ثالثاً، يساعد الله الناس على تحصيل السعادة. فما يميز النفس البشرية عن نفوس الحيوانات الدنيا هو أن نفوس البشر الروحية قادرة على تلقي نعمة الروح القدس.(1) إذ بهذه النعمة التي توصف بأنها نور التوحيد (الوحدة الإلهية) وتذوّق المجرد، يعتاد الإنسان على صحبة الله والتحدث معه. النور الذي يهبه الله هو معنى الإيمان الحقيقي: «الإيمان الحقيقي نور يقذفه رب العالمين في قلب عبده». (2)ثم يفتح الله الطريق ليصبح الإنسان ولياً من أولياء الله. أن نصبح في حياتنا أولياء مع الأولياء ليس مسألة تلقي أوامر من أشخاص مقدسين ، بل هو نوع من التمرين على تطوير الذات حيث يضع المرء نفسه في حديث خيالي مع هؤلاء الأشخاص على أمل أن يطوّر الإنسان الفضيلة بنعمة الله. وهذا يحتاج إلى ما تسميه كورسغارد تطهير تأملي لما نجده في أفعال ومواقف من نقتدي بهم (3)، وهذا هو الموضوع الرئيسي في كتاب لندا زاغز بسكي Linda Zagzebski الجديد الذي تبين فيه أن الاستقلالية تحتاج إلى تأمل ذاتي وجداني.(4) من جهة أخرى ينشأ الشقاء من خلال المودة مع القاسية قلوبهم. ويبين الملا صدرا أن كل حجر أو كل قطعة من الحديد، بالنسبة للعارف تشعبت مجيد وتقديس الله، أما بالنسبة للأشقياء، فقد تصبح قلوبهم حجارة أو قطع حديد بسبب غرورهم وجحودهم، حتى يصبح عاجزين عن إدراك البديهيات ويفقدون السيطرة على أنفسهم.(5)

تطهير القلب

في البنيوية الكانطية التي يدافع عنها ،راولز هنا كإجراء لتوضيح أوامر العقل العملي. وبسبب هذا فإن المناقشات الدائرة حول البنيوية كانت تعرّف البنيوية عادة بأنها تفسير عملي للأخلاق، ورغم أن راولز صاغ الإجراء (تداول في موقف أصلي معروف أنه خلف حجاب من الجهل ) كمساعدة للبحث في العقل العملي من أجل تحديد مبادئ العدل. كما يمكن اعتبار الحالة التي يناقش فيها الملا صدرا تطهير

ص: 236


1- -(Shirazi B. a.-d.، 13761/8 ،(1997/.
2- -(Shirazi B. a.-d.، 13761/10 ،(1997/.
3- (Korsgaard et al. Sources of Normativity. 1996). 165.
4- (Zagzebski،2012)، Ch. 11 ،229254-forautonomy and conscientiousself-reflection; an exemplarist moral theory is the topic of Zagzebski's recent Gifford Lectures: http://www.giffordlectures.org/ lectures/exemplarist-virtue-theory
5- (Shirazi B. a.-d.، 13768/10-7/10 ،(1997/.

القلب تلخيصاً للعمل الذي يستخدم من أجل تحديد مستلزمات العقل كي يحصل الإدراك الصحيح للمعايير الأخلاقية والحقائق الروحية الأخرى. فالله لا يقول لعباده ماذا يفعلون بطريقة اعتباطية؛ بل هو يرشدهم إلى النور حيث يمكنهم العناية بأنفسهم. لذا يفتتح الملا صدرا فصل تطهير القلب بالآية التالية : «اللَّهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».(1) فهذا القلب يكون في بعض الناس بالفطرة مرآة بالقوة قادرة على عكس هذا النور الإلهي. وفي بعض الناس تخرج هذه الفطرة من القوة إلى الفعل بواسطة الأعمال والأفعال الصالحة، والقيام بالتكاليف والرياضات الشرعية، بينما لا تجد في البعض طريقها إلى الخروج من القوة إلى الفعل بسبب الأعمال القبيحة والمعتقدات الخاطئة.

كما أن في المرآة المحسوسة خمسة أشياء من الممكن أن تمنع انعكاس صورة المرء، وهي:

المانع الأول: النقصان الجوهري كما لو كانت حديداً أو زجاجاً غير مذاب أو مصقول.

المانع الثاني: وهو الصدأ والكدر الذي يحدث فيها بعد صنعها وصقلها.

المانع الثالث: عدم مواجهتها للصورة التي يراد رؤيتها فيها كما لو وقف أحدهم خلف المرآة.

المانع الرابع: وجود حاجز بين المرآة والصورة المراد انعكاسها.

المانع الخامس: عدم تحديد الجهة التي فيها الصورة كي توضع المرآة مواجهة ومحاذية لها .

كذلك مرآة القلب مستعدة لتجلي حقيقة الحق وحقيقة الأشياء كما هي. كما طلب سيد الكائنات عليه أفضل الصلوات من رب العالمين في الدعاء لنفسه

ص: 237


1- القرآن الكريم (2 :257) .

ولخواص أمته : «ربّ أرنا الأشياء كما هي، ولا يخلو من العلوم الحقة إلا بأحد الأسباب والموانع الخمسة».(1)

فبالنسبة للنقصان الجوهري يرسل الله الرسل الذين يستخدمون تقنيات مختلفة من أجل خروج النفس الناطقة (التي هي جوهر القلب) من الكدر الذي يخفيها.

إرسال الله لرسله بين عباده

کمخيض الزبدة في خابية

لذا بطرائق وتقنيات عدة

يمكنني اكتشاف ما كنت أخفيه ، أنا (2)

يحصل الخلاص عن طريق الأنبياء ليس عن طريق المعرفة بحقيقة روحية خارجية أو حقائق وملكات أخلاقية، بل بإرشادنا كيف نعرف أنفسنا. فالمنهج أو الإجراء هنا هو منهج تهذيب السبيل الروحي تجاه معرفة الذات ما يقدم لنا ليس اتخاذ قرار يوصل إلى مبادئ محددة لتوزيع البضائع والخدمات بل عملية تكوين تؤدّي إلى القدرة على إصدار أحكام عاقلة.

العائق الثاني : وهو الصدأ والكدر الذي يمكن أن يصل إلى حد إنهاء قابلية معرفة الذات.

العائق الثالث : سوء توجّه مرآة القلب كما لو تركز قرار المرء حصرياً على العناصر الظاهرية للعبادة وعدم بلوغ الباطن. بالطبع، المسألة أكثر سوءاً إذا كانت غايات الإنسان دنيوية بالكامل وإذا أهمل تهذيب روحه.

النوع الرابع من الموانع هو وجود عائق بين المرآة والصورة المراد انعكاسها. فالمثل الذي يعطيه الملا صدرا هو التعصب والمتعصب هو الذي يتعلق بحقيقة ما

ص: 238


1- القرآن الكريم (257:2) .
2- 4/11، )1997/Shirazi . a. -d.. 1376).

بسرعة ويجعل هذا التعلق عائقا أمام الوصول إلى حقيقة أخرى أعمق. هذا النوع من العوائق يوجد بين المقلّدين، ويمكن تشبيهه بأغلال وقيود تمنع القلب من التحرر .(1)

المانع الخامس يشبه مرآة ليست في الموقع المناسب لمواجهة الشيء الذي ستعكسه، وهذه حال من لا يعرف إلى أين يتوجه وكيف يجد طريقه إلى المستويات المتتالية للطريق إلى الله ولمواجهة هذه المشكلة يزيد الملا صدرا التشبيه تعقيداً، ويقول لما كانت النفس في بدء كونها مقبلة إلى جانب طبيعة البدن ، وأدارت ظهرها إلى عالم خلفها، فهي في مطالعة المطالب الحقة تحتاج إلى مرايا متعددة، كالذي يريد أن ينظر إلى صورة وراء ظهره فينظر إليها في مرآتين، فالقريبة هي بمثابة المقدمة الصغرى والبعيدة بمثابة المقدمة الكبرى، وذلك المطلوب الذي يُرى من النظرة إلى هذه المرآة بمنزلة النتيجة. وفي مسار هذا الانعكاس المركب، تتوحد النفس في النهاية كما يتوحد موضوع تعقلها المنعكس بطرق مختلفة أيضاً.

لكن هذا ليس النهاية، فيمكن للمرء أن يستمر بالتفكير في النتيجة التي تكون صيغتها عكس صيغة النتيجة التي تم التوصل إليها. يستمر النهج هنا بطريقة جدلية، من خلال استخدام مجموعة مركبة أخرى من المرايا ولا يكون المرء قادراً على الاستغناء عن الانعكاس (المرايا) والدخول في لقاء مباشر مع المجال الرباني إلا نتيجة لهذا الانعكاس. كان هذا طريق السفر من الخلق إلى الحق. ثم يأتي بعده السفر في الحق، ومن الحق، وبالحق الأسفار الأربعة التي تشير إلى أسفار كتابه، إنها الأسفار والحكمة التي تحدّث عن إتيانها فيه . وهو يشرح معنى السفر بالحق من خلال آية قرآنية ورباعية شعرية عن المسيح علیه السلام «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» .(2)

عیسى أنا ومعجزتي هي هذا النَّفَس

والقلب الذي يسمع هذا النَّفَس يعود للحياة.(3)

ص: 239


1- (Shirazi B. a.-d.، 13765/11 ، (1997/.
2- (Shirazi B. a.-d.، 13769/11 ،(1997/.
3- القرآن الكريم (7: 181).

سبيل الروح وفقاً للملا صدرا (وفي هذا يتبنّى رأياً شائعاً بين العرفاء) يبلغ ذروته تجل إلهي ؛ وعلى الرغم من فهمه لهذا بطريقة تتناسب مع العقيدة الإسلامية، إلا إنه من المسائل التي أدت إلى اتهام العرفاء بالشطح من جانب علماء الإسلام السطحيين الذين يكرر إدانتهم في الأصول الثلاثة.

الإشارة إلى المسيح ، وتحديداً إلى نفسه، مجاز اقتبسه الملاصدرا من الشعراء الصوفيين، كالعطّار، ومولوي وجلال الدين الرومي، وحافظ وغيرهم، الذين يشيرون إلى نَفَس المسيح بوصفه النفس الواهب للحياة (1)قال عيسى في القرآن: «قَدْ جئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَني أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأَحْيِ الْمَوْتِى بِإِذْنِ اللَّهِ»(2). إذاً يعتبر نفس المسيح تعبيراً عن النفس الإلهي الصادر عن الإنسان الكامل. فالقدرات الواهبة للحياة من النفس الإلهي هي التي تمكن المرء من الولادة الجديدة بفطرة ثانية، أي بفطرة سليمة بعد الموت الإرادي للفطرة الآثمة.(3)

البنيوية المتعالية(4) في فلسفة الملا صدرا

إن الطاعة التي يطلبها الإسلام وتشديده على الثواب والعقاب في الآخرة يمكن أن تدفع إلى التفكير بأن كانط كان بالتأكيد سيصنف الأخلاق الإسلامية بأنها خاضعة لقوانين خارجية. غير أن النظام الأخلاقي الإسلامي الموجود في فلسفة الملا صدرا يشدد على ما يمكن أن نسمّيه استقلالاً أخلاقياً، حتى لو لم يكن المفهوم جزءاً من المفردات الأخلاقية في الدوائر الفكرية في إيران الصفوية. استعمل الملا صدرا مصطلحاً يوازي في أهميته مصطلح القوانين الخارجية الذي استعمله كانط : «التقليد».

ص: 240


1- (Shirazi B. a.-d.، 137617/11 ،(1997/.
2- القرآن الكريم (3: 49).
3- (Javandel. forthcoming).
4- Cf. (Shirazi S. a.-D.. 2003). 84. $107; 85. $111.

يرى أرسطو أن الخير والشر يكونان مصحوبين بأنواع من اللذة والألم، وهذه الملذات والآلام تعمل كحافز للحيوان والإنسان (1)وهذا ما سبب مشكلة أمام محاولات كورسغارد للتوفيق بين فلسفة الأخلاق عند أرسطو والبنيوية التي يحفز الفاعلون وفقها للتصرف بطرق معينة بسبب ما يعتبرونه أسباباً إرادية للتصرف بطريقة ما. لكن لا يمكن أن تكون اللذة والألم موضوعان يمكن لمن تكون قوته الدافعية النفسية مسألة إرادة بالكامل أن يأخذهما بعين الاعتبار رد كرسغارد إن كيفية استجابتنا للآلام والملذات المتوقعة هي مسألة إرادة وتنطوي أحياناً على تأمل واع نظراً إلى أن الملذات والآلام قد تعتبر إشارة لما يقيمه الفاعلون إيجاباً وسلباً على التوالي. وترى كورسغارد أن الملذات والآلام ليست مجرد مشاعر؛ بل هي مؤشرات عقلية أيضاً: «إننا عموماً لا نعتبر آلامنا وملذاتنا خالية من المعنى، بل نعتبرها كما اعتقد أرسطو، مؤشرات على ما هو خير وما هو شر وعلى ما لدينا سبب لفعله.»(2) وقد أنهت كورسغارد مناقشتها لأرسطو وكانط في هذه المقالة على النحو التالي:

على الرغم من وجود فرق في الطريقة التي يقترح فيها هذان الفيلسوفان حلا لمشكلة القابلية، فإن المشكلة واجهت الرجلين بسبب الشبه العميق في فهمهما العام للموضوع الأخلاقي. الفعل الإنساني لا يشبه شيء آخر : فنحن البشر نختار أفعالنا، ولذا يمكن لنا أن نتجاوز مجرد التفاعلية في علاقتنا بالعالم. السؤال الأخلاقي الحقيقي والأعم هو ما الذي ينبغي لنا فعله بهذه القدرة، وأي فعل ينبغي أن نختار. السؤال الأكثر تحديداً في علم الأخلاق، هو السؤال الذي أولاه أرسطو كل عناية، هو كيف يحتاج الجزء المتلقي من طبيعتنا أن يتكون إذا كان هذا الاختيار وهذا الفعل المتعاليين محتملين. إنه السؤال كيف علينا أن نكون لكي نختار باستقلالية ومن أجل السموّ.(3)

بالطبع إن وجهة نظر أرسطو حيال العلاقة بين الخيرات والملذات ليست هدونية hedonism تماماً، كما تنطوي نقاشاته حول الاعتدال على مسائل تتناول تطور الأنواع

ص: 241


1- (Shirazi B. a.-d.، 13768/6 ، (1997/.
2- (Aristotle. 2014). 1152b-1154b
3- (Korsgaard C. The Constitution of Agency. 2008). 205

المختلفة من الملذات والآلام وهذا ما تعتبره كورسغارد مدخلاً للتوفيق بين أرسطو وكانط. فقد أساء كانط فهم أرسطو لأنه اعتبر أن السعادة eudaimonia حياة من اللذة وأن اللذة ليست أكثر من نوع من الشعور، في حين أن أرسطو اعتبر أن السعادة eudaimonia حياة ناشطة من الفضيلة ورأى أن اللذة دليل على شيء نقيمه. اندمج التمييز بين مستويات مختلفة من اللذة والألم أيضاً في التراث المشائي الإسلامي وهو موضوع يرجع إليه العرفاء أيضاً. لكن إذا تأملنا في الأفعال التي علينا أن ننفذها على أساس الملذات والآلام التي ستترتب عليها في العالم الآخر، فلن يبقى مجال يذكر للاستقلالية. أما مشروع الملا صدرا الأخلاقي / الروحي فهو بجزء كبير منه معدّ بطريقة مخصصة للرد عن هذا النوع من الاعتراضات فالملا صدرا يعترض على أن فكرة أن يكون الثواب في العالم الآخر شبيهاً تماماً بالمكافآت التي يمنحها السلاطين هنا، ويعتبرها فكرة صبيانية ناتجة عن الفشل في فهم طبيعة النفس .(1) وهذا فشل في الوصول إلى تقدير فكري للعقائد الدينية. فالآخرة بما فيها من ثواب وعقاب ليست عوامل إعاقة للقدرة على الاختيار التي تخضع لقوانين خارجية، بل هي تجليات خيالية للحقيقة التي نكوّنها عن أنفسنا كما يُعبر عنها في الأفعال التي نقوم بها والطباع التي نكتسبها في هذا العالم. إذ ليس الثواب والعقاب مجرّد حقائق فوق طبيعية يمكن أن نكتسبها بطريقة انفعالية عن طريق التعليم النظري؛ بل هي نتاج المخيلة الفاعلة. يمكن أن تعتبر بنيوية صدرا روحية بقدر ما هي أخلاقية، فعلى الرغم من احتفاظها بميزتها الأخلاقية لأن قيمة أفعال الإنسان لا تستمد من صورتها الخارجية أو حتى من انسجامها مع القانون الإلهي، بل من النيات التي تكون بجزء منها قوام الأفعال الإنسانية، والتي تتشكل في ضوء النعمة الإلهية. (2)فالملا صدرا، بوصفه فيلسوفاً يستفيد من التراث المشائي وإن نقدياً، لا يركز فقط على الأفعال الجزئية بل على الفضيلة والرذيلة ؛ والمسار الروحي الذي يرسمه هو مسار تشكيل الشخصية.

يرى الملا صدرا، أننا نختار أفعالنا والتوجّه الذي ينبغي أن تتخذه حياتنا، وكما

ص: 242


1- (Korsgaard C.. The Constitution of Agency. 2008). 205206
2- (Shirazi B. a.-d.، 13767/13 ،(1997/.

يرى أرسطو، إن مجال الإرادة هو الذي يحدد مجال العقل العملي. فالعقل العملي ليس مجرد وسيلة للتأمل بأفعال جزئية؛ بل إنه ينطوي أيضاً على معرفة كيفية اجتياز الحياة بالطريقة التي نحرر فيها أنفسنا من الرذيلة ونصل إلى الفضيلة والمعرفة، وهذا هو الموضوع الرئيسي للأصول الثلاثة. التوجّه الذي نكتسبه في حياتنا أكثر أهمية من الأفعال الجزئية . إذ بسبب قدرتنا على توجيه أنفسنا عبر الحياة نكون قادرين على أن نبدأ رحلتنا على المسار الروحي، وإذا فعلنا هذا على تجاوز مجرد القابلية في علاقتنا بالعالم. فالتركيز على الجوانب الإبداعية الفعالة للنفس في إيجاد التوجه الروحي والتقدم في الطريق إلى الله هي المرتكزات الأساسية لما يمكن أن نصفه ببنيوية الملا صدرا الأخلاقية المتعالية. إنها متعالية لأنها تطلب من الإنسان أن يتجاوز حدود العالم الحسي وانفعالية النفس المتجسدة. وهي بنيوية على المستوى الميتافيزيقي لأن الخيال الفعّال يشكل حقائق الثواب والعقاب نتيجة لما تجنيه أنفسنا من خلال أفعالنا. وهي بنيوية على المستوى بنيوية على المستوى الإبستيمولوجي لأن المرء يستطيع، من خلال التدبّر بالشروط الضرورية للحرية وإرادة الاختيار الإنسانية المكتملة، أن يختار الخطوات اللازم اتخاذها أثناء مسير الإنسان في الحياة. وهي بنيوية على المستوى الدلالي لأن صدرا يعتقد أن المعاني الحقيقية للعقائد الدينية، مثل المعتقدات التي عن تتحدث مبدئنا ومعادنا الأخير في القيامة الكبرى، لا يمكن أن تفهم تماماً إلا بالنظر إلى الأبعاد البنيوية الميتافيزيقية والإبستيمولوجية لسفر الروح إلى الله.

غير أن سفر الروح إلى الله، لا يقصد العرش الإلهي مباشرة، بل يحصل عبر عدد من المراحل المتوسطية المشروطة بأهداف الحرية الأتمّ والقدرة الكاملة للإنسان على الاختيار بينما يشير صدرا صراحة إلى الحرية في عدد من المناسبات، فقد تمت في الغالب مناقشة هذا الموضوع تكراراً من جهة ارتباطه بالطهارة. ورغم أن الملا صدرا اقتبس تشبيه النفس بالمرآة من العرفاء، فإنه لا يعتبر مرآة النفس أداة انفعالية تعكس النور الإلهي، هذا لأن من خلال فاعلية النفس تتحقق الوحدة مع ما تعكسه.

يرى صدرا أن المعايير التي تتحكم بوجهة النظر العملية ليست ثابتة، بل إنها تتطوّر

ص: 243

مع تطوّر النفس. إضافة إلى ذلك، فإن النفس ، من خلال النظر إلى هذه المعايير، تكون قادرة على الترقي من مرتبة دنيا إلى مرتبة أعلى. وهذا الترقي هو الذي يسميه الملا صدرا الحركة الجوهرية، حيث تبدأ النفس من المرحلة التي تكون فيها مجرد صورة جسمانية للجسم الحي، كما وصفها أرسطو، ثم تستمر خلال المراحل المجردة للعقل الجوهري؛ لذا يقال إن النفس «جسمانية الحدوث روحانية البقاء.»(1)نظراً لأن النفس تكون قادرة، من خلال المعايير التي تحكم مراتبها على إعادة تكوين نفسها في مرتبة أعلى بالحركة الجوهرية، كما يمكن تسمية موقف صدرا بنيوية متعالية، ترى أن كل مرتبة مفترضة من مراتب النفس بما في ذلك قدرتها على الاختيار، تتشكل من خلال المعايير التي تحكم وجهة النظر العملية / العقلية التي يسميها صدرا السفر العقلي.

ص: 244


1- للمزيد :أنظر : (2016 Legenhausen، Intention، Faith، and Virtue in Shii Moral philosophy).

الأخلاق عند النراقي «الجمع بين الدين والعرفان والفلسفة»

أ.م.د نوال طه ياسين (1)

المقدمة:

مما لا شك فيه أن الإسلام ك__(دين) جاء وهو يحمل معه نظاماً للقيم انفرد به بشكل عام وللأخلاق بشكل خاص، ففي الوقت الذي كان يدعو الأمم الأخرى للدخول من دون إكراه تحت لوائه نظر إلى ثقافاتهم نظرة المقيم فاعترف بما تحمله من قيم أخلاقية فدعى الإنسان المسلم أن يأخذ الحكمة أني وجدها.

وقد شهد الفكر الفلسفي الإسلامي انحساراً ملحوظاً في الدراسات الأخلاقية في الوقت الذي كانت الدراسات الفلسفية بشتى مواضيعها التي تأثروا بها في متناول أيديهم وكانت الدراسات الأخلاقية تشكل بؤرة اهتمام تلك الثقافات فما السبب في ذلك ؟ أيعود فعلاً إلى القول بأن العرب قنعوا بأن يأخذوا الأخلاق عن الدين(2) ، أم لأن هناك بعض الصعوبات التي تواجه المفكر في الكتابة في المشكلة الأخلاقية من إطلاق أو نسبية القيم ؟ أم لأن القيم الاجتماعية نراها

ص: 245


1- أستاذة في جامعة البصرة - كلية الآداب. تؤكد الباحثة في مقدمة بحثها على «إن الإسلام ك__(دين) جاء وهو يحمل معه نظاماً للقيم انفرد به بشكل عام، وللأخلاق بشكل خاص» وقد حاول النراقي أن يبحث عن تلك الأخلاق بوصفها وسيلة من اجل بلوغ السعادة الحقيقة التي وجدها في ثلاث مصادر هي: الشريعة والعرفان والحكمة. وقد كشف عن هذا في كتابه (جامع السعادات) يمثل أحد المحاولات الفكرية التي سعت لفهم الشريعة فهما وتطبيقا دينيا وعرفانيا وفلسفيا. إذ حاول الجمع بين الأساليب المختلفة الدينية والعرفانية والفلسفية وحتى الروائية وبهذا اتصف الكتاب بالتنوع وهذا ناتج عن اختلاف مصادر الأخلاق المحرر
2- أمين د. احمد فلسفة الأخلاق الطبعة الثالثة، 1925، ص158.

ممتزجة مع القيم الأخلاقية(1)، بل وحتى في آثار الشعر والأدب العربي؟ (2)

إن هذا العزوف الذي لوحظ عن الكتابة في البحث الأخلاقي كان في فترة من الزمن تلته فترة أخرى بدأ المفكرون يبحثون في الأخلاق بحثاً علمياً وقد مزجوا بين التعاليم اليونانية والتعاليم الإسلامية - خاصة ابن مسكويه والغزالي - اللذان كان لهما الأثر الواضح في النتاج الأخلاقي للشيخ محمد مهدي النراقي(3) مؤلف كتاب جامع السعادات.

ص: 246


1- «إن العرب كأمة من الأمم اضطرت إلى الاجتماع فيما بينهما ولإنشاء علاقات بينها وبين من تتصل بهم من أمم - وشعوب أخرى، كان لها بلا شك حظ من الأخلاق تتعايش به فكانت تسود بينهم قيم الصدق، الشجاعة، الأمانه، الكرامه ،ولكنها كقيم اجتماعية» العوا، د. عادل فلسفة الأخلاق في الإسلام بحث منشور في مجلة دراسات إسلامية لنخبة من المفكرين والباحثين، رئيس التحرير، فهمي جدعان مطبعة جامعة اليرموك، الطبعة الأولى، 1983، ص 147.
2- نجد آثار القيم الأخلاقية ممتزجة في القصائد الشعرية والكتابات الأدبية، «فيتأدب العرب بما فيها من حكم تتصل بالأخلاق العملية» موسی د. محمد يوسف، فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية مع مقالة في الأخلاق في الجاهلية والإسلام قبل عصر الفلسفة مطبعة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة الطبعة الثانية 1963 ص 17.
3- هو الشيخ محمد مهدي بن أبي ذر النراقي - نسبة إلى مسقط رأسه نراق - في إيران التي هي على وزن (عراق)، من أتباع بلدة كاشان، (لا يعرف تاريخ ولادته على وجه التحديد، لكن من عام (1128ه). وهو أحد شيوخ الشيعة ومجتهديها البارزين الذين ظهروا في القرنين (12، 13)، برز في والأخلاق والفقه وغيرها)، وقد عرف أنه رجل عصامي . لا يعرف عن والده أبي ذر إلا أنه كان موظفا في الدولة الإيرانية بوظيفة صغيرة في قرية نراق؛ ولولا ابنه هذا لذهب ذكره في طيات التاريخ ولا يعلم أن كان للنراقي أخوة، ولكن له ولد نابه الذكر، هو (احمد النراقي) صاحب (مستند الشيعة) ولعل النراقي الابن هو من أهم أسباب شهرة والده، فقد حذا حذوه في تأليفاته، إذ إن الأب ألف في الفقه (معتمد الشيعة) والابن ألف (مستند الشيعة) والشيخ النراقي ألف في الأخلاق (جامع السعادات)، والأبن ألف (معراج السعادات). عرف بقوة شخصيته وكان لدية رغبة شديدة في طلب العلم لم يثنه عنه فقرة المدقع، وقد قضى معظم أيام دراسته في أصفهان ثم رجع إلى العراق لزيارة المراقد المقدسة، وتوفي في النجف الأشرف ودفن فيها عام (1209). من مؤلفاته: (سنقتصر في ذكر مؤلفاته في الحكمة والكلام والأخلاق والمواعظ): أ- الحكمة والكلام: =-1 جامع الأفكار وناقد النظار في إثبات الواجب 2-قرة- العين في الوجود الماهية - 3 اللمعات العرشية في حكمة الأشراف . - 4 اللمعة وهو مختصر اللمعات - الكلمات الوجيزة وهو مختصر اللمعة - 6- أنيس الحكماء في المعقول. 7 - أنيس الموحدين في أصول الدين - 8-شرح الشفا في الإلهيات - 9-الشهاب الثاقب في الإمامة . ب- في الأخلاق والمواعظ 1 - (جامع السعادات) في السلوك والأخلاق وهو أشهر ما ألفه - 2 ( جامع المواعظ ) في الوعظ لكنه لم يتم. للمزيد يمكن مراجعة 1 - الأصبهاني، الميرزا محمد باقر الموسوي روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق أسد الله إسماعيليان، الجزء السابع، قم، ص 200. 2 - نعمه الشيخ عبد الله فلاسفة الشيعة حياتهم وآرائهم، قدم له الشيخ محمد جواد مغنية، دار الكتاب الإسلامي، قم، 605 . 3 - النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات قدم له العلامة الشيخ محمد رضا المظفر، تعليق السيد محمد كلانتر مؤسسة السيدة المعصومة للطباعة، إيران، الطبعة الأولى، ص 5 وما بعدها -4- الأمين الإمام السيد محسن، أعيان الشيعة تحقيق وتعليق حسن الأمين دار ،التعارف، بيروت، الطبعة الخامسة، الجزء الخامس، 2000 ص 44.

لم يكن النراقي أول من حاول الجمع بين الدين والعرفان والفلسفة لكنه فاق المحاولات السابقة بأنه رأى أن السعادة الحقيقية تتحقق لطالبها في ثلاثة مصادر

هي:

1 - الشريعة.

2 - العرفان.

3 - الحكمة

وهذا ما يدل عليه اسم كتابه دلالة واضحة (جامع السعادات) فمنها - أي المصادر الثلاثة - استقى الفضائل الأخلاقية ولا خلاف أن نأخذ الفضائل من تلك المصادر ما دام الهدف واضح هو وضع مثل أعلى للإنسان، بيد إن ذلك لا يعني أن هناك اتفاقا في المنهج، وبما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي اصطفاه الله ليكون خليفته في الأرض، فلابد من أن تكون جميع المفاهيم التي جاءت بها الشريعة من (عبادة وقيم) تتجاوز الحدود النظرية إلى مستوى أعلى لتحقيق ما هو أفضل للوصول إلى السعادة وهذا يتحقق عن طريق الوظيفة التي أوكلها الله للإنسان وهي عبادته «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون» سورة البقرة.

وما تتم هذه العبادة الحقيقية إلا بعد تزكية النفس وتطهيرها بالظاهر والباطن، فنظر النراقي أولاً إلى الدين وما يحمله من أخلاق وأقر بها، إلا إن فكره الذي استقى أفكاره من بنات أفكار أساتذة الفلسفة في ذلك الوقت، دفعه إلى إعادة تقييم أخلاق الدين بما فيها من أخلاق المعاملات بين المخلوق وذاته وبين المخلوق ،والمخلوقين وبين المخلوق والخالق فالإسلام لم ينظر إلى حامل القيم فقط بل إنه نظر إلى مدى تطبيقها على الأرض الواقع ك__(العلاقة بين المفهوم والماصدق).

ثم بحث بأخلاق العرفانيين لأنهم تحلوا بفضائل الأخلاق وتخلوا عن رذائلها، إلا أنه يعد الصوفية من الطوائف المغرورة فمنهم من اغتر ومنهم من يدعي غاية المعرفة ومشاهدة المعبود، فأراد من الإنسان المسلم أن يسلك مسلك العارف، والعارف

ص: 247

برأيه ذلك المخلوق الذي لم يقنع بظاهر العقيدة الدينية فغاص إلى باطنها ليكشف عن أسرارها فلابد من أن يمر بسير وسلوك منها (التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، الرضا، التوكل، المحاسبة، المراقبة، الحب، الأنس، واليقين...الخ)، مستشهداً بآيات الذكر العزيز وحديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأقوال الأئمة الأبرار علیهم السلام . أما المعين الثالث والأخير للسعادة فهي (الحكمة) ومما يلفت نظر القارئ استيعاب النراقي لمواقف الفلاسفة السابقين، سواءً أكانوا من اليونان أم المسلمين فمع الفلاسفة اليونان نلاحظ تأثرة ب__(افلاطون) الإلهي على حد تعبيره في تقسيمه للنفس أما أرسطو فأخذ عنه نظرية الوسط.

ولا ريب في أن السبب يعود إلى اقترابهما من روح الشريعة لأن دين الإسلام دين الوسطية، أما أثر الفلاسفة المسلمين فأول ما نجد تأثره بابن سينا في تقسيمه الحكمة وعلاقتها بموضوعاتها، أما المنهج العلمي فقد أخذه عن ابن مسكويه في معالجته للمشكلات الأخلاقية، أما الغزالي فلم يتجاوز تأثره بطريقة الوعظ والإرشاد التي بنى عليها كتابه (إحياء علوم الدين)، فضلاً عن اثر مجدد الفلسفة الإسلامية - الملا صدرا - في (تزكية النفس وتهذيبها).

والسعاة لدية مرهونة (بتزكية النفس) وما يكون ذلك إلا إذا علم الإنسان أنه اشرف المخلوقات ((إنا كرمنا بني آدم)) ، فلا يكون الغرض من خلق الإنسان أن يرتع وينشغل باللذات البهيمية، فالغاية من وجوده أسمى من ذلك، فعليه تطهير السر والعلن وما يوصله إلى ذلك إلا علم الأخلاق، فلابد من أن يعتدل بفضائله ليصل إلى السعادة الحقيقية التي تكون غايتها التشبه بالمبدأ الأول - الله - (ولله المثل الأعلى)، لأنه استحق الصفات على وجه الحقيقة والكمال الأعلى وجه المجاز والنقص.

وقد رأى النراقي أن الرذائل وهي (المعاصي) قد تسبب بعض الأمراض النفسية على اعتبار أن الإنسان المؤمن لا يعاني مرضاً نفسياً قط، فوضع برنامجا لعلاج هذه الأمراض أما بالكلية أو بالجزئية.

ص: 248

وإن للعقل الإنساني وظائف متعددة منها (التخيل والتأمل والتفكير) لكن من أسمى الوظائف التي يقوم بها العقل هو التأمل النقدي للقيم التي يحيا الإنسان تبعا لها فهي تعبر عن موقفنا اتجاه أنفسنا (الأنا) واتجاه الآخر (الغير) وتجاه العالم، والنراقي إذ عالج مسألة القيم على اعتبار أن «لفظ القيمة يطلق في علم الأخلاق على ما يدل كلية لفظ الخير بحيث تكون قيمة الفعل تابعة لما يتضمنه من خيرية»(1) فعلى طالب السعادة الحقيقية أن يأخذ خلاصتها مما ورد في الشريعة مع زبدة ما أورده أهل العرفان والحكمة الفلسفة (2). وللوقوف أكثر عند الأخلاق عند النراقي سيتم دراسة

الموضوعات الآتية:

1 - الأخلاق الدينية.

2 - الأخلاق العرفانية.

3 - الأخلاق الفلسفية.

أولاً: أخلاق الدين

إن الأخلاق جزء جوهري من الدين وذلك أننا نتعلم القيم الأخلاقية ونمارسها منذ طفولتنا من خلال الدين نفسه، ففي الكتب السماوية تعاليم أخلاقية وفي سنة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كذلك (3). فمن تأمل في مقاصد الأوامر الإلهية عرف أنها ترمي إلى غرض واحد هو طهارة النفس والكمال الإنساني(4) ، فإذا علمنا أن هدف الأخلاق هو وضع مثل أعلى أمام الإنسان متمثلاً في قيم خلقية، فإننا نستطيع القول بأن لا خلاف بين هذين العلمين، إذ إن الخلاف في المنهج الذي يتبعه كل منهما فعلم الأخلاق الديني يعتمد على (الوحي)، أما علم الأخلاق الفلسفي فإنه يعتمد على (العقل) وتسعى

ص: 249


1- صليا، د، جميل ، المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية دار الكتاب اللبناني بيروت الطبعة الأولى، الجزء الثاني، 1973، ص213
2- النراقي، جامع السعادات، ص20.
3- الطالبي د. عمار، مدخل إلى عالم الفلسفة، دار الصحيفة، القاهرة، 1999 ص 68.
4- المولى، بك، محمد احمد جاد، الخلق الكامل، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، الطبعة الثانية، الجزء الأول ، 1965 ص 3.

الفلسفة الخلقية إلى تحليل ما يسمى بالوقائع الخلقية وتأسيسها تأسيساً فلسفياً(1)، وعلى كل حال فإن القيم الدينية تبقى معتمدة على فهم العقل، لأنها قيم ليست مجرد نصوص لا مفهوم لها وهذه المفاهيم قد تختلف العقول في تأويلها، إنما هي قیم یمکن للعقل إدراكها (2).

إن الحياة الأخلاقية الإسلامية تعنى بشكل خاص بالفضائل العائلية والاجتماعية فمن أساسها احترام المرأة وحسن الضيافة والحفاظ على العهد والتواضع وكبح جماح الشهوات (3)وترك إيذاء الناس وبر الوالدين ولو كان الأبوان غير مسلمين والنظافة... الخ(4) ، إذ إن الإسلام عندما جاء أقر ما هو صالحاً لبناء الأمة وجاءهم بوصايا تحث على مكارم الأخلاق التي بها يكون المرء معتدلاً في نفسه وأسرته وأمته والعالم.(5)

وبناءً على كل ما تقدم يكون حسن الخلق مصداقاً للإيمان وهو أثقل ما الميزان يوم الحساب وسلوك الإنسان المسلم مع الجنس الإنساني يترجم إنسانية الإسلام (يا ابن آدم عش ما شئت فانك ميت وأحب من شئت فإنك مفارق واعمل ما شئت فإنك مجازی به وخالق الناس بخلق حسن)(6). هكذا نلاحظ أن البحث الأخلاق الإسلامية من وجهة النظر الدينية شملت حقول الحياة كافة منها حقل أخلاق الفرد وأخلاق الأسرة والمساواة الاجتماعية واعتبر الحرية مبدأ الإيمان ومنبها إلى اثر الآفات الاجتماعية التي تصدر عن الحسد والظلم والغيبة(7).

يرى النراقي أن فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة للسعادة الأبدية ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية فيجب على كل عاقل أن يجتهد في اكتساب

ص: 250


1- زقزوق، د. محمود حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، دار القلم، بيروت، الطبعة الثانية، 1980 ص 13.
2- الطالبي، د. عمار، مدخل إلى عالم الفلسفة، ص69.
3- فرانسوا غريغوار ، المذاهب الأخلاقية الكبرى ترجمة قتيبة المعروفي، منشورات عويدات، بيروت الطبعة الأولى، 1970 ، ص 74.
4- فروخ، د. عمر، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة 1981، ص178.
5- موسى، د. يوسف محمد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، ص17.
6- الهاشمي، عابد توفيق مدخل إلى التصور الإسلامي للإنسان والحياة، دار الفرقان للنشر والتوزيع عمان، الطبعة الأولى، 1982 ، ص 156
7- العوا، د. عادل فلسفة الأخلاق في الإسلام، ص147.

الأخلاق التي هي الأوساط المثبتة من صاحب الشريعة كقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم خير حير الأمور أوسطها(1) بل قبل ذاك أن أمة الإسلام هي أمة وسط بين الأمم المختلفة (وكذلك جعلناكم أمة وسط لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)(2). ويتناول ضمن هذا الموضوع الفضائل في المعاملات على وفق المسائل الآتية:-

1- الغيرة على الدين والحريم والأولاد وهو أن يجتهد في حفظ الدين من بدع المبتدعين وإهانة من يستخف به من المخالفين ويسعى إلى نشر أحكامه أما الغيرة على الحريم فهو أن يحفظهن عن أجانب الرجال فكان أصحاب النبي يسدون الثقب في الحيطان لئلا تطلع النساء على الرجال، وأخيراً الغيرة على الأولاد أن نراقبهم في أول أمرهم فاستعمل في حضانة كل مولود امرأه صالحة(3)، إذ إن الصبي الذي تتكون أعضاؤه من اللبن الحاصل من الحرام يميل طبعه إلى الخبائث(4)، وضده عدم الغيرة وهو إهمال ما يلزم محافظته من الدين والحريم والأولاد، قال صلی الله علیه و آله وسلم: (إذا لم يغير فهو منكوس القلب(5).

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: السعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم مراسيم الدين ومن الآيات الدالة علية ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)) (آل عمران - 107)(6). وضده التهاون فيه وهو ناشئ أما من ضعف النفس وصغرها أو من الطمع المالي فيكون من الرذائل القوة الغضبية فيه جانب التفريط أو من جانب القوة الشهوانية من جانب الإفراط(7)ويوضح أحد الباحثين هذه الفضيلة الدينية فيقول : (لقد ذم القرآن بني إسرائيل لأنهم

ص: 251


1- النراقي، جامع السعادات، ص24.
2- فیاض زيدان بن عبد العزيز نظرت في الشريعة، الطبعة الأولى، 1961، ص 25.
3- (إن من حقوق الولد على والدية إحسان تسميته ثم اختيار ظئره فان اللبن يعدي) اليازجي. كمال نصوص فلسفية ميسرة من تراث العرب الفكري دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1968 ص 184.
4- النراقي جامع السعادات، ص 156 .
5- المصدر نفسه، ص 155 .
6- المصدر نفسه، ص 325 .
7- المصدر نفسه، ص 322 .

افسدوا مجتمعهم بترك الاثنين يرتعون في إثمهم) وقال الإمام علي علیه السلام : (لا يسأل الجهلاء لم لم يعلموا حتى يسأل العقلاء لم يعلموا).

3- صلة الرحم: وهو تشريك ذوي اللحمة والقرابات بما ناله من مال والجاه وهو أعظم القرابات وأفضل الطاعات قال تعالى: ((واعبدوا الله ولا تشركوا به شيء وبالوالدين أحسانا وبذي القربى)) (النساء - الآية 36)(1)، فضده قطع الرحم وباعثة أما العداوة والبخل فهو من رذائل القوة الغضبية أو الشهويه.(2)

4- بر الوالدين وهو اقرب القرابات واشرف السعادات قال تعالى : ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا)) (الإسراء - الآية 24). وضده عقوقهما وهو يكون ناشئا إما من الحقد والبغض أو من البخل وحب الدنيا وورد في الإسرائيليات انه تعالى أوحى إلى موسى (انه من بر والديه وعقني كتبته برا ومن برني وعق والديه كتبته عاقا)(3). وبذلك أمر الله تعالى الإنسان الإيمان بالله وعبادته، لأنه السبب الحقيقي لوجوده والإحسان للوالدين لأنهما السبب الظاهري لوجوده.(4)

5- حق الجار: قريب من صلة الرحم، إذ الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه إخوة الإسلام قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (الجيران الثلاثة ومنهم من له ثلاثة: حقوق حق الجوار، وحق الإسلام وحق القرابة ومنهم ما له حقان حق الإسلام وحق الجوار ومنهم من له حق واحد، الكافر له حق الجوار)(5) .

6- الصدق وهو اشرف الصفات المرضية ورئيس الفضائل النفسية قال تعالى: ((رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه)) الأحزاب الآية(6). وللصدق أقسام منها الصدق

ص: 252


1- أبو زهره محمد محاضرات في المجتمع الإسلامي، معهد الدراسات الإسلامية، مطبعة يوسف القاهرة، ص7.
2- النراقي جامع السعادات، ص335.
3- المصدر نفسه، ص 334
4- المصدر نفسه، ص 337
5- عباس محمد إبراهيم مجمع الحسنات مطبعة الموصل العراق ،الطبعة الأولى، 1985، ص 147
6- النراقي جامع السعادات، ص 339.

في القول وفي النية وفي العزم وفي الوفاء وفي الأعمال وفي مقامات الدين(1) وضده الكذب، وقد ذمه الله تعالى : (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون) (النحل الآية - 105) وصدور الكذب إما عن عداوة أو عن حسد فيكون من رذائل قوة الغضب أو من حب المال فيكون من رذائل قوة الشهوة(2).

7- حسن الظن: وهو من لوازم قوة النفس فينبغي لكل مؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا يظن أن ما يرد عليه في الدنيا من البلايا هو شر له وعقوبة. وكذلك لا يظن السوء بالمسلمين(3) وضده سوء الظن بالخالق والمخلوق وهو من نتائج الجبن وقد يترتب عليه الغم والخوف(4).

8- الفطانة والعلم : من كان فطناً عارفاً بربه أو بنفسه أو بالدنيا وبالآخرة عارفاً بكيفية السلوك إلى الله يجتنب ما هو ضده هذه الفضلة وهو الغرور، إذ من عرف نفسه بالذل والعبودية اجتنب مثل هذه الرذيلة فالغرور مركب من الجهل وحب مقتضيات الشهوة والغضب وهو منبع كل هلكه ولذلك ورد الذم الشديد في الآيات ((فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغركم بالله الغرور)) (لقمان الآية - 32).(5)

9- الإخلاص : وهو منزل من منازل الدين وهو تخليص العمل من كل الشوائب والمخلص هو من يكون عمله لغرض التقرب إلى الله من دون قصد شيء آخر، والإخلاص مراتب:

أ- الإخلاص المطلق : والمراد منه وجه الله من العمل دون توقع غرض في الدارين ولا يتحقق لمحبة الله.

ب-الإخلاص الإضافي: القصد منه الثواب والاستخلاص من العذاب، قال رسول

ص: 253


1- المصدر نفسه، ص 373
2- المصدر نفسه، ص 366
3- المصدر نفسه، ص 166
4- المصدر نفسه، ص 163
5- المصدر نفسه، ص 413

الله صلی الله علیه و آله وسلم في حقيقة الإخلاص (هو أن تقول ربي ثم تستقم كما أمرت تعمل له لا تحب أن تحمد عليه أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربك) (1). وضده الرياء وهو من الكبائر الموبقة وقد تعاضدت الآيات على ذمة ((فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون)) (الماعون الآية - 4) . والرياء على نوعين منها أن يكون في العبادات وهو حرام مطلقا وهو يبطل أصل العبادة لأن الأعمال بالنيات والرياء بغير العبادات وقد يكون منه مباحا إذ يجب على المرء التزين باللباس قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(أن الله يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم).(2)

10- الشكر الشكر أفضل منازل الأبرار وهو موجب لدفع البلاء وازدياد النعماء قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (إبراهيم الآية - 7) . وغاية شكر العبد أن يعرف عجزة عن أداء حق شكره تعالى على نعمه والنعمة عبارة عن كل خير ولذة وسعادة وأسمى النعم التي تكون مطلوبة لذاتها وهي مخصوصة بسعادة الآخرة أي لذة النظر إلى وجه الله وسائر لذات الجنة فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى وهذه هي النعمة الحقيقية قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم (لا عيش إلا عيش الآخرة) (3).

ب الفضائل في العبادات إن كل العبادات الإسلامية تتجه إلى تهذيب ضمير المؤمن ووصايا الرسول تتجه إلى تطهير قلب المؤمن فيقول صلی الله علیه و آله وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) (4). وأول هذه العبادات الصلاة ولكن قبل أن ينظر النراقي بعين المفكر إلى هذه العبادات نظر أولا إلى أحد أهم الأمور العبادية وهي (الطهارة)، فالطهارة من أهم الأمور للعباد فهي وسيلة لحصول الطهارة الباطنية وما لم تحصل الأولى لم تحصل الثانية وبذلك قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (الطهور نصف الإيمان) والطهارة أربع مراتب (5)

ص: 254


1- المصدر نفسه، ص 407.
2- المصدر نفسه، ص 392
3- المصدر نفسه، ص 539
4- أبو زهرة، محمد، محاضرات في المجتمع الإسلامي، ص 15.
5- النراقي ، جامع السعادات، ص 570.

تطهير الظاهر من الأحداث.

تطهير الجوارح من الآثام.

تطهير القلب من مساوئ الأخلاق.

تطهير السر عما سوى الله.

الصلاة: إن حقيقة الصلاة ليست في الحركات الظاهرة وإنما في المعاني الباطنه التي هي روح الصلاة ومنها الإخلاص وحضور القلب والانكسار لله والرجاء للطف الله وإلهييه وسببها حالة لنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله والحياء وسببه التقصير في العبادة وقد مدح الإله الصلاة بعد مدح الإيمان حين قال: ((قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)) (المؤمنون الآية - 9).

وكل عاقل يعلم أن حركة اللسان والجوارح مع غفلة القلب لا غفلة القلب لا تنتهي إلى درجته إلى هذا الحد(1)، (ومن الناحية العلمية ثبت أن الصلاة تحدث بعض النشاط في أجهزة الجسم فهي ليست مجرد تلاوة ميكانيكية للأدعية ولكنها تسام صوفي يحسن فيها الإنسان بالله)(2).

الصوم: أما الصوم فأجره عظيم وثوابه جسيم فمن صام مخلصا لله وطهر باطنه من ذمائم الأخلاق وكف جوارحه عن المعاصي استحق المغفرة والإخلاص من عذاب الآخرة والصوم درجات منها صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة وصوم الخصوص وهو الكف عن المذكور مع كف الجوارح وصوم خصوص الخصوص وهو الكفان المذكوران مع كف القلب عن الهمم الردية والأخلاق الدنية والانصراف لله .(3)

الزكاة: لقد قرن الله تعالى الزكاة بالصلاة ((فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة)) (الحج

ص: 255


1- المصدر نفسه ص 596
2- نوفل، عبد الرزاق الإسلام والعلم الحديث، دار المعارف، مصر، الطبعة الأولى، 1958 ص 135.
3- النراقي، جامع السعادات، ص608.

الآية-87). والسر في وجوبها ثلاثة أمور منها أن التوحيد العام ألا يبقى للموحد محبوب سوى الله إذ المحبة لا تقبل الشركة قال تعالى: ((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة)) (التوبة - 11). وتطهير النفس وشكر النعمة فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن أمام المالية فهي شكر النعمة المال(1) وبفضل هذا الركن من الإسلام يقول المستشرق (ماسينيون): «إن في الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكر المساواة بفرض زكاة وبذا يحل الإسلام مكانان وسطا بين النظريات الشيوعية» .(2)

الحج: فهو من أعظم أركان الدين فهو ما يقر بين العبد وربه وأصعب العبادات البدنية وأفضلها فيه تصفي النفس وتكون اشد تجرد وكلما كانت كذلك كان انسها وحبها لله اشد وعلى الرغم من ان بعض شعائرها لا أنس بها كالرمي والتردد بين الصفا والمروة إلا أن بها تعظيما لله فالحاج يجرد دينه لله ويتوب لله توبة خالصة [3] ويخلي نفسه عن كل ما يشغل القلب ويحسن أخلاقة (3).

تلاوة القرآن: إن القرآن يتضمن أصول حقائق المعارف والمواعظ والأحكام فيكون لذلك أثر في تصفية النفوس وللقرآن آداب ظاهرة وأخرى باطنه فأما الظاهرة فمنها الوضوء واستقبال القبلة والجهر المتوسط لو أمن الرياء أما الآداب الباطنة فمنها فهم عظمة الكلام وفضل الله ولطفه في نزوله عن عرش جلالته إلى درجة إفهام خلقة وخضوع القلب... الخ.(4)

وقد اختتم النراقي الكتاب بالإشارة إلى بعض الأمور الباطنية المتعلقة بزيارة المشاهد تضمنت تجديد العهد لولايتهم وأحياء أمرهم وإعلاء كلمتهم، وتنكيت أعدائهم وكل واحد من هذه الأمور عظيم أجره وجزيل ثوابه)(5)، وهكذا نرى أن

ص: 256


1- المصدر نفسه، ص 270
2- نوفل عبد الرزاق الإسلام والعلم الحديث، ص 174
3- النراقي جامع السعادات، ص 611.
4- المصدر نفسه، ص 606
5- المصدر نفسه، ص 617

الإسلام يدعو للتي هي أحسن وهي اتباع خطة الإنسانية فالإسلام يعتبر الخلق كعقيدة ولكنه يعده أيضا مظهراً من مظاهر الاعتقاد ومن أجل الوصول إلى ذلك يجب التخلق بأخلاقه تعالى التي أودعها في فطرة الإنسان الحقيقي التي أعطانا أمثلة منها في أخلاق النبيين والصديقين(1).

ثانياً - الأخلاق العرفانية:

1- تعريف العرفان (2): «وهو العلم بأسرار الحقائق الدينية وهو أرقى من العلم الذي يحصل لعامة المؤمنين أو لأهل الظاهر من رجال الدين»(3)، «وقد أطلق على نوع من المعرفة الصوفية، فيقال عارف بالله أي متحقق بمعرفته ذوقاً وكشفاً، ويطلق بعض صوفية الإسلام عليه أيضا (المعرفة اللدنيه) أي التي تكون من لدن الله»(4).

فالعرفان في الاصطلاح الشيعي هو: «(البصيرة الباطنية وليس العلم الظاهري) وبمقدر ما تسمو النفس وتزكو ويرقى الإنسان إلى عالم المعنى والكمال على قدر ما يستفاد من الكتاب والسنة يحصل العرفان. أما العرفان في التصوف فهو لا يتوقف على الالتزام بالكتاب والسنة وإنما يتجاوز ذلك إلى الرياضيات المحرقة المعينة على تجريد النفس من وعاء البدن، فإذا صبرت النفس تحصل لها المكاشفة» (5).

وهناك من يرى أن تسمية الصوفية بالعارفين هي تسمية خاطئة، لأن العرفان مرتبة من مراتب الطريق ولا يصل إليها من الصوفية إلا من بلغ درجة عالية في سلم الطريق (6). أما العرفاني فهو الذي لا يقنع بظاهر الحقيقة الدينية بل يغوص إلى باطنه المعرفة أسرارها العرفانية كمذهب تؤمن أن العقل البشري قادر على معرفة الحقائق

ص: 257


1- الفاسي ،علال مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها مكتبية الوحدة العربية الدار البيضاء، ص 191.
2- وهو مذهب بعض المسيحيين الذين اعتقدوا أن المادة شر وبان الخلاص يأتي عن طريق المعرفة الروحية شكور .د. محمود جواد موسوعة الفرق الإسلامية، تقديم كاظم ،مرير تعريب علي هاشم مجمع البحوث الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1995، ص 359
3- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، ص 72.
4- زيادة د. معين الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الانماء العربي، الطبعة الاولى، المجلد الأول 1986 ص 587
5- الرجا، السيد حسين التصوف في البداية والتطرف في النهاية مؤسسة الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2003 ص 197.
6- بدوي، د. عبد الرحمن ملحق موسوعة الفلسفة، مطبعة سليمان نزاده، إيران ،الطبعة الأولى الجزء الثالث 2006 ص 67

الإلهية(1) ، وقد ظهر في كلام المتصوفة المتأخرين القول بالقطب(2)، ومعناه رأس العارفين، وحين يقبضه الله يورث مقامه لآخر من أهل العرفان.(3)

2 نشأة العرفان: «بدء الكلام عن العرفان عند صوفية القرنين - الثالث والرابع الهجريين ومن أبرز هؤلاء ذو النون المصري (ت 245ه) الذي جعل معرفة الصوفية في مقابل معرفة الحكماء والمتكلمين، فالأولى ذوقية والثانية استدلالية. ويعدّ الغزالي (ت 505 ه) أول من عمق الكلام في العرفان الصوفي وجعل التصوف نظرية في العرفان بالله مؤدية إلى السعادة» (4).

ویری أحد الباحثين إن إحدى الخصائص التي اختص بها الفكر الشيعي هي خاصية العرفان (5)، وقد سبق المستشرق هنري ،كوربان، أي الباحث السابق وذهب إلى أبعد من ذلك بكثير فرأى أن كبرى قضايا العرفان الشيعي قد تكونت وبشكل رئيس حول تعاليم الأئمة الرابع والخامس والسادس وهم: «علي زين العابدين علیه السلام(95 ه- 714م) محمد الباقر علیه السلام (115 ه- 733م) جعفر الصادق علیه السلام (145ه- 765م) مضافا إليها بالطبع ما روي عن الإمام الأول»(6) ولا شك في أنه يعني بالإمام الأول علي بن أبي طالب ، فأول العرفاء في هذه الأمة (علي) غير أنه لم يصل إلى هذه المرحلة من العرفان برياضيات شاقة وإنما بتنمية الأخلاق والفضائل بصورة سليمة(7).

فالعرفان كبناء ثقافي ينقسم إلى قسمين: 1 - القسم النظري 2- القسم العملي. وما يهمنا القسم العملي فهو : «عبارة عن الجانب الذي يبين العلاقات والواجبات

ص: 258


1- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، ص 72.
2- (القطب: وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضوع نظر الله في كل زمان أعطاه الاسم الأعظم من لدنه وزنه يتبع علمه وعلمه يتبع علم الحق) الجرجاني علي بن محمد، التعريفات ويلية رسالة اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2004 ص 145.
3- ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد مقدمة ابن خلدون دراسة احمد الزعبي، دار الأرقم بيروت 2001 ص 524.
4- زيادة د. معن، الموسوعة الفلسفية العربية، الجزء الأول، ص 587.
5- الرجا، السيد حسين، التصوف في البداية والتطرف في النهاية، ص198.
6- کوربان هنري تاريخ الفلسفة الإسلامية من الينابيع حتى وفاة ابن رشد ترجمة نصير مروه تقديم موسى الصدر، منشورات عويدات بيروت الطبعة الأولى، الجزء الأول، 1966 ص 75.
7- الرجاء السيد حسين، التصوف في البداية والتطرف في النهاية، ص 199.

المفروضة على الإنسان مع نفسه والعالم والله فالعرفان في هذا القسم مثل علم الأخلاق» (1). «وبما أن العرفان وثيق الصلة بالدين الإسلامي، فان العرفاء يستندون إلى الكتاب والسنة والسيرة النبوية وسيرة الأئمة وأكابر الصحابة»(2).

نخلص مما تقدم إلى أن وسيلة المعرفة لدى العرفاني هي (القلب)، أما المنهج الذي يعتمد عليه فهو منهج (ذوقي) وموضوع المعرفة هو (الله) والغاية منها هو (الحب الإلهي) وذلك كله لا يتم إلا بتزكية النفس وانخلاعها عن البدن، فبقدر ما تزكو النفس وتصفو تكون مستعدة للارتقاء إلى الكمال فيشرق عليها نور المعرفة الإلهية وهو نور الحقيقة وللوصول إلى كل ما تقدم يرى النراقي أن ذلك يمر عبر مراحل لم يذكرها على الترتيب:

1- التوبة : «وهي الرجوع عن المعصية، فيتوقف معرفتها على معرفة المعصية» (3). ويقول النراقي في التوبة «بأنها أول مقامات الدين ورأس مال السالكين ومطلع التقرب إلى رب العالمين ومدحها عظيم، قال تعالى: ((إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)) (سورة البقرة - 222)(4).

ويستشهد النراقي بقول أحد العرفاء ولم يذكر اسمه: لو لم يكن العاقل فيما بقى

من عمره إلا على فوت ما مضى من عمره من غير طاعة الله لكان حقيقاً أن يخزيه ذاك إلى الممات فكيف من يستقبل ما مضى من عمره بمثل ما مضى من جهله» (5).

2 - الورع: كما عرفة الجرجاني : «هو اجتناب الشهوات خوفا من الوقوع في

ص: 259


1- مطهري ،مرتضى العرفان، ترجمة عباس نور الدين الجزء الأول دار المحجة البيضاء، بيروت، ص 10
2- مطهري مرتضى العرفان ص 22 ويعد المطهري في موضع آخر أهل العرفان مبتدئاً بهم من القرن الثاني للهجرة حتى القرن التاسع للهجرة ب_( رابعة العدوية) ، معروف الكرخي، البسطامي سري السقطي، المحاسبي، الجنيد البغدادي، ذو النون المصري سهل التشري، العلاج الشبلي الطوسي، أبو طالب المكي. أبو الحسن الغرقاني، ابن القارض، ابن العربي المطهري. مرتضى العرفان ص 51 - 88
3- الطوسي، خواجة نصير ،الدين أوصاف الأشراف دروس في السير والسلوك تحقيق على المنصوري، مؤسسة البلاغ لبنان، الطبعة الأولى، 2001 ص 43.
4- النراقي جامع السعادات، ص 444.
5- المصدر نفسه ص 442

المحرمات».(1) وقد يقاس الورع بملكة التنزه عن المال الحرام، وقد يفسر بكف النفس عن مطلق المعاصي، فعلى المعنى الأول يكون ضداً لعدم الاجتناب عن المال الحرام، ويكون من رذائل قوة الشهوة وعلى الثاني يكون ضد الملكة الولوع على مطلق المعصية ويكون من رذائل القوة الغضبية والشهوية معا، وقد قال الباقر علیه السلام ( إن أشد العبادة الورع)(2) .

3- الزهد في الاصطلاح هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك(3) وهو قول سري السقطي والزهد الحقيقي وهو ترك جميع حظوظ النفس وعلامة ذلك التواء الفقر والغنى والذم والمدح والعز والذل لأجل غلبة الإنس بالله(4)، وليس من شروط الزهد في الإسلام أن يكون مقترنا بالفقر بل قد يتفق لإنسان ما الغنى والفقر معا (5). ويحدد النراقي الدرجة العليا من الزهد وهو ألا تكون للزاهد رغبة إلا في الله وفي لقائه فلا يلتفت إلى الآلام ليقصد منها الخلاص ولا إلى اللذات ليقصد نيلها بل أن يكون مستغرق الهمم بالله وهذا زهد العارفين.(6)

4- الفقر: الفقر ضد الغنى وهو فَقُدُ ما يحتاج إليه ولا يسمى فقد ما لا حاجة إليه فقر (7)ويحدد النراقي اختلاف أحوال الفقراء فمنهم الحريص والقانع والزاهد والخائف والراجي أما فقر العارف فهو عدم التفاته اللازم لإقباله على الله من دون غرض دنيوي أو أخروي.(8)

5- الصبر: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله إلا إلى الله لأن الله أثنى

ص: 260


1- الجرجاني التعريفات ص 204.
2- النراقي، جامع السعادات، ص 294
3- الجرجاني التعريفات ص 95
4- النراقي، جامع السعادات، ص 245
5- العبد، د. عبد اللطيف، محمد، التصوف في الاسلام واهم الاعتراضات عليه، دار النصر للتوزيع والنشر، الطبعة الثانية، 1999 ص 224
6- النراقي جامع السعادات، ص 244.
7- الجرجاني، التعريفات، ص 138 يشير النراقي الى نفس تعريف الجرجاني السالف الذكر لمقام الفقر فذلك يدل على اطلاعة على هذا الكتاب النراقي، جامع السعادات، ص 246.
8- النراقي جامع السعادات، ص247.

على أيوب علیه السلام بالصبر بقوله : (إنا وجدناه صابرا)(1) والصبر درجات منها الصبر على المعصية أو الصبر على الطاعة والصبر على البلاء وفي هذه الدرجات الثلاث نزلت الآية (واصبروا وصابرو ورابطوا) (الأنعام الآية 200)(2) والصبر إن كان يسيرا وسهلا فهو الصبر حقيقة وان كان يتعب فهو التصبر مجازا ومتى ما تيسر الصبر أورث مقام الرضا وقد قال بعض العارفين إن أهل الصبر على ثلاثة مقامات : الأول ترك الشكوى وهذه الدرجة التائبين والثاني الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين والثالث المحبة لما يضع مولاه وهذه درجة الصديقين .(3)

6 - الرضا: هو سرور القلب بمر القضاء(4) والرضا بالقضاء وأشرف المنازل السائرين وباب الله الأعظم ومن دخلة دخل الجنة قال تعالى ((رضي الله عنهم ورضوا عنه)) (المائدة الآية 22) (5)وقد ظهر في الأخبار أن رضا الله من العبد يتوقف على رضا العبد عنه تعالى وفي الحديث (إن الله يتجلى للمؤمنين في الجنة فيقول لهم سلوني فيقولون رضاك يا ربنا) فسؤالهم للرضا بعد التجلي يدل على انه أفضل كل شيء (6).

7- التوكل : هو الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي الناس (7)وأعلى درجات التوكل أن يكون بين يدي الله في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل وتحركه القدرة الإلهية وعلى الرغم من ذلك فان السعي لا ينافي التوكل .(8)

8- المحاسبة : قال تعالى فيها : ((وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم الله))( البقرة الآية 284) والمراد بالمحاسبة هو أن ينسب السالك كلماته إلى معاصيه ليعلم أيهما أكثر من الآخر فإن فضلت طاعاته نسب قدر ما يفضل إلى نعم الله عليه

ص: 261


1- الجرجاني التعريفات، ص 108.
2- الهدوي، شيخ الاسلام عبد الله الاصاري كتاب منازل السائرين مطبعة مسر بغداد 1990 ص 50.
3- النراقي، جامع السعادات، ص 557.
4- الجرجاني، التعريفات، ص 91.
5- النراقي جامع السعادات ص 516.
6- المصدر نفسه، ص 517
7- الجرجاني، التعريفات، ص 58.
8- النراقي، جامع السعادات، ص 529.

التي هي وجودة والحكم التي أودعها الله في خلقة أعضائه(1) . «والمحاسبة التي تأتي بعد العمل فيحاسب النفس على جميع حركاتها وسكناتها بان يطالبها أولا بالفرائض فان أدتها على وجهها شكر الله وان فوتتها طالبها بالقضاء وان أدتها ناقصة كلفها بالنوافل وان ارتكبت معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها» (2)وقد قال الإمام الصادق علیه السلام : طوبى لعبد جاهد في الله نفسه وهواه ومن هزم جند هواه ظفر برضاء الله .(3)

9- المراقبة: «استدامة علم العبد باطلاع الرب علية في جميع أحواله (4)ولا يصل العبد إلى هذا الحال إلا بعد فراغه من المحاسبة (5)وعلى العبد أن لا يخلو حاله من ثلاث فمراقبته فى الطاعة بالقربة والإخلاص وحراسته للنفس عن الآفات ومراعاة الأدب ومراقبته في المباح بمراعاة الأدب بان يأكل بعد التسمية ومراقبته بالمعصية بالتوبة والإقلاع والحياء (6).

10- الحب: قال الشبلي سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب (7)وهي ميل النفس إلى ما تقترن بالشعور به لذة وكمال ويجوز أن يكون سبب المحبة هو المعرفة كمحبة العارف (8)«وبذلك يكون لا محبوب غير الله فلا ريب أن الحسن والجمال والكمال كلها لله فان الله هو الكامل بذاته والجميل بذاته وما يوصف غيره بهما لا يخلو من شوائب» (9). «وهذه المحبة تكون بلا عله ذلك أن محبة الصديقين والعارفين تولدت من معرفتهم بقديم حب الله بلا عله فكذلك أحبوه بلا عله» (10)ويصل الإنسان إلى هذا الحال إذا صفّى نفسه من الكدورات فانجذبت

ص: 262


1- الطوسي، نصير الدين أوصاف الأشراف، ص 53.
2- النراقي جامع السعادات 462
3- المصدر نفسه، ص 464
4- الجرجاني، التعريفات، ص 170.
5- القشيري الإمام العالم أبي القاسم، الرسالة القيشرية في علم التصوف، مطبعة مبرا، بغداد، ص 148
6- النراقي جامع السعادات، ص 461.
7- القشيري الرسالة القشيرية، ص 249
8- الطوسي نصير الدين أوصاف الأشراف، ص 79.
9- النراقي جامع السعادات، ص 485
10- العبد، د. عبد اللطيف محمد التصوف في الإسلام، ص 324.

إلى عالم القدس وحدث فيه شوق تام فيرتفع إلى منبع الخيرات ويستغرق في مشاهدة الجمال الحقيقي فيصل إلى مقام التوحيد الذي هو نهاية المقامات وهذه المحبة هي نهاية درجات العشق وقد قال السجاد علیه السلام: (وعزتك قد أحببتك محبة استقرت في نفسي حلاوتها وأنست نفسي ببشارتها) (1).

11- الخوف توقع حلول مكروه أو فوات محبوب(2) ويقسم النراقي الخوف إلى قسمين: خوف معمود و خوف مذموم ويرى أن أعلى درجات الخوف المحمود أن يكون من الله وعظمته وهذا المسمى الخشية والرهبة في عرف أرباب القلوب (3)والخوف المحمود إذا جاوز حده صار مذموما لان الخوف المحمود يقتضي العمل وصحة البدن والعقل وكان بعض مشايخ العرفاء يقول للمرتاضيين الملازمين للجوع أياما كثيره احفظوا عقولكم فانه لم يكن لله تعالى ولي ناقص العقل وقد قال الصادق علیه السلام: (الهلال : من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا).(4)

12- الرجاء: (وهو تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل)(5)، والرجاء متعلق بقوة الغضب وهو من فضائلها لأنه باعث على العمل ولترتبه على قوة القلب يكون اقرب إلى طرف الإفراط (6). والرجاء يفضي إلى حسن الظن بالله وبعفوه بحق العاصي فإذا خطر له خاطر التوبة فيقنطه الشيطان من رحمة الله فعند هذا يمه قنوطة بالرجاء فيذكر قوله تعالى: ((يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)) (الزمر الآية (53) وقد قال الإمام علي علیه السلام: (يا بني خف الله خوفا ترى انك أن تأتيه بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وارج الله رجاء كأنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك)(7) .

ص: 263


1- النراقي، جامع السعادات، ص 487.
2- الجرجاني، التعريفات، ص 84
3- النراقي جامع السعادات، ص 132
4- المصدر نفسه، ص 138.
5- الجرجاني، التعريفات، ص 90.
6- النراقي جامع السعادات، ص 146
7- النراقي، جامع السعادات، ص 151.

13- الشوق وهو نزاع القلب إلى لقاء المحبوب (1)وحال الشوق لا يحصل إلا للذين تثبت المحبة في قلوبهم (2)وأفضل أنواع الشوق إلى الله وهو وجه الملازم للعارف فلا يخلو عارف من الشوق إلى الله فالوجه الأول فلأن ما اتضح لعارف من الأمور الإلهية وان بلغ غاية الوضوح فكأنه من وراء ستر رقيق والوجه الثاني لأن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عارف بعض منها فلا يزال متشوقا إذ إن معلومات الله المتعلقة بذاته غير متناهية فلا يسكن للعارف شوق البتة .(3)

14- الأنس: عبارة عن استينار القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول وهو من آثار المحبة فإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف وكان نظره مقصورا على الجمال الحاضر المكشوف سمي ذلك أنساً وغلب ذلك عليه فلن تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة ذلك لأن الأنس بالله

يلازمه التوحش مع غير الله(4) وقد ورد عن بعض العارفين قولهم «إن لله عبادا أرادهم بحق حقائق الأنس به فأخذهم به عن وجد طعم الخوف مما سواه» (5)«ولأن الأنس يقتضي العزلة فإن العبد يتخلص عن المعاصي التي تعرض الإنسان لها بالمخالطة كالغيبة والرياء»(6) هو هنا يستشهد بكلام «الغزالي أن الإنسان إذا دام وغلب ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف العبد فانه يثمر نوعا من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله سبحانه» .(7)

15- اليقين «هو رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان (8)وهو اشرف الفضائل الخلقية وقد قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم «اليقين الإيمان كله» فان كان اليقين في

ص: 264


1- الجرجاني التعريفات ص 107.
2- العبيد د. عبد الطيف محمد التصوف في الإسلام، ص 341.
3- النراقي، جامع السعادات، ص 476
4- النراقي، جامع السعادات، ص 509
5- العبد، د. عبد الطيف محمد التصوف في الإسلام، ص 343.
6- النراقي، جامع السعادات، ص 512
7- المصدر نفسه، ص 510
8- الجرجاني، التعريفات ص 208

المباحث الإلهية أدخل في تكميل النفس وتحصيل السعادة لتوقف الإيمان علية وقال الإمام الصادق علیه السلام: (إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير اليقين) (1).

ثالثاً - الأخلاق الفلسفية:

إذا كانت الفلسفة الأخلاقية قد احتلت عناية الفلاسفة القدماء حين كانت الفلسفة مستقلة تمام الاستقلال عن الدين، وموضوعاتها تتسم بالطابع التأملي الذي يطلق العنان للعقل للتفكير بما هو موجود حيث كانت الفلسفة تعرف بأنها حب الحكمة (2)لكن أية حكمة ؟ إنها الحكمة لذاتها ومع مرور الزمن بدأ هذا التعريف يتغير بتعدد المذاهب الفلسفية، الحكمة في العربية تشير إلى النظر الصحيح والعمل المتقن ويصف القرآن الحكمة بأنها خير ((يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)) (البقرة الآية 269).(3)

وفلسفة الأخلاق المقصود بها «معرفة الفضائل واقتناؤها لتزكو بها النفس ومعرفة الرذائل لتنزه عنها النفس»(4) ، وتشمل المسائل الأساسية للفلسفة الخلقية في البحث عن ماهية الخير والشر وعن الأساس النظري للواجبات وعن العلاقة بین الأخلاق والسعادة... الخ .(5) وإذا أردنا النظر إلى الأخلاق في الإسلام فإننا نجدها متعلقة في كل فروع المعرفة الإسلامية يؤكدها القرآن الكريم والسنة النبوية ولكن في النصائح

ص: 265


1- النراقي جامع السعادات، ص 81.
2- ان التعريف اللفظي للفلسفة (Philosophy) هو حب الحكمة وهي يونانية الأصل، لكن معناها قد اختلف باختلاف المذاهب الفلسفية المتباينة فافلاطون حين عرفها (بانها حب الحكمة) افلاطون الجمهورية ترجمة حنا خباز، مطبعة بابل ،بغداد، الطبعة الأولى 1983 ص 174 قد جمع في تعريفة لها الحكمة الأخلاقية التي تقوم في الارتفاع فوق أعراض الحياة ومصالح الأفراد وبين دراسة العالم والمبادئ التي يقوم عليها ودراسة النفس الإنسانية من حيث المعرفة والسلوك وقد اقترب من هذا التعريف بعض تعريفات العصر الحديث للفلسفة حين عرفت بانها الدراسة المتعلقة بأحكام القيم، بدوي، د. عبد الرحمن مدخل جديد إلى الفلسفة وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الأولى، 1975 ص 8.
3- الطالبي د. عمار مدخل إلى عالم الفلسفة، ص 18
4- صليبا د جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، ص 50.
5- الطالبي د. عمار، مدخل إلى عالم الفلسفة، ص 62.

والوصايا والآداب العامة وتتهنأ بها الأشعار ... الخ (1)، إلا إن الفكر الأخلاقي في الفكر الإسلامي تميز عن الأخلاق القرآنية في أن الأول وسع مفهوم الأخلاق بحيث شمل فضلا عن مصدرية الكتاب والسنة جهود الفلاسفة المسلمين وما استوعبوه من ثقافات سابقة حاولوا توفيقها مع الأصول الإسلامية(2).

وعلم الأخلاق الفلسفي يعتمد أساساً على العقل فتسعى الفلسفة الخلقية إلى تحليل ما يسمى بالوقائع الخلقية وتأسيسها تأسيسا فلسفيا(3)، ومفكرو الإسلام على اتفاق في إقامة المبادئ الخلقية على أساس من الإيمان بالله على نحو ما ورد في القرآن الكريم بل ذهبوا إلى إن كمال الأخلاق إنما يكون بالتخلق بأخلاق الله لأن في الذات الإلهية تجتمع كل الكماليات القصوى والله تجمع بين الرحمة والمحبة من ناحية والقوة والجبروت من ناحية أخرى في تعادل وتوازن ولهذا يقول الله تعالى (ولله المثل الأعلى) (النحل الآية - 113).(4)

وإذا نظرنا إلى النتاج الأخلاقي في الفكر الإسلامي ابتداءً من الكندي حتى أبي البركات البغدادي(5) نجد أن من بينهم من كان الدين عماد بحوثهم الأخلاقية كما

في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي وآداب الدنيا والدين للماوردي، أما من بحث الأخلاق بحثاً علمياً فمنهم الفارابي وإخوان الصفا وابن سينا بل بلغت الفلسفة الأخلاقية الإسلامية كمالها عند ابن مسكويه فحاول أن يمزج تعاليم أفلاطون وأرسطو بتعاليم الإسلام(6).

عرف النراقي الحكمة بانها أعيان الموجودات وحقائقها على ما هي عليه

ص: 266


1- الطويل، د توفيق فلسفة الأخلاق نشأتها تطورها دار وهدان للطباعة والنشر، القاهر، الطبعة الثالثة 1976 ص 138
2- عبد الحليم احمد عطية الأخلاق في الفكر العربي المعاصر دراسة تحليلية للاتجاهات الأخلاقية الحالية في الوطن العربي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1990 ص 131.
3- زقزوق د. محمود حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، ص 13
4- الطويل، د توفيق ص 139.
5- التكريتي، د. ناجي الفلسفة السياسية عند ابن أبي الربيع مع تحقيق كتابة سلوك المالك في تيسير الممالك، دار الأندلس، بيروت، الطبعة الثانية منقحة ومزيده 1980 ص 49-40
6- أمين د. احمد الأخلاق، ص 158 الطويل، د. توفيق، الفلسفة الأخلاقية، ص139.

[1]

ومنها استعمال العقل على الوجه الأصح(1) والنراقي إذ تابع ابن مسكويه في تعريفة للحكمة (2)فإنه تابع ابن سينا في تقسيمه للحكمة إلى قسمين وتحديد الموضوعات التي تعالجها معالجة فلسفية وهما(3):

الحكمة النظرية : وهي معرفة حقائق الموجودات التي لا يتعلق وجودها بقدرتنا واختيارنا وهي الموجودات الإلهية.

الحكمة العملية وهي معرفة حقائق الموجودات التي يتعلق وجودها بقدرتنا واختيارنا وهي الموجودات الإنسانية(4).

إن تعريف الخلق : «وهو العادة والسجية وعند القدماء ملكة تصدر منها الأفعال عن النفس من غير تقدم ولا روية فغير الراسخ من صفات النفس لا يكون خلقا كغضب الحكيم وكذلك الذي تصدر عنه الأفعال بعسر وتأمل كالبخيل إذا حاول الكرم»(5) أما يحيى بن عدي فقد عرفه «بأنه حال للنفس بها يفعل الإنسان أفعاله بلا رؤية ولا اختيار والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وفي بعضهم الآخر لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد»(6) وهنا أوضح ابن عدي أن الأخلاق قد تكون في بعض الأفراد بالفطرة وفي البعض الآخر بالاكتساب ولم يخرج مسكويه عن التعريف السالف للخلق فقال: «انه حال للنفس تحملها على أداء إعمالها من دون فكر وهذه الحالة طبيعية من أصل المزاج ومستفادة بالعادة والتدريب» (7)ويعرفه الغزالي «بأنه هيئة للنفس راسخة لا من يصدر

ص: 267


1- النراقي جامع السعادات، ص 49.
2- عرف مسكوية الحكمة (بانها فضيلة النفس الناطقة وهي ان تعلم الموجودات كلها من حيث هي موجودة، مثل معرفة الأمور الإلهية والأمور الإنسانية) مسكوية، تهذيب الأخلاق، ص 18
3- يقسم ابن سينا الحكمة إلى: أ- (حكمة: نظرية والغاية منها حصول اعتقاد يقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعلنا واختيارنا. ب - حكمة عملية : وهو الذي ليس الغاية منه حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات بل المقصود فيه رأي في أمور يحصل بكسب الإنسان ليكتسب ما هو خير) ابن سينا، أبو علي بن الحسين، تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات رسالة في أقسام العلوم العقلية، مطبعة كردستان العملية، مصر 1328 ه، ص 228
4- النراقي جامع السعادات، ص 46
5- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، ص49.
6- التكريتي، يحي بن عدي، تهذيب الأخلاق، دار الحكمة، بغداد ، 1992، ص 7
7- مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 29

منه بذل المال بحالة عارضة لا يقال خلقة السخاء ما لم يثبت في نفسه».(1) والنراقي بما أنه قد تأثر بكل من مسكويه والغزالي فإنه لم يخرج عن التعاريف المذكورة آنفاً فقرر أن الخلق «عبارة عن ملكة للنفس مغضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر ، والخلق يوجد في الإنسان أما بسبب المزاج أو تأثير الاعتياد بان يفعل فعلا بالرؤية ويصبر عليه إلى أن يصير ملكة ويصدر عنه بسهولة وان كان مخالفا للمزاج» .(2)

ويعتقد النراقي شأنه شأن أحد الفلاسفة التجريبيين المحدثين(3) أن النفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش تقبل كل ملكة بسهولة(4) أما اختلاف النفوس فإنما يرجع إلى اختلاف صفاتها الحاصلة من غلبة قواها المتخالفة (5)وبقاء النفس على النقصان يكون لعدم صرفها إلى طلب المقصود وبسبب العوائق لكثرة اشتغالها بالشواغل المحسوسة أو لضعف القوة العاقلة (6) لكن ما الغاية من كمال النفس؟ إن غاية الإنسان ككائن يجب أن تتنسق ومنزلته بين الموجودات وما يتميز به، وحسب التقسيم الذي أوضحه للنفس فلن تكون الغاية من خلقة لصفة اشتراك بها مع السباع في القوة الجسدية أو لصفة بهيمية فإذن تبقى قوة التمييز هي الفيصل الذي يفرق بينه وبين سائر الموجودات وهذا ما أوضحه من خلال النص الآتي: «إن للإنسان جنبة شابه بها السباع فبالجزء الجسماني يقيم في هذا العالم الحسي مدة قصيرة وبالجزء الروحاني يتنقل إلى العالم العلوي فيصاحب الأرواح القدسية بشرط أن يتحرك نحو كمالاتها الخاصة والتحلي بفضائل الأخلاق فتظهر علية آثار الروحانيات من العلم بحقائق الأشياء والأنس بالله والحب له»(7)ويعتقد النراقي أن منبعي اللذة والألم في الإنسان هو إدراك النفس ما يلائمها أو ما يلائمها فيقول:

ص: 268


1- الغزالي أبي حامد بن محمد، إحياء علوم الدين دار الفكر ،لبنان، ط ،ثالثة، ج ثالث، 1997، ص 48.
2- النراقي جامع السعادات، ص30
3- المصدر نفسه، ص 34
4- المصدر نفسه، ص 35
5- (يعتقد لوك أن النفس في الأصل كلوح مصقول لم ينقش فيه شيء وان التجربة هي التي تنقش فيها المعاني والمبادئ جميعا) ،کرم د یوسف تاريخ الفلسفة الحديثة، دار العلم بيروت ص 145
6- النراقي جامع السعادات، ص 27 .
7- المصدر نفسه، ص 36

«إن بإزاء كل واحدة من قوى النفس لذة وألم فاللذة إدراك الملائم والألم إدراك غير الملائم فغريزة العقل لما خلقت لمعرفة حقائق الأمور فلذتها في العلم وألمها في

الجهل وغريزة الغضب لذتها في الغلبة وألمها في الجبن أما غريزة الشهوة فلذتها العفة وألمها في الفجور»(1) و في النص السابق نلاحظ أن النراقي قد استبدل مصطلح الفضيلة باللذة، فنلاحظ ومما تقدم الأثر الافلاطوني أوضح في تقسيمه القوى الأربع وهو يستشهد بأقواله بشكل صريح.

إن الفضيلة النراقية إذا كان النراقي أفلاطونيا في تقسيمه لقوى النفس فإننا نراه أرسطيا في تحديده لمعنى الفضيلة والفضيلة(2) في الاصطلاح تعني «الاستعداد الدائم لسلوك طريق الخير» (3)ويعرف أرسطو الفضيلة بأنها «حال معتادة في التوسط الذي يحدده العقل وهي موجود بين خسيستين احدهما الزيادة والأخرى نقصان».(4)

أما النراقي فعرفها بأنها «الصفات في جميع الأخلاق هي المساواة من غير زيادة ولا نقصان».(5) ولما كان الإنسان مدني الطبع (6) ، فيحتاج بعض أفراده إلى بعض، ولا يتم عيشهم إلا بالتعاون، فلابد هنا من حفظ المساواة على نهج لا يتضمن إفراطا ولا تفريط (7). والنراقي هنا يريد أن يوضح أن احتياج الأفراد إلى بعضهم ناتج عن اختلاف الاستعدادات المتوفرة لديهم التي تؤثر على اختلاف النفوس من سيطرة بعض القوى على بعض مما يؤثر على تحقيق الفضيلة وتعديها للمجتمع. وهذا ما استنتجناه من النص الآتي: «لقد صرح علماء الأخلاق أن

ص: 269


1- المصدر نفسه، ص 30
2- المصدر نفسه، ص 37
3- المصدر نفسه، ص 41
4- (إن من اهم المحاولات التي قام بها الفلاسفة اليونان لتحديد مفهوم الفضيلة هي محاولة أرسطو فقد استفاد من المؤلفات السابقة عليه، واعتمد على نموذج الصحة الجسمية) جيجن ،اولف المشكلات الكبرى في الفلسفة اليونانية، ترجمة، د. عزت قوني مطبعة الكيلاني، القاهرة 1976، ص 402.
5- صليبا، د. جميل ، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، ص 148.
6- طاليس، أرسطو الأخلاق، ترجمة احمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1947، ص 96.
7- النراقي، جامع السعادات، ص 64.

صاحب الفضائل الأربعة لا يستحق المدح ما لم تتعد فضائلهما إلى الغير».(1)

وجريا على التقسيم الأفلاطوني أن للنفس ثلاث قوى وكل فرد قد يسحن استخدامها لعوامل أو يسئ استخدامها لعوائل أخرى فإن أحسن استخدامهما انتجت فضائل ثلاث هي: الحكمة الشجاعة والعفة ثم يحصل من سالم القوى الثلاث تحت الأولى حالة مشابهة هي كمال القوى وهي (العدالة).(2)

فضيلة الحكمة : «وهي العلم بأعيان الموجودات على ما هي عليها وهو لا ينفك عن الطمأنينة، فبمجرد أخذ بعض المسائل وتقديرها على وجه لائق من دون وثوق النفس واطمئنانها ليست حكمة». (3)

فضيلة الشجاعة: «هي ملكة انقياد القوه الغضبية للعقل حتى يكون تصرفها حسب تصرفه ونهيه ولا يكون صدور آثارها داعيا سوى كونها كمالا للفضيلة، فالخوف بالحروب لتحصيل المال والجاه ليس بشجاعة» .

فضيلة العفة: «وهي انقياد القوه الشهوانية للعقل، حتى يكون تصرفها مقصورا على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عما يتضمنه المفسدة، وينبغي أن يكون الباعث للاتصاف بهذه الملكة لمجرد كونها فضيلة وكمالاً للنفس وحصول السعادة الحقيقية بها لا لشيء أخر» .(4)

فضيلة العدالة: «هي انقياد القوه العملية العاقلة، بحيث يرتفع بين القوى التنازع ويحصل ذلك إذا حصلت لنفس ملكة راسخة تصدر لأجلها جميع الأفعال على نهج

ص: 270


1- (اكد افلاطون إن المرء لا يستغني عن أخوانه في الجمهورية) أفلاطون الجمهورية، ص 47، وعندما جاء أرسطو حدد طبيعة الإنسان وطبيعة هذه العلاقة فقال (الإنسان من طبعة حيوان مدني) ارسطو الأخلاق ص5، أما مسكويه فرأى أن السعادة الإنسانية لا تتم إلا بالمدينة، لأن الإنسان مدني بالطبع فإن القوم الذين رأوا الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس لا تحصل لهم شيء من الفضائل الإنسانية من عفه وشجاعة وعدل وصحة بل تصير قواه عاطلة لا تتوجه لا إلى خير ولا إلى شر مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 29.
2- النراقي جامع السعادات، ص611.
3- النراقي، جامع السعادات، ص50 ، وهذا ما أوضحه مسكويه من قبل فقال: (إن كل واحده من الفضائل الأربع إذا تعدت صاحبها إلى غيره سمي صاحبها بها ومدح عليها) مسكويه، تهذيب الأخلاق ص 17.
4- النراقي جامع السعادات، ص46.

الاعتدال ولا يكون له غاية في ذلك سوى كونها فضيلة وكمالا» (1). ولا ريب في أن بإزاء كل فضيلة رذيلة هي ضدها ولما عرفت أن أجناس الفضائل أربعة فأجناس الرذائل أربعة أيضا في البداية الجهل ضد الحكمة، الجبن ضد الشجاعة، الشره ضد العفة الجور ضد العدالة. ولكن عند التحقيق يظهر أن لكل فضيلة حدا معيننا والتجاوز عنه - بالإفراط أو التفريط - يؤدي إلى الرذيلة، وان جميع أنواع الفضائل المدرجة تحت أجناسها يكون لكل منها رذيلة شهيرة بها، فينبغي لطالب السعادة أن يعرفها ويتجنب عنها (2). وإذا كانت نظرية أرسطو الوسطية نظرية عقلية غامضة فهل وقع الفلاسفة المسلمون من الذين أخذوا بها في هذا الغموض؟

من الممكن القول إن الفلسفة التي تأخذ بالنظر العقلي الصرف قد تبدو في بعض المشكلات التي تعالجها والحلول التي تقترحها يكون فيها شيء من الغموض، لكن الفلاسفة المسلمون قد تلافوا هذا الغموض وهذا الخطأ بالنسبة لهذه النظرية فوجدوا ضالتهم المنشودة في كتابهم العزيز والنراقي من الفلاسفة المسلمين الذين استطاعوا أن يتلافوا هذا الغموض فاسند النظر العقلي بالقول الشرعي فكان الشرع هو ما لاذ ،إليه فقال: «ان فضائل الأخلاق هي الأوساط المثبتة من صاحب الشريعة واجتناب رذائلها التي هي الأطراف» (3). فالفضائل إذن هي الأوساط، فبإزاء كل فضيلة رذائل غير متناهية لأن الوسط محدود ومعين أما الأطراف فغير محدودة، فتكون الفضيلة في غاية البعد عن الرذيلة (4).

ويحدد النراقي نوعين من الوسط (5):

1. الوسط الحقيقي : «هو ما تكون نسبة إلى الطرفين على السواء، وهذا الوسط لا يمكن وجدانه ولا الثبات عليه لكن كل ما كان اعتدال الفرد اقرب إلى الوسط

ص: 271


1- المصدر نفسه، ص 57
2- المصدر نفسه، ص 58
3- المصدر نفسه، ص 24
4- المصدر نفسه، ص 50
5- أوضح يوسف كرم موقف أرسطو من الوسط فقال أن أرسطو قد حدد نوعين له: أ- الوسط بالمعنى فهو كالوسط الرياضى لا يتغير بالوسط بالنسبة إلينا : وهو متغير تبعا للأفراد والأحوال، كرم، د. يوسف تاريخ الفلسفة اليونانية، دار العلم، بيروت، طبعة جديدة ص 190.

الحقيقي كان أكمل وأقوى»(1) . وهنا تتحقق الفضيلة الكاملة.

2- الوسط الإضافي: «وهو اقرب مما يمكن تحققه للشخص وبه يتحقق كماله اللائق به» (2). فالوسط الإضافي يوجد لتعذر الوسط الحقيقي، ولذا تختلف الرذيلة بتعدد الأشخاص والأحوال والأزمان، فربما كانت مرتبة من الوسط الإضافي فضيلة بالنظر إلى شخص ورذيلة بالنسبة لغيره .(3)

والنراقي هنا اختلف مع أرسطو في أن الأول حدد القاعدة التي توصل إلى الوسط وهي الشريعة، أما أرسطو فقد ترك ذلك وقال : إنه أمر متروك إلى الظروف ما يعد اعتدالاً في ظرف قد يعد تطرفا في ظرف أخر (4). أوساط الفضائل الأربع طبقاً لنظرية الوسط يكون لكل فضيلة جنسان من الرذيلة، ولما كانت الفضائل أربعة كانت الرذائل ثمانية (5): رأيه في السعادة السعادة ضد الشقاوة وهي الرضا التام بما تناله النفس من الخير، ومذهب السعادة هو القول بأن السعادة العقلية هي الخير الأعلى وهي غاية العمل الإنساني سواءً أكانت خاصة بالفرد أم المجتمع(6) ، أما أرسطو فقد عرفها، بأنها فعل للنفس بحسب الفضيلة الكاملة(7) ، والسعادة لدى النراقي «وهو وصول كل شخص بحركة الإرادة النفسانية إلى كماله الكامل في جبلته»(8) فمن هو طالب السعادة الحقيقية؟ لكي يجيب النراقي على هذا السؤال «حدد أولا الغاية من بعثة الرسل ووضع النواميس وهو سوق الإنسان من مراتع البهائم والشياطين وإيصاله إلى روضات عليين»(9) والسعادة لا تحصل إلا بإصلاح جميع الصفات والقوى ولا تحصل بإصلاح بعضها من دون بعض فالسعيد المطلق من أصلح جميع صفاته وأفعاله بل السعيد الواقعي بتجرده عن الجسمانيات والسعادة الواقعية هي صيرورة

ص: 272


1- النراقي، جامع السعادات، ص52.
2- المصدر نفسه، ص 51.
3- المصدر نفسه، ص 52
4- أرسطو، الأخلاق، ص 43.
5- النراقي جامع السعادات، ص53.
6- صليبا، د جميل ،المعجم الفلسفي الجزء الأول، ص 656.
7- أرسطو، الأخلاق، ص 80
8- النراقي جامع السعادات، ص38.
9- المصدر نفسه، ص 19.

الأخلاق ملكات راسخة بحيث لا تغيرها المتغيرات»(1)، ولا ريب في أن ما هو متعلق بسعادة البدن هو سعادة إضافية كالصحة والمال ... الخ لكن إذا جعلت اله لتحصيل السعادة الحقيقية والسعادة الحقيقية هي المعارف الحقة والأخلاق الطيبة (2).

الخاتمة:

اعتادت الدراسة - أيه دراسة أن تدون في خاتمتها مجموعة من النتائج ولا تختلف هذه الدراسة عن غيرها من الدراسات ومن أهم النتائج التي توصل إليها هذا البحث هي:

يتهم الفكر الفلسفي الإسلامي بأنه لم ينتج فلسفة أخلاقية لأنه على حد تعبير كثير من المفكرين المحدثين اكتفى بما جاء به الدين من أخلاق، فأغناهم ذلك عن النظر العقلي لكن كيف يكون ذلك والقيم الدينية الأخلاقية لا يمكن أن تطبق إلا إذا فهمها العقل على اعتبار أنها قيم لا على اعتبار أنها مجرد نصوص تتلى؟ وهذا الكتاب أي (جامع السعادات) يمثل أحد المحاولات الفكرية التي سعت لفهم الشريعة فهما وتطبيقا دينيا وعرفانيا وفلسفيا.

وبناء على ما تقدم - أعلاه - رأى النراقي أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا إذا كانت قائمة على ثلاثة أسس سواءً أكانت هذه الأسس مجتمعه أو مفترقة وهي الشريعة العرفان، والفلسفة.

على الرغم من أنه ساير أرسطو في تقسيمه للعلوم إلى نظرية وأخرى عملية، والعملية لدى أرسطو تشمل تدبير النفس وتدبير المنزل تدبير المدن، إلا أن النراقي لم يتعرض في هذا الكتاب لتدبير المنزل وسياسة المدن لأن هدفه من وضع الكتاب هو إصلاح النفس أولاً والذي يتوقف عليها إصلاح المنزل والمدن.

اختلف النراقي عن سابقيه بأنه أحصى الفضائل والرذائل وضبطها وادخل بعضهما تحت بعض بشكل لم يتعرض له فلاسفة الأخلاق بل تعرضوا لبعض منها ورأى أن تداخل الصفات يعود إلى أن هذه الصفات لها جهات مختلفة كل منها يناسب قوة، فالاختلاف في الإدخال ناتج عن اختلاف اعتبار الجهة ومثال ذلك أن الكذب إذا نشأ من العداوة كان

ص: 273


1- المصدر نفسه، ص 40.
2- المصدر نفسه، ص 39.

من الرذائل (القوة الغضبية) وإذا نشأ من حب المال كان من الرذائل القوة الشهوانية.

لم تكن مدخلية الفضائل خاصة بدخول فضيلة تحت أخرى فحسب بل نلاحظ تداخل الفضائل الدينية والعرفانية والفلسفية وذلك يعود إلى أن مصدر الفضيلة واحد فالذي أرسل الوحي هو الذي أودع العقل في الإنسان.

لقد عرف المسلمون التوسط بما جاء به الدين (لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) لكنهم لم يعرفوا نظرية التوسط كنظرية في فلسفة الأخلاق كما فعل أرسطو في تحديده لمعنى الفضيلة والنراقي إذ أخذ بنظرية أرسطو الوسيطة لأنه وجدها اقرب إلى روح الشريعة الإسلامية كما فعل الفلاسفة المسلمون قبله ك__(مسكويه والغزالي).

ارجع النراقي اغلب الرذائل إلى قوتي الغضب والشهوة لأنهما متعلقتان بالقوة العاملة في الإنسان فضلا عن انه يرى أن قوة التعديل موجودة فيهما.

أن الموقف الوسط الذي أخذ به النراقي انه حاول أن يوفق بين العقل والنقل وذلك يعود إلى أن طالب السعادة الحقيقية عليه أن يأخذ ما سنته الشريعة وما وضعه علماء الأخلاق في هذا المجال.

عندما يثبت الفلاسفة الأخلاقيون مباينة النفس للبدن فإنهم يثبتون في ذات الوقت أن النفس تشتاق إلى عالمها الإلهي الأرفع الذي هبطت منه والى أفعالها الخاصة بها أي العلوم ففي العلوم تتحقق فضيلة النفس التي تسمو بها إلى عالم روحاني.

بعد أن تتطهر النفس من أدران البدن تشعر بسعادة لكن أية سعادة أنها السعادة الدائمة اليقينية وغاية السعادة التشبه بالمبدأ الأول الذي صدرت عنه والتشبه به ليس كوجود ولكن بصفاته التي استحقها على وجه الحقيقة بيد أن التشبه يعمل معنى آخر هو تقليد الحقيقة واستعارة الإلهية (الله) على اعتبار أنها رمز للحقيقة الواضحة الباقية.

وأخيرا وليس آخرا كان أسلوب الكتاب أسلوبا تلفيقيا حاول الجمع بين الأساليب المختلفة الدينية والعرفانية والفلسفية وحتى الروائية وبهذا اتصف الكتاب بالتنوع وهذا ناتج عن اختلاف مصادر الأخلاق.

ص: 274

المحور الرابع

اشارة

التراث العرفاني

المقدمة

ص: 275

البحث الأخلاقي وتجلياته العرفانية عند صدر الدين الشيرازي

.ا.م.د. حسين حمزة شهيد(1)

المقدمة

لا يخفى على الباحثين المكانة الكبيرة التي يحتلها صدر الدين الشيرازي في الفلسفة الإسلامية، بوصفه مؤسس لاتجاه فكري جديد يقف في مصاف الاتجاه الأرسطي المشائي، والاتجاه الأفلاطوني المثالي، ألا وهو اتجاه أو فلسفة الحكمة المتعالية.

وعلى الرغم من كثرة الدراسات الحديثة والمعاصرة في فكر صدر المتألهين، إلا أنها ركزت اهتمامها وأبحاثها على الفلسفة الكونية أو الميتافيزيقية، والفلسفة الطبيعية أكثر من اهتمامها بالفلسفة العملية - كما تُعرف بالمصطلح الفلسفي- التي تتجسد الفلسفتين الأخلاقية والسياسية. ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على رؤية صدر المتألهين لفلسفة الأخلاق من خلال الوقوف على آرائه الأخلاقية ومعرفة أهم النظريات الأخلاقية التي تبناها ومعرفة مدى انعكاسها على الجانب العرفاني وبالخصوص العرفان العملي.

ص: 276


1- قسم الفلسفة كلية الآداب / جامعة الكوفة، يؤكد الباحث انه على كثافة الاهتمام من قبل الدراسات المعاصرة بالجانب النظري اكثر من الجانب العملي أي الفلسفة الأخلاقية في فكر صدر المتألهين كان هذا دافعا له حتى يهتم بهذا الجانب الأخلاقي ولعل هذا يظهر في أقسام هذا البحث فأولها تضمن النظرية الأخلاقية فيما الثاني فتناول المنهج العرفاني أو الكشفي عند صدر الدين الشيرازي أما المبحث الثالث فقد عرض بعض المفاهيم الأخلاقية وتجلياتها العرفانية، وقد اجمل العوامل المؤثرة في مبحث الأخلاق عند الشيرازي تحت عنوانين رئيسين : عوامل فطرية وعوامل مكتسبة، ومنها تتكون أخلاق الإنسان وتتشكل المحرر

وانقسمت البحث على ثلاثة مباحث: الأول تضمن البحث في النظرية الأخلاقية ومصادرها، وأنقسم بدوره إلى أربعة مطالب، تناولت في الأول منها العوامل المؤثرة في الفعل الخلقي كما حددها الشيرازي، أما المطلب الثاني، فدرست فيه النفس الناطقة وطرق وصولها إلى الكمال الخلقي، والمطلب الثالث تضمن البحث في معالم نظرية الشيرازي الأخلاقية من خلال الوقوف على نظرية الوسط المعتدل ودورها في ترقي الفعل الخلقي، والعبادة ثانياً، والمعاد ثالثاً بوصفه حافزاً لتقويم الأفعال الأخلاقية.

أما المبحث الثاني: فدرستُ فيه المنهج العرفاني أو الكشفي عند صدر الدين الشيرازي والذي انقسم بدوره إلى ثلاثة مطالب تناولتُ في الأول منه طبيعة المنهج العرفاني ومصادره عند الشيرازي، أما المطلب الثاني، فتضمن البحث في معنى الكشف ومراتبه، وفي المطلب الثالث عرضتُ للرياضة بوصفها طريقاً للكشف أو الذوق.

أما المبحث الثالث: فقد عرضتُ فيه بعض المفاهيم الأخلاقية وتجلياتها العرفانية كما عرضها الشيرازي، وانقسم بدوره إلى ثلاثة مطالب : عرضتُ في الأول منها التلازم بين الفعل الخلقي والعرفاني في فكر الشيرازي كمقدمة ضرورية للمطالب اللاحقة، والمطلب الثاني تضمن دراسة الفضائل والرذائل أما المطلب الثالث، فدرستُ فيه السعادة والشقاوة وأبعادها العرفانية، أما الخاتمة فقد تضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها.

المبحث الأول / النظرية الأخلاقية ومصادرها عند صدر الدين الشيرازي

المطلب الأول / الفعل الخلقي (أسبابه ودوافعه):

يُحدد الشيرازي مجموعة من العوامل المؤثرة التي من شأنها أن تؤثر في الأفعال الإنسانية سواء كانت أخلاقية أو غير أخلاقية، ومنها (1):

ص: 277


1- ينظر الشيرازي أسرار الآيات تصحيح وتحقيق حبيب الله الموسوي، ط1، قم ، إيران، 1420ه.ق، ص 140-142. الأخلاق جمع خلق, ومرد معناه في اللغة العربية وبعض اللغات الآخر معنى «العادة» . (1) ، وإذا أردنا أعطاء تعريف دقيق لعلم الأخلاق نقول : «إنه علم القواعد التي تسير عليها إرادة الإنسان الكامل لتصل إلى المثل الأعلى أو هو علم القواعد التي إذا أخذ بها الفرد كان رجلاً تام الخُلق» فالأخلاق بالمعنى الفلسفي هو علم معياري, إنه لا يبحث في حياة الناس الراهنة أي بما هي كائنة بالفعل, بل بما يجب أن تكون ينظر ينظر, صليبيا, د. جميل, المعجم الفلسفي, ج 1, 16, قم إيران, ص 239 كذلك ينظر : ينظر موسى د. محمد يوسف, مباحث في فلسفة الأخلاق, مطبعة الأزهر كلية أصول الدين القاهرة, 1943, ص 3-4

1/ اختلاف الخلقة الأمزجة وتفاوت الطينة، ويستشهد الشيرازي بما روى عن واقعة أصل الخلق (خلق ادم)، فقد أمر بأن يؤخذ من كل ارض قبضة تراب، إلا أنه لم يبين الأثر الأخلاقي من هذه الفقرة.

2/ عامل البيئة الاجتماعية والاقتصادية للطفل، وذلك باختلاف الوالدين من صلاح أو فساد أخلاقهما، والوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه الأسرة، إذ إن الطفل بحكم نشأته بينهما ومخالطته لهما يتأثر بما عما عليه من حسن السيرة والسلوك والخُلق أو السيرة السيئة، فضلاً عن الأثر الاقتصادي المتمثل بالرضاعة والغذاء والملبس، وغيره من الأمور المادية الحياتية التي تؤثر على الأبناء من حيث نقصها وانعكاسها على سلوكياتهم الأخلاقية.

3/ عامل الوراثة المتمثل في اختلاف طبائع الوالدين الأخلاقية وأثرها على الأبناء،

واستشهد الشيرازي هنا بقول الرسول صل الله عليه والله وسلم: (تخيروا لنطفكم) وقوله أيضاً (إياكم وخضراء الدمن، قال: المرأة الحسناء في منبت السوء). وهذه الأحاديث فيها إشارة إلى دور الأم الوراثي دون الأب.

4/ اختلاف الناس الذين يعيش معهم ويختلط بهم من حيث تأثيرهم عليه بالآراء والمذاهب.

5/ عامل التربية والتعليم في التهذيب وتنشئة الإنسان من خلال التعود على الحالات الحسنة والابتعاد عن الحالات السيئة، وتربية الأبناء على الآداب الشرعية وتعويدهم على فعل العبادات والخيرات.

6/ تزكية النفس بالعلم والعمل عند استقلال الإنسان بنفسه، وهذا يكون من خلال

ص: 278

معرفة الفرد بالعلوم العلمية والعملية على حد سواء، فإذا ما اجتمع للإنسان هذا الجانب فجاهد بنفسه بالعلم والعمل، مع توفر الاستعداد بالغريزة أو الفطرة، كل ذلك يجعل المرء يصل للمرتبة العليا في الخيرات من جميع الجهات

ويمكن أجمال هذه العوامل تحت عنوانین رئیسین عوامل فطرية وعوامل مكتسبة، ومنها تتكون أخلاق الإنسان وتتشكل وان تلك العوامل يجب مراعاتها لدورها الكبير في توجيه سلوك المرء إلى فعل الخير أو الشر، وعليه يكون هناك جانب جبري في اكتساب الأفعال الفاضلة أو الرذيلة لذلك الإنسان، طالما انه مختار لأفعاله، فيجب أن يدفعه هذا إلى بذل الجهد واستخدام إرادته الحرة في مجاهدة النفس على تقويم أخلاقه ما استطاع لذلك، حتى يصل إلى بغيته المنشودة، وهي الأخلاق الفاضلة من خلال العلم والعمل.(1)

المطلب الثاني:

خير وكمال النفس الناطقة وطريق الوصول إليه :

يرى الشيرازي أن جوهر النفس الإنسانية يكون مستعداً لان يتلقى الكمال والاستكمال من خلال العلم والعمل معاً، والعلم يكون من خلال كمال القوة النظرية، وأما العمل فيكون بالقوة العملية، أما القوة النظرية ، فيُحدد لها مراتب أربعة هي(2):

1/ العقل الهيولاني، حيث يكون له الاستعداد لحصول جميع المعقولات بحسب الفطرة، لأنه خالٍ من كل الصور والمدركات العقلية، ولذا سمي عقل بالقوة، وأول العلوم التي يحصل عليها هذا العقل هو علمه بذاته والعلوم المحسوسة.

2 العقل بالملكة وهو أول ما يحصل فيه إدراكه لرسوم المحسوسات التي هي معقولات بالقوة، ومن خلاله يتم الحصول على معرفة البديهيات والأوليات، ومنها

ص: 279


1- ينظر: جميلة محي الدين صدر الدين الشيرازي وموقفه النقدي من المذاهب الكلامية، دار العلوم العربية، بيروت، ط 1،2008 ، ص 248-249
2- ينظر: الشيرازي مجموعة رسائل فلسفية، ط1، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 2001، ص129 وما بعدها

يصل إلى المعقولات فحصول هذه المعقولات هو عقل بالملكة.

3/العقل بالفعل، وفيه يبدأ التمييز بين المحسوسات والمعقولات النظري، وأيضاً بين الحقائق الأولية، ويبدأ باستعمال الأقيسة والبراهين لكي يصل فيها إلى الحقائق اليقينية.

4/ العقل المستفاد هو بعينه العقل بالفعل لما يتضمنه مشاهدة تلك المعقولات عند الاتصال بالمبدأ الفعال ويسمى به لاستفادة النفس إياها مما فوقها من العالم

الأعلى.

ووفقاً لهذه المراتب تكون النفس مستعدة لتلقي الحكمة النظرية التي تختص بالآراء والاعتقادات، وتميز بين الحق والباطل والخير والشر، وتهتم بالمعقولات الكلية النظرية المتمثلة في الوجود وفيما يتعلق به من الموجودات الكلية، وتسمى بالعلوم النظرية(1). وبناءً على ذلك، يرى الشيرازي بأن النفس الإنسانية لها ثلاثة نشآت إدراكية منها يظهر الجانب الأخلاقي الميتافيزيقي للأفعال الإنسانية، إذ يرى أن النشأة الأولى للنفس تتمثل في الحس، وهنا يشير إلى العقل بالقوة ومظهرها الحواس الظاهرة، ويقال لها الدنيا لدنوها ولتقدمها على الأخيرتين، وخيراتها وشرورها معلومة، ولا تحتاج إلى البيان.(2)

أما النشأة الثانية فهي المثالية ومظهرها الحواس الباطنة، وتمثل العقل بالملكة ، ويقال لها الآخرة التي تنقسم إلى الجنة والنار التي يكون فيها الناس سعداء أو أشقياء، وذلك حسب أفعالهم الأخلاقية الفاضلة أو الرذيلة. أما النشأة الثالثة، فهي عقلية ومظهرها القوة العاقلة من الإنسان عندما صارت عقلاً بالفعل، وهي تكون خيراً محضاً ونوراً صرفاً، وبذلك يعد النشأة الأولى دار القوة والاستعداد، والمزرعة لبذور النفوس والنيات والاعتقادات، وأما الأخيرتان وهما المثالية والعقلية كل منهما

ص: 280


1- ينظر جميلة محي الدين ،البشتي صدر الدين الشيرازي وموقفه النقدي من المذاهب الكلامية، دار العلوم ،العربية ، ط ا ذ ،بيروت، لبنان، 2008، ص 252
2- الشيرازي الأسفار، ج 9 ، دار المعارف الإسلامية، قم، إيران، ص 21-22.

دار التمام والفعلية حيث يرى فيها تحصيل الثمرات وحصد المزروعات(1). أما الحكمة العملية تختص بالفكر والروية في الأفعال الأخلاقية المتمثلة في الأمور الجزئية فيما ينبغي أن يفعل ويترك، وتميز بين ما هو جميل وقبيح من الأفعال، وما هو خير وشر، وهذه الحكمة تهتم بالعلوم الأخلاقية، وهي تعد خادمة للحكمة النظرية ومكملةً لها، ومستعينة بها في كثير من الأمور، والنفس عن طريق الحكمة النظرية والعملية تبلغ كمالها العقلي والعملي.(2)

وعليه يكون جوهر النفس مستعداً لان تستكمل نوعاً من الاستكمال بذاتها، وما فوقها ذاتها بالعقل النظري، وهذا ما يتعلق بالجانب التحصيلي المعرفي لها، ومستعد لان يتحرر من الآفات والأفعال الذميمة، وان يتصرف فيما دونها بالعقل العملي وذلك يتعلق بالجانب الأخلاقي، لان يكون مبدأ فاعليته وتصوراته بالنسبة لجوهر النفس وبه تكون سعادته في الدنيا والآخرة، ومنشأ للعذاب بما يكتسبه من الأفعال الرذيلة والأفكار السيئة، وهنا يكمن الجانب الميتافيزيقي في الأفعال الإنسانية(3).

وبناءً على ذلك يتصف الإنسان بأنه عادل وحكيم لتمتعه بالحكمة النظرية والعملية معاً ، لأنه أكمل القوتين للنفس، فصارت قوةً واحدة علماً وعملاً ، وأدركت كمالاتها العلمية والملية إدراكاً تاماً من دون علائق ،البدن، فقد تحققت سعادتها بذلك لا محالة .(4)

ويُضيف الشيرازي، أن الإنسان بهذه المرتبة ستحصل له ثلاث درجات لليقين: الأول هو العلم والثاني هو العين، والثالث هو الحق (5). ويقصد بها علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وهذه مصطلحات مشهودة عند أرباب التصوف، حيث يعدون علم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأصحاب العلوم، وحق اليقين لأصحاب

ص: 281


1- المصدر نفسه ص 130
2- المصدر نفسه ص 131
3- ينظر : مفاتيح الغيب، تصحيح وتقديم محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات، إيران، 1984، ص 602.
4- المبدأ والمعاد، تقديم: سید جلال الدين مؤسسة انتشارات، إيران، 1396ه. ، ص 258.
5- ينظر: التفسير ، ج8، انتشارات بيدار ،قم إيران، 1367ش، ص342.

المعارف (1)فالسعادة الحقيقية عند استكمال النفس قوتها بعد أن تبطل علاقتها بالبدن عن طريق الموت، ومنها ترجع إلى ذاتها الحقيقية، وتكون لها من البهجة والسعادة التي لا يمكن وصفها، ويتمثل ذلك في دخولها الجنة .(2)

المطلب الثالث / معالم النظرية الأخلاقية عند صدر الدين الشيرازي:

يمكن لنا تحديد ثلاثة مبان أو نظريات أسس عليها الشيرازي نظريته في مجال الأخلاق، ومنها:

أولاً: نظرية الوسط المعتدل:

اتضح لنا في المطلب السابق أن خير النفس الناطقة وسعادتها يكون من خلال مزاولة الحكمة النظرية والعملية معاً، والسعادة كما يصنفها الشيرازي على قسمين: سعادة أخلاقية وعقلية (3). أما السعادة الحقيقية فهي سعادة دنيوية، لأنها تتحقق للنفس وهي بصحبة البدن ويتم ذلك عن طريق تحقيق العدالة في أفعالها وهذا العدل لا يتحقق إلا بوجود مبدأ الوسط الأخلاقي بين ضدين إفراط وتفريط، أو ما يعرف باختيار الوسط المعتدل بحسب توسط قواه الثلاثة الشهوانية والغضبية والفكرية التي يُحددها في الفضائل الثلاث وهي العفة والشجاعة والحكمة، وبها يتحقق مكارم الأخلاق وملكة العدالة(4) .

وهذا الوسط الأخلاقي ينسجم مع مبدأ الاختيار الذي ذهب إليه الشيرازي، وهو (الأمر بين الأمرين)، بحيث يكون الفعل الخلقي أو الفاضل مرتبطاً بهذا الوسط واختيار الإنسان له بين الإفراط والتفريط، وفيهما يكون الفعل المطلوب، وبذلك يكون الفعل الأخلاقي فاضلاً أو سيئاً استناداً إلى الفاعل من حيث هو مدرك لصفة

ص: 282


1- القشيري الرسالة ص 74.
2- الأسفار، ج 9، ص128. نظراً لارتباط الحديث عن القوة العملية ومراتبها بالمنهج الكشفي عند الشيرازي ، أخر الباحث الحديث عنها للمبحث الثاني في سياق بيان التلازم بين الفعل الخلقي والسلوك العملي أو ما يعرف بالعرفان العملي.
3- ينظر المبدأ والمعاد، ص 360-363.
4- ينظر: الاسفارج 9 ص 127. كذلك مفاتح الغيب، ص568

الفعل و من اختياره له،و هذا الاختیار یقوم علی مبدأ الحرية و الحکمة .(1)

ويرى الشيرازي أن تحقق الحكمة والحرية في الأفعال الإنسانية يتمثل في أربعة معان وهي قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العقل، والعدل بين هذه القوى، فإذا تساوت هذه الأركان الأربعة التي هي مجامع الأخلاق، التي تتشعب فيها فروع أخرى غير محدودة، فإذا اعتدلت وتناسقت حصل حسن الخُلق، أما قوة العلم فأعدلها وأحسنها أن تصير بحيث تدرك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، ومن ثم إن صلحت هذه القوة واعتدلت من غير إفراط وتفريط حصلت منها ثمرة هي بالحقيقة أصل الخيرات ورأس الفضائل وهي الحكمة(2).

أما قوة الغضب فاعتدالها أن يصير انقباضها وانبساطها على وفق الحكمة والشريعة وكذلك قوة الشهوة، أما قوة العدالة فهي ضبط قوة الغضب والشهوة، وذلك على وفق الدين والنقل، فالعقل النظري منزلته منزلة المشير الناصح، وقوة العدل وهيالقدرة التامة منزلتها منزلة المنفذ لأحكامه وقوتا الغضب والشهوة هما اللتان تنفذ فيهما الحكم مطيعين له منقادين لحكمه وان كل من الغضب والشهوة تتفرع منهما فضائل ،ورذائل فقوة الغضب اعتدالها الشجاعة والفضائل المتفرعة منها كالنجدة والشهامة والحلم والثبات وغيرها.

وأما الرذائل فمن جانب إفراطها يحصل منه خلق التهور والكبر والعجب، أما تفريطها فيحصل منه الجبن والمهانة والمذلة وعدم الغيرة، وأما الشهوة فيعبر عن

اعتدالها بالعفة وعن إفراطها بالشره وعن تفريطها بالخمول، فيصدر عن العفة السخاء والحياء والصبر والقناعة والورع ،وغيرها ويصدر عن إفراطها الحرص

ص: 283


1- ينظر: صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص 256 يذهب الشيرازي إلى أن أفعال الإنسان لا جبر كما يقول الأشاعرة، ولا تفويض كما يقول المعتزلة، بل أمر بين أمرين ، بل المراد أنه مختار من حيث هو مجبور ومجبور من حيث هو مختار بمعنى أن اختياره بعينه اضطراري ينظر الشيرازي رسالة خلق الأعمال، ص 33. كذلك : الأسفار، ج 6، ص 98.
2- ينظر: الأسفار ج9، ص88.

والوقاحة والتبذير والرياء والحسد وغيرها(1). وأما قوة العقل والحكمة فتصدر عن اعتداله حسن العدل والتدبير، وجودة الذهن وسداد الرأي وإصابة الظن وغيرها، وأما إفراطها فتحصل منه الخداع والدهاء، ويحصل من تفريطها البله والحمق والغباوة، فهذه هي رؤوس الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة .(2)

وبذلك يُحدد الشيرازي معنى حسن الخلق في جميع الأنواع الأربعة للأخلاق وفروعها، وهو يتمثل في التوسط بين الإفراط والتفريط، ومن خلاله يكون هذا الوسط هو المقياس أو المعيار للحكم على أفعال الإنسان الأخلاقية بالخير أو الشر، ويكون الشيرازي بهذه الفكرة امتداداً لمدرسة أرسطو ومن تابعه من متفلسفة الإسلام ومنهم الفارابي وابن سينا.

ثانياً: نظرية العبادة ودورها في بناء الفعل الخلقي:

اجمع الباحثون على أن هناك ثلاثة مصادر أسهمت في بناء منظومة الشيرازي المعرفية، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفلسفة، والعرفان(3)، والجانبان الأخيران واضحان كل الوضوح في مدرسة الحكمة المتعالية، وقد انبرى عدد من الباحثين لدراستها وإظهارها (4). أما الجانب الأول، فيبدو واضحاً وجلياً في نصوص الشيرازي، حيث نجده في معظم الأحيان يلتجئ إلى النصوص القرآنية، وأحاديث النبي والمعصومين في أثباته لموضوعة ما ، فالقرآن الكريم قد شكل رافداً مهما نهل منه صدر المتألهين وأسس على ضوئه معالم نظرياته الفلسفية والعرفانية. قال: ((ومن المعلوم أن لكل شيء كمالاً يخصه لأجله خُلق، وفعلاً معيناً يتممه، إذا له وفق وكمال الإنسان في إدراك الحقائق الكلية، ونيل المعارف الإلهية، والتجرد عن

ص: 284


1- ينظر الشيرازي الأسفار، ج 9، ص 90 .
2- المصدر نفسه، ص 91.
3- ينظر سید حسین نصر، مقدمة تحقيق كتاب سي أصل لصدر الدين الشيرازي جامعة علوم المعقول والمنقول طهران، 1961. كذلك جعفر آل ياسين صدر الدين الشيرازي مجدد الفلسفة الإسلامية، مطبعة المعارف بغداد، ط1955 ، 1 ، ص 27 وما بعدها.
4- ينظر : ينظر: علي أسعد حلباوي، أصالة الوجود عند صدر الدين الشيرازي دار الصفوة، بيروت، ط1، 2010.

المحسوسات المادية، والخلاص عن القيود الشهوية والغضبية، وهذه لا تتحصل إلا بالهداية والتعليم، والتأديب، والتقويم، فبعث الله رسولا ومعلما وأرسل كتابا جامعاً فيه لب أسرار التأويل وتفاصيل أحكام التنزيل متضمناً لعلوم الأولين والآخرين، مشتملاً على خلاصة الآداب والسنن التي كانت لسائر النبيين والمرسلين، مع زيادة إكمال وتتميم....))(1).

وامتد الأثر القرآني بتصوره إلى الأخلاق، وهذا ما أشار إليه الشيرازي في سياق عرضه إلى ما سماه (بمنافع العبادات)، وانعكاسها على أخلاق الفرد وسلوكه العملي، فالعبادات بنظر الشيرازي لا يقتصر أثرها على المعنى الديني فقط، بل يمتد ليشمل المعنى الأخلاقي، باعتبار أن غايتها تطهير النفس من شهواتها، كالصلاة التي تنهى الفحشاء والمنكر، ويعدّها أفضل العبادات الدينية قال((أفضل العبادات الدينية الصلاة لكون روحها أفضل، ونقاء الروح يدل على صفاء الجسد، وبالعكس... وروح الصلاة المعرفة بالله، وهي أفضل المعارف)) (2). كما أنها عبادة شاملة لكل الهيئات من تنظيف البدن وتطهيره والخضوع والخشوع، وصدق النية، وقصد القُرب من الله سبحانه وتعالى، وصدق النية ... والذكر لنعم الله والثناء له، وقراءة القرآن(3). وهذا ما يترتب عليه الاستفاضة من عالم الأنوار وتلقي المعارف والأسرار، والاستمداد من ملكوت السماوات.

ويرى الشيرازي بان الصلاة عمود الدين كونها تتعلق بالعلم بوحدانية الله تعالى، وأحقيته بالوجود وتنزه ،ذاته، وتقدس صفاته، ومعرفة أمره وخلقه وقضائه وقدره وعنايته وحكمته، ويصفها بأنها تشبه ما للنفس الإنسانية بالأشخاص الفلكية والأرواح الملكية في تعبدها الدائم وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، طلباً للثواب السرمدي وتقربا إلى المعبود الصمدي (4).

ص: 285


1- تفسير القرآن الكريم، المقدمة، ص9.
2- ينظر: الشواهد الربوبية، ص368 . كذلك : مفاتيح الغيب ، ص 9
3- المصدر نفسه، ص 369.
4- ينظر: الشيرازي، تفسير القرآن الكريم ، ج 7، ص 243.

أما الصوم فهدفه كسر قوة الشهوة الغالبة على الإنسان بالجوع وترك السيئات المنهي عنها، وبالمواظبة على الطاعة من خلال الامتثال لأوامر الله تعالى، وأما الحج فهو التوجه إلى بيت الله الحرام بنية خالصة للعبادة، وترك جميع الملذات الشهوانية الحيوانية في سبيله والتجرد من قوى البدن وملذاتها الدنيوية، والتقرب إلى الله بالطاعات والزكاة توجب صرف النفس عن حب المال وتطهيرها من البخل، بان تقدم المؤونة والمعونة على الفقراء والمساكين .(1)

وأما الجهاد فهو نوعان: الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر، ويستشهد الشيرازي بذكر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لهما في قوله((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) والمقصود بالأصغر، هو محاربة أعداء الله والدين والجهاد في سبيله تعالى، بالمال والأهل والولد وبه يوجب النصر أو الشهادة في سبيله تعالى، مما يوجب حسن الخاتمة (2). أما الجهاد الأكبر ، فهو مجاهدة النفس ومحاربة أهوائها وتزكيتها وتطهيرها من اجل شهود الحق، والمقصود بالنفس هنا النفس الأمارة بالسوء، لان هذه النفس برأيه مفطورة على المبادئ الأخلاقية الرذيلة والاعتقادات الفاسدة، فواجب على الإنسان محاربتها ومجاهدتها على التخلص من الانقياد لرغباتها وشهواتها .(3)

ولكل من هذه العبادات كما يعبر الشيرازي روح وجسم، أما جسمه فهو الحركات المحسوسة والسكنات الظاهرة، ولا يخلو هذا النوع من مشاركة بين الخالق والمخلوق يسمى رياء، وهذا منظور لكل واحد ويسمى شركاً خفياً، أما روح العبادة، فهو الإخلاص الكامل فيها والنية الباطنة، وهو المحسوب من الطاعتين لا غير في الموازين القسط، وما سواه فهو في ميزان ما عمل ،له والعبادة البدنية بمثابة قنطرة للعبادة الروحية الباطنية .(4)

وهنا يتضح أثر العبادة في بناء السلوك الإنساني السوي وتقويمه، وبهذه النقطة

ص: 286


1- ينظر الشواهد الربوبية، ص.369. كذلك تفسير القرآن، ج 7، ص 392.
2- ينظر جميلة محي الدين البشتي، صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص 263
3- المصدر نفسه، ص 263-264
4- ينظر: مفاتيح الغيب، ص689.

نجد أن الشيرازي قد تجاوز نظريات سابقيه من فلاسفة الإسلام، فالمتتبع للتراث الأخلاقي الذي ورثناه من الفارابي وابن سينا، يجد هيمنة الأثر اليوناني المتمثل بالتراث الأفلاطوني والأرسطي على أبحاثهم الأخلاقية، باستثناء أبي حامد الغزالي، الذي أشار إلى هذا المعنى.

ثالثا / نظرية الثواب والعقاب ودورهما في بناء الفعل الخلقي:

إن من أهم الأسس والمباني التي استند عليها الشيرازي في إقامة البناء الأخلاقي للإنسان يتمثل في الإيمان بالمعاد أو ما يُعرف ب__(الثواب والعقاب)، لأنّ أفعال الإنسان الأخلاقية التي يمارسها في الدنيا سيرى نتائجها في الآخرة، بصورة الثواب في الجنة، والعقاب بالنار.

فالباعث على الغاية من المعاد هو أن يكون باعثاً على تحلي الفرد بالفضيلة، والابتعاد عن الشر والرذيلة في إطار تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك الإنساني في الحياة الدنيا، ومن ثمَّ تحقيق السعادة الأخروية(1)، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله: ((اعلم أن الاعتقاد بالمعاد جيد للجهال والعوام وأرباب الحرف والصنائع وأهل المعاملات الذين لا يمكنهم النظر في حقائق الأمور ، فهم مكلفون باعتقادات رسمية في باب الآخرة، وذلك لأنهم متى اعتقدوا هذا الرأي في المعاد وتحققوا هذا الاعتقاد يكون حثاً لهم على عمل الخير وترك الشرور واجتناب المعاصي، وفعل الطاعات)) (2).

وفي البدء يُحدد الشيرازي ثلاثة اتجاهات رئيسية في مسألة المعاد(3) : الأول يذهب إلى إقرار المعاد الروحاني فقط، وهم غالبية الفلاسفة والاتجاه الثاني نادي بالمعاد الجسماني فقط،وهم بعض المتكلمين، أما الاتجاه الثالث التوفيقي، فيقر المعاد الجسماني والروحاني معاً.

ويرفض الشيرازي الاتجاهين الأول والثاني، ويقدم نقده لهذين الاتجاهين، وفي

ص: 287


1- ينظر : جميلة محي الدين البشتي صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص 264.
2- الأسفار، ج9، ص 180.
3- المصدر ،نفسه ص 181

المقابل يعتبر الاتجاه الثالث هو الأقوم والأصح ، ويصف رأيهم بأفضل وأجود الآراء، قال: ((أما ما تزين به محققو المليين وأفاضل المسلمين فهو أن مع هذه الأجساد جواهر أخرى هي اشرف وأنور، وليست بأجسام كثيفة، بل هي أرواح لطيفة تخرج عن هذه الأبدان عند الموت، فلا يتصور عندهم أمر البعث والقيامة إلا برد تلك الأرواح إلى تلك الأجساد، أو أجساد أخر مثلها يقوم مقامها، يحشرون ويثابون أو يعاقبون بما عملوا من خير وشر، فهذا الرأي أجود واقرب إلى الحق)) (1).

ولسنا هنا بصدد عرض دليل الشيرازي في أثباته المعادين الجسماني والروحاني، والذي يعتمد على نظريته في الحركة الجوهرية، وبداية الخلق(2)، بقدر ما يهمنا بيان أثر الإيمان بالمعاد وانعكاسه على سلوك الفرد الخلقي، فقد ربط الشيرازي بين أمور الغيب المتمثلة في الثواب والعقاب بالحياة الأخلاقية، والاعتقادات الدينية المثلى للإنسان، أثناء سعيه في الأرض نحو غاية الغايات وهي السعادة الأخروية، وأعطى مدلولا للحرية بشقيها الأخلاقي المتمثل في الخير والشر، والميتافيزيقي المتمثل في الجنة والنار، لما أثبته من مبدأ حرية الإنسان في اختيار أفعاله في الدنيا، وما يترتب عليها من نتائج في الآخرة، وهذا يتوقف على مدى إيمانه بالآخرة، كضرورة لتوجيه سلوكه للتحلي بالفضائل التي يدعو إليها الدين إلى جانب قيامه بالعبادات الدينية على أكمل وجه، حتى ينال عليها في يوم القيامة الخلود في الجنة.(3)

ويتجسد هذا المعنى عند الشيرازي في تقسيمه لأصناف الناس يوم الحساب، الصنف الأول يرزقون من دون حساب وهؤلاء بدورهم ثلاثة أقوام المقربون، ممن حصلوا المعارف والعلوم العقلية، فهؤلاء يدخلون الجنة من دون حساب لتنزههم عن شواغل الدنيا والحساب (4). وهناك أصحاب اليمين، وهم ممن حصلوا التقوى ولم يقدموا على معصية ولم يقترفوا سيئةً ولا فساداً لصفاء قلوبهم واقتدار نفوسهم حسب القوة العملية على فعل الطاعات والاجتناب عن السيئات، ومنهم جماعة تكون

ص: 288


1- الأسفار، ج 9، ص 180.
2- المصدر نفسه، ص 159
3- ينظر جميلة محي الدين البشتي صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص.246
4- ينظر : مفاتيح الغيب، ص654

صحائف أعمالهم خالية من الأعمال، ونفوسهم ساذجة عن النقوش الحاصلة من الحسنات والسيئات فينالهم رحمة من الله تعالى.(1)

أما الصنف الثاني، وهم أهل الحساب، فهؤلاء أيضاً على ثلاثة أقسام: القسم الأول يكون صحيفة أعمالهم خالية من الحسنات، وقسم منهم من وقع فيهم وحبط ما صنعوا فيها، وقسم منهم وهم المحاسبون في الحقيقة، وهم الذين خلطوا بين العمل الصالح والعمل السيئ (2).

وهنا يتجسد الترابط بين ما يفعله الإنسان من حسنات وما يجنيه من فضائل، وما يترتب عليه من ثواب يتمثل بدخول الجنة، وخلاف ذلك يكون جزاءه دخول النار.

المبحث الثاني: المنهج العرفاني (مراتبه ومصادره) عند الشيرازي:

المطلب الأول، المنهج العرفاني ومصادره عند الشيرازي:

ومما لا شك فيه أن المسحة العرفانية * هي الغالبة على أبحاث ملة صدره الفلسفية، وبالخصوص ما يتعلق منها بمبحث المعرفة ،ومصادرها فطالما يؤكد الشيرازي على قصور العقل لوحده عن الوصول إلى درجة المكاشفة والمشاهدة، ويتضح هذا المعنى من عناوين كتبه والتعابير التي يستخدمها الشيرازي لتقسيم موضوعات كتبه وتسميتها من قبيل (حكمة كشفية) و (إشراق عقلي)، ومثل هكذا مسميات يتجلى فيها النفس العرفاني بصورة أكبر من النفس الفلسفي العقلي.

وهذا ما أكده عدد من الباحثين والمفكرين، يقول الباحث حسن زاده أملي في شرحه وتعليقه على كتاب الأسفار ((أكثر المسائل التي نقلها صدر المتألهين عن الشيخ الأكبر ومشايخ العرفان الآخرين هي أساس مصادر حكمته المتعالية، وقد اعتمد في ذلك على كتب العرفان أمثال تمهيد القواعد وشرح الفصوص للقيصري ومصباح الأنس والفتوحات المكية ....)) (3).

ص: 289


1- المصدر نفسه، ص 655
2- مفاتيح الغيب، ص655
3- الشيرازي الأسفار، ج 1، تعليق حسن زاده ،املي ط 1 ، إيران، 1416، ص 19.

وقد أشار الشيرازي في كتبه إلى أن معرفة الحقائق يمكن أن تحصل عن طريق البحث والاستدلال العقلي القائم على البرهان والمقدمات المنطقية، كما يمكن الحصول عليها عن طريق المكاشفات القلبية التي تحصل للعارف عن طريق مجاهدة النفس والانقطاع إلى الله بعد صفاء الباطن ورفع الحجب عن النفس .(1)

وأكد في عدد من كتاباته على أهمية العلم الحاصل عن طريق العرفان المتمثل بالمكاشفة قال ((اعلم هداك الله أن كثيراً من المنتسبين إلى العلم ينكرون العلم الغيبي اللدني الذي يعتمد عليه السلاك ،والعرفاء، وهذا أقوى واحكم من سائر العلوم))(2)، وهو أمر حدا ببعض الباحثين إلى الجزم والقول بأن ما يبدو في بعض الكتب والمقالات عن الشيرازي من العمل على أبراز الطابع الفلسفي لدى الشيرازي على حساب الطابع الذوقي عمل مخالف للموضوعية العلمية(3).

ولم يكن المنهج العرفاني حصراً على صدر الدين الشيرازي، فهو سمة مميزة لمتفلسفة الإسلام منذ الكندي ومروراً بالفارابي وابن سينا ووصولاً إلى الغزالي والذي كان يعرف عندهم بالتصوف، لكن مثل هذا القول لا يترتب عليه فهم العرفان عند الشيرازي بوصفه تصوفاً شبيهاً بمنهج المتصوفة الزهاد، والسبب هو إعراض المتصوفة عن الجمع بين مسلك الرياضة الروحية، ومسلك أو طريق الحكمة العقلية

ص: 290


1- ينظر الشواهد الربوبية، ص 200. * يُفرق العرفاء بين العرفان النظري والعملي، أما الأول، فهو فرع من فروع المعرفة الإنسانية التي تحاول أن تعطي تفسيرا كاملاً عن الوجود ونظامه وتجلياته ومراتبه، بمعنى أنه يعني بصدد إعطاء رؤية كونية عن المحاور الأساسية في عالم الوجود وهي ،الله ،والإنسان والعالم أما العرفان العملي، فهو مرتبط بالسلوك وبالعمل وبالمجاهدة الخارجية ولا علاقة له بالرؤية الكونية كما هو الحال بالعرفان النظري. وإذا كان ثمة تداخل بين العرفان العملي وعلم الأخلاق، باعتبار كلا منهما يهتم بالجانب العملي للفرد، إلا أن بينهما فروقا بينه وواضحة منها : إن العرفان يبحث في علاقة الإنسان بنفسه والكون ،وخالقه ويكرس اهتمامه على علاقة الإنسان بخالقه، في حين أن الباحثون في مجال الأخلاق لا يرون أي ضرورة للبحث في علاقة الإنسان بخالقه، وتقصر البحث فيه بالنظم الأخلاقية الدينية فقط، فضلاً عن أن العناصر الروحية في العرفان العملي أكثر اتساعاً من العناصر الروحية الأخلاقية المحدودة بالمعاني والمفاهيم والمعروفة غالباً. ينظر : كمال الحيدري العرفان الشيعي، ص 16 ، ينظر أيضاً ينظر مرتضى المطهري العرفان، ص13-15. ينظر أيضاً عفيفي، أبو العلاء التصوف الثورة الروحية في الإسلام، دار المعارف، ط1، مصر، 1963م، ص 65
2- مفاتيح الغيب، ص 220
3- ينظر: محمد حبيب سلمان، نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي رسالة ماجستير(مخطوطة)، جامعة الكوفة ، 2005 ، ص 285.

القائم على النظر والاستدلال، وهو ما سار عليه الشيرازي نفسه، وهذا ما اتضح في المطالب السابقة، وهو الأمر دفعه إلى نقدهم في كتابه(كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية)، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله: ((نحن قد جعلنا مكاشفاتهم الذوقية مطابقة للقوانين البرهانية))(1)، وفي موضع آخر من الأسفار قال: ((ولا يحمل كلامنا على مجرد المكاشفة والذوق أو تقليد الشريعة من غير ممارسة الحجج والبراهين، والتزام القوانين فان مجرد الكشف غير كاف في السلوك من غير برهان)).(2)

وهنا نود الإشارة إلى مصدرين مهمين أثرا في تشكيل الرؤية العرفانية عند الشيرازي :وهما شهاب الدين السهروردي المقتول، ومحي الدين ابن عربي، فالناظر في مؤلفات مله صدرا يجد تأثره واضحاً بالمنهج الإشراقي عند السهروردي لا سيما كتبه ذات البعد الصوفي، فقد عرف عن الأخير انه صاحب منهج صوفي في تأليف مصنفاته، حيث دعا إلى تزكية النفس من خلال التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، وتهذيب الفكر الإنساني بالرياضة الروحية، وإعمال العقل واكتسابه للمعارف والعلوم اليقينية والإلهية للفوز في النعيم الأبدي ونيل اللذات والسعادات الأبدية (3).

وينطلق السهروردي من مبحث النفس في بناء منهجه الاشراقي، إذ يحدد لها قوتين نظرية وعملية، تحددان العلاقة بين الله تعالى وبين الإنسان، وبين النفس والبدن والقوة النظرية يدرك بها الإنسان الكليات والأمور المعقول والعملية تدرك بها النفس الأمور المتعلقة بالبدن فيما يتعلق بمصالحه و مفاسده، وبها التحريك، وهي وجه عقلي للنفس إلى البدن (4)، وهو المعنى الذي تجسد فيما بعد عند الشيرازي الذي أكد بدوره على معرفة النفس التي تؤدي بدورها إلى اكتساب الأفعال الأخلاقية الفاضلة، قال ((إن من لم يكتسب معرفة النفس سوف لن يفيد أي عمل من أعماله)) (5).

ص: 291


1- الأسفار، ج6، ص263.
2- الأسفار، ج 9، ص326.
3- ينظر: محمد علي أبو ريان أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، بيروت، 1969، ص35.
4- نظر شهاب الدين السهروردي التلويحات، ص 119
5- الشيرازي رسالة الأصول الثلاثة، ترجمة: علي اصغر الجامعة اللبنانية، بيروت، 1989، ص91.

والنفس عند الشيرازي كمال أول لجسم طبيعي الي ذي حياة بالقوة من جهة ما يدرك الأمور الكلية وما يفعل الأفعال الفكرية(1) . ويُبين الشيرازي أن لهذه النفس :قوتين احدهما العلمية التي تدرك بها التصورات والتصديقات، وتميز بها الصدق والكذب، والحق والباطل فيما تعقل وتدرك، وهي القوة النظرية التي تمكن الإنسان من معرفة أمور خارجه عن ذاته، كمعرفة العلة من وجود المعلول، ومنه رؤية الكون(2). وأما القوة الثانية، فهى القوة العملية وبها تستنبط الصناعات الإنسانية، كالحرفة الفنية والصناعية، ونميز بها الجميل والقبيح فيما نفعل ونترك من أفعال، وتسمى أيضاً بالعقل العملي(3) فثمرة هذه القوة تكمن في مباشرة عمل الخير من تهذيب الظاهر والباطن والتخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل والفناء في ذات الحق جل وعلا(4)، وهنا إشارة من قبل الشيرازي إلى التلازم بين الفعل الخلقي والسلوك العرفاني العملي الذي هو نتيجة للتحلي بالأخلاق الحميدة.

أما تأثره بابن عربي فيكاد لا ينكره أحد من الباحثين فالمتتبع في كتب الشيرازي يجد انه يكثر النقل عن ابن عربي ولا يذكره إلا بالتقديس والتعظيم كالتعبير عنه بالحكيم العارف والشيخ الجليل المحقق ونحو ذلك(5) ، وبالخصوص في نزعته العرفانية التي كانت ذات علاقة وثيقة بالنزعة الأخلاقية، فالأخلاق كما يرسمها ابن عربي روحية وعرفانية في نفس الوقت، إذ يُعرف الأخير التصوف على انه ((الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي الخلق الإلهية، وقد يقال بإزاء إتيان مكارم الأخلاق وتجنب سفسافها))(6).

ص: 292


1- ينظر: الشيرازي الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية تعليق سيد جلال الدين، المركز الجامعي للنشر ، ط2، مشهد، إيران، 1981 ، ص 199. كذلك : المبدأ والمعاد، تقدیم سید جلال الدين مؤسسة انتشارات، إيران، 1396ه، ص 258.
2- ينظر: الأسفار ، ص21-22
3- المصدر نفسه، ص 22
4- ينظر: الأسفار، ج 1، ص 21
5- ينظر محمد رضا المظفر، ترجمة صدر الدين الشيرازي، ط 1 ، مركز الحكمة للدراسات الإسلامية ، 2000، ص 50
6- ابن عربي، محي الدين محمد بن علي رسائل ابن عربي تقديم محمود الغراب دار صادر، ط1، بيروت، 1977، ص 541 .

ويمتد أثر ابن عربي إلى الشيرازي في تبنيه مسالك أو مراتب المريد، إذ ابن عربي يُحدد أركاناً أربعة للإنسان السالك الذي يريد أن يصل إلى الحق الأول، وهي (الصمت والعزلة، والجوع والسهر)، وقد تأثر الشيرازي بهذه المراحل، إذ يقول (( إن العرفاء السالكين إلى الله تعالى كان دأبهم في الرياضة والذهاب إليه أن يلتزموا بعد التوبة عن المعاصي الظاهرة، أمور أربعة جعلوها حصناً لهم يدافعون به عن نفوسهم قواطع الطريق، فان قصد المريد إصلاح قلبه ليشاهد ربه ويصلح لقربه :أولها: / الجوع فإنه ينقص دم القلب، فيبيضه وفي بياضه نوره، كما في سواده ظلمته، ويُذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه، رقته وفي رقته مفتاح المكاشفة، كما في قسوته سبب الحجاب.... وثانيهما السهر فانه يجلو القلب ويصفيه وينوره، ويضاف إلى الصفاء الذي حصل من الجوع، ويصير كالكوكب الدري ، وكالمرآة المجلوة، فيلوح فيه جمال الحق، ورفع الدرجات في الأخرى، ويرى حقارة الدنيا وآفاتها، فيتم زهده في الدنيا، ورغبته في الآخرة، وإقباله إلى الله وثالثها الصمت، فإنه يسهل العزلة والكلام يغل القلب، وشره القلب للكلام عظيم ، فتروح إليه، وتستقل التجرد للذكر والفكر، فيجب أن يعالج هذا المرض بالصمت، فالصمت يلقح العقل، ويجلب الورع والتقوى، ويلقح العقل بالحكمة ، وينطق به لسان التكلم مع الحق، ورابعها الخلوة وفائدتها دفع الشواغل ، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليزا القلب، يدخل منهما إليه من الشواغل والمفاسد والوساوس، ما يزعجه ويغيره، عما هو عليه.......)).(1)

المطلب الثاني، المعرفة الكشفية:

أولا ، في بيان مفهوم الكشف:

الكشف لغةً يعني رفع الشيء عما يواريه ويغطيه (2)، واصطلاحاً يعني الاطلاع على ما وراء الحجب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهوداً(3).

ص: 293


1- الشيرازي شرح أصول الكافي للكليني، ج1، تحقيق: محسن عقيل، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2011 ، ص448 - 449.
2- ابن منظور، لسان العرب، مج 3، ص 300.
3- الأملي، جامع الأسرار، ص 462.

وقيل عنه (( طريق الكشف هو علم ضروري يحصل عند الكشف يجده الإنسان في نفسه، لا يقبل معه شبهه ولا يقدر على دفعه، ولا يعرف لذلك دليلاً يستند إليه ما يجده في نفسه إلا بعضهم)).(1)

والمتمعن في كتب الشيرازي لا يجد لديه تعريفاً محدداً للكشف على غرار معانٍ كثيرة أشار إليها وعرفها من قبيل: الرياضة والمجاهدة، والتزكية، والتحلية ،وغيرها، لكنه يتحدث باهتمام بالغ عن الكشف والعلوم الكشفية، ويبين أنها من التعليم الرباني الحاصل للإنسان بغير واسطة لأنه في مقابل العلوم الدنيوية هناك علوم أخروية، يعمل بمقتضاها ويظفر بها العلماء المعرضون عن الدنيا الزاهدون فيها، وهذه العلوم الأخروية علوم كشفية لا يكاد يصل إليها الإنسان إلا بالذوق والوجدان (2)، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله ((ولا تنكر ما لم تسمعه من أحد ولم يبلغك بالنقول ولا وصل إليك من المعقول، ولا تنحصر العلوم فيما سمعته فهمته، فان لله لطائف رحمة في قلوب عباده....)) (3). وقال في موضع آخر من كتبه ((فان أغمض العلوم علم التوحيد واشرف المقامات نيل أسرار المكاشفات، لا يختص بهذه المعرفة إلا الأكابر المقربون)) (4).

وهناك نص له أوضح دلالةً لهذا المعنى قال فيه: ((اعلم هداك الله، أن كثيراً من المنتسبين إلى العلم ينكرون العلم الغيبي أللدني الذي يعتمد عليه السلاك والعرفاء، وهو أقوى واحكم من ساير العلوم..))(5)، وغيرها من النصوص التي طالما أكد من خلالها الشيرازي على أهمية علم

المكاشفات والنص السابق فيه دلالة واضحة على أن الشيرازي يجعل من هذا العلم في مرتبة أعلى من العلوم الأخرى كالفلسفية والكلامية، فضلاً عن ما ذكرناه من

ص: 294


1- ينظر مفاتيح الغيب، ص 150.
2- حيدر أملي المحيط الأعظم والبحر الخضم ج 3 ، ص412.
3- الشيرازي، تفسير القرآن ج 8 ص 137.
4- ينظر الشيرازي إيقاظ النائمين، ص 21
5- مفاتيح الغيب، ص122

عنونة تقسيمات كتبه بألفاظ ذات بعد كشفي وعرفاني.

وهذا العلم يكون على وجهين: الأول عن طريق الوحي، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله : ((إن النفس إذا كانت مقدسة عن دنس الطبيعة ودرن المعاصي مطهرة من الرذائل الخلقية مقبلة بوجهها إلى بارئها ومشيئتها متوكلة عليه معتمدة على إفاضته، فالله تعالى ينظر أليها بحسن عنايته ويقبل عليها إقبالا كلياً، ويتخذ منها لوحاً، ومن العقل الكلي قلماً، وينقش من لدنه فيها جميع العلوم...))(1). والثاني، الإلهام ويحده الشيرازي بقوله ((استفاضة النفس بحسب صفائها واستعدادها عما في اللوح، والأوهام اثر الوحي، والفرق بينهما أن أصرح وأقوى من الإلهام، والأول يسمى علماً نبوياً، والثاني لدنياً ...))(2).

ويستنتج من كلام الشيرازي أن الوحي خاص بالأنبياء والإلهام بالأولياء، ولذلك فان الوحي مشروط بالتبليغ للناس دون الإلهام، يضاف إلى ذلك أن الإلهام يحصل من الله من غير واسطة الملك، في حين أن الوحي يحصل بواسطته ، ولذلك يكون الوحي من الكشف الصوري والمتضمن للكشف المعنوي، في حين الإلهام من الكشف المعنوي فقط .(3)

المطلب الثاني، أنواع الكشف:

يتابع الشيرازي العرفاء في تقسيم الكشف إلى قسمين : صوري ومعنوي، أما الكشف الصوري فهو ما يحصل للعارف في عالم المثل من طريق الحواس الخمس، وسبب ذلك أن للنفس فى ذاتها سمعاً وبصراً وشماً وذوقاً ولمساً، فهذه المكاشفة تكون على طريق المشاهدة البصرية ، كرؤية العارف صور الأرواح المتجسدة والأنوار الروحانية، وإما أن يكون على طريق السماع، كسماع النبي صل الله عليه واله الوحي النازل عليه

ص: 295


1- مفاتيح الغيب، نفس الصفحة.
2- المصدر نفسه، ص 123
3- ينظر: محمد حبيب ،سلمان نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي ص 229.

كلاماً منظوماً أو مثل صلصلة الجرس ودوي النحل، والأمثلة كثيرة.(1)

ويرى الشيرازي أن بعض هذه المكاشفات قد يجتمع مع بعض، وقد ينفرد، لكنها كلها تجليات أسمائية، إذ إن الشهود البصري من تجليات الاسم البصير، والسماع من الاسم السميع، وكذلك بقية الحالات .(2)

وإذا تعلق الكشف الصوري بالحوادث الدنيوية وهنا يسمى رهبانية، وان لم يتعلق بها فهي معتبرة، وأهل السلوك العمل العرفان العملي - لعدم انشغالهم بالأمور الدنيوية لا يلتفتون إلى هذا القسم من الكشف لصرفها في الأمور الأخروية في أحوالها، ويعدون ذلك من قبيل الاستدراج أو المكر بالعبد، بل كثير منهم لا يلتفتون إلى الكشف الأخروي أيضاً ، وهم الذين جعلوا غاية مقصدهم ومنتهى غرضهم الفناء اء في الله (3).

وأما الكشف المعنوي، فهو ظهور المعاني الغيبية والحقائق العينية، وهو على مراتب أيضاً (4):

أولاً /ظهور المعاني في القوة المفكرة من غير استعمال للمقدمات وتركيب القياس، بل أن ينتقل الذهن من المطالب إلى مبادئها، وهذا يطلق عليه الحدس.

ثانياً / ظهور المعاني في القوة العاقلة المستعملة للمفكرة، وهذه القوة هي قوة روحانية غير حالة في الجسم وتسمى ب__(النور القدسي) والحدس من لوامع أنواره، لأن القوة المفكرة جسمانية فتصير حجاباً للنور الكاشف عن المعاني العينية، لذلك يكون الحدس أدنى مراتب الكشف .

ثالثاً /ظهور المعاني في مرتبة القلب، وتسمى هذه المرحلة بالإلهام، إن كان المكشف عنه أو الظاهر معنى من المعاني، وان كان حقيقة من الحقائق أو روح من الأرواح فتسمى مشاهدة قلبية.

ص: 296


1- ينظر: مفاتيح الغيب ، ص 150
2- ينظر: محمد حبيب، نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي ص234.
3- ينظر: مفاتيح الغيب، ص151.
4- المصدر نفسه ص 150-152

رابعا /ظهور المعاني في مرتبة الروح ويسمى بالشهود الروحي، وهي بمثابة الشمس المنورة لسموات مراتب الروح وأراضي مراتب الجسد، وفي هذه المرتبة يأخذ الإنسان بذاته من الله المعاني الغيبية من غير واسطة على قدر استعداه الأصلي.

خامساً /ظهور المعاني في مرتبة السر ثم مرتبة الخفي بحسب مقام كل مرتبة، وهاتين المرتبتين مما لا يمكن الإشارة إليهما ، ولا تقدر العبارة على تناولها كما يقول الشيرازي.

المطلب الثالث: الرياضة بوصفها طريقاً للكشف:

الرياضة * في اللغة هي ترويض الحيوانات وذلك بمنعها عما تقصده من الحركات غير المطلوبة، حتى تكون منقادة ويصير ذلك الانقياد ملكة.(1)

ومنه رضت الدابة أروضها ،رياضة، أي علمتها السير(2). أما اصطلاحاً فهي تعني منع النفس من الانقياد إلى القوى الثلاث البهيمية والغضبية، والوهمية، وتسخير هذه القوى للقوة العاقلة، وعندئذ يكون الإنسان إنسانا (3).

وقد أشار صدر الدين الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله((معنى الرياضة للبهائم منعها عن إقدامها على ما تريد من الحركات المختلفة التي ليست مرضية للراكب وإجبارها مدة على ما يرتضيه الرايض ليتمرن على طاعته، فهكذا هي القوة الحيوانية التي هي مبدأ الإدراكات والأفاعيل الحسية في الإنسان إذا لم تكن مرتاضة مطيعة للروح كانت بمنزلة بهيمة عاصية غير مرتاضة ....))(4).

ويحدد الشيرازي الغرض الأساس من الرياضة وهو نيل الكمال الحقيقي، وهو أمر يتوقف على استعداد النفس، وهذا الاستعداد مشروط بزوال الموانع ، التي هي أما

ص: 297


1- ينظر الخليل بن احمد الفراهيدي كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، قم، الطبعة الأولى، ج 1، 1414 ، ص 727.
2- المصدر نفسه نفس الصفحة.
3- مفاتيح الغيب، ص.686
4- المصدر نفسه، ص 687 .

موانع خارجية أو داخلية، ويمكن تحديد أغراض الرياضة بثلاث أغراض(1):

1 /منع النفس عن التوجه إلى غير الله، وهذا هو المانع الخارجي، ويعين على تحقيق هذا الغرض الزهد الحقيقي الذي هو التنزه عما يشغل السر عن الحق.

2 /استخدام القوى النفسية والبدنية فيما خلقت لأجله، واستخدام هذه القوى في الأمور المناسبة للأمر القدسي، ومبتعدة في الوقت نفسه عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي، ويعين على هذا الغرض أشياء عدة:

أولاً /العبادة المشفوعة بالفكر ، وفائدتها اقترانها بالفكر أن العبادة تجعل البدن بكليته متابعا للنفس ، فإذا كانت النفس مع ذلك متوجهة إلى جناب الحق بالفكر صار الإنسان بكليته مقبولاً على الحق

ثانياً /الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول والأوهام، وهذه الألحان تعين بالذات والعرض. أما وجه إعانتها بالذات، فهو أن النفس الناطقة تقبل عليها لإعجابها من ثمفات المتفقة والنسب المنتظمة الواقعة في الصوت الذي هو مادة المنطق، فتذهل عن استعمال القوى الحيوانية في أغراضها الخاصة بها، وعندئذ تتبعها تلك القوى، وتكون الألحان المستخدمة لها.

أما وجه إعانتها بالعرض، فإن هذه الألحان توقع الكلام المقارن لها موقع القبول من الأوهام لاشتمالها على المحاكاة التي تميل بالنفس بالطبع إليها، فإذا كان الكلام واعظا باعثاً على طلب الكمال، فإن النفس ستصير متنبهة لما ينبغي أن تفعل، فتتغلب عندئذ على القوى التي تشغلها .

3 /تلطيف السر والمراد تهيئة السر للإشعاع أو الفيض الإلهي بان تتمثل فيه

ص: 298


1- ينظر: نصير الدين الطوسي ، شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا ، ج 3 ، ص 382. أشار ابن سينا إلى الرياضة بوصفها المرحلة أو المرتبة الثانية من مراتب العارفين ويريد بها منع النفس عن الالتفات إلى ما سوى الحد الأول وإجبارها على التوجه نحوه، ومن أغراضها إزالة الموانع الخارجية وتطويع النفس حتى تنجذب إلى ما هو قدسي. ينظر الإشارات والتنبيهات، ج 2، ص 380

الصور العقلية كي تنفعل عن الأمور الإلهية المهيجة للشوق والوجد بسهولة(1).

المبحث الثالث: المفاهيم الأخلاقية وتجلياتها العرفانية:

المطلب الأول: التلازم بين الفعل الخلقي والعرفاني:

أكد الشيرازي على وجود علاقة بين المعرفة الإلهية والمباحث الأخلاقية فجعل الرياضة العلمية والعملية سببا للحصول على المعارف الإلهية، والتعمق في الحقائق الربانية، قال الشيرازي في تحديده قوى النفس ووظائفها: ((للنفس في ذاتها قوتان نظرية وعملية تلك للصدق والكذب، وهذه للخير والشر في الجزئيات، وتلك للواجب والممكن والممتنع وهذه للجميل والقبيح والمباح)) (2).

ويُحدد الشيرازي مراتب العقل العملي بأربعة مراتب : الأولى، مخصوصة بتهذيب الظاهر عن طريق الشريعة الإلهية والأحاديث النبوية والقيام بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها والثانية: مخصوصة بتهذيب باطن الإنسان، وتطهير قلبه عن الأخلاق الرذائل والابتعاد عن الخواطر الشيطانية. والثالثة مخصوصة بتنوير الإنسان بالصور العلمية والمعارف الحقة الإيمانية والرابعة وظيفتها بفناء النفس عن ذاتها، والاستغراق في المعرفة الإلهية(3).

ويتجلى في هذه المراتب التلازم بين الفعل الخلقي والسلوك العرفاني كما يرسمها الشيرازي فبعد تطهير الإنسان نفسه من الرذائل وتحليه بالفضائل الحسنة في المرتبة الثانية، يكون مستعداً لتقلي الصور العلمية والمعارف العقلية والمعارف الحقة الإيمانية على حد سواء، ومن ثم تكون نفسه مستعدة للفناء عن ذاتها وذوبانها في الحضرة الربوبية، قال الشيرازي مؤكداً هذا المعنى ((وبعد هذه المراحل - مراتب العقل العملي - منازل ومراحل كثيرة ، ليست اقل مما سلكها الإنسان فيما قبل ولكن يجب إيثار الاختصار فيما لا يدرك إلا بالمشاهدة والحضور ، لقصور المشافهة والتعبير

ص: 299


1- ينظر: مفاتيح الغيب، ص383.
2- المبدأ والمعاد ص 261
3- ينظر: مفاتيح الغيب، ص523.

عن بيان ما لا يفهم إلا بالنور، فان للكاملين بعد المسافرة إلى الله ووصولهم أسفار أخرى، بعضها في الحق وبعضها من الحق....))(1)، وهذا النص فيه إشارة إلى أن مراتب العقل العملي تنسجم في مضامينها مع المصدر الكشفي العرفاني في المعرفة أكثر من انسجامها مع المصدر العقلي، لكن اعتاد الباحثون في فلسفة الشيرازي على ذكرها بجوار القوة العقلية انسجاما مع منهجية الشيرازي نفسه في ذكرهما معا.(2)

ومن هنا نجد أن الشيرازي على الرغم من متابعته لابن سينا في تقسيمه لقوى النفس من نظرية ،وعملية إلا أنه يختلف معه في إضافته مرتبة العرفاء إلى العقل العملي، فالعرفان بوصفه سلوكا عمليا يهتم بتهذيب باطن الإنسان، يُعد من لواحق القوة العملية، وهذا ما جسده الشيرازي في المرحلة الرابعة من مراتب القوة العملية، وهي مرحلة الفناء عن النفس في ذات الباري جل وعلا وهذا ما يُحاول الباحث تبيانه في المطالب اللاحقة الفلسفة الأخلاقية.

ويتضح هذا المعنى في سياق فهم منهج الشيرازي العرفاني والقائم على الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة، فالأصل في الوصول إلى الحقيقة هو الشريعة، وأما المسلك فهو الطريقة ، قال : ((واعلم أن طريقة تصفية القلب منحصرة في إقامة وظائف العبادة وإدامة مراسم العدالة وإزالة وساوس العادة...... وبناء الأول على تهذيب الأخلاق وتقويم الكلمات، وبناء الثاني على إقامة مراسم العبودية، وأداء الشكر على النعم الربوبية والقضايا الإلهية وبناء الثالث على ما ترك المألوفات ورفض المستلذات)) (3).

فنقطة البداية تكون من الشريعة وتكون بإقامة العبادات الظاهرة والباطنة لغاية، هي تقويم الملكات بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل، أما الطريقة فمهمتها الخروج عن مألوف العادات والمراسم الاجتماعية إلى اعتماد الطريق الموصل إلى

ص: 300


1- ينظر المفاتيح ص.523 . كذلك الشواهد الربوبية : ص 207
2- ينظر: محمد الخطيب نظرية المعرفة عند الشيرازي، ص 116
3- الشيرازي كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية، ص129.

المقامات والأحوال(1). وهذا التأكيد على معرفة النفس والتقوى والورع، والزهد الحقيقي، وتهذيب العقل، والتجرد العلمي والعملي التامين دليل على مكانة العلاقة بين علم الأخلاق والمعرفة الإلهية، وجعل الأخلاق وسيلة للوصول إلى معرفة الله تعالى، وعلم سلوك طريق الآخرة من خلال التأدب بالأخلاق الإلهية.(2)

وهذا يعني أن تهذيب الأخلاق وتزكية النفس لهما أثر مهم في معرفة الإنسان ربه وترقيه إليه، وهذا المعنى يعد الغاية الأساسية والهدف الأسمى عند صدر المتألهين في كيفية ارتقاء الإنسان سلم الأخلاق العرفانية للوصول إلى معرفة الحق تعالى، من خلال كبح جماد النفس والسيطرة على قواها الشهوية، والغضبية، والوهمية، بمقتضى القوة العقلية، ذلك لان اقتراف الذنوب يسبب إحداث ظلمة في مرآة النفس وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله ((كدورة المعاصي وخبثها الذي تراكم على وجه القلب من كثرة الشبهات واقتراف الخطيئات، فإنها تمنع صفاء العقل وجلاءه، فمنع ظهور الحق فيه ، وشهود الحقيقة له بقدر ظلمته وتراكمه...)).(3)

وقد وضع الشيرازي شروطا خاصة للنفس البشرية لتكون مستعدة لقبول الحكمة والعلم والمعرفة، ومنها : انشراح الصدر، وسلامة الفطرة، وحسن الخلق، وجودة الرأي، وحدة ،الذهن وسرعة الفهم مع نوع من الذوق الكشفي، ويجب مع ذلك كله أن يكون في القلب المعنوي نور من الله يوقد به دائما كالقنديل، وهو المرشد إلى الحكمة (4).

وكل ما ذكرناه فيه إشارة إلى تلازم وارتباط البحث الأخلاقي لديه بالمعرفة العرفانية، بوصفه مقدمة للسلوك العملي من العرفان.

المطلب الثاني: الفضائل والرذائل:

يُحدد الشيرازي طرق مجاهدة النفس التي يُعبر عنها ب(المجاهدة الروحانية) بطريقين هما التزكية والتحلية، وكلاهما يرتبطان بالفعل الخلقي للإنسان، أما التزكية

ص: 301


1- ينظر : كمال إسماعيل لزيق مراتب المعرفة وهرم الوجود عند ملا صدرا، ط1، بيروت، 2014، ص 121.
2- ينظر: رياض سحيب روضان علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2012، ص 311.
3- الشيرازي كسر أصنام الجاهلية، ص 17-18
4- الأسفار، ج6، ص6-7.

فتكون بالابتعاد عن الرذائل، وعلى رأسها أمهات الرذائل الثلاث: (الحرص أو الهوى والحسد والتكبر).(1)

أما (الهوى)، فهو من الرذائل التي بلي بها آدم في الجنة، حتى أخرج منها باستهانة ومذلة بع ما صدر منه ذلة، وهو نوعان: شره على الأكل، وشبق على النكاح(2)، فرذيلة الهوى نهى عنها الباري جل شأنه بقوله :«وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» (3)، وأما التكبر فهو أيضاً من أمهات الرذائل والذي ابتلي به إبليس عندما أمتنع عن السجود لآدم بدليل قوله تعالى «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».(4)

والرذيلة الثالثة هي (الحسد)، فهو من أنجس الرذائل كما يُعبر الشيرازي، وبه ابتلي قابيل حتى قتل أخيه هابيل ويرى الشيرازي أن على الإنسان الابتعاد عن هذه الرذيلة والهروب منها هروب الإنسان من الأسد ويستشهد بقول الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ((ثلاث مهلكات شح مطاع، وهو من فروع الهوى والحرص وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)).(5)

وهذه الرذائل كلها ناشئة من القوى الثلاث التي هي . الشهوة والغضب والقوة المدبرة للحياة البدنية، وكل منها محفوف بدرجتي الإفراط والتفريط، وأوسطها هي فضائل الصراط المستقيم : الشجاعة والعفة والعدالة وتزكية النفس من هذه الرذائل يترتب عليه خروج النفس الناطقة من الأرجاس والأدناس التي تدفع بها القوى الشهوانية(6). ويوضح الشيرازي هذا المعنى بقوله : ((إن الجسم إما أن يتشوق نحو الانتقام والإقدام على الغير، لانتزاع ما في يده بالقوة الغضبية، وإما أن يتشوق نحو الشهوات واللذات بالقوة الشهوية، وإما أن يتشوق نحو الفضائل بالقوة العقلية، ثم

ص: 302


1- ينظر الأسفار، ج 1 ، ص 21
2- ينظر: مفاتيح الغيب، ص 690.
3- سورة النازعات، آية 40
4- سورة البقرة آية 34.
5- ينظر: مفاتيح الغيب، ص691.
6- المصدر نفسه نفس الصفحة.

أن الشهوة والغضب مقرونان بالحيوان الناقص، لحاجات بدنه وعدم كفاية شخصه في بقاء وجوده، لتطرق الاستحالة والفساد إليه دون انضمام ما هو خارج عنه إليه، فيحتاج إلى جذب ودفع بشهوة وانتقام، والأجرام العلوية غنية عن هذه الأشياء لبعد جوهرها عن الاستحالة والتغير والنقص ...)) (1). ونفوس هذه الأجرام هي التي يجب أن يكون تتشوق نحو الفضائل، والفضائل، أيضاً أصولها منحصرة في ثلاثة: الشجاعة والعفة والحكمة، فوجب أن يكون الفضيلة التي يتشوقها النفوس السماوية أعلى هذه الفضائل مرتبة واجلها درجة وهي فضيلة الحكمة، والحكمة هنا هي التشبه بأفضل الموجودات وهي الغاية في الشرف والكمال، لأجل قصد الإنسان أيضاً، الذي هو أفضل الحيوانات في هذا العالم .(2)

أما نوع التحلية فهو أنما يحصل بتحصيل الفضائل والمعارف النظرية، وهو مستنبط من القرآن الكريم، وفائدتها التخلق بالأخلاق الإلهية الجميلة، التي بها يكون الإنسان بقلبه المرآة الصافية، يقول الشيرازي: ((.... حتى يصير مرآة مجلوة وصحيفة متلوة يشاهد فيها صور الوجود كله على شكله واستنارته وهيئته، فحينئذ يصلح لنظر عين الجمال المطلق التي لا تنام ، صاحب الجلال والإكرام)).(3)

وموقف الشيرازي هنا بصدد الفضائل والرذائل يتجسد فيه نزعة التوفيق بين الجانب الفلسفي من جهة، والجانب الديني من جهة أخرى، أما الفلسفي فيبدو واضحاً في تبنيه نظرية الوسط المعتدل - كما اشرنا سابقاً- أما الجانب الديني فيتجسد في أن الفضائل والرذائل التي أشار إليها الشيرازي معظمها مستنبطة من القرآن الكريم، وطالما أستشهد بالآيات القرآنية عليها من قبيل رذيلة الهوى، فقد أشار إليها الباري جل شأنه في عدد من الآيات إليها، منها قوله تعالى : «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَواه» (4)، والكبر كما في قوله تعالى : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ

ص: 303


1- المصدر نفسه ص 568
2- المصدر نفسه، 569.
3- الأسفار، ج 1، ص21.
4- سورة الجاثية ، آية 23

مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرَتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1)، وأيضاً الحسد من قبيل قوله تعالى : «وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذا حَسَد».(2)

وهنا إشارة من قبل الشيرازي إلى أهمية اكتساب الفضائل الخلقية والابتعاد عن الرذائل، لان بها يكون الإنسان مستعد لتلقي الفيض والجمال الإلهي، انطلاقاً من أن علم الأخلاق يسبق العرفان العملي، فالأول من مهامه تعبيد الطريق من خلال التحلي بالفضائل الخلقية، ومن ثم تتجلى مراتب السير والسلوك عند الإنسان، ويصل إلى درجة العارف المستعد لتلقي النور الأبدي ، قال : ((وأما العقل النظري إذا تنور بنور المعرفة والإيمان، وخرج من القوة إلى الفعل، وصار كعين صحيحة استنارت بنور الملكوت، فلكونه يدرك حقائق المعارف، ورئيس سائر المدارك رئيساً مطاعاً إذا منع النفس عن هواها وسخر الشهوة والقوى الأمارة واستخدمها في سبيل العبودية، مطالع بكل منها آية من آيات الملكوت وباب من أبواب المعرفة ....)).(3)

المطلب الثالث: في السعادة والشقاء:

يميز الشيرازي بين نوعين من السعادة السعادة الدنيوية أو الخلقية، والسعادة الأخروية، وهذه الأخيرة لا تتاح ألا بمزاولة السعادة النظرية والعملية معاً، يقول الشيرازي: ((ثم أنك قد علمت أن الشرف والسعادة بالحقيقة إنما يحصل للنفس من جهة جزئها النظري الذي هو أصل ذاتها، وأما ما يحصل لها بحسب جزئها العملي الذي هو من جهة تعلقها بالبدن وإضافتها ونفسيتها فليس لها بحسبه من الاغتباط، السلامة عن المحنة والبلاء والطهارة عن الشين والرجس والصفا عن الكدورة والرذيلة، والخلاص عن العقوبة، والجحيم والعذاب الأليم....)).(4)

ويتجلى في النص السابق، أن السعادة الأخروية مرتبطة بمدى طهارة الإنسان

ص: 304


1- سورة الاحقاف، آية 10
2- سورة الفلق، آية 5
3- مفاتيح الغيب ، ص670-671
4- الأسفار، ج 9، ص131.

وصفاء النفس واستقامة سلوكه في الحياة الدنيا، فسعادة الإنسان تكون بتأمله للدارة الآخرة التي يصل إليها من خلال السعادة الخلقية والسعادة العقلية. أما السعادة الخلقية، فقد مر الحديث عنها مسبقاً، فهي سعادة دنيوية تتحقق للنفس وهي بصحبة البدن، ويتم ذلك عن طريق تحقيق العدالة في أفعالها، وهذا العدل لا يتحقق ألا بوجود مبدأ الوسط الأخلاقي بين ضدين إفراط وتفريط، بحسب توسط قواه الثلاثة الشهوانية والغضبية والفكرية، التي يحددها في الفضائل الثلاث وهي: العفة والشجاعة والحكمة، وبها تتحقق مكارم الأخلاق وملكة العدالة(1).

أما السعادة العقلية فتحصل للنفس بمزاولة جزئها النظري المتمثل بالعقل النظري من خلال استكماله حصول معرفة الأشياء في ذاتها وخرجت من القوة العقلية الهيولانية والعقل بالملكة بعد أن استفادت النفس من تلك المرتبتين، لاستنباطها للمعاني المجردة، وتنبيهها إلى عالمها ومبدئها ومعادها يقول: ((سعادة النفس وكمالها هو الوجود الاستقلالي المجرد والتصور للمعقولات والعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليها، ومشاهدة الأمور العقلية والذوات النورانية)).(2)

وبمجرد حصول السعادة العقلية للإنسان تبدأ تجليات النفس العرفانية لتمتد إلى السعادة الأخروية، التي يحاول الشيرازي تأسيسها بالاعتماد على النصوص الدينية، فالخلق وفقاً لاستجابة الدعوة والإيمان بنبوة النبي والاستجابة إلى تعاليم القرآن المجيد ينقسمون إلى قسمين (3):الأول، منهم من ينتفع بتعليم الأنبياء ويتذكر : بتذكير المرسلين لأجل رقة قلبه ولين طبعه وخشيته وخوفه من سوء العاقبة وهم المشار إليهم في قوله تعالى : «سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى(4) ، فالخشية والتذكر متلازمان، كل منهما يوجب الآخر ، فان من سمع دعوة الأنبياء ثم خطر بباله أن هذه الدنيا واهية فانية وفاسدة على كل حال، سوف تحمله هذه الخشية على النظر في دعوة الأنبياء

ص: 305


1- المصدر نفسه، ص 127. كذلك مفاتيح الغيب، ص733. المبدأ والمعاد، ص 272.
2- الأسفار، ج 9، ص128.
3- الشيرازي تفسير القرآن، ج 7، ص 382-383
4- سورة الأعلى آية 10.

والتأمل في أمور الآخرة ومراتب سعادة النفس وشقاوتها وما به نجاتها أو هلاكها، وهذا التذكير يدفعه إلى اجتناب المعاصي والرذائل، واكتساب الطاعات والفضائل خوفاً من الهلاك والعذاب وطمعاً في النجاة والرحمة.(1)

أما القسم الثاني فهم الذين لا ينتفعون بدعوتهم ولا يحملهم الخشية على تحصيل الدرجات وطلب التخلص عن العقوبات وأشار إليهم تعالى بقوله: «وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى»(2) ، وهذا الإعراض أنما يكون بفعل تسلط الشهوات الجسدية المرتبطة بقوى الشهوة والغضب، فضلاً عن حرص الإنسان على طلب الجاه والمال والنساء والبنين وغيرها على طبعه، وهو أمر يجعله بعيدا عن استكمال نفسه بالعلم والعمل، وهذه هي الشقاوة بحد ذاتها (3).

ويتجلى البعد العرفاني عند الشيرازي في سياق جعله السعادة الأخروية هي أفضل وأتم وأجل من مراتب السعادة الأخرى، وذلك في سياق تفرقته بينها وبين أنواع السعادة الأخرى، وعلى النحو الآتي(4):

1 /إن اللذات الدنيوية من قبيل لذات الشهوة وداعية الغضب هي لذات سريعة الزوال والانقطاع، بخلاف اللذة الأخروية، فهي باقية دائمة غير منقطعة، بدليل قوله تعالى: ((والآخرة خيرٌ وأبقى)).

2 /إن معظم اللذات الدنيوية مشتركة بين الناس والبهائم والديدان وغيرها، بخلاف لذات الآخرة، فهي مشتركة بين أفاضل الناس من الأنبياء والأولياء والسعداء وأفاضل الملائكة.

3 /إن اللذات الدنيوية ليست خيرات ،حقيقية، لو كانت كذلك لكانت كلما كانت أكثر، كان الفائز بها أكمل وسعادتها أكثر ، ومعلوم أنه ليس كذلك، بخلاف اللذات الروحية فهي لذات حقيقية دائمة، بدليل أن الإنسان لا يقدم على الجماع عند حضور

ص: 306


1- تفسير القرآن 383
2- سورة الأعلى آية 11
3- تفسير القرآن الكريم، ج 7، ص 383
4- المصدر نفسه، 395-396

الناس، فلو كانت هذه اللذة وغيرها من اللذات البهيمية من باب الكمال لكان إظهاره أولى من إخفائه لا محالة، وكذلك الحال في العاقل، فهو لا يفتخر بكثرة الأكل والشرب مثلما يفتخر بالعلم.

4 /إن معظم اللذات البهيمية العاجلة لا تخلو من نقائص جمة، كشوب المكروه ووصمة الانقطاع والملل وغيرها من النقائص، في حين أن اللذات الأخروية بخلاف ذلك لا يصيبها ملل أو نقص لبراءتها وخلوها من المكروه أو الملل سواء كان في ذاتها أو ما يصحبها من تبعات.

فالناس بإزاء تحصيل السعادة متفاوتة متفاضلة بالكمال والنقص وهذا الكمال والنقص إنما يكون بحسب علمهم بالوجود، لان الوجود والعلم والشعر به، إنما هو خير وسعادة وعدم العلم به إنما هو شر وشقاوة يقول الشيرازي: ((...لكن الموجودات متفاضلة متفاوتة بالكمال والنقص ، فكلما كان الوجود أتم كان خلوصه أكثر ، والسعادة في أوفر ، وكلما كان انقص كان مخالطته بالشر والشقاوة أكثر، وأكمل الوجودات وأشرفها هو الحق الأول، ويليه المفارقات العقلية وبعدها النفوس، وأدنها هي الهيولى الأولى والزمان والمكان والحركة، ثم الصور الجسمية،....)).(1)

ويأخذ الشيرازي بالمصدر الديني في تحديده لأهل الشقاء بفريقين(2): الأول حق عليهم الضلالة وحق عليهم القول في الأزل، لأنهم أهل الظلمة وأهل الدنيا، والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم فطرةً ، بدليل قوله تعالى: «قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ»(3) ، والفريق الثاني هم المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل قابلين لنور المعرفة بحسب الفطرة، والنشأة الأولى، ولكن ضلوا عن الطريق لتلبسهم بالرذائل وارتكاب المعاصي ومباشرة الأعمال البهيمية والسبعية، وهؤلاء - كما يرى الشيرازي - قلوبهم محجوبة عن الحق بفعل مكائدهم

ص: 307


1- الأسفار، ج 9، ص 121
2- المصدر نفسه، 131
3- الأعراف آية 18 .

الشيطانية، وانتقشت نفوسهم برسوم سفسطية وصور جهلية وأوهام كاذبة(1).

وهنا يتجسد البعد العرفاني لمفهوم السعادة، وبالخصوص السعادة الأخروية، بوصفها أفضل من اللذات الشهوانية والعقلية، فضلاً عن كونها مرهونة بما يكتسبه الفرد في حياة الدنيا من فضائل خلقية وعقلية، بوصفها مقدمات لنيل سعادة الأخرى، أما في حال ابتعاد النفس عن هذه الفضائل وانشغالها بلذاتها البهيمية الحيوانية، فلا يكون نصيبها سوى الشقاء في الآخرة.

الخاتمة

اتضح لنا من خلال البحث أن النظرية الأخلاقية عند صدر الدين الشيرازي قد حملت أبعاداً دينية وفلسفية وعرفانية، تماشياً مع فلسفته التي حملت نفس الأبعاد، أما البعد الفلسفي، فقد تبنى الشيرازي نظرية الوسط المعتدل ذات الأصل الأرسطي، فالفضيلة الخلقية هي الفضيلة التي يسودها مفهوم العدالة ويتحقق فيها التوازن بين قوى النفس الشهوانية والغضبية والعاقلة، كما تابع المدرسة المشائية في أن كمال الإنسان في إحدى طرقه يكون من خلال كمال القوة النظرية الذي يتمثل في علمها بحقائق الوجود.

والبعد الديني، تمثل في بيان أثر العبادات من صلاة وصوم وحج، وغيرها، في تقويم السلوك الإنساني وتسيريه بالاتجاه الصحيح، فكل واحدة من هذه العبادات لها مدلول ظاهر وباطن، أما الظاهر فهو العبادة الجسمانية من قيام وركوع وسجود بالنسبة للصلاة، أما باطنها هو تصفية القلب وتجرد النفس لتلقي الفيض الإلهي والاتصال بالذات المقدسة، وكذا الحال في بقية العبادات التي تسهم بدورها في صفاء النفس من الرذائل وتحليها بالفضائل، ليكون صاحبها مستعدا لتلقي المقامات والأحوال التي يمر بها للوصول إلى حضيرة القدس.

أما البعد العرفاني - موضع الدراسة - فكان تجلي وانعكاس لسلوك الفرد

ص: 308


1- الأسفار، ج 9، ص 131-132.

الأخلاقي، فتهذيب الأخلاق وتزكية النفس لهما اثر مهم في معرفة الإنسان ربه وترقيه إليه، وهذا المعنى يُعد الغاية الأساسية والهدف الأسمى عند صدر المتألهين في كيفية ارتقاء الإنسان سلم الأخلاق العرفانية للوصول إلى معرفة الحق تعالى، وتجسدت هذه الغاية بجعل الطريق الموصل إلى المعرفة الإلهية يكون من خلال تزكية النفس بالابتعاد عن الرذائل ومنها أكثرها معصية الرذائل الثلاث، الحرص أو الهوى، والحسد والتكبر، ومن ثم تحليها بالفضائل والمعارف النظرية، وهو مستنبط من القرآن الكريم، وفائدتها التخلق بالأخلاق الإلهية الجميلة، التي بها يكون الإنسان بقلبه المرآة الصافية. كما أن مفهوم السعادة الأخروية، قد أخذ بعداً عرفانياً عندما جعل الشيرازي من الفضائل الخلقية والعقلية معاً طريقا موصلاً إلى هذه السعادة التي هي برأيه خير من السعادة الدنيوية.

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

(1) ابن سينا الإشارات والتنبيهات، ج2، تحقيق: مجتبى الزراعي، مطبعة مكتب الأعلام الإسلامي، ط1، 1423 . ه

(2) ابن عربي محي الدين محمد بن علي، رسائل ابن عربي تقديم محمود الغراب دار صادر، ط1، بیروت، 1977،

(3) ابن منظور، جمال الدين لسان العرب مج3، دار صادر، 1956.

(4) أبو العلاء، عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام، دار المعارف، ط1، مصر، 1963م.

(5) أبو ريان محمد علي أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، بيروت، 1969.

(6) آل ياسين، جعفر، صدر الدين الشيرازي مجدد الفلسفة الإسلامية، مطبعة المعارف، بغداد، ط1955،1.

(7) الآملي، جامع الأسرار ومنبع الأنوار تحقيق: هنري كوربان وآخر، طهران،1318ش

(8) جميلة محى الدين صدر الدين الشيرازي وموقفه النقدي من المذاهب الكلامية، دار العلوم العربية بيروت، ط2008،1.

ص: 309

(9) حلباوي أسعد أصالة الوجود عند صدر الدين ،الشيرازي دار الصفوة، بيروت، ط1، 2010.

(10) حيدر املي المحيط الأعظم والبحر الخضم ج 3 .

(11) الحيدري كمال العرفان الشيعي، قم، إيران، 1429ه.

(12) روضان، ریاض سحیب، علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2012.

(13) السهروردي شهاب الدين التلويحات (ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية)، مج 1، تصحيح: هنري كوربان مطبعة المعارف استنبول ، 1945.

(14) الشيرازي رسالة خلق الأعمال، تحقيق: ياسين السيد محسن، مطبعة الحوادث، طهران، 1378ش.

(15) المبدأ والمعاد، تقديم سيد جلال الدين مؤسسة انتشارات، إيران، 1396ه.

(16) إيقاظ النائمين تحقيق أكرم الماجد ، مطبعة الفيحاء، ط2، بيروت، 2013.

(17) أسرار الآيات، تصحيح وتحقيق: حبيب الله الموسوي، ط1، قم، إيران،1420ه.ق

(18) تفسير القرآن الكريم، ج 7، انتشارات بیدار ،قم، إيران 1367ش.

(19) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية ، ج 9، ط2، دار المعارف الإسلامية، قم، إيران.

(20) شرح أصول الكافي للكليني، تحقيق: محسن عقيل دار المحجة البيضاء، بيروت، 2011.

(21) الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، تعليق سيد جلال الدين المركز الجامعي للنشر، ط2، مشهد، إيران، 1981،

(22) رسالة الأصول الثلاثة، ترجمة: علي اصغر الجامعة اللبنانية، بيروت، 1989.

(23) كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية، تحقيق: محمد تقي دانش، طهران، إيران، 1962.

(24) مجموعة رسائل فلسفية، ط1، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 2001.

(25) مفاتيح الغيب، تصحيح وتقديم محمد خواجوي مؤسسة مطالعات إيران 1984.

ص: 310

(26) د جميل, المعجم الفلسفي, ج 1, 16, قم إيران.

(27) الطوسي، نصير الدين شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا، ج 3.

(28) الفراهيدي الخليل بن احمد كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، قم، الطبعة الأولى ج 1، 1414.

(29) لزيق كمال إسماعيل، مراتب المعرفة وهرم الوجود عند ملا صدرا، ط1، بيروت، 2014،

(30) محمد حبيب سلمان، نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي رسالة ماجستير (مخطوطة)، جامعة الكوفة، 2005.

(31) المطهري، مرتضى العرفان دار ،الولاء، ط2، بيروت، لبنان، 2011.

(32) المظفر، محمد ،رضا ترجمة صدر الدين الشيرازي، ط 1 ، مركز الحكمة للدراسات الإسلامية ، 2000.

(33) موسى د. محمد يوسف, مباحث في فلسفة الأخلاق, مطبعة الأزهر, كلية أصول الدين القاهرة,1943.

(34) نصر، سيد حسين، مقدمة تحقيق، كتاب سي أصل لصدر الدين الشيرازي، جامعة علوم المعقول والمنقول، طهران، 1961.

ص: 311

التراث الأخلاقي عند الفيض الكاشاني

د. ياسين حسين الويسي(1)

المقدمة

أن الأخلاق في تراثنا الإسلامي لها اثر كبير في كونها من المشتركات التي جمعت شعوب الأرض جميعا التي دخلت دين الإسلام وتكمن أهمية الأخلاق من حيث أكدت عليها مصادر الدين الرئيسة القرآن الكريم وسنة النبي صلی الله علیه و آله سلم وروايات أهل البيت عليهم السلام ومنهج الصالحين العارفين لذلك جعلت عنوان بحثي «التراث الأخلاقي عند الكاشاني» باعتباره شخصية إسلامية ليست عربية ومع ذلك فقد احتل مكانة عظيمة في نفوس المسلمين العرب ،وغيرهم، ولقد وجدت في شخصية الكاشاني شخصية إسلامية جامعة حيث ابتدأ فلسفته الأخلاقية من منطلقات دينية أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية وروايات آل البيت علیهم السلام وكتب فلاسفة الإسلام الأخلاقية كالغزالي، وابن عربي، وصدر الدين الشيرازي، فقد عمل على تهذيب كتاب الغزالي إحياء علوم الدين كتاب له سماه (المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء) قام بدعم روايات الغزالي التي فيها ضعف بروايات موثقة عن أهل البيت علیهم السلام.

وقد اعتمدت على المصادر الأم في ذلك وهي كتب الفيض محسن الكاشاني، وغيرها من المصادر التاريخية والمراجع.

ص: 312


1- أستاذ جامعي من العراق يؤكد الباحث أن الكاشاني ابتدأ فلسفته الأخلاقية من منطلقات دينية أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية وروايات آل البيت عليهم السلام وكتب فلاسفة الإسلام الأخلاقية كالغزالي، وابن عربي، وصدر الدين الشيرازي، لقد جمع الكاشاني المسلمين بمختلف مذاهبهم تحت مذهب واحد هو المذهب الأخلاقي العرفاني. يؤكد الكاشاني على أن الأخلاق التي توصف بالحسن تعود إلى أربعة من أمهات الفضائل الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، وان الأخلاق المذمومة التي يجب تهذيب النفس لتتركها هي التي تسمى بالرذائل يلخصها في ستة صفات، ثم يخلص الباحث إلى القول لقد ركز الفيض محسن الكاشاني على أن المجاهدة والرياضات الصوفية هي السبيل إلى تغيير الأخلاق المذمومة ؛ لكى تكون ربانية. المحرر

وحيث أن الكتابة عن الفيض محسن الكاشاني تعدّ عملاً بكراً، فاجتهدت في استخراج قضايا الأخلاق من كتبه لاسيما الذي ذهب فيه مذهب الغزالي في الأخلاق في كتابه إحياء علوم الدين ورتب الكاشاني أبوابه وقعد رواياته الضعيفة بالروايات عن الأئمة علیهم السلام . وكتابه الحقائق في الأخلاق. لقد جمع الكاشاني المسلمين بمختلف مذاهبهم تحت مذهب واحد هو المذهب الأخلاقي العرفاني فكان عمله هذا مشتركا فلسفيا أخلاقيا. يجمع المسلمين عربا وغيرهم سنة وشيعة تحت هذا العنوان القيمي والإنساني. فالإنسانية جمعاء تنشد الخلق المثلى، وهذه الخلق المثلى يرى الكاشاني أنها لم تجتمع لاحد من الخلق كما اجتمعت في شخص النبي صلی الله علیه و آله سلم الذي كان خلقه القرآن، وأهل بيته الذين كانوا قرآنا يمشي على الأرض.

إذن العوامل المشتركة كثيرة، غايتنا أن نفعل هذه المشتركات ونقلل من أهمية الاختلاف، لننهي بذلك الخلاف فالاختلاف ممدوح طالما لا يؤدي إلى الخلاف آملين من الله مباركة الجهود فهو القادر سبحانه.

وكان منهجي في هذا البحث هو المنهج التاريخي والوصفي، لذا رتبته بحسب ذلك المنهج.

وكانت خطتي أنني جعلته في ثلاثة مباحث: أما الأول فكان في حياة الكاشاني وثقافته. أما المبحث الثاني فكان في مفهوم الأخلاق وأهميتها. وكان المبحث الثالث: يدرس الأخلاق عند الكاشاني الفضائل منها والرذائل. وقد ختمت بحثي بأهم النتائج التي توصلت لها في هذه الورقات كذلك وصيتي لزملائي الباحثين في مجال تراثنا الأخلاقي بضرورة الاهتمام به للعودة بالمجتمع إلى أن يعود مجتمع فاضل يحتذى به سائلاً الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم إلى يوم الدين.

ص: 313

المبحث الأول: الكاشاني حياته وثقافته.

المطلب الأول: حياته.

هو محمد بن المرتضى الملقب بالمحسن الفيض الكاشاني المولود سنة 1007ه(في كاشان... ولقب بعدة القاب منها الفاضل الكامل العارف المحدث المحقق المدقق الحكيم المتأله)(1) ولقبه أستاذه صدر الدين الشيرازي بالفيض(2) وذكر انه ولد في كاشان وان نسبته إلى كاشان هي دليل ولادته فيها في حين نرى رأياً آخر يقول بانه ولد في قم ونشأ فيها ثم انتقل إلى كاشان وبعد ذلك إلى شيراز ليكون تلميذاً لصدر المتألهين .(3)

وكان الكاشاني من أعلام الشريعة حيث ابتدأت رحلته في كاشان حيث ترجم لنفسه بذلك فقال: كنت برهة في خدمة خالي المعظم الذي كان من الممتازين في عصره في كاشان مشتغلاً بتعلم التفسير والحديث، والفقه، وأصول الدين، وما تتوقف عليه هذه العلوم من العربية والمنطق وغيرها ... وبعد انقضاء العشرين من العمر سافرت إلى أصفهان لتحصيل الزيادة من العلوم الدينية وتشرفت بخدمة جمع من الفضلاء كثر الله أمثالهم، ولكن لم أجد هنا من عنده خبر من علم الباطن، وتعلمت فيه شيئاً من العلم الرياضي.(4)

قال الكاشاني: ثم توجهت إلى شيراز لتحصيل الحديث والإسنادات المعنعنة ورحلت إلى خدمة فقيه العصر والمتبحر في العلوم الظاهرية اعني السيد ماجد بن هاشم الصادقي البحراني، تغمده الله ،بغفرانه واستفدت من حضرته سماعاً وقراءة وإجازة شطراً متعلقاً به من الحديث ومتعلقاته، حتى حصلت لي بصيرة في الجملة،

ص: 314


1- ينظر: البحراني، السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، مطبعة النعمان النجف الأشرف، (د، ت)، ص 121.
2- ينظر: عياض قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني وجهوده في تفسير الصافي العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف، 2011م، ص 111. كذلك ينظر: القمي، الشيخ عباس الكنى والألقاب، مكتبة الصدر، 1368ه، ج 3، ص 305.
3- ينظر: البحرتي السيد يوسف، لؤلؤة البحرين 121
4- الفيض الكاشاني، علم اليقين؛ الملقب بالأنوار والأسرار، صححه واعتنى به الشيخ رضا العياش، دار المحجة البيضاء، بيروت - لبنان، ط1، 2011 م، ج 1، ص 9.

واستغنيت عن التقليد... فرجعت إلى اصبهان ووصلت إلى حضرة الشيخ بهاء الدين العاملي «قدس سره» وأخذت منه إجازة الرواية أيضاً.(1)

ويواصل الكاشاني في عرضه لرحلاته في طلب العلم فيقول: ثم توجهت إلى الحجاز وبعد توفيق التشرف إلى حج الإسلام وزيارة سيد الأنام والأئمة المعصومين علیهم السلام تشرفت في هذا السفر بخدمة محمد بن الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين العاملي واستفدت منه وأخذت إجازة الحديث أيضاً . (2)وينقل لنا قاسم شهيد عياض قصة تعرضه لقطاع الطرق وحادثة مقتل أخيه وان هذه المصيبة لم تثنه عن التنقل والترحال في طلب العلم فوصل إلى قم وبها التقى بصدر الدين الشيرازي ونال شرف مصاهرته وأخذ العلم الشريف منه وتوجه معه إلى شيراز عند عودته إليها، وأقام معه ما يقرب السنتين واستفاد من بركات أنفاسه الطيبة ... ثم عاد إلى كاشان مسقط رأسه للعمل بالتدريس والالتجاء إلى زاوية والاهتمام بالجمعة والجماعة، وتأليف الكتب والرسائل ... وبيان المسائل . (3)

وبعد عرضنا لحياته العلمية يتبين لنا انه عاد إلى كاشاني وبقي يدرس بها ويواظب على العمل بالحكمة العملية، حتى توفاه الأجل في سنة 1091ه- حيث دفن في مدينة کاشان مسقط رأسه ومقبرته المشهورة وله قبة معروفة على قبره الشريف حيث كان مقصداً للزائرين والعاكفين (4).

المطلب الثاني: ثقافته.

كما أوضحنا باختصار الشيوخ الذين أخذ عنهم الكاشاني فلابد منه الإشارة إلى مؤلفاته التي دلت على ثقافته الواسعة في مختلف العلوم والفنون ومن أهمها: في

الفقه وأصوله:

ص: 315


1- ينظر الكاشاني، علم اليقين، ج 1، ص 9.
2- ينظر عياض قاسم شهيد محمد الفيض الكاشاني، ص25.
3- المرجع نفسه، ص 25.
4- البحراني السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، ص 122 .

1. أبواب الجنان.

2. اذكار الطهارة.

3. الحق المبين.

4. الأصول الأصلية.

5. ترجمة الحج.

6. ترجمة الزكاة.

7. ترجمة الشريعة .

8.زاد الحاج.

9. سفينة النجاة.

10. طريق الصواب.

11. مفتاح الخير.(1)

وأما في مجال العقائد والأخلاق فله مؤلفات عدة منها:

1. أصول العقائد والأخلاق.

2. أصول المعارف.

3. التوحيد.

4. الجبر والاختيار

5. جلاء العيون.

ص: 316


1- ينظر: المصدر نفسه، ص.122. وأيضاً عياض، قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني، ص43، 47.

6. زاد السالك.

7. ذريعة الضراعة.

8. اللب.

9. ميزان القيامة.

10. شرائط الإيمان.

11. زاد العقبى.

21. مكارم الأخلاق(1).

31. وله في الأدب والشعر الدواوين الآتية:

14. الاعتذار.

15. الماء الصافي.

16. الأمالي.

17. تسهيل السبيل في الحجة .

18. الحية الطيبة الرائعة.

19. ديوان شعر الفيض الكاشاني.

20. الشراب الطاهر.

21. شوق الجمال.

22. شوق العتيق.

ص: 317


1- البحراني السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، ص122 ، وكذلك عياض، قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني، ص47، 49.

23. عين الجنة .

24. شرق المهدي.

25. ندبة العارف.(1)

أما في مجالات الحكمة والعرفان فله المؤلفات الآتية:

1. أصول المعارف.

2. أنوار الحكمة.

3. ضياء القلب.

4. عين اليقين والمعروف بالأنوار والأسرار

5. قرة العيون.

6. مرآة الآخرة.

7. المعارف.

8. المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء.

9. منهاج النجاة.

10. المشواق.

11. مرآة المالك(2).

12. أما في الحديث والتفسير. فله المؤلفات الآتية:

ص: 318


1- المصدر نفسه، ص 122 وأيضاً عياض الفيض الكاشاني، ص49.
2- البحراني السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، ص.122. وكذلك ينظر : قاسم شهید محمد عیاض، الفيض الكاشاني، ص 47، 63 .

13. الوافي

14. الشافي.

15. النوادر في جمع

الأربعين في مناقب أمير المؤمنين علیه السلام وغيرها من المؤلفات(1).

أما منهجه الأخلاقي فقد أسسه كما قال على الكتاب الكريم وسنة نبيه سيد المرسلين وأقوال أهل البيت الأئمة المعصومين صلوات الله تعالى عليهم أجمعين.

المبحث الثاني

مفهوم الأخلاق وأهميتها.

المطلب الأول: الأخلاق لغة واصطلاحاً.

الأخلاق: جمع خلق، قال ابن فارس في معجمه الخاء واللام والقاف أصلان احدهما تقدير الشيء والآخر ملامسة الشيء فأما الأول: فقولهم خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته.... ومن ذلك الخلق وهي السجية لأن صاحبه قد قدر عليه(2).

قال الفيروز ابادي: الخُلق بالضم وبضمتين السجية، والطبع، والمروءة والدين(3) وذهب إلى ذلك ابن منظور حيث قال: والخُلق بضم اللام وسكونها، وهو الدين، والطبع والسجية وحقيقته انه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة ،وأوصافها المختصة بها ومعانيها، ولها أوصاف حسنة وقبيحة والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة اكثر مما يتعلقان

ص: 319


1- المصدر نفسه 122 . وكذلك الكاشاني، مقدمة مفاتيح الشرائع، ترجمة: الشيخ الأصبهاني مطبعة المهدي قم ط1، 1392ه، ص128.
2- ابن فارس، أبو الحسين احمد بن فارس بن زكريا ت (395ه)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر 1399ه - 1979م، ج2، ص213، 214.
3- الفيروز ابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817ه)، القاموس المحيط، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة ، بيروت، ط8 ، 1426ه - 2005م ، ص 808

بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع (1) أما الراغب الأصفهاني ففرق بين الخلق بفتح الخاء والخُلق بضمها فقال: خص الخلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة.(2)

الأخلاق في الاصطلاح

يمكن أن نتجه في تعريف الأخلاق إلى اتجاهين:

اتجاه يعرف الأخلاق بإضافتها إلى العلم لمعرفة الصفات التي تتصف بها النفس الإنسانية. وهو ما يعرف «بعلم الأخلاق».

اتجاه يعرف الأخلاق بإضافتها إلى الفلسفة لمعرفة النظريات الأخلاقية التي تحدد سلوك النفس الإنسانية وهذا ما يعرف بالفلسفة الأخلاقية أو بفلسفة الأخلاق.

ثم إننا إذا تحدثنا عن الأخلاق باعتبار ما وضعت له المفردة فإننا نرى أن التعريف اللغوي قريب من التعريف الاصطلاحي فهي في الاصطلاح عرفها الكاشاني : هيئة قائمة في النفس، تصدر منها الأفعال بسهولة من دون الحاجة إلى تدبر وتفكر(3) وقد عرفها ابن مسكويه بانها تلك الحالة النفسانية التي تدعو الإنسان لأفعال لا تحتاج إلى تفكر وتدبر(4) والذي نراه أن تعريف الكاشاني للأخلاق لا يختلف كثيراً عن تعريف الإمام الغزالي للأخلاق فقد عرفها بأنها:

هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية(5). وقد عرفها صدر الدين الشيرازي بانها ملكة يصدر بها عن النفس أفعال

ص: 320


1- ابن منظور محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب دار صادر، بیروت (د، ت)، ج10، ص 86، 87 .
2- الراغب الاصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد (ت 502ه)، المفردات تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار ،القلم ،دمشق (د، ت، ط)، ص 297.
3- الكاشاني، محسن الفيض الحقائق في الأخلاق، تحقيق اللجنة العلمية، دار المجتبى، قم، ایران، ط 1 ، 2008م ص 54.
4- ابن مسكويه. ابو علي محمد بن يعقوب (ت421ه) تهذيب الأخلاق وتطير الاعراق تحقيق عماد الهلالي منشورات الجمل، ط 1 ، 2011م، ص 52.
5- الغزالي، ابو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، ت (505ه)، احیاء علوم الدین دار ابن حزم، بیروت لبنان ط 1 ، 1426ه 2005- م، ج 3، ص 51.

بسهولة من غير تقدم روية، وليس الخلق عبارة عن نفس الفعل، لأنه عبارة عن كون أن النفس يصدر عنها الصناعة من غير روية كمن يكتب شيئاً.(1)

أما فلسفة الأخلاق فهي تحقيق فلسفي عقلي حول المبادئ التصورية والتصديقية لعلم الأخلاق(2) وفلسفة الأخلاق تندرج تحت مبحث القيم الإكسيولوجيا وهي من مباحث الفلسفة وان العلوم التي تندرج تحت هذا المبحث يطلق عليها العلوم المعيارية فالمنطق معيار الحق، وفلسفة الجمال معيار ما عليه الشيء الجميل، وفلسفة الأخلاق هي معيار الخير.(3) فيبحث في التعابير الأخلاقية وارتباطها مع الواقعيات ومن وجه آخر يحقق فيه حول الأصول المؤثرة في قبول أو عدم قبول الأمور الأخلاقية اللازمة أو في كيفية اختيار المذهب الأخلاقي المطلوب، كل ذلك بناءً على المنهج العقلي والاستدلالي.(4) فان لكل منا أخلاقه الخاصة ولكن علم الأخلاق يدرس ما ينبغي أن تكون عليه الخلق العليا والمثلى، ومن هنا كان المثال الأعلى الذي يجب على الإنسان التطلع إليه وهو خير البشرية في ارتباطه بحقيقة البشرية التي هي حقيقة العالم.(5)

المطلب الثاني

أهمية الأخلاق في الإسلام.

تكمن أهمية الأخلاق في الإسلام لورودها في مصادر التشريع الأولى وهي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حيث جاء لفظ الأخلاق في موضعين في القرآن الكريم.

قوله تعالى: «إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ».(6)

ص: 321


1- الشيرازي محمد بن إبراهيم صدر الدين (ت 1050ه)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربع، تقديم: العلامة محمد رضا المظفر ، دار إحياء التراث العربي، بيروت ،لبنان ،ط5، 1419ه - 1999م، ج4، ص 114.
2- خرداد: مجتبى مصباح، أسس الأخلاق المنهج الجديد في تعليم فلسفة الأخلاق، مركز نون للتأليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية ،قم، إيران، ط 1 ، 2011م، ص 15.
3- الويسي، د. ياسين حسين، مقدمة فلسفية، دار الفرقد، دمشق، سوريا، ط1، 2010م، ص75.
4- ينظر خرداد مجتبی ،مصباح، أسس الأخلاق، ص 15.
5- الويسي، د. ياسين حسين، مقدمة فلسفية، ص76.
6- سورة الشعراء: الآية (137).

قال الطبري: اختلفت القراّءُ في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة سوى أبي جعفر، وعامة قراء الكوفة المتأخرين منهم ... خُلقُ ... واختلف أهل التأويل في تأويل نحو اختلاف القراء في قراءته، فقال بعضهم : معناه : ما هذا إلا دين الأولين وعادتهم وأخلاقهم.. نقله ابن عباس وعلي وغيرهما من الصحابة .(1)

وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ .(2)

قال الطبري في تفسيره كلمة الخلق العظيم أدب عظيم وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه .... ونقل عن ابن عباس خلق عظيم – يقول: دين عظيم - وعن طريق آخر - يقول إنك على دين عظيم وهو الإسلام.... ونقل عن مجاهد - خلق عظيم قال الدين.... ومن طريق آخر - قال: أدب القرآن... وعن الضحاك قال: يعني دينه وأمره الذي كان عليه، مما أمره الله به ووكله إليه.(3)

أما السنة النبوية فقد وردت فيها كثير من الأحاديث التي تشير إلى أن الإيمان والجنة والقرب من الله والرسول ترتبط جميعاً بحسن الخلق. وسوف نذكر بعض هذه الأحاديث.

روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يقول : إن خياركم أحسنكم أخلاقاً .(4)

روى الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال : ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فان الله يبغض الفاحش البذيء.(5)

ص: 322


1- الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، (ت 310ه)، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقيق: محمود محمد شاکر دار المعارف، مصر، (د، ت)، ج 19، ص 378.
2- سورة القلم: الآية (4).
3- ينظر الطبري، تفسير الطبري، ج3، ص150، 152
4- رواه البخاري، ينظر : صحيح البخاري بشرح الكارماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1980، ج 21، ص 184.
5- رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ينظر : النووي، محيي الدين يحيى بن زكريا بن شرف الدين، (ت : 676ه)، رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، (د، ط، ت)، ص 272.

و عنه صلی الله علیه و آله وسلم إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم(1).

عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الحين سئل عن اكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تقوى الله وحسن الخلق».(2)

وعن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «اكمل المؤمنين أيماناً احسنهم أخلاقاً. وخياركم لنسائهم».(3)

وعن جابر أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال: «أن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ...»(4).

المبحث الثالث: الأخلاق عند الكاشاني.

يؤكد الكاشاني على أن الأخلاق التي توصف بالحسن تعود إلى أربعة من أمهات الفضائل الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، وان الأخلاق المذمومة التي يجب تهذيب النفس لتتركها هي التي تسمى بالرذائل يلخصها في ستة صفات فلذا سنفصل القول فى الأخلاق الفاضلة والرذيلة.

المطلب الأول : الفضائل عند الكاشاني.

يرى الكاشاني ان الفضائل الأربعة التي يسميها بالأركان الأربعة للفضائل وهي الحكمة، والشجاعة والعفة والعدل كلها توجد في شخصية واحدة هي شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقط، أما عند سائر الناس فهي متفاوتة حيث يقول : ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله ، والناس من بعده متفاوتون في القرب والبعد منه : فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق

ص: 323


1- المصدر نفسه، ص 273. والحديث رواه أبو داود.
2- المصدر نفسه، ص 273 . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
3- المصدر نفسه، ص 273 . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
4- المصدر نفسه، ص 273، 274 ، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

أن يكون بين الخلق ملكاً... ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها، استحق أن يعرج من البلاد والعباد فانه قد قرب من الشيطان.(1) وان حسن الخلق يرجع بحسب الكاشاني إلى اعتدال قوة العقل، وكمال الحكمة، واعتدال قوة الغضب والشهوة فهي مطيعة للعقل والشرع أيضاً وان هذا الاعتدال يحصل من وجهين الأول: بوجود الهي وكمال فطري والثاني: هو اكتساب الأخلاق عن طريق المجاهدة والرياضة أي حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق أي يواظب على فعل الخلق حتى يصبح طبعاً في نفسه.(2)

من خلال ذلك يتضح أن الكاشاني يرى أن الأخلاق مكتسبة وان من غلبت عليه البطالة استحقت نفسه المجاهدة وترويض النفس وتزكيتها وتهذيب أخلاقه فلم يعطي لنفسه فرصة في تحسين خلقه لوجود قصور ونقص فيه... وان حسن الخلق يحصل عندما نقمع الغضب والشهوة وحب الجاه والدنيا... وان الإنسان يبحث عن الفرص الكثيرة لينتقل بها من حال إلى حال وعليه لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت جميع الوصايا والمواعظ(3). ولما اكد الله تعالى في قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(4) وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: حسنوا أخلاقكم(5) ، فكيف ننكر حق الأدمي في تغيير أخلاقه... كلا بل يستطيع الأدمي تغيير أخلاقه وحاله وطباعه، لأنه يتميز عن باقي المخلوقات، فضلا عن أن الله - تعالى - قد كرمه عن بقية الخلق فهو أسمى وأرقى المخلوقات وميزه الله وكرمه بالعقل.(6)

ص: 324


1- ينظر: الكاشاني، محسن الفيض المحجة البيضاء، تصحيح علي اكبر الغفاري مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 2009م، ص 69 .
2- المصدر نفسه، ص 73.
3- ينظر المصدر نفسه، ص 70 ، وما بعدها.
4- سورة الشمس : الآية (9) - (10).
5- أخرجه أبو بكر بن لآل في مكارم الأخلاق من حديث معاذ، وهو منقطع ورجاله ثقات، ينظر: أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الملقب الحافظ العراقي (ت 806ه)، المغني عن محل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في في الأحياء من أخبار بهامش كتاب إحياء علوم الدین دار ابن حزم، بیروت، لبنان، ط1، 1426ه، 2005م، ج 3، ص 35.
6- ينظر: الكاشاني محسن الفيض الحقائق في الأخلاق، تحقيق اللجنة العلمية دار المجتبى، قم، إيران، ط1، 2008م، ص90. أيضاً: المحجة البيضاء، ص 70

إذن فالأخلاق الحسنة عند الكاشاني تكون كما بينا إما بالطبع والفطرة أو المجاهدة والرياضة باعتياد الأفعال الجميلة واكتسابها من مصاحبة الأخيار وأخوان الصلاح، ويؤكد الكاشاني أن الإنسان مهما كانت عبادته لربه ومهما ترك المحظورات وهو كاره لها فهو لا ينال كمال السعادة بها، بل في مجاهدة النفس وحثها وتزكيتها حتى يصل إلى السعادة الحقة.(1)

ويؤكد الكاشاني أن الدنيا هي مزرعة الأخرة، فكلما كانت العبادات اكثر لطول العمر كان الثواب اجزل والنفس أزكى واطهر، والأخلاق ارسخ – فالعبادات عنده ما كان لها تأثيراً في القلب - بالنسبة للعبد.(2)

وان غاية الأخلاق عنده هي أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويترسخ فيها حب الله تعالى فلا شيء أحب إليه من الله ولقائه. (3)ويمزج الكاشاني بي الأخلاق وبين [3] التصوف باعتباره أداة لتهذيبها، فما كان كسبا في التعلم يمكن تجاوزه من خلال التربية الروحية بمعنى تهذيب النفس.

ومن هنا يتضح أن الأخلاق عند الكاشاني مرتبطة بطريق العرفان والتصوف الذي عرفه الغزالي بانه:

قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله .(4)

ثم أن النص الديني هو المرجعية الأولى للكاشاني في مجال الأخلاق حيث اكد على وصايا ذكرها القرآن الكريم في تهذيب الأخلاق ومنها التوحيد، وعدم الشرك،

ص: 325


1- المصدر نفسه، ص 92.
2- ينظر المصدر نفسه ص 93
3- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ص 93.
4- الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، (ت 505ه)، المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، مصر، (د، ت)، ص 131 . وكذلك الويسي: د. ياسين الويسي ابن خلدون ونظرية للتصوف، دار نینوی، دمشق، سوريا، ط1، 1429ه - 2009م، ص 51 52 . وأيضاً : التصوف والعرفان الإسلامي، دار الزمان، دمشق، سوريا، ط1، 2016م، ص18.

والإحسان إلى الوالدين وعدم القتل وغض البصر، واجتناب الحسد، واجتناب الغيبة، واجتناب السرقة، واجتناب اكل مال اليتيم، وعدم جعل الله عرضة للإيمان الباطلة وغيرها. وعضد الكاشاني هذه النصوص الكريمة بروايات من السنة المطهرة ومن روايات أهل البيت علیهم السلام. ففي بيان أن الخير والشر من خلق الله تعالى فقد روي عن الإمام أبي عبد الله الحسين علیه السلام انه قال : أوصى الله موسى علیه السلام وانزل عليه في التوراة - أني أنا الله لا اله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الخير، وأجريته على يدي من احبه فطوبى لمن أجريته على يديه، وإنا الله لا اله إلا أنا خلقت الخلق، وخلقت الشر، وأجريته على يدي من أريده فويل لمن أجريته على يديه.(1)

وذكر رواية أخرى في نفس المعنى عن أبي جعفر الإمام محمد الباقر علیه السلام .(2)

وتندرج مقامات العارفين ضمن حسن الخلق كالصبر والتوكل والصدق والإخلاص والشكر. ومبحثها طويلة عند الكاشاني.

المطلب الثاني: الرذائل والأخلاق المذمومة عند الكاشاني.

يجمل الكاشاني الرذائل في ستة أمور حذر من الوقوع فيها وبين أفاتها وهي كما يأتي:

الغضب: يرى الكاشاني أن الغضب يقع مقابل الحلم، ويحدث من اجل أمور الدنيا وملذاتها وطلب الانتقام في إيصال المكروه (3). وذكر الآيات والروايات الخاصة في الغضب ومن ذلك قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» (4)ومن الروايات ما نقله عن الصادق علیه السلام عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل .(5) وروي عنه علیه السلام انه قال : الغضب مفتاح كل

ص: 326


1- الكليني، ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكافي الأصول منشورات الفجر ، طهران، 1381 ق ، ج 1، ص154.
2- ينظر: المصدر نفسه، ج 1، ص 154.
3- ينظر: الكاشاني محسن الفيض ترجمة الشريعة شرحه أمير جلال الدين دار الصفوة، بيروت، لبنان، ط1، 2011م، ص 165.
4- سورة الشورى: الآية (37)
5- ينظر: الكليني، الكافي، ج2، ص 306

شر(1) وروي عن الصادق علیه السلام أيضاً انه قال: من كف غضبه ستر الله عورته عورته (2)وعن الباقر علیه السلام انه قال : من كف غضبه عن الناس كف الله تعالى عنه عذاب يوم القيامة.(3)

الحقد وهو: «أن يلزم المرء قلبه اشتغال المغضوب عليه، والبغضة له، والنفور منه، وان يروم ذلك ويبقى(4) واقل درجات الحقد أن تحرز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما يعصى به الله ... فهذا كله مما ينقص درجتك في الدنيا وان كان لا يعرضك لعقاب» (5).

الحسد: والحسد هو احد نتائج الحقد وان للحسد فروعاً ذميمة(6) وقال الكاشاني الحقائق : الحسد هو كراهة النعمة على المحسود وحب زوالها منه فإذا كان للإنسان لم يحب زوال أو كره دوامها لأخيه ولكن هو يشتهي لنفسه مثلها وعند هذا يسمى غبطة أو ما يسمى منافسة كما قال تعالى: «خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» (7)فالغبطة إذا كانت في الدنيا فمباح وأما إذا كانت في الدين فمندوب إليها (8). ونقل عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قوله: آفة الدين الحسد... .(9)

الكبر

يرى الكاشاني أن الكبر قسمان ظاهر وباطن فأما الظاهر فهو الأعمال التي تصدر عن الجوارح ، وأما الباطن فهو خلق في النفس فيسمى الباطن «كبراً» ويسمى الظاهر «التكبر» وقد قسم الكاشاني الأخير إلى ثلاثة أقسام.

ص: 327


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 37.
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 305
3- المصدر نفسه، ج 2، ص 305
4- ينظر: الكاشاني، المحجة البيضاء، ص 218.
5- المصدر نفسه، ص 218
6- ينظر: المصدر نفسه، ص 223
7- سورة المطففين: الآية (26).
8- الكاشاني، الحقائق في الأخلاق، ص119
9- ينظر: الكليني، الكافي، ج2، ص 306.

التكبر على الله والتكبر على الرسل، والتكبر على العباد.(1) وقد ذم الله تعالى هذا الخلق في قوله:«وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ».(2)

آفات اللسان: يرى الكاشاني أن للسان عثرات كثيرة لابد للإنسان من ضبطه حتى يتحصن من خطر الرذيلة التي تأتي عن طريقه فخطر اللسان عظيم جداً ولا يمكن النجاة منه إلا بالصمت فقد مدح ذلك صاحب الشرع حيث قال ينظر: الكليني، صلی الله علیه و آله وسلم من صمت نجا (3)ومن الروايات عن أئمة أهل البيت علیهم السلام ما رواه الكاشاني عن الإمام السجاد علیه السلام قال : أن لسان بن آدم تشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم ؟ فيقولون بخير إن تركتنا ويقولون الله الله فينا ويناشدونه ويقولون : إنما نثاب ونعاقب بك (4)وساق روايات أخرى مفادها أن اللسان يقي الإنسان عن المحاسبة يوم القيامة(5).

وقد قسم آفات اللسان إلى عشرين آفة.

الرياء:

وهو من الأمور الخطيرة فقد يرائي المرء بعبادته حتى يجعل عبادته ليست لله تعالى وإنما لمن يرائيهم.(6) وقد ساق الكاشاني من أدلة التحذير منه من القرآن الكريم قوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»«الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ»«وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ»(7) ومن السنة النبوية فقوله صلی الله علیه و آله وسلمحين سأله رجل فقال: يا رسول الله فيم النجاة: قال إلا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس (8)ومن أفعال الأئمة علیهم السلام ما رواه عن الصادق علیه السلام انه قال: قال الله تعالى أنا خير شريك من اشرك معي غيري في عمله لم اقبله إلا

ص: 328


1- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ص 416.
2- سورة غافر : الآية (60).
3- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء ، ج 5، ص 132.
4- ينظر الكليني، الكافي، ج2، ص115.
5- ينظر الكاشاني، الحقائق، ص104.
6- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ج5، ص352
7- سورة الماعون: الآية (4) - (7).
8- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ج5، ص352.

ما كان لي خالصاً.(1) وروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام انه قال: ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان ، ويحب أن يحمد في جميع أموره (2).

ويذكر الكاشاني أن الرياء هو طلب منزلة في قلوب الناس من خلال ايرائهم خصال الخير إلا أن المنزلة والجاه تطلب في القلب سوى عبادة الله - تعالى - فالرياء هو أن تطلب المنزلة خلال إظهار العبادات (3).

وجعل الكاشاني للرياء خمسة أقسام وهي:

1. الرياء في الدين من جهة البدن.

2. الرياء بالزي والهيئة والمنظر.

3. الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير.

4. الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر .

5. المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين (4).

الخاتمة:

لقد تبين لنا من خلال السياحة في حياة وثقافة الفيض محسن الكاشاني أمور عدة من أهمها:

أن الكاشاني رحمه الله كان يمثل القدوة في الحوار المتزن من خلال ثقافة

ص: 329


1- ينظر الكليني، الكافي، ج2، ص 295.
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 295
3- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ج5، ص358.
4- ينظر: المصدر نفسه، ج 5، ص 358 360 ، وكذلك سبقه الى ذلك الغزالي، ينظر: احياء علوم الدين، ج3، ص297، 299.

التقريب التي سار عليها، وقدم لنا تراثا فلسفيا أخلاقيا مشتركا .

وضف الفيض الكاشاني خطابه الفلسفي الأخلاقي في مواجهة التطرف والأفكار الغالية المغالية والمتشددة في مختلف الاتجاهات.

أن الكاشاني كان من العلماء الموسوعيين فقد كتب وصنف وافرد لها مؤلفات خاصاً سماه «الحقائق في الأخلاق».

لقد مزج الفيض محسن الكاشاني مسائل الأخلاق بالعرفان ونظرياته فربط بين فضائل الأخلاق ومقامات العارفين.

لقد تأثر الفيض محسن الكاشاني في علم الأخلاق بالإمام الغزالي فكتب المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ويعني به أحياء علوم الدين للغزالي فهذب رواياته وعضدها بالروايات عن الأئمة علیهم السلام.

إن مرجعية الفيض محسن الكاشاني في علم الأخلاق كانت تتمثل في القرآن الكريم وآياته الدالة على حسن الخلق فضلا عن السنة المطهرة وروايات أهل البيت علیهم السلام.

ذلك فقد نهل الفيض محسن الكاشاني من علامة عصره صدر الدین

فضلا عن الشيرازي الملقب بملا صدرا.

لقد ترك لنا الفيض محسن الكاشاني ثروة تراثية في علم الأخلاق وجدنا اثرها مختلف مؤلفاته وفي تلامذته الذين رفعوا رايته عالياً بين أئمة العرفان الصوفي وفلاسفة الأخلاق.

يعد الكاشاني من اهم الشخصيات التي وضعت قواعد أخلاقية مثل وبين الأخلاق المذمومة وسبل تركها .

أشار الفيض محسن الكاشاني إلى أن الأخلاق على قسمين: الأول بالفطرة والثاني بالاكتساب وان بوسع الإنسان تغيير أخلاقه السيئة بأخلاق فاضلة بالممارسة والتربية والاكتساب.

ص: 330

لقد ركز الفيض محسن الكاشاني على أن المجاهدة والرياضات الصوفية هي السبيل إلى تغيير الأخلاق المذمومة ومحاربة النفس وشهواتها وتحليتها بالفضائل لكي تكون ربانية.

المصادر والمراجع

1. البحراني، السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، مطبعة النعمان النجف الأشرف، د، ت.

2. البخاري، صحيح البخاري بشرح الكارماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1980.

3. خرداد: مجتبی مصباح، أسس الأخلاق المنهج الجديد في تعليم فلسفة الأخلاق، مركز نون للتأليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، قم، إيران، ط1، 2011م.

4. الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، ت 502ه-، المفردات، تحقيق، صفوان عدنان الداودي، دار القلم دمشق، د، ت.

5. الشيرازي، محمد بن إبراهيم صدر الدين ت 1050ه- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربع، تقديم: العلامة محمد رضا المظفر ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط5، 1419ه - 1999 - م

6. الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، ت 310ه تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقیق: محمود محمد شاکر، دار المعارف، مصر، د، ت.

7. العراقي، ابو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الملقب الحافظ العراقي، ت 806ه-، المغني عن محل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الأحياء من أخبار، بهامش كتاب إحياء علوم الدين دار ابن حزم ،بیروت لبنان ط1، 1426ه، 2005م.

8. عیاض قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني وجهوده في تفسير الصافي العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف 2011م.

9. الغزالي : أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، 505ه-، المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد

ص: 331

الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، مصر، د، ت .

10. الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي ت 505ه- أحياء علوم الدین، دار ابن حزم، بیروت، ،لبنان، ط1، 1426ه، 2005م.

11. ابن فارس أبو الحسين احمد بن فارس بن زكريا ت ،395ه- معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام ،هارون دار الفكر ، 1399ه - 1979م.

12. الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن یعقوب ت 817ه- ، القاموس المحيط، تحقیق: محمد نعیم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1426ه - 2005م.

13. القمي، الشيخ عباس الكنى والألقاب، مكتبة الصدر النجف الأشرف، 1368ه-.

14. الكاشاني محسن الفيض، ترجمة الشريعة، شرحه أمير جلال الدين دار الصفوة، بيروت، لبنان، ط1، 2011م.

15. الكاشاني، محسن الفيض الحقائق في الأخلاق، تحقيق: اللجنة العلمية، دار المجتبى، قم، إيران، ط1، 2008م.

16. الكاشاني، محسن الفيض ، علم اليقين؛ الملقب بالأنوار والأسرار، صححه واعتنى به الشيخ رضا عياش، دار المحجة البيضاء، بيروت- لبنان، ط1، 2011م.

17. الكاشاني، محسن الفيض المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، تصحيح علي اكبر الغفاري مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 2009م.

18. الكاشاني، مقدمة مفاتيح الشرايع، ترجمة: الشيخ الأصبهاني، مطبعة المهدي، قم، ط1، 1392ه.

19. الكليني، ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكافي الأصول، منشورات الفجر، طهران، 1381 ق.

20. ابن مسكويه، أبو علي محمد بن يعقوب ت421ه- تهذيب الأخلاق وتطير الأعراق تحقيق عماد الهلالي، منشورات الجمل، ط1، 2011م.

ص: 332

21. ابن منظور، محمد بن مکرم بن منظو، لسان العرب، دار صادر، بیروت، د، ت.

22. النووي محيي الدين يحيى بن زكريا بن شرف الدين ت 676ه-، رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، د، ط، ت .

23. الويسي د. ياسين حسين ابن خلدون ونظرية للتصوف دار ،نینوی دمشق، سوريا، ط1، 1429ه -2009 .

24. الويسي: د. ياسين حسين، التصوف والعرفان الإسلامي، دار الزمان، دمشق، سوريا، ط1، 2016م.

25. الويسي، د. ياسين حسين، مقدمة فلسفية دار ،الفرقد دمشق، سوريا، ط1، 2010م.

ص: 333

مكارم الأخلاق بما هي غاية النبوّة ومقصدها

الختم عين الفتح وتمامه

محمود حیدر(1)

مسعانا في هذا البحث بيان القاصد الإلهي من النبوة الخاتمة، وهو استواء نظام خلق الإنسان في حركة الزمن على نصاب الإعتدال بمكارم الأخلاق. إذ بهذا الاستواء المتحقق بالمبعوث رحمة للعالمين يفتح الله بالشريعة المقدسة هداية البشرية، ويؤيدها بالتبصر والتخلّق لتبلغ سعادتها العظمى.

ولما كانت صفة الإنسان الأكمل مخصوصة بالنبي الأعظم، فذلك يعني أن نبوّته الخاتمة هي علم جاد الحق به عليه ليبين للعالمين ما حظي به من جود الأسماء. والمراد بالأسماء في هذا المقام لا ينحصر في بيان واحد. بعضهم قال إنها أسماء الله الحسنى وبعضهم رأى أنها أسماء الأشياء وحقائقها، وهو ما يعرف ب__«الأعيان الثابتة» ، وآخرون قالوا ما لا حصر له في فضاء التأويل ومهما قيل فإن المآل واحد. إذ العلم التام بحقائق الأسماء المقدسة، الذي خُصّ به خاتم الأنبياء والمرسلين، إنما هو علم لا يتصوَّر من دون العلم بحقائق المخلوقات ومظاهرها، وذلك فضل موهوب من الله إلى صاحب المقام المحمود.

والنبي الخاتم (ص) الذي حظي بشهادة الإسم أخذ من الحق حق قدره من علم الأسماء. فسيكون له بما هو مظهر الحق الأعظم أن أوتي جوامع الكلم وهي عين الجود الإلهي المحيط بالمخلوقات كلها .. من «الهيولى» إلى منتهى سلسلة الوجود المحفوظة بتمامية العلم المحمدي. ولهذا جاء في الخبر: «الولاك ما خلقت الأفلاك».

ص: 334


1- مفكر وباحث في الفلسفة وعلم الأديان - لبنان.

ولما كانت الأسماء المعطاة لآدم هي فقه العقل، فقد بلغت كمالها بالنبي الخاتم ثم تحققت بمكارم الأخلاق وهي الصورة الكاملة الجامعة للرحمتين الخاصة والعامة، واللتين تؤلفان معاً مظهر الحضرة الإلهية.

لقد وجدنا أن ندخل إلى فهم مكارم الأخلاق من وجه انحصارها في الحقيقة الإنسانية الجامعة. كما في قوله صلی الله علیه وآله وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ذاك أن مهمة النبي متعيّنة بجلاء تلك الحقيقة من خلال الكتاب الإلهي وغاية الشريعة المقدسة. فالمقصود الإلهي مما نُزِّل على النبي هو دعوة العالمين إلى توحيد الله، والارتقاء بهم - بما خصه الحق تعالى من خلق عظيم - من حضيض الجاهلية إلى كمال المعرفة بالله...

ثمة إذن، تناسب وجودي بين الختم والتتميم. وذلك متحصل منطقياً، من أن الشيء حين يُختم يبلغ تمامه. ومكارم الأخلاق التي بعث النبي الخاتم ليتممها هي عين الخاتمية وجوهرها كمال الدين وكمال الدين معرفة الله .

وبفهم كنه مكارم الأخلاق، ينفتح أفق آخر وجوهري للتعرف على حقيقة الختم والتتميم. وهو ما تستجليه حقانية الوصل الوطيد بين النبوة الخاتمة والولاية المتممة. فالإمام هو الذي يتولى من بعد النبي صيرورة الدين الخاتم إلى غاياته، وهو الذي يؤكد استمرار الصلة بعالم الغيب في عهد انقضاء النبوّة التشريعية. فكما يسري أمر الغيب على خاتمية النبي يسري كذلك، على خاتمية الوارث المحمدي في آخر الزمان. فالإمام الخاتم هو حجة الله في الأرض بعد انقطاع النبوة الخاتمة، وهو مبين الشريعة المقدسة في ظاهرها وباطنها، ومالئ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلما وجوراً. وما ظهوره سوى استكمال للأمانة الكبرى والغاية العظمى، التي من أجلها بعث النبي الخاتم. وهي إقامة عدل الله في العالمين بالتخلق واللطف والرحمانية. وحاصل الأمر، فإن الخاتميتين متممتان إحداهما للأخرى لجهة كونهما تشكلان معاً قاصدية الله في عالم الإنسان.

ص: 335

1- عن ماهية ومعنى مكارم الأخلاق

لمكارم الأخلاق صفات تمنح لها بحسب مقاصدها وتنزلاتها. ولنا أن ندرج بعضاً منها تحت عناوين مجملة سنمر على تفصيلها لاحقاً ..

أولاً: إنها صفة النبي نفسه حيث بلغت به مالها الأعظم واستحق بها رتبة الآدمي الأكمل.

ثانياً: إنها صفة الإنسان الذي بعث من أجله النبي الخاتم ليتمم له إنسانيته. فإذا جرى هذا الإنسان مجراها بالتصديق والتوحيد والإيمان والتخلّق حصل الحكمة. ومن علامات حكمته أنه أنزل كل شيء منزلته، فلا يتعدى به مرتبته، وأعطى كل ذي حق حقه، ولا يحكم في شيء بغرضه ولا بهواه، ولا تؤثر فيه الأعراض الطارئة، ولا يضع من يده الميزان.(1) ولو تدرّج الإنسان بالسير والسلوك والمجاهدة والتعقل اتسعت آفاق نفسه، وتهيّأت لتلقي المعارف الإلهية والعلوم اللدنية التي بها ترتقى نفسه إلى الملأ الأعلى بعناية الله وتسديده. وهذه الحكمة - المركبة من العلم والعمل - هي تلك التي يُعبر عنها تارة بالقرآن وتارة بالنور ، وهي من فضل الله يؤتيها من يشاء، «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» (2).

ثالثاً: إن مكارم الأخلاق هي صفة للصراط المستقيم فمن مشى على الصراط حلت عليه الاستقامة، فأدركها بالتقوى والورع والزهد فمن اتقى الله علمه الله وأدخله في درعه الحصين، وجعل له نوراً يمشي به في الظلمات. كما تعبر الآية الكريمة: «أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» (3).

رابعاً - إنها صفة الأمة الوسط، التي قال الله فيها مخاطباً نبيه: «كنتُمْ خَیرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ».(4) «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا».(5)

ص: 336


1- ابن عربي - الفتوحات المكية - الجزء 7 - دار الفكر العربي - بيروت - 1999 - ص 67.
2- سورة البقرة - الآية 269
3- سورة الأنعام - الآية 122
4- سورة آل عمران - الآية 110.
5- سورة البقرة - الآية 143

خامساً: إنها صفة للأبعاد المعنوية الباطنية التي تختزنها الشريعة المقدسة. وهي الأبعاد المتممة للبعثة النبوية.

سادساً: إنها الصفة التي يظهر فيه قول أهل العصمة على تمامه حين أشاروا إلى «الأمر بين الأمرين». فإذا كانت غاية ختم النبوّة حفظ مختزنها الإلهي بالمكارم، فقد تحصّل لدينا السبيل إلى التوحيد على الوجه الأتم . وكان لنا من هذا السبيل الوقوف على أرض الاعتدال الأكمل لنميّز وجه اللطف والتدقيق بين الإفراط والتفريط وبين الجبر والتفويض، وبين القضاء والقدر. والأمر بين الأمرين هو نفسه ما قيل في معنى الصراط والميزان والحكمة البالغة. وهو نفسه كذلك، الأمر الوسط الذي تتجلى فيه مكارم الأخلاق كغاية عليا للشريعة المقدسة.

وأنى تكن صفات المكارم ونعوتها، فقد كثرت الأحاديث في تحقيقها وبيان حدّها وتعريفها، إلا أنها آيلة إلى الغاية من الإيجاد الإلهي للإنسان. وإلى هذا، ما كان للنبي الخاتم أن يعين مبدأ بعثته المقدسة ومنتهاها بمكارم الأخلاق، لولا ارتباطها بالغرض الأصلي من إيجاد الإنسان فلو تقرر أن الغاية الإلهية من إبداع النوع الإنساني استخلافه في الأرض، عرفنا العلّة الأصلية من وراء خلقه، وهي معرفة الخالق.

وباصطفاء محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم نبياً ،خاتماً، وهادياً، ورحمة للعالمين، يكون قد خَتَمَ الله شريعته في العالمين وتممَّها بمكارم الأخلاق. ثم لتستأنف من بعد النبوة الخاتمة حركتها الهادية عبر ورثة الحقيقية المحمدية من أئمة الهدى وصولاً إلى الحجة البالغة.

في مقدمة «تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم» للعارف بالله الفيلسوف السيد حيدر آملي إشارات بينات إلى المعنى المتسامي لمكارم الأخلاق ومكانتها الحاسمة في حفظ رسالة الوحي. فقد بين أن سعيه إلى تأويل كتاب الله هو من أجل أن يكون مطابقاً لأرباب التوحيد وأهل الحقيقة. ولقد عنى بهذا أن يكون عمله التأويلي جامعاً للشريعة والطريقة والحقيقة، تأسيساً

ص: 337

على حديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم «الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي والحقيقة أحوالي».(1)

من كتاب الفرائد والعوائد يقتبس المحدث الحسن بن محمد الديلمي عن أبي جعفر علیه السلام ما يفصل الأركان التي تنبني عليها مكارم الأخلاق النبوية قوله: «إن من آداب المؤمن حفظ الأمانة والمناصحة والتفكر، والتقية، والبر، وحسن الخلق، وحسن الظن والصبر والحياء والسخاء ،والعفة والرحمة والمغفرة والرضا وصلة الرحم، والصمت والستر والعفة والرحمة والمغفرة، والمواساة، والتكريم، والتسليم، وطلب العلم، والقناعة والصدق والوفاء والعزم، والنصفة، والتواضع والمشاورة والاستقامة والشكر والحياء والوقار». ثم ذكر الخصال التي يجب على المؤمن تجنّبها، وهي: «البغي والبخل والدناءة، والخيانة، والغش، والحقد، والظلم والشره والخرق والعجب والكبر والحسد والغدر الفاشي، والكذب ،والغيبة والنميمة والمكايدة، وسوء الظن، ويمين البوار، والنفاق، والمنّة، وجحود الإحسان والعجز والحرص واللعب، والإصرار والقطيعة، والمزاح، والسَّفَه، والفحش والغفلة عن الواجب، وإذاعة السر».(2)

في المنفسح المعرفي نفسه قدّم الحكيم الإلهي ملا صدرا شرحاً فلسفياً لحديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم«بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» قوامها: «وكما أن للإنسان صورة ظاهرة، حسنُها بحسن الجميع ،واعتداله، وقبحها بقبح البعض فضلاً عن الجميع، وكذلك صورته الباطنة فإن لها أركاناً لا بد من حسن جميعها حتى يحسن الخلق وتحصل الحكمة والحرية . ثم وضع لها أربعة معان هي قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وقوة العقل، فإذا استوت هذه الأركان الأربعة التي هي مجامع الأخلاق التي تتشعب منها أخلاق غير محصورة اعتدلت وتناسقت وحصل حسن الخلق. أما قوة العلم فأعدلها وأحسنها أن تصير بحيث تدرك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات وبين الجميل والقبيح في الأعمال، فإذا انصلحت هذه

ص: 338


1- روى الحديث ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي المجلد الرابع - ص 134 - ورواه أيضاً مستدرك الوسائل عن النبى (ص) الجزء 11 - كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس الباب الرابع - ص 173.
2- الحسن بن محمد الديلمي - إعلام الدين في صفات المؤمنين - مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم 1397 ص -118 119.

القوة واعتدلت من غير غلو وتقصير ، حصلت منها ثمرة هي بالحقيقة أصل الخيرات ورأس الفضائل وروحها ومعنى حسن الخلق في جميع أنواعها الأربعة وفروعها هو التوسط بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، فخير الأمور أوسطها. ومهما انحرف بعض هذه الأمور عن الاستقامة إلى أحد الجانبين لم تتم مكارم الأخلاق. ومما يجب أن يُعلم في هذا المقام أن قوة النفس غير شرفها وكل منهما قد يزيد في الآخر، وقد يتفق لوازمها. أما أن كلا من شرف النفس وقوتها قد يزيد على الآخر فلأن الشجاعة مثلا قد تصدر لكبر النفس واحتقار الخصم واستشعار الظفر به وقد تصدر لشرف النفس والترفع عن المهانة والذلة، حيث النفوس الشريفة تأبى مقارنة الذلة، وترى حياتها في ذلك موتها، وموتها فيها حياتها».(1)

2 - عن مقاصد تتميم مكارم الأخلاق

لا نجد من فصل بين ختم النبوّة وتتميم مكارم الأخلاق في محضر البحث عن معنى ومقاصد قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم في الحديثين الشريفين: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» و«إِنما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ». فالحديثان متصلان ومتلازمان ويؤلفان وحدة قولية لا تباين في وحدتها. والنبي من حيث هو خاتم النبوة هو فاتح الولاية، لجهة أن الختم والفتح مرتبتان إلهيتان تنتظمان حقيقة البعثة المحمدية، في مستهلها وختامها.

وعلى قاعدة الاتصال والتلازم بين ختم التشريع وفتح الولاية تتحول الولاية إلى نبوّة عامة تستأنف حقائق النبوة الخاصة وتنقلها إلى حقيقة هادية للعالمين. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» .(2)

في هذا التأصيل تستوي لدينا الخطوط المؤسسة الواحدية النبوة والولاية. فالنبي الخاتم هو الولي الفاتح. وهو جامع الحقائق الإلهية والحقائق الكمالية الإنسانية في آن. وهذا هو ما يصطلح عليه أهل الحكمة ب__«الحقيقة فلهذه الحقيقة المحمدية - كما يبين الشيخ ابن عربي - الفردية الأولى؛ ومن هذه الفردية تفرعت الفرديات في جميع المراتب المعنوية والروحانية والإلهية والكونية وغيرها. ويقولحول هذه المسألة بالذات: «إنما كانت حكمته

ص: 339


1- صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة - الجزء الخامس - ص 88.
2- سورة الأنبياء - الآية 107

فردية لأن النبي الأعظم هو لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بدئ به الأمر وختم، فكان نبياً وآدم بين الماء والطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين». ثم كانت له الفردية الجامعة بين البدء والفاتح والختام الواضح ونبوّة روحانيته بالكمال الراجح».(1)

وبهذا المعنى لا تعود مكارم الأخلاق مجرد رتبة أو طور في البعثة النبوية، وإنما هي وعاء لا متناه يشمل النبوّة والولاية معاً. فالختم هنا داخل في التتميم دخول الكل الكل . ثم ليغدوا شأناً واحداً في حقيقة إلهية جامعة. فالأخلاق متضمنة الشريعة، والشريعة متضمنة مكارم الأخلاق، حتى ليمسي هذا التضمين المتبادل إعراباً بيناً عن وحدة مقاصد الغيب في البعثة المحمدية الشاملة وإذن، فنسبة مكارم الأخلاق إلى الشريعة المختومة، هي كنسبة الحقيقة إلى الشريعة. كلاهما يستبطن الآخر ويدل عليه. فالمكارم هي العطاءات التي تقدمها الشريعة لتبلغ ،تمامها، ثم لتعود تلك العطاءات لتغذيها باللطف والتسديد والتأييد وجمال التدبير. وبهذه المنزلة التي لمكارم الأخلاق يعرج الآخذ بالشرع من مقام الإقرار بالتوحيد إلى مقام التصديق به. وبمثل هذا العروج يتحقق المصدّق بمكرمة الصدق التي تشكل الفتح الأعظم باتجاه التوحيد الأكمل. فلو أفلح المتخلّق بالصدق بلغ القرب، ولو بلغ القرب كانت له الولاية، وحظي قدر سعته من علم الكتاب، ثم ليندرج بحق في منازل الحقيقة المحمدية.

ولكي نتبين مقام الصدق في تحصيل التوحيد الأتم تزودنا الآيات والأخبار بما لا حصر لفضائله.. فالصدق أشرف الصفات التي على الموحد الأخذ بها لتصديق توحيده والمخاطبة الإلهية صريحة في هذا المقام:

«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» (2)

«اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3)

ص: 340


1- مؤيد الدين الجندي - شرح فصوص الحكم لابن عربي - صححه وعلّق عليه السيد جلال الدين الآشتياني - مكتب الإعلام الإسلامي - قم - الطبعة الثانية - 1423 - ص 708.
2- سورة الأحزاب - الآية 23
3- سورة التوبة - الآية 120.

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».(1)

«وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا».(2)

وقال الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم: «تقبَّلوا إلي بست أتقبل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا أئتمن فلا يخن، وغُضُّوا أبصاركم، وكفُّوا ،أيديكم واحفظوا فروجكم» وقال: «إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقاً» وقال: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، ولو تركه لاستوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»، وقالص لبعض أصحابه: «أنظروا إلى ما بلغ به علي علیه السلام عند رسول الله، فالزمه.. فإن علياً علیه السلام إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله بصدق الحديث وأداء الأمانة» (3).

والصدق - كما يبين العرفاء - على ثلاثة أركان بعضها من بعض صدق النية، وصدق اللسان وصدق العمل. وهذا التقسيم الثلاثي لمعنى الصدق مبعثه الإيمان الأعلى المسدد بالتخلّق . فأما صدق النية فهو أن يبديها القلب خوف عقاب، أو رجاء ثواب، ولا يريد الصادق بصدقة غير الله عزّ وجلّ. فإنها بذلك حاصل يقين لاشيَةَ فيه، بأن الحق يرى المضمرات ويعاين الضمائر المستترة وصدق اللسان، أن يطلقه إذا قام له شاهد من الحق، وكان التخلّف عن اللفظ وهناً في صدقه. وهذا أيضاً عين التخلّق لأن بوح الصادق ممسوك بالتقوى، فإنه لا يتلفظ بعبارة ما لم يكن على دراية بموافقتها نفس الشيء المصدّق له.

وأما صدق العمل التي فهو : الهجوم على ما عزم عليه بترك روح النفس، حتى يصير إلى ما عزم عليه من العمل، فيتمه بالحرص عليه، والانكماش، لا يقطعه عنه

ص: 341


1- سورة الحجرات - الآية 15.
2- سورة البقرة - الآية 177.
3- وردت هذه الأحاديث وسواها في أصول الكافي - باب الصدق وأداء الأمانة. وفي الوسائل كتاب الحج - باب وجوب الصدق، وفي (المستدرك) الجزء الثاني - ص 84 - 89 .

قاطع ولا يمنعه عنه مانع. وأصل صدق العمل عائد إلى فعلية التخلّق، حيث تصير الأخلاق الفاضلة بالنسبة لفاعلها ملكة راسخة في نفسه الفاضلة. ومتى صارت كذلك حتّت صاحبها على المجاهدة لبلوغ مقاصدها حتى لتزيده مشقة المجاهدة حرصاً على المضاعفة.(1)

ولمّا أن استوت مكارم الأخلاق على ما مرّ من أركان الصدق، فلا مناص لها لكي يترسخ استواؤها في نفس المتخلّق من اقتران العمل بالعلم فإن أصل الصدق العمل به فضلاً عن التعرف إليه أي تعرّف الصادق على مكرمة الصدق بما هي مظهر من مظاهر التوحيد. فإن أصل الصدق المعرفة. لأنك لا تصدق إلا من تعلم انه يراك ويسمعك، وهو قادر على عقوبتك، وعلمك أنه لا ينجيك منه إلا الصدق له. فوقع حينئذ الصدق .ضرورة. فالمعرفة أصل الصدق والصدق أصل لسائر أعمال البر ، وعلى قدر قوة الصدق يزداد العبد في أعمال البر. ومن قلة المعرفة بقدر الصدق ومنافعه ومواريثه وضعف اليقين. فإذا ضَعُفَ اليقين وَهْن الصدق، وقلت الرغبة ، فلم يحتمل مؤن الصدق لما غيب عنه من عذوبته، وقد قال تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ» (2)فضمن لهم الخير بالصدق .(3)

ومن أجل هذا، القول : إن الصدق متى كان ثمرة التخلّق المتصل بالإيمان الأعلى، صار لصاحبه مقاماً، وحصيد هذا المقام الإخلاص، والإخلاص نظير القرب ونظير القرب مقام العبدانية، وهو مقام الأنبياء والأوصياء والأولياء المقربين. وعلى هذا المقام استوى الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله وسلم فكان له من الرب شهادة العبد إنك لعلى خلق عظيم، فقد نال النبي الأكرم لعظمة خلقه أعلى مراتب الدنو من الحضرة المقدسة. «وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى»«ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى»«فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى»«فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى»«مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» .(4)

ص: 342


1- كتاب الوصايا أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي - تعليق وتحقيق عبد القادر أحمد عطا - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1986 - ص 255.
2- سورة محمد - الآية 21.
3- كتاب الوصضايا - المصدر نفسه ص 256
4- سورة النجم - الآيات 7-8-9-10-11.

3 - مكارم الأخلاق من النبي الخاتم إلى الولي الخاتم

ومن مكارم الله تعالى على العالمين إن خصّهم بالنبي الخاتم وورثته من الأوصياء والأئمة والعلماء الربانيين. وذلك لكي يبين لهم الحجة البالغة التي بها يدركون سعادتهم الدنيوية وخلاصهم الأخروي. والحجة البالغة هي المقصد الأعلى للنبوة الخاتمة التي قال النبي الأكرم فيها بأنها تمام مكارم الأخلاق. ولئن كانت الحقيقة المحمدية هي الترجمة الإلهية للتطابق بين سنة التكوين وسنة التشريع فتمام مكارم الأخلاق إنما هو حاصل هذا التطابق المفضي إلى وحدة الغيب والشهادة. وتحقق هذه الوحدة، قيام الأوصياء والأولياء بعد ختم النبوة بمهمة استكمال رسالة الوحي في التاريخ البشري وإعمار الأرض على نصاب القسط والعدل. فالسعادة التامة الخالصة - كما يبين الحكماء هي مهمة يتولاه أهل القرب من الحضرة الإلهية. وهؤلاء هم الذين جمعوا صراط التكوين إلى صراط التشريع، فكانت لهم مكارم الأخلاق نقطة الجمع والالتقاء لينجز الله بوساطتهم سعادة الدارين. ولما كان الصراط التكويني هو الهندسة الإلهية الكلية لنظام الكون، وهو النظام الحافظ للوجود والمحيط بكل شيء، فإن الصراط التشريعي هو الوحي الذي تنزل على قلب النبي وظهر في قوله وعمله، لينتظم حياة الإنسان ويبين له الحدود الفاصلة بين الخير والشر، وبين الجميل والقبيح. ولأن الصراطين يعودان إلى أصل واحد، هو وحي إلى نبيه الخاتم فقد تجلى هذا الأصل بالختم والفتح معاً. فهو ختم للنبوّة الظاهرة. وفتح للنبوة الباطنة وهو الولاية الحافظة لأمر الله ووحيه وسنّة نبيه، وهي المتممة من بعده مكارم الأخلاق التي بعث من أجلها.

يجمع العلماء الربانيون على أن الولاية تظهير مستأنف لباطن النبوة. وبهذا التظهير تكتمل الهندسة المعرفية التي تترجم الحضور الإلهي في الزمن البشري. ولئن كان الاستئناف دالاً على حركة بعد توقف لغة واصطلاحاً ، فهو في جدلية العلاقة بين النبوة والولاية يتخذ معناه الخاص ليشير إلى التواصل الذي ما انفك برهة عن الفعل. فَمَثلُ هذا التواصل كَمَثل حركة في الجوهر تنتظر من يدفعها إلى الظهور لتقوم بمهمة

ص: 343

توصيل معارف الوحي ومقاصد الشريعة إلى الأفهام على امتداد الأزمنة المتعاقبة. ولما ذهب الأئمة علیهم السلام هل هو أكابر العرفاء إلى التأسيس على هذه الحقيقة، كانوا على يقين لا شبهة فيه من أن حقيقة الإيمان بالتوحيد يعادل الإقرار بالولاية، وأن التوحيد والولاية أمران لا ينفصلان، وأن الولاية هي الدليل على تجلي الأسماء والصفات والأفعال الإلهية في كل طور من أطوار التوحيد.

تبعاً لما ذكر تكون الولاية عنصراً ذاتياً من عناصر ختم النبوة. فالولي هو خليفة النبي، ومبين الشريعة من بعده ، وهو الذي يتولى صيرورة الدين الخاتم بعد ارتحال نبيه إلى غاياته ومقاصده. بل إنه يؤكد بتبنيه لأحكام الدين، استمرار الصلة بعالم الغيب في عهد انقضاء النبوة. ولأجل ذلك تحظى الوراثة النبوية التي للولي والوصي بدور حلقة الوصل بين الحق والخلق.

والتأسيس الرحماني للولاية، حاضر بالمجمل في الخطاب الإلهي : «إنما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (1)وفي التفسير أن الولاية هي لله بالأصالة، وللرسول وللمؤمنين بالتبع. فيكون التقدير كما في التفسير : «إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» . ليكون في الكلام أصل وتبع. ولا يخفى على المتأمل أن المآل واحد».(2)

ولما كانت الولاية واحدة ذات مراتب وفقاً لمبدأ التراتب الطولي القرآني، فلسوف تكتسب منازلها المتعددة صفة الأصالة المفاضة عليها من لدن الولي الأعظم تعالى .

وتبعاً للإخبار الإلهي في ما جاءت به آية الولاية سنكون أمام هرم وجودي يتوقف على فهمه وإدراك معانيه عرفان جميل صنع الله ولطفه بخلقه.

من هذا النحو تتمظهر منازل الولاية على ثلاث مراتب وجودية هي ولاية الله - ولاية النبي - ولاية الولي.

ص: 344


1- سورة المائدة - الآية 54.
2- الألوسي - روح المعاني - الجزء السادس - ص 149.

المرتبة الأولى: ولاية الله: وهي الولاية الحقيقية المطلقة، وتكون بالأصالة للولي الواحد الأحد على العالمين وفي القرآن المجيد من الآيات ما يشير إلى الأصالة الإلهية لولاية الله وأن الله تعالى سمّى ذاته المقدسة بالولي لأنه المهيمن بأسمائه وصفاته على كل شيء كما في قوله تعالى: «مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمه أَحَدًا» . (1)

وقوله: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ»(2). فالولاية له تعالى خاصة على الناس أجمعين، وهو الذي يعين للناس من يتولى أمورهم.

المرتبة الثانية: ولاية النبي: وهي من الله أي أنها امتداد لولايته تعالى ومن أمره. ولأن ولايته تعالى محيطة بكل شيء، ومدبّرة لنظام الخلق، وبسُنَنِها تنتظم هندسة الكون، فولاية النبي صلی الله علیه و آله وسلم المستمدة من الرحمانية هي - بهذه الصفة الاستمدادية - ولاية للعالمين. ولكونها كذلك، فهي ظهور لمشيئة الله وإرادته في عالم الإنسان: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ».(3) فهي إذن رسالة لجميع الناس وولاية الرسول حاكمة على العالمين، ومظهرةٌ للدين القيم. كما في قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا».(4)

المرتبة الثالثة: ولاية الولي: وهي متصلة بالولايتين الأولى والثانية، وبها تتجلى الحقيقة المحمدية في عالمي الغيب والواقع ، ومن خلالها يكشف الحق عن عنايته بشؤون الخلق. فإن أولياءه هم المكلفون بالمعاينة والمتابعة وحفظ الكتاب. وولاية الولي مصرّح عنها في القرآن الكريم بوجود شاهد على المسلمين يتلو رسول الله: «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّه وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ».(5)

ومعنى «يتلوه» أي يخلفه، ومعنى خلافته له هو قيامه مقامه في كل شيء ما خلا

ص: 345


1- سورة الكهف - الآية 26
2- سورة الشورى - الآية 9.
3- سورة الأنبياء - الآية 107.
4- سورة سبأ - الآية 28.
5- سورة هود - الآية 17.

النبوة التي ختمت به صلی الله علیه و آله وسلم. ولقد عين الله سبحانه هذا الشاهد بالإشارة والوصف فوصفه تارة بأنه من رسول الله كما في الآية. ووصفه تارة أخرى، بأن عنده – أي الولي - علم الكتاب كما في الآية: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب» .(1) وبهذا التقدير الإلهي سنجد كيف يحدد القرآن الكريم الإطار المعرفي لحركة الإنسان في التاريخ. وهو ما تظهره الآية:

«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَکِیمٌ» .(2)

وإذا كانت المعرفة البشرية قد وضعت فهم التاريخ وحركته ضمن جدالية الحرية والضرورة، فقد انطوت الآيات على قوانين مقدّرة في إطار السنن الإلهية الكلية التي لا تقبل التبديل والتحويل.

من أجل ذلك لاحظنا كيف أن الآيات تختزن المقاصد الإلهية في البيان والبرهان والتعليم والتنبيه والتبشير والإنذار. وهذه المراتب كلها على الجملة تجتمع في المقصد الأعلى الذي هو الهداية بمكارم الأخلاق وبهذا نستطيع فهم مندرجات التدخل الإلهي في تاريخ الخلق وهو تدخل يقوم على الدعوة إلى إدراك الواقع بما هو واقع، مثلما يقوم على الحثّ الإلهي نحو تغيير هذا الواقع.

وقد يكون الوجه الأكثر دلالة على التدخل الإلهي هو الاعتناء والتدبير واللطف. فالدعوة الإلهية إلى التغيير التاريخي غير مقصورة على توفير عامل القوة لدرء الفساد في الأرض، وإنما أساساً على دعوة الإنسان إلى إجراء مراجعة أخلاقية معرفية في عالم المفاهيم والأفكار والثقافة التي يحملها كما في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (3). وما ذاك إلا لأن النقلة الحضارية من دائرة الفساد إلى فضاء العمران لا تبلغ غايتها من دون سياق تفكيري وسلوكي وأخلاقي يناسب

ص: 346


1- سورة الرعد - الآية 43
2- سورة النساء - الآية 26
3- سورة الرعد - الآية 11.

ما قصدته الآية الكريمة: «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرُكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(1). كما لو أن ثمة تقابلاً شرطياً بين الانتصار لله والانتصار للخلق(2) .

ولما كان الأمر كذلك فإن مقتضى هذا التقابل الشرطي يكون في تحصيل التناسب بين إرادة الفاعل واستعداد القابل وما ذاك أيضاً إلا لأن التناسب والقيام على الصراط هو الذي ينجز العروة الوثقى بين الرب والعبد. فلو تعقل العبد قانون الزمن الذي هو فيه، وعمل وفقاً لأحكام الشريعة المقدسة، وكان من المتقين، لقابله الشارع الأعظم بالاستجابة وسدد أعماله وأيده بالنصر.

4 - التجلي الوراثي لمكارم الأخلاق

تجد مكارم الأخلاق النبوية امتدادها التواصلي في بيانات الأئمة المعصومين وصحابتهم الكرام من الأولياء والعرفاء. فلو دخلنا إلى رحاب نهج البلاغة على سبيل التأصيل والتمثيل، سنتبين التظهير الأسمى لمكارم الأخلاق.

فإنك لو أصغت السمع والنظر إلى الخطبة العلوية لألفَيْتَ المكارم على تمامها. كما لو كنت وسط جلال الكلمات كذاك الساري في بحر لجيّ، أو في نهر لا منتهى لمجراه. ثم لما أن غدوت من النهج على القرب لفاض عليك من كل باب مكرمة، وكلما توسعت في الطلب والمسعى تفتحت أبواب لا حصر لها من مكارم التخلق النبوي الساري بلا انقطاع من النبي الخاتم إلى الإمام الخاتم علیه السلام .

في خطاب الإمام إلى واليه على مصر مالك الأشتر المصداق على رفعة التخلّق وسموه في معاملة الغير، وسيكون لنا منه الدليل المبين على واحدة من أظهر إشراقات مكارم الأخلاق ولقد قصدنا بها أطروحة النظير بوصفها الدرجة العليا في نظر الإنسان الكامل إلى عالم الكثرة البشرية . يقول الإمام علیه السلام:

ص: 347


1- سورة محمد - الآية 7
2- محمود حيدر - الفقيه الأعلى - واحدية الشرع والكشف في مهمة الولي الخاتم - بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي المنعقد في الجزائر تحت عنوان «ختم الولاية» بتاريخ 16-12-2013

.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، واللطف بهم ، ولا تكن عليهم سبعاً ضاربا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه .(1)

مؤدى الخطاب إلى أن الإمام المتكلم بالحق، والمبين لحقيقة الوحي في الاجتماع البشري، يجعل من النظير قطب الرحى الدال على أصالة الإنسان في الوجود. مثلما يشير إلى أن الأخ المتحيّز في الشريعة المقدسة هو عضو في الأخوة الكونية العائدة إلى النشأة الأولى. وما ذاك إلا لأن وريث النبي الأعظم سيقيم التخلّق على نصاب التناسب الوجودي بين أمر الله في نظام الخلق وما ينبغي أن ينتظم فيه الاختلاف بين الناس.

والنظير في مقالة الإمام هو تظهير للخطاب الإلهي في تكريم الإنسان: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (2). والتكريم هو أعلى مراتب الفعل الإلهي في عالم الخلق. فالإنسان، هو صاحب النفس المحترمة، والكائن المستخلف في الأرض، وهو صلة الوصل بين الشهادة والغيب، وهو الحضور الأصيل الذي يتحرك تحت إشراف الحق الأول وعنايته وتأسيساً على المنزلة التي حظي بها الإنسان من خالقه تعالى تكتمل المكرمة العلوية في الوصل الوطيد بين ثلاثة أضلع حق الله كحق قيومي يفيض على الموجودات ويعتني بها وحق الأخ في الدين، وحق النظير في الخلق. وأما حاصل هذا الوصل فهو بلوغ التخلّق درجته القصوى، بحيث لا يعود الإقرار بحق الغير منّة من المقرّ به، وإنما هو من حق الله الفائض على الكل. وذلك عين الحقانية التي تفترضها مكارم الأخلاق التي بعث النبي الأكرم ليتممها في مسيرة الحضارة التوحيدية.

وتبعاً لهذه المنزلة، سنرى أن أسمى صفات الإمام في توحيد الله،هي صفة العبدانية . أي عبادة اليقين وهي عبادة خالصة تامة. حيث يصل العابد بالعبدانية إلى

ص: 348


1- نهج البلاغة - الرسالة 53 - جمع العلامة الشريف الرضي - تحقيق الشيخ عزيز الله العطاردي - مؤسسة نهج البلاغة طهران - الطبعة الأولى 1372 ه - ص 366 .
2- سورة الإسراء - الآية 70.

مقام التصديق الكامل، وهو مقام الحمد لذات الله حيث الحمد مقصور على الله لأنه الله. وهو غير مرتبط بعطاياه ومنحه ورزقه، ووعده الموحدين بالنعيم الأبدي. وإنما لأنه الحق الأحد الصمد وهذه المرتبة من اليقين التام لا تُدرك إلا من مقام القائل : «إلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك». وبهذا فإن أقرب تعبير قدمه الإمام لمقام الحمد، هو شعيرة السجود، لكونها الشعيرة الدالّة على الإقرار التام بالصمدية وتسبيحها.

من «عبدانية الحمد لذات الله»، يشرع الإمام في السفر إلى الناس بالمكارم. ومن فضاء الحمد يمضي إلى حل إشكال التدافع بين الإنسان والإنسان عالم الكثرة.

وهكذا سيكون لمسار التخلّق المتبصر بالعبدانية أن يترسخ عبر حركة تسري في جوهر العلاقة التي لا تنفصم بين الحق والخلق. أما ميدان هذا السَرَيان فهو في الحيّز الذي يشهد فيه الحق على الخلق. فسيكون على الإمام وسط هذا العالم، أن يدل ويبين ويعلّم ويقيم الوزن بالقسط بين الناس تبعاً لتقريرات الحق الأول في الشريعة المقدسة.

لقد وضّح الإمام خط السير في دنيا الخلق بعناية الحق بادئاً من نفسه. وما جاء في وصيته لابنه الحسن علیه السلام يظهر الدرجة القصوى من التخلّق الإلهي في ما ينبغي أن يكون عليه التصرف في عالم الناس : «يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك. فأحبب لغيرك ما تُحِبُّ لنفسك، واكره له ما تكره لها. ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يُحسن إليك. واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وان قل ما تعلم، بل ولا تقل كل ما علمت مما لا تحب أن يقال لك ولا تسأل عما لا يكون. ... واعلم يا بني أن رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس. ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لا بد من معاشرته، حتى يجعل الله إلى الخلاص منه سبيلاً، فاني وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعايشون ملء مكيال ثلثاه استحسان وثلثه تغافل».(1)

ص: 349


1- نهج البلاغة - باب الرسائل - الرسالة (31) كتبها الإمام إلى ابنه الحسن (ع) بحاضرين منصرفاً من صفين - تحقيق الشيخ عزيز الله العطاردي - مؤسسة نهج البلاغة - 1413ه، طهران - ص 335 .

5 - تمام التخلّق الرجوع إلى المبدأ

منتهى معراج المتخلّق الواصل في رحلة التكليف لإصلاح عالم الكثرة، هو العودة إلى المبدأ. وما دام كل أمر متعلق بتوحيده تعالى فلا مناص من الرجوع إليه في كل شأن متعلق بتدبير الاجتماع الإنساني. وهو ما يبينه الموحدون في قولهم: «إن النهايات هي الرجوع إلى البدايات». وهذا القول يترجم أصل الميل والعشق لكل مخلوق للرجوع إلى أصله ومبدئه. وبعبارة أخرى هو اصل عودة كل غريب إلى وطنه. ويعتقد الأولياء أن هذا الميل إلى المبدأ يشمل كل ذرات الوجود ومنها الإنسان، ومهمة التكليف الإلهي تظهير هذا الاعتقاد من خلال الإرادة والعزم على أداء المهمة والإرادة عند الأولياء تعد أول منازل السير إلى الله عبر إصلاح شؤون الخلق. فلا فصل بين عبادة الحمد والتنزيه لله الواحد الأحد الصمد، وبين فعلية العبادة في الاجتماع الإنساني حيث تتمظهر أسماء الله وصفاته وأفعاله كشواهد وموازين في أعمال الناس وتجاربهم. وعلى هذا يجد السالك إلى الحق بمكارم الأخلاق، انه أمام مقتضيين، ينبغي له الأخذ بهما وهو يمضي في مسار التكليف:

- المقتضى الأول هو الخطاب الإلهي، وقوامه أن يعلم أن الحق يخاطبه في كل شيء، وان هذه المخاطبة مستمرة باستمرار حياته وان نص هذا الخطاب أن حفظَ رسوماً في الصحف المطهرة، فمعانيه مودعة في نفس المكلف وفي الأكوان من حوله «سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين انه الحق»(1) وان يعلم هذه الأكوان ما قامت ولا استقامت إلا بهذه المعاني الإلهية التي على المكلف واجب طلبها، والتعرف عليها والتقرب بها إلى حضرة الله.

- المقتضى الثاني هو الرؤية والمراقبة، ومؤداهما أن يعلم المكلف أن الله يراه رؤية لا تنقطع. وان هذه الرؤية، أن جاءته بالرضى عن أفعاله سعد سعادة لا يشقى ،بعدها، وان جاءته بالسخط شقى شقاوة لا يسعد بعدها، وبذلك فهو مطالب بأن يراقب نفسه ويراقب الله في كل أفعاله.

ص: 350


1- سورة فصلت - الآية 53.

ومن هذين المقتضيين الإجماليين، تتفرع ثلاثة مقتضيات تفصيلية تفترضها شروط العمل في ميادين التجربة التاريخية وهي «الاشتغال بالله» و «التعامل مع الغير» و «التفاعل مع الأشياء أو مع سائر الموجودات»..

- في المقتضى الفرعي الأول يدرك المكلف انه مخلوق للاشتغال بالله وان الاشتغال بغيره ينبغي أن يذكره بالله دائماً وأبداً. فما يعقل المكلف شيئاً إلا ويجعله هذا الشيء يعقل أمر ربه فيه.

- في المقتضى الفرعي الثاني، أي التعامل مع الغير، فان المكلف يأتي أعمالاً لصالحه يبنيها على اعتقاداته مُقراً لغيره في ذات الوقت بحق الإتيان بمثل هذه الأعمال الصالحة، وبحق توجيهها بما عنده من اعتقادات كما يرتب المكلف هذه الأعمال جميعاً بحسب ما يقتضيه الصالح العام.

أما الثالث فهو مقتضى التفاعل مع الأشياء. ففيه يتجه المكلف إلى الموجودات من حوله قصد إرضاء حاجاته المشروعة، وحفظ حياته المادية، فيفعل فيها ويتصرف بها بحسب هذه الأهداف، كما تفعل فيه هذه الموجودات هي الأخرى، وتؤثر فيه بما يوافق هذه الأهداف أو يعارضها فتقوم بينهما علاقات الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير .(1)

بذلك تدخل مكارم الأخلاق دخولاً بيناً في صميم هذه المقتضيات، سواء ما تعلق منها بالمستوى الإجمالي لجهة صلة المكلف بالحق الأول، أو ما يتعلق منها بالمستوى التفصيلي لجهة صلة المكلف بمنعطفات وتعقيدات وشواغل الاجتماع البشري.

يكون تمام مكارم الأخلاق إذن بالتوحيد الخالص، ولذا فلا مناص لبلوغ التوحيد الحق من اتباع الأدب الخالص مع الله تعالى. فلو عرفنا أن أصل العبادة حسن التأدب، وختامها حسن التخلّق، سوف نهتدي إلى التعرف على مسار النبوات والعلل الإلهية التي حكمت اصطفاء النبيين.. فلما أن تحقق النبي الخاتم بالأدب التام الخالص

ص: 351


1- طه عبد الرحمن - العمل الديني وتجديد العقل - المركز الثقافي العربي - بيروت - 1997 ص 130

بلغ سدرة المنتهى وكان من العرش قاب قوسين أو أدنى. فعلم نفسه وحقيقة نبوته بتأديب المولى الأعلى فكان لقوله صلی الله علیه و آله وسلم «أدبني ربي فأحسن تأديبي».(1) وإذن، فبمكارم الأخلاق التي بعث بها النبي، وبها ختم تاريخ الأنبياء والرسل، فتح السبيل لمعرفة الله تعالى، وكان محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم ومعه آله وأوصياءه مثالاً للإنسان الكامل المتحقق بجميع النعوت الإلهية الكمالية. فقد منَّ الله على النبي الخاتم ب__«بسم الله الرحمن الرحيم» التي تحوي جوامع الكلم ، ومكارم الأخلاق معاً من أجل ذلك قال صلی الله علیه و آله وسلم« إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» لأن مكارم الأخلاق محصورة في الحقيقة الإنسانية الجامعة. وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها أهل الحق بالحقيقة المحمدية، حيث تكون جميع النشآت الوجودية ظهورات لهذه الحقيقة ويكون العالم صورة حقيقتها الجامعة. ومن ثم فإن جميع المظاهر من العقل الأول والروح الأعظم إلى الهيولي الأولى، إنما هي رقائق لهذه الحقيقة، وبهذه الجامعية استحقت الخلافة. ولما كانت للإنسان الكامل الظاهر في كل شيء، ظهورات وتدليات وتجليات في كل شيء كان أول ظهوره في العقل الأول ، ولذا قال صلی الله علیه و آله وسلم: «أول ما خلق الله نوري» وتلك إشارة منه إلى أن العقل حسنة من حسناته ومكرمه من مكرمات الله عليه. وبالجملة فإن هذا الإنسان يسري في جميع الموجودات، ولذا قال علي علیه السلام : «أنا القلم وأنا اللوح» وقال في موضع آخر: «كنت مع الأنبياء سراً ومع محمد جهراً» وأما سر معيته مع الأنبياء سراً ومع محمد جهراً- كما يقول صاحب الحكمة المتعالية فيعود إلى أن جميع الأنبياء كانوا من مظاهر ،وجوده وكانت ولايتهم من شعوب ولايته وفروعه، وهو الظاهر في وجودهم، والظاهر مستور في المظهر، وإن كانت نفسه الزكية من مظاهر ولاية خاتم الأنبياء .(2)

ولأن الحقيقة المحمدية هي نفس النبي مذ كان آدم بين الماء والطين كما في الحديث الشريف، فإنها متجلية في الأنفس المتسلسلة من آله وأوصيائه الذين بهم تدوم الحقيقة المحمدية بمكارمها الجامعة، ثم ليفيض الله تعالى على العالم

ص: 352


1- حديث شريف متفق عليه.
2- صدر الدين الشيرازي - المظاهر الإلهية - تحقيق جلال الدين الأشتياني مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي - قم 1419ه - ص 86.

بواسطتها على العالمين بالرحمانية والرحيمية معاً.

من هاتين الرحمتين تسري مكارم الأخلاق على الفرد والجماعات مثلما تسري على الأمم والحضارات المتعاقبة. وما في القرآن الكريم من البينات بصدد الاختلاف والتنوع وتكثر طرق معرفة الحق من خلال الأديان رسالات الوحي، ما يفضي إلى بيان سلسلة الوجود وصولاً إلى المصدر الأول والحق الأول. بحيث يغدو التكثر عين الحقيقة الواحدة في الأصل الإنساني، ذلك أن الاختلاف في الألوان والأعراق والألسن والثقافات والأديان هي من آيات الله وسُنَنه في الخلق. ولذلك كانت مكارم الأخلاق التامة غاية النبوة الخاتمة، وخاتمة الولاية المحمدية المطلقة في العالمين.

ص: 353

نظرية الأخلاق العرفانية

بقلم محمد فنائي إشكوري(1)

تعريب حسن علي مطر

الخلاصة

إن الأخلاق والعرفان مطلوبان متعاليان للإنسان. ومن هنا فإن التأمل في النسبة بين العرفان والأخلاق تحظى بأهمية من قبل الباحثين في الشأن العرفاني، والباحثين في الشأن الأخلاقي على السواء. بيد أن بعضهم قال بعدم تناغم العرفان مع الأخلاق وهناك من ذهب إلى اعتباره فوق الأخلاق إن عزلة العرفاء واستغراقهم في الذكر والمراقبة والنزعة الانطوائية، قد أدّت ببعضهم إلى تصوّر أن الأخلاق وحبّ الآخر قد خفّ بريقه في حياة العرفاء. ومن ناحية أخرى لا يمكن التخلي عن الأخلاق، كما لا يمكن تجاهل العرفان بل المطلوب هو الجمع بينهما. إن هذه المقالة تهدف إلى دفع شبهة عدم التناغم بين الأخلاق والعرفان وبيان نظرية عرفانية حول منشأ الأخلاق من طريق التدبّر في التعاليم العرفانية. إن لبّ الكلام في نظرية الأخلاق العرفانية هي أن الحبّ ينبثق عن الإدراك العرفاني لله، ومنشأ الأخلاق وحبّ الآخر .

الكلمات المفتاحية: العرفان الأخلاق نظرية الأخلاق العرفانية، الحبّ الإلهي، حبّ الذات، حبّ الآخر.

المقدمة: العرفان والأخلاق والنسبة بينهما

لا شك في أن الأخلاق من أهم عناصر الحياة الاجتماعية للإنسان، حيث لا يمكنه أن يتنصل عنها. ومن ناحية أخرى فقد تعلق بعض الأشخاص بالعرفان. هذا

ص: 354


1- أستاذ مساعد وعضو مجموعة الفلسفة في مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي. www.fanaei.ir

وأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الحياة الأخلاقية للإنسان وكماله، كما أن غاية العرفان تتلخص في كمال الإنسان. ومن هنا يحظى البحث بشأن النسبة القائمة بين العرفان والأخلاق على أهمية وضرورة قصوى بالنسبة إلى عشاق الأخلاق من العرفاء، وعشاق العرفان من الأخلاقيين، ولا يمكن لأي منهما تجاهل أهمية وضرورة هذا البحث. إن السؤال الرئيس في هذه الدراسة، يقول: هل يمكن لنا أن نستنبط نظرية أخلاقية من العرفان؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا أن نجيب عن سؤالين فرعيين بيد أنهما مهمان وهما :أولاً: هل العرفان منسجم مع الأخلاق؟ فإن جانباً هاماً وأساسياً من الأخلاق - في الحد الأدنى - يتمثل في حب حب الآخرين وإرادة الخير والصلاح لهم ورعاية حقوقهم إن الذي يعاني ضعفاً من الناحية الأخلاقية، يتصف بالأنانية والنرجسية وحبّ الذات، ولا يسعى إلا إلى تحصيل مصلحته ومنفعته الشخصية، ولا يبدي أي اهتمام بمصالح الآخرين. وهناك من تصوّر أن الحياة العرفانية لا تنسجم مع هذا البعد الأساسي في الأخلاق والسؤال الآخر : لماذا تحدث بعضهم عن العرفان ما فوق الأخلاقي؟ إن هذه الدراسة تسعى إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وتروم طرح نظرية عرفانية بشأن الأخلاق

وفيما يتعلق ب__ العرفان نكتفي ببيان هذا المقدار، وهو أن مرادنا من العرفان هو المعرفة الشهودية لله، والأمور القدسية أو باطن الوجود الحاصل من طريق السير والسلوك وتهذيب النفس في طريق العبودية لله إن العرفان المنشود في هذا البحث هو العرفان الديني، ولا سيّما العرفان الإسلامي الأصيل الناظر إلى المساحة الباطنية من الدين.

أما مرادنا من الأخلاق هنا، فهو الأخلاق الحسنة التي يتحلى صاحبها بالفضائل الباطنية والأفعال الخارجية الممدوحة، ويكون طاهر الذيل من الرذائل الباطنية والأفعال الخارجية القبيحة. وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر ينطوي على مراتب سواء في ناحيته الإيجابية أو في ناحيته السلبية. إن جوهر الأخلاق ملكة نفسية، إلا أن ظهورها يتجلى في الفعل والترك الاختياري. وفي هذا البحث يتم التأكيد على تلك

ص: 355

الناحية الأخلاقية القائمة على حبّ الآخرين. وإن أحد أركان الأخلاق - في الحدّ الأدنى - هو النزعة إلى احترام الآخر .(1)

انسجام العرفان والأخلاق أو عدم انسجامهما

هل العرفان والحياة العرفانية تنسجم مع الأخلاق ؟ إنما يتم طرح هذا السؤال من حيث احتواء العرفان على عناصر يدعى بعضهم أنها لا تنسجم مع حبّ الآخرين، كما يكشف لنا التاريخ عن شخصيات عرفانية قل اهتمامها بالآخرين في حياتهم.

إن ضعف أخلاق المعاشرة وعدم الاهتمام بحبّ الآخرين تضرب بجذورها في عقيدة خاطئة تنسب إلى بعض العرفاء. إن توهّم التنافي وعدم الانسجام بين المادة والمعنى، وبين الجسم والروح وبين الدنيا والآخرة وبين الخالق والمخلوق، قد دفع بعضهم إلى عدم الاهتمام بالحاجة المادية للآخرين ومد يد العون لهم. كما أن أصحاب المذهب الجبري الذين يرون أن الوضع القائم لا يقبل التغيير، لا يبذلون جهداً من أجل تحسين الواقع المرير. كما أن الفهم الخاطئ لبعض المفاهيم العرفانية من قبيل: التوكل والرضا والتسليم، أدى ببعضهم إلى عدم الاعتقاد والاهتمام بسعي الفرد في تغيير الوضع القائم.

إن عد العزلة من ضروريات السلوك العرفاني، واعتبار الدخول في حلقة المجتمع منشأ جميع المفاسد، لا ينسجم مع حبّ الآخرين. إن العرفان في هذه الرؤية يتعلق بالنسبة إلى الخاصة الذين لا يؤدي اعتزالهم عن الحياة الاجتماعية إلى الإضرار أو الإخلال بنظم المعاش. يرى هؤلاء أن على العارف أن يتخلى عن الحياة العادية والاختلاط بالخلق؛ وذلك لأن الاهتمام بالخلق يحول دون الاهتمام بالحق، وإن العرفان الذي يمتد على طول الوقت خير من العرفان لبعض الوقت. يقول بول تيليخ(2): إن البحث عن الاتحاد مع الله قد شغل العرفاء عن الالتفات إلى آلام الناس ومعاناتهم.(3)

ص: 356


1- Other-regarding.
2- Paul Tillich
3- Tillich, 1957: p. 100.

لا شك في أن هذا الفهم والتفسير للتعاليم العرفانية سيجعل من الصعب الجمع بين العرفان والأخلاق . طبقاً لهذه الرؤية الخاطئة، يتم التنظيم لخطة سلوكية غير صائبة. بيد أن الفهم الخاطئ للعرفان شيء، والعرفان نفسه شيء آخر. فلا الجبر هو الذي يحكم أعمال الإنسان، ولا التوكل والتسليم والرضا يتنافى مع العمل والسعي وبذل الجهد، ولا العرفان يقتضي العزلة واجتناب الخلق والعباد ليس هناك في الدين والعرفان الإسلامي أي تضاد بين عالم المادة والعوالم الأخرى ، وإنما الكلام في أن العالم لا ينحصر بعالم المادّة فقط. ليس هناك تضاد بين الدنيا والآخرة أيضاً، إنما الكلام في أن الحياة لا تقتصر على هذه الحياة الدنيا. كما أنه ليس هناك تضاد بين الروح والجسم، وإنما التأكيد ينصب على أن الإنسان ليس مجرد جسم، وأن الروح والجسم بعدان لحقيقة واحدة. كما أن مفاهيم من قبيل: التوكل والتسليم والرضا لا تتنافى مع التدبير والسعي والعمل، وإنما لبّ الكلام هو أنه مع التدبير والسعي والعمل من الضروري أن تكون هناك رؤية توحيدية وعناصر روحية خاصة للكمال الإنساني.

هل يمكن من خلال دراسة السيرة الذاتية للعرفاء أن نستنتج بأن العرفان لا ينسجم مع الأخلاق وحبّ الآخرين؟ لا بد من الاعتراف - بطبيعة الحال - بأن كثير من العرفاء على اختلاف مناهجهم لم يكونوا يعبؤون بالخلق والعباد، ولم يكن للاهتمام بالآخرين محل من الإعراب في حياتهم. فقد انشغلوا بأنفسهم وانهمكوا بالسير والسلوك الباطني. إن أهم هاجس يشغلهم هو الاهتمام بأحوالهم الباطنية، ولا يفكرون بسوى الأذكار والأوراد والمراقبة في العزلة والوحدة، وفي ذلك ما يشغلهم عن الاهتمام بآلام الآخرين وما يعانونه. إن دور العاطفة الإنسانية في إيصال الخير والخدمة إلى الآخرين لا يُنكر. وإن هذا النوع من العرفان يضعف العاطفة والرحمة الإنسانية. ويبدو أن الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي قد أشار إلى هذا النمط من الصوفيين في بيته القائل:

بشمینه بوش تند خو از عشق نشنیدست بو از مستیش رمزي بگو تا ترك هشياري کند.(1)

ص: 357


1- ومضمونه بالعربية: (إن الصوفي النزق لا يعرف أبجدية الحب، ولا بدّ له أن يستفيق من سكرته).

ولكن علينا أن نعلم أولاً : أن هذا الأمر لا يمكن تعميمه. فإن كثيرا من العرفاء كانوا طلائع في خدمة الخلق . بل هناك منهم من كان من الزعماء السياسيين، ومنهم من كان في مقدمة المقارعين للظلم والفساد والطغيان. وثانياً: أن هذا النمط من الفكر والحياة ليس من لوازم العرفان ، بل هو - كما تقدم أن ذكرنا - نتاج سوء فهم وتفسير خاطئ للتعاليم العرفانية.

يتحدّث الإنجيل عن شقيقتين اسمهما مارسا ،وماري، وكانت مارسا كادحة وعاملة مجتهدة، في حين كانت ماري من العابدات والمتنسكات. وقد احتدم الجدل في العرفان المسيحي على الدوام حول أفضلية أي من هاتين الشقيقتين على الأخرى؟ فهل العمل أكثر قيمة من الزهد والمراقبة والسلوك الباطني، أم العكس هو الصحيح(1)(2)؟ هناك من فضل مارسا على ماري، وهناك من فضل ماري على مارسا، وهناك من ذهب بحق إلى تفضيل الجمع بين الأمرين ؛ فلا يكون العرفان على حساب الأخلاق، ولا الأخلاق على حساب العرفان، فقال بعدم التنافي بين العمل والمراقبة. بيد أننا نشهد في أغلب الجماعات العرفانية ترجيحاً لكفة الزهد والعبادة على العمل وخدمة الخلق، سواء في ذلك العرفان الشرقي أو العرفان المسيحي، بل حتى في بعض الجماعات الصوفية. ومن هنا لا بد من الفصل بين حقيقة العرفان وبين تاريخ العرفان.

إن الأخلاق في الأساس لا يمكن تصوّرها بمعزل عن حبّ الآخرين. فإذا لم نقل إن جميع الفضائل والرذائل الباطنية، فلا أقل من أن أغلبها لا يتجلى معناه إلا في ظل الارتباط مع الآخرين. فإن فضائل من قبيل الصدق وأداء الأمانة والإحسان للآخرين وحسن الظن ،والعفو، ورذائل من قبيل: الكذب والغيبة والتهمة والحسد وسوء الظن والتكبر، إنما يتجلى معناها في إطار الارتباط بالآخرين وإقامة العلاقات معهم. ومن ناحية أخرى فإن التحلي بهذه الفضائل ودفع تلك الرذائل تعد من أوليات السلوك العرفاني. ومن جهة أخرى فإن هوى النفس أو الأنا وحبّ الذات أكبر مانع يحول دون حبّ الآخرين، وإن محور السلوك العرفاني يكمن في التغلب على هوى النفس.

ص: 358


1- ?Action or contemplation
2- Horne 1983: p. 4.

وعليه كيف يمكن القول بأن العرفان لا يعتني بالأخلاق؟! نعم، هناك - كما أسلفنا - بعض العرفاء الذين اختاروا العزلة والانطواء على أنفسهم، وابتعدوا عن الخلق بشكل كامل، بيد أن هذا التوجه مرفوض من وجهة نظر الإسلام، وقد ردّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم هذا النهج بصريح العبارة وبليغها حيث قال : لا رهبانية في الإسلام .(1)

وفي الحقيقة فإن العرفان الصحيح لا يمكن تصوّره بمعزل عن الأخلاق، وإن الأخلاق جزء ضروري ولازم ذاتي للعرفان الحقيقي. وليس هناك من شك في هذا الأمر من وجهة نظر العرفان الإسلامي. فالإسلام يرى أن العرفان هو البعد الباطني من الدين وليس منفصلاً عنه، كما أن الأخلاق من الأجزاء الرئيسة في الدين الإسلامي الحنيف. وإن خدمة العباد تمثل جزءاً ضرورياً من السلوك العرفاني من وجهة نظر الإسلام وإن السلوك العرفاني يشتمل على الأخلاقيات والعبادات والمعاملات. فقد ورد في آيات كثيرة وضع خدمة الخلق رديفاً للعبادة، وفي كثير من الآيات هناك وضع للزكاة والإنفاق في موازاة الصلاة. فمن أركان التديّن والتقوى إقامة الصلاة وأداء الزكاة، وفي ذلك يقول الله تعالى: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»(2) ، وفي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: من من سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه، فليس بمسلم.(3)

لقد كانت حياة النبي الأكرم ص والإمام علي علیه السلام - اللذين يتأسى بهما العرفاء ويهتدون بهديهما - وسيرتهما في حبّ الناس وخدمة الخلق مذهلة للغاية. وقد كان تقديم العون للخلق والاهتمام بشؤون الأيتام والمساكين جزءاً لا يتجزأ من حياتهم. لقد كان الإمام علي ع يقضي شطراً من الليل بالعبادة والتهجد والتضرع إلى المعبود، ويقضي شطره الآخر بحمل الطعام سرّاً إلى بيوت الأيتام والفقراء، وقد بلغ اهتمامه بحقوق الناس حداً أنه عندما سمع بجندي من معسكر الأعداء اعتدى على جارية يهودية في بقعة نائية من رقعة حكمه، وسلبها قرطها ،وخلخالها، غضب غضباً شديداً،

ص: 359


1- انظر: فنائي إشكوري، 1391 ه- ش، ص 176 - 186.
2- البقرة: 3
3- الطوسي، 1376: ج 6، ص 175.

وسارع إلى اعتلاء المنبر، وبكى بكاءً ظن معه الناس أنه قد ثكل بأبنائه، ثم قال في تلك الخطبة كلمته المعروفة : فلو أن امراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً(1) . وكان فيما يتعلق برعاية العدالة من الاحتياط والحذر حتى قال في بعض خطبه والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت.(2) وحتى عندما تولى مقاليد الحكم وزمام الدولة وجلس على سنام السلطة والقدرة، كان يواسي الفقراء والمساكين في المأكل والملبس وسائر الشؤون المادية، ويقول : ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع(3). هكذا ينبغي أن يكون المعلم والمقتدى في العرفان الإسلامي. وفي مثل هذه المدرسة لا معنى لعدم الانسجام بين العرفان والأخلاق.

في الأبحاث العرفانية الجديدة لدى الغرب، يتم التأكيد على التجربة العرفانية، أما في العرفان الإسلامي فالتأكيد الأكبر يكون على تنمية الأخلاق والنتائج الأخلاقية. ولا بد من رؤية ثمار وآثار العرفان في الأخلاق. وإن التجارب العرفانية والكرامات من الأمور الشخصية. وفي الحقيقة فإن الأخلاق هي التي تصحح التي تصحح العلاقات الإنسانية، وتنطوي على فائدة ونفع للمجتمع البشري.

العرفان فوق الأخلاق

هناك من ادعى بأن العرفان فوق الأخلاق، وأن العارف يحلق إلى ما بعد مساحة الأخلاق. ولذلك فإنه لا يكون محكوماً بالأحكام الأخلاقية. إن أسس الأخلاق تقوم على الفصل بين الحسن والقبيح، في حين أن أهم صفة في الاتجاه العرفاني تكمن في التغلب على الحدود وإزالة الفوارق والاختلافات (4). يقولون : إن المطلق

ص: 360


1- نهج البلاغة الخطبة رقم : 270
2- المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 215.
3- المصدر أعلاه الكتاب رقم: 44
4- Proudfoot, 1967 : p. 7.

غير التعينات وفوقها إن الاختلافات الحاصلة بفعل التعين لا تكون في المطلق. ومن هنا فإن الله لا يندرج في واحد من التقسيمات الموجودة في العالم. فلا هو هذه مادي، ولا هو مجرّد، ولا هو وجود ولا هو عدم، وإنما هو فوق جميع هذه الأسماء والتقسيمات وإن وضع الله في ضمن أي واحد من هذه التقسيمات يُعدّ تحديداً له. إنه فوق التضاد وفوق ،التناقض، ومن هنا فإنه يفوق الحسن والقبح ولا يكون مشمولاً للأحكام الأخلاقية. ومن ناحية أخرى فإن العارف يتحد مع الله، ومن فإنه يخرج بدوره عن دائرة أحكام الممكنات والمخلوقات، ويكون مشمولاً لأحكام المطلق، ويذهب إلى ما بعد المتضادات والمتناقضات والحسنات والقبائح. يقول رینولد نيبور : يسعى العرفاء إلى الحلول وراء تركيبات ومنظومات العالم(1). ويصرح دانتو(2)بأن الوعي الكوني والوحدوي لا ينسجم مع الأخلاق.

إن هذا التصوّر إنما هو نتيجة للخلط والمغالطة. صحيح أن الله لا متناه، وإن أحكام المتناهي لا تجري عليه. وبعبارة أخرى: لا ينبغي البحث عن أحكام الخلق في الخالق، فهو فوق الزمان والمكان ولا يمكن تصور الأبعاد الهندسية في حقه. وحيث لا يكون الله متناهياً، فإنه سيكون فوق التعارضات التي نشاهدها في الكائنات المتناهية. وإن الأضداد التي لا يمكن رفعها في المخلوق المادي، يمكن رفعها فيه. إنه لا أبيض ولا أسود ولا خفيف ولا ثقيل، ولا شرقي ولا غربي، ولا سماوي ولا أرضي، وإن الأوصاف التي لا يمكن أن تجتمع في المخلوق يمكن أن تجتمع فيه. فهو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن وهو البعيد وهو القريب، وهو داخل الأشياء كما هو خارجها. أجل، إن الله فوق التقسيمات الموجودة في المخلوق بما هو مخلوق. بيد أن الله ليس بخارج عن التقسيمات التي تحصل بالنسبة إلى الوجود بما هو وجود. ففي تقسيم الوجود إلى خارجي وذهني ، وبالفعل وبالقوة، والعلة والمعلول، والواجب والممكن، يتصف الله بأنه وجود خارجي بالفعل، وأنه علة، وأنه واجب. إن الله ليس فوق التناقض، وتستحيل عليه أحكام التناقض. ومن هنا فإنه ليس فوق الوجود والعدم،

ص: 361


1- Niebuhr, 1956: p. 17
2- Danto, 1976: p. 41.

إلا إذا كان المراد من الوجود والعدم معنى آخر. إنه وجود محض والوجود ليس عدماً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأحكام الأخلاقية : إن الله ليس فوق الحسن والقبيح، بل هو الحسن المطلق الذي لا يتطرّق إليه القبح أبداً. إن الله كائن أخلاقي، فهو عادل وصادق و رحيم، بل هو أرحم الراحمين، وجواد وغفار، ولا يتطرّق إليه الظلم والكذب والبخل والحسد وما إلى ذلك من الرذائل الأخرى.

إن الحق تعالى فوق بعض المتضادات، ولكنه ليس فوق المتناقضات، وهو فوق تقسيمات المخلوفات، ولكنه ليس فوق تقسيمات الوجود والسرّ في ذلك أن الكون في أحد أطراف الشق الأول يستوجب المحدودية، في حين أن الكون في أحد أطراف الشق الثاني لا يستوجب المحدودية. إن الكون فوق الأطراف في القسم الأول ممكن، بيد أن الكون فوق الأطراف في القسم الثاني محال.

ومن جهة أخرى فإن العبد لا يخرج عن كونه عبداً أبداً، وإن العارف لا يغدو إلهاً. إنه ينشد القرب من الله، وليس التحول إلى إله. وحتى عرفان وحدة الوجود الإسلامي لا يدعي اتحاد العبد مع الله. فالعرفان يعتبر الخلق مظهراً وشأنا من شؤون ومظاهر الله. وإن المظهر والشأن وإن لم يكن له وجود مستقل عن الظاهر وذي الشأن، إلا أن هناك تمايزاً بينهما ، ببيان أن الشأن ليس هو ذات ذي الشأن، ولا تجري عليه أحكامه. وإذا كانت هناك بين الظاهر والمظهر والشأن وذي الشأن نوع من الوحدة، فإن هذه الوحدة ليست وحدة بحتة، بل هي وحدة في عين الكثرة والاختلاف.

أجل إن القول بأن العرفان فوق الأخلاق المادية والعلمانية والعرفية يعني أن الأخلاق العرفانية أسمى وأفضل وأعمق وأكمل، لا أنها فوق الأخلاق(1).

نظرية الأخلاق العرفانية

بعد الفراغ من إثبات عدم التنافي بين العرفان والأخلاق، والقول بأن الأخلاق وحبّ الآخرين جزء ضروري من العرفان يطرح هذا السؤال نفسه: هل ينطوي

ص: 362


1- انظر : فنائي إشكوري، 1390ه- ش، ص 130.

العرفان في حد ذاته على نظرية أخلاقية؟ وهل يمكن لنا أن نستخرج نظرية أخلاقية من العرفان؟ إذا كان الجواب موجباً، فما هي النظرية الأخلاقية العرفانية؟ وبعبارة أخرى إن السؤال :يقول ما هو منشأ الأخلاق الناظرة بشكل رئيس إلى إيصال النفع إلى الآخر أو الآخرين ؟ فحيث يكون حبّ الذات متأصلاً في الإنسان، كيف يمكن للإنسان أن يفكر في مصالح الآخرين؟ لا يدور البحث هنا عن الأخلاق العرفانية أو دور العرفان في الأخلاق البشرية - إذ إن الأول بحث أخلاقي وعرفاني، والثاني بحث تاريخي واجتماعي - بل البحث في ماهية جذور القيم الأخلاقية ؟ وهذا البحث مرتبط بفلسفة الأخلاق والسؤال هنا يقول هل يمكن الحديث عن نظرية عرفانية بشأن الأخلاق، إلى جانب النظريات الأخرى حول منشأ الأخلاق؟

رؤية ولتر ستيس(1)

يذهب ولتر ستيس إلى الاعتقاد بأن هناك - من وجهة النظر العرفانية - إدراكاً عرفانياً في جذور القيم الأخلاقية. وإن ذروة الوعي العرفاني تكمن في إدراك الوحدة اللا متميّزة. في هذا الإدراك يتم رفع الشرخ القائم بين النفس الجزئية وروح العالم وتزول الفردية وتضمحل في الروح الكلية. وفي الواقع فإن الأنا الحقيقية لكل فرد، لا تكمن في النفوس الجزئية، بل في النفس الكلية التي تضمحل فيها جميع النفوس. وإن الذي يميّز النفوس الجزئية من بعضها هي الأحوال والخواطر العارضة. إن العارف السالك يسعى من خلال النظرة الاستبطانية إلى إزالة هذه الأحوال والخواطر من صقع ضميره، والحصول على النفس البسيطة. والنفس البسيطة في جميع الوجود لیست سوى حقيقة واحدة وإن الحصول على النفس البسيطة الكلية يعني زوال النفوس الجزئية المتكثرة. وبعبارة أخرى إن التعينات - التي تمثل الحدود الفردية - تضمحل في المطلق. وفي مثل هذه الحالة لن يكون هناك فصل بين الأنا والآخرين، إذ هناك أنا واحدة من دون أن يكون هناك في البين أنت أو هو. وفي هذه الحال

ص: 363


1- ولتر ستيس (1886 :Walter T. Stace - 1967 م): حائز على شهادة التخرج في الفلسفة من كلية الثالوث (trinuty) .بدبلن. تولى منصب رئيس بلدية كولومبو سنة 1929م . حصل على شهادة (d.litt) من كلية الثالثوث بدبلن عام 1932م. عمل محاضراً في جامعة برينستون، ثم أستاذاً للفلسفة منذ عام 1935م.

عندما أحب ذاتي أكون محباً للجميع، لأن الجميع هم أنا، وليسوا منفصلين عني. وعلى هذا الأساس فإن أخلاق حبّ الآخرين تمتدّ بجذورها في الإدراك العرفاني وبموجب ذلك لا يكون الآخرون منفصلين عني. وعليه فإن ما أحبّه أنا لنفسي سوف أحبه للآخرين أيضاً(1).

نقد رؤية ولتر ستيس

إن هذه النظرية تقوم على أساس رؤية ولتر ستيس حول النفس الجزئية والكلية المقتبسة من بعض النحل في الديانة الهندوسية. بيد أن هذه الرؤية غير مقبولة. إذ لم يتم إثبات وجود حقيقة باسم النفس الكلية أو الروح العالمية بالمعنى المنشود ل- ولتر ستيس. كما أن النفوس الفردية ليست نتاج عروض الأحوال على النفس الكلية. إن كل نفس جزئية تمثل جوهراً تعرض عليه بعض الحالات. إن ملاك تشخيص واختلاف النفوس لا يكمن في هذه الحالات، بل إن أصل وجود وجوهر كل نفس يمتاز من أصل وجود وجوهر النفس الأخرى. طبقاً لمباني الفلسفة الإسلامية لا يقبل بزوال الفردية، كما أن الكثرة والفردية أمراً حقيقياً، وليس اعتبارياً. إن براهين تجرد النفس وبقاء النفس تدل على بقاء النفس الفردية. وعليه فإن تفسير وحدة الوجود الذي يفضي إلى زوال مطلق الكثرة والتفرّد غير مقبول. لا يلزم من ضرورة وحدة الوجود، زوال الفردية. كما أن مقام الفناء لا يعني زوال الفردية، بل المراد من الفناء هو أن الشخص في ذلك المقام لا يلتفت إلى ذاته، حيث يغيب في النظر إلى المحبوب. ومن الناحية الوجودية يدرك العارف أن وجوده ليس مستقلاً عن وجود الحق، وإنما هو مظهر وتجل لذلك الوجود، لا أنه ينعدم حتى لا يعود بالإمكان تمييزه. وبعد مقام المحو والفناء يأتي مقام الصحو والبقاء حيث يعود السالك إلى ذاته، بيد أن الذات هذه المرّة رغم كونها نفس الذات السابقة، إلا أنها لا تعود تشكل حجاباً ومانعاً دون الحق. إن قضية العبد بالقياس إلى الحق ليست قضية الوجود والعدم، وإنما هي قضية المرآة والحجاب. وإن المراد من السلوك - في واقع الأمر - ليس هو تحوّل

ص: 364


1- 81 .Stace, 1961: chap ستيس ، 1375 ه- ش الفصل الثامن

الوجود إلى عدم وإنما إزالة الحجاب وتحوّله إلى مرآة صافية. كما أن المراد من الوجود أو الكون في هذا السياق هو الأنانية وحب الذات، والمراد من العدم والفناء هو زوال الأنانية، وحصر النظر بالحق، وليس الوجود والعدم بمعناهما الفلسفي.

كما أن زوال الفردية مرفوضة في التعاليم الإسلامية. فإن التعاليم المرتبطة بالحياة بعد الموت ،والقيامة والجنة والنار، لا تنسجم مع زوال الفردية. فإن كل شخص سوف يكون في يوم القيامة مسؤولاً عن أعماله، بل إن كل شخص هو نتاج عمله، وفي ذلك يقول الله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ»(1) ، وقال أيضاً: «وَلاَ تَكْسبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فيه تَخْتَلَفُونَ».(2)

النسبة بين إدراك الذات والإيمان بالله

هل إدراك الذات يُعدّ منشأ للإيمان بالله، أم الإيمان بالله هو المنشأ لإدراك الذات؟ هناك من الحكماء والعرفاء الإسلاميين من ذهب إلى القول بأن الإيمان بالله متقدم على إدراك الذات، بل هو منشأ هذا الإدراك ذلك لأن المخلوق هو عين الارتباط بالخالق أو هو شأن من شؤونه ، ومن المحال إدراك الارتباط أو الشأن دون الإيمان والعلم بطرف الارتباط أو ذي الشأن. كما أن العلة وذا الشأن مقدّمان من الناحية الوجودية، ومن الناحية العلمية يتقدم العلم به على العلم بغيره أيضاً.

ولكن من المستبعد جداً أن يكون الشخص مدركاً وعارفاً بربه، ولكنه غير مدرك لنفسه وذاته. فإن إدراك الإنسان الحضوري لنفسه من ذاتيات وملاكات هويته وتشخصه .. وفي الحقيقة فإن قوام فردية الفرد يكمن في علمه الحضوري بذاته. وإن هذا الإدراك الذاتي غير قابل للزوال، بل يظل باقياً حتى في حالة الفناء. فالغائب في حالة الفناء هو الوعي والإدراك الحصولي .للذات. بيد أن الإدراك الحضوري للذات يشكل أرضية وشرطاً لجميع أنواع الوعي والإدراك، ومن دونه يستحيل إدراك الآخر،

ص: 365


1- الزلزلة : 7.
2- الأنعام: 164.

حتى إذا كان ذلك الغير والآخر هو العلة أو طرف الربط أو ذو الشأن. لا إشكال في أن يكون وجودنا مرتبطاً بالحق، بيد أن علمنا بالحق يكون متوقفاً على علمنا بذاتنا، بل لا يمكن لنا أن نتصور غير ذلك.

صحيح أن الله تعالى أعلم بنا من أنفسنا ومن هنا فإنه سبحانه يقول في محكم كتابه الكريم: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(1) ، ولكن هل يمكن القول: إننا أعلم بأنفسنا من الله ؟ وكذلك بالنظر إلى أن الله أقرب إلينا من أنفسنا، هل يصح القول بأننا أقرب إلى الله من أنفسنا ؟ يبدو أن الجواب هو كلا.

ليس الإدراك الحضوري للذات وحده هو المقدّم على كل إدراك - بما في ذلك إدراك الله - يبدو من ظاهر الآيات والروايات أن بعض الإدراكات الاكتسابية والحصولية تتقدّم على إدراك الله أيضاً، حيث يمثل هذا الإدراك الحصولي طريقاً إلى إدراك الله. فإن الإنسان في العادة يدرك وجود الله من خلال البراهين الآفاقية والأنفسية، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفُ برَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(2). وحتى لو اعتبرنا الشهيد هنا بمعنى المشهود مع ذلك لا يتنافى هذا المضمون مع كلامنا، ولا يمكن أن نستنتج منه تقدم إدراك الله على إدراكنا لأنفسنا، لأن مضمون العبارة لا يعدو القول بأن الله مشهود لكل ،شاهد، بيد أن الشرط في الشهادة من كل شاهد هو الإدراك الحضوري لذاته. هذا وأن المراد من التقدّم والتأخر هنا - بطبيعة الحال - ليس هو التقدم والتأخر الزمني بالضرورة، بل المراد هو التقدّم الرتبي.

إن الحديث المعروف من عرف نفسه فقد عرف ربه واضح الدلالة على ما ذكرناه . إذ إن المراد من معرفة النفس في هذا الحديث هو الإدراك الحصولي والثانوي للذات وليس الإدراك الحضوري الحاصل للجميع بالفعل إن هذا الحديث - وكثير من الأحاديث الأخرى - بصدد التشجيع على إدراك الذات، إذ يمثل هذا الإدراك مفتاحاً

ص: 366


1- الأنفال : 24
2- فصلت: 53

لفتح أقفال جميع العلوم والمعارف. ثم إن الإدراك الحضوري هو ضرب من تحصيل الحاصل، فلا يحتاج إلى ترغيب، بل هو لا يقبل الترغيب أصلاً.

وبطبيعة الحال لا بد لنا من هذه الإضافة وهي أن معرفة الله لدى الكاملين والسالكين الواصلين لا تقوم على معرفة الغير، فهم يقولون: ألغيرك من الظهور ما ليس لك ؟ !(1). بيد أن هذا لا ربط له بما نحن فيه، وعليه لا يمكن لنا أن نستنتج منه أننا لا نحتاج في معرفة الله حتى إلى الإدراك الحضوري بذواتنا. إن الإدراك الحضوري للذات لا يشكل طريقاً إلى معرفة الله وإنما هو شرط تحققه، سواء في ذلك معرفة الله الحاصلة من طريق الوسائط والآيات، أو معرفة الله الحاصلة من دون واسطة وبشكل مباشر.

النظرية المختارة

طبقاً لما تقدّم ذكره فإن الإدراك العرفاني لانحلال الفردية لا يمكنه أن يكون منشأ للقيم الأخلاقية. فهل يمكن العثور على مبنى آخر للقيم الأخلاقية في العرفان؟ يبدو أن نظرية الأخلاق العرفانية لا تتوقف على نظرية محو الذات وإنكار النفوس الجزئية والاعتقاد بالروح العالمية الواحدة والمطلقة.

هناك في نظرية الأخلاق الدينية والعرفانية ارتباط بين الأخلاق والتوحيد. فمن دون الله من المتعدّر جداً الحديث عن القيم الأخلاقية. بيد أن وجود الله كيف يكون منشأ لحبّ الآخرين؟ إن الله - طبقاً لتعريفه - هو الكامل والخير المطلق ومعدن الفضائل والصفات الكمالية والجلالية ومصدر القيم. وعليه فإن إدراك الله يعني إدراك الكمال والخير والجمال المطلق. إن هذا الإدراك أياً كان مستواه، سوف يستتبع حبّ الله بنفس المقدار. وإن أعلى درجات إدراك الله هو الإدراك الشهودي، إذ هي منشأ أسمى درجات حبّ الله. إن الإنسان في ذاته وفطرته ينجذب إلى الكمال ويعشق الجمال . وإن شهود الكامل والجميل المطلق لا يكون دون التعلق والشغف

ص: 367


1- الشيخ عباس القمي، 1384 ه- ش، دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة.

بذلك الكامل والجميل. إن هذا الحبّ الذي هو حبّ للجمال، يُعدّ منشأ للميل إلى فعل الحسنات.

ومن ناحية أخرى فإن الكون والإنسان من وجهة نظر العارف ما هي إلا مظاهر وشؤون الكامل والجميل المطلق فإن حبّ الحق يستلزم حبّ مظاهره وشؤونه. وعلى هذا الأساس فإن إدراك الله هو حبّ الله، وهذا الحبّ بدوره يستتبع الحبّ للخلق، وإن حبّ الله منشأ للميل إلى فعل الخيرات والحسنات. إن حبّ الله يخلق الحافز لدى المحب نحو التشبه بأخلاق الله المتصف بأسماء الجمال والجلال، وهذا يشكل منشأ للميل نحو اكتساب الفضائل، والابتعاد عن الرذائل، وأساساً للحسن والقبح الأخلاقي، والأمر والنهي الفقهي. إن حبّ الله بالأصالة يستلزم عبادته وأداء فروض الطاعة له، وإن مظاهره وتجلياته بالتبع يستلزم خدمة هذه المظاهر، وحمايتها والعمل على رعاية حقوقها.

إن الكمال والخير والجمال مطلوب لذاته، ولكن لا من حيث أنها تمثل وسائط للوصول إلى شيء آخر. وهذا الكلام لا يتنافى مع سعي الإنسان إلى طلب الكمال. لا شك في أن الإنسان يحب الكمال بطبيعته، ويطيب له أن يتمتع بقدر أكبر من اللذة والاستعلاء، بيد أن هذا الأمر لا يتنافى أبداً مع يتنافى أبداً مع حب الإنسان للجمال في نفسه .

وباختصار نحن نرى أن الحبّ المنبثق عن الإدراك العرفاني يمكنه أن يكون أساساً ومنشأ للنزعة الأخلاقية والميل إلى حبّ الآخر. إن الاختلاف بين هذه النظرية ورؤية ولتر ستيس جوهري. حيث يذهب ستيس إلى الاعتقاد بأن الإدراك العرفاني للوحدة بلا تمايز هو منشأ الأخلاق، وأما طبقاً لرؤيتنا فإن الحبّ القائم على معرفة الله العرفانية هيمنشأ الأخلاق.

يتضح مما ذكرنا أن الأخلاق وحبّ الآخرين لا يتوقف بالضرورة على وحدة الوجود، بل ينسجم أيضاً مع الاعتقاد بوجود الله وأن العالم مرتبط به وأنه فعله وآيته.

إذا اعتبرنا الحبّ القائم على المعرفة الشهودية لله منشأ للأخلاق، فما الذي ينبغي

ص: 368

قوله بشأن الأخلاق غير العرفانية التي لا تتمتع بمثل هذه المعرفة؟ كما تقدم أن ذكرنا فإن جانباً من معرفة الله - من وجهة نظر الإسلام - فطري، وإن الجميع بهذا الجانب الفطري وإن كانوا لا يشعرون بذلك. وبهذا المعنى يكون الميل إلى العرفان فطري وعام، بيد أن تطويره وتفعيله يحتاج إلى سير وسلوك. إن اعتبار فطرية الأخلاق وكذلك نظرية الأخلاق(1) الكانتية - التي تقوم بدورها على القول بحب الآخر - يمكن أن تكون ناشئة عن الحبّ الإلهي المودع في فطرة الإنسان. ومن الممكن أيضاً أن لا يرى شخص منشأ للأخلاق، ولكنه يقول - في الحدّ الأدنى - بقيام المراتب المتعالية من

الأخلاق على الحبّ الإلهي.

الأمر الآخر على هذا المبنى هو أن كل كائن يتمتع بهذا الإدراك والحبّ، ويكون في الوقت نفسه مختاراً، سيكون أخلاقياً. والحبّ فرع الإدراك. فحيث يكون هناك حبّ، يكون هناك إدراك سابق . وإذا كان الحبّ عاماً وسارياً، سيكون الإدراك عاماً .وسارياً. وعليه هل هناك تلازم بين الإدراك والحبّ من جهة وبين الاختيار من جهة أخرى؟ وبعبارة أخرى هل حيث يكون هناك إدراك وحبّ ، يكون هناك اختيار أيضاً؟ لا يوجد هناك برهان على هذا التلازم. فإذا عممنا هذا الوعي والإدراك والحبّ والاختيار على جميع الكائنات، فعندها ستكون جميع الكائنات - بما يتناسب ودرجة إدراكها وحبّها واختيارها - أخلاقية وأما إذا ضيّقنا دائرة الاختيار، فلن تكون أخلاقية سوى الكائنات التي تتمتع بالوعي والحب والاختيار.

ومن ثم فإن أشدّ وأكثر الموجودات ابتهاجاً هو الله المدرك لذاته، وفي ذلك يقول ابن سينا أجلّ مبتهج بشيء هو الأول بذاته؛ لأنه أشدّ الأشياء إدراكاً لأشدّ الأشياء كمالاً(2). فهو العلم والحبّ اللامتناهي، كما هو الكمال والخير المطلق والأخلاقي أيضاً. وبطبيعة الحال فإن الأخلاق الإلهية تتناسب مع وجوده المطلق واللامتناهي. وهناك كلام في التعاليم والنصوص الدينية بشأن أخلاق الله، ومن ذلك الحديث

ص: 369


1- Deontology
2- ابن سنا، الإشارات والتنبيهات النمط الثامن، ص 350

القائل: تخلقوا بأخلاق الله(1) ، وبذلك تكون الأخلاق الإنسانية شعاعاً محدوداً عن الأخلاق الإلهية. وإن الكثير من الأسماء والصفات الإلهية تعكس صفة أخلاقية من صفات الله.

لا خلاف في العلم والاختيار الإلهي، ولا شك في حبّه أيضاً، فقد تحدّث الله تعالى في القرآن الكريم عن الحبّ في كثير من المواطن، ومن بينها قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ»(2) ، وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(3) . كما ورد في الحديث القدسي: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف (4).

وفي الأساس فإن أصل وحقيقة الحبّ ومنشأ كل حبّ هو الحب الإلهي. وإنه هو المحبّ الحقيقي، كما أنه هو المحبوب الحقيقي يا حبيب من لا حبيب له(5)، كما هو حبيب ورفيق وشفيق ومونس من لا أحد له يا أنيس من لا أنيس له.(6)

وكما أن وجود ورحمة ولطف الله ينقسم إلى عام وخاص، وكونه رحمنا ورحيما، فإن حبّه ينقسم بدوره إلى عام وخاص، وفي الأساس فإن رحمته متفرعة من حبّه. وإن حبه العام شامل ومستوعب لكل الوجود وأما حبّه الخاص فيخص الخاصة من محبّيه. كما أن لحب الخلق لله قسمين: حب عام وحب خاص. والحب العام هو الحب الذاتي والجبلي الذي يعمّ كل ما سوى الله. والحبّ الخاص هو حبّ خصوص المؤمنين لله، وهو حبّ اكتسابي يحصل بفضل المعرفة والعبودية. وإن قوله تعالى : «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (7)يشير إلى طرفي هذا الحبّ الخاص.

ص: 370


1- الشهيد الثاني 1377 ه- ش، ص 73.
2- المائدة : 54 .
3- آل عمران 134 و 148؛ المائدة: 93 . وانظر أيضاً: البقرة: 195؛ المائدة: 13
4- ابن أبي جمهور الأحسائي، 1405 ه، ص 55
5- الكفعمي، 1418ه، ص 407
6- المصدر أعلاه، ص 404.
7- المائدة: 54

إن العارف الحقيقي يعشق الله ويستسلم لإرادته، ويرضى بقضائه ورضاه. وإن إرادته ذائبة في إرادة الله وبعبارة أخرى: إن إرادته وإرادة الله تسيران على خط واحد. بل في الأساس ليس له إرادة غير إرادة الله إن اتحاد الإرادة هذه هي التي تجعل العارف يحبّ ما يحبّه الله. وعلى هذا الأساس لا يوجد هناك تعارض وتزاحم بين إرادة العارف وإرادة الله وأمره ونهيه، وإن حب الذات العرفاني يصب في ذات القيم الأخلاقية.

إن العشق الحقيقي يقضي على الرذائل ويستأصل سوء الخُلُق من الجذور. إن جذور الرذائل تعود إلى الأنا وتعارضها مع القيم وحبّ الآخرين. إن السلوك الأخلاقي يصبّ في مصلحة ومتعة الفاعل، ويؤدي عادة إلى الإضرار بالآخرين. فلو تم استبدال تلك الأنا بمحبّة الآخرين، فلن يبقى هناك متسع للسلوك غير الأخلاقي. إن الكذب والحسد والغيبة والتهمة وأي نوع من الإضرار وإلحاق الأذى بالغير إنما هو لأجل أن أحصل على مصلحة ومتعة حتى وإن أدى ذلك إلى تعرّض الآخرين إلى الضرر والأذى؛ إذ يقع التعارض والتزاحم أحياناً بين مصالح الأنا ومصالح الآخرين، وإن الشخص الأناني يرجّح كفّة مصالحه على كفّة مصالح الآخرين. فإذا أدرك أن كماله وسعادته الحقيقية لا تكمن في المتعة الأنانية التي تضرّ بالآخرين، بل إن المتعة والمنفعة الحقيقية إنما تكمن في تجاهل هوى النفس والسعي إلى ما فيه خير الآخرين وصلاحهم والعمل على طبق ما تقتضيه الأخلاق، فإن رغبته في الكمال سوف تدفعه نحو الأخلاق وحب الآخرين. وبعبارة أخرى ليس هناك تعارض أو تزاحم بين الخير الفردي والخير الجماعي أبداً، بل إنهما يجريان على خط واحد، وهناك تلازم بينهما.

تعود جذور النزاعات والخصومات إلى توهم التعارض بين حب الأنا وحب الآخرين. فما لم يتم حل هذا التعارض فلن تسود الأخلاق. وإن الطريق الوحيد لحل هذه المعضلة هو رفع هذا التعارض والتزاحم . ولا يتحقق ذلك إلا في ظل الاعتقاد بالله وفي إطار الدين والعرفان. إن حبّ الله وتبعاً له حب خلقه يضع حب الذات والقيم الأخلاقية في ضمن نطاق واحد. إن العارف يرى خيره وسعادته وكماله في القيم الأخلاقية. وعلى هذه الشاكلة تصبح الأنا المتعالية ملازمة لحب الخير، ولن

ص: 371

يكون هناك تعارض بينهما. إن الأنانية قصيرة النظر التي ترجّح المتعة العاجلة على السعادة الآجلة تتعارض مع إرادة الخير في النظرة الأخلاقية يُعدّ حسن الخلق منشأ للمنفعة والمتعة الحقيقية، كما يُعدّ سوء الخلق منشأ للأضرار والآلام.

بعبارة أخرى من خلال الحبّ الإلهي يتم اجتثاث جذور جميع أنواع الرذائل المتمثلة بحبّ الدنيا، وفي ذلك روي عن رسول الله أنه قال: حبّ الدنيا رأس كل خطيئة . إن القلب الذي يعمره حب الله لا يتسلل إليه حب الدنيا، وحيث لا يكون هناك مكان لحب الدنيا، لن يكون هناك دافع نحو الخطيئة.

إن أفضل طريق لتعزيز الأخلاق هو العمل على ترويج المحبة. فحتى في المراحل الاعتيادية وغير العرفانية يمكن لتقوية المحبة أن تشكل أرضية خصبة للالتزام بالقيم الأخلاقية. فلو تم تلقين الأطفال محبة الحيوانات فإن الأطفال عندها لن يقوموا بإيذائها وتعذيبها. وحيث يتم تأسيس الحب في روح الإنسان، سوف لن تقوم أرضية لمستنقع الرذائل، وسوف تزدهر روح الخدمة والإخلاص وحب الخير للآخرين الذي هو مقتضى الفطرة الإنسانية الطاهرة.

وحيثما كان هناك حبّ، لن يكون هناك مجرد أخلاق فحسب، بل سيكون هناك إيثار وتضحية أيضاً. إن الأم التي تضحي من أجل ولدها لا تخلو من حبّ الذات وطلب الكمال، بيد أن حبها لذاتها وسعيها وراء كمالها لا يتعارض مع حبها لولدها إلى حدّ التضحية بنفسها من أجله . وهذه هي معجزة الحبّ.

إن العشق ملازم للصدق والإخلاص وهو يعمل على اجتثاث جذور الرياء والتظاهر والنفاق إن الرياء والنفاق إنما يكون حيث لا تناسق بين الظاهر والباطن والنية والعمل. في العمل المرائي لا يكون الدافع إلى العمل هو حسنه الذاتي أو حباً للمخدوم، بل إن المرائي هنا يتظاهر بفعل الخير ليضمن غايات أنانية أو أهداف تقوم على الهوى. فهو يتظاهر بالحب من دون أن يمتلك ذرّة منه وهو يتظاهر بالتمسك بالقيم الأخلاقية في حين أنه ليس كذلك. أما المحبّ والعاشق

ص: 372

الحقيقي فيخدم المحبوب والمعشوق بكل وجوده ولا يهدف من وراء ذلك إلى شيء غير خدمته فقط.

إن المعصوم هو الذي بلغت معرفته ومحبته لله مرحلة الذروة، وإن إرادته تضمحل إرادة الله إن كمال معرفته ومحبته تستوجب أن لا يكون هناك أدنى تعارض بين إرادته ومرضاة الله وأن تكون رغبته متطابقة مع القيم الأخلاقية. ولذلك تكون إطاعته لله تامة، ويكون مستأصلاً لجذور العصيان والتمرد من وجوده.

إن العشق والحبّ يذلل الصعاب، ويجعل المرّ شهداً، ويقصر المسافات الطويلة، ويداوي العلل ويشفي الأمراض، ويجتث جذور سوء الخلق الكامن في الأنا وحب الذات. كما أن الشك والوهم والظن بدوره هو نقص وضعف وداء الروح، إلا أن العشق والحب يعالج هذه الأمراض أيضاً.

الحبّ السماوي والأهواء الأرضية

الكلام هنا يدور حول العشق الإلهي المقدّس، دون الأهواء الأرضية والشيطانية. إن صاحب الهوى أناني محبّ لذاته ولم يذق طعم الحبّ. إنه لا يفكر بغير متعته، وإن الآخر الذي يدعوه محبوباً له لا يريده إلا وسيلة لإشباع غرائزه وشهواته. إن صاحب الهوى يريد ضحيته لنفسه، أما العاشق الحقيقي فيريد نفسه لمحبوبه، وهو على استعداد للتضحية بنفسه من أجله . إن الهوى مؤقت ويزول بمجرد خمود الشهوة، أما العشق فيزداد استعاراً عند لقاء المعشوق . إن الهوى فصلي ومرحلي ولذلك فإنه يضعف بعد تعاقب الأيام والسنين، وأما الحب والعشق فلا شأن له بتقادم العمر والتغيرات البيولوجية والفسيولوجية والهرمونية، وإنما هو شعلة في الروح تزداد أواراً واستعاراً مع الأيام وبعبارة أخرى: إن الهوى مرتبط بالقوى الجسدية، وأما العشق المقدّس فهو روحاني، ولا ربط له بالمتغيرات الجسدية والجنسية. إن الهوى يتعلق بالأعراض والظواهر، وبتغيرها يتعرّض للزوال والاضمحلال، أما العشق والحبّ فيتعلّقان بذات وحقيقة المعشوق

ص: 373

وكما يجب التفكيك والفصل بين العشق والهوى يجب التمييز بين العشق الكلي والعشق الجزئي أيضاً. إن العشق الجزئي في هذا المصطلح هو في الحقيقة درجة من العشق، بيد أن متعلقه أمر جزئي. إن العشق الكلي هو عشق وحبّ الله، والعشق الجزئي هو حبّ غير الله والمظاهر. وإن العشق الجزئي محدود وغير ثابت، وإن متعلقه بدوره غير ثابت أيضاً ، وأما العشق والمعشوق الكلي فهو خالد وإن العشق الكلي أو عشق الكل يشتمل على عشق الجزء أيضاً، وأما العشق الجزئي فلا يشتمل على العشق الكلي، بل ربما شكل مانعاً منه وأسدل حجاباً دونه. وأما الذي يعشق الكل فإنه يعشق الجزء أيضاً.

والدين ليس سوى هذا الحب، وقد ورد في الحديث هل الدين غير الحب ؟ !.(1)إن الدين الأصيل والحقيقي هو حبّ الله وحب الخلق المستلزم للعبودية لله وخدمة الخلق . إن هذا الحب يتعلق بالجمال وهو وليد العقل، ووالد الإحسان

إن الهوى وحبّ غير الله منشؤه الابتعاد عن القيم. وإن حبّ الدنيا هو من سنخ الهوى. وإن حبّ الدنيا منشأ سوء الأخلاق والنزاعات والخلافات حول الأموال والجاه والشهوات. إن حبّ الدنيا - الذي يعني حب غير الله - يحول دون العشق الحقيقي. وإن الرياضة المشروعة في السلوك العرفاني إنما هي لمواجهة هذه الموانع والعمل على رفعها وإزالتها. وإن جهاد النفس - الذي يعرف ب- الجهاد الأكبر - هو جهاد ومحاربة الهوى والحبّ غير الإلهي. وعلى هذا الأساس فإن العارف في السلوك العرفاني لا يسعى وراء الانقطاع المحض ، ولا يسعى إلى الاتصال المحض وإنما كل مطلوبه ومراده هو الانقطاع عن الأغيار والاتصال بالملك الجبار. ومن هنا ورد في المناجاة الشعبانية: إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك.(2) لا بد من انقطاع يشكل مقدمة وشرطاً لازماً للاتصال، وليس كل انقطاع. وإنما يجب كسر ذلك التعلق الذي يحول دون الاتصال بالحق، وليس كل تعلّق. ولذلك فإن حبّ العالم، وحبّ الخلق، وحبّ الناس، وحبّ الأولاد، وحبّ الوطن، وحبّ الجمال في نفسه لا يحول

ص: 374


1- القمي، 1363 ه- ش، ج 1، ص 201.
2- الشيخ عباس القمي، 1384 ه- ش المناجاة الشعبانية.

دون الاتصال بالحق، ومن ثم لا يكون ممنوعاً أو محظوراً، بل لازم حبّ الله حبّ ما سواه. وإنما المذموم هو حب الدنيا الذي يكون في عرض حبّ الله.

في هذه الرؤية يكون حبّ الخلق والتعاطف مع الخلق ناشئاً من حبّ الله. إن العشق والحبّ العرفاني لا يتعلق بالخلق مباشرة، كما أنه ليس في عرض حبّ الله أو بديلاً عن حبّ الله. وفي القرآن الكريم لا يكون حبّ غير الله - الواقع في عرض حبّ الله أو بديلاً له - مقبولاً ، بل هو مرفوض، وذلك حيث يقول الله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله» .(1)

إن حبّ غير الله الذي يمثل منافساً لحبّ الله هو الذي يعرف ب- حبّ الدنيا. يرى القرآن الكريم أن الأولاد والأزواج نعم إلهية، وإن الإنسان مسؤول عن الزوجة وعن الذرية، ويجب عليه أن يتكفل برعايتهم وصيانتهم والمحافظة عليهم، ولكنه مع ذلك يجب أن لا يكون حبه لهم في عرض حبّ الله، أو أن يقدم إرادتهم على إرادة الله، إذ لو حصل ذلك فإنه سيكون سبباً لعذابه وخسرانه ومن هنا يجب الحذر من ذلك، وفي هذا الخصوص نجد الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم: «وَاعْلَمُوا أَنمَّا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» .(2)وفي الحقيقة فإن حبّ الدنيا ليس خالداً، ولن ينفع العبد شيئاً في الدار الباقية، قال تعالى: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».(3)

إن العشق الحقيقي عبارة عن تفان وتضحية. وإن الأموال والأزواج والأولاد نعم إلهية يجب أن نشكر الله عليها، بيد أنه إذا كان نوع الرؤية إلى هذه النعم ينطوي على شرك فإنها سوف تتحول إلى نقم، وتحوّل الهبات إلى عذاب واللطف إلى عنف، والهدايا إلى بلايا. إن الغاية من الهدية هي تمتين العلاقة بين المهدي والمهدى إليه. وعليه يجب أن تؤدي الهدية إلى أن يذكر العبد خالقه أكثر ، لا أن يتعلق بالهدية وينسى المُهدي.

ص: 375


1- البقرة: 165
2- الأنفال : 28.
3- الممتحنة .3

إن الأولاد والأموال وغيرهما من المواهب والنعم إذا أدت إلى الغفلة وحالت دون تواصل العلاقة بين الإنسان وخالقه، فإنها سوف تتحوّل إلى نقم، وفي ذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».(1)

ذكرنا أن أساس النزوع إلى الأخلاق يكمن في الحبّ الناشئ من معرفة الله. إن هذه الحبّ يمثل واحداً من روافد المعرفة الأخلاقية أيضاً، إلا أن للمعرفة الأخلاقية روافد أخرى يجب البحث عنها في موضع آخر. وسوف نكتفي هنا بالقول: إن أصول وكليات القيم الأخلاقية وإن كانت فطرية وبديهية، ليس لها من مصدر سوى الدين فقط، فهو وحده الذي يستطيع بيان وإيضاح تفصيلاتها وجزئياتها، ويرفع اختلاف الآراء فيها. ومن هنا فإن الأخلاق المنشودة هي الأخلاق الدينية التي يعمل العقل على تحديد حدودها من خلال الاستعانة بالوحي والعارف يرجع إلى الدين للحصول على المعرفة التفصيلية بوظائفه الأخلاقية.

إن الأخلاق العرفانية هي الأخلاق الدينية المتعالية. وإن العرفان الديني يمنح الأخلاق صبغة إلهية ومعنوية. وإن العارف يرى الطرف الأصلي في الأخلاق هو الله دون الخلق. وحتى عندما يقدّم خدمة متفانية وخالصة إلى الخلق، تكون غايته تحصيل مرضاة الله. ومع ارتقاء الدافع إلى العمل تصبح الأخلاق روحية ومتعالية. وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق الدينية والعرفانية لا تنافي ولا تعارض الأخلاق العرفية، وإنما هي تصحيح وتعميق وتكميل لها.

إن القول بأن الله مصدر القيم لا يتنافى مع الحُسن والقبح الذاتيين، بل هو ملازم لها . إن الله يتصف بالصفات الفاضلة الحقيقية، ويتنزّه عن الصفات القبيحة الواقعية. إن إرادته وأمره ونهيه تتطابق مع المصالح والمفاسد في واقع الأمر. ومن هنا فإن هذه النظرية لا صلة لها بالأشعرية، ولا ربط لها بنظرية الأمر الإلهي، حيث لا تقول بالحُسن والقبح الذاتي والمصالح والمفاسد في واقع الأمر ووراء الأمر والنهي الإلهي.

ص: 376


1- المنافقون: 9.

ومن هنا يمكن لنا أن نستنتج أن الأخلاق الدينية والعرفانية حيث تمتد بجذورها في الواقية، لا تكون وضعية أو نسبية. إن أصول القيم الأخلاقية كلية وثابتة وخالدة، رغم مرونتها في مقام التطبيق وتأقلمها مع الظروف. إن القيم ليست تابعة للمصالح العابرة، وإنما تمتد بجذورها في أعماق الوجود، ومنبثقة من مصدر إلهي، وتتجه نحو الغاية النهائية للخلق والكمال الحقيقي للإنسان.

وحيث يكون أساس الأخلاق هو حب الخير والجمال والكمال الحقيقي، يرتفع التعارض والتضاد بين المصالح. فما يكون صلاح وخير لكل فرد يكون صلاحاً وخيراً للجميع، أو هو الذي لا يتعارض - في الحد الأدنى - مع صلاح وخير الآخرين. إن الخير الفردي والخير الجماعي سوف لا يتعارضان ولا يتزاحمان، بل سيكونان في ضمن إطار واحد. إن الأخلاق سوف تحظى بقيمة ذاتية، ولكن لا لأجل المصالح المادية فقط؛ فالأسمى من المصالح المادية هو الكمال الإنساني التابع للأخلاق، سواء كان ناظراً أو محاسباً أو لم يكن كذلك

وعلى هذا الأساس لا يكون هناك تناف أو تعارض بين العرفان والأخلاق، بل ستكون الأخلاق جزءاً ضرورياً ومقوّماً للعرفان ولازماً ذاتياً له. إن الأخلاق العرفانية هي أخلاق حبّ. وإن العشق والحبّ يمثل حلقة الوصل بين المعرفة والعمل ، وإن العشق الناتج من المعرفة سينتج العمل. إن جذور شجرة الحب هي المعرفة ، وأغصانها الطاعة ، وثمارها الكمال والفلاح.

النتيجة

1 - إن العرفان لا ينسجم مع الأخلاق فحسب، بل إن الأخلاق جزء ضروري من أجزاء العرفان أيضاً. إن الأخلاق بمعزل عن العرفان ممكنة وقائمة، ولكنها ناقصة، وأما العرفان بمعزل عن الأخلاق فهو مستحيل. وإن الذي أدى إلى سوء الفهم وعدم التناغم هو الانحراف في العرفان وعدم فهم أو إساءة فهم التعاليم العرفانية، وليست حقيقة العرفان

ص: 377

2 - رغم حقيقة أن الله سبحانه وتعالى فوق الممكنات وأن العارف - من خلال ارتباطه واتصاله بالحق - يسعى إلى الانقطاع عن الدنيا، بيد أن تجاوز القيم الأخلاقية الملازمة للكمال الوجودي لا يمكن تصوّره، بل إن الأخلاق في العرفان تكتسب صبغة إلهية وتحصل على التعالي. وبعبارة أخرى إن العرفان ليس أسمى من الأخلاق، إنما العرفان يعبر عن الأخلاق الأسمى.

3 - إن حبّ الله المنبثق عن إدراك الله - طبقاً للرؤية العرفانية - منشأ للقيم الأخلاقية، ومن بينها حبّ الآخرين. إن المتعلق الحقيقي والأصيل هو حبّ الله، أما ثانياً وبالعرض فالعشق والحبّ يتعلق بالخلق . إن حبّ الحقيقة الإلهية المطلقة يمثل أساساً لعبادته، كما يمثل حبّ الخلق أساساً لخدمتهم إن هذا العشق والحبّ وما يليه من العبادة والخدمة يمهد الأرضية للكمال الإنساني. وبذلك يحصل هناك تناغم بين حبّ الذات والإيمان بالله والأخلاق، ويسير حب الذات والأنا وحب الآخرين والإيثار وتحصيل النفع والقيم جنباً إلى جنب في مسار واحد.

ص: 378

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - نهج البلاغة 1418ه-، تحقيق: صبحي الصالح، قم، هجرت .

3 - ابن سينا حسین بن عبد الله 1381 ه- ش الإشارات والتنبيهات، قم، بوستان کتاب .

1 - الأحسائي ابن أبي جمهور ، 1405ه-، عوالي اللآلئ العزيزية، قم، دار سيد الشهداء.

5 - استيس، والتر ،ترنس 1375 ه-، عرفان و فلسفه ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهاء الدين خرمشاهي طهران، سروش .

6 - الصدوق، محمد بن علي، 1367 ه- ش الأمالي، طهران، كتابجي.

7 - الطوسي، جعفر، 1376 ه- ش، تهذيب الأحكام، قم، دار الكتب الإسلامية.

8 - فنائي إشكوري، محمد، 1390ه- ش فلسفه عرفان عملي، فصلية علمية - بژوهشي إسراء، العدد: 9 خريف عام ؟، ص 107 - 134.

9 - فنائي إشكوري ، محمد، 1391ه- ش، شاخصه هاي عرفان ناب شيعي قم بوستان کتاب .

10 - القمي، الشيخ عباس، 1363 ه- ش، سفينة البحار، طهران، بلا اسم.

11 - القمي، الشيخ عباس 1384 ه- ش، مفاتیح الجنان، قم، آل أحمد.

12 - الكفعمي، إبراهيم، 1484 ه- البلد الأمين، بيروت، الأعلمي.

13 - مصباح الشريعة، 1400 ه-، المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، بيروت، الأعلمي.

14 -Danto, Arthur, 1976, "Ethical Theory and Mystical Experience: A Response to

Professors Proudfoot and Wainwrigt", Journal of Religious Ethics 4, Spring, p. 37 - 46.

ص: 379

15 - Horne, James R. 1983, The Moral Mystic, Waterloo: Wilfrid Laurier University Press.

16 - Nibuhr, Reinhold, 1956, “Intellectual Autobiography”, In Reinhold Niebuhr, His Religious, Social and Political Thought, Eds. C. W. Kegley, and R. W. Bretall New York, NY: Macmillan.

17 - Proudfoot, Wayne, 1976, "Mysticism, the Numinous, and the Moral", in Journal of Religious Ethics 4, 1, 328.

18 - Stace, Walter T., 1961, Mysticism and Philosophy, London: Macmillan Co.

19 - Tillich, Paul, 1957, Dynamics of Faith, New York, NY: Harper Row.

ص: 380

الصورة

ص: 381

المجلد 3

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

نحن وتراثنا الاخلاقي

الجزء الثالث

تحریر

أ.د.عامر عبدزيد الوائلي

2018م

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

هوية الكتاب

الوائلي، عامر عبد زيد

نحن وتراثنا الأخلاقي / تحرير أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

الطبعة الأولى، كربلاء، العراق، العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1439ه، 2018م.

ISBN: 9789922604107 (set)

3 مجلد، 24 سم.

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

1- الأخلاق الإسلامية، 2- الأخلاق - فلسفة . ألف . العنوان

BJ1291 .W35 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

المحور الخامس

الاخلاق في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر

الفلسفة الأخلاقية عند محمد اقبال ... 8

د. رائد جبار كاظم

الأخلاق عند مرتضى المطهري ونقده للنظريات الأخلاقية الغربية ... 36

انتصار سلمان سعد الزهيري

الفكر الأخلاقي عند محمد باقر الصدر... 85

رائد جبار كاظم

الأخلاق الوضعية ( الاجتماعية ) عند علي الوردي ... 126

قيس ناصر راهي

أخلاق المثاليّة المُعدَّلة عند توفيق الطويل ... 148

غيضان السيد علي

الدرس الأخلاقي في مشروع طه عبد الرحمن المقاصدي ...171

محمد شهيد

نقد قيم الحوار مقاربة للمنهج النقدي عند طه عبد الرحمن ...981

طارق الفاطمى

اخلاقية الحب دراسة في النظرية الاخلاقية عند العلامة الطباطبائي ... 206

محمد عبد المهدي سلمان الحلو

النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية ... 722

علي شيراوني

ص: 4

المحور السادس

المشاريع الغربية

نسيان التخلق.. القيم الغربية وإشكالية الدلالة ... 246

شريف الدين بن دوبه

علم الأخلاق الوسطى عند أرسطو ... 274

مصطفى النشار

الأخلاق في تاسوعات أفلوطين «تحليل لمفاهيم الاخلاقية» ... 297

جملى حليل نعمة المعله

المذاهب الأخلاقية للحداثة ... 329

عبد الحميد يوسف

في المتاهة الكانطية : محاولة في نقد القانون الأخلاقي الكانطي ... 341

إدريس هاني

اشكالية الحرية في فلسفة كانط ... 873

زيد عباس الكبيسي

الأخلاق الذاتية الكانطية والخدمة الإلهية ... 423

هادي قبيسي

الالتزام الأخلاقي مباحثة برغسون مع كانط ... 434

مونيك كاستيلو

المشروع الأخلاقي الغربي مقاربة نقدية ... 451

عامر عبد زيد الوائلي

ص: 5

مناقشة لأطروحات ( جيمس ستيريا ) الأخلاقية ... 471

مازن المطوري

أخلاقيات ما بعد الحداثة ... 194

محمود حيدر

جدلية السعادة والقلق في ظل التقنية بين مارتن هيدجر واولريش بيك ... 529

علاء كاظم الربيعي

ص: 6

المحور الخامس

الاخلاق في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر

ص: 7

الفلسفة الأخلاقية عند محمد اقبال

اشارة

د. رائد جبار کاظم(1)

المقدمة

كثيرة هي الكتابات والدراسات العربية والاسلامية والأجنبية التي تناولت فكر وفلسفة وأدب المفكر الاسلامي محمد اقبال من، زاوية الاصلاح والسياسة والتجديد وفلسفة الدين وعلم الكلام، ولكن ليست هنالك دراسة مستقلة وموسعة تتناول الفكر الأخلاقي أو فلسفة الأخلاق في فكر محمد اقبال، رغم أن فكره أخلاقي بامتياز، ويتضح ذلك جلياً فيما كتب من كتابات ودوواين شعرية كثيرة تحمل الطابع الاصلاحي والتربوي والأخلاقي والنهضوي بالمجتمع الاسلامي، وصدح اقبال و صدع في مواضع كثيرة داعياً الإنسان المسلم لأن يصلح فكره وواقعه وأخلاقه وبناء ذاته بناءاً سليماً وفق ما جاء به الاسلام ونبيه الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم)و ودستوره القويم (القرآن الكريم)، ففيه الصلاح والنجاح والفلاح في الدارين، وقد قدم اقبال فلسفة ومشروعاً كاملاً في هذا المجال (اصلاح الأخلاق)، على مستوى الفرد والمجتمع، من خلال فلسفة الذات (خودي) ، التي كانت جوهر فكره وأساس فلسفته والشغل الشاغل لأدبه

ص: 8


1- الجامعة المستنصرية - كلية الآداب - قسم الفلسفة : يؤكد الباحث ان الأفكار الاصلاحية عند محمد اقبال، كانت تهدف الى التغيير والاصلاح وتحقيق النهضة على مستوى الفرد والمجتمع ، واصلاح الأخلاق من خلال فلسفته الأرتقاء بالإنسان والمجتمع المسلم، ومحاولة التركيز على المحتوى الداخلي للانسان وأصلاح جوهره وتنقية النفس من كثير من الأمراض التي تفتك بالإنسان أخلاقياً، في مواجهة الجهل والمرض والتخلف، الجهل بالعلوم العملية فان الإسلام الحي الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور. إن أمتياز فلسفة اقبال بأنها فلسفة أخلاقية مميزة، منسجمة تماماً مع الفكر الاسلامي، وهذا يتضح جلياً في فلسفته وكتاباته ومحاضراته وأشعاره الفلسفية والاجتماعية والاصلاحية. المحرر

وشعره، وقد صاغها من مصادر فكرية ومعرفية وثقافية عدة، هندية واسلامية وغربية، ولكن هدفها الأساس يحمل طابع الأصلاح والبناء والتصحيح والتجديد والنهضة بالأمة الاسلامية والأخذ بيدها نحو الكمال والنجاح والتقدم بين الشعوب والأمم، والهم الاسلامي كان الشغل الشاغل لفكر محمد اقبال

لقد سعى اقبال الى اقامة فلسفته الأخلاقية على دعامة الدين والعقل، والايمان القلبي والمعرفة العقلية، وهذا ما يذكرنا بفلاسفة الاسلام وبالمتصوفة والعرفاء ممن وفقوا بين الفلسفة والدين، لأقامة فلسفة أخلاقية تمزج بين الجانبين، مع التأكيد على الجانب المهم للروح والبعد المعنوي لبناء شخصية الانسان، وتحقيق التوازن المادي والروحي، الجسدي والنفسي، الفردي والاجتماعي، الأيماني القلبي والعقلي، وقد توسع اقبال في شرح فلسفته وتوضيحها في كتاباته ودواوينه الشعرية ومحاضراته الفكرية والثقافية.

أدرك اقبال أن الاسلام يمثل ثورة روحية وفكرية على كل الأفكار والعقائد الزائفة التي كانت منتشرة في مجتمع الجزيرة العربية والمنطقة آنذاك، وقد حمل النبي محمد(ص) مشعل التغيير والتنوير والاصلاح والتجديد في بنية وواقع ذلك المجتمع الجاهلي المتهرى والمتخلف، الذي فيه من العادات والتقاليد البالية ما يشمئز منها وجدان الانسان، من خلال التجاوز على كرامة الإنسان وحقوقه، واستغلال قوة الرجل في عشيرته وكثرة أمواله وتجارته وولده ليستغل الناس ويستعبدهم في تحقيق مصلحته وزيادة ثرواته وجاهه، ليكون شريفاً قوياً مهاباً في مجتمعه، وهذا الحال شاهده اقبال بعينه في المجتمع الهندي، حيث وجود طبقة الأشراف والأغنياء وطبقة الفقراء والكادحين وما يقع من ظلم وحيف من قبل الطبقة الأولى على الطبقة الثانية، ولذلك لابد من الثورة على الظلم والظالمين وتحقيق العدل والمساواة والرحمة بين الناس.

في بحثنا هذا نسعى لمحاولة الكشف وبيان فلسفة اقبال الاخلاقية التي صاغها من خلال مشروعه الفكري والفلسفي الاسلامي، من خلال كتاباته وقصائده

ص: 9

الشعرية ومحاضراته وخطبه التي كان لها الدور الكبير في تحقيق الثورة والاصلاح على الواقع الفاسد وارشاد الناس نحو الطريق القويم، ومحاولة كشف الزائف من السليم من الأفكار والعادات والتقاليد والاخلاق داخل المجتمع الاسلامي، ومحاربة الدعوات الصوفية الفاسدة التي تدعو الناس للكسل والانحلال والخضوع والذل والزهد في الحياة، وهذه دعوات كاذبة تقف ورائها أجندات خارجية وداخلية هدفها انحلال المجتمع وسباته ليغط بنوم عميق من أجل نهبه واستغلاله وإماتة طاقاته، والبديل لذلك الحال في نظر اقبال هو تحقيق أخلاق السمو والرفعة والقوة والجهاد والمواجهة، لمحاربة الخصم ودحض فلسفته الزائفة، من خلال التربية والعمل والحركة والأخذ برسالة الاسلام الحركية وما جاء به القرآن الكريم من أخلاق الفضيلة والعمل ومحاربة الجمود والتقليد الأعمى.

فلسفة الذات عند اقبال فلسفة لاصلاح الأخلاق

الفلسفات والأفكار الاصلاحية التي انتشرت في العالمين العربي والاسلامي كانت تهدف الى التغيير والاصلاح وتحقيق النهضة على مستوى الفرد والمجتمع، واصلاح الأخلاق كان أحد الأمور المهمة التي سعى لها جمع من المصلحين والمفكرين، ومن أجل ذلك قدموا مشاريع فكرية وثقافية اصلاحية، تهدف الى انتشال الإنسان العربي والمسلم من حاله المأساوي ومحاولة استعادة دوره وبناء ذاته وحثه على فلسفة العمل ومقاومة الضعف والكسل والانحلال، وكانت لكتابات محمد اقبال الشعرية والنثرية، وخطبه السياسية صدى قوي في أرجاء الهند، وملأت حكمه الآفاق، وقد عُرف بحركته الإصلاحية التجديدية النهضوية التي تدعو إلى مواكبة حركة التقدم والازدهار في الميادين كافة، مع الالتزام بالشريعة الإسلامية السمحاء. فالإسلام في

نظر مفکريه، دين حركي يدعو إلى التطور والاجتهاد وليس ديناً سكونياً منغلقاً(1).

ولعل سائلا يسأل: ماهي دوافع اقبال لاختيار فلسفته (فلسفة الذات)؟ وهل كانت من واقعه ومحيطه أم كانت منطلقة فلسفة مثالية لا تمت الى واقع بصلة؟ وما هو

ص: 10


1- ينظر: محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. نقله للعربية عباس محمود. دار آسیا. 1985. ص 168 وما بعدها.

السائد من الافكار والافعال والسلوك في محيطه آنذاك؟ لقد رأى اقبال الكثير من يثير علامات التعجب والاستفهام في واقعه، فقد رأى اقبال(1):

1- الجهل والمرض والتخلف الجهل بالعلوم العملية وبأساليب المدنية والتنظيم الاجتماعي. والإسلام الحي الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور صار عنواناً للذلة والفقر والضياع في نظر المسلمين المتزمتين، والفهم الخاطئ للإسلام من قبل المسلمين.

2- فساد العقيدة وتحول التوحيد الإسلامي إلى وثنية مستترة وراء عبادة الأهواء والحكام والأصنام البشرية، ولهذا يقول إقبال: إن الأصنام ما زال المسلمون يعبدونها حتى اليوم، وإن ادعوا الإيمان بالله، وإن لهذه الأصنام صوراً عدة وألواناً شتى.

3- الزهد في الحياة وانتشار الرهبنة بانتشار الروح الجبرية والتواكلية، وهناك التصوف العجمي السلبي. كما يقول إقبال الذي أبعد الناس عن العمل، فاستسلموا للأقدار، وقالوا ماذا نعمل أمام قضاء الله وقدره. أنثور ونتمرد على سُنن الله وإرادته؟ فكل شيء آت منه ولا مرد لقضائه، ولكن إقبال رأى أن هذا التواكل أنسى المسلمين إن لهم إرادة مضمونها الحرية والاختيار لا الجبر والقهر ، وأن الإنسان مخير وليس مسيراً.

4- إقبال الشباب المسلم على الحضارة الغربية، مبهورين بمفاتنها ومباهجها البراقة الزائفة إذ لم يجدوا في واقعهم سوى المرض والتخلف والرجعية، فأقبلوا على حضارة الغرب من دون نقد أو تمحيص، واعتقدوا أن كل ما يأتي به الغرب هو الدواء الشافي المعافي لأمراضهم ، مما جعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم، وأصبحوا مقلدين ومتبعين لا يعرفون أي معنى للإبداع والإنشاء بعد ما كانوا هم المبدعين المنسيين. فالإسلام ليس مجرد غذاء روحي للإنسان فحسب كما يظن بعضهم، بل يمثل أيضاً حاجة يومية وعملية للحياة أجمع..

ص: 11


1- ينظر : محمد الكتاني. الإسلام والتطور في ضوء فلسفة محمد إقبال. مجلة الثقافة (السورية) كانون الثاني. دمشق. 1979. ص 4.

5- أن المسلمين ليسوا كما كانوا سابقاً يتحملون المصاعب والمشاق من أجل الوصول إلى الأهداف والغايات السامية، فهم اليوم ينشدون السكون والدعة ولو عاشوا في أكناف العبودية وخمول الذكر، وإقبال يرى أن السعادة والنجاح لا تأتي إلا بعد شقاء وعناء وألم، ومن طلب العُلا سهر الليالي.

لقد رأى إقبال كل ذلك أمام عينيه، مما دعاه إلى وضع العلاج الناجع والدواء الشافي وتحسين واقعه السيئ كي ينهض بالأمة الإسلامية نحو الجد والاجتهاد والعمل المتواصل، لأنه من دون عمل وسعي جاد لا تكون هناك ثمرات، والعمل أساس فلسفة الذات عند إقبال(1).

ولا بد للناس من أن يعودوا لرشدهم ووعيهم عن طريق ذواتهم لأنها مصدر الحركة والعمل ومصدر النور والحياة ومركز الإنسانية ومدار الخلود. يجب أن يرجع الإنسان إلى ذاته، فيعرف ما يضعفها فيتركه، وما يقويها فيعمله وينفي عنها الخوف والجبن، وعليه أن يتخطى العقبات في سبيل الحياة، وهي المادة، ولكن المادة فی نظر إقبال ليست شراً كما يقول حكماء الإشراق بل هي تعين الذات على الرقي، فإن قوى الذات الخفية تتجلى فى مصادمة هذه العقبات(2).

وهكذا آمن إقبال بالإنسان ووجوده أشد الإيمان فذات الإنسان في نظر إقبال هی أصل الكون، وإهمال الذات وعدم الشعور بها وعدم وعيها الوعي التام هو الجهل والبلاء المؤدي إلى خراب العالم. وكان إقبال يرى إن ذلك لا يكون ألا من خلال فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتدبر آياته ومعرفة أوامره ونواهيه، فيقول: إن (العالم اليوم أصبح مفتقراً إلى تجديد بسيولوجي والدين الذي هو في أسمى مظاهره ليس عقيدة فحسب أو كهنوتاً أو شعيرة من الشعائر، هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعداداً خُلقياً يؤهّله لتحمل التبعة العظمى التي لابد من أن يتمخص عنها تقدم العلم الحديث، وأن يرد إليه تلك النزعة من الأيمان، التي تجعله قادراً على

ص: 12


1- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز. تر: د. عبد الوهاب عزام. دار المعارف. مصر . 1956. ص 13-14 ود. طه عبد الرحمن. سؤال الأخلاق، ط1، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء المغرب. 2000 م. ص 198-199.
2- محمد إقبال . ديوان الأسرار والرموز . ص 17.

الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بها في دار البقاء)(1). ويقول إقبال إن الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور(2).

1- تأويل الكون تأويلاً روحياً.

2- تحرير روح الفرد.

3- وضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي.

لقد توهم بعض الفلاسفة والمتصوفه بأن المثل الأعلى للإنسان هو في سلب الذات وأماتتها وإذلالها حتى تؤهل للفناء في ذات الله ، وأصحاب وحدة الوجود - فی نظر إقبال - يرون أن مقصد حياة الإنسان أن يفني نفسه في الحياة المطلقة أو (أنا) المطلق، كما تفنى القطرة في البحر(3).

ويرى إقبال أن أصل هذه الأفكار ومصدرها هو التصوف العجمي (التصوف السلبي) كما يسميه، الذي يدعو إلى إماتة الذات وليس إحياءها، وعكس هذا التصوف، التصوف الإسلامي (التصوف الايجابي) الذي يُحي (خودي) الذات، ويبلغ بها إلى أعلى المقامات(4).

يقول إقبال: (إن التصوف العجمي الذي شاع بين المسلمين أخذ من رهبانية كل أمة، وجهد أن يجذب إليه: كل نحلة، حتى القرمطية التي قصدت إلى التحلل من الأحكام الشرعية)(5).

ويقول أيضاً: (كما أن أمم الشرق المتفلسفة تميل إلى أن تعدّ (أنا) أي الذات، في

ص: 13


1- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 217.
2- محمد اقبال . المصدر نفسه، ص 207.
3- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 16 . ومحمد إقبال. ديوان جاويد نامة- رسالة الخلود تر: د. محمد السعيد جمال الدين. مطابع سجل العرب. القاهرة. 1974، ص17.
4- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ب - ت . ص 62.
5- محمد إقبال . ديوان الأسرار والرموز . ص 11.

الإنسان من خداع الخيال. وتعد الخلاص من هذا الغُل نجاة... واختلطت في عقول الهنادك وقلوبهم، النظريات والعمليات اختلاطاً عجيباً ودقق حكمائهم في حقيقة العمل، وانتبهوا إلى نتيجة مفادها: أن حياة (أنا) الذات أصل المصائب والآلام)(1).

كُل هذه السلبيات دعت إقبال إلى توخي الحذر من هذه الفلسفات، والعمل على إيجاد فلسفة جديدة نابعة من الدين الإسلامي، تؤدي إلى كمال الإنسان والإنسانية و خلودهما، وهذا لا ينال إلا بالعمل، وفلسفة الذات هي الفلسفة الجديدة التي جاء بها إقبال، معارضاً ورافضاً بها كل الفلسفات السلبية، السكونية الجامدة(2).

وتعني هذه الفلسفة أن الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي، وحيثما تجلت الحياة تجلت في شخص أو فرد أو شيء، والخالق كذلك فرد، ولكنه فرد لا مثيل له(3).

ويرى إقبال أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي هو في إثبات ذاته وليس نفيها، وعلى قدر تحقيق انفراده أو وحدته يقرب من هذا الهدف.

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(تخلقوا بأخلاق الله) فبقدر اتصالنا بالله تعالى، وبقدر تخلقنا بأخلاقه وتشبهنا به سبحانه، ننال السمو والكمال ويصير الواحد منا فرداً بغير مثيل، كما أن الخالق فردُ لا مثيل له، وليس هذا القرب - كما يقول إقبال - هو أن يُفني الإنسان وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الإشراق، بل هو على عكس هذا يمثل الخالق في نفسه.

ويرى إقبال أن الحياة رقي مستمر ونشاط متجدد، تُسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها، وحقيقتها أن تخلق مطالب ومثلاً جديدة. وقد خُلق من أجل اتساعها وترقيها وقهر العقبات والمشقات، الحواس الخمس والعقل(4).

ص: 14


1- المصدر نفسه، ص: 13.
2- عصام الدين حواس. ثورة الأخلاق. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكتاب العربي. القاهرة. ب . ت . ص 168 .
3- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 16.
4- عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ص 56.

وليست المادة والطبيعة شراً، بل هي تعين الذات (خودي) على الكفاح والجهاد، وتتجلى قوى الذات الخفية في مصادمة هذه العقبات(1).

وتبلغ الذات منزلة الاختيار بهذا الجهاد والعمل المتواصل الذي فيه ديمومة الذات وخلودها لا في الاسترخاء فالذات - كما يقول إقبال - فيها اختيار وجبر، وتنال الحرية الكاملة إذا قاربت الذات الآلهية المطلقة، والحياة جهاد لتحصيل الاختيار، ومقصد الذات أن تبلغ الاختيار بجهادها(2).

والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتمتع بالحرية والمسؤولية تجاه ما يفعل، قال تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنهُ كان ظلوماً جهولاً(3)*. ويفسر إقبال هذه المسؤولية والأمانة بأنها تشكيل الإنسان لمصيره بمحض إرادته(4).

وفي ذات الإنسان قوة خلاقه وحيوية تدفع بالإنسان نحو الكمال وهي قوة العشق التي تحول القطرة إلى درة، يقول إقبال للإنسان (أخرج النغمة التي في قرار فطرتك. يا غافلاً عن نفسك. أخلها من نغمات غيرك(5).

فلسفة الذات (خودي) فلسفة الشخصانية الاسلامية

لعل سألا يسأل ماذا يقصد إقبال بكلمة (خودي )؟ ولماذا استخدم هذا المصطلح الفارسي من دون غيره من المصطلحات؟ وما هو معنى هذا اللفظ في اللغة الفارسية ؟(6).

ص: 15


1- أحمد حيدر . إعادة أنتاج الهوية. ط1، دار الحصاد. دمشق.1997. ص166.
2- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 16-17.
3- سورة الأحزاب الآية 72.
4- محمد الكتاني. محمد إقبال مفكراً إسلامياً. ط1، دار الثقافة. الدار البيضاء. المغرب. 1978، ص80.
5- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ص7.
6- رجعنا إلى معاجم وقواميس اللغة الفارسية لنتعرف على معنى كلمة (خودي) فوجدنا أن مصدرها هو (خود) وهو ضمير بعنوان الضمير المشترك للمتكلم والمخاطب والشخص الغائب. ويعني به النفس والذات للشخص. حسن عميد. فرهنك عميد . قاموس فارسي فارسي مطبعة سبهر1342شمسي - 1963م. ص 548. وكلمة (خودي) تدل بالعربية على معنى ( معرفة . أنانية. وجود). محمد التونجي. المعجم الذهبي (قاموس فرهنك طلائي) فارسي - عربي. ط1، دار العلم للملايين بيروت. 1969م. ص 246.

لم يكن من السهل على إقبال أن يتخذ لفظاً أو مصطلحاً لفلسفته في الذات بصورة بسيطة، وكان اختياره للفظة (خودي) اختياراً شاقاً ، وقد تعرض للنقد الشديد من قبل المثقفين لاختياره هذه الكلمة التي تعني لدى عامة الناس الأنانية والفردية ولكن إقبال لم يقصد بها هذا المعنى الشائع.

ويرى إقبال في سبب اختياره لكلمة (خودي) في بناء فلسفته كان بالغ الصعوبة ولم يصل اليها الا بعد جهد شديد. فمن وجهة النظر الأدبية فيها عدد من المثالب ونواحي النقص، ومن الناحية الأخلاقية تُستعمل عادة في كل من الفارسية والأردو الكلمات الأخرى للحقيقة الغيبية لكلمة (أنا) فكلها بمعنى سيء. كذلك الحال مع على نفس الدرجة من السوء، ومثل أنا، شخص، نفس . وكلمة (مين) على نفس القدر ذلك وحرصاً على متطلبات الشعر، فقد الفيت أن من السوء. ومع كلمة (خودي) أكثرها مناسبة(1).

ولم يقصد إقبال بكلمة (خودي) المعنى العام المعروف لدى الجميع (الفردية والأنانية والأثرة) وإنما يعني بها الإحساس بالنفس أو تعيين الذات،(2)ومن الناحية الأخلاقية يقصد بها الاعتماد على الذات، واحترام الذات، والثقة بالذات، والحفاظ عليها وتأكيد وجودها.

وإقبال يعني ب- (خودي) أيضاً (الشخص والشخصانية) وهذا ما ارتآه محمد عزيز الحبابي في كتابه (الشخصانية الإسلامية) ونحن نتفق معه في هذا الرأي(3).

ونرى أن السبب الرئيسي في اختلاف الباحثين والدارسين بشأن أهی فلسفة إقبال، فلسفة الذات أم فلسفة الأنا أم الفلسفة الشخصانية، يرجع إلى صعوبات النقل

ص: 16


1- ينظر: محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 14-15 و د. أحمد معوض. العلاقة محمد إقبال. حياته وآثاره. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1980، ص330.
2- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 15.
3- يقول الحبابي (أن كلمة شخص في نظرنا أقرب إلى الصواب من الذاتية. ألسنا نرى أن لفظ «شخص» ينحصر في الدلالة على الإنسان، في حين أن كلمة (ذات) يشترك فيها الإنسان والحيوان بل حتى الأشياء، نقول الرجل «ذاته» والحصان «ذاته» والورقة «ذاتها»)الشخصانية الإسلامية. ط2، دار المعارف. القاهرة. ب.ت. ص 21-22.

والترجمة من لغة إلى أخرى(1). وهذا ما أكده مجموعة من الباحثين أيضاً(2). كما أن مصطلح الذات بحد ذاته يعد من المشكلات الفلسفية(3). إذ إن أصحاب المعاجم والقواميس الفلسفية اختلفوا في تعريفها.

إن هدف إقبال في بناء فلسفته هو في إثبات الذات وتحقيق وجودها وتحصينها، لكي تبلغ أعلى المنازل وتصل إلى درجة الكمال متمثلة بمرتبة (الإنسان الكامل)، وليس بإماتتها وأفناها في الذات الآلهية. فقد رفض إقبال هذا الرأي الذي جاء به أصحاب وحدة الوجود من اتباع محي الدين بن عربي (ت 638 ه) وسبينوزا (ت 1677م) وهيجل (ت 1831م )(4).

ويرى إقبال بأن على أمم الشرق والأمة الإسلامية أن تنهض إلى العمل، لأن الإسلام يرى أن خلود (أنا) الذات في العمل(5). وعلى أمم الشرق أن تفهم أسرار الحياة، وأن تنظر إلى أمم الغرب التي امتازت بين الأمم بالعمل.

وتأكيد إقبال على العمل نابع من تأكيد الدين الإسلامي له. قال تعالى «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»(6).

وقال تعالى «وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك»(7).

ص: 17


1- يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859-1941م) لو أن قصيدة من الشعر تُرجمت إلى جميع اللغات الممكنة، فجميع تلك الترجمات مهما نبذل فيها من محاولات لحسن السبك والصياغة، ومهما نزد عليها من محسنات وتنقيحات لكي تعطي صورة تزداد أقتراباً من القصيدة فما هي بمعطية أبداً المعنى الباطن للأصل الذي نُقلت عنه. هنري برجسون. الفكر والواقع المتحرك. فصل المدخل إلى الميتافيزيقا. ت: سامي الدروبي. طبعة الأوابد. ب.ت. ص 177-178.
2- ينظر : د. عبد العزيز المقالح. إقبال ومعركة التحديث والتواصل. مجلة دراسات يمنية. العدد. 54. صنعاء. 1418- 1997. ص.9. والمقالح أيضاً. نماذج من شعر إقبال. مجلة دراسات يمنية. العدد 58. صنعاء. 1419ه- - 1998 م. ص12.
3- ينظر: أحمد حيدر. نحو حضارة جديدة. ط 1 ، مطبعة الإنشاء 1969. ص214.
4- الموسوعة العربية الميسرة. المجلد الأول. أشراف محمد شفيق غربال. دار نهضة لبنان. بيروت. 1980م.ص 183-184.
5- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 13-14.
6- سورة التوبة. الآية 105.
7- سورة القصص. الآية 77.

ولا بد من أن يقوم هذا العمل على تقوية الذات التي هي مركز الكون، فيقول إقبال في ديوانه (أسرار الذات) عن الذات(1):

هيكل الأكوان من آثارها كل ما تُبصر من أسرارها

نفسها قد أيقظت حتى انجلى - عالم الأفكار ما بين الملا

ألف كون مختف في ذاتها -غيرها يُثبت من اثباتها

ونظرة إقبال هذه في تأكيد الذات وجعلها أصل الكون، وبوجودها توجد الأشياء، قريبة من نظرة الفلسفة المثالية الذاتية، التي تؤكد أولوية الذات وأنها مصدر الوجود والمعرفة، ولولاها لما عرفت الأشياء.

ويقول إقبال مؤكداً ما قلناه (ولما كانت حياة العالم من قوة الذات. فإنما تكون الحياة بقدر استحكام هذه الذات وصلابتها )(2).

فدعوة إقبال هذه ترشدنا وتحثنا الى معرفة النفس معرفة دقيقة وصحيحة، فألف باء السلوك الحسن والأخلاق العملية هو أن تعرف نفسك بنفسك، فتعرف مواضع النقص لتكملها، وأن تعرف حسناتها فتنميها، وسيئاتها فتقلع عنها، فمعرفة النفس مبدأ كل علم وفضيلة، ومعرفة النفس مفتاح معرفة الله الحق المبين(3).

ويدعونا الدين والعلم والفلسفة إلى معرفة النفس، قال تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنهُ الحق »(4).

وكانت حكمة سقراط التي يرددها على الدوام تلك الحكمة الخالدة «اعرف نفسك بنفسك».

ص: 18


1- محمد إقبال. المصدر السابق. ص 13.
2- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 13-14.
3- منصور رجب علي. تأملات في فلسفة الأخلاق . ط3، مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة. 1961، ص 9-8.
4- سورة فصلت. الآية 83 .

وأن تلك الدعوة لمعرفة النفس التي أهتم بها إقبال في فلسفة الذات إنما هي بالأصل دعوة لسمو الأخلاق، وبناء الشخصية الإسلامية الصحيحة كي نصل إلى مرحلة الإنسان الكامل الذي يرتفع من الحيوانية الدنيا إلى الإنسانية العليا)(1). ولا يستطيع الإنسان بلوغ درجة الكمال واستحكام الذات عند إقبال - إلا بتوليد وخلق المقاصد، فإن حياة الذات عنده إنما تكون بهذه المقاصد، إذ يقول : إن بقاء الحياة أنما يكون بالأهداف، وجرس قافلتها إنما هو من المقاصد. فالحياة كامنة في البحث. وأصلها خاف في الأمل فاحفظ الأمل في قلبك حياً نابضاً، حتى لا تستحيل حفنة ترابك مزاراً، وتكون حياتك موتاً)(2).

ويدعو إقبال، الإنسان إلى أن يكون قوياً، لأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ويقول عن القوة (عندما أقول (كن قوياً كالماس) فلا أعني ما يعنيه نيتشه في الصلابة أو قسوة الفؤاد أو انعدام الرحمة، وإنما أعني تكامل عناصر قوة الذات بحيث يمكنها أن تسد الطريق على قوى التدمير بوسائلها تجاه الخلود الذاتي)(3).

والذات تضعف وتقوى وكل ما يقويها هو خير وكل ما يضعفها هو شر، وليست هناك أعمال تورث اللذة وأعمال تورث الألم . بل هناك أعمال تكتب للنفس البقاء أو تكتب لها الفناء، ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء - كما يقول إقبال - هو احترامي للنفس في وفي غيري من الناس(4).

- مراحل تربية الذات عند اقبال

لعل سائلا يسأل ما الغاية التي كان ينشدها إقبال من فلسفته في إثبات الذات؟ لقد أراد إقبال أن يصل إلى حقيقة عالية وغاية عظمى من إثبات الذات ألا وهي الوصول إلى درجة الإنسان الكامل، هذا الإنسان ذو الشخصية القوية، والطاقات الخلاقة المبدعة.

ص: 19


1- د. ماهر كامل. وعبد المجيد عبد الرحيم . مبادئ الأخلاق. ط1، مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة. 1958، ص4.
2- أحمد معوض. العلامة أحمد إقبال. ص 343.
3- المصدر نفسه، ص.332.
4- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. 137.

ولعل سائلا آخر يسأل كيف يتسنى لنا الوصول إلى هذا المقام السامي وبأي وسيلة نبلغه ؟

يكون ذلك بنظر اقبال بالتربية الإسلامية الصحيحة، وبالمراحل التي حددها في فلسفته، إذ يقول اقبال في مقاله الذي بعثه إلى الأستاذ المستشرق الأنكليزي نیکلسون : أشرت في فصول هذا المثنوي لأسرار خودي، إلى أصول فلسفة الأخلاق الإسلامية، وبينت أن لكمال الذات ثلاث مراحل(1):

1- إطاعة القانون الإلهي.

2- ضبط النفس.

3- النيابة الإلهية.

1- إطاعة القانون الإلهي:

يوجه إقبال حديثه للإنسان ويدعوه إلى طاعة الله تعالى التي هي أول مراحل تربية الذات. وإنما تكون الطاعة بالانقياد للأوامر الإلهية ونواهيها. وعلى المؤمن أن يعلم أن كل ما أتى به الله تبارك وتعالى، إنما هو لمصلحة البشر والإنسانية أجمع.

ومن واجب العبد، المملوك، المخلوق، إطاعة السيد، المالك، الخالق الذي يُريد صلاحه في الدنيا والآخرة. ومهما كانت شدة هذه الواجبات فأنها لصلاح الإنسان، ولا يحمّل الله، الإنسان ما لا طاقة له به ، قال تعالى «من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها»(2).

ويضرب إقبال مثلاً عن الإنسان المطيع، ويشبهه بالجمل الذي يسير بأثقاله صابراً محتملاً، ولا يحسب ذلك ألماً بل هو لذة، ويقول إن الطاعة تجعل في الجبر الاختبار، ويكون الإنسان حراً عندما يُقيد نفسه بالشريعة، يقول إقبال(3):

ص: 20


1- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز ص 19.
2- سورة فصلت. الآية 46.
3- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 38-37.

ألفة الكد شعار الجمل *** شيمة الصبر وقار الجمل

صامت الاخفاق يمشي ماضياً *** زورقاً في البيد يسري هادياً

فاحمل الفرض قوياً لا تهب *** وأرجون من عنده حسن المآب

أجهدن في طاعة يا ذا الخسار *** فمن الجبر سيبدو الاختيار

ولاشك في أن طاعة الله تبعث في النفس النور والقوة وتغمرها حيوية وطاقة لا توصف.

وأن المجتمع الذي يتمسك أفراده بطاعة الله تعالى والعمل في حدود شرائعه وأحكامه سيكون مجتمعاً عادلاً متفاهماً يعيش في ظل المودة والسلام، ويدعو الإسلام إلى بناء المجتمع الفاضل الذي تسود فيه القيم الأخلاقية التي تضبط سلوك الإنسان وتبقيه في إطار إنسانيته(1).

2- ضبط النفس:

المرحلة الثانية بعد طاعة الله تعالى، هي ضبط النفس الإنسانية، وردعها عن كل ما حرمه الله، فالنفس لها نوازع وأغراض وتحتدم فيها مشاعر ومطالب وتعتمل فيها شهوات ورغبات، فلو سارت وراء هواها لألقيت في التهلكة، لهذا فمن الضروري ضبط النفس وكبح جماح شهواتها ونوازعها الشريرة، بالرياضة الروحية وممارسة السلوك الحسن وتهذيب الأخلاق(2). يقول إقبال بخصوص ضبط النفس مشبهاً إياها بالجمل(3):

جمل نفسک تربو بالعلف *** فی اباء وعناد وصلف

فکن الحر وقدها بزمام *** تبلغن من ضبطها أعلی مقام

ص: 21


1- د. محسن عبد الحميد. منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام. مطبعة الزمان. بغداد. 1986. ص107.
2- د. نجيب الكيلاني. إقبال الشاعر الثائر. الدار العلمية. ط2. 1391-1971. ص 63.
3- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص39.

من تمسك بعصا من «لا اله» *** فلتحطم طلسم الخوف يداه

كل من بالحق أحيا نفسه *** لا ترى الباطل يحني رأسه

وخير سبيل لضبط النفس عند اقبال هو في الحفاظ على الفرائض الدينية، فالصلاة درة التوحيد، والحج الأصغر لقلب المسلم وهي تعبر عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف(1). والصوم وأن كان فيه جوع وعطش إلا أنه خير ضابط للجسد. والحج على أنه هجرة عن الأهل والوطن، فهو نور لقلب المؤمن والزكاة وأن كان فيها أنفاق المال، إلا أنها درس في التعاون والمساواة ومحبة الآخرين(2). قال الله تعالى «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»(3).

ويُعد ميدان ضبط النفس وتربيتها من أصعب الميادين، وليس لكل إنسان القدرة على ذلك، إلا بالطاعة والصبر ولأيمان بقيمة الأهداف والمقاصد ، وما تتركه العقيدة الإسلامية من دور تنموي وبناءي على الذات الإنسانية.

3- النيابة الألهية (الخلافة):

إذا تمكن الإنسان بطاقاته التي وهبها له الله تعالى من طاعة المولى وضبط النفس، فقد صار إنساناً بمعنى الكلمة، بحيث أنه أصبح سيد نفسه وليس عبداً لها، فهو الذي يقودها وليس هي . فعندئذ يبلغ الإنسان المرحلة الثالثة وهيالنيابة الآلهية (الخلافة) ويصير الإنسان مدلول الآية القرآنية الكريمة «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»(4).

وهذه المنزلة أسمى منازل العارفين الذين يتخلقون بأخلاق الله والذين «يحبهم ويحبونه»(5). والذين «لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(6). ويصف إقبال هذا

ص: 22


1- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 107.
2- د. أحمد معوض . العلامة محمد إقبال. ص 352 353.
3- سورة آل عمران. الآية 92.
4- سورة البقرة. الآية 30.
5- سورة المائدة. الآية 54.
6- سورة الأنبياء. الآية 27.

الإنسان الكامل المتعالي على هواه وشهواته بقوله :(1)

نائب الحق على الأرض سعيد *** حكمه في الكون خلد لا يبيد

هو بالجزء وبالكل خبير *** وبأمر الله في الأرض أمير

هو في الناس بشير ونذير ***وهو جندي وراع وأمير

ويصف إقبال (الإنسان الكامل) أيضاً في ديوانه (جاويد نامة) رسالة الخلود ويقول فيه : بأنه (هو كليم وهو مسيح وهو خليل، وهو محمد، هو الكتاب، هو جبريل، ففيه تنعكس صفات الأنبياء جميعاً، ولكنه ليس بنبي. (هو شمس كائنات أهل القلوب، من شعاعه حياة أهل القلوب) فأولياء الله يتلقون منه الفيوضات الروحانية)(2).

ورأى بعض الباحثين أن إقبالا تأثر بفلاسفة الإسلام (بفكرة الإنسان الكامل) ومنهم الحلاج وجلال الدين الرومي وعبد الكريم الجيلي والشيخ أحمد السرهندي وغيرهم(3). وبفلاسفة الغرب أيضاً ومثلهم جوته وفخته ونيتشه و برجسون(4).

قوة الذات في مقاومتها، وضعفها في تكاسلها

فيما سبق ذكرنا أن إقبال يهدف إلى تقوية الذات وتحصينها، وقال إن كل ما يقوي الذات هو خير، وكل ما يضعفها فهو شر، في الدين والفن والأخلاق. فما يقوي الذات عند اقبال مجموعة أمور التي منها :

1- الحب والعشق: تُستحكم الذات بالمحبة والعشق، ويحذر إقبال من أن يُفهم من هذين المفهومين بأنهما يعنيان جلب السرور الفردي، وإنما يمثلان قوة روحية حيوية خلاقة تدفع الفرد لأن يُحيي الحياة.

ص: 23


1- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 41.
2- محمد إقبال. ديوان جاويد نامة (رسالة الخلود) ترجمه عن الفارسية نثراً د. محمد السعيد جمال الدين. مطابع سجل العرب. القاهرة. 1974.. ص 335.
3- د. أحمد معوض . العلامة محمد إقبال. ص 400.
4- ينظر : ميلود خلف الله. النزعة التجديدية عند محمد إقبال . رسالة ماجستير . جامعة بغداد - كلية العلوم الإسلامية. قسم أصول الدين. 1420-2000. ص 121-122 .

وكثيراً ما كتب إقبال عن دور الحب والعشق شعراً ونثراً، والعشق كما يصفه أبو النحر الهندي (هو الشيء الذي يقوي الذات وينميها، ويدفعها إلى الكمال الخالد. والعشق ومعناه جذبك الشيء أو طلبك إياه لتجعله جزءاً من نفسك، وأسمى صور هذا العشق وأعلاها وأفخمها هو توليد المقاصد والآمال(1).

فالعشق والمحبة يمثلان شحنة وطاقة روحية للذات، تدفعها نحو الأمام، ونحو العلو والارتقاء، ولولا العشق لما بقيت الحياة.

2- الفقر : لقد أكثر إقبال من ذكر كلمة الفقر في كتاباته، وعدَّها صفة من صفات الإنسان المؤمن، ولا يقصد بها المعنى الدارج المعروف وهو عدم امتلاك المال وقلته (الفقر المادي) وإنما يقصد بها الترفع عن مكافت هذا الع-الم، وخلاص النفس من قيد التملك والطمع.

وهذا المعنى شبيه بتعريف المتصوفة للفقر، في قصيدة له عنوانها (فقر الصالحين) يقول إقبال :(2)

يا عبيد الماء والطين اسمعوا *** ما هو الفقر الغني الأرفع

هو عرفان طريق العارفين *** وارتواء القلب من عين اليقين

ذلك الفقر عزيز في غناه *** هامة الجوزاء من أدنى خطاه

3- الشجاعة : ليست البطولة الجسدية تجاه الأشياء هي الشجاعة فحسب، وإنما تكون الشجاعة روحية ومعنوية أيضا، فقد يكون الإنسان شجاعاً بقوته الجسدية ولكنه ضعيف معنوياً. فلا بد للمؤمن الحقيقي من أن يقوي ذاته بالشجاعتين لأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، كما قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في المجالات كافة.

ص: 24


1- د. حميد مجيد هدو. إقبال الشاعر والفيلسوف والإنسان. ط 1 مطبعة الغري الحديثة. النجف الأشرف. 1383 ه- 1963. ص 159. ود. نجيب الكيلاني. إقبال الشاعر الثائر . ص 56.
2- محمد إقبال . ديوان والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق. ترجمه نشراً محمود أحمد غازي. وشعراً الصاوي على شعلان. ط ، 1 دار الفكر . دمشق . 1408 ه- . 1988م. ص 72.

والشجاع عند إقبال هو الذي يناضل من أجل الحياة ويسعى إلى مرتبة الكمال، إذ يقول :(1)

أقو يا مؤمن بالله القوي تحكمن في ذلك البكر الأبي فبالصبر والقوة وخوض الصعاب يعلو من سفل، وبالضعف والجبن يدنو من علا وإن كان الجبل(2).

4- النشاط الخلاق: كان إقبال يبث في الناس روح القوة والعشق والسعي الجاد من أجل بناء الذات والحياة، فالدنيا وإن هي ليست بدار القرار ولكنها مزرعة الآخرة والجسر الموصل إليها . فحدَّر إقبال الناس من تواكلهم وعدم سعيهم الجاد لكسب الرزق الحلال، فيقول للإنسان: (لا تبغ رزقك من نعمة غيرك، ولا تستجد ماءً ولو من عين الشمس، واستعن الله وجاهد الأيام، ولا تُرق ماء وجه الملة البيضاء. طوبى لمن يحتمل الضُّر من الحرور والظمأ ، ولا يسأل الخضر كأساً من ماء الحياة)(3). يقول إقبال في ديوانه (بيام مشرق)(4):

ونفسك فاشحذن في كل آن *** وعش أمضى من السيف اليماني

ففي الأخطار للهمم أختبار *** لأرواح وأجساد عيار

هذا فيما يقوي الذات وينميها ويربيها من عوامل فاعلة تحقق له النجاح والتفوق في حياته وتجاوز الازمات والمصاعب والمحن. أما فيما يخص العوامل والامور التي تضعف الذات فيرى اقبال انها تتمثل في:

1- الخوف: يُعد عامل الخوف من العوامل القوية المضعفة للنفس (الذات) التي تذهب بهيبتها وكرامتها، فأكد علماء النفس أن معظم حالات الاختلال العقلي التي تصيب البشر أصلها الخوف، وهو بعكس عامل الشجاعة والقوة الخلاقة، ويصف

ص: 25


1- محمد إقبال . ديوان أسرار الذات . ص 40.
2- ينظر : المصدر نفسه، ص38.
3- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ص 78.
4- محمد إقبال . ديوان بیام مشرق . ص 60.

إقبال الخوف قائلاً :(1)

إن الخوف من أي شيء سوى الله أمر يدعو للسخرية.

فهو لص في قافلة الحياة.

ومن أدرك سر المصطفى.

يرى الكفر مختفياً في الخوف.

2- التسول: لا يفهم من هذه الكلمة المعنى المعروف لدى العامة، وإنما يقصد به إقبال كل ما ينال بغير جهد شخصي، فالذي يرث مال غيره يُعد في نظر إقبال سائلاً، والذي يتبع أفكار غيره أو يدعيها لنفسه سائل أيضاً.(2)ويحذر إقبال المسلم المؤمن من هذه الرذيلة فيقول(3):

أيها الجابي من الأسد الخراج *** صرت كالثعلب خباً باحتياج

ذلك الأعواز أصل العلل *** كل آلامك من ذا المعضل

وعن الرحل ترجل كعمر *** أحذرن من منة الناس الحذر

3- العبودية : الاستسلام للآخرين، وإخضاع النفس لهم، وطلب الحوائج من غير أهلها، هي العبودية، ولا عبودية إلا لله الواحد الأحد. ولإقبال في العبودية منظومة بعنوان (بندكي نامة) رسالة العبودية، يقول فيها(4).

إن القلب يموت في الجسد بالعبودية، وتستحيل الروح عبئاً على الجسد بالعبودية. وبالعبودية يحل ضعف الشيخوخة في الشباب، وبالعبودية تسقط الأنياب من أسد الغاب.

وبالعبودية يتفرق محفل الأمة فرداً فرداً، ويكون هذا وذاك في صراع مع هذا وذاك .

ص: 26


1- مهدي حمود الفلوجي. إقبال شاعراً ومفكراً. مجموعة من الكلمات والخطب والمحاضرات التي ألقيت بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد محمد إقبال. بغداد. 1977. ص 81.
2- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص.19.
3- المصدر نفسه، ص 23.
4- محمد إقبال. رسالة العبودية . تر: د. أحمد معوض. ضمن كتاب العلامة محمد إقبال. ص404.

4- إنكار الذات: سعى بعض الأشخاص إلى ممارسة الطرائق الصوفية العتيقة ووسائلها البالية، كالتقشف المفرط، وحرمان النفس من أبسط متطلباتها، وإذلالها، وفقدها عزتها كي تصل إلى مرحلة الفناء في ذات الله كما يدعون، فرفض إقبال هذا اللون من هذه الممارسات والطقوس، لأنها في نظره من اختراع الأمم المغلوبة التي خدعت الأمم الغالبة عن نفسها وزينت لها نفي الذات.

ويضرب إقبال مثلاً لنا على ذلك، أن هناك قطيعاً من الغنم هاجمته الأسود وتسلطت عليه، ففكر كبش في أمر جماعته، فأتته فكرة هي في أن يضعف قوة الأسود وسلطانها، فادعى أنه نبي مرسل للأسود، ويصوّر إقبال هذا الحدث في قوله(1):

قد سمعنا أن في عصر قديم *** جمع ضأن كان في مرعى يُقيم

وفرت نسلاً بذا المرعى الخصيب *** فارغات البال من ليث وذيب

دهمتها الأسد من آجامها *** ناشرات الذعر في أيامها

آية القوة حكم قاهر *** سرها الظاهر فتح ظافر

وانبری کبش ذكي ذو عمر *** جرب الأحداث من حلو ومُرّ

فادعى في القوم دعوى ملهم *** مرسل للأسد شراب الدم

إنما القوة خسران مبين *** خصت الجنة بالمستضعفين

ويصل اقبال الى غاية فلسفته وهدفها الأساس فيقول عن نفي الذات: (وعندما لم أشجب نفي الذات، فلا أعني نفي الذات بالمعنى الأخلاقي، لأن نفي الذات بالمعنى الأخلاقي مصدر لقوة الذات، لكني بنفي الذات أدين تلك الأنماط السلوكية التي تؤدي إلى القضاء على الأنا كقوة غيبية، لأن ذلك يعني تحلل الأنا وعدم قدرتها على الاستمرار الأبدي الذاتي)(2).

ص: 27


1- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 28-27.
2- أحمد معوض . العلامة محمد إقبال. ص 332.

إذن فدعوة إقبال هي دعوة أخلاقية، تربوية، عملية، تدعو الإنسان إلى بناء شخصيته (ذاته) وتنظيم سلوكه، فنظريته هي نظرية في بناء السلوك الفردي السليم المؤدي إلى سلامة المجتمع والجماعة معاً.

المجتمع بيخودي بوصفه مكملاً للذات وأخلاق الجماعة

بعد أن سعى إقبال في فلسفة الذات، إلى بناء الإنسان بناءً عالياً، وأقام له شخصية صلبة، ومنزلة، متمثلة بالإنسان الكامل، ينتقل إلى القسم الثاني من فلسفته، وهو اللاذات (بيخودي) المجتمع، ليتمم بناء فلسفته بناءً تاماً. فهذا القسم يُعد ضرورة مكملة للقسم الأول، فالفرد لا يستطيع العيش بمفرده بمعزل عن الآخرين.

فإقبال وإن آمن أشد وأعمق الإيمان بذات الإنسان. إلا أنه لم يهمل دور المجتمع وأثره في هذا البناء. فالمحيط له دور كبير في تربية الإنسان وبنائه - وهذا ما أكده في ديوانه (رموز بيخودي) رموز نفي الذات الذي يُعد الجزء المتمم للديوان الأول (أسرار خودي) أسرار إثبات الذات.

تُعد مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع من المسائل التي اهتم بدراستها علما النفس والاجتماع. ولا سيما علم الاجتماع الذي يدرس السلوك الجمعي (الاجتماعي)، الإنساني للأفراد، وتأكيد أهمية التفاعل الإنساني الذي يُعبر عن سلوك الإنسان في علاقته بإنسان آخر(1).

يقسم الباحثون بشأن مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع إلى فريقين: فريق يدعو أو يناصر الفردية، ويرى أن لا علاقة للفرد بالمجتمع. وفريق آخر يعطي الأولوية للمجتمع ويعد الفرد نتاجاً للمجتمع(2).

ولكن لدى كلا الفريقين نصف الحقيقة، لأن الحياة لا تقوم إلا بالتوفيق بين الفرد

ص: 28


1- د. محمد عاطف غيث. علم الاجتماع . ج 1 دار المعرفة الجامعية. 1990. ص 113.
2- ينظر: د. محمد عاطف غيث. المصدر نفسه، ص 200-201. ود. سيد أبراهيم الجيار. التوجيه الفلسفي والاجتماعي للتربية. مكتبة غريب. القاهرة. 1977. ص 79.

والمجتمع، لأن حاجة الفرد إلى المجتمع ليعيش، وحاجة المجتمع إلى الفرد ليستمر في الوجود.

وهذا ما ذهب إليه إقبال في القسم الثاني من فلسفته (نفي الذات)، فإنه وإن جعل الفرد مركز الحياة إلا أنه لم يهمل دور المجتمع في تربية وترقية وبناء الذات (الفرد) لأن الإنسان كائن اجتماعي ثقافي يعيش في مجتمع، وهو لذلك يجد نفسه مرتبطاً بعلاقات متعددة مع الآخرين أو كما يقول محمد عزيز الحبابي. (الشخص واقع يتمتع باستقلال ذاتي وباستقلال ترابطي، لأن (الأنا) في الإسلام - معشري)(1).

إن الذوات (الأفراد) وإن تباينت فيما بينها، إلا أن الترابط بينهم يكون عن طريق الألفة والمحبة التي تقوم بين (الأنا) و (الغير) كما يقول الفلاسفة المعاصرون أو بين (المؤمنين). كما عبر الرسول الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم)في قوله (والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا، حتى تحابوا)(2).

ويؤكد إقبال في كتاباته أهمية الجماعة (الأمة) للفرد ولا سيما في ديوانه رموز نفي الذات الذي عرض فيه هذه المسألة فيقول :(3)

رحمة للفرد حجر الأمة *** کامل جوهره في الملة

فالزمن الجمع جهد المستطاع *** في ذرا الأحرار كن مثل الشعاع

وأحفظن ما قاله خير البشر *** كل شيطان من الجمع نفر

فردنا مرآته أُمته *** وكذا مرآتها صورته

ويرى إقبال أن المسلم الملتزم بالشريعة هو الوحدة التي يقوم عليها رقي الجماعة الإسلامية. وأن ارتقاء الجماعة لا يكون إلا بارتقاء الأفراد، ويقول في ديوانه (بانك

ص: 29


1- محمد عزيز الحبابي. الشخصانية الأسلامية. ط2،دار المعارف. القاهرة. ب. ت. ص 28.
2- د. عثمان أمين. الجوانية أصول عقيدة وفلسفة ثورة. دار القلم. 1964. ص 114-115. وينظر : د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) الشخصية الأسلامية. ط3، دار العلم للملايين. بيروت. 1980، ص 185.
3- محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات: ترد. عبد الوهاب عزا.م ص 81.

درا) أي صلصلة الجرس : (إن وجود الفرد قائم بارتباطه بالملة أما وهو منفرد فليس هو بشيء. فمثله كمثل الموج، يكون في البحر، أما في خارج البحر فلا وجود له)(1).

فالفرد عند إقبال وإن كان مستقلاً بشخصيته وذاته، إلا أنه غير منفصل عن المجتمع . فأنا وأنت - في نظر إقبال - لبنه مميزة في بناء الوجود الكبير، وكل لبنه تتعاون مع أختها من أجل بناء الفرد والمجتمع، وبقوة وكمال تربية الفرد لذاته واستحكامها تقوى الأمة وبعدل ونظام الأمة يقوى الفرد ويسمو بذاته فوق السماء، وجوهر فلسفة إقبال أن غاية الجماعة سعادة الفرد وأن الفرد. لا يفنى من أجل الجماعة(2).

ويقول إقبال عن أهمية الجماعة : (وإنها لحقيقة سيكولوجية أن الاجتماع ينمي قوى الإدراك عند الرجل العادي، ويعمق شعوره، ويحرك إرادته إلى درجة لا يعرفها في عزلته ووحدته)(3).

وغايته هي إنشاء الفرد الفاضل في ظل المجتمع الفاضل الذي لا يتكون إلا بجهود الصالحين والخيرين، الذين يسعون إلى نشر الخير والفضيلة، ويحاربون الشر والفساد والرذيلة.

ويصف إقبال هذه الأمة المثالية بقوله : (إنها تعلو فوق الأمم لأنها أمة نيطت بها الإمامة في الدنيا والآخرة، فهي لا تني عن مواصلة أمور الخلق، لأن النوم والتعب محرمان عليها)(4).

وعلى الأمة الإسلامية أن تسعى إلى الطاعة والتربية، ولا بد لها من أن تعرف هدفها والمقصد الذي تبغيه، فالأمة الغافلة عن المقاصد، جاهلة، حتى يبعث الله تعالى إليها هادياً يخرجها من الظلمات إلى النور.

ص: 30


1- محمد إقبال. ديوان بانك درا. صلصلة الجرس. ص.190. نقلاً عن د. أحمد معوض. العلامة محمد إقبال. ص 360 .
2- محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات. هامش ص 84.
3- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 107.
4- نجيب الكيلاني. إقبال الشاعر الثائر. ص 67.

يجذب الإنسان شطر المقصد *** جاعل الشرع زماماً في اليدِ

نكتة التوحيد يوحيها إليه *** أدب الطاعة يمليه عليه

وتنتعش الأمة بمجيء الهادي، فيمدها بالعدل والإحسان والطاعة والانضباط، ويوقظها من سباتها العميق ويحرر الناس من عبادة الأوثان والبشر، ويعيدهم للقانون والسنن:

ويفكّ العبد من أغلاله *** ويجير القن من أقياله

قائلاً أن لست عبداً فاعلم *** أترى قدرك دون الصنم

ویرى اقبال أن هناك مجموعة من الأركان المهمة التي على الأمة الإسلامية أن تلتزم بها وتمثل جوهر عقيدتها وحيوتها وهذه الأركان الاساسية تتمثل في:

1- التوحيد:

هو جوهر العقيدة، ليس إلا رفضاً لعبودية البشر في مختلف ضروبها وأشكالها، وهذا تحرير للإنسانية من مهانة الرق والاستعباد(1).

والتوحيد هو روح الدين الإسلامي والديانات السماوية الأخرى. وهو الإكسير الذي يُحيل التراب ذهباً والسر الذي يتجلى منه الدين والشرع والحكمة والقوة والسلطان. وهو الدواء الذي يميت الخوف والشك ويُحيي العمل والأمل(2). ويرى إقبال أن سر نجاح المسلمين يكمن في إيمانهم العميق بمبدأ وركن التوحيد الذي هو أساس وحدة الدين والمسلمين(3). وأنه السبيل الوحيد لاستئصال العلل الخبيثة التي تعوق تقدمنا وتسد علينا مسالك الحياة وتعطلها. ويُعين إقبال هذه العلل وهي اليأس والحزن والخوف. ويعدّها من أمهات الخبائث(4)، وعلاج هذه الخبائث هو التوحيد:

ص: 31


1- د. بنت الشاطئ. الشخصية الإسلامية. ص184.
2- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته و شعره. ص 96.
3- ينظر: محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص169.
4- ينظر : محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات. ص 89.

ويخاطب إقبال المسلم مذكراً إياه بحقيقة التوحيد وتأثيره في صياغة روحه وكيانه الذي هو أساس الفرد والدين، يقول في قصيدة (جواب شكوى):(1)

أعد من مشرق التوحيد نوراً *** يتم به اتحاد العالمينا

وأنتَ العطر في روض المعالي *** فكيف تعيش محتبساً دفينا

وأنتَ نسيمه فاحمل شذاه *** ولا تحمل غبار الخاملينا

2- الرسالة:

هي الركن الثاني للأمة الإسلامية، ورسالة الإسلام قائمة منذ بعث الرحمن، خليله إبراهيم(علیه السّلام)أبو الأنبياء ودليلهم إلى الطريق، ومنذ أوحى الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والقائمين والركع السجود، توالت الرسالات الآلهية، حتى خُتمت برسالة الإسلام، الرسالة المحمدية، وأعلن الرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أن (لا نبي بعد)(2). ودور الرسالة عظيم، فيها تجمع أشتات الأفراد، وتنتظم الأمة، فيوحد كثرتها، وتحكم ألفتها، ولولا الرسالة لما كان هناك مجتمع صالح، لأن الرسالة للأفراد وللأمة كالروح للجسد، فيقول إقبال(3):

بالرسالات بدا تكويننا *** شرعنا منها، ومنها ديننا

وإن مقصد الرسالة المحمدية، المساواة والأخوة والحرية، فقد كان الإنسان قبل ذلك عبداً للملوك والقسيسين من النصارى والمجوس والبراهمة حتى بعث الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)فأعطى كل ذي حقٍ حقه، وحرر الناس من أغلال الذل والعبودية، وأخرجهم من ذل معصية الله إلى عز طاعته. وفي ذلك يقول اقبال:(4)

ص: 32


1- محمد حسن الأعظمي والصاوي علي شعلان. فلسفة إقبال والثقافة الإسلامية في الهند وباكستان. ط2، دار الفكر. دمشق. 1935-1975. ص 103.
2- د. أحمد معوض. العلامة محمد إقبال. ص 367.
3- محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات. ص95.
4- المصدر نفسه، ص 98.

عزمه هد قديمات الصور *** وبني حصناً جديداً للبشر

بثّ روحاً أحيت الموتى بها *** وافتدى الأعبد من أربابها

مولد مات به العصر القديم *** وبيوت النار والوثن حطيم

ورسالة الأمة الإسلامية ليس لها نهاية زمانية ومكانية إذ إنها رسالة لكل زمان ومكان، إنها خالدة، يقول إقبال(1):

قلبنا الخفاق يابى موطنا *** ريحُه العاصف تأبى مسكنا

ليس من روم و هند قلبنا *** ما سوى الإسلام فيه أرضنا

والإنسان على وفق هذا النظام وهذه العقيدة سيبلغ أعلى مستويات الرقي والإبداع والسمو الروحي والأخلاقي والفكري.

ويوصي إقبال المسلمين بالتوجه نحو مركزهم الكعبة المشرفة، لأن في ذلك قوة للفرد والمجتمع، فيقول: (فلو أنكم - أيها المسلمون - ركزتم جهودكم وأنظاركم ووليتم وجوهكم شطر كعبة الإسلام وجعلتموه رائدكم وقائدكم واقتبستم مشاعركم واتجاهاتكم من عناصره التي تصب القوة والحياة لتجمعت قواكم المتفرقة وتوحدت مواهبكم المنتشرة من جديد ولوضعتم لوجودكم التأمين والضمان الوثيق ضد عوامل الدمار والهلاك)(2).

ويكون توسيع حياة الأمة بتسخير قوى العالم، فكلما سخّر المؤمن العالم المحسوس لنفسه أدى به ذلك إلى معرفة أكبر لعالم الغيب .

ويرى إقبال أن اختيار قبلة واحدة للمسلمين أريد به أن يكفل وحدة الشعور للجماعة(3).

ص: 33


1- المصدر نفسه. ص 102.
2- محمد حسن الأعظمي والصاوي علي شعلان. فلسفة إقبال. ص 41.وكلام إقبال هذا مأخوذ من خطبته التي ألقاها في الرابطة الإسلامية بمدينة الله آباد بالهند. في 29/ كانون الأول .1930م.
3- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 108 .

وذهب بعض الباحثين إلى القول أن إقبال أراد بذلك أن يضمن تحقيق التضامن والوحدة الإسلامية، التي لا تكون إلا بالانطلاق من الذات نحو الآخرين، وهذا لا يكون إلا بالتغير الايجابي(1).

الخاتمة

محمد اقبال مفکر مسلم سعى من خلال فلسفته الأرتقاء بالإنسان والمجتمع المسلم، ومحاولة التركيز على المحتوى الداخلي للانسان وأصلاح جوهره وتنقية النفس من كثير من الأمراض التي تفتك بالإنسان أخلاقياً، ومن خلال بحثنا هذا الذي سعى الى متابعة الفكر الاخلاقي وفلسفة الاخلاق عند محمد اقبال خلصنا بالنتائج الآتية:

1- امتياز فلسفة اقبال بأنها فلسفة أخلاقية مميزة، منسجمة تماماً مع الفكر الاسلامي، وهذا يتضح جلياً في فلسفته وكتاباته ومحاضراته وأشعاره الفلسفية والاجتماعية والاصلاحية.

2- كانت فلسفة اقبال (فلسفة (الذات) فلسفة أخلاقية تربوية، تهدف الى تطهير المجتمع الاسلامي من الأخلاقيات الزائفة، أخلاق الخرفات والدجل والشعوذة، وقيام أخلاقيات هادفة، أخلاق العمل والتواصل والحركة والتطور.

3- قيام فلسفة الأخلاق عند اقبال على أسس دينية وفلسفية، فهو في هذا الشأن توفيقي يذكرنا بفلاسفة الاسلام التوفيقين الذين وفقوا بين الفلسفة والدين والحكمة والشريعة.

4- للمجتمع الدور الكبير في صياغة أخلاق الفرد والجماعة، والعلاقة بين الإنسان والمجتمع علاقة جدلية، علاقة تأثر وتأثير، وأحدهما يترك أثره على الآخر.

5- من أجل تحقيق سمو ورفعة وتكامل الإنسان لابد من سيره على أسس أخلاقية

ص: 34


1- د. فهمي جدعان أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط3، دار الشرق. عمانالأردن. 1988 - ص 423 .

وتربوية دينية مهمة، وأن يتخذ من أصول عقيدته الاسلامية طاقة روحية جوهرية ترفعه نحو مقامات علوية سامية.

6- محاولة اقبال محاربة ومواجهة التصوف السلبي، التصوف الطرقي، الذي يدعو الى فناء النفس وإماتتها وأذلالها، وبيان قيمة التصوف الأيجابي، الذي يزرع في النفس الطاقة والأمل والغنى والتكامل، من خلال المحبة والعشق والعمل، وهذا بدوره ما يعزز من قيمة الأخلاق في نفس الإنسان المسلم.

ص: 35

الأخلاق عند مرتضى المطهري ونقده للنظريات الأخلاقية الغربية

اشارة

د انتصار سلمان سعد الزهيري(1)

المقدمة:

إن للأخلاق موقعا محوريا في أسس التفكير الفلسفي، وقد شكلت ركنا مهما من أركان الفلسفة إلى جانب المباحث الأخرى، كنظرية الوجود والمعرفة فضلاً عن مبحث القيم الذي يدخل ضمنها فلسفة الأخلاق، وتكمن أهميتها لما تعرضه من مفاهيم أخلاقية تحتفظ بحيويتها على مر الزمان، ولقرب هذه المفاهيم واتصالها بالإنسان، فالفضيلة والسعادة والخير والشر والضمير والإلزام الأخلاقي كل هذه المفاهيم الأخلاقية كثيرا ما شغلت اهتمام الإنسان وأرهقت تفكيره، ولهذا كان جديرا بالإنسان العاقل الذي جبل على حب الخير الذي يستدعيه تفكيره وبمثالية عالية أن يسعى في الاقتراب من المنظومات الأخلاقية التي من خلالها يتم تحقيق سعادة الإنسان، ولهذا سعى المفكرون إلى الاقتراب من هذه المنظومات الأخلاقية لما

ص: 36


1- مدرسة فلسفة الأخلاق جامعة الكوفة كلية الاداب: تؤكد الباحثة إن رأي المطهري يتفق مع الفلاسفة الإسلاميين : في إعطاء العقل الأهمية الكبرى في الفعل الأخلاقي وقدرته الكبيرة في التميز بين الخير والشر، اذ ان غاية المطهري واضحة وهي ما للعبادة من تأثير على الجانب الروحي والأخلاقي والاجتماعي والتربوي عند الإنسان وخاصة ونحن على يقين ما تعنيه العبادة في الإسلام، فلها دور مهم في تربية وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع الإسلامي، فهي تحمل في طياتها أهدافا أخلاقية سامية منها تنظيم حياة المجتمع وقيادة أفراده نحو التربية الصالحة لأنها تعد المحور المنظم لتكوين حياة المجتمع على وفق أسس إسلامية وتقوية أواصر إفراده وإشاعة روح التلاحم فالإنسان يفعل الخير و يدعو له وينهى عن الشر ويتجنبه من هنا نعطي للعبادة الدور المهم للإنسان. المحرر

فيها من خير وإصلاح في إعلاء شأن الإنسان نحو الخلق السامي وتحقيق سعادته خاصة وقد عصف الفكر الإنساني بفلسفات أخلاقية غربية كالفلسفة المادية الماركسية ، والوجودية، والوضعية المنطقية، هذه الفلسفات منها ما جاء بمفاهيم أخلاقية خاوية لا تحقق سعادة الإنسان ومنها من رأى أن القيم الأخلاقية ما هي إلا أفكار فارغة ليس لها من المبادئ والقيم أي اعتبار وهذا أدى إلى ضياع الإنسان وانهيار أخلاقه، وفي مقابل هذه الاتجاهات الغربية انبرت فلسفة أخلاقية إسلامية معاصرة عرضت موضوعات ومفاهيم أخلاقية بروح الإسلام وأصالته وان تقف بوجه هذه الفلسفات الغربية، ومن هذه الفلسفات الأخلاقية الإسلامية ظهرت منظومة المطهري الأخلاقية الإسلامية، والمطهري من الشخصيات الإسلامية المعاصرة التي أسهمت في إثراء المعرفة الفكرية في الساحة الإسلامية المعاصرة وكان صاحب منظومة فكرية متكاملة شملت مختلف العلوم الفكرية الفلسفية والاجتماعية والسياسية والفقهية فضلا عن المنظومة الأخلاقية.

المبحث الأول، الفعل الأخلاقي عند المطهري ومميزاته

أولاً - الفعل وأنواعه.

يقصد بالفعل هو ((العمل ، والهيئة العارضة المؤثرة في غيره بسبب التأثير، ويطلق الفعل في علم الأخلاق على التأثير الصادر عن الموجود العاقل من جهة كونه متعلقاً بغرض، مثل فعل الشجاع فهو فعل إرادي ولا يشترط في هذا الفعل أن يكون مصحوباً بحركة محسوسة دائماً، لأنه يمكن أن يكون وقوفاً على الحركة أو كفاً عنها))(1). ومهما اختلف الفلاسفة في آرائهم في الفعل، إلا أنهم يتفقون على القول في تعريف الفعل الأخلاقي، فهو النشاط الإرادي الذي يترتب عليه أثر حسن أو سيء، أما بالنسبة إلى صاحبه أو إلى الآخرين أو كلاهما معاً(2). والمطهري يحدد نوعين من الأفعال التي يقوم بها الإنسان، وهما(3):

ص: 37


1- صليبا، د. جميل: المعجم الفلسفي، ج2، منشورات ذوي القربي، قم، 1385ه، ص 152.
2- يُنظر : إبراهيم، د. زكريا ، المشكلة الخلقية، ط1، دار مصر للطباعة والتأليف، 1969م، ص 18
3- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، مطبعة شريعت قم، 2005، ص 20.

أ - الفعل الاعتيادي أو الطبيعي.

يُعرف المطهري الفعل العادي بأنه: ((سلسلة الأفعال التي نقوم بها وهي تكون طبيعية، ولا يعتقد بأنها خلقية))(1)وهي تشمل جميع الأفعال الطبيعية التي يقوم بها الإنسان في حياته الاعتيادية، ومن ثم لا يمكن أن نعدها من الأفعال الأخلاقية(2).

إنّ الأفعال الطبيعية لا تستحق أن يثنى الإنسان عليها، ويمكن أن تقدر قيمتها بالقيمة المادية، و فعل أي إنسان سواء أكان عاملاً أو مهندساً يمكن أن تقابله قيمة مادية، وبناءً على هذا تكون قيمة الأفعال أو الأعمال الاعتيادية هي القيمة المادية(3). ويوضح المطهري أن الفعل الاعتيادي أو الطبيعي يكون سلوكاً مشتركاً بين الإنسان والحيوان، وهو واضح جداً، ومعياره أنه يكون مقتضى للغريزة المشتركة بين الإنسان والحيوان، ويكون ناشئاً من غريزة الإنسان الطبيعية(4).

ويتضح أن المطهري قد أضفى على الفعل الطبيعي القيمة المادية، وهذا يدل على أن غايته واضحة في غرض الفعل الطبيعي عند الإنسان والحيوان إنما يكون دائماً موجهاً نحو الوصول إلى غاية وتحقيق المنفعة، والمصلحة الخاصة.

ب - الفعل الأخلاقي.

يُعرف المطهري الفعل الأخلاقي بأنه: ((الفعل الجدير بالثناء والشكر والذي ينظر إليه البشر بنظرة الإعجاب والرضا والذي تكون له قيمة عالية لا يمكن أن تكون القيم المادية ، فهو أعلى من أن يُقيم بالمال أو الأشياء المادية، فالفعل الخلقي له قيمة أعلى وله أهمية أكبر من أي قيمة أي إن له قيمة معنوية عالية))(5). ويرى المطهري أن الإنسان يقوم بعدة أفعال له قدرة واستطاعة أن يفعلها، وهذه الأفعال تكون أسمى من مستوى

ص: 38


1- مطهري، التربية والتعليم في الإسلام ،ط4،ترجمة علي الهاشمي، دار الهادي، بيروت، 2005م، ص57.
2- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 57.
3- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص21.
4- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 66.
5- المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 20-21.

الفعل الطبيعي أو الحيواني، الذي يصدر من الحيوان على وفق طبيعته وغريزته، وهذه الأفعال تسمى بالأفعال الإنسانية أو الأخلاقية، والمقصود من هذه الأفعال هو أن تكون على مستوى الإنسانية، ولا تكون على المستوى الحيواني، أي إن هذه الأفعال تعد سلسلة من الأعمال التي يؤديها الإنسان فقط وعلى المستوى الإنساني(1).

لقد أعطى المطهري للفعل الأخلاقي القيمة المعنوية التي لا يمكن أن تقاس بأي ثمن، ولهذا فهو فعل يسمو فوق كل المعايير المادية، فهو فعل يتسم بالثناء والتكريم وهو خاص بالإنسان فقط لأنه يخضع إلى معايير وضوابط السلوك الإنساني التي بها يمكن أن نميز خيره من شره حسنه من قبحه، ضاره من نافعه، وتشخيصه للفعل الخلقي كان واضحاً من أنه فعل ليس الغاية منه تحقيق المنافع الفردية والمصلحة الشخصية، بل تجريده من هذه المعاير.

ثانياً: نماذج من الفعل الأخلاقي.

اختار المطهري بعض من النماذج للفعل الخلقي نعرضها لما فيها من المواعظ والأحكام الأخلاقية.

النموذج الأول: العفو .

يُعرف العفو بأنه : (أن تستحق حقاً فتسقطه وتبرأ عنه من قصاص أو غرامة)(2). وهو . محو الشيء وإزالته، ويقال عفا عن الذنب أي لم يعاقب عليه(3). في نموذج العفو يذكر المطهري أن الخطأ أو الجنحة(4)أو الجناية التي يرتكبها شخص ما يكون خطأه على نوعين: أحدهما مرتبط بذلك الشخص فقط، مثل الغيبة والتهمة، إذ تصدران

ص: 39


1- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص65.
2- الفيض الكاشاني، محمد بن مرتضى (ت 1091ه) : المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء ، ج5، ط2، صححه وعلق عليه: على أكبر الغفاري، مؤسسة الإعلمي، بيروت، 1983م، ص 318.
3- يُنظر : الهاشمي، عبد الله الأخلاق والآداب الإسلامية، ط1، دار الأمين، بيروت، 2006م، ص 321.
4- الجنحة هي الجريمة المعاقب عليها بإحدى العقوبتين الحبس الشديد أو البسيط أي أكثر من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات أو الغرامة، ينظر: نذير عبد الرحمن حياوي، قانون العقوبات، ط3، منشورات المكتبة القانونية، بغداد، 1969م، ص13.

من المغتاب والمتهم، فليس لذلك ارتباط بحق المجتمع العام، أما الآخر فيكون فيه الخطأ مرتبطاً بذلك الشخص من جهة وبالمجتمع من جهة أخرى، فله جنبتان فردية واجتماعية، ويعطي المطهري لذلك مثالاً واضحاً جداً وهو كالقاتل الذي يقتل إنساناً فعمله هذا له جنبتان، واحدة مرتبطة بالفرد، والأخرى بالمجتمع، وفي الحالتين يستطيع صاحب الحق المجني عليه التجاوز عن حقه والإعراض عنه، أي إذا طلب القاتل العفو ومنحه أصحاب الحق (أب ، أم ، ابن المقتول) عفوهم وتجاوزوا وعفوا عن الجاني، فهذا عمل أخلاقي(1).

إن تحديد المطهري للعفو وعده إياه من الأفعال الأخلاقية، هو متوافق مع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومنهج أهل البيت، إذ أكد القرآن على فضيلة العفو عند الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: *فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةٌ * يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ * وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ * وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَة مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ * فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*(2).وقال الله تعالى * وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا * أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكُمْ * وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ*(3).

ومن الواضح أن القرآن الكريم قد قرن بالعفو الصفح، والصفح هو الأعراض عن الذنب، صفح عنه أي اعرض عن ذنبه وتركه(4).

وقال النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم): ((يا علي ثلاث من مكارم الأخلاق، تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك))(5). وقال : الإمام علي(علیه السّلام): ((شيئان لا يوزن ثوابهما ، العفو والعدل))(6). وقال(علیه السّلام)أيضاً ((اجعل جزاء النعمة عليك العفو عمن

ص: 40


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 22
2- سورة المائدة، الآية 13.
3- سورة النور، الآية 22
4- يُنظر : محمد بن ابي بكر، الرازي (ت 666ه) ، مختار الصحاح، دار الرسالة، الكويت، 1983م، ص364.
5- الصدوق، الخصال، ص 125.
6- الواسطي، علي بن محمد كافي الدين ألليثي الوسطي، (ت - ق6 ه)، عيون الحكم والمواعظ، ط1 تحقيق: حسين الحسيني، البير جندي، مؤسسة دار الحديث، (من دون تاریخ)، ص 297.

أساء إليك))(1).

النموذج الثاني : عرفان الإحسان والوفاء.

يذكر المطهري أن النموذج الثاني من الفعل الخلقي هو عرفان الإحسان والوفاء، والعرفان تجاه المحسن، فالبعض يعرفون حق من أحسن إليهم، ومد يد المعروف نحوهم، ويعملون بمقتضاه إلى آخر العمر ، ولا ينسون هذا الإحسان أبداً حتى وإن انقضت سنوات عدة، فإذا إحتاج إليه من سبق منه الإحسان له، فإنه يبادر فوراً إلى رد الإحسان إليه وهذا عمل أخلاقي))(2).ويستشهد المطهري بالآية القرآنية الكريمة، قال تعالى* هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ*(3)، وقال: الأمام علي(علیه السّلام):((من أحسن الإحسان الإيثار))(4).

إن لهذا الفعل الأخلاقي أثراً كبيراً في أخلاقيات الإنسان، فكم من إنسان قد قدم إحساناً لأخيه الإنسان ولم يقدر فعله فعلينا أن لا ننكر من مد لنا يد العون والمساعدة وإن انقضت السنين، وأخلاقنا تلزمنا بعدم نكران الإحسان ونسيانه، وعدم نسيان من كان له الفضل علينا ومقابلة إحسانهم بالإحسان مثله.

النموذج الثالث : الرحمة والرأفة بالحيوانات.

الرحمة هي مبعث الخيرات ومعدن الفضائل، والشفقة هي الرحمة بخلق الله تعالى والرأفة بهم(5)، والرأفة كمال الرحمة، فإنها ارق من الرحمة وهي اشد

ص: 41


1- المصدر نفسه، ص 80.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص23.
3- سورة الرحمن، الآية 60 .
4- الريشهري، محمد، میزان الحکمة، ج1، ط1، دار الحديث، قم، 1416ه، ص 16.
5- يُنظر : الهاشمي، عبد الله، الأخلاق والآداب الإسلامية، ص321.

الرحمة، والرؤوف شديد الرحمة، إن الرأفة والرحمة متقاربان، وضدهما القسوة والغضب، والرأفة والرحمة فسرتا برقة القلب(1).

ويرى المطهري أنَ الرأفة بالحيوانات وإن كانت هذه الحيوانات قبيحة أو نجسة، إلا أن الرأفة والشفقة عليها عمل أخلاقي، وفي هذا النموذج من الفعل الأخلاقي يستشهد المطهري بقصة فيها عبرة أخلاقية تحكي أن رجلاً في الصحراء رأى كلباً قد أجهده العطش، فقد رق قلب الرجل على الكلب، فأخرج له مقداراً من الماء وسقاه، فأنقذه من العطش الهلاك، بعد هذا نزل الوحي السماوي على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن شكر الله له وكتبه من أهل الجنة(2). إن الله سبحانه و تعالى حينما أوجب على الإنسان أن یرحم أخاه الإنسان أوجب عليه أن يرأف بالحيوان، فالدين الإسلامي هو الذي ضرب المثل الأعلى في الرفق بالحيوان، فقد ورد في القرآن الكريم، قوله تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى(3)*.وذكر في السنة النبوية أحاديث تدل على الرأفة بالحيوان، إذ قال:رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة))(4).

إن الرحمة والرأفة من الأفعال الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها الإنسان، وهذا ما أكد عليه الدين الإسلامي، فالدين الإسلامي دين رحمة يأمرنا بأن يكون فينا جانب كبير من الرحمة والرأفة، كيف لا وهذا الدين صادر من رب الرحمة وهو المتصف بالرحمة وهو الرحمن الرحيم، قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ * وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(5)*. وقال تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةٌ

ص: 42


1- الخميني، روح الله جنود العقل والجهل ، ط1، ترجمة: أحمد الفهري منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2001م ، ص 219.
2- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص23-24.
3- سورة طه، الآية 54.
4- السجستاني، سليمان بن الأشعث (ت 275ه)، سنن أبي داود، ج1، ط1، تحقیق سعید محمد ألحام، دار الفكر، بيروت، 1410 ه، ص574.
5- سورة الأعراف، الآية 151.

وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رعَايَتِهَا * فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ * وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ*(1).وقال رسول الله (ص) ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))(2).

إنّ الرحمة والشفقة هما بالفعل من الأعمال الأخلاقية التي تجعل من الإنسان لين القلب رحيم مع الآخرين في تعامله، وهذا ما يجعل الإنسان يطمع في رحمة الله تعالى، والرحمة عند الإنسان تعد فضيلة من الفضائل الأخلاقية التي تدفع إليها العواطف النبيلة وإحساس الإنسان الفاضل، لتكن الرحمة والرأفة سمتين أخلاقيتين كل إنسان، وليرحم الإنسان أخاه الإنسان، فالرحمة فعل أخلاقي عظيم، ولم لا تكون فينا ولنا خالق رحيم ؟!

ثالثاً: مميزات الفعل الأخلاقي.

أ- اختصاص الأخلاق بالإنسان.

الإنسان هو مفتاح المشكلة الأخلاقية وعمادها، وهو غايتها وعنوانها، فالأخلاق أمر خاص بالإنسان، ففي الأخلاق الخيرة سعادة الإنسان، وفي الأخلاق السيئة شقاؤه(3). توجد ضرورة تحكم تلازم القيم الأخلاقية مع الإنسان، وحاجة الإنسان إلى هذه القيم حاجة دائمة فبواسطتها تتحقق إنسانيته، وبالأخلاق ينتقل إلى حيز التأثير الواسع،فالقيم الأخلاقية تعود إلى الشخص بوصفه حاملاً للفعل الأخلاقي(4)، والفعل الأخلاقي فعل خاص بالإنسان، وهو وحده الكائن الأخلاقي الذي يبغي بطبيعته إلى تحقيق شخصيته العاقلة بسلوكه العاقل(5).

ص: 43


1- سورة الحديد، الآية 27.
2- الترمذي، محمد بن عيسى،(ت 279ه) ، سنن الترمذي ، ج3، ط1، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر، بيروت، 1983م، ص 217.
3- ينظر: السحمراني، د. أسعد الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة، دار النفائس، بيروت، 2005م، ص22.
4- المصدر نفسه، ص 28-29.
5- يُنظر: التلوع، د. أبو بكر إبراهيم، الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، منشورات جامعة قان يونس، بنغازي، ليبيا، 1995م، ص22.

ويرى المطهري أنّ الإنسان هو المسؤول عن فعله الأخلاقي، وهو بهذا يتفق مع النظرة القرآنية القائلة بمسؤولية الإنسان عن أفعاله(1). إذ ورد قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا*(2)، فالإنسان خلق وهو جدير بتحمل المسؤولية، فوضع محلا للابتلاء والتمحيص، فهو خليفة الله، وله رسالة، وعليه واجبات، وطلب منه أن يعمر الأرض(3). إذ ورد قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَة إِني جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً*قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِني أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ*(4).

ويقسم المطهري أفعال الإنسان على ثلاثة أقسام(5):

أفعال أخلاقية حين يكون الإنسان فيها أرفع من الحيوان.

أفعال منافية للأخلاق حين يكون الإنسان فيها أدنى من الحيوان.

إنّ أفعال الإنسان هي عنوان مصيره الذي سيؤول إليه في الدنيا والآخرة، أي إنّ الإنسان سيلاقي نتيجة أعماله سواء كانت خيراً أو شراً، فالإنسان هو المسؤول عن أعماله على وفق العدالة الإلهية التي جعلت أعمال الإنسان مناطة به(6).

ب- صدور الفعل الأخلاقي عن ذات عاقلة تميز الخير من الشر.

يعرف العقل بأنه ((جوهر روحاني خلقه الله متعلقاً ببدن الإنسان، وقيل العقل نور في القلب يعرف الحق والباطل))(7). والعقل ((قوة يجوز بها التميز بين الأمور القبيحة والحسنة))(8). إنّ الحكم على الأعمال الأخلاقية، أي تحديد خيرها من شرها، يتم

ص: 44


1- يُنظر : مطهري، الإنسان في القرآن، ط1، ترجمة ونشر دار الإرشاد ،لبنان، 2009 م، ص252-253 .
2- سورة الإنسان، الآية 3.
3- يُنظر : مطهري، الإنسان الكامل، ص 23.
4- سورة البقرة، الآية 30.
5- يُنظر : مطهري، الإنسان الكامل، ص 164.
6- يُنظر : مشكور، سامي شهيد، الأخلاق عند فلاسفة المغرب العربي. إشراف د. علي حسين الجابري، أطروحة دكتوراه (غير منشورة) مقدمة إلى مجلس كلية الآداب، جامعة الكوفة، 2005 م، ص 11-12.
7- الجرجاني، علي بن محمد(ت 816ه)، التعريفات، مطبعة مصطفى الباب الحلبي، القاهرة 1938 م، ص 132.
8- الحفني، د. عبد المنعم ، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ط3، مكتبة مدبولي، القاهرة 2000م ، ص536.

بالعقل، فليس هناك قوة طبيعية في الإنسان يحكم بها على الأعمال الأخلاقية إلاّ العقل، وليس في الإنسان حاسة بها يمكن أن يدرك الخير والشر، فالناس إذا عملوا عملاً ولاحظوا أن نتائجه حسنة، حكموا بخيرته، في حين إذا لاحظوا أن نتائجه سيئة حكموا بالشر، فالقوة التي بها يمكن أن يعرفوا ويميّز الخير من الشر هي العقل(1).

وللعقل أثر كبير في بناء كيان الإنسان وسلوكه العملي، فبه يكتسب نوراً يحقق به إنسانيته في وجوده ومجتمعه، وللعقل تأثير كبير في تحول الحياة بعيداً عن الجمود، وله قدرة على أن يرتفع بالإنسان من مستوى الحياة الحيوانية إلى ما فوق سلطة الأهواء وسيطرة الغرائز(2).للعقل وظيفة مهمة في الحياة الأخلاقية لدى الإنسان، إذ يعد دافعاً مهاً من دوافع الفعل الأخلاقي(3)،ويشير القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي، في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةٌ مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُه*قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ*إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(4)*.

ويصرح القرآن الكريم بأن الأساس في تعاسة الإنسان ودخوله في عالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه في وحل الذنوب هو عدم الإفادة من العقل هذه القوة الإلهية العظيمة، وهذه القدرة الجبارة، و الجوهرة الثمينة والنعمة الربانية، إن أساس معرفة الله تعالى ومعرفة سلوك طريق السعادة والنجاة إنما يقع في ضمن مسؤولية العقل الإنساني(5). ورد عن الإمام الباقر(علیه السّلام)قال : ((لما خلق الله العقل، استنطقه، ثم قال له اقبل فاقبل، ثم قال له أدبر ، فأدبر ، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا اكملتك إلا فيمن أحب، إما إني إياك أأمر، وإياك انهى وإياك

ص: 45


1- يُنظر: أمين، د. احمد الأخلاق، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1931م، ص 29.
2- يُنظر: اللاري، مجتبى الموسوي، رسالة الأخلاق، ط1، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، الدار الإسلامية، بيروت، 1989 م، ص 90-91.
3- يُنظر: ليلي، وليالم، مقدمة في علم الأخلاق، ترجمة وتقديم: د. علي عبد المعطي محمد، دار المعارف، مصر، 2000 م ، ص 200.
4- سورة آل عمران، الآية 118.
5- يُنظر : الشيرازي، ناصر مكارم، الكشكول الأخلاقي، ط1، أعداد و تنظیم حسین الحسینی، دار جواد الأئمة، بيروت، 2010م، ص 19.

أعاقب، وإياك أثيب))(1). وقال أيضا ((إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما أتاهم من العقول في الدنيا))(2). وورد عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه سئل : ما العقل ؟ قال (ما) عبد به الرحمن واكتسب به الجنان))(3)وفي تفضيل حجية العقل يورد الإمام موسى بن جعفر الكاظم(علیه السّلام)قال : ((حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل))(4).

يتضح مما تقدم الأهمية الكبيرة التي يضعها القرآن الكريم للدور الرئيس الذي يتخذه العقل في بناء الإنسان، وكذلك الأهمية الكبيرة التي تؤسسها السنة النبوية ومنهج الأئمة عليهم السلام في توسيع أهمية أفاق العقل ودوره الفعال في الاستدلال عند الإنسان.

وعرف الفلاسفة ما للعقل من مقام رفيع وفضل عظيم، فأولوه جل اهتمامهم ورجعوا إليه في كل أمورهم، وتأسيساً لذلك كان للعقل دور هام في الفعل الأخلاقي وهذا ما سار عليه معظم الفلاسفة المسلمين، فقد عرف الكندي: ((العقل هو جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها))(5). لقد استند الكندي على أساس أن قيام الفعل الإنساني يبنى على العقل، والإنسان هو المسؤول الأول عن فعله والمتحمل مسؤولية فعله بمفرده، وأن العقل هو الذي يميز بين الخير والشر والجميل والقبيح(6).

أما المعلم الثاني الفيلسوف الفارابي ، فهو يرى أن الإنسان خص من بين الكائنات الحية بالعقل، وهذه الخاصية هي التي جعلته إنسانا متميزاً عن غيره من المخلوقات، وبالعقل يدرك الإنسان مطلوبة(7)، وبالعقل يستطيع الإنسان أن يحصل على العلوم

ص: 46


1- الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329ه)، الأصول من الكافي، ج1، ط5، تحقيق علي اكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، من دون تاريخ ص 10.
2- البرقي، احمد بن محمد (ت 274ه)، المحاسن، ج 1، تحقيق جلال الدين الحسيني، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1370ه- ، ص 195.
3- الكليني : الأصول من الكافي، ج 1، ص 11.
4- المصدر نفسه، ج 1، ص 16.
5- الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، ج1، ط2، تحقيق: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978م، ص 113.
6- يُنظر: زيعور، د. علي، الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة والتعاملية، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1988م، ص245.
7- يُنظر : الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، ط1، حقق وقدم وعلق عليه : د. جعفر إل ياسين، دار المناهل، بيروت، 1985م ، ص 78-79.

والصناعات، وبه يميز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق، وبه يدرك ما يجب أن نعمل، أولا نعمل، وبه ندرك النافع والضار والملذ والمؤذي(1)، والعقل هو أسمى وأعلى قوة في جسم الإنسان وهو أفضل من القوى الأخرى(2).

والفارابي يجعل الإنسان مسؤولاً عن أفعاله ومختارا لها لكونه يمتلك العقل، فالعمل عند الفارابي تابعا للعقل وليس العكس والحاكم على فعل ما بأنه خير أو شر هو العقل، ولذلك لا يصدر السلوك الخلقي إلا عن التعقل(3). والتعقل عنده هو ((القدرة على جودة الروية واستنباط الأشياء التي هي أجود وأصلح فيما يعمل ليحصل بها الإنسان خير عظيم في الحقيقة وغاية شريفة فاضلة فالإنسان العاقل هو القادر على جودة استنباط ما هو أفضل وأصلح في بلوغ خيرات ما يسره))(4).

ويعرف الشيخ الرئيس ابن سينا العقل (انه قوة يوجد التميز بين الأمور القبيحة والحسنة)(5). إن الإنسان بعقله يتمكن من أن يدرك السعادة وذلك لأنه بالعقل يميز بين الخير والشر ويسعى إلى عمل الفضيلة ويبتعد عن الرذيلة، لذلك يميل إلى الخير ويتجنب الشرا(6).

فيحدد ابن سينا ان (الأفعال التي تصدر من الإنسان إنما تصدر بلغة التعقل والروية)(7).

يتفق رأي المطهري مع الفلاسفة الإسلاميين في إعطاء العقل الأهمية الكبرى في

ص: 47


1- يُنظر : الفارابي، السياسة المدنية، ط1، تحقيق: د. فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959م،ص32-33. وكذلك أيضا، الفارابي، فصول منتزعة، فصل 38،تحقيق وتقديم وتعليق د. فوزي متري نجار، دار المشرق، بيروت، 1986م، ص 55.
2- مطلك، فضيلة عباس، نظرية السعادة في الفلسفة الإسلامية من الكندي إلى الغزالي، رسالة ماجستير (غير منشورة)، مقدمة إلى مجلس كلية الآداب جامعة بغداد، 1976 م ص 62.
3- مشکور، سامي شهيد، الأخلاق عند فلاسفة المغرب العربي، ص 31.
4- الفارابي : فصول منتزعة، فصل 39،تحقيق وتقديم وتعليق .د. فوزي متري نجار ، دار المشرق، بيروت، 1986م، ص 55.
5- ابن سينا، تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات، ط 1 ، مطبعة هندية، مصر، 1908م، ص 79.
6- يُنظر : التكريتي، د. ناجي، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية عند مفكري الإسلام، ط1، دار الأندلس، بغداد، 1979م، ص 208 .
7- ابن سينا، عيون الحكمة، ط2، حققه وقدم له د. عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، 1981 م، ص41.

الفعل الأخلاقي وقدرته الكبيرة في التميز بين الخير والشر، وهو يعطي للعقل المنزلة الرفيعة، وقام بجهود علمية وعملية كبيرة لتعين منزلة العقل الحقيقية في التفكير الإنساني ليحافظ على شعلته الثمينة وليعطيه منزلته الرفيعة المقدسة(1). وحول أهمية واعتبار العقل يرى المطهري أنه يثبت بالعقل نفسه، أي إن العقل بذاته يدل على حجيته كما الشمس نفسها دليل على وجود الشمس(2).

ويؤكد المطهري الدور الأساس للعقل في تحديد الفعل الإنساني إذ يرى: ((أنَ العقل دليل حاذق للإنسان، هذا العقل منحه الله تعالى للإنسان ليميز بين النور والظلمات، بين طريق الكمال وطريق الانحراف وان الطبيعة البشرية للإنسان تدل على انه قد يسلك الطريق الصحيح بحكم عقله، وقد لا يسلك هذا الطريق بحكم خطئه وجهله واتخاذه هواه إلها فيسير نحو الانحراف والتردي))(3).

يشبه المطهري سلطة العقل عند الإنسان بالسلطة التشريعية(4)، وهو يعدّه أحد موجهي الإنسان ومحدداً لمسار حياته، فبفضل هداية وتوجيه العقل يقلع الإنسان عن اللذات على الرغم من ميولاته الغريزية، ولأجل الحياة الآخرة الدائمة النفع يضحي بالمنفعة الآنية في سبيل الفضيلة الأخلاقية، فهو يتحمل الألم كي يتخلص بشكل تام من قيد الخضوع للغرائز الدنيئة، ويتحرر منها إلى عالم أعلى وارفع، إنّ الحرية في سلطة العقل متاحة للإنسان كي يتأمل ويقارن بين الحسن والقبيح من الأخلاق، فيقدم على عملية الترجيح بين الفعل والترك، ففي سلطة العقل لا تستبد الدوافع الغريزية في حكمها، فالحكم يكون للعمل الحسن الذي يحدده العقل بالمقارنة، فتكون للإنسان الحرية الكاملة في ظل نعمة العقل، فالعقل يمنح الإنسان المقدرة

ص: 48


1- يُنظر : دجاكام .د. علي نسبية المعرفة في الفكر الإصلاحي الديني المطهري أنموذجاً، مجلة المنهاج، ترجمة دلال عباس، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، لبنان، العدد 33 ، 2004م، ص80.
2- يُنظر: عباس نیکزاد، التوفيق بين الدين والعقل في مدرسة الحكمة المتعالية، ترجمة علي إل دهر الجزائري، مركز الحضارة، لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2010 م، ص199.
3- مطهري، مرتضى، الإسلام ومتطلبات العصر، ط1، ترجمة علي هاشم، مراجعة الدكتور محمود البستاني، دار الأمير ، لبنان، 1992م، ص 36.
4- يُنظر : الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي ، ج2 ، ط2، تقديم وشرح: مرتضى مطهري، ترجمة عمار أبو رغيف، المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع، بغداد، 2010م، ص 196 (الهامش).

على تشريع الواجب والقانون و الأخلاق، وهو الذي هيأ الإنسان ليتحمل مسؤولية الأمانة ليكون إنسانا ذا شخصية أخلاقية(1).

إذن يتبين لنا أن المطهري يجعل حاكمية العقل على الغرائز على أساس أن سلطة العقل على الإنسان أوسع من سلطة الغرائز، وبناءً على هذا يكون المخالف لسلطة العقل مفارقاً للسلوك الأخلاقي العقلي.

ج صدور الفعل الأخلاقي عن إرادة حرة.

تُعد مسألة حرية الإرادة من المسائل التي أخذت جزءاً كبيراً ومجالاً واسعاً في الدراسات الفلسفية والكلامية، وكان لها شأن خاص في الفكر الإسلامي. وتعرف الإرادة بأنها ((صفة توجب الحي حالاً يقع منه الفعل على وجه دون وجه، وفي الحقيقة هي ما لا يتعلق دائماً بالمعدوم فإنها صفة تخصص أمراً ما لحصوله ووجوده))(2).وتعرف أيضاً بأنها: ((طلب الشئ أو شوق الفاعل إلى الفعل))(3). والإرادة في علم الأخلاق الاستعداد الأخلاقي عند الإنسان وباتجاه محدد وحالة معينة(4). وبذلك تكون الإرادة عند الإنسان على نوعين، الأول هو الإرادة الصالحة التي يقدم الإنسان بها على الفعل الحسن، وتكون هذه الإرادة موجهة عنده نحو الخير، والنوع الثاني هو الإرادة السيئة التي يقدم الإنسان بها على العمل القبيح، فتكون إرادة موجهة نحو الشر(5).والإرادة هي فعل صادر عن تصميم عقلي واع لأداء فعل معين الغرض منه تحقيق غاية محددة، وبناء على هذا يكون الفعل الإرادي وليد قرار ذهني سابق(6). و الإرادة لا تقوم على الرغبة والنزوع فحسب، بل تقوم أيضا على التفكير والوعي المستقل(7).

ص: 49


1- يُنظر : الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي ، ج2 ، تقديم وشرح: مرتضى مطهري ص195- 196 (الهامش).
2- الجرجاني، التعريفات، ص 10-11.
3- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، ج 1، ط 1 ، ذوي القربى، قم، 1385ه، ص 57.
4- يُنظر : بدوي، د. عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، ج3، منشورات ذوي القربى، قم، 2008م، ص 16.
5- يُنظر : صليبا، د جميل ، المعجم الفلسفي، ج 1، ص 58-59.
6- يُنظر : مدكور ، د. إبراهيم، المعجم الفلسفي، المطابع الأميرية، القاهرة، 1983م، ص7.
7- يُنظر : العاتي،د. إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي) الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993م، ص216.

وتعد الإرادة العنصر الذي يعتمد عليه الإنسان عند كل سلوك حر(1)، وهي قرار جازم يتخذه الإنسان للقيام بعمل أو مجموعة من الأعمال أو للتصرف تصرفاً معيناً في موقف معين(2). والإرادة قوة محركة للإنسان عنها تصدر كل الأعمال الإرادية، وجميع ملكات الإنسان وقواه تكون في سبات حتى توقظها الإرادة فمهارة الصانع ، وقوة عقل المفكر ، وذكاء العامل، والشعور بالواجب، ومعرفة ما ينبغي وما لا ينبغي، كل هذه لا أثر لها في الحياة ما لم تدفعها قوة الإرادة، وكلها لا قيمة لها ما لم تحولها الإرادة إلى عمل، وللإرادة نوعان من العمل، فقد تكون دافعة وقد تكون مانعة، أي إنها تارة تدفع الإنسان إلى عمل فتحمله على القراءة والتأليف، وتارة تمنعه عن المسير فتحرم عليه القول أو الفعل، وهي بنوعيها منبع لكل الخيرات والشرور فجميع الفضائل والرذائل ناشئة عن الإرادة(3). فهي التي تقوم ماهيتنا هي نحن وهي شخصنا وحدنا بوضعنا وقدرتنا المزدوجة على الطاعة والعصيان، وعليها يترتب على قدر ما يحسن أو يسي في استعمالها سعادة الإنسان أو شقاءه علوه أو سقوطه(4).

وعرف الفارابي، الإرادة بأنها ((نزوع إلى ما أدرك وعن ما أدرك، إما بالحس، وإما بالتخيل، وإما بالقوة الناطقة ، وحكمه فيه أن يؤخذ أو يترك))(5). ويرى أن الإرادة هي من مميزات الفعل الإنساني، وتتصف بأنها إرادة خلقية تقوم على اختيار الإنسان فهو الذي يختار الجميل والنافع(6).

أما ابن سينا، فالإرادة عنده ((قوة من القوة المحركة، تتلقى أوامرها من القوة النظرية))(7). ويرى الغزالي (ت 505ه) أنّ الإرادة هي نشاط الذات المتحركة العاملة

ص: 50


1- يُنظر: مهدي، علي صاحب، التربية والأخلاق عند المؤمن، مطبعة الحوادث، بغداد، 1978م، ص33.
2- يُنظر : المصدر نفسه، ص 75.
3- يُنظر أمين .د. أحمد الأخلاق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969م، ص 53.
4- أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، ج 1 ، ترجمه من اليونانية إلى الفرنسية بار تملي سانتهلير، نقله إلى العربية احمد لطفي السيد، دار الكتب المصرية، القاهرة 1924م، مقدمة المترجم، ص 13.
5- الفارابي، أراء أهل المدينة الفاضلة، ط2، تقديم وتعليق د: ألبير نصري ،نادر دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية، بیروت، 1968م، ص89.
6- يُنظر : الفارابي، فصول منتزعة، فصل 73، ص 80.
7- ابن سينا، رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها (ضمن كتاب أحوال النفس)، تحقيق: د، احمد فؤاد الإهواني،القاهرة، 1952م، ص89.

وعنوان حياتها ، وأنها تجمع بهذا المعنى الوظائف النفسية إذ تعمل متآخية متآزرة للرد على البواعث والأفكار المختلفة وبهذا تصطبغ الشخصية الإنسانية بصبغة الإرادة التي تمثل حاضر الشخص بكل قواه الذهنية والجسمية والعملية(1).

أما مفهوم الحرية، فهي: ((الملكة الخاصة التي تميز الكائن الحي الناطق، من حيث هو موجود عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو، لا عن أية إرادة أخرى غريبة عنه))(2)، ولما كان يميز بين نوعين من الأفعال هما الأفعال الاضطرارية والأفعال الاختيارية التي تعد كبقية الأفعال الخلقية التي تصدر عن روية وتدبر، وعليه فقد عرف الفعل الحر بأنه الفعل المختار الصادر عن روية وتعقل وتدبر، وفي الاصطلاح الفلسفي هو اختيار الفعل عن روية مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضده(3).

ويتصف الفعل الخلقي بصفة أساسية وهي الإرادة، فلا يمكن أن نسمي فعلاً ما بأنه فعل أخلاقي إلا إذا كان صادراً عن إرادة حرة حكيمة(4). ولو لم تكن إرادة الإنسان حرة في اختيار الخير والشر، لكانت التكاليف الأخلاقية والأمر والنهي نوعاً من العبث، ولما كان هناك أي معنى للثواب والعقاب والمدح والذم(5).

والحرية شرط رئيس لكل الأفعال الخلقية وما يرتبط بها من مقاصد ونوايا ومواقف إرادية خلقية، فلا يمكن أن نتحدث عن الأخلاقيات إلا إذا كان الإنسان يمتلك الحرية التي تمكنه من عمل الخير وترك الشر، ولو لم نكن نمتلك حرية في الاختيار بين الخير والشر، فلا يمكن أن نحاسب على جميع تصرفاتنا فلا يمكن أن ندم عليها(6).

ص: 51


1- يُنظر: الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين ، ج 3 ، مكتبة عبد الوكي ألدروبي، دمشق، 1978م ص 45.
2- إبراهيم، د. زكريا مشكلة الحرية ، ط3، مكتبة مصر، 1971م، ص 18.
3- ينظر: إبراهيم د. زكريا، مبادئ الفلسفة والأخلاق، ط1، مكتبة مصر، القاهرة، 1969م، ص 66. وأيضاً ينظر: د. زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، ص6.
4- ينظر: العزام د. محفوظ علي، الأخلاق في الإسلام بين النظرية والتطبيق، ط1، دار الهداية، مصر، 1986م، ص 13.
5- ينظر: زقزوق، د. محمود حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، ط3، دار القلم ، الكويت، 1983م، ص34.
6- المصدر نفسه، ص 35.

ويعد الإنسان موجوداً أخلاقياً لأنه كائن عاقل يمتلك من الفكر والإرادة ما يستطيع به تجاوز مستوى الغريزة والسمو إلى مستوى السلوك الأخلاقي الحر(1).

تعد حرية الإرادة والاختيار من الموضوعات ذات الأثر الكبير في حقل أخلاقية الفعل ، إذ لو لم يكن الإنسان مختارا في أفعاله لصار البحث في موضوع الأخلاق ضربا من العبث ولبطلت التشريعات والتكاليف الإلهية لأن الإنسان في هذه الحالة سوف يكون مكلفا بما لا يطاق ولهذا صار الاختيار عند الإنسان مدار التكاليف الشرعية(2).

فالأمامية اعتقدت في حرية الإرادة للفعل الإنساني وأرجعته إلى الأمر بين الأمرين، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال : ((لاجبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين))(3)وخلاصة اعتقادهم أن أفعالنا من جهة هي أفعال حقيقية ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا ومن جهة أخرى هي مقدوره لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنه تعالى هو مفيض الوجود ومعطيه فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي لان لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر وهو قادر على كل شيء(4).

أما المعتزلة فارتبطت عندهم الإرادة الإنسانية بحرية الفعل الإنساني، فالفعل الإنساني لا يمكن أن يكون فعلاً حقيقياً ما لم يكن فعلاً حراً ومرتبطاً بالوعي الذاتي الإرادي للفاعل، وحين بحث المعتزلة مسألة الإرادة عدوها الأداة التي يحقق بها الإنسان اختياره(5). وأكد المعتزلة أن الله تعالى خلق العبد وترك له خلق أفعاله، فالفعل الصادر من العبد تابع لإرادته واختياره، والله تعالى ليس له سلطان في هذا،

ص: 52


1- إبراهيم، د. زكريا ، المشكلة الخلقية، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1966م، ص 31
2- ينظر: النراقي، جامع السعادات، ج1، ص132
3- الصدوق، الهداية، ط1، مؤسسة الهادي، قم، 1418ه، ص18.
4- يُنظر : المظفر، محمد رضا المظفر ، عقائد الأمامية، ط2، مركز الأبحاث العقائدية، 1424ه،39-38 .
5- يُنظر : داود، عبد الباري محمد، الإرادة عند المعتزلة والأشاعرة، دار المعرفة الجامعية، ص 61-62.

وعليه يكون العبد خالقا لفعله(1)، فقد عدت حرية الإرادة الإنسانية هي أساس أصول المعتزلة ويتعذر قيام الأخلاق من دونها، فاتفقت المعتزلة على أن العبد قادر فاعل لأفعاله خيرها وشرها، وعليها استحق الإنسان على ما يفعله الثواب أو العقاب في الدار الآخرة(2).

أما الأشاعرة ، فقد استند موقفهم من أفعال الإنسان إلى قضية رئيسة وهي ما شاء الله أن يكون كان وما لا يشاء لا يكون(3)، وعدوا فعل العبد واقعاً بقدرة الله وحدها(4)، وهذا يعني أن الفعل تابع لقدرة الله واختياره، وليس للإنسان قدرة لاختيار الفعل أو التأثير فيه، لأنه محل الفعل ليس إلا، وهذا ما بعرف بالكسب، ويرى أبو الحسن الأشعري (ت 324) ، أنَ ((معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسبا لمن وقع بقدرته))(5). فالأفعال مخلوقة لله وأن الله هو الفاعل الحقيقي لها، وما الإنسان إلا مكتسبها من انه لو كان الإنسان هو الفاعل حقاً لأفعاله لأتت على نحو ما يشتهيه وبقصد، فالفعل لا يحدث حقيقته إلا من محدث أحدث قاصداً إليه فقد وجب أن يكون محدث الفعل هو الله(6).

وبناءً على هذا فقد رأى الأشعرية أن الله هو الموجد لأفعال العبد بأجمعها، الاختيارية والاضطرارية، وليس لقدرة الإنسان أي تأثير لوجودها سوى أنه محل لها، ومع هذا فهو مكتسب لأفعاله، وبسبب هذا الكسب يستحق الثواب والعقاب(7).

أما أهم من قال بحرية الإرادة في الفلسفة الإسلامية، فهو الفارابي، إذ جعل الاختيار أساساً للفعل الأخلاقي، لأنه مقتصر على الإنسان، وبالاختيار يستطيع الإنسان أن يفعل المحمود والمذموم ، والجميل والقبيح، وعليه يكون الثواب

ص: 53


1- ينظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، تحقيق: عبد العزيز الوكيل، طبعة الحلبي، 1968م، ص 39.
2- ينظر : عبد الباري محمد داود، الإرادة عند المعتزلة والأشاعرة، ص 66.
3- ينظر: صبحي، د. احمد محمود، في علم الكلام ، ج2 ، ط5 ، دار النهضة العربية، بيروت، 1985م، ص77.
4-
5- الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ،ج2، ط2، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية 1955 م، ص542..
6- المصدر نفسه، 547.
7- ينظر : مغنية، محمد جواد، معالم الفلسفة الإسلامية، ط3، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1982م، ص 121-120

والعقاب(1). وتابعه ابن سينا في هذا الرأي في حرية الإرادة للفعل الأخلاقي، فالإنسان مخير في أن يفعل الفعل أولا(2).

أما المطهري، فهو من القائلين بحرية الإرادة في الفعل الأخلاقي عند الإنسان، إذ يرى : ((أن الإنسان خلق مختاراً حراً بمعنى أنه أعطي فكراً وإرادة وهو في أعماله ليس كالحجارة تدحرجه فيتدحرج ويسقط متأثراً بجاذبية الأرض دون أن تكون له أية إرادة، أو كالنبات ليس له إلا طريق واحد يوجد بتوفر شروط معينة وينمو بالشكل المعتاد، أو كالحيوان الذي يؤدي أعماله بتأثير غريزي، إن الإنسان يجد نفسه دائماً على مفترق طرق ليختار منها ما شاء وبإرادة حريته ووفق مشيئته ونوعية تفكيره وهو ليس مجبراً على أي سلوك، وإنما يتبع السلوك حسب فكره واختياره وهنا تبرز مقوماته الشخصية وصفاته الروحية والأخلاقية))(3).

إنَّ وقوف الإنسان بين مفترق الطرق، واختياره لأحدهما ، دليل على أنّ الإنسان حرٌّ في إرادته بدلالة إدراكه لهذا المفترق، ولو لم يكن حراً في إرادته لتصور طريقاً واحداً فحسب، وغاب عنه ما في الواقع من تعدد الطرق، وتفهم الباحثة أن مفترق الطرق هو الدليل العقلائي الذي اعتمده المطهري في إثبات حرية الإرادة.

يوضح المطهري أن الإرادة هي قوة باطنة فهي ترتبط بعقل الإنسان خلافاً للميل الذي يرتبط بطبيعة الإنسان فالميل هو من جنس الجاذبية أي إن الأشياء المراءة تجذب الإنسان نحوها، وكلما يكون الميل شديدا يسلب اختيار الإنسان بمقدار معين، أي إن الإنسان يخضع لسيطرة قوى خارجة عن إرادته، بعكس الإرادة فإن الإنسان يخرج نفسه عن تأثير القوى الخارجة بواسطة الإرادة، فكلما كانت الإرادة أقوى يكون اختيار الإنسان أكثر ويمتلك نفسه وعمله ومصيره(4). وأراد المطهري من موضوع حرية الإرادة التأكيد على مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وبهذا ينفي أن يكون

ص: 54


1- العاتي، د. إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية، ص216.
2- ينظر: ابن سينا، عيون الحكمة، ص 41.
3- ينظر: المطهري، الإنسان والفضاء والقدر، ط1، ترجمة محمد علي التسخيري، دار المشرق للطباعة والنشر، طهران، 1385ه- . ش ص 62-63 .
4- ينظر : مرتضى مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 191.

للقضاء والقدر أثر في نشوء الفعل الإنساني، ويشبه المطهري الإرادة بالقوة التنفيذية عند الإنسان(1).

ويرى المطهري أنّ حرية الفعل الإنساني ناتجة من تفكير الإنسان وقواه الإدراكية، فالإرادة الحرة ترفض الخضوع لأي مؤثر خارجي يجبر الإنسان على عمل ما(2).

وتأسيساً لهذا نجد أن جوهر السلوك الأخلاقي عند الإنسان في رأي المطهري يكون نابعاً من إرادة حرة، والإرادة الحرة تعني الإرادة المسبوقة بالتعقل والتفكير، والتعقل هو الذي يجعل الإنسان حراً في اختياره طريقاً من طريقين إما طريق السعادة والنجاة أو طريق التعاسة والشقاء ورؤية المطهري هذه تنجم مع الرؤية القرآنية في حرية الإرادة،قال تعالى في محكم كتابه الكريم: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)*.

المبحث الثاني، نقد المطهري للنظريات الاخلاقية الغربية

عرض المطهري أهم النظريات الأخلاقية في الفعل الأخلاقي، وتميّز أسلوبه في العرض أسلوباً واضحاً، ثم عمد إلى نقد هذه النظريات، فالنزعة النقدية عنده كانت واضحة الملامح ، فهي أحد أسس شخصيته الفكرية، فقد سلك أسلوباً نقدياً اتجاه بعض النظريات الغربية، ولم يقع في فخ التماهي أو الذوبان معها منطلقاً من اعتزازه بالهوية الأصيلة للدين الإسلامي وفهمه ووعيه لأسسها. وتوجد نظريات في الفعل الأخلاقي قد نقدها المطهري، وهي كالآتي:

أولاً: نظرية العاطفة.

تعد نظرية العاطفة من النظريات الأخلاقية القديمة، والمطلع على مصادر

ص: 55


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 73.
2- ينظر: مطهري، كلمات في الطريق، ص 58.
3- سورة الإنسان، الآية 3.

تأريخ الأخلاق يمكن أن يحدد معالم هذه النظرية في تاريخ الفكر الفلسفي الهندي والمسيحي ،القديم، فتأريخ الأخلاق في الفكر الهندي القديم حدد مذهبين أخلاقيين أحدهما يتلو الآخر، فنجد البراهمة(1)وبعدها البوذية(2). فالبوذية قد جاءت تجديداً للبراهمة وإصلاحاً لها(3). لقد جاءت البراهمة بمبادئ أخلاقية تبلغ حد الإعجاب، وتمثلت هذه المبادئ بحب الناس بعضهم لبعض ، واحترام الناس جميعاً، بل وحب كل ماخلق الله من الكائنات الحية، والعفو عن المسيء، وأنّ الذي يعفو عن المسيء يكون مكرماً لدى السماء، والذي يحمل الحقد يذهب إلى الجحيم(4). جاءت البوذية لتتبع أثر البراهمة في تعاليمها، إلا أنها اختلفت عنها في إلغاء نظام الطبقات الذي كان موجوداً عند البراهمة، وبهذا عدت البوذية ثورة اجتماعية أكدت على مبادئ أهمها المساواة والأخوة(5).

وأهم ما جاء في المذهب البوذي ((أخفوا ما عشتم طيبات أعمالكم واظهروا مساوأكم، أحبوا جميع الناس وكل الكائنات ليست الولادة ولا الأم البرهمية هي التي توجد البرهمي الحقيقي، أنا لا أعرف برهمياً إلا الفقير الذي يشتهي في حياته شيئاً، والمسامح الذي بكل براءة و طهارة ووداعة يتحمل السب واللعن والضرب وعذاب السلاسل والأغلال الحديدة بكل صبر و لطافة، والرحيم الذي لا يصرع حيواناً ضعيفاً وقوياً، والمستكين الذي هوجم يظهر لمهاجمه كل لطف ولا يقابله

ص: 56


1- البراهمة: هي اسم لنظام ديني إجتماعي سياسي، وهي الاسم الذي أطلق على الهندوسية ابتداءً من القرن الثامن قبل الميلاد، وذلك نسبة إلى أبراهما، وهو القوة السحرية العظيمة التي تتطلب من أتباعها كثيراً من العبادات، وهذا المذهب على ما توصلت إليه البحوث الآن أقدم ديانة هندية يرجع بعض أناشيدها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ينظر : د. مرحبا، محمد عبد الرحمن المرجح في تاريخ الأخلاق، ط1، مطبعة جروس برس، لبنان، 1988م، ص 186.
2- البوذية : هي تحديث للمذهب البراهمي وإصلاح له، و مؤسس البوذية هو بوذا، ومعناه الحكيم، والبوذية ديانة عالمية تبشر بالخلاص من الألم عن طريق ترك الرغبة، وتحقيق التنوير الأعلى الذي يعرف باسم النيرفانا التي تعني الإشراقة التي أو مضت للمعلم تحت الشجرة المقدسة، فتجلت له عقدة الكون، وقد نشأت البوذية في الهند في القرن السادس قبل الميلاد ينظر: روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ترجمة: سمير كرم، مراجعة د. صادق جلال العظم، جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1967م، ص 91.
3- يُنظر: موسى، د. محمد يوسف، تاريخ الأخلاق، ط3، دار الكتاب العربي، مصر، 1953م، ص 21.
4- المصدر نفسه، ص 23.
5- يُنظر : ذكرى، د. أبو بكر، تاريخ النظريات الأخلاقية، ط4، دار الفكر العربي، القاهرة، 1965م، ص9-10.

بالمثل والذي لا يحسد حاسديه يوما على شيء))(1). ومن تعاليم بوذا الأخلاقية العملية لا تقتل كائناً واحترام الحياة يجب أن يمتد إلى أي مخلوق مهما كان تافهاً أو ناقصاً حتى لو كان دودة أو نملة(2).و الاحترام للحياة إنسانية كانت أو حيوانية، فليس البوذي أن يقتل حيوانا في لهو كالصيد أو في الجد كذبحه لأكله، بل الرفق بالحيوان، ولا يراه الخلق بأنه ادنى منه، إن المحبة الشاملة هي من أفضل الإعمال الحسنة،

وهي تحرر القلب القلب من شوائب الشر، لأنها تشرق نورا وبهاء في نفس كل إنسان، ولهذا يجب على كل إنسان أن يغرس في نفسه الحب العميق الصادق السائر الخلق(3). إنّ الحكمة لدى الإنسان الهندي القديم هي نسيج محبوك من العقل والعاطفة وإنّ الأفكار الهندية تبني الإنسان من وجهة قيم القلب وتصر على مثل متعددة هي التسامح والشفقة والمحبة واللاعنف وعدم الخضوع للشهوات وللجسد(4).

هذا موجز لأهم ما جاء به أهم مذهبي مثلا الفكر الأخلاقي الهندي القديم النظريتهم في الأخلاق، والذي أتضح أن معالم فلسفة الأخلاق الهندية هي أخلاق عاطفة أي تجد في حب الغير أساساً لها.

ونجد كذلك معالم نظرية العاطفة واضحة جداً في الفكر الأخلاقي المسيحي، إذ جاءت الفلسفة الأخلاقية للفكر المسيحي بمبادئ أساسية تمثلت في الحب الإلهي والأخوة والتضحية، إن غاية الخالق في هذه الحياة شيء يجسده كل كائن في هذا الكون، فكل شيء في الكون يشير إلى محبة الله لخلقه من ناحية وحب الناس لله من ناحية أخرى، إن محبة الإنسان لله وللآخرين من البشر هو أساس القانون والشريعة الإلهية وأساس الحياة الكريمة، فالغاية الرئيسة للإنسان وواجبه في هذه الحياة أن

ص: 57


1- يُنظر : المصدر نفسه، ص 10.
2- يُنظر : بدوي، د. السيد محمد، الأخلاق بن الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 2000م،ص 29. وايضاً : البيرثويتزر ، الفكر الهندي (كبار مفكري الهند ومذاهبهم على مر العصور)، ترجمة: يوسف شلب الشام، دار طلاس ،دمشق 1994م ص95
3- يُنظر: شلبي، د. احمد، مقارنة الأديان، ط3، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1973م، ص173.
4- يُنظر : زيعور، د. علي الفلسفة الهندية، ط1، دار الأندلس، بيروت، 1980م، ص 163.

يتصرف على وفق إرادة الله هذه المعاني العميقة للمحبة ما أشارت إليه الفلسفة المسيحية§ُنظر: التلوع، د. أبو البكر إبراهيم، الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، منشورات قان يونس، بن غازي، 1995 م، ص108-107.(1)کرم، د. يوسف، تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط، دار القلم ،لبنان، (من دون تاریخ)، ص 39.(2)يُنظر : التلوع، د، أبو بكر إبراهيم، الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، ص109.(3)المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 40.


1- . لذلك يرى القديس أوغسطين ((أن الفضيلة الكبرى محبة الله واضع النظام والمعين نفسه غاية لنا، نفسه غاية لنا، وهي تتضمن سائر الفضائل، فهي تتضمن سائر الفضائل، فهي الحكمة من حيث أنها الوصول إلى قيم الخير، وهي الفطنة من حيث أنها تجعلنا نحذر كل ماخلا الله ،وهی الشجاعة بفضل قوة اتحادنا بالله،وهي العدالة من حيث أنها فوز فالسعادة والفضيلة متطابقتان، وما الفضائل الأرضية إلا وسائل لغاية أبعد منها ))
2- . إن الفلسفة المسيحية أوجدت في فضيلة المحبة، والتضحية ومساعدة الآخرين غاية أساسية، لذلك أولتها اهتماماً فائقاً، وبذلك أصبحت محبة الآخرين من القيم الأخلاقية السامية التي تميزت بها أخلاق المسيحية
3- . لقد عرض المطهري نظرية العاطفة ومن ثم وجه إليها بعض الانتقادات في نقاط محددة فهو يرى ((أن نظرية العاطفة هي من النظريات القديمة في مجال بيان المعيار في كون الأفعال الأخلاقية، والحاصل أن القائلين بهذه النظرية ويؤكدون أن مبدأ كل فعل أنساني هو الإحساس والعاطفة وهما المحركان نحو الفعل، ولولا المبدأ لاستحال صدور فعل من الإنسان والفعل الأخلاقي هو ما ينشأ من مبدأ وميل لا ربط له بشخص الفاعل بل هو مرتبط بالآخرين، وهذا الميل أو المبدأ هو ما يصطلح عليه بالعاطفة وأن الهدف منه ليس وصول الخير للذات بل وصوله للآخرين، وعلى هذا يكون الفعل الأخلاقي مبدأ وهدفاً خارج من دائرة الأنا لأن الميل للفعل سببه الآخرون، كما أن الهدف هو تجاوز الذات والخروج من دائرة الأنا والإنسان الأخلاقي هو الذي يخترق دائرة الأنا ليصل إلى الآخرين))

كل دين قد أوصى بالمحبة ومعظم المدارس الفلسفية تتثبت بمبدأ المحبة، وبعض الأديان أفضل ما فيها هو أنّ المحبة تشكل محور الأخلاق فيها، وهناك أديان أخرى تعد المحبة أحد عناصر الأخلاق الدخيلة في تركيبها(1).

لقد أوضح المطهري أنّ محور الأخلاق الهندية هي العاطفة، وقد بقيت هذه النظرية وامتدادها إلى الفلسفة الهندية المعاصرة، فهو يستشهد بمذهب غاندي(2).حيث تعمل نظرية العاطفة في فلسفة غاندي الأخلاقية على مبدأ (أهمسا) وهي تعني عدم العنف والصدق والأمانة وضبط النفس عن الشهوات، (أهمسا) هي يجب أن نمتنع عن الإيذاء وعن الكذب وعن السرقة وعن الطمع والكف عن الحقد لجميع المخلوقات الحية وفي جميع الأوقات والأحوال وعدم الكراهية واختيار المودة والعطف والابتهاج و الاتجاه نحو الأشياء المفيدة والمعزة والحسنة وتجنب عن السيئة، لأنّ هذه الأعمال هي ما ينتج عنها الهدوء والصفاء في الفكر لذلك يجب أن نكون مجردين عن الحسد وشاعرين بآلام الغير وفي حين آخر نكره الإثم إلا أننا يجب أن نحب الآثمين(3).

يبين المطهري أن غاندي قد توصل في كتابه (هذا هو مذهبي) إلى ثلاثة أسس رئيسية وهي(4):

توجد في هذا العالم معرفة واحدة وهي معرفة النفس وتعد هذه المعرفة أساس في الفلسفة الهندية.

إن كل من عرف نفسه عرف ربه وعرف حقيقة العالم.

ص: 59


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 41.
2- غاندي : هو موهان داس کارا ماتشاند الشهير بغاندي (1869-1948م) زعيم حركة التحرير الوطني الهندية ومؤسس الأيديولوجية والخطط المعروفة بالغاندية، كان غاندي من الناحية الفلسفية مثالياً موضوعياً يوحد في مذهبه بين الله والحقيقة وكان يعتقد أنّ أدراك الحقيقة ينشأ من تهذيب الذات الأخلاقي. ينظر : روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ص 318، وأيضاً ينظر: عباس محمود العقاد، روح عظيم ألمهاتما غاندي، منشورات فن للطباعة، القاهرة، 1999م، ص 23
3- ينظر: الحسيني، السيد أبي النصر أحمد، الفلسفة الهندية، ط1، مطبعة مصر، القاهرة، 1960م، ص99-100.
4- المطهري، فلسفة الأخلاق، ص41-42.

في العالم هناك قدرة واحدة وهي قدرة السيطرة على النفس والتمكن من تطويقها، وبتعبير غاندي إن من يسيطر على نفسه وذاته يمكن أن يسيطر على العالم ويوجد في هذا العالم شئ جميل وهو حب الآخرين وحب الذات.

وهنا يؤكد المطهري على النقطة الثالثة خاصة الغاية الأساسية التي جعلته يستشهد بكلام غاندي، لأنه أثبت فيها أن الأخلاق الهندية هي أخلاق عاطفة وتعتمد هذه الأخلاق على حب الآخرين.

أما بالنسبة لمطهري لنقده نظرية العاطفة الخاصة بالفعل الخلقي، فهو لا يريد أن ينقدها نقداً تاماً لأنه من جهة يرى أن بعض أرائها ما يقبل ومن جهة أخرى ما ينقد، ولذلك فقد حدد نقده لها بالنقاط الآتية:

1- يذكر المطهري ((أنه لا يمكن عد كل محبة أخلاقاً وإن كانت تلك المحبة قابلة للمدح والثناء وليس كل فعل ممدوح أو مذموم يعد أخلاقياً أو غير أخلاقي، فالفارس القوي يمدح على قوته وشجاعته ولا يعد ذلك أمراً أخلاقياً، لأن الأخلاقية تتضمن عنصر الاختيار والاكتساب لملكات غير غريزية فإذا كان الشيء الجميل الحسن فطرياً غريزياً في الإنسان بحيث لن يكتسبه اختيارا فهو وان كان رائعاً ومحموداً إلاّ انه لا يدخل تحت عنوان الأخلاق))(1).

ولتوضيح هذا يعطي المطهري مثالاً واضحاً وهو حب الأم لولدها فإنها بطبيعة حبها له تقدم على سلسلة من التضحيات والأعمال وهي ناتجة من العواطف السامية والعظيمة التي تشعر بها اتجاه ولدها وهذه الأفعال لا يمكن عدها أفعالاً خلقية، لأنها خاضعة لإجبار وإلزام طبيعي من حيثية الأمومة الغريزية التي تمتلكها الأم، فشعورها وحبها اتجاه ولدها لا يمكن أن تشعر به اتجاه الأطفال الآخرين لذلك لا يمكن أن نعد هذا الحب فعلاً خلقياً إذ لابد من أن تكون للأخلاق من دائرة أوسع(2).

ص: 60


1- المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 43.
2- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 66.

2- يرى المطهري أن نطاق الأخلاق غير محصور في حب الغير، بل إنه نطاق أوسع من حدود ذلك، إذ إن هنالك كثيرا من الأفعال والسلوكيات النبيلة والعظيمة التي يمارسها كثير من الناس، وهي بحد ذاتها أفعال قابلة للمدح والتقدير والثناء، وهذه الأفعال تكون لا علاقة لها بحب الغير ويرد المطهري أمثلة على هذه الأفعال مثل الإيثار الذي يعد أعلى درجات الكرم والإحسان، وكذلك الأفعال التي يقدم عليها رجال وهم يقدمون أرواحهم ويبذلون مهجهم في ما إذا خيروا بين عزتهم وكرامتهم أو بين أن يستسلموا أو يخضعوا للذلة والمهانة، هذه الأفعال التي تتمثل في التضحية والإباء والشموخ هي قمة الأخلاق ولا ربط لها بمحبة الآخرين(1).

وفي هذه النقطة من النقد يشكل المطهري على قول غاندي (في العالم خيرُ واحد وهو حب الآخرين)) في حين يرى المطهري أن في العالم أنواعا كثيرة من الخير وتكون غير حب الآخرين(2).

3- النقطة الأخرى التي تورد على هذه النظرية هي عن معنى حب الإنسان وفهم معنى الإنسانية، وهذه بحد ذاتها تحتاج إلى تفسير، ويتساءل المطهري في ذلك هل إن حب الإنسان مقصور على الإنسان فقط أو قابل لأن يحب الأحياء الأخرى؟ مثلاً على القصة السابقة الذكر وهي عطف الإنسان على الحيوان، هل هذا العمل لا يعد من الأخلاق لأن الحيوان ليس إنساناً؟ وهل يتعين على الإنسان أن يقصر حبه على أبناء نوعه فحسب ولا ينبغي له أن يحب بقية الأحياء ؟ يوضح المطهري أنه لا ينبغي أن نقول حب الإنسان، وإنما نقول حب الأحياء، أو حب كل الأشياء لأنها مخلوقات الله(3).

فالإنسانية على حد تعبيره ((هي شعار يردده كثيرون وهو بحاجة إلى فهم وتفسير دقيقين كي لا يختلط مفهوم بمفهوم آخر لتحل اللاإنسانية محل الإنسانية، فالمراد بالإنسانية الأصيلة هي محبة البشر والشفقة عليهم والرأفة بهم لأنها تعني تقديس

ص: 61


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 44.
2- المصدر نفسه، ص 44.
3- يُنظر : المصدر نفسه، ص 44-45.

المثل والقيم الإنسانية النبيلة، فالإنسان إنسان جدير بالحب بقدر ما يحمل من المثل الإنسانية، وساقط عن الاعتبار بقدر تخليه عن الإنسانية وخلعه ثوبها))(1).

ولتوضيح محتوى هذه النقطة أكثر يقدم المطهري مقارنة واضحة لشخصيات إنسانية كان لها دور مهم في المجتمع البشري، كشخصية الرسول محمد(ص) وهی شخصية عظيمة وكاملة وكانت هذه الشخصية مصدر خير للإنسان ونجاته من الهلاك فقد كان يعطف ويشفق حتى على الإنسان الذي لا يمتلك قيماً أخلاقية، لأنه يريد الأخذ بيده والبلوغ إلى مستوى الإنسانية ولذلك فقد كان الرسول الأكرم رحمة للعالمين مؤمنهم وكافرهم، في مقابل هذه الشخصية هناك شخصية (الحجاج بن يوسف الثقفي)(2)، (جنكيز خان)(3)، هؤلاء قد افتقدوا وتجردوا من شيء كبير جداً وهو المثل الإنسانية، إنهم في الحقيقة والواقع أشخاص ضد الإنسانية وضد الإنسان(4).

لقد ناقش المطهري نظرية العاطفة ووجه إليها بعض نقاط النقد السابقة الذكر أعلاه وبناءاً على ذلك نجد أن نقده كان موجه لهذه النظرية على أساس أن العاطفة نحو الغير هي ليست من الأفعال الأخلاقية هذا من جانب، ومن جانب آخر هو يرى أن نظرية العاطفة جديرة بالقبول من أن المحبة هي مبدأ تؤكد عليه كل الأديان السماوية، وديننا الإسلامي هو دين خير ومحبة.

ثانياً : نظرية الواجب.

الواجب هو: ((مقولة أخلاقية تشير إلى الضرورة الأخلاقية لأداء التزامات

ص: 62


1- المصدر نفسه، ص 45.
2- الحجاج بن يوسف الثقفي (40-95ه) ولد في الطائف ثم انتقل إلى الشام حيث ولاه عبد الملك بن مروان العراق وحكم عشرين سنة أراق فيها دماء المسلمين فهو داهية وسفاك ينظر: الزركلي، خير الدين، الإعلام لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ، ج 2، ط3، دار العلم، بيروت، 1969م، ص175.
3- جنكيز خان (1155-1227م) قائد مغولي مؤسس أكبر إمبراطورية في العالم، وهو واحد من أطغى طغاة البشرية سفك دماء الملايين اغلبهم من المسلمين، من اجل بناء إمبراطورية يهدف من خلالها إلى أن يكون سيد العالم والزعيم الأوحد للمعمورة كلها، فأصبح اسمه مرادفا لكل معاني الوحشية والبربرية والهمجية الدموية والدمار. ينظر : جون، مان، جنكيز خان حياته - انتصاراته، ط1، ترجمة: ادوار أبو حمرة، دار الحكايات ،لبنان، 2013م، ص 20.
4- ينظر: المطهري، فلسفة الأخلاق، ص46.

معينة))(1). والواجب بوجه عام هو الإلزام الأخلاقي الذي يؤدي تركه إلى مفسدة، ولهذا فهو يسمى في فلسفة كانت الأمر المطلق، وهو الأمر الجازم الذي يتقيد به المرء لذاته، من دون أن تتعلق به لذة أو منفعة(2)و يعد الفيلسوف الألماني كانت (1724-1804م) من أشهر وأقوى المدافعين عن المذهب الأخلاقي الذي يركز مفهومه عن الواجب ، وكثيراً ما قد يوصف هذا الفيلسوف، أنه فيلسوف الواجب، وقد عد فكره الأخلاقي ثورة على المذاهب الأخلاقية التي كانت سائدة في عصره مثل مذهب السعادة(3).

إن موقف كانت من المسائل الأخلاقية موقف واضح وصريح، وقد توصل في كتابه (نقد العقل النظري) إلى نتيجة رئيسة أن أي ميتافيزيقا لا يمكن أن توضع في موضع علمي قط، وأن أي منها لن تستطيع أبداً أن تظهر قضاياها الجدلية كمبادئ مسلمة، ولا أن تسوغها كقاعدة تجريبية، وأن الفلاسفة الذين يدعون بناء تعاليمهم الأخلاقية على الميتافيزيقا الإلهية كانت أو الحادية قد حكموا على أنفسهم بالفشل، لذلك قد رفض كانت أن يؤسس الأخلاق على أسس نفعية(4).

أوضح كانت أن الدين لا يمكن أن يقوم على أساس من العلم والعقل ولذلك يجب أن يرتكز على دعامة من الأخلاق لأنه إذا بني على عمد من اللاهوت العقلي فإننا قد عرضناه إلى أخطر الأخطار لنترك العقل ولنشيد الإيمان على ما هو فوق العقل وهي الأخلاق، ولكن يجب أن تكون قاعدة الدين الأخلاقية مطلقة مستقلة بذاتها غير مستمدة من التجربة الحسية المعرضة للشك وإلا يفسدها العقل ببحوثه وقضاياه، أي أن یجب تستمد القاعدة الأخلاقية من باطن النفس مباشرة، وبذلك تكون لدينا مبادئ أخلاقية فطرية تنشأ في الإنسان بطبيعته فيستلهمها ويستوحيها من دون أن يلجأ في تحديد سلوكه إلى علم أو تجربة، ولذلك يعد قانون الأخلاق ناشئاً فينا قبل التجربة

ص: 63


1- روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ص572.
2- يُنظر : صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، ج2، ص 542.
3- يُنظر : رشوان، د. محمد مهران، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، دار قباء، القاهرة، 1998، ص154.
4- يُنظر : كرسون، أندريه، الأخلاق في الفلسفة الحديثة، ترجمة د. عبد الحليم محمود، د. أبو بكر ذكرى، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة، 1948م ، ص 59.

وإن الأوامر الأخلاقية التي تكون قاعدة للدين عامة مطلقة مستمدة من فطرة الإنسان، وان تجارب الحياة تنهض دليلا قوياً على وجود هذا الباعث الفطري على الأخلاق(1).

إن الباعث الفطري الذي كان يقصده كانت في الأخلاق هو الضمير، ويحدده بأنه ذلك الصوت الذي يصيح فينا صيحة التأنيب ثم يدعونا إلى الالتزام بالسلوك باتجاه الصواب، وهو الذي لا ينفك عنا ويأمرنا أن نعمل على نحو يصح أن يكون قانوناً عاماً للبشر ، وهو يرى أن هذا القانون الأخلاقي المفطور في نفوسنا يعمل على وفق ما يأمر به الواجب بغض النظر عن نتائجه وأحكامه، لأنه لم يستمد من التجربة وهو فطري طبيعي فينا(2).

ويعرف كانت الواجب بأنه ((ضرورة القيام بفعل عن احترام للقانون))(3). وهذا يوضح بأن كل أفعالنا هي ما تتفق مع الواجب(4). ويصرح كانت ((أن الأفعال الإنسانية لا تكون خيراً لأنها صدرت عن ميل مباشر أو دفعت إليها رغبة في تحقيق مصلحة شخصية، بل تكون خيراً لأنها صدرت من أجل الواجب، أي لا يكفي أن يكون الفعل الخلقي مطابقاً في نتائجه لمبدأ الواجب، بل يتحتم أن يجئ طبقاً للواجب أي أن يصدر عن احترام لمبدأ الواجب، فكم من أفعال تدفع إليها الرغبة في تحقيق منفعة شخصية، ومع هذا تتفق نتائجها مع مقتضيات الواجب)) (5). حتى الإرادة الخيرة التي يعدها كانت شرط ضروري لصبغ أي فعل بصبغة الأخلاقية فهي أرادة الفعل بمقتضى الواجب من دون أي اعتبار أخر وهذا يعني أن الإرادة الخيرة لا تخضع لأي قانون آخر سوی قانون الواجب فكل فعل أخلاقي ينبغي أن يؤدي احتراماً للواجب وتقديراً له وحده(6). لهذا فالواجب عند كانت لا يطلب من أجل منفعة أو بلوغ سعادة بل يطلب

ص: 64


1- أمين، د. أحمد، د. زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، ج1، ط4 ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1959م، ص296 297.
2- يُنظر : المصدر نفسه، ص 298-299.
3- كانت، إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوي، الدار القومي للطباعة والنشر، القاهرة، 1965م، ص27.
4- المصدر نفسه، ص44.
5- الطويل، د. توفيق الفلسفة الخلقية، ط1، دار المعارف،، الإسكندرية، 1960م، ص231.
6- يُنظر : رشوان، د. محمد مهران، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، ص 157-160.

لذاته فليس الأخلاق هي اللذة الذي يعلمنا كيف نكون سعداء بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة(1).

يحدد كانت أوامر القانون على الفعل الخلقي بأنها أوامر مطلقة ومثاله لا تكذب لا تسرق لا تشهد الزور وبناءا على ذلك يتضح أن الفعل الأخلاقي هو فعل إنسان يطيع أمراً مطلقاً لا شرط فيه أي أطيع القانون ولا أعصيه(2).

لقد استطاع كانت ومن فكرة الواجب أن يستنبط ما يسميه مصادرات العقل العملي، إنها مصادرات أو فروض لأنها لا تقبل البرهنة العقلية وهي موضوعات للاعتقاد أي للإيمان غير العقلي، وهذه المصادرات هي ثلاث:

أ- الحرية ، وتنبع من ضرورة إطاعة الواجب ذلك أن الالتزام يفترض أن يكون المرء حراً، ولا معنى للالتزام من دون افتراض الحرية في الإنسان.

ب - يعد كانت خلود النفس من الموضوعات التي يتم البرهنة عليها من خلال العقل العملي بعد أن عجز العقل النظري عن ذلك، ويبرهن كانت على هذا الأمر من خلال تصوره للأمر الواجب فالإخلاص التام للواجب لا يمكن تحقيقه في هذه الدنيا، ولهذا نميل إلى الاعتقاد في أمكان تزايد الكمال إلى غير نهاية، وهو أمر لا يتصور إلا بافتراض أن النفس خالدة وذلك لا يمكن بلوغ الكمال في هذا الوجود المكاني و الزماني، لأن الإرادة موزعة بين الحساسية الذاتية الخاصة وبين العقل الكلي، وتبعاً لذلك الكمال الأخلاقي لا يتيسر تحقيقه في هذا العالم بل يتم بواسطة التقدم إلى غير نهاية، وهو كمال وتقدم يقتضيان شخصية توجد باستمرار ومن ثم النفس خالدة وخلودها أمر يقتضيه العقل العملي وان لم يستطيع العقل النظري إثباته(3).

ج - وجود الله، يوضح كانت أن أثبات وجود الله، قائم على أساس الشعور بالواجب يتضمن العقيدة في الجزاء في المستقبل أي في الخلود، فإن الخلود لا بد

ص: 65


1- المصدر نفسه، ص 163.
2- يُنظر : جعفر، د. عبد الوهاب، مذكرة في فلسفة الأخلاق، دار المعارف، الإسكندرية، 1991م، ص 250-251.
3- يُنظر : بدوي، د. عبد الرحمن، الأخلاق النظرية، وكالة المطبوعات، الكويت، 1975م، ص 266-267.

من أن يتبعه فرض وجود علة متكافئة مع معلولها أي لابد من أن يكون قد أنشأ هذا الخلود من هو خالد، فإذا لا بد من التسليم بوجود الله وهذا ليس برهانا بالعقل بل هو مستمد من شعورنا الفطري بقانون الأخلاق(1).

بعد التوضيح الموجز لنظرية الواجب عند كانت نبين توضيح بسيط نفهم من خلاله كيف تصور كانت الخير الأعظم واجتماع الفضيلة والسعادة، يوضح كيف نتصور اجتماع الفضيلة والسعادة هذه صعوبة، وقد لاحظ أن الرواقية والأبيقورية قديماً كانا على اتفاق في التوحيد بين الفضيلة والسعادة، وأن كان الرواقيون قد رأوا أن طلب السعادة فضيلة في حين ذهب الأبيقوريون على عكسهم إلا أن طلب الفضيلة سعادة ویری كانت أن رأي الرواقيين باطل لأن الفضيلة معنى عقلي والسعادة معنى حسي، ومرد الأولى إلى قانون الفضيلة ومرد الثانية إلى قانون الطبيعة، وبطلان الرأي الأبيقوري أوضح من ذلك فإن طلب السعادة غاية قصوى كفيل بإفساد الأخلاقية بل إن طلبها يفسد الفعل الخلقي(2).

يعد المطهري نظرية الواجب من النظريات التي تحتوي على ملاحظات هامة ورفيعة، ويعرف المطهري واجب كانت بالوجدان ، وهو يرى أنه لا ينبغي أن ننفي هذا الوجدان لأن النظرة الإسلامية قد عرفت هذا الوجدان بأنه وجدان خلقي بالإنسان، وورد ذكره في القرآن الكريم (بالنفس اللوامة) قال تعالى : فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(3)*.

وهذه إشارة واضحة إلى وجود ضمير في الإنسان يرشده إلى عمل الخير وترك عمل الشر، فإذا أقدم على عمل الشر تلومه نفسه فيتضح أن هناك شيئا يدفعه إلى فعل الخير وترك الشر، ويلوم الإنسان بسبب فعله الشر وعلى العكس فإذا أقدم على عمل الخير فإنها ترضى عنه ويشعر بمدحها له(4).

ص: 66


1- يُنظر: أمين، د. أحمد، د. زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، ج 1، ص 301-302 .
2- يُنظر: الطويل، د. توفيق، الفلسفة الخلقية، ص245 ، وكذلك د. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ط5، دار المعارف، الإسكندرية، 1986م . ص 255.
3- سورة الشمس، الآية 8.
4- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 68-69.

وبناءاً على ذلك وما تحتويه هذه النظرية من أراء قيمة فقد وجه المطهري لها بعض نقاط النقد وهي كالأتي:

1- تحقير الفلسفة.

يرى المطهري أن هذه النظرية قد احتقرت الفلسفة والعقل المحض، فقد قلل كانت من شأن العقل النظري أو ما يسميه بالعقل الخالص ودوره في استكشاف ما وراء الطبيعة الميتافيزيقا فقد أكد كانت أنه لا نستطيع أثبات شيء من هذه المسائل عن طريق العقل النظري، ويرى المطهري هذا اشتباه واضح منه ومن دون تجاهل لدور الوجدان أو إنكاره، ويؤكد المطهري انه من الممكن أن نثبت وعن طريق العقل النظري حرية الإنسان واختياره وبقاء النفس وخلودها ووجود الله ، وان الأوامر الأخلاقية المستلهمة من الوجدان يستطيع العقل النظري إدراكها وإصدارها ولو من باب التأييد للوجدان(1). واعتراض المطهري على كانت في هذه النقطة اعتراض مقبول ، لان المطهري في هذا الاعتراض كان متابعا لآراء الفلاسفة المسلمين.

لقد استند الفلاسفة المسلمون على الدليل العقلي في إثبات وجود الله والمتمثل بدليل واجب الوجود وممكن الوجود(2). إن دراسات الفلاسفة المسلمين في إثبات وجود الله كانت دراسات قيمة وعظيمة ووافية جدا تمثلت في دراسات فلسفة الإلهيات عند الفارابي وابن سينا والرازي وابن رشد وغيرهم من الفلاسفة حيث اعتمدوا الأدلة الفلسفية الخالصة التي تعتمد على مقدمات عقلية ليس للتجربة شيء في إثباتها، ولذلك فقد كان الدليل العقلي دليلاً برهانياً ذا قيمة منطقية عالية استند عليه الفلاسفة في إثبات وجود الله تعالى، ومن هنا فالعقل النظري قادر أن يثبت وجود الله والنفس.

2- فصل الكمال عن السعادة.

النقد الآخر الذي يوجهه المطهري لنظرية كانت يتصل بتفكيك كانت الكمال

ص: 67


1- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 69.
2- يُنظر : إبراهيم، د.نعمة محمد، الفلسفة الإسلامية، ج1، ط1، دار الضياء، النجف الأشراف،،2007م، ص127.

وفصله عن السعادة ويرى المطهري أن هذا خطأ كبيرا لأن الكمال لا ينفك عن السعادة وان كل كمال هو في ذاته نوع من أنواع السعادة، وان غاية الأمر أن السعادة غیر محصورة في اللذات الحسية، وأن كانت قد حصر السعادة في نطاق ضيق للغاية، في هذه النقطة يرى المطهري أن كانت في نظريته أكد أن الإنسان يشعر بمرارة شديدة في داخله عندما يخالف ضميره، هذا مقبول إلا أننا نتساءل إذا كان الإنسان يشعر بالمرارة والألم عندما يخالف ضميره، فكيف لا يشعر باللذة والسعادة عندما يطيعه هنا يشعر الإنسان باللذة والسعادة وتكون هذه اللذة ذات مستوى رفيع وعالِ لأنها لذة من نوع خاص(1).

ويذكر المطهري مثالا لأجل التوضيح الأكثر لذلك يشير: ((إنّ الإنسان الذي يقدم على عمل الإيثار تصحبه حالة من النشوة الروحية ويفيض قلبه سروراً لأنه يعتبر ما أصابه من مشقة وكدح في سبيل إسعاد الآخرين وراحتهم نوعاً من اللذة والمسرة التي لا يشعر بها في اللذات الحسية))(2).

إنَّ اللذة الحسية في رأي المطهري هي لذة عضوية ومتعلقة بحركة خارجية، مثل لذة الغذاء أو لذة عضو الشم أو اللمس، وهنالك لذات أخرى لا ترتبط بالجسم مثل لذة البطولة عند الإنسان الشجاع ، ولذة العالم الذي يكتشف حقيقة علمية هذه لذات يراها المطهري أنها خارجة عن الجسم وهي لذات غير حسية بل هي لذات معنوية، ويؤكد أن الإنسان الذي يصل إلى درجة كبيرة أي انتقاله إلى مرحلة عالية مرحلة الملكوت واتصاله بالله تعالى وتجاوزه المرحلة الحيوانية هو إنسان سعيد أم شقي ؟ والجواب واضح جداً هو إنسان سعيد وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنَ السعادة لا يمكن فصلها عن الكمال، والسعادة المنفكة عن الكمال هي سعادة اللذة الحسية أما السعادة الحقيقية المطلقة لا يمكن فصلها عن الكمال(3).

ص: 68


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص69.
2- يُنظر : المصدر نفسه، ص 70.
3- المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 70.

إن نقد المطهري لكانت في هذه المسألة نقد واضح، وقد جاء متفقاً مع بعض لمذاهب الأخلاقية الأخرى والأفكار التي حددت في مذهبها الأخلاقي في عدم الفصل بين الكمال أو الخير الأعلى والسعادة. إن الأخلاق في فلسفة أرسطو الأخلاقية هي أخلاق سعادة ، ولذا كان البحث عن السعادة هو المطلب الأسمى للإنسان وخيره الأعلى وغايته القصوى، فالفضيلة والنجاح والسعادة كلها ألفاظ مترادفة ولها معنى واحد ، لذا كانت غاية أخلاق أرسطو تهدف إلى تحقيق السعادة وهي الغاية القصوى للحياة، وهذه السعادة إنما تطلب لذاتها لا لأجل شيء آخر(1).

يرى أرسطو : ((أن السعادة تعمل على تحقيق شيء نهائي كامل مكتف بنفسه مادام انه غاية جميع الأعمال الممكنة للإنسان وهي بلا معارضة اكبر الخيرات أی الخير الأعلى))(2).

لقد تابع الفلاسفة المسلمون هذا الرأي ولم يفصلوا الكمال عن السعادة وكان لهم في هذا الموضوع في الدراسات الأخلاقية دراسات وافية تمثلت بأكبر فلاسفة الفكر الإسلامي.

حيث أشار الفيلسوف الفارابي إلى عدم الفصل بينهما، وفي رأي له يذكر: ((إما أن السعادة غاية ما يتشوقها كل إنسان، وان كل من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحوها على أنها كمال ما ، فذلك ما لا يحتاج في بيانه إلى قول، إذا كان من غاية الشهرة، وكل كمال غاية يتشوقها الإنسان فإنما يتشوقها على أنها خير ما ، فهو لا محالة مؤثر ولما كانت الغايات التي تشوق على أنها خيرات مؤثرة كثيرة ، كانت السعادة أجدى الغايات المؤثرة))(3).

أما الفيلسوف ابن سينا فقد كانت له دراسة وافية عن السعادة وهي(رسالة في السعادة) وهي رسالة ضمن مجموعة رسائل ابن سينا، فقد كان رأيه موافقا لأرسطو

ص: 69


1- ينظر : مرحبا، د. محمد عبد الرحمن، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية ، ج 1 ، منشورات عويدات، بیروت، 2007م، ص204-205.
2- أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقو ما خوس، ج 1، ص.192.
3- الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، ص47.

والفارابي في عدم الفصل بين السعادة والكمال ، وقد عد ابن سينا أن الخير الأعلى هو السعادة ، وفي ذلك يرد)) : غاية الخير هو بلوغ السعادة، والسعادة الحقيقية هی المطلوبة بذاتها والمستأثرة بعينها ، ومن الظاهر أن ما يستأثر لذاته وسائر الأشياء يستأثر لأجله أفضل حقيقة في ذاته مما يستأثر لغيره، أي ليس لذاته إذن فالسعادة هی أفضل سعي لتحصيله))(1). إن ابن سينا يؤكد هنا أن كل إنسان يبحث عنا الخير والذي هو السعادة في ذاتها.

من هنا يتضح أن المطهري في نقده لكانت في هذه النقطة جاء مدعوماً بآراء الفلاسفة الكبار الذي كان لنظرياتهم الأخلاقية في الفكر الفلسفي شأنا كبيرا وقيمة عالية في الدراسات الفلسفية.

2 - مطلقية أحكام الوجدان.

إنّ المطهري ينتقد كانت في هذه المسألة لأنه يرى أن كل أحكام الوجدان أو ما يسميه كانت بالواجب هي أحكام ليست مطلقة، وأن موضوع الإطلاق الذي ينسبه كانت لأحكام الوجدان قد أشكل عليه بعض الفلاسفة الغربيين أنفسهم وزعموا أن الوجدان ليست له أحكام مطلقة بالمقدار الذي يعطيه كانت لنظريته هذه، حيث توجد أحكام مطلقة وأخرى مقيدة ومن الأحكام المطلقة العدل والظلم، فإن الإنسان العاقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بنحو مطلق إلا أن هناك أحكام مقيدة مثل الصدق، والصدق مقيد بالمبدأ التي تعتمد عليه فلسفة الصدق وقد يحدث أن ينقلب الصدق من مبدأ إلى أخر فينقلب من حسن إلى قبيح ومن ممدوح إلى مذموم، إلا أن المطهري يرى أن ما ذكره كانت في نظريته من أن الوجدان يأمر بالصدق مطلقاً بلا رعاية للمصلحة وهذا رأي تنقصه الدقة(2).

ويعطي المطهري مثالاً لهذه المسألة : ((لو إن ظالماً يلاحق رجلا ما ليقتله ظلماً وعدوانا، وقد استخبر احد عنه وعن مكانه فماذا نجيبه ؟)) إن قال لا اعلم عنه شيئا

ص: 70


1- (ابن سینا، رسالة في السعادة، حيدر أباد، دائرة المعارف العثمانية، 1353ه، ص 222.
2- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 71-72.

فهو كذب لا يرتضيه وجدان ،كانت وان اخبره بمكانه سيقتله بغير وجه حق،هل الوجدان يأمرنا بالصدق مطلقا ايا كانت النتيجة؟ يرى المطهري أن هذا لا يمكن لأن الوجدان لا يرتضي ذلك ابدا فهو لا يرتضي الظلم وإهدار حق الآخرين وهذا حكم غير مقيد بعدم الكذب أن للمطهري هدفاً واضحاً من ذكر المثال أعلاه وهو لتحديد أن ليس كل الأحكام الأخلاقية هي إحكام مطلقة، وان جوز الفقه الإسلامي الكذب في موارد معينة وهي متى ما ترتب عليه مصلحة للفرد وإنقاذه وليس هدف الإسلام أن يجوز الكذب ليستغله الفرد ويتعود عليه ويستعمله في مواضع آخرى، وهذا ما جوزه الفقه الإسلامي يسمى هنا (بالتورية) والمقصود فيها لمن اضطر أن يكذب لمصلحة فهل يخطر في ذهنه شيء ويطلق في لسانه شيء، ويحث المطهري بعدم ممارسة الفرد الكذب المذموم المحرم باسم التورية كما يفعل بعض الأفراد(1).

ثالثاً: نظرية برتراند رسل.

لقد اشتهر الفيلسوف برتراند رسل(2)بآرائه ونظرياته الفلسفية التي تناولت مواضيع عدة ولا سيما في مجال الأخلاق، فهو يعد من الفلاسفة المعاصرين التي اتسعت كتابته وتنوعت مواضيعها فقد كتب في الفلسفة والرياضيات والمنطق واللغة فضلا عن ذلك كتب في الموضوعات الاجتماعية والتربوية والأخلاق والسياسة، ولم يترك مجالاً من مجالات العلوم المختلفة إلا ونجد له رأياً وتعليقاً عليه وهو من الفلاسفة الذي ترك مؤلفات فلسفية كثيرة وفي موضوعات مختلفة. وله دراسات في مجال الأخلاق وجدت في معظم كتبه(3)التي تناولت مواضيع متعددة في هذا الجانب، وقبل أن نعرض نقد المطهري لنظرية رسل في الأخلاق لابد من إطلالة واضحة لنظريته ومن ثم نورد نقد المطهري لهذه النظرية ..

ص: 71


1- المصدر نفسه، ص 73-75.
2- برتراند رسل (1872-1970م) فيلسوف وعالم منطق انكليزي ساهم مساهمة كبيرة في تطوير المنطق الرياضي الحديث وهو من طور المنطق الحديث وحسن لغة الرموز المنطقية. ينظر : فؤاد كامل وآخرون، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ص 220
3- أهم كتبه في الأخلاق هي: المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، التربية والنظام الاجتماعي، الزواج والأخلاق، في التربية، الفوز بالسعادة، السلطة والفرد.

ينظر رسل إلى الأخلاق على أنها : ((تختلف عن العلوم وذلك في أنّ مادتها الأساسية المشاعر والانفعالات وليست المدركات الحسية، وينبغي أن نفهم ذلك بمعناه الدقيق ،أي إن المادة هي المشاعر والانفعالات نفسها وليست واقعة، فالواقعة هي بمعنى أن لدينا حقيقة علمية مثل أية حقيقة علمية أخرى، ونحن نعرف وجودها بواسطة الإدراك الحسي بالطريقة المعتادة، ولكن الحكم الأخلاقي لا يقرر حقيقة واقعة، بل يقرر أملاً في شيء ما أو خوفاً منه، أو رغبة في شيء ما أو عزوفا عنه، أو حباً لشيء ما أو كراهية له، وان كان ذلك كله كثيراً ما يحدث في صورة مقنعة، وينبغي أن يوضع مثل هذا الحكم في صيغة التمني أو الأمر لا في صورة عرض لحقائق معينة، و أن العبارات الأخلاقية لا يمكن إثبات صحتها أو عدم صحتها عن طريق جمع الوقائع))(1).

إنّ الحكم الأخلاقي عند رسل هو ليس تقريراً لواقعة أو وصفاً لحقيقة ما، وإنما هو انفعال معبر عن حالة نفسية أشبه بانفعال الغضب أو الفرح فكل اختلاف بين الناس على تقدير الأفعال هو تقدير خلقي وهو من قبيل اختلافهم في الذوق، ولذلك فإن العبارات الدالة على الأحكام الأخلاقية تتميز بان قائلها يعبر بها عن رغبة يتمنى أن يطبقها جميع الناس في سلوكهم، ويتضح هنا أنّ رسل قد جعل من العبارات الأخلاقية عبارات ليس ذات صدق موضوعي إنما هی عبارات نفسية اجتماعية لأنها تدور حول ما يرغب فيه الناس وكيف يصلون إليه(2).

إنّ المبدأ الأخلاقي الأسمى الذي اعتمد عليه رسل هو: ((اعمل العمل الذي ينشأ عنه التنسيق بين رغبات أفراد المجتمع، وذلك أفضل من العمل الذي يؤدي إلى التنافر بين هؤلاء الأفراد، وهذا المبدأ ينطبق على كل مجتمع صغير أو كبير، وينطبق على رغبات الفرد الواحد وعلى أفراد الأسرة، والمدينة، والوطن، وكما ينطبق على العالم كله إذا كان العمل الفردي ذا أثر في العالم كله))(3).

ص: 72


1- برتراند راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ط1، ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة حسن محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1960م، ص 15.
2- يُنظر: محمود،: د. زکی نجیب، برتراند رسل، ط2، دار المعارف، مصر، 1965م، ص125. وأيضاً. فؤاد كامل وآخرون، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ص 215.
3- د. محمود زكي نجیب، براتراند راسل، ص 123-124.

ويتضح مما تقدم أن رسل قد جعل الرغبات الإنسانية هي أساس الفعل الأخلاقي، لأنه كان يعتقد بأن صواب الفعل الإنساني مرهون بالتوجيه السليم لرغباته فنشاط الإنسان إنما هو نشاط يستلزم الضبط والتوجيه الأهداف وبلورة الغايات(1). لهذا عد المبدأ الأخلاقي الذي وضعه رسل في الأخلاق هو ((مبدأ الأخذ والعطاء أو التراضي الاجتماعي، ولا يعتمد هذا المبدأ على الدين ولا على الخرافة، وإنما ينبعث بصفة عامة عن الرغبة في حياة هادئة، فعندما أريد شيئا من البطاطس مثلا فإني قد أتسلل ليلاً واستولي على بعض منه من حقل جاري وجاري قد ينتقم بأن يسرق الفاكهة من شجرة تفاحي، وهكذا فإن كلاً منا سيجد نفسه في حاجة إلى حارس يبقى يقظاً طوال الليل ضد مثل هذه الاعتداءات ويكون هذا غير مريح ويسبب إزعاجاً في النهاية سنرى أن الأمر يكون أقل إزعاجاً أو كثر راحةً لو أنّ كل منا احترم مال الآخر))(2)، لكي يعيش الإنسان أكثر استقراراً واقل إزعاجاً أن هنالك طريقاً واحداً يوصل الإنسان إلى هذا الاستقرار ويبين في ذلك ((إنّ ذكاء الإنسان قد دله على أن الانفعالات كثيراً ما تكون من عوامل إخفاقه، وأن رغباته يمكن إشباعها بصورة أتم، وأن سعادته تكون أكمل وأنه لو لم يكن هناك سوى الذكاء وحده، لما كان هناك مكان للأخلاق))(3).

يتبين أنّ غاية الأخلاق أو الفعل الأخلاقي عند رسل هو تحقيق غاية وتنفيذ الرغبة الفردية وبذلك فقد حدد الفعل الأخلاقي بأنه الفعل الذي يصدر عن قصدنا وكامل إرادتنا وينظر إليه على أنه فعل صائب بغض النظر عن نتائجه ما دام يمكن أن يحقق غايات الفرد وينفذ رغباته(4). لذلك نظر إلى القواعد والأفعال الخلقية على أنها قواعد عملية ضرورية للحياة إلا أنّ معظم هذه القواعد وفي قسمها الأعظم يعتمد على أفكاراً خرافية، وما غاية الحياة التي يسعى إليها كل إنسان إلا تحقيق السعادة ويمكن للإنسان أن يصل إلى هذه السعادة بمكافحة الخوف والتأكيد على الشجاعة عن

ص: 73


1- يُنظر : عويصة، كامل محمد، برتراند راسل فيلسوف الأخلاق والسياسة، ط1، دار الكتب العالمية، بيروت، 1993م، ص 23.
2- برتراند راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص26.
3- المصدر نفسه، ص 9.
4- ينظر: العزاوي، هبة عادل، فلسفة الأخلاق عند براتراند راسل، رسالة ماجستير، أشراف ا.د. ناجي التكريتي، مقدمة إلى مجلس كلية الآداب، جامعة بغداد، قسم الفلسفة، 2001 م، ص 30.

طريق التربية(1). بعد الدراسة الموجزة لنظرية رسل في الأخلاق نورد أهم نقاط النقد التي وجهها المطهري لهذه النظرية.

1- يرى المطهري أنّ الأخلاق التي ينشدها رسل هي أخلاق نفعية مادية تفتقر إلى ثوب القداسة والقيمة الرفيعة فهي لا تهدف إلى شيء سوى المنفعة، فما يقوله راسل عن الأخلاق لا يرتفع عن المصلحة، بل هو المصلحة بعينها، وهذا خلاف للشعارات التي يبغي إليها، وهو من الأشخاص الذين تتناقض شعاراتهم لفلسفتهم فهو معروف بإنسانيته والدفاع عن حقوق المحرومين في حين نجد فلسفته قائمة على أساس حب الفرد لمصلحته الخاصة وطلبه للسعادة والكسب والسعي للمنفعة وبهذا فقد انخدع كثيرون بشعاراته الأخلاقية(2).

ترى الباحثة أن نقد المطهري وارد في هذه النقطة وذلك لأن الأخلاق الفردية التي ينشدها رسل تتضح هنا هو تمسك الإنسان بالأنا الذاتية وعدم الاتجاه نحو الأخلاق التي تتجه نحو الفعل الأخلاقي المنطلق من أحساس الإنسان لنوع وقيمة هذا الفعل الأخلاقي لذلك فالأخلاق الفردية أخلاقاً خالية من القيم الرفيعة ولا يمكن عدها إلا أخلاقاً جعلت الإنسان ينظر إلى نفسه من خلال جوانبه المادية والسعي إلى إشباع رغباته، لذلك من الضروري أن ننقد هذه الأخلاق خاصة وان الإنسان يعيش ويتعايش مع مجتمع تربطه معه علاقات أخلاقية وكذلك علاقات اجتماعية وحضارية، فالإنسان يستمد من المجتمع إنسانيته وقيمه الأخلاقية فيكون على صلة وثيقة بمجتمعه وأفراده، فلا يمكن للإنسان أن يتجه نحو الأخلاق التي تكون الغاية منها تحقيق المنفعة الشخصية والرغبات الفردية.

2- إنّ ما ذكره رسل في المثال سابقا في التسلل ليلا وسرقة بطاطس الجار وقيام الجار بسرقة الفاكهة من شجرة تفاحي وحاجة كل من الجار إلى أن يبقى يقظا طوال الليل وهذا أمر غير مريح ويسبب إزعاجاً ولكي يكون الأمر اقل إزعاجا وأكثر راحةً

ص: 74


1- ينظر: بوشنسكي، أ. م ، الفلسفة المعاصرة في أوربا، ترجمة: د. عزت ،قرني عالم المعرفة، الكويت، 1992م، ص 80.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص212.

لو أن كل من الجيران احترم حق الآخر ، يرى المطهري أن مسألة الاحترام وعدم التجاوز على الآخر رأي مقبول في حالة توازن القوى، لكن كيف سيكون الأمر إذا كانت إحدى القوتين أقوى وأشد بأساً من القوى المقابلة لها فما ذكره رسل لا يكون له أثر أصلاً لان الطرف الأقوى يدرك أنّ الطرف الآخر الضعيف لا يمكنه المساس بمصالحه والاعتداء عليه حتى ولو بعد مائة عام(1). يرى المطهري أنّ هذه النظرية تزلزل قاعدة الأخلاق من الأساس لأن الأخلاق تكون حاكمة في الموضع الذي تتساوى فيه القدرات بحيث يخشى الطرف المقابل بقدر ما يخشاه الطرف الآخر ويكون في مأمن بنفس المقدار الذي يكون فيه مأمن الطرف الآخر ولهذا فان أفكار راسل تنعدم فيها الأخلاق لأنها تعطي للقوي الحق في استخدام قوته ضد الآخرين لأنه ما من احد يستطيع أن يأمر القوي بالكف والوقوف عن إيذاء الآخرين وصده عن القيام بالأعمال المؤذية ضد الغير، لأنه إن لم يكن ضعيفاً فليس هناك من سبب يدعوه للكف عن ذلك العمل ومن هنا فان هذه النظرية تجيز للقوي أن يفعل ما يشاء(2)وهنا يحدد المطهري أنّ الأخلاق الفكرية أو أخلاق الذكاء عند رسل هي أخلاق تكون حاكمة على أساس المنافع الفردية(3). وأن شعارات المحبة والسلام للإنسان التي نادت بها فلسفة رسل تختلف عن واقعيتها، لأنّ فلسفته تقتلع جذور المحبة الإنسانية خاصة وانه يعتقد أن المصلحة الفردية هي أساس الأخلاق الاجتماعية، وهذه الأخلاق الفردية هي التي تحكم سلوك الفرد وتصرفاته وان مصلحته الشخصية هي التي تجعله يكون مرتبطا بالتعاون مع الآخرين(4).

3- الإشكال الآخر الذي يورده المطهري هو في الغاية من الأخلاق وهو منع تجاوز القوى وهو في ذروة قوته، ورأي المطهري الوارد هنا استناداً على ما جاءت به الشريعة الإسلامية والأخلاق القرآنية وهو منع التجاوز على الغير وإن كان الإنسان

ص: 75


1- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص213
2- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص71.
3- يُنظر : المطهري، التكامل الاجتماعي للإنسان، ص31.
4- يُنظر : المصدر نفسه، ص 31.

أعلى درجة من القوة(1)ويستشهد المطهري في ذلك بقول الإمام علي عليه السلام ((أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة))(2).

ولهذا يرى المطهري أن ما جاءت به نظرية رسل في أن ((الأخلاق القائمة على المنافع لا تنفع إلا في حالة تعادل القوى وتكافئها هذا فيما لو تساوت القوتان أما لو تفاوتتا فلا مكان للأخلاق وعلى هذا فأخلاق رسل ليست أخلاقاً بل مضادة للأخلاق لأن الأخلاق تساوي القيمة والقداسة وشيئاً أعلى من المنافع المادية))(3).

وإشكال المطهري في هذه النقطة وارد بناءً على أنّ الشريعة الإسلامية تمنع وتحد من تجاوز الإنسان على أخيه الإنسان، وإن امتلك أكبر قوة والإنسان لا يقاس بمدى قوته باتجاه الغير، وإنما بأخلاقيات أفعاله فهو مهما بلغ من القوة والقدرة يجب أن تبقى في طباعه ونفسه الأخلاقية العفو والتسامح وعدم التجاوز على الغير.

المبحث الثالث ، نظرية المطهري الأخلاقية (نظرية العبادة)

العبادة تعني الطاعة والتعبد والتنسك، وأصل العبودية الخُضُوع والذل(4). والعبادة ((هو فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه))(5). والعبودية تعني الانقياد والطاعة والالتزام بعبادة الله تعالى دون سواه والامتثال لأوامره ونواهيه بلا إضافة وبدعة وتقصير ونقصان ولا إشراك احد معه بل الإخلاص له وحده سبحانه وتعالى(6). لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ليعبده وحده ويمتثل لأوامره، فعبادة الله وطاعته واجب وتكليف، وما على الإنسان إلا الاستجابة والامتثال لأوامر الله تعالى وطاعته(7). قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ*(8)

ص: 76


1- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام.
2- يُنظر : الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 120.
3- المطهري : فلسفة الأخلاق، ص 212-213.
4- يُنظر : الرازي، مختار الصحاح ، ص408.
5- الجرجاني، التعريفات، ص 27.
6- يُنظر : الميلاني، محمد، معجم الكلام، مطبعة تابان، غيران، 1417ه، ص 249 .
7- يُنظر : المطهري، طهارة الروح، ط1، ترجمة: خليل زامل العصامي، مطبعة ظهور، قم، 1386ش، ص 19.
8- سورة الذاريات، الآية 56 .

وتعد نظرية العبادة من النظريات المطروحة التي في ضوئها يحدد الفعل الخلقي للإنسان، وهذه النظرية تفسر جميع الأفعال الأخلاقية التي يقوم بها الإنسان ويشهدها جميع بني البشر، بأنها أفعال تمتاز بالشرف والسمو والثناء والمدح والرفعة، وهذه الأفعال تختلف عن سائر الأفعال الطبيعية عند الإنسان، لذلك فجميع ما يصدر من هذه الأفعال الأخلاقية إنما هي من سنخ العبادة(1).

ويعد المطهري من القائلين لهذه النظرية، فبعد العرض المسبق الذي عرض بنقده للنظريات الفعل الأخلاقي، يعرض المطهري نظريته في الفعل الأخلاقي بعرضه أن الأخلاق تدخل في ضمن موضوع العبادة، فهذه النظرية مرجع أساسي للأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة، أي بمعنى أن السلوكيات الأخلاقية تُعد من مقولة العبادة(2).

ويشير المطهري أنه قد اثبت أن للإنسان نوعين من الشعور أحدهما الشعور الظاهري الذي يكون الإنسان على اطلاع مباشر عليه، أما الآخر فهو الشعور الباطني ويكون خارج عن سلطة الشعور الظاهري ولا اطلاع للإنسان عليه ، ولدعم رأيه هذا بتمسك المطهري بآراء علماء النفس الذين يعتقدون أن القسم الأكبر من الشعور الإنساني مغفول عنه و ما هو منظور عند الإنسان الجزء الصغير منه، ولهذا يرى المطهري أن في داخل ضمائرنا وفي باطننا سلسة من الأفكار والإحساسات والمعلومات والميول وقد نتصور انه لاشيء من وراء ذلك إلا أنه في الواقع توجد معلومات ومدركات ومشاعر ورغبات كثيرة مترسبة في أعماقنا ونحن عنها غافلون وقسم منها خاف عن ظاهر شعورنا(3). ويتضح هنا أن المطهري من الشعور الأخلاقي هو نفس الشعور الباطني وهو بحد ذاته شعور بمعرفة الله تعالى.

إِنَّ نظرية العبادة التي يعرضها المطهري هي: ((الخروج من دائرة الذات المحدودة والضيقة، والخروج من محدودية الآمال والتمنيات والانطلاق و العروج إلى الكمال

ص: 77


1- ينظر: المطهري، طهارة الروح، ص 31-32.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 94-95
3- يُنظر : المصدر نفسه، ص 95.

المطلق، لأن في العبادة التجاءً وانقطاعاً واستنجاداً بالمعبود وتحرراً من الأنا وعبادة الذات والأفعال))(1).

يتضح من تعريف المطهري للعبادة هنا تأكيد الاتصال بين الإنسان والله أي توثيق الصلة بينهما اتصال الإنسان بالله أي اتصاله بالكمال المطلق والعروج إليه، فالإنسان لا يمكن أن يتصل بالمطلق العالي إلا بواسطة نظريه العبادة، فالعبادة هنا هي تجرد الإنسان من الأنا والذات المحدودة هذه الأنا النازعة نحو الشهوات والملذات ، فبالعبادة يخرج الإنسان عن شهواته الدنيوية والاتجاه نحو الحق تعالى لأنه اتجاه نحو الكمال والعدل والخير والتخلق بذاته تعالى، فالعبادة هي من تتوق بالإنسان وتشد به نحو الخير ليتحلى ويمتثل بالصفات الأخلاقية الحميدة والتخلص من عبودية الأنا المحددة.

ولهذا يقر المطهري بأن الحس الخلقي يوصل إلى الله، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن معنى الأخلاق من مقولة العبادة، فالإنسان يمارس سلسلة من السلوكيات الأخلاقية في حياته، إذ يقبل عليها برغبة وشوق، فإن خالف هواه فيها ومنافعه الشخصية ارتقى إلى كمالاته المنشودة، لأن الأخلاق توصل إلى المطلق، فالمطهري يرى أن الحس الأخلاقي غير منفصل عن معرفة الله سبحانه، فالحس الأخلاقي هو حس معرفة الله (تعالى) وإدراك وجوده(2).

ويرى المطهري إنّ لله نوعين من القوانين قوانين، مثبتة في فطرة الإنسان وأخرى ليست موجودة في فطرته بل هي متفرعة عنها حيث يتم بيانها وتقريرها من قبل الأنبياء عليهم السلام فقط، ومع تأييد الأنبياء القوانين الفطرية فأنهم يأتون بقوانين أضافية أخرى للبشرية تتلاءم وتنسجم مع عمق روح الإنسان وقلبه وفطرته، لكن بنكهة جديدة ومن خلال معرفة الإنسان لله تعالى يستطيع تمييز تلك القوانين والحصول لرضا الله سبحانه(3)، ويدرك الإنسان وجود الله تعالى بفطرته وعن طريق

ص: 78


1- المصدر نفسه، ص 97-98.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 101.
3- نراقي، د، احمد، مطهرى ونظرية فطرت، مجلة كيان، العدد 12، أنشارات صدرا، طهران، 1372ش، ص 29.

حاسة باطنية لاشعورية يدرك وجود الله تعالى كذلك يدرك قانون الله ويعرف ما فيه رضاه فهو بالفطرة يتجه نحو رضاه تعالى وان كان لا يعلم بأنه يسير في هذا الاتجاه وهنا يستشهد المطهري بعابد الوثن (حاتم الطائي) بالرغم من شركه إلا أن الأفعال الأخلاقية التي كانت تصدر منه وهي الكرم هي أفعال فطرية لاشعورية(1).

وبناءاً على ما تقدم يتوصل المطهري إلى حقيقة كاملة وهي اعتبار الأخلاق من العبادة على اعتبار إن الإنسان يقدم على إتباع مجموعة من التعاليم الإلهية بقدر عبادته لله تعالى وبطريق اللاشعور ووقت ما تتحول عبادته اللاشعورية إلى عبادة شعورية واعية تصبح كل أعماله وسلوكياته ذات صبغة أخلاقية بلا فرق بين عمل وآخر حتى أكله ونومه(2).

يتبين مما عرضه المطهري في نظرية العبادة وتأييده لهذه النظرية وعدها أساس الأفعال الأخلاقية إنما كان يهدف إلى غايات محددة وهي توثيق صلة الإنسان بالله تعالى وهذه الصلة لا يمكن أن تتم إلا من خلال نظرية العبادة وبذلك يضع المطهري هذه النظرية ويجعلها الأساس في الأخلاق ليجعل الإنسان على معرفة تامة بالله تعالى أي الوصول إلى العالم الآخر عالم الكمال المطلق، كذلك أراد المطهري من عرضه هذه النظرية لأجل تأسيس الأخلاق على الدين، فالأخلاق البشرية لا تنهض من دون الدين ولا تستقيم بلا دين مؤيد وداعم لها، ويرى المطهري أن التجارب قد أوضحت انه انه في الموضع الذي يفرق فيه بين الدين والأخلاق تكون الأخلاق متأخرة جدا فالدين دعامة الأخلاق الإنسانية وعمادها والضامن والمتكفل الوحيد التطبقها واستمرارها(3).

ورأي المطهرى هنا جاء رأياً متفقاً مع رأي أستاذه الفيلسوف محمد حسين الطباطبائي الذي ربط الأخلاق بالدين، فهو يرى أن الأخلاق ترتبط ارتباطاً شديداً بالعقيدة من ناحية وبالفعل والعمل من ناحية أخرى، إن الإيمان يمثل الخلفية التي يستند إليها النظام الأخلاقي خاصة أن الإيمان بشيء ما يستوجب حتما وجود أخلاق

ص: 79


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص102.
2- المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص103.
3- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص74.

تتناسب مع ذلك الإيمان أو الاعتقاد، وعلى هذا الأساس يوجد نوع من التناسب بين الإيمان والأخلاق ، فالإيمان يؤدي وظيفة مهمة في نشوء أخلاقيات الإنسان، بل حتى في بقائها فضلاً عن أن الأخلاق مكفولة بشكل أو بآخر بالإيمان، أو إن علاقة الإيمان بالأخلاق تتمثل في كون الإيمان يكفل الأخلاق ويدعمها(1).

ولذلك يقول الطباطبائي : ((إذا أريد للأخلاق الفاضلة أن تبقى وتستمر فلا بد من وجود ما يضمن ذلك ويحافظ على استمراره ، وما ذلك إلا التوحيد ومن الواضح انه في حال عدم إيمان الناس بالمعاد لن يكون هناك ما يمنع البشر من الجري وراء الأهواء والشهوات أو الوقوف بوجه الملذات، فالتوحيد هو القاعدة الصلبة التي يقف عليها صرح السعادة الإنسانية والأخلاق الكريمة))(2).

وتأسيسا على ما تقدم يمكن أن نوضح أن المطهري في عرضه نظرية العبادة و إرجاع الفعل الأخلاقي إليها، يتبن لنا أن المطهري كان يتوخى جوانب مهمة لعرضه هذه النظرية، ذلك لأنه لم تقتصر نظرية العبادة عنده على المعنى الديني وارتباط الإنسان بالله تعالى، بل يجعل لها معنى أخلاقيا له تأثير على الإنسان، ولهذا يرى المطهري ما للعبادة من أثر روحي وأخلاقي كبير مؤثر على الإنسان في العودة إلى الذات، يقول المطهري في ذلك: ((إن العلاقة بالماديات والغرق فيها تفصل الإنسان عن شخصيته الواقعية وتجعله بعيدا عن نفسه، كذلك وبنفس النسبة ترجع العبادة بالإنسان إلى نفسه وذاته وشخصيته الواقعية فهي توقظ الإنسان وتبث فيه الوعي ، فبالعبادة يقظة الإنسان وهي تنقذ الإنسان الغريق والفاني في الأشياء من أعماق بحار الغفلات، فالإنسان في ظل العبادة وذكر الله یری نفسه كما هي عليه وينتبه إلى نقصانها وانكسارها وينظر من خلال أضواء العبادة إلى الحياة والزمان والمكان، وبالعبادة يدرك دناءة آماله وحقارة مناه المادية المحدودة، فيحاول أن يفر منها ويتحفز للسير وبلوغ مركز الوجود))(3).

ص: 80


1- يُنظر : الطباطبائي، محمد حسين، بحوث إسلامية، مؤسسة دين ودانش، قم، 1984م، ص88.
2- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 11، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1362ه، ص155.
3- مطهري، في رحاب نهج البلاغة، ص 201 وأيضاً : المطهري، طهارة الروح ، ص 155.

إن غاية المطهري واضحة وهي ما للعبادة من تأثير على الجانب الروحي والأخلاقي والاجتماعي والتربوي عند الإنسان وخاصة ونحن على يقين ما تعنيه العبادة في الإسلام ، فلها دور مهم في تربية وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع الإسلامي، فهي تحمل في طياتها أهدافا أخلاقية سامية منها تنظيم حياة المجتمع وقيادة إفراده نحو التربية الصالحة لأنها تعد المحور المنظم لتكوين حياة المجتمع وفق أسس إسلامية وتقوية أواصر إفراده وإشاعة روح التلاحم فالإنسان يفعل الخير و يدعو له وينهي عن الشر ويتجنبه من هنا نعطي للعبادة الدور المهم للإنسان.

لذلك يحدد المطهري الفعل الأخلاقي ((هو الفعل الذي لا يكون هدفه تحصيل المنافع المادية أو الدنيوية سواء كان الأثر الذي ينشأ منه في هذه الدنيا هو إيصال النفع إلى الغير أو أي شيء آخر وبناءً على هذا فالجذر الرئيس الذي يجب سقيه هو الاعتقاد بالله))(1).

يرى المطهري ان النظرية العبادة توظيفاتاً أخلاقية، أي إن في العبادات شعائر تؤدي بالإنسان إلى تكامله، يقول الإمام علي(علیه السّلام):((دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة))(2)،إن في العبادة شعائر عظيمة هي من تجعل الإنسان يسير في طريق الله، ومن ثم توجه الإنسان إلى طريق التكامل نحو الله تعالى، كذلك إن في العبادة شعائر من تضع الإنسان في تكامل روحي ونفسي، وان هذه الشعائر هي الصلاة والصوم والزكاة والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الشعائر العبادية الأخرى التي تجعل الإنسان يسير إلى الله والى الخير الأخلاقي، ونجد هنا في هذه المسألة أثر صدر الدين الشيرازي واضحاً على نظرية المطهري في تأثير العبادة على المنظومة الأخلاقية عند الإنسان وخروجها من إطارها الديني الاعتقادي إلى الإطار الأخلاقي كي تصل بالإنسان إلى غاية الكمال، لقد أكد صدر الدين الشيرازي ما للعبادة من تأثير على الأخلاق، فهو يرى أن العبادة لها أهداف سلوكية وقيما أخلاقية تحث الإنسان على ممارستها، فيرى أن الشعائر العبادية التي يقوم بها الإنسان من صوم

ص: 81


1- مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 87.
2- الآمدي ، غرر الحكم في درر الكلم، ص5147.

وزكاة وحج تأثير في أخلاقية الإنسان ووصوله إلى الكمال، يقول الشيرازي: ((الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد وغيرها فله تأثير في تنوير النفس وتخليصها من أسر الشهوات وتطهيرها عن غواسق الهيوليات والأعراض من الدنيا إلى الأخرى ومن المنزل الأدنى إلى المحل الأعلى، فلكل عمل منها مقدار معين من التأثير في التنوير والتهذيب....))(1)، ويقول الخميني(قدس سره): ((إن لكل عبادة من العبادات لها أثر خاص يحصل في النفس، مما يقوي الإرادة شيئا فشيئا ويصل بقدرتها إلى حد الكمال))(2). فالعبادة هي من يصل بالإنسان إلى الكمال الإنساني، وتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والراحة والاطمئنان واظفر والرضوان في الآخرة، ويرى المطهري أن العبادة تمثل حاجة روحية ثابتة من حاجات الإنسان، وهو لا يستطيع أن ينفك عنها، ولهذا تعد العبادة مصدراً أساساً من مصادر تكامله وبناء شخصيته الإنسانية الكاملة، وكسب للأخلاق الفاضلة(3)، ولهذا يقول المطهري: ((العبادة مركب يتخذ للتقرب إلى الله وأداة لتكامل الإنسان))(4)، وهو يرى أن الإنسان لا يمكن أن يكون كاملاً إلا بالعبادة(5).

ولهذا تدرج الكثير من الشعائر العبادية التي تمثلها نظرية العبادة، وما هذه الشعائر إلا طرق يمكن أن تصل بالإنسان إلى الكمال الأخلاقي.

واهم هذه الشعائر هي:

1- الصلاة، ويستشهد المطهري بالآية القرآنية الكريمة، قال تعالى: تُلُ مَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ*إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ * وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(6)*.يرى المطهري، في هذه الآية يتجسد ما للصلاة من الأثر الروحي في نفس الإنسان، وهو أن الصلاة ترفع الإنسان إلى الكمال، وهذا

ص: 82


1- الشيرازي، صدر الدين، أسرار الآيات، ص 203.
2- الخميني، الأربعون حديثا، ص.162.
3- يُنظر : المطهري، طهارة الروح، ص30 ، وأيضاً، مطهري التربية والتعليم في الإسلام،ص120.
4- المصدر نفسه: ص151.
5- يُنظر : مطهري، الإسلام ومتطلبات العصر، ص 243.
6- سورة العنكبوت، الآية 45.

الاعتلاء يُنهي الإنسان ويصرفه عن عمل الفواحش والمنكرات والآثام، ولهذا فان في الصلاة استقامة الإنسان وصلاح أخلاقه، وسلامة عقله وروحه، وقلبه(1). يقول النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً))(2)، وقال الإمام الصادق(علیه السّلام)((نزل جبرائيل على النبي فقال يا محمد : ما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء الفرائض، وإنه ليتنفل لي حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها))(3).

إن الصلاة نموذج للعلاقة بين المخلوق والخالق، وهي وسيلة تحسن خلق الإنسان وتصل به إلى الكمال الخلقي أي الطهارة والنقاء، وتحصنه من رذائل الأخلاق.

2- الصوم، ويرد المطهري من الشعائر الأخرى في فلسفة العبادات هي الصوم، وله تأثير كبير في نفس الإنسان من الناحيتين الفردية والاجتماعية، ففي الصوم تهذيب للنفس وتجفيف لمنابع السوء والشر، فالإنسان يعيش في أيام الصوم مع نفسه أيام خشوع وتخلية لتهذيب هذه النفس من كل المعاصي والمنكرات(4).

3- الزكاة ، يرى المطهري أن فيها نموذجا لحسن علاقات المسلمين بعضهم مع بعض، فتؤدي بهم الزكاة إلى الألفة والمحبة والتعاطف والتراحم الإسلامي فيما بينهم، ويحمي بعضهم بعضاً(5). ويتضح غرض المطهري في توظيف الزكاة توظيفا أخلاقيا بجعلها سببا في إزالة التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع أي الغني والفقير، فبها يرفع هذا التفاوت ويزال الحقد والحسد وذلك لمساعدة الأغنياء الفقراء(6).

4- الجهاد، ويرى المطهري أن فيه عامل تربية وإصلاح للنفس الإنسانية، ويبرز

ص: 83


1- يُنظر : المطهري، طهارة الروح، ص 41.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج 79 ، ص 189.
3- المصدر نفسه، ج72، ص155.
4- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص235.
5- يُنظر : مطهري، الولاء والولاية، ص 21.
6- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 235.

هذا العامل في نفس الإنسان لما له من دور في تقوية روح الإيمان في نفس الإنسان ومواجهة الموت بكل ثبات وإيمان، فالمسلم في جهاده يواجه الموت بكل عزيمة وشجاعة من اجل دينه وإيمانه، وهو غير مرتاب منه، لهذا رأى المطهري أن في الجهاد عاملا من عوامل تربية أخلاق الإنسان وإصلاحه(1).

5- التقوى، يرى المطهري أن التقوى من الشعائر العبادية التي لها تأثير في كمال روح الإنسان، فالتقوى هي خصيصة روحية أخلاقية، لها من تأثير في نفس الإنسان، فلها في التبصر والرؤية الواضحة، والنجاة من المهالك والشدائد، فالإنسان يقع في ظلمة غبار المعاصي والآثام والأهواء، ولكن ما أن يسطع نور التقوى على الإنسان حتى يتبين له الطريق السليم الذي ينجيه من المهالك ويقيه من الآثام ليصل الإنسان إلى طريق النجاة، فالتقوى هي من تصل بالإنسان إلى أوج الكمال والعزة(2)، ويستشهد المطهري بقوله تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفِ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ * ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخر*وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(3)*.إن العبادة وما تتضمنه من كثير من الشعائر هي من تصل بالإنسان إلى الكمال الإنساني.

ص: 84


1- يُنظر : المصدر نفسه، ص 236.
2- يُنظر : مطهري، التقوى، ط1، ترجمة جعفر صادق الخليلي، دار الإرشاد، بيروت، 2009م، ص192-193.
3- سورة الطلاق، الآية 2.

الفكر الأخلاقي عند محمد باقر الصدر

اشارة

أ.م.د. رائد جبار كاظم(1)

المقدمة

مبحث الأخلاق أحد المباحث المهمة والأساسية في ميدان الدين والفلسفة وعلم الكلام والتصوف، وقد كان للفكر الاسلامي النصيب والحظ الأوفر في حجم الدراسات والكتابات الأخلاقية، في المجال الفقهي والفلسفي والنفسي والاجتماعي، لما للاخلاق من أهمية في تاريخ الشعوب والمجتمعات البشرية، ولذلك أولى الفلاسفة والعلماء والفقهاء الأهمية الكبري لهذا المبحث في كتاباتهم، لتحقيق تقدم ونهضة ونجاح الفرد والمجتمع الاسلامي بين شعوب العالم، فإن كانت المجتمعات البشرية تتسابق وتفتخر في تحقيق نجاحها العلمي والتكنلوجي

ص: 85


1- الجامعة المستنصرية - كلية الآداب - قسم الفلسفة : يؤكد الباحث ان المطلع على فكر الصدر وكتبه وكتاباته ومحاضراته يعي جيداً ويدرك حجم الفكر الاخلاقي في مشروع وخطاب الصدر الفكري، وكأن الصدر قد أدرك خطورة المسألة الأخلاقية وقيم الأخلاق والانقلاب الاخلاقي داخل المجتمعات عامة والمجتمع الاسلامي على وجه التحديد، ولذلك سعى لتقديم مشروع فكري اسلامي متكامل يتسم بالاخلاق والتربية والاصلاح والتغيير من جميع جهاته، فهو قد شخص المشكلة الخلقية في المجتمع الاسلامي وأخذ على عاتقه تقديم نظريته الفكرية في هذا المجال رغم انه لم يترك لنا مؤلفاً محدداً بعينه يتناول قضايا وفلسفة وفقه الأخلاق، ولكن مشروعه الفكري برمته مشروع أخلاقي باختلاف مجالاته الفكرية التي درسها الفقه والاقتصاد والاجتماع والسياسة والفكر والفلسفة والتاريخ، يتضح من خلالها الفكر والنزعة الأخلاقية بأبهى صورها لانه ينتمي الى المدرسة الاسلامية في الأخلاق والى منهج أئمة أهل البيت (ع) في التربية والسلوك والعرفان. يتلخص لنا أن فكر الشهيد الصدر الأخلاقي ينتمي الى أسس دينية بحتة، وأنه يعطي للغيب الدور الكبير في رسم أخلاق الانسان، ويجعل الأخلاق هي الأساس التي تجعل من الإنسان انساناً حقيقياً على وجه الأرض، بل هي التي تحدد خارطة علاقته مع الله تعالى ومع الطبيعة ومع المج- الطبيعة ومع المجتمع، ان خيراً فخير، وان شراً فشر. المحرر

والاقتصادي، فعليها أيضاً أن تتسابق من أجل رقي وتقدم ونجاح أخلاقها وسلوك أفرادها داخل مجتمعاتهم، فهو الضامن المهم والأساس لضبط حركة ومسار ومسيرة المجتمعات، فلا وجود لتقدم مادي وحضاري حقيقي لدى الشعوب مالم يسير الى جنبه التقدم والرقي الأخلاقي، بل للجانب الثاني الأثر الكبير والمهم على الجانب الأول. ولذلك كانت حصة دراسة الاخلاق والفكر الاخلاقي والفلسفة الاخلاقية في الفكر الاسلامي كبيرة جداً قديماً وحديثاً.

فيما يخص المفكر العربي والاسلامي الشهيد محمد باقر الصدر، فإن فكره يعد فكراً أخلاقياً بأمتياز، رغم أنه لم يقدم كتاباً مستقلاً عن الفكر الأخلاقي أو فلسفة الأخلاق أو فقه الأخلاق، ولكن مشروعه الفكري يضج بالفكر الأخلاقي، بل يكاد أن يكون مبدأ الأخلاق هو المحرك الأساس لكل كتابات ومحاضرات ومشروع الصدر، على المستوى الاجتماعي والديني والسياسي والاقتصادي والفقهي والاصولي والفلسفي، فالتجاور بين التربية والأخلاق والسلوك هو الذي جعل مشروع الصدر برمته يكون مشروعاً أخلاقياً عاماً للانسان المسلم، ومنهج الاسلمة هو الطريق الذي اختطه الصدر للسير في رسم مسيرته الحياتية ومساره الفكري، بل كان بشخصه وشخصيته يعد رمزاً أخلاقياً سامياً ومصداقاً حقيقياً للانسان الكامل الذي قدم نفسه قرباناً خالصاً للدين والاخلاق والاسلام.

لقد كانت مؤلفات الصدر برامج نظرية وعملية قدمت للفكر الاسلامي وللواقع والفرد والمجتمع الاسلامي، مقابل المشاريع الفكرية والفلسفية الغربية والأجنبية التي أعطت الأولوية للعقل وليس للدين، من أجل إعطاء الحرية المطلقة للانسان في ممارسة حياته وسلوكه، ولكن بالنسبة للمدرسة الدينية التي منها السيد الصدر، فإنه يولي الدين أهمية كبيرة في صياغة وبناء أخلاق الإنسان المسلم، وأراد الصدر تقديم نظرية اسلامية متكاملة في الدين والدنيا، تحاول أن تناقش قضايا ومشكلات الإنسان وتفرعاتها، الإنسان مع نفسه، ومع خالقه، ومع ومع أخية الانسان، ومع الطبيعة، لتحقيق صورة متكاملة عن الإنسان المسلم ، ذلك الإنسان الذي يستنير بالدين والقرآن والسنة

ص: 86

النبوية، لتحقيق تكامله ووعيه وصياغة قيمه وأخلاقه وبناء حياته ومجتمعه، والسمو نحو مدارج النجاح والتقدم والكمال في حياته.

لقد كان الباحث الجزائري محمد عبد اللاوي على حق حين قال عن الفكر الاخلاقي عند الشهيد الصدر: (فقد طرح الشهيد السيد محمد باقر الصدر المشكلة الأخلاقية بصورة فلسفية مباشرة، من موقع منهجيّة خاصة لا تُحدث قطيعةً بین القضايا. فالمشكلة الأخلاقية طُرحت في كتابات الشهيد بالموازاة مع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقائدية والفقهية؛ فالشهيد طرح أصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة طرحاً جديداً، وانتهى إلى الانفتاح على إشكالية جديدة في مجال القيم الأخلاقية، فهو كان واعياً وعي مجتهد، بأن تعقد أحوال العصر تقتضي تجاوز حجز الفكر الإسلامي، في دائرة الوعظ والإرشاد في دائرة الرؤية المبسطة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأحوال العصر تقتضي - في نظر الشهيد - تجاوز النظرة التجزيئية للمبادئ والقيم الإسلامية، للوصول إلى مقاربة فلسفية للمشكلة الأخلاقية)(1).

فالمطلع على فكر الصدر وكتبه وكتاباته ومحاضراته يعي جيداً ويدرك حجم الفكر الاخلاقي في مشروع وخطاب الصدر الفكري، وكأن الصدر قد أدرك خطورة المسألة الأخلاقية وقيم الأخلاق والانقلاب الاخلاقي داخل المجتمعات عامة والمجتمع الاسلامي على وجه التحديد، ولذلك سعى لتقديم مشروع فكري اسلامي متكامل يتسم بالاخلاق والتربية والاصلاح والتغيير من جميع جهاته، فهو قد شخص المشكلة الخلقية في المجتمع الاسلامي وأخذ على عاتقه تقديم نظريته الفكرية في هذا المجال، ولذلك فقد انطلق الصدر من الإنسان ليرسم له خطاه الاخلاقية والتربوية والاصلاحية في الحياة والسياسة والمجتمع والاقتصاد والفكر والثقافة، مقارناً بين الواقع العربي والاسلامي والواقع الاجنبي والغربي على وجه التحديد، فلكل واقع ومجتمع خصوصيته وقضاياه ومشكلاته وحلوله، وليس الإنسان العربي والمسلم ببدع

ص: 87


1- محمد عبد اللاوي. فلسفة الصدر. ط1. مؤسسة دار الاسلام. لندن. 1999. ص 152-151.

عن تلك المجتمعات، فخصوصيته الفكرية والدينية والثقافية والتاريخية جعلت له حدود وجغرافية تربوية وأخلاقية يتحرك وفقها الإنسان العربي والمسلم، غير متجاوزاً أو تاركاً خصوصيه الدينية والروحية التي تميزه عن غيره من الشعوب والمجتمعات، فالإنسان المسلم يتحرك وفق منظومة قيمية وفكرية وثقافية خاصة به شكلت هويته

وطريقة تفكيره وسلوكه وتعامله التي تميزه عن غيره من المجتمعات البشرية

اذن فالفكر الاخلاقي عند الصدر مشروع متكامل مبثوث في جميع كتاباته، بل اننا نرى أن هدف الصدر الاساس في فكره هو ترقية الاخلاق، وهذا الهدف السامي لن يكون الا بتقديم سلسلة من المقدمات لتحقيق ذلك، من خلال النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها، فهي مقدمات أساسية لنجاح وانجاح الفكر والمستوى الاخلاقي لأي انسان، والإنسان المسلم تحديداً.

في هذا البحث سنسلط الضوء على جزء يسير من فلسفة الصدر في مجال الفكر الاخلاقي، على وفق متطلبات مساحة البحث المسموح بها، وحقيقة الأمر أن الموضوع يحتمل الكثير ولا يمكن تغطيته بصفحات بسيطة، بل يحتاج الى دراسة مستقلة ومستفيضة تناقش الاخلاق عند الصدر من جوانب متعددة، ونجزم أن مشروع الصدر الفكري برمته أقيم على أسس أخلاقية، وهذا ما تدل عليه كتابات الصدر وكيفية تناوله للموضوعات على وفق منهج ديني اسلامي معر معرفي، فالاسلمة هی المنهج الصدري المتبع في بناء أفكاره ومشروعه الفكري والديني والفلسفي برمته، والأخلاق هي الموضوع الرئيس التي يهدف اليها الصدر من وراء بناء ذلك المشروع، وهذا ما سيكشفه البحث ويتناوله الباحث في هذه الصفحات استناداً لمصادر وكتابات الصدر ونصوصه في هذا المجال. والله ولي التوفيق.

الإنسان كائن أخلاقي

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خصه الله تعالى بكرامة وامانة العقل بين جميع الموجودات في هذا العالم، ولذلك وصفه الفلاسفة بأنه (حيوان عاقل) فالعقل هو

ص: 88

ميزة ذلك الإنسان ولولاه لا فرق بينه وبين الحيوان الأعجم، وهناك ميزة أخرى تفرق الإنسان أيضاً عن الحيوان وهي ميزة الأخلاق ، ف(الحيوان يخضع للدوافع والانفعالات العمياء، ولا يتصف بالحرية أو القدرة على الاختيار، في حين أن الإنسان يتحكم في أهوائه وانفعالاته، ويشعر بأنه قوة فاعلة وارادة حرة)(1).

وهذا ما يشكل الفارق الكبير بين الإنسان والحيوان أيضاً، ولهذا علماء وفلاسفة الاخلاق حين يدرسون الجانب الاخلاقي بين الإنسان والحيوان ينفون أي قيمة خلقية في سلوك الحيوان، عكس الإنسان الذي يكون سلوكه مقترن بالشرط الاخلاقي، لأن الإنسان يستطيع التحكم بسلوكه وتوجيهه الوجهة التي يريد على وفق عقله وارادته وتفكيره الحر، (فإن الإنسان بين كائنات الطبيعة جميعاً - أقدرها على مراقبة دوافعه، والعمل على قمعها ، وهو أحرصها على تنظيم بواعثه، والاهتمام بابدالها أو اعلائها. وهذا هو السبب في أننا نقول عن الإنسان انه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يستبدل بالنظام الحيوي للحاجات نظاماً خُلقياً للقيم. ومهما كانت درجة الانحطاط الخُلقي التي قد يبلغها الإنسان في بعض الاحيان، فانه لا بد من أن يبقى حيواناً أخلاقياً يمزج الواقع بامثل العليا، ويجمع بين مستوى الغريزة ومستوى الضمير)(2).

ومن هنا عُد الإنسان بأنه (حيوان أخلاقي)، فالأخلاق هي ما تميزه عن الحيوان سلوكه وحياته وانفعالاته، والإنسان هو الكائن الاخلاقي الوحيد الذي يسلك حياته سلوكاً أخلاقياً الى جوار عقله الذي خصه الله به. ومن جميل القول ما قاله المفكر العربي زكريا أبراهيم: (ولسنا في حاجة الى القول بأية نزعة تشبيهية - من أجل العمل على تأكيد «قيمة الانسان» - وانما حسبنا أن نقول ان هذا «الكائن الأخلاقي» الذي نسميه بالإنسان هو - وحده - الذي يحمل «أمانة القيم»(3).

ومن اجل ذلك كان للأخلاق دور كبير في حياة الإنسان والتأكيد عليها ودراستها

ص: 89


1- زكريا أبراهيم. المشكلة الخلقة. مكتبة مصر ودار المرتضى. ب. ت . ص 33.
2- المصدر نفسه. ص 26.
3- المصدر نفسه. ص28.

والاشارة لها في الاديان والفلسفات وتاريخ المجتمعات البشرية، وتوسع الفلاسفة في دراستها في مبحث مستقل في مبحث (فلسفة الأخلاق) في ضمن مجال (فلسفة القيم)، وقد جعلها الفيلسوف اليوناني أرسطو في ضمن القسم العملي من أقسام الفلسفة، الى جانب السياسة وتدبير المنزل، لما لها من أهمية عملية وسلوكية في حياة الانسان، وقد كان أرسطو الواضع الأول لأسس فلسفة الأخلاق في كتابه (الأخلاق النيقوماخية) الذي يعد أكبر وأهم وأقدم كتاب فلسفي في فلسفة الأخلاق.

وليس الفلسفة وحدها فقط من تميزت وتفردت بدراسة مبحث الأخلاق، بل كان الدور الكبير للاديان في توجيه الإنسان توجيهاً أخلاقياً وروحياً وتربوياً، من أجل تحقيق تكامله ودعوته للحد من رغباته وكبح جماح شهواته وتنظيمها على وفق عقله وارداته ومجتمعه، والدين الاسلامي أحد هذه الأديان التي أهتمت بالجانب اللاخلاقي والروحي والجواني للانسان، والعمل على اعلاء قيمته وبيان كرامته، وقد ميزه الله بحمل (الأمانة) وشرفه ب- (الخلافة)، وبهما تميز الإنسان عن باقي الكائنات، وهذه النظر الاسلامية القرآنية هي صميم ما جاء به محمد باقر الصدر في صياغة مشروعه الفكري عامة، وفكره الأخلاقي على وجه التحديد. ولذلك فالصدر آمن في فكره وفلسفته بالقيمة الوجودية للانسان، وبالنزعة الانسانية المشتركة بين البشر ، رغم التعدد والتنوع في ألوان وأشكال البشر واللغات والثقافات، فالإنسان قد خصه الله تعالى بالخلافة وشرفه بحمل الأمانة العظمى، وكرمه وفضله على كثير من مخلوقاته وموجوداته.

ومن خلال قراءتنا لفكر الصدر نجد ان للإنسان في فكره يتصف بفرادة وميزة عن الكائنات والمخلوقات التي خلقها الله في هذا الكون، فهو الكائن الوحيد الذي يتصف بالقيمة الأخلاقية والتربوية والروحية، وهذا يتضح لنا بأبرز صورة حين يعرف الصدر الإنسان تعاريف عدة، لكنها يوحدها الجانب الاخلاقي والقيمي والروحي في السلوك والحياة والعمل، فالإنسان على وفق فكر الصدر هو :

1- ذلك الكائن المتكون من الجانب المادي والجانب الروحي (فليس الإنسان مجرد مادة معقدة، وإنما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادي وآخر لا مادي)

ص: 90

(1).ويرفض الصدر الفلسفات والأفكار التي تنظر للإنسان على انه ذو بعد واحد، فينقد كلا من المادية التي آمنت بجسد الإنسان وحاجاته المادية وأهملت جانبه الروحي، والمثالية التي آمنت بروح الإنسان وأهملت جانبه المادي. والإسلام وحده من بين جميع الأديان والفلسفات جمع ما بين جانبي الإنسان المادي والروحي.(2)

2- ذلك الكائن الحر(3)، الكائن الأرضي المتميز بالإحساس والشعور بالمسؤولية.(4)

3- ذلك الكائن المكلف، والتكليف تشريف من الله سبحانه وتعالى للإنسان وتكريم له، لأنه يرمز إلى ما ميز الله به الإنسان من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكم في غرائزه وقابليته لتحمل المسؤولية خلافاً لغيره من الموجودات(5).

4- ذلك الكائن المتدين، الذي يمثل الدين له عقيدة وشريعة ونظاماً، ولا يستطيع أن يعيش من دون ذلك، فالدين فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ولا غنى للناس عنه (كما انك لا يمكنك أن تنزع من الإنسان دينه .. هذا الدين لا يمكن إن ينفك عن خلق الله ما دام الإنسان إنسانا، فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان)(6).

5- ذلك الكائن الاجتماعي الذي يميل بطبعه إلى الاستئناس بالآخرين، واجتماعه و الذي أدى إلى نموه وتطوره، وعلى هذا الأساس نشأت المؤسسات عموماً والدولة خصوصاً، فالدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان. وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه(7).

6- ذلك الموجود الوحيد القادر على التشبه بالله تعالى والتخلق بأخلاقه، وهو

ص: 91


1- محمد باقر الصدر. فلسفتنا. ط2 . دار التعارف. بيروت - لبنان 1419ه- 1998- . ص 334.
2- المصدر نفسه، ص 335.
3- محمد باقر الصدر. الإسلام يقود الحياة، ط2 . مطبعة الديواني. العراق. 1424ه- 2003-م. ص166.
4- المصدر نفسه.
5- محمد باقر الصدر. الفتاوى الواضحة. دار التعارف. بيروتلبنان. 1410ه- -1990-مص125.
6- محمد باقر الصدر. المدرسة القرآنية. دار التعارف. بيروت، 1409ه- 1989- م. ص 90-91.
7- الصدر . الإسلام يقود الحياة. ص 23-24.

بذلك كائن قيمي مؤمن بتحقيق أسمى وأفضل الأخلاق والأهداف من اجل الوصول إلى درجة الكمال (فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجود الذي لا حد له، هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة)(1).

7- ذلك الكائن الفريد في خلافته، والوحيد في أمانته، والكبير في تعدد وتنوع أبعاده وعلاقاته، فهو من بين جميع المخلوقات له داخل وخارج وفوق، ومن ثم تتعدد علاقاته بتنوع أبعاده(2).

وهكذا فالإنسان عند الصدر كل لا يتجزأ، إذا اقتطعتنا منه جزءا وفصلناه عن أجزائه الأخرى فانه سيصاب بخلل وستعاق عملية نموه وتكامله لأنه كل متكامل. والإنسان المسلم يعبر عن وجوده الخاص بالتعامل مع الله تعالى بما يملك من قدرة روحية، وبالتفاعل مع الكون بما يملك من قدرة عقلية وفكرية، وبالتفاعل مع المجتمع بما يملك من أخلاق. وهذه العناصر الثلاثة (الروح والعقل والخلق) عند الصدر تعد عناصر أساسية في بناء الإنسان وتكامله(3).

وقد تميزت نظرة الصدر للإنسان بأنها نظرة تكاملية توفق بين أبعاد الإنسان وعلاقاته، وتوفق بين ما هو مادي وما هو روحي.

وذهب الصدر إلى القول بفشل الفلسفات والمذاهب النفسية والاجتماعية التي نظرت للإنسان نظرة مادية وأحادية، متناسية ما للإنسان من جانب روحي يتميز به عن غيره من المخلوقات، وانه ذو أبعاد متعددة وليس ذو بعد واحد(4).

النزعة الانسانية وتأسيس الأخلاق

ص: 92


1- المصدر نفسه.ص169.
2- ينظر: الصدر. المدرسة القرآنية . ص 97 وما بعدها.
3- ينظر: الصدر. رسالتنا. ص 138 .
4- ينظر: الصدر. فلسفتنا . ص 334 وما بعدها. والمدرسة القرآنية. ص 100 والمدرسة الإسلامية . ص 50 وما بعدها واقتصادنا . ج 1 . تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي. ط1. مؤسسة بقية الله. النجف الاشرف.العراق. 1423ه- 2003-م. ص 35 وما بعدها.

النزعة الانسانية شعور ووعي بالحياة الانسانية وبقيمة الإنسان أياً كان وفي أي مكان وزمان، ولا قيمة للانسان ولوجوده في هذه الحياة من دون هذه النزعة الانسانية والايمان المطلق بها هو الذي يجعل للحياة وللوجود وللانسان قيمته العليا فى هذا العالم، ومن دون سيادة هذه النزعة بين الناس لا قيمة ولا طعم لحياة الإنسان وشأنه شأن الحيوان الذي يعيش على وفق نظام غريزي مطلق من دون عقل أو نظام أو تحكم بأنفعالاته وشهوته وأفعاله.

والدين الاسلامي أكد كثيراً في أسسه العقائدية والأصولية والفقهية على النزعة الانسانية لما لها من تأثير على الجانب الاخلاقي والتربوي التكاملي في بناء شخصية الانسان، وهذا لن يكون الا باشاعة هذه النزعة بين الناس، التي تتحذ من الإنسان أينما كان موضوعاً ومنطلقاً لها، انسجاماً مع حقائق الإسلام والقرآن الكريم.

ولم يخرج محمد باقر الصدر عن هذه الدائرة الإسلامية القرآنية ذات النزعة الإنسانية، بل كان احد دعاتها وروادها، وهو ما نجده متجسدا بصورة جلية في فکره وسلوكه، وفي حياته العلمية والعملية والعبادية والجهادية، فهو يعمل على تجسيد كل تلك المثل والقيم الدينية والاسلامية خير تمثيل في مشروعه الفكري والحياتي.

ولمعتقد الإنسان أياً كان، تأثير كبير على سير حياته ويضع الصدر لأي عقيدة يتبناها الانسان، شروطا وسماتا تتميز بها بعضها عن البعض الآخر من العقائد، ف(لا تكون العقيدة إنسانية إلا حين يجد الإنسان في رحابها المجالات التي تهيئ جميع لکافة طاقاته فرص النمو والازدهار، وتوازن بين كافة جوانبه فلا تمكن لجانب بالتنكر لجانب آخر. ومن الواضح إن العقيدة لن تكون كذلك إلا إذا عالجت الواقع الإنساني على أساس الاعتراف بالإنسان كما هو وكما خلقه الله تعالى من غير تحوير، الاعتراف بكل طاقاته وكل حاجاته وكل كيانه اذ المتطور وغير المتطور. وعلى هذا فالإسلام هو الدين الإنساني الوحيد بين العقائد والأديان التي عاصرته أو حدثت بعده

ص: 93

لأنه الدين الوحيد الذي يتجاوب مع الواقع الإنساني بكل حاجاته ومطامحه)(1).

ولعل سائلا يسأل كيف نستطيع أن نقيم عقيدة أو اتجاهاً ما بأنه إنساني وآخر لا إنساني؟ يجيب الصدر بان ذلك يكون بحسب الموقف الذي تتخذه العقيدة من مسائل الإنسان الكبرى كموقف الإنسان إزاء العالم الخارجي، والعقل الإنساني، والحرية الإنسانية، وفكرة التقدم الإنساني المستمر(2). ويقدم الصدر الرؤية الإسلامية وإجابتها عن هذه الأسئلة قبال أراء ووجهات نظر غير إسلامية وضعية كانت ام دينية.

ولابد من أن نعرض للإجابة الإسلامية والصدرية عن هذه الأسئلة لأنها تمثل مدخلاً ضرورياً لبحثنا ذي الجوانب الإنسانية المتعددة.

ففيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالعالم الخارجي (الطبيعة) بين الإسلام مدى العلاقة القوية بين الإنسان والطبيعة فان هذه العلاقة تتسم بالود والثقة والاحترام. ولم يعد الإسلام العالم الخارجي عدواً للإنسان وشراً يجب الفرار منه بل مد جسور والاطمئنان والتقدير بينهما وعد العالم الخارجي مجال كفاح الإنسان ونموه وتمدد قواه وازدهار طاقاته، بعكس بعض النظرات والشعارات الفلسفية والمذهبية والدينية ذات الأفق المحدود والمجال الضيق التي تجعل من العالم الخارجي عدواً لدوداً للإنسان وتصفه بأنه عالم مليء بالشر والخطايا، وانه عامل خطير من عوامل هلاك ودمار الإنسان. وانه يولد واللعنة والخطيئة تلاحقه وتلوث وجوده ودوره في هذه الحياة الدنيا، ولابد له من أن يتطهر من ذنوبه وان يكفر عن خطيئة أبيه الأولى(3).

قال تعالى: ﴿أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون﴾(4)﴿أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وما لها من فروج﴾(5)﴿أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ﴾(6)

وغيرها من الآيات البينات التي تبين علاقة الإنسان بعالمه الخارجي (فعالم

ص: 94


1- محمد باقر الصدر. رسالتنا . ط3.مطبوعات مكتبة النجاح. طهران. 1402 ه- 1982- م. ص 77-78.
2- المصدر نفسه. ص79-78.
3- ينظر المصدر نفسه. ص 78-79
4- سورة يونس/ الآية 101.
5- سورة ق/الآية 6.
6- سورة الشعراء/الآية 7.

الطبيعة عند المسلم هو مظهر قدرة الله عز وجل وعظمته وهو مجال كفاح الإنسان واستفادته، لان عالم الطبيعة قد سخر للإنسان)(1).

ویری الصدر أن رسالتنا وديننا وفلسفتنا إنسانية عالمية ف- (الإسلام دعوة عالمية،وهی عالمية لأنها إنسانية، فدين الفطرة هذا لا يختص بطائفة من الناس دون غيرهم ولا تحجزه حدود وطن عن سائر الأوطان)(2).

ونجد الجانب الانساني بأسمى صوره في المشاعر والعواطف التي يكنها الصدر في نفسه وذلك في موقفه مما تعانيه البشرية من عذاب وقتل وإرهاب في كل مكان من الكرة الأرضية، ونادى كثيرا من اجل رفع الحصار المادي والفكري والاجتماعي المفروض على الإنسان في كل بقاع الأرض. يقول الصدر : (إن إنسانا يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئن إلى حياة طيبة واجر عادل وتامين في أوقات الحاجة، لهو إنسان قد حرم من التمتع بالحياة وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرة. كما أن إنسانا يعيش مهددا في كل لحظة، محاسبا على كل حركة، معرضاً للاعتقال من دون محاكمة وللسجن والنفي والقتل لادنى بادرة، لهو إنسان مروع مرعوب يسلبه الخوف حلاوة العيش وينغص الرعب ملاذ الحياة. والإنسان الثالث المطمئن إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته هو حلم الإنسانية العذب، فكيف يتحقق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعه؟)(3).

ويدعونا الصدر إلى محاسبة أنفسنا قبل محاسبة الآخرين وان ننظر في أعمالنا ونختبرها هل هي خالصة لوجه الله تعالى أم لا ؟ إذا لم تكن كذلك فلا نرجو من الله تعالى الأجر والثواب لأن أعمالنا ليست له بل لأشياء أخرى. أما إذا كانت في سبيل الله وبالله ولله تعالى فإنها تعبر بذلك عن صلة التفاعل ما بين الإنسان وربه من جهة، والإنسان وأخيه الإنسان من جهة أخرى والإنسان

ص: 95


1- الصدر. رسالتنا. ص 59.
2- المصدر نفسه. ص 93.
3- محمد باقر الصدر فلسفتنا. ص 30-31 والصدر أيضا. المدرسة الإسلامية. (الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية). بيروت - لبنان 1393ه- 1973-م. ص 71-72.

وعالمه الخارجي من جهة ثالثة. ولدى الصدر نظرة وتفسير جميل حول معنى سبيل الله تعالى كما جاء في القرآن الكريم، فهو يمزج ما بين سبيل الله وسبيل الناس ف- ( سبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان، لأن كل عمل من اجل الله فإنما هو من اجل عباد الله، لأن الله هو الغني عن عباده، ولما كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص، لا قرابة له لفئة ولا تحيز له إلى جهة، كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الإنسانية جمعاء. فالعمل في سبيل الله ومن اجل الله هو العمل من اجل الناس ولخير الناس جميعاً وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك)(1).

- المحتوى الداخلي للانسان أو الفلسفة الجوانية وقيمتها الأخلاقية

يعد الجانب الباطني، الجواني (المحتوى الداخلي) أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، كما تعد هذه المسالة من أهم المسائل التي تميز بها الفكر الإسلامي عن غيره من الأفكار. وهذا واضح من خلال الآيات القرآنية وسنة النبي الاكرم (ص) وآله وأصحابه ونظريات الفلاسفة والمفكرين، ودعواتهم إلى إحياء النفس الإنسانية وبناء الذات بناء سليما بعيدا عن كل انحراف أو مرض، مادي أو فكري أو معنوي. والاهتمام ببناء الذات الذي يعد الأساس البنيوي لكل بناء وتوجه في الاسلام، والاسلام دين جاء من اجل الاصلاح والتغيير والبناء، ولهذا جاءت آيات القرآن صادحة من اجل التغيير الداخلي لمحتوى الإنسان واصلاح سريرته اولاً وقبل كل شيء، قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم*(2). قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(3)*.

ص: 96


1- محمد باقر الصدر. نظرة عامة في العبادات. ضمن كتاب موجز في أصول الدين. تحقيق ودراسة عبد الجبار الرفاعي. ط2 . دار الشؤون الثقافية بغداد. 2005. ص 266.
2- سورة الرعد/ الآية 11.
3- سورة الشمس / الآية 7-10.

وقال رسول الله (ص) (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته).(1)وقال أيضا (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)(2).

وانطلق اغلب الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين من هذه الحقيقة. فباطن الإنسان هو الذي ننطلق منه نحو البناء الخارجي، وهو القاعدة التي يستند عليها أي عمل تغييري، فالإنسان عالم مترامي الأطراف، يكمن سره وعظمته في جوهره الذي يبين اصل معدنه، لا في ظاهره وماديته، فهو في هذا الجانب شبيه وشريك غيره من المخلوقات، لكن ما يميزه عنها هو تلك النفخة الإلهية التي أسجدت له الملائكة أجمعين،*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(3)*.

وما أجمل ما قاله محمد إقبال (ت 1938) عن قيمة الذات وجوهرها، مبيناً عظمتها وسر خلودها ووجودها :

هيكل الأكوان من آثارها *** كل ما تبصر من أسرارها

نفسها قد أيقظت حتى انجلى *** عالم الأفكار ما بين الملا

ألف كون مختف في ذاتها *** غيرها يثبت من إثباتها

والجوانية - كما يعرفها عثمان أمين (ت 1978م) هي (فلسفة تستند على تزكية الوعي الإنساني وممارسة الحرية النفسية، وتسعى إلى تعميق فهمنا للمقاصد والمعاني والقيم. وان الحياة الإنسانية يجب أن تكون حياةً واعيةً للمقصد الاسنى من خلق الإنسان، وهو إقامة خلافة الله تعالى على الأرض)(4).

وهذا عين ما قال به الصدر في فكره وفلسفته، ويتمثل المحتوى الداخلي للإنسان - عند الصدر - بركنين أساسين لهما دور كبير في توجيه الإنسان وهما: الفكر والإرادة.

ص: 97


1- الكليني. الكافي، ج 8. ط4. دار الكتب الإسلامية. طهران. ص 307.
2- محمد مهدي النراقي. جامع السعادات. ج 3. تحقيق محمد كلانتر. ط4 مؤسسة الاعلمي. بيروت - لبنان.ص 112.
3- سورة الحجر/ الآية 29.
4- د. عثمان أمين. الجوانية. أصول عقيدة وفلسفة ثورة. دار القلم.1964، ص 123.

ولهذين الركنين الدور المهم والأساس في تغيير حركة الفرد والمجتمع، و(المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة لحركة التاريخ، فالبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات وأنظمة وأفكار وتفاصيل مرتبط بهذه القاعدة، ويكون تغييره وتطوره تابعاً لتغير هذه القاعدة وتطورها، فإذا تغير الأساس تغير البناء العلوي، وإذا بقي الأساس ثابتاً بقى البناء العلوي ثابتا)(1).

وقد أدرك الصدر ضرورة وأهمية الدور الكبير الذي يقوم به المحتوى الداخلي للإنسان في تربيته وتكامله وتحقيق وجوده في حركة وصناعة التاريخ. وتعد هذه المسألة من أمهات المسائل التي اهتم بها الصدر في بناء فلسفته، وذلك لأنه كان يرى أن المحتوى الداخلي يعد الأساس والقاعدة والمنطلق في عملية البناء والإصلاح والتغيير الخارجي(2).

ويرى الصدر أن أساس المشكلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية تكمن في المحتوى الداخلي للإنسان، وان أساس الصراعات والنزاعات تكمن في ذلك التناقض القائم ما بين تلك النفخة الإلهية، وبين ذلك الطين المادي.

ويتمثل المحتوى الداخلي للإنسان عند الصدر في الفكر والإرادة. ويعني بالفكر (الوجود الذهني) الذي يضم تصورات الهدف والرؤية للمستقبل لدى الإنسان.

أما الإرادة، فهي الطاقة التي تحرك الإنسان نحو الأشياء من اجل إيجادها وتحقيقها في الخارج، سواء كانت هذه الأشياء أفعالا وممارسات وسلوكاً للإنسان نفسه، أو أشياء مادية خارجية منفصلة عنه(3).

ومن الواضح أن الإرادة الإنسانية كالفكر، ليست وجوداً مادياً خارجياً، بل هي أمر موجود خلقه الله تعالى في داخل الإنسان وبها كرمه وميزه عن كثير من المخلوقات.

ولكن الفكر والإرادة وان كانا أمرين داخليين في الإنسان، فانهما يتأثران بالمؤثرات والعوامل الخارجية سلباً وإيجابا.

ص: 98


1- الصدر. المدرسة القرآنية. ص 105-106.
2- ينظر: الصدر. المدرسة القرآنية. ص.105 وبحوث إسلامية ص 32.
3- الصدر: المدرسة القرآنية. ص 105..

وهذه سنة إلهية من سنن التاريخ (فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي للمجتمع علاقة تبعية، ومسبب بسبب، وهي تمثل سنة تاريخية)(1).

ومن خلال قوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم(2)*نستنتج أن أساس عملية التغيير والإصلاح مرتبطة بالإنسان نفسه، وبمحتواه الداخلي، وأثبتت الآية الكريمة أن هذه القضية قضية شرطية، فالتغير على مستوى القوم (الجماعة) لا يتم إلا بتغيير المحتوى الداخلي لهؤلاء القوم.

فالتلازم قائم بين الاثنين، والثاني شرط تحقق الأول ، ولو كانت العملية خلاف ذلك فان النتائج تكون عكسية، ومن لم يجعل محتواه الداخلي موجهاً ودافعاً له كمن قال فيه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا نا في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ *(3).

ولذلك اشترط الصدر في عملية التغيير والإصلاح أن تسير عملية الجهاد الأكبر جنباً إلى جنب مع الجهاد الأصغر ، لأن احدهما يكمل الآخر في عملية البناء الذاتي والاجتماعي(4).

ومن الضروري عند الصدر لإصلاح الحياة الإنسانية وتهذيبها، أن يتناول الإصلاح الإنسان نفسه قبل أي شيء آخر ، وان يعاد تكوينه من الداخل على نحو يجعله متجاوباً ومنسجماً مع فطرته ومع أهدافه العليا ومع واقعه(5).

وهذا لن يكون إلا بنفاذ عملية التغيير إلى قلب وأعماق روح الإنسان. ولا يمكن للإنسان أن يمارس عملية التغيير والبناء والاعمار والإصلاح من خلال طرح وإطلاق

ص: 99


1- الصدر. المصدر نفسه، ص 106.
2- سورة الرعد/ الآية 11.
3- سورة البقرة/الآية 204-205.
4- ينظر: الصدر. المدرسة القرآنية. ص 106. والإسلام يقود الحياة ص 190-191.
5- الصدر. رسالتنا. ص99.

الكلمات الصالحة والشعارات الهادفة فحسب (لان الكلمات الصالحة إنما يمكن أن تتحول إلى بناء صالح في المجتمع إذا انبعثت من قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات، وألا فستبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون أن يكون لها مضمون ومحتوى، فمسالة القلب هي التي تعطي الكلمات معناها ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها)(1).

ولعل سائلاً يسأل ما الذي يدفع الإنسان إلى هكذا عمل، ومن الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسان؟ وهل لحركة الإنسان غاية؟

ويجيبنا الصدر عن ذلك بان المثل الأعلى هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسانية، ولهذا المثل الدور الفعال في دفع وتحريك الإنسان نحو الأفعال (إن المحتوى الداخلي للإنسان، يجسد الغايات التي تحرك التاريخ من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة بالتفكير، وهذه الغايات جميعا تنبثق عن وجهة نظر رئيسية، إلى مثل أعلى للإنسان في حياته هو الذي يحدد الغايات التفصيلية... فالغايات نفسها محركات للتاريخ، وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان، وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل الغايات وتعود إليه كل الأهداف)(2).

وحركة الإنسان في الوجود، وحركة التاريخ نفسه في نظر الصدر، تتميز عن أي حركة أخرى في الكون، بأنها حركة غائية هادفة وليست عشوائية(3). وان الإنسان في حركته سائر نحو غاية وهدف عظيمين وهو الإمساك باللحظة الزمانية، من اجل تحقيق وجوده التكاملي، وتغيير واقعه نحو الأفضل، وإنشاء حضارة إنسانية تشع نوراً على عموم البشرية. ويتم كل هذا عن طريق إرادة واختيار وفعل الإنسان نفسه. لان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشعر بالمسؤولية التاريخية، وبكينونته وحريته.

والإنسان هو الكائن الوحيد الذي استطاع أن يدخل التاريخ وان يحركه ويصنعه

ص: 100


1- الصدر. المدرسة القرآنية. ص 107.
2- الصدر . المدرسة القرآنية . ص 107-108.
3- المصدر نفسه. ص67.

ويدفعه نحو ما يريد، لا عن طريق جسمه المادي فحسب، وإنما عن طريق محتواه الداخلي وقوة فكره وإرادته وتمسكه بمثله الأعلى الحقيقي، الذي تنبثق منه كل الغايات والأهداف النبيلة.

الأمانة والشعور بالمسؤولية في تحقيق اخلاق الإنسان العامل

أكد الصدر في فكره على مسألة الأمانة وفلسفتها وعظيم أمرها، والذي يلفت انظارنا أن الصدر لم يضع خطا مستقلا للأمانة كما فعل مع الخلافة والشهادة. لأنه رأى أن خط الأمانة مشترك مع خط الخلافة، وهما وجهان لعملة واحدة. وهذا واضح من خلال قوله: (إن الخلافة استئمان، ولهذا عبر القرآن الكريم عنها بالأمانة. والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، إذ من دون إدراك الكائن انه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار لممارسة دور الخلافة)(1).

وعن هذا التداخل بين الاثنين يقول الصدر: (فالأمانة هي الوجه التقبلي للخلافة، والخلافة هی الوجه الفاعلي والعطائي للأمانة)(2).

وهذا التداخل يعني أن الصدر يرى أن الإنسان مستأمن على الخلافة، ومستخلف على الأمانة. ونرى أن هناك مسائل وملاحظات عدة مهمة تخص موضوع الخلافة والأمانة وهي:

إن الخلافة لم تعرض على الإنسان كالأمانة ولم يخير في تحملها، بل فرض عليه ذلك.

إن الخلافة لم تعرض إلا على الإنسان وحده دون سائر المخلوقات، أما الأمانة فإنها عرضت على السماوات والأرض والجبال.

كل أمين خليفة، وكل خليفة أمين، ولا يحقق الإنسان إنسانيته ووجوده الحقيقي إلا بالتلازم بين الاثنين.

ص: 101


1- الصدر . الإسلام يقود الحياة. ص 165.
2- الصدر . المدرسة القرآنية. ص 101.

إن الأمانة عرضت على الإنسان بعد خلافته، فسبقت خلافته أمانته، وبذلك تكون الخلافة قبلية، والأمانة بعدية.

انه ربما كانت الخلافة والأمانة قد طرحت على الإنسان في وقت واحد. ولكن هذا القول يبطله المفسرون بقولهم إن الأمانة عرضت على آدم وهو إنسان تام وخيره الله تعالى في حملها فعرف ثوابها واجزائها وعقابها(1).

وخُص الإنسان في نظر الصدر بالأمانة من بين جميع الموجودات، مثلما خص بالخلافة ف- (الإنسان هو الكائن الوحيد الذي كان بحكم تركيبه وبنيته وبحكم فطرة الله المركوزة فيه منسجماً دون غيره من الكائنات مع هذه العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة التي بها تصبح أمانة وخلافة، ومن هنا كان تقبله لها تقبلاً تكوينياً بحكم دخولها في تكوينه الإنساني وفي تركيب مساره التاريخي)(2).

أما فيما يخص تفسير الصدر لقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسانِ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جهولاً﴾(3)فإنه يرى أن الأمانة هي التكليف الذي به شرف الله تعالى الإنسان وكرمه على مخلوقاته (لأنه يرمز إلى ما ميز الله به الإنسان من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكم في غرائزه وقابلية لتحمل المسؤولية خلافاً لغيره من أصناف الحيوانات ومختلف كائنات الأرض، فإن أدى الإنسان واجب هذا التشريف وأطاع وامتثل، شرفه الله تعالى بعد ذلك بعظيم ثوابه وبملك لا يبلى ونعيم لا يفنى، وان قصر في ذلك وعصى كان جديراً بعقاب الله سبحانه وسخطه، لأنه ظلم نفسه وجهل حق ربه ولم يقم بواجب الأمانة التي شرفه الله بها وميزه عن سائر مخلوقات الأرض)(4).

وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال عند الصدر، لم يكن عرضاً

ص: 102


1- ينظر: القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. مج 1، ج1. تحقيق سالم مصطفى البدري. ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. 1420ه- - 2000. ص 16.
2- الصدر . المدرسة القرآنية. ص 101.
3- سورة الأحزاب/الآية 72.
4- الصدر. الفتاوى الواضحة. ص 125.

حقيقياً بل عرضاً مجازياً، إذ لا معنى لعرض الأمانة على هذه الموجودات ولا عبرة في تكليفها، وانه عرضا تكوينيا وليس عرضاً تشريعياً.(1)وقد وضع الله تعالى أمانه في المكان الطبيعي الذي خصص له وفي الموضع المعد له من قبله سبحانه. فليس من المنطقي والطبيعي أن تتولى حمل الأمانة والتكليف والمسؤولية مخلوقات طبيعية لا عقل لها ولا إرادة ولا اختيار، فهذه كلها خاضعة لله ومطيعة له قال تعالى : ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ انْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهَا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(2)وهناك فرق كبير بين التكليف بالطاعة، والإرغام والإكراه على الطاعة.

والشعور بالمسؤولية هي التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وكذلك هي التي تميز بين إنسان وإنسان آخر، وأكثر الناس شعوراً بالمسؤولية أكثرهم معرفة ودراية بثقل الأمانة وقيمتها وأجدر الناس بالشعور بالمسؤولية وبحمل الأمانة هو الإنسان المؤمن، المؤمن بالله وبالإنسان والإنسانية، كما جاء في الحديث النبوي الشريف (لا إيمان لمن لا أمانة له)(3)وفي حديث آخر للرسول الاكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قال فيه : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(4).

فالمسؤولية أمر مهم في حياة الفرد والمجتمع، وعن طريق الشعور بها تتوثق العلاقة ما بين عناصر المجتمع الإنساني، لأنه يمثل مبدءا قيماً وأساسيا في حياة الإنسان ومجتمعه. ومن لا يشعر بالمسؤولية فليس بإنسان، والإنسان هو ذلك الكائن المسؤول، ومسؤوليته تتجسد في أمانته، وأمانته تترجم إلى أقوال وأعمال وأفعال وسلوك. وإذا لم تتجسد الأمانة في كل ذلك فبئس الإنسان وبئس الإنسانية.

ويذهب الصدر إلى إن الشعور الداخلي بالمسؤولية هو الذي يحدد مصير ومستقبل وتاريخ المسيرة الإنسانية، ولهذا الشعور الدور الكبير في تحريك ونهضة وبناء المسيرة الحضارية للإنسان في المجالات كافة.(5)

ص: 103


1- الصدر . المدرسة القرآنية . ص 101.
2- سورة فصلت/ الآية 11.
3- المحدث النوري . مستدرك الوسائل. ج 14، ط1 . مؤسسة آل البيت. قم. 1408ه- ص 6.
4- تاج الدين الشعيري. جامع الأخبار. ط2. دار الرضي. قم 1405ه. ص 119.
5- ينظر: الصدر. نظرة عامة في العبادات. ضمن كتاب موجز في أصول الدين. تحقيق الرفاعي. ص 268-269.

والشعور الداخلي بالمسؤولية في نظر الصدر ناتج من الدور الذي تلعبه العقيدة في حياة الإنسان، فتعد العقيدة جوهر الإنسان ومصدرا أساسيا لحركته. ف(الإنسان الذي ينشيء الحضارات ويعمر الكون ويغني الحياة ويجددها، هو كائن ذو عقيدة يسير عليها في حياته الدنيا. ولم يحدث في الماضي ولن يحدث في المستقبل أيضا أن يوجد مجتمعاً يمارس حياته بغير عقيدة تنظم هذه الحياة)(1).

فللعقيدة الدور الكبير في تحديد سلوك ومصير وحياة وواقع ومستقبل وتاريخ الإنسان والإنسانية في كل زمان ومكان. فقد يسموا الإنسان ويعلوا بعقيدته الصحيحة، وقد ينحدر ويسفل ويفسد بسوء عقيدته التي تحركه.

ويؤكد الصدر على أن الشعور بالمسؤولية يجب أن يكون شعوراً فردياً شخصياً داخلياً من قبل الإنسان نفسه، وبعيدا عن أي رادع أو وازع خارجي. فرقابة الإنسان الداخلية على نفسه هي التي تحدد مسيره في أي مسار من مساراته المتعددة يتجه فمع (أن الضمانات الموضوعية لها دور كبير في السيطرة على سلوك الأفراد وضبطه، فأنها لا تكفي في أحايين كثيرة بمفردها ما لم يكن إلى جانبها ضمان ذاتي ينبثق عن الشعور الداخلي للإنسان بالمسؤولية، لان الرقابة الموضوعية للفرد مهما كانت دقيقة وشاملة لا يمكن عادة أن تضمن الإحاطة بكل شيء واستيعاب كل واقعه)(2).

ومن وجهة نظر الصدر إن الشعور الداخلي بالمسؤولية يحتاج لكي يكون واقعاً عملياً حياً فى حياة الإنسان إلى إيمان برقابة دائمة ومستمرة لا يعزب عن علمها مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والى مران عملي ينمو من خلاله هذا الشعور ويترسخ بموجبه الإحساس بتلك الرقابة الشاملة والدائمة(3).

وان هذا المران الذي ينمو من خلاله الشعور بالمسؤولية لا يتحقق إلا عن طريق الممارسات العبادية، لان العبادة واجب غيبي. ومعنى ذلك إن ضبطها يكون من

ص: 104


1- الصدر. رسالتنا ص 103.
2- الصدر . نظرة عامة في العبادات ص269.
3- المصدر نفسه. ص269.

داخل الإنسان وليس من قبل رقابة خارجية. ومن خلال هذه الممارسات العبادية ينمو شعور الإنسان بالمسؤولية ويعتاد بذلك على التصرف في حياته بموجب هذا الشعور (ومن هنا كان الإسلام الذي كافح من اجله الأنبياء ثورةً اجتماعيةً على الظلم والطغيان، وعلى ألوان الاستغلال والاستعباد. ومن هنا أيضا كان الأنبياء(علیهم السّلام)وهم يحملون هذا المشعل يستقطبون دائما المعذبين في الأرض من الجماهير البائسة التي مزقتها أساطير الآلهة المزيفة روحيا وشتتها الجاهلية فكرياً، ووقعت فريسة أشكال مختلفة من الاستغلال والظلم الاجتماعي)(1).

وان ثورة الأنبياء(علیهم السّلام)تميزت عن الثورات الاجتماعية الأخرى تميزا نوعيا لأنها:

حررت الإنسان من الداخل، وقد أطلق على هذا التحرير اسم (الجهاد الأكبر).

حررت الإنسان من الخارج، تحرير على مستوى القوم والأمة والمجتمع، وقد أطلق عليه اسم (الجهاد الأصغر).

وهذا الجهادان يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب في عملية التحرير والتغيير. وكما ذكرنا سابقاً أن عملية التغيير الفردي تكون أساس عملية التغيير الاجتماعي.

كذلك فان الجهاد الأكبر يكون أساس عملية التحرير والتغيير وعليه يستند الجهاد الأصغر. لأن الجهاد الأكبر يقوم به الإنسان تجاه نفسه ونوازعه وشهواته، أما الجهاد الأصغر فهو جهاد جماعي يقوم به أفراد المجتمع عموماً تجاه العدو الخارجي.

(الإنسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير إلى قلبه وأعماق روحه ولم يبني نفسه بناءً صالحاً لا يمكنه أبدا أن يطرح الكلمات الصالحة، لان الكلمات الصالحة إنما يمكن أن تتحول إلى بناءً صالح في المجتمع إذا انبعثت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات، وإلا فستبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون أن يكون لها مضمون ومحتوى)(2).

ص: 105


1- الصدر . الإسلام يقود الحياة. ص50.
2- الصدر . المدرسة القرآنية. ص 107.

ومن الأمور المهمة التي يكشفها لنا الصدر ويسلط الضوء عليها هي بيان سبب حدوث الأزمة الروحية والأخلاقية والاجتماعية للإنسان، وعدم الشعور بالعبودية المطلقة لله تعالى، التي يرجع سببها إلى أمرين هما(1):

عدم الشعور التفصيلي بالارتباط بالله تعالى.

عدم وجود أخلاقية الإنسان العامل.

ان علاج وإصلاح ذلك الخلل وتلك الأزمة يكون بعلاج هذين الأمرين من قبل الإنسان نفسه.

فارتباطنا بالله تعالى يعد وقود الحركة وطاقة المسيرة الإنسانية، ومن يفقد ذلك فقد ظل وهوى. وأخلاقية الإنسان العامل لا يمكن أن تتحقق للإنسان إلا إذا عاش حالة كاملة من الاتصال الدائم بالله تعالى واشعر نفسه انه مرتبط بذات مطلقة لا يغيب عن علمها مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

ويشخص الصدر حالة الإنسان المسلم والأمة الإسلامية، الفاقدة لبريقها والمضيعة لدينها وحضارتها، التي انبهرت بحضارة الغرب وعلومه، وتركت دينها الذي فيه حياتها ورقيها ومصيرها وخيرها كله. ولذلك ضاعت أخلاقنا وقيمنا ومبادئنا وانفصلنا عن ذات الله وشريعته السمحاء، ولأجل بناء شخصيتنا وعلاج حالنا وإحياء امتنا وتحقيق وجودنا لابد من اتباع ما يأتي(2):

شيوع وانتشار أخلاقية التضحية بدلا من أخلاقية المصلحة الشخصية.

الاتجاه إلى التجديد في أساليب العمل.

التمسك بالمثل الأعلى الحق المطلق الذي يعد هدف المسيرة الإنسانية الناجحة .

الربط في التعامل بين ما هو روحي وما هو فكري وما هو أخلاقي، لان الروح والعقل والأخلاق عناصر أساسية في بناء الشخصية الإسلامية.

ص: 106


1- الصدر. محاضرات المحنة وحب الدنيا . المحاضرة الثانية . ص 45.
2- ينظر. الصدر . محاضرات المحنة وحب الدنيا . ص 56 وما بعدها ورسالتنا. ص 138. والمدرسة القرآنية. ص 122 .
الأسس الفكرية لتأسيس أخلاق الإنسان المسلم

تستند مسيرة الإنسان (الخليفة) عند الصدر، على مجموعة من الأسس والمرتكزات التي تلعب دوراً كبيراً في عملية الاستخلاف الرباني، وتعد هذه الأسس التربة والأرضية الصالحة لبناء الفرد والمجتمع الإسلامي، ومن دون هذه الأرضية لا يمكن الوصول إلى القمة وحصول عملية النمو والتكامل في مسيرة الإنسان عموماً، فهي مرتكزات أساسية وجوهرية في عملية صنع وبناء الشخصية الإسلامية وهي(1):

العقيدة: وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسة إلى الكون بصورة عامة.

المفاهيم : وهى التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها إلى صف تلك المفاهيم، لان المفهوم بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع ويحدد نحوه اتجاهه العاطفي.

وهذه الأسس تستند بعضها على بعض، ولا يمكن فصل واحدة عن الأخرى، فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، وهذه بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية.

وتعد هذه الأسس برنامجاً دقيقاً ومتيناً لسير عملية الاستخلاف، فالسير عليها يعني نجاح العملية، والانحراف عنها يعني إخفاقها وفشلها ومن ثم موت عملية الاستخلاف ونفادها.

وكل تجربة اجتماعية وكل فكر وفلسفة يحتوي على هذه الأسس الثلاثة، ولكن هناك فرقا بين الأسس الإسلامية القائمة على أساس الشريعة الإلهية السماوية،

ص: 107


1- الصدر. اقتصادنا. ج1 ص 294.والصدر. بحوث إسلامية. ط1. دار الكتاب الإسلامي. 1424ه-2004-م.ص94-93.

والأسس التي تقام على أساس نظام وضعي بشري. فالأسس الأولى معدة إعدادا ربانيا خالصاً لسلامة البشرية واستمرار حياتها. أما الثانية فهي أسس بشرية ذات جوانب شخصية ومصلحية ضيقة لا تخلو من الانحراف والزيغ، لأنها خالية من الشرط الأساسي والجوهري في عملية الاستخلاف وهو وجود المطلق (المستخلف) الذي هو هدف ومنطلق وغاية عملية الاستخلاف.

ويرى الصدر أن نجاح العملية الإنسانية وتمامها مقرون بالسير على هذه الأسس والاستناد اليها، وان عزل كل جزء من المنهج الإسلامي عن بيئته وعن سائر الأجزاء معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الأسمى.(1)

ويرى الصدر إن هناك مجموعة من الحاجات الثابتة التي تعالجها العبادة في حياة الإنسان هي(2):

الحاجة إلى الارتباط بالمطلق.

الحاجة إلى الموضوعية في القصد وتجاوز الذات.

الحاجة إلى الشعور الداخلي بالمسؤولية.

1- الحاجة إلى الارتباط بالمطلق:

علاقة الإنسان بربه، بمثله الأعلى علاقة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها علاقة جوهرية، علاقة وثيقة بين طرفين احدهما أصيل والآخر تابع، الواجب والممكن، وحاجة ممكن الوجود إلى واجب الوجود حاجة أساسية لا تغنيها جميع العلاقات وجميع المثل العليا غير المطلقة، لأن الإنسان جاء إلى هذه الأرض ليجسد دور الإله على الأرض في عدله ورحمته وحبه وجماله. عن طريق التخلق بأخلاق الله والتشبه به بقدر طاقته. وإلا سوف تتحقق رؤية ونبوءة الملائكة في الإنسان عندما خاطبت الله تعالى بقولها ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسدُ فِيهَا وَيَسْفكُ الدِّمَاءَ﴾(3).

ص: 108


1- ينظر: الصدر. اقتصادنا . ج 1 . ص 296 . والصدر. أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية. ط1. مركز . الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر. قم . 1425ه- - ص 171 وما بعدها.
2- الصدر . نظرة عامة في العبادات. ص 252.
3- سورة البقرة/الآية 30.

فينبغي علينا أن لا نسير على وفق أهوائنا وشهواتنا، بل نسير على وفق شريعتنا وديننا وعقلنا. وبهداية المطلق سبحانه وتعالى، الذي يعد هدف وغاية ومحرك المسيرة الإنسانية برمتها، لان التحرك الضائع من دون مطلق، تحرك عشوائي كريشة في مهب الريح تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثر فيها(1).

ويطرح الصدر سؤالين بخصوص الارتباط بالمطلق وهما(2):

ما هي القيمة التي تحققها علاقة الإنسان بربه لهذا الإنسان في مسيرته الحضارية؟ وهل هي قيمة ثابتة تعالج حاجة ثابتة في هذه المسيرة، أم قيمة مرحلية ترتبط بحاجات مؤقتة ومشاكل محدودة، وتفقد أهميتها بانتهاء المرحلة التي تحدد تلك الحاجات والمشاكل؟

ما هو الدور الذي تمارسه العبادة بالنسبة إلى تلك العلاقة ومدى أهميتها، بوصفها تكريساً عملياً لعلاقة الإنسان بالله تعالى؟

يجيب الصدر عن السؤال الأول، بأن القيمة التي تحققها علاقة الإنسان بربه تجعله يتكامل ويسمو ويعلو في عوالم الملكوت، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فلابد للمسيرة الإنسانية من مطلق، ولابد من أن يكون مطلقاً حقيقياً يستطيع أن يستوعب المسيرة الإنسانية ويهديها سواء السبيل، مهما تقدمت وامتدت على خطها الطويل ويمحو من طريقها كل الآلهة الذين يطوقون المسيرة ويعيقونها(3).

فقد صنع ووضع الإنسان عبر مسيرته التاريخية آلهة متعددة أحلها محل المطلق وعاملها معاملته، ويرى الصدر أن تحول النسبي إلى مطلق، إلى اله، يصبح سبباً في تطويق حركة الإنسان وتجميد قدراته على التطور والإبداع. قال تعالى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ الله إلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً﴾(4).

ص: 109


1- ينظر: الصدر . نظرة عامة في العبادات. ص 254.
2- المصدر نفسه.ص252.
3- المصدر نفسه.ص256.
4- سورة الإسراء/الآية 22.

فالله تعالى (المطلق) ليس من صنع ووضع الإنسان كما وضع وصنع الآلهة الأخرى، ولا إفرازا ذهنياً له، بل هو مثلاً أعلى له واقع عيني وهو موجود مطلق في الخارج له قدرته المطلقة وعلمه المطلق وعدله المطلق.

فالسير نحو المطلق كله علم وقدرة وعدل وغنى، وهذا السير يعني أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلاً باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر، والسير نحو المطلق ليس سيراً عادياً، بل هو سير مليء بالكدح والتعب والسهر والمعاناة، وهو سير ارتقائي متصاعد سائر نحو الكمال قال تعالى: ﴿يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾(1).

وما دامت أهداف المسيرة المرتبطة بالمطلق تتصف بتلك الصفات فهي إذن ليست تكريساً للإله، وإنما هي جهاد مستمر من اجل الإنسان وكرامته وتحقيق المثل والقيم العليا. قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمينَ ﴾(2)و ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(3)

وهذا ما جعل الصدر يفسر الآيات القرآنية التي تحتوي على عبارة (سبيل الله) على أنها تعني تعبير تجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان، لان كل عمل من اجل الله فإنما هو من اجل عباد الله(4).

أما فيما يتعلق بجواب السؤال الثاني فيرى الصدر أن العبادة تلعب دوراً تربوياً كبيراً في ترسيخ وتوثيق العلاقة ما بين الإنسان المحدود وربه المطلق. والإنسان ولد بطبيعته وفطرته مشدوداً إلى المطلق، لان علاقته بالمطلق تمثل احد مقومات نجاحه وتغلبه على مشاكله في مسيرته الحضارية. وهو بحاجة إلى سلوك عملي يعمق هذه العلاقة ويوثقها بدلا من أن تضيع أدراج الرياح ف(من دون سلوك معمق قد يضمر هذا

ص: 110


1- سورة الانشقاق / الآية 6.
2- سورة العنكبوت/الآية 6.
3- سورة العنكبوت/الآية 69.
4- ينظر: الصدر. نظرة عامة في العبادات. ص 258 و ص 266 والصدر. المدرسة القرآنية. ص 122-123.

الشعور ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الإنسان، وقادرة على تفجير طاقاته الروحية)(1).

فالعبادة في نظر الصدر هي التي تعمق الشعور وترسخه ما بين العبد وربه، فصلاة وصيام وحج وزكاة وجهاد الإنسان المسلم ليست مجرد حرکات ظاهرية يؤديها فحسب، بل يجب أن تكون نابعة من أعماق قلبه ووجدانه وباطنه، لتؤثر على سلوكه الفردي والاجتماعي، وإلا كانت مجرد عبادة سطحية لا تمس الروح والمشاعر والوجدان بشيء.

والارتباط بالمطلق يعد حاجة ثابتة في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية والإنسانية، إذ لا مسيرة من دون مطلق تنشد إليه وتستمد منه مثلها، ولا ارتباط حقيقي بالمطلق من دون تعبير عملي عن هذا الارتباط يؤكده ويرسخه باستمرار وهذا التعبير العملي يتجسد في العبادة، والعبادة تعد حاجة إنسانية ثابتة لا تنفك عنها حياة ونشاط ومسيرة الإنسان الحضارية والتاريخية والجهادية والاجتماعية والتربوية(2).

2 - الموضوعية في القصد وتجاوز الذات

أكد الإسلام على موضوع النية والقصد، وناقش علماء الإسلام ومفكروه ومتكلموه هذا الموضوع بصورة موسعة .(3)لأن النية مفتاح كل عمل. ولا تصح عبادة من دون نية والنية هي الهدف الذي من اجله يجري العمل ويأتي به، وهي على معان عدة:(4)

النية اللفظية، وهي التي يأتي بها الإنسان عند الوضوء أو الصلاة أو أي عمل آخر لفظا باللسان.

الإحضار الذهني، بمعنى تذكر واستحضار النية اللفظية من دون نطقها.

القصد، وهو انك ماذا تفعل .

الهدف، وهو ما يقصده الفرد في عمله كنتيجة نهائية .

ص: 111


1- الصدر. نظرة عامة فى العبادات، ص 262.
2- المصدر نفسه . ص 264.
3- ينظر : د. عبد الستار نوير. رسالة الإنسان في الحياة ومقتضياتها . ط منقحة دار الثقافة الدوحة. قطر. 1490ه- 1989م. ص 127 و د. محمد الصادق عفيفي الفكر الإسلامي. مكتبة الخانجي. القاهرة. 1977 ص 94 وما بعدها.
4- ينظر : محمد محمد صادق الصدر. فقه الأخلاق. ج1. 138. تحقيق كاظم العبادي. ب.ت. ص 15.

وللنية الدور الكبير والأثر الفعال على العمل ولهذا جاء في الحديث الشريف (نية المرء خير من عمله) و (إنما الأعمال بالنيات ولكل أمري ما نوى)(1)وقد أكد الدين الإسلامي على ضرورة إخلاص النية لله وحده لا شريك له.

ويعرف الصدر النية بأنها : (الإتيان بالفعل من اجل الله سبحانه وتعالى فهي الباعث نحو الفعل، سواء كان سبب هذه النية الخوف من عقاب الله أو رغبة في ثوابه أو حباً له وأيمانا بأنه أهل لأن يطاع)(2).

وتأكيد الإسلام على النية دليل على أهمية دورها وإثرها الكبير على العمل وعلى العبادات والمعاملات، وتعد روح العمل وقلبه. ولذلك قدمت النية وفضلت على العمل نفسه، لان العمل يمثل الجسد والنية تمثل الروح، وصلاح الأول بصلاح الثاني وفساده بفسادها.

وجزاء وثواب الأعمال يكون بحسب النية، إن خيرا فخير وان شرا فشر .

والعبادة في نظر الصدر تقوم بدور كبير في تربية الإنسان على الإخلاص في نيته وأن يكون عمله قربة لله تعالى، لأنه وحده الذي يجازي على الأعمال والأفعال، فيجب أن نجعل راحتنا وتعبنا، وحبنا وكرهنا، وألمنا ولذتنا، وفرحنا وترحنا لله وفي الله وبالله. ومن كان عمله لغير الله فلا يرجو من الله ثوابا ولا جزاءا. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾(3) وقال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشِرْقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾(4).

فالعبادة والعبودية لله تعالى تربي في الإنسان الجانب الروحي والقلبي من اجل تحقيق مصلحة كبرى وليس من اجل مصلحة ذاتية أو شخصية فردية.

فلا تصح عبادة الإنسان إذا جاءت من اجل مصلحة شخصية خاصة، ولا تقبل إذا

ص: 112


1- محمد مهدي النراقي. جامع السعادات . ج 3 ص 109 وما بعدها.
2- الصدر. الفتاوى الواضحة . ص 138.
3- سورة النور/الآية 39.
4- سورة البقرة/الآية 177.

استهدف من ورائها مجداً شخصياً أو ثناءاً اجتماعياً أو تكريساً لذاته، بل تصبح عملاً محرما. والهدف الأساس من العبادة هو أن يحقق الإنسان القصد الموضوعي بكل تفصيلاته، من نزاهة وإخلاص وإحساس بالمسؤولية، فيأتي العابد بعبادته خالصة لله جلا وعلا وفي سبيله بإخلاص وصدق(1).

فيجب أن نربي أنفسنا على الشعور والإحساس بالمسؤولية، كي نصل إلى مرحلة الكمال. ويجب أن نسموا من مادية الجسد وطينيته إلى روحانية الروح وعالم الملكوت. ويجب أن يكون عملنا خالصاً لوجه الله تعالى وان نضحي بمصالحنا وطموحاتنا الشخصية الضيقة من أجل الأهداف الكبيرة والمصلحة الاجتماعية الإنسانية. ويجب أن نتحلى بأخلاق التضحية والإيثار بدلاً من أخلاقية المصلحة الشخصية(2)فإننا قد ضيعنا كثيرا من طاقاتنا وعمرنا في سبيل العمل للمصلحة الشخصية. وهذا ما جعلنا نخسر كثيرا من الطاقات والثروات والزمن، لأنها لم تكن في سبيل الله والإنسانية وإنما كانت في سبيل الذات والمصلحة الشخصية.

ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى تربية أنفسنا على الموضوعية في القصد وتجاوز حدود الذات في الدوافع، وان نعمل من اجل الجماعة التي نعيش معها وكما قال تعالى : ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾(3)فالعمل تكون له ثماره ونتائجه الطيبة إذا تجاوز الذات والمنافع الشخصية ويكون في سبيل الله والإنسانية.

والعبادة تقوم بدور كبير في تربية الإنسان على الموضوعية في القصد وتجاوز الذات، وتعدّهذه الحاجة ثابتة في حياة الإنسان، يحتاج إليها في كل زمان ومكان وباختلاف الظروف والأحداث، لأنها تربيه على تزكية ذاته

وطهارتها وصفائها.

ص: 113


1- الصدر. نظرة عامة في العبادات. ص 260-261.
2- ينظر: الصدر . المحنة وحب الدنياص56.
3- سورة الرعد/ الآية 11.

والإسلام بصورة عامة يهتم بدوافع العمل أكثر من منافعه، لأنه يعتقد إن قيمته نابعة من الدوافع لا من المنافع، والنية الصالحة أساس العمل الصالح، والعكس بالعكس.(1)

3- الحاجة إلى الشعور الداخلي بالمسؤولية :

تعرضنا فيما سبق لموضوع الشعور بالمسؤولية، كخصيصة من خصائص الإنسان الجوهرية وتعد أس عملية الأمانة التي حملها الإنسان.

ويعد الصدر هذه الحاجة ثابتة في حياة الإنسان أيضا، لأنها تمثل ضرورة من ضرورات تربية الإنسان على الكمال والأخلاق الإسلامية الفاضلة.

يحتاج الإنسان في حياته الاجتماعية من اجل استقراره وتحقيق توازنه إلى ضمانات، تؤدى إلى تحقيق سلامة مسيرته الإنسانية والحضارية. والضمانات عند الصدر على نوعين:

ضمانات موضوعية (خارجية) كالعقوبات التي تضعها الجماعة وتفرضها على الفرد الذي يتجاوز حدوده ويخل بسلوكه في المجتمع.

ضمانات ذاتية (داخلية) وهذه الضمانات يضعها الإنسان بنفسه لنفسه، بإرادته واختياره، وهو شعور داخلي بالمسؤولية(2).

والضمانات الذاتية الداخلية في نظر الصدر أكثر ضرورة وحاجة وأهمية في حياة الإنسان من الضمانات الخارجية الموضوعية، لأنها تربي الإنسان على الشعور بأنه مسؤول أمام سائل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما نسر وما نعلن .

صحيح أن الضمانات الموضوعية لها الدور الكبير في ردع الإنسان وإيقافه عند

ص: 114


1- ينظر: الصدر. بحوث إسلامية ص 32 وما بعدها. والإسلام يقود الحياة ص 118 واقتصادنا. ج 1 ص 333 وما بعدها .
2- الصدر . نظرة عامة في العبادات ص 269.

حدوده وتلزمه باحترام القانون، إلا أن الضمانات الذاتية هي التي تسمو بالإنسان وتربيه على احترام قانون الداخل الذي يفرضه عليه ضميره ورقابة الله تعالى عليه. وبذلك يتعمق واقع وحياة الإنسان بالغيب ويشعره دائما انه في رقابة غيبية لا تغيب عنه أبدا، وانه ستعرض عليه أعماله وترد إليه يوم القيامة ﴿ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾(1).

وهكذا يترسخ الشعور الداخلي بالمسؤولية من قبل الإنسان يوماً فيوم من خلال الممارسات العبادية التي تشكل ضماناً قوياً لالتزام الفرد الصالح بما عليه من حقوق وواجبات.

العبادة وأثرها في تحقيق التوازن التربوي والاخلاقي للانسان

يتميز الدين الإسلامي عن الأديان الأخرى، سماوية كانت أم وضعية، بأنه قام على أسس إنسانية فطرية وعالمية، لا على أسس شخصية أو قومية أو حزبية أو محلية أو عنصرية ضيقة. وان دل هذا على شيء فانه يدل على عمق النظرة الإلهية التي تتسم بالسعة والشمول والكلية. فالله تعالى حين يسن قانونا فانه لا يضعه لفئة دون فئة ولا لشعب دون آخر، ولا لبلد دون بلد، بل يضعه إلى الناس كافة. فقوله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يا أيها الناس﴾ لا يعني أناسا معينين، وإنما يعني جميع الناس في كل زمان ومكان. لان الناس كلهم عيال الله، البر منهم والفاجر، المؤمن والكافر، الخير والشرير، فكل الناس من طينة واحدة وطبيعة بشرية واحدة، كما جاء في الحديث الشريف (كلكم لأدم وادم من تراب)(2).

وللعبادة آثار وفوائد متعددة على حياة الإنسان بكافة جوانبه وميادينه المتعددة، ولا يقتصر معنى العبادة عند الصدر على أداء أركان الأسلام الخمسة المتعارف عليها بين الناس، بل ان كل عمل إنساني يقصد منه وجه الله تعالى وسبيله فهو عبادة، من قول أو فعل أو حركة.

ص: 115


1- سورة الجمعة/الآية 8.
2- علاء الدين المتقي الهندي. كنز العمال. ج 6. مؤسسة الرسالة. بيروت 1399ه- 1979م. ص 130.

بل انه حتى الأركان الاسلامية الخمسة في نظر الصدر لها أبعاد أخرى غير البعد التعبدي الفردي ، لان هذه الفروض لم تمارس لذاتها، بل لأغراض وأهداف أخرى. (فالجهاد عبادة وهو نشاط اجتماعي، والزكاة عبادة وهي نشاط مالي، والخمس عبادة وهو نشاط اجتماعي مالي أيضا، والصيام عبادة وهو نظام غذائي، والوضوء والغسل عبادتان وهما لونان من تنظيف الجسد)(1).

إذن فالصدر يؤكد على أن مفهوم العبادة يجب أن يخرج من إطاره الضيق المعروف عرفا إلى إطاره الواسع ذي الآفاق السامية. ولهذا فان للعبادة الأثر الكبير والدور المهم في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية والإنسانية، في التربية والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من الجوانب الإنسانية المتعددة.وفيما يأتي سنعرض لأهم الآثار المترتبة التي تتركها العبادة في حياة الإنسان.

1-الأثر التربوي للعبادة:

الإنسان كائن غريزي مثله مثل باقي المخلوقات، إلا أن غريزته هذه تنبع عن طريق العقل والإرادة والوجدان، ولو فقد ذلك لكان كالحيوان بل أضل سبيلاً. وغريزة حب الذات من أهم الغرائز التي تسيطر على الإنسان، بل هي كما يذهب الصدر، أم الغرائز، وكل الغرائز فروع لهذه الغريزة، وإنها اعم وأقدم غريزة في حياة الإنسان. وتعني هذه الغريزة حب اللذة وبغض الألم، والإنسان بطبيعته يحب اللذة ويكره الألم(2).

وتتحكم هذه الغريزة في الإنسان منذ بداية حياته وهي اتجاه أصيل في النفس البشرية، وتدفع الإنسان دائماً إلى تحقيق الخير لذاته وتوفير مصالحه وإشباع رغباته، ولهذا اتجه الإنسان لإقامة العلاقات مع كل أجزاء الكون ومخلوقاته إشباعاً لهذه الغريزة الأصيلة المتأصلة في نفسه، بل إن نشوء المجتمعات قائم على أساس هذه الغريزة لأنها تدفع الإنسان نحو إقامة العلاقات المتعددة، والتجمع مع الآخرين، من اجل إشباع حاجاته وتحقيق مصالحه، ولهذا قيل عنه بأنه حيوان اجتماعي وكائن مدني بالطبع.

ص: 116


1- المصدر نفسه.ص278.
2- الصدر فلسفتنا . ص 32-33 والصدر. المدرسة الإسلامية. ص 78.

وغريزة حب الذات تدفع الإنسان لإشباع حاجاته بشتى الطرق والأساليب، من اجل تحقيق توازنه واستقراره النفسي والشخصي ومصلحته الخاصة وفقاً لميله الفطري على حساب الآخرين. وبذلك ينشأ التصادم والتناقض بين مصلحة الفرد ومصلحة الآخرين من أبناء المجتمع. وهذا السلوك الفردي من قبل الإنسان لو ترك من دون ضبط وإلزام وضمانات وروادع ورقابة ذاتية وموضوعية، توفر له تحقيق التوازن والاستقرار على المستوى الذاتي والموضوعي، تؤدي إلى هلاكه وهلاك المجتمع. ولن يتحقق الاستقرار على المستويين الفردي والاجتماعي في نظر الصدر إلا من خلال (الدين)، الذي يعد طاقة روحية تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه المؤقتة التي يتركها في حياته الأرضية املا في النعيم الدائم(1).

فعن طريق الدين وحده يستطيع الإنسان أن يكبح شهواته ويوازن ويوفق بين حاجاته المادية والروحية، ويعرف أن حاجاته الروحية والمعنوية هي أسمى بكثير من الحاجات المادية. لأن تكامله وسموه وقربه من المطلق يتحقق من خلال تربية هذا الجانب من الإنسان.

فيربي الدين الإنسان على كيفية احترام القيم والمباديء الروحية والاجتماعية و هي التي تحقق وجوده وجوهره واستقراره، لا المنافع والحاجات الشخصية الذاتية والمادية. وللعبادة الأثر الكبير في بناء وتربية الإنسان على السلوك الحسن والعمل الصالح.

ولا يقتصر اثر العبادة التربوي على الجانب النفسي والفردي فحسب، بل يجب أن يتعداه إلى جوانب متعددة من الحياة، ومنها الجانب الاجتماعي. فهناك أثر اجتماعي كبير وخطير تقوم به العبادة في حياة الإنسان. فعلاقة الإنسان بربه لا تقتصر على الأثر الفردي الشخصي الضيق، بل تمتد إلى أفق ومجالات أوسع وأرحب. والصدر يؤكد على مسألة مسألة في غاية الأهمية، وهي انه يجب على الفقه أن ينتقل من مستوى الأفراد إلى مستوى المجتمع والمؤسسات وبذلك فتح الصدر الباب على ما يسمى ب(فقه

ص: 117


1- الصدر. بحوث إسلامية ص 142.

النظرية). فيجب أن يكون هناك فقه للاجتماع والاقتصاد والسياسة والقضاء والطب والعلوم كما هو موجود للإفراد على مستوى العبادات والمعاملات(1).

ويحدد الصدر الهدف الذي من اجله يجب أن تتحرك عملية الاجتهاد لتطبيق النظرية الإسلامية للحياة وهو(2):

تطبيق النظرية في المجال الفردي بالقدر الذي يتصل بسلوك الفرد وتصرفاته.

تطبيق النظرية في المجال الاجتماعي وإقامة حياة الجماعة البشرية على أساسها بما يتطلبه ذلك من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية.

ويعيب الصدر على المجتهدين اشتغالهم بالفقه الفردي فقط، وترك الخوض في الفقه الاجتماعي. وقد أدى انحسار هذا النوع من الفقه - أي الاجتماعي - إلى الانكماش الهدف، واتجاه ذهنية الفقيه حين الاستنباط غالباً إلى الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه بدلاً من الجماعة المسلمة وحاجتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعية(3).

فيجب أن تسود النزعة الاجتماعية والأثر الاجتماعي للفقه والعبادات والدين بدلاً من النزعة الفردية الشخصية في المجتمع وفي حياة الإنسان عموماً. فالعلاقة العبادية ما بين العبد وربه يجب أن تنعكس على العلاقات المتعددة لإطراف العملية الإنسانية.

فجميع الفرائض والعبادات الإسلامية من صلاة وصيام وحج وزكاة وخمس، كلها تحمل آثاراً اجتماعية بقدر ما تحمل من آثار فردية نفعية ذاتية، بل إن الثمرة والأثر الاجتماعي للعبادة أهم بكثير من الأثر الفردي الشخصي. إذ تربي العبادة الفرد على المحبة والتضحية والإيثار من اجل الجماعة. فالحس والأثر الاجتماعي للعبادة أسمى أنواع الآثار. وإذا لم تؤت العبادة ثمارها بهذا المجال فلا قيمة لها ولا أهمية، بل تشكل عبئا ثقيلا على كاهل من يقوم بها.

ص: 118


1- ينظر: الرفاعي. موجز أصول الدين. ص 49 وما بعدها. وباقر بري. فقه النظرية. بحث في مجلة قضايا إسلامية معاصرة. العدد .11-12 165 وما بعدها وخالد الغفوري. فقه النظرية لدى الشهيد الصدر. مجلة فقه أهل البيت.ص العدد .20 . السنة 5 . 1421ه- - 2001. و مابعدها.
2- الصدر . بحوث إسلامية . ص 66-67.
3- ينظر: المصدر نفسه. ص70و مابعدها.

ويرى الصدر (إن العلاقة الاجتماعية تتواجد غالبا بصورة وأخرى إلى جانب العلاقة العبادية بين الإنسان العابد وربه في ممارسة عبادية واحدة، وليس ذلك إلا من اجل التأكيد على العلاقة العبادية ذات الدور الاجتماعي في حياة الإنسان، ولا تعدّ ناجحة إلا حين تكون قوة فاعلة في توجيه ما يواكبها من علاقات اجتماعية توجيهاً صالحاً)(1). وقد رفض الإسلام العبادة المزيفة الفارغة من محتواها التي تقتصر على الجانب الشكلي والفردي دون الاجتماعي.

2- الأثر الأخلاقي للعبادة:

مما لاشك فيه أن للمباديء والقيم والمثل الروحية تأثيراً كبيراً على حياة الإنسان ومسيرته، وتترك مسحتها الطاهرة عليه وتعاليمها السامية على سلوكه، بل إنها تربيه وتبني شخصيته بناء شامخاً لا اعوجاج فيه.

ومما لاشك فيه أيضا أن الأخلاق أهم مميز يميز سلوك الإنسان عن غيره من المخلوقات، فهو الكائن الوحيد الذي يتصف سلوكه بالصفة الأخلاقية وغير الأخلاقية. أما سلوك الحيوان فلا علاقة له بالأخلاق، لأن سلوكه غير مرتبط بدوافع أخلاقية بل بدوافع غريزية. أما سلوك الإنسان فانه فضلا عن غريزيته فهو سلوك مرتبط

بعقله وإرادته واختياره ومسؤوليته.

والدين الإسلامي دين الأخلاق والتربية والكمال الإنساني، فهو دين يدعو إلى سعادة الإنسانية وهنائها وخيرها وصلاحها، وينبذ ويرفض كل سوء ومكروه يصيب العملية الإنسانية على وجه الأرض. ويدعو الإنسان لأن يعيش فاضلاً وخيراً ونبيلاً، وان يتحلى بكل ما يؤدي إلى سموه وكماله وترك ما يؤدي إلى طلاحه وفساده من قول أو عمل.

وقد جاء الأنبياء والرسل(علیهم السّلام)برسالتهم وكتبهم السماوية المقدسة لبناء شخصية الإنسان، ودعوته لان يتخلق بأخلاق الله تعالى، والاهتمام بجانبه الروحي أكثر من الجوانب المادية والدنيوية الأخرى.

ص: 119


1- الصدر. نظرة عامة في العبادات. ص 285-286.

والأخلاق في الإسلام تمثل قاعدة أساسية للانطلاق نحو الأشياء الأخرى، فعمل الإنسان من دون أساس وقاعدة أخلاقية لا قيمة له ولا مقياس(1). وقيمة العمل في تقدير الإسلام يقاس بما يحمل من جانب إنساني وأخلاقي وتربوي، لا بما يحمل من جانب نفعي ومصلحي وشخصي ، وبما يحمل من قيمة اقتصادية أو مالية ومقياس العمل في الإسلام قائم أيضا على أساس تحقيق النفع الاجتماعي، وان يكون خالصاً لوجه الله وفي سبيله.

ويربي الإسلام الإنسان على حسن الخلق، والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعامل بالعدل والإحسان مع الآخرين، وتحصيل السعادة واللذة الحقيقية التي لا تزول ابداً.

ويؤكد الصدر في فلسفته وفكره على الدور الأخلاقي الكبير الذي تفرزه العبادة والعبودية المطلقة والدائمة لله تعالى، فكل عمل يصدر من الإنسان يجب أن يكون له أسس أخلاقية وتربوية يستند عليها، وإلا فالعمل من دون وجود هذه الأسس لا قيمة له ولا نفع (فالإسلام إذن لا يقتصر في مذهبه وتعاليمه على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين المحتوى الداخلي وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي)(2).

فيجب أن تنفذ العبادة إلى باطن الإنسان كي تؤدي دورها التربوي والأخلاقي الكبير في بناء وصنع شخصية الإنسان الإسلامية القرآنية، هذه الشخصية التي يقع عليها العبء الكبير والمسؤولية الخطيرة في توجيه المجتمع الإنساني نحو الهداية والصلاح (والإنسان المسلم يعبر عن وجوده الخاص بالتعامل مع الله جل جلاله بما يملك من قدرة روحية، وبالتفاعل مع الكون بما يملك من قدرة عقلية وفكرية، وبالتفاعل مع المجتمع بما يملك من أخلاق)(3).

ص: 120


1- ينظر: محمد تقي المدرسي. الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق التقدم. مطبعة الرفاه. بغداد. ب.ت. ص 21 وما بعدها و د. محمد الصادق عفيفي. الفكر الإسلامي ص 233 وما بعدها.
2- الصدر. اقتصادنا . ج 1 ص 292.
3- الصدر. رسالتنا. ص 138.

وهذا ما يميز أخلاق الإنسان والمجتمع الاسلامى عن أخلاق غيره من الأفراد والمجتمعات، وما يميز الدين الإسلامي عن غيره من الأديان. فالإنسان المسلم دائماً يلبس الأرض إطار السماء، وينظر إلى عالم الغيب والملكوت نظرة تقديس وإجلال، وينظر إلى مالك الملك بعين القلب، وينتظر ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، والذي توضع فيه الموازين القسط بالحق، ليفصل بين الناس بالعدل ويعطى كل ذي حق حقه.

ويعيب الصدر على الإنسان المسلم العابد موقفه السلبي تجاه الأرض وما فيها من ثروات وخيرات وكنوز. تمثل ذلك في زهده وقناعته وكسله، وفصله بين الأرض والسماء. مما جعل الإنسان المسلم يعيش حالة من الضياع والفقر والجمود. وهذا ما جعل الإنسان غير المسلم ينظر إليه على انه إنسان أخروي لا علاقة له بالدنيا. ويرى الصدر أن موقف الإنسان المسلم هذا من الأرض موقفاً سلبياً يجب أن يزول وان يحل محله موقفاً ايجابياً نابعا من الإسلام والشريعة المحمدية، التي تؤكد على ضرورة التوفيق ما بين الأرض والسماء، وإلباس الأرض إطار السماء، لا أن يكون الإنسان عبدا للأرض، وبذلك تتحقق خلافة الإنسان لربه وأدائه لأمانته. يقول الصدر: (لا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون، كما لا أعرف مفهوماً ابعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف لأن الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه)(1).

وقد يستغرب بعضهم من قولنا إن للعبادة أثرا اقتصاديا. ولكن لا استغراب من هذا الأمر، لان علة ذلك أن الإنسان العابد، والعبودية المطلقة لله تعالى، تخلق إنسانا كاملاً يعمل بمقتضى خلافته وأمانته، ومن ثم سوف يحقق عملية التوازن والاستقرار والضمان والتكافل الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية، والعدالة في عمليتي الإنتاج والتوزيع، أي إن الإنسان الذي يمارس عبادته بصورة تامة ما بينه وبين ربه سوف يعكس هذه العبادة على علاقاته الأخرى.

ص: 121


1- الصدر. اقتصادنا . ج1 . ص 40-41.

بل أن الصدر يعزو سبب المشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان إلى سوء العلاقة بين الإنسان وربه، وبذلك تنعكس على العلاقات الأخرى. ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي في سوء التوزيع، ويتجسد كفرانه للنعمة في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها .

ولكن ما الحل الذي يمكن أن نقوم به من اجل درء الإخطار وحل المشكلة الاقتصادية ؟ إن علاج المشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان عند الصدر يتمثل في(1):

محو الظلم من العلاقات الاجتماعية في التوزيع.

تجنيد كل طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها.

كما أن تحقيق التوازن بين أطراف عملية الاستخلاف هو الذي يؤدي إلى زوال المشكلة الاقتصادية والاجتماعية، وان ربط العملية العبادية بكل جوانب الحياة هو الذي يؤدي إلى سمو ونمو وتكامل المسيرة الإنسانية. ومثلما تحقق العبادة أثرها النفسي والتربوي والأخلاقي والاجتماعي للإنسان وللإنسانية، كذلك تحقق أثرها الاقتصادي الكبير الذي لا يقل أهمية عن تلك الآثار والجوانب الأخرى.

الخاتمة

بعد هذه الجولة الفكرية والسياحة في الفكر الأخلاقي عند الشهيد محمد باقر الصدر، من خلال محاولتنا الكشف عن أهم الافكار والآراء الأخلاقية التي سجلها الصدر في مشروعه الفكري وفي عموم طروحاته الفكرية والدينية والفلسفية والكلامية، توصلنا الى النتائج الآتية:

1- لم يترك لنا الشهيد الصدر مؤلفاً محدداً بعينه يتناول قضايا وفلسفة وفقه الأخلاق، ولكن مشروعه الفكري برمته مشروع أخلاقي بأختلاف مجالاته الفكرية التي درسها، الفقه والاقتصاد والاجتماع والسياسة والفكر والفلسفة والتاريخ، يتضح من خلالها الفكر والنزعة الأخلاقية بأبهى صورها.

ص: 122


1- المصدر نفسه. ج 1.ص 332.

2- ينتمي الشهيد الصدر الى المدرسة الاسلامية في الأخلاق والى منهج أئمة أهل البيت(علیهم السّلام)في التربية والسلوك والعرفان .

3- محاولة الشهيد الصدر التوفيق بين الأخلاق والفلسفة الاسلامية الدينية التي سار عليها مجموعة من فلاسفة الاسلام، أو يشبه كثيراً ما تناوله كثير من علماء الكلام المسلمين في هذا المجال، من أصحاب الفلسفة الدينية الميتافيزيقية المثالية.

4- الأخلاق في الفكر الصدري تسبق جميع الميادين الأخرى، فكل علم أو فلسفة أو معرفة أو أي فن من الفنون يسبقه فعل أخلاقي يبنى على أسس انسانية، وما لم تكن الأخلاق مقدمته سيكون الأخفاق والفشل مصيره، ونجاح المجتمعات والأمم مرهون بأخلاقها ونقاء النفس وطهارتها.

5- تبين لنا أن الإنسان كائن أخلاقي، وأن الصدر كغيره من المفكرين والفلاسفة والفقهاء والمتكلمين يميز الإنسان بجانبه الأخلاقي والروحي عن غيره من الكائنات في هذا العالم، وبالأخلاق وحدها يتحقق جوهر وجوده وتحقيق أمانته وخلافته على هذه الأرض، على وفق رسالة الدين الاسلامي التي رسمها له الله تعالى لتحقيق نجاحه وجوهر كينونته

6- للعبادة أثر كبير على حياة الإنسان في فكر الصدر ، ويتضح أثرها الكبير على أخلاق وتربية وحياة الإنسان وينعكس ذلك بصورة جلية على المجتمع وعلى الواقع وعلى علاقات الإنسان مع ربه ومع أخيه الإنسان ومع الطبيعة. فعندما يتحقق ذلك التوازن الروحي للانسان تتحقق سلامة المسيرة الانسانية، وتدر الطبيعة على الإنسان الخير الوفير ويتحقق المجتمع التوحيدي الصالح المتسلح بالفضيلة وهو خلاف المجتمع الفرعوني، الذي تسود فيه اخلاق الطغيان والرذيلة .

7- للمثل الأعلى (المطلق) الدور الكبير في حياة الإنسان الفرد والمجتمع ، ويؤثر تأثيراً كبيراً على عملية تكامل الإنسان روحياً ومادياً، بعكس المثل العليا (النسبية) التي تُشكل عاملاً سلبياً في مسيرة الإنسان ومجتمعه وحركة التاريخ والمستقبل.

ص: 123

8- الإنسان أناني بالطبع والطبيعة، وينشد دائماً مصلحته الشخصية على وفق غريزته كالحيوان، ولكنه مميز عنه بالعقل والتمييز وكذلك بالأخلاق، ويستطيع ضبط غريزته وفق عقله وأخلاقه واختياره بين طريق الحق وطريق الباطل، وعلى الإنسان أن يكون مراقباً لنفسه ومجاهداً لها وشاعراً بثقل المسؤولية والامانة، ليصل الى مرحلة الكمال وتحقيق خلافته على أتم وجه.

9- يعد الدين عاملاً مهماً في فكر الصدر ، لضبط ايقاع حركة الإنسان وتوجهه لتحقيق توازنه الروحي والمادي، وجذبه نحو مناطق السمو والرفعة ومحبة الغير واحترامهم والايمان بالآخر كايمانه بذاته، كي لا يكون الإنسان فريسة أنانيته وشهواته الذاتيه. وهو ضامن أكيد لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

10- يتلخص لنا أن فكر الشهيد الصدر الأخلاقي ينتمي الى أسس دينية بحتة، وأنه يعطي للغيب أثراً كبيرا في رسم أخلاق الانسان، ويجعل الأخلاق هي الأساس التي تجعل من الإنسان انساناً حقيقياً على وجه الأرض، بل هي التي تحدد خارطة علاقته مع الله تعالى ومع الطبيعة ومع المجتمع، ان خيراً فخير، وان شراً فشر.

قائمة المصادر

القرآن الكريم

2 باقر بري. فقه النظرية. بحث في مجلة قضايا إسلامية معاصرة. العدد 11-12 1421ه- - · 2000

3 تاج الدين ألشعيري. جامع الأخبار. ط2 . دار الرضي. قم 1405ه.

4 خالد الغفوري. فقه النظرية لدى الشهيد الصدر. مجلة فقه أهل البيت. العدد 20. السنة 5 .1421ه- .

5 زكريا أبراهيم. المشكلة الخلقة. مكتبة مصر ودار المرتضى. ب.ت

6 عبد الستار نوير. رسالة الإنسان في الحياة ومقتضياتها . ط منقحة دار الثقافة.الدوحة. قطر. 1490ه- - 1989م.

7 عثمان أمين. الجوانية. أصول عقيدة وفلسفة ثورة. دار القلم. 1964 .

8 علاء الدين المتقي الهندي. كنز العمال. ج 6 . مؤسسة الرسالة. بيروت . 1399ه- - 1979م.

ص: 124

9 القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. مج 13 . - القرطبي . الجامع لأحكام القرآن. مج 1، ج1. تحقيق سالم مصطفى البدري . ط 1 . دار الكتب العلمية. بيروت. 1420ه- - 2000.

10 الكليني. الكافي. ج 8. ط4. دار الكتب الإسلامية . طهران.

11 المتقي الهندي . كنز العمال ج 6 . مؤسسة الرسالة. بيروت. 1399ه- - 1979م.

2 المحدث النوري. مستدرك الوسائل. ج 14. ط 1 مؤسسة آل البيت. قم 1408ه.

13 محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . تر د. عبد الوهاب عزام. دار المعارف. مصر .1956م.

4 محمد باقر الصدر أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية. ط1. مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر. قم . 1425ه.

5 محمد باقر الصدر. الإسلام يقود الحياة. ط2. مطبعة الديواني. العراق. 1424ه- 2003 م

6.محمد باقر الصدر. اقتصادنا . ج1. تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي. ط1. مؤسسة بقية الله. النجف الاشرف. العراق. 1423ه- 2003 م.

7 محمد باقر الصدر. بحوث إسلامية . ط1 . دار الكتاب الإسلامي. 1424ه-2004-م.

8 محمد باقر الصدر . رسالتنا . ط3 مطبوعات مكتبة النجاح. طهران. 1402ه- 1982.

9 محمد باقر الصدر. الفتاوى الواضحة دار التعارف. بيروت لبنان 1410ه- 1990-م.

20 محمد باقر الصدر. فلسفتنا . ط2 . دار التعارف. بيروت - لبنان. 1419ه-1998-.

2 محمد باقر الصدر. المدرسة الإسلامية. (الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية). بيروت .لبنان. 1393ه-1973-م.

22 محمد باقر الصدر. المدرسة القرآنية. دار التعارف. بيروت. 1409ه- 1989-م.

23 محمد باقر الصدر. محاضرات المحنة وحب الدنيا. المحاضرة الثانية.

24 محمد باقر الصدر. نظرة عامة في العبادات. ضمن كتاب موجز في أصول الدين. تحقيق ودراسة عبد الجبار الرفاعي. ط2 . دار الشؤون الثقافية بغداد 2005.

25 محمد تقي المدرسي. الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق التقدم. مطبعة الرفاه. بغداد. ب.ت

26 محمد الصادق عفيفي. الفكر الإسلامي. مكتبة الخانجي. القاهرة. 1977.

27 محمد عبد اللاوي. فلسفة الصدر. ط1 . مؤسسة دار الاسلام. لندن. 1420ه - 1999.

28 محمد محمد صادق الصدر. فقه الأخلاق. ج1. 138. تحقيق كاظم العبادي. ب.ت.

29 محمد مهدي النراقي. جامع السعادات . ج 3. تحقیق محمد کلانتر. ط4. مؤسسة الاعلمي. بيروت - لبنان

ص: 125

الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) عند علي الوردي

(دراسة تحليلية نقدية)

د. قيس ناصر راهي(1)

المقدمة:

إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ اختلاف الرؤى الفلسفية التي هي من أساسيات حيويته. والبحث الفلسفي الأخلاقي شأنه شأن مجالات الفلسفة الأخرى حضر فيه اختلاف الرؤى لاختلاف منطلقات المهتمين به من الفلاسفة، فبعضهم اهتم بالجانب العقلاني من الطبيعة البشرية، وبعضهم الآخر اهتم بدراسة انفعالات الطبيعة البشرية من دون الاهتمام بعقلانيتها، فالاختلاف الحقيقي يكمن في طبيعة البحث. فرؤى الفلاسفة العقلانيين حول ما ينبغي أن يكون، بدت للمهتمين بانفعالات الطبيعة البشرية أنها تقع خارج دائرة المنطق، ولذلك هي بحاجة الى منطق جديد يوجهها، ويبدو أيضاً أن ذلك ما دفع بعض الفلاسفة الى التشكيك بالقيم المطلقة ولاسيما مع

ص: 126


1- مركز دراسات البصرة والخليج العربي - جامعة البصرة - : يرى الباحث: «أن القيم الأخلاقية على وفق هذه المدرسة تعد واحدة من الأبعاد التي تشكل الهوية الاجتماعية للفرد، وهنا تُغيَّب هوية الفرد من خلال اندماجها بهوية المجتمع الذي ينتمي اليه» ، ويمثل هذا البحث مناقشة هذه الرؤية للمدرسة ممثلة بالوردي وخصوصا تاكيد الباحث على: الوضعية الاجتماعية وكأن الصورة المتشكلة للقيم الأخلاقية من خلالها توحي بأن الفرد مجبر بسلوكه الأخلاقي على وفق المجتمع الذي ينتمي إليه ولا أثر له فيها، إنما المجتمع هو الذي يحدد طبيعة السلوك الأخلاقي للفرد، سواءً أكان مجتمع بدوي أم ريفي أم حضري اذ يخلص الى القول: " فإن الوردي يعد أحد رموز الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر "، المحرر

تأسیسات البحث الأخلاقي في العصر الحديث - هيوم على سبيل المثال، وربما رواد الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) بشكل عام أبرز من مثل هذه الرؤية من خلال نفي القول بالمطلق والتأكيد على دور الأعراف الاجتماعية في انتاج قيم الفرد الأخلاقية.

إن القيم الأخلاقية على وفق هذه المدرسة تعد واحدة من الأبعاد التي تشكل الهوية الاجتماعية للفرد، وهنا تُغيَّب هوية الفرد من خلال اندماجها بهوية المجتمع الذي ينتمي اليه، وقد تمثلت بمظاهر مختلفة بالامكان ملاحظتها من خلال قراءة علي الوردي (للعقل والفرد والمجتمع)، إذ اندمجت أخلاق الفرد بأخلاق البداوة (الشخصية البدوية) وأخلاق الريف (الشخصية الريفية)، فضلاً عن أخلاق الحضر أو المدينة ولم يعد لهوية الفرد من حضور إلا من خلال مجتمعه.

ورغم الجهود الكبيرة التي قدمها الوردي في دراسته للمجتمع العراقي التي حملت بين ثناياها القيم الأخلاقية للمجتمع العراقي فإن تلك القيم تمثل رؤية على وفق مدرسة أخلاقية ألا وهي الوضعية الاجتماعية وكأن الصورة المتشكلة للقيم الأخلاقية من خلالها توحي بأن الفرد مجبر بسلوكه الأخلاقي على وفق المجتمع الذي ينتمي إليه ولا دور له فيها، إنما المجتمع هو الذي يحدد طبيعة السلوك الأخلاقي للفرد، سواءً أكان مجتمعا بدويّاً أم ريفياً أم حضرياً.

هناك مدارس فلسفية أخلاقية عدة، قد قدمت رؤية مغايرة لرؤية الوضعية الاجتماعية في الأخلاق، وأكدت من خلالها على دور الفرد في بناء أخلاقه، إذ إن الفلسفة الأخلاقية عبر تاريخها قد اهتمت بتعريف الخير الأسمى وتحديد القيم الأخلاقية وبيان علاقة هذه القيم بالنشاط الانساني ووضع معايير العدالة والحق والواجب والفضيلة(1). وفي سياق الحديث عن القيم الأخلاقية، إن فلاسفة عدة قد استعملوا الكلمات المرادفة لمفهوم القيمة ، التي منها الخير والمثل الأعلى والكمال، وقد قيل مثلما يتكلم البشر في جميع لغاتهم بالنثر أسلوباً، فإنهم يمارسون كافة القيم سلوكا(2)، وإن لفظ القيمة في علم الأخلاق يطلق على ما يدل عليه لفظ الخير بحيث

ص: 127


1- ينظر: بدوي، محمد، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية ، 2000 ، ص7.
2- ينظر: بسيوني، صلاح، القيم في الاسلام بين الذاتية والموضوعية، دار الثقافة، القاهرة، 1990، ص11.

تكون قيمة الفعل تابعة لما يتضمنه من خير(1)، ولذلك نجد أن القيمة الأخلاقية فكرة عملية لا معنى لها إلا قياساً بالعمل(2).

ومما تجدر الاشاره إليه إن اغلب الفلاسفة وإن اتفقوا على أن القيم الأخلاقية تعنى بمعنى الفضيلة، إلا أن بعضهم درس السلوك الأخلاقي بوصفه موضوعاً أخلاقياً، سواءً أكان يتسق مع الفضيلة أم لا يتسق معها ، وهو ما دعاهم الى تصنيف القيم الى صنفين: صنف مطلق يلتمس لذاته، وصنف نسبي ينشده الناس كوسيلة لتحقيق غاية، وتأتي مهمة العقل لفحص القيمة الصحيحة للخبرات كلها التي يبدو اكتسابها متوقفاً على سلوكنا الى حد ما(3)، والصنف الأول من القيم الأخلاقية لا تتوقف على المنفعة بل هي مستقلة عن كل اعتبار، إنها قيمة في ذاتها(4). وفي بعض الاحيان يخلق المجتمع نسقاً من المفاهيم الأخلاقية لكي يوجه سلوك الناس كالمثل العليا والمبادئ السامية(5).

وما يهدف إليه البحث هنا هو دراسة تمثيل أخلاق الوضعية الاجتماعية عند علي الوردي، إذ إن فرضية البحث ترتكز على القول بأن علي الوردي في دراسته قد وظف الرؤى الفلسفية للوضعية الاجتماعية، لذا توزعت موضوعات البحث الى دراسة: الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفلسفة الغربية، وعلي الوردي ضمن سياق الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي، وأخلاق المجتمع العراقي عند علي الوردي تمثيلا لأخلاق الوضعية الاجتماعية، فضلاً عن أخلاق الوضعية الاجتماعية من خلال الافادة من النقد الذي وجهه اليها المهتمون بالشأن الفلسفي الأخلاقي.

ص: 128


1- ينظر: صليبا، جميل، المعجم الفلسفي، ج الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط أولى، 1973، ص 213.
2- ينظر: ديديه، جوليا، قاموس الفلسفة، ترجمة فرانسوا ايوب، مكتبة انطوان ،بيروت، ط أولى، 1992، ص418.
3- ينظر: لالاند ،اندریه، موسوعة لالاند الفلسفية، ج الثالث، ترجمة خليل احمد خليل، عويدات، بيروت، ط ثانية 2001، ص 1523.
4- ينظر: بدوي، عبد الرحمن، موسو عة الفلسفة، ج الثالث، ذوي القربى، قم، ط ثانية، 1420 ه، ص 206-217.
5- ينظر: بودین، روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، مراجعة صادق جلال العظم، جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط خامسة، 1985، ص381.
أولاً - الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) في الفلسفة الغربية:

إن الأخلاق على وفق الرؤية التقليدية تطمح أن تكون كلية مطلقة، وليدة الضمير الانساني العام أو العقل البشري الكلي، وإن أوامرها لابد أن تكون واحدة بالنسبة الى البشر قاطبة في كل زمان ومكان، وبالمقابل من ذلك هناك من يشتغل وفق الأخلاق الاجتماعية أو الأخلاق الوضعية القائلة بالنسبية التي تقول بأن الظواهر الخُلقية لا تخرج عن كونها ظواهر اجتماعية(1)، إذ حاولت المذاهب الأخلاقية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وضع أخلاق عملية تحاكي في طابعها الموضوعي شتى العلوم الوضعية الحديثة(2)، وأرادوا أن يجعلوا للأخلاق مثلاً اعلى مستمد من الجماعة التي يعيش فيها الفرد وليس مستمداً من الدين أو من افكار بعض الفلاسفة(3)، وربما ابرز من مثل هذا الاتجاه في بداية أمره هم الوضعيون - الذين هم علماء اجتماع - رأوا أن لعلم الاجتماع وصاية على علم الأخلاق وتبعية ثانيهما لأولهما موضوعاً ومنهجاً، وقيام الأخلاق على هذا النحو يعني أن مجال البحث العلمي ينتهي باستبعاد المطلق من مجال الأخلاق، والتسليم بالنسبية وهذا القول لا يمنع من التمييز بين الخير والشر(4)، وينتمون الى المدرسة الوضعية في الأخلاق التي وصفها زكريا ابراهيم بالصور المقنَّعة للجبرية الميتافيزيقية التي تجعل الفرد خاضعاً لمصير محتوم بعيد عن الحرية والاختيار وتقرير المصير(5)، دعاة الأخلاق الاجتماعية ، ومن فلاسفة وضعيين اعتبروا الظواهر الأخلاقية مجرد وقائع اجتماعية تقبل الوصف والتحليل والتصنيف وذهبوا الى أن لكل شعب من الشعوب أخلاقه الخاصه التي عملت على تحديدها ظروف اجتماعية متعددة(6)، وقد كان أول من وجه الدراسات الأخلاقية الى هذه الناحية هو اوجست كونت (Auguste Comte) (1857-1798

ص: 129


1- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، ص 156.
2- ينظر : المصدر نفسه، ص 161.
3- ينظر : زقزوق، محمد حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، دار القلم ،الكويت، ط ثالثة، 1983، ص59.
4- ينظر: الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشاتها وتطورها، دار وهدان القاهرة، ط ،ثالثة 1976 ، ص.
5- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، ص161-162.
6- ينظر: ابراهيم، زكريا، المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، ص 78.

ومن ثم حذا حذوه دوركهايم (David Emile Durkheim) (1917-1858م) وليفي بریل (Levy Bruhl) (1939-1857م)(1).

إن الأخلاق الاجتماعية على وفق كونت تعتمد على الملاحظة وتنظر الى ما هو كائن بالفعل، لا كما نتصور أن يكون(2)، وإنها «ليست أفكاراً نظرية يضعها فرد معين لا يرتبط بزمان معين ولا بمكان معين، أي فرد ميتافيزيقي لا وجود له في الواقع، ويسعى وراء مثل اعلى من خلق خيال الفيلسوف قلما يتحقق لبعده عن الحياة الواقعية واعتماده في اصوله على قوى داخلية نفسية، ولكن الأخلاق الاجتماعية هی أخلاق وضعية علمية تقوم فعلاً في المجتمعات البشرية، وهي محدودة بزمان معين ومكان معين، وتمثل قوى خارجه من صنع المجتمع نفسه هي الظواهر الأخلاقية التي يخضع لها طواعية لأنها تفوقهم وترفعهم الى مستواها الحضاري»(3). وهذا القول يشير الى تحول البحث الأخلاقي من البحث بما ينبغي أن يكون الى دراسة ما هو كائن، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن الفرد اضحى من نتاج الضمير الجماعي.

يعتقد دوركهايم أن منبع القيم الأخلاقية هو الضمير الجماعي الذي هو فرد من نوع جديد منبثق عن تركيب الارواح الفردية، ويشكل تلك الروح الجماعية بالنسبة للفرد، التي هي اكثر استنارة منه ومن ثمَّ اكثر أخلاقية، فهو يحس بها بشكل الزامي کشعور داخلي عميق بالواجب(4). وهذا الرأي يؤكد على حضور الفرد ضمن الجماعة التي تعمل على تشكل قيمه الأخلاقية، ومن ثمّ تكوّن الظواهر الأخلاقية.

ويوضح ليفي بريل مفهوم الأخلاق بالاعتقاد بأنه مجموعة الأفكار والاحكام والعواطف والعادات التي تتصل بحقوق الناس وواجباتهم بعضهم تجاه بعض، التي يعترف بها ويقبلها الافراد بصفة عامة، في عصر معين وفي حضارة معينة، وتطلق هذه

ص: 130


1- ينظر: زقزوق، محمد حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، ص 59.
2- ينظر: بدوي، محمد، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ص 159.
3- عبد الحليم عطية، احمد، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1990، ص 52.
4- ينظر: غريغوار ، فرنسوا، المذاهب الأخلاقية الكبرى، ترجمة قتيبة المعروفي، منشورات عويدات، بيروتباريس، ط ثالثة، 1984 ، ص 110.

الكلمة على العلم الذي يدرس هذه الظواهر، وعلى تطبيقات هذا العلم(1). وليس بعيداً عن السياق الاجتماعي للأخلاق يشير ليفي بريل إلى إن الظواهر الأخلاقية ظواهر اجتماعية، فإذا ما فحصنا الظواهر الخلقية من الخارج ودرسناها بطريقة موضوعية من جهة علاقتها بالظواهر الاجتماعية، تبين أنها موضوع للمعرفة مثلها، وهذه هي نظرة علماء الاجتماع، ولكن العامة تنظر الى هذه الظواهر، فتجد أنها تتمثل لدينا في شعورنا الذاتي على هيئة الواجبات وصنوف الندم والشعور بالجدارة، أو عدم الجدارة واللوم والمدح وهلم جرا ، فإن خواصها تظهر في مظهر مختلف، وحينئذ يخيل الينا أن لا علاقة لها إلا بالسلوك وحده وإنها لا تخضع إلا للمبادئ العملية(2).

ويقول ليفي بريل: «لقد كان من العسير أن تجد هذه الفكرة قبولاً حسناً لدى النقاد اللذين لا يفرقون .. بين الوجهه النظرية وبين الوجهه العملية، بل يتصورون، على خلاف ذلك، أن علم الأخلاق نظري ومعياري في آن واحد، وأنه معياري اكثر منه نظريا. ويذهب بعضهم الى حد أن يقصر الأخلاق على تنظيم القواعد التي تصدر عن الضمير العام، أما كل البحوث التي تتجاوز ذلك الحد فهي على كل حال من الكماليات التي لا فائدة فيها، إن لم تكن ضارة»(3). وفي الوقت نفسه، يؤكد بريل بإن علم العادات الأخلاقية لا يمكنه أن يحل محل الأخلاق(4).

وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إن علم الاجتماع الأخلاقي هو ذلك الفرع السوسيولوجي الذي ينهض بدراسة الظاهرة الأخلاقية، أي إنه يدرس الأخلاق دراسة علمية، ويقترح علماً موضوعياً لتفسير العادات الأخلاقية، كما يتضمن دراسة النظرية الأخلاقية كما يعالجها الفلاسفة، ويجمع في تراثه ما جادت به قرائح الفلاسفة بصدد

تفسير السلوك الخلقي(5).

ص: 131


1- ينظر: بريل، ليفي، الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية، ترجمة محمود قاسم، مراجعة السيد محمد البدوي، وزارة المعارف، مصر، ص .170-169
2- ينظر: المصدر نفسه، ص58.
3- المصدر نفسه، ص 6.
4- ينظر : المصدر نفسه، ص 7.
5- ينظر: محمد اسماعیل، قباري، قضايا علم الأخلاق دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط أولى، 1975 ، ص 17.

ولعل السبب الذي من أجله يحتفظ علم الاجتماع الأخلاقي بمحصلة ما نجم عن تراث الفكر الأخلاقي، هو أن هذه النماذج الفلسفية لم تصدر في الواقع عن العدم، إنما صدرت عن روح العصر، بمعنى ان معايير الفلسفة الخُلقية مشتقة من طبيعة الحياة الاجتماعية التي مرت بها الفلسفة طوال ماضيها الطويل، ففلسفات اللذة والألم والمنفعة والواجب ماهي إلا صور اجتماعية للواقع التاريخي التي مرت به(1).

ويمكن تلخيص سمات هذا الاتجاه على وفق النقاط الآتية(2):

1- إن اصحاب المدرسة الاجتماعية يرفضون توحيد الخلقي والعقلاني، كما يفعل الفلاسفة التقليديون، ومعنى هذا إن الحقيقة الأخلاقية ليست مجرد واقعة ذهنية بل هی ظاهرة موضوعية يمكن ملاحظتها وتصيفها وتحليلها وتفسيرها .

2- نقد الأخلاق المعيارية، نقد ما ينبغي والاشتغال على ما هو كائن.

3- القول بفشل الفلاسفة الذي اشتغلوا على تأسيس أخلاق عامة كلية، لأن المفاهيم الأخلاقية بعيدة عن أن تكون على هذا النحو من البساطة، فضلاً عن أن ما يؤسس له فيلسوف الأخلاق في ضميره لا يعدو كونه مجرد اكتساب من المحيط الذي ينتمي إليه.

4- نقد القول القائل بأن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان وزمان.

وهذا الحديث ينسحب الى المجتمعات المعاصرة التي نتجت فيها فلسفات أخلاقية مرتبطة بواقعها المعيش. وخلاصة القول، إن الأخلاق الاجتماعية تُعنى ببحث ماهو كائن وليس بما ينبغي أن يكون ، وإن القيم مرتبطة بالضمير الذي هو نتاج جماعي، فضلاً عن أن اعتبار الظواهر الأخلاقية ظواهراً اجتماعية، لكن على الرغم من التأكيد على دراسة ماهو كائن، إلا إن ماهو كائن يوصل الى ما ينبغي أن يكون من خلال نقد الأول والتأسيس للثاني البديل .

ص: 132


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 19-20.
2- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، ص 157-159.
ثانياً - علي الوردي ضمن سياق (الأخلاق الوضعية الاجتماعية) في الفكر العربي المعاصر

يمكن القول إن الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر قد اتفقت مع المرتكزات الرئيسة التي قامت عليها الفلسفة الأخلاقية الاجتماعية الغرب، إذ هناك ركيزتان متفق عليهما، وهما، إن الفرد تمثيل لمجتمعه، والثانية إن الضمير مُقيد بما يسود المجتمع.

وفي الفكر العربي المعاصر، تبلورت الدعوة للأخلاق الاجتماعية لدى الرعيل الأول من المفكرين العرب، سواءً أكان مع منصور فهمي وعبد العزيز عزت أم مع محمد بدوي ومحمود قاسم(1). وهذا الأمر في مصر على وفق رأي احمد عبد الحليم عطية، إلا أن الباحث يرى أن الوردي ينتمي الى سياق هؤلاء المفكرين وهذا ما سيتبين لاحقا في ثنايا البحث.

يُعدّ منصور فهمي أول من تأثر بالمدرسة الأخلاقية الاجتماعية من خلال استاذه ليفي بريل الذي يعد واحد من ابرز رواد تلك المدرسة(2)، أما عبد العزيز عزت فيتميز عن منصور فهمي، بأنه استاذاً للفلسفة أما الثاني فهو استاذاً لعلم الاجتماع(3)، فيما جدد محمد بدوي رأي موقف المدرسة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان الذي يحيا في مجتمع معين يعكس المبادئ الأخلاقية السائدة في مجتمعه وإن الضمير الأخلاقي يتقيد بما يسود في المجتمع من عادات وتقاليد، ومن هنا فالإنسان يحكم على الافعال والتصرفات لا من خلال ضميره فحسب، بل من خلال ضمير المجتمع(4).وهذه الآراء متماهية مع مواقف رواد الأخلاق الاجتماعية في الفلسفة الغربية، سواءً أكانوا مع كونت ودوكهايم أم مع بريل.

ص: 133


1- ينظر : احمد عبد الحليم عطية، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، ص45.
2- ينظر: المصدر نفسه،ص47.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص49.
4- ينظر: المصدر نفسه، ص58.

وربما يقترب حسام الدين الالوسي من الوضعية الاجتماعية حينما يقول: «إن الأخلاق مسألة تاريخية اجتماعية، وإن تجاهل هذين الأمرين أحد أكبر العوامل التي اوقعت بعض المدارس الفلسفية الأخلاقية بالقول بفطرية الضمير ومطلقية القيم الأخلاقية»(1)، وإن التصور الاجتماعي التاريخي للأخلاق يمنح نتائجاً يتمثل بالقول بأن الأخلاق نشأت في طور معين من مراحل اجتماعية البشر، وإنها تطورت من التقاليد والاعراف، وأنها ترتبط بأسس المجتمع المادية ومجمل الظروف الأخرى(2). ولكن هذا القول لا يتماهى مع المدرسة الوضعية فحسب، إنما مع المدرسة البرجماتية أيضا، إذ يقول ديوي: «إن الأخلاق من الناحية العملية هي التقاليد، وهي الأساليب الشعبية، وهي العادات الجماعية المقررة»(3).وإن المجتمع هو الذي يرسم للفرد برنامج حياته اليومية(4).

وإذا عدنا الى الوردي فمن الممكن وضع دراساته وفهمه للفرد والجماعة في ضمن سياق الأخلاق الاجتماعية. فوفق رؤيته، أن الإنسان الفقير لا يفهم الحقيقة إلا على شكل رغيف، أما الغني فنجده يساهم بالمثل العليا، كالجمال الكامل أو الحق المطلق وما الى ذلك من مفاهيم(5)، لذلك على وفق ما اعتقد به أن الفلاسفة قد جانبوا الصواب ولاسيما الذين استنبطوا المثل العليا من عقولهم المجردة ثم يفوضونها الى الناس لأن ما يجري في سلوك الناس هو على نمط ما يحترمه المجتمع، فلو احترم الناس قرداً لصار جميع الناس يحاولون أن يكونوا قرودا(6)؟ وهذا الرأي يعبر عن أن الفقير ينظر للقيم على وفق بيئته الاجتماعية، وكذلك الأمر ينطبق على الغني أيضاً. وفي النتيجة حضور البيئة الاجتماعية وليس المثل العليا كما يتصورها بعض

ص: 134


1- الالوسي، حسام محيي الدين، التطور والنسبية في الأخلاق، دار الطليعة، بيروت، ط أولى، 1989، ص 6.
2- ينظر: المصدر نفسه، ص 13.
3- ينظر: ديوي، جون، الطبيعة البشرية والسلوك الانساني، ترجمة وتقديم الدكتور محمد لبيب النجيحي، مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1963، ص 97.
4- ينظر: بدوي، محمد، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ص 113.
5- ينظر: الوردي، على، خوارق اللاشعور أو (اسرار الشخصية الناجحة)، منشورات سعيد بن جبير، ايران، ط أولى، 2005، ص 54.
6- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق (الضائع من الموارد الخلقية) دار الوراق، ط أولى، 2007، ص17.

المهتمين، وإن كان قول الوردي لا يُفهم بالمطلق، إنما على وفق النسبية، لأن البيئة الفقيرة قد انتجت عدداً من الادباء والفنانين.

أما الركيزة الثانية في أخلاق الوضعية الاجتماعية، فترتبط بالذات المثالية التي يطلق عليها اسم الوجدان أو الضمير، فإن جذور هذه الذات مستمدة من قيم المجتمع، فالضمير نسبي يكون بلون المجتمع وهو قد يدفع الإنسان الى القسوة والظلم، إذا كانت القيم الاجتماعية مؤيدة لها، فالضمير صوت المجتمع لا صوت الله حيث كان القدماء يصفون الضمير بأنه (الصوت الالهي في الانسان)، وهناك فرق بين الاثنين فالله رب الناس جميعاً، أما المجتمع فيفضل ابناءه على غيرهم وهو لا يبالي بسفك الدماء ونهب الاموال(1)، وبناءً على ما تقدم، يقرر الوردي أن الإنسان لا يفكر بعقله بل بعقل مجتمعه فهو يميز بين الحسن والقبح حسب ما يوحي المجتمع إليه، إذ إن تفكيره يجري في نطاق القوالب التي وضعها المجتمع له، فهناك افراد خرجوا على القيم المتعارف عليها وهذا أمر يحصل في المجتمعات المفتوحة التي تتصارع فيها الأفكار، أما في المجتمعات المغلقة التي تعيش في عزله فمن الصعب أن يفكر الإنسان بخلاف ما اعتاد عليه ونشأ فيه(2). ويقول الوردي في هذا المقام «إن العقل متحيز في طبيعته لأن هناك عوامل تؤثر في تفكيره من حيث هو لا يدري منها القيم والمعتقدات والعادات والمصلحة والأنوية والعاطفة والثقافة الشخصية»(3).

ثالثاً- أخلاق المجتمع العراقي عند علي الوردي تمثيلاً لأخلاق الوضعية الاجتماعية:

من خلال ما ذكر سابقاً، يتبين تماهي الوردي مع آراء الأخلاق الاجتماعية، إذ أكد على أن الفرد ابن بيئته الاجتماعية وأن الضمير نتاج للضمير الجماعي، لكنه لم يقف عند حد الفلسفة الغربية المتمثلة هنا في الأخلاق الاجتماعية، بل عمل على تبيئتها

ص: 135


1- ينظر: الوردي، علي، الاحلام بين العلم والعقيدة، داركوفان، لندن، ط ثانية، 1994، ص85.
2- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، سعيد بن جبير، قم، ط أولى، 2005، ص 139
3- الوردي، على، خوارق اللاشعور او (اسرار الشخصية الناجحة) ، ص 47.

من خلال دراسة الواقع الذي ينتمي اليه، فوجد أن هذا الواقع فيه أمور يختص بها عن أخلاق البداوة والحضارة، وهنا ذهب أبعد من رواد المجتمعات الأخرى، ألا وهي الأخلاق الاجتماعية الى ابن خلدون ليوظف رؤيته في دراساته. كما لا يفوت على المتتبع لكتابات الوردي أن أخلاق البداوة قد أخذت حيزاً أكبر من الأخلاق الأخرى، بل يمكن عدها مرتكزاً لأخلاق الريف والحضر.

أ- التغالب بوصفه محركاً لقيم البداوة:

قبل الدخول في الحديث عن التغالب لابد من الاشارة الى الاهتمام الذي أولاه الوردي في وصفه لأخلاق البدوي وهذه الأوصاف تتمثل بسمات عدة، منها: الصدق، الأخلاص، الشجاعة، وغيرها من القيم الأخرى. وعلى الرغم مما عُرف به البدوي ، من عصبية تجاه جماعته، حتى أن هذه العصبية تقوم عليها الغلبة، إلا أن الرئاسة التي يسعى إليها، لا تكون إلا بالتغالب على رأي ابن خلدون(1).

إن المتتبع لقيم البداوة يجد أن أولها الصدق، فالبدوي لا يحب الرياء والمراوغة لأنهما يعدّان نوعاً من أنواع الضعف لا تتواءم طبيعة الشجعان، فهو لا يقسم بالله كذباً، وإذا أقسم فهو في الاغلب صادق(2)، وهذا يعني أنهم أي البدو- ميالون الى الصراحة والمجابهة، ومعنى هذا أن خلق النفاق فيهم ضعيف، أما عن وصف القرآن لهم بأنهم أشد كفراً ونفاقاً، فالاعراب هم البدو، وهذا النفاق ليس معناه النفاق الاجتماعي الحديث، لأن مفهوم النفاق الذي جاء به الإسلام ليصف فئة من الناس اظهروا الاسلام واظهروا الكفر ، وقد فرق الاسلام بين المسلم والمؤمن(3).

أما الصفة الأخرى التي يتسم بها البدوي فهي الاخلاص بل هو من أكثر الناس اخلاصاً، لكن بحسب معايير البداوة وطابع ثقافتها الاجتماعية فهي تكون نحو قبيلته،

ص: 136


1- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 19.
2- ينظر: ابن خلدون، عبد الرحمن محمد، مقدمة ابن خلدون، اعتناء ودراسة احمد الزغبي، دار الأرقم، بيروت، ص 161.
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 77.

إذ إنه لا يكون ذا اخلاص تجاه قوة غريبة، وإذا انضم الى هذه القوة فإنه لا يحمل نحوها من الولاء مثلما يحمل نحو قبيلته(1). إن هذا الاخلاص بين الفرد وقبيلته عباره عن مصلحة متبادلة فالقبيلة تتقوى بالفرد والعكس صحيح، فبمقدار ما يتوقع الفرد من قبيلته أن تشمله بحمايتها تتوقع القبيلة منه أن يمنحها الولاء والفداء، وهو يسرع الى نجدتها، والنجدة المطلقة هي من خصال البداوة التي لا يمكن الاستغناء عنها(2).

ويعتقد البدو بتوارث القيم أي إن مصدر القيم الوراثة، ولذلك نجدهم يهتمون بالإنسان لكونه يعين صفات الفرد منهم، فهم يعتقدون أن الإنسان يرث صفاته من ابويه، فإذا نشأ الولد بينهم وهو غير متصف بصفاتهم ارتابوا بنسبه، وهم بذلك يجهلون اثر المجتمع في تكوين صفات الفرد(3).

وعلى الرغم من أن الأخلاق التي يؤمن الوردي بدراستها ذات طابع اجتماعي، إلا أن المجتمع الذي يدرسه يجهل الجانب الاجتماعي، ومن الواجب القول أن من أهم الاساسيات التي تقوم عليها الشخصية البدوية هي الاستحواذ(4). ومن هنا فربما للثقافة البدوية ثلاثة أسس (العصبية، الغزو، والمروءة)، ومن الملاحظ أن طابع التغالب موجود في جميع هذه المركبات، فالفرد البدوي يغلب بقبيلته أولاً وبقوة شخصيته ثانياً، وبمرؤته أي فضيلته ثالثاً(5)، والبدو لهم قيم ومثل يؤمنون بها وهذه القيم تتغلغل في اللاشعور، إذ ينشأ عليها الفرد ويعتاد عليها حتى تصبح جزءاً من اسلوب تفكيره(6).

يتبين مما ذكر تماهي الوردي مع قيم البداوة على العكس من القيم الأخرى الموجودة في الريف أو المدينة، فضلاً عن دفاعه عن قيم البداوة، مثلما تبين من

ص: 137


1- ينظر: المصدر السابق، ص 81.
2- ينظر: المصدر السابق، ص49.
3- ينظر : المصدر السابق، ص 50.
4- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 13.
5- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 34.
6- ينظر: الوردي، علي، خوارق اللاشعور ، ص 60 .

خلال حديثه عن الاعراب، ولكنه جعل من التغالب مرتكزاً لفهم قيمهم، وبالنتيجة ستكون انقلاب للقيم المتعارف عليها عند الناس، إذ جعل من التغالب المرتكز الذي تنطلق منه قيم البداوة على الرغم من قوله بالعصبية التي هي المحور الأساس الذي تدور حوله البداوة على وفق رؤية ابن خلدون، التي لم ينكرها الوردي، إلا أنه فهمها من خلال التغال الذي نال أهمية أيضاً عند ابن خلدون.

1- الشجاعة تمثيلاً للتغالب:

إن الشجاعة بوصفها فضيلة تكمن قيمتها «في المجتمع البدوي بقياس الغلبة والاستحواذ»(1)، فالرجل البدوي لا يجد في الحرب برهنة على شجاعته، بل يبرهن بأنه قوي وغلاب في الحرب والسلم معاً، لذلك يحب أن يكون وهاباً بقدر ما يكون نهاباً، فالبخل دليل على الجبن، والقوي لا يبخل لأنه واثق بشجاعته وبها سينال غنائم اخرى(2). وهكذا تكون نزعة التغالب هي المحرك لقيمة الشجاعة ومن الصعب على البدوي أن يكون موضع عطف أو رعاية أو تفضل من الغير، لأن ذلك يدل على الضعف في نظره، فهو يرغب أن يكون غالباً لا مغلوباً، ناهباً لا منهوباً، طالباً لا مطلوباً، قادراً لا مقدوراً عليه، ومشكوراً لا شاكراً(3).

2- الكرم تمثيلاً للتغالب:

إذا كان البخل دليلاً على الجبن، فقيمة الكرم التي هي وسط بين البخل والتبذير لها معنى لدى البدوي يتمثل بوصفها نوعاً من أنواع التعاون بين الشيخ وافراد قبيلته(4)، وللكرم معنى آخر يتمثل بكونه رمزاً للقوة، فالسخاء بالمال علامة من علامات التغالب والبدوي لا يبالي أن يسخو في المال الذي يصل الى يديه، فهو اسخى الناس حين يستغاث به، وقد يبذل في سبيل ذلك حياته ، فضلاً عن المال(5)

ص: 138


1- الوردي، علي، الأخلاق، ص 15
2- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص34.
3- ينظر: المصدر السابق، ص 37.
4- ينظر: الوردي، علي، في الطبيعة البشرية الاهلية، الاردن، ط أولى، 1996، ص 148.
5- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 18.

3- الوفاء تمثيلاً للتغالب:

يحترم البدو الوفاء، فهم يعدون الكلمة ديناً واجب الوفاء، وهذه القيمة أيضا تقوم على اساس التغالب، فالبدوي لا يفي بوعده إلا حين يجد في ذلك اشعاراً أو تمثيلاً لقوته، أما إذا شعر أن الوفاء قد يدل على ضعفه فإنه مضطر أن يكون خائناً وهو يفتخر بذلك(1).

ب- القيم الريفية تمثيلاً سلبياً لقيم البداوة:

على وفق منظور الوردي إن القيم الريفية صورة مشوهة لقيم البداوة، إذ إن المجتمع العراقي في الريف من اكثر المجتمعات انغماساً بالقيم البدوية في محاسنها ومساوئها، ولعل المساوئ اكثر وضوحا من المحاسن(2)، وذلك يعود الى طبيعة الصراع الذي يعانيه الرجل الريفي في العراق من جراء وقوعه بين دافعين هما دافع الربح ودافع المحافظة على القيم البدوية، وهو صراع قلما يعانيه الرجل البدوي فهو بشجاعته يستطيع كسب المال والاعتبار الاجتماعي في ان واحد(3)، فالشجاعة والسيف لا يجديان نفعاً فلابد للرجل الريفي أن يتخذ طريق الكذب والمراوغة إذا أراد العيش(4).

ويعتقد الوردي إذا نظرت الى أخلاق شيوخ الريف تجد أنهم يسعون الى التشبه بالشيخ البدوي في جميع قيمهم من شجاعة وكرم وصدق وامانة ولكن إلى أي مدى يستطيعون ذلك؟(5)لم يستطع الشيخ الريفي تمثيل قيم البدو لأنه أخذ يجنح نحو أخلاق الترف والتملق تجاه الحكومة وأخذ يهمل بالتدريج أخلاق العزة والصراحة التي اتسم اسلافه البدو بها(6)، وعندما تتغير أخلاق وقيم الشيوخ في الريف فلابد

ص: 139


1- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 80.
2- ينظر: الوردي، علي، منطق ابن خلدون، دار کوفان ،لندن، ط ثانية، 1994، ص 258.
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص174.
4- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص34.
5- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 164.
6- ينظر: المصدر نفسه، ص 169

من أن تتغير قيم وأخلاق اتباعهم، بل أن قيم الفلاح تفككت أكثر من تفكك قيم الشيوخ بسبب الفقر(1)، فظهر واقع حب الربح والمال لدى بعض الريفيين، ولاسيما المتصلين منهم بالاسواق والمدن، إذ تراه يطالب بالدين الذي له، ويمتنع عن اداء الدين الذي عليه(2)، لأن ذلك تمثيل للقوة والشجاعة، وهذا ما دعاهم الى احتقار بعض المهن (كالبقالة)، لأن الرجل هنا يحمل الميزان بدلاً من أن يحمل السلاح وهذا مخالف لخصال الرجولة والشجاعة(3).

وعلى وفق هذا المنظور أن قيم الريف لا تمتلك مثل تنطوي تحتها بل هي تحاول تقليد قيم البدو، إلا أنهم يعملون على تغييرها على وفق المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تحيط بهم ، وهي بالنتيجة قيم نسبية، وهذا ما ينطلق الوردي منه، سوا أكان مع البدوي أو مع الريفي أو مع الحضري.

ج- حضور قيم البداوة في القيم الحضرية (المدنية):

يمكن القول إن الوردي في حديثه عن القيم الحضرية لا يمثل قيم المدينة المعاصرة، وإن كان يوحي حديثه بأنه عن المدينة، بل إن حديثه اقرب الى سكنة الحضر (المحلة) بأزقتها، ولا يمكن فهم أخلاق المحلة على وفق أخلاق المدن الجديدة التي تشكلت، إذ إن الأخيرة تختلف في بنيتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، وهذا يجعل من المدينة مختلفة عن المحلة وما تمتاز به من عصبية اجتماعية، أما عن المدن التي تشكلت فيما بعد فإنها تؤكد على الفردية نوعاً ما، إلا أن الوردي قد فهم المدينة من خلال المحلة وهو ما كان سائداً في عصره.

لقد ورث اهل المدن العراقية قيماً من العهد العثماني، فالنخوة العشائرية تحولت الى نخوة محلية في المدينة حيث تتمثل بدفاعه عن أهل محلته، سواء أكان ظالماً أم مظلوماً حتى أن التربية في المدن تؤكد ذلك، فالأطفال يمارسون هذه العصبية

ص: 140


1- ينظر: المصدر نفسه،ص170.
2- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 37.
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 133.

المحلية وقد يؤلفون فيما بينهم عصابة ويحتقرون الطفل الذي لا يسرق وعندما يكبر هؤلاء سينظرون الى الحياة بمنظار القوة والضعف وسيحترمون الرجل الشجاع السفاك بالنسبة لاعدائه واعداء محلته، وهو شهم تجاه اصحابه ولايكاد يستنجد به احد حتى يسرع الى نجدته(1).

وإذا نظرنا الى القيم التي سادت في المجتمع العراقي في المدن في العهد العثماني (كالنخوة والشهامة والوفاء والنجدة .... الخ ) بين ابناء المحلة الواحدة، فقد كان لها جانب حسن لكن لا يمكن لهذه القيم أن تلائم الحضارة الحديثة، لأن الحضارة الحديثة هي الميدان الذي يحصل فيه النزاع من أجل البقاء(2)، وقيمها فيها الشيء الكثير من القيم البدوية، لكنهم لم يحافظوا على نقاوتها كما جاءت من البادية بل شوهوها حتى صارت اكثر بعداً عن تعاليم الدين(3)، وهنا نشأت لديهم مشكلة وهي وقوعهم تحت نظامين متعاكسين من القيم، فهم يحترمون المواعظ البليغة لكنهم لا يستطيعون اتباع ما فيها من مثل عُليا، فهم نشأوا منذ طفولتهم على أخلاق حسبما توحي به قيمهم المحلية، وهي قيم مناقضة لتلك التي تدعو إليها المواعظ الدينية، فالدين يدعو الى العفو والحلم أما القيم المحلية فعلى الضد من ذلك(4). ويمكن القول إن الأخلاق الوعظية قد نالت النقد من الوردي، إذ إن رواد الأخلاق الاجتماعية يرفضون هذا المنحى في الأخلاق.

وللرجل الحضري موقف سلبي من القيم البدوية على الرغم من أنه تأثر بها، فالحضري لايستسيغ القيم البدوية لأنه نشأ على قيم اخرى هي قيم الانتاج والمنفعة، فهو يقدر الناس على اساس براعتهم(5)، ولذلك نجد أن الحضر أخذوا الان على عاتقهم أن يساعدوا البدو على التحضر وعلى تبديل قيمهم التي غدت لا تلائم حياة

ص: 141


1- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 46.
2- ينظر: الوردي، علي، اسطورة الادب الرفيع، دار كوفان للنشر، لندن، ص138
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص261
4- ينظر: المصدر نفسه، ص 248.
5- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 15.

الحضارة الجديدة(1)، والقيم في المدن من وفاء وشجاعة...الخ تمثل المنفعة ولاسيما المنفعة في المهنة (2).

هذه الأخلاق في تلك الايام تذكر بشهامتهم وتنسي أنهم لصوص، ولعل اللصوصية من مفاخرهم، إذ هي تدل على الشجاعة، والجبان هو الذي لا يسرق(3). ولعل اشارة الوردي الى اعتبار السرقة شجاعة هي أبرز تمثيل لانقلاب القيم عما هو متعارف عند من يدرس الأخلاق، مع التأكيد على أن السرقة بوصفها شجاعة لا تُعد من سمات الحضر فحسب، بل إن القرى الريفية فيها هذا الأمر كذلك.

وخلاصة القول إن القيم الأخلاقية في العراق ماتزال تحمل في ثناياها بعض قيم البداوة في احترام الغالب واحتقار المغلوب، لكنها قيم ممسوخة خرجت من محيطها الأول وفقدت وظيفتها الأخلاقية فبقيت توجه السلوك كالعقدة النفسية من غير أن يكون لها هدف ملائم في محيطها الجديد(4).

رابعاً - نقد الأخلاق الوضعية (الاجتماعية):

في الواقع لا يمكن تقديم نقد لرؤية ما ، إلا من خلال الكشف عن أخطائها المنهجية وتحديد مفاهيمها بوصفها وسائل لتبليغ آرائها، وفي رؤية الوضعية الاجتماعية فيما يتعلق بالأخلاق، ثمة مواطن ضعف كانت بدورها دعوة لفتح الباب على مصراعيه لنقود شتى قد وجهت لها، سواءً أكانت من النظريات المعيارية التي لم تتورع عن القيام بذلك، إذ لم يرق لها منطلقات تلك الرؤية التي تنكر أهم مبدأ من مبادئ الأخلاق الذي يشتغل على القول على وفق ما ينبغي أم من خلال الأخلاق الوجودية التي وإن قدمت رؤية حول دور الفرد، إلا أن رؤيتها لا تقل تطرفاً عن رؤية الوضعية.

إن علم الأخلاق نظري ومعياري بل إنه معياري أكثر منه نظري، لهذا يلاحظ أن

ص: 142


1- ينظر: الوردي، علي، منطق ابن خلدون، ص 255.
2- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 80.
3- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 48.
4- ينظر: المصدر نفسه، ص 51.

قوة البحث الأخلاقي تعتمد على الموازنة بين القسمين وكذلك الموازنة بين دور الفرد ودور المجتمع في تشكيل سلوك الفرد، وليس القول بدور المجتمع فقط أو دور الفرد من دون الاهتمام بدور المجتمع وتأثيره على سلوك الفرد.

ومن الواجب القول، إنه قلما يوافق الفلاسفة على النظرة الوصفية للأخلاق، لأنهم يؤمنون بأن موضوعها يتمثل بفرض القواعد التي ينبغي أن يحتذيها الإنسان بسلوكه، ومن هنا فقد أبى الفلاسفة أن يجعلوا من الأخلاق مجرد دراسة وصفية للعادات والطبائع والسنن والمواضعات بين الناس، انما ذهبوا الى تأكيد القول بأن الدراسة الفلسفية للأخلاق هي دراسة معيارية، وبتعبير آخر هي معيار للخير والشر(1).

يقدم توفيق الطويل وصفا لأخلاق الوضعية الاجتماعية لا يخلو من النقد، إذ يقول: «إن الوضعية ترى أن الأخلاقية تقوم في طاعة الفرد لمواضعات المجتمع، ولكن ما الحال اذا كانت مثل المجتمع العليا هزيلة مريضة؟ كيف يمكن تقوم الأخلاقية في اقرار فساد البيئة وتوكيد مثلها المريضة؟ إن الأخلاقية للتمثل عندئذ في الثورة على الاوضاع البالية والتمرد على القيم التافهة، ابتغاء اصلاحها او وضع قيم سليمة جديدة تأخذ مكانها، وعنئذ يتبين الناقد المحايد أن القيم الجديدة قد صدرت عن الفرد رجعا لفساد المجتمع، وإن كان هذا الفرد نفسه لم يبرأ من تأثير المجتمع الذي يعيش فيه، وبهذا التمرد يتم التطور الروحي وبغيره يقف المجتمع وتجمد الأخلاق ويتعذر التقدم»(2). وإن رؤية الوضعية الاجتماعية فيما يتعلق بالأخلاق تصطدم مع مهمة الأخلاق، إذ ليس مهمة الأخلاق وصف نظام معين من الوقائع ، انما وضع مجموعة من المفاهيم، التي تحدد ما ينبغي أن يكون، و على وفق ذلك فإنه ليس من ، شأن الأخلاق أن تعمل على اكتشاف القوانين - على وفق المعنى العلمي، انما تنحصر مهمتها في تحديد القواعد، ومعنى هذا أن الأخلاق في جوهرها تشريع، تعمل وفق مهمة التكليف والالزام(3).

إن اصحاب النزعات الاجتماعية يحاولون أن يوفروا على إنسان العصر الحديث

ص: 143


1- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، دار مصر للطباعة، ص.152.
2- الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، دار النهضة العربية، ط ثالثة، 1976 ، ص 267.
3- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، ص154-155.

مشقة الاختيار، وكأن ليس في السلوك لحظة فردية تتوقف على قرار الذات، إلا أنهم يتناسون القول بأن اصل المشكلة الخُلقية هي في اصلها مشكلة شخصية تقوم على ضرورة الاختيار التي لا مندوحة عنها، ويحاول القائلون بالأخلاق الاجتماعية التأكيد على مسايرة الفرد للجماعة ولقيم المجتمع(1). وفي ذلك يقول زكريا ابراهيم: «وهكذا ينأى اصحاب الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) بالشخص الانساني عن مملكة الحرية والاختيار وتقرير المصير ، لكي يهيبوا به - فيما يقوله دعاة الوجودية - أن يسمو بنفسه نحو مستوى الكلية المجردة، حيث في وسعه أن يتخلص من كل مسئولية»(2).

ويمكن القول تماهيا مع رأي أحد الباحثين: «لم تكن دعوة الوضعيين جديدة من كل وجه، فقد سبق الى القول بمقوماته اقرانهم من الحسيين منذ أقدم العصور، فأنكروا كل ما وراء الواقع من حقائق ابستيمولوجية وقيم أخلاقية، وبالنتيجة استخفوا بكل مفكر يضيع جهوده في مثل هذه الأوهام»(3).

ولو رجعنا الى تأسيسات هذا الاتجاه لوجدنا أن آراء مؤسسيه من مثل كونت و دوركهايم وبريل فإننا نجد، إنه لم تبرأ قوانين كونت مؤسس الوضعية من الذاتية ولم تخل من الطابع الميتافيزيقي، واتضح بعده بطلان ما قامت عليه فلسفته، وقد اكد تاريخ الفكر أن العقل لم يبدأ لاهوتيا ويتدرج ميتافيزيقيا وينتهي وضعيا علميا، كما توهم كونت(4). من ناحية أخرى رأى دوركهايم أن منبع القيم الأخلاقية هو الضمير الجماعي، وهذا هو المثل الأعلى أي تلك الروح الجماعية بالنسبة للفرد التي هي اكثر وعيا منه، على أن هذا المفهوم يقودنا ثانية الى فكرة النظام الاعلى، أو بتعبير آخر الى دين الانسانية وعبادة الكائن العظيم على غرار كونت(5). ويتجلى نقص الفهم عند الأخلاق الاجتماعية ولاسيما مع ليفي بريل في عدم اشارته الى شعور الالزام

ص: 144


1- ينظر: ابراهيم، زكريا، المشكلة الخلقية، دار مصر للطباعة، ص79-80
2- المصدر نفسه، ص 80.
3- الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، ص 264.
4- ينظر: المصدر والصفحة نفسهما .
5- ينظر: غريغوار، فرنسوا، المذاهب الأخلاقية الكبرى، ترجمة قتيبة المعروفي، منشورات عويدات، بيروتباريس، ط ثالثة، 1984 ، ص 110.

الذي يبدو داخليا في الشعور الأخلاقي، كما يتمثل في تبرير الانسياق الاتباعي في الأخلاق. اذ لم يحدد المعيار الذي سيدلنا على السلوك الذي يجب أن نرغبه ؟(1)وهنا يمكن القول: «بهذا يتداعى اساس النظرية الوضعية في فصل الفرد من المجتمع، وجعله كائنا سلبيا يتلقى نظاما لم يشترك قط في وضعه ولا يملك الا طاعته راضيا او کارها، بل قد يساعدنا فهم العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع على أن ننتهي الى القول بأن الضمير الأخلاقي لا ينبع من ذات الإنسان وحده ولا من خارجه وحده»(2)إلا أنه رغم المآخذ على الوضعية غير أن فضائلها المتمثلة بالكشف عن العلاقات التي تربط بين الحياة الخلقية والحياة الاجتماعية تعد مهمة في البحث الأخلاقي(3).

ومن الواجب القول إن من بديهيات البحث الأخلاقي القول بأن الإنسان حيوان مقوم، ويتجلى نشاطه التقويمي العفوي أو الواعي في أنماط سلوك يألفها ويكررها وإن تكرارها يكسبها العادة، وهذه العادة فردية اجتماعية معاً مادامت سلوكاً(4). وهنا اشارة الى أن أخلاق الفرد تتشكل بسعيه أولاً وبتعبير آخر بوعيه الذي انتج رغبته في السعي لتغيير واقعه الأخلاقي مع عدم انكار دور البيئة الاجتماعية التي ينتمي اليها، إلا أن هذا الدور وإن كان مؤثراً لكنه لا ينكر حضور دور الفرد في تشكيل وتقييم نشاطه الأخلاقي.

إن لدراسة القيم الأخلاقية أهمية كبيرة، فالإنسان يهتم بما أودع فيه من عقل بمعرفة الحقيقة (ما هو كائن) ، ولكنه بما أودع فيه من شعور يهتم بممارسة الخير (ما ينبغي أن يكون)، فالأخلاق تتصل بالناحية الروحية عند الانسان، بحيث ينتظر من الإنسان أن يدرك واجباته وأن يهدف في اعماله الى تحقيق المبادئ الأخلاقية، فكل انسان ملزم لأن يبني تصرفاته ويبررها على وفق مبدأ أخلاقي يسير عليه وإذا لم يتخذ الإنسان لنفسه موقفاً من المشكلات التي يتعرض لها وآثر أن يكون سلبياً، فإن هذه

ص: 145


1- ينظر : المصدر نفسه، ص 109.
2- الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، ص 266.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 267.
4- ينظر: العوا، عادل، العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس ،دمشق، ط أولى، 1986، ص 9 وما بعدها.

السلبیة هي بالمقابل من الأخلاق(1)، ومع الوضعية الاجتماعية يبدو الأمر وكأن الفرد لا دور له فيما هو كائن لأن سلوكه نتيجة للبيئة التي ينتمي اليها، في حين البحث الأخلاقي يقوم على الموقف مما هو كائن لتشكيل ما ينبغي أن يكون.

الخاتمة:

أولاً وقبل كل شيء، ليس من شك في أن الفلسفة تمتلك خطاباً كونياً - على وفق الفهم السائد ، والفلسفة الأخلاقية المعيارية جزء من ذلك الخطاب، وقد عبرت عن نفسها تعبيراً موحداً رغم تعدد أنماطها، وكانت تسعى الى رفع مستوى وعي الإنسان لما أهله لادراك مثله العليا، وهو ما يتمظهر بجهد الفيلسوف بوصفه انساناً للرقي بنوعه، ونظرة الآخر الإنسان الاعتيادي إليه، فالخطاب الأخلاقي المعياري موجه الى مجموعة واسعة من البشرية، بل إنه خطاب الإنسانية، وهذه النظرة تمثل نظرة أخلاقية كونية متفائلة.

وإذا كان أحد المرتكزات الفلسفية للوردي (الاتجاه السفسطائي)، الذي عُرف بميله نحو النسبية، فإن النسبية هي أيضاً صفة لنتائج بحثه، لأنها صادرة عن عقل نسبي اعترف بهزيمته للوصول الى المطلق. لم يكن الوردي الوحيد الذي درس المجتمع العراقي لكنه انفرد بميزة مهمة وهي نقده اللاذع للمجتمع، وإذا أخذنا جانب القيم الأخلاقية نجد أنه طرح هذا الموضوع بصورة مختلفة قد تعود هذه الصورة في أسسها لرواد الأخلاق الوضعية الاجتماعية. ومن الواجب القول أنه على وفق ماتم دراسته في البحث، فإن الوردي يعد أحد رموز الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر.

وإن كان الوردي محقاً في جانب إلا أنه قد جانب الصواب في جانب آخر، لأن كلمة ينبغي تعني من بين ماتعني (المثال)، فبعد المثال أو قربه من الإنسان قد لا يحبطه عن الفعل، لكن اختيار المثل المناسب هو الحل، وإلا كيف يقول

ص: 146


1- ينظر: بدوي، محمد الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ص 8.

تعالى في كتابه الكريم ((ولله المثل الأعلى)). إلا أن هذا المثل محدد بقدر الطاقة الانسانية، والطاقة تفهم هنا الطبيعة التي قال بها الوردي، ولكن الله جل جلاله هو المثل الأعلى، ولو لم يعلم الله طاقة الإنسان ما حثه على ذلك. وهذا من منظور ديني، وكذلك من منظور الأخلاق الوضعية الاجتماعية كانت دراسات الوردي غارقة في الوصف للجوانب السلبية أو القيم المقلوبة وهذا من ناحية، وإن كشف ماهو كائن، إلا أن هذا لا يؤدي للعمل بما هو ممكن.

إن الإرث الاجتماعي العراقي يمتلك إرثاً من الأفكار والحوادث لا تعد ولا تحصى، أثارت ومازالت تُثير التساؤل والجدل حول مضامينها، بل أثارت الجدل حتى عن طبيعة المجتمع ، ولكن أي مجتمع ؟ هل هو المجتمع البدوي أو المجتمع الريفي أو المجتمع الحضري ؟ وهل مازالت ظواهر هذه المجتمعات موضع الدراسة والاهتمام؟ وهل بقيت هذه التصنيفات إلى اليوم؟ وهذه الأسئلة بحاجة الى اجابات من دراسات أخرى.

ص: 147

أخلاق المثاليّة المُعدَّلة عند توفيق الطويل

(نقد ذاتي للمشاريع الأخلاقية الغربية)

د. غيضان السيد علي(1)

مقدمة

يعد الدكتور توفيق الطويل صاحب نظرة أنطولوجية، إبستمولوجية، أخلاقية تؤمن بأن مشكلة الوجود لا تحل برده إلى المادة وحدها أو الروح وحده، ولكنها تحل بنظرة أوسع وأكثر رحابه، أي برده إلى المادة والروح معا، فهو صاحب مذهب ثنائي في الوجود ومن ثم كان رأيه في المعرفة امتدادا لرأيه في الوجود، تلك المعرفة التي ردها إلى التجربة الحسية والنظر العقلي مجتمعين، وبطبيعة الحال انعكست تلك الآراء على المجال الأخلاقي. وبدا ذلك واضحا في إنكاره لوجهه نظر الطبيعيين من التجريبيين والحسيين التي ترى أن علم الأخلاق علم عملي يهدف إلى تحقيق غاية في حياتنا يقصد الإنسان إلى تحقيقها باعتبارها الخير الأقصى، كما أنكر آراء

ص: 148


1- مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة بني سويف جمهورية مصر العربية: يرى الباحث:» أن الدكتور توفيق الطويل صاحب نظرة أنطولوجية، إبستمولوجية، أخلاقية، تؤمن بأن مشكلة الوجود لا تحل برده إلى المادة وحدها أو الروح وحده، ولكنها تحل بنظرة أوسع وأكثر رحابه ، أي برده إلى المادة والروح معا «اذ اعتبر الطويل أن الفضيلة لا تكون بالاسترسال مع الشهوة ولا تكون أيضًا بإمانتها، وإنما تكون في التوسط والاعتدال وإخضاعها لحكم العقل. وبهذا يرى الباحث وقد كان بإمكانه أن يستخلص هذا الموقف الوسطي ويهتدي إليه من القرآن الكريم وآياته الكثيرة التي ورد فيها لفظ «الوسط» ليفيد المدح والتقدير والاعتدال، فحديث القرآن عن هذه المادة يفهم منه أن التوسط فضيلة من فضائل الإسلام وخلق من أخلاقه . المحرر

المثاليين من الحدسيين في الأخلاق من حيث اعتبارها علما نظريًا يهتم بفهم طبيعة المثل العليا في السلوك الإنساني، ولا يهتم بالكشف عن الطريق التي تؤدي إلى تحقيقها، ولذلك رأى أنه من الأدنى إلى الصواب أن نجمع بين هذين الاتجاهين المتطرفين؛ فتصبح الأخلاق علماً نظريًا وعمليا معًا، فهي دراسة عقلية تهدف إلى فهم طبيعة المثل العليا التي تستغل في حياتنا الدنيا، وهي علم وفن، ومن الضلال أن تقتصر على جانب واحد منها.

ولذلك فإن توفيق الطويل مع تقديره البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين والمثاليين في الأخلاق، إلا أنه لم يقف منها موقف المؤيد، وإنما ابتكر لنفسه موقفًا يعبر عن وجهه نظره في تحقيق الكمال الأخلاقى من خلال نظرته إلى الإنسان ككائن أخلاقي، وظهر من كتاباته أنه يدين بالولاء لنوع من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية النقدية الكانطية. فما هي طبيعة هذه المثالية الجديدة، وإلى أي مدى عبرت عن الذات والهوية الإسلامية؟ وما هي المؤثرات التي تأثرت بها وساعدت على ظهورها ونشأتها؟ وما هي مكانتها من المثاليات التقليدية؟ وهل تخلصت من تلك الشوائب التي لحقت بالمثالية النقدية الكانطية المتزمتة ؟ ثم نختتم بوضع المثالية المعدلة في الميزان لنعرف ما لها وما عليها. وهذا ما سنقف عليه من خلال المحاور الآتية:

أولاً : المثالية المعدلة تعبيرًا عن الهوية الإسلامية

انطلق تصور توفيق الطويل الأخلاقي من أن الفضيلة لا تكون بالاسترسال مع الشهوة ولا تكون أيضًا بإماتتها، وإنما تكون في التوسط والاعتدال وإخضاعها الحكم العقل، ويبدو ذلك تشابها واضحًا وتأثراً لا يمكن إنكاره من جانب صاحب «المثالية المعدلة» بأرسطو - رغم المآخذ الكثيرة التي أخذها الطويل على مذهب أرسطو الأخلاقي - فكلاهما رأى أن الفضيلة تعني الاعتدال Moderation، ومن أجل ذلك قامت نظرية الأوساط عند أرسطو التي جعلت الفضيلة وسطاً بين إفراط وتفريط أو بحسب تعبير أرسطو نفسه «وسط بين رذيلتين، إحداهما بالإفراط

ص: 149

والأخرى بالتفريط »(1). وفكرة الوسط هذه وإن نسبت إلى أرسطو واشتهر بها، إلا أنها من الأفكار البديهية التي تهتدي إليها الفطرة وتدل عليها السجيّة، فليس ضروريًا أن يكون أرسطو أول من قال بها في مجال الأخلاق، ولكنه قطعا أول من أصلها وشرحها وجعلها قاعدة أخلاقية فلسفية.

وظهرت هذه القاعدة الأخلاقية عند الطويل؛ إذا يرى أن الإنسان ليس حسًا خالصا ولا عقلاً محضًا، ولكنه يجمع بينهما ولا تستقيم حياته الصحيحة من دونهما معًا، وتكامل النفس يقتضي الإبقاء على قوى الإنسان حسية كانت أو عقلية مع تمكين هذه القوى من أن تؤدي وظيفتها الطبيعية بتوجيه العقل، والموقف الخلقي يقوم على أنَّ الطبيعة البشرية تجمع فعلاً بين نزعات الأثرة والإيثار، ومن الخطأ أن تقوم الأخلاق على الأنانية الموغلة وحدها أو الغيرية الطاغية وحدها، وهو من المؤمنين بقول ليكي Lecky إن الفضل الأكبر في نهضة الأمم وتقدم الحضارات مرجعه إلى مسعی قوم كانوا وهم في غمرة سعيهم الحثيث من أجل مصالحهم الشخصية يعملون عن وعي الترقية مصالح المجموع، ولم يكن قول ليكي هذا ببعيد عن جوهر الدين الإسلامي الذي يدين به توفيق الطويل وتعبر مثاليته المعدلة في أصلها عن تعبير لجوهره الأخلاقي، ذلك الدين الذي أقام شريعته جملة وتفصيلاً على تحقيق مصالح الناس أفرادا وجماعات ومنع المفاسد من حياتهم الخاصة والعامة، وأوضح معالم الطريق أمام العقل البشري حتى لا تضلله الأهواء والشهوات(2).

إذن فقد أثرت دعوة الإسلام إلى الوسطية تأثيراً جما في فكر توفيق الطويل الأخلاقي، تلك الدعوة التي تتفق تمامًا مع مبدأ الوسط الأخلاقي، فتدعو دائماً إلى الاعتدال والتوسط والتوازن في كل شيء لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143). وجاءت مادة «الوسط» في اللغة العربية لتدل على العدل والإنصاف

ص: 150


1- أرسطو: الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ترجمة من اليونانية إلى الفرنسية وقدم له بارتلمي سانتهلير، نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد [ ك 2 - 65 (ف15)] القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1924، ص 248.
2- زينب عفيفي شاكر : المثالية المعدلة في فلسفة الدكتور توفيق الطويل الخلفية، (مقالة في نقد الفكر الأخلاقي) مقاله بالكتاب التذكاري «الدكتور توفيق الطويل مفكرًا عربيا ورائدا للفلسفة الخلقية - بحوث ودراسات مهداه» المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995، ص 86.

وعلى البعد بين الإفراط والتفريط، وهي تفيد معنى الخيرية كما تفيدها كلمة السواء والنصفة والعدل، فإذا كان وسط شيء ما له طرفان متساويان في القدر، فإن وسط الشيء أعدله وأفضله، أيضًا يقال من أوسط قومه أي من خيارهم، والرجال الوسيط هوالحسيب بين جماعته. ووردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع عدة تفيد المدح والتقدير، وحديث القرآن عن هذه المادة يفهم منه أن التوسط فضيلة من فضائل الإسلام وخلق من أخلاقه، فالصفة الأساسية الجليلة التي أرادها الله تعالى للأمة الإسلامية هي الوسط، وورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر كلمة (وسطا) في الآية بكلمة (عدلاً)، وقال المفسرون: «أمة وسطاً» أي: أخيارًا وعدولاً. وقد وردت مادة (الوسط) أيضًا كصفة مدح للعبادة في الإسلام، قال تعالى: } حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } (البقرة: 238). وفسر البعض المقصود بالصلاة الوسطى هي الصلاة المتوسطة المعتدلة التي لا نقصان فيها ولا إفراط وتأتي كلمة الوسط في «سورة القلم» بصدد الحديث عن أصحاب الجنة الذين منعوا الزكاة، قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} (القلم: (28)، وأوسطهم خيرهم وأعدلهم رأيًا وأمثلهم طريقة وأسرعهم رجعة إلى الله عز وجل. إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة وأقوال الحكماء والعلماء والشعراء التي تشير إلى الوسط وتحمده باعتباره فضيلة خلقية(1). ومن ثم يصرّح الطويل قائلاً ومؤكدًا على موقفه الوسطى الذي يتماشي مع وسطية الدين الإسلامي: «ليس في الإسلام - كما يبدو في القرآن الكريم وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الغلو الذي يوجب على الإنسان قتل ميوله وشهواته، ووأد مطالبه وحاجاته، وكراهية اللذة في كل صورها، بل صرّح القرآن بضرورة الجمع بين الدين والدنيا، فأباح للمؤمنين كثيرا من ملذات الحياة {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا* إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ*قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً وْمَ الْقِيَامَةِ * كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31-32). وصرّح القرآن

ص: 151


1- ابن منظور: لسان العرب، الجزء السادس، دار المعارف، د. ت، (مادة وسط) ص 4834 4831-.

بأن الآخرة تنال مع التمتع بنعم الله في الحياة الدنيا إذا قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ * وَلَا تَنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77). وفي هذا التيار جرت الصحيح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فزينة الدنيا وبهجتها، والتمتع باللذاذات والمشتهيات مباح في الإسلام بشرط القصد والاعتدال وحسن النية فيما يقول أئمة الدين نفسه(1). ومن ثم صور الروائي الكبير نجيب محفوظ توفيق الطويل في روايته «القاهرة الجديدة» في شخصية «مأمون رضوان» المتدين المثالي الذي يري في الإسلام عزة المسلمين وحلا لمشاكل المجتمع المعاصر(2).

وإذا ما واصلنا تأصيل المثاليّة المعدلة في الفكر الإسلامي الذي انطلق في جزء كبير منه من الدين الإسلامي، لتبين لنا أنه وضع قواعد المثالية المعدلة من خلال الدعوة إلى الوسطية، تلك الدعوة التي وجدنا صداها يتردد في الفكر الفلسفي الأخلاقي الإسلامي عند الفارابي ومسكويه، وغيرهم ممن قالوا بمبدأ الوسط في الأخلاق، والذي لا يتسع المقام لذكرهم. وهو أمرٌ يجعلنا نؤكد أن المثاليّة المعدلة عند توفيق الطويل تعبر عن الهوية الإسلامية

خير تعبير .

ثانيًا: المثالية المعدلة ونقد المذاهب الأخلاقية الغربية

بعد أن حدد الطويل موضوع علم الأخلاق والمجال الذي ينبغي أن يهتم به فيلسوف الأخلاق راح يوضح مصادر الإلزام الخلقي؛ أي المعايير والضوابط التي في ضوئها نحكم على السلوك البشري بأنه فاضل أو شرير، فبين لنا أن ثمة مدارس واتجاهات غربية كبرى متعددة ومتباينة سعت إلى تفسير مصادر الإلزام، قام بحصرها في اتجاهين رئيسيين هما: التجريبيون والعقليون؛ التجريبيون أو أتباع الاستقراء في مقابل العقليين أو دعاة الفطرة، وعن أولهما صدرت مذاهب المنفعة العامة، ونظرية التطور والنشوء والارتقاء، والمذهب العملي والمذهب الوضعي كما يبدو عند

ص: 152


1- توفيق الطويل : المثل الأعلى بين وأد الشهوة وإشباعها، مجلة علم النفس يوليو، 1952 ص 43.
2- أنظر : نجيب محفوظ : القاهرة الجديدة، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت.

المدرسة الاجتماعية الفرنسية ومذهب الوضعية المنطقية المعاصرة، وعن الثاني صدرت مذاهب الحدسيين والمثاليين في مختلف صورهما(1).

وينكر أصحاب المذهب التجريبي - في شتى صوره - ما وراء العالم المحسوس من حقائق وقيم، ونادوا بالوقوف عند الواقع، واصطنعوا مناهج البحث التجريبي في دراسته. وانتهى بهم هذا الموقف إلى رد القانون الخلقي إلى الذات (التجريبية) التي تصدر أحكامها الخلقية، وليس إلى الموضوع الذي تصدر عنه، مع اتفاقهم على إقامة الأخلاقية على وجدان اللذة والألم أو المنفعة والضرر ، فتوقفت على جزاءاتها ونتائجها، وأصبح الخير ما يحقق نفعًا أو يدفع ضرراً ، والشر ما يجلب مضرة أو يعوق منفعة، مع التسوية بين مدلولات اللذة والمنفعة والسعادة، وأصبح الإنسان في تصور هؤلاء الطبيعيين عامة كائن حاس عاطل من القوى الروحية والعقلية، وأضحى هدف الأخلاقية إشباع الأنانية وتوكيد الذات ولو جاء على حساب القيم الروحية العليا، فإذا بهم يسقطون من حسابهم الجانب المشرق الوضاء في طبيعة الإنسان ويقفون عند جانبها البهيمي للبحث في أو حال ذكرياته النابية وأصوله العدوانية ورغباته الجنسية ونحوها، من دون أن يتجاوزوا هذا الواقع الأليم إلى تصوير ما ينبغي أن يكون وهو هدف الفلسفة الأخلاقية الأصيلة .

أما أصحاب المذهب العقلي (على اختلافهم) فقد ضاقوا بتفسير التجريبيين لأخلاقية أفعالنا الإنسانية، فنفروا من القول بذاتية الأحكام الخلقية، ونسبية القيم وتغيرها بتغير الظروف والأحوال، وأنكروا إرجاع الضمير إلى التجربة، ورفضوا ربط الأخلاقية بجزاءاتها ونتائجها .. فرد العقليون الأخلاقية إلى الحدس أو العقل دون الوجدان، وفصلوا بينها وبين إغراء الميول والرغبات والمنافع واللذات، واعتبروا الخيرية Goodness صفة ذاتية عينية تقوم في طبيعة الفعل الخير ولا تتوقف على شعور الفرد أو الجماعة بالاستحسان، وتصوروا الضمير قوة فطرية كامنة في طبائع

ص: 153


1- توفيق الطويل: العقليون والتجريبيون في فلسفة الأخلاق، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة الجزء الأول، المجلد 14، 1952، ص 39.

البشر تدرك الخير وتميز بينه وبين الشر حدسيًا تلقائيًا من دون اعتبار لنتائج الأفعال وآثارها، وجاهروا بأن الأخلاقية تحمل جزاءها في باطنها وتتضمن في ذاتها مبرراتها(1).

وتطرف أصحاب هذا الاتجاه وغلوا في تطرفهم حتى أنهم اعتبروا أن الجسم مبدأ كل شر والعقل مبدأ كل خير ، ومن هنا جاء نفورهم من الجسم، وطالبوا بالعمل على استئصال شهواته وإماتة رغباته ونزواته - على طريقة الصوفية والنساك - فحاربوا الجانب الحيواني في طبيعة الإنسان، وطالبوا بطاعة الواجب لذاته، اعتقادًا منهم بأن الأخلاقية غاية في ذاتها، وليست أداة لغاية تقوم خارجها، وانتهى هذا الموقف بالتضحية بالذات وقمع رغباتها ووأد أهوائها، وتوجيه الأخلاق إلى الإيثار ونكران الذات. وكان من أظهر دلالات التطرف في ذلك الاتجاه هو تصور المتطرفين منهم لفكرة السعادة؛ إذ طلبوا السعادة ابتغاء الفضيلة فضحوا بسعادتهم من أجل غاية غامضة في عقولهم(2).

ولذلك لم يقف الطويل في هذا الصدد لا مع التجريبيين على طول الخط ولا مع العقليين إلى آخر شوطهم؛ لأنه يرى أن كلا الفريقين مخطئ، وأن كلا منهما قد تطرف في اتجاهه فبعد عن الصواب، فكل منهما قد سعى إلى الفصل بين العقل والبدن، فاخضع التجريبيون العقل كلية للتجربة، أما العقليون فقد جعلوا العقل وحده مالكًا للحقيقة المطلقة؛ ولذلك رأي الطويل خطأ وتطرف الفريقين؛ إذ رأى أن فلسفة الأخلاق ينبغي أن تتعامل مع الإنسان كما هو من حيث إنه مؤلف من جسم وعقل، جانب مادي وآخر روحي، إنّه مكون من مادة وصورة، ولا يصح أن نعامله بكونه مادة فقط أو صورة فقط، فالقول بأن حياة الإنسان حياة حيوانية خالصة بعيد عن الصواب بعد القول بأن حياته روحية خالصة، كما ثبت أن تصور حياة الفرد منعزلاً عن غيره بعيد عن الأخلاق بعد القول بفناء الفرد في المجموع، ولذلك نادي بضرورة تكامل الجانبين معًا في مثاليته المعدلة البعيدة عن كل تطرف.

ص: 154


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق - نشأتها وتطورها، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1985، ص 486 .
2- المصدر السابق: ص 494 .
ثالثًا - موقف المثالية المعدلة من المثالية النقدية:

كانت الأخلاق المثالية النقدية عند كانط من أهم الاتجاهات الأخلاقية الغربية التي قدمت لها المثالية المعدلة سهام النقد؛ حيث جاءت المثالية المعدلة في الأساس لتعديل وتفادى أوجه النقص والقصور التي وقعت فيها تلك المثالية النقدية، فيقول الطويل: «إنا مع تقديرنا البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين وأمثالهم ندين بالولاء لنوع جديد من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية الكانطية المتطرفة»(1)ويصف الطويل مثالية كانط بعدة صفات؛ كأن يصفها بالتطرف، والتشدد، والتزمت المقيت. أو كأن يصفها ب- «المثالية بمعناها الضيق»، فيقول: «والمثالية في معناها الضيق، الاتجاه الذي يجعل الأخلاقية غاية في ذاتها، فيرفض القول بأنها تهدف إلى إسعاد الفرد - كما ذهب قدماء اليونان ومن أخذ برأيهم - أو منفعة المجموع كما قال أتباع المذهب النفعي أو تحقيق الكمال كما قال دعاة التطور وغيرهم من مفكري الأخلاق، أو غير هذا هذا من غايات تقوم خارج الأخلاقية، فالأخلاقية تهدف إلى غاية موضعية يتوخاها الإنسان بما هو إنسان، ومن ثم كانت قيمتها مطلقة، ليست نسبية وإلا استحال قيام مبدأ أسمي للأخلاقية، وبهذا تصبح الإنسانية غاية قصوى للواجب بالذات»(2). مادام الواجب الأخلاقي هو ضرورة أداء الفعل احترامًا للقانون العقلي في ذاته.

ولذلك يستطرد الطويل في نقده لهذه المثالية، ويقرر أنها قد بلغت ذروتها بمعناها الضيق في فلسفة كانط ؛ حيث أوجب صاحبها على الإنسان أن يؤدي الواجب، لذاته بباعث من تقديره العقلي لمبدأ الواجب، ومن غير اعتبار لما يترتب على تأديته من نتائج وآثار ، ومن غير أن تتدخل عواطفه أو ميوله(3). أي إن الأخلاق عنده كما عند غيره من المثاليين علمًا معياريًا وليس وضعيًا، فعالم الأخلاق يدرس ما ينبغي أن

ص: 155


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 40.
2- المصدر السابق، ص 400
3- المصدر السابق، ص 401

يكون عليه سلوك الإنسان، ولا يقف عند وصف هذا السلوك وتقريره كما يفعل عالم النفس وعالم الاجتماع كل منهما في نطاق دراساته ومناهجها.

وقد كان كانط من أنصار المذاهب الديونطولوجية، حيث أنكر ربط الأخلاقية بنتائج الأفعال، من لذات وآلام ومنافع ومضار وجعل قيمة الأفعال قائمة في باطنها وليس في الغايات التي تقوم خارجها، ومن أجل هذا كان مذهبه نظرية في الواجب لا نظرية في الخير (الذي يصيب صاحبه أو غيره من الناس) وقد توصل إلى فكرته بالقول بأن الخيرية صفة الإرادة وحدها، فلا شيء غير الإرادة يمكن أن يكون خيرًا بالذات، والإرادة الخيرة لا تحركها رغبات أو غايات، ولا عواطف ولا شهوات؛ لأن الأفعال التي تصدر عن هذه البواعث تكون قيمتها مشروطة مرهونة بتحقيق هذه الغايات وإشباع تلك الشهوات، وإذا اختفت الميول انعدمت قيمة الأفعال. ومن ثم أراد كانط أن يحرر السلوك الأخلاقي من قيود هذه الميول والأهواء حتى تكون قيمته باطنية مطلقة، وبهذا تستبعد اللذة والمنفعة والسعادة غاية قصوى لأفعال الإنسان الإرادية، فالباعث على فعل الواجب لا يقوم قط في الرغبة في تحقيق غاية، إن الباعث يقوم في الإرادة نفسها، ويجب أن يكون صوريًا لا يستفتي الواقع ولا يستمد من التجربة، ومن ثم كان عاما مطلقًا، وتيسر للإنسان أن يجعل قاعدة تصرفه قانونًا في كل زمان ومكان(1).

ويرى الطويل أن فلسفة كانط الأخلاقية تنطوي على غيره للفضيلة لا تداني، ولكن فيها تطرفًا وغلوا يكاد يتلف بعض جوانبها؛ ولذلك انطلقت المثالية المعدلة تدعم الفضيلة وتتفادى هذا التطرف وذاك الغلو محاولة أن تبقى لها الصفاء الذي يلائم طبيعتها. فما هي تلك المآخذ التي يجب تصحيحها أو تعديلها في هذه المثالية المتزمتة؟

يرى الطويل أن مظاهر الغلو والتطرف والضعف والنقص بادية في نظرية كانط الأخلاقية، وتجلي هذا في صوريتها المتطرفة وتزمتها المقيت. وهو وهو أمر سنوضحه فيما يأتي:

ص: 156


1- المصدر السابق، ص 407.

1- الصورية المتطرفة

كانت أولى المآخذ التي أخذها الطويل على مثالية كانط النقدية أنها صورية متطرفة، فهي عامة ومطلقة ولا تقبل أية استثناءات. فمن المعروف أن المبدأ الصوري في المنطق هو مبدأ التناسق أو توافق التفكير مع نفسه، وهو يساعد الإنسان على عدم الوقوع في الخطأ صوريًا، بمعنى أن تكون نتائج التفكير فيه على اتساق مع مقدماتها من دون اهتمام بمدى مطابقة النتائج للواقع. ومن ثم يجعل كانط القانون الأخلاقي بمثل هذه الصورية فيجعله مطلقًا لابد من أن تخضع له الأفعال الإنسانية في كل زمان ومكان. ومن ثم رأى الطويل أن مثل هذا الأمر المطلق لا يساعدنا على استخلاص واجباتنا في الحياة العملية، حقيقة أن الوعد الكاذب إذا عُمم قانونًا انعدم الوعد وافتقد مدلوله وبذلك يتناقض مع نفسه، ولكن أي تناقض هناك في أن تريد أن يكف كل إنسان عن إعطاء وعد لأحد؟ هذا من غير تناقض؟ وحقيقة أن تعمیم الامتناع عن مساعدة المصاب ينتهي بصاحبه إلى فقدان الأمل في مساعدة الغير له عند الحاجة، فتناقض الإرادة نفسها بذلك، ولكن أي تناقض في أن تريد أن يكف كل إنسان عن مساعدة غيره(1).

كما أن مبدأ كانط الصوري - من وجهة نظر الطويل - يزودنا بقاعدة سلبية مأمونة للسلوك، بمعنى إننا إذا لم نستطع أن نريد لكل إنسان في ظروفنا أن يتصرف كما نتصرف، كنا على يقين بخطأ سلوكنا أخلاقيًا، ولكننا لا نستطيع أن نستخلص من مبدئه قاعدة إيجابية فنهتدي بها - لا فيما يجب الإمساك عن فعله - بل فيما ينبغي

فعله(2).

إذن يعيب توفيق الطويل على كانط تلك الصورية التي وقع فيها ظنًا منه في أنه بوسعه أن يؤسس الأخلاق على أسس صورية أولية سابقة على التجربة، معتقدًا بأن ومن هنا عمل القانون الأخلاقي لا ينصب على مادة الأفعال، بل على صورتها فقط.

ص: 157


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص443.
2- المصدر السابق، ص 443.

الطويل على تفادي هذه النزعة الصورية في مثاليته المعدلة. التي رأي فيها أن مجال علم الأخلاق هو المجال الخاص «بالشعور الخلقي» ذلك الشعور الذي يجتمع فيه الهوى مع المثل الأعلى وتتصارع فيها الرغبة والغريزة مع العقل وينشب صراع بين ما أرغب فيه وبين ما ينبغي على أن افعله.

2- التزمت المقيت

وكانت هذه هي أهم المآخذ التي أخذها توفيق الطويل وغيره من نقاد المثالية الأخلاقية الكانطية هو ذاك التزمت والتشدد؛ حيث إن مبدأ كانط يصور قانونًا أخلاقيًا أشد وأعلى مما يتطلب الحس الخلقي عند رجل فاضل، مما يجعله متزمتا متشددًا، وهذا التزمت يبدو في صور شتى: أولها، استبعاد العواطف والميول والدين والقانون الوضعي؛ إذ إن السلوك لكي يكون متمشيا مع القانون الأخلاقي. لا يكفي فيه أن يكون مشروعًا في تعاليم الدين أو مقبولاً عند الرأي العام أو معفيًا من عقوبة القانون الوضعي، فإن الامتناع عن اقتراف الآثام مع وجود ما يغري بها، يتنافي مع الأخلاقية متى كان بوازع من خشية الله واتقاء لعذاب الجحيم أو خوفًا من عقاب ينزله القانون الوضعي أو ينذر به العرف الاجتماعي أو حتى متى جاء تفاديًا لوخزات الضمير ! إنه لا يكون أخلاقيًا إلا متى صدر عن تقدير عقلي لمبدأ الواجب، أي نابعا من العقل الخلقي وحده، مع أن السلوك - كما يرى الطويل - الذي ينبع من الوجدان كثيرا ما يكون أنبل وأسمى عن ذلك الذي يصدر عن العقل، وقد تهكم الشاعر شيللر على ذلك كما سبق أن بينا، إذ يجب أن لا يصدر الفعل الأخلاقي عن باعث من الميل أو العاطفة، وهذا نفسه تشدد لا مبرر له؛ إذ كثيرًا ما يصدر فعل الخير عن عاطفة نبيلة كمحبة البشر، بل تضيف إلى هذا أن الخير كثيرًا ما يؤدي بوازع من طاعة الله ومرضاته، وهنا تظهر شخصية الطويل الذي يقدر دور الإيمان كباعث في السلوك الأخلاقي. وثانيها، منع الاستثناء من القاعدة، جعل كانط المبادئ الأخلاقية مطلقة غير قابلة للاستثناء، وهنا يعترض الطويل على منع الاستثناء فيقول: «إننا نعرف بالحس الخلقي أن ليس ثمة قاعدة أخلاقية بلغت من القداسة حدًا يمنع من أن

ص: 158

نستثنى منها بعض الحالات»(1)، بل ويستشهد بتأكيد جاكوبي Jacobi في حملته على كانط، التي جاهر فيه بأن القانون قد وضع من أجل الإنسان، وليس الإنسان هو الذي خلق من أجل القانون، ومن أجل هذا كان من الضلال أن يطيع الإنسان القانون طاعة عمياء، وعليه أن يستفتى قلبه ، وألا يأذن لهذه الفلسفة الترنسند نتالية الصورية أن تنتزعه من صدره. فيمكن إباحة الكذب في الحروب وعلى المريض وفي الصلح بين المتخاصمين وفي تدليل الزوجة والمبالغة في وصف جمالها من دون أن يكون ذلك خروجًا على الأخلاقية وتعديًا على مبادئها. ولذلك يرى توفيق الطويل أنه يجوز عند الطويل كسر القاعدة الخلقية وعصيانها من أجل قاعدة أسمى بشرط ألا يكون الوازع على كسرها وعصيانها مصلحة شخصية أو نزوة أو هوى طارئ(2). وثالثها، الفصل بين العقل والحساسية؛ إذ ناهض الطويل في مذهبه الأخلاقي الغلو والتطرف في كل مظاهره وألوانه، ولما كان استبعاد الميل أو الوجدان في كل صورة كباعث على الواجب تطرف من قبل كانط، وأن إلحاحه في رد الأخلاقية إلى العقل وحده يظهره مناهضا للحساسية ومطالبًا بمجاهدة نوازعها والعمل على إماتة شهواتها، ومن ثم تم وضعه من قبل بعض النقاد في زمرة الكلبية والرواقية ونساك المسيحية وزهادها، ومن هنا نتبين أن كانط قد فصل بين العقل والحساسية، وتحيز للأول وتطرف في إعلاء شأنه، ومن هنا استحق نقد الطويل الذي عمل على تعديل مثاليته المتزمتة المتطرفة فرأي أن المثالية الأخلاقية الصحيحة لا تستقيم ما لم تظل شخصية الإنسان سليمة متكاملة Integrated وهذا يتعارض مع الفصل الكامل بين شطريها من عقل وحساسية، فالقانون الأخلاقي يتمشى مع منطق العقل لا محالة، ولكن هذا لا يعني قط أنه لا يستمد إلا من العقل، إنه مساير للعقل بالقياس إلى الغاية التي نتوخاها من وراء سلوكنا، وهو إن طالبنا بالحد من جموح الحس وتنظيم مطالبه، لا يقتضينا محاربته ولا إغفال نوازعه(3). ومن أجل هذا قام الطويل بالتعديل والتقويم لهذه المثالية المتزمتة والصورية المتطرفة. وخاصة إذا أضفنا إلى ما تقدم أن كانط كان قد

ص: 159


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 444.
2- المصدر السابق، ص 447.
3- المصدر السابق، ص 448

حرص على استقلال الإنسان واستقلال إرادته عن كل سلطة، وأقام الأخلاق بعيدة عن وحي الدين، ورفض رد الواجب إلى الله، وهو أمر جعل من الطبيعي أن يضيق به رجال اللاهوت، بل أصبح كثيرون ممن يتناولون فكره الديني يشككون في حقيقة إيمانه، وخاصة أنه نقد الأدلة العقلية الممكنة على وجود الله، وأنكر الطقوس والشعائر المصاحبة لكل لدين جميع معتبراً أن الله تعالى غني عن العالمين، وليس هو كسائر المخلوقات البشرية التي تحب التملق والثناء والحمد.

رابعًا: مكانة المثالية المعدلة من المثالية التقليدية

سعت المثالية التقليدية بشكل عام إلى رد كل وجود إلى الفكر بأوسع معاني هذا اللفظ، ومن ثم جاءت رؤيتها للأخلاق مسايرة لتلك الرؤية، لتشير إلى مثل أعلى أو مبدأ أسمى ينبغي أن يسير بمقتضاه السلوك الإنساني بما هو كذلك، أو إقامة مبادئ عامة تستخدم أساسًا للقواعد العملية التي يتطلبها سلوكنا الشخصي وتقتضيها مسيرتنا العملية، والمثالية تعدّ الأخلاقية غاية في ذاتها، أي غاية موضوعية يتوخاها الإنسان بما هو إنسان، وليست وسيلة إلى تحقيق لذة أو سعادة أو كمال أو غير هذا مما يقوم خارج الأخلاقية(1).

ویری توفيق الطويل أن المثالية - بمعناها التقليدي - تقتضي وضع مثل إنساني رفیع يسير بمقتضاه السلوك الإنساني، ولا تقنع بالمثل التي نبتت في حياة المجتمعات البشرية تلقائيا متى اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، تلك المثل التي يقنع بدراستها التجريبيون والوضعيون من مفكري الأخلاق من دون أن يبيحوا تجاوزها إلى وضع مثل أعلى، يعبر عما ينبغي أن يكون، إيمانا منهم ينبغي أن يكون، إيمانا منهم بأن الأخلاق متى أريد لها أن تكون علما، أن وجب تتقيد بدراسة الواقع بمناهج استقرائية خالصة، ولا تنصرف عن البحث في الظواهر الخلقية الواقعية إلى البحث في طبيعة الخير وماهية الواجب وغائية السلوك، ووضع مثل أعلى يحمل في باطنه قيمته ويتضمن في ذاته غايته»(2).

ص: 160


1- المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، إصدار مجمع اللغة العربية بإشراف ابراهيم مدكور، القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983، ص 169 170 (مادة مثالية).
2- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 484.

وهنا يقرر الطويل أن المثالية - بهذا الشكل - قد ابتعدت عن دنيا الواقع واستخفت بعالم الشهادة واهتمت بالذات العارفة حتى أغرقت فيها الوجود الواقعي، وحصرت نفسها في كيفية المعرفة حتى نسيت الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، واهتمت بالرابطة التي تقوم بين موضوع و محمول..... وفي غمرة الاهتمام بالذات العارفة وصيغها وإطاراتها العامة لم تفرق بين إنسان وإنسان، وإنما حصرت اهتمامها في الإنسان بما هو إنسان أي في الإنسان الذي يمثل البشرية مجردة من قيود الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، ومن هنا كانت ثورة الكثيرين من الفلاسفة ومدارسهم، وتجلت هذه الثورة في فلسفة الواقعيين الوجوديين والعمليين والبراجماتبين وغيرها

من فلسفات المعاصرين(1)

كما أنه إذا كانت الواقعية تبدو أقرب إلى الصواب من مذاهب المثاليين، فإنها - بدورها - لا تخلو من مآخذ، فالواقعية المادية قد ردت العالم إلى المادة، وجعلت العقل مجرد مظهر لها، وبهذا طمست الجانب الروحي المعقول لهذا الوجود، وفي تصور بقية فروع الواقعية للإدراك الحسي غلو غير مستساغ(2).

ومن ثم رأي الطويل أن المثالية والواقعية تعتبران حتى اليوم مذهبين متعارضين، ولكن الخلاف بينهما قد تغير عما كان عليه حاله في مطلع العصر الحديث، فالمثالية كانت ترى أن مصدر المعرفة قائم في الذات، في حين كانت تراه الواقعية قائماً في الموضوع؛ أي في الشيء المدرك، ولكن الأمر قد تغير اليوم فصارت الواقعية تسلم بأن في المعرفة عنصرًا ذاتيًا، كما أصبحت المثالية أيضًا تسلم بأن في المعرفة عنصرًا موضوعيًا. ووجه الخلاف بينهما يقوم الآن في نوع العلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع(3).

ويبدو أن الطويل قد اهتم كثيراً بالتوفيق بين المثالية والواقعية، ولعل اهتمامه هذا

ص: 161


1- توفيق الطويل : أسس الفلسفة، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 1964، ص 344-345 .
2- المصدر السابق ص 345.
3- المصدر السابق، ص 345.

كان أحد الروافد المهمة التي ساهمت في تشكيل وتكوين مثاليته المعدلة في مجال الأخلاق؛ حيث إن المثالية التقليدية ترفض - على طول الخط - الموقف التجريبي الذي يتخذ الأخلاقية أداة لتحقيق لذة أو منفعة أو كمال، أو غير هذا من غايات تقوم خارج الأخلاقية نفسها؛ لأن الأخلاقية عند المثاليين - كما سبق القول مرارًا - غاية في ذاتها، أي إنها تهدف إلى تحقيق غاية موضوعية يتوخاها الإنسان بما هو إنسان، ومن أجل هذا كانت قيمتها عامة مطلقة وليست جزئية نسبية، بهذا يطاع الواجب لذاته، وتكون الإنسانية كلها غاية قصوى لمبدأ الواجب ويترتب على هذا انقطاع الصلة بين الأخلاقية وجزاءاتها، ويتأكد القول بأنها تحمل جزاءاتها وتتضمن في ذاتها مبرراتها، وهو رأي فطن إليه أفلاطون قديما ، واحتضنته المثالية التقليدية بعده.

ولكن هذه المثالية التقليدية التي دارت حول مبدأ الواجب بدت متزمتة وجمدت وافتقدت القدرة على الحركة والحياة، واتصفت في تصورهم بالموضوعية الكاملة والمطلقية التي لا تقبل تعديلاً ولا تحتمل تغييراً، مع أن مفهوم القيم - في الحقيقة - مرتبط بالغاية التي يتوخاها الإنسان، وفي ظل هذا اكتفى المعتدلون من المثاليين إن أباحوا الاستثناء من القانون الأخلاقي، وأجازوا كسر القاعدة الخلقية من أجل قاعدة أسمى وأنبل(1).

وجاءت المثالية المعدلة منددة بالتزمت التي اتسمت به المثالية التقليدية ورأت أنه إذا كان من الحكمة ألا تستغني عن قيم أثبتت التجربة الطويلة صوابها، فإن علينا أن نعرف أن معاني القيم وغايات الإنسان ترتبط بروح العصر ومن هنا مست الحاجة إلى تغيير مضمونها أو تعديل محتواها حتى تلائم روح العصر المتطور دوما، وحيث أن الفيلسوف المثالي أصبح يستكين إلى مقعد مريح يطمئن إليه، ثم يأخذ في إصدار أحكام قاطعة في كبرياء عن الواجب، ذاك المبدأ الإنساني الذي يلتقي على طريقة كل الناس في كل زمان ومكان، مع أن كل إنسان لا يشغل باله قط إلا إشباع مطالبة الشخصية ورعاية مصالحه الذاتية، ومن هنا بدت معالم المثالية المعدلة

ص: 162


1- توفيق الطويل: القيم العليا في فلسفة الأخلاق، بحث منشور بكتاب «قضايا من رحاب الفلسفة والعلم» دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت ص 96.

كتعديل وتطوير للمثالية التقليدية المتزمتة، فتمثلت في تحقيق الذات بإشباع جميع قواها الحيوية في غير جور على قيم المجتمع أو استخفاف بمعايره، فالإنسان يبدو- في المثالية المعدلة - كلاً متكاملاً يجمع بين الحس والعقل في غير تصارع ينتهي بالقضاء على أحدهما، ويتمثل الإنسان فردًا في أسرة ، ومواطنا في أمة، وعضوًا في مجتمع إنساني، وبهذا يتصل كمال الفرد بكمال المجموع الذي ينتمي إليه، فيختفي النزاع التقليدي بين الأثرة ،والإيثار، ويذوب توكيد الذات ونكرانها، ويظل الإنسان خلال هذا محتفظًا بفرديته واستقلال شخصيته، برغم ولائه للمجموع الذي ينتمي إليه، ومثل هذه المثالية تتيسر في النظام الديمقراطي الصحيح، وهي تتكفل بتكامل الطبيعة البشرية وبها تصبح الأخلاقية مطلبًا ميسور المنال، وليست عبئًا ثقيلاً لا يقوى على حمله إلا الأبطال(1).

وبهذا نكون قد وقفنا على مكانه المثالية المعدلة من المثالية التقليدية التي شابها التزمت المقيت والصورية الخالصة، وكيف بدت الأولى أكثر تناسباً مع روح العلم الحديث والنظريات النفسية الحديثة، وبقدرة الإنسان الذي هو ليس ملاكًا أو حيوانًا، وإنما هو في مكانة وسطى تمثل الاعتدال بكل معانيه .

خامسًا: خصائص المثالية المعدلة

انضم الطويل إلى معسكر المثاليين بالرغم من عدم مسايرته لهم على طول الخط، فاختار اسم المثالية المعدلة «لاتجاهه الخاص بدلاً من أسماء أخرى كالتجريبية المعدلة مثلاً، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، ولكن كان بناء على اعتبارات علمية منهجية بحته؛ حيث إنه حسب على المثاليين لأنه كان ينظر إلى علم الأخلاق بمنظوره التقليدي الذي يرى أن هذا المبحث يتضمن دراسة السلوك الإنساني لوضع معايير يقاس بها هذا السلوك من جهة كونه خيراً أو شرًا، أي إن مهمة علم الأخلاق هي تقويم السلوك الإنساني طبقًا لمعايير معينة؛ ولأنه أيضًا يرفض النظر إلى هذا العلم بحسبانه علمًا وضعيًا أو علما تجريبيًا .. كما ذهب التجريبيون والاجتماعيون ومن هم

ص: 163


1- توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 40.

على شاكلتهم، فعلم الأخلاق عنده علم معياري كما كان عند اليونانيين وإنه كذلك وينبغي أن يظل كذلك أيضًا.

أي إن جهود الإنسان عنده تتجه من الناحية الخلقية إلى جعل البيئة ملائمة للمثل الأعلى ومتمشية معه. وهذا المثل لا يقوم في البيئة وإنما يقوم في نفوس الذين يعيشون فيها، وفلسفة الأخلاق لا يعنيها الوصف والتقرير بقدر ما يعنيها تقييم الأفعال وتحديد غاياتها، إنها تريد الوقوف على معرفة السبب الذي أدى إلى إيثار نوع من السلوك على غيره. وهو إلى جانب ذلك يحسب على المثاليين؛ إذ إنه يرفض الغلو بين التيارين التجريبي والمثالي وهو يضرب أحدهما بالآخر ولكنه يبدو إلى المثاليين أقرب منهم إلى الواقعيين وإلى بيان «ما ينبغي أن يكون» أكثر منه إلى «تقرير ما هو كائن»، فكل وسط أقرب إلى أحد الطرفين.

والحقيقة أن الطويل قد انطلق من الثنائية التاريخية في الأخلاق؛ فالفلسفة عموما نوعان مثالية وواقعية، عقلية وحسية، كذلك الأخلاق نوعان معيارية ووصفية، صورية ومادية، ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن. ويرى أحد الباحثين أن هذا الوصف من قبل الطويل ليس فقط حكما واقعا بل أيضًا حكم قيمة. فالأخلاق المثالية الصورية المعيارية هی الأخلاق الحقة، والأخلاق الواقعية الحسية الوضعية المادية هي الأخلاق السيئة أو المزيفة مما يدل على عدم الخلط عند الطويل بين علم الأخلاق والسلوك الخلقي؛ علم الأخلاق يصف ويحلل ويعلل ولا يقنن أو يشرع أو يقيم، يرصد ويبين ويوضح ظواهر السلوك ولا يقوم أو يصلح أو يهدي إلى الطريق المستقيم(1).

وتجلت الثنائية في جُل مؤلفاته، التي يسعى فيها إلى فصل النزاع بين الواقعيين والمثاليين، يعرض الواقعي أولاً ؛ فيعرض لمذاهب المنفعة الفردية، والمنفعة العامة، والتطور والمدرسة الاجتماعية والبرجماتية والاشتراكية، ثم المثال ثانيًا مشتملاً مذاهب الحدس والحاسة الخلقية والضمير والواجب والمثالية المحدثة،ویری أن الثنائية الأخلاقية مردها إلى ثنائية المعرفة، والصراع يبين المدرستين المثالية والواقعية

ص: 164


1- حسن حنفي: من المثالية المعتدلة إلى الواقعية الجذرية، مقالة بالكتاب التذكاري عن توفيق الطويل، القاهرة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1995، ص39.

في الأخلاق، هو في الأساس صراع بين الاستنباط والاستقراء، ويميل عرض المذهبين - على ما به من نزاهة وحيادية - إلى الإيماء بصدق المثالية والاقتراب منها على حساب الواقعية؛ فأحكام الضمير مطلقة والمثل العليا أفكار فطرية والأفعال الخلقية مرهونة ببواعثها ومقاصدها لا بنتائجها، ولكنه بالرغم من ذلك - كما سبق أن أشرنا- كان نزيها موضوعيًا، فلم يؤلف في المثاليين الملائكة فقط، بل ألف في النفعيين الشياطين(1)ولكل اتجاه محاسنه وعيوبه عند الطويل؛ استعمل التعقيبات والمناقشات عقب مذاهب التيارين المتصارعين من أجل التقريب بينهما، ونقد المثالية كما نقد الواقعية من أجل شق طريق ثالث يمثل الوحدة ويزعم القضاء على الثنائية، أطلق عليه المثالية المعدلة لأنه أقرب إلى المثالية منه إلى الواقعية، أقرب إلى بيان ما ينبغي أن يكون أكثر منه إلى تقرير ما هو كائن.

إذن فالطويل قد عمد أولاً - في اتجاهه هذا - إلى القضاء على الثنائية التاريخية في المعرفة من أجل الوصول إلى نظرية متكاملة في المعرفة تجمع بين الحس والعقل بين الاستقراء والاستنباط، لذلك لا تحل مشكلة الوجود بردها إلى المادة وحدها أو إلى الروح وحده؛ بل إلى كليهما معا(2).

وهو هنا يفسر النقيض بالنقيض؛ إذ ترى المثالية أن مصدر المعرفة قائم في الذات، والواقعية تراه في الموضوع، ومع ذلك تسلم المثالية بأن في المعرفة عنصرًا واقعيًا، كما تسلم الواقعية بأن في المعرفة عنصرًا ذاتيًا ووجه الخلاف بينهما فقط في نوع العلاقة بين الذات والموضوع، ويبدو التقابل بين المذهبين في معركة الأفكار الفطرية التي ينكرها المذهب التجريبي ويثبتها المذهب العقلي أو المذهب النقدي، وهنا يأخذ طريق التوسط بين الطريقين فهو أقرب إلى العقل، وإذا كانت الواقعية الساذجة قد ساهمت في قيام المثالية، فإن المثالية الصورية قد ساهمت كذلك في قيام الواقعية الفلسفية بمختلف صورها؛ فقد ابتعدت المثالية عن دنيا الواقع واستخفت بعالم الشهادة واهتمت بالذات العارفة حتى أغرقت فيها الوجود الواقعي وحصرت نفسها في

ص: 165


1- المرجع السابق، ص 40.
2- توفيق الطويل : أسس الفلسفة، ص 257.

كيفية المعرفة حتى نسيت الإنسان والعالم الذي يعيش فيه واهتمت بالرابطة التي تقوم بين الموضوع والمحمول، ولم تفرق بين إنسان وإنسان؛ فأخذت الواقعية ترد العالم إلى الحس، والإنسان إلى الطبيعة، والذات إلى الموضوع(1). وقرر ثانيًا أن يرفض الغلو بین التيارين ويحولهما من ثنائية تاريخية إلى مذهبية بنيوية؛ يضرب أحدهما بالآخر، وإن كان إلى المثاليين أقرب ، يبين عيوب المثالية بمزايا الواقعية، وينقد سيئات الواقعية بحسنات المثالية ويسمى ذلك فضيلة السماحة والاعتدال، ويحكم على التعارض بین المذهبين طبقًا لسماحة العقل من دون تعصب، وتظهر هذه السماحة العقلية في التعقيبات على المذهبين وتجري كلها في اتجاه واحد، يمضى مع الفلسفة العقلية من دون الاستهانة بأهمية الفلسفة التجريبية الوضعية. فالمذهب الطبيعي مع غلوه وتطرفه ينطوي أيضًا على حق لا ريب فيه، والنظرة إلى المشكلة من زاوية واحدة إخلال بين، وأقرب إلى الصواب النظرة المتكاملة، وهذا هو معنى المثالية المعتدلة غير المتطرفة، أو المثالية المعدلة بعد نقد غلو الصورية والتزمت فيها، فهي إذن تلك الفلسفة التي تجمع بين الواقعية والمثالية في إطار المثالية(2).

ومن ثم يمكن القول بأن توفيق الطويل ينظر إلى الإنسان من خلال مثاليته المعدلة على أنه ليس حسًا خالصًا ولا عقلاً محضًا، ولكنه يجمع بينهما ولا تستقيم حياته الصحيحة من دونهما معًا، وتكامل النفس يقتضى الإبقاء على قوى الإنسان حسية كانت أو عقلية مع تمكين هذه القوى من أن تؤدي وظيفتها الطبيعية بتوجيه العقل، والموقف الخلقي يقوم على أن الطبيعة البشرية تجمع فعلاً بين نزعات الأثرة والإيثار، ومن الخطأ أن تقوم الأخلاق على الأنانية الموغلة وحدها أو الغيرية الطاغية وحدها، فإن نهضة الأمم وتقدم الحضارات مرجعه إلى مسعى قوم كانوا وهم في غمرة سعيهم الحثيث من أجل مصالحهم الشخصية يعملون عن وعي لترقية مصالح المجموع، ومن ثم كان الأقرب إلى الصواب أن نجمع بين هذين الاتجاهين المتطرفين، وبذلك تصبح الأخلاق علماً نظريًا عمليًا معًا، أي تصبح دراسة عقلية تهدف إلى فهم طبيعة المثل العليا التي

ص: 166


1- حسن حنفي: من المثالية المعتدلة إلى الواقعية الجذرية، ص49.
2- المرجع السابق، ص 51.

تستغل في حياتنا الدنيا، كما تصبح علم وفن، إذ إن مبادئ الأخلاق لا تحقق غايتها على الوجه الأكمل في مجال الحياة العملية ما لم تسبقها دارسة نظرية تقوم على التعليل والبرهان حتى يتسنى للإنسان أن يعرف الغاية القصوى من وجوده فيتيسر له أن يتصرف في ضوء معرفته ولا تكون حياته مجرد تقليد ومحاكاة تهبط به إلى مرتبة القردة(1).

فتتضح بذلك معالم مثاليته المعدلة؛ حيث يقر بأنه مع تقديره البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين وأمثالهم يدين بالولاء لنوع جديد من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية الكانطية المتطرفة، فتمثلت في تحقيق الذات بإشباع جميع قواها الحيوية في غير جور على قيم المجتمع أو استخفاف بمعايره، فالإنسان في هذه المثالية يبدو كلاً متكاملاً يجمع بين العقل والحس في غير تصارع ينتهي بالقضاء على أحدهما(2).

إذن فهي مثالية تساير الطبيعة بخلاف المثالية الكانطية المتطرفة التي تتطلب ملاكًا أو كائنا غير بشريًا، فلا هی تتطلب الحيوانية الخالصة ولا الروحية الخالصة ولكنها وسطاً بينهما. فهي في مسايرتها للطبيعة البشرية تجمع بين رعاية الذات بكل ما تقتضيه من أنانية، وبين الاهتمام بمصالح الغير بكل ما تستلزمه من غيرية وإيثار،من هنا كان من الضلال أن ننجرف بالطبيعة البشرية عن جبلتها، فتقتصر أهدافنا على ما يحقق مصالحنا ويشبع رغباتنا وأهواءنا أو ننزع إلى وقف جهودنا وحياتنا على خدمة الآخرين إلى حد التضحية بمصالحنا الشخصية، فالأخلاقية التي تساير الطبيعة البشرية تقتضي التوفيق بين هاتين النزعتين المتضادتين(3).

ومن هنا كان التزام الطويل بموقف الوسط في الأخلاق والتماسه للسعادة في الفضيلة، والمتعة في الواجب، فكان للحواس دورها وللعقل دوره، تلك تشتهي وهذا ينظم لها طريقة الإشباع، فلا تطغي سعادة الفرد على سعادة المجموع(4).

ص: 167


1- زينب عفيفي: المثالية المعدلة في فلسفة الدكتور توفيق الطويل الخلقية، ص 87.
2- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 40.
3- فيصل بدير عون: أخلاق البصيرة العقلية عند الطويل، مقالة بالكتاب التذكاري - كلية الآداب - جامعة القاهرة، 1995 ،ص115.
4- زكي نجيب محمود: من زاوية فلسفية، دار الشروق، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1993، ص 27.

فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنع بالواقع، ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، يضيق بالسلوك الذي تسوق إليه الشهوات والعواطف، ويكبر الذي يجري بمقتضى الواجب، وبذلك كان من الحق أن يقال إن الإنسان لا يكون إنسانًا مميزا من سائر الكائنات بغير مثل أعلى يدين له بالولاء وتتحقق السعادة في حياة راضية مطمئنة تتحقق فيها مطالب الروح وتجاب فيها مطالب الحياة المادية في غير تهور ولا إسراف، ويقوم فيها العقل بتوجيه الإنسان في تصرفاته والعمل على تحقيق مطامحه في نفس الوقت الذي يحد فيه من شهواته ويضبط جموح أهوائه ونزواته، ويقترن هذا كله بتصفية النفس من عبودية الرغبات الجامحة وتخليصها من الأحقاد والضغائن وصنوف الجشع والطمع ونحوه، مما يثير القلق ويورث الهم والشقاء وبهذا تتحقق طمأنينة النفس من دون جور على مطامع الإنسان في هذه الحياة الصاخبة، فإن من يتخلي عن مطامحه يتنازل عن إنسانيته، وبهذا لا يقال في هذه السعادة ما قاله برتراند رسل B. Russel في قصور المذهب الرواقي: إن فيه عزاء للذين عجزوا عن يكونوا سعداء فقنعوا أن يكونوا فضلاء(1).

وهكذا عملت المثالية المعدلة على التوفيق بين الأثرة والإيثار، والجمع بين توكيد الذات ونكرانها وصورت كمال الفرد مقرونا بكمال المجموع الذي ينتمي إليه، وأزالت الصورية الكانطية التي باعدت بين الأخلاقية المعقولة ومبدأ الواجب، وخففت كثيراً من تزمتها وبهذا تكون قد حلت الإشكال الذي حير الأخلاقيين من قديم الزمان وأزالت العداء التقليدي بين دعاة الأنانية وطلاب الغيرية، وسايرت أيضًا منطق الدراسات السيكولوجية الحديثة وأرضت النزعات الاجتماعية، وإذا كانت النفعية التجريبية تزودنا بمادة من غير صورة، ومبدأ الواجب الكانطي يمدنا بصورة من غير مادة، فإن المثالية المعدلة قد جمعت بين ميزاتهما وتحررت من مآخذهما معًا.

ص: 168


1- توفيق الطويل : قصة السعادة في الفكر الفلسفي، ضمن كتاب العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي، ودراسات علمية أخرى، دار النهضة العربية، القاهرة د.ت ص 386.
تعقيب - المثالية المعدلة في الميزان:

إذا كان صاحب المثالية المعدلة قد تأثر كثيراً بصاحب المثالية التقليدية، بل إنه عمل على تعديل ما بمثاليته من تطرف وغلو وصورية وتزمت فالجدير بالذكر أن كليهما قد تأثر بالتيارين عينهما؛ فكانط الذي شطر الفلسفة الحديثة شطرين قد تأثر بالنزعتين العقلية والتجريبية، الأولى وصلته عن طريق أستاذه مارتن كنوتزن Martin Knutzen بالصورة التي صاغها بها ليبنتس وفولف وبومجارتن، وكان كانط لا يبنتسيًا على طريقته، ولم يمنعه من أن يكون لا يبنتسيًا على طريقة، ليبنتس إلا قراءته لنيوتن عن طريق أستاذه أيضًا، أما الثانية فقد وصلته عن طريق ديفيد هيوم الذي تأثر به كثيرا، والذي ساعد على إيقاظه من سباته الدوجماطيقي العميق - حسب مقولة كانط نفسه - فقد حرر هيوم کانط من العقلانية الدوجماطيقية، وانتزعه من بين أيديها،

لا نحو التجريبية المعقلنة عند هيوم، وإنما نحو التجريبية المحضة(1).

وهكذا حسب قوانين الجدل يسير الفكر الكانطي من النقيض إلى النقيض لينتهي إلى مثاليته الكلاسيكية التي بينا ما شابها من نقص وقصور والآن قد حان دور المثالية المعدلة نضعها أيضًا في الميزان لنتعرف على ما قد يشوبها من أوجه نقص وقصور؛ إذ إن شأنها شأن أي عمل بشري يبتعد عن الكمال بقدر ما. فإذا كان الطويل يؤكد في غير موضع من أعماله أن الخلاف بين المثاليين والطبيعيين لا يعدو تفسير المبدأ الأخلاقي وتحليله، وأن هذا الخلاف - كما يرى - لم يمنع من اتفاق المعسكرين على تقديس القيم التقليدية في الأخلاق، ولم يحاول أحد منهم أن يحدث تغييراً أساسيًا في فحوى الأخلاق.

وهذا فيما نرى رأي يبسط المشكلة، إن لم يكن يسطحها؛ لأن تصور المثاليين للأخلاق والقيم (ماهيتها) يختلف كلية عن تصور التجريبيين والوضعيين، ويكفي القول إن الرجل المثالي عند التجريبيين رجل لا وجود له إلا في الخيال والوهم. إن معايير الخير والشر عند كلا الفريقين مختلفة تمامًا؛ وهنا يقول زكي نجيب محمود

ص: 169


1- محمد عثمان الخشت: العقل وما بعد الطبيعة، العقل وما بعد الطبيعة، القاهرة، مكتبة ابن سينا، د.ت ص 181.

عن توفيق الطويل: «إنه قد جمع بين طرفين لم يكونا ليتلاقيا لولا قدرته على التوفيق بين الضدين»(1). في حين يميل الاتجاه الحدسي المثالي إلى الحكم على أخلاقية الفاعل حكمًا قبليًا نجد أن التجريبيين يجعلون نتيجة الفعل هي مقياس خيرية الفاعل، في حين يهتم المثاليون بالباعث، نجد أنظار الطبيعيين متجهة صوب الدافع والنتيجة، في حين تلعب النية دورًا رئيسيًا عند المثاليين نجد أن هذا أمر لا يعتد به التجريبيون كثيراً ولا يقفون عنده، وهذا معناه أن الاختلاف ليس شكليًا، ولكنه أمر يتعلق بفهم ماهية الخير والشر ومن ثم معايير السلوك ذاتها. إن أخلاق العبيد في عرف نيتشه ليست من الأخلاق في شيء.... وإن الإرادة الخيرة عند كانط هی الكل في الكل ولا يضيف العقل جديدًا إلى خيرية الفاعل(2).

كما إنه من الممكن أن يؤخذ على الطويل أنه كان بإمكانه أن يستخلص من القرآن الكريم مذهبًا أصيلاً ومتكاملاً في الأخلاق النظرية والعملية لكنه اكتفى ببعض الجوانب البسيطة من الإسلام، وترك كثير من الجوانب الأخلاقية الغزيرة، فأخذ يبحث عن موقفه الوسطي المعتدل داخل الفلسفة الغربية بين العقليين والتجريبيين، وقد كان بإمكانه أن يستخلص هذا الموقف الوسطي ويهتدي إليه من القرآن الكريم وآياته الكثيرة التي ورد فيها لفظ «الوسط» ليفيد المدح والتقدير والاعتدال، فحديث القرآن عن هذه المادة يفهم منه أن التوسط فضيلة من فضائل الإسلام وخلق من أخلاقه.

ص: 170


1- زكي نجيب محمود، من زاوية فلسفية،ص26.
2- فيصل بدير عون: أخلاق البصيرة العقلية عند الطويل، ص-116 117.

الدرس الأخلاقي في مشروع طه عبد الرحمن المقاصدي

اشارة

د. محمد شهید(1)

مقدمة:

دائما كان تقسيم مقاصد الشريعة يخضع لتقسيم يكاد يكون عليه الإجماع وذلك منذ ان اكتمل نضج هذا التخصص خاصة مع أبي إسحاق الشاطبي وسفره المتميز «الموافقات». وهو التصنيف الذي ورثه من سابقيه فقعده وأصله حتى صار هو لب المقاصد وأسسها .

هذا التقسيم يعتمد أساسا ثلاث مراتب : ضرورية وحاجية وتحسينية.

المرتبة الأولى: الضرورية «... فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.. ومجموع

ص: 171


1- استاذ فلسفة من المغرب: يرى الباحث أنه دائما كان تقسيم مقاصد الشريعة يخضع لتقسيم يكاد يكون عليه - الإجماع وذلك منذ ان اكتمل نضج هذا التخصص خاصة مع أبي إسحاق الشاطبي وسفره المتميز «الموافقات». هذا التقسيم يعتمد أساسا ثلاث مراتب ضرورية وحاجية وتحسينية. يمكن اعتبار نظر طه عبد الرحمن يعتمد على أصول ثلاث حددها في الآتي: «- ان الاخلاق صفات ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة لدى الإنسان، وليست مجرد صفات عرضية أو كمالية لا يقدح تركها إلا في مروءته . وان القيمة الأخلاقية أسبق على غيرها من القيم، بحيث لا فعل يأتيه الإنسان إلا ويقع ابتداء تحت التقويم الأخلاقي . وان ماهية الإنسان تحددها الاخلاق وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعا للخلاق، فيكون محمودا متى أفاد ومذموما متى أساء، وليس العكس. ويرى الباحث أن هذه المحاولة من طه عبد الرحمن تعدّ محاولة فريدة ومهمة جدا خاصة. المحرر

الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين ،والنفس ،والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة .. »(1)ويقصد بها الأساسات التي لا تستقيم حياة الإنسان أينما كان إلا بها.

والمرتبة الثانية : الحاجيات «.. فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة..»(2)، وهي التشريعات والأحكام التي تعمل على رفع الحرج والضرر عن الإنسان.

وفي المرتبة الثالثة : التحسينيات ... «فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق(3).»، وفي مرتبة أخيرة ما يرتبط بالمكارم والقيم والأخلاق.

لقد كان بموجب هذا التقسيم للمقاصد الشرعية أن تحتل الأخلاق مرتبة متدنية في آخر المراتب، بل في مرتبة لا تشكل مكانة متميزة داخل مصالح الناس، وقد يمكن إغفالها أو عدم ايلائها مكانة في الحياة وفي مراعاة المصالح وفي تغيير واقع الإنسان نحو الأحسن. فقط هي في مرتبة دونية وقد لا يحدث أي خلل بفقدانها وإلا يطرأ أي اضطراب في حياة الناس أصلا.

وهذا التقسيم وان كان تقسيما فنيا وليس اليا بمعنى ان المراتب ليس من اللازم ان تخضع لنفس الترتيب، فإنه قد انتشر وشاع، رغم بعض المراجعات الخجولة التي تعتمد الفكرة الدائرية عوض الفكرة العمودية التي جاء بها الشاطبي، لذلك يقول احد رواد الدرس المقاصدي : ان فكرة المنظومة الدائرية بديلا عن الترتيب التقليدي

ص: 172


1- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي (790ه) : الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، دار إحياء التراث العربي - لبنان - ط1، 2001 ، 17/2.
2- الشاطبي : الموافقات في أصول الشريعة، 21/2.
3- الشاطبي : الموافقات في أول الشريعة، 22/2.

جديرة بالاهتمام(1)». بذلك ترتيب المصالح والمقاصد لا يكون ترتيبا جامدا وثابتا بل يمكن ان يتغير على وفق الأحوال وعلى وفق الظروف. وقد ناقش الفقهاء والعلماء ترتيب الكليات الخمس مثلا هل هو ترتيب نهائي توقيفي ؟ أم هو ترتيب توافقي توافق عليه العلماء والمتخصصون فقط ؟ وقد يكون من الأحسن الرجوع الى الموضوع في مصادره لمعرفة تفاصيله وتطوراته.

لكن أحد رواد الدرس الفلسفي المعاصر وأحد كبار المهتمين بالتراث الإسلامي فلسفة ونقدا ومراجعة للمفاهيم والمصطلحات، يطرح إشكالا قد يعيد النظر كليا في ترتيب المقاصد وراجعتها أصلا. إنه طه عبد الرحمن. ورغم ان طه عبد الرحمن لم يخصص كتابا مستقلا في المقاصد إلا أن سعة اطلاعه على العلوم الشرعية وشساعة معرفته بالفلسفة وإدراكه كذلك لاشكلات الإنسان المعاصر .. فقد جعلت منه صاحب نظر ثاقب وفكر متميز في هذا الفن.

يمكن اعتبار نظر طه عبد الرحمن يعتمد على أصول ثلاث حددها في الآتي:

- «ان الاخلاق صفات ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة لدى الإنسان، وليست مجرد صفات عرضية أو كمالية لا يقدح تركها إلا في مروءته.

-انالقيمة الأخلاقية أسبق على غيرها من القيم، بحيث لا فعل يأتيه الإنسان إلا ويقع ابتداء تحت التقويم الأخلاقي.

-ان ماهية الإنسان تحددها الاخلاق وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعا للخلاق، فيكون محمودا متى أفاد ومذموما متى أساء، وليس العكس(2)».

وإذا كان في الأصلين الأخيرين قد دخل طه عبد الرحمن في نقاش عميق مع الفلاسفة وأهل الاختصاص حول -أولوية الاخلاق عن غيرها من القيم وحول ماهية

ص: 173


1- جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دار الفكر - دمشق - ط:1، 2001، ص: 48.
2- طه عبد الرحمن: روح الحداثة : المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- ط :4 ، 2015 ، ص: 15.

الإنسان، فإنه في الأصل الأول يكون قد احدث ثورة معرفية ومقاصدية حول ضرورية الاخلاق وليس تحسينيتها كما دأب على ذلك المقاصديون وعلى رأسهم الشاطبي. وهو ما يشكل رؤية جديدة تجديدية للمقاصد الشرعية وللتنظير المقاصدي.

ما هي معالم هذه النظرية التجديدية للمقاصد ؟

هل للأخلاق والقيم مكانة فيها ؟

ما هي المكانة التي تحتلها في هذه الرؤية التجديدية التي جاء به طه عبد الرحمن؟

هذا ما سنحاول بسطه في الصفحات الآتية من هذا البحث.

في العدد الثاني بعد المائة لمجلة «المسلم المعاصر» نشر طه عبد الرحمن مقالا عنونه ب- «مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة»(1)علقت عليه هيأة التحرير بما يلي : «هذه المقالة ننشرها بما فيها من أفكار جديدة في مجال المقاصد فتحا لباب الحوار، وعملا لمناقشات جادة، ولا سيما أنها تقدم مشروعا جديدا ومتكاملا في مجال المقاصد الشرعية».

والحقيقة أن هذا المقال خلف ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض، خصوصا وأن صاحبه قد امتاز بأفكار واجتهادات فيها من الجدة ومن الجرأة ما يدفع المهتم والباحث في هذا المجال إلى الاطلاع على الموضوع وقراءته بكل جدية وتأن.

يبدأ طه عبد الرحمن بملاحظته على الأصوليين، حيث أغفلوا أو بالأحرى لم يولوا عناية كبيرة «لمبحث المقاصد» مقابل الذي أعطوه «لمبحث الأحكام»، وذلك «مع أن القاعدة المقررة أن لكل حكم شرعي مقصدا مخصوصا ، فكان ينبغي ألا تقل عنايتهم بالمقاصد عن عنايتهم بالأحكام»(2).

ثم يحدد الدعاوي التي يسعى إلى إثباتها في هذا المقال ويحددها في ما يأتي:

«أولاها ، أن علم المقاصد هو علم الأخلاق الإسلامي.

ص: 174


1- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص:41.
2- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص:41.

والثانية، أن علم الأخلاق الإسلامي يتكون من نظريات مقصدية ثلاث متمايزة ومتكاملة فيما بينها .

والثالثة، أن بعض هذه النظريات المقصدية يحتاج إلى وجوه من التصحيح والتقويم.

والرابعة، أن الأحكام الشرعية تجعل جانبها الأخلاقي يؤسس الجانب الفقهي، كما تجعل جانبها الفقهي يوجه الجانب الأخلاقي»(1).

وقبل تناول الموضوع، يحرر طه عبد الرحمن موضع النزاع بتوضيح مهم، حين

يبين أن العقل ليس هو الحد الفاصل بين البهيمة والإنسان، بل الذي يحدد ذلك هو قوة الخلق «فلا إنسان بغير خلق، وقد يكون العقل ولا خلق معه، لا حسنا ولا قبيحا، وهو حال البهيمة ولو قل نصيبها من العقل عن نصيب الإنسان منه»(2). ثم بعد عرض نقدي سريع لتعريف المقاصد الشرعية، يرى أن المراد بالقول بأن «علم المقاصد ينظر في مصالح الإنسان»، وأنه ينظر في المسالك التي بها يصلح الإنسان، تحقيقا لصفة العبودية لله»(3)، ليستنتج أن «علم الصلاح» هو التعريف الذي يوفي بحقيقة المقاصد الشرعية. وذلك لأنه «يجيب على السؤال الآتي، وهو: كيف يكون الإنسان صالحا؟ أو كيف يأتي الإنسان عملا صالحا ؟ ومعلوم أن الصلاح قيمة خلقية، بل هو القيمة التي تندرج تحتها جميع القيم الخلقية الأخرى، فيكون هو عين الموضوع الذي اختص علم الأخلاق بالبحث فيه ..»(4). ومن ثم فإن «علم المقاصد علم أخلاقي موضوعه الصلاح الإنساني»(5).

أعطى طه عبد الرحمن لفظ «المقصد» تفصيلا قال عنه أنه لم يسبق إليه، وقسمه إلى ثلاث نظريات متكاملة بينها، ليتخذ معنى «المقصد» المعاني الآتية:

ص: 175


1- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص: 41.
2- نفس المصدر، ص: 42.
3- نفس المصدر، ص : 43.
4- نفس المصدر، ص: 43.
5- نفس المصدر، ص:43.

-المقصود: فيكون معنى «مقاصد الشريعة» هو «مقصودات الشريعة» وهی المضامين الدلالية المرادة للشارع بأقواله التي يخاطب بها المكلفين.

-القصد: فيكون معنى :مقاصد الشريعة« هو :قصود الشارع وقصود المكلف«، ويتعلق الأمر هنا بالمضمون الشعوري .

-الغاية: فيكون مقصد الشريعة» هو «قيم الشريعة»، ويتعلق الأمر هنا بالمضمون القيمي. وهو المعبر عنه عند الأصوليين ب«المصلحة».

وبما أن طه عبد الرحمن يبني هذا المشروع على أساس أخلاقي، فإن «المقصود» يقوم على ركن أساس وهو نظرية الأفعال وهي التي تختص بالبحث في الجوانب الأخلاقية للأفعال البشرية المتأسسة على مفهومين أساسين هما «القدرة» و«العمل».

أما «القصد» فيلزم أن يتأسس على ركن أساس هو نظرية في النيات، تدور على مفهومين أساسين هما «الإرادة» و«الإخلاص».

في حين إن «الغاية» لزم أن تتأسس على ركن أساس ثالث وهو نظرية في القيم، وتدور على مفهومين أساسين هما «الفطرة» و«الإصلاح».

«وعلى الجملة، فإن علم المقاصد يتكون من ثلاث نظريات أخلاقية تحدد بنية الخُلُق الإسلامي، وهذه النظريات هي: «نظرية الأفعال» و«نظرية النيات» و«نظرية القيم»، بحيث تتكون بنية الخلق الإسلامي من عناصر ثلاثة هي: «الفعل» و«النية» و«القيمة» تدخل فيما بينها في علاقات تتفرع على اثنتين أصليتين : إحداهما : «علاقة الفعل بالنية»، فلا فعل بغير نية . والثانية ، «علاقة النية بالقيمة» ، فلا نية بغير قيمة؛ مما يسمح بأن نضع ترتيبا لهذه العناصر الخلقية باعتبار درجتها من الضرورة، فترجع الرتبة الأولى للقيمة والرتبة الثانية للنية والرتبة الثالثة للفعل، فتكون «نظرية القيم»هي الأصل الذي تنبني عليه النظريتان الأخريان: «نظرية النيات» و«نظرية الأفعال»(1).

وبذلك فإن التقسيم الثلاثي الذي اعتاد الأصوليون بناء نظرية المقاصد عليه،

ص: 176


1- نفس المصدر، ص: 46.

والذي بمقتضاه يكون الضروري في المرتبة العليا ثم يليه الحاجي ثم التحسيني في المرتبة الدنيا، هو محل اعتراض عام و خاص عند طه عبد الرحمن.

أما العام فالخلل فيه بكون القيم التي يتكون منها الضروري لا يستقل بها هذا القسم وحده، بل يشاركه فيها كل من الحاجي والتحسيني. ويمثل لذلك بتحريم الزنا الذي يعد حكما يحقق قيمة ضرورية، وتحريم النظر إلى عورة المرأة الذي يحقق قيمة تحسينية، وتحريم تبرج المرأة الذي يحقق قيمة تحسينية. فهي كلها تشترك في حفظ النسل، ولا سبيل إلى استيفاء شرط التباين هنا إلا بإنزال هذه القيم الخمس رتبة تعلو على هذه الأقسام الثلاثة. «وتتفرع عليها هذه الأقسام بتخصيصات ثلاثة مختلفة، ويجوز أن تكون هذه التخصيصات عبارة عن مراتب ثلاث للحفظ، ولنجعلها هي: «الاعتبار» و«الاحتياط والتكريم»، فيشتمل القسم الضروري على ما يعتبر هذه القيم العليا، فيكون أعلى هذه الأقسام درجة، ويشتمل القسم الحاجي على ما يحتاط لهذه القيم، فيكون أوسطها درجة، ويشتمل القسم التحسيني على ما يكرمها، فيكون أدناها درجة »(1).

هذا فيما يخص الاعتراض الخاص.

أما فيما يخص الاعتراض العام فقد قسمها إلى اعتراضات على الشكل الآتي :

-اعتراضات خاصة بالقيم الضرورية :

أولها إخلال بشرط تمام ،الحصر ، ذلك أن الأطوار الإنسانية يمكن أن تفرز كليات أخرى، فيقترح فضلا عن الدين والنفس والعقل والنسل والمال، «حفظ الذكر» و«حفظ العدل» و «حفظ الحرية»و «حفظ التكافل».

ثانيها إخلال بشرط التباين، حيث لا تباين بين هذه القيم، حيث «فلا حفظ للمال بغير حفظ العقل، فيكون العقل جزءا من المال، ولا حفظ للعقل بغير حفظ النسل،

ص: 177


1- نفس المصدر، ص : 50.

فيكون النسل جزءا من العقل، ولا حفظ للنسل بغير حفظ النفس، فتكون النفس جزءا من النسل، ولا حفظ للنفس بغير حفظ الدين، فيكون الدين جزءا من النفس»(1).

ثالثها إخلال بشرط التخصيص ، ف «ليست كل قيمة من القيم أخص من الأصل المحصور الذي هو الشريعة؛ فحفظ الدين الذي اعتبر قيمة من قيم الشريعة، هو كذلك مساو للشريعة، فتدخل تحته القيم الأخرى؛ ولا ينفع أن يقال بأن المراد بالدين في هذا التقسيم هو الاعتقادات والعبادات، فهذا تخصيص بغير دليل؛ لأن الأحكام التي تراعي حفظ القيم الأخرى هي أيضا أحكام تراعي حفظ الدين»(2).

-اعتراضات خاصة بالقيم التحسينية ويتمثل ذلك في كونها تخل بشروط الترتيب، وقد حددها فيما يلي:

* تأخير ما ينبغي تقديمه: يدرج العلماء القيم التحسينية على «مكارم الأخلاق»، ومن ثم إنزال الأخلاق إلى هذه المرتبة - الثالثة - من القيم فيه إيحاء بأنها مجرد صفات، المرء مخير في التحلي بها، بل وكأنها مجرد ترف سلوكي، «وهذا في غاية الفساد، فقد تقدم أن علم المقاصد يبحث في المصالح، وان المصالح ليست إلا علما آخر للقيم الأخلاقية؛ لأنها هي وحدها التي يصلح بها حال الإنسان؛ وإذا كان الأمر كذلك ، لزم أن تكون الأخلاق أولى بالرتبة الأولى من غيرها(3)».

*إهمال رتب الأحكام: في الأمثلة التي يأتي بها الأصوليون في أثناء الحديث عن القيم التحسينية، تندرج ضمن جميع الأحكام الشرعية «بحيث نجد من التحسيني ما هو واجب كالطهارة ، ومنه ما هو محرم كبيع الخبائث وأكلها؛ وإذا كان الأمر كذلك، بطل ما يدعيه الأصوليون من أن القيم التحسينية لا يترتب عليها إخلال بنظام ، ولا حصول إعنات؛ فهل يعقل أن يفرض الشارع شيئا أو يمنع آخر من غير أن يكون في ترك ما فرض أو فعل ما منع مضرة لا يختل

ص: 178


1- نفس المصدر، ص: 51.
2- نفس المصدر، ص: 51.
3- نفس المصدر، ص: 51.

بها نظام الحياة، فردية كانت أو جماعية، وإلا فلا أقل من أن يفسد بها حال الإنسان، إن قليلا أو كثيرا !(1)».

*إهمال الحصر المفيد لعلو الرتبة: انطلاقا من الحديث الشريف: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2)، فإنه حيثما وجد حكم جاءت به البعثة النبوية، إلا وتضمن خلقا صالحا من اللازم التخلق به، «كما يستفاد من هذه الأداة أن هذه البعثة لا تأتي إلا بمثل هذه الأحكام ذات الآثار الخلقية؛ والبعثة التي تكون بهذا الوصف لا يمكن أن تنزل الأخلاق التي تدعو إليها إلا أعلى الرتب من مراتب الضرورة(3)».

بعد ذلك انتقل طه عبد الرحمن إلى وضع تقسيم جديد للقيم الشرعية، ليحدد معالمه على الشكل التالي:

* القيم الحيوية أو قيم النفع والضرر: بهذه المعاني الخلقية يتقوم ما يلحق البنى الحسية والمادية والبدنية ، «ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني الخلقية هو اللذة عند حصول النفع والألم عند حصول الضرر؛ ويندرج في هذه القيم على سبيل المثال، حفظ النفس وحفظ الصحة وحفظ النسل وحفظ المال(4)».

*القيم العقلية أو قيم الحسن و القبح: وهي ما تتقوم بها المحاسن والمقابح التي تعرض للبنى النفسية والعقلية ؛ «ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني هو الفرح عند حصول الخير والشر، والقيم التي تندرج تحت هذه المعاني أكثر من أن تحصى؛ ومن الأمثلة عليها: الأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار(5)».

*القيم الروحية أو قيم الخير والشر: وهي ما تتقوم به كل الخيرات والشرور التي «تطرأ على عموم القدرات الروحية والمعنوية، ويكون الشعور الموافق لهذه

ص: 179


1- نفس المصدر، ص: 52.
2- أخرجه البيهقي: «السنن الكبرى» كتاب الشهادات، باب: بيان مكارم الأخلاق ومعاليها، 3213/10.
3- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة ، ص : 52.
4- نفس المصدر، ص : 52.
5- نفس المصدر، ص: 53.

المعاني هو السعادة عند حصول الصلاح، والشقاء عند حصول الفساد، ويدخل في هذا الصنف الإحسان والرحمة والمحبة والتواضع والخشوع»(1).

هذا فيما يخص معالم التقسيم الجديد الذي يقترحه طه عبد الرحمن، أما فيما يتعلق بخصائصه فقد ذكر بأن الضروريات التي كانت تصنف في المرتبة الأولى في الترتيب القديم للقيم، سوف تصبح بمقتضى الترتيب الجديد - الذي ينبني على ما سبق - يحتل معظمها المرتبة الثالثة مثل حفظ النفس وحفظ النسل وحفظ المال. في المقابل لذلك فإن التحسينيات التي كانت تنزل في المرتبة الثالثة، فقد أصبحت في المقام الأول للترتيب الجديد. ويعلل ذلك بكون الترتيب القديم يقدم اعتبار الجانب المادي من الحياة على الجانب المعنوي. ولأن القيم الخلقية هي الأساس في مقاصد الشريعة وبها يحقق الإنسان إنسانيته، فإن رتبة هذه القيم تحددها قدرتها على تحقيق هذه الغاية .. «وعلى هذا، تكون القيم الروحية - أو قيم الخير والشر - أدل القيم على كمال الإنسانية وتمام العبودية لله، تليها القيم العقلية - أو قيم الحسن والقبح - لأن درجتها من المادية، على توسطها، تنأى بها عن هذا الكمال الإنساني، فتكون لها الرتبة الثانية، ثم تأتي في الرتبة الثالثة القيم الحياتية - أو قيم النفع والضرر - لأن تغلغلها البالغ في الماديات يقطعها عن هذا الكمال الانسانی»(2).

هذه هی أهم الخطوط التي تناولها طه عبد الرحمن في هذا المشروع للتجديد لعلم المقاصد الشرعية. وجدير بالذكر أن طه عبد الرحمن قد كتب مؤلفه «تجديد المنهج في تقويم التراث» الصادر سنة 1994، مع العلم أن هذه الدراسة قد تم نشرها سنة 2002، خصص فيه صفحات عدة تناول فيها «التداخل الداخلي في أصول الفقه: الشاطبي نموذجًا»، يمكن اعتباره باكورة البحث الذي انطلق منه هذا المطلب.

وإذا جاز أن يلاحظ على هذا المشروع الجنيني - باعتباره لم يطوره بعد في كتاب أكثر وضوحا ودقة - فإنه يمكن تسجيل بعض الملاحظات السريعة:

ص: 180


1- نفس المصدر، ص : 53.
2- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص: 53-54.

عند التوقف عند قضية أساس في المقاصد تتعلق بالمصالح الضرورية، يعترض طه عبد الرحمن على الحصر الذي قام به الأصوليون والقاضي بحصرها في خمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، ويرى أنه «لا يمكن التسليم بانحصار الضروريات في خمسة أجناس، لأن ذلك يخل بالشروط المنطقية والمنهجية المطلوبة في التقسيم، فلا يستوفي شرط تمام الحصر ، إذ لا يمنع من دخول عناصر أخرى فيه، فقد أدخل بعضهم العرض والعدل»(1).

ويعدّ هذا الادعاء مغامرة كبيرة، إذ حاول عدد من الأصوليين كسر حاجز الخمس لكنهم لم يأتوا بما يقنع بأنه كلية وعده ضمن الضروريات، وذلك لكونه يندرج تحت كلية سبق أن حددها العلماء وضمن الخمس المعهودة كالذي جاء به محمد الغزالي وابن عاشور وعلال الفاسي أيضا. أو في بعض الأحيان الأخرى تكون هذه الإضافة فضفاضة وواسعة كما سبق مع ابن تيمية أو بعض ما جاء به كذلك ابن عاشور وعلال الفاسي .. وقد سبق الحديث عن هذا في أثناء نقاش عدد الكليات في مبحث الاجتهادات الجزئية.

والحقيقة أن كل الإضافات التي اجتهد العلماء في إضافتها لم تسلم من النقد والمعارضة في أكثر الحالات إن لم يكن في جلها. في الوقت الذي بقيت الكليات، التي جاء بها العلماء قديما منذ الجويني والغزالي وكذلك الشاطبي ومن جاء بعدهم جميعا، صامدة وثابتة أمام كل الزيادات رغم تغير الظروف والملابسات التي عرفتها الأمة. وقد يكون هذا دليلا على قوتها وقوة الأدلة التي تستند عليها.

يرى طه عبد الرحمن أنه لا تباين بين القيم الخمس، وبذلك فلا يكون حفظ للمال من دون حفظ للعقل، وبذلك فالعقل جزء من المال؛ كما أنه لا حفظ للعقل بغير حفظ النسل، وعليه فالنسل جزء من العقل؛ كما أنه لا حفظ للنسل بغير حفظ للنفس، فتكون النفس جزءا من النسل، ولا حفظ للنفس بغير حفظ الدين، فيكون الدين جزءا من النفس.

ص: 181


1- طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط:1، 1994، ص: 111.

والظاهر انه هنا لا وجود للاعتراض إذ يقرر الشاطبي أن مصالح الدارين مبنية على الأمور الخمسة المعروفة، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود. وكذلك الحال بالنسبة للأمور الأخروية». فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى. ولو عدم المكلف لعدم من يتدين. ولو عدم العقل لارتفع التدين. ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء. ولو عدم المال لم يبق عيش.. وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وإنها زاد للآخرة»(1)فتوقف كل قيمة على أخرى من الأمور المعلومة.

يخلص طه عبد الرحمن إلى تحديد معالم مشروعه الجديد الذي يقسمه إلى:

-القيم الحيوية أو قيم النفع والضرر ، كحفظ النفس وحفظ الصحة وحفظ النسل وحفظ المال.

- القيم العقلية أو قيم الحسن والقبح، كالأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار.

-القيم الروحية أو قيم الخير والشر، كالإحسان والرحمة والمحبة والتواضع والخشوع.

من جانب آخر وجد من الفلاسفة الغربيين الذين لهم اهتمام كبير بالأخلاق والدين والقيم، على رأسهم الفيلسوف الألماني «ماكس شيلر» (1874-1928)، وقد برز في فلسفة الأخلاق وفلسفة الدين وعلم الاجتماع. وقد أصدر شيلر مجموعة كتب في هذا المجال أهمها : «النزعة الصورية في الأخلاق ونظرية الأخلاق المادية في القيم»و«انقلاب القيم» و«عن الخالد في الإنسان» و«أشكال المعرفة والمجتمع»و«مكان الإنسان في الكون»..

يميز شيلر في أوجه السلوك البشري بين :

-القصد.

ص: 182


1- الشاطبي : الموافقات في أصول الشريعة،15/2.

الغايات.

-الأهداف.

- القيم .

كل القيم عنده تنقسم إلى قيم إيجابية وقيم سلبية، كما تشكل عالما من العلاقات فيما بينها. وكذلك يصنف القيم في مجموعات عليا وسفلى

وعنده - دائماتقسيم للقيم على الشكل الآتي:

- قيم حسية : الممتع وغير الممتع.

- قيم حيوية: النبيل والسوقي.

- قيم روحية : الجميل والقبيح، العدل والظلم، المعرفة الخاصة بالحقيقة.

-قيمتا المقدس والدنيوي(1).

هل يمكن المقارنة بين ما جاء به ماكس شيلر والدعوة التجديدية التي جاء بها طه عبد الرحمن ؟ هل يمكن اعتبار ما جاء به طه عبد الرحمن قراءة إسلامية لهذه الرؤية المؤسسة على القيم التي طورها الفيلسوف الألماني؟

أم هل يمكن اعتبار الطرح الذي جاء به طه عبد الرحمن صادف وناسب ما جاء به ماکس شیلر؟؟!!

لكن الذي لا اختلاف فيه عند الباحثين هو أنه يمكن اعتبار هذه الرؤية التي أوردها طه عبد الرحمن قراءة نقدية للتراث الأصولي الإسلامي والمقصدي، مع الانفتاح على بعض المناهج والأدوات والآليات الفلسفية الغربية، إذ يعتبر نفسه متشددا فی هذا المجال إذ يقول «إن أهم سمة يتميز بها مشروعي (تجديد المنهج في تقويم

ص: 183


1- إ.م. بوشنسكي : الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة: عزت قرني، سلسلة «عالم المعرفة» -الكويت- ع: 165، سبتمبر 1992 ، ص : 191-197.

التراث).. هو الخروج عن الطريق الذي اتبعه مفكرو الغرب والعرب على السواء في تقويم التراث الإسلامي العربي، والذي لا ينبني على التوسل في هذا التقويم بأدوات منهجية مستمدة من خارج هذا التراث، وذلك بأن فتحت طريقا جديدا في التقويم يستمد أدواته من داخل التراث نفسه.. »(1).

إن مشروع طه عبد الرحمن رغم ما يمكن أن يلاحظ عليه من نقص في التفصيل والتطوير، إذ هو في الحقيقة لا يتجاوز بضع ورقات نشرت كما سبق في إحدى المجلات، حيث ينتظر منه أن ينشر أكثر توضيحا وتدقيقا في كتاب أو أكثر لتتبين معالمه الحقيقة ويمكن الحكم عليه واتخاذ موقف علمي دقيق، فهو ذلك مع يستشف منه الجدية في الطرح والعمق في التأصيل، ويفرض احترام الباحث والمتابع المتخصص. ومع كل ذلك فالمشروع يمتاز بالدقة والنضج من حيث البناء النظري والتأسيس لمشروع علمي فيه قراءة نقدية للتراث الأصولي بشكل عام والمقصدي بشكل خاص، فيها جرعات مهمة من الجرأة والشجاعة التي يمتاز بها باحث مدقق من طينة طه عبد الرحمن. لكن هذه الميزات ونقط القوة التي في المشروع يفتقد أغلبها عند تنزيل المشروع ومحاولة تحقيق هذا الطرح على أرض الواقع، خصوصا عند إعطاء نماذج وأمثلة فيما يخص القيم والمصالح التي مثل بها لكل قسم من الأقسام التي عرضها. فالذكر والأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار.. الأمثلة وغيرها من يصعب عدها عدها ضمن الكليات التي تؤسس لمشروع مقاصدي كما يرى طه عبد الرحمن وإن كان الباحث والقارئ يسلم بلا تردد بعدها من المصالح المهمة في حياة الأفراد والجماعات والأمم..

ص: 184


1- طه عبد الرحمن: القول الفلسفي العربي الواقع وشروط الإمكان، في حوار أجراه معه منتصر حمادة، مجلة «المنطلق الجديد» - بيروت - ع: 1 ، خريف 2000 ، ص : 131.
خاتمة:

تعدّ هذه المحاولة من طه عبد الرحمن محاولة فريدة ومهمة جدا خاصة إذا نظرنا إليه من زاويتين :

الزاوية الأولى: أهمية الأخلاق :

ومكانتها الطبيعية في المعرفة الإسلامية، فالإنسان يتميز عن غيره من المخلوقات ليس بكونه يعقل أو ينطق فقط، بل سر وجوهر اختلافه وتميزه هو تخلقه وتحليه بالخلاق التي تزينه، فيكون بذلك على أحسن تقويم كما تروم الشريعة وتهدف الى تحقيقه ..

وغير خفي أهمية الخلاق في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، وذلك لارتباطها الوثيق بين ما هو نظري وما هو عملي، أو بين القولي والفعلي وهو ما يؤكد عليه عادل العوا حين يؤكد: «الأخلاق .. تفكير حي متطور لأنه دائب الاتصال بنشاطي النظر والعمل، القول والفعل. وكلا النظر والعمل يجري في زمان هو حياة الفرد بوصفه عقلا مبدعا، وحياة الناس بوصفهم أعضاء في مجتمع ذي حياة وتطور، أي تاريخ»(1).

لقد أصبح للأخلاق دور هام في الفترة الحالية، وقد يكون وراء ذلك الانهيار الأخلاقي والتدمير المنهجي الذي طال القيم. لقد صار كل شيء اليوم وكأنه«.. يعلن العودة الى الفلسفة الأخلاقية النظرية: نمو تيارات فكرية جديدة، اعتراف بالجدل الأخلاقي وتعدد المناقشات. وعلى هذا النحو يفيد التفكير القيمي والأخلاقي من عناية طريفة. أخلاق نظرية حيايتية، أخلاق نظرية تجارية، إرادة إضفاء الصبغة الأخلاقية النظرية على الشؤون العامة، أو الشؤون السياسية، الأخلاق النظرية والمال .. الخ: كل شيء يجري كما لو ان السنوات الراهنة كانت سني تجدد أخلاقي نظري، سنوات «سني الأخلاق» إذ يبدو لواء الأغراض القيمية بمثابة أقصى صورة

ص: 185


1- عادل العوا: من تقديمه ل: الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس، ترجمة وتقديم عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة - بيروتط:1، 2001، ص:6.

المجتمعاتنا الديمقراطية المتقدمة. أجل، إن الأخلاق النظرية تحتل «المنزلة الأولى وغن الطلب الأخلاقي يبدو أنه ينمو مجددًا»(1).

فضلا عن ما سبق فإن طه عبد الرحمن يثير إشكالات قد تأتي على نظرية المقاصد بشكلها القديم بالانخرام والهدم، ومن ثم إعادة بنائها بناء جديدا يتأسس على الاخلاق. ذلك ان الأصوليين قصروا «القيم التحسينية على «مكارم الاخلاق»؛ لكن إنزال مكارم الاخلاق الرتبة الثالثة من القيم يشعر بأنها مجرد صفات كمالية يخير المرء في التحلي بها، بل قد يتخلى عن بعضها، وهذا في غاية الفساد؛ (و).. علم المقاصد يبحث في المصالح، والمصالح ليست إلا علما آخر للقيم الأخلاقية؛ لأنها هي وحدها التي يصلح بها حال الإنسان ..»(2)وإذا كان الحال كذلك يخلص طه عبد الرحمن- فإن مرتبة المقاصد تكون في الرتبة الأولى بلا شك. ويزداد هذا الاضطراب الذي لاحظه طه عبد الرحمن على الأصوليين حين يسجل عليهم سوء تدبيرهم للأمثلة التي جاءوا بها وهم يفصلون القول في القيم التحسينية فيؤكد: «لقد ضرب الأصوليون على القيم التحسينية أمثلة تدخل في جميع أنواع الأحكام الشرعية، اقتضاء وتخييرا، بحيث نجد من التحسيني ما هو واجب كالطهارات، ومنه ما هو محرم كبيع الخبائث واكلها؛ وإذا كان المر كذلك، بطل ما يدعيه الأصوليون من ان القيم التحسينية لا يترتب عليها إخلال بنظام، ولا حصول إعنات.. »(3)وهذا محال الشريعة وحكمتها الربانية.

الزاوية الثانية: التكامل المعرفي :

إن التنظير المقاصدي إذا بقي حبيس الرؤية الأصولية الضيقة، على أهمية أصول الفقه وما تمتاز به من منهج في النظر، ستفقد الكثير من تميزها وقدرتها على مواكبة التطورات التي يعرفها الإنسان. وإذا كان العلماء قديما في العالم الإسلامي يمتازون

ص: 186


1- جاكلين روس: الفكر الأخلاقي المعاصر، ص: 9.
2- طه عبد الرحمن: سؤال المنهج : في أفق التأسيس لنموذج فكري جديد المؤسسة العربية للفكر والإبداع بیروت - ط : 2 ، 2015 ، ص: 83.
3- طه عبد الرحمن: سؤال المنهج : في أفق التأسيس لنموذج فكري جديد، ص: 83.

بتداخل في التخصصات واطلاع واسع على علوم عدة، فليس فقط لأن التخصصات كانت قليلة وأن العلوم لم تتطور بشكل دقيق كما هو الحال في العصور المتأخرة؛ ولكن ذلك في نظرنا عائد لطبيعة المعرفة فقي الحقل الإسلامي وتميزها بالتداخل المعرفي والتكامل بين العلوم. وغير خفي ان علم أصول الفقه بذاته ظلت علوم متعددة تؤثث حقله ومجاله المعرفي، حيث تداخل وتكامل كل من علوم العربية وعلم الكلام وعلم المنطق والتفسير فضلا عن الحديث وغيره من التخصصات.. وقد يضاف إليها في الوقت الحالي العلوم الإنسانية والفلسفة.. هكذا يكون بين يدي مقاصد الشريعة التي هي مكون مهم من مكونات أصول الفقه جملة أدوات تعينه تجديد إمكاناته وتطوير زوايا نظره خاصة مع التحولات الرهيبة التي يعرفها الإنسان المعاصر في المعرفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد..»وانطلاقا من هذه الرؤية فإن كل قراءة تجديدية واجتهادية يكون مالها الفشل الذريع، لذلك لا بد من مراجعات نقدية دقيقة للتراث الإسلامي تراجع التصنيف الذي اعتمده علماء الإسلام للعلوم، ذلك ان المراجعة والمدارسة الدقيقة الصارمة من قبل أهل الاختصاص هي الكفيلة بتنمية القدرات العلمية والمنهجية للأمة»(1).

لذلك فالرؤية الفلسفية والزاد الهائل من التراث الذي يتمتع به رجل من قيمة طه عبد الرحمن أضاف للتجديد في المقاصدي نفسا وروحا يفتقد المنظرون للمقاصد مما يفتح آفاق كبرى للاجتهاد في المقاصد، وذلك لكونه ينطلق من نظرة أخرى غير النظرة التقليدية عند المعروفة عند الأصوليين.

إن القراءة الأخلاقية للمقاصد التي قام بها طه عبد الرحمن تعدّخطوة مهمة في إعادة قراءة تراثنا من زوايا مختلفة. وستكون هذه التجربة الفريدة أكثر نضجا ان خصص لها طه عبد الرحمن دراسة مستقلة في كتاب منفصل، يبين معالمها ويشرح مراميها بالنفس الفلسفي والعلمي الذي يمتاز به.

ص: 187


1- محمد شهيد: في المشترك الإنساني: تأسيس مقاصدي ، طوب بريس - الرباط- ط : 1 ، 2017 ، ص: 67.
مصادر ومراجع الدراسة:

إ.م. بوشنسكي : الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة: عزت قرني، سلسلة «عالم المعرفة»- الكويت - ع: 165 سبتمبر 1992،

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي(790ه): الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، دار إحياء التراث العربي - لبنان - ط 1 ، 2001

جاكلين روس: الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة وتقديم عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة بيروتط:1، 2001 .

جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دار الفكر - دمشق - ط 1 ، 2001.

طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة ، ع : 102، س: 62، يناير - فبراير- مارس 2002.

طه عبد الرحمن: القول الفلسفي العربي الواقع وشروط الإمكان، في حوار أجراه معه منتصر حمادة ، مجلة «المنطلق الجديد» - بيروت - ع: 1، خريف 2000.

طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي ، ط 1 ، 1994.

طه عبد الرحمن: روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- ط :4 ، 2015.

طه عبد الرحمن : سؤال المنهج: في أفق التأسيس لنموذج فكري جديد، المؤسسة العربية للفكر والإبداعبيروتط:2، 2015 .

محمد شهيد: في المشترك الإنساني : تأسيس مقاصدي، طوب بريسالرباط- ط :1، 2017.

ص: 188

نقد قيم الحوار مقاربة للمنهج النقدي

عند طه عبد الرحمن

طارق الفاطمي(1)

أخذ السجال في جدلية الأخلاق والدين حيزاً كبيراً من الفكر الإنساني.. من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الحديثة مروراً بالفلسفة الإسلامية، غير أن مثل هذه الجدلية لم تخرج عن فرضيات ثلاث؛ «تبعية الأخلاق للدين» و«تبعية الدين للأخلاق» و «استقلال الأخلاق عن الدين».

تبعية الأخلاق للدين

لقد تقرر في الفلسفة اليونانية أن الأخلاق تابعة للدين ولا تنفك عنه. وهو ما ذهبإليه كبار فلاسفة ولاهوتيي الغرب في ما بعد، وفي مقدمتهم القديس «أوغسطين» والقديس «توماس الأكويني»، وذلك لأنها تتأسس عندهم على أصلين وهما: «الإيمان بالإله» و «إرادة الإله». فتقرر بمبدأ «الإيمان بالإله» أن لا أخلاق إلا بإيمان

ص: 189


1- باحث، وأستاذ فى الدراسات الإسلامية، المملكة المغربية: ما هي أهم الانتقادات التي وجهها الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن للمرجعيات النظرية لقيم الحداثة الغربية.. وما قواعد الحوار الحضاري التي نظر لها ودعا إلى تطبيقها التجاوز الأزمة الحضارية الراهنة؟ هذا البحث يهدف إلى تظهير مواقف عبد الرحمن، وتأصيل المفاهيم التي أسس عليها نظريته في القيم وفي ثقافة الحوار الحضاري، كما يعرض إلى في أبرز انتقاداته لقواعد الحوار وأسسه وخلفياته الفلسفية التي أنتجتها العلمانية على امتداد قرون من اختباراتها وحفرياتها الفكرية العميقة في المجتمعات الغربية . المحرر

وأنه مصدرها وموجهها فكانت الخصال الثلاث التي اعتبرت أمهات الفضائل: الإيمان، والرجاء والمحبة التي تفرعت عنها الفضائل الأخلاقية العقلية الأربعة: العفة والشجاعة والرَّويَّة(1)(أو الحكمة)، والعدل التي تأسست عليها فلسفة الأخلاق الغربية. وأهم الانتقادات التي وجهها طه عبد الرحمن لهذا المبدأ ليس في أصله لأن الأخلاق في نظره لا يكون مصدرها إلا الدين، ولكن الأخلاق في العقيدة المسيحية وقعت في الاضطراب والتذبذب الذي سببه تعدد الآلهة في الفكر العقدي الكنسي، والتجسيم وأنسنة الإله التي حصلت في العقيدة المسيحية. وهو يقارنها بالأخلاق التي مصدرها مصدر واحد وإله متفرد بالجلال والجمال والكمال ما يسميه طه عبد الرحمن العقلانية التوحيدية(2).

أما أصل «إرادة الإله» فقد أنتج ضرورة الالتزام بالأوامر والنواهي، أو ما عرف بنظرية «الأمر الإلهي»، مع كل الاعتراضات التي قدمت عليها وأشهرها السؤال في الخير والشر، وهل إدراكهما عقلي أم غيبي مرتبط بإرادة الإله(3)؟

وهو أحد أوجه الجدل الذي ورثته الفلسفة الإسلامية، وانقسمت حياله الفرق الكلامية في المسألة التي عرفت في كتب الكلام والأصول بالتحسين والتقبيح العقليين. ومن الانتقادات التي يوجهها د. طه للفلسفة الإسلامية والفقهاء والأصوليين خاصة ، وقوعها في إسقاطين أحدهما ترجمة الخصال الأربعة في الفلسفة اليونانية إلى لفظ «الفضائل» مع ما يحمله هذا اللفظ في اللغة العربية من الإيحاء بالكماليات التي تبقى اختياراً لا يصل إلى حد الضرورة والهوية، وقوة الارتباط بالوجود والكينونة الإنسانية(4). وفهم الفقهاء والأصوليون «مكارم

ص: 190


1- اعتبر د. طه عبد الرحمن أن ترجمة الثقافة العربية الإسلامية مصطلح «phronesis» التي تدل على العقل في معناه التدبيري والعملي، بكلمة «حكمة» غير موفق لأن كلمة pكمة في التداول العربي أخص وأشرف بيحتار لها مرادف لفظ «الروية» لما يدل عليه من التوفيق في التدبير العملي.
2- سؤال الأخلاق (ص 33 - 34).
3- تفاصيل المواقف والآراء في شأن هذه النظرية في كتاب «Divine Commands and Morality»
4- سؤال الأخلاق (ص -5453).

الأخلاق» التي ذكرت في الحديث(1)على أنّها لا تكون إلا في المرتبة الأخيرة من المقاصد التي تسمى تحسينية أو كمالية في حين أن ارتباط الأخلاق بالدين وتبعيتها له تقتضي أن تكون في المقام الأول من المقاصد الضرورية التي تتعلق بحفظ الدين لأنها أساسه ومدار أحكامه وشعائره عليها، كما تنص عليه الأدلة الشرعية(2)

تبعية الدين للأخلاق

تفرعت دعوى تبعية الدين للأخلاق في الفلسفة الحديثة على القول ب«مبدأ الإرادة الخيرة للإنسان» أو الإرادة الحسنة أو تسمى أيضاً الإرادة الطيبة، الذي أقام عليه «إيمانويل كانط» صرح نظريته الأخلاقية المتميزة(3).

تتلخص دعوى «كانط» في كون الإرادة الخيرة متسامية في ذاتها لأنها مصدر الواجب الذي يجب أن يلتزمه كل فرد دون طمع في ثواب أو خوف من عقاب لأن الذي يمليه ويفرضه هو «العقل الخالص» الذي يمكن من الجمع بين الفضيلة والسعادة في تصور كانط الموصل إلى «الخير الأسمى»، فيكون بذلك الإنسان هو نفسه مصدر الأخلاق لا قوة أو إرداة أخرى فوقية أو خارجة عنه تتصف بالكمال المطلق. وحسب قول «كانط»: «تبدو الأخلاق غير محتاجة إلى فكرة كائن مختلف وأعلى من الإنسان لكي يعرف هذا الإنسان واجبه، ولا إلى سبب غير القانون نفسه لكي يتبعه (...) ، فإذن بالنسبة للأخلاق، فليست تحتاج مطلقاً إلى الدين، بل تكتفي بذاتها بفضل العقل الخالص العملي»(4).

هكذا فبفضل مبدإ الإرادة الخيرة، يجد «كانط» أن صرح الأخلاق في غنى عن

ص: 191


1- «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، أخرجه الإمام مالك في الموطأ بلفظ «حسن الأخلاق» (2/ 904) في حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق، أحمد في المسند (513/14)، وفي لفظ آخر «مكارم الأخلاق». وسنده قوي
2- سؤال الأخلاق (ص -5150).
3- أسس ميتافيزيقا الأخلاق، كانط دار النهضة العربية 1970م، بيروت لبنان.
4- KANT. E; LA RELIGION DANS LES LIMITES DE LA SIMPLE RESON. P. 23

أن يقام على قاعدة «الإيمان بالإله» أو «إرادته المطلقة» كما هو الحال في الفلسفة اليونانية، ولكن تستتبع الأخلاق الدين كما يستتبع الأصل الفرع ، ذلك ان العقل الذي تنضبط به هذه الإرادة والذي يأمر بطاعة الواجب، يتطلع إلى تحقيق الجمع بين الفضيلة التي تصحب أداء الواجب، وبين السعادة التي لا تصحب بالصرورة الفضيلة.

ويعترض د. طه عبد الرحمن على هذا الطرح بأنه إنما أعاد صياغة الأخلاق الدينية بسلوكه طريقتين : طريق المبادلة وطريق المقايسة.

فتجد أنه استبدال مفاهيم معهودة في النظرية الأخلاقية الدينية بمفاهيم ومقولات أخرى غير معهودة؛ فعوض مفهوم الإيمان بمفهوم العقل، ومفهوم الإرادة الإلهية بمفهوم الإرادة الإنسانية، ومفهوم الإحسان المطلق للإله بمفهوم الحسن المطلق للإرادة، ومفهوم التنزيه بمفهوم التجريد، ومفهوم محبة الإله بمفهوم احترام القانون، ومفهوم التشريع الإلهي للغير بمفهوم التشريع الإنساني للذات، ومفهوم النعيم بمفهوم الخير الأسمى(1).

وتجد أنّه يقدر أحكام نظريته الأخلاق على مثال أحكام الأخلاق الدينية، فيقيس أحكام الدين المنزل على أخلاق الدين المجرد ، فإذا كان في الأولى اللإله هو مصدر التشريع فإنّ العقل في الثانية هو مصدر القوانين، وكما أن الإله في الأولى منزه عن العلل والمصالح الذاتية في وضع تشريعاته للبشر، كذلك العقل الخالص متجرد عن كل البواعث والأغراض في وضع شريعته الإنسانية(2)...

فيتحول بذلك في نظر طه عبد الرحمن الأصل إلى فرع، فبدلان من أن يكون الدين تابعاً للأخلاق في نظر كانط تجده يتحول إلى الأصل الذي تأسست عليه نظرية الأخلاق التي عرف بها.

ص: 192


1- سؤال الأخلاق (ص 39).
2- المصدر نفسه.
استقلال الأخلاق عن الدين

ذهب «دافيد هيوم» رائد دعوة فصل الأخلاق عن الدين واستقلالها عنه، إلى تأسيس نظريته في الأخلاق على مبدأ «لا وجوب من الوجود» التي فصلها في كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية»(1). إنّ الأحكام الدينية أحكام خبرية لا تعد أن تكون إخباراً عن المغيّبات، والأخلاق من طبيعة أخرى غير الخبر، فلا يصح استنتاج الأخلاق من أحكام الدين.

ويعدّ «هيوم» أن الأحكام الدينية غير صالحة لأن تؤسس الأحكام الأخلاقية سعيا منه إلى هدم كل الأنساق الأخلاقية في عصره (القرن 18م)، مدعياً أن الأخلاق مصدرها الوجدان الإنساني أو ما سماه الحدس الخلقي في الإنسان، أما الإرادة الإلهية والعقل فلا يمكن أن يكونا مصدراً لمعرفة الخير والشر.

ويعترض د. طه عبد الرحمن على هذا الطرح بأنّ حقيقة الدين أشبه بالمؤسسة منه بالنظرية، فهو مجموع أحكام ومعايير تحدد كيفيات العمل من أجل تلبية حاجات معينة، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يتضمن الدين إلى جانب الأقوال التي تخبر عن الموجودات، حسية كانت أو غيبية، أقوالاً وجوبية تحدد العلاقات بین هذه الموجودات جلبا للمنفعة ودفعا للمضرة، والأقوال الوجوبية التي تجلب النفع وتدفع الضرر لا تعدو أن تكون أقوالاً أخلاقية فيلزم أن يكون الدين أخلاقياً بقدر ما هو إخباري(2).

والاعتراض الثاني أنّ ما يسميه «هيوم» الحدس الخلقي لا يعد أن يكون الفطرة السليمة التي خلقها الله في الإنسان التي تنطبق عليها صفات التلقائية والجمالية والعملية، التي جاء الدين لصيانتها وإحيائها وإبرازها(3).

ص: 193


1- HUME. D: A treatise of human nature. Oxford. Clarendon Press.
2- سؤال الأخلاق (ص 44).
3- نفسه (ص 46).
نقد الخطاب الفلسفي المعاصر المؤسس للحوار الحضاري

قبل طرح البدائل الفكرية والفلسفية انكب الفيلسوف المفكر طه عبد الرحمن على قراءة ناقدة للمنظومة الأخلاقية التي تعد الخلفية النظرية والبراديغم الموجه للحوار العالمي المعاصر، التي رسمها «بالأخلاق الكلية» وأنتجت على المستوى النظري أخلاق الواجب مع «إيمانويل كانط»، وأخلاق المنفعة مع «جيريمي بنتهام» و«جون مل»(1). وأجمل قصور هذه الأخلاق عن توجيه الإنسانية وبناء مستقبلها وعدم تأهلها لتوصف بالعالمية إلى ثلاثة أسباب: أولا لأنها أخلاق عقلية نظرية مجردة تتنافى مع الفطرة الإنسانية وتناقضها في كثير من الأحيان وتتحول إلى مثالية غير مجربة. وثانيا، لأنّها أخلاق أحادية فردية ليست محل إجماع وتوافق، إذ لم يتبنّها غير الفيلسوف الذي نظر لها وأنتجها. وثالثًا: لأنها أخلاق علمانية تنبذ الدين وتتعالى عنه في زعم أصحابها، ما يجعل المجتمعات المتدينة ترفضها لأنها تناقض منظوماتها الأخلاقية الدينية.

لهذه الأسباب تكون الأخلاق المؤطرة للحوار العالمي غير ناجعة، ولا ينتظر منها أن تكون الأرضية التي تجمع الإنسانية، بل لهذه المواصفات تكون أخلاقاً تعسفية تلغي مكونات كبيرة في العالم ما يفسر اتجاهها إلى العنف والهيمنة والسيطرة والقوة.

أمّا الأخلاق العالمية التي يؤهلها د. طه لأن تقود الإنسانية وتوجهها فهي أخلاق عملية مجربة، ومصادرها متعددة تستوعب وتؤلّف، ذات توجه ديني يجمع ولا يفرق.

ما يؤهل المنظومة الأخلاقية للأمة الإسلامية لأن تكوّن أخلاقاً عالمية، لما ينطبق عليها من تلك المواصفات والخصائص لأن تقود العالم وتوجه أخلاقه، ويكون الحوار المتمثل لهذه الأخلاق والمتشرب لها والمعبر عنها الأداة التي تُبلّغ لتبلغ مداها وتصل الآفاق المقدّرة لها.

ص: 194


1- سؤال العمل (ص 111).
الحاجة إلى الحوار الأخلاقي العالمي

لقد انتهت المنظومة العالمية إلى أهمية الحوار ومركزيته في تحقيق التواصل والسلام بين الشعوب والأمم حول العالم، ما جعلها تنتهي إلى تنظيم مؤتمرات حوار الأديان، والحرص على الإعلانات العالمية لهذه المؤتمرات لتكون الإطار النظري والتطبيقي للمنظومة الأخلاقية العالمية، وتطرح نفسها بديلاً عن الأخلاق العلمانية التي تؤطر هذه المنظومة العالمية الأخلاقية المعاصرة. في أفق اقتراح حلول لأزمات أربع يعيشها العالم في عصرنا، أزمة اقتصادية تتفاقم وما فتئت تداعياتها تهدد العالم بانهيار للأخلاق والقيم، وأزمة بيئة لا مخرج منها إلا بتبني قيم وأخلاق موحدة، وأزمة سياسية تهدد العالم بمزيد من الدمار والاستغلال والاستبداد، وأزمة اجتماعية تهدد بانهيار البنيات الاجتماعية وفي مقدمها الأسرة ومكانة المرأة.

ويكتسي «الإعلان من أجل أخلاق عالمية» في منظور د. طه عبد الرحمن أهميته من جهتين؛ أولها زيادة وعي الديانات بأهمية الحوار والحاجة إليه. وثانيها أن الديانات ما تزال قادرة على قيادة العالم والتنظير لمستقبله في ضوء الأخلاق الدينية، واقتراح حلول ناجعة وفعالة للأزمات التي يعيشها(1).

يتأسس نقد الدكتور طه عبد الرحمن للإعلان العالمي الأخلاقي، وتوصيات مؤتمرات حوار الأديان على تساؤلين أساسيين، وهما يشكلان في نفس الوقت الهدفين اللذين يجب أن تحققهما هذه التجمعات التي يعد انعاقدها انتصاراً وشهوداً للأخلاقية الدينية، كما أن احترام شروطه ومعاييره تعد مؤشرات نجاحها أو فشلها، ومحدد فاصل في قدرتها على الدفاع عن منظومتها الأخلاقية وجعلها عالمية.

أما التساؤل الأول فمفاده هل هذا الإعلان يجعل الدين يتمكن في العالم؟،والثاني هل يحقق الإعلان للخُلقية التقدم في العالم؟

ص: 195


1- سؤال العمل ( ص 119،120).

ويخلص د. طه أن الإعلان العالمي أخل بالشرط الأول في التمكن للدين في مظاهر أربع: حذف التأسيس على الدين ومبادئه ومقاصده ومصادر معرفته. وحذف اسم «الإله»، وحذف الإيمان من سلم القيم الأخلاقية، وحذف العمل الديني الذي هو طريق اكتساب هذه القيم الأخلاقية، ومرقاة لتثبيتها وترسيخها في النفوس.

أما الإخلال بشرط التقدم الخُلقي فيتلخص في ثلاثة مظاهر: الأول يتجلى في أن الإعلان لا يقدر على تحقيق السلام العالمي، باعتباره قيمة إنسانية كبرى، إذ قصر الإعلان الحوار والسلام على أتباع الديانات وأقصى عدد من المكنونات وتناسى أن الدين أداة في أغلب الأحيان ينفعل ولا يفعل في الحياة العامة وتدبير المؤسسات، ولا سلام إلا باستيعاب كل الأطراف التي يشكل أتباع الديانات في العالم جزء منها.

أما المظهر الثاني من مظاهر الإخلال بالتقدم الخلقي اقتصار الإعلان على الحد الأدنى من الأخلاق، بتركيزه على الأخلاق والقيم المشتركة بين الأديان، فوقع في تناقض الحد الأدنى من الأخلاق الذي لا يصل إلى مستوى الحد الأنى في أقل دين من الديانات، مع أن المفترض الأخذ بأفضل الأخلاق من كل دين ومراعاة التفاضل والتفاوت الواقع بين الأديان، لتحقيق التقدم الخلقي حتى ترقى إلى مستوى الأخلاق العالمية.

أما المظهر الثالث فهو افتقاره إلى الركن الأساس في جميع الأديان وهو «الإيمان»، فغياب هذا الركن، وغلبة الطابع الحسي الذي يروم إرضاء غير المؤمنين، جعل الإعلان بعيداً عن التقدم الخلقي المنشود للحوار. فإنكار «ثقافة الإيمان»(1)بتعبير د. طه عبد الرحمن، تعطيل للروح التي تسمو بأخلاق الإنسان إلى أخلاق منزلة من عالم أخر فوقه، يجعل الإعلان لا يعدو أن يكون حساب مصالح.

ص: 196


1- سؤال العمل (ص 132)
التقدم الخُلقي أساساً للحوار الحضاري

التقدم الخُلقي المفقود في «الإعلان من أجل أخلاق عالمية»، جعله وغيره من الإعلانات، لا يرقى لأن يكون مرجعاً للأخلاق العالمية التي ينبني عليها الحوار الحضاري، ما جعل د. طه عبد الرحمن يضع أربعة معايير أساس فضلا عن القيم الإنسانية الكونية المأخوذة من الدين التي نص عليها الميثاق العالمي والمتمثلة في «التضامن» و «التسامح»، و «المسالمة»، و«المساواة». ذلك لأنّه افتقد إلى التنصيص على مصدرين للقيم الأخلاقية العالمية وهما «الإيمان» و«العمل».

والمعايير الأربعة(1)يجب أن تتوفر في دين واحد حتى يستوفي مقومات التقدم الخلقي العالمي، وفي مقدمتها: معيار الوعي بالصلة بين الدين والتخلق، ذلك بالربط بين العمل الديني والسلوك الخلقي، ما يعني أن زيادة العمل الديني والإقبال على أدائه بشروطه ينعكس أثره الإيجابي على الخلق والسلوك.

والمعيار الثاني المتمثل في الأخذ بالتوجيهات الأخلاقية الضرورية على الأقل الخمسة ولم ينص الإعلان إلا على أربعة منها. والمعيار الثالث الذي يمثله التوسع الأخلاقي حيث تشمل المعاملة الإنسانية جوانب مهمة من الممارسة الأخلاقية وتستوعب أكبر قدر من المعاملات الإنسانية وتدخلها في منظومتها الأخلاقية.

والمعيار الرابع المتمثل في التفاضل الأخلاقي، حيث تكون المنظومة الأخلاقية العالمية يمثلها الطور المتقدم من الأخلاق الإنسانية إذ هي تراكم كما تتراكم التجارب والمعارف الأنسانية، فإنّ طور الاكتمال لن يكون إلا مع الدين الخاتم. ما عبر عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وفي رواية «صالح الأخلاق»(2).

وقد أصل الدكتور طه عبد الرحمن لهذه المعايير في كتابه روح الدين، في

ص: 197


1- سؤال العمل ( ص 135)
2- أخرجه الأمام أحمد في المسند (513/14) وغيره وهو صحيح.

فصل العمل الديني وممارسة التشهيد، وميّز ودقق وأصل عدداً من القيم والأخلاق المشتركة في مقدمتها التسامح والتفاضل الديني وحرية الاعتقاد، التي تأسس للحوار ومنطلقاته النظرية.

وبتطبيق هذه المعايير على الدين الإسلامي يجد المتأمل أنّه الأكثر تمثيلا وشمولاً واستيعاباً لهذه المعايير، والدين الأتم والأكمل لقيادة وتوجيه الأخلاق العالمية، وذلك مصداق قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بمَا کنتم فيه تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] . إذ الدين الخاتم يوافق طور الاكتمال البشري على المستوى الخلقي والإيماني والعملي، ما يؤهله لأن يكون المرجعية والدعوة التي يقبلها العالم وتلبي حاجاته في المجالات المختلفة. ما يجعل الهيمنة بمفهومها الأخلاقي القرآني أساس ومرجعية الحوار الحضاري.

جدلية الحوار والاختلاف

خلق الله تعالى الكون على أسس وقوانين وسنن ثابتة بثها في ثنايا آيات الذكر الحكيم، وأصل هذه القواعد ترجع إلى حقيقة مفادها «وحدانية الخالق واختلاف المخلوق»، وينتج عن هذه الحقيقة المطردة أصلان جعلهما الدكتور طه عبد الرحمن مدار فكره والمرجعية النظرية في تصوره لقواعد الحوار وسننه.

أما الأصل الأول فهو التعدد لا الانفراد، إذ لا حوار إلا بين اثنين فأكثر، وهو ما يحيل على التنوع البشري، والتعدد الإنساني، ويجعل الحوار ضرورة وحاجة للحياة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(1)، ما يرقى بالحوار إلى مستوى الرسالة والأمانة وأساس الاستخلاف الذي جعله الله تعالى مهمة الإنسان في الأرض.

وأما الأصل الثاني فهو الاختلاف لا الاتفاق، وهو أحد القوانين السننية الكبرى

ص: 198


1- سورة الحجرات 13.

التي شيد الله تعالى عليها أساس هذا الكون، وعلّق عليها استمرار الإنسانية وتشييد حضاراتها، وجعلها شرط الاستقرار والأمن العالمي، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أَولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ(1)، وقد ذهب جلّ المفسرين للقول بأنّ الله تعالى إنما خلق الناس للاختلاف في مصائرهم وتوجهاتهم واختياراتهم وعقائدهم(2)، وأن الاختلاف أصل وسنة فطرت البشرية عليها.

وقد جمع الدكتور طه عبد الرحمن هذه الحقائق المؤسسة للمرجعية النظرية للحوار الحضاري في قاعدتين: «الأصل في الكلام الحوار»(3)، و«الأصل في الحوار الاختلاف(4)». وجعلها الأساس الفكري والفلسفي الذي يجب أن تقوم عليه ثقافة الحوار الحضاري بين الأفراد والجماعات.

أثبت الدكتور طه عبد الرحمن أن الحوار يقضي تعدد الذوات المتحاورة، وأن تعدد الذوات يعني اختلافها، والاختلاف مع التعدد أمر سنني مستمر في البشرية. ويعترض على هذه النتيجة بما يمكن أن يكون تمثلا وصورة ذهنية نمطية تذهب إلى أن التعدد لا يكون داخل الجماعة لأنها تعني الاتفاق واللُّحمة، والاختلاف يحيل إلى المنازعة والفرقة وهي تناقضات وتقابلات يصعب الجمع العقلي والواقعي بينها ؟

العلاقات الحضارية تنطبق عليها كل المواصفات السابقة، فالاعتراضات على الحوار التي قدمها د. طه عبد الرحمن هي التي أنتجت تصورات ونظريات الخلاف

ص: 199


1- سورة هود 118،119.
2- يرجع إلى اختلاف الأقوال وترجيح شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان (15/ 537).
3- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص 27).
4- المرجع نفسه (ص 28).

والتدافع في العلاقات الحضارية في تفسير ماضيها وواقعها، وتوقع واستشراف مستقبلها، كنظرية صراع الحضارات. ما أحال العالم إلى حلبة لاستعراض القوة والتسارع نحو السيطرة والهيمنة، ما أجج العنف في أنحاء العالم وزعزع الاستقرار والسلام.

والعالم المعاصر يتشوف إلى تنظير تنتج عنه ممارسة وقيم كونية تنقذه من دوامة العنف والعنف المضاد، والصراع للبقاء، وهاجس التنافس للسيطرة، وتعصمه من الكدر والضنك، وتضمن له الراحة والطمأنينة النفسية والاستقرار الاجتماعي، وفوق كل ذلك تملأ الفراغ الروحي الذي خلفه الفكر المادي.

الحوار النقدي

يقترح الدكتور طه عبد الرحمن ليتقبل العقل هذه الإشكالات والتعارضات الظاهرية السابقة، ما اصطلح عليه بالحوار النقدي، أو الحوار العقلي، أو الحوار الإقناعي، أو الحوار الاعتراضي. وهو حوار أصيل في الحضارة والفكر الإسلامي، لأن أصل قواعده مستمد من القرآن الكريم، فوسمه المسلمون ب- «المناظرة». وعرفه بالقول: «هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات أو - قل الاعتراضات - التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على الرأي - أو قل دعوى - الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما معًا »(1). ويكون بذلك الإطار النظري المستوعب للاختلاف في جميع أبعاده وتجلياته، سواء كان بين الجماعة الواحدة أو المجتمعات المختلفة، سواء كان دافعه مذهبيًا طائفيًا أو حضاريًا فكرانيًا.

الحوار النقدي في فكر الدكتور طه عبد الرحمن حوار حضاري، باعثه الأخلاق والقيم التي تجمع الإنسانية وتوحد وجهتها، وتقلص هوة الخلاف بينها، لأنّه ينبني على إيمان عميق بالاختلاف وقبول الآخر، لذا فقد جعله ينافي مزالق ثلاثة : العنف(2)والخلاف(3)والفرقة(4).

ص: 200


1- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص33).
2- نفسه (ص 33).
3- نفسه (ص 36).
4- نفسه (ص 35).

يهدف تأسيس قواعد الحوار على أرضية الحوار النقدي الإقناعي إلى ترسيخ القبول بالآخر المخالف، وتشجيع حرية الرأي المبني على أسس استدلالية مقنعة لا مجرد التشهي أو التقليد، وذلك باعتماد الإقناع بالحجة وصحة الاستدلال، والنظر في مناسبته للمجال والحقل المعرفي والموقف الحواري، وطبيعة المحاور، واعتماد الإذعان للصواب في حال ظهور الحق تفاديا لآفتي العنف المادي الجسدي واللفظي، والعنف الرمزي باللجوء إلى الحسم . وبذلك يكون الحوار الإقناعي أسمى مراتب الفكر والتواصل الحضاري.

ينطلق الحوار الحضاري من أرضية مشتركة ليجعل من مقاصده الحفاظ على المشترك الإنساني من المعارف التي تمثلها الوقائع المشتركة في التاريخ الإنساني، والقيم المشتركة التي توحد قناعات الأقوام، وتحفظ مصالحهم وتضبط أحوالهم، والأدلة المشتركة التي تسمح بتبادل الأفكار والتعبير عن القناعات واستمرار جسور الحوار وتفعيل قنواته.

الحوار الاختلافي بين الأمم والحضارات والأقوام، يدعو إلى الاجتهاد وتطوير الملكات والبحث عن حلول وإبداع طرق جديدة وملائمة للاستدلال، وأدوات الإقناع، ما يدفع إلى توليد الأفكار، ولأن الاختلاف بين الأقوام والحضارات المختلفة يكون أشد فإنّه ينشط الحركة الفكرية، فيكون أدعى إلى التفلسف بتعبير الدكتور طه عبد الرحمن(1).

عندما يصير الاختلاف قناعة ترسخ معها احترام الحرية والحفاظ على المشترك، وبنبذ آفات الحوار السابقة (العنف والخلاف والفرقة)، يعوض الحوار والتكامل منطق الهيمنة والسيطرة والقهر والسلطة، حيث يكون الحوار الإقناعي أداة للتكامل الإنساني بحيث يحرص كل قوم على حفظ المشترك القيمي والمعرفي والمصلحي، وتسعى كل أمة إلى الإسهام في هذا التكامل من منظورها الفلسفي في أفق ما وصفه د. طه عبد الرحمن «بالميثاق الفلسفي»(2)على غرار «الميثاق الاجتماعي» الذي

ص: 201


1- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص 47).
2- نفسه ص (47) .

يتنازل فيه كل طرف عن وعي وطواعية عن بعض حقوقه واحترام واجباته في سبيل حفظ مصالح الجماعة وتحقيقاً لتكاملها.

المفاهيم الإسلامية الموجهة للحوار الحضاري

إن تأثيل المفاهيم أحد مرتكزات القوة في الخطاب الفكري والفلسفي للدكتور طه عبد الرحمن فنقده للخطاب الفلسفي المعاصر ، والمفاهيم التي أنتجها التي لها حمولة فكرية، وأبعاد تطبيقية تتنافى في أغلب الأحيان مع مقاصد الدين الإسلامي الذي استدل على أنّه المؤهل لأن يمثل الأخلاق العالمية من بين الأديان العالمية، والتوجهات الفكرية المعاصرة، كما بينت في المبحث السابق.

فإنّ نظريته في الحوار تتأسس على مفاهيم أهمها مفهوم المؤاخاة الذي يعوض مفهوم المواطنة الذي أنشأته النظرية الليبرالية والنظرية الجماعانية، ويرتقي بها لتواجه تحديات عالم اليوم(1). والمؤاخاة في منظوره امتداد لمبدأين مبدأ الإخلاص الذي يهبها الإتصال، ومبدأ الأمة الذي يهبها الانفتاح.

مفهوم الإخلاص

الإخلاص يعطي المواطنة الاتصال بين الممارسة الواقعية والأصل الذي يستمد منه، فيرى أن حقوق الغير واجبات إلهية، ولهذا المفهوم بعدين يعدّهما د. طه ركنين أساسيين لتوسيع مفهوم المواطنة، أما الركن الأول فهو «دوام التجرد من أسباب الظلم» ، وأما الركن الثاني فهو «دوام التوجه إلى المتجلي بالحق»(2). فيجد أن تواصله وحواره وصلته بالآخر عبادة وله بها أجر أو وزر، فيحرص على حسن الصلة ومراعاة أمر الله فيها، وقد يتنازل عن بعض حقوقه ارتفاعاً بنفسه عن شرورها وأنانيتها. فهو دائم المراقبة لتصرفاته ما يمنح الغير الشعور بالطمأنينة والعدل.

ص: 202


1- روح الحداثة ( ص 230).
2- نفسه (ص -224 223).
مفهوم الأمة

إن مفهوم الأمة الذي يزيد على مفهوم المواطنة القدرة على الانفتاح والاستيعاب لأنها تتحقق بركنين آخرين هما: «التحقق بالماهية الأخلاقية»، و«تحصيل القدرة على إبداع الأخلاق»(1)، بحيث يصير ميزان التفاضل بين الناس التفاوت في تحصيل الأخلاق والتحقق بها وتمثلها، فتنقل الأمة من مرتبة الامتثال والخضوع للأوامر والنواهي، إلى مرتبة المعاني الجمالية في الامتثال الطوعي بالأخلاق، فتتحول القيم السلوكية إلى مقاصد معرفية في خدمة الإنسانية، ومنها إلى مرتبة إبداع الأخلاق والتفنن في تطبيقها على مجالات الحياة المختلفة. وتصير الموجهة للتصرفات الفردية والجماعية المتنوعة.

مفهوم المؤاخاة

مفهوم الإخلاص المتصل، ومفهوم الأمة المنفتحة، والأركان الأربعة التي تتأسس عليها هذه المفاهيم، التي بمجموعها تشكل مفهوم «المؤاخاة»، الذي يمنح الأمة الإسلامية القدرة على الانفتاح والقدرة على استيعاب التحولات ومواجهة التحديات العالمية، والمهيمنة التي غايتها نشر «أخلاق عالمية»، تستوعب الإنسانية وتحقق

سعادتها .

بهذه الأبعاد الإنسانية الكونية تتأسس ثقافة الحوار، فشتان بين الحوار الذي يحمل الخير للإنسانية، ويحرص على سعادتها الممتدة في الدنيا والآخرة، وبين حوار غايته رعاية مصالح مادية، وتوازنات إقليمية ودولية، وإرضاء الفئات المنتازعة والمفترقة. فهو لا يضمن أن تنحرف إلى المزالق الثلاث التي تنسف الحوار؛ العنف والخلاف والفرقة.

يؤصل د. طه عبد الرحمن ثقافة الحوار بين الشعوب والأمم والأقوام والطوائف والديانات المختلفة، على ثلاثة أسس وهي التي عدّها الأحداث الكبرى الفاصلة

ص: 203


1- نفسه (ص 227).

تاريخ الاكتمال الإنساني والتقدم الخُلقي البشري، أولها الميثاق الأول الذي قال فيه الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172]، حيث يخوّل تمثل أخلاق هذا الميثاق والالتزام بعهده ربط العقل بالشرع فيتحول من طور «التجريد» إلى طور «التسديد» . وثانيهما حدث شق الصدر الشريف للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم فيرتبط العقل بالقلب، وثالثها حدث تحويل القبلة الذي يخوّل العقل الارتباط بالحس(1).

التطبيقات الأربع للحوار الحضاري

التطبيق الأول:

اتخاذ الميثاق الأول والأخلاق الإنسانية المشتركة والخطاب الالهي الموحد للأمم والأقوام أرضية لجمع الإنسانية على خطاب وقيم وأخلاق مشتركة موحدة، ووجهة واحدة.

التطبيق الثاني:

الإنسان النموذج المتمثل في شخص النبي (ص) الذي اصطفاه ربه بین خلقه وطهر قلبه في مرحلة اكتمال البشرية ليكون القدوة والأسوة التي تصلح لمخاطبة العالم. ما يستوجب التعريف بأخلاقه وسيرته لتكون محور المشروع الأخلاقي العالمي.

التطبيق الثالث:

الإنسان المؤهل للحوار مع العالم ومخاطبته، هو الذي تمكن من الجمع بين العقل والشرع في فكره، وعقله مسدد بمقاصد الشريعة، والمتحقق بالأخلاق المطهرة من العوائق والعوالق. ولا يكون له ذلك إلا بأخلاق متجذرة صارت له سجية وطبعاً، مع صلاح الباطن وسلامة القلب .

ص: 204


1- سؤال الأخلاق (ص- 164 157).

التطبيق الرابع:

أخلاق القبلة عند فقدان الوجهة بتوحيد العالم وانتهاء الحدود، حيث تحتاج الإنسانية إلى توجه مادي يحولها إلى توجه معنوي أخلاقي، لأن التوجه إلى القبلة المادية يورث بالتبع تحصيل وتمثل الأخلاق المعنوية الموحدة للإنسانية، والملبية لحاجاتها الحسية فينقاد بذلك العقل ويصير تبعاً للحس.

المراجع والمصادر العربية

القرآن الكريم.

أسس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانويل كانط، دار النهضة العربية 1970م، بيروت لبنان.

جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الأملي، الطبري (ت 310ه)، تحقيق أحمد محمد شاكر نشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى سنة (1420 ه- / 2000م) .

الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثانية 2006م.

روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2006م.

سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2000م.

سؤال العمل، بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2012م.

مسند أحمد، لأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241 ه)، حققه: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، وآخرون تحت إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، نشرته مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى سنة (1421 ه- / 2001 م).

المراجع الأجنبية:

HUMANE .D: A treatise of human nature Oxford Clarendon Press.

KANT .E ; LA RELIGION DANS LES LIMITES DE LA SIMPLE RESON.

Librairie philosophique J. vrin Paris. 1968

HELM. P: Divine Commands and Morality Oxford University Press. Oxford

1981.

ص: 205

اخلاقية الحب دراسة في النظرية الاخلاقية

عند العلامة محمد حسين الطباطبائي

م.م. محمد عبد المهدي سلمان الحلو(1)

تعددت كتب ومؤلفات العلامة الطباطبائي في مختلف المجالات الفكرية والفلسفية والتفسيرية، ومع هذا التعدّد نجد انه خص نظريته الاخلاقية توزيعا بين ربوع سفره التفسيري (الميزان) والذي يبحر فيه الباحث طويلا لاكتناه نظريته الاخلاقية واستخلاصها من بقية النظريات الأخرى المرتبطة معها لتكوين (نسقا) ببنية عريضة الملامح، موحدة الهدف.

وهذا التعدد والغزارة في التاليف والتدوين النظرياتي جعلت كلمة اهل العلم تتفق على ان العلامة مغلق الفهم والتدبر من قبل الاخرين، بما يشكل صعوبة الولوج الى مبانيه المختلفة، وهي مزية وان مازالت موجودة لغزارة الإنتاج المعرفي وعمقه الفكري، لكن الدراسات الفكرية والبحوث المتعددة التي صدرت عن فكره وتراثه

اخذت تقلل هذا الرأي المتحفظ على صعوبة الولوج في فكره المنظم....(2)

ص: 206


1- طالب دكتوراة في قسم الفلسفة جامعة الكوفة ، يؤكد الباحث ان هذا العالم قد خص نظريته الاخلاقية توزيعا بين ربوع سفره التفسيري (الميزان) اذ يناقش طويلا مفردة الاخلاق بين نسبية الاخلاق او ثبوتيتها، اذ ينقد نسبية الاخلاق ويرفضها فالاخلاق لدية بمثابة الفن الباحث عن الملكات الانسانية، وتميز الفضائل منها من الرذائل، ليستكمل الإنسان بها سعادته العلمية، فيصدر منه من الافعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الانساني، المحرر.
2- محمد حسين الطباطبائي، رسالة التشيع في العالم المعاصر ، ترجمة وتقديم : علي جواد كسار، ج 2، ص 296. (من مقدمة المترجم).

ومن ضمن المشاريع الفكرية التي قدم لها العلامة رؤى واضحة، وافرغ لها مساحة كبيرة من بحثه التفسيري والفلسفي، مفردة الاخلاق، فالعلامة يناقش طويلا مفهومينسبية الاخلاق او ثبوتيتها، ووفق المنهج الذي يتبعه فهو يميل الى ثبوتية الاخلاق، بل ويتبناها، وينقد نسبية الاخلاق ويرفضها، مع بيانه لأهمية الاخلاق في البناء الاجتماعي، فهو يرى ان البناء الاجتماعي يمكن ان يُحدد من خلال الاخلاق المستعملة والكفيلة بصناعته.

تعريف الاخلاق:

الاخلاق: ((هي الفن الباحث عن الملكات الانسانية، المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والانسانية، وتميز الفضائل منها من الرذائل، ليستكمل الإنسان بها سعادته العلمية، فيصدر منه من الافعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الانساني))(1).

وعند استعراض النظرية الاخلاقية بمسالكها المختلفة، وفقا لمنهج تحليلي نجد انطباق التعريف الذي قدمه العلامة على المسلكين الاول والثاني كونهما ذوي بعد اجتماعي، ويفترق فيه عن المسلك الثالث لكونه ذا بعد فردي يتعلق بمفهوم الحب الالهي.

ومن هنا يعرض العلامة الى ثلاثة رؤى، يجمعها كنظريات متفارقة في الاخلاق، لكل رؤية منها مسلك محدد وبناء مختلف، يعتمد العلامة على الثالث منها، ويجعل منه محورا نقديا للأول والثاني على حد سواء، فكيف فصل العلامة النظريات الاخلاقية ؟

النظريات الاخلاقية:
اشارة

يحدد العلامة النظريات الاخلاقية بثلاث نظريات يميز فيها بين اخلاق الدفع، واخلاق الرفع (اخلاق الحب).

ص: 207


1- محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 1، ص 371.
النظرية الاولى: المسلك الاول:

الغاية من هذا المسلك غاية دنيوية، تقوم على الافعال التي يقوم بها الإنسان لجلب الحمد المجتمعي، ينال بها المواظب عليها، والفاعل لها، صفات المدح مثل العادل، والعلم، والعفة بحالتها الوسطية، وهي ما عبرت عنه بتعبير واضح كل الفلسفات الفكرية وخاصة اليونانية منها، فالإنسان في هذا المسلك يحارص على كسب الفضائل - الوسط - لغايات معينة، ولتقريب الصورة يستخدم العلامة مثال الجبن وكيفية التخلي عنه وذلك من خلال ركوب المصاعب بما يزيل رذيلة قائمة تعويضا لفضيلة مرتقبة، ويقوم المسلك على عدة من اقوال المدح المستخدم التي تقوي هذا الاتجاه مثل الجهل عمى، والعلم بصر، او ان العدالة راحة للنفس عن ما يؤذيها من الهم وهي راحة بعد الموت.......

وان هذا المنهج السائد في الثقافات الفلسفية، خاصة اليونانية منها، رغم شيوعه، لكن القرآن لم يؤكد عليه ولم يقويه، كما يوضح العلامة ذلك، فلم يقم المنهج القرآني على غايات مدحية ولغرض مجتمعي دنيوي، وإنما قام القرآن وقوم اخلاقا تقوم على غايات اخروية بديلا عنها(1).

فهنا اصول اخلاقية اربعة عفة شجاعة، حكمة، وعدالة، لكل منها وسط معلوم، توزع بين القوى النفسية الثلاثة، شهوية وغضبية وعاقلة، ومراعاة الوسط بصفة مجتمعة بين هذه القوى الثلاث، يكون الوسط الرابع (العدالة).

فالعفة وسط رفيع بين تفريط وافراط ، يمثل وسط عدلي في القوة الشهوية، وبين التفريط والافراط ، وقوة العفة - الوسط - مزيدا من القوى صعودا نحو الوسط ونزولا منه، بين الخمود والشره، تظهر في افعال النفس من حيث اللبس والاكل والشرب.

والشجاعة، وسط قائم بين افراط وتفريط ايضا في قوة النفس الغضبية، التي بين طرفيها ومركزها مجموعة قوى تحدد حسب قربها او بعدها من المركز، بين تهور

ص: 208


1- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص 356.

وجبن، وتبقى وسط الحكمة وسطا للقوة العاقلة تتوسط الافراط (الجربزة) والتفريط (البلادة)، فيكون الباعث لهذه الاخلاق هو قوى النفس، واجتماع الوسط بتمامه يعطي صفة العدالة(1).

ويؤكد العلامة ان حالة الوسط المتقدمة او صفة العدالة لا تحصل في نفس الإنسان الا من خلال تربية الإنسان نفسه على هذه الفضائل قولا وعملا، وهنا ربط واضح ان النظرية الاخلاقية المتقدمة لا الا من خلال معرفتها قولا، ومن ثم تطبيقها عملا حتى تصبح ملكة، يحصل عليها الإنسان من خلال التأمل والتدبر ثم المران عليها ومزاولتها كيما ترسخ في النفس، والغاية هنا اصلاح النفس بتعديل الملكات لكسب الحمد والثناء الجميل(2).

النظرية الثانية (المسلك الثاني):

وان كانت الاخلاق في هذا المسلك لا تقود الا لما يستحسنه الفرد ويدفع به ما يجلب له الذم، على ان يكون المدح والذم له مقبولية مجتمعية حاكمة عليه بالرضا والقبول او بالرفض والصد، وهو ما لم يرتضه العلامة كما يتضح لأنه بهذا الرأي يجعل الرؤية الاخلاقية لا تقوم على اسس واصول ثابته، وانما تقوم على رؤى فكرية نسبية تختلف باختلاف المجتمعات وقبولها او رفضها لهذه السلوكيات مع اهمية قيام البناء الاجتماعي على اصول اخلاقية تحدد هويته، وهي الاخلاق التي تقوم على اصول غائية اخروية وليس اجتماعية دنيوية، ومن هنا يستخدم العلامة مفاهيم قرآنية لبيان هذه الاخلاق تتعلق بالشراء، وايفاء الصابر، والنور والظلمات، اخراج من ظلمات وادخال في نور، واخراج من نور وادخال في الظلمات على وفق الاستجابة لمصدر الهدي القرآن الكريم والرغبة في او الرغبة عن الثواب الاخروي الموعود، وهذه المسلك او النظرية يرجعها العلامة الى ما ورد في القرآن الكريم والاديان السماوية الأخرى، دون ان يرد في الفلسفات الانسانية والبشرية وان حصل

ص: 209


1- الميزان، مصدر سابق، ج 1، ص 371.
2- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص354.

اشتراك بينهما كونهما يدعوان الى غاية معينة ويهديان الى سلوكيات محبذة تعتمد على المران والقبول والممارسة.

والعلامة يقسم هذا المسلك من الاخلاق الى صنفين، الصنف الاول ما يتضح فيه الجزاء الاخروي، وصنف ثاني يتعلق بنفس الجزاء الاخروي وارتباط هذا الجزاء بالقضاء والقدر المبرم، وبما يوجب الانصياع والتسليم لهذا القضاء المبرم وفق وجهة واضحة، كون القضاء والقدر انما يمثل امر الله تعالى وان ما كتبه تعالى على الإنسان سيصيبه، ولا يفهم من مقالة العلامة هذه قوله بالجبر وعدم الاختيار بالنسبة الى اعمال الإنسان، بقدر ما يفهم منه الغاية الاخروية في التخلق بأخلاق ضامنها، التخلق بكمالات حقيقية غير ظنية، تعتمد في اصلاحها على الحقائق المرتكزة على القضاء والقدر والتخلق بأخلاق الله تعالى واسماءه وصفاته(1).

وكيما يبعد مسألة الجبر ، يستعرض العلامة هذه الوجهة، فيبين ان القول بالقضاء والقدر انما يبطل الخيارات والاختيارية الدنيوية ومن ثم لا تبقى قيمة واضحة للقول بالثوابت الاخلاقية، او الفضيلة الاخلاقية ! وهذا يقود الى الابتعاد عن السعي في الحصول على الامور الدنيوية، ومن ضمنها المكاسب الاخلاقية، ما زالت هذه الامور تنسب في تحقيقها الى قدر مبرم وقضاء محتوم .

فالعلامة لا يسند فعل الإنسان الى نفسه - الى ذات الإنسان - باختياره المحض من دون ان يكون (الفعل) واقعا كسبب من الاسباب المختلفة، التي تعد بأعداد كبيرة وحافلة (بالآلاف) لصدور الفعل، كفعل الشبع مثلا، فهو لا يتحقق بإرادة محضة من دون ان يكون سببه وباعثه هو الجوع ، ثم تحقيق فعل الاكل، وتوفر المادة الغذائية، وعدم اعتلال الجسم من نوع الطعام المرغوب، وعدم اعتلال الجسم ذاته، وقدرة الإنسان على المضغ، وتوفر الوقت الكافي واللازم لاتمام الطعام، ووجود الطاهي، ولوازم الطبخ، وتوفر ما يلزم للشراء..... وهكذا كثير من الاسباب المترتبة، التي من ضمنها شعور الإنسان بالجوع ، ورغبته في تناول هذه الاطعمة لتحقيق فريضة الاشباع

ص: 210


1- الميزان، مصدر سابق، ج1. ص 361.

من خلال فعل الاكل، فإن الله تعالى قضى على الإنسان كي يشبع، وبقدر سابق، لابد له من أن يأكل، وبذلك يحقق أما سعادته وأما شقاؤه، فلا يمكن ان ينسب له الاختيار كسبب محض وعلة تامة، وان حدث فهذا تصور الجاهل الذي ينسب فعله إليه بعيدا عن الاسباب الظاهرة والخفية: ((على ان نفس اختيار الإنسان يستند الى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان، فالاختيار لا يكون بالاختيار))(1).

وهذا المسلك يختلف كثيرا عن السابق كونه مسلك وارد في القرآن الكريم وشكل محورا لتعاليم الانبياء عليهم السلام، فغايته ليس الحمد والثناء وانما الحصول على السعادة الحقيقية التي دعت لها الشرائع السماوية والكتب المنزلة والرسل الالهية، وان اشترك المسلكان بينهما في غاية قصوى وهي الفضيلة الانسانية الحاصلة عن نفسة طريق العمل، يعبر عنهما العلامة بانهما (اخلاق دفع)، يدفع بهما الإنسان عن اللوم والمضار، ليجلب المحامد والثناء، لكنهما يفترقان ايضا، من ناحية ايصال الإنسان الى الكمال والسعادة الحقيقة، باختلاف المنهج والغاية، ففرق واضح بين: ((قول يدعو الى حق نازل وكمال متوسط ، وقول يدعو الى محض الحق واقصى الكمال))(2).

وينشأ الاختلاف من نوع المعارف المكتسبة التي يحملها المتعلم والمتربي، فقرق بين نهج انساني، يقوم تعليمه على ارث حضاري انساني، وبين نهج يكون ارثه تعاليم الانبياء وما تنزل من كتب سماوية.....

النظرية الثالثة (المسلك الثالث):

وبنفس الفارق الذي يضمنه العلامة للتفرقة بين المسلك الاولى والثاني، من حيث اصابة الكمال ،والحقيقة يمكن استخدامه في الاختلاف بين اخلاق الدفع كما تقدم وبين اخلاق الرفع التي يثريها المسلك الثالث، وهي اخلاق لم ترد في فلسفة ورأي الحكماء، فلم ترد في الكتب السماوية السابقة على القرآن الكريم، انها انما

ص: 211


1- المصدر السابق، ج1، ص 358.
2- الميزان، مصدر سابق، ج 1، ص 361.

وردت في القرآن الكريم حقا، ومثلت بحالة الحب بين الخالق والمخلوق، تجسدت من خلالها العبودية بأوجها، ايمانا ان القوة والعزة لله تعالى، وان كل ما في الكون انما يعود إليه، ويلتمس العزم منه.

وتربية الإنسان هنا تعتمد على رفع الرذيلة لا دفعها كما في المسلك الاول والثاني، على وفق علوم ومعارف تخلصه من هذه الرذائل وصفا وعلما، والمطلوب في هذه الاخلاق هو وجهه تعالى وليس الرضا والقبول المجتمعي، وليس ايضا استحصال القبول في الاخرة، والمدار هو ان العزة لله والقوة لله تعالى بحيث لا يبقى وراء هذه القوة والعزة ما يخشى الإنسان منه او يرتجيه، وهو المالك التي لا تجري كل الاشياء باستقلالية عنه ، له كل ما في السموات، وكل ما في الارض، وكلها تحت قبضته، لا اله الا هو، والاسماء الحسنى له سبحانه، وهو مسلك مبني على التوحيد الخالص، لا شيء غيره : (( وقد اهدى هذا المسلك الى الاجتماع الانساني جما غفيرا من العباد الصالحين والعلماء الربانيين والاولياء المقربين رجالا ونساء، وكفى بذلك شرفا للدين))(1).

ومن النص المتقدم يتضح ان التعريف المتقدم الذي قدمه العلامة للأخلاق لا يشمل المسك الثالث (اخلاق الرفع) ، وانما يشمل المسلكان الأول الثاني (اخلاق الدفع)، لاعتبار ان الدفع الغاية منه غاية واضحة، اما قبول مجتمعي، او جزاء اخروي،وهو هدف وغاية المجموع ، في حين ان اخلاق الرفع ليس غايتها بناء المجتمع بقدر ما كانت غايتها تحقيق غاية فردية، العبودية لله تعالى العلاقة القائمة بين العبد والرب بما يحقق العبودية التي هي غاية يصبو اليها الإنسان : ((فإن بناءه على الحب العبودي، وايثار جانب الرب على جانب العبد، ومن المعلوم ان الحب والوله التيم ربما يدل الإنسان المحب على امور لا يستصوبه العقل الاجتماعي او الفهم العام العادي، الذي هو اساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل احكام و للحب احكام))(2).

ص: 212


1- الميزان، مصدر سابق، ج 1.ص 360.
2- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص 361.

ماهية هذا الحب تزيد العلاقة به تعالى قربا وانجذابا وتزيد تفكر العبد بربه، وبأسمائه الحسنى، وصفاته المنزه له عن النقص والعيب، ويزداد انجذاب الإنسان الى الله تعالى، وتزداد مراقبته له تعالى، كأنه يراه، والله تعالى يراه، فتصر العبادة حبا لله تعالى ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لَلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴿165﴾)) [البقرة 165] ، والمحب يتبع حبيبه، ويحب آثاره، والرسول صلى الله عليه واله، من تلك الآثار، فيطيع الرسول صلى الله عليه واله، طاعة لله تعالى وحبا له، ويتبع آثاره.

ويصف العلامة هذا الحب بانه خالص لوجه الله تعالى، لا يقف عند شيء كله جمال وحسن، يرجعه الى حسن وجمال وبهاء الله تعالى، فكل آيات الوجود، والآيات الانفسية، تعبر عن جماله وتحكي عنه، حتى يستولي هذا الحب سلطانا على قلب صاحبه، ويؤثر هذا الحب على ايمان الإنسان وادراكه، فلا يرى شيئا الا ويرى

الله تعالى قبله وبعده، ويختلف ادراكه عن ادراك الناس، فتسقط عنه الحواجز وتبقى قائمة بين الله تعالى وبين الناس دونه، ويكون غاية الحبيب هو الله سبحانه، ولا يزال يستولي، فينقطع عن النظر الى آيات الله، وينقطع عن حب كل شيء غيره، فلا يحب: ((شيئا الا الله سبحانه، وفي الله سبحانه))(1).

ولا يفعل العبد المحب من فعل، ولا يترك من ترك، بينه وبين الناس الا وكان بينه وبين الله ما يحدد هذا الفعل، فيترك كل رذيلة انسانية، ويترك الحمد والالتفات الى الدنيا او الاخرة، والتفكير بجنة او نار:((ويكون همه ربه، وزاده عبودیته ودليله حبه))(2).

ص: 213


1- الميزان، مصدر سابق، ج 1، ص 374.
2- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص 374.
الاخلاق والتوحيد:

للتوحيد بوصفه فكرةً قائمة اهمية كبيرة في قيام الاخلاق وتقويمها، فان الغاية الاساسية من الاخلاق هو وصول الإنسان الى السعادة، وقيادة المجتمع الى هذه الغاية المنشودة، وهذا التوحيد يعتمد على فكرة اساسية، الايمان بان للعالم خالقا وهو الله

تعالى، الها واحدا ، سرمديا لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، ولا يغلب في القدرة، خالق الاشياء بأحسن نظام، يؤمن به الإنسان، وينصاع إليه، ويعلم انه راجع إليه تعالى، اما محاسب، واما مثاب، ويتجلى عنصر الحب واضحا هنا، اذ يرى العلامة ان الاخلاق المعتمدة على هذه العقيدة، والمتوج بمراقبة الإنسان لله، على وفق الحب المفروض بالجذب، يكون الحب رادعا للإنسان عن ارتكاب محارم المحبوب واجتناب نواهيه، فلا يبق غاية للإنسان الا رضاه، بعيدا عن التمتع بالدنيا والتلذذ بلذائذها، بل لا يفكر حتى في نفسه، وينعكس هذا الايمان التزاما بقوانين دائرة في المجتمع تحفظ نظامه، وتبقي وجوده، وبذلك يستوجب الحمد ويدخل اسما لامعا في صفحات التاريخ(1).

فالعلاقة بين التوحيد والاخلاق، من اهم ما يشاهد في الدين الاسلامي، ارتباط جميع اجزائه، ارتباطا يؤدي الى الوحدة التامة بينهما، بمعنى ان روح التوحيد سارية في الاخلاق الكريمة التي يندب اليها هذا الدين، وروح الاخلاق منتشرة في الاعمال التي يكلف بها افراد المجتمع، فالجميع من اجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل الى التوحيد، والتوحيد بالتركيب يصير هو الاخلاق والاعمال، فلو نزل لكان هي، ولو صعدت لكانت هو، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل يرفعه....

- والمحافظة على الاخلاق تحفظ للامة قوتها وهيبتها، ومن هنا تظهر الاخلاق ليس على المستوى الفردي، وانما تتعلق بالمستوى الاجتماعي، فالأخلاق صور محفوظة في اذهان الافراد والجماعات، تتعلق بالإرادة حين تنفيذها، فان ابتعدت الارادة عن التنفيذ لم يكن لهذا القانون اهمية تذكر، وبقي مجرد صورة سواء على مستوى الفرد او مستوى المجتمع، فالأمة تفقد قدرتها وسيطرتها ان تخلت عن

ص: 214


1- الميزان، مصدر سابق، ج8، ص 157..

الاخلاق العالية، وان القانون الذي يكون بحسب الوضع لا يمكن ان يحفظ للامة قوتها، كونه مجرد صورة تتلاشى عند الحدود الخارجية ع سيطرته وقدرته، وبذلك لا بد من ان يكون القانون قائما على اساس قويم من الاخلاق العالية وليس على اساس المصلحة التابعة للأكثرية، فالإسلام لم يُبنَ الا على اساس نظام اخلاقي قويم، بتداخل القانون الاخلاقي مع التربية، ويعود هذا التداخل الى تداخل الدين ذاته مع الإنسان في سره وجهره، وعلى الإنسان ان يؤدي الوظائف المناطة به بأفضل سبيل التقاء من ذاته نفسه، ومن دون ان يكون هناك رقيبا يعتمد عليه(1).

نقد نسبية الاخلاق:

وينقد العلامة ما تقوم به الدول الاخرى من حصّ على القوانين ذات الجوانب الاخلاقية، وان هذا الحصّ لا طائل منه كما يرى العلامة، وذلك يعود الى سببين رئیسین:

أولاً: لان السياسة الاجتماعية المتبعة في هذه الدول، انما تقوم على اساس التناقض والتضاد، وذلك من خلال شعارها: الحرية التامة، فجعلت امتلاك السلطة والنفوذ والمال بيد بعض وحرمت بعضا آخر، مما جعلت تناقضا وتضادا لشعار الحرية المرفوع، انعكس على العلاقات الدولية والمجتمعية بين المجتمعات، فأخذت المجتمعات الكبيرة القوية تسترق وتستبعد لمجتمعات الصغيرة والضعيفة، وتتوسع في حكمها ما استطاعت، والسيطرة والتوسع ما هي الا تناقضات لشعار الحرية والاصلاح والتقوى المرفوع من قبل الامم المستعمرة.

وان كانت هذه الامم تحاول جاهدة ان تجعل من الاخلاق رابطا قانونيا، فتفرضه بضمانة القانون من خلال ما تحوطه من مضامين ذات مفاهيم قانونية اخلاقية، ترتب عليها احكام جزاء، ومهما كات شدة الاحكام فالعلامة يرى انها لا تسد بابا للخلاف القائم في المجتمع، ولا تغني عن طريق تخلف، ولا تقطع دابر الظلم والفساد،

ص: 215


1- الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 110.

احكام لا تسري جادة في المجتمع الغربي، فطريق التخلص من الرذائل لا يكون الا باتباع الحق والاخلاق الفاضلة التي تحترم قيم الانسانية من العدل والكرامة والرحمة ونشرها والعمل عليها، وهي بحد ذاتها انعكاس واضح لاخلاق الحب بمفهومها المطلق، وليس بمفهومها وبعدها الاخروي.

ويستعرض العلامة الاخلاق المتبعة بالغرب، ويكشف زيف نظريات العدل والنظام البادي في مفاصل حياتها، بتعريتها من فكرة ضامنة لها، وان كانت فكرة القانون، فالقانون عند الغرب لا يقوم على فكرة اخلاقية، وانما على اساس الفائدة الاجتماعية، التي تقوم على ان فائدة الامم هي المرجوة والمقبولة من دون فائدة الفرد، وان هذه العلاقة انعكست بكل جذورها ليس على علاقة الدولة مع الفرد حصرا، وانما شملت و بتوسع لعلاقة الامم الكبيرة المستعمرة القوية من سيطرة واسترقاق للامم المستضعفة، فتحولت عملية القانون والدعوة الى الحريات والديمقراطية الى حملة جبارة تستهدف السيطرة على الامم فهجرت الالفاظ معانيها وتحولت الى اضداد، واستبدلت الحرية والعدالة والفضيلة الى الرق والظلم والرذيلة، فالسنن والقوانين لا تغادر الضياع والاستهلاك والقيمة الا اذا كان لها عماد توحيدي(1).

-والاخلاق لا يمكن ان تحفظ الا من خلال اعمال صالحة ومعارف حقة تساندها وتحفظها، ويكون شرطها التقوى في القول والعمل وفي التفكر والتذكر والتعقل، والمقارنة بين العلم والعلم هي ما يزيل الرذائل الاخلاقية ويستبدلها بالفضائل الاخلاقية(2).

ثانيا : فكرة الضامن والرادع التي يحصرها العلامة بين (التوحيد - المعاد - العدل)، فلا بد من أن يكون هذا ضامنا لهذه الفكرة الاخلاقية وهو الله تعالى، الذي يمثل كل اسم من اسماءه منبعا خلقيا للعديد من الفضائل، ومن زاوية أخرى ما يمثل هذه الاسماء من جانب العدل والمجازاة، فيجزي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه،

ص: 216


1- الميزان، ج 11 ص 156.
2- الميزان، ج 5، ص 269-270.

وتكون بذلك رادعا للنفس الانسانية التي لا تحب ولا ترغب الا فيما يحقق رغباتها ومشتهياتها، من دون النظر الى مصلحة ومنفعة الخير ، فلو لم يكن للإنسان رادع او مكافئ لا يستمر في اقتراف الخطايا مهما عظمت، ولهذا يرفض العلامة ان تكون بعض المقولات المنتشرة في اوساط المعمورة بحد ذاتها رادعا للعمل المسيء، وان كات تبذل جهودا كبيرة من التربية والتعليم في سبيل تنميتها مثل (التعلق وحب الوطن)، وما هي الا عواطف قلبية ونزعات باطنية على حد ما يؤكده العلامة.

وتعتمد على فكرة ضامنة (التربية والتعليم) وهي فكرة بحد ذاتها يمكن ان تزول وتتقهقر للأسباب نفسية ذاتية تتبع اللذة الفردية او الجماعية من دون ان يكون لها رادعا اخلاقيا معينا، فالإنسان كما يرى العلامة، لا يقدم على حرمان الا اذا كان هناك رادع يردعه عنه، أو يجزيه على فعل معين من دون ان يكافئ على ذلك بإحسان ظاهر وعاجل، وهنا تظهر فكرة التوحيد جلية عند العلامة في الحفاظ على الاخلاق العالية التي هي جزء من النظام الاسلامي عن طريق طاعة الله سبحانه، والرضوخ إليه، وفقا لاخلاق التي جاء بها الدين الاسلامي، التي سيكافئ الإنسان على العمل بها يوم المعاد بغض النظر عن المدح الفوري الذي يمكن ان يحصله الإنسان جراء عمله للخير او تركه للشر، فالضامن عند العلامة هو (فكرة التوحيد - العدل) فكرة لا تقبل التغيير والابطال وان تركها الإنسان عمدا، فهي باقية وليس على اساس فكرة (حب الوطن) القائمة على تعاليم تربوية سرعان ما تزول....(1).

فهنا منطقان، يشير لهما العلامة، الاول منطق الاحساس الذي يدعو الى النفع الدنيوي، فكلما احس الإنسان نفع احسن وارقى التجأ إليه، وتودد إليه، اما اذا لم يحس بالنفع الافضل، فهو خامد وهامد وهذا ما يرجعه إلى سبب اول.

اما المنطق الآخر فهو منطق التعقل الذي لا يدفع الا الى اتباع الحق ((قُل هَل تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحدَى الحُسنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِن عنده أو بأيدينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُتَرَبَّصُونَ ﴿52﴾))[التوبة / 52] التي تبين ان الغاية من

(1) - .

ص: 217


1- الميزان، ج 4، ص 112-110 .

الجهاد كمثل هو ليس لنيل الحسنيين، نصر او شهادة، بقدر ما ان الغاية هو ما يريده الله سبحانه لنا، فهم لا يريدون او يبحثون عن خير او شر وانما غايتهم وجه الله (غاية الحب)، الطاعة المفترضة له سبحانه بغير مقابل(1)، ومن الجدير بالذكر ان منطق التعقل الذي اكده العلامة يعود الى المسلك الثالث من الاخلاق وينطبق عليه.

ويتابع العلامة لبيان ان التوحيد هو المصدر الاساسي الذي يجب ان يكون الفكرة الضامنة للأخلاق، استنادا الى ما اودعه الله تعالى من فطرة في قلب الإنسان ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّين حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿30﴾ [الروم / 30]، وكما أن الإنسان يسلك وعلى وفق الارادة اتباع الاسباب الواقعية التكوينية ، وهي اسباب تسوقها له الحاجة، فيبني الإنسان ما يبتغيه ويسوقه إليه على وفق هذه الاسباب الطبيعية، وان هذا السعي الفطري نحو نظام الاسباب هو ما يريده الإنسان، وما يؤيده الاسلام ايضا، إذ إن مسبب هذه الاسباب هو المسبب الاول، الموجد لهذه الاسباب، فهو تعالى السبب التام فوق كل سبب، وغاية السببية الاعتقاد به سبحانه وبتوحيده، فكان الواجب على الإنسان اتباعه والخضوع له، وبهذا يكون التوحيد الاساس الوحيد الضامن للأخلاق في النظام الاسلامي(2).

فالتوحيد عبارة عن مجموعة من المعارف الالهية التي تخص السبيل القيم الدنيا والاخرة، وهو ما يساعد على طهارة القلب وابتعادها عن كل رذيلة، ويجعل من اسباب تمامية الاخلاق الحياة الاجتماعية الخاضعة لما تقتضيه الربوبية الالهية(3)،وتمامية الاخلاق محورا لسعادة الإنسان روحا وبدنا، التي لا تتحصل الا بالرفض المادي والالتزام بالقيم الاخلاقية الالهية، وتنطوي على سعادة خالصة تتحقق الدراين، الدنيا والاخرة، والسعادة في نظر الاسلام تختلف عن السعادة في نظر الغرب، فسعادة الغرب القائمة على الامور المادية لا يعدها الاسلام سعادة، وهنا

ص: 218


1- الميزان، ج 4، ص 113.
2- الميزان، ج4، ص 115.
3- الميزان، ج 4، ص 109.

يعترف العلامة بواقع الامة المرير والمريض بغياب معنى السعادة مفهوما ومصداقا عن ما جاء به القرآن الكريم، وسبب ذلك اختلال النظم التربوية والفهم للمعايير والضوابط الاسلامية بشكلها الأصيل في عالم اليوم(1).

فالدعامة الأخلاقية التي وضعها العلامة تقوم على ثلاث دعامات اساسية ومنعطفات مهمة، واساسية تشير الى ما يعبر عنها العلامة بالوظيفة، فوظيفة يقوم بها الإنسان ازاء ربه (الحب) ويعبر عنها بالعبودية، ووظيفة يقوم بها اتجاه نفسه وتليبة حاجياته الواقعية وكيفية تلبية هذه الحاجات، ووظيفة تجاه المجتمع وما تمليه مواقفه الايمانية والتزاماته الدينية تجاه ابناء جلدته، وبعطاء كل وظيفة حقها المعهود تحت مفهوم الحب، يصل الإنسان الى السعادة المبتغاة، والسعادة الهدف.

وعندما يجعل العلامة من النظام الاخلاقي ثاني ثلاثة في بوتقة الدين، فليس الاخلاق فرع مستقل بحد ذاته، بل لا بد من ان يكون له كمالا وتواشجا مع فرعيه الاخرين العقائد والفقه (الاحكام العملية)، الايمان بالعقائد والاتباع للمنهج الاخلاقي وتنفيذ احكام الفقه، هو ما يقود الإنسان الى السعادة، وبذلك تكون الاخلاق واقعة من ضمن ثالوث تظهر به قوة الربط بين الدين والاخلاق من خلال ما يدعو إليه الدين باتباع الاحسن، واتخاذ الصفات الانبل المكونة للأخلاق الجميلة والصفات المحمودة، ومن هذه الصفات طلب العم وتحصيل الادب(2).

فما جاء به الاسلام والدين من الاهتمام بالاجتماع لأهميته في تربية اخلاق الفرد والمجتمع ، وان هذا الاهتمام الذي اكد عليه القرآن والدراسة التي قدمها له، لا يجد لها العلامة مثيلا في كل التواريخ والاديان السابقة، لأهميتها الاخلاق ودورها كما مر في بناء النسيج الاجتماعي المنعكس على اخلاق الفرد وتركيبه الاجتماعي(3)، فاتباع اخلاق القرآن وطاعته في احكامه والعلم بها تشكل الايمان الكامل، الذي يكسب

ص: 219


1- الميزان، ج4، ص 108.
2- محمد حسين الطباطبائي، الاسلام الميسر، ص 20-22.
3- الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 97.

الإنسان (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وهي من تمامية الحب(1)، واختلافها الواضح عن الاخلاق التي تدعي اليها الامم والاخلاق المصلحية النفعية الفردية التي تقوم وفقا للطبيعة الانسانية الغريزية غير المهذبة الا على اساس البقاء للأقوى: والانتخاب الطبيعي(2).

وبذلك الفعل الاخلاقي القائم على الحب فعلا اختياريا، فهو يفرق بين الفعل الاخلاقي الاختياري من الناحية العقلية، والذي يقوم من الناحية الوصف له بالحسن او القبح، وما يستتبع ذلك من مدح او ذم، او ثواب او عقاب، ويجعل العلامة من هذه القضية قضية عقلية محضة لا يمكن انكارها من قبل عاقل، وهذا الرأي جاء ردا على حتمية الشقاء والسعادة الواردة في بعض الاحاديث المنسوبة الى اهل البيت عليهم السلام، من ان الشقي او السعيد من شقي او سعد في بطن امه !! وهي تربط بين بين السعادة والشقاوة ربطا بين النشأة والممات لا يمكن ان تتجزأ، وجاء الرفض من ناحية مناقشة العلامة لسند الرواية اولا، ومن ثم الضابطة التي وضحها جلية لنا من ارتباط السعادة والشقاء بافعال الإنسان الاختيارية وهو مما لا شك ولا ريب فيه(3)، فالسعادة كغاية والشقاء كنتيجة، هو الارتباط بين ما يناسب الروح من الاعمال والصفات التي يصل اليها خلال عمله وتفكيره ومجاهدته، معتمدا بذلك على العقل، وبين ما يحصل عليه من لذائذ مادية واسترسال في الشهوات الحيوانية التي يصل اليها من خلال الاوهام والخرافات(4).

الأخلاق والآداب:

يعرف العلامة الآداب بأنها: هيئة حسنة ينبغي ان تقع عليها الفعل المشروع،ترد في الدين وعند العقلاء كآداب الصلاة، او آداب ملاقاة الاخوان، وان اختلفت هذه الآداب بين مجتمع ومجتمع آخر، بل وبين جماعة، وجماعة أخرى، فما هو

ص: 220


1- الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 62.
2- الميزان، مصدر سابق، ج2، ص، ص305.
3- الميزان، مصدر سابق، ج8، ص 97.
4- الميزان، مصدر سابق، ج8، ص 100.

حسن وجميل عند جماعة قد يكون سيئا وقبيحا عند جماعة أخرى، كما هو فی بعض الاخلاق الغربية المستحسنة، التي تكون قبيحة ومذمومة بالنسبة الى الاخلاق الاسلامية، وان الاختلاف بين المصداق والمفهوم لا يعني الاساءة الى المفهوم، فالمفهوم قائم بذاته كمفهوم واحد، وان اختلفت المصاديق الحاكية عنه في الثقافتين الغربية والاسلامية على سبيل المثال، ويؤكد العلامة، ان الآداب تختلف عن الاخلاق كونها ملكات راسخة روحية تتلبس بها النفوس، والآداب هيئات حسن تتلبس بها الاعمال الصادرة عن الإنسان نتيجة لما يتمتع بها من صفات نفسية مختلفة، فالآداب من منشآت الاخلاق، والأخلاق من مقتضيات الاجتماع(1).

وان ادب الإنسان الذي اشار إليه القرآن الكريم الغاية منه هو توحيد الله تعالى في القول والعمل الذي منه يبدا كل شيء، وإليه يعود كل شيء، فيجري الإنسان في حياته ويعيش بأعمال تحاكي بها عبوديته الخاضعة بكل شيء الى الله تعالى، والتوحيد بهذه السلوكية يسري في باطن الإنسان وظاهره التي تبدو بأقوال الإنسان، وافعاله الحاكية عن العبودية المحضة، وهذه الاعمال مع كونها شرا او خيرا لكنها قائمة على العادة، وهنا يوضح العلامة لنا جانبا مهما من فهل الايمان وهو الالتزام بالقول والعمل اذا اردنا ان يكون العمل ذا تأثير(2).

الحب:

وكي يوضح العلامة الحب، كظاهرة ،اخلاقية ويبين دورها في المجال الحياتي، يستعرض نبذة من اخلاق الانبياء عليهم السلام التي وردت قصصهم في القرآن الكريم،وكانت كل تصرفاهم وجل تحركات طاعة مفروضة لله تعالى، تعبر تعبيرا صادقا عن اندماج صادق بين العبودية (العبد) من جهة الإنسان، وبين الربوبين (الرب) من جهة الله تعالى، فكل سلوك حادث، قائم لوجهه الكريم، غايته السعادة المتحققة برضا الله تعالى، ومن النماذج التي نختارها لبيان مصدر الحب الذي يعرضه العلامة فی

ص: 221


1- الميزان، مصدر سابق، ج6، ص 257.
2- الميزان، مصدر سابق، ج6، ص 258-259.

تفسيره، ما مثله النبي نوح عليه السلام من دعوة صادقة لقومه الى الشريعة الالهية وبدأ خطابه الالهي بكلمة ربي، ربي ان دعوت قومي، وهو ادب استخدمه نبي الله تعالى ابراهيم عليه السلام، في الخطاب: ربي اني اسكنت من ذريتي... والحوار الذي دار بينه عليه السلام وبين النبي اسماعيل يوم الذبح والاجابة بتمام الاستعداد افعل ما تؤمر ...، او ربي ارني انظر اليك...، وما استخدمه يوسف عليه السلام من خيار بين السجن الذي (احب) إليه مما يدعوهن إليه...، فهو عليه السلام لم يترك لشيء في قلبه محلا غير الحب لحبيبه وعندما استعدت امرأة العزيز ب- (هيت لك) ترك النبي يوسف عليه السلام أي سبب من الاسباب الخارجية وتمسك بالله تعالى، (معاذ الله) وهنا يكمن الحب والتوكل بأعلى درجاته(1).

ومعنى الحب ليس معنى غريبا لا يمكن تصوره او لا يجد له مثيلا في الاخلاقيات الاخرى، فيرسم لنا العلامة صورة لأخلاقيات الكبر والعظمة والخيلاء الموجودة في الإنسان المتكبر، فهي صورة ترتسم بصورة كاملة على كافة حركاته وكلماته مع الغير، بحيث ينطبق عليه مفهوم المتكبر الصادرة عن اخلاقياته، وليس ذلك في حالة الكبر والتخيل فقط، وانما تحصل ايضا في حالة المسكنة، فالإنسان المسكين تظهر على تصرفاته وحركاته وكلماته افعال التمسكن، بحيث يصدق عليه مفهوم المسكين(2). وهنا تتجسد حالة يحبهم ويحبونه، الحب المطلق، المتعلق بالذات، والذي يوصف بغير تقييد، او وصف، والذي يكوم من زاويتين او جهتين، من جهة الفوق، الحب من جانب الله تعالى فيبرئهم الله تعالى، من ظلم ومن كل رذيلة، ويطهرهم من كل قذارة معنوية ويحصلون على عصمة ومغفرة الهية لا المعاصي والاثام غير محبوبة له تعالى فما في هذا الآيات من الصفات السالبة الحاكية عن الرذائل الى ان تزول وترتفع عن الإنسان كونها جماع الرذائل الاخلاقية يتصف الإنسان ب- (رفعها - الرفع) اتصافا بما يقابلها من الفضائل، ومن جانب العبد فانهم لا يؤثرون شيئا على عبادة الله تعالى وحبه وطاعته فيؤثرون هذه العبادة على كل شيء ولا يقف امامها حب

ص: 222


1- الميزان، ج 6، ص 123 ، وكذلك: ج11، ص 273.
2- الميزان، مصدر سابق، ج6، ص 261.

المال او الجاه او الميل الى النفس او الاهل او العشيرة، وان حصل مثل هذا الميل فهو في طول الحب الالهي وجزء منه، لأن الإنسان إذا أحبّ شيئاً أحب آثاره(1).

الاخلاق والبعد الاخروي:

تعتمد النظرية الاخلاقية للعلامة الطباطبائي على نقد شامل لنظرية الدفع بمسلكيها، فالله سبحانه يعبد بطرق مختلفة، يختار الإنسان واحدة منها، اما الخوف او الرجاء او الحب، بعد ان يعرف الإنسان بما لا يقبل الشك، ان الحياة الدنيا بما فيها من زبرجد وبهجة ما هي الا محض خيال وهمي، وهي الا محض خيال وهمي وهي ليس بباقية ولا بد من ان تزول، وانه لا بد من أن يؤول امره اما الى جنة أو نار في الاخرة، ((اعْلَمُوا أَنمَّ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿20﴾))/الحديد، وهنا يتجسد الخوف والرجاء، لكن الحب وكما اتضح الفعل الذي لا يرجى فيه الا طاعة الله ورضاه، من دون تعلق باجر اخروي، او مدح دنيوي، وتختلف حاجات الناس وطباعهم في الاستجابة الى هذه الطرق الثلاثة، التي تكون غايتها الأولى بما تنطبع فيهم نفوسهم على الخوف منه تعالى فيترك الذنب خوفا، ويتمسك بالفعل المرجو رجاء طلبه للنعيم بالعمل الصالح، وهاتان الطريقتان: الخوف والرجاء من الطرق والمسالك المنتقدة عند اصحاب الحب الالهي لانهم يعبدون الله تعالى من دون ان يكون لهم طمعا لا في جنة ولا في نار ، فليس للعبد الا ان يعبد ربه، وكل عمل يقومون به لا يرجون الا وجهه، فهو الاول والآخر، وبهذا الخلوص تظهر المحبة الالهية على وجوههم وفي قلوبهم، ومن خواص النفس الانسانية ان تنجذب الى الجميل، فكيف بالجميل على الاطلاق ((ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكيل ﴿102﴾/ الانعام)) وتتجلى العبادة واضحة بالآيات الافاقية والانفسية التي بينها الله تعالى لهم، ومن كانت هذه نظرته فهو لا

ص: 223


1- الميزان، ج5، ص383.

يرى الطريقين الأولين الا شركا في عبادة الله تعالى فالطاعة له، لان الدين ليس الا الحب عندهم، وليس ابتغاء جنة او نار أو سلوك بخوفا او رجاء: ((فهؤلاء يسلكون في معرفة الاشياء عن طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم، وهو انها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله، وليس لها من النفسية والاصالة والاستقلال الا انها كرائ تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي، وبفقرها وحاجتها ما احاطته به من الغنى المطلق، وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء، ولا يلبث الناظر الى الكون بهذه النظرة دون ان تنجذب نفسه الى ساحة العزة والعظمة، ويغشى قلبه من المحبة الالهية ما ينسيه نفسه وكل شيء))(1).

الحب والتوكل:

ومن موارد الحب التوكل، التي يظهرها العلامة انموذجا حيا عن الحب، ومن هنا يحاول العلامة ان يطلعنا على الربط الجمعي بين الحب والتوكل، كونهما السبيل القويم، المسلك للعبادة المعتمد على التوحيد الخالص، ويبقى نظرة الحب هي النظرة الاعلى بين الخوف والرجاء، ولا سيما ان هذه النظرة (الحب) تنظر الى ما دونها من نظرتي الخوف والرجاء، بانها نظرة شرك، مهما بدا فيها من اخلاص، فاخلاصها ليس الا للدين، وليس لرب الدين، فالخوف يدعو الإنسان الى ترك المعاصي والزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة، والرجاء يقوده الطمع للعبادة، ويكون دافعا وحافزا لها، فيلتزم الواجبات ويترك الدنيا طلبا للآخرة ، لكن للحب دورا فهو لا يطلب الآخرة، وانما يطهر القلب للتعلق به تعالى ويترك ما دون ذلك، ولكل ما كان في الدنيا من مال او ولد او جاه ليست ذات علقة بالقلب، وحبها انما كان في طول الحب الالهي لان (((حب الشيء حب لأثاره))(2).

واذا كان ينظر لكل شيء اثرا له تعالى، فلا يرى في الكون الا خيرا محضا صادرا عن الجمال المطلق، فكل ما موجود خير وجميل، وكل ما يجري انما يجري على

ص: 224


1- الميزان، مصدر سابق، ج11، ص 160.
2- الميزان، ج 11، ص 160.

وفق ما تقتضيه ارادة الخير والجميل، وبذلك يتبدل الالم الى لذة، والغضب الى سرور وابتهاج، وهذا ما لا تدركه الا النفوس العالية التي احرزت مرتبة الاولياء، الذين وصفهم القرآن الكريم بانهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ((أَلا إِنَّ أَولِياءَ اللَّهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ ﴿62﴾/ يونس)) وبذلك يحصل الولي على درجة القرب والخلوص، بعد ان ترك الوهم وهوى النفس وتلبس الشيطان، فكل ما يظهر او يتراءى لهم ليس الا آية: ((كاشفة عن الحق المتعال، لا حجابا ساترا، فيفيض عليهم ربهم علم اليقين))(1).

وهؤلاء المخلصون - المتوكلون - حقا علي الله تعالى، والمفوضون إليه أمرهم والراضون بقضائه : ((اذ لا يرون الا خيرا ، ولا يشاهدون الا جميلا ، فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والاخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد، فهم مخلصون للله في اخلاقهم كما كانوا مخلصين له في اعمالهم وهذا معنى الاخلاص))(2).

ومن هنا يظهر الربط الواضح بين الاخلاق الكريمة، المعتمدة على التوحيد، والاخلاق الكريمة الرابطة بين التوحيد والسعادة الانسانية، فالجوهر المعتمد الذي تقوم عليه كل الاصول المختلفة، او ما تقوم عليه شجرة الاخلاق هو التوحيد، وهذه الايمان، واصلها التوحيد، وما تأتيه من الاكل العمل الصالح، اما فروع

الشجرة هي هذه الشجرة فهي التقوى والعفة والمعرفة والشجاعة والعدالة والرحمة، وهي الكلم الطيب والعمل الصالح الذين يشكلان محور الاتصال والقرب من ساحة الفضل والقرب الالهي، والعلامة يشير الى ان السعادة وبثها في نفوس الآخرين هي ما يتم به الكمال النوعي للإنسان في داخل بنائه الاجتماعي، فالسعادة لا تتحقق الا من خلال التعاون على اعمال الحياة بين البشر على الرغم من كثرتها وتنوعها، فالسعادة لا تتحقق الا من خلال التعاون على اعمال الحياة بين البشر على رغم كثرتها وتنوعها، وهذه الكثرة والتنوع لا يحكمه الا القانون العام القائم على الاخلاق الكريمة القائمة على التوحيد.

ص: 225


1- الميزان، مصدر سابق، ج11، ص 161.
2- الميزان، مصدر سابق، ج 11، ص 161.
المصادر والمراجع:

محمد حسين الطباطبائي، الاسلام الميسر ، ترجمة: جواد علي كسار، مؤسسة ام القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1419.

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم - ايران من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الاول .

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران، من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الثاني .

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران، من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الرابع .

محمد حسين الطباطبائي الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران، من دون طبعة من دون تاريخ، الجزء السادس.

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الثامن

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم ايران من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الحادي عشر.

محمد حسين الطباطبائي، رسالة التشيع في العالم المعاصر، ترجمة: جواد علي كسار، مؤسسة ام القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1418ه.

ص: 226

النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية

من وجهة نظر الشهيد مطهري

تأليف: علي شيرواني

ترجمة: د. علي الحاج حسن

ملخص

صحيح

ان مسألة النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية (الوحدة، الاتحاد، التمايز، التباين، التعاند و .....) ترتبط بمسألة النسبة بين الدين والاخلاق إلا انها لیست عينها. من هنا يمكن اعتبار الاخلاق مستقلة ومنفصلة عن الدين ومع ذلك يمكن التأكيد على وحدة او اتحاد التجربة الدينية والاخلاقية.

حاولنا في هذا المقال دراسة وتحليل آراء الشهيد مطهري حول بعض المواضيع من قبيل الدين، الايمان، العبادة، القيم الاخلاقية بالاخص نظريته الاخلاقية المختارة (الاخلاق كعبادة) ومن ثم البحث عن الاجابات التي قدمها التي يظهر منه انه يعتقد بان «كل تجربة اخلاقية خالصة هي بحد ذاتها تجربة دينية متحدة معها، وهي لا تنفك ولا تتمايز عنها».

الكلمات المفتاحية: التجربة الدينية، التجربة الاخلاقية، فلسفة الدين، فلسفة الاخلاق، مطهري.

ص: 227

عرض المسألة

تعدّ مسألة النسبة بين الدين والاخلاق مسألة قديمة ترتبط بإطارين هامين واساسيين في الحياة البشرية حيث كانت محل اهتمام كثير من الباحثين. عرضت عددا من النظريات في هذا الخصوص، من جملتها ذاك الطيف الواسع الذي يؤكد على الاتحاد والعينية بين الدين والاخلاق ويقابله طيف آخر يؤكد على التعاند والتنافر الكامل بينهما . اما منشأ الاختلاف بين الجهتين، فهو عدم الاتفاق في تعريف الدين والاخلاق، وقد بقي الخلاف على حاله رغم رفع الموانع.

ان موضوع هذا المقال ليس العلاقة بين الدين والاخلاق، بل النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية، والسؤال الذي يجب ان يُطرح: ما هي النسبة التي تحكم هاتين التجربتين ؟ هل هما نوعان مختلفان من التجارب البشرية؟. اذا كانا نوعين متمايزين فهل يمكن ان يجتمعان ؟ واذا امكن اجتماعهما، فهل يستلزم احدهما الآخر؟ واذا استلزم احدهما الآخر، فهل تستلزم التجربة الدينية، التجربة الاخلاقية (وعلى هذا النحو تكون كل تجربة دينية، اخلاقية ايضا). او ان التجربة الاخلاقية تستلزم التجربة الدينية (وعليه ان تكون كل تجربة اخلاقية دينية ايضاً)؟

واذا لم يكونا نوعين متمايزين ومختلفين من التجارب، فهل يكون اختلافهما لفظي ومن ثم تكون التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية، مصطلحين مختلفين لمعنى واحد؟ واذا لم يكن الأمر على هذا النحو ، هل يكون احدهما اصل، والآخر فرع على سبيل النور والظل ؟ ومع ذلك فأيهما هو الاصل وايهما الفرع(1)؟

صحيح ان السؤال عن النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية ليس بعينه

ص: 228


1- من المفيد لوضوح المسألة الالتفات إلى النسبة بين الادراك الملائم (الكمال) واللذة. في هذا المجال يعتقد عدد من الحكماء المسلمين انهما تجربة. فتجربة اللذة هي بعينها تجربة الادراك الملائم وفي الحقيقة فإن حقيقة اللذة ليست شيئاً آخر سوى ادراك الكمال (الشيرازي، 1981م ، ص 120-124) بينما يعتقد بعضهم انهما تجربتان مختلفتان ولكنهما ملازمان لبعضهما. وعلى هذا النحو تكون اللذة كيفية نفسانية تظهر عند ادراك الأمر الملائم في النفس (مصباح، 1405ق، ص 180).

السؤال عن النسبة بين الدين والاخلاق، إلا انه مرتبط به وعلى الاقل يتضح احدهما من خلال اتخاذ موقف في بعض الموارد عند الآخر(1).

يمكن فهم النسبة بين الدين والاخلاق عند عموم متكلمي الشيعة من خلال نظرية الحسن والقبح الذاتيين والعقليين (الحلي، 1417ق، ص417-420): ان الاخلاق بمثابة مجموعة من القضايا التي توضح الحسن والقبيح، الوجوب وعدم الوجوب في الخصال واما السلوكيات الانسانية الاختيارية فهي اطار عقلي مستقل عن تعاليم الدين الوحيانية، لذلك يعتمد عليها في مقدمات اثبات النبوة الخاصة والعامة واذا كان الدين مستقلاً عنها ثبوتا فهو مرتبط بها في مقام الاثبات.

ان العلاقة بين تعاليم الدين الوحيانية والقضايا الاخلاقية شبيهة من بعض الجهات العلاقة بين تعاليم الدين الوحيانية والفلسفة (التي تعني معرفة الوجود بالاسلوب البرهاني). يشكل الدين والفلسفة مجالين مستقلين، ومع ذلك فهما مرتبطان ببعضهما. يتم اثبات اصل وجود الله تعالى وعدد من اسمائه وصفاته - ان لم نقل جميعها - في الفلسفة باللجوء إلى بديهيات العقل النظري ومن ثم يمكن ايجاد رابطة بين الإنسان وحاملي دين الله. صحيح ان العلاقة بين العقل والوحي ذو وجهين بعد اثبات الو الالهي بواسطة العقل ووضع يد الإنسان في يد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) - التي هي يد الله - فالتعاليم الوحيانية بمثابة الزيت الذي يوضع في مصباح العقل فيجعله اکثر اشعاعاً ويضيء النص الديني بواسطة نور العقل. وهكذا حال الدين والاخلاق. تصبح العلاقة ذات الاتجاه الواحد بين الدين والاخلاق ذات وجهين بعد اثبات الوحي الالهي وتبدأ العلاقة الديالكتيكية بينهما مما يؤدي إلى نبوغ المعرفتين(2).

ص: 229


1- هذه المسألة هي على اساس الرؤية الصحيحة في مسألة الدين والاخلاق حيث يكون كلاهما عينيان ومن ثمَّ يمتازان عن التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية وهما امران نفسيان الواضح من خلال عقيدة الذين يعتبرون الدين والاخلاق هما عين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية - الذين يبحثون عن جذورهما في وجود الإنسان حيث لا وجود مستقل لهما عن وجود الانسان ان السؤال عن النسبة بين الدين والاخلاق هو بعينه السؤال عن التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية.
2- طبعاً هذا النبوغ اثباتي في الدين فقط؛ وإلا فالدين الالهي يمتلك كافة مراتب الكمال منذ البداية وفي مراحل العلم الالهي على مستوى مقام الثبوت ومن ثمَّ لا مجال للنقص فيه، طبعاً يصح الحديث عن النقصان على مستوى وصول البشر اليه. ويصدق هذا الكلام على الاخلاق ايضاً بالاخص على مبدأ الحسن والقبح الذاتيين.

صحيح ان الحكماء الشيعة ايّدوا اصل الحسن و القبح العقليين، إلا انهم قدموا قراءة وتفسيراً مختلفاً لما قدمه المتكلمون الشيعة فافترقت جهة المتكلم عن الفيلسوف(1). من جملة ذلك انهم يعتقدون ان «العدل الالهي حقيقة واقعية من دون ان يستلزم ان يحكم الذات الالهية المقدسة ومن دون ان يستلزم الاشكال على قاهرية ذات الباري المطلقة. ] من وجهة نظر الفلاسفة [وفسروا الحسن والقبح العقليان بانهما: خارجان [ عن دائرة المعقولات الذاتية التي تمتلك قيمة الكشف واظهار الحقيقة وهما من جملة الافكار العملية الضرورية لذلك، لا تقبل بكونها معياراً ومقياساً لافعال الباري تعالى. اما الحكماء وعلى عكس المتكلمين لم يستفيدوا من هذه المفاهيم على مستوى المعارف الربوبية» (مطهري، 1374، ص 45).

ان دراسة الرؤية النقدية للشهيد مطهري تتطلب مجالاً آخر، إلا اننا نذكر ان المسألة المذكورة في باب التمايز بين رؤية المتكلمين والحكماء الشيعة، لا تؤدي إلى الاختلاف في اصل الاستقلال الثبوتي للدين والاخلاق والعلاقة الثنائية لهما بعد اثبات الدين والوحي الالهي؛ على الرغم التأثير على مستوى ارتباط اثبات الوحي الالهي - وبعبارة اخرى اثبات النبوة الخاصة - بالاخلاق . يعتقد الحكماء ان التمسك بالقضايا الاخلاقية لاثبات النبوة الخاصة غير تام، فيخرج الاستدلال على شكل البرهان ليتشكل على صورة الجدل.

نظرية الشهيد مطهري في باب النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية

لم يستعمل الشهيد مطهري مصطلحي التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية ولم يتحدث بصراحة عن النسبة بينهما؛ إلا انه قدم نظرية في باب الفعل الاخلاقي، حيث يمكن من خلالها فهم النسبة بين التجربتين:» ان كل تجربة اخلاقية خالصة هي

ص: 230


1- يجب الالتفات إلى ان الافتراق بين الكلام والفلسفة عند السنة غير موجود عند الشيعة. طبعاً يجب الاشارة إلى انهما اقتربا إلى بعضهما منذ زمان الخواجة نصير الدين الطوسي حتى اذا ما وصلنا إلى الميرداماد وصدر المتألهين شاهدنا القول باتحادهما وفي هذا الزمان فإن ابرز المتكلمين هم ابرز الفلاسفة ايضاً ابرز الفلاسفة ايضاً ومن جملة النماذج الشهيد مطهري.

تجربة دينية وهي متحدة معها وليست غير منفكة عنها فقط، بل هي غير متمايزة عنها ايضاً، وحول الاجتماع يمكن القول انهما مفهومان يصدقان على تجربة واحدة من جهتين وقد يصح القول من جهة واحدة(1).

لتوضيح الشواهد على صحة نسبة هذه الرؤية للشهيد مطهري نعالج المسألة في ضمن قسمين : يتعلق القسم الأول بما ذكره في بحث العدل الالهي اثناء الاجابة على سؤال كلامي حول استحقاق الكافرين الثواب على الاعمال المتصفة بحسن الفعل وحسن الفاعل : ويتعلق القسم الثاني بما ذكره بعد دراسة ونقد النظريات الاخلاقية

المتعددة من امثال» النظرية العاطفية»، «نظرية الارادة»، «النظرية الوجدانية» و«النظرية الجمالية» وقد بَين فيه نظريته المختارة. سيتضح ان هذين القسمين من البحث يتصلان بنقطة مشتركة واحدة.

أ- الميل نحو العدل والاحسان وعلاقتهما بمحبة الله

طرح الشهيد مطهري سؤالاً في بحث العدل الالهي وهو: هل للعمل الحسن الذي يصدر من الكافرين (عمل الخير من غير المسلم) ثواب أم لا (مطهري، 1474، ص 269). وفي الجواب، شرح ونقد رؤيتين احداها افراطية والاخرى تفريطية× الاولى هي التقديسية التي تقول باصالة الاعتقاد وهي شبيهة بمنطق المرجئة التي تنتهي بنفي قيمة العمل والثانية رؤية تنويرية تعتقد باصالة العمل وتنفي قيمة الايمان (م. ن، ص 278-289). ثم بحث حول قيمة الايمان وأوضح ان الكفر الموجب للخروج من الايمان والذي يستحق العذاب هو الكفر الذي ينطلق من العناد واللجاجة (كفر الجحود) وليس الذي ينطلق من الجهل وعدم المعرفة (م. ن، ص 829) ثم درس مراتب التسليم ليشير بعد التمسك بالآيات القرآنية ان «حقيقة الايمان،هي تسلیم القلب» حسب المنطق القرآني (م. ن، ص291). وتسليم القلب - المقابل لتسليم البدن أو تسليم العقل - هو تسليم كافة انحاء الوجود الانساني ونفي اي شكل من الجحود والانكار.

ص: 231


1- لن نتحدث حول اعتقاده بان كل تجربة دينية هي دائماً تجربة اخلاقية ولن ننسب إليه اي نظرية .

وقد شرع الشهيد مطهري الحديث حول الاسلام الحقيقي والاسلام الجغرافي(1)(م. ن، ص 293) يقول: «ان صاحب القيمة من حيث الواقع هو الاسلام الحقيقي.....] وهو الذي يسلم فيه الشخص قلباً امام الحقيقة ..... ] وعلى هذا الاساس [ اذا امتلك الشخص صفة التسليم، وكانت حقيقة الاسلام مخفية عنه الاسباب ما وكان غير مقصر، فالله لن يعذبه على الاطلاق وسيكون من اصحاب النجاة والجنة «(م. ن) . وقد اطلق على هؤلاء الاشخاص «المسلم الفطري» واذا كان لا يمكن اطلاق عنوان المسلمين عليهم إلا انهم ليسوا كفاراً (م. ن، ص 294).

ثم شرع الشهيد مطهري الحديث حول الحسن الفعلي والحسن الفاعلي فاعتبر ان الحسن الفعلي في الاسلام غير كاف للثواب الاخروي على العمل، بل يلزم وجود

الحسن الفاعلي، فالحسن الفعلي بمنزلة البدن والحسن الفاعلي بمنزلة الروح (م. ن، 307) ثم يطرح مسألة لزوم او عدم لزوم الايمان بالله لتحقق الحسن الفاعلي وهل ان قصد التقرب إلى الله مقوم للحسن الفاعلي أم لا. قد يقال اذا أتى الشخص بعمل بقصد التقرب إلى الله او بدافع «الوجدان والعطف والرحمة المستولية على قلبه فهل يكفي ذلك ليتحقق للفعل الحسن الفاعلي»(م . ن) ، وبعبارة اخرى، اذا لم يكن الدافع في الفعل «الانا» ، فهل يتحقق الحسن الفاعلي؛ سواء كان الدافع «الهياً» أو «انسانياً».

صحيح ان الشهيد مطهري يرفض وحدة هذين الدافعين (الله والانسانية)، بل يعتقد باستقلالهما باعتبار «ان كل عمل ينطلق من الاحسان وخدمة خلق الله وبسبب الانسانية، فهو ليس في رديف العمل الذي يكون دافعه للذات فقط. طبعاً الله تعالى لا يترك هكذا اشخاص من دون ثواب»(م . ن ، ص 307) .

ولكن كيف يمكن الجمع بين الرؤيتين: الرؤية التي تعتقد ان الايمان شرط في قبول الاعمال واستحقاق الثواب وهذه الرؤية الوجدانية الشهودية التي تدل عليها

ص: 232


1- قارنوا بين هذا البحث وما ذكره جيمز في كتاب « تنوع التجربة الدينية حول الدين الوضعي والدين الفردي (جیمز 1391، ص 47).

عدد من الروايات التي تبين ان العمل الذي ينطلق من دوافع انسانية هو عمل ذو قيمة وان الله لا يترك هذا العمل من دون ثواب.

ان ضرورة الجمع بين هذين الرؤيتين وازاحة التعارض الظاهري، يقرب الشهيد مطهري بعد كثير من الاحتياط والحفاظ على القيود من الوحدة بين التجربة الاخلاقية الخالصة والتجربة الدينية حيث يقول في اكمال البحث:

«وفي نظري اذا وجد افراد يحسنون إلى الناس الآخرين وحتى إلى الاحياء عموماً لأن «لكل كبد حراء أجراً» من دون انتظار لأي نفع، وحتى أنهم لا يقدمون خدماتهم للبائسين خوفاً من يوم يأتي يصبحون فيه من جملتهم، بل دافع الإحسان والخدمة يقوى في أعماق وجدانهم حتى أنهم ينجزون الخير ولو أنهم يعلمون بأنه لا عائد منه ولا أحد يعلم به ولا أحد يبارك له، وبشرط ان لا يكونوا واقعين تحت تأثير العادة، فلا بد من أن نقول إن هؤلاء يقيناً في أعماق ضمائرهم يوجد نور من معرفة الله. وعلى فرض أنهم ينكرون بألسنتهم فهم قطعاً مقرون في ضمائرهم. أما انكارهم فهو منصب على أشياء موهومة تصوروها مكان الله أو منصب على أمور متخلية تصوروها مكان العودة إلى الله ومكان القيامة. وليس الإنكار في الواقع منصباً على ذات الله تعالى ولا على المعاد الحقيقي.

والتعلق بالخير والعدل والإحسان من جهة كونها خيراً وعدلاً وإحساناً من دون أية شائبة أخرى يكشف عن الحب لذات الجميل على الإطلاق وعليه فنحن نستبعد أن يحشر هؤلاء الناس مع أهل الكفر ولو أنهم كانوا منكرين بألسنتهم. والله أعلم»(م. ن ، ص 309).

الواضح ان محبة «الخير والعدل والاحسان من جهة كونها خير وعدل وإحسان»،هي المصداق التام للتجربة الاخلاقية الخالصة. ان هذه التجربة والميل الداخلي نحو الخير والعدل والاحسان هي قضية نفسانية وقضية واعية قضية نفسانية وقضية واعية عند الانسان، ومن ثمَّ يصدق عليها مفهوم التجربة (244 .swin burne 1991 ، p) وتكون هذه الجذبة وهذا

ص: 233

الميل ذات صبغة اخلاقية بلحاظ المتعلق ؛ لذلك هي تجربة اخلاقية بل مصداقها الخالص، ويعتبر ان هذه الجذبة وهذا الميل هو المؤشر على محبة الله تعالى الذي هو الجمال المطلق، ونحن نعلم ان شلاير ماخر كان يعتبر احساس الشوق والمحبة هذا ليس سوى محبة الذات الالهية اللامتناهية. (شيرواني، 1381، ص

93).

بناءً على ما تقدم من مقدمات، نستنتج ان هذه الحالة - اي الميل نحو الخير والعدل والاحساس بما ان الميل هذا هو خير وعدل و احسان - من وجهة نظر الشهيد مطهري، هي تجربة اخلاقية وفي الوقت عينه مؤشر لحالة يطلق عليها التجربة الدينية.

ب - نظرية الشهيد مطهري الاخلاقية

ان السؤال الاول في بحث الاخلاق هو تعريفه. يعتقد الشهيد مطهري ان «تعريف

الاخلاق ليس بالأمر السهل» (مطهري، 1387ج، ص 162)، ومن هذه الجهة يكون للاخلاق عين مصير الدين)(1)، ولم يتفق الفلاسفة حول ذلك، فقدم كل واحد منهم تعريفاً كانت تتعارض مع بعضها تارة. رجّح عدد من الفلاسفة في هكذا حالات عرض المصاديق البارزة والواضحة والمتفق عليها بدل بذل الجهود القليلة الفائدة لتقديم تعريف جامع ومانع للموضوع ومن ثمَّ العمل على دراسة وتحليل العناصر المقومة. يعتقد الشهيد مطهري «الافضل في هكذا حالات الشروع من الموارد المسلم بها في البحث» (م. ن) .

يعتقد ان الفعل الاخلاقي يقع في مقابل الفعل الطبيعي والعادي (مطهري، 1387الف، ص 470).من جملة خصائص الفعل الطبيعي والاعتيادي من امثال الاكل والشرب انها لا تقبل التحسين والمدح. وفي المقابل فإن اولى خصائص الفعل الاخلاقي انه «يتطلب المدح والثناء والتعظيم والتبجيل» (م . ن ، ص 292) والخاصية الاخرى ان الفعل الاخلاقي يتطلب القداسة وهي العنصر الاساس في الاخلاق (م. ن، ص 47).

ص: 234


1- للاطلاع على منشأ اختلاف المفكرين حول تعريف الدين، راجع مقال المؤلف بعنوان «دراسة تعاريف الدين من وجهة نظر اخرى (فصلية الفكر الديني الحديث، السنة السابعة، شتاء 90،العدد 27). يعتقد الشهيد مطهري ان من جملة اسباب الاختلاف في تعريف الاخلاق، الاختلاف في الرؤى الكونية. (مطهري، 1387 ،الف، ص 289). وتصدق هذه المسألة فيما يتعلق بتعريف الدين ايضاً .

اوضح الشهيد مطهري نماذج من العمل الاخلاقي والروحية الاخلاقية على امتداد التاريخ - امثال «ما عمله بطرس الكبير عندما كان في السن الثالثة والخمسين وكان في أوج سلطته، وقد شاهد زورقاً في شهر كانون الثاني يشرف على الغرق، فالقى نفسه في الماء لمساعدة ركابه في النجاة وقد كانت وفاته على اثر ذلك» (م. ن، 1387ج، ص 162 و 163) وكذلك ايضاً الجرحى المسلمون في ارض المعركة الذين كانوا بحاجة إلى الماء وعندما جاء به شخص رفض الاول الشرب طالباً اعطاءه للثاني والثاني طلب اعطاءه للثالث، حتى استشهدوا جميعاً وكانوا مصداق قوله تعالى:» ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة» (الحشر /9؛ م.ن، 1387 الف، ص 294) - وبعد تحليل خصائصها في تقابل الافعال، أوضح القيم الخاصة فيها واستنتج ان الفعل الاخلاقي ذو قيمة عند الوجدان البشري؟ وهي قيمة ارفع من القيم المادية التي «يتم تقييمها على اساس المال والبضاعة المادية القابلة للتقييم ( = التسعير....) (م. ن، 305).

وقد اختص الإنسان بالاتيان بهكذا افعال لذلك يمكن القول في تعريف الإنسان انه «حيوان اخلاقي».

بعد اتضاح العمل الاخلاقي وخصوصياته، نصل إلى مرحلة التنظير له. فما هو معيار العمل الاخلاقي؟ ما هو الشيء الذي يضفي على العمل الاخلاقي القداسة والقيمة المعنوية والذي يكون الإنسان خاضعاً امامه فيلهج لسانه بالمدح والثناء؟ قدم الشهيد مطهري في عدد من كتاباته ومحاضراته بالاخص في السنوات العشر الاخيرة من عمره، نظريات متعددة للاجابة على هذا السؤال مراعياً كمال الانصاف والنقد والتقييم.... يعتقد ان الآراء وان اختلفت في هذا الخصوص «فهي في الغالب لیست متضادة ولا متناقضة؛ اي ان كل رأي في الغالب اهتم بزواية مما يجب أن يعمل الإنسان (= العمل الاخلاقي)» . (م. ن، ص 42).

ص: 235

يمكن تصنيف النظريات المتنوعة طبق التقسيم الآتي:

النظرية العاطفية ؛ يمكن توضيح هذه النظرية على شكلين. الشكل الاول عبارة عن العواطف والميول الغيرية والانسانية التي تكون مبدأ الفعل الاخلاقي، وأما فصلها المميز عن غيرها من الافعال فهو «العمل الاخلاقي الاعلى من الميول الفردية، أي عاطفة محبة الغير «(م. ن، 321)؛ وقد يجري الحديث عنها تارة اخرى باعتبارها المبدأ الغائي والهدف للفعل الاخلاقي : «العمل الاخلاقي هو العمل الذي يكون هدف الإنسان فيه هو ايصال الخير إلى الآخرين، وليس إلى الذات» (م.ن، ص 322). طبعاً يمكن جمع التوضيحين. ويكون اساس الاخلاق في هذه النظرية، محبة الآخرين. ومن جملة هذه الاخلاق «الاخلاق الهندية» أو «الاخلاق المسيحية». (م.ن، 323) .

يعتقد الشهيد مطهري ان نصف هذه النظرية صحيح ونصفها الآخر غير صحيح. ان الاعمال الناشئة من عاطفة محبة الناس اخلاقية في كثير من الحالات؛ ولكن اولاً ليست كل محبة عمل اخلاقي، امثال محبة الام لابنها التي هي عمل غريزي وليست اكتسابية، ومن ثم فإن هذه المحبة فاقدة للقيمة الاخلاقية (م. ن، ص 324)؛ثانياً لا يمكن ان تكون الاخلاق محدودة بمحبة الغير. ان بعض الاعمال من قبيل عدم الرضوخ للذل الذي يُعدّ عملاً اخلاقياً، إلا ان مبدأ هذا العمل ليس عاطفة محبة الإنسان وليس هدفه ايصال الخير إلى الآخرين (م. ن ، ص 325)؛ ثالثاً، لا يجب اعتبار متعلق المحبة والعاطفة منحصراً في الانسان، «بل يجب محبة كل شيء». (م. ن، ص 326).طبعاً يبنى هذا النوع من المحبة على الرؤية العرفانية التي تؤدي إلى وجود حالة في الإنسان يعتبر كل الوجود مظاهر للمحبة رابعاً(1)، لا يجب الافراط في تفسير محبة الإنسان حيث تكون النتيجة العداء للانسان؛ يقول سعدي:

ترحم بربلنك تيزدندان ستکماری بود برکوسفندان (م. ن، 330)

[ان الرحمة بالنمر المتوحش هو ظلم بالخراف]

ص: 236


1- لم يميز الشهيد مطهري في آثاره بين هذا الاشكال والاشكال المتقدم فذكرهما تحت عنوان واحد، والظاهر ان المناسب التفكيك بينهما .

«ان المقصود من محبة الانسان ان يكون كل انسان لائقاً بالمحبة بمقدار القيم الانسانية، والإنسان الذي لا حظ له من القيم الانسانية، تليق به المحبة ايضاً بهدف ايصاله إلى القيم الانسانية» (م. ن ، ص 327) .

نظرية الارادة: تقابل الارادة، الميل والشوق المشتركان بين الإنسان والحيوان والارادة مختصة بالإنسان وملازمة للعقل . الارادة هي قوة السيطرة على الميول والعواطف على اساس المصلحة العقلية. والعمل الاخلاقي بناءً على نظرية الارادة التي ايدها الفلاسفة المسلمون، هو العمل الذي يكون مبدأه الارادة والعقل، وليس الميول والعواطف، حتى لو كانت العاطفة تتعلق بالغير. «ان الاخلاق الكاملة،هی الاخلاق التي تخضع لقوة العقل والارادة وتكون الميول الفردية والنوعية والاشواق جمعيها تحت رقابة العقل والارادة»(م. ن، ص 331).

يعتمد على العقل في مكان آخر ليبين رؤية الحكماء. وقد اعتبر الحكماء ان «العقل معيار الاخلاق، إلا انه العقل الحر او الحرية العقلية «(م. ن ، ص 480).

ان جوهر الإنسان على اساس مباني الحكماء المسلمين وبالاخص صدر المتألهين هو القوة العاقلة، ومن ثم فإن الكمال والسعادة النهائيين والواقعيين، هي السعادة العقلية. للعقل بعدان: «بعد نظري يتجه نحو الاعلى ويريد كشف الحقائق (العقل النظري)، وبعد آخر يتجه نحو الاسفل، يريد تدبير البدن على اساس العدل». (م . ن ص 481). الاخلاق هي ان يحكم الإنسان العقل، لتستفيد كل قوة من قوى ، الإنسان على اساس العدل ومن دون افراط وتفريط وهنا يصل العقل إلى الحرية. اذا وصلت قوى الإنسان إلى حد الوسط ونقطة الاعتدال، تتحطم صولة القوى في مواجهة بعضها البعض فيحصل مزاج للانسان لا يزاحم العقل على اثر الميول المتعددة، وفي هذا الحال تكتسب الروح كمالاتها من دون اي مزاحمة من ناحية البدن . (م. ن، ص 482-481)

يتحقق الكمال الحقيقي للانسان من وجهة نظر الحكماء على اثر فعلية العقل

ص: 237

النظري، اي قوة ادراك الحقائق، فيصبح العقل العملي في الحاشية ويتخذ بعداً تمهيداً.

اما الاشكال الجوهري الوارد على هذه الرؤية(1)، فهو ان يصبح العقل هو جوهر الإنسان فقط وتصبح ابعاده الوجودية الاخرى كالوسائل والادوات بينما يعتبر الاسلام ان العقل فرع واحد من وجود الإنسان وليس كافة وجوده (م. ن، 1387ب، ص 187)، الضعف الآخرين في هذه النظرية(2)، سلب «العنصر الاساسي في الاخلاق اي القداسة. وتحصل الاخلاق على القداسة من خلال نفي الذات والانانية...» (م. ن 1387 الف، ص 47) مع العلم ان هذه النظرية التي تهدف إلى اقرار السعادة، تدور حول محور الانا(3).

النظرية الوجدانية: ان العمل الاخلاقي بناءً على هذه النظرية هو العمل الذي يُستلهم من الوجدان (م.ن، ص 332). وقد بنى كانط رؤيته الاخلاقية على هذا الاساس (م. ن، ص 334-449). ان أصل وجود الوجدان الاخلاقي وان يكون طبع الإنسان بحيث يرغب ويبتعد عن الحس والقبيح، فهو صحيح وهناك عدد من الشواهد القرآنية والروائية التي تؤيد ذلك (م. ن ، ص 323) . إلا ان نظرية كانط في هذا الخصوص يعتريها عدد من الاشكالات بسبب الخصائص التي تحيط بها.

صحيح ان نظرية كانط دقيقة، إلا انها لا توضح الحقيقة باكملها. والنظرية صحيحة إلى مستوى الذي يتم الاعتراف فيه بوجود سلسلة الاوامر «يجب» اللامشروطة وكذلك وجود مراكز للالهام، ولكن، اولاً يعتقد كانط ان الشرط اللازم لأخلاقية العمل ان لا يكون ناشئاً من ميل، والحقيقة ان امكان صدور هكذا فعل، محل تأمل. «هل من

ص: 238


1- يشار إلى ان الشهيد مطهري لم يتعرض بالنقد لموقف الحكماء والمسلمين في مكانين بل اكد على ضرورة التفكيك بين عقيدة الفلاسفة المسلمين ورؤية الاسلام ليس من الضرورة ان يتمكن الفلاسفة المسلمون دائماً وفيما كانوا يصرحون به، من توضيح المسائل الاسلامية بشكل كامل (م . ن، ص 332). وقد ذكر الاشكال المتقدم في ابحاث الإنسان الكامل بعد توضيح نظرية الحكماء حول الإنسان الكامل وقد ذكرها تحت عنوان: مدرسة العقليين.
2- أخذ هذا الاشكال من نقده لنظرية الاعتدال الارسطية ومن ثمَّ ليس من القطعي نسبته اليه.
3- اعتبر الشهيد مطهري في عدد من الحالات ان الخروج من محورية الانا شرط لازم للقيمة الاخلاقية وتحدث في مكان آخر امثال بحث «الانا والغير»(م. ن، 1387 الف، ص 409-428) بما يفهم منه انه اراد من نفي محورية الانا في الاخلاق الذات الدانية والحيوانية في الوجود الانساني وليس مطلق الانا.

الممكن ان يطيع الإنسان أمراً لا يميل بطاعته ولا يخاف مخالفته؟ (م.ن، ص62) ثانياً، حذف كانط مفهوم الحسن والخير من الفعل الاخلاقي ووضعه في ارادة الفعل. واما معيار الاخلاق الاساسي طبق رؤيته مكنون في الدافع منه وليس في خصائص الفعل عينه. ومن ثم فالوجدان الذي يتحدث عنه كانط شبيه بالقائد المستبد الذي يصدر اوامره من دون دليل (م. ن، ص 63). ثالثاً، لا يمكن قبول الحكم بعدم اخلاقية الفعل الذي يتضمن خير العموم والذي يميل إليه الشخص بحكم العاطفة الانسانية والميل نحو الخدمة ؛ ويخالف هذا الحكم الوجدان الاخلاقي الذي يؤيده كانط (م. ن)؛رابعاً اذا حصل عمل كالايثار والتضحية انطلاقاً من الحسن الذاتي، فهو في الغالب ذو ماهية اخلاقية، اكثر من كونه عملاً يحصل تحت الضغط والالزام؛ لان الالزام يقلل من حرية الانسان، وكل ما يؤدي إلى التقليل من الحرية، تكون صبغته الاخلاقية ضعيفة (م.ن)؛ خامساً ان كافة احكام الوجدان ليست مطلقة؛ فلزوم الصدق على سبيل المثال ليس حكماً مطلقاً، بل تابع «الفلسفة وقد يفقد الصدق فلسفته» (م . ن، ص 352) مثال ذلك عندما يؤدي الصدق إلى قتل انسان بريء؛ سادساً، فرّق بين الكمال والسعادة. يعتقد ان العقل الاخلاقي يحمل معه كمال الإنسان إلا انه لا يستلزم في نفسه السعادة، مع العلم ان الكمال والسعادة وجها عملة واحدة فلا ينفصلان عن بعضهما البعض (م. ن، ص 349-351).

النظرية الجمالية :

يعتقد افلاطون وبعض الحكماء المسلمين القائلين بالحسن والقبح العقليين ان منشأ القيم الاخلاقية، الجمال العقلي - المقابل للجمال الحسي والخيالي - ويفترق هؤلاء عن بعضهم البعض ان افلاطون يعتبر مركز الجمال هو الروح الفردي التي تتضمن في قواها النفسانية العدالة وقد جعل منها كلاً متناسقاً ومتوازناً ومتعادلاً - الجمال هو التوازن في النسبة بين الاجزاء والكل - بينما اعتبر المتكلمون المسلمون ان مركز الجمال، بعض الاعمال من قبيل الايثار، الاحسان والصدق التي يظهر جميلاً فيها ؛ وبما ان الجمال ذو جاذبية ويؤدي إلى ايجاد الحركة والعشق ويرفع

ص: 239

الإنسان نحو المدح والثناء والتقدير، يكون الشخص المزين بالفضائل والافعال الناشئة من هذه الفضائل حاملاً للقيم الاخلاقية. (راجع: م. ن ، ص 42-45 و 358-374؛ م. ن، 1387 ج، ص 105- 114) . صحيح ان الشهيد مطهري ذكر اشكالات على هذه النظرية بالاخص على آراء افلاطون في توضيح الجمال، وفي تخصيصه بالكل بالمركب من اجزاء ونفي اي نسبية منه وكذلك استقلاله الكامل عن الذهن - (م. ن، 1387 الف، ص 45)، إلا انه ايّد اصل الارتباط بين القيم الاخلاقية ومقولة الجمال ولكن وبما ان هذه المنشأ الاساس لادراك الجمال المعنوي - اي المعرفة الفطرية بالجمال النظرية هي المطلق والجميل على الاطلاق - فلم يبينها واعتبرها ناقصة (م. ن ، ص 386) .

نظرية العبادة: يعتقد الشهيد مطهري ان «اعمق النظريات هي كون الاخلاق نوعا من العبادة(1)؛اي ان طبيعة وماهية الفعل الاخلاقي - في مقابل الفعل الطبيعي - هي طبيعة عبادة ] الله(2)[، إلا انها عبادة غير مقصودة«م. ن ص 106). اما تعريف العبادة، [ فهو كالجمال صعب ولعلها لا تقبل التعريف (م. ن ، ص 119) إلا انها تتضمن اموراً من قبيل الثناء، التقديس، الخضوع، الخروج من الانا المحدودة والخروج من دائرة الآمال المحدودة، تحطيم سجن الذات، التحليق (التقرب)، الانقطاع، الالتجاء والاستعانة. ان العبادة في الحقيقة هي من التجليات الروحية للانسان، والاعمال البدنية امثال الصلاة هي لايجاد هذه الحالة الروحية (م.ن).

بناءً على هذه النظرية، فالذي يأتي بالعمل الاخلاقي، فإن عمله الاخلاقي هو نوع من عبادة الله والعبادة غير الواعية حتى لو لم يدرك الله في شعوره ولم يعتقد به او اعتقد به ولم يأتِ بالعمل لاجل رضا الله (م . ن، ص 376). العبادة هي اكبر واشرف واعظم حالات الانسان. (م.ن، ص 379).

يبدو ان القضية الهامة التي دفعت الشهيد مطهري لتأييد هذه النظرية، هي حلّ هذا الامر المبهم والاجابة على هذا السؤال: كيف يمكن للانسان في بعض الحالات

ص: 240


1- ايد الشهيد مطهري هذه النظرية ولكن لم ينسبها لنفسه فتحدث عنها بعبارة «يقولون» (م. ن، ص 375) ومع ذلك فلم ينسبها لشخص او لمجموعة اخرى.
2- صرح في اماكن اخرى ان متعلق هذه العبادة هو الله (م. ن)

ان يأتي ببعض الاعمال من قبيل الايثار والتضحية فيتجاوز مصالحه الخاصة ويضحي فيجد في التضحية نوعاً من الشرف والعظمة ويشعر ان اتيانه بهذه الاعمال يدفعه نحو التعالي والعظمة والكبرياء مع العلم ان هذه الاعمال لا تفهم ولا تتناسب مع اي منطق حتى منطق العقل الذي يقضي بدفع الضرر عن الذات واستجلاب المصلحة لها . اما الجواب الذي قدمه الشهيد مطهري ان السّر في وجود هكذا حالة عند الإنسان ان «الإنسان مفطور على معرفة الله وان هناك سلسلة من المسائل (= القوانين الاخلاقية) الموجودة بالفطرة في قانون الله ..... وفي اعماق روح الانسان، فهو يعرف هذه القوانين كما يعرف الله، ويعرف رضا الله ويأتي بالعمل في سبيل رضا الله انطلاقاً من فطرته، إلا انه لا يعلم ذلك» (م. ن ، ص 383) .

هنا من يرفض الشهيد مطهري عقيدة الذين يعتبرون الحس الاخلاقي وحس معرفة الله أمرين منفصلين في الوجود الانساني، ويعتقد ان الحس الاخلاقي مرتبط بالكامل بحس معرفة الله حيث يمكن ان يطلق عليه «حس تكليف الله» (م.ن، ص 384) وبذلك يعرف الإنسان الاسلام الفطري ويدرك على سبيل المثال ان العفو، والعطاء والتضحية والفضائل الاخرى هي محل رضا الله تعالى(1).

ص: 241


1- يشار إلى وجود رؤى مشابهة على مستوى الالهيات المسيحيية حيث يمكن مشاهدة نموذج عن ذلك في كتاب «التجربة الاخلاقية العرفانية» من تأليف غري هيرد. ان التجربة العرفانية عند هيرد هي تجربة يتم فيها «معرفة الله بشكل مباشر فيحصل اللقاء المباشر مع الذات الالهية من دون واسطة والتجربة الاخلاقية هي «لقاء الله بواسطة العلاقات والمناسبات الموجودة في عالم الوجود». الواضح ان الذي اطلق عليه التجربة العرفانية هو من مصاديق التجربة الدينية البارزة. يعتقد ان الشخص بامكانه ادراك الذات الالهية عن طريق الأمر العرفاني وعن طريق الامر الاخلاقي. ويبين ان شهودنا الاخلاقي يحدد الوظائف في علاقاتنا مع الآخرين اعم من الموجودات الحية والموجودات غير الحية حتى انه يحدد علاقاتنا بانفسنا. يمكن للامر العرفاني ان يؤثر على بُعدين في الامر الاخلاقي (قبول محبة الله واظهاره). إلا امكان التأثير فهو اقوى في بعد عرض واظهار المحبة. وتؤثر التجربة العرفانية على الفرد وبشكل مبنائي لابراز المحبة الالهية. ويحصل الفرد على ادراك للمحبة الالهية عن طريق المواجهة العرفانية للذات الالهية ومن هنا يبدأ الميل للتضحية والايثار امام موجودات العالم المادي وامام الفرد الآخر ؛ ويتحقق هذا الامر إذا ادرك الشخص المحبة بماهيتها الحقيقية (راجع: هيرد، 1382 ص 126-11).
خلاصة واستنتاج

بناءً على ما تقدم يمكن نسبة نظرية الاتحاد بين التجربة الاخلاقية والتجربة الدينية إلى الشهيد مطهري . اما الاصول التي تتبنى عليها هذه النظرية فهي عبارة:

الايمان بالله هو جوهر الديانة؛

ان حقيقة الايمان بالله هي تسليم امام الارادة الالهية؛

الاسلام الحقيق يختلف عن الاسلام الجغرافي؛

ان ما هو ذو قيمة هو الاسلام الحقيقي؛

الاسلام الحقيقي هو تسليم قلب الإنسان للحقيقة؛

ان الذي استسلم قلبه امام الحقيقة، هو مسلم فطري، حتى لو لم يُسمّ مسلماً ؛

ان العمل الذي يحصل بدافع محبة الإنسان - ليس للذات وليس لله- يمتلك مراتب من الحسن الفاعلي وفاعله مأجور؛

ان الوجدان الاخلاقي عند الانسان، هو مبدأ معرفة الإنسان الفطرية بالله وارادته؛

ان للفضائل والاعمال الاخلاقية، جمالاً عقلياً واما منشأ ادراك الجمال العقلي والفضائل والاعمال الاخلاقية، هو المعرفة الفطرية بجمال الله تعالى؛

ان حب الخير والعدل والاحسان هو علامة وتجلي الحب والعلاقة الفطرية بالله الذي هو الجميل على الاطلاق

العناصر الاساسية للفعل الاخلاقي عبارة عن : الثناء، العظمة، الجلال، القداسة، القيمة المعنوية، احساس الخضوع في مقابله؛

العبادة هي من تجليات روح الانسان، وتتحقق تارة بشكل واع وتارة اخرى

ص: 242

بشكل غير واع وتتضمن المديح التقديس الخضوع، الارتقاء فوق الانا المحدودة، الانقطاع، الالتجاء والاستعانة؛

ان الفعل الاخلاقي الخالص الذي لا شائبة فيه نوع من عبادة الله، حتى لو كان غير واع؛

وقد ذكرت ارجاعات هذه الاصول من خلال كلمات الشهيد مطهري في النص ونضيف :

تتضمن التجربة الواسع، الانفعالات الروحية والنفسانية وافعال الإنسان الاختيارية الواعية(1)؛

ان محبة الله من دون شك هي تجربة دينية من سنخ الانفعال؛

عبادة الله من دون شك تجربة دينية من نوع الفعل او الانفعال.

نستنتج من خلال جمع هذه الاصول الثلاثة الى الاصلين 10 و 13 الآتي؛

ان الذي ترعرع فيه الحس الاخلاقي والذي يميل ويحب الفضائل بشكل عميق ومن دون اي شائبة (صاحب التجربة الاخلاقية بمعناها الاحساسي والانفعالي) يمتلك محبة الله (= صاحب تجربة واحاسيس وعواطف دينية)؛

ان الفاعل الاخلاقي في فعله الاخلاقي الخالص الذي لا يشوبه شائبة (= صاحب التجربة الاخلاقية بمعناها الفعلي) هو يأتي في الحقيقة بعمل عبادي وهو صاحب تجربة دينية بمعناها الفعلي.

ص: 243


1- قد تُخص التجربة في مصطلح التجربة الدينية بما لديه بعداً انفعالياً.
المصادر:

القرآن الكريم

جيمز، ويليام: (1391)، تنوع التجربة الدينية، ترجمة حسين كياني، طهران، انتشار حکمت.

الحلي، الحسن بن يوسف: (1417ق)، كشف المراد، تحقيق حسن حسن زاده، ط ،7، قم، مؤسسة النشر الاسلامي.

الشيرازي، صدر الدين: (1981) ، الحكمة المتعالية في الاسفار الاربعة العقلية، ج4، بيروت، دار احياء التراث العربي.

شيرواني، علي (1390)، «دراسة تعاريف الدين من وجهة نظر اخرى» ، الفكر الديني الحديث، العدد 27 ، ص 29-51 ، قم، جامعة المعارف الاسلامية.

شيرواني، علي (1381)، المباني النظرية للتجربة الدينية، قم، بوستان كتاب.

مصباح، محمد تقي (1405ق)، تعليقة على نهاية الحكمة، قم، دار راه حق.

مطهري، مرتضى (1387الف)، مجموعة ،الآثار، ج 22، ط4 ، طهران، انتشارات صدرا.

مطهري، مرتضى (1387ب)، مجموعة الآثار، ج 23 ، ط4، طهران، انتشارات صدرا.

مطهري، مرتضى (1387ج) ، تعليقات الاستاذ مطهري ج 11، طهران، انتشارات صدرا.

مطهري، مرتضى (1387)، مجموعة الآثار، ج 1، ط6، طهران، انتشارات صدرا.

،هیرد غری کلود: (1382)، التجربة العرفانية والاخلاقية، ترجمة لطف الله جلالي، محمد سوري، قم، مؤسسة الإمام الخميني التعليمية والبحثية.

13-Swimburne، Richard، (1991)، The existence of God، New York، oxford

university press.

ص: 244

المحور السادس

المشاريع الغربية

ص: 245

نسيان التخلق .. القيم الغربية وإشكالية الدلالة

اشارة

شريف الدين بن دوبه(1)

الإنسان كائن مثلث الأبعاد، عقل يستقرئ الحق، وحسّ يستقطر الجمال، وإرادة تستقطب الخير . ثلاثية تنصهر فيها كينونة الإنسان، فتكوّن وحدة متعدّدة، وتعدُّد موحد، فالنزوع نحو القيمة تلازم الفعل البشري في جميع أشكاله معرفياً كان أو عملياً، فالحق كمطلوب إنساني، يتصدّر سلّم القيم المعرفية في عالم البشر، ويقع الخير في صلب الفعل الإنساني السوي، أما الجمال فيعمل على إقامة جسر التواصل بين عالم الحق، وعالم الخير مؤسساً عالم الأنموذج في مخيال البشر.

والفصل بين العوالم الثلاثة: الحق، الخير ، والجمال مخاض الشعور بالمحدودية لدى الباحث، لأنّ الإحاطة بحقائق عدّة حقول معرفية، سواء طبيعية كانت، أو إنسانية أمر مسيج بأشواك الشبهات، فالحقائق كما يقول الحسن ابن الهيثم: «منغمسة في الشبهات»(2)، فكان التخصص في مجال بحثي معينا كفيلا ببلوغ بعض الحقائق، وهو التقليد الذي توارثه الفكر البشري، مع العلوم التجريبية، فالتخصُّص ليس وليد

ص: 246


1- شريف الدين بن دوبه، يدخل الباحث في هذه المقالة مدخل الاقتراب المعمّق من أنطولوجيا الأخلاق. أمّا خاصيّة هذه المدخل، ففي مقاربته للمفهوم الأخلاقي الغربي من الناحيتين النظرية والتطبيقية وما تثير كل ناحية منهما من إشكاليات معرفية في دلالتها ومقاصدها لعلّ التحديد الذي يقيمه الكاتب حول دلالات المفهوم إنما يستهدف بيان الإطار النظري للمشكلة الأخلاقية، إذ إن التغير الذي رافق الدلالة في مجال القيم يشكل التعبير الأكثر بياناً عن التصدّعات الأخلاقية الحاصلة في الاجتماع البشري، المحرر.
2- الحسن ابن الهيثم، الشكوك على بطلميوس، تحقيق عبد الحميد صبره، ص: 4.

النزعة التجريبية، بل عائد إلى قصور الطبيعة البشرية عن إدراك الحقيقة الموضوعية، والمطلقة.

ولكن الحنين إلى الأخلاق يبقى يراود البحث عن الحقيقة، فالتمكن من المعارف الدقيقة، والحقائق التجريبية لا يمكن الإنسان من حيازة السعادة، لأنّها متعالية على الدقة، والصرامة العلمية، والمنطقية، فالحضور الأخلاقي في مجالات عدة من الحياة الإنسانية، بشكل قوي يظهر في المرونة الدلالية التي تتسم بها المفاهيم الأخلاقية، ولذا نجد لزاما علينا تحديد الشبكة المفاهيمية التي تؤلّف النسق الأخلاقي.

بداية ينبغي تحديد الغاية من التحديد الدلالي للمفاهيم التي تؤلّف النسق الأخلاقي، فموقع المفاهيم، والتعريفات في النسق يكون بمثابة السفينة التي يقتضي من الباحث أن يستقلها حتى يتمكن من بلوغ ظلال الحقيقة، وهي أيضاً الأدوات المفاهيمية المساعدة على تفكيك الإشكالات الرئيسة في البحث، والمؤسف أن الملمح العام الذي ميز البحث كان نظرياً، حيث سقط المفهوم في صقيع المجرّد، والسؤال الذي تطرحه المفهمة في السياق الأخلاقي، هو كيفية التوفيق بين الطبيعة العملية للأخلاق، والبعد التجريدي للمفاهيم، وكيف كانت الزئبقية التي حايثت الدلالة وراء كل خلاف واختلاف قيميّ وأخلاقي في الفكر الغربي.

وسيكون القصد من التحديد الذي نقيمه للمفاهيم الأخلاقية ليس من قبيل الحذلقة الفكرية، بل بغرض التعليق عليها نظرياً، أو لبيان البعد النظري للمشكلة الأخلاقية، فالتعريف أو المفهمة لا تقدر على تجاوز الشروط المنطقية للتعريف، التي منها مراعاة الوضوح، والدقة في إضافة المصاديق تبعاً للمواصفات الواردة في التعريف، والملاحظ على المفاهيم الأخلاقية مرونة الدلالة فيها، وسنلاحظ عبر القراءة، التناقضات الدلالية التي عرفتها الأخلاق عبر هذه مسارها النظري، فالتغير الذي رافق الدلالة في الأخلاق يعكس الأزمات الأخلاقية، والقيمية عند البشر.

ص: 247

السياق العربي

قال ابن فارس: «الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، والآخر ملامسة الشيء، فأما الأول فقولهم : خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته.. ومن ذلك الخلق وهي السجية لأنّ صاحبها قد قدر عليه، وفلان خليق بكذا، واخلق به، وما أخلقه، أي هو ممن يقدّر في ذلك، والخلاق النصيب، لأنّه قد قدر لكل أحد نصيبه، وأما الأصل الثاني، فصخرة خلقاء، أي ملساء»(1).و في لسان العرب: «اشتقاق خليق وما أخلقه من الخلاقة، وهي التمرين، من ذلك تقول للذي ألف شيئا: صار ذلك له خلقا، أي نمرن عليه، ومن ذلك الخلق الحسن.»(2)، ثم يفسر ابن منظور ذلك بقوله «وحقيقته، أي الخلق، أنّه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلق لصورته الظاهرة، وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة»(3).

وفي هذا المعنى يقول الراغب الأصفهاني «الخلقُ في الأصل شيء واحد كالشرب والشرب والصَّرْم والصَّرْم لكن خصّ الخَلْقُ بالهيئات والأشكال، والصور المدركة بالبصر، وخُص الخُلْقُ بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظيم )(4). والخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخُلُقه قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم منَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا * فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فی الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاق)(5). وفلان خليق بكذا: «أي كأنه مخلوق فيه ذلك كقولك مجبول على كذا، أو مدعو إليه من جهة الخَلْق .. »(6).

والأخلاق جمع خلق بضمّ الخاء وبضم اللام وسكونها، ويطلق الخلق في اللغة العربية على معان:

ص: 248


1- أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ج 2 ص 213.
2- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بیروت.
3- المرجع نفسه.
4- سورة القلم، الآية: 4.
5- البقرة الآية 200.
6- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني، دار المعرفة، بيروت لبنان ط 1- 1998، ص 164.

جاء في تاج العروس: والخلق بالضمّ السجيّة، وهو ما خلق عليه من الطبع، وقال ابن الأعرابي ، الخلق: المروءة، والخلق: الدين.. والجمع أخلاق»(1).

ويرفض بعض الباحثين التمييز الذي يقيمه بعض اللغويين بين الخلق بالفتح، والخُلق بالضمّ، من مثل المعنى الآتي: «خصّ الخَلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة»(2)لأن استعمال كلمة الخلق والخلق، يكون دوماً متلازمان، فالقول بأنّ فلانا حسن الخلق، والخلق، يعنى بها حسن الظاهر، وحسن الباطن، فيراد بالخلق الصورة الظاهرة، ويراد بالخلق الصورة الباطنة.(3)وخلاصة القول إنّ الناظر في كتب اللغة بجد أن كلمة أخلاق تطلق ويراد بها الطبع والسجية، والمروءة، والدين، وحول هذه المعاني يقول الفيروزابادي «الخُلْقُ بالضم وضمتين السجية، والطبع والمروءة والدين(4)»ويقول ابن منظور: «الخُلُقُ والخُلْقُ السجية .. فهو بضم الخاء وسكونها الدين والطبع والسجية«(5).

ومن خلال هذا العرض نلاحظ ثلاثة أمور هي: الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خلقة الإنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة، وتدلّ الأخلاق على الصفات المكتسبة حتى أصبحت كأنها خلقت فيه فهي جزء من طبعه، وعليه يكون للأخلاق جانبین: جانب نفسي باطني، وجانب سلوكي ظاهري.

في الاصطلاح:

يعرف «مسكويه»(6)الخلق في قوله : «الخلق حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير

ص: 249


1- محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مصطفى حجازي، ج 25 دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، ج25، ص: 275 .
2- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن مرجع سابق، ص 158.
3- کمال الحيدري، مقدمة في علم الأخلاق، دار فراقد ایران. الطبعة الثانية 2004 ص:30.
4- الفيروز ابادي، القاموس المحيط، فصل الخاء : باب القاف، ص 236.
5- لسان العرب مادة: خلق، ج 2 ص1244-1245.
6- أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب الرازي توفي 421 ه- من مؤلفاته : ترتيب السعادات ومنازل العلوم، كتاب الفوز الأصغر، كتاب الهوامل، والشوامل، كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ، كتاب تجارب الأمم وتعاقب الهمم، رسالة في ماهية العدل، رسالة في النفس والعقل، وصية مسكويه لطالب الحكمة، وصية مسكويه.

فكر، ولا روية»(1). وينحو يحي بن عدي نفس النحو الذي حدّ به الخلق مسكويه، والنص التالي يكشف عن مستوى التناص بين التعريفين، يقول يحي بن عدي(2): «إن الخلق هو حال للنفس به يفعل الإنسان أفعاله بلا روية واختيار والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعض الناس لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد وقد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمد.. ومنهم من يصير إليه بالرياضة»(3).

والخلق عند أبي حامد الغزالي(4):«عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويّة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سُميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً، وإنما قلنا أنّها هيئة راسخة، لأنّ من يصدر عنه بذل المال على الندور لحاجة عارضة، لا يقال خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ..»(5).

الخلق عند الغزالي ليس فعلاً، بل هيئة للنفس وصورتها الباطنة، حيث تكون القابلية والاستعداد لأداء الفعل هي الدلالة الحقيقية لمعنى الخلق، والدلالة التي تأخذها الأخلاق في اللغة العربية تفتقر إلى الدقة، حيث تعتمد الدلالة التي نجدها اللغة على حد تعبير الأستاذة نورة بوحناش(6)«على تحويل الأخلاق إلى حالة تمتزج مع بعض عناصر الشخصية الإنسانية مثل الطبع والعادة والسجيّة»(7).

والدليل الذي تعتمده الأستاذة في تبرير ذلك التعريف الذي يقيمه الجرجاني

ص: 250


1- مسكويه ، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 51.
2- يحيى بن عدي بن حميد ابن زكريا التكريتي، فيلسوف، ومترجم للفلسفة. صرف جلَّ عنايته للمنطق فلقب بالمنطقي. انتهت إليه الرئاسة في المنطق ومعرفة علوم الحكمة، أي الفلسفة، من مؤلفاته: تهذيب الأخلاق، مقال في حالة ترك طلب النسل...
3- يحي بن عدي، تهذيب الأخلاق، دار الشروق، بيروت، 1985 ص: 47 (د.ط).
4- أبو حامد الغزالي عالم إسلامي، غني عن التعريف ، ترك مكتبة ضخمة في الفلسفة والتصوف والفقه.. من أهم مؤلفاته : إحياء علوم الدين، القسطاس المستقيم، المنقذ من الضلال، مقاصد الفلاسفة، تهافت ..الفلاسفة ...
5- الغزالي، أبي حامد، إحياء علوم الدين، ج 3 .
6- أستاذة فلسفة الأخلاق، بجامعة منتوري قسنطينة الجزائر.
7- نورة بوحناش، الأخلاق والرهانات الإنسانية، إفريقيا الشرق، المغرب 2013 ص: 36.

للأخلاق، حيث تصبح الأخلاق سلوكا آليا، يفتقد إلى سمة الإرادة الحرة، التي تتحدّد بها الأخلاق، والتعريف هو: «الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإذا كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً سميت الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر من الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقاً سيئاً ..(1).

وتورد الأستاذة اعتراضات على التعريف التراثي للخلق، أهمها المطابقة الدلالية بين دلالة الغريزة، والطبيعة الثابتة، المتحكّمة، والمحدّدة للسلوك بطريقة قبليّة، التي يترتب عنها فقدان الحكم الخلقي للمشروعية على قاعدة انتفاء حرية الإرادة عند الفاعل الخلقي، وينتج عن ذلك أيضا تجاهل الضمير المحرك الرئيس للأفعال الخلقية الأصيلة ، تقول : «يكون الخلق في هذا التعريف مجرد وحدة من الوحدات اللاواعية في الشخصية الإنسانية، فهو يرادف الطباع والعادات السلوكية التي لها أبعاد الضرورة النفسية في حين يمتاز الخلق بخاصية الإرادة.. ويظهر أن تعريف الجرجاني وقبله الفكر اليوناني قد أخلط بين مستويين من مستويات الأفعال الأخلاقية: مستوى نفسي أولي، وهو مستوى الغريزة، ومستوى عاقل وواع هو مستوى الضمير»(2).

وما يلاحظ على الحقل التداولي لكلمة أخلاق في اللغات الأخرى وجود بعض الفوارق الدلالية في الاصطلاح اللغوي، فهناك Morale و Ethique.

ويلاحظ المفكر طه عبد الرحمن على الدلالة الفلسفية للأخلاق في الممارسة التراثية الإسلامية «غلبة» صيغة التعريف التي جاءت عند جالينوس في كتابه الأخلاق، وهي: «الخلق حال للنفس داعية للإنسان أن يفعل أفعال النفس بلا روية ولا اختيار ... فالأخلاق في مجال الممارسة الفلسفية الإسلامية المنقولة عن اليونان، إذن عبارة عن أحوال راسخة في النفس رسوخ طبع أو رسوخ تعود، تصدر عنها أفعال توصف بالخير أو بالشر»(3).

ص: 251


1- الشريف الجرجاني، التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، طبعة جديدة 1985 ص: 106.
2- نورة بوحناش، الأخلاق والرهانات الإنسانية، المرجع نفسه ص:37.
3- طه عبد الرحمن ، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي المغربي، الرباط، الطبعة الثانية، ص: 381.
في التراث الغربي

تتقاطع كلمة Morale في اللغات الغربیة فی البناء الصوتی، والدلالی للكلمة، إذ نجدها متقاربة بين الفرنسية والانجليزية، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Mores ومعناها العادة، وتناظرها في اليونانية Ethics وفي اللاتينية Ethica. وتصبح الأخلاق بذلك تعبيراً عن الآداب العامة، أو أخلاقيات الحياة الاجتماعية، ولكن الأخلاق الاجتماعية لا تعكس فقط الآداب العامة، فالأخلاقيات الفردية مرجع ثابت في الخيرية الأخلاقية، و عادة ما يميز في الفكر الأخلاقي بين زاويتين: عملية، ونظرية، تكون الأولى مادة بحثية للأخلاق النظرية، ومجالا معياريا تقاس به صحة، ونجاعة القيم الخلقية، وتظهر ضرورة الإشارة إلى النموذجين في الاختلاف الجلي بين المدارس الخلقية في التعاطي مع المفاهيم، ومع مفهوم الأخلاق ذاته، فالأخلاق العملية تمثل الممارسة الفردية، والجماعية للقيم الأخلاقية، فالفرق بين عالم النظر، وعالم الواقع مسألة بارزة في تاريخ الفكر، فعالم النظر متميز بكماله، وتعاليه، أمّا الممارساتي فسيكون نسبياً، ومتغيراً، ويطلق على الممارسة الجماعية للأخلاق بالعادات الخلقية، وقد أطلقت العادات الأخلاقية على الممارسات الجماعية للقيم الأخلاقية تمييزاً لها عن الممارسة الفردية للأخلاق، التي تترجم عند البعض بالأخلاقية Moralité فهي ممارسة خاصة بجماعة معينة، ونسبية، وقد اهتم بهذا اللون من الممارسات الأخلاقية العالم الاجتماعي الفرنسي لوسيان ليفي بريل(1) Lucien LévyBruhl.

أما الأخلاقية : moralité فهي سمة فردية، قيمة ايجابية أو سلبية من زاوية الخير والشر، تقال إما على الأشخاص، وإما على الأحكام، أو على الأعمال، وهي ممارسة فردية، وشخصية للقيم الخلقية، وفي اعتقادنا أن الأخلاقية محلّ، ومعيار نجاعة القيمة الخلقية، فالواقع أغنى من كل نظرية ، فالعادات الخلقية Moeurs موضوعية،

ص: 252


1- ليفي بريل (1939/1857) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي.

ومستقلة عن الأفراد، وصاحبة سلطة، فقوة السلطة التي تمتلكها العادات الخلقية، تتضح بشكل جلي في التابوهات Tabout(1)التي تعيشها الجماعات البشرية.

وأهم سمة تميز الأخلاقية النسبية، التغير، فالممارسة الأخلاقية لدى الأفراد تختلف من فرد لآخر، على قاعدة التغاير القائم في الرؤية إلى الكون، فنظرة الشاب، وتطلعه إلى جماليات الحياة تؤسس لاختلاف بينه، وبين الشيوخ، وإذا اعتمدنا التجارب النفسية لوجدنا أن الطفل يعايش لحظة ينعدم فيها الشعور الأخلاقي، ثم يتدرّج الضمير عنده من مرحلة الخطأ إلى مرحلة الندم ، إلى أن يصل إلى قمة الشعور بالقيم الأخلاقية، والذي يصطلح عليه البعض من علماء الأخلاق بسيادة الحب، أي أن تصبح القيمة محل شوق واستقطاب من طرف الإنسان، فالأخلاقية تعبير عن الملمح النسبي في القيم.

أمّا الأخلاق النظرية، أو فلسفة الأخلاق، فهي دراسات تأصيلية، أو تربوية للقيم الأخلاقية، وقد تباينت الرؤى الفلسفية حول المسائل الأخلاقية، ومن بينها الاختلاف حول مفهوم الأخلاق كعلم، حيث تعدّدت وجهات النظر في تعريف هذا العلم تبعاً لاختلاف الغاية منه .. فأصحاب الإتجاه الاجتماعي مالوا إلى المرجعية اللغوية، فعرفوه «بعلم العادات». ومال وإتجاه آخر إلى معيارية العلم، ويعنون بذلك أن علم الأخلاق لا يبحث في أعمال الإنسان الإرادية، التي صارت عادات وتقاليد، من حيث هي أمور حاصلة في الواقع، وإنما يبحث في كيفية توجيهها صوب الطريق السوي، على نهج من قواعده وقوانينه، ثم يحكم عليها حسب المقاييس التي يضعها، وقد وردت لهذا العلم تعريفات عدة أخرى، منها أنّه «علم الخير والشر»، «علم الواجبات».. إلا أن هذه التعاريف وغيرها لا تمس إلا الجانب النظري لهذا العلم، لأن تحصيل قواعده لا يجعل الإنسان بالضرورة ذا أخلاق حسنة.

ص: 253


1- كلمة تابو من لغات سكان جزر المحيط الهادئ، وتعني المحرم أو الممنوع وقد تعني المقدس أحيانا، وهي تشير إلى الأشياء الممنوع على الفرد القيام بها من فعل أو قول لأن هذا يطلق الأرواح الشريرة الموجودة داخلها(والفكرة موجودة تقريبا لدى كل الشعوب البدائية)، وكان الكابتن جيمس كوك أول من ذكرها ونقلها للغرب، والكلمة نفسها موجودة في النصوص التشريعية في تونغا .

وتاريخ الفلسفة الخلقية يكشف عن محاولات تأسيسية، تجريدية، سعى من خلالها الفلاسفة إلى منح القيم الأخلاقية صوراً، وقوالب منطقية مجردة، متعالية، حيث كان القصد في ذلك البحث عن رؤية واحدة للمسار البشري، التي تستند في الأصل إلى وحدة الفطرة البشرية، في الأمل بالسعادة، والحلم بعالم خال من الألم، والهموم ، فالرؤية الكونية التوحيدية للجنس البشري، وللوجود ككل هي الحل لأزمة التنظير، فالنظريات الأخلاقية تؤرّخ بشكل عفوي لأزمات الحياة الأخلاقية في عصرها، فالبحث في.. أو عن الأسس النظرية العامة للفعل الأخلاقي يرتبط بالأزمة، فهي التي تولَّد الهمّة، والحقيقة تكون مرافقة للبحث.

واستقراء الفلسفة في مسارها الأفقي يكشف عن واقع الأزمة الأخلاقية التي حايثت الأخلاق، وقد أخذت هذه الحالة من المحايثة أوجها عدة، وفي مستويات عدة، أهمها الأصول المرجعية للقيم الأخلاقية، حيث يضعنا البحث عن جذور الأخلاق دور فلسفي يصعب علينا الخروج منه ، وما نود التنبيه عليه في هذه المحطة أنّ بعضاً من المفاهيم الأخلاقية، والقيم نتاج فئوي لا يمت بصلة إلى الأخلاق، إذ إن التمرُّد الواقع من الشريحة الواقعة تحت ضغط الطبيعة الماكرة التي تدفع بالكائن إلى الاستمرار في إرضاء نزواته الطبيعيّة، فالرضوخ للنفس يدفع الكائن إلى البحث عن مبررات سلطوية لطمس منظومة القيم، ومنها إضفاء القداسة الوهمية على كل سلوك أو قيمة مصطنعة، والذي جعل من المنظومة الأخلاقية تأليفا بين متناقضات يفترض تجديداً، أو تأويلاً أو تثويراً داخل هذه المنظومة.

والبحث في ثنايا الأنساق الفلسفية يكشف عن الخلاف الذي حايث الإجابة عن سؤال المصدر الذي تعود إليه الأخلاق، فالمدارس الذاتية في جميع العصور تقرّر، وتحاجج في إثبات فردية، وذاتية القيم الأخلاقية، وفي المقابل نجد المدارس المتعالية تدافع عن وجهة نظرها في موضوعية القيم، وكتب التخصص تزخر بذلك، كما ساهمت المدارس الدينية باعتقاداتها المتعددة، وبتوجهاتها المتباينة في تجريد الأخلاق، وسلبها البعد الذاتي الذي تحايث فيه الأخلاق الإرادة الإنسانية، فلا أخلاق

ص: 254

من دون حرية إرادة ووعي فالتجربة الأخلاقية تأصيل لحقيقة الأخلاق، وليس التنظير الذي تصبح الأفكار الأخلاقية في رفوف المكتبات، ويموت المؤلف فيه، بمجرد الكتابة.

وطرحت أيضاً نسبية القيم الأخلاقية بين المجتمعات البشرية، سؤالاً مركزياً عند النخبة الفكرية للجماعات، والفلاسفة بحث فيه هؤلاء عن دواعي الاختلاف بين المعتقدات القيميّة، وقد كانت الرحلات التجارية عاملا من العوامل الذي كشف للفلاسفة، والنخبة العلمية ملامح الأزمة القيمية، والأخلاقية داخل المؤسسات المدنيّة المحليّة، حيث يذكر التاريخ رحلات سقراط، وكثير من فلاسفة الإغريق إلى مصر، فالنهل من علوم الشعوب وحكمتهم مسألة ضرورية عند عاشقي الحقيقة، ولذا نجد أنّ الفلسفة السقراطية نتاج للفلسفات السابقة إغريقية كانت، أو شرقية، أو بتعبير أدق نجد أدق نجد في ثنايا الفلسفة الخلقية السقراطية شذرات، وأصول، وحكم أخلاقية

سابقة.

من مظاهر الأشكلة اختلاف الفلاسفة حول مصدر، وطبيعة القيمة الخلقية التي يتعلّق بها الفاعل الخلقي بالطلب، وكانت صيغة المسألة في الشكل التالي هل القيمة الخلقية كصفة مطلبية متضمنة في الفعل الخلقي، أم خارج جوهر الفعل؟ وهل هي نتاج تجربة أخلاقية فردية؟ أم نتاج تراكمات قيمية تكوّنت بالعادة، والمألوف عبر التاريخ للمجتمع، فكانت الوجهات متعددة، ومتباينة في المدارس الخلقية، ففي البدء كان الإعلان عن ذاتية القيم مع جورجياس، وبروتاغوراس، ثم كانت الفضيلة، والمعرفة عنواناً لتجريد القيم، و قد أقصى سقراط حسب فريدريك نيتشه Nietzsche حق الجسد في بناء القيم الأخلاقية، بتمثله، لروح أبولو(1)، وحمله سيف سلطته فی حربه على حقوق الإنسان الذاتية، التي تبدأ مع الجسد، ثم كانت المذاهب الخلقية المتباينة في اعتقاداتها، وفي القول بذاتية القيم، أو موضوعيتها.

كانت مذاهب السعادة بأنواعها تعبيراً عن ارتباط القيمة بتجربة الفرد الأخلاقية

ص: 255


1- الاله أبولو إله الحكمة، والمعرفة في مقابل الاله ديونيسيوس اله المرح، والخمرة والشهوة.

الذاتية، بداية مع أفلاطون الذي جعل السعادة أو الخير الأمثل في التوازن، والانسجام بين الدوافع، والرغبات المتضاربة، وفكرته في العدل تؤكد ذلك، فالتوازن داخل الموجود ينتج النموذج، والرجل الفاضل، وكذلك الدولة النموذجية.

وبدأت مع أرسطو الرغبة في ضبط الدلالة الموضوعية للسعادة، بالتمييز بين طلب اللذة وطلب السعادة، فكانت السعادة عنده هي الخير الأعظم، الذي يتوخاه الكل، فأسس بذلك أرسطو لمبدأ الغائية في الحياة الأخلاقية، فكانت بذلك الأخلاق الأرسطية أخلاقاً تداعياتية Consequentialisme فالفعل الخلقي عند أرسطو - كما يقول توفيق الطويل -: «هو فعل يقترن في العادة بوجدان من المتعة الذاتية، ولكنّه يجاهر بأنّ الفعل الخلقي لا يكون خيراً لأنه يحقق متعة، بل يقول أنه يحقق متعة لأنه خیر..»(1)ومع مذاهب المنفعة بدأت الطبيعة البشرية في اعتلاء مملكة الإنسان، بعيداً عن سلطة العقل المتحجر في قوالب منطقية مجردة، فكانت المدرسة القورينائية،

والأبيقورية، وأخيراً مذاهب المنفعة العامة.

الإيتيقا: Lethique

«يتساءل المفكر التونسي عبد العزيز العيادي عن دواعي الاستعمال الجديد، فهل هی «شعار نرفعه عالياً لنستعيض به عن لفظ الأخلاق الذي كثيراً ما يرتبط في لغة التداول اليومي كما في الكتابات العالمة إمّا بدلالة التأزّم، وإما بدلالة تحقيرية حيث تصبح الأخلاق مرادفة للمواعظ والأوامر التي يأتيها الغافلون عن كثرة التحولات؟ هل الإتيقا تعبير عن حالة الاستنفار والمسائلة والضيق ومن ثم هي استئناف لتعبئة الوعي الأخلاقي المنهك ؟»(2).

في الاشتقاق

الأصل التداولي لكلمة إيتيقا éthique في اللغات اللاتينية والأنجلوسكسونية،

ص: 256


1- توفيق الطويل، الفلسفة الخلقية، دار النهضة العربية، مصر الطبعة الثانية 1967 ص: 66.
2- عبد العزيز العيادي، ايتيقا الموت والسعادة، دار صامد للنشر تونس، الطبعة الأولى 2005 ص: 24.

هو الكلمة اليونانية éthicos التي تشتق من كلمة éthos وهي كلمة مرادفة لكلمة moralisاللاتينية، المشتقة من Mores وكل من Ethos و Mores يؤدّيان مفهوماً moralis مشتركاً هو العادة.

ولكن جاکلین روس [Jacqueline Russ] تقيم فرقاً جزئياً بين الإيتيقا éthique والأخلاق morales فكلمة éthé la باللغة الإغريقية تعني العادات الأخلاقية، وMores تعني الأعراف(1).

ترجم العرب éthos بلفظة الأخلاق وأشار أرسطو إلى الفرق بين الإيتيقا والأخلاق بقوله : «فإما الفضيلة الإيتقية فهي ربيبة العوائد الحسنة..» أي الأخلاق كما فكر بها العرب مثل مسكويه أو الفارابي نفسه. وعليه، فالإيتيقا ليس خلواً من كل أخلاق Moeurs لكنّها ضد الجهاز الخلقي moral الذي تفرضه ذاتية الإكراه سواء بالدين أو بالدولة.

يتضح ... أن ثمة فرقاً شاسعاً بين ما يصطلح عليه بالأخلاق la morale من جهة أولى وما يصطلح عليه بالإتيقا éthique من جهة ثانية. فالإيتيقا عند «سبينوزا» مثلا، لا تفيد الأخلاق بقدر ما تفيد الفن التجريبي لأنماط الوجود، إنّها مجرد مشكل اختيار شخصي لنمط من أنماط الحياة، بقصدية جمالية الوجود، على اعتبار أنّ الإنسان هو من يأتي بالأخلاق إلى العالم لا العكس. وبخلاف الإتيقا فالأخلاق بما هي كذلك، «غريزة» تعم الكل ولا تقبل بالاستثناء ما دامت تعرض نفسها في صيغة قانون قبلي على الدوام.

من هنا وجب الفصل ما بين الإتيقا التي هي الإتيقا التي هي قانونية بالضرورة، لأنّها تحدّد الخير الحق (...) وتقوم على الاستقلالية الذاتية للكائن الإنساني الحر الذي يمارس مواطنته الكاملة، ولا يشعر بأي فرق سواء تجاه باقي المواطنين في وطنه، أو تجاه باقي

ص: 257


1- جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة بيروت، ط/1. 2001 ص: 11.

ومواطني الدول الأخرى، (ونحن هنا نقترب أكثر من مفهوم المواطن الكوني الذي غدا يتحقق في ظل وسائل الاتصال التكنولوجية الأنترنت مثلا..)، وبين الأخلاق کلزوم وكأوامر تقتضي الطاعة، أي ما ينبغي أن يكونه الكائن لا وفق طبيعته وحريته الإنسانية، وإنما على وفق غايات ومبادئ تستند إلى معيار تيولوجي أو متعالي.

ويبدو أن المرجعية الاشتقاقية للمصطلح طرحت أمام الباحثين إشكالات عدة، أهمُّها الأصل الجماعي للأخلاق، فالأخلاق في صورتها الرهطية لا تمثل إلا جانباً من الجوانب، حيث تكون في صورتها الخارجية مظهراً من مظاهر النفاق الاجتماعي، على قاعدة التطابق الأنطولوجي بين الحقيقة الأخلاقية عند الذات، وفيها، وبين التمظهر الخارجي للقيمة في صورة الفعل، وباستقراء التاريخ نجد أن القيم الأخلاقية المجتمعية كانت دوماً عائقاً أمام التطوّر الحقيقي للقيمة الأخلاقية في الغرب على مستوى التجسيد الفعلي.

كما نلمس تحولاً ، وزحزحة دلالية عند الدهماء حيث تحولت الأخلاق الاجتماعية ذات الطبيعة النسبية، إلى منظومة متعالية، مجردة، التي طرحت أمام الفاعل الأخلاقي إشكالات عملية على مستوى ممارسة القيمة، فكانت لحظة انتقال للإيتيقا من مرحلة أخلاق العادة إلى أخلاق القيمة.

واستطاع المفكّر طه عبد الرحمن أن يفك بعضاً من خيوط الأشكلة التي تحايث اصطلاح الايتيقا، فالايتيقا: «كلمة إغريقية الأصل»[ايتوس] بمد الهمزة المكسورة، يقصد بها «الطبع»، أو الخلق الراسخ في النفس في صيغة القابلية، أو الهيئة التي نجدها في المعنى الآتي: «الصفة السلوكية، محمودة كانت أو مذمومة»، وهو لفظ قريب في النطق من لفظ اتوس بالهمزة المكسورة غير الممدودة ومعناه «العادة»(1).

فهي إذن تحمل دلالتين متقابلتين الطبيعة الراسخة، والعادة المتغيرة، أي القابلة للتشكل.. ومنه أخذت الدراسات التراثية العربية والإسلامية إشكالاتها الأخلاقية

ص: 258


1- طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، مرجع سابق، ص: 381.

فكانت المواقف الثلاثة في أصل القيم وتصنيفها، فكان: «القول بالطبع»، و«القول بالتعود»، «القول من ثمف بين الطبع والتعود» ويرجع هذا الموقف إلى القول بأنّ القابلية للخلق تكون بالطبع، في حين يكون الرسوخ في الخلق بالتعود(1).

ويفتح المفكّر طه عبد الرحمن باباً للسؤال في الأخلاق النظرية أو الإيتيقا، من حيث التأثيل، أي بالبحث في المرجعية الدلالية التي تؤسس عليها العبارات، أو الاصطلاحات، فالأخلاق النظرية تقوم على النظر، والذي يتضمن في جذره اللغوي على معنى الإبصار، وفي الاصطلاح على الفكر الذي يطلب الظفر بالمعرفة، وتكون المعرفة النظرية مقابلة للمعرفة الضرورية التي يراد بها المعرفة التي تقوم بالفطرة في نفس الإنسان.. وعليه تكون المعرفة النظرية ، أو النظر كخاصية دال على المعرفة الحاصلة بالاستدلال، وفي السياق الأخلاقي تكون الأخلاق النظرية أخلاقاً استدلالية قائمة على الحجة والبرهان، وباللغة المعاصرة تكون هذه الأخلاق مسلماتية، وليست أخلاقاً قابلة للمعايشة والتطبيق.

كما يلتفت الأستاذ طه عبد الرحمن إلى خاصية التجريد التي تضفى على الأخلاق، حيث تضع المتلقي أمام استقبال دلالة البعد عن العمل، والممارسة، فالمعنى الثابت الذي ينشئه المستمع للفظ التجريد هو المقابل لمعنى الممارسة، وعليه تصنف الأفكار، والنظريات التجريدية في خانة الأنساق الميتافيزيقية.

نلمس من خلال القراءة الأولية للدلالات المتضمنة في التعريفات المتعدّدة لكلمة إيتيقا Ethique صعوبة الوقوف على دلالة عامة، وقطعية للكلمة، وتكمن الصعوبة في التفرقة المقامة بين عالم النظر، وعالم الممارسة .

تطلق الإيتيقا على القواعد الأخلاقية اللامشروطة التي تحيل إلى توجه كانطي بين، أو إلى نظريات فلسفية مثل الأخلاق الأرسطية أو الأخلاق السبينوزية، فهي الدراسة الفلسفية ل- Morale للممارسات الأخلاقية، فهي من ثم النظرية النقدية ل-

ص: 259


1- الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: 3 - ص 1440

Morale باعتبار هي المضمون العملي ل- Ethique. وتظهر الصعوبة بشكل جلي في تعريفات أندريه لالاند ل- الإيتيقا حيث نجدها تعبر عن البعد النظري للأخلاق تارة، وعن المنحى العملي تارة أخرى، «العلم الذي يتخذ من أحكام القيمة بما أنّها تفرق بين الخير والشر موضوعاً له وهي أيضاً : «مجموع القواعد المعمول بها في مجتمع معين وفترة معينة»(1). وأيضا : العلم الذي يتخذ السلوك البشري في علاقته بالأحكام التقديرية النظرية موضوعاً له، و هي العلم الذي يدرس أحكام القيمة»(2).

والأخلاق Morale عند زريفان طابع مصطنع، وبناء اجتماعي في سياق مجتمع محدد، وهي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد وبين هذا الأخير الخارج... تنظم السلوك البشري داخل المجتمع وتبلغ مداها حينما یتم استبطانها داخلياً من طرف الأفراد، وهي خطوة في اتجاه الإيتيقا ..(3)أما الإيتيقا Ethique: فهي التزام فردي عميق يتجاوزم مجرد الالتزام بما تعاقد عليه المجتمع (الأخلاق).

ومع المدرسة الوضعية المنطقية بدأت الإيتيقا مع لحظة المراجعة، فأصل الخلاف يكمن في الدلالات، والمدخل الأساس لضبط الدلالة هو اللغة، ولم يقف فلاسفة المدرسة عند حدود مراجعة المبادئ المنطقية، والأحكام فيها بل اكتسح التيار الوضعي مجالات أوسع، وكانت الأخلاق حقل مراجعة ونقد، فكانت أسئلة ما بعد الأخلاق، أو الميتا أخلاق، التي اهتمت بدلالة كلمة خير بدلا من الاهتمام بالخير، وهي ما عرفت مع الفيلسوف الإنجليزي جورج ادوادرد مور، الذي «رفض فكرة وجود علاقة تطابق مفهومي بين الخير ومختلف تحديداته»..(4)فالدلالة التي تحملها الأخلاق لا تخرج عن صنفين : نسبيّة ودلالة مطلقة.

الدلالة النسبية : ويقصد بها المفهوم الذي لا يطرح أي خلاف، ويمكن الاقتناع به

ص: 260


1- اندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة وتحقيق: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، 2001.
2- جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر ، ترجمة عادل العوا، عويدات للنشر و الطباعة بيروت، ط/1. 2001.
3- عامر عبد زيد الوائلي وآخرون، النظرية الأخلاقية، ابن النديم للنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2015، ص: 280.
4- مونيك كانتو، الفلسفة الأخلاقية، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت ط:1 2008، ص66.

بكل سهولة، وهو معنى بسيط، وساذج على حد توصيف الفيلسوف، والذي يظهر في التعريفات التالية: «الإيتيقا هي البحث عما هو خير»، و«البحث في ماله قيمة، ما له أهمية حقيقية»، و«البحث عن معنى الحياة»، أو « ما يجعل الحياة جديرة بأنّ تعاش»، أو «الطريقة السليمة للحياة»(1).

الدلالة المطلقة: وتظهر في الينبغية، والمطلوبية التي تستبطن الأحكام الأخلاقية: «كان عليك أن ترغب في التصرُّف على نحو أفضل» فهو حكم قيمة مطلق، متجاوز النسبيّة الثقافة، والمنحى الشخصي.

لا تخرج نظرة فتجشتاين عن الرؤية العامة للمدرسة الوضعية، فهي تنظر إلى الأحكام الأخلاقية من زاوية مغايرة لنظرتها في نظرية المعرفة، «.. فالأحكام الخلقية - عند المدرسة الوضعية - لا توصف بالصدق أو الكذب، لأنها تعبر عن رغبات وأحاسيس ومشاعر إنسانية فقط، ويترتب على ذلك... أن لا يمكن الحكم بالصدق أو الكذب على الحكم الأخلاقي، فإنّ كل وجهات النظر الأخلاقية في رأي الوضعية المنطقية مشروعة تماماً، وربما انحدرت إليهم هذه النظرة من جورج مور»(2).

أخذت الإيتيقا مع الوضعية المنطقية إذن سياقات جديدة تقاطعت فيها مع التجريبية المعرفية، والأخلاقية في اعتبار الواقع مقياساً، ومعياراً للصدق في الأحكام، ومع التعالي الإيتيقي، في القول بندية الأحكام الأخلاقية، وتجاوزها لمعايير التقييم، وهو ما يعبر عنه بما وراء الأخلاق أو ميتا إيتكس Ethics - Meta حيث اعتبر رواد مدرسة علم الأخلاق «علم الواجب ، وهذا ما دفعهم إلى هذا العلم الخال من الدلالة المعرفية، والسبب في هذا عدم حديثه حديثه عما هو قائم فعلاً، وإنما حول ما يجب أن يكون.. فهو لا يتصل بالواقع facts، ولا يتصف بالعلمية مطلقاً»(3).

ص: 261


1- ورد في دروس ومحادثات حول الاستيتيقا وعلم النفس والمعتقد الديني، منشورات غاليمار 1992،ص.146-143.
2- مابوت، مقدمة في الأخلاق، ترجمة ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية، بيروت، ص:16.
3- مابوت، مرجع سابق، ص: 17.

الفيلسوف بيري Ralph Barton Perry(1): أخذت الأخلاق منحى آخر، ومع وهذا يدل على خلفيات الأزمة في الثقافة الغربية، فالأخلاق مفهوم قائم مستمر على نحو موصول في العالم، أو على أية حال يوجد شيء مستمر من المناسب أن نخلع عليه اسم (الأخلاق)، ولا يوجد شيء أكثر تداولاً وشيوعاً، كما لا يوجد شيء أكثر غموضاً، من هذا اللفظ ..(2)ويبين الفيلسوف رالف بارتون بيري أسس الالتباس في مفاهيم الأخلاق، وإشكالاتها، من خلال مناقشة تحليلية، ونقدية لدلالات المفاهيم الأخلاقية المتعارف عليها، التي عدّها أخطاء ساهمت في انحراف الفهم، والتفسير الذي اجتهدت المذاهب الأخلاقية في إقامته، من خلال اللحاظ الآتية:

أولاً: يكمن في الربط بين الأخلاق والزهد، التي أزلّت بالباحثين، في دراساتهم الأخلاقية، حيث عدّ رجال الأخلاق الميول، والرغبات، والحاجات مسائل طبيعية، تعكس الأنانية، والتعلّق بالحياة، أي إنّها تجليات الجسد: أرضية النوازع، ومصدر المنازعات. لكن القول بلا أخلاقية الرغبة هو إنكار لجزء من الطبيعة البشرية، يقول بيري: «إنّ الأخلاق لا تتطابق مع أي ميل وقتي أو أي رغبة خاصة ولما كانت تحتاج إلى ميول تضبط وتنظم، فإنّ الواجب يحسب على أنّه يتطابق مع عدم الرغبة وإحلال السلبي مكان الايجابي، وكل مصلحة ترفع رأسها تعدعدواً أو على الأقل خطر، أو هذا ما يعرف بالزهدية أو النسكية»(3).

ثانياً: الزلة الثانية التي وقع فيها البحث الأخلاقي هي فكرة السلطانية، أو الولاء المطلق لسلطة القيم الأخلاقية، وهي ما تمثله أخلاق الطفولة، فالالتزام، والقبول بصدقية الأحكام، أو الأوامر، والنواهي، هو تنازل عن حق الفرد في الحرية، والاختيار، وحسب [ بيري] تحتاج السلطة التي نقدم لها الولاء مبررات لشرعيتها، وسلطتها، وعليه فالعلاقة بيننا، وبين هذه السلطة لا تخرج من جنس الانفعال العاطفي: الخوف،

ص: 262


1- فيلسوف أمريكي (1876-1957).
2- رالف بارتن بيري، آفاق القيمة، ترجمة عاطف سلام، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2012 ص: 123.
3- المرجع نفسه، ص: 125.

أو الرهبة، أو الحب.. وعليه تكون العلاقة بين القيمة والمريد، أو الفاعل الأخلاقي فاقدة للشرعية الأخلاقية التي تقوم على تعلّق الفاعل بالقيمة.

ثالثاً: يصطلح عليه بالناموسية والذي استشفه بيري من البحث الأخلاقي، يقول .. «الناموسية، وفيها تتطابق الأخلاق مع مجموعة من القواعد أو النواميس، فهي شبيهة بما يسمى في عالم القانون بإتباع حرفية القانون، وهي إحلال الحرف محل روح القانون أو قصده .. »(1).

فابتعاد القيم والقواعد الأخلاقية عن المرونة، التي تعود في الأصل إلى روح المعاني الأخلاقية، وغاياتها، المرونة التي تمنح القيم بعدها الإنساني، إذ يصبح التعامل مع القيم تعاملاً صورياً، شكلانياً، في حين أن القيم، أو القواعد الأخلاقية إذا أخضعت للبحث، والدراسة، تفقد القاعدة الأخلاقية صفة المطلقية التي أضفتها السلطة الاجتماعية عليها.

رابعاً: الأخلاق حقل فعل وممارسة قبل أن يكون نظرية مجردة، على قاعدة المطلبية، وليس في سياق التفسير، لأن الولوج في البحث عن العلّة المصدرية للآخر يوقعنا في دور فلسفي لا نخرج منه أبداً، فالفكرة سابقة للفعل، أو العكس مسألة نظرية لا تفيدنا بشيء، والأمر الواقع هو التسليم بوجود نمطين داخل الحقل الأخلاقي: الأخلاق العملية، والأخلاق النظرية.

الأصل في التباين الذي عرفته الدراسات الأخلاقية يكمن في التعددية المرجعية التي عرفتها الرؤية الأخلاقية، فقد ساهمت العقائد في بناء الجدل على مستوى المضمون الأخلاقي، وعلى مستوى المنهج، ونجد في تاريخ العقائد التوحيدية: اليهودية، والمسيحية، والإسلام اهتماما بالمسائل الأخلاقية، ولكن الملاحظ أنّها ترنّحت بين التعاطي الميتافيزيقي، والشرعي في الفكر الديني.

وأزمة الأخلاق الغربية عائدة إلى تمثلاتها الثقافية لمؤشرات مختلفة، حيث ورثت

ص: 263


1- المرجع نفسه، ص: 127.

المسيحية كثقافة الموروث اليهودي كشرائع، وكقيم أخلاقية، خصوصاً الأصيل منها، وأضافت إلى هذا التراث لمسات أخلاقية، وشرعية تجازوت فيها المسيحية المحرف من الموروث اليهودي، ولذا نجد أيضا هذا اللون من التباين في الرؤية للمسائل الأخلاقية، فالاعتقاد بالقانون الأخلاقي عند المسيحية يتعارض مع القول بحرية الإرادة الأخلاقية، يقول سيدجويك: «..أول ما ينبغي ملاحظته لطرافته هو فكرة الأخلاق باعتبارها قانوناً إيجابياً لجماعة ذات حكومة إلهية لديها قانون مكتوب قد فرضه إله بوحي إلهي، وأيّدته وعود وتهديدات إلهية قاطعة ..»(1). ونستشف من هذه العبارة اعتماد الأخلاق المسيحية فكرة القانون، أو القاعدة الملزمة، والذي قعد للموضوعية في القيم، المسألة التي شهدت خلافاً نظرياً بين الفلاسفة، والذي برز في مسألة ذاتية القيم والملفت في الدراسات الأخلاقية المسيحية اعتبار الله المصدر الأول، والخالق المطلق لكل شيء، التي كانت المسلمة المربكة للاستدلال العقلي عند المسيحيين، حيث وجد علماء اللاهوت أنفسهم في موقف محرج في تفسير ارتباط الشر بالخالق، والخير المطلق، وسنحاول الإشارة إلى بعض من هاته التصورات الأخلاقية في الفكر الأخلاقي المسيحي على قاعدة ارتباط القيم الأخلاقية في الغرب بهذا الموروث.

تبرز المسألة الأخلاقي في الفكر القروسطي من خلال التعاطي مع مسألة الشر، حيث ك اهتم فلاسفة العصر القديم، والوسيط، بالمسألة من حيث بعدها الأنطولوجي، ومصدرية الوجود، حيث سلمت المانوية بعنصرين : الخير، والشر، كحل لمعضلة أصل الشر، ولكن مع الفكر الديني بدأت تأخذ وجهة أخرى، وبما أنّ الله الخير المطلق أصل الوجود ككل، بدأت الإشكالية تزداد حدة، لأنّ التسليم بوجود الشر مسألة واقعية، واقتران الشر بالخير قديم وجوداً، الذي استدعى تفسيراً لأسبقيته لمبدأ الخير، أو اقترانه به، والذي يمنحه قدسية نابعة من أقديمته، لذا وجد القديس أوغسطين تفسيرات متضاربة في المسألة، لم تمنحه اطمئناناً معرفياً، يقول: «..

ومع

ص: 264


1- سيدجويك، المجمل في تاريخ علم الأخلاق، ج 1، ترجمة: توفيق الطويل، عبد الحميد حمدي، دار نشر الثقافة، الاسكندرية، الطبعة الأولى 1949 ص: 207.

ذلك لم أقتنع بالشر وبسببه كما هو مشروح وموضح. «مهما يكن، كنت أرى أنّه يتوجب عليّ أن ابحث عن سبب الشر، دون أن يقودني ذلك للاعتقاد بأنّ الله الثابت هو متغير، وهكذا فتشت عن السبب بكل أمانة، مع العلم بأنّ نوايا أو مقاصد الذين كنت لا أتفق معهم لم تكن حقيقية»(1).

فالانحراف الخلقي عند أوغسطين مرده إلى الإرادة الإنسانية، والنزوع نحو تحقيق السعادة البشرية، واصطدامها بحجاب الجهل.

أما القديس أنسلم فقد كان موقفه من الإرادة الإنسانية، تأسيساً لنظريته الأخلاقية، حيث يبرز تأثره بأوغسطين، وما يتميز به عنه قوله: «بأن آدم قد سقط تلقاء نفسه وبمحض اختياره الحر، وإن لم يكن بمحض حريته.. وبهذا يقيم تفرقة ضمنية بين الحرية التي تقابل الحتمية وحرية التحرر من عبودية الإنسان للخطيئة.. ويتميز أيضا بأطروحته القائلة بأنّ الحرية في إرادة ما هو حق لم تُفقد كليةً حتى عند الإنسان الذي يقترف الإثم، إنّها فطرية في الطبيعة العاقلة وإن كانت منذ خطيئة آدم لا توجد في الإنسان إلا بالقوة كالقدرة على النظر في مكان مظلم إلا إذا وجدت بالفعل بفضل من الله»(2).

وارتباط الفعل الخلقي بالإرادة الإنسانية مسألة بدهية في الحياة الخلقية، ولكن فی الاعتقاد الغربي المسيحي تصبح البرهنة على هذه المسلمة مسألة شائكة، وقد حاول رواد المنطق الغربي مقاربة المسألة في صورة منطقية، مثل ابيلارد(3)، إذ يؤسس الرؤية الأخلاقية على مبدأين: الخير في ذاته، ومبدأ النية والقصد.

الدلالات التي أخذها الخير في الاصطلاح الأخلاقي لا تخرج عن جنسين: خير في ذاته، وخير يُطلب لغيره، والذي يتبلور مع القديس توما الإكويني، حيث يظهر الأثر الأرسطي بارزاً في فكره الأخلاقي، ويعتقد ابيلارد أن التصور المتعالي للخير في ذاته في الفكر الأخلاقي الإغريقي يتقاطع مع التصور المسيحي للخير .. إنّ مفكري

ص: 265


1- القديس أوغسطين، الاعترافات : 3/7
2- هج سيدجويك، المرجع نفسه، ص 241.
3- بطرس ابیلارد 1142/1079.

الأخلاق من قدماء اليونان وهم يوصون بحب الخير لذاته مجرداً من الهوى أقرب في الحقيقة إلى المسيحية من التشريع اليهودي.. وقد كان هؤلاء الفلاسفة مثالاً في السيطرة على الرغبات الحيوانية وفي احتقار الأمور الدنيوية والولاء لمطلب النفس مما قد يشين أكثر رهبان عصره»(1).

أقامت العقيدة المسيحية فلسفتها الخلقية على مجموعة من المبادئ، يمكن إيجازها في مجموعة من الخصال الرئيسة، التي تتفرع عنها مجموعة من الأخلاقيات فی المعتقد المسيحي، التي حاول علماء اللاهوت التنظير لها، وهي:

الإيمان: تحيل دلالة الإيمان العقل إلى القبول، والتسليم بالقانون كحقائق متعالية، مما يفترض تعارضاً بينه، وبين العقل، وهذا ما يلاحظ على الإشكالات الفلسفية التي عرفت في المسيحية «آمن ثم تعقل» .. التي حاول فيها القديس أنسلم التوفيق بين الديالكتيكيين، واللاهوتيين في مسألة العلاقة بين العقل والنقل، فالإيمان المسيحية هو قوة الاستمساك بالأفكار الخلقية، والدينية، من دون النظر في قوة البرهان العقلي، والإيمان هو السبيل، والدليل إلى تمثل، وتجسيد الاعتقاد المسيح عليه السلام، فالإيمان في المسيحية هو نفسه الإيمان في العقائد الأخرى، يقول سيدجويك: «.. ليس ثمة فرق أخلاقي بين الإيمان المسيحي والإيمان اليهودي أو الإيمان الإسلامي..».

الحب: ارتباط الإيمان بالعمل لا يمر إلا عبر الحب، فالالتزام بالقيمة، والسعي نحو تجسيدها يفترض تعلقا بها، وعشقاً لها، وموضوع الحب في الأخلاق المسيحية هو الله،ثم يليه حب جميع الناس باعتبارهم تجليات الله، وموضوعاً للحب الإلهي، وسنرى مع فلاسفة المسيحية إسقاطات جمة لهذا الحب، على مستوى تقابلي، النفور من الشر، ومحاولة اجتناب الخطيئة، وهذه العاطفة الدينية، والأخلاقية بين المسيحيين هي المؤسسة لروح التكافل الاجتماعي، والإيمان به کواجب اجتماعي ملزم

ص: 266


1- ه . ج . سيدجويك ، المجمل في علم الأخلاق، مرجع سابق، ص: 214.

الطهارة: فكرة الدنس بصورتيه المادية، والمعنوية هاجس رافق المعتقد المسيحي، منذ البداية، وهي أوسع معنى من العفة، فالعفة تتناول طهارة الأعضاء، وسلوك الغريزة في مجراها الطبيعي من دون انحراف، أما الطهارة فهي الفضيلة التي تشمل قداسة الفكر، وطهارة المشاعر، وعفة السلوك، فالإنسان الطاهر طاهر في حواسه وفي خلجات قلبه، وفي أقواله، وفي نظرات عينيه وفي ملمسه وملبسه وأحاديثه وكل ما يتناول حياته الباطنية والخارجية معاً، الطهارة هي فضيلة مسيحية من عمل الروح القدس في المؤمن ولكنها تحتاج إلي جهاد وسهر ويقظة قلب.

وتستمد القيم، والخصال الأخلاقية من سيرة المسيح عليه السلام، التي تم بلورتها،وتأويلها حسب الطبيعة البشرية، التي تضفي على النصوص الشرعية، والتاريخية أخلاقيات ذاتية، ومن بين الصفات التي اتسمت بها الأخلاق المسيحية:

الطاعة والالتزام: شكل الالتزام، الامتثال لأوامر المسيح عليه السلام، أو القانون الشرعي، أو الأخلاقي، ولكن هذه الطاعة استثمرت من قبل السلطة في تمرير أطماعها، والذي نجده في التاريخ اليهودي من مرجعية تاريخية في إثبات سلبيات الطاعة العمياء، حيث اقتنع عامة المؤمنين في الديانة بخدمة الأحبار، والثقة المطلقة في أقوالهم، وأوامرهم، حيث أصبحت أقوالهم، وطلباتهم جزءاً من الأوامر الإلهية، وفي المسيحية برزت أيضا فكرة الصكوك، والتزكية من طرف القسيس، والرهبان لدخول عالم الملكوت، والذي لم يكن إلا مظهراً من مظاهر التخدير.

النفور من الدنيا: ارتبطت العقيدة المسيحية بالزهد، والنفور من ملذات الدنيا، وبهرجها، وهذا ما لوحظ على القسيسين، والرهبان، فاحتقار عالم الدنيا، انعكس على العلاقات المدنية في المجتمع المسيحي، فالأسرة ،قيد، وأسر للمؤمن، وربطه بعالم الأرض، وعائق على الارتقاء إلى عالم الملكوت، وهذا ما نجده عند المسيحيين الأوائل، مثل جوستین مارتیر justin martyr،وأوريجين origen وترتوليان، وسیبریان Cyprian ، وكان من النتائج المترتبة عن هذا الاعتقاد، أن نزعت : «الوطنية والإحساس بالواجب المدني تحت تأثير المسيحية إما إلى التوسع في حب إنساني

ص: 267

شامل للبشر جميعاً أو إلى التركيز في المجتمع الكنسي ، يقول ترتوليان: «إننا نعرف حكومة جمهورية واحدة هي العالم، ويقول أوريجين: إ«نّنا نعرف أنّ لنا وطناً أقامته كلمة الله»(1).

الصبر : من الفضائل العقلية والعاطفية، واقترن تاريخ القيم والأديان بالتأكيد على هاته القيمة، وقد أكد المسيح عليه السلام على اجتناب التعامل بالمثل، والرد على العنف بالعنف، إذ تؤكد الحكم المسيحية على ذلك، وقد جاء في هاته الصيغة: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ : عَيْنٌ بِعَينٍ وَسِنْ بِسِنٌ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأيمن فَحَوِّلْ لَهُ الآخر أَيْضاً . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكُ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَين(2)«وقد أكد القديس أمبروز، وأغلب رجال الدين على وجوب احتمال الآلام لمنع إراقة الدم حتى في حالة الدفاع عن النفس.

الإحسان: قيمة عاطفية تقابل العدالة كقيمة عقلية، والمشهود به في تاريخ الإنسانية الحرص الحثيث للقديسين على ممارسة هذه الفضيلة، والأسماء تطول في المسيحية، ويتقاطع الإحسان مع الجود، والسخاء على الغير، وقد ساهمت هذه الممارسة الخلقية في إنماء ظاهرة التشارك الوجداني بين الأفراد، وهي قيمة رئيسة في بناء الوحدة، والتماسك داخل الأمة، أو داخل الدولة القومية، ولهذا نجد قيمة التعايش داخل المجتمع المسيحي بشكل قوي، وهذا يرتبط أيضا بنظرة المسيحية للثروة، فامتلاكها لا يمنح الشرعية للفرد على التمتع بها لوحده، بل من الواجب مواساة، ومساعدة الغير.

الخشوع: تسير فكرة الخشوع في المسيحية بطريقة عكسية مع الثقافة الإغريقية والرومانية التي تنطلق من تقديس الذات، وعزة النفس عند المواطن اليوناني، والروماني، فلا خنوع، ولا ركوع إلا للسلطة، والسلطة تؤسس مبادءها، وتشريعاتها وفقا لقيم المواطن، ففي الاعتقاد المسيحي الخشوع، وطلب الاستمداد من القوة العليا الغيبية أصل عقدي.

ص: 268


1- ه. ج . سيدجويك، المجمل في علم الأخلاق، مصدر سابق، ص: 219.
2- إنجيل متى الإصحاح 5: 39 العهد الجديد.

تشكّل هذه المسلمات المسيحية جزءاً من الشخصية الأخلاقية الغربية، فهي متعلقة بموروث روحي يمارس على الوعي الغربي مجموعة الزامات ضاغطة في الفعل الفردي، والجماعي، فلا يوجد فعل ثقافي خارج المحددات والأطر التكوينية العقل الجماعة، فالأخلاق الغربية حبلى بمتناقضات عدّة، حيث تظهر أثر العقيدة المسيحية في ظاهرة الحب، والتسامح، والإحسان عند الغرب، كما نجد أيضاً ظاهرة التقديس للمصلحة فردية كانت، أو جماعية، التي نعتبرها نتاجاً لرؤية ضيقة الأفق، تمخضت عن اعتقاد خاطئ في فهم العقل، والعقلانية.

يمكن القول إنّ الفكر الغربي في مجمله، قائم على رؤية للعقل، والعقلانية، إذ نجد أن العاقلية في تعريف الإنسان تحتل موقع الفصل النوعي لبني الإنسان، فهي الخاصية التي يسمو بها الإنسان عن باقي الموجودات، فالعقل هو جوهر، وبه تكتمل الإنسانية، وما يحسب للأستاذ إثارته لبعض التساؤلات حول العقل والعقلانية، فإذا كانت العقلانية سمة مطلوبة وليست وجودية أي وجوبية وكيف يمكن قراءة، وتوصيف الإنسان الطفل أو المبتدئ في اكتساب العقلانية، فهل ينبغي إقصاؤه وإخراجه من دائرة الماصدق الذي ينطبق عليه المفهوم، وعلى حد تعبير الأستاذ طه عبد الرحمن: «أضحى الجميع يتنافسون على نسبة العاقلية والمعقولية والعقلانية لما يقولون ويفعلون، لكي ينتزعزوا المشروعية لأقوالهم والتزكية لأفعالهم ..»(1)، وعملت الإيديولوجية على حذف العقلانية على الشخص الآخر، والذي يكون مخالفاً.

والعقلانية لا تعكس الإنسانية، فالفعل هو البديل لمصطلح العقل عند طه عبد الرحمن، ومعلوم أن الفعل لم يرتبط بشيء قدر ارتباطه بالأخلاق، فيتحدد تبعا لهذا أن التخلق مقابل للتعقل، كما يناقش فكرة أنّ الأصل في الأخلاق هو حفظ الأفعال الكمالية، حيث يستفاد من المعنى «..إنّ الأخلاق أفعال يتوصل بها إلى ترقية الإنسان إلى مراتب لا تدخل فيها هويته ولا بالأولى وجوده، أي أفعال تتعلق بما زاد على هذه الهوية وعلى هذا الوجود، وعلامة ذلك الاسم الذي اشتهر بالدلالة على الأخلاق

ص: 269


1- المرجع نفسه ص: 173

الحسنة، ألا وهو الفضائل فالفضيلة من الفضل، والفضل هو ما زاد على الحاجة أو ما بقي من الشيء بعد الوفاء بالحاجة . . »(1).

وإذا قرأنا الدلالة من خلال الغائيّة التي تملكها الأخلاق، أو من خلال الاصطلاح الذي تواضع عليها علماء اللغة، وفلاسفة الأخلاق، لوجدنا أنّ الأخلاق مجرّد خصوصيات عرضية لا تتعلّق إلا بالشكل، وبمرحلة في سُلّم الترقي للشخصية الإنسانية، ويُصبح الإنسان كائن مجرد من الأخلاقية في البدء، وفي التكوين، كما يضع الأخلاق في مستوى التخليق، أو بلغة فلاسفة الغرب: «الأخلاق المكتسبة، وطه عبد الرحمن في مشروعه، مشروع البحث عن آليات تراثية لتنظيم، وتحيين الهوية، الهوية المو هوية العربي، وهوية المسلم، هي المرمى الذي استقطبه الاستشراق، ومهدت له الأمة بمجموعها، فالأخلاقية كما يقول طه عبد الرحمن هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلا عن أفق البهيمية، فلا مراء أن البهيمية لا تسعى إلى الصلاح في السلوك كما تسعى إلى رزقها مستعملة في ذلك عقلها، فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرّع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تتفرع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي»(2).

والأخلاقية ليست في مستوى واحد، بل هي متغيرة، ومتفاوتة، فهي نتاج فعل إرادي، وتراكم ثقافي، يقول: «إنّ هذه الأخلاقية ليست رتبة واحدة، وإنما مراتب مختلفة، أدناها رتبة الإنسانية التي تكتفي بأخلاق مجردة لا يقين في دوام نفعها وحسنها، تليها رتبة الرجولة التي هي كمال الإنسانية، ثم رتبة المروءة التي هی كمال الرجولة، وأعلاها رتبة الفتوة التي هي كمال المروءة»(3).

فدلالة العقل لا تنفصل عن تاريخه وتتبع تاريخ العقل في الدراسات الفلسفية

ص: 270


1- طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، ص: 53.
2- طه عبد الرحمن ، سؤال الأخلاق، ص: 14.
3- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص: 189.

يسافر بنا إلى كثير من الدلالات، فهو تلك الملكة، التي نميز بها بين الصحيح والخاطئ، وتلك القدرة التي تؤهلنا لمعرفة الخير من الشر أيضًا، واعتباره - العقل - كقدرة وملكة سكونية طرحت عند طه عبد الرحمن كثيراً من التساؤلات، منها الاختلاف الحاصل في أنماط المعرفة، وهو «على الحقيقة - أي: العقل عقول شتى، لا فضلا عن الأفراد المختلفين أو الطوائف الكثيرة، وإنما فضلا عن الفرد الواحد.. فالعقل يتكثر من أجل جلب المنفعة لصاحبه، أما العقل الذي يجلب المضرّة لصاحبه فهو عقل متقلّل، وليس أبداً عقلا متكثرا »(1).

وإذا كان العقل متكثّرًا، أي إنّه متغير تبعا لنوع الموضوع، ولطبيعة الغاية، فإنّ أوجه العلم تكون أيضًا متكثرة، والعلم على نوعين: علم يطلب لذاته، وهو علم معرفة الله تعالى وصفاته، كالكمال، والجمال والوحدانية، كما جاء في قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)(2)، وعلم يطلب تعلمه من أجل العمل به، وهذا النوع يسمّى العلم التطبيقي، وهو على نوعين: أولهما الأمور التي تؤدى بواسطة الجوارح، والأعضاء كالصلاة والصوم والحج، ويُدعى هذا العلم في علم الأخلاق بالفقه الأصغر ، ثانيهما: علم الأعمال الروحية والنفسية، كالأعمال التي تؤدى بواسطة القلب والجوانح ، وهو ما يسمى بالفقه الأكبر(3).

وعليه تكون العقلانية على قسمين: «..عقلانية مجردة من الأخلاقية، وهذه « يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسددة بالأخلاقية، وهي التي يختص بها دون سواه..... والصواب أنّ الأخلاقية هي مابها يكون الإنسان إنسانًا .. »(4)، فالهوية الإنسانية لا تتأسس على العقل بل على الأخلاق.

ولكن التقديس الذي منحه الغرب للعقل، من خلال أنطولوجيته أي إضفاء

ص: 271


1- طه عبد الرحمن، اللسان والميزان، المركز الثقافي العربي، المغرب الطبعة الأولى 1998 ص: 405.
2- سورة محمد الآية 19.
3- جوادي آملي، الحياة الخالدة في علم الأخلاق، دار الهادي بيروت، الطبعة الأولى 1996 ص ص : 10/9
4- طه عبد الرحمن ، سؤال الأخلاق، ص: 13.

البعد الجوهري المستقل له ساهم في انحراف التوجه الأخلاقي لديه، خصوصا ما تعلّق بازدواجية النظر إلى العقل، فالقول بعقل نظري، وعقل عملي أنتج تعارضًا بين المستوى النظري المجرد للقيمة، والفعلية الممارساتية للقيم، فالتغير، والنسبية عنوان مميز للفعل الخلقي، في مقابل التعالي والترانسدنتالية لمنظومة القيم، والرؤية البراغماتية (الذرائعية في الأخلاق) تعبر عن الأزمة، إذ تكون المصلحة، ومعيار التحقق وفقًا لمعايير ذاتية مقياسًا للحقيقة. الأخلاق الغربية بريادة الولايات المتحدة الأميركية تتعاطى مع القيم الأخلاقية داخل مجالها الاجتماعي بالمنظومة الإنسانية، أو بما تعرف بأخلاق المحبة، وتقديس الإنسان، ولكن أي إنسان؟! الغربي فقط، ولكنّها مع المجتمعات الشرقية تجعل من المصلحة القومية معيارًا رئيسًا لتعاملاتها القيمية.

ولتوضيح هذه الازدواجية نشير إلى زئبقيّة مفهوم الإنسان في الفلسفة الغربية، حيث تؤكّد القراءات أنّ ماصدق الإنسان في الحكم الغربية يصدق فقط على الرجل، وليس على المرأة، يقول إمام عبد الفتاح إمام متحدثًا عن روسو: «..«علينا أن نلاحظ بدقة أنّ كلمة الناس أو البشر التي يستخدمها بكثرة أو حتى كلمة الإنسان (وهي كلمة مضللة) التي كثيراً ما تخدعنا لا يقصد بها هنا سوى الرجل المساواة بين الرجال، والحرية للرجال، والعدالة من أجل الرجال وعبارة: ولد الإنسان حراً وهو الآن مكبل بالأغلال في كل مكان لم تكن تعني البشر جميعا رجالاً ونساءا، بل تقتصر على الرجال فحسب . ».(1)و في موقف جون لوك من المرأة أيضا تلاعبًا في الدلالة من خلال نظريته في الملكية، فالقواعد التي تؤسس حقوق التملك تبنى على قاعدة الاحتياج، وبما أنّ المرأة تابع للرجل انطلاقا من التراث الاجتماعي والديني، فهي مصداق الضعف، يقول: هناك مبدأين رئيسيين يحكمان نظرية «لوك» عن الملكية و المرأة هما ضعف بنية المرأة، فالرجل بما له من قوة بدنية «هو الأرقى والأقدر»، إنّ المرأة أقل من الرجل من حيث الفهم و الإدراك فإذا

ص: 272


1- إمام عبد الفتاح إمام ، روسو والمرأة، مرجع سابق ص 9.

كان أساس الملكية الخاص هو الجهد و الكد والتعب .. الخ.. وهو أمر لا تطيقه المرأة ولا تقدر عليه، وإذا كانت ملكية الأرض وفلاحتها هو الأساس في باقي أنواع الملكية، وهو ما يحتاج إلى جهد وتعب وقوة عضلية لا تملكها المرأة لهذه الأسباب كلها كانت الملكية أساسًا هي ملكية الرجل، ومن هنا فقد كان تركيز [لوك] على ضمان حق الرجل في الملكية ...(1). ويتبين لنا من خلال هذه النصوص مراوغة الفيلسوف في الخطاب، والذي يعكس ازدواجية الخطاب الغربي في كل المستويات الأخلاقية، والسياسية، فالتباين حول الحقيقة لا يبرر نفيها ، فعدم إيجاد الشيء لا ينفي وجوده، فالطرق إليها نسبية، ووجودها مطلق، واختلاف الفلاسفة راجع إلى طبيعة العلاقة بينهم وبين السلطة، وليس إلى آليات البحث، واعتبار الفيلسوف العقل المفكر للجماعة، فكرة تحتاج إلى إعادة نظر، لأنّ التنظير بكيدية لا يزيد المجتمع إلا بعداً عن الحقيقة.

ص: 273


1- إمام عبد الفتاح إمام، روسو والمرأة، مرجع سابق ص 128.

علم الأخلاق الوسطى عند أرسطو

اشارة

د. مصطفى النشار(1)

لاشك في أن أرسطو (384 - 322 ق.م.) هو المؤسس لعلم وفلسفة الأخلاق عموما، كما أنه صاحب أول مذهب وسطى في تاريخ الفكر الأخلاقي عبر التاريخ.

أولاً: موضوع علم الأخلاق ومنهجه:

حرص أرسطو كعادته وهو يؤسس أياً من العلوم التي أسسها أن يحدد موضوع الأخلاق كما حدد موضوعات العلوم الأخرى فكان بذلك هو المؤسس الفعلي لعلم الأخلاق رغم أن كتابات كثيرة سبقته في هذا المضمار شرقاً وغرباً؛ إذ كان المصريون القدماء رواد البحث الأخلاقي منذ فجر التاريخ الإنساني وربما كان حكيم مصر القديمة العظيم بتاح حوتب رائد الكتابة في الأخلاق في لوحاته التي فاقت الأربعين

ص: 274


1- أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة. اشار الدكتور الى كون ارسطو هو المؤسس الفعلي لعلم الأخلاق، وثم انه يؤكد ان كتابته عن ارسطو كانت تهدف الى الكشف عن النوع الأكمل والأفضل من أنواع السلوك الإنساني الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان في حياته فإن الخير هو ما يطلبه كل شيء في الوجود، لكن البحث عن طبيعة الخير فيقتضي التمييز دائماً بين الأفعال ونتائج الأفعال وكلاهما من الغايات التي يطلبها الإنسان في حياته. وبالطبع فإن الغاية أفضل من الوسيلة، والغاية تكون أفضل إذا ما كانت غاية في ذاتها وألا تتحول يوماً إلى وسيلة لغاية أبعد حتى ننتهي من سلسلة الغايات والوسائل إلى غاية الغايات التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها في حياته التي تمثل الخير الأقصى له هي: السعادة! ونجد ان ارسطو كان حريص على مخاطبة العقل الواعي للإنسان وحرصه في الوقت ذاته على أن يكون الاقتناع والفعل هما جوهر الأخلاقية عند الإنسان.. المحرر

لوحة التي جمعت فيما سمي «بمخطوطة الحكمة»(1). كما كان للبابليين والهنود والفرس ولمفكري الصين السبق جميعاً في هذا المضمار. ولا شك في أن هذه الكتابات والآراء الأخلاقية جميعاً قد أثرت بشكل أو بآخر في إزكاء الوعي بأهمية القضايا الأخلاقية وإعمال التأمل فيما يجب أن تكون عليه الأخلاق الإنسانية في بناء مجتمع إنساني أفضل. وبالطبع فقد تلقف اليونانيون هذه الآراء وبلوروا من خلالها آراء ومذاهب أخلاقية بلغت قمتها فيما قبل أرسطو عند سقراط وأفلاطون. لكن الحق أن الكتابة في الأخلاق كعلم مستقل كان فضل السبق فيه موضوعاً ومنهجاً لأرسطو نفسه؛ فقد كتب أرسطو عدة مؤلفات كان أهمها وأكثرها دقة في التعبير عن الموقف الأرسطي الأصيل هو كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخوس»؛ ففي هذا الكتاب بالذات تبلور موضوع البحث الأخلاقي سواء اتخذ طابعاً علمياً أو اتخذ طابعاً فلسفياً نظرياً إنه البحث في السلوك الإنساني رصدا لما هو كائن وصعودا منه إلى بلورة صورة لما ينبغي أن يكون عليه هذا السلوك حتى تتحقق أسمى صورة للسعادة الإنسانية.

وفي ضوء ذلك يتحدد المنهج ؛ إذ إن الدراسة الوصفية التجريبية الراصدة لما هو كائن تلتزم حسب التعبير الأرسطي منهجاً استقرائياً وهذه هي نقطة البدء التي ينبغي أن يستند عليها فيلسوف الأخلاق الساعي إلى بلورة المبادئ الأولى والقواعد العامة التي ينبغي أن يلتزم بها الفرد حتى يكون سلوكه موافقاً للطبيعة الإنسانية الحقة.

إن الغرض الذي استهدفه أرسطو من كتابه هو الكشف عن النوع الأكمل والأفضل من أنواع السلوك الإنساني الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان في حياته بحيث يحقق الخير الأقصى الذي وجد من أجله(2). ولما كان تحقيق هذا الغرض الذي يستهدفه الفيلسوف لا ينبغي أن يظل في إطار الكتب المؤلفة، بل ينبغي أن ينسرب في حياة الناس حتى يصبحوا فضلاء فيحققوا في حياتهم المثل الأعلى للإنسانية؛ فقد حرص أرسطو أن يبدأ من رصد ما هو كائن في سلوك الإنسان بمنهج استقرائي حتى يأخذ

ص: 275


1- انظر : بحثنا : بتاح حتب - رائد الفكر الأخلاقي في مصر القديمة، منشور بكتابنا: نحو تأريخ جديد للفلسفة القديمة -دراسات في الفلسفة المصرية واليونانية، مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة الطبعة الثانية.
2- انظر: أرسطو طاليس: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس (ك - 1 ب 1 (ف1-8))، ترجمة أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1924، ص 167-170.

بید قارئه فينتقل معه وبه تلقائياً من معرفة ماهو شائع من صور السلوك الإنساني الذي يحقق السعادة من وجهة نظر الإنسان العادي، إلى معرفة نقائص السلوك وضرورة التحول من هذه السلوكيات الشائع أنها محققة للسعادة، إلى السلوك الأمثل الذي يحقق الخير الأقصى للإنسان بما هو إنسان.

ثانياً: التوحيد بين الفضيلة والسعادة:

إن الخير هو ما يطلبه كل شيء في الوجود ، فماذا يكون الخير بالنسبة للإنسان بما هو كذلك؟ إن الإجابة على سؤال كهذا يقتضي بداية البحث أولاً عن طبيعة الخير وثانيا عن المقصود بالخير وتفاوت البشر في ذلك.

أما البحث عن طبيعة الخير فيقتضي التمييز دائماً بین الأفعال ونتائج الأفعال وكلاهما من الغايات التي يطلبها الإنسان في حياته وعموماً فإن الغايات من النوع الثاني أفضل من النوع الأول إذ إن الفعل من النتيجة بمثابة الوسيلة من الغاية. وبالطبع فإن الغاية أفضل من الوسيلة، والغاية تكون أفضل إذا ما كانت غاية في ذاتها وألا تتحول يوماً إلى وسيلة لغاية أبعد فإذا سألت مريضاً مثلاً : لماذا تجمع المال! لقال لك إن غايته هي العلاج من المرض الذي ألم به. وإذا ما سألته وما غايتك من العلاج؟ لكانت الإجابة هي: الصحة، وإذا ما سألناه وما الغاية منالصحة، لكانت الإجابة ممارسة الحياة بشكل يحقق اللذة وإذا ما تساءلنا مرة أخرى. وما الغاية من هذه اللذة وممارستها لكانت غاية الغايات التي لا يمكن اعتبارها وسيلة لغاية أبعد هي : السعادة!

إن أي فعل إنساني إذن له غاية، وكل غاية تحقق تنقلب في لحظة ما إلى وسيلة لتحقيق غاية أبعد حتى ننتهى من سلسلة الغايات والوسائل إلى غاية الغايات التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها في حياته التي تمثل الخير الأقصى له

هي: السعادة!

إذن الخير الأقصى هو السعادة، تلك إذن غاية غايات أي فعل إنساني كما

ص: 276

أجمعت على ذلك آراء الناس العامة والخاصة(1).وهنا يجدر التساؤل عن: ماهية السعادة.

وهنا يبدو الخلاف بين الناس واضحاً؛ فعامة الناس عادة ما يرون أن السعادة هی حياة اللذة أو حياة الجاه والسلطان أو حياة الثروة والمال. أما الخاصة وعلى رأسهم الفلاسفة كأفلاطون وأتباعه مثلاً فيرون العكس تماماً فهم يعتقدون أن كل هذه الأشياء ليست خيراً في ذاتها وإنما تستمد خيريتها من مبدأ أعلى وأن هذا المبدأ المثال عند أفلاطون هو الخير وهو علة كل خير آخر.

إن هذا الخلاف الشاسع بين آراء العامة والخاصة حول ماهية السعادة هي ما جعل أرسطو يقرر أن حل مثل هذا الأشكال إنما يبدأ من البحث عن الخير الأقصى مما هو بين لدينا وليس مما هو بين بذاته. فأرسطو إذن يبدأ من البحث في آراء عامة الناس لأنه هو الواقع الذي يعيشونه وهو واضح أمامنا، في حين يعدّ أن البين في ذاته أو

المثال أبعد عن مداركنا البشرية وهو أكثر تجريداً مما ينبغي(2).

إن نقطة البداية التي ينطلق منها أرسطو هو حياة الفضيلة كما تتجلى في سيرة الرجل العادي الفاضل نفسه أياً كانت رؤيته للسعادة فإن كان يرى أن الفضيلة المحققة للسعادة هي اللذة أو الجاه ناقشناه فيما يتصور، فإن اللذة إذا كان مقصودا بها كما هو شائع عند العامة اللذة الحسية لكشفنا له بداية أنها لذة وقتية ويعقبها الألم فضلا عن أنها لا تحقق ماهية الإنسان ووظيفته الأسمى. أما القائل بأنها في الجاه أوضحنا له أنه وضع سعادته في يد غيره، إذ إنها هنا لدى مانح الجاه أكثر مما هي لدى ممنوحه . ثم إن الجاه هو من الفضيلة يعد في منزله الجزاء أو المكافأة أي إنه الجزاء الذي يصيب من اختار حياة الفضيلة؛ ومن ثمّ فحياة الفضيلة متقدمة على هذا الجزاء أو تلك المكافأة!

ولما كانت صور البحث عن السعادة مختلفة ومعانيها مختلفة رغم أن الجميع

ص: 277


1- نفسه : (ك - 1 ب 1 (ف 7-8))،الترجمة العربية، ص 176-177.
2- أرسطو طاليس: نفس المصدر (ك - 1 ب 2 (ف2))، الترجمة العربية، ص175.

يرى أنها الأحرى باسم الفضيلة، فالأجدر بنا أن نتساءل بداية لا عن معنى السعادة، بل عن معنى الفضيلة فإذا ما أدركنا ماذا تعني الفضيلة بالنسبة لطبيعة الإنسان ككل، أدركنا من ثم ما هی الصورة الحقيقية للسعادة الموافقة للفضيلة والموافقتان معا للطبيعة الإنسانية.

إن مصطلح الفضيلة Arête - Virtue عند اليونانيين يعني الميزة أو الخاصية المثلى Excellence التي يتميز بها الشيء، فكونك فاضلاً يعني كونك ممتازاً في الفعل الذي يميزك عن غيرك، فأخيل عندهم كان رجلاً فاضلاً باعتباره كان المحارب الممتاز (البطل)(1).

وعلى ذلك فخير الإنسان ككل هو عبارة عن كمال نفسه الناطقة بأدائه وظيفته الخاصة على أكمل وجه فإذا كان ما يميز الإنسان وخاصته المميزة هي أنه ذلك الكائن الناطق - المفكر فإن معنى ذلك أن فضيلته تبدو حين يمارس هذه الوظيفة وكلما اقترب من الكمال أداء هذه الوظيفة كلما ارتقى في سلم الفضائل حتى يحقق أسماها وأعلاها طوال حياته وليس لفترة قصيرة منها(2). إن الفضيلة الإنسانية إذن بوجه عام التي تحقق سعادته هي فعل من أفعال النفس العاقلة وليست فعلاً من أفعال الشهوة أو اللذة. وهنا يبدو المقصود الأولى للفضيلة عند أرسطو.

ثالثاً: معنى الفضيلة وأنواع الفضائل:

(أ) معنى الفضيلة:

إن الفضيلة هي في المقام الأول فعل من أفعال النفس وليس البدن وبما أن جزئي النفس الإنسانية أحدهما ذو عقل والآخر محروم منه(3)، فوجب أن يتحكم القسم العاقل في القسم غير العاقل حتى تبدو أول صور الفضيلة عند الإنسان لأن «الجزء

ص: 278


1- Lear (Jonathan): Aristotle - The Desire To Understand. Cambridge University Press، 1988، P.153
2- أرسطو طاليس: نفس المصدر ( ك - 1 ب 4(14-16)، ص194-195. وانظر كذلك ماجد فخري، نفس المرجع ، ص 106
3- أرسطو طاليس : نفس المصدر ( ك - 1ب -11ف9) ، ص 221 .

غير الناطق في النفس لا يوصف بأنه (فاضل) أو محمود إلا من حيث صلاحيته للخضوع للجزء الناطق فيها، أو من حيث خضوعه بالفعل له»(1).

إن للقسم العاقل عند الإنسان مهمة مزدوجة حيث يميز فيه أرسطو بين الجزء ذي العقل على الخصوص وبذاته، وبين الجزء الذي يستمع للعقل كما يستمع لصوت الأب الرحيم(2)، وعلى أساس هذا التمييز يميز بين نوعين من الفضيلة، فضائل عقلية وفضائل أخلاقية(3)؛ العقلية تكاد تنتج دائماً من تعليم، إليه يسند أصلها ونموها والأخلاقية تتولد على الأخص من العادة والشيم»(4). وهنا يكشف أرسطو عن أن الفضيلة ليست بالطبع فقط، كما أنها ليست مكتسبة فقط؛ إن الفضيلة ليست فينا بفعل الطبع وحده - وليست فينا كذلك ضد إرادة الطبع»(5).وبهذا يرفض أرسطو آراء كل القائلين بأن الفضيلة فطرية في الإنسان كسقراط وأفلاطون، فنحن لا نولد فضلاء وإن كان لدينا بالطبع الاستعداد الطبيعي لنكون كذلك، وبداية الطريق هي أن نتعود منذ الصغر على سلوك طريق الفضيلة، وهذا التصور هو ما ينميها فينا ويتم وجودها.

وإذا كانت النفس الإنسانية مؤهلة بالطبيعة لممارسة انفعالات شتى وشهوات شتی تتراوح بين اللذة والألم فإن الفضائل تبدأ في النفس حينما نتجنب الإفراط في اللذة أو الألم ونتعود على ممارسة السلوك الوسط كعادة حتى تتكون لدينا ملكة الفضيلة(6).

إن كل ما سبق مجرد تمهيد لتعريف الفضيلة إذ إنه لا يكفي أن نعرف ماهية النفس العاقلة ومهامها كما أنه لا يكفي أن نعرف أن الفضيلة ليست طبعاً نخلق به، بل تتولد فينا عن طريق الاستعداد والتعود على السلوك الفاضل متجنبين الإفراط في انفعال اللذة أو انفعال الألم.

ص: 279


1- أرسطو طاليس: الأخلاق الكبرى (ص 1206 ب (19).نقلاً عن: جورج سارتون« تاريخ العلم، ص 3، ص 325 .
2- أرسطو : الأخلاق إلى نيقوما خوس (ك - 1 ب 11 (ف19))، ص 224.
3- نفسه (ك - 1ب - 11ف20))، ص 224 .
4- نفسه : (ك - 2ب - 1 (ف1))، ص 225.
5- نفسه : (ك - 2 ب 1 (ف3)) ، ص 226 .
6- نفسه: (ك2 - ب 5 (ف - 1 ف6))، ص 240-242 .

إن معنى الفضيلة يرتبط عند أرسطو بحسب المعنى الأصلي للفظ كما سبق أن أشرنا بفكرة الوظيفة، فكلما أحسن العضو أو الكائن أداء وظيفته كلما كان أكثر فضيلة؛ ففضيلة العين كون العين طيبة وأنها تؤدي وظيفتها كما ينبغي لأن لفضيلة العين الفضل في أن يحسن الإنسان النظر، كذلك الأمر إن شئت بالنسبة لفضيلة الحصان فإنها هي الفاعلة في أن الحصان جواد وفي أنه سريع العدو، أيضاً أن يحمل فارسه وأن يقاوم صدمة الأعداء»(1).

وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لجميع الأشياء؛ فالفضيلة في الإنسان تكون هي تلك الكيفية التي تصيره رجلاً صالحا، رجل خير والفضل لها في أنه يعرف أن يؤدي العمل الخاص به(2). إذا كان ذلك هو المعنى العام للفضيلة سواء بالنسبة للأعضاء أو الكائنات الحية وكذلك بالنسبة للإنسان فما هو طبيعتها الحقيقية لدى الإنسان بما أنه يتميز عن كل الكائنات بالعقل؟!

(ب) الفضائل الأخلاقية ونظرية الوسط:

هنا يلجأ أرسطو إلى تحليل الكيفية التي يمكن للإنسان العاقل بها أن يلتقط طبيعة الفضيلة عن طريق فكرة الوسط الحسابي ؛ ففي «كل كم متصل وقابل للقسمة يمكن أن تميز ثلاثة أشياء: الأكثر ثم الأقل وأخيراً المساوي وهذه التمييزات يمكن أجراؤها إما بالنسبة للشيء نفسه وإما بالنسبة إلينا فالمساوي هو نوع من الواسطة بين الإفراط بالأكثر والتفريط بالأقل. إن الوسط بالنسبة لشيء ما هو النقطة التي توجد على بعد سواء من كلا الطرفين التي هي واحدة وبعينها في كل الأحوال. أما فضلا عن الإنسان، بالإضافة إلينا فالوسط هو هذا الذي لا يعاب لا بالإفراط ولا بالتفريط »(3).

إن الوسط بالنسبة إلى الإنسان إذن هو الذي لا يعاب لا بالإفراط ولا بالتفريط وإذا كان هذا الوسط حسابياً يقاس بالعدد بالضبط، فإنه بالنسبة للإنسان يعد وسطا

ص: 280


1- نفسه : (ك2-65 (ف2))، ص 243-244.
2- نفسه: (ف3)، ص244.
3- نفسه: (ف5)، ص244.

تقديريا قد يختلف من إنسان لآخر ومن ثم فكل إنسان عالم وعاقل يجهد نفسه في اجتناب الإفراط من كل نوع سواء أكانت بالأكثر أو بالأقل ولا يطلب إلا الوسط القيم ويفضله على الطرفين»(1).

وإذا ما طبقنا هذا المفهوم للوسط على الفضائل ، لوجدنا أن الفضيلة الأخلاقية التي تختص بالتحكم في انفعالات الإنسان وأفعاله تعني أن يتحكم الإنسان عن طريق عقله الواعي في أفعاله وانفعالاته فيتجنب كلا من الإفراط والتفريط ويلتزم الوسط القيم باستمرار ومن دون انقطاع(2).

إن الفضيلة الأخلاقية على وجه الإجمال هي بحسب تعبير أرسطو «وسط بين رذيلتين إحداهما بالإفراط والأخرى بالتفريط»(3). فأي فضيلة تكمن في إدراك هذا الوسط القيم بین طرفین كلاهما يمثل رذيلة ينبغي تجنبها. وإن كان هذا هو التعريف العام الذي ينطبق على إجمالي الفضائل الأخلاقية كما سنفصل بعد قليل، فإن أرسطو قد أدرك عدة نقاط هامة ينبغي ألا تفوتنا كما فاتت على كثير من نقاده الذين لم يهتموا بها ومن ثم نقدوه على ذنب لم يقترفه وعلى استثناءات لم يفعلها وهاكم بعض هذه النقاط :

أن ذلك التعريف السابق للفضيلة على أنها في الوسط القيم ليس معناه التقليل من شأن الفضيلة فقد جاءت حسب التعريف هكذا، لكنها بالنسبة للكمال وللخير

فالفضيلة هي طرف وقمة»(4)في نفس الوقت.

أن ثمة أفعالا خبيثة هي شر على طول الخط ولا يمكن أن تكون أطرافاً لفضائل كالزنا والسرقة والقتل، فهي أفعال مقطوع أنها خبيثة وجنائية وقبيحة»(5)

أن ثمة فضائل لا يصح أن نتصورها أوساط الرذائل، فهي فضيلة في ذاتها وضدها

ص: 281


1- نفسه: (ف8)، ص 246 .
2- انظر :نفسه: (ف9-13)، ص 246-247.
3- نفسه، (ف (15)، ص 248.
4- نفسه: (ف16)، ص 248.
5- نفسه: (ف17)، ص 249.

الرذيلة على طول الخط. خذ مثلاً فضيلة الصدق فهي ضد الكذب؛ فالكذب قبيح لذاته ومدعاة للوم في حين الصدق على ضد ذلك جميل ومدعاة للمدح(1).

وعلى أية حال فقد نجح أرسطو بواسطة هذا التعريف العام للفضيلة على أنها وسط بين طرفين مزدولين في تحليل الكثير من الفضائل الأخلاقية استغرق عرضها معظم فصول الكتاب الثاني والثالث، وكل فصول الكتاب الرابع، وإليك قائمة بأهم هذه الفضائل :

الشجاعة وسط بين التهور والجبن.

الاعتدال وسط بين الفجور والخمود.

السخاء أو الكرم وسط بين الإسراف والبخل.

الأريحية وسط بين الوقاحة والصنعة.

البشاشة وسط بين السخرية والفظاظة.

الصداقة وسط بين التملق والشراسة.

المروءة وسط بين صغر النفس والتفاخر بالباطل.

الحلم وسط بين سرعة الغضب والبلادة.

وقد خص أرسطو فضيلتي العدل والصداقة بالتحليل الوافي في إطار تحليله للفضائل الأخلاقية لأهميتها الشديدة لصلاح الأحوال الإنسانية ككل ليس فقط على صعيد الإنسان الفرد وعلاقته بالآخرين، بل أيضاً لأهميتها الشديدة في المجتمع المدني؛ فصلاح المجتمع المدني مرهون بأن تسود الصداقة بين الأفراد على النحو السليم، وكذلك تسود العدالة بأنواعها بين الجميع ولنقف مع كل منهما وقفة قصيرة.

ص: 282


1- نفسه: (ك4 - ب 7 - (ف6))، الجزء الثاني من الترجمة العربية، ص 43.
فضيلة العدل:

لقد اهتم أرسطو اهتماماً شديداً بهذه الفضيلة وربما كان ذلك بتأثير أفلاطون أو بتأثير فلاسفة الشرق القديم وخاصة كونفشيوس الذي ربما تأثر أرسطو به على وجه الإجمال في نظريته عن الفضيلة كوسط قيم(1). فالعدل يعد في نظر فلاسفة الشرق كما عند أفلاطون هو واسطة العقد في فضيلة الفرد كما في المجتمع فلو أن الفرد كان عادلاً مع نفسه لعاش حياة الفضيلة الحقة، ولو كان المجتمع مكوناً من أفراد من هذا الطراز لكان بالضرورة مجتمعاً عادلاً قام كل فرد فيه حاكماً كان أو محكوماً - على حد تعبير أفلاطون - بوظيفته على الوجه الأكمل(2).

على هذا النحو عبر أرسطو كذلك عن أهمية فضيلة العدل فقال: «إن العدل هو الفضيلة التامة» فهو ليس فضيلة مطلقة شخصية محضة، بل هو يتعدى الفرد إلى الغير وهذا ما يجعله أهم الفضائل وعبر عن ذلك بقول الشاعر «فما شروق الشمس ولا غروبها أحق منه بالإعجاب» وبالمثل اليوناني القائل «كل فضيلة توجد في طي العدل»(3).

وقد عرف أرسطو العدل بداية بأنه ضد الظلم، وعرف الظلم بأنه السير عكس القانون «فالظالم هو غير القانوني والمضاد لقواعد العدالة أي الجائر»، أما العادل فهو القانوني والمنصف(4).

فالعدل هنا والظلم مرتبطان بنوع واحد يمكن أن نطلق عليه «العدل القانوني»؛ فالخاضع للقانون ومن يلتزم به هو العادل ومن يخرج على القانون هو الظالم.

وهذا العدل القانوني هو في عرف أرسطو عدل توزيعي مبني على أن ثمة مساواة

ص: 283


1- انظر: حسن شحاته سعفان: كونفشيوس، مكتبة نهضة مصر، من دون تاريخ، ص ص 40-43 وكذلك؛ كتابنا: المصادر الشرقية للفلسفة اليونانية، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة 1997، ص 83.
2- راجع ما كتبناه عن نظريات أفلاطون الأخلاقية والسياسية في الجزء الثاني (السوفسطائيون - سقراط - أفلاطون) من تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي فى طبعاته المختلفة بالقاهرة.
3- أرسطو طاليس: نفس المصدر (ك - 5 ب - 1ف 15) ، الترجمة العربية، ط2، ص 60 .
4- نفسه : (ك - 5 ب - 2 ف 8) ، الترجمة العربية، ص 65.

في توزيع الاستحقاقات على الأفراد بحسب ما ينبغي أن يحصلوا عليه وفقاً لما يستحقون حسب أعمالهم وطبقتهم ومكانتهم في المجتمع ؛ ومن ثم يصف المساواة المقصودة هنا بأنها ذات تناسب هندسي، ومن ثم فالعدالة تكون في الحفاظ على هذا التناسب الهندسي في التوزيع ومن ثم يكون الذي يرتكب الظلم هو من يأخذ لنفسه أكثر مما ينبغي أن يأخذ ، والذي يقع عليه الظلم يأخذ أقل مما يحق له»(1)أن يأخذ.

إن العدالة هنا بوجه ما عدالة هندسية تقوم على توزيع الأنصبة بالمساواة بحسب التراتب الهندسي للأفراد وللوظائف وللمكانة الاجتماعية.

وثمة عدالة حسابية هي أيضاً عدالة قانونية لكنها تقوم على المساواة الحسابية بين الأفراد ؛ إذ ليس مهماً هنا «أن يكون رجل نابه قد جرد رجلا خامل الذكر من أمواله أو أن يكون خامل الذكر هو الذي جرد الرجل النابه. كذلك لا يهم أن يكون الذي ارتكب الزنى هو رجلاً نابه الذكر أو رجلاً خاملاً»(2)، فالقانون هنا يعامل الجميع على حد سواء فيأخذ من الظالم ليعوض المظلوم من دون اعتبار لمكانة الفرد أو وظيفته. إن القانون هنا على حد تعبير أرسطو لا ينظر إلا إلى الفرق بين الجرائم ويعامل الأشخاص كأنهم على أتم ما يكون من المساواة. وهو إنما يبحث فيما إذا كان الواحد جانيا وما إذا كان الآخر مجنياً عليه، وفيما إذا كان الواحد قد ارتكب أضراراً وما إذا

كان الآخر قد لحقه الضرر(3). وعلى ذلك فإن القاضي ملزم بأن يسوي هذا الظلم(4)بین المتخاصمين بصرف النظر عن أشخاصهم.

ولنلاحظ هنا أن تحليل أرسطو للعدالة والعدل رغم أنه قد تم في ضوء نظريته العامة في الفضيلة الأخلاقية باعتبارها وسطاً بين طرفين مزدولين، إلا أنه لا يلتزم بنص هذه النظرية من البداية، إذ بدا مما سبق أن العدل ضد الظلم. وهذا ما أدركه أرسطو

ص: 284


1- نفسه: (ك - 5 - 3 ف 9-10) ، الترجمة العربية، ص72-73.
2- نفسه (ك - 5 ب 4 (ف - 1ف3))، الترجمة العربية، ص 72-73.
3- نفسه: (ك-5 ب 4 - ف3))، ص 73 .
4- نفسه (ف4) ، ص 73.

في نهاية الباب الخامس من الكتاب الخامس من «الأخلاق إلى نيقوما خوس»، حينما قال : إنه إذا كان العدل وسطا فليس شأنه كالفضائل المتقدمة ذلك لأن مركزه الوسط في حين أن الظلم مركزه في الطرفين ويوضح ذلك حينما يعرف العدل بوجه عام قائلاً. إنه الفضيلة التي تحمل على أن يسمى عادلاً الإنسان الذي يتعاطى العدل في سلوكه باختيار عقلي حر والذي يعرف كذلك أن يجريه على نفسه بالنسبة للغير وأن يجريه بين أشخاص آخرين. أما الظلم فهو بالضبط ضد لكل ذلك بالنسبة للظالم فالظالم هو الإفراط بالأكثر والتفريط بالأقل معاً في كل ما يمكن أن يكون نافعاً أو ضاراً ولا يقيم وزناً للتناسب أبدا وعلى ذلك فالظلم هو إفراط وتفريط معاً(1).

إن الظلم إذن ممكن أن يكون إفراطاً أو تفريطاً فهو إخلال بمبدأ المساواة التي يقتضيها تحقيق العدالة سواء العدالة ذات النسب الهندسية أو العدالة الحسابية التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون فالعدل التزام بالمساواة دائماً، الظلم إخلال بذلك سواء بالإفراط أو بالتفريط.

فضيلة الصداقة:

الصداقة في رأي أرسطو ضرب من الفضيلة وهي إحدى الحاجات الضرورية، بل الأشد ضرورة للحياة لأنه لا أحد - في رأيه - يمكن أن يعيش بلا أصدقاء ولو كان له مع ذلك كل الخيرات؛ إذ فيما ينفع المرء رغد الحياة إن لم يكن ممدوحا من أناس يحبونه ويحبهم وكيف يمكن حماية تلك الخيرات إذا لم يكن هناك الأصدقاء من من يساعدون على ذلك. إن جميع البشر متفقون على أن الأصدقاء هم الملاذ الوحيد الذي يمكننا الاعتصام به واللجوء إليه في حالات البؤس وفي وقت الشدائد(2).

على هذا النحو عبر أرسطو بلغة واضحة بسيطة عن أهمية الصداقة وحاجة الجميع إلى الأصدقاء، وقد عبر عن وجهة نظر تحتاج إلى كثير تأمل حينما قال «إن الصداقة هي رابطة الممالك وأن المشرعين يشتغلون بها أكثر من اشتغالهم بالعدل

ص: 285


1- نفسه: (ك -5 ب 5 (ف15-17) ، ص 584.
2- انظر : نفسه (ك - 8 ب 1 (ف - 1 ف 3))، ص 219-220 .

نفسه»(1)وأن سيادة الصداقة بين البشر داخل المجتمع هو ما تطمح إليه كل القوانين حتى يمكن للمجتمع الاستقرار. وقد أنهى هذه الكلمات البليغة بقوله إنه «متى أحب الناس بعضهم بعضا لم تعد حاجة إلى العدل»(2).

وبالطبع فحينما تكون الصداقة بهذه الأهمية لديه، لا نعجب في أن يخصص لدراستها قسماً كبيراً من كتابه استغرق كتابين كاملين من الأخلاق إلى نيقوماخوس هي الكتاب الثامن والكتاب التاسع.

إن الصداقة تقتضي وجود طرفين تعارفا وتحابا، ولابد لهذا التعارف أو الصداقة من سبب وقد حصر أرسطو ثلاثة علل للصداقة؛ الخير واللذة والمنفعة(3)، وكل علة تحدث نوعاً من الصداقة ومن ثم فهناك ثلاث أنواع للصداقة أولها: صداقة الخير أو الفضيلة، صداقة اللذة، صداقة المنفعة.

وينتقد أرسطو النوعين الأخيرين من الصداقة؛ لأنه متى أحب الإنسان للفائدة والمنفعة فإنه لا يطلب في الحقيقة إلا خيره الشخصي، ومتى أحب الإنسان بسبب اللذة فهو لا يبغي في الواقع إلا هذه اللذة نفسها. وعلى الوجهين فإنه لا يحب من يحبه من أجل ما هو في الواقع بل هو يحبه لمجرد كونه نافعاً وملائماً»(4).

إن هذين النوعين من الصداقة ليس بصداقة حقيقية نظراً لأن كليهما لا يعامل فيه الصديق صديقه كغاية في ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق غاية معينة في نفس هذا الصديق، فالأول صادق صديق بغرض الحصول على منفعة معينة، والثاني صادق صديقه بغرض الحصول على لذة معينة. وبمجرد أن يتحقق الغرض تنتهي الصداقة فهي إذن ليست صداقة محبة في الصديق لشخصه وإلا لدامت هذه الصداقة واستمرت. إن ارتباط الصداقة بتحقيق منفعة أو لاقتناص لذة إنما يعني تغير الصداقات وتبدلها

ص: 286


1- نفسه (ف4)، ص221.
2- نفسه
3- نفسه: (ك -8 ب2 (ف-1ف 3)) الترجمة العربية، ط2، ص 224-226.
4- نفسه : (ك - ب - 3 ف2)، ص 227-228 .

لاجتلاب أكبر قدر من المنافع وتحصيل أكبر قدر من اللذة. ومن ثم فهي في رأي أرسطو ليست صداقات حقيقية بل صداقات عرضية وبالواسطة لأن الصديق يحب صديقه لا لأن المحبوب موصوف بالصفات الفلانية التي يحبها أياً كانت مع ذلكذلکهذه الصفات، بل هو لا يحبه إلا لأجل الفائدة التي يصيبها منه؛ هنا لمنفعة يطمع فيها، وهناك للذة يبغي تذوقها(1).

أما الصداقة الحقيقية، صداقة الخير أو الصداقة الكاملة بتعبير أرسطو، فهي صداقة الفضلاء الذين يتشابهون بفضيلتهم ويريدون الخير لبعضهم البعض من جهة أنهم جميعاً أخيار وكل منهم خير بنفسه ويريد في ذات الوقت الخير لصديقه. وهذه الصداقة التي تدوم وأنها استوفت شروط الصداقة الحقيقية ولم تقم لسبب وقتي تزول الصداقة بزواله. والصداقات الحقيقية المتينة من هذا النوع «نادرة جداً، لأن الناس الذين هم على هذا الخلق قليل جداً»(2). وليس ممكناً أن يكون المرء محبوبا من أناس كثيرين بصداقة كاملة، كما أنه ليس ممكناً أن يحب المرء أناس كثيرين في نفس الوقت(3).

إن الصداقة الحقيقية هي الصداقة الفضلى، صداقة الناس الفضلاء وهي تمثل الخير المطلق واللذة المطلقة اللذان ينبغي أن نحبهما وأن نسعى في تحصيلها على حد تعبير فيلسوفنا(4).

ولعل سائل يسأل هنا: كيف يرى أرسطو في الصداقة الحقيقية «اللذة المطلقة»، بينما أنكر من قبل صداقة اللذة؟!

وعلى هذا السؤال يجيبنا أرسطو من واقع ما قلنا من قبل عن صداقة اللذة، أن تلك لذة وهذه أخرى؛ فصداقة اللذة هی الصداقة التي هيستهدف الواحد من الآخر فيها لذة

ص: 287


1- نفسه : الترجمة العربية، ص228.
2- نفسه : (ك - ب - 3 ف 8) ، الترجمة العربية، ص231.
3- نفسه : (ك 8 - ب 6 - ف 1)، ص 240 .
4- نفسه : (ك 8 - ب 5 - ف4)، ص 237 .

حسية معينة وهي باعتبارها لذة حسية - جسدية سرعان ما تزول وتزول معها الصداقة. أما الصداقة الحقيقية فلذتها لذة معنوية في الأساس. لقد قارن أرسطو نفسه في نهاية حديثه عن الصداقة بین الصداقة والعشق؛ فقال أنه كما أن العشاق يلذون كل اللذة برؤية المعشوق، فكذلك يكون الأصدقاء فهم يطلبون أكثر ما يطلبون أن يعيشوا معاً؛ فالصداقة شركة وما يكون المرء لنفسه يكونه لصديقه وما يحب المرء لنفسه يحبه لصديقه. إنهم يشاطرون بعضهم المشاعر ويتمنون العيش معهم ومصداق ذلك أن بعض الأصدقاء يأكلون ويشربون معاً، وآخرون يلعبون معاً، وآخرون يصطادون معاً، وآخرون ينكبون معاً على الرياضات البدنية وآخرون يروضون أنفسهم معاً على دروس الفلسفة(1).

خلاصة القول إن الأصدقاء يشعرون باللذة حينما يلتقون لممارسة الهواية نفسها فيتبادلون الخير ومن أن يتعدى منهم على الآخر، ومن دون أن ترتبط صداقتهم بمنفعة أو بلذة وقتية زائلة. وعلى أي حال فقد مهد أرسطو بهذا الربط بين الصداقة الحقيقية واللذة المطلقة لحديث أرسطي سنختتم به هذا الفصل عن أن ثمة لذة تعلو كل اللذات وليست بلذة حسية ولا علاقة لها بما تعارف عليه الناس من لذات حسية. إنها لذة التأمل وربما أشار إليها أرسطو في نهاية الفقرة السابقة حينما أشار إلى صداقة الفلاسفة.

(ج) الفضائل العقلية وفضيلة التأمل النظري:

1- فضائل العقل العملي:

قلنا من قبل إن الفضيلة هي فعل من أفعال النفس، ولكن ليس أي نفس إنما هو فعل الجزء العقلي من النفس فقط حيث إنها تبدأ لدى الإنسان بمجرد أن يستطيع الجزء العاقل التحكم في الجزء غير العاقل والحد من اتجاهه نحو ممارسة الشهوات والاتجاه نحو اللذات الحسية. وتلكم كانت الفضائل الأخلاقية التي عرفها أرسطو

ص: 288


1- نفسه: (ك6 - ب 1 - (ف5-6))، ص 323-324.

عموما بأنها إدراك الوسط القيم بين طرفين مرذولين وسلوك طريقة. وفي مطلع الكتاب السادس من الأخلاق إلى نيقوماخوس يعود أرسطو إلى الحديث عن العقل مقسماً إياه إلى جزئين؛ أحدهما يختص بإدراك المبادئ الأزلية غير المتحولة، والآخر يختص بحساب التعادل بین الأشياء والموازنة بينها(1). ولا يخفى علينا أن هذا التمييز ذاته قد ورد في كتاب النفس حينما قرر أن العقل العملي يختص بإدراك المؤلم واللذيذ والتمييز بين الحسن والقبيح وذلك بغرض التنبؤ بالسلوك المستقبلي حيث يساعد هذا العقل الإنساني في طلب ما هو لذيذ والابتعاد عما هو مؤلم، أما العقل النظري فهوي ما يتعلق بالإدراك لذات الإدراك، إدراك المجردات(2).

وفي ضوء هذا التمييز بين نوعي العقل، يميز أرسطو فيما يبدو بين نوعين من الفضائل العقلية؛ فضائل العقل العملي وهو العقل الذي ليس مأخوذاً في ذاته الذي لا يحرك شيئاً، ولكنه العقل المتصل بالواقع ذلك الذي يتصدى لغرض خاص وينقلب عملياً(3). وهذه الفضائل من قبيل الفن والتدبير والتصرف بحكمة.

- فضائل العقل النظري:

وهي تقتصر على فضيلة التأمل التي من شأن الإنسان فيها الوصول إلى الحقيقة المجردة وإدراك الحق والباطل، فأرسطو يرى أنه بالنسبة للعقل التأملي المحصن والنظري الذي ليس عملياً ولا محدثاً فالخير والشر هما الحق والباطل لأن الصواب والخطأ هما الموضوع الوحيد لكل عمل من أعمال العقل(4).

ولما كنا قد أشرنا في الفصل الخاص بنظرية العلم لبعض ما يسميه أرسطو هنا بالفضائل العقلية حينما ميزنا بين العلم والفن، فإننا نقتصر هنا على إبراز جانب الفضيلة من الفن Techne؛ فالفن عموماً كما سبق أن أوضحنا هو ملكة إنتاج يديرها

ص: 289


1- نفسه : ( ك 6 - ب 1 - (ف5-6)، ص 115.
2- أرسطو : كتاب النفس (ك - 3ف 7 - ص 431ظ (1-20))، الترجمة العربية، ص 118-119
3- أرسطو طاليس: الأخلاق إلى نيقوماخوس (ك - 6 ب - 1 ف 12))، ص 117-118.
4- نفسه : (ك - 6 ب - 1 (ف10))، ص 117.

ويدبرها العقل لكنها لا تتعلق بالأشياء واجبة الوجود أو ضرورية الوجود أو بمعنى آخر لا تتعلق بإنتاج الماهيات. وإنما بإنتاج الأشياء التي يمكن أن توجد أو ألا توجد! ومعذلك فثمة فن جيد وثمة فن رديء فالإنتاج الجيد ناتج فن جيد، والإنتاج الفاسد. ناتج فن فاسد والفن الجيد هو ملكة إنتاج يديرها العقل الحق في حين أن الفن الفاسد أو عدم المهارة على الضد من ذلك ملكة إنتاج لا يقودها إلى عقل فاسد مطبقة على الأشياء المادية التي يمكن أن تكون خلافاً لما هو عليه»(1).

ومن فضائل العقل أيضاً «التدبير» الذي هو فضيلة أولئك الرجال القادرون على الحكم على الأشياء حكماً صحيحاً إذ نقول على بعض الناس أنهم مدبرون في مسألة خاصة بعينها حتى أحسنوا التدبير لبلوغ غاية شريفة بالنسبة للأشياء التي لا ترتبط بالفن كما عرفناه»(2)من قبل أن التدبير الجيد هو ما يعين سلوكنا فيما يتعلق بالأشياء التي يمكن أن تكون صالحة للإنسان»(3). إن التدبير هو فضيلة الإنسان العاقل الذي ينجح في البعد عن الانفعالات الوقتية للذة والألم والحرص على الموازنة بين الأمور حتى يمكن اكتشاف الأشياء الحسنة والقبيحة من ثم الاتجاه نحو الأشياء الحسنة والابتعاد عن كل ما هو قبيح. إن التدبير إذن لا يقتصر على مجرد العلم بالصيغ العامة، بل يلزم أن يعلم (المدبر) بجميع تصريف الأمور الجزئية لأن التدبير عملي، إنه يعمل والعمل يرد بالضرورة على الأشياء التفصيلية »(4). إن المدبر إذن لا يقف عند حدود العلم النظري بما ينبغي أو مالا ينبغي عمله، بل يكون لديه المعرفة الكاملة بالجزئيات والتفاصيل التي تمكنه من العمل وتقوده إليه فالتدبير في رأي أرسطو عمل محض(5).

إن هذه الفضائل العقلية العملية لا تنفصل إجمالاً عن ما أسميناه من قبل الفضائل الأخلاقية فالفن والتدبير والتصرف بحكمة وحذق كلها مما يمكن ضمه إلى تلك الفضائل الأخلاقية لأنها تختص عموماً بالتصرف إزاء العالم الخارجي وتتعلق

ص: 290


1- نفسه : ( ك - 6 ب 3 - (ف 3-4-5))، ص 123 .
2- نفسه : ( ك - 6 ب 4 (ف1))، ص 124.
3- نفسه: (ف6) ص 126.
4- نفسه: (ك - 6 ب5 - (ف10))، ص 132.
5- نفسه.

بالسلوك العملي في الواقع، وإن كانت هذه الفضائل العقلية هي أفعال يختص بها العقل من حيث هو عقل يحسب ويعادل بين الأشياء ويوازن بينها بغرض إنتاج شيء ما أو اختيار سلوك معين من بين بدائل مطروحة أمام الإنسان.

ولكن هذه الفضائل العقلية رغم أنها أفعال تختص بالعقل، إلا أنها لا تمثل الفضيلة القصوى للعقل بما هو كذلك فالعقل بما هو كذلك ليست وظيفته فقط التحكم في السلوك سواء في السلوك المتعلق برغبات الجزء غير العاقل من النفس أو فى أعمال العقل المتصلة بالعمل الخارجي. وإنما وظيفته الحقيقية هي إدراك الحقيقة القصوى للوجود . وفي هذا تكون فضيلته الحقيقية.

2- فضيلة العقل النظري:

عود إلى بدء؛ فقد أكد أرسطو بأن الفضيلة بمقتضى الإصطلاح اليوناني المعبر عنها هو أداء الوظيفة بحسب الغاية من وجود الكائن. وإذا كان الكائن هنا الإنسان؛ فوظيفته الأهم والأكمل والأكثر تحقيقاً لغايته في الوجود ليست الأكل أو الشرب أو الجري وراء اللذات الحسية وإشباع شهواته المختلفة، وإنما هي التأمل وإذا كانت الحياة السعيدة هى الحياة المطابقة للفضيلة »(1). وإذا كانت السعادة ليست إلا الفعل المطابق للفضيلة فمن الطبيعي أن تكون الفعل المطابق للفضيلة العليا أعني فضيلة الجزء الأحسن من ذاتنا «إنه في الإنسان العقل الفاهم المتأمل المعد ليأمر ويقود وليكون له فهم الأشياء الجميلة والقدسية حقاً»(2). ومن ثم فإن فعل هذا العقل المتأمل هو المطابق للفضيلة وفيه تكون السعاة الكاملة(3).

على هذا وصف أرسطو من خلال استنتاجاته الفلسفية والمنطقية والنفسية السابقة، فضيلة التأمل النظري وإدراك حقيقة الوجود وفهم الأشياء الجميلة والقدسية بأنها المحققة حقاً لسعادة الإنسان، بل فيها تكون سعادته الكاملة.

ص: 291


1- نفسه : (10 - ب 6 - (ف6))، الترجمة العربية، ج2، ص352.
2- نفسه : (ك - 10 ب 7- (ف1))، ص 353 .
3- نفسه.

والطريف أن أرسطو هنا أيضاً يعود للحديث عن اللذة ومدى اقترانها بالسعادة، كن ليس على طريقة دعاة اللذة الحسية، بل على طريقته هو . إن اللذة ليست فقط اللذة الحسية بل منها أيضاً اللذات العقلية وإذا كان الجميع يعتقدون وهو منهم أن اللذة يجب أن تخالط السعادة، فإن اللذات التي تجلبها الفلسفة أي التأمل في حقيقة الوجود لذات طاهرة ومؤكده؛ ففي العلم سعادة أكثر ألف مرة من طلب العلم(1). إن السعي إلى إدراك الحقيقة كما نعلم له طرق شتى عند أرسطو منها الحسي ومنها العقلي، لكننا لا نصل إلى إدراك العلم بمبادئ الوجود الحقيقية إلا بالتأمل والحدس وحينما يصل الإنسان الفيلسوف إلى هذا العلم يكون قد أدرك السعادة القصوى.

وقد أبدع أرسطو في الدفاع عن هذا الرأي الذي يوحد توحيداً يكاد يكون مطلقاً بین السعادة والفضيلة واللذة في مركب واحد هو التأمل وقد جاء دفاعه من زوايا أخلاقية ومعرفية عدة نذكر منها:

1. أن التأمل هو الذي يحقق للإنسان حياة الاستقلال، ففي الفضائل الأخرى كالعدالة والشجاعة والاعتدال يحتاج الإنسان العادل إلى أناس يقيم بينهم عدله وكذلك الحال في الشجاعة والاعتدال وسائر الفضائل الأخرى، بينما الفيلسوف المتأمل يحقق فضيلة، فضيلة التأمل بانكبابه على الدرس والفهم(2).

2. إن حياة التأمل هي وحدها الحياة المحبوبة لذاتها، لأنه لا ينتج من هذه الحياة إلا العلم والتأمل في حين أنه في سائر الأشياء التي فيها يجب الفعل يطلب المرء دائماً نتيجة غريبة عن الفعل كثيراً أو قليلاً(3). ففي حياة التأمل إذن يتجه فعل التأمل إلى تحقيق غايته من ذات التأمل ولا يحتاج المرء فيها إلى تحقيق غاية أبعد؛ حيث يحقق الفعل غايته من ذاته باكتشاف حقيقة ما يتأمله أو فهم ما يريد فهمه.

ص: 292


1- نفسه: (ك- 10 ب 7 - ف2))، ص 354.
2- انظر: نفس المصدر : (ك- 10 ب 7 (ف4))، ص 354.
3- نفس المصدر : (ك-10 ب 7 - ف 5)، ص 355.

3. إن حياة التأمل هي ما يحقق للإنسان أقصى قدر من الراحة والطمأنينة ومن ثم السعادة؛ وإذا ما قورنت بحياة السياسي أو المحارب لوجدنا أن حياة هؤلاء ليس فيها فراغ كما أنها مليئة بأسباب الاضطراب والقلق ورغم أن حياة السياسي والمحارب تفوق - في نظر كثيرين - الحيوات الأخرى في البهاء وفي الأهمية إلا أنها ليست إلا أفعالاً لا تحقق الاستقلال عن الناس وعن المجتمع بل هي من أجلهما ومن ثم فأفعال الساسة ورجال الحرب ليست مطلوبة لذاتها وإنما مطلوبة لتحقيق نتائج نافعة للناس وللمجتمع وهي في طريقها إلى تحقيق ذلك تصطدم بعشرات العقبات التي ينتفي معها الراحة ويعز معها الطمأنينة(1).

4. إن حياة التأمل هي الحياة الشريفة التي تناسب الأصل القدسي للإنسان. وإذا كان بعضهم ينصحون الإنسان ألا يفكر إلا في أشياء إنسانية باعتباره كائناً فانيا لا ينبغي أن يفكر إلا فيما هو فاني فإنه يرفض ذلك ويطالب الإنسان ألا يصدق هذا الكلام، لأن الحق عن ذلك بعيد ويلزم الإنسان أن يخلد نفسه بقدر ما يمكن(2). فهو يرى أن حياة التأمل هي الحياة الأكثر قداسة نظراً لأنها تشبه حياة الإله الذي هو عقل وعاقل ومعقول . ولما كان الإنسان بإمكانه أن يحيا حياة التأمل فلما لا يحياها مقلداً حياة الإله فضلاً عن أن هذه الحياة حياة التأمل هي التي بموجبها يمكن للإنسان أن يصل إلى إدراك الإله فيكتسب في حياته خلوداً هو أليق به نظراً لأنه الكائن الوحيد الذي يمكنه إدراك وجود الإله بعقله المتأمل القادر على مفارقة هذا العالم ليدرك ما وراءه.

5. إن حياة التأمل هي إذن حياة السعادة الكاملة، نظراً لأنها تشبه حياة الآلهة؛ إننا نفترض دائماً بلا جدال أن الآلهة هى أسعد الكائنات وأوفاها حظاً ولما كان الفعل الأليق بالآلهة والذي يحقق السعادة الكاملة هو فعل تأملي محض(3)،

ص: 293


1- انظر: نفس المصدر : (ك - 10 ب - 6ف7)، ص 355-356 .
2- نفس المصدر : (ك - 10 ب - 7ف 8) ، ص 357.
3- نفسه : (ك - 10 ب 8 -ف 7) ، ص 360-361.

فإن الفعل الذي يقترب عند الناس من ذلك الفعل هو الفعل الذي يكون أكثر علة للسعادة من أي فعل آخر.

6. إن فعل التأمل هو أيضاً ما يجعل من الإنسان الحكيم محبوباً من قبل الآلهة، إذا كان للآلهة عناية ما بالمسائل الإنسانية، كان من الأمور البسيطة أن يرضيهم أن يروا على الخصوص في الإنسان ما هو أحسن ما يكون، وما هو أكثر قرباً من طبعهم الخاص.. أنهم في مقابل ذلك يغدقون النعم على أولئك الذين يغارون على التفوق في حب هذا المبدأ القدسي وتكريمه باعتبار أنهم أناس يعنون بما تحب الآلهة ويسلكون الصراط المستقيم»(1).

رابعاً: الفضيلة وحرية الإرادة:

إن تلك الحجج التي أوردها أرسطو جميعاً ليقنع قارئ الأخلاق إلى نيقوماخوس بأن سلوك طريق الفضيلة بأنواعها من الفضائل الأخلاقية إلى الفضائل العقلية وحتى فضيلة التأمل التي اعتبرها خير حياة يمكن للإنسان أن يحياها وتحقق له أقصى قدر من اللذة والسعادة. أقول إن تلك الحجج ربما تقودنا إلى تساؤل عادة ما يطرحه فلاسفة الأخلاق وقد طرحه أرسطو على نفسه، ألا وهو: إلى أي حد نحن أحرار في سلوك طريق الفضيلة؟!

إن أرسطو بداية قد فتح الطريق أمام هذا التساؤل حينما رفض كون الفضيلة فطرية في النفس الإنسانية وأكد أنها تكتسب بالتربية والتصور منذ الصغر. ومن ثم فهي لديه مسألة إرادية بحتة تتعلق بإرادة الفاعل واختياره خاصة إذا ما بلغ القدرة على الاختيار العاقل لسلوكه.

وقد أكد أرسطو على ذلك في مطلع الكتاب الثالث من الأخلاق إلى نيقوماخوس بعدما ميز بين الأفعال الاختيارية والأفعال اللااختيارية أو الإجبارية القسرية وبعد أن أوضح أن الفضيلة متعلقة في الأساس بانفعالات الإنسان وأفعاله القابلة للمدح

ص: 294


1- نفسه: (ك-10 ب 9 ف 5 ، ف 6)، ص 365 .

والذم. ولا يمكن المدح والذم إلا على أشياء إرادية ما دام أنه في الأشياء اللاإرادية لا محل إلا للرحمة أحياناً وللعفو أحياناً أخرى(1).

إن سالك طريق الفضيلة عند أرسطو إنما هو إنسان حر يمتلك إرادة الفعل الأخلاقي وإلا ما قابلنا أفعاله بالثناء والمدح(2). ولا يجوز أن نطلق على فعل إنسان أي فعل شرير أنه إنما فعله لا إراديا بحجة أنه فعله مثلا ضد مصلحته أو ضد منفعته إذ أن «جهل الفاعل بحسن الخيرة ليس علة في أن يكون فعله لا إراديا»(3). إن على الإنسان دائما أن يعي معنى الفضيلة وأن يربأ بنفسه عن الجهل بها وإذا ما أدرك معناها ينبغي ألا يتوقف عند حدود العلم النظري كما أشرنا آنفاً، بل ينبغي أن يسلك إرادياً واختيارياً وفقاً لما علم. ولا يخفى علينا أن تلك نظرة أرسطية لها أصولها سواء في الفكر الشرقي القديم وخاصة في مصر والصين، أو في الفكر اليوناني خاصة عند سقراط الذي وحد كما نعلم بين الفضيلة والمعرفة توحيداً تاماً. وأكد قبل أرسطو على أن الفضيلة وسلوك طريقها هو العلم، وأن الرذيلة هي الجهل. كل ما هنالك أن مفهوم العلم عند أرسطو جاء مختلفاً تماماً عن مفهومه عند سقراط(4).

ولما كان العلم إرادياً، ولما كنا نختاره اختيارا سواء فيما يتعلق بعلم الأخلاق أو في غيره من العلوم الأخرى فنحن أحرار في اختيار السلوك الفاضل والعمل وفقا له. وإذا كان رأي أرسطو أن الفضيلة لا تنطبق أصلاً إلا على الأفعال الاختيارية فإنه هو نفسه قد فتح أمامنا مجال الاختيار في السلوك الأخلاقي واسعاً حينما قال في عبارة ذات مغزى كبير بعد أن قارب على الانتهاء من تقديم آرائه الأخلاقية أنه «يحسن عند درس النظريات التي عرضتها أن يطابق بينها وبين الأفعال ذاتها وبين الحياة العملية فمتى اتفقت مع الواقع أمكن اعتناقها فإذا لم تتفق معه لزم اتهامها بأنها ليست إلا استدلالات فارغة»(5).

ص: 295


1- نفسه : (ك 3 - ب - 1 ف 1)، ص 265 .
2- انظر: نفسه (ف-6 ف 7) ، ص 267 .
3- نفسه: (ك 3 - ب 2 - ف3)، ص 271.
4- راجع ذلك في الجزء الثاني من كتابنا: تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، الباب الخامس.
5- أرسطو طاليس: نفس المصدر ( ك - 10 ب - 9ف4) ، ص 364.

إنها كلمات عبر فيها أرسطو عن مدى حرصه الشديد على مخاطبة العقل الواعي للإنسان وحرصه في الوقت ذاته على أن يكون الاقتناع والفعل هما جوهر الأخلاقية عند الإنسان. وهي كذلك عبارة ربما تحدي بها نقاد مذهبه الفلسفي بوجه عام، ومذهبه الأخلاقي بوجه خاص فهي ترفع عنه تهمة الروجماطيقية والإنغلاق كما ترد على كل ما اتهموه بالإغراق في التجريد النظري.

ص: 296

الأخلاق في تاسوعات أفلوطين

«تحليل لمفاهيم الاخلاقية»

أ.د. جميل حليل نعمة المعله(1)

تمهيد

تأصيل المفاهيم الأخلاقية عند فلوطين

تكمن مشكلة هذه الدراسة في محاولة تحليل النص الأخلاقي في التاسوعات بشكل علمي من خلال بيان ماذا يقصد أفلوطين بكل مفهوم أو مصطلح أخلاقي ذكره.خصوصا قد عرفت مقالات أفلوطين(2)بانها : (أسلوبه في الكتابة موجز بليغ قليل الألفاظ كثير المعاني)

ص: 297


1- أستاذ الفلسفة والفكر السياسي في جامعة الكوفة . وقد اكد الباحث في بحثه على اهتمام افلوطين اهتماما واضحا بالأخلاق القائمة على العقل وعلى الحدس، وعلى تربية النفس ومساعدتها للعلو والسلوك والرفعة في مدارج الكمال. وعلى أهمية النحن في عروجه إلى ما فوق النحن، وإن كان قد تأثره بالأخلاق الرواقية فإنه انتهى إلى عد التجربة الصوفية تجربة الوجد هي الغاية النهائية التي يجب أن تتحدد تبعاً لها وتترتب عليها كل المقدمات المؤدية لكل معرفة وصف افلوطين حالين حالة من شاهد وحالة من لم يصل بعد إلى المشاهدة، يتصف بانه اعظم عشقا وحنينا للخير، ونجدنا أفلوطين يؤكد على بعدين من الأبعاد الجمالية، بعد مادي كان له فيه راي خاص، وبعد روحي يحدد به اتصاله (بالخير والحسن الأعلى) إن الخير المطلق محور وجود الروح وأساس سعادتها، إن الطابع العام لفلسفته هو غلبة الناحية الذاتية فيها على الناحية الموضوعية. هي فلسفة تمتاز بعمق الشعور الصوفي والمثالية الأفلاطونية ووحدة الوجود الرواقية فالمعرفة عنده تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله من غير أن تمر بالعالم المحسوس . المحرر
2- ولد افلوطين في ليقوبوليس من أمصار مصر الوسطى، (في سنة 202م وتوفي 270 ميلادية)، درس الفلسفة وصنف فيها ما جمعه اكبر تلاميذه فرفريوس، واطلق عليه التاسوعات، والكتاب عبارة عن مواضيع متفرقة باختلاف أزمنتها وأماكنها، وجمعت ب- (54) مقالة موزعة على ست مواضيع أساسية، اطلق على كل موضوع اسم التاسوعة بدل الفصل، وكل تاسوعة تحوي على تسع مقالات، درس الفلسفة على يد أمونيوس، وبحث فها ودفعه حبه لها محاولته في طلب الفلسفة فى الهند وبلاد الفرس، وشارك لأجلها فى الحرب مع الإمبراطور (غوردين) سنة 242م0 وبين فرفريوس في مقدمته للتاسوعات، أن افلوطين لم يكتب في الفلسفة الإ بعد الخمسين من عمره، لكنه يذكر أيضا انه كتب مقالة في الجن في أيام جالينوس، وكتب مقالة أخرى (في أن الملك وحده هو المبدع) وفي السنة العاشرة من حكم جالينوس كتب افلوطين واحدا وعشرين مقالة لم يبح بها الإ إلى القليل من الناس واطلع عليها نفر يسير وقد كان عمر افلوطین (59) سنة، وافلوطين لم يضع العناوين لهذه المقالات وأنما وضع لكل مقالة عنوانا يميزها.

وترجع أهمية هذه الدراسة في كونها تحاول تقديم قراءة تحليلية ونقدية معاصرة إلى نص أفلوطين الأخلاقي وإيضاح أثر أفلوطين على النظرية الأخلاقية.

وقد اعتمدت في هذه الدراسة على المنهج التاريخي التحليلي المقارن وكذلك على المنهج النقدي كون الباحث يحاول تقديم رؤية تاريخية تحليلية نقدية للمفاهيم الأخلاقية والإشكاليات المتعلقة بها، مما يجعل هذا المنهج مناسبا لطبيعة هذه الدراسة.

بدأ افلوطين عند البحث عن النفس بأثارة مجموعة من التساؤلات حول اللذة والألم والخوف والأقدام ، باحثا عن النفس ومصدر الأفعال، وهل أن النفس هي من يسخر الجسد أم هناك مصدر ثالث مركب من الاثنين (النفس والجسد)؟ ومن هنا ينشطر سؤال آخر هل هذا المركب ناتج عن الاثنين (النفس والجسد) أم شيء آخر ناتج عن مزيج معين ؟(1).

لم يكن البحث عن النفس هو من نتاج واهتمامات افلوطين فحسب، فمنذ أن دخل سقراط معبد دلفي ، وقرأ «الحكمة «اعرف نفسك بنفسك «تبنى سقراط هذه الحكمة معتبرا أن الحكمة الحقيقية هي معرفة الذات لذاتها (...) فمعرفة النفس غاية الفكر والسلوك والأساس لكل حق وخير وجمال وفضيلة»(2). لكنه في اختياره ان يشرب السم كان يؤكد «عدم اكتراث وتجرد عظيمين ليتحرر من الموت، أي تحرير النفس من الجسد ، فالموت بالنسبة إلى الجسد تحرير للنفس وشفاء لها من المرض، وبالموت حصل سقراط على الفضيلة»(3).

ص: 298


1- ينظر: افلوطين، التاسوعات، الطبعة الأولى، ترجمة فريد جبر، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، 1997م،ص51.
2- ينظر : محمد عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت - لبنان 2007 م، ج 1، ص 106.
3- نظر: برتراند رسل ،حكمة الغرب، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، الطبعة الثانية، 2009م، ص128.

ما هي النفس؟ وهل انها عند افلوطين شيء معين وان وجودها شيء معين آخر؟ وان كانت كذلك فهل انها مركبة ؟ وهل اذا كانت مركبة قابلة للصور: «فلا يستبعد أن تكون قابلة للصور وان تنسب اليها تلك الانفعالات«(1)، ولكن متى؟ بعد أن يحل لها العقل ذلك، فتكون قابلة للأحوال والاستعدادات صالحة كانت هذه الأحوال أو سيئة، محاولا افلوطين الإجابة على هذه الأسئلة، وان يعرف مصدر الانفعالات واصل المعارف ومصدرها، وكيفية رد الإحساسات من الانفعالات واللذة والألم وغيرها(2).

بحث افلوطين في التاسوعة الأولى النفس، على الرغم من انه بحثها - بجهود فرفريوس - بتاسوعه مستقلة ((التاسوعة الرابعة) وهذا لا يشكل خللا منهجيا عند افلوطین، مادام الخيار في تبويب هذه المقالات (الفصول) ليس خياره بالشكل النهائي، مستخدما مجموعة من المصطلحات (النحن، المالدى، الهو) التي سياتي بيانها في محلها.

يعتقد افلوطين أن البسيط يكتفي بذاته ويقوم بذاته، جاعلا من النفس ووجودها (أيسها) شيئا واحداً، وانها صورة في حد ذاتها، ولا محل فيها لتلك الأحداث التي تقوم على فعلها في غيرها، لان لها فعلا مخصوصا، يكشفه العقل لها، فيجعلها :خالدة: «لها ذي ذاتها فعلا هي مفطورة عليه، ومهما يكن ذلك الفعل، فان العقل يكشفه لنا، ويحق القول حينئذ انها خالدة»(3)

ويقدم افلوطين شروطا للخلود(4):

أن لا نتفعل.

أن لا تأخذ شيئا من غيرها .

ص: 299


1- افلوطين، التاسوعات، ص 51-52.
2- ينظر: افلوطين، التاسوعات، ص 51-52.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 51.
4- أفلوطين، التاسوعات، ص 51.

أن أخذت شيئا من غيرها يجب أن يكون ذلك الشيء سابقا لها، غير منفصل عنها، ثابت في عالم غير عالمها .

لا خوف عليها لان الخوف انفعال، وليس لزوما عليها أن تكون ثابتة الجنان، لان ثبات الجنان لا يصدر عمن دبت إليه المخاوف، خالية من الرغبات، لان الرغبة تلبي بواسطة الجسد بأنواع الأملاء وهما ما يحدثان بغير النفس.

أن لا تمتزج بشيء لان الامتزاج تنافي الجوهر، وبذلك تكون بعيدة عن الألم.

وأخيرا انه ليس فيها إحساس أو فكر أو ظن، لان الإحساس قبول صوره وأفعال في الجسد والتفكير والظن اصلهما إحساس، لكن اللذة الخالصة هي العرفان، والذي يتيح للنفس أن تبحث فيه عن ذلك.

ولكن ما يؤكده افلوطين «أن النفس من الجسد سواء أكانت قبله أم بعده وهي ما تسخره كالآلة من دون أن تتأثر فيه، كما أن أصحاب المهن لا يتأثرون بما يستخدمونه من أدوات»(1).

وهو بذلك يقترب من راي أرسطو الذي يجعل النفس مبدا الأفعال الحيوية، فالنفس عند أرسطو بمثابة الصورة للجسم الحي، والطبيعة لغير الحي، وعلم النفس عند أرسطو مركب من مادة وصورة(2)، وهو بعيد عن فهم أفلاطون للنفس إذ يبين أفلاطون أن للإنسان نفس موجودة قبل اتصالها بالبدن، لان المثل غير متحققة بالتجربة ولا مكتسبة بالحواس، وعليه فلا بد من قوة روحية تعقلها، يدل على وجودها تذكر المثل وحركة الجسم وتدبيره بما يوافق الحكمة(3).

ويستخدم افلوطين مصطلح التواشج، الذي يبين فيه العلاقة بين النفس والجسد، فاذا كان أرسطو اكد أن النفس تستخدم الجسم بواسطة الإحساس، افلوطين يؤكد أن

ص: 300


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 53.
2- ينظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مراجعة هلا رشيد أمون. دار التقدم، ص 174.
3- يوسف كرم ، نفس المصدر. ص 105-106.

النفس لا تستخدم الجسم الإ بعد كونها عالمة بواسطة الإحساس، هذه الإحساسات هی انفعالات تأتيها من الخارج، فالنفس تسخر الجسد من حيث إن كلا منها معزولا عن الآخر وان النفس هي الأصل ولكنهما يمتزجان، وهذا التمازج هو نوع من أنواع التواشج، الذي هو عبارة عن صورة لا تفارق الجسد، انها تشبه التماس الذي يكون بين الرّبان و دفة السفينة، فتكون النفس في هذه الحالة في بعضها، وتكون في قسم آخر بالبعض الآخر، هذا الامتزاج بين النفس والجسد يؤدي إلى نتيجة مهمة عبر عنها افلوطين بانهما اذا امتزجا: «صلح شرهما ، وفسد خيرهما، فالصلاح يمد الجسد بالحياة، لكن النفس تموت بالغباء وذلك حينما تشترك مع الجسد فتفسد»(1).

فالجسد عن طريق التواشج يزود النفس بالانفعالات ويمدها بالحياة، فهو من يخاف ويرغب ويلتذ ... الخ ، وافلوطين يميز بين التمازج بمعنى الامتزاج الذي يكون مستحيلا، لأنه لا يمكن الامتزاج بين طبيعة وطبيعة أخرى مختلفة، كامتزاج الخط باللون الأبيض وما يحدث بين النفس والجسد هو تمازج بمعنى التواشج الذي لا يولد الانفعال بينهما، فالنفس اذا أشرقت في الجسد كله فهو لا يعني أن تتأثر بانفعالاته، فالانفعالات لا تنسب إلى الجسد وماله حال هيئة الفأس ، فالفأس المتكون من حديد لا تتعلق أفعاله بالحديد وإنما بالفأس المصنوع من الحديد، فكل الانفعالات المشتركة بين النفس والجسد انما تعود إلى الجسد، ويعرف افلوطين الجسد : «الجسد الطبيعي القائم بجهاز عضوي المهيأ لقبول الحياة»(2)، والرأي الذي تبناه افلوطين اسنده براي أرسطو نقله افلوطين نفسه، «من الحمق أن تنسب الحياكة وفعلها إلى النفس ، فكذلك الشوق والتألم من الحمق أن ننسبها إلى النفس»(3).

وهنا يترك افلوطين البحث في النفس، لان غايته من البحث هنا هو بيان مصدر الانفعالات واصلها، تاركا البحث فيها لمجال آخر كما تقدم، معلنا أن البحث عن (الحيوان) المتكون من نفس وجسد فقط انه متكون من هذا المركب ومع مركب

ص: 301


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 52.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 52.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 53.

ثالث باحثا عن الجسد كيفية انفعالاته، وعن كيفية آلامه ولذته، معتبرا أن عملية الانفعال هو ادراك الحواس لظواهرها وما ينتقل على هذا الأساس عن طريق الجسد إلى النفس، معتقدا أن هناك قوى متعددة في الجسد واصفا إياها بخير القول: «لعل خير القول في الأمر هو من توافرت فيه تلك القوى وعمل بموجبها فلا تتحرك هي بل تمد الذي جعلت فيه بالقوة اللازمة»(1)، فالحياة عند افلوطين هي ليست حياة النفس وحدها، ولا حياة الجسد وحده بل هي حياة المركب، فليس الإحساس هو ما يحس به، بل هو صاحب قوة الإحساس، هو حركة مثيرة في الجسد يجتازه هذا النور ليصل إلى النفس، ولهذا يقال أن النفس لا تحس، انما قوة الإحساس حاضرة وبفعل حضورها يتم الإحساس.

يستخدم افلوطين (الروح) التي يعتبرها نور مبعوث في الجسد وهو أمر ثالث ومصدر للانفعالات، وهذا النور المبعوث يجعل الجسد قابل للإحساسات التي ترد بفعلها على باقي الانفعالات التي تحس بها الروح، باعتبار أن الروح غير معزولة عن الجسد، فالإحساس الوارد من الخارج انعكاس لما يتم بالنفس، والذي يتم بالنفس اقرب إلى الحقيقة من الإحساس، وافلوطين يوصف الإحساس بانه مجرد مشاهدة خالية من كل انفعال وما تقوم به النفس من انفراد في تدبير أمور (الحيوان) متناه الأفكار والظنون والمعارف.

فالنحن هو الأشراف على الحيوان وتوجيهه فهو قوة عقلية تتكون من إشراقات نور الروح على المركب (النفس والجسد) و (المالدى) قوة لا تفكر ليست عقلانية وهي تتكون من قبل النحن تخص السباع والبهائم على اختلاف أصنافها، والفرق بينها وبين الإنسان، الثاني يفكر والأول لا يفكر أو خال من التفكير(2).

هذه الروح أو النحن على شكلين في فلسفة افلوطين، روح تكون ملكة للنفس، وروح تكون لذاتها، يطلق عليها : (روح فوق النحن) وهي أما أن تكون خاصة في

ص: 302


1- أفلوطين التاسوعات، ص54.
2- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 57.

الفرد أو مشتركة بين الأفراد (الجميع) أو أن تكون خاصة ومشتركة، فان كانت مشتركة فكيف تكون واحدة، ولا يمكن أن تكون خاصة ومشتركة في آن واحد فهذا مما لا يمكن، فلم يبق الإ أن تكون خاصة،، لكن انتشار الروح في البدن يجعل وجود النحن وجودا ثالثا بعد وجود (...) فهو ذات لا مقسمة تأتي من العالم الأعلى تدخل في الذات المقسمة التي هي النفس التي بدورها تكون مقسمة على كل أجزاء الجسد، وحضور النفس بالأجساد بمعنى انها تنيرها مكونة من نورها عدة ارتسامات، إحساس يكون في المركب، ومن الإحساس يشتق كل ما سواه ويسمى هيئة النفس، فتشتق الهيئة عن الهيئة فتكون النفس المولدة والنفس النباتية ثم إلى قوى صنع وأحداث حتى تنتهي إلى النفس بذاتها(1).

والنفس عند افلوطين خالية من الذنوب التي يرتكبها الإنسان والشرور التي تصيبه، وهذه الذنوب والشرور هي من لوازم الحيوان المركب وليس من لوازم النفس، فالظن والتفكير ليستا من خواص النفس مع أن النفس معصومة عن الخطأ، لان الظن الكاذب هو اصل كل الشرور ، والشر هو نتيجة ل: ((انهزام خير ما فينا أمام شر ما فينا)) والشر ما فينا هو الهو والغضب والتوهمات القبيحة، والتفكير على شكلين: تفكير باطل يعتمد على الخيال ولم ينتظر حكم ملكة التفكير، لكن الروح معصوم من الخطأ على خلاف النفس، وهنا يأتي النوع الثاني من التفكير الذي هو من خواص النفس الحقيقية وهو الحاكم على الانطباعات الواردة من الإحساس والمشاهدة وهو ما يطلق عليه العرفان .

والنحن عند افلوطين تقال على وجهين: «نفس بهيمية ونفس فوق البهيمية، والأولى جسد مجهز بالحياة، والثانية هو الإنسان الحقيقي الذي يختلف عن البهائم كونه ذو فضائل من مقام الروح والروح لازمة للنفس، منفصلة عن الجسد مفارقة له، حتى أثناء أقامتها في هذا العالم وهي تنسحب من الجسد انسحابا تاما ويتبعها الإشراق الذي كان قد حصل منها على الجسد»(2).

ص: 303


1- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 55.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 57.

ويؤكد افلوطين أن بحثه الأخلاقي بحث مركز على (النحن) أم على (الهو) فالنحن هو الروح، والهو هو النفس، وما يقوله افلوطين أن بحثه مركز على النحن ولكن بواسطة الهو، ومعنى بواسطة بمعنى أن الباحث هو النفس، معتقدا أن للنفس حركة كحركة الأجساد وهذه الحركة تمثل حياة النفس بالذات، وهو ما يقوم به العرفان، والعرفان هو الحياة الفضلى، وعندما تدرك النفس الروح ، وعندما تؤثر الروح فينا، فان الروح في آن واحد هي روحنا وهو امر علوي فوقنا نسموا إليه.

المبحث الأول: مفهوم الفضيلة الأخلاقية

يعتقد أن الفضائل كمصطلح كانت موجودة ومعروفة عند اليونان، وان الدور الأساسي الذي قام به أفلاطون هي محاولة لتحديد المفهوم الجوهري لكل فضيلة، وذلك كي يتوصل إلى: «تكوين تحديد عام وشامل لمفهوم الفضيلة ككل»(1).

إذن الهدف الأساسي لأفلاطون هو تحديد مفهوم الفضيلة كلا على حدة، ثم تحديد العلاقة القائمة بين جميع هذه الفضائل وتحديد مكانة ومنزلة وعمل كل فضيلة ليظهر اثرها الفاعل في حياة المجتمع الإنساني(2).

بالنص الأفلاطوني إذ يقول «مادام الشريجول جولته في هذه المنطقة من الكون، وما دامت النفس راغبة في الفرار من الشر فلابد من الهرب، ولكن كيف تهرب؟ قال أفلاطون بالتشبه ب- (...)»(3). يبدأ افلوطين ببحث مفهوم الفضيلة، جاعلا من معيار التشبه ب- (...) الأفلاطوني هروبا من الشر الحاصل في هذا العالم، معطيا تفسيرا للتشبيه، وتفسيرا للشر الذي سيتضح من خلال البحث.

ويبدأ افلوطين في التاسوعية الأولى / الفصل الثاني، وهي المقالة الثانية في

ص: 304


1- أنجلو شيكوني، أفلاطون والفضيلة، ترجمة: منير سغبيني، دار الجيل بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1986م،ص9.
2- ينظر: أنجلو شيكوني، أفلاطون والفضيلة، ص 9.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 59.

التاسوعية الأولى على وفق ترتيب فرفريوس، لكنها حسب ترتيب افلوطين انها المقالة التاسعة، حيث يقدم افلوطين سبيل الهروب من الشر الحاصل في العالم وهو طريق التشبه ب- (...) ، ولا يتم ذلك إلا من خلال اكتساب الفضائل بالعدل والورع المصحوب بالفطنة وهو طريق الاستقامة للحصول على الفضيلة بشكل عام، وهو يخير نفسه بین أن يتناول الفضيلة مجتمعة أو يتناولها كلا على حدة: «ولعل الكلام كان ارضى لو قصرنا كل فضيلة على حدة، فيسهل علينا حينئذ تبين الأمر المشترك الذي بمقتضاه تكون كلها فضائل»(1).

يشرح افلوطين المعنى الذي أراده بالتشبيه والفائدة منه، حتى نعرف أن ذلك وهو أمر يحصل في نفوسنا هو الفضيلة، ويعتقد افلوطين أن التشبه ب- (...) ممكن، لكنه يتساءل هل أن هذه الفضائل هي فعلا موجودة فيه، ؟ فما هي صفاته حتى نتشبه به ولكي يبين صفاته يعتقد افلوطين أن التشبه انما يكون على قسمين(2):

يفترض وجود معنى واحد بين الطرفين، فهما متشابهان لانهما يستخدمان تشابههما من اصل واحد، ويقال انه تشابه بالتبادل.

ليس هناك تشابه بالتبادل، بل أحد الطرفين يشبه الذي فيه الطرف الآخر فلا يفترض وجود معنى بين المتشابهين على أن يكون احدهما هو الأصل.

ولكي يبين افلوطين اصل التشابه وكيفيته فهو يقسم الفضائل إلى نوعين، وهو بهذه القسمة يختلف عن التقسيم الأفلاطوني والأرسطي للفضائل، فمن الواضح أن أفلاطون حين بحث عن الفضيلة جعلها مقرونة بالعلم فغاية الحياة هي الفضيلة أو الخير في مجال التقابل بين حياة التفلسف وحياة اللذة، فحياة اللذة تسعى لإشباع اللذات الدنيوية كافة، والسعادة لا تحصل بهذا الإشباع بل تحصل بالفضيلة(3).

ويجعل أفلاطون الفضائل ثلاثا تدير قوى النفس الحكمة فضيلة العقل، وتكمله

ص: 305


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 60-61.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 60
3- ينظر : محمد مهرا رشوان، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، دار قباء - القاهرة، 1998م، ص 69.

بالحق، والعفة فضيلة القوة الشهوانية تلطف الأهواء فتترك النفس هادئة، والعقل حرا، ويتوسط هذين الطرفين الشجاعة وهي فضيلة القوة الغضبية، تساعد العقل على الشهوانية فتقاوم أغراء اللذة ومخافة الألم.

ويعتقد أفلاطون أن الحكمة أول هذه الفضائل ومبدؤها فلولاها لترك الزمام أمام القوة الشهوانية، وانقادت الغضبية للشهوانية، ولم تكن العفة والشجاعة من شروط الحكمة وقيامها(1).

هذا التقسيم الأفلاطوني للفضائل يثير حفيظة افلوطين ويجعلها في مرمى نقده، إذ يعتقد افلوطين أن أفلاطون في جمهوريته اهتم بالنوع الأول من الفضائل ولم يهتم بالفضائل الذاتية، ولم يكن افلوطين ناقدا لأفلاطون فحسب، بل نجده ناقدا لأرسطو أيضا بقوله بالوسط الذهبي الذي قال به، إذ يعتقد أرسطو أن الفضيلة ليست طبيعية لدى الإنسان، وان الطبيعي فقط هو القوى والاستعدادات، والفضيلة لا تكتسب إلا بمعاونة الطبيعة، وهي تعلم كما يعلم أي فن من الفنون، فالإتيان بالأفعال المطابقة يؤدي إلى كمال الفن، وفقدان الأفعال المطابقة يؤدي إلى عدم كمال الفن، بل إلى نقصانه، مما يجعل الفضيلة قائمة بشكل كبير على التربية، فالفضيلة عند أرسطو استعدادات ما بإزاء انفعالات تنشا من نمو القوة بالمران، فهي استعداد أو حال مكتسب، ويحدد أرسطو موقف الفضيلة تجاه الشهوات بان تختار الوسط الاعتدال بين الأفراط والتفريط، باعتبار أن الأفراط والتفريط كلاهما رذيلة بنظر أرسطو، عليه فالفضيلة: «ملكة اختيار الوسط الشخصي الذي يعيه العقل بالحكمة»(2).

والفضيلة عند افلوطين في حقيقة أمرها وفي حد ذاتها: «انما هو ما كان منضبطا بالوحدة، ووظيفته بالنسبة إلى ذاته فلا معنى هنا لطرف أول وطرف آخر »(3).

وافلوطين يفرق بين نوعين من الفضائل، يطلق على الأولى الفضائل المدنية،

ص: 306


1- ينظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص112.
2- يوسف كرم، مصدر سابق، ص 210.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 64.

ويطلق على الثانية الفضائل بالذات فالفضائل المدنية هي التي تحصل للإنسان ولكنها بحاجة إلى ما يكملها : «فالفطنة لازمة المعلل بالعقل، والشجاعة لازمة المتدافع بالعاطفة، والعفة وهي نوعا ما توافق الملكة الشهوانية، وتناسقها مع العقل»(1)، وهي ما يطلق عليها بالفضائل الحضرية أو السياسية، التي يصل اليها الإنسان عن طريق تحرير النفس من رغبات الجسد وانفعالاته وإحساساته.

والفضائل بالذات وهي فوق الفضائل المدنية علوا بالرتبة والمتحلين بها يطلق عليهم الربانيون والتشبه ب(...) لا يكون الإ عن طريق هذه الفضائل وهو في الحقيقة تشبه بالإله نوعا ما، ويعتقد أن التشبه بالإله سواء أكان بالفضائل المدنية أو بالفضائل بالذات، فان الفضائل الإلهية ليست من جنس فضائلنا، فاذا كان التشبه به ممكنا ولو مع الاختلاف فلا شيء يمنع أن نتشبه به تبعا لتلك الفضائل الخاصة، وهي ما يطلق عليها بالفضائل التطهيرية(2).

ويوضح افلوطين العلاقة بين هذه الفضائل وبين التشبه بالإله: «فاذا كان الشيء حارا لوجود الحرارة فجب أن يحمى منها ما تنبعث منه الحرارة، أما اذا صار الشيء حارا لوجود النار فهل يجب أن تحمى النار نفسها بوجود نار أخرى»(3)، فصحيح أن في النار حرارة وان النار مولدة للحرارة ولكن هذا الشيء فطري، بالرغم من الفضيلة مكتسبة لكنها تتصف بالفطرية فيما تحاكيه عن النفس وتأخذه منها، ولكنه أيضا يريد أن يميز بين الحرارة وبين مصدر الحراة (النار) فالفضيلة شيء والمصدر الذي تأخذ منه شيء آخر فالبيت في ذهن المهندس هو ليس البيت الذي يدرك بالحس من ناحية التناسق والترتيب والتناظر، لكن اذا كانت الفضيلة موجودة، فالتشبه بها يوصلنا إلى التناسق والترتيب والتساوي، واذا انعدم واستغنينا عن التناسق والترتيب عدمت الفضيلة: «ولا بد لنا مع ذلك، من حضور الفضيلة فينا حتى يمكننا التشابه»(4).

ص: 307


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 60.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 60.وللمزيد ينظر : حربي عباس عطيتو ، ملامح الفكر الفلسفي والديني في مدرسة الإسكندرية القديمة، دار العلوم العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1992، ص 199.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 60.
4- نفس المصدر، ص 60.

ويشير افلوطين أن الفضائل التي تكلم عنها أفلاطون في الجمهورية كانت فضائل من النوع الأول (أي فضائل مدنية فقط) ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى ونوع آخر من الفضائل هو التطهيرات وهذا استدلال من افلوطين بان الفضائل عند أفلاطون على نوعين(1)، إذ يمكن أن نميز عند أفلاطون نوعين من الفضيلة الحقة القائمة على معرفة الخير بالاتكاء على المبادئ العقلية، التي تسمى (الفضيلة الفلسفية) وبين (الفضيلة الاعتيادية) وهي تلك الفضيلة الشائعة بين الناس، التي تنطلق عادة من العرف والتقاليد أو من الدوافع الخيرة والمشاعر الغريزية نحو الخير، والفضيلة الاعتيادية يمارسها الرجال المتزنين المعتدلين كالعادة والتدرب من دون الفلسفة أو تعقل، ويطلق أفلاطون على هؤلاء الذين يمارسون الفضيلة الاعتيادية بانهم يجدون انفسهم في الحياة الأخرى (كالدود أو النحل)، وهو يسمي من يمارس الفضيلة الفلسفية أصدقاء المعرفة ويجنبها كل الناس بمختلف طبقاتهم ومنهم الساسة ورجال الدولة، ويجعلها فضيلة اللذين استطاعوا أن يحرروا انفسهم من الأحزان والمخاوف والملذات والشهوات الذين يتمسكون دائما بما هو حقيقي والهي.

وينطلق افلوطين لبيان معنى التطهيرات، من خلال بيان العلاقة بين النفس والجسد، فالنفس ليست شريرة، لكنها توصف بالشر ما دامت ممتزجة بالجسد وهو انفعال النفس، وكذلك ظنه ظنها، لكن النفس الصالحة لا تشاركه في ظنه بل انها تنفرد بأعمالها وهذا ما يطلق عليه بالعرفان أو التفطن، من خلاله تكتسب النفس مجموعة من الفضائل فهي(2):

لا تنفعل بانفعال الجسد وهذا هو العفة.

لا ينالها الخوف عند انفصالها عن الجسد وهذه هي الشجاعة.

تنقاد للعقل والروح ولا تقاومهما وهذا هو العدل.

ص: 308


1- نفس المصدر، ص 61-62.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 61.

فالتطهيرات (عفة، شجاعة، عدل) الحصول عليها يمكن النفس من التشبه بالإله بحيث يكون موضوعها موضوعه، وتدرك النفس الروح ولا ينالها انفصال، لأن الأمر الإلهي: «طاهر وطاهر فعله، بحيث أن من يتمثل فيه يكون صاحب فطنة»(1)، والعلاقة الاله والنفس هي كالكلام في الصوت الذي فی يعبر عن محاكاة للمعنى الذي في بین النفس.

إذن ثمة علاقة بين الطهارة والفضيلة، ولكن هل الطهارة هي الفضيلة، أم انها سابقة عليها، أم متأخرة عنها؟ تساؤل يطرحه افلوطين ويحاول أن يجيب عليه، وقبل الإجابة نجده يعرف الطهارة «بانها طرح كل ما هو غريب»(2)، والخير هو عكس التطهير لان النفس بخلوها من الخير تبقى في حالة ريب، هذه الحالة هی ما تحتاج فيه إلى التطهير، فالفضيلة تكون اقل كمالا أثناء عملية التطهير، وبذلك تدرك نوعا ما غايتها وكمالها وبذلك يتم طرح كل غريب عنها، وتحصل على الخير، فالتطهير هو الخير بالذات، لكن هل إن الحقيقة التي ظهرت بعد عملية التطهير هي الخير بالذات؟ وما دعى افلوطين إلى طرح هذا التساؤل هو أن النفس لها ميلان، ميل نحو الخير اذا اتحدت بما يجانسها، وميل نحو الشر اذا اتحدت بأضدادها فلابد لها من التطهير لتحصل على الخير المحض(3).

وليست الفضيلة عند افلوطين هي الخير بالذات، بل إن الخير بالذات هو ما يتحقق بعد التطهير ، وافلوطين يميز بين (ما يحصل أثناء التطهير)، وبين ما (يحصل عند الفراغ من التطهير)، إذ إن أثناء التطهير لا يتاح للنفس الحصول على الفضيلة، لكن عند الفراغ من التطهير تتجه النفس إلى الاتحاد ويعرف هذا الاتجاه بانه مشاهدة وانطباع، يلامس النفس من الباطن ويعمل عمل المبصرات للبصر : «انه مشاهدة أطباع مرئي يلامسها من الباطن ويعمل فيها عمل المبصرات في البصر»(4)، هذا الانطباع

ص: 309


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 61.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
3- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
4- أفلوطين، التاسوعات، ص 62 .

والمشاهدة كان كامنا في النفس، ولكي يتحقق ويصبح حاضرا مشرقا مدركا، لابد من أن تتوجه النفس إلى منبع الإشراق الذي كان لديها من العالم الروحاني، وبذلك توفق بين الانطباع والحقائق التي تولدت عن تلك الانطباعات، وبذلك تكون الروح ليست غريبة عن النفس كون النفس توجه نظرها نحو الروح ومن دون هذا التوجه تكون الروح غريبة عن النفس وان كانت حالة فيها، ومثالها مثال العلوم التي دأب عاملين ،بموجبها، ولكن ما أن ندركها فإنها تصبح غريبة عنا(1).

فالفضيلة عند افلوطين لا تكتمل إلا بعد فعل الطهارة، فالتطهير سابق عليها، يجعل الفضيلة عن طريق الاتحاد نظير الاله، وتوحد بين النفس والإله، والتطهير يجعل النفس تهمل الأوجاع واذا لم تستطع لذلك سبيلا فإنها تحمل هذه الأوجاع مطمئنة، ويجعلها تقابل العنف ما امكنها الأمر، وان استطاعت ردته ردا مطلقا، وتمسك عن الانقياد إليه فيصبح العنف من لوازم الجسد العضوية، وبالتطهير لا أثر للخوف عندها فإنها لا تخاف والشهوة لديها غير متجهة إلى شيء قبيح وليس بشكل جامح نحو الأكل والشرب أو الجماع، بل انها تتجه بقدر ما تقتضيه الطبيعة وليس بالاندفاع الغريزي الأعمى(2).

فالتطهير يساعد الإنسان على تصحيح ما في الإنسانية من خطا وتحريف وهذا التصحيح ليس بان يتبرأ من الإثم بقدر ما يريد أن يكون آلاءها، لان الإنسان ذو وجهین،فأما أن يكون الهيا وأما أن يكون جنيا، فان كان فيه شيء من الخطأ أو التحريف فهو جني، وان لم يكن فيه شيء من ذلك فهو رب فقط: «بذاته هو الذي هبط من العالم الأعلى»(3)، وبذلك يصبح الإنسان في مأمن من كل اضطراب وبمعزل عن كل عمل قبيح، فالفضيلة اذا هی الحكمة أو الفطنة في مشاهدة ما لدى الروح وان ما لدى الروح انما يكون بالإدراك المباشر ، والحكمة والفطنة لهما وضعان وضع في الروح ووضع في النفس، وبينا سابقا أن الروح لا تحوي على الفضائل فتصبح

ص: 310


1- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
2- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 63.

الحكمة والفطنة كلتاهما فضيلة في النفس، لانهما في غيرهما وهما ناشئان من غيرها من الروح، فهما بالروح في العقل وبالذات أي انها قائمة بذاتها لا بغيرها، فالفضيلة هي: «في حد ذاتها قائمة بذاتها لا فيما هو غيرها »(1)، ويوضح ذلك بمثال العدل، فالعدل في النفس هو ما يحتاج إلى تعدد أجزائه لاكتمال وظيفته، وهذا التعدد يحتاج إلى كثرة، بمعنى أن الأجزاء تحتاج إلى كثرة، يكن هناك عدلا واحدا بالذات عدل بتمام المعنى لا كثرة فيه ولا أجزاء، إن العدل بمعناه الأفضل، هو أن تعمل النفس موجهة نحو الروح، هنا يكمن معنى الفضيلة الأفلاطوني وهو أن يكون الشيء في حد ذاته قائما بذاته لا فيما هو غيره.

ومن هنا يتضح تميز افلوطين بين فضائل الروح (التطهيرات) وبين فضائل النفس (المدنية)، ففضائل الروح أما هي في الملا الأعلى، فالعرفان لديها هو العلم والحكمة والعفة، هي انسحاب الروح إلى ذاتها، والعدل هو انصراف الروح إلى عملها الخاص وبقاؤه في ذاتها بريئتا من كل غريب وهو الشجاعة، أما فضائل النفس تتأتى في رتبة ادنى من فضائل الروح إذ تتجه الفضائل إلى فضائل الروح فهي ليست فضائلها كما في الروح بل من خلال توجيهها نحو الروح، وبواسطة التطهير تأتي النفس على الفضائل كلها : إذ انها كلها تطهيرات تقوم على حالة الطهارة التامة، وان من توفرت له الفضائل العليا توفرت له حتى الفضائل الدنيا مميزا افلوطين بين الأرباب أصحاب التطهير وبين أهل الإصلاح أصحاب المدنية، بين من يزهد في هذه الحياة رغبة في حياة أخرى هي حياة الأرباب ويحصل ذلك بالتشبه : «فان التشبه أما هو تشبه بهؤلاء الأرباب لا بذوي الإصلاح، فان هذا التشبه الأخير انما هو تشبه محاكاة بمحاكاة، ولكليهما اصل واحد و أما التشبه الأول فهو تشبه بالمثال نفسه»(2).

ص: 311


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 64.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 65.
المبحث الثاني: مفهوم السعادة:

شغلت السعادة المنظومات الفلسفية المختلفة، وتمتد مسالة السعادة امتدادها الجذري مع وجود الإنسان ومع الوجود البشري، وهي هدف دائم وديناميكي، يبدا الإنسان بالتفكير فيه مشكلا وعيا أخلاقيا، فضلا عن ما تحتله هذه المسالة من مکانه كبيرة في علم الأخلاق قدم لها المفكرون في مسيرة العطاء الإنساني كثيرا من الجهود قديما وحديثا، باعتبار أن السعادة تشكل بسعادة الفرد سعادة المجتمع والجيل بكامله حتى يكون مذهب السعادة الذي يعد من اهم التيارات الفلسفية الفكرية والعالمية وهو نظرية من نظريات علم الأخلاق.

يبحث افلوطين عن موضوع السعادة، يبين مجموعة من الموضوعات فيها من العلاقة بین الحياة الطيبة وبين السعادة، وهنا نتساءل هل إن لكل كائن من الكائنات الموجودة في الكون سعادة أو انها مختصة الإلهة والإنسان هل إن السعادة واحدة أو متعددة وما علاقة الألم والشقاء بالسعادة، وهل إن السعادة تكمن بملذات البدن؟ وهل انها تزداد مع ازدياد الزمن ؟ وما المنهج أو الطريق الذي يمكننا استخدامه للوصول إلى السعادة؟ هذه الأسئلة هي ما يجيب عنها افلوطين في بحثه لمفهوم السعادة.

يفترض افلوطين أن السعادة غاية، وهي بذلك الحد الأقصى للميل الكامن في الطبيعة وهو بهذا التعريف لا يفرق بين السعادة وبين الحياة الطيبة، وتتوحد له الرؤى في معنى الحياة الطيبة وهل هي في رفاهية العيش أم في القيام بوظيفة خاصة، ويؤكد أن الحياة الطيبة حاصلة بكلتا الحالتين للأحياء الأخرى، فرفاه العيش ممكن في كل عمل يلائم الطبيعة، فالحيوانات المفطورة على الغناء والإنشاد عندما تقوم بذلك وتغني وتنشد فهي قد حققت حياة طيبة بعمل يلائم الطبيعة، وهو بذلك يسلم أن أيضا عند انتهائه إلى الحد الأقصى الذي ببلوغه تسكن الطبيعة

السعادة: «لكل حي ذلك الحي، ذلك بانها حينذاك تكون قد نشرت ما قدر لذلك الحي من حياة، واستنفذت ذلك القدر من البداية إلى النهاية»(1).

ص: 312


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 70.

وهو يؤكد على امرين:

الأول: سحب السعادة حتى على النبات بما تقوم به من عملية نمو وتكامل مع بيان الاختلاف في وجود الإحساس عندها أم عدم وجوده، فقد تكون الحياة الطيبة للنبات أو لا تكون، وهذا ينحصر في إثمارها أو عدم إثمارها، ويمكن أن تكون غاية الحياة (اللذة) بالنسبة للنبات وبإدراكها - لذة الثمر - تطيب الحياة وها يؤكد: «فلا يليق أن يسلب طيب الحياة من غير الإنسان من الأحياء، والقول هوهو فيما اذا حددت الحياة الطيبة بالسكينة التامة أو بالعيش على مقتضى الطبيعة»(1)، مع اعتبار أن سلب السعادة عن النبات بحجة انها لا تملك الإحساس قد يسلب عنه السعادة عن غيره من الكائنات بحجة انهم لا يملكون الإحساس.

ويشرع افلوطين بنقد من جعل السعادة فقط في الحياة الطيبة، الذين يعتبرون أن العقل اشد قدرة في تسهيل اكتشاف ما في الطبيعة من الضروريات الأولى، فهل أن قدرة العقل على اكتشاف الضروريات مسوغ لسحب السعادة عن من لا عقل له، وان كان ينال الضروريات من الطبيعة وبدافع الطبيعة باعتبار انه يعيش بمقتضى الطبيعة. وبعد هذا العرض يقوم افلوطين ببيان موقفه من السعادة ومفهومها، وهو ينظر اليها من خلال مفهومي (الترادف والاتفاق) ، ويعني الترادف التسليم وهو: «كل حي قابل لان يكون سعيدا، فالحياة الطيبة فعلا ثابتا لكل من حصل عندهم امر هو ذاته واحد عند الجميع وعليه شمل الأحياء كلهم»(2).

وهنا يجعل افلوطين السعادة مشتركة بين كل الأحياء من دون أن يكون هناك تمييز بين الناطق وبين غير الناطق، ناقدا من يجعل السعادة للناطق فقط ويعلقونها على من يمتلك العقل، وهم بهذا لم يجعلوا السعادة لجميع الأحياء.

إما الاتفاق، فالسعادة لا تكون على درجة واحدة بين كل الموجودات، وإنما تتميز مراحل السعادة فيها، وهذا التمييز يكون خاضعا أو واقعا على وفق لدرجة (الإشراق

ص: 313


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 70.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 72.

والغموض)، وهي تعد ارتساما لمستوى آخر غير المستوى الذي نحن فيه، وتكون طيب الحياة في الأول ارتساما لطيب الحياة في مستوى آخر، انه التمتع بحياة فائقة، الحياة التي لا نقصان فيها : «فان السعادة فقط لذلك الذي يتمتع بالحياة الفائقة»(1)، والذي يحصل على الخير الاسمى فيكون صاحب حياة كاملة، ويؤكد أفلوطين أن هذا المذهب هو الذي تطمئن إليه ويقول فيه : «إن الحياة الكاملة الحقة الثابتة حقا انما هي الحياة القائمة في تلك الطبيعة الروحانية، وان الأنواع الأخرى من الحياة الناقصة، بل هي انعكاسات للحياة التامة، لا الحياة بكمالها وصفائها »(2).

ثانياً: تتحقق سعادة الإنسان بحصوله على تلك الحياة التامة الكاملة التي تقتصر بحصولها فقط على الإلهة لأنها لا تحصل الا لهم، فكيف تحصل للإنسان؟ يؤكد افلوطين أن الحياة انما تحصل للإنسان عن طريق الحس وعن طريق النطق والروح، وهذه الأشياء موجودة عند كل إنسان أما بالقوة وأما بالفعل، ولكن هذا ليس نوعا كاملا من أنواع الحياة، إن هذا جزء من حياة بالقوة، أما السعيد فله حياة أخرى، هو الذي اصبح بنفسه تلك الحياة وتوصل معها إلى أن يكون الا أن يكونا شيء واحد، وان حصل الإنسان على هذه الحياة فانه حصل على الخير، انه الخير لذاته الذي بحصوله له لا يسعى الإنسان وراءه إلى أي شيء آخر : «وليت شعري وراء أي شي تسعى، أما من الدنيويات فما يريد شيئا ، وأما الخير الأفضل فهو معه، إن من حصلت فيه الحياة على هذا الوجه هو في حالة المكتفي المستغني»(3)، فأي خير يرجوه يكون قبضته، وهو بمثابة شيء ضروري وليس لنفسه بل لأمر من الأمور التي تخصه، وان ما يطلبه فى هذه الدنيا انما يكون لقضاء حاجة هذا الجسد وتأمينه، ولا يصب سعادته بأذى لأنها الحياة الكاملة حتى عند الموت، لا يناله الاضطراب و فهو يعرف الموت ويعرفه أيضا الذين يكابدونه: «ولم يصبه الحزن على موتهم في ذلك»(4).

ص: 314


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 73.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 73.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 73.
4- أفلوطين، التاسوعات، ص 74.

لا يعتبر افلوطين أن الأمراض والإلام من معوقات السعادة، فيمكن للإنسان أن يصبر عليها لأنه لم يردها، والسعادة انما تتحقق فيما يريده الإنسان، لا يقصد افلوطين بذلك أن ألا نتألم ولا نمرض، لان هذه من معاكسات السعادة، ولان السعادة عنده: الحصول على الخير الحق فلماذا نتهاون في تركيز اعتبارنا على ما هو ذلك الحق وما إليه، فنحكم السعادة في طلب ما ليس منها»(1).

فحضور الصحة والسلامة لا يرغبنا بشيء ما دمنا لا نهتم بها ولا نطلبها لكونها حاضرة ولا يشكل عدمها أثرا على الحصول على السعادة: «فليس في تلك الأمور اذا حضرت ما يرغب فيها، وهي لا تضيف شيئا على السعادة»(2)،وهذه ما يصفها افلوطين بانها ضرورات معاشية وليست فقط خيرات معها فالرجل السعيد لا يرغب فيها لان السعادة لا تتحقق بها ما دام الإنسان كان قد حصل على الأفضل فلابد من أن يحتمل طوارئ ما زال أن العالم يسير هكذا.

إن الملذات التي يحصل عليها الإنسان جراء السعادة هي ليست ملذات بالمعنى المادي (ملذات الإباحيين وملذات الجسد) إذ إن هذه الملذات (تبطل السعادة) وتقع الأفراح المفرطة أيضا في هذا الاتجاه، لكن إن كان (المجتهد) لا يعتريه ظرف التغيير والتقلبات، فان الخير في كل الأمور حاضر عنده و حاصل لديه، حتى أن أفعاله تتكيف على وفق تكيف الأقدار وتبقى حسنة وان عاكستها الظروف، وليس فقط أفعاله البدنية بل حتى النظر ، فاذا نظر العارف المجتهد في الجزئيات فلأنها تحتاج بحثا وتدقيقا ويبقى (العلم الأعظم) في متناول يده ومعه(3).

ومن هنا يرى افلوطين أن السعادة ليست بضخامة الجسم أو عافيته كما اسلفنا، ولكن اذا توفر لحكيم ما كل من خلال الطبيعة، ولم يتوفر ذلك لحكيم آخر، فهل يعني هذا بان السعادة غير متحققة لهما ؟ وهل لهذا قضية في ادراك الكمال ؟ يرى افلوطين انما نحن ننظر إلى الحكيم والسعيد (المجتهد) من خلال عجزنا ونقصنا ، لان هذه الأمور لا

ص: 315


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 75.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 75.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 79.

تزيده ولا تنقصه وهي ما يقلل من قدره، بوضعنا له عرضة للطوارئ، فلا مقام للسعادة في أعراف الناس، لان السعادة بالمفهوم الأفلاطوني استعداد للخير من جهة الأعلى.

ثم يسأل افلوطين سؤالا مهما، هل إن السعادة تزداد مع مر الزمن، وهي تدرك على انها حاضرة. ويعتقد افلوطين أن السعادة لو كانت ذكرى وتم استذكارها في الكلام، فهي ليست بسعادة ، لأنها حالة ثابتة راهنة، وليست السعادة هي رغبة دائمة بالفعل والحياة، فكلما ازداد الفعل ازدادت السعادة، وبهذه يصبح اختلاف في مرتبة السعادة، فتكون سعادة الأمس اقل من سعادة اليوم أو بالعكس، فان نظر الإنسان إلى موضوع معين ويزداد مع ذلك تدفق الزمن لا يعني انه اكثر سعادة بذلك، إن الذي يحصل هو تساوي النظر في لحظة واحدة، ينتقد افلوطين من قال إن الرجل ليعيش سعيدا منذ بداية الحياة حتى آخرها وان شخص آخر عاش السعادة وعرفها في آخر حياته، وان السعادة إن كانت تزداد وتنقص فكذلك مقدار الشقاوة يزداد وينقص، وعليه أن نحسب فترات السعادة للإنسان بان نجمع ما كان يشكل سعادته في وقت مع وقت لاحق، وننظر إلى الحالة الحاضرة ونجمع معها حالتها الماضية، ونقول بذلك إن الزمان ازداد وبهذا نخضع السعادة لمقياس من مقياس الزمن، وهذا امر متناقض اذا قسنا السعادة بالحظة الحاضرة وقد قسناها سابقا بالزمان، جعلناها هنا غير قابلة للتقسم، وهذا ما يعبر عنه افلوطين بانه (حماقة) فإننا نستطيع أن نحصي الأمور الماضية كتعداد الأموات لكن لا نستطيع إحصاء لحظات السعادة.

ويرى افلوطين أن الزمان صورة للابد والنفس بما انها أخرجت من مقام الأبد، وكان العالم العلوي أمرها الخاص بها، فهي غير خاضعة للزمان ولا تقاس به، انما تقاس بالسرمدية : «فهنا لا زيادة ولا نقصان، ولا قياس بطول ما ، بل الحاضر بالذات في خلوه التام من المدة والزمان، ولا يجمع بين الأيس والليس، بين الزمان والسرمدية»(1).

فالسعادة عند افلوطين في حياة تامة كاملة يحصل عليها الإنسان بالشوق بعيدا عن

ص: 316


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 84.

الزمان واقعة بين السرمدية، وان ما يحاول الإنسان من الحصول عليه الحسنات من انما هو ليس الزيادة في الزمان بل إن الإنسان يجني الخير ولا يمل و لا يكل مما يطرا عليه من الحوادث : «فان فعل النفس في التفطن وهو فعل قائم في النفس بينها وبين ذاتها، وهذا هو حقا الثبات في السعادة»(1).

المبحث الثالث: مفهوم الحسن:

- يعد الإنسان الكائن الحي الوحيد الذي امتلك قدرة الهية وتذوقا فنيا ونفسيا للجمال من خلال تذوقه لما يدور حوله من مظاهر الكون والطبيعة، وهو تأمل يشمل تذوق الطبيعة (المادي) والتذوق الحيوي الذي يحياه الإنسان في البنية حتى يبدو له الكون في اجمل صوره فيستمتع بجمال الخالق في خلقه، والجمال موضوع وتساؤل للإنسان منذ اقدم عصوره واختلف حول مصدره كونه هبة من الاله الخالق، وان مصدره روح شيطاني فمن المحذور البحث فيه(2).

-أما موضوع الجمال من حيث مفارقة تجليه الظاهري، وباطنية أسراره، فانه يكاد أن يكون اقرب الموضوعات إدراكا للخلق في صفاته، كشفا لحقيقة إبداعه، من قبل رؤية المبدع المطلق (الحق) الذي ابدع المخلوق الحسي في مظاهره المتعددة للتعبير عن الجمال الكلي واللامرئي»(3).

ويعتقد أن أول مشكلة جمالية مرتبطة من خلال إدراكي لما هو جميل، هذا الأدراك الذي يقسم إلى إدراكين، ادراك حسي (خارجي) هو إدراكي لما موجود من خلال الحواس، وادراك باطني داخلي (تأمل ذاتي) هو ادراك الانفعالات النفسية، أفكار، مشاعر، إرادة، انفعالات، عواطف، وما يجمع الإدراكين معا هو أن موضوعها (المدرك) حاضر مباشر أمام الوعي(4).

ص: 317


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 85.
2- ينظر: راوية عبد المنعم عباس، القيم الجمالية، دار المعرفة الجامعية، مصر، من دون طبعة، 1987م، ص 7-8 .
3- عبد القادر فيدروخ، الجمالية في الفكر العربي، اتحاد الكتاب العرب، 1999م، ص 12.
4- ينظر: ولتر سيس، معنى الجمال، ت. أمام عبد الفتاح أمام، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2000، ص 42.

ومن الغريب ما قاله أحد الباحثين : «لا يتضح راي قاطع لأفلوطين بهذا الشأن، فهو يقرر من جهة أن الاله يهب الجمال كل الكائنات باقيا في ذاته الجمال، الأول جمالا اعلى من الجمال وهوه مبدا أول لجمال عالم المثل، ويقرر من جهة ثانية أن الجمال ليس (..) بل هو بعده ويحتاج إلى (...) ولا يحتاج (...) إليه ليكون في درجة مباشرة بعده»(1).

وهنا ندخل إلى دراسة النظرة الأفلاطونية عن مفهوم الجمال، وكيفية علاج موضوعاته، بعد أن يقدم افلوطين استفهاما حواريا قبل البدء بكل فصل من تاسوعات، إذ نجد أن أفلوطين يؤكد على بعدين من الأبعاد الجمالية، بعد مادي كان له فيه راي خاص، وبعد روحي يحدد به اتصاله (بالخير والحسن الأعلى) ويحدد فيها أيضا التطهيرات في تكوين الفكرة الجمالية، يتساءل افلوطين هل إن الحسن في كل الأمور شيء واحد لا اصل له سواه؟ أم إن الحسن يكون في الجسد وآخر يكون في غير الجسد ؟ ما الذي ينبه أنظار المشاهدين للحسن ويجذبها نحوه ويجعلها تلذ بمشاهدته ؟

يبين افلوطين أن هناك اتفاقا بين الناس من أن الجمال هو تناسب بعض الأجزاء مع بعض وتناسبها بالنسبة إلى الكل، وهذا ما يجعل الشيء جميل المنظر وهذه النظرة يقدم افلوطين لنقدها، موضحا أن النظرة الجمالية هنا نظرة ليست بسيطة، انها نظرة مركبة لان الأشياء تكون جميلة بما فيها من تناسب وتزان و فالشيء جميل بتوازنه وتناسب فروعه، ومن ثم إن هذه النظرة الجمالية للكل تسحب الجمال من الأجزاء الفرعية المكونة لذلك الكل، فهي لا تملك الحسن في حدود ذواتها: «بل فقط بقدر ما لها تساعد أن يتم الحسن في الكل»(2).

يعتقد افلوطين أن الكل اذا كان جميلا ، وجب أن تكون الأجزاء المكونة له جميلة أيضا و وهو يفرق بين أن يكون الشيء جميلا بسبب أجزائه المكونة له و بين أن

ص: 318


1- غسان خالد ،افلوطین ،عویدات، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1983م، ص 226،
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 86.

تركب أو تشكل شيئا جميلا من أجزاء قبيحة يزيد توضيحه للمسألة بان ليس كل جميل متكونا من أجزاء بسيطة فالشمس يقوم جمالها ولا تعتمد على تناسب أجزاء الوانها، وهذا ليس فيما يخص البصر فحسب، بل أن السمع له جماليته وصورته الجمالية، فالصوت يكون جميلا بغض النظر عن الأصوات المركبة له فالحسن: «في

حيز البصر بخاصة، وهو أيضا في حيز السمع يدركه في تناسق الألفاظ »(1).

وينتقل افلوطين إلى مسألة (الأمور الفكرية والعلمية) ويعالج مسالة الجمالية فيه، من خلال طرح تساؤلات عدة، فهل أن التناسب مدخليه في تكوين النظرة الجمالية؟،هل بالإمكان تكوين نظريات في العلوم أو قوانين أو معارف من خلال التناسب بين النظريات أو تكوين رؤية علمية جمالية من توافق في الآراء الفاسدة؟، وهل إن لكل فضيلة حسن في النفس؟، وهل إن هناك تناسبا وما هو التناسب الذي به يتم التأليف بين بعض النفس وبين مشاهداتها(2).

وبعد هذا التساؤل الذي يقدمه افلوطين يقدم نظريته في ادراك الأجسام للجمال، ادراك الجمال في الأجسام يكون بما تلمحه النفس لمحافظة لفظ باسمه، ثم تعرفه وترحب به، تتكيف وفقا له، أما القبيح فلا تستطيع النفس الا أن تنسحب أمامه وتتمنع عليه وترده مستغربة، هذا الاستقباح والقبول يرده افلوطين لكون أن النفس بحقيقتها، انها بجانب الذات المتعالية على كل الأمور فتطرب وتفرح وتسحب ما كان قريبا مها، وتطرد وتبعد ما كان غريبا عنها، وليس في هذا الشيء ما يقود أو يعود إلى التجانس أو التناسب ويطلق افلوطين مصطلح (مطلق القبح) موضحا موقفه إزاء النظرية الأفلاطونية في قياس الصورة الحاضرة بجماليتها إلى مثالا لها في عالم آخر، إن ادراك الحسن والجمال لا يكون بمجرد التناسب أو تأتيه صورة تشابه وتماثله في عالم آخر، فالجسم جميل بسبب : «اشتراكه في عقل أتاه من عالم الآلهة»ا(3).

ص: 319


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 86.
2- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 87.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 88 .

ويحاول أن يعالج مسالة الجمال بين ما هو في الجسم وما هو فوق الجسم، كمسالة البيت القائم في الخارج، مسالة البيت القائم في الذهن، حتى يستطيع الإنسان أن يحكم بالحسن (الجمال) على البيت الكائن في الخارج، فالبيت الذي في الخارج اذا أغفلنا النظر إلى الحجارة التي تكونه فهو مثالا للبيت في الذهن وهنا تحدث كثرة موزعة بين الهيولى وظاهرة فيها، ولكن وجود صورة مثالية لها تجعل صورة الوحدة (ضابطة لهذه الكثرة): «اذا ما ادركنا صورة تبرز مشرفة على الصور الأخرى لممنا شعث ما كان مشتتا في الكثرة، ورفعناه وسقناه إلى السرج الباطن بعد أن اصبح لا تقسيم فيه، ودفعاه إلى ذلك السر على انه يناسبه ويوافقه ويجانسه»(1).

ويصور افلوطين الجماليات والأشياء الجميلة في الحسيات بانها ارتسامات أو أشباح قامت بعملية فرار من عالمها وجاءت إلى الهيولى المتكثرة فقامت بتنظيمها وظهرت أمامنا جميلة باهرة، وهو يعالج أيضا الجمال فيما فوق الحسيات ما تدركه النفس ويطلب أن تبقى الحواس في السفليات ولا ترتقي معا للحكم على ما تدركه النفس، وهذا من خصائص المشاهدة عند افلوطين، وهنا التفاتة رائعة يؤكد أفلوطين أننا لا نستطيع أن نحكم على الأشياء الجميلة الحسية الا من خلال النظر اليها وادراك الحس فيها، فالمكفوف لا يستطيع أن يرى الأشياء الجميلة لعدم قدرته على رؤيتها والإحساس بها، فالأعمال الباطنية كذلك فمن لم نشرح له صورا من الأدراك والأعمال

والعلوم التي لها مدخليه ببهاء الفضيلة لا يستطيع أن يدرك مظهر العدل والعفة.

ويصف افلوطين من تحصل له هذه الأمور ويحصل له الأدراك النفسي أن يشعر بالفرح والجذب والطرب، وهذا يختلف اختلافا واضحا بين الأدراك النفسي وما يدركه الإنسان في الأدراك الحسي، الانفعالات تخبر النفوس بما لا نستطيع أن نراه، واكثر نفوسنا إدراكا هي النفوس التي تكون اشد حبا وهياما، كما يرى الحسن في الأجساد لا يكون بمستوى واحد عند من يرونه، فالجمال النفسي يختلف فمن كان يمتلك شعورا اقوى يوصف بالعشق.

ص: 320


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 88.

ويوجه افلوطين ليدرك معاني هذا الجمال واللذة سؤالا إلى الذين عاشوا اللحظات وكيف يستطيعون أن يفرقوا بين حالة ما قبل الصلاح في العمل وبين حالة الاستعداد الروحي، إن ما يشعرون به ليس شكلا أو لونا أو حجما، إن ما يشعرون به نفوس منزهة عن اللون المنطوية على العفة، إن كل ما يحصل بعد هذا الانجذاب والصلاح عظمة النفس، والعفة الصافية وسلامة القوية، والشجاعة في مظهرها المنطبع بالمروءة هو ارتياح واطمئنان، انه الروح الساطع الرباني الأصل وهي أمور نحبها انها الموجودات الجميلة(1).

وهذه المرحلة لا يصل اليها الإنسان الا بعد تهذيب النفس من الشرور التي علقت بها نتيجة اتصالها بالبدن وتطبعت بما يريده البدن، انها حالة ذلك الرجل الذي سقط في الطين والوحل ولا يمكن أن يعود إلى جماله الا بعد أن يزيل ما علق به من أدران الوحل، فالنفس لا تستطيع التحرر من الشرور التي علقت بها وليست بجوهرها الا بعد أن تميط عنها الانفعالات التي انسكبت بها نتيجة اتصالها بالبدن(2).

ومجموعة الفضائل - التطهيرات - تصل اليها النفس بعد تنقيتها من مطالب الجسد ونزعاته هي العفة والشجاعة والفضائل، فالعفة تقطع كل صلة بالجسد وتهرب من الملذات الظاهرة، والشجاعة عدم الخوف من الموت، والموت هو مفارقة النفس للجسد ولا يخاف المفارقة من كان يعيش (وحده مع ذاته) وتحصل للإنسان كرامة توجب له احتقار الدنايا وفطنة يفكر من خلال عدولة عن الدنيويات، فالنفس بعد أن تطهر تصبح مثالا وعقلا وتمسي مجردة عن الجسد كل التجرد وتضحى روحانية كلها فكل الجماليات أما تحصل للإنسان من معين الحسن، مصدر كل جمال هو العالم الرباني، وبذلك نستطيع أن نوازن بين ما قدمة النص وبين التساؤل السابق الذي قدمة الباحث غسان خالد

ويتحدث افلوطين عن ذلك الارتقاء إلى العالم العلوي، عن حضور الذات

ص: 321


1- للاستزادة أكثر حول تحليل النص ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 88 وما بعدها.
2- للمزيد حول تحليل النص ينظر : أفلوطين، التاسوعات، ص 90-91.

الإنسانية بذات المدرك للجمال، ويستخدم عبارات من جماليات المشاهدة، ويؤكد وجوب العودة والارتقاء إلى ذلك الخير الذي ترغب به کل نفس، هذا الخير شاهد افلوطين عليه من يقول انه قد رآه ، ومن عرف له الحسن، وهنا يؤكد افلوطين كي نصعد إلى الخير الأبدي، نتوجه نحو هذا العالم ونتجرد مما لبساه أثناء هبوطنا ، فالنفس هابطة وأثناء هبوطها حصل لها تلبس به لاتصالها بالبدن فلابد لها من تتجرد عنها ومن يرغب للصعود لابد يتطهر ويخلع ما عليه من ثياب ثياب الشهوات، لكي يصعد إلى أقداس الهياكل عليهم أن يصعدوا عراة، ليدركوا: «القائم بتفرده وحده في صفاته وببساطته وقداسته، هو الذي يرتبط به كل شيء، والذي فيه تحدق ببصرها الأشياء كلها فترز أيسها وحياتها وعرفانها بالروح، إذ انه علة الأيس والحياة والروح»(1).

وهنا يصف افلوطين حالين حالة من شاهد، وحالة من لم يصل بعد إلى المشاهدة ، فالذي لم يصل إلى المشاهدة يتصف بانه اعظم عشقا وحنينا للخير، واعظم همه هو أن يتحد به، أما المشاهد له فهو يسحر بحسنه، ويصاب بالبهتان والفرح ويشعر بالاضطراب البريء من كل ضرر، ويأخذ بالعشق الحق، ويحتقر كل ما كان يظن انه حسنا، ومن يشاهد الآلهة أو احدها لا يرغب بعد ذلك بحسن الأجساد ويستمد كل أموره من الملأ الأعلى، ويصف افلوطين هذا الحسن «بالقول: ما راينا لو أنا شاهدنا ذلك الذي يوزع الحسن على كل شيء ويمد بالحسن كل شيء، باقيا في ذاته لا ينال شيء غيره، ولو بقينا هكذا في مشاهدته نتمتع به ونتحول إليه، فهل نعود في حاجة إلى حسن ما لأنه هو الحسن الأعظم وهو الحسن الأصلي يخلع الحسن على من يحبونه، ويجعلهم هم أيضا أهلا للحب»(2).

فالشقي من ترك هذا الجمال وترك هذا الحسن واخذ بجمال الألوان والأجساد، ويهتم بالسلطان ومقامات الجاه، حقا على النفس أن تسلك طريق المجاهدة، الجهاد

ص: 322


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 92.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 92.

الأكبر الاسمى الذي يوصلها لذلك الحسن والذي من حقها أن تضحي لأجله بكل العروش وبكل سيادة على الأرض وحقها أن تزهد بكل ما في البحار والسماء اذا كان هذا الزهد «ما يؤمن الفوز برؤياه بعد توجيه الوجه إليه»(1).

هذه الرؤية هي رؤية خالصة، الرؤية التي تساعدنا على السير للوصول إلى الجمال، ولكن بعد أن نترك النظر إلى بهجة وجمال الأجساد، ونترك وراءنا ونحقق معنى الفرار إلى الجمال الأعلى من خلال قول فلوطين «فلنفر هاربين إذن إلى الوطن المحبوب»(2).

هذا الفرار هو ما يحقق الحسن الباطن والنظر الباطن، ويبين افلوطين الفرار بان نعود النفس على مشاهدة الحسن في المعاملات ثم في الأعمال، وهو لا يعني بالأعمال الأعمال الفنية، بل يعني الأعمال التي يقومون بها أهل الصلاح والفضل، مثال النحات من اجل ما يقرب به افلوطين الفكرة.

فالنحات عندما يصنع التمثال يقوم بعدة عمليات قطع وصف وتنظيف وتمليس، وبهذا يخرج صورة للتمثال، فعلى الإنسان حتى يسطع أمامه بهاء الفضيلة وترى فيه العفة منصبة على القاعدة المقدسة لابد من أن يزيح الفضول عن النفس ويسدد ما كان معوجا فيها، فان تحقق وحدة الصفاء مع الذات وابتعد كل ما يمنعك من الشوق كنت بتمامك النور الحق، المنزه من كل قياس، وتكون بذاتك يقينا واحدا، فتصبح تلك العين التي تدرك الحسن الأعظم، وتلك الحقيقة (الحسن الأول) أو الخير والخير والحسن الأول واحدا عند افلوطين وكمال الحسن قائما في الملا الأعلى.

ص: 323


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 93.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 93
المبحث الرابع: مفهوم الخير والشر:

كعادته يتساءل افلوطين عن الخير أين يكون؟ أو ليس هو قيام الحياة بفعلها وفقا لما تقتضيه الطبيعة ، واذا كانت الكائنات تتألف من عناصر كثيرة فان الخير هو قيامها بالفعل الخاص بها وفقا للطبيعة دائما ومن دون إهمال أي ناحية من نواحيه، فخير النفس هو قيامها بالفعل الخاص بها، لكن النفس تعمل لأشرف سبيل، وتصل إلى اشرف مقام، فذلك الشرف هو ما يكون خيرا بالنسبة اليها، بل انه الخير على الإطلاق، وتحصل على هذا الخير التشبه بالخير الأشرف، أو عن طريق أن تتوجه إليه أثناء قيامها بأفعالها، ولا يلزم الخير أن يتجه بنفسه إلى خير ما أو يهدف إليه، لأنه كما يقول افلوطين: (المعين القائم بطمأنينة) وهو من يخلع على كل الأشياء هيئة الخير فالنفس تتوجه إليه لا لكونه يخلع الخير على كل الأشياء ولا بواسطة العرفان لأنه قائم بذاته في ما هو عليه، وهذا الخير هو ما يتعلق به كل شيء و يتعلق هو بشيء، انه يهدف إليه كل شيء ويبقى ثابتا وإليه يتجه كل شيء، والعلاقة بين الأشياء وبينه علاقة الدائرة بمركزها، علاقة الشمس بالنور : «ينبعث منها ويبقى متصلا بها فمن أية ناحية قابلته كان معها لا ينفصل عنها ، واذا حاولت فصله من جهة ما، وجدته هو ابداً في جانب الشمس»(1).

إن النفس بطبيعتها تتوجه إلى الخير إذ وضحنا ذلك في تأصل المفاهيم، لكن بواسطة الروح ، فهي تتجه إليه عندما تتوجه النفس بنفسها نحو الروح التي تلي الخير مباشرة، وبذلك تكون اقرب إلى الخير من كل الكائنات الأخرى: «وهي تتشح بهيئة الخير بواسطة الروح ، انما يتم لها الخير عندما تتوجه وجهها نحو الروح الذي يلي الخير فورا، فالخير اذا هو الحياة لمن كان له حياة وهو الروح لمن كان حظ من الروح ومن توافرت له الحياة مع الروح اخذ من الوجهين»(2).

ويقارن افلوطين بين الحياة والخير من جهة وبين الحياة والشر من جهة، انها

ص: 324


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 95.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 96.

كالبصر عند من يرى بوضوح ومن لا يرى بوضوح، ويمزج فكرة الموت مع فكرة الحياة ويداخلها في مفهومي الخير والشر، فهل الحياة شرّ للإنسان أم هي خير له، وهل إن الموت شر للإنسان أم انه خير له، ويقارن افلوطين بين وجودين للنفس: وجودها في الحياة ووجودها بعد الموت، والنفس اذا كانت كلية فأي شر يمكن إن تخشى منه، سواء أكانت في الحياة أو في الموت، وفرق بين النفس التي تحافظ على صفائها والنفس التي لا تحافظ على صفائها، فالشر ليس بموتها وإنما بحياتها، ليس الحياة هي الاتحاد بين النفس والجسد ، وليس هذا ما يقصده افلوطين، وأيضا ليس الموت هو الانفصال عن الجسم: «نعم إن الحياة خيرا لمن كانت حياته صالحة، ولكنها ليست خيرا على انها جمع بين النفس والجسد بل لأنها تدفع الشر بواسطة الفضيلة»(1)، وهي لا تحيا بحياة المركب كما يؤكد ذلك افلوطين بل انها تحيا بحياة: تؤدي بها إلى حال المفارقة والانفصال»(2).

ويحاول افلوطين أن يحدد مفهوم الشر، ذلك بعد تحديد مفهوم الخير وحقيقته، وهو يؤكد مرة أخرى أن الخير ما يتعلق به كل شيء وما إليه تهدف كل الأشياء، لأنها تجد اصلها فيه وتجد انها في حاجة دائمة إليه، والخير لا يحتاج إلى شيء ولا يعوزه شيء فهو مكتف بذاته، وان كل الموجودات (الروح والآيس والنفس والحياة) وأعمالها وما تتجه إليه من الحسن وما فوق الحسن فهي من العالم الروحاني، الخير الأعلى هو الذي يجعل روحنا (نحن) تحفل بالقضايا والمقدمات وادراك ما في مجال النطق وتعتمد على طرق الاستدلال وقوة النظر في النتائج، وهذه القوة هي ما تمكننا من الحصول على مشاهدة كل الأمور التي لم تكن في أول الأمر، ويصف افلوطين الخير بصفات، بانه الكل في كل شيء، الكل من جملته في كل ناحية، وبعض ذلك الكل ليس متشبها به، كل شيء متميز عن بعض، وليس مشتبها ببعض، والروح هي الفعل الأول لذلك الخير (الذات الأولى)، فالخير هوهو في ذاته، وما يفعله الروح هو التفلسف بذاته (الخير)، والنفس حلبة الرقص التي تدور حول الروح، وتحق اليها

ص: 325


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 96.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 96.

وتنفذ فيها ببصيرتها، والغرض من هذا الوصف الذي تطرق إليه افلوطين لتوضيح أن هذه الحياة هي حياة الآلهة المطمئنة السعيدة وهذه الدورة من الحياة لا مكان فيها للشر، ومكان الشر هو حالة العوز في مقابل من هو مكتف بذاته، والذي يكون في حالة فوضى لا يستقر على حال، ويكون عرضة لكل انفعال، انه نهم وفقر بالذات وهذه الصفات التي يذكرها افلوطين ليست أعراضا عنده وإنما وإنما هي حقيقة الشيء.

وكما أن الروح تكون قريبة من حقيقة الخير فان الأجساد تكون قريبة وفي المقام الأول من مقام الشر، وهي في الوقت نفسه محرومة من الحياة يفسد بعضها بعضا، والنظام فيها مفقود، ودورها انها تحيل بين النفس وبين فعلها الذي أمضته الطبيعة اليها، وبذلك تكون النفس في هرب دائم لأنها تجري باستمرار، والنفس ليست كالشر في ذاتها ولذا تكون شرا في المقام الثاني، ويؤكد افلوطين ما أشار إليه من أفلاطون يرى بان ليس كل نفس شريرة انها تحصل على الشر كونها غير خارجة عن نطاق الهيولى، وليست صافية بحد ذاتها فخالطها الخلل من كل جانب ولم تصب الكمال من جانب آخر.

ويؤكد أفلوطين أن حقيقة الشر ليست قائمة في الهيولى، بل انها قبل الهيولى، لان الحرمان انتفاء للخير وان كان الحرمان مطلقا كان الشر مطلقا أيضا، وهناك تناسب عكسي بين الحرمان والشر، فكلما زاد الحرمان كلما قويت جهة الشر كما يقول افلوطين، وليس الشر في عالم الآلهة، بل انه يكون في عالم الفساد والفرار من الشر يكون بتجنب الرذيلة وكل ما يتولد عنها .

يدعو افلوطين الإنسان إلى التمهل وعدم السرعة في الرقي والصعود في مدارج الكمال لان إقحام النفس إقحاما انما هو (انتحار مباح) : «واذا قدر لكل أنسان اجل محدود فان استعجاله ليس بلائق الا لأمر قاهر، فضلا على أن المقام في العالم الأعلى يكون وفقا للحالة التي انطلقنا عليها، فالواجب الا ننطلق ما دام ثمة مجال للاستزادة من التقدم المتواصل »(1).

ص: 326


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 109.
الخاتمة

وفي نهاية البحث ممكن نستخلص نقاط عدة لعل أهمها ما يأتي:

اهتم افلوطين اهتماما واضحا بالأخلاق القائمة على العقل وعلى الحدس، وعلى تربية النفس ومساعدتها للعلو والسلوك والرفعة في مدارج الكمال. وهذا مما اثر كثيرا على التفكير الفلسفي الإسلامي في مجال الأخلاق و التربية.

أكد على أهمية النحن في عروجه إلى ما فوق النحن، تاركا كل ملذات الجسد حتى لو كانت القصور والممتلكات الفارهة التي لا تعدل الكمال في شيء. وهنا نجد سحنة صوفية لدى أفلوطين استند عليها الصوفيون بعد ذلك ونقدها الفلاسفة المسلمون.

وإن كان قد تأثر بالأخلاق الرواقية فإنه انتهى إلى عد التجربة الصوفية تجربة الوجد هي الغاية النهائية التي يجب أن تتحدد تبعاً لها وتترتب عليها كل المقدمات المؤدية لكل معرفة، ومن ثمّ الأساس لكل نظرية في المعرفة، كذلك بین ماهية هذه التجربة ما فيها من جانب ذاتي وما فيها من جانت علوي يأتي عن طريق الواحد (الله) لذلك يعد أفلوطين مؤسس نظرية الحدس في الفكر الإنساني التي أثرت على مسار كثير من مدارس الفلسفة الغربية والاسلامية.

وصف افلوطين حالين حالة من شاهد، وحالة من لم يصل بعد إلى المشاهدة، يتصف بانه اعظم عشقا وحنينا للخير، ومن يصل المشاهدة فهو يسحر بحسن الخالق، ويصاب بالبهتان والفرح ويشعر بالاضطراب البريء من كل ضرر، حتى انه يشعر بالوصول إلى العشق الحق ويحتقر كل ما كان يظن انه حسنا. يحث نجد لهذا النوع الاتصال الروحي الأثر الكبير بكثير من تيارات الفكر الإنساني ومنها إسلامية بین ناقد ومادح.

ونجدنا افلوطين يؤكد على بعدين من الأبعاد الجمالية: بعد مادي كان له فيه راي خاص، وبعد روحي يحدد به اتصاله (بالخير والحسن الأعلى) ويحدد فيها أيضا

ص: 327

التطهيرات في تكوين الفكرة الجمالي، ونلاحظ مدى تأثر الفكر الإسلامي الإجمالي بهذه الفكرة خصوصا في التطهير والاتصال بالخير الأعظم.

إن الخير المطلق محور وجود الروح وأساس سعادتها،ولا ولا تتحقق السعادة فی السعي وراء الماديات وإنما هي باتصال الروح بالخير المطلق. وهذه الفكرة هي التي بنى عليها الفيلسوف المسلم الفارابي في كتابه تحصيل السعادة، وكذلك كتاب تحصيل السعادتين للأصفهاني.

إن الطابع العام لفلسفته هو غلبة الناحية الذاتية فيها على الناحية الموضوعية.هی فلسفة تمتاز بعمق الشعور الصوفي والمثالية الأفلاطونية ووحدة الوجود الرواقية فالمعرفة عنده تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله من غير أن تمر بالعالم المحسوس.

المصادر والمراجع:

افلوطين، التاسوعيات، ت. فريد جبر، الناشر مكتبة لبنان ،لبنان، الطبعة الأولى، 1997م.

أنجلو شيكوني، أفلاطون والفضيلة، ت. منير سغبيني، دار الجيل، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1986م.

برتراند رسل، حكمة الغرب، ت. فؤاد زكريا ، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، الطبعة الثانية،2009م.

حربي عباس عطيتو، ملامح الفكر الفلسفي الديني في مدرسة الإسكندرية القديمة، دار العلوم العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1992م.

راوية عبد المنعم عباس، القيم الجمالية، دار المعرفة الجامعية، مصر، 1987م .

عبد القادر فيدروخ ، الجمالية في الفكر العربي، اتحاد الكتاب العرب، 1999م.

غسان خالد ،افلوطین، عويدات، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1983م.

محمد مهران رشوان، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، دار قباء، القاهرة، 1998م.

محمد عبد الرحمن مرحبا ، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، عويدات، بيروت - لبنان، 2007م.

محمد فتحي، الجدل بين أرسطو وكنط، المؤسسة الجامعية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1995م.

مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، دار قباء، مصر، 1998م.

ولتر سيس، معنى الجمال، ت. أمام عبد الفتاح أمام، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2000م. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مراجعة، هلا رشيد أمون، دار التقدم، (بلا تاريخ).

ص: 328

المذاهب الأخلاقية للحداثة

خلفيتها التاريخية، روّادها، ونظامها المعرفي

عبد الحميد يوسف(1)

يمكن القول إنَّ تأسيس النظم الأخلاقية غير الدينية وظهور الأخلاق الدنيوية أو الأرضية، من أهم خصائص العالم الغربي في القرن الثامن عشر فما بعد. فبعض النظم الأخلاقية تتصادم وتتعارض مع الأخلاق الدينية، فضلاً عن كونها نظماً علمانية. ويمكن إعطاء مثال على ذلك من الأخلاق الداروينية، فهي أخلاق توصي بسحق الضعيف من جانب القوي؛ لأنَّ ذلك يتطابق وقوانين الطبيعة الصارمة. فكل التعاليم المتضاربة مع الحركة التكاملية لبقاء الأصلح إنما هي تعاليم سلبية. وقد أسهب المتألّهون في مناقشة القيمة الشرعية المنطقية للأخلاق العلمية، لا سيما الأخلاق الداروينية.

إن مطلبنا من هذا البحث هو التعرض إلى المرجعيات المؤسسة للمذاهب الأخلاقية التي ولدت في الغرب جراء الانقلابات ضربت الفكر الاجتماعي والفلسفي

ص: 329


1- باحث في الفلسفة الغربية - فلسطين. ترصد هذه المقالة أبرز المذاهب والتيارات الأخلاقية التي ظهرت في أزمنة الحداثة الغربية ولا سيما تلك التي تزامنت مع ما عُرف ب- عصر التنوير وتبعاً لما ورد فيها من عرض منهجي، فقد تبين لنا ان هذه المذاهب ولدت تحت وطأة الصراع المرير بين العلمنة وسلطنة الكنيسة في أوروبا. ولعل الفرويدية والداروينية كتيارين رئيسيين معاديين للاهوت المسيحي شكلا معاً عنوانين نموذجيين لمثل هذا الصراع، وخصوصاً في خلال الحقبة التي انتصرت فيها العلمنة على اللاهوت السياسي للكنيسة. المحرر

إبان عصر التنوير. ومن المفيد في هذا السياق إلقاء الضوء أولاً على ما قدمه الفلاسفة علماء الاجتماع الذين صرفوا قسطاً وفيراً من جهودهم في الميدان الأخلاقي. يلي ذلك عرض للسيرة التاريخية للمذاهب الأخلاقية التي رافقت صعود الحداثة.

أخلاقيو الأزمنة الحديثة

مونتاني وباسكال: ليس هناكمن شك في أن نتاج «مونتاني» هو الذي افتتح التأمل الأخلاقي «العلماني» في العصور الحديثة.

ولا ريب أيضاً في أنّ هذه الأخلاق تنتمي - بأساسها الخفي إلى زمرة الأخلاق العلوية، ولكنها من التحفظ وبهجة الطابع بحيث لا يمكن اعتبارها إلا كمجموعة مبادئ تخص «الرجل الصالح» ذا التطلع المحدود بعض الشيء، أو كفن سطحي (لمعرفة كيفية الإستمتاع شرعاً بوجودنا). وقد جرى التقليد على التقريب بين اسم باسكال واسم مونتاني الذى كان مصدر وحي كبير بالنسبة إليه. ولكن باسكال ليس في الواقع صاحب مذهب أخلاقي بل هو عالم ومترافع عن الدين المسيحي . ومن ثم لا يمكن تسميته «أخلاقياً» إلا من حيث كونه رساماً للأخلاق الممارسة، أو بصورة أدق لما يسمى اليوم الوضع «البشري الواقع»، فقد اقتبس كتاب مونتاني من هذه الناحية كثيرا من «الأبحاث» التي أسبغ عليها طابعاً تشاؤميّاً بهدف الإمعان في إبراز ضعف الإنسان وقابليته للعطب.. فمخيلة الإنسان تخدعه باستمرار وهو حبيس متطلبات التلاؤم من كل نوع، ويعجز عن الحكم على نفسه بنفسه، كما أنّه عبد لأهوائه «الترفيه» التي يحاول عن طريقها الهرب من ذاته(1).

وليس ما يتفرد به باسكال الاستنتاج اللاهوتي هو طرائقه التي يبغي بواسطتها اقناع قارئه، وذلك انطلاقاً من مبدأ ينص على أن لكل مجال منهجاً خاصاً به، ومن ثم فإنّه يجب على العقل المتفوق القوة في مجال الرياضيات أن يخضع في مجال اللاهوت إلى سلطة السنة الموروثة أو تلك الفكرة العميقة التي قوامها : إنّ إرادة الإيمان تقود إلى الإيمان، اذ

ص: 330


1- Georg Simmel. Thephilosophy of Money- philosophie des Geldes. Translated by Tom Bottomore and David Frisby (London;Boston، M.A : Routledge Kegan Paul، 1978

لا يمكن في الغالب الإنضمام إلى مذهب إلا عن طريق الأفعال (حتى غير الصادقة منها في البدء) فهي التي تولّد - دونما شعور - القناعة ووحدة السلوك.

2- ديكارت ومالبرانش: كان «ديكارت» ميتافيزيائياً عظيم الطاقة (وهو يهيمن على تطور الفلسفة المعاصرة بمجموعها كما يصفه «بوترو»)، ولكنه لم يكن أخلاقياً مجدداً، وذلك على الأقل فيما يتعلق بقواعد الحياة التي اقترحها علينا ... التي نجدها معروضة في مقالة المنهج (الجزء الثالث) التي وضعها عام 1637. فهذه القواعد مزيج من البراغماتية التقليدية [إطاعة قوانين واعراف بلادي... إلخ] والوحي الرواقي (الثبات في الآراء ما أن يتم تبنيها وحتى لو لم تكن «مؤكدة» بشكل كامل.. و[أن أحاول دائماً تغيير رغباتي بالأحرى عوضاً عن تغيير نظام العالم]..).

غير أن هذه القواعد لم تتصد لأن تكون أكثر من أقوال أخلاقية ميتة بانتظار الأخلاق النهائية التي كان ديكارت يأمل استنتاجها من علمه ومن ميتافيزيائه بعد اكتمالها، ولكن هذه الأخلاق التتويجية (التي لم يتح له سوى رسم خطوطها البدائية في مراسلاته وفي كتاب الأهواء) تلتقي بشكل متطابق تقريبا مع تعاليم «مقالة المنهج» سوى أنّها تستند هذه المرة إلى مفهوم عقلي عن الإنسان.

نتيجة لذلك، فإنّ الأخلاق، هي ليست فن القضاء على «الأهواء» كالإعجاب والحب والحقد، بل فنّ استخدامها لأجل تدعيم الأفكار والسلوكيات الملائمة للفرد تجد نفسها أي الأخلاق أمام طريقين: - التأثير على «الأهواء» عن طريق الجسد (نظراً لوجود تفاعل) وهذا مصدر الأهمية الأخلاقية للطب . - التأثير عليها عن طريق الإرادة [«فإما أن تركز هذه اهتمام العقل على الأشياء المغايرة لتلك التي تولد الأهواء التي ينبغي القضاء عليها، أو أن تجعل الجسد يتخذ مواقف تتنافر مع الهوى السيء، أو أن تفيد من تداعي الأفكار لكي تحمل الهوى على تغيير موضوعه» كما قال «برييه»]، فتكون هذه الممارسة الحرة للإرادة في الواقع أنقى الينابيع طراً «للاكتفاء» شريطة أن تتم الممارسة وفقا للعقل» ... هذا العقل الذى يجب تعريفه (وهذه بالطبع مسلمة ديكارتية) بأنه: اتجاه نحو وعي يزداد وضوحاً بإستمرار للمحل الذي يشغله الفرد في

ص: 331

«الكل« (الوطن، الإنسانية، الكون، الإله) ونحو عاطفة حب وطاعة للنظام الإلهي تزداد عقلانية بإستمرار، وهذا مصدر سلوك «الكرم» (بحسب تعبير ديكارت) الذي يقوم على هجر كل مصلحة شخصية والخضوع الفعال بحبور «للعلوية الكاملة» التي يتوقف عليها العالم بأجمعه، ويتفق ذلك فعلياً ولكن بصورة عقلانية هذه المرة مع وجهة نظر الرواقية ومفهوم «التقبل» لديها(1).

أما «مالبرانش» فقد اراد في كتاب بحث في الأخلاق» عام 1684 إكمال أخلاقية ديكارت عن طريق البرهان على صحة مسلمته القائلة بوجود «استعمال حسن» للإرادة. ترتبط أخلاق مالبرانش كل الإرتباط بمجموع فلسفته المتمحورة حول فكرة توقفنا على الله (توقف كلي شامل). هكذا - بحسب مالبرانش - فإنّه عندما «تعتقد» ملكة الفهم لدينا أن لديها تمثلات عقلية فالواقع أن الله هو الذي يؤثر فينا بواسطة عقله الخالد.

3- سبينوزا: تبدو لنا فلسفة سبينوزا (المتوفي عام 1677) من عدد من الزوايا كإشتقاق مستنبط من الديكارتية، وكإفقار لها في الحين نفسه. فمن ناحية أولى في الواقع نجد أن «ثنوية» ديكارت تتحول فيها إلى «واحدية» شمولية الألوهية، وعلى ذلك فليس الجسد والروح سوى مظهرين (لا يبدوان متميزين إلا من وجهة نظرنا الإنسانية، البدائية والمحدودة معا) تتجلى بواسطتهما حقيقة واقعية واحدة هي وحدها الحقيقة الأصلية (نستطيع تسميتها الإله، أو الطبيعة، أو الجوهر اللامتناهي، أو الخ..)، وهي تتجلى تلقائيا وبالضرورة تحت ضغط «ميل توسعي» خاص بها. ومن ناحية أخرى فإنّ الأخلاقية السبينوزية الشهيرة ليست أي شيء آخر سوى التطور المنهجي لفكرة كانت على درجة ثانوية من الأهمية في الأخلاق الديكارتية، وهي فكرة أن الفرد متوقف بصورة كاملة على النظام الإلهي(2).

4- لايبنيتز: كان «لايبنيتز»(المتوفى عام 1716) أقل إخلاصاً بدوره للديكارتية التي حولها إلى تعددية مثالية : فكل كائن - بالنسبة إليه - وحدة روحية خالصة (أو «مونادة»)..

ص: 332


1- Ipid. PP. 120.
2- راجع في هذا الصدد: الفلسفة الأخلاقية عند سبينوزا - إشراف د. أحمد عبد الحليم عطية - دار التنوير - بيروت -2008.

هي مجموعة من الإدراكات الحسية التي يشوبها بعض الإبهام التي تعكس بصورة شبه شاملة كل الإدراكات الحسية الأخرى، وهذه المجموعة ذات ميل داخلي تلقائي لجعل «النظرة إلى العالم» المتشكلة منها تزداد وضوحاً إستمراراً. وعلى هذا فإنّ طريق الكمال الأخلاقي والعقلاني هو: تأييد هذا الإنتقال إلى إدراكات حسية أشد تميزاً، لأن كل «مونادة» حين تزداد معرفة بنفسها إنما تكتشف بجلاء أكبر تماثلها مع المونادات الأخرى، والروابط التي تشدها إليها، والمخطط العام (أو «الأحادي»، أو كون الذرات الروحية).

مضى القرن الثامن عشر الذى كان تجريبيا بصورة أساسية وميالاً من ثمّ إلى الأخلاقيات «الطبيعية»، فعادت أخلاقيات العلوية إلى الإنتشار، ولا سيما في ألمانيا. وكان مصدر وحيها الفلسفات «الرومانطيقية» الواسعة التي نمت وتطورت في حقبة أعوام 1830، وهي فلسفات مزجت بين ميتافيزياء «كانط» وميتافيزياء «سبينوزا»، (بعد أن عدلتهما تعديلاً عميقاً) .. فقد تصور «كانط» أنّ العالم المحسوس الذي نعيش فيه هو نتيجة عمل بنياني، نفذته بعضا «الصور» الخاصة بالروح في «مادة» غامضة لا يمكن معرفتها إلى الأبد، بحد ذاتها. أمّا خلفاء «كانط» فقد أزالوا هذه الإزدواجية ولم يقبلوا إلا بواقع واحد، هو الفاعلية البناءة في الروح، هذه الروح التي هی الخالق بشكل كامل لكل هذه المظاهر التي ندعوها «الأشياء».

أما بالنسبة ل- «سبينوزا» فقد احتفظ هؤلاء منه بتصوره العام، ولكن بعد أن بثوا فيه «حيوية» ذلك المفهوم الذى كان الفكرة الكبرى في تلك الحقبة، أي مفهوم «الصيرورة الكلية». وهكذا فقد حددوا «الجوهر - الإله» السبينوزي بصورة أقل استاتيكية، فهو يبدو لهم تطوريا وخاضعا لقانون داخلي فيه يفرض عليه التقدم نحو انتاجات تتزايد ثراء وتعقيدا دونما توقف.

یری «فیخته» (المتوفي عام 1814) والذي «قلب السبينوزية على وجهها الآخر» بحسب تعبير «جانيه» و «سياي» أنّه ليس هناك سوى حقيقة وحيدة وأولية هى ال- «أنا»، تلك الروح الكلية التي ماهيتها هي كونها فاعلية، وإرادة تهدف باستمرار لتجاوز الحدود الذاتية لها..

ص: 333

وقد استنبط «فيخته» من نظرته هذه أخلاقيّة عملية تعدّ أنّ «الكثرة» - أو التعدد - ليست إلا الوسيلة التي تتيح لل- «أنا» التقدم، ويجب أن تهدف الفضيلة إلى العمل على تحقيق الكمال لدى الآخرين بقدر ما يفعله المرء بالنسبة لنفسه بالذات، كما يجب أن تهدف إلى تنمية انسجام المجموعة وتنمية الحرية الفردية لكل عضو من أعضائها في الوقت نفسه. وهذا مصدر مثله السياسي الأعلى القائم الإشتراكية الجامعة (على طريقة «برودون» حوالي 1840)، التي تخص الدولة بدور وحيد هو حماية التفاهمات بين الأشخاص(1).

5- هيغل وشيلنغ: ذهب «هيغل» (المتوفى عام 1831) و«شيلنغ» (المتوفي عام 1854) إلى اعتبار الأخلاق كمرحلة من تلك الصيرورة الضرورية التي يتشكل منها الكون يصورة اساسية، وبالنسبة لهيغل فإنّ الكائن الماهوي هو الفكرة الخالصة (اللا واعية لنفسها في البدء) التي تخرج إلى الطبيعة، وهي تنمي بهذه العملية شيئا فشيئا ذخائرها الذاتية (الكامنة فيها كطاقة في مطلع الأمر).

وأما شيلنغ فإنّنا نجد لديه استلهاما شبيها بالسابق، ولكنه يتخذ شكلاً أقل «عقلنة» بكثير. فهو يتصور «المطلق» بصورة رومانطيقية جداً على أنّه «دينامية» مقتدرة ومبهمة تتطور بصورة متناظرة في الطبيعة (التي هي نوع من «الذاتية» لها).

ولا تتمثل الأخلاق في فلسفة شيلنغ (أو فلسفاته بالأحرى، لأنّه عرض عدداً من الفلسفات المتوالية التي تزداد نسبة الصوفية والشاعرية فيها أكثر فأكثر)، لا تتمثل مختلفة عن كونها عملاً من أعمال الحركة التطورية الخلاقة. و«زمنا» من أزمنتها.

6- شوبنهاور: يتصف فكر شوبنهاور (المتوفى عام 1860) بطابع خاص أشد بروزاً، مع أنه يماثل في رومانطيقيته فكر شيلنغ، ويخالف بشكل واضح التفاؤل الذي اتصف به معاصروه، (الذين اعتبروا أن الصيرورة هي ماهوياً تقدم). فهو يرى من ناحية أخرى أنّ خُلق الفرد ثابت لا يتغير، ومن ثم فإنّ التبشير بأية أخلاق أمر لا فائدة منه مطلقاً. فالأخلاق علم نظري ليس له مفعول واقعي ولا دور له سوى أن يصنف،

ص: 334


1- عبد المنعم الحفني - موسوعة الفلسفة والفلاسفة - الجزء الأول - مكتبة مدبولي - القاهرة - 1999 - ص 109.

بحسب نظام تقييمي منطقي، الأنماط المختلفة الممكنة للحياة. فالأخلاقية الوحيدة التي يمكن تبريرها في هذه الظروف وبعد تحليل تخميني هي الرحمة، التي تهدف إلى نكران الذات بشكل كلي وإلى المساهمة الكلية في الألم العام.

وعلى هذا، فإنّ سلوك الحكيم يقوم على الإفلات من هذه الدائرة الجهنمية... وذلك عن طريق الفن أولاً، فالفن هو تأمل العالم بصورة مجردة عن الغرض. ولكن الطريق الأجدر بالاعتبار هو الرحمة، فهي التخلي عن الذات، أو بتعبير آخر ادراك التطابق العميق للكائنات، هذا الإدراك الذى يأذن بفهم ما تتصف به الأنانية من جنون... فحينما يدرك الإنسان أن الآخرين هم هو بالذات، وحينما يجعل من الألم الكلي ألمه الشخصي، فإنّ إرادته تتنازل عن مكانها، وهذا هو التخلي عن «إرادة الحياة» والذي لو عمّ لقاد الإنسانية إلى الخلاص ( ال- «النيرفانا» البوذية) أو بالأحرى إلى الغناء - السعيد - للنوع .

ظهور المذاهب الأخلاقية

نستطيع القول من بعض النواحي أن الكانطية تمثل انعكاس مفهوم الإرادة الإلهية هذا على صعيد الأخلاقية الإنسانية.. أما المنابع الحقيقية للاكانطية فنجدها في نتاج «روسو» وفي مذهب «التقوى» الجرماني الذي ظهر في حقبة 1750 (ويقوم على تفسير اللوثرية بالمعنى الفردي، والمناداة من ثمّ بأولوية الشعور والضمير الشخصي على جميع المذاهب).

مذهب كانط

تشكل فلسفة «كانط» بمجموعها (كما عرفها هو ذاته) ثورة شبيهة بتلك التي قام بها «كوبرنيك» في مجال الفلك حين جعل الكواكب تدور حول الشمس، بينما كان علم الفلك القديم يتصور ان الشمس هي التي تدور، ومعها الكواكب حول الأرض.

وفي الواقع، لو درسنا المعطى الأخلاقي.. أي تلك الأفعال التي يتفق الناس على اعتبارها «صالحة».. لاتضح لنا أنّ ما يأذن لنا بوصف فعل ما بأنه «فاضل» ليس على

ص: 335

الاطلاق انطباقه على قاعدة ميتافيزيائية ما (أو نفعيه، أو علمية أو الخ..) ولكن بنيانه الصوري فحسب، المستقل كل الاستقلال عن التحقق المادي لهذا الفعل.

لقد اتجه «كانط» في سبيل تحقيق غرضه السابق إلى الأخلاق الحية (كما فعل «روسو»، أي إلى «الفلسفة الأخلاقية الشعبية» واعتقد أنّها تنطوي على مبدأ يستطيع استخلاصه منها، وهو مبدأ خالص بشكل مطلق، وداخلي بالنسبة لأي سلوك نحكم عليه بأنه أخلاقي، ومستقل عن أي عنصر ذاتي محسوس... هذا المبدأ هو الواجب، أي إطاعة القانون لا لسبب آخر الا احترام القانون فحسب، وبمعزل عن أي اعتبار آخر حتى ما كان نبيلاً (كالمودة تجاه الآخرين أو الرغبة في اكمال المرء نفسه بنفسه إلخ..) فضلاً عن أي دافع مصلحي ( كالكبرياء والمنفعة ...) وقد أطلق «كانط» على هذا المبدأ العمدي الذي يقوم على جعل التمثل العقلي ل«القاعدة» - والتمثل وحده لا أثر الفعل - محرك الإرادة، أطلق عليه إسم الإرادة الحسنة»(1).

حاول «كانط» البرهان على أنّ هذا «الأمر ليس طاغية يتحكم بشكل لا منطقي (وكان ذلك إحدى النقاط الضعيفة في بنائه).. فقد أكد أنّه إذا كنا نحس بإلزامية الواجب فذلك لأننا نشعر بأنّه يفرض نفسه بصورة واحدة متشابهة على كل كائن عاقل موجود في نفس ظروفنا. وهذا ما يعني بتعبير آخر أنه يمكن تعريف «صورة» الأخلاقية بأنّها «مبدأ كليّة»، أي فعلاً يمكن تصنيفه حالاً ك«خير» أو «شرير» تبعاً لقابليته أو عدم قابليته لأن يصبح كلياً. وليس هذا المبدأ الصانع للكلية، أي تلك البنية الفطرية في كل روح، سوى ماهية «العقل العملي» (وهذا هو الاسم الذي يطلقه «كانط» على العقل الإنساني من حيث اشرافه على الممارسة العملية للسلوكات ومقابل «العقل المحض» الذي هو العقل الإنساني من حيث بحثه عن معرفة العالم) ... وهكذا يصبح بإمكاننا وضع صيغة عامة وعقلانية تأذن بتوجيه الفاعلية تلقائياً وفي كل لحظة: «تصرف بحيث تستطيع جعل دافع فعلك قاعدة كلية».. (ويصبح الفعل مداناً في اللحظة التي نجعله فيها كلياً مما يقودنا

ص: 336


1- فرانسوا غريغوار - المذاهب الأخلاقية الكبرى - ترجمة قتيبة المعروفي - منشورات عويدات - بيروت - باريس - ط-3-1984ص113.

إلى تناقض منطقي : فتعميم مبدأ الكذب من شأنه بحدّ ذاته أن يُدمر هذا المبدأ.. إذ إنّه لن يبق هناك من ينخدع بأي شخص آخر)(1).

وقد استخلص «كانط» من هذه القاعدة قاعدتين أخريتين (ليستا في الواقع سوى مظهرين مختلفين لها):

أ - يجب احترام فكرة الكلية، فهي القاعدة لكل أخلاقية حينما وجدت.. أي لدى كل كائن إنساني. وهذا ما يؤدي إلى قاعدة وجوب اعتبار الإنسان دائماً «كنهاية بحد ذاته»، أي ك- «مطلق» (لكون يحمل مبدءاً مطلقا)، وتجنب اعتباره أبداً كوسيلة... وينتج عن ذلك إدانة الفسق مثلاً ولاسترقاق لأنهما يعنيان جعل المرأة أو الرجل أداة للملذات أو للعمل.

ب - يجب على كل كائن بشري: أن يتصرف بحيث يشعر بنفسه «كموضوع ومشرع» في الوقت نفسه. ذلك أنّه بالنظر لكون الإنسان مطلقا، فهو لا يستطيع الخضوع في سلوكه لأية قاعدة خارجية، بل يخضع للقواعد النابعة عن إرادته الذاتية فحسب ولكن يجب على هذه الإرادة أن تتذكر أنّ الاشخاص الآخرين هم أيضاً مطلقون، فلا يستطيعون من ثمّ الشعور بالالتزام تجاه قانون أخلاقي إلا إذا كان صانعه ذاته - وهو المساوي لهم - يشعر بالخضوع له(2).

مذاهب ما بعد كانط

ولبيان جدل الانقطاع والتحولات التي تقلب فيها الغرب سنعرض بعض المذاهب التي تخللت العقل الأخلاقي الغربي بعد كانط. وهي على الجملة ذهبت إلى النظر فی الأخلاق بوصفها معطىً وضعياً ومجتمعياً. وهي على الوجه الآتي:

1- المذهب الانفعالي : يمثله الفيلسوف الإنكليزي التجريبي ديفيد هيوم (1711 - 1776) وهو يرى أنّ المعارف الحقيقية هي المعارف التي يكتسبها الإنسان عن طريق

ص: 337


1- فرنسوا غريغوار - المصدر نفسه ص115.
2- المصدر نفسه - ص116.

الحس، يعني أن القيم واللزوميات الأخلاقية منشؤها الانفعالات الداخلية عند الأفراد لا أن منشأها واقعي وعيني. ويعد المذهب الإنفعالي واحداً من المذاهب الأخلاقية غير التوصيفية. ويتفق هذا المذهب مع المذهب الأشعري (لدى المسلمين) في أنَّه لا يرى إلى أنَّ للأحكام الأخلاقية منشأ واقعياً.

2- المذهب الإجتماعي: مؤسسه إميل دوركهايم(- 1858) (Emile Durkhiem 1919)، معتقده الأخلاقي على أربعة أحياز:

أ - لا وجود للأخلاق من دون المجتمع.

ب - المجتمع يملك شخصية مستقلة عن الأفراد.

ج - لا بد من اتباع المجتمع في الأخلاق فهو الذي يحدد معادلة الحسن والقبيح.

د - معرفة الأعمال الحسنة والقبيحة تكون بالرجوع إلى أخلاقيات المجتمع وآدابه وتقاليده . (...)

3- مذهب المنفعة : تبنّاه الفيلسوف جرمي بنتام 1848 - 1832 (Jerme Benthams) وجون ستيوارت میل 1806 - 1873 (Jhon Stuart Mill) وليس هذا المذهب سوى نسخة معدلة من الأبيقورية «فاللذة عند بنتام هي الخير الوحيد والألم هو الشر الأوحد «ويقول جون ستيوارت مل : «اللذة المبتغى الأوحد». فهما يشتركان مع أبيقور في القول، بأنَّ السعادة هي الخير بالذات، والسعادة ليست سوى اللذة. ولقد رأى هذان الفيلسوفان أنَّ المشكلة الأساس في الأبيقورية، هي كونها تهتم بالفرد ومصالحه، وتغفل المنفعة العامة (...) على أنَّ الفيلسوفين يختلفان حول كون المنفعة العامة هدفاً أو وسيلة، رغم اتفاقهما على كونها مطلوبة، وخيراً أخلاقياً. «بنتام» يعتقد أنَّها وسيلة للوصول إلى السعادة الشخصية . أما ستيوارت مل فيعتقد بكونها هدفاً ومطلوباً أصلياً .(...)(1).

ص: 338


1- المصدر نفسه.

4- المذهب العاطفي: جاء هذا المذهب تعديلا لمذهب المنفعة العامة، حيث یؤمن العاطفيون عموماً بأنَّ الأفعال التي لها صفة فردية من جميع الجهات لا تقع ضمن دائرة التقييم الأخلاقي (...) من أبرز ممثلي هذا المذهب: آدم سميث (1723- 1790) (Adam Smith)الاقتصادي وفيلسوف الأخلاق الإنكليزي المعروف، والألماني آرثر شوبنهاور (1798-1860) (Arthur Senopenhauer) والفرنسي

أوغست كونت) (1798-1857) Augeste Compt).

5- مذهب القوَّة: يعدّ هذا المذهب - الذي دعا إليه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844 - 1900) - ردّة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي هذا التأثر بالرواقية أدى إلى اتجاهات أخلاقية سلبية تدعو الناس إلى الاستسلام للقضاء والقدر، ومن هنا، شعر نيتشه بأنَّ من يتربى على هذا المذهب، سوف يكون إنساناً خاملاً مستعداً لتحمل الظلم، فانبرى لمواجهة هذا المذهب الأخلاقي، وثار في وجه الأخلاقيات المسيحية:» اعتراض نيتشه على المسيحية، هو أنها تدعو إلى روحية العبودية في نفوس أتباعها» وتربيّ إنساناً خاملاً وذليلاً ، وهذه الأخلاقيات غير مقبولة، وعلى المذهب الأخلاقي أن يربي إنساناً فاعلاً ومؤثراً. وهو يقول عن المسيحية: «أنا أدين المسيحية وأحكم عليها بأقسى حكم أصدره مدّع حتى الآن، وأرى فيها أبشع صور التدمير أذمُّها وأعدُّها لعنة عظيمة، فهي ليست سوى ذل البشرية الخالدة».

يرى نيتشه أنَّ «القوّة» و«السلطة» أساس الأخلاق الفاضلة كلها. وفي شرحه لنظريته الأخلاقية يرى أن كل موجود حي يحب حياته، ويريد المحافظة عليها، وهذا الأمر يحتاج إلى القوة. لذا فإنّ الإنسان الضعيف محكوم بالهزيمة والفناء. (...)

6- مذهب العقلانية المنفتحة: مع الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902 - 1994) الذي احتل موقعاً مميزاً في ثقافة القرن العشرين ويعد واحداً من أبرز فلاسفة العقلانية المنفتحة وفلسفة (1723-1790) العلوم، ستنتقل العقلانية الغربية إلى طور جديد كل الجدّة. وسيكون للأخلاق معنى آخر خارج الدائرة المثالية للأفلاطونية المحدثة وكذلك خارج دائرة الديالكتيك الهيغلي. يتخذ بوبر من المجتمعات

ص: 339

القائمة في الغرب الأوروبي والأميركي نموذجاً لمفهوم المجتمع المنفتح جاعلاً من الديمقراطية الليبرالية المثال الأعلى للنظم الاجتماعية. وبذلك يكون الوسط العلمي ما يُرجع إليه كونه نموذج النقاش العقلاني القابل لكل النظريات والاقتراحات شرط أن يتم مناقشتها وتقييمها بحسب المعايير الموضوعية للمنهج العلمي(...) ولذا فإنّ المسألة الأخلاقية تصبح أكثر جلاءً إذا ما وضعنا مطالبنا سلباً، أي إذا طلبنا القضاء على العذاب بدلاً من توفير السعادة»(1).

7- المذهب الأركيولوجي: في مرحلة متأخرة من رحلة العقل الفلسفي الغربي سيكون لتأويل الأخلاق بعد مختلف. علماً أنَّ عمليات التأويل التي سنأتي عليها بعد قليل لم تغادر مؤثرات ما سبقها. إحدى أبرز محطات هذه الرحلة كانت مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. ولعلَّ كتابه «تاريخ الجنسانية» المؤلَّف من ثلاثة أطوار، سيعده النقاد، الوعاء الذي يحوي في طيَّاته فلسفته الأخلاقية. والسؤال الذي نواجهه هنا هو الآتي: أيّة أخلاق تلك التي تقرّب إليها فوكو في «تاريخ الجنسانية»؟.

هناك من قدَّم الإجابة تبعاً لقراءته للقصد مالفوكوي» فوجد أولاً أنَّ الأخلاق في ضمن هذا الحقل تريد أن تتجاوز كل الأدبيات الفلسفية التي تُطرح عادة تحت هذا العنوان. وأول ما يفعله فوكو هو تأكيد الفصل بين الأخلاق (La Morale) وبين الإتيكا (Lethique). وهذا الفصل يميّز بين الأخلاق باعتبارها منظومة القيم والأوامر والنواهي التي تنتصب في مستوى الشخصية القمعية للمجتمع، وبين سلوك الأفراد الذي لا يمكن اعتباره مقدماً أنّه مندمج في الأخلاق أو خارجي عنها.

لا شك في أن المذاهب السبعة التي ذكرناها، تتداخل في ما بينها ويتغذى كل منها مما سبقه. إلا أن تطورات النقاش الأخلاقي في الغرب. وخصوصا في الأحقاب الأخيرة من القرن العشرين أطلقت كمية هائلة من التأويلات يمكن القول أن بعضها يمكن أن يُطلق عليه مذهبًا أخلاقيًا . كالذي سوقته البروتستانتنية الإنجيلية في أميركا بعد صعود المحافظين الجدد.

ص: 340


1- المصدر نفسه.

في المتاهة الكانطية

محاولة في نقد القانون الأخلاقي الكانطي

*محاولة في نقد القانون الأخلاقي الكانطي(1)

إدريس هاني(2)

«لقد تحوّل كانط إلى أبله»

نيتشه

مدخل

لا يخفى أن الكانطية كانت قد أنجزت ثورة كبرى في تاريخ الفلسفة الحديث قوامها وضع العقل نفسه أمام سؤال النقد؛ وبذلك صار لها الفضل في الإجهاز على ما تبقى من أُسُس فلسفية للاهوت المسيحي وعموم الميتافيزيقا الغربية. فقد يقال إنّه ليس ثمة من أمكنه فعلاً تسديد الضربة القاضية لآخر قلاع الإيمان منذ ديكارت،

ص: 341


1- بحث مستل من كتاب (أخلاقنا في الحاجة إلى فلسفة أخلاق بديلة) للمؤلف من منشورات مركز الحضارة، بيروت عام 2009م.
2- مفكر إسلامي مغربي، يؤكد الباحث أنه لا يخفى ان الكانطية كانت قد أنجزت ثورة كبرى في تاريخ الفلسفة الحديث قوامها وضع العقل نفسه أمام سؤال النقد، لكن المحاولة الكانطية في تهريب مسألة الإيمان من حاق العقل إلى هامش العقل العملي، من خلال متاهة القانون الأخلاقي أن ينزل الأخلاق منزلة الدين، والإنسان منزلة الإله، بمعنى آخر محاولة إسناد القانون الأخلاقي إلى العقل العملي، ظنا منه أن هذا يكفي كي نجعل الإنساني مستقبلا عقلانيا خاليا من الدين، كما جاء في كتابه (الدين في حدود العقل 1793): » أنه تأسيساً على مفهوم الإنسان بوصفه الكائن الحرّ والخاضع بنفسه لقوانين بلا شرط تصبح الأخلاق في غنى عن فكرة وجود كائن آخر أسمى من الإنسان، حتى يعلمه ما يجب عليه. المحرر

أكثر مما قام به صاحب سؤال الأنوار وناقد العقل المحض ، وقد باتت هذه القناعة راسخةً في أذهان كثير من فلاسفة القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وإلى اليوم، بمن فيهم مؤرخو الفلسفة. وهذا الرأي يقع في مقابل رأي آخر، يرى عكس ذلك تمامًا؛ يرى في المحاولة الكانطية محض مسامحة تحجب تسليمًا مضمرًا بكلّ الأسس الميتافيزيقية واللاهوتية التي ناضل هذا الأخير في سبيل تقويضها. على الأقل لم ير نيتشه في قدوم كانط ما هو جدير بإحداث التغيير فى أُسس الفلسفة الألمانية التي وَسَمها بأوصاف تتراوح بين الانحطاط والخداع والبله. يتساءل نيتشه عن حقيقة هذا الجديد الذي جاءت به الكانطية حينما يقول: «من أين ذلك الاقتناع الألماني، الذي يُسمع صداه إلى اليوم، بأنه بدءًا من كانط قد حدث انعطاف نحو شيء أفضل »(1).

غير أننا سنكتشف بعد ذلك أن حتميّة الإيمان تحققت بصورة أقوى داخل الجدل الكانطي نفسه، إذ إن أولى علامات الفشل في تقويض الإيمان، هي عندما اضطر هذا الأخير إلى إحداث ضرب من الشرخ الوظيفي بين عقلين، كان أحرى أن يُظهرا تطوُّح المحاولة الكانطية في تهريب مسألة الإيمان من حاقٌّ العقل النظري إلى هامش العقل العملي، الهامش الذي يصبح بموجب إطلاقه مركزاً يهمش العقل النظري بوصفه، دون حد تعقل الأشياء مطلقًا. الفضل في دحض مسألة الإيمان ومعاودة تأسيس فكرة الله من خلال السؤال الأخلاقي هي حكاية عن انسداد آفاق الدحض الفلسفي لفكرة الله، ولقد أكدت الحقب التاريخية التي أعقبت المحاولة الكانطية أن الأخلاق هی أعجز ما تكون عن القيام في دنيا الخلق خارج الدين أو لا أقل بلا شرطه، أو لا أقل دون تقمص أدواره وتمثل وظائفه. ولو عبرنا بطريقة مارتان بليز، فإنَّ القيم الدينية تحتلّ قمة سلَّم القيم الإنسانية(2). إننا نزعم أن العالم اليوم - وبخلاف أكثر الذين اعتبروا أن العصر يعاني حقا من أزمة قيم - لا يعيش أزمة قيم إلا بقدر ما يعيش أزمة

ص: 342


1- فريديرك نيتشه، عدو المسيح، ص 38.
2- Martin Blias. L'échelle des Valeurs Humaines. p 150 Un document produit en version numérique par Mme Marcelle Bergeron, bénévole Professeure à la retraite de l'école DominiqueRacine de Chicoutimi, Québec et collaboratrice bénévole

دين. ولقد حاول كانط جهده عبر متاهة القانون الأخلاقي أن يُنزل الأخلاق منزلة الدين، والإنسان منزلة الإله، بمعنى آخر محاولة إسناد القانون الأخلاقي إلى العقل العملي، ظنًا منه أن هذا يكفي كي نجعل المستقبل الإنساني مستقبلاً عقلانيًا خاليًا من الدين، ومن دون الحاجة إلى المحفّز الوحياني، وهذا ما أكد عليه مرارًا وتكرارًا في أعماله الكبرى؛ حيث نجد مثالاً عنه في مقدّمة الطبعة الأولى من كتابه «الدين في حدود العقل»(1793)، ما معناه أنه، تأسيسا على مفهوم الإنسان بوصفه الكائن الحرّ والخاضع بنفسه لقوانين بلا شرط ، تصبح الأخلاق في غنى عن فكرة وجود كائن آخر أسمى من الإنسان، حتى يعلمه ما يجب عليه، كما هو في غنى عن هو في غنى عن أي دافع آخر لإنجاز ذلك، غير القانون نفسه، وبالجملة فهو ليس في حاجة إلى أن يستند إلى الدين في أمر أمكنه تحقيقه انطلاقاً من العقل العملي المحض، فهذا الأخير يكفيه لتحقيق ذلك(1).

والحق أننا نجد في المحاولة الكانطية الفاشلة على براعتها في التمنطق والتفلسف، فهما متحيراً للعقل؛ عقلاً لاذ بالاقتصاد حدا لم يعد قادرًا بموجبه على الفعل إلا عبر التشطير والتفكيك والتحير بين وظائف قسمي عقل بلا مَقْسَم، نظر إليهما كانط تحت تأثير جامح تعدّى الأرسطية نفسها، بوصفهما عالمين منشطرين على نحو الحقيقة. إثبات الشيء في ذاته والحكم بامتناع تعقله على الحقيقة، ليس نزعة لتنسيب العقل أو معانقة غير معلنة لإسميّة نجد في المتن الكانطي ما يناقضها؛ بل هو تحايل على حتمية الإطلاق التي سوف تعود بجلالها من ناف ت العقل العملي بصورة تعوّض عجز العقل النظري، وتثبت ما حكمت الكانطية بعدم اختصاصه بالعقل النظري؛ لأن السؤال المطروح اليوم على كانط: هل العقل العملي شطر لصيق بالعقل النظري، وهل يكفي أن نطرد من حيّز العقل النظري؛ إمكانية معرفة الأشياء كما هي في حقيقتها لا كما هي عارضة على ملكة الفهم، حتی تفقد صفة العقلانية؟

ص: 343


1- Emmanuel Kant، La Religion dans les Limites de la Raison، p15. Traduction de André Tremesaygues. développée par JeanMarie Tremblay, en collaboration avec la Bibliothèque PaulèmileBoulet de l'Université du Québec à Chicoutimi Un

إذن ، كان يكفي أن نقول : إن العقل العملي هو عقل خارج نطاق العقل وهو أول متهم.

فكيف نظر كانط إلى الأخلاق؟ وكيف نظر إلى الدين؟

الجواب على هذين السؤالين يستدعي الحديث عن القانون الأخلاقي وعن الموقف الكانطي من الدليل الأنطولوجي . ونؤكد هنا على أننا لا نطمح فقط إلى نقد تهافت الطريقة الكانطية المخاتلة في محاولتها التأسيس للإلحادية الحديثة التي تبدأ من تأكيد عدم الحاجة إلى الدين، وتستمر بفك الأخلاق عن الدين، وأحيانًا فك الدين عن الإله -حكاية دين بلا إله- وأخيراً دين الخروج من الدين في تمثلات مراوغة للروح الكانطية مع غوشيه. وكلّها ترى سندها الموضوعي في القانون الأخلاقي، وفي مشروع نقد العقل بشقيه المجرّد والعملي. يؤكد هيغل، وهو أحد أبرز نقاد كانط، على ذلك قائلاً : كما هو معروف فإن تأثير النقد الذي وجّهه الفيلسوف إيمانويل كانط ضدّ الأدلة الميتافيزيقية عن وجود الله، أدّى إلى التخلي عن تلك الحجج، ولم تعد تذكر في أي بحث علمي عن الموضوع، وفي الحقيقة إن المرء يكاد يخجل من أن يوردها أصلاً.

ويذكر في مثال نقد كانط للدليل الغائي، أنه بفضل كانط جرى التشكيك لأوّل مرّة في هذا الدليل(1).

إننا نسعى هنا لجعل القانون الأخلاقي نفسه أبرز الأدلة الحديثة على وجود الله؛ بل إنها أبرز الطرق الحديثة على أن الدين ضرورة وحتمية أنطولوجية. وحينئذ وجب أخذ أحكامنا هنا بشروطها أو لنقل برسم التنسيب، فقد يرى بعض في كانط مؤسّسا لهذه الإلحادية، وقد يرى فيه بعض مؤسّسا للإيمان، وهذا كله يمكن الوقوف على مظاهر منه في الحيرة الكانطية. وأما مقارنةً مع نيتشه - وفي نظره- فإنَّ كانط لا يزال يربط نجاحه بنجاح اللاهوت. وفي نظري، إن المتاهة الكانطية مفتوحة لتأكيد الحكم ونقيضه؛ فالقدرة الاستدلالية مراوغة إلى حدّ أنّها صنعت مفارقات العقل؛ بل انتحرت

ص: 344


1- فريدريك هيغل ، الأعمال الكاملة (محاضرات فلسفة الدين) ص 121-18.

غرقا في نقائضه؛ لذا قد يرى أنصار الإيمان غايتهم في القول الكانطي الذي ضيق من اختصاص العقل، النظري، وقد يجدون فيه ما يخدم الإيمان، بينما الواضح أن التهافتية الكانطية صُدمت بصمود قوة العقل النظري، ونفاذ عالم الأشياء، وصلابة فكرة الله والدين.

***

القانون الأخلاقي

لقد شغلت إشكالية العلاقة بين الأخلاق والدين، حيّزًا لافتًا في النقد الكانطي في معرض صياغة إيمانويل كانط ل- «القانون الأخلاقي». وبقدر ما كان نقد العقل الخالص قد حسم في ذلك الشرخ بين النظري والعملي، فإنَّه استطاع أن يهزم العقلانية الجامحة في غرورها، ويخدش من كبريائها وتطاولها على عالم الأشياء والحقائق، وإذا كان فرويد قد تحدّث يومًا عن ذلك الجرح النرجيسي الذي أحدثته جملة الانقلابات العلمية المشهودة من قبيل ثورة الفلك الكوبرنيكي والبيولوجيا الداروينية والتحليل النفسي الفرويدي، أمكن بعدئذ الاعتقاد بأنَّ نقد العقل الخالص هو في صميمه واحد من الصدمات التي شكلّت جرحًا نرجسيًّا لأزمنة جعلت من العقل جوهرًا قادرًا على فهم كلّ الموضوعات، سواء تلك التي تبدو متاحة للفهم، أو حتى تلك التي لا يحتويها العياني كمُعطى للحس، فقد حاول قلب كلّ البناء التقليدي لفلسفة الأخلاق ؛ قلبًا شرسا وقاسيًا. ونجد مثال ذلك في ما يعبر عنه عنوان كتاب: «الدين بعد الأنوار»، لهيرمان لوبا، كتأكيد على وجود تلك القطيعة. إلى ذلك، يشير جوزيف سايفرت بالقول: «يعترض هيرمان لوبا بطريقة راديكالية على إمكانية معرفة الله في كتابه «الدين بعد الأنوار»، ويقترح تأويلاً وظيفيا لله، وينطلق من افتراض مفاده أنه بعد الأنوار وبعد كانط، فإنه قد أصبح من اللامعقول ادّعاء حق امتلاك الحقيقة في ما يتعلّق بالمعرفة الموضوعية لله»(1).

ص: 345


1- جوزيف سایفرت، الله کبرهان على وجود الله، ص162.

لكنه وعلى الرغم من ذلك، يتراءى لنا أننا أمام صورة من النقد، مهما بلغ شأنه ومهما بلغ تمظهره بالجذرية، لم يحقق قطيعته الكبرى مع جوهر الإشكالية التي بها كان الدين نفسه ضرورة أخلاقية، كما بدا لمن وردوا قبله أو من استصحبوا ذلك بعده؛ بل وربما تحصل من خلال نقد العقل العملي وجود ممرّ لتثبيت هذه الحقيقة التي لم يف بها النقد الكانطي عبر تهافتاته، لكنَّها صدرت شذر مدر عبر رياضة نقدیة هي بالأحرى، وحسب التوصيف النيتشي، لا تعدو أن تكون سوى مساومة مع المنقود على طول الخط فليس إذن «لنقد كانط من موضوع غير التبرير، وهو يبدأ بالإيمان بما ينتقده»(1)، فهو مع ذلك يقرّ بأن القانون الأخلاقي من جهة ما، يقود - من خلال فكرة الإله الخير - إلى الدين(2). كما لم يحقق قلبًا كوبرنيكيا، في مجال فلسفة الأخلاق، من حيث كان قلبه خادعًا وواقعا فى ضروب من الاستبدال والحجب؛ حيث ما بدا من هذا القلب الذي قيل حوله الكثير، ما هو بالأحرى سوى محض مغامرة في صلب مفارقة أشبه ما تكون بخفّة ساحر أو ماهر في الإخفاء على ما رأى ناقده شوبنهاور. وهي المفارقات التي سرعان ما ستعود إلى البدايات، لاستئناف ما استنكفت عن إمضائه بدوا، في نوع من المصالحة العبثية.

***

مأزق التفويت إلى العقل العملي

تلك حيلة تقليدية كرستها الأرسطية، وتعاظم أمرها عبر تاريخ الفلسفة المسائية الوسيطة، وكذا المدرسانية لآباء الكنيسة، حتى كانت لها الحكومة على الحقبة الفلسفية الممتدّة إلى الأنوار، حينما عزّزت الديكارتية من المقولات الأرسطية التقليدية، وأهمها تجسيم الشرخ المثنوي لعقلين استهلكت الفلسفة نفسها داخلهما، كما استفحلت حيرتها عند تخومهما وبين أقصييهما . لعلّ ذلك أكبر وهم وَسَم القول الفلسفي التقليدي والحديث معًا. كان الاستثناء المعانق للوحدة موجودًا دائماً على

ص: 346


1- جیل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص 15
2- Emmmanuel Kant، Critique de la Raison Pratique، p205

هامش شقوة التفكيك المعتسف . وبالتأكيد لم تكن الكانطية لتمثل هذا الاستثناء على الرغم من الحركة الانقلابية التي قادتها ضد أوهام العقل الخالص، وللتحقيق لا بد من القول إن الأرسطية ما كانت لتمضي هذا المضيّ الأحمق إلى اعتبار التقسيم الإجرائي للعقل بمثابة تقسيم على نحو الحقيقة، فلا يخفى أنَّ الدليل الأنطولوجي، ودفع فكرة استحالة العلم، وثبوت الحقائق في ذاتها، وإمكان الإدراك لها وللمتعالي، هي في صلب الرسالة الأرسطية. وما الانقلاب الكانطي في صميم هذه الحقائق والأحكام سوى ثمرة لزيغ النزعة الإطلاقية التي وَسَمت الكانطية وعموم الفلسفة الغربية، بما فيها الغارقة في التنسيب. والتنسيب في الفلسفة الغربية، عادة ما يأخذ طابعًا مخادعا وحجاجيًا ليس إلا؛ أي حينما تعاطت الكانطية مع الإجرائية الأرسطية بنحو الحقيقة الواقعية. يرى هابرماس أن كانط كان قد وضع عقلاً مجزءًا محلّ المفهوم الجوهري للعقل الموروث عن التقليد الفلسفي، غير أننا لا نوافق هابرماس على ذلك، فقصارى ما بلغته المحاولة الكانطية، هو أنَّها وزعت أدوارًا ووظائف حقيقية وبقسوة بين شطري عقل أصبحا عقلين، فيما كان الموروث الفلسفي منذ أرسطو يمنحهما لتلك القسمة الإجرائية الصورية للعقل؛ أي إن كانط جعل من التجزيء العقلي حقيقة وليس إجراء صوريًا فقط، كما منحه أدوارًا كبرى جعلت كلّ شطر منه يستطيع أن يتحرك بمفرده، لكن من دون أن يصمد في وجه لعنة المفارقة، وقد تكون هذه لعنة المفارقة، وقد تكون هذه من مظاهر الحيرة إن لم نقل التهافت الكانطي الذي أدركه رعيل النقاد الذين لم يهادنوا محاولته بقدر ما لاحقوا مكامن ذلك الفشل. فهيغل ما فتئ يذكّر بذلك: «فإنه بالمثل أن فلسفة كانط وتهافتات كانط ودحضها لتلك الأدلّة قد تحملناه لفترة طويلة»(1).

لعلّ أهم مظهر من مظاهر هذه التهافتية نزعة الشرخ والتجزيء العقلي، فحتى لو افترضنا أن التجزيء هنا وظيفي وإجرائي، فإن كانط عجز عن تجميع شتاته وتوحيد ما كان قد جزاه ابتداء. يشير هابرماس إلى هذه الحقيقة؛ أي إلى ما آل إليه وضع التقسيم أعلاه، «لمفهوم عقل مجزا إلى عناصره حيث لم تعد وحدته سوى شكلية»(2). فهو -

ص: 347


1- فريدريك هيغل، الأعمال الكاملة (محاضرات فلسفة الدين)، ص19.
2- يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص33.

كما يراه - يفصل بين ملكتي العقل العملي والحكم والمعرفة النظرية بوضع كلّ منها على أسس خاصة بها»(1).

وهي المسألة نفسها التي لفتت انتباه راينهولد حينما نفى أن تكون الثنوية التي أقامها كانط بين الحساسية والفهم، حلا(2). ويستدعي إميل برهييه موقف هردر ناقدًا كانط: «والحق أن حساسية هردر بالوحدة وبالاتصال في الأشياء جَرَحَها ما أدخله كانط على هذه الأشياء من تقسيمات وتفريقات : «انشقاق في الطبيعة البشرية، التفريق بين ملكات المعرفة، التجزي في العقل نفسه»: إن عناوين الفصول الأخيرة هذه من كتاب ما بعد النقد تحدد منحى الكتاب برمته، والحق أن الفصل بين الحساسية والفهم، بين الظاهرة والشيء في ذاته، بين العقل النظري والعقل العملي، لم يصدم هر در وحده؛ بل صدم كثيرين أيضًا غيره؛ ولن يكون من هم للميتافيزقا اللاحقة على كانط غير مجاوزة الكانطية عن طريق إعادة بناء وحدة الذهن التي فصمها النقد»(3).

لا يخفى، أنَّ الأخلاق في الفلسفة الكانطية - هي كما في تموضعها الأرسطي التقليدي - من مسائل العقل العملي. حيث لا يتسنى لنا فهم المشكل الأخلاقي في مفارقاته الكانطية، إلا إذا استوعبنا مفارقة العقل العملي نفسه عند كانط، لاسيما وأن العقل النظري حسب هذا الأخير، لا يمكنه إثبات القيم الأخلاقية أو القِيَم الدينية بوصفها أوامر إلهيّة. ومن هنا، جاء نقضه على أرسطو وغيره ممن أثبتوا - في نظر كانط - أكثر مما يتيحه الفهم؛ أي إنهم تمادوا مع شرود العقل النزاع إلى معانقة الوحدة والكمال، إذ إنَّ ما يقع خارج حدود التجريب، لا يمكن إثباته في الأمر نفسه(4). ولا يجد المتأمل للتخريج الكانطي ما يصلح نقدًا جذريا لأصول النظر والتقسيم الأرسطي للعقل، فما زعمه ليس إلا إدانة لأرسطو لإثباته أكثر مما يثبته العقل النظري،

ص: 348


1- المصدر نفسه، ص 19.
2- إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: القرن الثامن عشر، ص 302.
3- المصدر نفسه، ص306.
4- أجد أن مراد كانط بالنومينا هو مؤدى ما عرف في الفلسفة الإسلامية ب«نفس الأمر». والجنبة التي أنظر منها إلى هذا التشاكل في الاصطلاح ، أن مفاد الأمر نفسه، ما كان وجودًا واقعيًّا لا تشوبه شائبة المشخصات اللازمة لوجوده في الذهن.

فهو نقد في طول المنظومة الأرسطية التي بدا كانط متقيدًا بها ومستحضرًا مسلّماتها ومتواطئًا إلى حد ما مع مقولاتها، على أقل في حدود القبليات والوجود الذهني وتصوّر الزمان والمكان ومبدأ التناقض . ولم يتمكن النقد الكانطي من طرح السؤال على التقسيم الأرسطي للعقل؛ بل سلّم به تسليمًا. وبينما كانت لغة التنسيب سيدة الموقف في العلم النظري، كان التسليم سيد الموقف في العلم العملي، وبذلك يصبح السؤال كبيراً : أي معيار أنجع في العمل لتجنيب العقل الفوضى والعماء في العلم العملي؟ كما وجب تحقق المعيار في مجال العلم النظري، علما بأن خطورة الفوضى في العمل لا تقلّ ضراوة عن الفوضى في النظر، ومن هنا جاء إنكاره أيضًا للدليل الأنطولوجي، بوصفه استبدالاً لمفهوم الكمال، كما استنكاره للدليل الكوسمولوجي بوصفه استبدالاً للضرورة، وكلاهما لا يثبتان بالعقل النظري(1)، فالحس لا يمكنه إثبات الكلي؛ إذ كلّ ما يثبت بالعلية هو واقع في حيّز التعينات الجزئية، فيثبت كلّ معلول علته، ولكن لا يعني ذلك إثبات علة أولى بواسطة الحس: «لذلك فإنني لا أستطيع أبدًا أن أدرك بما لهذه الكلمة من معنى واقعي وصحيح، الأشياء الخارجية؛ بل أستطيع أن أستدلّ على وجودها فقط من إدراكي الحسي الداخلي الخاص، معتبراً أن هذا الإدراك الحسي بوصفه معلولاً لشيء ما خارجي يجب أن يكون أقرب علّة له؛ ولذلك فإنَّ استدلالاً يبدأ من معلول معطى إلى علّة معينة يكون استدلالاً مشكوكًا في أمره دائماً ؛ وذلك لأن المعلول قد يكون نتيجة لأكثر من علّة واحدة»(2).

من هنا، ندرك كيف كان مجال المشكل الخلقي هو العقل العملي وفلسفة الواجب. وإذا كان القدامى قد اجتهدوا ليرقوا بالأخلاق إلى درجة العلم أو الصناعة، كما يبدو من كلام ابن مسكويه، فإنَّ كانط يريد البلوغ بها إلى ما هو أبعد من كونها مجرد علم؛ أي أراد لها أن تصبح قانوناً محكومًا بالضرورة، حيث أقامها على فكرة الواجب اللأ مشروط، وهي الفكرة التي تؤسس لإشكالية العلاقة بين الأخلاقي

ص: 349


1- لا يرى كانط في الدليلين إلا دليلاً واحدًا يتنكر ويتلبس ثوباً مختلفًا؛ لذا يقول: «أما البرهان الأول، فلقد قدمه العقل المجرد، وقدمت الخبرة الثاني، بينما يوجد في الواقع برهان واحد فقط. أي أنه الأول الذي يبدل ثوبه وجرس صوته كي يظن فيه على أنه الثاني».(إيمانويل كانط، نقد العقل المجرد ، ص 666).
2- المصدر نفسه، ص417.

والديني، كما في نقد العقل العملي. ليست الأخلاق مستقلة عن الدين فحسب؛ بل إنَّ الدين تابع لها، انطلاقاً من أن الأخلاق هي نفسها دليل على وجود الله - وهذا - على كلّ حال لا يجعلنا ننخدع بالتحليل الكانطي، إلى الدرجة التي تدفعنا إلى إحلال الدليل الأخلاقي الكانطي محلّ الدليل الأنطولوجي أو الدليل الكوسمولوجي، اللذين قوّضا في العقل النظري؛ ذلك لأن الدليل الأخلاقي لا يرقى إلى مقام إثبات الوجود الموضوعي، بقدر ما هو مراوغة لإشباع حاجة العقل المجرد إلى وجود مبدأ للممكنات. إنَّ الأخلاق هي من يقود إلى الدين وليس العكس، وليس أي دين بلا شرط جدير بهذا الإيصال في حالة واحدة فقط يمكن لدين ما أن يكون طبيعيا، وفي الوقت نفسه وحيانيا؛ وذلك حينما؛ يستطيع الناس من خلال أبسط الاستعمال لعقولهم - كما ينبغي لهم ذلك أيضًا - أن يصلوا إليه(1).

ليس للأخلاق الكانطية من مرتكز، سوى ما سمّاه هذا الأخير، بالإرادة الخيرة. وهي خير في ذاتها وليست مجرد خير. حتى يمكنه بناءً عليه، تمييزها عن الفضيلة، بوصفها - الفضيلة نفسها - قابلة للاستعمال في الشر، فالإرادة الخيرة، هي المعيار الذي يجعل الفضيلة نفسها خيراً ؛ بحسب ما تقتضيه تلك الإرادة، باعتبارها خيراً مطلقًا غير مشروط أو مقيّد. من هنا، تتحول الإرادة الخيرة إلى هدف مقصود من الفعل الأخلاقي، حيث لا دخالة لآثار هذا الفعل في تحديد قيمته، فالإرادة الخيرة، غاية في ذاتها، سواء أتحققت أم لا ؛ لأن مصدر خيريتها هي النية (Lintention) ومن ثمّ الإخلاص ونقاء السريرة، فليس المعوّل عليه في الفعل الأخلاقي محض أداء الواجب على نحو الالتزام الشرعي أو القانوني؛ بل أن يكون الباعث على الالتزام بأداء الواجب هو تقدير واحترام الواجب، فالذي يميّز الفعل الأخلاقي عن الانقياد للقانون، هو هذه الإرادة الخيرة التي تجعل بعضًا يؤدي الواجب بدافع الإرادة الخيرة واحترام الواجب نفسه، كما تجعل بعضًا آخر يؤدي الواجب بدافع الخوف أو اللذة أو المصلحة. إن القانون الأخلاقي الكانطي هو بخلاف القانون الطبيعي لا يقوم على أساس الإكراه؛ بل إن الفعل الأخلاقي الإرادي هو نفسه ضد الطبيعة، وبه يسمو

ص: 350


1- إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 115.

الكائن إلى المعقولية. ليس برسم تجردها؛ بل المعقولية هنا بما هي مقوم لماهية الفعل الأخلاقي. بهذا يستطيع الإنسان احتلال مملكته بوصفها مملكة حرة وليست طبيعية محكومة بالضرورة. وإذا تبين أن الإنسان هو الكائن الوحيد من بين الكائنات الذي يعمل الواجب، أمكننا القول، إنَّ الإنسان الكانطي هو كائن أخلاقي بامتياز، بما أن فكرة الواجب تجعل من الواجب نفسه مبدأ أوليَّاً وصُوَريَّا محضًا، مجرّدًا عن أيّ اعتبار عملي أو تجريبي. فهو أساس الفعل الأخلاقي، ولا أساس له.

ولكي يصبح الفعل الأخلاقي في مقام أرقى من كونه مجرد فعل تتحقق به اللذة وطلب السعادة ودفع الألم واستبعاد الشقاوة، كما في سائر مذاهب الأخلاقيين القدامى منذ الفلسفة القورينائية إلى ابن مسکویه، عمل كانط على التمييز بين الأوامر - من حيث هي قوانين العقل العملي - ما هو شرطي منها وما هو مطلق (الأمر المطلق)، فالأمر الشرطي ليست قيمته في ذاته؛ بل بما هو وسيلة إلى شيء ما تحدّده المصلحة أو المنفعة (المقاصد)، بينما الأمر المطلق، هو ذو طبيعة كلّية، فهي بخلاف الأمر المشروط غير مشروطة ولا مقيدة، ولا تتحدّد بأمر تجريبي أو خارجي. إنَّ الأمر المطلق هو وحده الذي يمثل قانونًا عمليّا، أما الأمر المشروط أو الشرطي، فهو مجرد مبادئ تتحدّد قيمتها من خلال فعلها الغائي، فهي إذن تجريبية وليست مطلقة، ولا تصلح أن تكون قانونًا أخلاقيا كليًّا. وبهذا، يكون كانط قد ارتقى بالأخلاق إلى ذروة الفعل الإرادي المستقل؛ إذ إنّه جعل الفعل الأخلاقي مستندًا إلى فكرة الواجب والإرادة الخيرة(1)، وبذلك ينبغي أن يكون للأخلاق مصدر خارجي، على أنَّ منبع هذه الأخلاق، هو «الواجب» الذي يجعل الكائن الأخلاقي الحرّ في وضع متعال إزاء منطق الطبيعة الحسي، فهذه الحرّية ذاتها مستمدة من العقل المتعالي على الطبيعة؛ ولذا يرى كانط أنّ الإنسان حرّ ومضطرّ في آن واحد.

إذا كانت الذات المعقولة المحدّدة في المطلق العقلي المتعالي على الزمن

ص: 351


1- انظر بهذا الصدد: إيمانويل كانط، نقد العقل العملي، ص 126-128-19-207 ؛ إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض ، ص 16.

والعليّة، هي من يضع التصميم النهائي لما سيتحقق بذاتنا التجريبية المُحَسّة، فهذا ما يجعلها أفعالاً غير حرّة، خاضعة للعلّية والضرورة إن كلّ ما يتحدّد في الذات العالية المطلقة يتميز بالحرية، وكلّ ما يتمّ في الذات التجريبية المُحَسّة خاضع للضرورة. سوف يعمل إيمانويل كانط على التخفيف من وطأة هذا الشرخ الكبير أو بالأحرى هذه الثنائيات الجاثمة على العقل الفلسفي الأرسطي ومن ثم الديكارتي، بما يجعل منه عقلاً ثنوياً، وهي النتيجة المنطقية للشرخ الكانطي بين النظري والعملي، وطبيعة جدلهما، وهو أمر يجعل الذات منشطرة على نفسها بين الضرورة والحرية.. بين المطلق والنسبي.. بين الكلي والجزئي.. فإذا كانت فكرة الواجب تقوم على الحرية، باعتبار أن المبدأ الطبيعي يقوم على التسلسل العلي (causal) على منطق الضرورة، فإنَّ الحرية بوصفها متعالية لا تتحدد إلا صُوَريَّا، فلا تتحدد الحرية على أساس الضرورة؛ لأنها غير خاضعة للتجربة المُحَسّة. من هنا، لم يكن مجال الإرادة الأخلاقية ما هو كائن؛ بل مجالها هو ما يجب أن يكون، وهو بخلاف ما يدخل في اختصاص العقل النظري من حيث إن: «الخبرة تخبرنا بما هو كائن وليس بأن ما هو كائن يجب بالضرورة أن يكون كما هو كائن وليس خلافًا لحاله تلك»(1). لم يكن ذلك هو التناقض الوحيد الذي حاول كانط تبريره عبر فعل الهروب إلى منطق التعالي بالذات العقلية المطلقة، وباختراع فكرة الحريّة ذات المدلول المتعالي والغامض. ثمة مسألة أخرى، هي بلا شك فرع للإشكالات السابقة تتعلّق بالعلاقة بين الفضيلة بوصفها خيراً خلقيًّا، والسعادة بوصفها خيراً طبيعيًّا، وإذا كان العقل العملي نفسه عاجزا عن ف هذا التناقض، وإذا كان كانط يرى العلاقة بين الأمرين، علاقة تركيبية علية وليست تحليلية، فإنَّ القول بكون الفضيلة علة للسعادة أو العكس، ممتنع، لجهة كونهما ليستا من سِنْخ واحد. فالفضيلة بما أنها أخلاقية عقلية صرفة، يمتنع نزولها منزلة العلة للسعادة، بوصفها تجريبية محسوسة، والعكس يصح أيضًا. لعل هذا ما حدا بكانط، للحديث عن الخير الأقصى، بوصفه الكمال الأقصى المشترك للفضيلة والسعادة. فهو يمثل الكمالين، وأيضًا يوحدهما. بهذا يضمن كانط الكمال المستقبلي لهما،

ص: 352


1- إيمانويل كانط، نقد العقل المجرد ، ص 47 .

وأيضًا الوحدة لما كان قد نظر إليهما في حال الفصام والشرخ العقليين. هذا الكمال وتلك الوحدة لا يتمان إلا في مستوى الخير الأقصى، وفي دائرة المطلق، وهو ما عاد كانط ليثبت به وجود عالم مطلق، بعد أن أنكره أو أنكر إثباته خارج الذات العقلية المطلقة، أو لعله كان عالماً مطلقًا لا يتمتع بالوجود الواقعي، سوى كونه عالما عقليًّا محضًا، اصطنعه العقل نفسه كي يحلّ به أزمة التعارض بين الأمرين. والواقع، أن كانط، على الرغم من حديثه عن انفصال الفضيلة عن السعادة، يؤكد اتصالهما من ناحية أخرى، فالإشكال هو في محاولة إيجاد علاقة علية بينهما، لكن هذه العلاقة لا تتجاوز حدود التجاور ، أو لنقل حدود الاقتران، فالفعل الأخلاقي لا ينطلق بهدف نيل السعادة، لكنه يرتب ذلك من باب الاقتضاء وليس العلية، أما الفضيلة، فمهما كانت، فهي لا تمثل الخير الأقصى. إن الحديث عن وجود نحو اتصال بين الفضيلة والسعادة يظلّ تناقضًا من وجهة نظر العقل النظري، فقط، حينما يتعين علينا الحديث عن علاقة علية بينهما، وإلا فإن هذا، فضلاً عن أنه لا تناقض فيه، هو نظري إذا ما عالجنا العلاقة خارج شرائط العلاقة العلية، كأن نفسرها بالاقتران والاقتضاء. ومع ذلك فإن العقل العملي يقدّم حلاً لهذا التناقض من خلال احتوائهما في فكرة الخير الأقصى، بوصفه ضامن الكمالين «الفضيلي» و«السعادي»، وضامن وحدتهما.

إن السؤال الجوهري الذي لم يُجِبْ عنه كانط، ولعلّه تخطاه عنوة، هو: من أين جاءت فكرة اللاتناهي والمطلق إلى الذات المتعالية لهذا الكائن الأخلاقي، وكيف يمكننا اعتبار المطلق معلولاً للتناهي، بما أن التناهي حسي واللاتناهي تجريد محض ؟ إن كانط يتحدث عن العقل المتعالي بوصفه نزاعا إلى معانقة الكمال، كظاهرة مسلمة. ولا ندري كيف يتحدث عن عجز العقل في الاستدلال على خلود النفس أو الله، ولا يجد إشكالاً في المصادرة على يقينية انعدام مصدر آخر خارجي لهذه الإرادة الخلاقة، وكيف استدل على عدم وجود عالم خارجي موضوعي يتمتّع بهذا القدر من التعالي. إذا كان كانط قد نفى عالم المطلق إلى براري العقل العملي، فإنَّ العقل العملي نفسه لا يمكن تصوّره إلا كمنتج للعقل النظري، ألا يدل ذلك على أن مصداقيّة الدليل الأخلاقي نفسه تنبع من حجية العقل النظري؛ فيستوي بذلك في

ص: 353

الاعتبار مع الدلیل الأنطولوجی؟! ألا یعنی فعل التشطیر ذاك حیلة من حیل العقل النظري نفسه، أو تكتيكا من تكتيكاته التي تصبُّ في استراتيجيا عقل يسعى إلى ابتلاع عالم الأشياء وإعادة عرضه وفق الفهم ليس إلا ، أو لعله مجرد محاولة فاشلة للتخفيف من حدة مفارقات عقل نزاع لانتهاك مصادراته؟ أليس ذلك نتاجًا للتمركز العقلي بوصفه حصرًا واستبعادًا ؟ ! ألا يفترض في العقلين معًا أن يكون أحدهما في طول الآخر ، لحظتين في فعالية متقلبة لعقل متكاثر ؟ ! بل لعلّ السؤال الأخطر: إن كان فعل التشطير العقلي وفعل التفويت والمناوبة ما بين النظري والعملي، كلاهما حكمًا عقليًا في نهاية المطاف، أو لنقل إن كان العقل يحكم بلا جدوى البحث عن الشيء في ذاته، والاقتصار على الفهم أو ظواهر الأشياء كما تعرض على العقل، أفلا يعني ذلك وقوعنا في حيلة أخرى من حيل عقل لا يزال مسكونا بباركليته؛ حيث يصبح عائقًا من عوائق التفكر والتفكير ؟! تلك أبرز مفارقات النقد الكانطي!

وإذا كان كانط قد جعل فكرة التحقق الكامل للواجب لا تقوم في العالم الحسي الموسوم بالتناهي، مفترضًا لها عالمها المطلق المابعدي، فما المانع، إذا أردنا محاسبته بأثر رجعي، أن يكون مبدأ المطلق في العقل ذا منبع مفارق؟! وإلى أي حدّ أمكن كانط التحرّر من الذاتية الديكارتية حتى في عزّ تسخيفه للدليل الأنطولوجي المؤسس للكوجيتو الديكارتي؛ بل وإلى أي حد بدا الكوجيتو الكانطي البديل، مستغنياً عن قبلياته؟

***

إثبات وجود الله من خلال فكرة الواجب الأخلاقي

لا يخفى ذلك الموقف الكانطي التقويضي للدليل الأنطولوجي الذي عمل على نقضه وتسخيفه في نقد العقل النظري، لكن هذا لا يعني أنَّ كانط الذي اختمرت في ذهنه تناقضات الفكر الفلسفي وانحصار العقل الديكارتي بوصفه استمرارًا للعقل المؤلّه، وأيضًا ملابسات الجدل التاريخي بين العقلي والديني أو الديني والديني،

ص: 354

الذي لم يزل على أشدّه في تداعيات الإصلاح الديني؛ أجل هذا لا يعني، أنَّ كانط الذي بدا أكثر تحفظًا من يقينيات النهضة، وأكثر رفضًا لرسوم فلسفات اللاهوت المسيحي، كان يسعى في سبيل تقويض فكرة «الله» من خلال تقويض الدليل الأنطولوجي. فلقد عاد ليثبت ذلك وفق ما يمكن أن نسميه«الدليل الأخلاقي». هذا الاستبدال في مسالك الحجّة والبرهان، يرفع عن كانط عبء التحدي الذي يمكن أن يمثله الدليل الأنطولوجي ضد الشرخ العقلي الكانطي الثنوي، وما تفرّع عنه من إشكاليات؛ لعلّ في مقدمتها المأزق الثنوي الذي جعل «العقل» كما لو كان جوهرين فاردين أو جوهرًا منقسمًا على نفسه، فتقويض الدليل الأنطولوجي هو في واقع الأمر استبعاد لمطلق الدليل على وجود الله على أساس العقل النظري، أو تضييق لمسالك الدليل على وجوده، وذلك حتى لا تكون فكرة الله الحقيقة الأولى التي تتفرع عنها باقي الحقائق، بما في ذلك الذات. فإذا كان الدليل الأنطولوجي يثبت المطلق خارج الذات ومطلقاتها، فإن الدليل الأخلاقي القائم على الإرادة الحرّة المطلقة المتعالية، يجعل المطلق هو الذات، وفكرة «الله» متفرعة عنها أو صنيعة لها، ليس على نحو الحقيقة؛ بل على نحو ما يمكننا اعتباره تجوّزا، ضربًا من الوعي المتخيّل بالإله، وعيًا يفرزه العقل العملي ويؤيّده العقل النظري، شريطة ألا تكون العلاقة بين المطلق والحسي أو الفضيلة والسعادة، علاقة عليّة، وذلك لمقتضى الإشكال التجزيئي المزمن في الأخلاق الكانطية الصُوَرية، وقصد فك أزمة التناقض. إن فكرة «الله» في نظر كانط، وحيثما أردنا استيعاب فلسفته الأخلاقية، هي بالأحرى حيلة من حيل العقل العملي لإضفاء الوحدة المتخيلة على الذات المطلقة العالية الصُوَرية، بوصف الأخلاق ذاتها تصمیمات صُوَرية في عالم يتحكّم به معيار «النيات»، ولا قيمة بعدها لما سيترتب عليه من آثار. إذا كانت أخلاق الواجب هي من هذا التصميم الغامض المحكوم بنيات غامضة ومطلقة لا تتحدّد بغاياتها أو آثارها أو ما يقترن بها من منافع في الآن والمستقبل، فإن فكرة الخير الأقصى التي اخترعها العقل العملي للتخفيف من حدّة التناقض بين خير أخلاقي وخير طبيعي، وأيضًا فكرة الكائن الإطلاقي الأسمى، الذي يمثل غاية الكمال والوحدة للفضيلة والسعادة، هو فكرة لا تعين لها في الواقع، سوى

ص: 355

تخريجة، إن كانت تشهد على تهاوي البنية التناقضية للقانون الأخلاقي الكانطي، فهي تشهد على عجزها عن التعالي بالمطلق الذاتي عن المطلق المتعالي الموضوعي، الذي عادت والتفت عليه، بعدما ثبت أنه لا مناص منه ، فكيف يغدو ما أنتجته الذات المطلقة. المتعالية كمالاً وغاية لمطلقه . تلك أكبر المفارقات التي لم ينتبه إليها كانط ولا حتى نقاده، وعليه، لم تعد فكرة «الله» حقيقة مقصودة في حد ذاتها في هذه

المنظومة الثنوية الكانطية؛ بل هي مخاتلة للالتفاف على التهافت الكانطي المزمن، وحيلة وظيفية تخييلية لتبرير استمرارية نسق مغشوش، مهدّد بالتشظي، ومحاط بلعنة «الثنوية»، وهكذا تصبح فكرة «الله» سببًا لاستقامة الفكر، وليس الفكر سببًا لبلوغها. من هنا، لا يسع كانط إلا أن يكون مسلّما بالكشف والوجدان لما لا مكنة للبرهان على احتوائه ضمن آلياته، فيكون ها هنا قد داعب الدليل الأنطولوجي، وعانق بنيته

في صميم هذه اللعبة الاستدلالية الاستبدالية، فيكون مناط الدليل الأخلاقي نفسه مناط الكوجيتو الديكارتي؛ لا، بل إن إثبات وجود «الله»، ولو لغاية دعم صمود النسق - وإن كان هذا نفسه مناقضًا لفكرة الإرادة الخيّرة في ذاتها لا في ما يمكن أن يترتب عليها من آثار هذا الإثبات هو نزول عند واقع الضرورة وحتمية الفقرين: الفقر الوجودي والفقر المعرفي، وهو التفافة أخرى على «برهان الصديقين»، كما اكتمل في الفلسفة الصدرائية، وكما وجدنا له معاقرة لا تخلو من أهمية في فكرة الله كبرهان على وجود الله عند داعية الفينومينولوجيا الجديدة: جوزيف سايفرت، أو يكون متشبئًا بالدليل والبرهان في طلب العرفان، فيكون قد برهن «بالنظري» - حيث لا استدلال إلا به- على ما سُلّم به بواسطة «العملي»، فيكون في كلتا الحالتين، قد قدم أقوى الأدلة على وجود «الله»، بهذا الاضطراب والأوب المنهجي لأصول كان قد عمل وسعه لتفسيخها وإثبات نقائضها، بما هو حاك عن عجز في الاستغناء المعرفي نفسه؛ كعنوان على الفقر المعرفي مقايسة على الفقر الوجودي. وسيزداد إدراكنا لهذه المقايسة متى ما أدركنا علاقة المعرفة بالوجود، فيكون موضوع الفقر واحدًا؛ حيثما اعتبرنا المعرفة هي عين الوجود. وهو أيضًا دليل قوي على تهافت دليل سلك أوعر المسالك لنقض الدليل الأنطولوجي، فسقط في أسوأ الأدلة وأكثرها مفارقة. على أن

ص: 356

النقد الكانطي للدليلين، الأنطولوجي والكوسمولوجي، ينطوي على شبهة منهجية وأخرى مفهومية عقلية وثالثة منطقية، ويمكننا الإشارة إلى ذلك بالقدر الذي لا يتعدّى الغرض؛ حيث المقام ليس مقام نظر في الدليل الأنطولوجي أو النقض الكانطي له على نحو التفصيل.

1 - الشبهة المنهجية

لقد أكدنا سابقًا أنَّ كانط لم يجعل المنهج في البداية طريقًا لإثبات وجود «الله»؛ بل إن فكرة «الله» هي من صدمت منهجه وفرضت نفسها عليه، ما يؤكد على هشاشة منهج عاجز عن تأمين نفسه من نقائضه، وهذا في حدّ ذاته دليل آخر على تهافت الدليل الأخلاقي القائم على معطى عقل متفكك ومتباعد الأجزاء.

2 - الشبهة العقلية

منشأ ذلك رؤية مغالطة للعقل؛ حيث نظر كانط إلى تمظهراته وآثار فاعليته ومسارات تشكيكاته وحركته، بوصفها تجلّيات لعقلين متجوهرين ضمن نَسَقين يتعاونان بقدر ما يتنافران. آية ذلك أننا مع البلاهة الكانطية سنجد أنفسنا أمام إله يقودنا إليه القانون الأخلاقي من دون أن يقتدر العقل النظري على إدراكه، فحينما تصبح المعرفة مستحيلة تمامًا، نكون أمام شيء ما ثابت بالعقل العملي، غير متعقل بالعقل النظري، نحن لسنا هنا فقط أمام عالم يناقض العقل بل بين وظيفتين للعقل تجعله نقيضًا لنفسه، ففي نظر نيتشه، كان كانط يحاول أن يرسي فكرة وجوب أن يكون النقد نقدًا للعقل بواسطة العقل بالذات «أليس هذا هو التناقض، أن يجعل من العقل المحكمة والمتهم في الوقت ذاته»(1).

3 - الشبهة المنطقية

يستصحب كانط بنية المنظور الأرسطي للدليل والبرهان، حتى لكأن النقد الكانطي، على الرغم من جرأته وثوريته، لم يبرح المقولات الأساسية لهذا المنطق

ص: 357


1- جیل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص117.

الصُوَري، الذي عمل على إعادة انتشاره بصورة جعلته يلتهم نفسه ويغرق في مفارقات وتناقضات شتى؛ بل أرى في المحاولة الكانطية محاولة انعتاق فاشلة أو انتحار داخل النسق الأرسطي - الديكارتي نفسه. فالمآزق الكانطية هي مآزق الإرث الأرسطي؛ إذ إن أقوى المحاولات النقدية للعقل، وهنا استثني من فتق القول في العقل خارج الأورغانون الأرسطي ، أعني تحديدًا أمثال هيغل ونيتشه. هذه المحاولات لم تنجح في رجّ البداهات التي تشكل قوام النسق الباراديغمي للعقل الأرسطي؛ لذا سيعمد كانط إلى التنصّل من إكراهات النسق ذاته إلى تعميق فجوة العقلين - كما لو كان مجتهدا من داخل المذهب لا من خارجه - ومع أن لا استدلال البتة يمكن قيامه خارج النظري، فإن فعل المناوبة الكانطي القاضي بالتخلّص من مآزق المفارقة، بواسطة التقسيم الوظيفي للعقل وهو على أي حال تقسيم عقلي أيضًا - هو أشبه ما يكون بثعلب يقطع رجله بأسنانه للتخلّص من المصيدة(1). لم يكتف كانط باستحضار التقسيم الأرسطي للعقل؛ بل زاد في تعميق الفجوة، ما أدى إلى استفحال أزمته، ومن آثارها تضييق مسالك الدليل، متمّماً بحماسة وانتحارية ما كان دشنه أرسطو، واستلهمه ابن رشد، وتخبطت فيه عقلانية النهضة والأنوار، ومن آثارها أيضًا استبعاد دليل الوجدان من طرق الدليل، وهو أمر أدى إلى نتيجتين هما على تمام الخطورة:

الأولى: انحصار مسالك الدليل، وإليه يضاف تخصيص كلّ عقل ببنية دليلية ما، وهذا مردود أصلاً؛ حيث لا طريق لإثبات هذا الاختصاص إلا بالعقلين أو أحدهما أو ثالث لهما ثابت لا مرفوع. وفي كلّ واحد من الافتراضات المذكورة ما يقوّض النسق الكانطي، فإذا كان المنشأ عقلاً نظرياً، فما جدوى الاختصاص رأسًا، وإن كان عمليًّا، فهو تغليب وحكومة للعملي على النظري، وإن كان عقلاً ثالثًا، فهو بداية التسلسل محال، فإن قيل كشفًا، فهو بخلاف مقتضى النظر الكانطي. وكل واحد من هذه الافتراضات يستدعي تفصيلاً إضافيًا ليس ها هنا مقامه.

الثانية: طرد بعض أشكال الدليل من دائرة البرهان أو بعض مسالكه من دائرة الدليل رأسًا. وإليه يضاف حصر الوظيفة العقلية في مجال دون آخر. وكلتا النتيجتين

ص: 358


1- هذا المثال للثعلب أستعيره من الأديب والشاعر الفرنسي الكبير ألفريد دي موسيه، في اعترافات فتى العصر.

أخرتا المنطق، وأعاقتا النظر في مسالك الدليل وبناه، مع أن العقل العملي بالنتيجة هو معانقة مخاتلة للكشف والوجدان.

إننا أمام فيلسوف لم تمكنه ملحمته النقدية للعقل النظري من التحرر من الباراديغم المتسلّط للحداثة؛ حيث بلغ التمركز العقلي مداه، هذا إذا لم نعتبر فلسفته تعزيزاً لهذا التمركز ؛ بل ربما فاق الديكارتية نفسها، هذه الأخيرة - على الأقل - كانت قد اعترفت للعقل بالإمكان المحض، فهو كائن موجود بغيره ولغيره، لكنه مع كانط - على الأقل - في نطاق العقل العملي هو قائم بذاته، صانع الحقائق، إذا كان ديكارت قد احتفظ بإمكانية العقل جاعلاً من التعالي - الممكن إدراكه وحدسه عقلاً - وجودًا مستقلاً؛ موجودًا بذاته، ولذاته بحسب الدليل الأنطولوجي المقوّم للكوجيتو الديكارتي، فإن كانط قد جعل من ذلك التعالي - الممتنع إدراكه - وجودًا لغيره، ومخلوقا للعقل العملي ، لكن لا يخفى أن المحاولة الكانطية بمثابتها دحرجة سيزيفية، هي رفض عنيد للاعتراف بالدحرجة، وإخفاء متواصل لكوجيتو، وأكثر انهماما بالذات واختلاقاتها. على أن التشطير العقلي هو هروب من وحدة عقل تهدّد بنيته المفارقاتية المتخيّلة، النزعة التمركزية العقلية الكانطية. فإذا كان العقل العملي هو منفى العقل النظري؛ حيث يبدو هذا الميكانيزم المزدوج لعبة استيهامية للعقل النظري نفسه في إخفائه لوجهه الآخر؛ أي اللاعقل حتى ليبدوا أن العقلين معًا لا التقاء لهما في المنظور الكانطي إلا في حدود السؤال الثالث؛ أي عن المأمول خلف امتثالي الواجب، فإننا نتساءل: هل فعل التفويت إلى العقل العملي هو حكم نظري أم عملي - كما سبق ذكره - أم لعقل ثالث خشي كانط اختراعه، فرقًا من عقيدة التثليث أو منعا للتسلسل المنطقي ؛ لأن افتراض عقل ثالث يفرض سؤالاً جديدًا عن منشأ صلاحيته واختصاصه بهذا الحكم ؟ إن العقل العملي لا يملك الحكم بالتفويت؛ لأنه مستقبل لا مرسل، فهو محكوم بالنظري، خاضع لسلطته وتمركزه. وبما أن الاستشكال هو نظري، تعين أن يكون الحكم بالتفويت نظرياً، فيقال : إنّ هذا من اختصاص العملي، فإذا استبعدنا العقل الثالث دفعًا للتسلسل، قلنا إنَّ النظري نفسه يقرّر الحكم بالتفويت، ويقرّر مجالات اختصاص العملي، ويحدّد ميكانيزماته. على أن كانط الذي يرفض أن تصبح

ص: 359

فكرة الإيمان فكرة معرفية قابلة للبرهنة كيف يمارس استبعاداته برسم العقل النظري ثم ينقل رأيه إلى الآخر المتلقي، مسلّمًا بإمكانية إقناع الآخر في ما يشبه الدعوة وممارسة الإقناع ؟

***

المتخيّل حينما يحتوى مطلقه

إذا وضعنا تلك النتائج نُصب لحاظنا، أمكننا حينئذ وضع اليد على الهشاشة البنيوية لهذا التدابر المثنوي التناقضيّ الذي جعل النقدويّة الذاتية الكانطية في قلب أسوأ المفارقات. ومفاد هذه النتائج، التي هي غاية القول الأخلاقي الكانطي، هو أن المطلق المتخيّل منتج للمطلق الذاتي المتعالي؛ ولكنه في الآن نفسه يتهاوى في سفوح الفقر الوجودي لمتخيّله. ففكرة «الله» واليوم الآخر، ليستا ها هنا لحظة انتشائية في هذا البناء الكانطي المتأرجح داخل جدل عقلين؛ بل هما المخرج الوحيد والممكن لهذا البناء الذي لا يعترف بانسداداته ولا يخجل من مفارقاته. فبعدما أن كانت الحرية هي الأساس الأعلى البديهي الذي تقوم عليه الأخلاق، انضافت فكرة «الله» وفكرة الخُلد، بوصفهما مسلّمتين عجز كانط عن البرهنة عليهما، والعجز هنا - بلا شك - كانطي بامتياز؛ لأن لا أحد يسلم بذلك الشرخ والفصام الذي أخضع لهما العقل والذات الإنسانية. فإن كان هذا التسليم برسم العقل العملي، فهلا يقال إنَّ تسليم العقل العملي هو فرع خفيّ لتسليم العقل النظري؟ فإن قيل إنَّ النظري هنا لا يثبت ولا ينفي، فهل هي استقالة النظري إزاء كبرى اليقينيات وأقدمها رسوحًا في حياة البشر ؟! يقول سايفرت - وهو من الفلاسفة الألمان المعاصرين- إن إلها لا يوجد إلا في الوعي، هو إذن إله ميت حقا(1). ونقول على المنوال نفسه هاهنا: بأن إلها لا يملك أن يقاربه العقلان معًا، ولا يملك العقل النظري أن يتوصل إليه، ولا يفرض تجلّيه على العقلين ولا يقاربه إلا العملي، لهو حقا إله خيالي !

ص: 360


1- جیل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص21.

إذا ما سايرنا كانط في التفافاته على مصادراته، وقبلنا بلعبة الاستبدال التي جعلت فلسفته الأخلاقية تعانق النهاية السيئة، وما كانت قد سلمت باستبعاده، في حالة ارتداد منهجي أو حيل استبدالية ترتكز على مسلّمات الدين المسيحي، إذا ما سريناه فسنجد أن الإشكال الذي طرح على فكرة الكمال والوحدة الممكنة بين الفضيلة والسعادة سيتفجر ضمن السؤال الآتي : هل بوسع هذا الكائن الأخلاقي أن ينجز الواجب على ذلك النحو الأكمل، في حياة محكومة بالتناهي، وحيث لا قيمة للواجب إذا لم يكن الإمكان متاحًا لإنجاز تحققه هذا على ذلك النحو ؟ وهذا ما يفرض خلود النفس، ويفترض وجود عالم آخر غير هذا العالم المادي المتناهي. وعليه يصبح الله والنفس الخالدة، مسلّمتين يفرضهما العقل العملي الكانطي حيث لا كمال في تحقق الواجب من دون افتراض خلود النفس، ولا وحدة بين الفضيلة والسعادة من دون افتراض وجود الله كضمان للتوفيق بين الضروري والمطلق. باختصار، إن كانط يجعل من مسلّمة الله وخلود النفس مقتضيين للعقل العملي، لا يمكن البرهنة عليهما من خلال العقل النظري، فهما عقيدتان تستندان إلى الإيمان، وهذا ما يعني - حسب كانط - أن العقل العملي وإن أكد عليهما كمسلّمتين، لا يمكنه جعلهما موضوعين للمعرفة. وهذا ما يعني أن فكرة الله مدركة أخلاقيًّا، ولا يمكن الاستدلال عليها أو نقلها عبر التبليغ أو الدعوة مثلاً. إنها حقيقة يدركها كلّ كائن أخلاقي بما هو أخلاقي. ومن ثم لو افترضنا أننا أمام تعريف كانطي جديد للإنسان بوصفه كائنًا أخلاقيًا، فهل خروج الحيوان من هذه الخاصية، سيحرم الحيوان من إدراك «الله»، مثلما حرمه الذين أخرجوه من خاصية النطق والعقل ؟ هذا سؤال يظلّ مفتوحًا؛ بل سيشكل تحديًا آخر ضد القانون الأخلاقي الكانطي.

إذا استوعبنا ما سلف ذكره، أدركنا حينئذ الدوافع التي جعلت الدين في نظر كانط يحتل مجالاً تابعًا، مترتبًا على الأخلاق؛ حيث يتحدّد وجودها مستقلاً عنه، فالأخلاق لا تحتاج إلى الدين؛ بل إذا اعتبرنا فكرة الله والخلود، على ضرورتهما العملية، من اختراع العقل الأخلاقي، أدركنا أن الدين نفسه تابع للأخلاق؛ أي تابع للعقل العملي. الدين في نظر كانط، تجريد محض. إنه عبارة عن روح واحد، كامن خلف

ص: 361

هذا التشكل المختلف للدين. إنها فكرة عدمية ترى إلى الدين حقيقة واحدة خالصة، وليس عقيدة؛ بل لا يوجد لها أساس تاريخي بقدر ما هي عبادة خيرة، فالدين هو بالنتيجة، ما يُبحث عنه من داخل الذات وليس خارجها. وطبعا لا ننسى أن ما تقوله الكانطية أكثر احتياطاً مما يدعو إليه النَسَق النقدي الكانطي. إنه كان عاجزا عن البوح بما يخالف حقيقة الإيمان التي رعتها الكنيسة حتى ذلك الوقت.

***

مناقشة الرأي الكانطي

لو أنَّ النقد الكانطي اقتصر على تعزيز فكرة الواجب، بما هي أرقى حالات العرفان الديني نفسه، دونما الحاجة إلى هذا القلب الكوبيرنيكي العديم الجدوى، لكان وضعه أقوى من هذه الهشاشة البنيوية التي اقتاده إليها إصراره - منقطع النظير - على لعبة التشطير العقلي، أو لعبة المناوبة بين العقلين اللذين هما في نهاية الأمر، فعل تجريدي للعقل النظري نفسه. فلا يخفى التأثير السلبي للبيئة الدينية التي عايشها كانط وعاصر أقوى مفاعيل تمأسُسها التاريخي وتهيكلها الديني، ما جعل الدين في النهاية يتحوّل إلى جملة من الرسوم والطقوس الفاقدة للروحية الخالصة أو فكرة الواجب. لكنَّ هذا التأثير لم يمنحه القدرة الكافية للتغلّب على صعوبة النفق المنهجي الذي وضعه أمام أخطر أشكال التناقض، سواء ما بين النظري والعقل العملي، أو حتى تلك التي كانت تواجه العقل العملي نفسه، وهذا ما اضطره إلى اختلاق تخارجاته التخييلية. وقد بات الإيمان هنا ليس حقيقة عقلية أو غاية فلسفية؛ بل مجرد مخرج لذلك التناقض الكبير والمهول ما بين الحريّة بوصفها تعاليًا فوق الضرورة، وفكرة «الله» التي طرحت كمسلمة للعقل العملي. فمنهجيًّا لم تحرز الثورة الأخلاقية الكانطية ما كانت تصبو إليه، فلقد اصطدمت بصخرة الإيمان، إلا أنها عرفت كيف تخاتل للالتفاف عليه ووضعه خارج الإمكان المعرفي إيمانًا عمليا لا دليل ينهض على اعتباره بمقولات العقل النظري. إن المحصلة النهائية لهذه الفلسفة الأخلاقية التي قبلت بالدين على مضض كتابع ليس إلا، تبشر بدين من اختراع الذات (= الدين الحقيقي) رافضة موضوعيته أو جعلية تعاليمه، مستعيضة بذات قدسانية قادرة على

ص: 362

الاستقلال بخيريّتها، وبهذا نخلص مع كانط إلى نحوين من التمركز، لعلهما من أشهر معرات الحداثة، وأخطر ما وسم علاقتها بالفلسفة والدين معا، وهما:

1 - التمركز العقلي (logocentrisme): به كان كلّ ما هو خارجي، من اختلاق العقل . العالم نفسه تشكيل عقلي محضر

2 - التمركز الديني المسيحي (chrétocentrisme): حيث في عز التجرد العقلي والتهميش الديني، ارتأى في المسيحية الخالصة، ما يقارب الكلي الطبيعي - تجوّزا - إزاء باقي الأديان الأخرى، ففي كلّ دين ثمة شيء من المسيحية.

إذن، بهذا الحنين التمركزي المزدوج، عبر كانط بما فيه الكفاية عن أنه منتج لهذا الباراديغم المتسلّط في عصره: التمركز العقلي النهضوي، والتمركز الديني المسيحي، وكلاهما يؤكدان على التمركز الثالث : ( = التمركز المجالي الأوروبي (Europocentrisme).

ففي نظره «ليس ثمة إلا تاريخ واحد يملك الإجابة عن تلك المطالب : إنها الكنيسة التي منذ بداياتها تحمل في ذاتها بذور ومبادئ الوحدة الموضوعية للإيمان الديني الحقيقي والعالمي»(1). وتصل هذه المركزية الروحية المأرضَنة برسم العناد الكانطي الجاهل والمتجاهل للمختلف، إلى حدّ تناسي الأشكال الأخرى للتجارب الدينية. ولم يعاقر بعد ذلك إلا اليهودية بوصفها، حسب المنظور الكانطي، مسلوبة الروح ؛ بل لنقل ليست دينا رأسًا، ففي الحقيقة «اليهودية ليست دينًا، إننا لا نرى فيها سوى مجموعة ما من الناس ينتمون إلى عرق خاص، لم يؤسسوا كنيسة ولكن أسسوا دولة توجه بقوانين سياسية بسيطة، هذه الدولة يمكن أن تكون محض زمنية بشكل يجعلها حتى لو اندثرت بفعل دوائر الزمن، تظل راسخة دائماً في اليهودية. هذا الاعتقاد الذي ينتمي إليه بصورة أساسية بحيث في يوم من الأيام يمكن أن تتحقق (بمجيء المسيَّا - المنتظر -)»(2).

ص: 363


1- إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 155.
2- المصدر نفسه.

فالأنوار، إذن، لم تستطع تحقيق عالميتها المجرّدة، حتى في صلب هذا الشرود العقلي لمعانقة المطلق، إن كلا التمركزين - اللذين يحتويهما التمركز الأكبر المجالي عنوان أرضنة الفلسفة هيغليًّا، والدين كانطيَّا، والرأسمالية فويبريا- هما مرض القول الفلسفي للحداثة، والهذيان التصنيفي إلى حد صياغة متعالي الجغرافيا الفلسفية للحداثة. ويمكن دفع ذلك بأواليتين نقديتين:

أولاً: يمكننا دفع التمركز العقلي، بتفكيك أزمته ، ومعانقة آخره (= آخر العقل). كما يمكن دفع التشطير العقلي الثنوي أو التثليثي بنقد فصاميته التخييلية، وفضح انقساميته أو مناوباته المخاتلة. ليس لدينا ما نخشاه، طالما أن ثمرات ذلك التمركز تتجلى اجتياح العقل الأداتي، وحصر امتدادات الفاعلية والشعور الإنساني المتعدي للعقل الاختزالي، يكفينا في دفع شر هذا التمركز، آماد النقد الهيغلي للنقد الكانطي، وإذا شئت يكفينا الموقف النيتشي التمرّدي، ألم يقل هابرماس: «مع دخول نيتشه إلى قول الحداثة، تتغير المحاجة رأسًا على عقب»(1).

ثانيًا: يمكن ردّ التمركز الديني عند كانط، من خلال مساءلة دينية مفتوحة، ومن خلال فلسفة الدين ومنزلة الأخلاق في المنظور الإسلامي مثلاً. إن الموقف الكانطي التمركزي هذا يبدو فضيحة أكبر لو قارناه بموقف نيتشه في «عدو المسيح».

في نزع التمركز الديني - التاريخي المنظور الإسلامي دليلاً

صحيح أن كانط قصد إلى الإمساك بسرّ الدين الحقيقي خلف هذا التكاثر التاريخي للصيغ العقدية، بما يجعلها عرضة لتضخم الطقوس وخطر التهيكل، ولكن هذا لم يمنع من القبض داخل هذا الإصرار على التجاوز التاريخي، على إرهاصات لتمركز ديني، يجعل من المسيحية في أوروبا - بوصفها لحظة تاريخية في التشكل الديني الخاص نفسه - محورًا لاستشكالات كانط الدينية والأخلاقية. فهل ياترى كان

ص: 364


1- المصدر نفسه، ص 140

من الممكن أن يحدث الانقلاب الأخلاقي الكوبرنيكي الكانطي، فيما لو كان هذا الأخير مسلما؟! ، وأي معنى أن يعقد كانط في الدين في حدود العقل المحض فصلاً موسوما ب: الدين المسيحي كدين طبيعي ؟ وإذن أي مفارقة تلك التي تواجهنا عندما نعرف أي معنى للدين الطبيعي عند كانط، سوى أننا باستعمالنا المبسط لعقولنا نصل إليه، فهل هذا هو واقع الدين المسيحي من بين كلّ الأديان؟

كيف يصمد هذا العناد أمام الإدانة النيتشية الكنسيّة؛ إذ لم تقف هذه الإدانة عند حدّ تفضيل البوذية عليها؛ بل إنه عبر عن تمرده على التمركز الديني الكنسي ابتداء من تصوّر الألوهة، وانتهاء إلى نوعية السلوك، فهي أي: «الكنيسة تقاوم حتى النظافة (المعيار الأول على المسيحية بعد طرد المسلمين كان إغلاق الحمامات العامة، حيث كانت قرطبة وحدها تحتوي على 270 حماما) ... إن الإسلام لدى احتقاره المسيحية يمتلك ألف مرة الحق بأن يفعل ذلك؛ إذ هو يتطلب الرجال. لقد حرمتنا المسيحية من مجاني الحضارة القديمة وفي ما بعد حرمتنا من ثمار حضارة الإسلام»(1). الموقف النيتشي هنا وإن بدا أكثر قسوة على المسيحية، إلا أن المهم في ذلك هو التمرد على ذلك التمركز الذي جعل كانط في نهاية المطاف يرى أن المسيحية هي هي محور الدين الكوني، حتى أنه لم يدرس الأديان وخصوصيّاتها كما فعل على الأقل نيتشه حسبما تشهد أفكاره وآراؤه.

تحمل استشكالات كانط الأخلاقية والدينية مركب هذا التمركز الديني، الذي لم يخل من مقايسات، سواء في مستوى التعميم - تعميم الاستشكال الديني والأخلاقي المسيحي الأوروبي على كلّ التشكلات الدينية والعقدية - أو في مستوى الاستعارة الخفية والاستبدال الديني الذي عالج به مأزق العقل العملي. هذا فضلاً عن أن الاستشكالات الكانطية الدينية، هي استشكالات الإسلام نفسه لكن برسم حلول وآفاق أخرى؛ بل إن مشروعية وجوده تكمن في كونه مبدأ للكلمة السواء، تضاف إلى ذلك حتمية الكتاب المهيمن وفكرة الخاتمية، وهي ثورة ضد التهيكل الديني،

ص: 365


1- إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 65-181.

وخطوة باتجاه كونيته وأنسنته بشرط التجرد ونبذ الفتنة حتى يكون الدين كله لله، كضامن لاستمراريته، وكدعوة لما يحيي النوع أو يفك عنهم الإصر والأغلال التي كانت عليهم، وهذا ما يظهر تباعًا من خلال المبادئ الثلاثة الآتية:

1 - دعوى الكلمة السواء

يظهر من خلال المبادئ الثلاثة، أن الجامع بينها هو أن التاريخية الإسلامية ليست تاريخية زمنية محضة، أو تاريخية سبق ولحاق، بل إنها تاريخية إنجاز. هكذا، كان الإسلام مصرًا منذ البدء على أن لا يتحدّث عن الدين (دين الله بوصفه الدين الحق) أي بوصفه اختلافًا جديدًا على إيقاع التشكل التاريخي للأديان؛ بل عود إلى بدء؛ إلى الدين الخالص الذي جعل كلّ رموز الديانات السابقة رموزاً للإسلام. يدلّ على ذلك، كونه الصورة الخاتمة التي أعادت ما «تتورخ» من الديانات السابقة التي خضعت لتأثير الملابسات التاريخية والسياسية والثقافية، وقد عانق بعضها الوثنية أو بعض رموزها في حالة ارتداد - وما تشخصن منها، مثل اليهودية بوصفها دين يهودا، أو المسيحية بوصفها دين المسيح - إلى منبع الإسلام والانقياد للمبدأ الأعلى. من هنا، يفترض القول: إنَّ «المجرّد» هو ما يمكن وجوده أو وجود بعضه في كلّ دين سماوي آخر؛ وليس التاريخي المشخصن الذي أعاد تحيين الموقف التشخيصي السابق، معلنًا أزمته المزدوجة؛ كالمسيحية الجاحدة (الكافرة) بالرسالة الخاتمة؛ حيث نقضت جحود اليهودية بالمسيح ، ثم سرعان ما استعارت الموقف الجحودي اليهودي نفسه في موقفها من «محمد». على أن ليس ثمة ما يبرّر الاكتفاء بالدين سوى أنه يحتوي على مؤهلات ختم الأديان السابقة بوصفها سابقة الأديان السابقة بوصفها سابقة في التشكّل التاريخي، لا في مستوى الأصالة، بما يؤسس لحوار الأديان على أسس برهانية [ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(1).

على أن البرهان هنا ليس بمعناه المحصور على قواعد المنطق الأرسطي؛ بل

ص: 366


1- سورة البقرة: الآية 111

بمعناه المفتوح بحسب مراقي السلم الحجاجي التواصلي؛ أي ما تسالم عليه أهل الأديان في منطق الاحتجاج الملزم ، الذي يبدأ من الاستشهاد نصا، كما في سائر الاحتجاجات الدينية، وانتهاءً بشهادة الإعجاز تكوينا، كما في حادثة المباهلة، وفي ذلك دفع لتساوي الأدلة وإمكانية العلم.

ويتجلى مبدأ «الكلمة السواء» في ثلاث دعاوى:

- دعوى ال«لستم».

- دعوى «التبعيض».

- دعوى «وحدة المصدر» أو الأصل الإبراهيمي للديانات السماوية.

1 - 1 - دعوة ال«لستم»

هذه الدعوة، هي تهمة صريحة بالتحريف. إن الكلمة السواء لها عائق تاريخي ومعرفي (= تحريفي)، فيصار إلى القول أن لا إمكان لتحقق الكلمة السواء إلا بنهج التقويم، وهو موقف تاريخي ومعرفي لإعادة المصداقية. وإثبات ذلك ليس هذا مورده؛ بل يطلب في الأبحاث التي جاءت تترى شاهدة على وقوع التحريف بما لا يدع مجالاً للشك من خلال نقد الأثر (= تاريخيته) ونقد النص (= تفكيكه وتأويله).

1-2 - دعوى «التجزيء»

وهي الدعوى التي تحمل تهمة صريحة باجتزاء النص تبعًا للهوى والمصالح الشخصية أو الفئوية، والاجتزاء والتبعيض هو أخطر من المحو في بعض الأحيان، حتی أن النص المجتزأ أو الموقف التجزيئي قد يحوّل النص إلى نقيض المراد،کما هو أخطر ممن جعله نصًا معدومًا. ألا ترى إلى من يأخذ بشطر الشهادة «لا إله» ويمحو ما تلاها لينقلب الأمر إلى نقيض المراد؛ من الشهادة بالوحدانية إلى شهادة كفر بواح . وإذا كانت الرسالة الخاتمة فضحت التحريف في مستوى دعوى ال«لستم»، فإنها فعلت الأمر ذاته باستعادة ما كانت الديانات السابقة قد استبعدته،

ص: 367

مستعيدة إياه في صلب السياق الطبيعي لرسالة متمّمة لما لم تقتض الحكمة تنزيله سابقًا، ولإتمام ما كان قد تعرّض للانتقاء والتجزيء والبتر: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض».

1-3 - دعوى «وحدة المصدر والأصل المشترك»

وهي دعوى تحمل تهمة الغفلة عن الأصل في الدين السماوي، وعن المبدإ؛ ذلك لأن التحريف والتجزيء اللذين مصدرهما الهوى ينبعان معا من الممارسة الشركية التي بلغت قمة استفحالها، حيث لا شرك أقوى من فعل التصرف في النص والمشاركة في إعادة صياغته أو بتره بما يستجيب للأهواء المتحيرة.

بدأت الدعوى إلى الكلمة السواء من الدعوى إلى البرهان:

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(1) .

أم اتَّخَذُوا من دونه أَلهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذكرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ

مِنْ دُونِهِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ(2).

(أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَللهُ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(3).

مرورًا بالتقويم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طغْيَانًا وكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(4).

ص: 368


1- سورة البقرة: الآية 111
2- سورة الأنبياء: الآية 24.
3- سورة النمل: الآية 64.
4- سورة المائدة: الآية 68.

وانتهاء بالدعوى إلى المباهلة : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ(1)؛ وهذه الدعوى أظهرت أن الاحتجاج هو فعل متكثر تدرّجي وتوتري، يتحدّد بما هو تداولي وما تسالم عليه الطرفان، فالمباهلة هی آقصی ضروب الدليل، حيث انتصر موقف الدين الخاتم وعزّز مصداقيته لا بوصفه تشكلاً تاريخيًا؛ بل تصحيحًا وإكمالاً وبلوغاً للدين الخالص، وبهذا يندفع التمركز الديني المسيحي الكانطي من موقف «الكلمة السواء» كما في حادثة المباهلة. ويتحقق الجواب عن الدين الحقيقي الكانطي بوصفه لا تاريخيًا ولا رسوما؛ بل موقفًا سبق استشكاله دونما حاجة لقلب كوبرنيكي أخلاقي، ولا حتى برفض الأحكام نفسها بوصفها مداخل أخلاقية وليست نهايات دينية؛ ذلك لأن عالم كانط الأخلاقي الحر، المستغني عن الضرورة، لا يرى إلى العالم الواقعي بواقعية أو ذرائعية ونسبية؛ إذ حتى التوصل إلى الإرادة الحرة هو فعل تدريجي وتطور في الاقتدار، وإذا وجد من بدا مسلوب الإرادة الحرة، فذلك دليل على أنها لا توجد على نحو واحد، فثمة جبر يشتد بمقدار افتقاد هذه الإرادة، وثمة تحرّر يشتد بمقدار امتلاكها، ففي كون الإرادة الحرة أمرًا يقصد وغاية تدرك، تأكيد على أن في بدء طلب الإرادة الحرة، يقف الواجب، فيكون بمثابة العلّة الأولى في مراقي التقدّم نحو الإرادة، وهذا إنما يعيد الأمر إلى بداية الإشكال الكانطي: لمن الأسبقية، هل هي للدين أم للأخلاق. أقول: فضلاً عن شبهة المقايسات الكانطية الدينية كما أشار إليها شوبنهاور(2)، إن الأسبقية باعتبار الإرادة الحرة هي مكتسبة وليست تكوينية تكون الأسبقية للدين، وتكون الأخلاق غايته؛ بل إن كانط بإصراره على فكاك الأخلاق عن الدين، وجعلها منبثقة من الإرادة الحرة وليس الواجب ولا حتى الغاية، يكون قد رام حلّ مشكلة الجمود

ص: 369


1- سورة آل عمران: الآية 61.
2- الأمر هنا أشبه برجل راقص امرأة في حفلة تنكرية قبل أن يكتشف في نهاية المطاف أن من كان يراقصها هي زوجته وليست امرأة أخرى. وقد وصف شوبنهاور الطريقة الكانطية بلعبة ساحر وماهر في خفة اليد. وهي تهمة تشبه إلى حد ما تهمة كانط نفسه لمن حاولوا تعديد الدليل على وجود الله، بين الكوني والأنطولوجي، فيما هو دليل واحد. ومع ذلك فإن كانط في نظر نيتشه لم يطلع من اللاهوت. فهو «مع ذلك، فهذا العدمي ذو الأحشاء المسيحية الدوغمائية، قد فهم الفرح كمعارضة». (إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 41.)

الديني الكنسي بما هو أدعى للاستشكال. هذه الدعوى الغارقة في مثلها الأفلاطونية، تستبعد الأطر الاجتماعية والإكراهات الواقعية التي تجعل الفرد غارقًا في ضروب من الضرورات، ولا يتسنّى له الفكاك منها إلا توسلاً بأسباب خارجية، ولا تحقق لذلك بوجود الواجب في أساس الفعل الأخلاقي. وليست الأخلاق معلولة دائماً للإرادة الحرة؛ بل إن الإرادة الحرة معلولة بالضرورة للفعل الأخلاقي، وتنمو بنموه، هذا ما يجعل العلاقة بينهما علاقة تأثير متبادل. على أن في أساسهما يقع الواجب والضرورة؛ بل إن الحديث عن الإرادة الحرة وانتفاء الواجب والضرورة والغاية من الفعل الأخلاقي، دعوى لعالم خارج منطق الاجتماع وإكراهاته، دعوى إلى أن يكون الناس أخلاقيين أو لا يكونوا، باعتبار هذه العبارة تعني لنكن معصومين أو لا نكون!؟ فالقانون الأخلاقي الكانطي، هو قانون مجعول للآلهة وليس للبشر ! أليس الطريق إلى الحريّة يتطلب انتصارًا على مسلسل ،الضرورات، وهذا يتطلّب إكراها يمكن الذات من التدريب والتمرن على الإقتدار ؟ فالأحكام مداخل وليس نهايات. ومتى نظر إليها كنهايات وطقوس، صح حينئذ الموقف الكانطي الذي لم يضف جديدًا على الاستشكال الإسلامي نفسه ضد أزمة الأديان السابقة، وإن جاء الحل الكانطي غاية في الحيرة.

2 - مبدأ الكتاب المهيمن

ليس مفاد الهيمنة هنا محض الحكومة القاضية بترجيح اللاحق على المتقدّم، وقد قلنا سابقا إن الحدث الإسلامي هو انقلاب على تاريخانية التمأسس الديني وتَشَخصُنه وتمركزه العرقي أو المجالي؛ بل هو حركة باتجاه المطلق والكوني؛ إذ كلّ ما في فحوى الكتاب الخاتم، وحتى ما يبدو تمركزا، هو تمحور وسطي كوني، تحول يعكسه تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كحدث شاهد على الأصل الواحد للديانات، حيث إبراهيم أبو الأنبياء الذي رفع القواعد من البيت كتموقع يتوسّط المعمورة، راسما مركز الكونية الجغرافية، وتتابع حركة بحركة الفلك الدوار في أثناء الطواف، حيث ترسم هذه الحركلة اندماجا في الكونية الطبيعية في حراكها الزمني،

ص: 370

على أن الطواف يرمز إلى الحركة الدائرية، بوصفها أكمل الحركات وأتمها . إن مبدأ الكتاب المهيمن إشارة إلى مفهوم الحكومة، بمعناها الذي يفيد «النسخ»؛ أي إحكام المتشابه - كلّ أنواع المتشابه - سواء أكان مصدر «المتشابه» جهلاً أم تحريفا أم نفاذ حكم مجعول على نحو المؤقتية أم الحكم النسبي. مصححا شاهدًا وفاضحا، حيث تشكّل وسطيته بين الشريعاتية المجرّدة (التوراتية) والروحانية المجردة (الإنجيلية) تداخلاً واندماجا بين الروحي والشرائعي، على نحو يوحي بحكومة الدين الخاتم الجامع لنسق الروحي والشرائعي معا على ما تحقق مجتزءاً في ما سبق. وبهذه الهيمنة، يدفع التمركز الديني الكانطي - المسيحي، مثالاً واستشكالاً، بفكرة الكتاب

- المهيمن الحاكم الناسخ؛ حيث لا مركزية للسابق المجتزئ على اللاحق المكمّل الناسخ.

3 - مبدأ الخاتمية

لا إطناب في صدق دعوى الخاتمية، حيث يمتنع بداهة أن يتمركز الآني والمحدود على المستمر والكوني. وليس ثمة ما يؤكد على دعوى الخاتمية في ما سبق، حيث كلّ ما هنالك يدعو للآنية والمؤقتية والتداولية المحصورة ، وكونها بشرت بورود أنبياء جدد يعد دليلاً على هذه المؤقتية. ولا واحدة من تلك جعلت الخاتمية أميز ما يميزها غير الإسلام. وهي ليست دعوى مغلقة؛ بل مفتوحة لا تقيم دعواها على غير البرهان [ قُل هاتُوا بُرهانكُم] . دعوى خالدة، كونية، لا تلوذ بالمنغلق؛ بل قوتها واستقواؤها بالكوني والبرهاني، والدعوة المفتوحة، لا بالمراوغة وشراء الذمم؛ بل بقهر الدليل والحوار المفتوح، وبكل الوسائط الدليلية الممكنة. تلك الأدلة التي تبدأ بالحجاج وتنتهي إلى الإعجاز من الكلمة السواء إلى المباهلة، فالحجة هي الدليل، لا الترديد!

عود على بدء

لا تبرح استشكالات كانط الدينية والأخلاقية الآتي:

لا يمكن للأخلاق أن تنهض إلا على الواجب، وهذا الواجب، أساسه إرادة

ص: 371

حرة منطلقة، لا جبر يحددها من الخارج، فلا يمكن أن تكون الأخلاق نابعة من الضرورة، ولا يمكن أن تكون غائية قاصدة باعثها المنفعة. إن المأزق الذي دعا كانط إلى رفض المتعالي الخارجي وافتراض الأمر المطلق، هو رفضه للضرورة في إتيان الواجب، ورفضه للمقاصد في الفعل الأخلاقي، حتى وإن كانت علاقة الاقتران بين الفضيلة والسعادة، هي علاقة جدارة، لا علاقة علية. إذا كانت فلسفة الخطيئة قد شكلت عبئًا على الدين المسيحي، ما جعل كانط يستشكل دينيا وأخلاقيا من داخل أنموذجها ، فإن الإسلام بوصفه ضامن كونية الدين ووسطيته يخطئ كلّ افتراضات واستشكالات كانط، حيث مرادنا هنا، أن نجيب عن استشكالات كانط الأخلاقية والدينية من دون أن يدعونا ذلك إلى انقلاب كوبرنيكي أخلاقي، أو التنكر لفكرة الضرورة ولمداخل الأخلاق وضرورات الترقي بالنوع من مستوى ال«لستم».

جدل الضرورة والحرّية في إتيان الواجب

لا نعقد هنا مقارنة بين الدين المسيحي والدين الإسلامي، من حيث هي مقارنة خاطئة، اللهم إلا إذا أخذنا المسيحية كصيرورة تاريخية مستوعبة في «الإسلام» بالمعنى العام، لا الخاتمي الخاص، الذي هو محتواها - هكذا هي دعوى الإسلام نفسه، حيث الدين عند الله الإسلام - ، على أن دعوته إلى الكلمة السواء،هي دعوة للقبض على الأصول الإسلامية في الديانات السماوية، باعتبار الإسلام هو مبدأها ومنتهاها. من هنا، يجري الحديث عما استقر في الاعتقاد المسيحي، وكيف مارس الإسلام مبدأ الإحكام والهيمنة الناسخة عليه، كاشفًا بذلك عن أن الإسلام يضمن دفع التمركز المسيحي الكانطي بإعادة النظر في مضمون «الخطيئة» - المركزية في الدين المسيحي - في مقابل الفطرة التي تشكل مبدأ ومنتهى ما يبلغه المرء. فالإنسان لا يولد محمّلاً بوزر الخطيئة؛ بل يولد على الفطرة. تفترض الخطيئة وجود كائن شقي يلتمس خلاصه الصعب، في حين تفترض فكرة «الفطرة» وجود كائن يتطلب الحفاظ على نقاوته المعطاة. يسعى الكائن الحامل عبء الخطيئة إلى مقاومة مزدوجة؛ إغواء الشيطان والانتقام الإلهي؛ إذ تبدو ملحمة الخلاص هنا بوجهيها الفاوستي

ص: 372

والبروميتيوسي، ملحمة انعتاق إنساني مقذوف به في متاهة منزوع عنها اللطف، وكل ما من شأنه تيسير سبل الوصول لكائن ذنبه الوحيد أنه رهينة خطا أبيه. هذا فيما سعى الكائن الطالب النقاوة الفطرية إلى مقاومة الشيطان في ممشى موسوم بالمحرابية؛ إذ ليس للخطايا أي اعتبار إلا بقدر الإصرار والنية الخالصة. فالخطايا ينسخها العمل الصالح، والتطهر منها يكون بإعلان مقاومتها. إن قيمة العبادة في هذه المحرابية التي يظهر فيها العبد تعبويته الروحية باتجاه الهدف، وهذه النقاوة التي يسميها كانط «النية» (intention)، هي قيمة الفعل الأخلاقي والديني للعابد المسلم، وهو فعل قابل للتصرف، وليس فقط مجاله الرهبنة.

يتنزل الكائن في المنظور المسيحي محملاً بخطيئة «أب» خدعه الشيطان، وأغوته المرأة، ويتنزل الكائن في المنظور الإسلامي محملاً بأمل صرف لاستعادة الصعود، وليس في ذاكرته شيء من خطيئة الأب، سوى عبرة يفيد منها كما أفاد أبوه وتحقق خلاصه بالاستغفار والاستعصام من غواية الشيطان: [ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى] !

فالأب يضحي في أولى تجارب الخلق من أجل الأبناء، وليس الأبناء هم من يرتهنون لخطيئة الأب، بهذا يعاد إخراج الخطيئة إسلاميّاً، تقويضًا لنزعة باترياركية، ثاوية في صلب فلسفة «الخطيئة»، هذه الأبوية التي تتضخم وتتأسس في منشأ عقدي مسيحي ارتقى بخطيئة الأب إلى أن يجعل منها مأزقًا أنطولوجيا. ففي منطق العدالة الإلهية التي هي المثال عن العدالة الاجتماعية والكونية -«ومن كلّ شيء موزون»- ليس له من ذكرى أب خاض امتحانًا وكالة عن النوع، ونزل لاستئناف رحلة الاستخلاف إلى جوار إمرأة ليس له من فضل عليها في موازين الحساب، إلا التقوى المتاحة بالتساوي لكليهما.

ففي دنيا كائن مزدوج الميول ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّنَهَا فَأَهْمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَنَهَا﴾(1)

لا يمكن الحديث عن إرادة حرة، يستعصم بها الكائن من دون إثارة من الخارج، تذكره بالميثاق أو تثير له دفائن عقله المكنون، تصبح الضرورة علاجًا من أدواء الغفلة

ص: 373


1- سورة الشمس: الآيتان 8-7 .

والنسيان، فالضرورة ها هنا، مدخل للتحرّر لا علة له كما يتوهّم كانط. الضرورة هنا لا تنتج الحرية؛ بل تضطر الكائن إلى أن يبرح سبل الإكراه ليقف على طريق التحرّر ، فالضرورة هنا تدفع الضرورة، وهي لطف خارجي لتبديد إكراهات النزول . ودفع الضرورة بالضرورة خطوة في طول التحرر . فإذا أمكن رفع عبء الخطيئة من الضمير، أمكن تحرير «المتخلق» ودفعه إلى حيث الامتثال الخالص، الذي قوامه المعرفة الخالصة والاندماج في مقام ال- «الستم» . وهو ما حكى عنه سيد العارفين علي بن أبي طالب قائلاً: «وقوم وجدوا الله أهلاً للعبادة فعبدوه {لا طمعا في جنته ولا خوفًا من ناره] فتلك عبادة الأحرار»!

هكذا أمكننا إدراك جدل الضرورة والحرية؛ إذ لا مفر من اجتياز مقامات الاضطرار قهراً في عبادة العبيد أو نفعًا في عبادة التجار، إلى مقام العرفان والوجد عبادة الأحرار.. وكلّها مقامات يتيحها التصوّر الإسلامي باعتبار عالم الخلق هو عالم كثرات وتنازعات ونزولات وصعودات، فبمقتضى الواقعية الأخلاقية أرقى : إلى الخلق بالحق. فعالم «كانط» الأخلاقي هو عالم صوفي خالص، لا يمكن تحققه إلا في اليوتوبيا الكانطية، وضامنها العقل النظري، فالتحرر من عبودية العبيد والتجار، وطلب عبودية الأحرار - التي هي الصبغة التي قصد إليها كانط، وتطلب منه الأمر إحداث انقلاب جذري في العقل وفلسفة الأخلاق - هو فعل كدح مستدام.

***

حينما تغدو الأخلاق بلا قصود

إن طلب القصود لا ينفي خلوص الامتثال، فإذا كانت الأخلاق مشككة تشتدّ وتسترخي بحسب جهد المتخلّق أو بحسب حال ملكته في التضعف والاشتداد، في الفورية والتراخي، فإن القصود تبع لها في التشكك. إذا كان العبد يطلب منفعته فی الفكاك من النار، أو إذا كان العبد التاجر يطلب منفعته في جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإن العابد الحرّ يطلب منفعته في لذة

ص: 374

الرضى والفناء وشتان ما بينهما، وإن كان القاسم المشترك هو ذاك الإصرار على طلب لذة، وإن بدت رمزية، فهي لدى العارف مما لا يقاس بلحم طير مما يشتهون؛ بل هي غاية في المتعة، يرى العارف أن الملوك لو أطلعوا على ما هم ونظراؤهم عليه من حسن الاستمتاع ، لجالدوهم عليه بالسيوف. فماذا لو أدرك هذا الرهط ممن قيّده علوق الأبدان والأشباح، وحجبت عنه صقع العقل في منتهى تجرده، حتى كان زهده في الدنيا والآخرة معا، طلبًا لصاحبهما، فتستوي الدنيا والآخرة في مداهما التعلّقي العنصري الطبيعي والمثالي الأفلاطوني الشبحي، أمام هذا السفر في التجرّد المحض، فتظلّ «اللذة» ثاوية في صلب «التخلق» نفسه، ولا عليك بعد ذلك إن كان كانط قد استبعد السعادة من الفعل الأخلاقي؛ إذ سرعان ما انتهى إلى تأكيدها على نحو من العلقة الاقتضائية، فالفضيلة مهما انفصلت، ستتحد بلا شك مع السعادة،فيغلب الاتصال على الانفصال والالتئام على الشرخ. وعليه، فلا مجال لرفع الضرورة أو القول بمزاحمتها للفعل الأخلاقي، ولا مجال لرفع القصود عنه؛ إذ لا تنافي بينهما. هكذا نستطيع بمثال «الدين الخاتم» أن ندفع التمركز الديني المسيحي وعبء الخطيئة بوصفه الدافع المؤسس للانقلاب الكانطي. على أن محايثة الفعل الأخلاقي للدين هي دعوى إسلامية؛ مبدأها: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومنتهاها «الدين المعاملة»!

فالقول بدین خالص مجرّد لا تاريخي ولا موضوعي، مع ارتفاع الضرورة وانتفاء القصد، يجعل من الأخلاق الكانطية أخلاقاً لعالم ليس عالم «خلق»؛ بل عالم حق بلا خلق . ولعله عالم عمائي بلا «حق» ولا «خلق»!

لا یری كانط أي علاقة بين الإرادة الخيّرة والقصود النافعة، فالإرادة الخيرة هي خيرة في ذاتها، لا بما يترتب عليها من آثار نافعة. وهكذا حاول كانط أن يقطع نهائيا مع التصوّر الأخلاقي السائد، سواء في فلسفات الأخلاق القائمة على مفهوم اللذة والسعادة، أو الرؤية الدينية التي تشاركها التصوّر نفسه. فهذا إلى حد ما صحيح، باعتبار أهمية «النية» في الفعل الأخلاقي والديني، تلك النية التي حولتها غلبة

ص: 375

الطقوسية والشكلية على روح الأخلاق والدين إلى ضرب من النفاق. لكن، هنا نلاحظ مدى تأثير الواقع الديني الفاسد الذي عاصره، كانط وجاءت فلسفته الأخلاقية کرد فعل عليه، ما أفقده توازنه وموضوعيته. على أن ثمة رؤيتين على مستوى واحد من الخطا؛ رؤية ترى أنّ الأعمال تُقَوَّم بالنيات الخالصة فحسب، ورؤية ترى أنّ الأعمال تُقَوَّم بالمصالح النافعة فقط، وثمة رؤية متوازنة للأخلاقية الإسلامية الخاتمة والوسطية، تقبل بالشرطين معًا: شرط النية الخالصة وشرط الإتقان في العمل والاجتهاد في تحقيق العمل.

ولا شك في أنَّ كانط، كما لاحظ ذلك شوبنهاور، يفرّق بين الباعث والمصلحة، على أنَّ المصلحة نفسها هي الباعث على الإرادة، فلا يخلو فعل من الأفعال من باعث، هو المصلحة. وكأن شوبنهاور يؤكّد القاعدة الشرعية الإسلامية نفسها؛ حيثما وجدت المصلحة فثمة شرع الله. على أنَّ هذه المصالح ليست بالضرورة ظاهرة ولا آنية؛ بل قد تخفى إلى حين، فتظهر فى آثارها الآجلة.

إن ما يبدو للناظر في الفلسفة الأخلاقية الكانطية - وكما كشف ناقده الأول شوبنهاور - أنها أخلاق لم تستطع - على الرغم من ادعاءاتها - الانفصال عن الدين بل لقد سقطت في ضرب من الاستبدال ؛ بحيث أسقطت كلّ معاني الدين على القانون الأخلاقي، كما أذعنت لفكرة «الله»، وإن كانت جعلت منها مسلّمة للعقل العملي. والحق، أن المبدأ الأعلى للخلق، هو ضرورة، ليس لعجز العقل عن الاستدلال على وجودها؛ بل لأنه واجب الوجود الذي لم تخف آثاره حتى يحتاج إلى معرف ودليل، فهو ضروري المعرفة، وهذا يثبته دليل الصديقين. وقد عجز كانط عن أن يثبت ذلك في بحثه عن الدين العقلي، بوصفه تجريدات أخلاقية محضة! لقد بالغ حينما دعا إلى دين خالص مجرّد لا يتجسّد فى رموز وسلوك ظاهر، إنه ضرب من النيات المجردة غير الآبهة بالآثار العملية الدالة على نقاء النية والإرادة الحرة، وهذا أمر يتعذر استيعابه في ممالك البشر وطبائعهم، حيث لا ينهض الاجتماع إلا على أساس المصالح والخير المتحقق في الخارج. إذا كان الإسلام الخاتم يحتفل بالنيات، فلأنه يراها

ص: 376

شرطًا للفعل الاستخلافي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالمصالح أو ما يسميه القرآن: [ مَا يَنفَعُ النَّاسَ] ! ، ولا تكون الأحكام والشرائع رسومًا مجردة إلا حينما لا تتكامل مع إمحاض النيات. وهذه الأخيرة لا معنى لها إلا بما تحققه من امتثال أيضًا، فالأحكام هي مداخل للأخلاق، كما إن الأخلاق هي مصاديق مشخصة للنيات.

بقدر ما تنزع المثالية الصرفة التي جعلت القانون الأخلاقي الكانطي خاليًا من أيّ باعثية، ولو كانت خيرًاً محضًا، إلا أن تكون باعثية في ذاتها، بقدر ذلك تتهاوى المثالية المذكورة إلى سفح الريبية من الحالة المثالية الضامنة لتحقق الواجب الأخلاقي. حيث أنزل الأخلاق من كونها حالة مثالية إلى كونها قانونا بلا ضمانات ولا محفزات، مع أنها بهذا المعنى لا يمكنها أن تتحول إلى قانون، حيث القانونية تجعلها حالة قهرية وحتمية ، اللهم إلا إذا اعتبرنا الإنسان كائنا أخلاقيًا كما یریکانط بحسب هذا التحليل، وهو تعريف خاطئ لأسباب عالجناها في مورد غير هذا المورد. ولكن لنقل باختصار: لسبب بسيط ، هو أن الأخلاق نفسها تجلَّ للعقل، فكل مرتبة عقلية تكشف عن خلق .

وأخيراً : هل لنا أن نشكك في قوة المعمار الفلسفي الكانطي؟

كلا.. ليس ذلك غايتنا، حيث ليس له نظير في تاريخ الفلسفة الحديث انتظامًا وسعة ومتانة، لكنه أيضًا يظلّ المتاهة الأكثر مدعاة للحيرة، ولذلك وجب نقد الكانطية.

ص: 377

اشكالية الحرية في فلسفة كانط

بين الفهم الترانسندنتالي والفهم العملي

زيد عباس الكبيسي

المقدمة

يتناول هذا البحث مشكلة فلسفية مهمة، تتعلق بمفهوم الحرية، عند الفيلسوف أيمانوئيل كانط، وهي المشكلة التي اتخذت طابعا إشكاليا، بين نوعين من الحرية هما (الحرية العملية، والحرية الترانسند نتالية). فالحرية عند كانط هي مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن تفسيره أو تبريره من خلال الواقع. وهي في ذات الوقت وردت في النقائض العقلية الكانطية، حيث احتلت الحرية مكانة النقيضة الثالثة بينها، بوصفها مفهوماً علياً يجب التسليم به لتفسير السببية في (القضية)، ولكن في (نقيض القضية) فأنه ليس هناك من حرية، وإن كل ما يحصل انما يحصل وفقاً للطبيعة.

ولما ورد تحليل كانط الأكثر تفصيلا عن الحرية في كتابه (نقد العقل العملي)، وحاول من خلاله البرهنة على أن معرفتنا للقانون الأخلاقي توجب علينا أن نكون أحرارا (من وجهة نظر العقل العملي). فإن النقد الأول (نقد العقل النظري) والذي يصف قوانين الطبيعة والشروط الترانسدنتالية للتجربة، صار ما يمكن ان نعده تمهيداً

ص: 378

لذلك المطلب. ولأجل الحفاظ على حجته حول حقيقة الحرية من وجهة نظر العقل العملي، توجب على كانط أن يُظهر أن الحرية ليست مستحيلة من وجهة نظر العقل المحض، على الرغم من استحالتها في نقيض القضية الثالثة. لذا كان على النقد الأول ان يلعب دورا جوهريا في فلسفة كانط الأخلاقية من خلال توظيف المثالية الترانسند نتالية لإثبات أمكانية التوافق بين الحرية الترانسندنتالية مع الطبيعية، والعلاقة السببية التجريبية. ولكن هذا الفهم الترانسندنتالي للحرية يصطدم مع تصور اخر لمفهوم الحرية يعارض الأول تماما، یورده كانط في النقد الثاني، هو ذلك المفهوم من الحرية المتصور من ارتباطه بالارادة والممارسة الاخلاقية المحكومة بالواجب الاخلاقي. تلك الطبيعة الاشكالية لمفهوم الحرية عند كانط والمتمثلة بعلاقة الحرية بالسببية والطبيعة من جهة، وعلاقتها بالإرادة، وبالقانون الأخلاقي والواجب من جهة اخرى، حفزتنا للبحث عن ما يمكن ان يوصلنا إلى طريقة لإنتاج تصور لمفهوم الحرية عند كانط يمكن ان تحل به تلك الاشكالية من خلال الكشف خلال الكشف عن طبيعة تلك العلاقات التي ارتبط بها مفهوم الحرية مع المفاهيم الأخرى المؤسسة للنص الفلسفي عند كانط .

السببية وعلاقتها بالحرية والطبيعة:

قسم كانط ميدان الفلسفة إلى مجالين هما الطبيعة والحرية(1). فيقول: ((إن التشريع العقل البشري (الفلسفة) موضوعين: الطبيعة والحرية، فهو يتضمن من ثمَّ قانون الطبيعة مثلما يتضمن قانون الأخلاق، في البداية في نظامين خاصين وفيما بعد في نظام فلسفي واحد. وتدور فلسفة الطبيعة على ما هو كائن، وفلسفة الأخلاق فقط على ما يجب أن يكون))(2). وقد انعكس مفهوم الحرية عند كانط من خلال مفهومه للنقد، فالنقد ليس رفضاً لجميع القيود وتخطياً لجميع الحدود، بل إنه أثبات للحدود. فهو لا يهدف إلى التوسيع بقدر ما ينشد شروط الصلاحية. ولا يتعلق الأمر

ص: 379


1- Henry E. Alison. Kant's Theory Of Taste. A Reading Of The Critique Of Aesthetic Judgment.Modern European Philosophy. Cambridge University Press. P. 201. 202
2- عمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مشروع مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي، رأس بيروت - لبنان، 1988، ص 400، 401.

هنا بالرقابة، وإنما بنقد العقل. وهذا النقد لا يكتفي بإثبات حدود لعقلنا، بل يبين نهايات معينة. فلا يكتفي ببيان جهل العقل فيما يتعلق بهذه النقطة أو تلك و إنما يعين جهالته فيما يتعلق بجميع المسائل التي هي من نوع معين(1).

ويجب التفكير بالحرية الترانسدنتالية بوصفها مستقلة عن كل ما هو تجريبي، وعن الطبيعة بشكل عام ، فننظر لها بوصفها موضوعاً للحس الداخلي في الزمان أو موضوعاً للحس الخارجي في كل من الزمان والمكان معاً. ومن دون الحرية الترانسدنتالية بمعناها المناسب الذي هو فقط عملي قبلي فلا قانون الأخلاق ولا المسؤولية يكونان ممكنين(2).

لقد كانت المشكلة الأساسية في الفلسفة المتعالية، هي دراسة إمكان وجود أحكام فيزيائية ذات طبيعة تركيبية أولية، وأهم هذه الإحكام التي توصل إليها كانط هی (السببية). فالسببية عنده حكم تركيبي لا تحليلي، لأن التجربة لها دور في صياغة هذا الحكم الذي يركب معرفة جديدة من عناصر توجد بالخارج. وعند كانط كل قضية يُنظر لها على أنها ضرورية فهي حكم أولي. وكل قضية يُنظر لها على أنها كلية (أي لا تأتي من التجربة) فهي حكم أولي أيضاً(3). ولهذا فالسببية مبدأ تركيبي أولي، وكل التغيرات تتم وفقاً لهذا المبدأ . إذن مادامت التجربة لا تعطي المشروعية المطلوبة لمبدأ السببية، إذن سيفرضها الذهن البشري نفسه(4).

إن مفهوم السببية كضرورة طبيعية غير مماثل لمفهوم السببية بوصفها حرية . فالضرورة الطبيعية تختص فقط بوجود الأشياء كونها محددة في الزمان، ومن ثمّ بوصفها علتها. فإن افترضنا أن الأشياء الموجودة في الزمان هي صفات الأشياء بذاتها -على ما يفعل اسبينوزا) فالضرورة في العلاقة السببية لا يمكن على أي نحو أن تكون

ص: 380


1- عبد السلام بنعبد العالي، الميتافيزيقا العلم والايديولوجيا، دار الطليعة - بيروت، 2،1980، ص 41، 42.
2- فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصر العربية للنشر والتوزيع - القاهرة، ط1، 2001، ص 66.
3- Timothy James Aylsworth. Freedom In Kant's Critical Philosophy: Keystone Of Pure Reason. May 2010.P.1.
4- إلياس بلكا، الوجود بين السببية والنظام، المعهد العالمي للفكر الاسلامي - هرندن - فرجينيا - الولايات المتحدة الامريكية، ط 1 ، مكتب التوزيع في العالم العربي بيروت - لبنان، 2009، ص 127 - 129.

متحدة بالحرية، ذلك لأن كليهما في تناقض مع الآخر. فعلاقة السببية تدل على أن كل حدث، أو فعل يحدث في لحظة معينة من الزمان هو فعل ضروري بمقتضى شرط سابق له، وطالما لا نقدر على التحكم في الماضي فكل ما نفعله بالضرورة بسبب شروط محددة لا تكون في قدرتي. (أي إننا في ذات الوقت نفعل و لا نكون أحرار ...)فإذا كان نصف الفرد الموجود في الزمان بالحرية، فإن ذلك يعني أن وجوده متضمن في أفعاله، وأفعاله باعتباره موجوداً في الزمان لا يمكن أن تكون مستثناة من قانون الضرورة الطبيعية، فالحرية تكون تصوراً مستحيلا(1).

وفي هذا يرى كانط أن: ((لا علاقة لمفهوم السببية بوصفها ضرورة طبيعية، مقابل مفهوم السببية بوصفها حرية، بوجود الأشياء إلا من حيث إن هذا الوجود للأشياء هو قابل للتعيين في الزمان كظواهر بمقابل عليتها كأشياء في ذاتها. والآن، لو أخذنا تعيينات وجود الأشياء في الزمان على أنها تعيينات للأشياء في ذاتها (وهي صيغة تمثلها الأكثر شيوعاً)، لكان من المحال عندئذ الجمع بين الضرورة والحرية بعلاقة العلية بأي شكل من الأشكال؛ بل على العكس هما معارضان الواحد للآخر بوصفهما متناقضين، لأنه ينتج عن الأولى أن كل حدث ومن ثم أيضاً كلُّ فعل يحصل في نقطة من الزمن إنما يقع حتماً تحت شرط ما كان في الزمن السابق عليها. والآن، ولم يعد الزمن الماضي تحت سيطرتي، فإن كل فعل أقوم به لا بد من أن يتم بالضرورة بأسباب معينة ليست تحت سيطرتي، أي إنني في اللحظة التي أفعل فيها لست أبداً حراً. وبكل تأكيد، حتى لو اعتقدت أن وجودي بأكمله هو مستقل عن أي علة غريبة (مثل الله)، بحيث لا تكون الأسباب المعيّنة لعليتي، وحتى لوجودي بأكمله من خارج عني على الإطلاق، فإن هذا لن يحوّل ولا بأقل شئ تلك الضرورة الطبيعية إلى حرية. والسبب في ذلك هو أنني لا أزال أقف في كل نقطة من الزمن تحت ضرورة أن أكون معيناً لأن أفعل بما ليس تحت سيطرتي، أي إن سلسلة الأحداث اللا متناهية من جهة ما قبل(Parte Priori)لا يمكنني إلا أن أكملها على وفق نظام

ص: 381


1- فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصدر سبق ذكره، ص 66.

محدد مسبقاً، وهي لا تستطيع أبداً من عندها، فتكون سلسلة طبيعية متواصلة، ولهذا السبب تكون الحرية عليتي إطلاقاً))(1).

وبناءً على ذلك سيكون هنالك نوعان من السببية، واحدة وفقاً للطبيعة وأخرى بناءاً على الحرية:

الأولى هي اقتران حالة بحالة سابقة تليها بموجب قاعدة في العالم المحسوس. (لكن بما أن سببية الظاهرات تستند لشروط زمنية، وكذلك الحالة السابقة ما كانت لتولّد مسبباً يرى النور لأول مرة في الزمان لو كانت قائمة دائماً، فسبية سبب يحدث أو يتولد تكون هي الأخرى قد تولدت أيضاً وتحتاج بدورها وفقاً للمبدأ الفاهمي إلى سبب).

والثانية على العكس، نفهم بحرية (بالمعنى الكسمولوجي) قدرة الواحد على البدء من ذاته حالة لا تخضع سببيتها بدورها لسبب آخر يعينها من حيث الزمان وفقاً للطبيعة. فالحرية كما يقول كانط: ((بهذا المعنى فكرة ترنسندنتالية محضة لا تتضمن بدءاً أي شئ مستمد من التجربة، ولا يمكن لموضوعها ثانيا، أن يعطى بتعين في أي تجربة ، لأن (كل ما يحصل يجب أن يكون له سبب) و (سببية السبب التي هي نفسها حاصلة أو متولدة، يجب أن يكون لها بدورها سبب) قانون كلي، بل قانون إمكان كل تجربة؛ وبه يتحول كامل حقل التجربة، وباعداً ما بَعد، إلى جملة من مجرد طبيعة))(2). وبما انه لا يمكن التوصل لاكتشاف أي جملة مطلقة للشروط في العلاقة السببية، فالعقل يبتدع فكرة عن تلقائية يمكن أن تبدأ من نفسها الفعل، من دون أن يسبقها سبب آخر يُعيّنها بدورها للفعل وفقاً لقانون الاقتران السببي(3).

إذن يقدم كانط تفسيراً سلبياً للحرية يرى انه لا يثمر في فهم ماهيتها بقوله: ((إن

ص: 382


1- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت - لبنان، 2008، ص .174،173.
2- عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة مصدر سبق ذكره، ص 272،273.
3- المصدر نفسه، ص 273.

الإرادة نوع من العلية تتصف به الكائنات الحية، من حيث هي كائنات عاقلة، والحرية ستكون هي الخاصية التي تتميز بها هذه العلية فتجعلها قادرة على الفعل وهي مستقلة عن العلل الأجنبية التي تحددها: مثلما أن الضرورة الطبيعية هي الخاصية التي تتميز بها العلية لدى جميع الكائنات غير العاقلة التي تجعل فاعليتها تتحدد بتأثير العلل الأجنبية عنها))(1). فالحرية يمكن أن تُعرّف سلبياً بأنها خاصية الإرادة في الكائنات العاقلة لأن تفعل مستقلة عن العلل الأجنبية، أي إن الحرية هي الصفة التي تتصفُ بها الإرادة العاقلة في قدرتها على الفعل من دون تأثير من الأسباب الأجنبية. ويمكن أن تُعرّف الحرية إيجابياً بأنها تشريع الإرادة لنفسها بنفسها(2).

ولكن هناك تصوراً ايجابياً عن الحرية ينبثق عن ذلك التصور السلبي، ويفوقه غناه وخصوبته. حيث يقول كانط : ((انه لما كان تصور العلية ينطوي على تصور القوانين التي تقتضي بالضرورة أن نسلم عن طريق شيء نسميه علة، بشيء آخر نسميه نتيجة، فإن الحرية على الرغم من أنها ليست في الحقيقة خاصية تتصف بها الإرادة وفقاً لقوانين الطبيعة، لا يمكن أن توصف لهذا السبب بأنها مجردة عن كل القوانين، بل الأولى أن يُقال إنها يجب أن تكون علية تسير في أفعالها وفقاً لقوانين لا تتحول، وان كانت هذه القوانين من نوع خاص، وإلا لكانت الإرادة الحرة شيئاً محالا))(3).

فالفهم الايجابي للحرية يجب ألا نعطيه للاستخدام النظري إذ ليس من المفروض أن تُبين الحرية الإيجابية أن الشر الأخلاقي ليس عقلانياً جداً بحيث إنه مستحيل. في الحقيقة، لا يقترح كانط أننا يجب أن نشرح الأفعال نظرياً بإحالتها إلى الخيار الحرّ للبديهيات في عالم ذكي. إن دور فكرة الحرية والعالم الذكي هي بالأحرى دور عملي. ذلك يعطي مفهوماً لنا يدفعنا نحو طاعة القانون الأخلاقي. فحرية الإرادة عند كانط لا يمكن تثبيتها نظرياً. إن تثبيتها يعني تحقيق معرفة العالم الشيئي وهذا

ص: 383


1- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي ، مراجعة عبد الرحمن بدوي، منشورات الجمل، ط1، 2002،ص145.
2- عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كانط، وكالة المطبوعات - الكويت، 1979،ص95.
3- أمانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 145،146.

شئ لا نملكه. يتم تأكيد حرية الإرادة ولكن كتفسير عملي وبذلك فقط من وجهة نظر عملية ولكن بالتأكيد، هناك إغراء بالقول ببساطة لا يمكن ردّ ذلك إلى العامل الأخلاقي الذي يجب تحفيزه بهذا المفهوم سواء كان الشخص في الحقيقة الفعلية حرّ أو مُصمّم ميكانيكيا(1).

ولعل ردّ كانط على هذا القلق الموجود في فكرة حقيقة العقل. يكمن في أن حقيقة العقل هي وعينا بالقانون الأخلاقي كأرضية مُحددة الإرادة. إذ يرى كانط أنه يمكن أن نعرف المبادئ العملية الخالصة بنفس الصورة التي نعرف بها المبادئ النظرية الخالصة بصلتنا بالضرورة التي يوجبها العقل لنا ولإزالتها من الشروط العملية التجريبية التي يوجهها العقل. وبذلك فإن القانون الأخلاقي يُقدم لنا بواسطة العقل حالما يُنشئ البديهيات للإرادة وهي التي تكشف حريتنا لنا. ويُظهر ذلك لنا بأننا قادرون على العمل حتى ضد أقوى ميولنا ورغباتنا، لأن هناك حالات موجوبة علينا . وأن الشخص الذي يدرس هكذا حالة (يحكم.... بإنه يستطيع عمل شئ ما لأنه يعرف أن عليه أن يقوم بذلك وهو يدرك بأنه حرّ - وتلك حقيقة من دون القانون الأخلاقي كانت ستبقى مجهولة بالنسبة لنا). لو وضعنا هذا سوية مع الجدل من العمل الأساس حول العمل بموجب فكرة الحرية فأننا سنصل إلى إمكانية الأخلاقية ذات البنية المعقدة في أننا :

يجب أن نعمل بموجب فكرة الحرية (على الأقل السلبي منها).

لذلك يجب أن نعمل على بديهيات نعتبر أنفسنا قد اخترناها.

بالجدل من التلقائية (أو بإزالة كل الظروف العملية التجريبية كما يوجهنا العقل)فإننا ننقاد إلى القانون الأخلاقي (المفهوم الإيجابي للحرية).

تعلمنا قدرتنا على العمل حسب القانون الأخلاقي بأننا (سلبياً) أحرار.

ص: 384


1- Christine M.Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Morality As Freedom. Harvard University. Cambridge University Press. P. 174. 175.

لو كان الأمر كذلك، فإننا أعضاء في العالم الذكي ولنا نداء باطني أعلى من إرضاء رغباتنا .

يعطينا هذا الحافز بأن نكون أحرار إيجابياً - وذلك أمر أخلاقي. ولكن كل هذا لا يزال عند مستوى التفسير العملي. تعني (4) و (5) سابقاً، إننا يجب أن نصدق بتلك الأشياء من أجل إطاعة المقولات(1).

ولكن هنالك ثمة عقبة تترصد الحرية من حيث إنها لا بد من أن تكون متحدة مع آلية الطبيعة في كائن ينتمي للعالم الحسي، وهذه العقبة لا تزال تهدد الحرية بالدمار الكامل. ولكن هنالك دائما أملا بمخرج سعيد لإقرار الحرية، كما يقول كانط. أي ((إن هذه العقبة نفسها تضغط بشدة كبيرة على المنظومة التي يُعتبر فيها الوجود القابل للتعيين في الزمان والمكان هو وجود الأشياء في ذاتها، فهي من هنا، لا تُرغمنا على التخلي عن أفتراضنا الرئيسي لمثالية الزمان مجرد صورة للعيان الحسي وهكذا مجرَّد طريقة لتمثل الأشياء الذي هو خاص بالفاعل بوصفه ينتمي إلى العالم الحسي، وهكذا فإن هذه العقبة لا تطلب منا سوى أن نوحد هذا الأفتراض مع فكرة الحرية))(2).

ولإزالة هذه العقبة كتب كانط قائلا:)) الآن لكي يرفع مظهر التناقض في الحالة التي أمامنا بين آلية الطبيعة والحرية في الفعل الواحد بعينه، يجب على المرء أن يتذكر ما قيل في نقد العقل المحض أو ما ينتج عنه من أن الضرورة الطبيعية التي لا يمكن لها أن تعيش سوية مع حرية الذات،هی ليست مرتبطة إلا بتعيينات الشئ الخاضع لشروط الزمان ومن ثمَّ فقط لهذا (الشي) الذي هو بمثابة ظاهرة للذات الفاعلة ومن هنا فإن الأسباب المعينة لكل فعل للذات إنما يقع حتى الآن في ما ينتمي إلى الزمان الماضي، وهو لم يعد تحت سيطرتنا ......))(3). ولكن من ناحية أخرى فالذات عينها

ص: 385


1- Christine M. Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Op. Cit. P. 175
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص182،181.
3- المصدر نفسه، ص 178.

تعي وجودها كشئ في ذاته محدد فقط عن طريق القانون المعطى لذاته خلال العقل، أي القانون الأخلاقي. وفي وجوده لا شئ يكون متقدماً عليه ومحدداً لإرادته. ((وعندما يكون السؤال عن قانون وجودنا المعقول القانون الأخلاقي، العقل لا يسلم بأختلافات زمنية ويسأل فقط عما إذا كان الحدث ينتمي لي بوصفه فعلاً لي، وعندئذ يرتبط بشكل أخلاقي بالشعور عينه، سواء كان الحدث يجري الآن أو منذ زمن ماض طويل فهو ليس إلا ظاهرة فردية في عين الوعي المعقول بوجودها أي الوعي بالحرية، وهذه الظاهرة تتضمن مظاهر الاستعداد الذي هو خاص بالقانون الأخلاقي فلا يجب أن يكون محكوماً بالضرورة الطبيعية التي هي مختصة به بوصفه مظهراً أو ظاهرة، ولكن محكوماً وفقاً للتلقائية المطلقة للحرية))(1).

ولا يدعي كانط أننا نستطيع أن نعرف أننا كمدركين بالعقل أو مواضيع شئ بذاته (نومین) نكون أحراراً بصورة ترانسندنتالية (أننا لا نكون نحاول أن نؤسس حقيقة الحرية) وفي الحقيقة يدّعي كانط أننا (لا نحاول حتى أن نبرهن الاحتمالية للحرية). وعلى الأرجح يأمل فقط أن يؤسس أن (الطبيعة على الأقل لا تتعارض بصورة سببية الحرية تماماً)، وهو لا يهدف إلى التأكيد على أن مفهومنا عن الحرية الترانسندنتالية محتمل في الواقع، بل فقط أن هذا المفهوم ممكن منطقياً(2).

ویرى من جانب آخر، أن إمكان الحرية وأن كانت تُهم السيكولوجيا، إلا أنه لا يوجد إلا الفلسفة الترنسدنتالية لتهتم بحلها، ذلك لأنها تستند لأدلة ديالكتيكية للعقل المحض وحسب. ولأجل جعل هذه الفلسفة قادرة على إعطاء جواب لا يُرفض حول المسألة، يجبأولاً تحديد المنهج الذي يجب إتباعه(3). ويرى أيضاً انه إذا كان لدى الوجود في العالم الطبيعي القدرة على تحقيق التغييرات في العالم فذلك مدرك بالعقل فقط، وليس موضوعاً للفطرية والعفوية. فإذن قدراته السببية وعلاقاته ربما

ص: 386


1- فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصدر سبق ذكره، ص 67.
2- Derk Pereboom.Kant On Transcendental Freedom. Philosophy And Phenomenological Research. Volume 73. Issu 3. November 2006. University Of Vermont. P. 6. 7
3- عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، مصدر سبق ذكره،ص274.

تبحث من خلال مظهريين (كشيء بذاته) له القدرة على الفعالية، وذلك هو مدرك بالعقل فقط (وربما كظاهراتي)، وستكون أفعاله محددة أو مقررة سببياً في العالم الطبيعي. ويتابع كانط بان هكذا وجود سيملك كلا من الصفة التجريبية التي تحدد كيف إن تصرفاته تتبع الشروط القبلية المؤقتة، ويملك الصفة المدركة بالعقل فقط التي تقود فعاليته العقلية كأنه شيء بذاته. وفي صفته المدركة بالعقل فقط فان أفعاله سوف لن تتبع السببية الناتجة من الشروط السابقة المؤقتة وفقاً للقوانين التجريبية. وبما أن له القدرة على أن يبدأ أفعاله من دون تحديد بشروط قبلية مؤقتة، فان هذا الوجود سوف يفي بشروط التعريف للحرية الترانسندتالية(1).

واعتماداً على هذا المبدأ يبني كانط البرهان الآتي في التوضيح أو التفسير:

بما أن المبدأ للسببية الطبيعية ينطبق من دون استثناء على كل الحوادث، فان الإرادة الحرة ممكنة أو محتملة فقط إذا أفعال الإنسان يمكن أن تكون معتبرة، تحت مختلف الوجوه، كأنها نتائج أو آثار لكل من التسبيب الطبيعي والقوة الحرة.

إذا كان الوجود في العالم الطبيعي له القدرة على أحداث أو أنتاج تغيرات فذلك هو مدرك بالعقل فقط وليس موضوع للفطرة أو العفوية، وقدراته السببية ربما تكون مدروسة تحت وجهين وسوف يملك كلا من الصفة التجريبية والصفة المدركة بالعقل فقط، کشئ بذاته تصرفاته سوف تكون موضحة في معنى من صفته التجريبية. بل كالشيء بذاته، نشاطه سوف يكون مسترشداً بواسطة المدرك بالعقل فقط (مثال المبادئ المعيارية أو القياسية)، ووفقاً لصفته المدركة بالعقل.

في صفته المدركة بالعقل هذا الوجود سيكون له القدرة على أن يبدأ الأفعال بصورة مستقلة عن الأمر بواسطة خضوعه لشروط قبلية مؤقتة، ولهذا سيكون حراً بصورة ترانسند نتالية.

ص: 387


1- Graham Bird، A Companion To Kant، Part Lll: The Moral Philosophy: Pure And Applied، 18، Andrews Reath، Kant S Critical Account Of Freedom، 2006، P.281

الكائنات البشرية تمتلك قدرات عقلية تلك هي المدركة بالعقل ولا تتعارض مع الفطرة. وهذه تبدو أنها تحصر القدرة أن تقود اختياراتها وأفعالها بمبادئ عقلية - وذلك هو أنها تبدو بقدر ما (عقل يمتلك السببية)، وهو القدرة على أحداث تغيرات في العالم، إذن كذلك، الكائنات البشرية تمتلك قدرة السببية تلك هی المدركة بالعقل وأنها ترضي المبدأ في (2) سابقاً، إن قدراتها السبية والعلاقات ربما تدرس تحت مظهرين وسوف تملك كل من الصفة التجريبية والعقلية.

من المفترض أن العقل هو القدرة السببية التي تستطيع أن تقود إلى الفعل (كما في 4 أعلاه)، إن الكائنات الحية هي حرة بصورة ترانسدنتالية في صفاتها العقلية (المدركة بالعقل). ولديها القدرة (الإمكانية) أن تباشر أفعالا خلال الممارسة لإمكانياتها العقلية، برغم أن هذه أفعال متشابهة يمكن كذلك أن تكون معطاة تفسيرات تجريبية بمعنى الحقائق السايكولوجية عن الوسيلة أو الأداة(1).

ولعل من أهم المتناقضات الكانطية أهمية وخطورة هو التناقض الموجود بين الحرية والحتمية. حيث حاول كانط حل هذا التناقض بالرجوع إلى تفرقته المشهورة بين الظواهر) الخاضعة للزمان والمكان. فالحياة الإنسانية مزدوجة في رأي كانط

فهناك:

الوجود الحسي المتمثل بالأفعال الخارجية التي تندرج تحت عالم التجربة، ولذا هي مترابطة كسائر الظواهر، متسلسلة وفقاً لقوانين الحتمية، ومن ثم يمكن اعتبار الإنسان مجرد ظاهرة.

لكن في ملاحظة أن هذه الأفعال ليست سوى رموز تعبر عن الخلق الباطن أي عن الذات الحقيقية، فان هذه الذات أو الأنا ليست باطنة في الزمان، بل هي عالية عليه، إذن إننا نخضع لقوانين الضرورة في جانبنا الخاضع للزمان ومتحقق بالتجربة، ولذلك ترتبط أفعالنا بالبواعث والدوافع السابقة عليها(2).

ص: 388


1- Graham Bird، A Companion To Kant، Part Lll: The Moral Philosophy, Op. Cit، P.281 ، 282.
2- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، سلسلة مشكلات فلسفية، ط 3 مكتبة مصر، 1972 ، ص 36.

فالحرية لا يمكن أن تشبه أي ظاهرة أخرى من أي نوع كانت، فهي من طراز مختلف كل الاختلاف. أما كيفية معرفتها؟ ف: ((معلوم أن من المسائل الرئيسية في فلسفة كانط أن الإنسان ليس قادراً على معرفة تجاوز حدود التجربة.... إننا لا نستطيع أن نصل إلا إلى موضوعات واقعة في الزمان والمكان، وبعبارة أخرى إنه ليس لدينا من منبع آخر للمعرفة الصحيحة سوى الحدس الحسي الخارجي أو الداخلي))(1). وهنا يجب دراسة مناقشة كانط للفجوة بين الطبيعة والحرية، وضرورة وجود إنتقال من طريقتنا في التفكير حول الطبيعة إلى طريقتنا في التفكير حول الحرية. فيرى كانط أن مفاهيم العقل قد تجعل من الممكن الإنتقال من مفاهيم الطبيعة إلى المفاهيم العملية، وبتلك الطريقة قد تدعم الأفكار الأخلاقية نفسها وتربطها بالإدراك التأملي للعقل(2).

ویری أننا نصادف في مسألة الطبيعة والحرية، صعوبة في معرفة ما إذا كانت الحرية بعامة ممكنة فقط، وهل يمكنها إن كانت ممكنة، أن تتلاءم مع كلية القانون الطبيعي للسببية. وعليه يتساءل كانط : ((هل القضية التالية هي قضية شرطية منفصلة بدقة : كل مسبب في العالم يجب أن يصدر إما عن الطبيعة وإما عن الحرية وإما يمكن بالأحرى للاثنين، في صلة مختلفة، أن تفعلا معاً في حادث واحد بعينه: وصحة هذا المبدأ القائل بترابط كل أحداث العالم الحسي ترابطاً شاملاً على وفق قوانين الطبيعة الثابتة سبق أن أثبتت بقوة، بوصفه مبدأ للتحليلات الترنسد نتالية لا يحتمل أي عبث؟))(3). إذن المسألة تنحصر في ((هل يمكن للحرية أن توجد على الرغم من هذا المبدأ، وبالنظر للمسبب نفسه الذي يتعين وفقاً للطبيعة أم إنه يجب استبعادها نهائياً بتلك القاعدة التي لا تنتهك))(4).

فيرى كانط أن افتراض الواقعية المطلقة للظاهرات هو افتراض عامي يظهر سوء

ص: 389


1- إميل بوترو ، فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، مصر: الهيئة للكتاب، 1972،ص366.
2- Henry E.Alison، Kant's Theory Of Taste، Op. Cit، P. 198.
3- عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مصدر سبق ذكره، ص 274.
4- المصدر نفسه،ص274.

تأثيره في تشويش العقل. فلو كانت الظاهرات أشياء في ذاتها لما كان هناك من وسيلة لإنقاذ الحرية. إذ إن الطبيعة ستكون السبب التام والمعين في ذاته لكل حدث، وسيكون شرط كل حدث متضمناً فقط في سلسلة الظاهرات الخاضعة مع مسبباتها بالضرورة لقانون الطبيعة، والعكس إن لم نحمل الظاهرات إلا على ما هي عليه بالفعل دون زيادة، أي لا كأشياء في ذاتها بل مجرد تصورات مترابطة وفقاً لقوانين أمبيريقية، ومن ثم يجب أن يكون لها أصول ليست بظاهرات. ويمكن للمعلول أن يُعد معلولاً حراً بالنظر لعلته المعقولة وان يُعد في نفس الوقت بالنظر إلى الظاهرات، كنتيجة لها وفقاً لضرورة الطبيعة(1).

وعليه يقول كانط: ((يستحيل الجمع بين العليَّة كونها حرية وبينها كونها آلية طبيعية من حيث تثبت ألأولى بالقانون الأخلاقي والثانية بقانون الطبيعة، وذلك في ذات واحدة، أعني الإنسان إلا بتصوّر أن الإنسان بوصفه كائناً في ذاته هو على علاقة بالقانون الأخلاقي، لكنه على علاقة بالثاني بوصفه ظاهرة، الحالة الأولى في الوعي المحض والثانية في الوعي التجريبي. ومن دون ذلك يكون تناقض العقل مع نفسه محتما))(2).

إن قانون الطبيعة بوصفه قانوناً تخضع له موضوعات العيان الحسي، يجب أن يقابله شيماً (أي أسلوباً عاماً للمخيلة). أما قانون الحرية فلا يمكن أن يخضع له أي عيان، وأي شيماً، ومن ثمَّ لا يخضع لمفهوم الخير - غير المشروط أيضاً من اجل تطبيقه في الواقع. والنتيجة أنه ليس للقانون الأخلاقي سوى الفهم الذي يمكن بواسطته أن يُطبق على موضوعات الطبيعة، وما يضعه الفهم تحت فكرة للعقل ليس شيماً للحساسية بل قانون، وهو قانون الطبيعة من حيث الصورة لا غير، لذا يقرر كانط ان ((هذا القانون هو ما يمكن للفهم أن يضعه تحت فكرة العقل لمصلحة ملكة الحكم، ومن هنا نستطيع أن نسميه نمط القانون الأخلاقي)) (3).

ص: 390


1- عمانوئيل كنط، نقد العقل المحض، مصدر سبق ذكره، ص 274.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، مصدر سبق ذكره، من هامش توضيحي لكانط، ص47.
3- إمانویل کنت مصدر سبق ذكره، ص 137،138.

وأن بين الحرية (كما الحرية كما هي موصوفة في النقد الأول ومستنبطة في النقد الثاني)،وبین الطبيعة فجوة، يحاول كانط سدها في النقد الثالث، مدعياً أن استعدادنا الطبيعي للحكم التأملي يجعلنا مدركين لوحدة أو انسجام قوانين الطبيعة والحرية. ففي النقد الثالث يستنتج كانط، إن الطبيعة هي تابعة أو خاضعة بصورة غائية إلى الاستعمال الأخلاقي للحرية. فمفهوم الحرية يصلح ليكون مرتكز لمخطط كانط البنيوي(1).

ويستند كانط إلى حقيقة أن لمقولات الحرية ميزة واضحة بمقابل مقولات الطبيعة كون مقولات الطبيعة ليست سوى صور للأفكار، أما مقولات العقل العملي والإرادة المحضة فإنها تتجه نحو تعيين تحكم حرّ، ولها مفاهيم أولية عملية، بدلاً من صور العيان (الزمان والمكان) التي ليست قابعة في العقل نفسه، إنما يجب أن تأتي من مكان آخر، أي ((من الحساسية)) كما يقول كانط، فهي: ((صورة إرادة محض كونها معطاة في العقل، ومن ثمَّ في ملكة التفكير نفسها، وبهذا يحدث أنه، بما أن أوامر العقل المحض العملي كافة لا صلة لها إلا ب- تعيين الإرادة وليس بالشروط الطبيعية (لمهارة عملية) ل- تنفيذ غاياتها، فإن المفاهيم العملية قبلياً التي على علاقة بمبدأ الحرية الأسمى تصبح حالاً معارف من دون أن تكون بحاجة إلى انتظار عيانات لكي تتقبل المعنى، وهذا يحدث لسبب جدير بالملاحظة، هو أنها تُنتج هي نفسها حقيقة ما ترجع إليه (نية الإرادة) والذي ليس فيه إطلاقاً أي شأن للمفاهيم النظرية))(2). ولكن ينبغي ملاحظة كون هذه المقولات لا تعني العقل العملي إلا بعامة، ومن ثمَّ فهي تمضي بترتيبها من تلك التي لا تزال غير معينة أخلاقياً ومشروطة حسياً نحو تلك التي كونها غير مشروطة حسياً، هي معينة بالقانون الأخلاقي وحده(3).

فيأتي كانط بالنقد الثالث لإعطاء طريقة فهم كيف أن شكلي (القوانين السببية والقانون الأخلاقي) قد تتناسب بطريقة مكملة لبعضها وليس متنازعة(4). من أجل

ص: 391


1- Timothy James Aylsworth، Freedom In Kant's Critical Philosophy، Op. Cit،، P. 1، 2
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص 133.
3- المصدر نفسه، ص 133.
4- Michelle kosch, freedom and reason in kant. schelling, and kieregaard.published in the united states by oxford university press inc، new York، first published،2006،Cit،p.17

أن يحقق الترابط بين عالم الضرورة وعالم الحرية، أو بين مجال العلم ومجال الميتافيزيقا، ذلك لأن ملكة الحكم تصبح الواسطة بين الذهن والعقل، ويصبح الشعور باللذة هو الواسطة بين المعرفة والإرادة(1). فالإرادة كما يقول كانط: ((بما هی ملكة الرغبة، هي بالفعل أحد الأسباب الطبيعية الكثيرة في العالم، من بين تلك التي تفعل على وفق مفاهيم؛ وكل ما يتصور على أنه ممكن بواسطة الإرادة (أو أنه ضروري) يسمىعملياً - ممكناً (أو ضرورياً)، وهذا بخلاف إمكانية أو ضرورة فعالية طبيعية لا يكون سببها معيناً بمفاهيم ترجع إلى السببية (وإنما بآلية كما هی الحال في المادة الجامدة، وبغريزة كما لدى الحيوانات). وهنا يبقى من دون تعيين ما إذا كان المفهوم الذي يعطي القاعدة لسببية الإرادة مفهوماً طبيعياً أو مفهوم الحرية))(2).

وفي هذا الفرق لو كان المفهوم المعين للسببية مفهوم الطبيعة، لكانت المبادئ تقنية - عملية. أما ان كان مفهوم الحرية ، فستكون عندئذ أخلاقية - عملية. وبما أن الأمر في تقسيم علم العقل يعود بكامله إلى اختلاف الموضوعات التي تحتاج معرفتها إلى مبادئ مختلفة، لذا فتكون الأولى من باب الفلسفة النظرية (كعلم الطبيعة)، بينما تشكل الأخرى وحدها بشكل كامل الفلسفة العملية (كعلم الأخلاق)(3).

والآن هل يستطيع العقل المحض أن يكون عملياً، وأن يشتمل بذاته على الشروط الضرورية الكافية لقانون أصيل غير القوانين الميكانيكية للطبيعة، وعلى شروط توجيه للإرادة مطابق لهذا القانون؟(4).

يرى كانط أن: ((تشكل الأوامر العملية - أخلاقياً، القائمة كلياً على مفهوم الحرية، فضلا عن أقصائها اقصاءً تاماً الأسباب المعيّنة للإرادة، الآتية عن الطبيعة، نوعاً خاصاً من الأوامر يسمى أيضاً بكل بساطة قوانين، ومثلها في ذلك مثل تلك القواعد التي تخضع لها الطبيعة، إلا إنها تختلف عنها في أنها لا تقوم على شروط حسية، بل

ص: 392


1- أميرة حلمي مطر، فلسفة الجمال - اعلامها ومذاهبها، دار قباء - القاهرة، 1998،ص109.
2- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا المنظمة العربية للترجمة، الحمراء - بيروت، ط1، 2005، ص 68.
3- المصدر نفسه، ص 68،69.
4- إميل بوترو، فلسفة كانط، مصدر سبق ذكره، ص 309.

على مبدأ فوق - المحسوس، وتطالب بأن يكون لها، إلى جانب القسم النظري من الفلسفة، قسم آخر خاص بها وحدها بشكل كامل تحت أسم الفلسفة العملية))(1). إذن فمجموعة القواعد العملية التي تعطيها الفلسفة، التي مبدأها غير مستمد بأي شكل من الأشكال من مفهوم الطبيعة - المشروط دوماً حسياً - فلا بد من أن يقوم على فوق - المحسوس الذي يمكننا، هو وحده من معرفة الحرية على وفق قوانين شكلية؛ - وهذا يعني إذا أن الأوامر والقواعد لا تكون عملية - أخلاقياً نظراً لهذا القصد أو ذاك، وإنما بغض النظر عن أية علاقة مسبقة بغايات أو مقاصد(2).

وبذلك سيكون لملكة المعرفة الخاصة بنا حقلان، بحسب وجهة نظر كانط: (حقل المفاهيم الطبيعية وحقل مفهوم الحرية) لأنها في كل منهما تكون واضعة للقوانين قبلياً. وبناءً على ذلك تقسم الفلسفة إلى نظرية وعملية. أما التشريع الذي يتم بمفاهيم الطبيعة بواسطة الفهم (فهو تشريع نظري)، والتشريع الذي يتم عن طريق مفهوم الحرية ويتم بواسطة العقل (وهو تشريع عملي بحت). إذن للفهم والعقل تشريعان مختلفان في حقل التجربة الواحد، من دون أن ينال أحدهما من الآخر، وذلك لأنه بالقدر الزهيد الذي يؤثر به مفهوم الطبيعة على التشريع عن طريق مفهوم الحرية - بهذا القدر ذاته - يعطل مفهوم الحرية تشريع الطبيعة. ويتمثل مفهوم الطبيعة موضوعاته بالتأكيد في العيان، ولكن ليس كأشياء بحد ذاتها، بل كظواهر، في حين يتمثل مفهوم الحرية في موضوعه بالتأكيد شيئاً بحد ذاته، وإنما ليس في العيان، لذا فليس بوسع أي من الاثنين تحقيق معرفة نظرية عن موضوعه كشيء بحد ذاته. ومن ثم يكون فوق - المحسوس، الذي علينا من دون شك أن نضع فكرته أساساً لكل مواضيع التجربة، لكننا لن نستطيع أبداً أن نسمو بها ونوسعها فتصبح معرفة(3).

والآن بعد أن رسخت بين ميداني مفهوم الطبيعة (بما هو حسي) والحرية (فوق حسي) هوة لا يسبر غورها، بحيث يستحيل معه أن يقوم معبر بين طرفيها، كأننا بین

ص: 393


1- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم ، مصدر سبق ذكره، ص 70.
2- المصدر نفسه، ص 70.
3- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم ، مصدر سبق ذكره، ص 72،71 .

عالمين مختلفين كل الاختلاف، فلا يمكن لأي منها التأثير في الآخر، مع أنه ينبغي أن يؤثر هذا في ذاك (أي ينبغي على مفهوم الحرية أن يحقق في عالم الحواس الغاية المكلف بها بحسب قوانينه) ومن ثمَّ فلا بد من أن يكون التفكير بالطبيعة ممكناً بطريقة تتوافق بها شرعية صورتها على الأقل مع أمكانية الغايات التي يجب أن تتحقق فيها وفوق قوانين الحرية. إذن لا بد من وجود أساس لوحده فوق - المحسوس الذي يكمن في أساس الطبيعة، مع ذلك الذي يتضمن مفهوم الحرية عملياً يجعل مفهومه الانتقال من نوع تفكير الواحد على وفق مبادئ إلى نوع تفكير الآخر على وفق مبادئ أيضاً أمراً ممكناً، حتى وأن لم يصل لا نظرياً ولا عملياً، إلى معرفته، فيكون من ثمّ من دون حقل خاص به(1).

طور كانط - بعيداً عن علاقة التضحية بين الفهم والعقل - إمكان فكرة الحرية كشيء في ذاته. وأيضاً الذات التي تفكر في هذه الفكرة التي هي من ثم عضو في مجتمع فوق حسي(2).

لقد قامت مفاهيم الطبيعة التي تتضمن أساس كل معرفة نظرية قبلياً على تشريع الفهم. وقام مفهوم الحرية المتضمن قبلياً أساس جميع الأوامر العملية المستقلة عن الحسي على تشريع العقل. إذن لكل من الملكتين تشريعه الخاص به من حيث المضمون، ولا يوجد فوق هذا التشريع، تشريع آخر (قبليا)، وهو أمر يبرر تقسيم الفلسفة إلى نظرية وعملية(3).

جدلية العلاقة بين الحرية والقانون الأخلاقي

الحرية وحدها قادرة على إيجاد ارتباط بين فكرة الإرادة الخيرة خيرية مطلقة، وبين فكرة الإرادة التي قاعدتها قانون كلي. فيبدأ كانط بالتمييز بين الإرادة بوصفها نوعاً من عليّة الكائنات الحية، من حيث كونهم عقلاء ، وبين الحرية بوصفها الخاصية

ص: 394


1- المصدر نفسه، ص 73.
2- كريستوفر وانت، أندزجى كليموفسكي، أقدم لك كانط، ترجمة أمام عبد الفتاح أمام، المشروع القومي للترجمة أشراف جابر عصفور، العدد 430 الناشر - المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2002، ص 112.
3- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، مصدر سبق ذكره، ص 74.

التي لهذه العليّة من حيث هي قادرة على العمل مستقلة عن العلل الأجنبية التي تحددها وتعيّنها، كما أن الضرورة الطبيعية هي الخاصية التي لعلية كل الكائنات العديمة العقل في أن تتحدد في فعلها بواسطة تأثير هذه العلل الأجنبية(1).

إننا نتصور أنفُسنا أحراراً في إرادتنا، إلا أن هذه الحرية ليست تصوراً منتزعاً من التجربة، لأنه - أي هذا التصور - يظل باقياً دائماً، مع أن التجربة تكشف عكس ما يجب يحدث إن افترضنا أنفُسنا أحراراً. وضروري أيضاً حدوث كل شيء وفقاً القوانين الطبيعة، والضرورة الطبيعية كالحرية ليست تصوراً مستمداً من التجربة، فتصورها يتضمن في ذاته تصور الضرورة، ويتم هذا بمعرفة قبلية سابقة على التجربة بان شيئاً يحدث عن علة سابقة، وهذا ما تدل عليه التجربة، أما ضرورة هذا فهو أمر يدرك قبل التجربة أي بالعقل المحض المحض(2).

فيرى كانط أن فعل احترام القانون الخلقي يمثل جانباً من جوانب الاستعداد الأصلي للخير في الطبيعة الإنسانية، أي ذلك الجانب الذي يسميه كانط استعداد الشخصية، وهو القدرة على احترام القانون الأخلاقي كما هو في ذاته. وهذه القدرة هي شعور أخلاقي في داخلنا، ذلك الشعور هو قوة دافعة للإرادة باعتبارها إرادة حرة، وسمة الإرادة الحرة هي سمة الخير ، والخير مكتسب واكتسابه يتطلب إمكانية القدرة على احترام القانون الأخلاقي، وأن تكون هذه الإمكانية في طبيعة استعداد الشخصية، والشخصية ذاتها هي فكرة الإنسانية معقولة تماماً، والاستعداد هو الأساس الذاتي، هو تبني أو اختيار مبدأ أو قاعدة باحترام وقوة دافعة، فيبدو مكتسباً يناصره الاستعداد ويعززه(3).

ويرى كانط أننا عندما نقوم بخيارنا فإننا لا بد من أن نعمل بموجب فكرة الحرية، ويفسّر ذلك بأننا لا نستطيع استيعاب العقل الذي يستجيب بوعي لارتباط من الخارج

ص: 395


1- عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كنت، مصدر سبق ذكره، ص 94،95.
2- المصدر نفسه، ص 100،101.
3- فریال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصدر سبق ذكره، ص 68.

فيما يتعلّق بأحكامه، ربما طبعاً نختار العمل برغبة ولكن إلى الحد الذي نعتبر به العمل الخاص بنا، فإننا نعتقد أننا قد جعلنا المبدأ الأساسي هو العمل على أساس هذه الرغبة . لو نشعر بأن الرغبة تدفعنا نحو هذا العمل، فإننا لا نعتبر العمل ناتجاً عن إرادتنا وإنما طوعيّاً. النقطة هي لیست إننا من المهم أن نؤمن بإننا أحرار ولكن يجب

علينا أن نختار وكأننا أحرار(1).

وهكذا فإن العقل الذي أفكاره دائماً قد أصبحت غامضة عندما بدأت بصورة تأملية يمكن أن يُعطى للمرة الأولى واقعية موضوعية رغم إنه لا يزال عملي فقط، وأن استعماله الغامض المتعالي يتغير إلى استعمال متأصل حيث يصبح العقل في ميدان التجربة، وذلك سبب كاف من خلال الافكار. فيصبح العقل سببا كافيا بإخبارنا كيف أن الشخص الحرّ سيعمل وبتوفير المفهوم الباطني الأعلى مما يحفزنا للعمل بتلك الطريقة. إذ لو أن القانون الأخلاقي بالفعل يعطينا المفهوم الإيجابي للحرية عندها سنعرف كيف أن شخصا ذا إرادة حرّة بالكامل سيعمل. وذلك بالتحفيز لفكرة النداءات الباطنية العالية التي تعطينا إياها الحرّية، فإننا يمكننا أن نعمل بتلك الطريقة بأنفسنا. و لكن لو استطعنا العمل بالضبط كما لو كنا في حالة إننا أحرار تحت تأثير فكرة الحرية، حينها نحن أحرار. وأن الإرادة في الجدل من التلقائية عندما تؤشر خيارها الأصلي لا يمكن أن تفعل أكثر من ذلك. فتختار أن تفعل حسب القانون الأخلاقي من أجل تحقيق حريتها ويمكننا أن نقوم بنفس الشئ بفعلنا الأخلاقي، يمكن أن نجعل أنفسنا أحراراً(2).

ويتساءل كانط ماذا تكون إذن حرية الإرادة أن لم تكن هي الاستقلال الذاتي (Autonomies)، أي الخاصية التي تتميز بها الإرادة فتجعل منها قانوناً لنفسها؟ فالقضية التي تقول إن الإرادة في جميع أفعالها هی القانون الذي تصنعه لنفسها ليست إلا صيغة أخرى من المبدأ الذي يقول إن علينا ألا نفعل فعلاً حتى يكون مطابقاً للمسلمة التي يمكنها أيضاً أن تتخذ من نفسها موضوعياً يعد قانوناً كلياً

ص: 396


1- Christine M. Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Op. Cit.P. 162.
2- Ipid.P. 176.

شاملا. وهذه هي صيغة الأمر الأخلاقي المطلق، كما مبدأ الأخلاقية: وعلى ذلك فالإرادة الحرة، والإرادة الخاضعة لقوانين أخلاقية شيء واحد بالذات(1).

فالاستقلال الذاتي للإرادة هو المبدأ الوحيد للقوانين الأخلاقية والواجبات المطابقة لها، والمبدأ الوحيد للأخلاقية يقوم في الاستقلال عن كل مادة، وفي ذات الوقت في تعيين التحكم بمجرد صورة تشريع قانون كلي يجب أن تكون المسلمة قادرة عليه. ولكن كما يقول كانط : ((إن ذلك الاستقلال هو الحرية بالمعنى السلبي، في حين أن هذا التشريع الخاص بالعقل المحض، ومن حيث كذلك هو عملي، هو الحرية بالمعنى الايجابي، فالقانون الأخلاقي إذاً لا يعبر عن شيء آخر سوى الاستقلال الذاتي للعقل المحض العملي، أي الحرية، وهذه نفسها هي الشرط الصوري لكل المسلمات، شرط يمكنها بموجبه وحده أن تكون متوافقة مع القانون الأخلاقي الأعلى))(2).

وتُعرف الإرادة الحرة بحسب كانط بأنها (سببية عقلانية تكون مؤثرة من دون أن يُقررها سبب خارجي. إن أي شئ خارج الإرادة يعتبر سببا خارجيا دخيلا بما في ذلك الرغبات والميول للشخص. يجب أن تكون الإرادة الحرة من تقرير الذات. مع ذلك و لأنها سببية، يجب أن تعمل حسب قانون ما، وبما أن مفهوم السببية يقتضي مفهوم القوانين ... فذلك يعني أن الحرية هي بلا قوانين، لذلك فإن الإرادة الحرة يجب أن يكون لها قانونها الخاص بها))(3).

ويتضح من ذلك أن الحرية لا يمكن أن تمثل العالم المحسوس له، وهذا هو السبب الذي لا نستطيع من أجله أن نصل إلى كنهها وطبيعتها عن طريق المعرفة النظرية على نحو ما بين ذلك نقد العقل المحض. وشأن الحرية في ذلك شأن وجود الله، وخلود النفس، وكلية العالم، التي لا يقابلها جميعاً موضوع تجريبي أو عيان حسي، ولا تقع في إطار الزمان والمكان، وهما الشرط الأول لكل معرفة ممكنة.

ص: 397


1- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 146.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص 86،87.
3- Christine M.Korsgaard، Creating The Kingdom Of Ends، Op.Cit،P.163

فنحن لا نستطيع بالعقل المحض أن نعرف عن طبيعتها شيئاً، وإن وجب علينا مع ذلك ألا ننكر وجودها، بل نفترضها كأفكار (تنظيمية) للتجربة. ومن ثم كان العقل العملي يكمل ما عجز عنه العقل المحض، وكانت له بذلك الأولوية عليه(1).

وفي المقدمة للطبعة الثانية للنقد الأول، قدم كانط وصفاً لنظريته آخذا بالاعتبار العلاقة بين الأفكار للقوانين الطبيعية (ميكانيكية الطبيعة)، والعلاقة بين الحرية والأخلاقية. ويشدد على الأهمية لبيان أن الفكرة أو الرأي عن الحرية هو ليس مناقضاً أو منكراً للعقل التأملي، رغم أن العقل التأملي لا يمكنه أثبات وجوده(2).

ولما كانت الأخلاقية لا تصلح قانوناً لنا إلا من حيث إننا (كائنات عاقلة) فينبغي لها كذلك أن تكون صالحة لجميع الكائنات العاقلة، و لما كان من الواجب أن تستمد من خاصية (الحرية) وحدها، فإن من الواجب كذلك أثبات أن (الحرية) خاصية تتصف بها إرادة جميع الكائنات العاقلة، ولا يكفي البرهان عليها باللجوء إلى تجارب مزعومة للطبيعة الإنسانية، لتعذر الأمر ولا سبيل إلى البرهنة عليها إلا بطريقة قبلية، بل ينبغي إثبات أنها تتصل بفاعلية الكائنات العاقلة التي وهبت الإرادة(3).

إن مفهوم الأخلاقية على وجه الاستقلال كان تجديدا في فلسفة كانط الأخلاقية. وفي تطوير رأيه عن البشر كأنه قوة مستقلة بذاتها فان كانط طور أفكارا جديدة حول الحرية وطبيعة الفعل . وان فكرته كذلك لها مضامين مهمة لحالات باقية حول تركيب ومحتوى الأخلاقية. وأحد هذه المضامين يفسر مدى الأهمية الكبيرة لهذه الفكرة الكانطية في المناقشات الحاضرة. إنها تعني أن لا مبدأ لسعادة الإنسان يمكن أن يكون أساساً للأخلاقية أو يبين هدفها(4).

ص: 398


1- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، هامش المترجم (80)، ص 147.
2- Eilert Sundt - Ohisen، Kant And The Epistemology Of Metaphysics، King Of College London P. 9.
3- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 149.
4- Imanuel Kant. Groundwork For The Metaphysics Of Morals. Edited And Translated By Allen W. Wood. With Essays By J. B. Schneewind. Marcia Baron. Shelly Kagan. Allen W. Wood. Yale University Press. New Haven And London. 2002. P. 88.

وبتتبع نتائج هذه الفكرة الكانطية، نجد أن الأفعال الإنسانية يمكن إعتبارها ضرورية من وجه، وحرة من وجه آخر: فأي فعل من الأفعال بما هو ظاهرة من الظاهرات، واقعة في نطاق الطبيعة، يكون محدداً تحديداً مطلقاً بالنسبة إلى سوابقه في الزمان، كما بالنسبة لحركة الجسم الجامد . لكن الفعل نفسه يمكن أن يتصور حراً، من حيث صدوره من كائن إنساني ناطق، وينتمي إلى عالم ! زماني (أي يقع خارج الزمان)، ومن ثم فللإنسان طبيعتان:

طبيعة ظاهرية - وتقع في قبضة تجربتنا وظاهرة لطبيعتنا الحقيقية.

طبيعة باطنية - وليست في زمان (خارج الزمان)(1).

إذن وكما يرى كانط، ((أن كل كائن لا يمكنه أن يفعل فعلاً إلا تحت تأثير فكرة (الحرية)، فهو من وجهة النظر العملية كائن حر حقاً، أي إن جميع القوانين المرتبطة بالحرية ارتباطاً لا ينفصم تصلح للانطباق عليه تماماً كما لو أن إرادته في ذاتها و لأسباب تقرها الفلسفة النظرية فإنه يعترف بحريتها اعترافاً صحيحا))(2).

وبعد أن یرد كانط التصور المحدد للأخلاقية إلى فكرة الحرية فأنه يقول : (( لم يكن في مقدورنا أن نقيم الدليل على وجود هذه الحرية كشئ واقعي، لا في أنفسنا و لا في الطبيعة الإنسانية، رأينا فحسب أن من الواجب علينا أن نفرض وجودها إذا أردنا أن نتصور كائنا مزودا بالعقل وبالشعور بعليته فيما يتصل بالأفعال (التي يقوم بها)، أي كائنا مزودا بالإرادة، وهكذا نجد أن علينا لهذا السبب نفسه أن ننسب إلى كل كائن مزود بالعقل والإرادة هذه الخاصية التي تجعلهُ يعين نفسه للفعل تحت تأثیر فكرة الحرية))(3). لكنه يرى أن افتراض وجود هذه الأفكار ينبثق عنه الشعور ب- (قانون للفعل)، وان المبادئ الذاتية للأفعال، أي المسلمات، ينبغي دائماً بمقتضى هذا القانون أن تؤخذ بحيث تكون صالحة كذلك من الناحية الموضوعية، أي بحيث

ص: 399


1- عثمان أمين، رواد المثالية في الفلسفة الغربية، دار المعارف، 1967 ، ص 120،121.
2- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 149.
3- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 151.

تصلح لأن تكون مبادئ كلية وشاملة، ومن ثمّ لأن تكون تشريعاً شاملاً ينبع من أنفسنا(1).

إن إدعاء كانط بأننا يجب أن نعمل في ظل فكرة الحرية هو أمر معروف جداً بحيث لا نحتاج لاستشهادات حوله. وفي (الأخلاقية كحرية)، نجد إشارات يُشير بها كانط إلى أنه حتى لو تعلمنا أن الحتمية حقيقة عند تقرير ما يجب عمله، فإن ذلك يخلق اختلافا في اعتباراتنا، حتى لو كان علينا أن نتعلم أن الحتمية حقيقية، فإن علينا أن نتصرف و كأننا أحرار(2).

لكن هناك سؤال مهم يطرحه كانط : ما الذي يحتم عليَّ أن أخضع لهذا المبدأ، بوصفي كائناً عاقلا بوجه عام، و ما الذي يحتم تبعا لذلك على جميع الكائنات الأخرى المزودة بالعقل أن تخضع له؟ يُريد كانط هنا أن يُسلم بأنه ما من منفعة تدفعه إلى ذلك، إذ لو كان هناك منفعة لما أمكن قيام الأمر الأخلاقي المطلق، ولكن يجب عليه مع ذلك إيجاد منفعة ومعرفة كيفية حدوث ذلك. وكما يقول: ((ذلك لأن (يجب علي) هذه في حقيقة أمرها (أنني أريد) التي تصلح لكل كائن عاقل، بشرط أن يكون العقل عنده عملياً دون ما عقبات تمنعه من ذلك، أما بالنسبة للكائنات التي تتأثر مثلنا بالحساسية، أي التي تتأثر بدوافع من نوع آخر و لا يحدث لها دائما ما يفعله العقل وحده وبدافع من ذاته، فإن ضرورة الفعل تلك يعبر عنها عندئذ بفعل (ينبغي)، كما تميز الضرورة الذاتية من الضرورة الموضوعية)) (3).

وذلك يعني أن الضرورة التي تخضع لها الإرادة الحرة وفقاً لنظام الوجود، هي الإرادة نفسها، من حيث إن هذه الإرادة والعقل شيئاً واحداً. أنما الإرادة وحدها تضع ضرورة القانون. ومن ثم ترتبط الضرورة و الحرية، دون أن يكون في الحرية شيء

ص: 400


1- المصدر نفسه ص 151.
2- Sergio Tenenbaum. The Idea Of Freedom And Moral Cognition In Groundwork lii. University Of Toronto. Philosophy And Phenomenological Research. Vol. 84. Issue 3. May 2012. Pages 555 -589. P.558.
3- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 151،152.

يذكرنا بالضرورة الطبيعية. فهذه الضرورة هي الضغط الواقع على شيء من شيء آخر خارج عنه، أما ضرورة الإرادة الأخلاقية هي ذاتها من صنع الإرادة الحرة(1).

إذن وكما يبدو كأن كانط أقتصر على افتراض وجود القانون الأخلاقي بوجه خاص (أي مبدأ استقلال الإرادة نفسه في فكرة الحرية) من دون أن يتمكن من أثبات واقعيته وضرورته الموضوعية في ذاته. فكما يرى أن مجرد كون الإنسان جديراً بالسعادة يمكن أن يكون شيئاً نافعاً في ذاته حتى لو لم يكن هناك دافع إلى المشاركة في هذه السعادة. ولكن هذا الحكم ليس في الحقيقة إلا النتيجة المترتبة على الأهمية التي يفترضها كانط في القوانين الأخلاقية (حين نتجرد عن طريق فكرة الحرية من كل منفعة تجريبية)(2).

فكانط يحول أنظارنا إلى المجال الأخلاقي الذي قوامه فكرة (الواجب). فالحياة الحسية ليست كل شيء، فنحن نحيا حياة أخلاقية وهذه هي الحياة الحقيقية ف- (ذاتنا) الحقيقية تتمثل في حياتنا الأخلاقية و(الواجب) هو الشيء الوحيد الذي يمكن اعتباره يقيناً مباشراً مطلقاً. وفي نظر كانط فالواجب هو صوري محض، طابعه النزاهة المحضة، ورائده التعبير عن صوت العقل، دون الخضوع لأي شئ آخر. و أن كل ما عدا الواجب قد يحيطه الشك ويحتمل النقاش لأنه (شرطي)، أما الواجب فوحده يتصف بطابع الأمر المطلق، أي طابع اليقين الذي لا يقبل جدالاً و لا نقاشاً(3).

ولو كان الإنسان ينتمي إلى العالم المعقول وحده، لجاءت كل أفعاله مطابقة لمبدأ التشريع الذاتي للإرادة المحضة. ولو كان ينتمي إلى العالم المحسوس وحده، لجاءت كل أفعاله وفقا لقانون الرغبات والميول، فالإنسان إذن ينتمي إلى كلا العالمين معاً المعقول والمحسوس(4).

ص: 401


1- إميل بوترو، فلسفة كانط، مصدر سبق ذكره، ص 371.
2- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 153.
3- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مصدر سبق ذكره، ص 38،39 .
4- عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كنت، مصدر سبق ذكره، ص 99.

إذن يفضي بنا الأمر إلى التفرقة بين (عالم محسوس و عالم معقول)، فنجد أن عالم الحس يتفاوت وفقاً لتفاوت الحساسية لدى المشاهدين للعالم، في حين نجد عالم المعقول يبقى دائماً بذاته لا يتغير. أي يمكن القول أنه فيما يتعلق بالإدراك الحسي البسيط وبالقدرة على تلقي الإحساسات يمكن أن يعد الإنسان نفسه عضواً في (عالم محسوس)، في حين ينبغي عليه بالقياس إلى ما يصل إلى الشعور لا عن طريق تأثير الحواس بل بطريق مباشر أن يعد نفسه عضواً في (عالم معقول). وهذه النتيجة التي يصل إليها الإنسان المتأمل، يمكن أن يجدها في الفهم الشائع الذي يغلب عليه الميل. والإنسان في الحقيقة يجد في نفسه ملكة يتميز بها عن سائر الأشياء، بل عن نفسه ذاتها، من حيث تأثره بالموضوعات، وهي (مَلكة العقل)(1).

والعقل يتجاوز كل ما تستطيع الحساسية أن تقدمه إليه، وأيضاً يجعل مهمته الرئيسية تنحصر في التمييز بين العالم المحسوس والعالم المعقول ومن ثم في تعيين الحدود التي لا ينبغي للفهم نفسه أن يتعداها. وبحسب كانط فان هذا السبب يتحتم على الكائن العاقل، بوصفه عقلاً أن يعد نفسه منتمياً لعالم معقول لا لعالم محسوس، ومن ثم لديه وجهتا نظر يمكنه أن يتأمل نفسه من خلالهما وأن يعرف قوانين ممارسة ملكاته، و قوانين أفعاله جميعاً:

فهو من ناحية انتمائه لعالم محسوس يخضع لقوانين الطبيعة (التبعية).

وهو من ناحية انتمائه لعالم معقول يخضع لقوانين مستقلة عن الطبيعة غير تجريبية، بل قائمة على أساس العقل وحده(2).

وتعمل جدلية العالمين هذه، بصورة أفضل في كتاب نقد العقل العملي عما هو في التأسيس، إذ يريد كانط أن يجادل بأن فكرة وجودنا في العالم العقلي تقترح الحرية لنا، وأن قدرتنا على النشاط العفوي التلقائي التي تكشف عن نفسها في إنتاج العقل للأفكار تجعلنا أعضاء في العالم العقلي. بذلك، قد نعتبر أنفسنا أحراراً. وفي النقد

ص: 402


1- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 156،157.
2- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 158،159.

الثاني، طور كانط المجادلة المعاكسة بأن الحرية تقودنا إلى مفهوم وجودنا في العالم العقلي. وعليه، فالأخلاقية هي التي تعلمنا بأننا أحرار. لذلك، فإن الأخلاقية نفسها (تشير لنا) نحو العالم العقلي. على أن جدل نقد العقل العملي يكون متفوقاً لأن الحرية تتطلب ليس فقط أننا لدينا إرادات، وبأننا يمكن أن نتحفز ونندفع من هناك كما يمكن أن نقول. في حين أن جدل التأسيس يضع قدرتنا النظرية لتشكيل أفكار خالصة في العالم العقلي، ولكن ذلك بحد ذاته لا يعني أنّها يمكن أن تُحركنا. والأخير هو ما يجب أن تُظهره المجادلة. تبدأ الجدلية في النقد الثاني بحزم من حقيقة أننا يمكن أن نتحفز و نندفع بأفكار خالصة. إمكانية أن نتحفّز ونندفع بهذه الصورة هي ما يسميها كانط حقيقة العقل. ولكن وظيفة فكرة وجودنا العقلي كباعث هي بالأساس نفسها في الكتابين. إن المخاطبة الشهيرة للواجب في نقد العقل العملي مثل التأسيس تتطلب معرفة مصدر الاستحقاق الخاص الذي نخصصه للأخلاقية. والجواب ثانيةً هو أن إحترام القانون الأخلاقي ينتج من فكرة طبيعتنا العقلية. فيرى كانط أن باعث العقل العملي الخالص هو لا شيء آخر أكثر من القانون الأخلاقي الخالص نفسه طالما أن ذلك يسمح لنا بفهم واستيعاب سمو وجودنا الفائق الإحساس(1).

فمن ناحية انتماء الكائن العاقل بوصفه عقلاً إلى العالم المعقول فهو يخضع إلى قوانين مستقلة عن الطبيعة قائمة على أساس العقل وحده، وسبق أن ذكرنا أن الحرية تخضع لقانون من نوع خاص ولا تخضع إلى قوانين الطبيعة ، و أنها من أفعال العقل وترتبط بالكائن العاقل، إذن فالحرية تخضع إلى قانون يقوم على أساس العقل وحده.

إذن بعد هذا العرض الذي يقدمه كانط، تزول الشبهة التي أثارها فيما سبق، حول الحلقة المفرغة التي تستتر خلف الطريقة التي يستدل بها من الحرية على وجود الاستقلال الذاتي، ومن الاستقلال الذاتي على وجود القانون الأخلاقي، فيقول: ((وإننا ربما لا نكون في الحقيقة قد جعلنا من فكرة الحرية مبدأ إلا بالنظر إلى القانون الأخلاقي، لكي نعود بعد ذلك فنستنتج هذا القانون الأخلاقي من الحرية و أننا قد لا

ص: 403


1- Christine M. Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Op. Cit.P. 170.

نستطيع نتيجة لذلك أن نعلل هذا القانون أي تعليل على الإطلاق، و أن ذلك لم يزد في الواقع على أن يكون مطالبة بمبدأ تسلم لنا به طائعة نفوس طيبة الطوية(1)، وإن لم يكن في إستطاعتنا أبداً أن نجعل منه قضية تقبل إقامة البرهان عليها . و لكننا نرى الآن كيف أننا حين نتصور أنفسنا أحراراً، نضع أنفسنا في العالم المعقول كأعضاء فيه، وأننا نتعرف الاستقلال الذاتي للإرادة مع النتيجة المترتبة عليه، ونقصد بها الأخلاقية، و لكننا حين نتصور أنفسنا ملتزمين بالواجب نحسب أننا أعضاء في العالم المحسوس كما نحسب أننا في الوقت نفسه أعضاء في العالم المعقول))(2).

في الحقيقة أن برهان كانط (بأن الأشخاص أحرار) تتضمن مرحلتين. ففي نقد العقل المحض، يبرهن أن الإمكانية للحرية ليس لها مانع من الطبيعة لتجربتنا في العالم، أو من المتطلبات للمعرفة العلمية، أو من أي نظريات ميتافيزيقية مبررة. وهذا البرهان يعتمد على المثالية المتعالية عند كانط. إن كانط يدعي أن التجربة مبنية استناداً إلى شكلين من البديهة - المكان والزمان - والمقولات ألاثني عشر، أحدها السبب والنتيجة. و لأن هذه البديهيات والتصنيفات توفر البنية لتجربتنا، ويعرف أي شخص سابقاً أن أي تجربة لنا ستكون (زمكانية SpaceTime) وسوف تلائم سلسلة من أسباب طبيعية تعارض أمكانية حصول التجربة - وعلى أية حال و بسبب هذه البديهيات والتصنيفات تبنى تجربتنا، و لا يستطيع أحد ما تطبيقها لكي يعرف الأشياء بنفسها وفي سياق البرهان أو النقاش لهذه المثالية المتعالية فأن كانط يقدم بعض المتناقضات، ثالثها تأكيدات الخلاف أو الصراع بين الادعاءات أو المطالب التي تقر بوجود حرية أو بعدم وجود حرية(3).

ففي نقد العقل المحض ، كان هدف كانط ببساطة هو فتح الفضاء للحرية. أما في المرحلة الثانية من البرهان، فإن كانط يبرهن على حقيقة الحرية. وفي النقد الثاني،

ص: 404


1- الضمير.
2- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 160.
3- Patrick R. Frierson. Freedom And Anthropology In Kant's Moral Philosophy.Cambridge University Press. 2003. P.14.

فإنه يدعي أن حقيقة العقل هي بأن الناس لديهم التزامات أخلاقية، ويعمل علی هذه الحقيقة التي بها نكون مدركين مباشرة لتأييد الحقيقة للحرية. و أكثر من ذلك فإن هذا الالتزام الأخلاقي لا يعتمد على أي تفاصيل عملية حول نفس المرء أو ذاته(1). لقد أبتكر كانط طريقة جديدة في التفكير بالأخلاق وفي أنفسنا بصفتنا كائنات أخلاقية. و أدرك أن كل المحاولات السابقة حول توضيح المبادئ الأخلاقية لم تكن صحيحة. ففي تأسيس ميهنا كيف الأخلاق يقدم كانط المبادئ الجوهرية لمختلف التصورات الأخلاقية(2).

ولكن السؤال هنا كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكناً وفقا لتلك المبادئ الجوهرية؟ إن الكائن العاقل جزء من العالم المعقول، و لا يُسمي علته (إرادة) إلا لمجرد كونه علة فاعلة في هذا العالم. إلا أنه يشعر من ناحية أخرى بأنه جزء من العالم المحسوس، الذي تكون فيه أفعاله مجرد ظواهر لتلك العلية. و لكن لا يمكن أن نُدرك إمكانية هذه الأفعال عن طريق هذه العلية. بل نفهمها من ناحية تحددها بظواهر أخرى، وهي (الرغبات والميول). إذن وكما يقول كانط : ((لما كان العالم المعقول يحتوي على الأساس الذي ينبني عليه العالم المحسوس كما تنبني عليه تبعاً لذلك قوانينه، وكان إذن بالقياس إلى إرادتي، المبدأ المباشر للتشريع، ولما كان من الواجب كذلك أن يتصور على هذا النحو، فسوف يكون علي، بوصفي عقلاً، وإن أكن من ناحية أخرى كائناً ينتمي إلى العالم المحسوس، أن أعرف أنني خاضع لقانون العالم الأول - العالم المعقول ، أي للعقل الذي يحتوي على هذا القانون في فكرة الحرية، ومن ثم الاستقلال الذاتي للإرادة، كما سيتعين عليَّ تبعاً لذلك أن أعد قوانين العالم المعقول أوامر أخلاقية بالنسبة لي والأفعال المطابقة لهذا المبدأ واجبات))(3).

أذن ما دامت فكرة الحرية تجعلني عضواً في عالم معقول، فإن الأوامر الأخلاقية تصبح ممكنة. فلو لم أكن عضواً في هذا العالم وحده، لأصبحت جميع أفعالي

ص: 405


1- Ipid، P.15.
2- Imanuel Kant، Groundwork For The Metaphysics Of Morals، Op. Cit، p. 83.
3- أمانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 161، 162.

مطابقة دائماً للاستقلال الذاتي للإرادة، ولكني لما كنتُ أرى نفسي في ذات الوقت عضواً في عالم محسوس فأفعالي يجب أن تكون مطابقة له. وهذا الواجب يعبر عن قضية - تركيبية قبلية - من حيث الإرادة الواقعة تحت تأثير الشهوات الحسية تضاف إليها فكرة هذه الإرادة نفسها (من جهة أن هذه الإرادة تنتمي إلى العالم المعقول)، أي كونها إرادة خالصة وعملية تحتوي في ذاتها على الشرط الأعلى للإرادة الأولى بما يتفق مع العقل(1).

أما علاقة الحرية بالاختيار والضرورة، فالحرية لا يمكن أن تختلط بحرية الاختيار، فوظيفتها هو أن تستبعد من كينونتنا كل ما هو فردي وتعسفي وحادث. أما الحرية والضرورة، فرغم أن كانط عرف الحرية أحياناً بأنها (إرادة ضرورية)، فليس صحيح التوحيد بينها وبين الضرورة، لأننا حينئذ نقع في تصور للحرية شبيه بالتصور الذي وجده كانط عند ليبنز، الذي رفضه رفضاً باتاً. الحرية تتوافق مع القانون الأخلاقي ولا ترتد إليه. إنما بالاستنباط، أي بالانتقال من فكرة إلى أخرى، يسير الإنسان من القانون إلى الحرية(2).

ويرى أن الناس جميعاً يتصورون أنفسهم أحراراً في إرادتهم، لذا فجميع الأحكام على الأفعال تأتي كما كان ينبغي لها أن تحدث. و مع ذلك فليست هذه الحرية تصوراً مستمداً من التجربة و لا يمكن أن تكون كذلك لأن هذا التصور يبقى دائماً على ما هو عليه، بينما تبين التجربة عكس تلك المطالب المتمثلة في افتراض الحرية على أنها مطالب ضرورية. ومن الجانب الآخر فمن الضروري لكل ما يحدث أن يتحدد حتماً وفقاً لقوانين الطبيعة، وهذا تصور ينطوي على تصور الضرورة، ومن ثمَّ تصور معرفة قبلية. وتصور الطبيعة هذا تؤيده التجربة و لا مفر من افتراضه إذا قدر للتجربة أن تصبح أمراً ممكناً. لذلك كانت الحرية فكرة من أفكار العقل يحيط الشك بحقيقتها الموضوعية في ذاتها، في حين الطبيعة تصور من تصورات الفهم، يثبت حقيقته الواقعة، و لا بد له من أن يثبتها، بالأمثلة التي تقدمها التجربة(3).

ص: 406


1- المصدر نفسه، ص163،162.
2- إميل بوترو، فلسفة كانط، مصدر سبق ذكره، ص 370،371.
3- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 165،166.

و لأن التجربة مبنية وفقاً لقوانين السببية فلا أحد يستطيع أن يكون مجرباً باستثناء لو كان محدداً بأسباب قبلية. لهذا لا شيء يستطيع أن يكون مجرباً كأنه حر. و لكن ما يمكن تصوره أن الأشياء الحرة بذاتها تهيء أو توفر الأرضية أو الأساس للسلسلة من الظواهر التي هي مرتبة أو مقدرة وفقاً للقوانين الطبيعية، وان هذه الأشياء الحرة لا تحتاج لا إلى سماح بتوضيح أبعد منظوراً له من زاوية الأسباب و لأن هذه الأشياء بذاتها ليست مبنية وفقاً للتصانيف المصممة من المعرفة الإنسانية، التي لا تستطيع أن تكون لها الاهتمام بالأهداف الممكنة من تجربتنا(1). ويقول كانط : ((سواء كان هذا هو الأصل الذي ينشأ عنه ديالكتيك العقل إذ كنا نجد فيما يتعلق بالإرادة، أن الحرية التي ننسبها إليها تبدو متناقضة مع الضرورة الطبيعية، و أن العقل وهو يقف في مفترق الطرق هذا، يجد من وجهة النظر التأملية أن طريق الضرورة الطبيعية معبد وعملي أكثر بكثير من طريق الحرية، فإننا نجد مع ذلك من وجهة النظر العملية أن درب الحرية هو الدرب الوحيد الذي نستطيع ونحن نسير عليه أن نستخدم عقلنا في كل ما نأتي وما ندع من أفعال، وهذا هو السبب الذي يتعذر معه على أدق الفلسفات كما يتعذر معه على أكثر العقول الإنسانية جهالة أن يجادل في حقيقة الحرية جدلاً سفسطائيا))(2).

إذن على العقل أن يفترض مقدماً عدم وجود تناقض حقيقي بين (الحرية والضرورة الطبيعية) لنفس الأفعال الإنسانية، ذلك لأن العقل وكما يرى كانط لا يستطيع التخلي عن تصور الطبيعة كما لا يستطيع أن يتخلى عن تصور الحرية. و رغم ذلك يجب أن يمحو التناقض الظاهري، حتى وان لم نفهم كيف تكون الحرية ممكنة، فلو كانت فكرة الحرية تناقض نفسها أو الطبيعة توجب التضحية بها في سبيل الضرورة الطبيعية(3). فنحن أحرار إذا نظرنا إلى ذاتنا العالية على الزمان. ونحن مجبرون إذا نظرنا إلى أفعالنا التي تتحقق في الزمان. ولكن الضرورة التي تسود في نطاق الظواهر

ص: 407


1- patrick R.Frierson، Freedom And Anthropology In Kant's Moral Philosophy Op.Cit، P.14.
2- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 166.
3- المصدر نفسه، ص 167.

لا تثبت بحال أن (الذات) المعقولة ليست حرة. ولا نستطيع التحقق من وجود تلك الحرية بالرجوع إلى التجربة السيكولوجية لأن التجربة نفسها ليست ممكنة إلا بالقياس إلى ما يتعاقب ويتسلسل ضرورة وفي العودة للذات نجد بواعث ودوافع قد تتسبب في تحقق الفعل. و لا يمكن أثباتها (أي الحرية) بالبرهان المنطقي، لأن الحرية إذا اندرجت في أقيسة، ومن ثمَّ إذا أصبحت نتيجة ضرورية لشيء آخر، فقد استحالت إلى ضرورة، ومن ثم فإنها لن تكون حرية على الإطلاق. وللخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلا الأخلاق، لأن الأخلاق وحدها قادرة على حل هذا الإشكال بعد فشل المنهج المنطقي والمنهج السيكولوجي. وشعورنا بالواجب هو القانون الذي يحدد ما ينبغي أن يكون، ولو كنا نحيا مجرد حياة زمانية محسوسة، لما كان بوسعنا التحدث إلا عما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون أي عن الظواهر الماضية والحاضرة والمستقبلية فقط، من دون أن يكون بوسعنا التحدث عما ينبغي أن يكون، أو تصور ما يجب أن يكون(1).

ويبدو أنه لا سبيل للإفلات من التناقض إذا تصورت الذات التي تعتقد في نفسها الحرية، أنها حين تزعم لنفسها الحرية بنفس المعنى وبنفس العلاقة التي تكون عليهما حين تسلم بالقياس إلى الفعل نفسه بخضوعها للقانون الطبيعي. إذن المهمة التي تلقى على الفلسفة التأملية،هی ان تبين على اقل تقدير أن الوهم الذي تقع فيه بسبب هذا التناقض القائم على وصفنا الإنسان بأنه حر (نتصوره بمعنى وفي علاقة) مختلفة عما لو نظرنا إليه كقطعة من الطبيعة تخضع لقوانينها، والأمران يوجدان معاً بل ويجب تصورهما متحدان في الذات الواحدة اتحاداً ضرورياً، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما استطعنا تفسير: ((لماذا ينبغي علينا أن نرهق العقل بفكرة، وإن يكن من الميسور لها دون أن تقع في التناقض أن تتحد بفكرة أخرى تثبت صحتها إثباتاً كافياً، إلا أنها تلقى بنا في مأزق يضايق العقل وحده في ميدان إستعماله النظري))(2).

وتبعا لذلك فلو دخلت الحرية مجرى ظواهر العالم فإنها تحتمل أمراً من اثنين :

إما لن تكون حرية بل طبيعة: وستقع في التناقض مع نفسها .

ص: 408


1- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مصدر سبق ذكره، ص38.
2- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 167، 168.

أو أنها ستحطم القواعد التي تجعل التجربة ممكنة: وستقع في التناقض مع الطبيعة. ومن ثم فإمكان وجود الحرية مرتبط بوجودها في عالم آخر غير عالم الظواهر(1).

وعليه، فهل يمكن أن ننسب الحرية إلى عالم العقل أو المفاهيم المجردة التي تكون قائمة بذاتها، غير محتاجة إلى تجربة تؤكد وجودها أو تقيم الدليل عليها ؟ وهل تجلي الحرية في عالم العقل يبعدها عن الارتباط بعالم الظواهر؟ وهل يعني كانط من معنى افتراض الحرية هو افتراضها في عالم الظواهر ، لا نفي وجودها من العالم العقلي؟ وما هي وظيفة العقل التأملي؟ يرى كانط أن كل ما تطلبه الفلسفة العملية من العقل التأملي هو أن يضع حداً للمنازعات التي يقع فيها عند بحثه في المشكلات النظرية، ليتيسر من ثمَّ للعقل العملي إيجاد الاطمئنان والأمان لمواجهة الهجمات الخارجية(2).

للإنسان بحسب كانط طبيعتان، إذ إن وحدة طبعنا (التجريبي) منبعها (طبع عقلي) و لا زماني، وهو محصل حريتنا. فكل شخص منا قد حدد طبعه مرة واحدة خارج الزمان، بفعل من أفعال إرادة حرة، وأفعالنا إنما هي تجليات لفعل الإرادة هذا. إذن فوجود طبع عقلي مترأس على وحدة الطبع التجريبي لا يناقض القانون العام الذي تجري عليه العلية الميكانيكية. وتقع وحدة الطبع التجريبي تحت طائلة تجربتنا ليست إلا الظاهرة لطبيعتنا الحقيقية خارج الزمان، فالإنسان كما يرى كانط من حيث هو إنسان ليس إلا ظاهرة لنفسه(3). لكن وكما يقول : ((إن مطالبة العقل الإنساني المشترك نفسه بحقه المشروع في حرية الإرادة يقوم على أساس الشعور والافتراض المسلم به باستقلال العلل المعينة تعييناً ذاتياً خالصاً التي يؤلف مجموعها ما يتعلق بالإحساس وحده ومن ثم ما يعرف بوجه عام باسم الحساسية))(4).

ص: 409


1- المصدر نفسه، هامش المترجم رقم (104) ص 168.
2- المصدر نفسه، ص 169.
3- إميل بوترو، فلسفة كانط ، مصدر سبق ذكره، ص 370،369.
4- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 169.

وان خضوع أي شيء في عالم الظواهر لقوانين معينة، واستقلاله عنها من حيث هو شيء أو ماهية في ذاتها، أمر لا ينطوي على تناقض. وتفكير الإنسان وتصوره عن نفسه على هذا النحو المزدوج، يقوم على:

الشعور الذي لديه عن نفسه من حيث هو موضوع يتأثر عن طريق الحواس.

شعوره بنفسه من حيث هو عقل مستقل عن الانطباعات الحسية(1).

وهنا يذهب الإنسان إلى أن له إرادة تتصور أن الأفعال تكون ممكنة عن طريقها بل وضرورية. وعلية مثل هذه الأفعال قائمة فيه بوصفه عقلاً كما هي قائمة في قوانين النتائج والأفعال التي تطابق مبادئ عالم معقول، لا تزيد معرفته به في الحقيقة على أن العقل وحده (العقل المحض) هو الذي يضع له القانون. و هذه القوانين تخص العقل بشكل مباشر ومطلق بحيث لا يتسنى لما تحث عليه الميول والدوافع أن تخرق قوانين إرادته بوصفها عقلاً. بل إن العقل : ((لا يتحمل مسؤولية هذه الميول والدوافع، ولا ينسبها إلى ذاته الحقيقية، أعني إلى إرادته، وإنما ينسب إليها (أي إلى ذاته) التسامح الذي يمكن أن يحمله لها في نفسه إذا هو سمح لها بأن تؤثر على مسلماته بما يعود بالضرر على القوانين العقلية للإرادة))(2).

ويقرر كانط أن العقل العملي لا يتجاوز حدوده المرسومة له على الإطلاق حين يندمج بالفكر في عالم معقول، ولكنه يتجاوزها حين محاولته لمعاينة نفسه وأن يحس بنفسه فيها. وهذه الفكرة لها جانبان احدهما سلبي و الآخر ايجابي:

فهي سلبية بالنسبة للعالم المحسوس، الذي لا يقدم للعقل في تحديده للإرادة أية قوانين.

وهي فكرة ايجابية من ناحية واحدة فحسب، وهي (أن الحرية من حيث إنها تعيين سلبي، مرتبطة في الوقت نفسه بملكة ايجابية)، وعلى وجه التحديد بعلية للعقل نطلق

ص: 410


1- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 169،170.
2- المصدر نفسه،ص171،170.

عليها اسم الإرادة، أي بملكة الفعل، على نحو يجعل مبدأ الأفعال مطابقاً للشرط الذي يتيح للمسلمة التي ارتفعت إلى مستوى القانون أن تكون صالحة صلاحية شاملة(1).

ولكن إذا أراد العقل أن يستمد من العالم المعقول موضوعاً للإرادة، أي دافعاً لها، فهو بذلك يتعدى حدوده ويدعي العلم بشيء لا يعرف عنه لا قليلاً و لا كثيراً. ومن ثم كما يرى كانط فإن تصور عالم معقول ما هو إلا وجهة نظر يضطر العقل للتسليم بها وراء الظواهر ، لأجل أن يتسنى له أن يتصور نفسه عقلاً عملياً، وهو أمر مستحيل لو أن مؤثرات الحساسية كانت معيَّنة للإنسان، ومع ذلك يكون ضرورياً إن لم ننكر عليه الشعور بذاته بوصفه عقلاً، ومن ثمَّ من حيث هو علة عاقلة تصدر في أفعالها عن طريق العقل، أي علة حرة في أعمالها(2).

إذن ينطوي هذا التصور على فكرة نظام وتشريع يختلفان عن نظام وتشريع الآلية الطبيعية المتعلقة بالعالم المحسوس، كما يجعل تصور عالم معقول تصوراً ضرورياً، من دون أن يدعي انه يجعل فكره مطابقاً لغير شرطه الصوري، أي ((الشمول مسلمة الإرادة بوصفها قانوناً، ومن ثمَّ للاستقلال الذاتي للإرادة الذي يمكنه وحده أن يكون على أتفاق معها؛ في حين أن جميع القوانين التي تتحدد بعلاقتها بموضوع من الموضوعات تعطي تبعية لا نصادفها إلا في القوانين الطبيعية و لا يمكن أن تتعلق بغير العالم الحسي))(3).

إلا أن العقل يتعدى جميع حدوده المرسومة له إذا ما حاول تفسير كيف يصبح العقل المحض عملياً. و هذه المحاولة تتساوى تساوياً تاماً مع محاولته في تفسير كيف تصبح الحرية ممكنة، ذلك لأننا لا نستطيع تفسير شيء من دون إرجاعه إلى قوانين يمكن أن يعطي موضوعها في تجربة ممكنة. أما فكرة الحرية فهي فكرة

ص: 411


1- المصدر نفسه، ص 171.
2- المصدر نفسه، ص 172.
3- المصدر نفسه، ص 172.

خالصة، لا يمكن إدراك طبيعتها، ولا يمكن إخضاعها لقوانين الطبيعة، أو التجربة، فما هي إلا افتراض ضروري للعقل عند كائن يعتقد نفسه يمتلك إرادة. ولكن تعطل تحديد هذه الفكرة عن طريق قوانين الطبيعة لا يعني إعلان استحالة الحرية(1).

لا نجد كانط هنا ينفي وجود الحرية، بل كانت غايته من هذا التحليل الدقيق هو لبيان التصور السائد لفكرة الحرية المفترضة، لبناء أساس جديد يقوم على حل المشكلة عقلياً وكما سيتضح لنا لاحقاً.

ويرى كانط أنه من الطبيعي أن يؤدي عزل علية الإنسان (أي إرادته) عن جميع القوانين الطبيعية التي تحكم العالم الحسي في شخص واحد بالذات إلى التناقض؛ وعلى الرغم من ذلك يزول هذا التناقض إن أراد المرء تدبر الأمر، وأن يعترف منصفاً بأنه لابد من وجود الأشياء في ذاتها وراء الظواهر، تؤسس هذه الظواهر، و لا يستطيع المرء أن يطلب من القوانين التي تتحكم في أفعالها أن تكون هي نفس القوانين التي تخضع لها ظواهرها(2).

من كل ما تقدم، يريد كانط توضيح الحد الأقصى لكل مبحث أخلاقي، و تكمن أهمية هذا الحد في:

أن العقل لا يظل من ناحية في العالم الحسي، بطريقة تضر بالأخلاق، بحثاً عن الدافع الأسمى، وعن منفعة قريبة للإفهام وان كانت تجريبية.

وأن لا يظل من ناحية أخرى يرفرف عاجزاً بجناحيه من دون أن يتحرك من موضعه فی فضاء من التصورات المتعالية يحمل اسم العالم المعقول.

ولكي لا يضيع في خرافات ذهنية موهومة(3).

وفكرة العالم المعقول الخالص، الجامع لكل العقول، تظل دائماً فكرة نافعة

ص: 412


1- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 172،173.
2- المصدر نفسه، ص 174
3- المصدر نفسه،ص179.

يمكن أن تحقق عقيدة عقلية، وإن كانت كل معرفة تنتهي عند حدود هذا العالم ولا نستطيع أن نكون أعضاء في مملكة شاملة للغايات في ذاتها (للكائنات العاقلة)، حتى نحرص على الاهتداء بسلوكنا بمسلمات الحرية كما لو أنها قوانين طبيعية، لكي نستطيع عن طريق هذا المثال الرائع لمملكة شاملة للغايات.. إثارة الاهتمام الحي بالقانون الأخلاقي في نفوسنا(1).

إن العقل العملي وحده يُحدد مفهوم الحرية من خلال إعطائه حقيقة موضوعية. ومفهوم الحرية كفكرة للعقل، فإنه يتمتع بامتياز على كل الأفكار الأخرى، لعدم إمكان تحديده عملياً، فيكون المفهوم الوحيد الذي يعطي الأشياء في ذاتها معنى، ويجعلنا ندخل بالفعل العالم المعقول(2).

القانون الأخلاقي بوصفه قانونا ً للحرية:

رغم أن العلاقة بين الحرية والقانون الأخلاقي أساسية في فلسفة كانط الأخلاقية، فإن من الصعب غالباً أن نفسر بدقة طبيعة هذه العلاقة في عمله هذا، وكيف تطورت فكرته في هذه القضية من كتاباته قبل النقدية إلى عمله الأخير(3).

تبدأ فلسفة كانط من حيث الأخلاق ، نازعة نزوعاً صريحاً إلى الحرية، فهي لا تريد أن يكون الفعل الأخلاقي أخلاقياً ما لم يكن صادراً عن الإرادة الحرة. فنتائج الفعل مهما كانت أخلاقية لا تُعد أخلاقية أن صدرت عن خضوع لإرادة خارجية. فأخلاقية الفعل عنده تنبثق من (ناموس الفعل الذاتي)، وصدوره عن كياننا الداخلي، أي إن بعض الأفعال يجب أن تعدّ أوامر إلهية، لأنها ملزمة لنا إلزاماً داخلياً، و لا ينبغي أن ينظر إليها على إنها ملزمة لنا لأنها أوامر إلهية(4).

ص: 413


1- المصدر نفسه، ص 179.
2- جيل دولوز، فلسفة كانط النقدية، تعريب أسامة الحاج، ط2، 2008، ص 51.
3- Sergio Tenenbaum. The Idea Of Freedom And Moral Cognition In Groundwork Iii. Op. Cit P.555
4- عثمان أمين، رواد المثالية في الفلسفة الغربية، مصدر سبق ذكره، ص 122.

فتقوم الأخلاق عنده إذن على الحرية والشرط الأول الذي يجب توافره حتى يصبح المثل الأخلاقي حقيقة واقعية هو الحرية. وحيث لا تكون حرية لا تكون أخلاق، و لا أخلاقية من غير حرية(1).

وإن كان مذهب كانط الأخلاقي مذهباً اجتماعيا، يُنظر إلى الفرد فيه من جهة علاقاته بأفراد المجتمع، لا أن الفرد ينبغي أن يكون حراً وليس لأحد عليه سلطان، ما لم يلحق ضرراً بالآخرين. ومن ثم فالحرية عبارة عن الاستقلال الذي يملكه الفرد إزاء المجتمع الذي هو جزء منه من حيث إن هذا الاستقلال حق من حقوقه، وفقاً للتعريف الكانطي: ((الحق هو جملة الشروط التي تجعل الإرادة الخاصة لشخص ما متفقة مع إرادة آخر، طبقاً لقانون كلي للحرية))(2).

يعتقد كانط أن القانون الأخلاقي هو قانون الإرادة الحرة، و أننا يجب أن ننظر إلى أنفسنا كأحرار، فالحرية عنده تخضع للقوانين ولكن ليست قوانين الطبيعة التي يخضع لها الكائن العاقل، أي إن الحرية لا تعني عشوائية السلوك، بل هي خاضعة لإرادة الكائن العاقل القادر على السلوك بحسب تصور القوانين. أي إنها تخضع للعقل وقانون العقل . ف- ((كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين. الكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين، أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك. ولما كان العقل مطلوباً لأجل استنباط الأفعال من القوانين، فليست الإرادة سوى عقل عملي. وإذا كان العقل بغير نزاع هو الذي يعين الإرادة، فإن الأفعال التي تصدر عن مثل هذا الكائن، التي تعرف من الناحية الموضوعية بأنها ضرورية، هي كذلك من الناحية الذاتية أفعال ضرورية))(3).

و بما أن الإرادة هي ملكة العقل كما- -يرى والإرادة خاصية الكائن العاقل إذن

ص: 414


1- المصدر نفسه، ص119.
2- المصدر نفسه، ص 125، 126، نقلا عن كانط: (نظرية الحق) مدخل ب ترجمة فرنسية بقلم بارني باريس 1853.
3- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 77،78.

يمكن القول أن أصل (الحرية) هو العقل ويمكن أن نطلق عليها (الحرية العقلية). أي إنها من الأفعال الضرورية للعقل.

في كتاب نقد العقل العملي يدّعي كانط أن موضوع الشيء بذاته (النومن) يقدم كل شيء في الماضي الذي يحدد أفعالنا الحرة لكن الموضوع المشابه الذي من جهة أخرى مدرك كذلك لوجوده الخاص به كأنه شيء بنفسه، كذلك يعرض وجوده بقدر ما أنه لا يصمد أو يقف تحت شروط مؤقتة ولنفسه كأنه ممكن تصوره فقط بالقوانين التي يعطيها لنفسه من خلال العقل. وفي هذا الوجود لا شيء سابق إلى التحديد لأرادته، كل فعل وبصورة أعم كل تحديد متغير لهذا الوجود وفقاً للوعي الداخلي، حتى التاريخ الداخلي لوجوده ككائن حسي. هو ملحوظ في الوعي لوجوده المدرك فقط كنتيجة، وليس كأساس محدد لسببيته كشيء بذاته(1).

ونتيجة (الواجب) المطلق الذي يمليه العقل، هي القدرة و الإستطاعة في رأي كانط. فإن كان ينبغي أن لا أكذب، إذن كان من الممكن إلا أكذب. فإن كان لديّ هذا الدافع أو ذاك، مما ترتب عليه بالضرورة تفوهي بتلك الكذبة، لكن هذا لا يصدق إلا على المجال الزمني. أما من وجهة نظر العقل، فالحق كان ينبغي إلا أكذب، وكذبي وليد حرية معينة، حرية ليست خاضعة للزمان، ولكنها حقيقة واقعية. وحتى إن لم يفهم الإنسان طبيعة تلك الحرية، فإنه لا بد من أن ينسب لنفسه مبدء حراً يفسر به ما عليه من التزامات خلقية، وهذه الحرية التي يتحدث عنها كانط ليست مجرد حرية ظاهرية مستندة لإرادة خاضعة للضرورة العلية، بل هي حرية (ترانسندنتالية) تعبر عن قدرة حقيقية في توجيه ذواتنا، في استقلال تام عن سائر المعطيات التجريبية، والواقع أن طابع الواجب اللامشروط يفترض تلقائية لا مشروطة لدى الموجود الذي يعمل هذا الواجب، ومن ثمَّ علينا التسليم بثنائية باطنة في الإنسان، ما دامت أفعالنا تندرج من ناحية في سلسلة الظواهر العلية فتتصف بأنها تجريبية، نسبية، قابلة للتفسير، ومن ناحية أخرى تعبر عن اختيار أصلي لا زماني، طابعه معقول، فتخلع على الإنسان صفة

ص: 415


1- Derk Pereboom، Kant On Transcendental Freedom، Op. Cit، P.30.

الحرية وتجعل منه موجوداً مسؤولاً. أي إن كل فعل أخلاقي يفترض لدى الإنسان حرية أصلية هي الشرط المطلق الذي من دونه لن يكون للشعور الأخلاقي أي وجود. أذن فكانط ينتهي إلى الإيمان بالحرية، تلك الحرية التي من دونها لن يكون ثمة واجب، هو في حد ذاته واجب، إن لم يكن أول الواجبات(1).

والحرية كما يرى هي أيضاً الوحيدة من بين جميع أفكار العقل التأملي التي نعرف قبلياً بإمكانيتها، ولكن من دون أن ندركها، لأنها شرط القانون الأخلاقي الذي لنا معرفة به. فمفهوم الحرية، باعتبار أنهُ تمَّ البرهان على حقيقته بقانون ضروري للعقل العملي، إنما يشكل الآن حجر الغلق في بناء منظومة العقل المحض بكاملها، حتى التأملي، وكافة المفاهيم الأخرى (مفهوم الله والخلود) التي تبقى فيها مجرد أفكار من دون قوام، أما الآن فهي تتصل به وتنال معه و به قواماً وحقيقة موضوعية، أي إن إمكانيتها قد حصلت على برهان بأن الحرية هي حقيقية، لأن هذه الفكرة تتجلى عبر القانون ألأخلاقی(2).

إن القانون الأخلاقي بالنسبة لإرادة الكائن الكلي الكمال هو قانون القداسة، إلا أنه بالنسبة لكلّ كائن عاقل مخلوق هو قانون الواجب، وقانون تعيين أفعال هذا الكائن نفسه بواسطة احترام القانون وعن تهيب أمام واجبه. ويجب ألا يؤخذ أي مبدأ ذاتي آخر كونه دافعاً، وإلا يكون من الممكن أن ينتهي الأمر بالفعل إلى أن يكون مطابقاً لما يأمر به القانون فعلاً، لكنه لا يكون قد تم بدافع من الواجب حتى ولو تم وفقاً له، إذ لا تكون نية القيام بالفعل أخلاقية ، و هذا ما يعود إليه الأمر حقيقة في هذا التشريع. أما الواجب والالتزام المستحق فهما التسميتان الوحيدتان اللتان يليق بنا أن نطلقهما على علاقتنا بالقانون الأخلاقي. صحيح أننا أعضاء مشرعون في مملكة الأخلاق الممكنة بواسطة الحرية، التي تقدم لنا كونها موضوع احترام بالعقل العملي، لكننا في الوقت نفسه رعايا فيها ولسنا أصحاب السلطان، وما تجاهلنا لمرتبتنا الأدنى بوصفنا مخلوقات، ورفضنا بدافع الغرور لهيبة القانون المقدس، سوى خيانة له، بحسب روحه، حتى ولو كان قد أوفى حرفه كل الحق(3).

ص: 416


1- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مصدر سبق ذكره، ص39.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص44.
3- المصدر نفسه،ص158،157.

إذن السؤال عن كيفية إمكان قيام الأمر الأخلاقي المطلق؟ فيقول كانط : ((يمكن الإجابة عليه بمقدار ما نستطيع بيان الافتراض الوحيد الذي يمكنه أن يقوم على أساسه، ونعني به فكرة الحرية، وبمقدار تفهمنا للضرورة التي ينطوي عليها هذا الافتراض، وهو أمر يكفي لضمان الاستعمال العملي للعقل، أي للاقتناع بصلاحية هذا الأمر المطلق، وصلاحية القانون الأخلاقي تبعاً لذلك، أما كيف يصبح هذا الافتراض نفسه ممكناً، فذلك ما لا سبيل لعقل بشري أن يفهمه أبداً))(1).

لكن كما يشرح لنا بقوله: ((لكن لما كانت التجربة لا تقدم لنا علاقة علة بین ونتيجة إلا إذا كانت هذه العلاقة قائمة بين موضوعين من موضوعات التجربة، وكان على العقل المحض هنا بوساطة أفكار بسيطة (لا تقدم أي موضوع للتجربة) أن يكون هو علة لمعلول موجود بغير شك في التجربة، فإن من المستحيل علينا نحن بني الإنسان تمام الاستحالة أن نفسر كيف ولماذا يحقق لنا المنفعة شمول المسلمة بوصفها قانوناً، و لا كيف ولماذا تحقق الأخلاقية تبعاً لذلك المنفعة))(2). فالشيء المؤكد هو أن الأخلاقية تكون لها قيمة بالنسبة لنا لمجرد أنها تحقق مصلحة. فتكون قيمتها عندنا من حيث إننا بشر، فهي تنبع من إرادتنا بوصفها عقلاً، أي من ذاتنا الحقيقية، وفيما يتعلق بالظاهرة الخالصة، فإن العقل يدرجه بالضرورة تحت طبيعة الشيء في ذاته(3).

فإن القانون الأخلاقي، بصفته قانون الحرية كما يقول كانط: ((إنما يأمر بمبادئ معيَّنة عليها أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن الطبيعة، وعن توافق هذه مع ملكة الرغبة عندنا (بصفتها دوافع) لكن الكائن العاقل الفاعل في العالم ليس هو نفسه في الوقت عينه، على الرغم من ذلك، علة العالم والطبيعة، فإذن لا يوجد في القانون الأخلاقي أيُّ سبب ، مهما كان صغيراً، لارتباط ضروري بين الأخلاقية والسعادة المتكافئة معها لدى كائن ينتمي إلى العالم كجزء منه ومن ثم تابع له، و لا يستطيع

ص: 417


1- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 176،177.
2- المصدر نفسه،ص176.
3- المصدر نفسه، ص 176.

لهذا السبب بالذات أن يكون علة هذه الطبيعة، كما أنه لا يستطيع، بقواه، فيما يتعلق بسعادته، أن يجعل الطبيعة متفقة باستمرار مع مبادئه العملية))(1).

يأمرنا العقل بطاعة القانون الأخلاقي، ويكون هذا الأمر متناقضاً إن لم يكن لدينا إمكانية الاستجابة له. ومن ثمَّ فلا حاجة لنا بالالتفاف إلى اتساق الفكر مع نفسه اتساقاً ضرورياً، من أجل استخلاص تصور الحرية من تصور الواجب. ولمعرفة طبيعة الحرية و إمكانيتها يمكن تبسيط هذا التدليل الأساسي:

ماذا ستكون الحرية مستخلصة على هذا النحو؟ يُعبر عن الأمر الأخلاقي بكلمة (يجب) لا بكلمة (يتعين)، أي إنه الالتزام بالمعنى الدقيق لا ضرورة قاهرة و آلية. فالقانون الأخلاقي لا ينتج ! آثاراً لا مناص منها، كما هو حال القوانين الطبيعية. والأفعال التي يأمر بها قد لا تتحقق. فهي متصورة على أنها إمكانية أنجاز ما يأمر به القانون، إذن هي صورة من صور العلية. وفكرة العليَّة متضمنة فكرة القانون، ومن ثم فالحرية يجب أن يكون لها قانون ما ملائم لطبيعتها. إن الحرية لا توجد عندنا إلا محددة بالقانون الأخلاقي. فلا نكون أحراراً، إلا بقدر ما نكون خاضعين للقانون الأخلاقي. إذن إن كانت الحرية من جهة هي الاستقلال بإزاء قوانين العالم الطبيعي، فهي من جهة أخرى التبعية بالقياس إلى القانون الأخلاقي(2).

هل يمكن تصور الحرية ممكنة؟ كيف نوفق بين الحرية التي يفترضها القانون الأخلاقي وبين الضرورة الآلية التي تفرض نفسها على جميع أفعالنا؟ لاحظ كانط فلسفة ليبنز قد تحل هذه الصعوبة وهي نظرية الحرية باعتبارها (عفوية الذهن) وطبقاً لهذه النظرية فالفعل الحر محدداً هو أيضاً، وفي الوقت الذي تكون فيه الظواهر الطبيعية محددة بظواهر طبيعية أيضاً، فتكون أفعالنا الحرة محددة بتمثلات الفهم. إذن الحرية والآلية لا تختلفان إلا في طريقة التحديد. وهذا الحل في نظر كانط حل وهمي. ((فالسبب الذي لأجله تكون الحرية مستحيلة في الطبيعة يوجد آخر الأمر

ص: 418


1- المصدر نفسه، ص218.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص 367، 368 .

في الزمان. فنظرية ليبنتز تحت شرط المكان تركت شرط الزمان، لأنه إنما تتعاقب تمثيلات الفهم في الزمان))(1).

الخاتمة

اخيرا يمكن ان نقول ان الخطوة الأولى لحل تلك الاشكالية التي لازمت مفهوم الحرية عند كانط، هي الاخذ بنظر الاعتبار تلك العلاقة الجدلية التي ارتبط بها مفهوم الحرية مع كل من مفهومي السببية، والقانون الأخلاقي. حيث أن السببية التي مثلت حكماً تركيبياً أولياً عند كانط وليس تحليلياً، هي من اهم الأحكام التي توصل إليها، التي كان للتجربة دور في صياغتها. على ان مفهوم السببية بوصفه ضرورة طبيعية، لا علاقة له بمفهوم السببية بوصفه حرية. وهذا يعني وجود نوعين من السببية، تمثل الأولى اقتران بحالة سابقة بموجب قاعدة في العالم المحسوس. وتمثل الثانية قدرة الفرد للبدء من ذاته، أي لا تخضع سببيتها لسبب آخر من حيث الزمان ووفقاً للطبيعة.

ومن خلال البحث في ميتافيزيقا الأخلاق عند كانط وجدنا أن القاعدة الأساسية لأفعالنا يجب أن تحكمها الأخلاق أي إننا نستند إلى قاعدة الأخلاق في الفعل الحر، فالأفعال المحكومة بقوانين وضعية أو محكومة بالدين ليست أفعالاً أخلاقية بذاتها. فمثلاً (الغش في البيع ، فلو غش أحدهم في البيع فإن القانون الوضعي يحدد له عقوبة، والدين يحاسبه، أيضاً، ومن ثم فإنه إن ترك الغش فسيكون خوفاً من العقاب) هذا ما يرفضه كانط ويعتبر أن تركه الغش ليس خيراً بذاته، لأنه لم يبن على أساس الأخلاق. فلو ترك الغش لأنه فقط يجده فعلاً غير أخلاقي ومن ثم لا يرضاه، وليس خوفاً من العقاب، حينها فقط يكون الفعل أخلاقياً بذاته، ومحققاً في ذات الوقت الغاية الدينية والقانونية معاً. لذا يحرص كانط على أن يكون القانون والدين مبنيان على قاعدة الأخلاق، وليس العكس. فالأخلاق تسبق الدين وتسبق القانون. وبناءً على هذه الأخلاق الميتافيزيقية الكانطية، كان ينبغي على الحرية أن تكون مستندة الى ذات القاعدة. فحين أمارس حريتي في فعل ما، يجب أن أخضع نفسي لقانون

ص: 419


1- المصدر نفسه، ص 369،368.

الأخلاق وهذا الإلزام أخلاقي بحت. و قاعدة الأخلاق تتمحور حول (الواجب). وقيمة هذا الواجب بأنه لا عقوبة تتبعه كما في القانون الوضعي أو الدين. فحين أخضع للواجب الأخلاقي فإني أمارس الفعل الأخلاقي أو الحرية بذاتها. ومن خلال التمييز بين ما يشير إلى عالم الأشياء في ذاتها، وبين ما يشير لعالم الظواهر، نصل الى ان الإنسان مجبر كونه ظاهرة، وحر كونه شيء في ذاته. وهذه هي الخطوة الثانية التي ينبغي تظل شاخصة في الذهن اثناء قراءة النص الكانطي، وهي تفرقة أشار لها كانط منذ البداية بين الشيء لذاته والشيء في ذاته، وهذه التفرقة هي التي من شأنها ان تحل اشكالية هذا البحث، بل هي التي تفسر الكثير من تناقضات هذا العالم.

وإذ وجدنا ان هناك امكانية لحل اشكالية الحرية من جانب واحد وواحد، فقط، هو بحثها في حدود العقل الخالص، من حيث ان تصور الحرية وتصور السببية لا يناقض احدهما الآخر، فهي حرية ترانسندنتالية، في مقابل استحالة تصورها في عالم الظواهر، لذا كان ينبغي البحث عنها في حدود العقل العملي الذي من شأنه ان يعطي للحرية حقيقة موضوعية عملية من دون الخوف من الوقوع في تناقض مع الضرورة الطبيعية. الا ان اشكالية فهم الحرية في فلسفة كانط بمجملها تظل قائمة، وذلك من خلال ظهورها في تأسيس متافيزيقا الاخلاق بوصفها اداة للتفسير الذاتي للارادة التي يتميز بها الإنسان عن طريق خضوعه للقانون الاخلاقي، وفقا للواجب. في مقابل ظهورها نقد ملكة الحكم بوصفه مسنداً لحل التناقض الظاهر بين عالم الطبيعة وعالم الاخلاق، أي بين العقل النظري والعقل العملي. ليصل الى نتيجة مفادها ان كل ما في الطبيعة من جمال ونظام وانسجام، من جهة، ومبادئ عقلية من جهة اخرى، لا يمكن ان يُفهم كل ذلك الا عن طريق الاخلاق وحرية خالصة يملكها الإنسان والايمان بوجود الله. وهذا يحيل الى مفهوم آخر للحرية يتحرك في حدود الدين والذي هو عند كانط مجال للحوار الحر لانه قائم على اتصال ارادي اختياري. وهو مفهوم يصعب تصوره في مقابل التصور السياسي لمعنى الحرية بوصفها الحق الأول للانسان الذي يرجع إليه لتحقيق الخير العام داخل المجتمع، فالحرية هنا هي مفتاح تحقيق السلام في المجتمع، وهو المفهوم الذي ظهر في مشروع كانط للسلام الدائم.

ص: 420

المصادر

إلياس بلكا، الوجود بين السببية والنظام، المعهد العالمي للفكر الاسلامي - هرندن - فرجينيا - الولايات المتحدة الامريكية، مكتب التوزيع في العالم العربي بيروت - لبنان، ط 1 ، 2009.

أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة عبدالرحمن بدوي، منشورات الجمل، ط1، 2002.

إمانويل كنت، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت - لبنان، 2008.

أمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، الحمراء بيروتلبنان، ط 1،2005

أميرة حلمي مطر ، فلسفة الجمال - اعلامها ومذاهبها، دار قباء - القاهرة، 1998.

إميل بوترو، فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، مصر: الهيئة للكتاب، 1972.

جيل دولوز، فلسفة كانط النقدية، تعريب أسامة الحاج، ط2، 2008.

زكريا إبراهيم مشكلة الحرية، سلسلة مشكلات فلسفية، ط 3،مكتبة مصر، 1972.

عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كانط، وكالة المطبوعات - الكويت، 1979.

عبد السلام بنعبد العالي، الميتافيزيقا العلم والايديولوجيا، دار الطليعة - بيروت، ط2، 1980.

عثمان أمين، رواد المثالية في الفلسفة الغربية، دار المعارف، 1967.

عمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مشروع مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي، رأس بيروت - لبنان، 1988.

فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصر العربية للنشر والتوزيع - القاهرة، ط1، 2001 .

كريستوفر وانت، أندزجى كليموفسكي، أقدم لك كانط، ترجمة أمام عبدالفتاح أمام، المشروع القومي للترجمة، أشراف جابر عصفور، العدد 430 ، الناشر - المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2002.

د) مصادر باللغة الأنكليزية

Christine M.Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Kant's Moral Philosophy. 6 - Morality As Freedom. Harvard University. Cambridge University

Press.

Graham Bird. A Companion To Kant.Part Lll: The Moral Philosophy: Pure And Applied. 18. Andrews Reath. Kant 'S Critical Account Of Freedom. 2006.

Henry E. Alison. Kant's Theory Of Taste. A Reading Of The Critique Of Aesthetic Judgment. Modern European Philosophy. Cambridge University Press.

ص: 421

Imanuel Kant. Groundwork For The Metaphysics Of Morals. Edited And Translated By Allen W. Wood. With Essays By J. B. Schneewind. Marcia Baron.

Shelly Kagan. Allen W. Wood. Yale University Press. New Haven And London. 2002.

Michelle kosch. freedom and reason in kant. schelling, and kieregaard.published in the united states by oxford university press inc. new York. first published. 2006.

Patrick R. Frierson. Freedom And Anthropology In Kant's Moral Philosophy.Cambridge University Press. 2003.

المجلات (بحوث ومقالات)

Derk Pereboom. Kant On Transcendental Freedom. Philosophy And Phenomenological Research. Volume 73. Issu 3. November 2006. University Of Vermont.

Sergio Tenenbaum. The Idea Of Freedom And Moral Cognition In Groundwork Iii. University of Toronto. In Philosophy And Phenomenological Research. Vol.84. Issue 3. May 2012, Pages 555-589.

رسائل وأطاريح

Eilert Sundt - Ohisen. Kant And The Epistemology Of Metaphysics. King Of College London.

Timothy James Aylsworth. Freedom In Kant's Critical Philosophthe Keystone Of Pure Reason, Texas AM University. 2010.

ص: 422

الأخلاق الذاتیة الکانطیة و الخدمة الالهیة

اشارة

هادي قبيسي(1)

أفكار كانط مر عليها الزمان، وجاءت من بعدها كثير من المحاولات المؤيدة أو المناقضة أو الناقدة، لكنها تعبر عن حالة من حالات الفكر الإنساني، قد تتكرر في ميادين وأزمنة وحضارات مختلفة ومتعددة، ومن هنا فإننا عندما نحاور تراث كانط نكون في حوار محتمل مع النماذج المعاصرة لتلك الحالة الفكرية والمعنوية، فلا نكون في مسار نبذل فيه الجهد النظري المتمركز حول الماضي فحسب، بل إننا نحاول طرق أبواب متناظرة في زمننا الحالي، لا سيما إذا كانت احتجاجاتنا منصبة على الأسس والمنطلقات لا النتائج والجزئيات. فقد نجد ميول كانط الفكرية لدى كثيرين في زمننا، ومن ثمّ يمكن أن نحاورهم عبر مرآته وتأملاته، إذ يمكن لكتاباته أن تكون تعبيراً عن مكنوناتهم وتطلعاتهم.

الإشكاليات التي كان يسعى خلفها كانط، وجهوده في الحفر عميقاً للوصول

ص: 423


1- باحث في الفلسفية وعلم الاجتماع الإسلامي. كانت بداية هذه المقاربة للباحث تؤكد ان أفكار كانط، رغم ما جاء بعدها من دراسات نقدية او مؤيدة ، الا انها تبقى تعبر عن حالة من حالات الفكر الإنساني، الا انه يصل الى نتائج قوامها ان كانط حاول استنقاذ الأخلاق من فخ النسبية والاستنسابية البراغماتية، لكنه لم ينجح في إخراجها من الذاتية، نظرياً يمكن له أن يدعي وصلاً بالأصل الأخلاقي، لكنه وصل غامض وغير دقيق معاييره مفتوحة على كل احتمال وبذلك يغدو الاختيار مشروطاً بالأشخاص والظروف، فهنا حصل التمكين لأصل الأخلاقية، لكن النظام الأخلاقي ظل عرضة للمجهول. المحرر

إلى جذر رؤية فلسفية، تستكمل توكيد ضرورة ثبات قانون الأخلاق واستقراره، استناداً إلى العقل البريء والصافي، ظلت أسيرة إمكانات كانط الذاتية واستجابته للنقاشات الجارية في زمنه، فلم يتحرك في إطار من رؤية كلية تضع العقل والإنسان والنظم الحياتي في سياق مسوّغ ومنسجم هادف. فتح كانط المجال للعقل ليسبح في عالم الوجود، من دون الغوص في منزلقات الوجود أو التبصر في الغاية من ذات الكينونة، أو التآلف مع نظم الطريق المنسجم مع الفطرة للوصول إلى تلك الغاية، ناهيك عن الالتفات أو التنبه على أسباب الاحتجاب والشبهة والالتباس في هذه القضايا الحاسمة التي تتصل بكل أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية. لا نبتغي أن نحمل كانط أكثر مما حمل نفسه من مسؤوليات، لكننا سنحاول هنا أن نفهم دائرة حركته واشتباكاته ومحاوره، في أي جبهة تحركت وأي مدارات أغفلت.

سنقدم في هذه المقالة نقداً معيارياً كلياً لفكر كانط الأخلاقي من وجهة نظر إسلامية. يستند هذا التقييم إلى محاولة سابقة لتحديد المعايير القرآنية التي يمكننا الاستناد إليها في نقد النتاج الفكري الإنساني المستند إلى ذاته منفصلاً عن الوحي وتمحيصه، وقد نشر جزء منها هنا في عدد سابق(1)، وهي معايير تحدد دائرة الاختزال التي يقع فيها المجهود المعرفي الإنساني حين يدور حول ذاته، ويقصي الوجود الإلهي بكليته أو بمندرجاته التشريعية. وهي تهدف إلى استدخال النص الإلهي بوصفه مصدراً مرجعياً نقدياً فى مقاربة النصوص البشرية . وحينما نقارب الحوار بلغة معيارية، لا نبتغي إقامة محكمة، بقدر ما نسعى لترميم محاولة كانط والتبصر في تعثراتها ونقائصها. فعلى الطرف النقيض للاختزال يقف السعي نحو الاستكمال.

أنانية / ربوبية:

المعيار الأول الذي نستفيد منه في الحوار مع مجهودات كانط الأخلاقية، يتعلق بأصل مرجعية الذات في نظم الحياة على أساس قانون الأخلاق وترسيم سبل طيّ طرق الترقي والتكامل. بعضهم يرى أن ليس ثمة حاجة إلى ربوبية الخالق القيوم،

ص: 424


1- قبيسي، هادي / الإنسان مختزلاً / الاستغراب / العدد السابع / ربيع 2017

فهذا شأن فردي خاص، لكننا نرى أن في الرؤية الوحيانية توكيد على ضرورة الدور الإلهي في التكامل الفردي والاجتماعي، وهناك آيات قرآنية كثيرة في هذا الصدد،«یهدی الله لنوره من يشاء»(1)و «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم»(2)و«الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»(3).

بالمقابل، استناد كانط إلى العقل المحض، بما يمثله من إرادة ذاتية، في سعيه للوصول إلى تعالي الذات الإنسانية، هو إحدى المنزلقات الوجودية التي عثر بها في سعيه الدؤوب للخلاص من التراخي الأخلاقي، الذي انسحب من السلوك الحياتي المعاش إلى الأصل النظري ليهدم مسوّغ وجود النظم السلوكي.كان هم كانط المركزي تثبيت أصالة القيمة الأخلاقية وثباتها، بالارتكاز إلى العقل المستقل المنفرد، فهناك النجوم في السماء والشعور الذاتي الأخلاقي، ليس ثمة إله في البين.

لم يستطع كانط الوصول إلى ركن وثيق، ليبني عليه بنيانه، فقد وقع من حيث لا يدري، وإن من حيث التعبير والتنظير على الأقل، في وهدة الذاتية وبناء الأنانية، واعتبار الذات مرجعية الوجود ومسند المعرفة الأول والنهائي. نقول إن الخلل قد يكون من حيث التعبير والتنظير في الحد الأدنى لأن كانط قد لا يكون لديه النية في التحول إلى محورية الإنسان أو ألوهيته وإنما لم يجد أمامه سبيلاً آخر أو مرجعية بديلة. قد يعبر المتفلسف عن فكرة لم يجد بديلاً منها في تجواله المنطقي، لكنه قد لا يتبنى بالضرورة كل مندرجاتها إذ تكون في طور الولادة النظرية ولم تخضع للتجربة والمعايشة متعددة الأبعاد والجوانب، كما يمكن أيضاً ألا يسبر كل أغوارها أو يتلمس تداعياتها المنطقية والمعنوية بأجمعها، ولذلك احتملنا ألا يكون كانط قد تآلف مع فكرة محورية الإنسان في إدراكه العقلي الواعي. لكن لغته وطروحاته تعكس ما كان يدور في أعماق كانط المنعزل عن العالم، وإن تبني تلك الدروب البحثية الشغوفة ومآلاتها ومعاييرها الأخلاقية التي توصله إليها يقودنا إلى العيش في معزل عن كانط الوجودي.

ص: 425


1- سورة النور / الآية الخامسة والثلاثين.
2- سورة يونس / الآية التاسعة.
3- سورة العنكبوت / الآية التاسعة والستين.

قد يكون كانط المتخلق مثالي السلوك إلى حد كبير، وقد يكون كانط المتفكر بريئاً في مقاصده واندفاعاته، لكن كانط الكاتب سلك بنا سبيلاً وعراً نحو الغربة الفردانية شاء ذلك أو لا، وهذا هو كمين النبوات الأرضية، فهذه النبوات تبقى عرضة لآثار الاشتغال العقلي ومترتباته حينما لا يكون له نافذة تقيه ظلال المعزل وعتمة بئره .

صحيح أن سالكي طريق العبودية يستندون إلى العقل والقلب في معرفة الرب المعبود، لكن عندما يلوح لهم بارق إلهي يحصل التسليم والانقياد وتدور الذات حول مرجعية الإله الموجد القيوم. يوضح القرآن الكريم هذه الحالة في الآية «لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(1)، هنا العقل خرج من العزلة وشرنقة الذات، إلى فضاءات الاستماع إلى الوحي الإلهي والإلهام الرباني. لم يخسر فعاليته ودوره التعرفي، ولم يسقط في بئر الفردانية.

وهذا النقد، الذي ينطلق من تطلع مثالي لا يتيسر إلا لمن استند في رؤيته إلى فلسفة كلية تعود بالكينونة إلى البساطة الأولى ووحدة الأشياء، بما يجعل من السير الخُلُقي رجوعاً إلى أصل لا نزوعاً إلى محتد كيما يوجد هذا السير، الانسجام بين دوافع نكران الذات. التي هي أصل الأخلاق وبين الحاجة للوجود وإثبات حقيقة الذات. إن لم يحل هذا الإشكال المصيري تبقى النفس البشرية مأخوذة برغباتها الوجودية محفزة بقلقها الحتمي، ومن ثم متمسكة بمصالح الأنا، موجدة المسوغات الكثيرة للتخلي عن الواجب والمسؤولية تجاه الآخر

النظام الأخلاقي الإسلامي دار حول وجود رب، تبدأ من لدنه أصول التربية الأخلاقية بنظريتها وتعاليمها، وكذلك في وجودها واستمرارها، فهو قائم قيوم بربوبيته، سواء عبر تنزيل الوحي وتشريعه نظم الحياة، أو في قيادة السالكين نحو الكمال بيد الرعاية والعناية. تلك الربوبية تستطيع أن تنزع عن الإنسان ثياب الأنانية الضيقة، وتلبسه ثياب العناية. الرحمانية الموهوبة من المنان الخلاق، وحينها يمكن أن يغدو الإنسان «الولي الخادم»، الذي يقدم كل ما في وجوده لأجل الآخرين، فهو

ص: 426


1- سورة الأنبياء / الآية السابعة والعشرين.

الباقي بالله في غيب الحقيقة وحقيقة الغيب يستمسك باليد الإلهية، والفيوضات الربانية التي تأخذه من ضيق المخلوق إلى سعة الخالق.

نجد آثار هذا المنهج في الخطاب الإنساني الموجه إلى الواجد القيوم، المتوارث عن سلالة الرسالة الإلهية، فنسمع سيد الساجدين عليه السلام يتلمس بداية الطريق نحو الأخلاقية السامية في دعائه المعروف باسم «دعاء مكارم الأخلاق» بعبارة افتتاحية (اللهم وفر بلطفك نيتي)(1)، طلب من الواجد القريب من حبل الوريد، لتوفير النية والغاية وسمت الجهد الصحيح المستند إلى معرفة حقائق الوجود، تلك المعرفة التي تطلب من الله هي الأخرى كما في الحديث الشريف المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اللهم أرني الأشياء كما هي). هذه العبارة التي يفتتح بها أوائل دعاء مكارم الأخلاق، تشكل المدخل الواقعي والوجودي نحو التحرر الأخلاقي، المنسجم مع العقلانية والحرية ، لكن مع الالتفات، في الوقت نفسه، إلى وهمية العزلة الإنسانية، والحضور الإلهي الحقيقي، الذي يأخذ السالك خطوة فخطوة نحو الطهرانية القصوى.

العقلانية هنا تدرك واقع ظهور القيومية وشهود الربوبية الإلهية على عالم الخلق وتسلطها على قلب الإنسان، والحرية تتأتى من الخروج من دائرة القيد الترابي. ولا بد من الإشارة كذلك إلى أن متن دعاء مكارم الأخلاق، الذي أخذناه واحداً من أهم مرجعيات الأخلاق الإلهية، ينطوي على رؤية تفصيلية تعتمد في أساسها على فكرة الدعاء والطلب، بدءاً من النية وصولاً إلى سائر المراتب والصفات الجمالية والجلالية الأخلاقية.

الإنسان / الله:

المعيار الثاني وهو يأخذنا إلى نقد اختزالية الهيومانيسم، محورية الإنسان مقابل محورية الله، وهنا العثرة الكبرى لهذا الاتجاه، فقد وضع واجب الوجود في موقع أدنى من ممكن الوجود، فأدخل المساعي الفكرية الساعية لمعرفة الذات وغاياتها

ص: 427


1- الصحيفة السجادية / دعاء مكارم الأخلاق.

في التيه والضياع، من خلال رؤية تختزل الواقع وتغير حقائقه. الاعتقاد بمحورية الإنسان، بما هو متفكر يسبر غور العالم، يفتش عن ذاته ومآلاته، وكيفية الوصول إلى كمال أوصافه، تدفعه نحو الغربة والأحادية، وهذه إحدى مآلات العقل المنطوي على ذاته المستند إلى قدراته، من دون التماس لمنبع الوجود، ذلك المنبع الواعي والغائي الخلاق والجميل اللامحدود.

تم تغييب هذا الأصل في مسارات كانط ولغته، وبدلاً من ذلك تم إعطاء دور المحور والمنشأ للعقل المحض، فيما أعطي لنبع الوجود الأزلي الأول صفة أثر من آثار العقل، فالله سبحانه وتعالى مجرد «فكرة»(1)، توصل إليها العقل وأنتجها وربما يوظفها في سياق مشروع تأصيل منطقه، على أنه مرجع أول مستقل بذاته، في ميل يقرب من شطحات فيورباخ واعتبار الله حاجة استحدثتها عوامل العقل المبدعة. الألوهية البديلة هنا غدت للإنسان الموكول إلى نفسه، المعتمد على تصورات عقله وأبحاثه، الذي ليس له موئل في كنف الواجد الخالق. وإن من أكبر عثرات الأخلاق الاختزالية هي هذا الاستبدال، ولو الجزئي، بين الإنسان والإله، فهذه عثرة أخلاقية وإن كانت ثغرة في العقلانية قبل ذاك.

لا يستقيم وجود الإنسان بذاته لأنه حادث تقوم بغيره، وإحالة الإنسان إلى ذاته دفع له في ظلمات الغربة، ومتاهات البحث المستعصية والمتطاولة، التي ليس بمقدورها أن تصل به إلى الانسجام الشامل الحقيقة في شتى عوالمها ومستوياتها ومراتبها،ففي سعي كانط إلى ترتيب حياة الفرد ضمن نسق منسجم مع العقل والواقع، مسيرة لم تستكمل وجهد لم يصل الذروة.

في المنظور القرآني، القلب المتوجه نحو فاطر السماوات والأرض وخالق النفس «وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون»(2)، يدرك أن الغاية من النظام الأخلاقي هو التماثل مع الجميل المطلق المتعالي بلا حدود، ولذلك فإن حركة

ص: 428


1- كانط، إيمانويل / نقد العقل العملي / ت: ناجي العونلي / جداول / 2011 / ص 90.
2- سورة يس / الآية الثانية والعشرين.

النضج والتسامي الأخلاقي تحمل قابلية الاستمرار والنمو، بالمعونة الإلهية والرعاية الربانية، وكذلك من خلال محورية أصل الجمال. وكيف لأخلاقية لا تهتدي إلى الجميل الأزلي وتتأدب في تعاملها مع حضوره الذي يخترق العوالم ومراتب الوجود أن تدعي الكمال والواقعية في آن، ولذلك أرشدنا الوحي الإلهي إلى هذا الطريق الأسمى «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض»(1).

الاستقلال / الارتباط:

المعيار الآخر ويتعلق كذلك بالعلاقة بين الممكن والواجب، فما حقيقة هذه الصلة وما عمقها وآثارها ؟ وكيف يتقوم تكامل الإنسان بعيداً عنها ؟ هل من الضروري لقيام الأخلاقية الحضور في مجتلى الفعل الإلهي؟ أو أن الغفلة عنه لا تمنع ذلك؟ وهل هناك فارق بين الغفلة المقصودة وغفلة الجهل الكلي؟ اعتبر كانط أن قيام الأخلاقية مسألة ذاتية تتقوم بالعقل المحض، ولم يأت على مناقشة قضية استقلال الإنسان عن الله، فقد كانت خارج البحث

انفصال الإنسان عن مصدر وجوده و سبب استمرار کینونته، يجعله عرضة لآثار نقائصه ومحدوديته، ومصباح العقل إن لم يسكن في قلب مطمئن متحرر من قلق الوجود، سيجد لنفسه الطرق والسبل لتبرير الذاتية، وكذلك سيبقى محروماً من الموئل الإلهي، فمتى وصل إلى وحدة سنخية الأوراد والأعمال وتسربت روح الخدمة لله في كل شؤونه اندكت سدود العشوة وتأصلت حالة الانسجام الوجودي، وأصبح مستعداً لتلقي الفيوضات الغيبية والاستماع إلى الإلهامات الإلهية، التي تدفع أمامه الأبواب إلى دار السلامة، وتجعله مستعداً لخدمة الآخرين، متفلتاً من الحاجة النفسية إلى المقابل المعنوي أو المادي، مندفعاً بعيداً عن شهوة العقل، الذي إن ترك مستقلاً، سوف يتحرك نحو محوريته الذاتية وقطبية وجوده. وحين يفك قيد طائر الروح سيحلق في ميادين البذل والإيثار ، مأخوذاً بالجذبات الجمالية ومستنيراً بالتيسير الإلهي في لحظات قتل النفس والعبور عنها إلى الآخرين.

ص: 429


1- سورة الأنعام / الآية التاسعة والسبعين.

في الواقع هناك كثير من الأخلاق الفردية والاجتماعية التي لم تدخل في المجال السماوي، وبقيت أخلاقاً فطرية أرضية، وهي تحتاج إلى شريعة تحددها وتحافظ عليها وتستكمل حدودها، وهو ما سنناقشه في المعيار التالي، وبعد ذلك تحتاج إلى العناية الإلهية، لكي لا تبقى ضعيفة التجذر وقابلة للتغير، ولكي ترقى في مستويات البذل والخروج من الذاتية لأقصى الحدود، وتتمكن من إيجاد جماعة أخلاقية نموذجية في علاقاتها الداخلية والخارجية.

رأي / شريعة:

تظهر آثار الاختزال في ميدان التشريع في دائرة معرفة الطريق الوعر بين الإنسان الآن والإنسان المكتمل، فمن وصل إلى ذاك الاكتمال لكي يرسم الطريق إليه ؟ ومن يعرف علة النقص الذاتي والكمالي في الإنسان كيما يدرك سبيل ردمها وإعفائه من آثارها؟

رتبت الرسالة الوحيانية مدارج كمال الإنسان ليصل إلى اللقاء الإلهي، من دون أن يفقد ذاتيته دفعة واحدة، فدرجة بعد أخرى، يطل هذا المخلوق الضعيف على عوالم الوجود المعنوي، في انسجام بين العقل والعاطفة والقلب والروح والجسد، ليتحضر الرجوع النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، ودون هذا الرجوع لا يتحقق السلو عن الذات الترابية الدنيوية. الشريعة يسرت هذا الطريق العسير، من خلال التوجيهات الكلية والتعليمات التفصيلية، بحيث لا ينكب العقل في الملمات على ذاته، التي هي في عين الحاجة والضعف والنقص، وفي حمأة عطشها للكمال والتكامل، ففاقد الشيء لا يعطيه، بل يأخذه من عليم بما خلق وأوجد، مطلع على دقائق حاجات الطريق ومحطاته.

بناءً على هذا، فإن مجرد التخلص من نسبية الأخلاق لا يؤول بالضرورة إلى التخلق السلوكي التكاملي، فلا بد من معرفة الطريق التفصيلي والقيم الجزئية يتسرب خطأ ومجالات انطباقها في المعترك الإنساني الفردي والجماعي، بحيث لا يتسرب

ص: 430

العقل من نافذة الرغبات والحاجات، فهذا النبي الباطني تنقصه التربية لكي تستثار دفائنه، فيكون على صراط رسمه الموجد المشرع.

صراط يحدد أوان خدمة الآخرين وشروطها وأشكالها ومكامن اختلالها ومواضع تحريمها، فليس البذل والإيثار منفصلاً عن كل شامل ومنظور كامل يجعل لكل خطوة أثراً في عالم المعنى ومراتب الوجود، ويحميها من ترك آثار تصد عن درب المعرفة المعنوية المشرقة.

من جهته، وحينما يقول كانط (اعمل حسب القاعدة التي ترغب بأن تتحول إلى قانون عام(1)(يكون قد أعطى مقود التشريع للإنسان، ولهذا مخاطر كثيرة، فحين يكون مصدر تحديد الفعل الاخلاقي هو العقل الذي يتوصل إلى معاييره من خلال تشخيص ما يرغب أو يقبل به الفرد قاعدة عامة فهذا يعني أن ليس للقانون الاخلاقي مصدر معياري سوى رغبات الفرد نفسه. حاول كانط وضع قيد لهذا التراخي من خلال قاعدة أخرى (تصرف وكأنك ترى الإنسانية كل الإنسانية وكأنها غاية وليست وسيلة)(2)فيذهب إلى الصالح الكلي العام، من دون أن يضع له معايير تحدد مكامن الضرر ومكامن الصلاح، وبذلك نعود إلى نفس الدائرة المفرغة.

النفس / الفطرة:

عنوان أخير يجدر بنا تناوله في هذا الحوار العاجل مع كانط الأخلاقي، وهو الهوية الذاتية للنفس البشرية، ما تربتها وطينتها الأصلية ؟ وكيف نصل بين تلك النشأة الروحانية التي حصلت مع النفخة الإلهية وبين قانون الأخلاق المتناسب؟

اشتغل البحث المعرفي المنقطع عن مصادر المعرفة السماوية على تحليل النفس البشرية في سلوكياتها ومشاعرها وميولها وأبعادها المختلفة، من دون أن يكون له مدخل نحو تعريف دقيق لحقيقة وجودها وسبب حياتها، ونشأتها المجردة المتعالية،

ص: 431


1- كانط، إيمانويل / أسس ميتافيزيقيا الأخلاق / ت: محمد الشنيطي / دار النهضة العربية / 2009 / ص 30.
2- كانط، إيمانويل / أسس ميتافيزيقيا الأخلاق / ت: محمد الشنيطي / دار النهضة العربية / 2009 / ص 31.

وكذلك الميثاق المودع في الفطرة، ومن هنا كان السعي لوضع أطر لتنظيم حياة الفرد النفسية والاجتماعية غارقاً في تعددية الآراء منقطعاً عن الاستناد إلى التعريف الشامل والعميق لموضوع البحث.

معرفة النفس الإنسانية طريق شاق، وإن سار من دون مقدمات أولية ذات مصدر يقيني وحياني، فإنه سيعثر بتعقيدات وظلمات كثيرة، ذلك أن المسار التكاملي التربوي المستند إلى الإرادة الحرة الذي يوصل إلى حقيقة الإنسانية، المنوط بها موقع الخلافة الإلهية الفريد، يستدعي التوازي بين مسار تكامل الإرادة ومسار تكامل المعرفة من جهة أخرى، فلا تكتسب المعرفة إلا باستحقاق، ولا استحقاق إلا بإرادة، تؤثِرُ أحد طريقين وسبيلين، أحدهما ترابي والآخر سماوي.

الطريق السماوي خفي مستتر، ينكشف لمن اقتعد بساط الخدمة الإلهية وابتدأ أول أمره بالتسليم ووصل به سيره إلى الرضا والتفويض لله في كل شيء، معرفة مشروطة مرتبطة بالعبادة، أي الخضوع للواقع الحقيقي والامتناع بإرادة حرة عن الغفلة عنه والغرق في الوهم، خضوع حددت معالمه الشريعة ونظمت سبل التوصل إليه تعاليمها وتوجيهاتها. خضوع يعيد الإنسان إلى النفخة الرحمانية والفطرة الإلهية، مطلقاً يديه من غل النشأة الدنيا وعوالق عوالم التراب المتكثرة ، هنا يعود العقل مشرقاً مؤيداً بجنود المعرفة، عقل الخليفة الخادم للخلق، عقل يقوم في مقام التوله للجميل والجمال وصفاته المودعة في الفطرة البسيطة العفوية، هو مرآة لتجلي الجميل الذي أوجده ووهبه إمكان الإرادة والحرية في الارتقاء المستحق نحو الألوهية السامية، عن طريق العبودية والخضوع للحقيقة المطلقة.

حاول كانط في طريقه نحو توطيد النزعة الاخلاقية أن يجردها من الرغبة معتبراً أن الرغبة نقيض المسؤولية وغطاءً يكتم نداء الضمير، في حين أن العمل الأخلاقي هو سبب السعادة الحقيقية، فالخليفة الخادم هو أكثر الناس سعادة وانسجاماً مع أبعاد وجوده والأكثر اختماراً في فطرته، لا بل هو الفطرة بعينها والخلق النوراني الأول الفعل المسؤول المتلازم مع فطرة الخير والحق والجمال فعل تمثل وتخلّق

ص: 432

بالاخلاق والصفات الالهية، وهو بذلك سبب للقرب الاختياري من أصل الحق والخير والجمال، ذلك الأصل المطلق الذي تمثل الحرية الحقيقية الوجودية التي تهفو اليها نفس الإنسان عنواناً للقرب منه، فالتحرر من العوالم هو الهم المركزي للبشرية، وإن كانت تعبر عنه سلوكياً بحسب غشوات الطريق والتباساته.

خاتمة:

حاول كانط استنقاذ الأخلاق من فخ النسبية والاستنسابية البراغماتية، لكنه لم ينجح في إخراجها من الذاتية، نظرياً يمكن له أن يدعي وصلاً بالأصل الأخلاقي، لكنه وصل غامض وغير دقيق، معاييره مفتوحة على كل احتمال وبذلك يغدو الاختيار مشروطاً بالأشخاص والظروف، فهنا حصل التمكين لأصل الأخلاقية، لكن النظام الأخلاقي ظل عرضة للمجهول.

المصادر والمراجع:

دجاكام، علي / الفلسفة الغربية برؤية الشهيد مطهري / ت- : أسعد الكعبي / المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية / 2016

دراز / محمد عبد الله / دستور الأخلاق في القرآن الكريم / مؤسسة الرسالة / بيروت / ط 11 /2005 .

قبيسي، هادي / الإنسان مختزلاً / الاستغراب / العدد السابع / ربيع 2017.

الصحيفة السجادية / دعاء مكارم الأخلاق.

كانط، إيمانويل / نقد العقل العملي / ت- : ناجي العونلي / جداول / 2011.

كانط، إيمانويل / أسس ميتافيزيقيا الأخلاق / ت: محمد الشنيطي / دار النهضة العربية / 2009.

ص: 433

الالتزام الأخلاقي مباحثة برغسون مع كانط

اشارة

مونيك كاستيلو Monique Castillo(1)

بادئ ذي بدء، من المستحيل عدم إثارة العقبات المنهجية التي تعترض إقامة مباحثة بين مدرسة كل من كانط وبرغسون حول طبيعة الالتزام الأخلاقي. فأولاً، لأن الفلاسفة لا يتصرفون على أنهم أساتذة في الفلسفة، فهم بالكاد لا يعلّق بعضهم على بعض ؛ وثانياً لأن مواجهة الأساليب الفلسفية الكانطية والبرغسونية ستبدأ حتماً بمعارضة الفرق بين الأخلاق العقلانية والأساس ماوراء العقلاني للأخلاق، وسرعان ما سيؤدي ذلك إلى إقفال مزدوج للنقاش على ما يُظهر أن الأخلاق الكانطية تثبت مفهوم كانط حول العقل، في حين تثبت الأخلاق البرغسونية تفوق العقل على الحدس. وفي النهاية، لأنه ينبغي منح كانط حق الرد، والذي لا يمكن أن يتم عبر

ص: 434


1- باحثة في الفلسفة الحديثة - معهد الدراسات الفلسفية - باريس. - العنوان الأصلي : Les Lobligation morale: le débat de Bergson avec Kant Monique Castillo - المصدر : 2001 n° 59. p. 439- 452. DOI 10.3917/leph.014.0439) 4/les Études philosophiques - تعريب : أسامة الريحاني . - عضو فريق الترجمة في مركز دلتا للأبحاث المعمقة - بيروت. تبحث هذه المقالة للباحثة الفرنسية مونيك كاستيلو في إمكان إجراء تناظر بين الفيلسوفين الألماني إيمانويل كانط والفرنسي هنري برغسون تدور المناظرة الافتراضية التي يسعى هذا البحث إلى تظهيرها حول منهجين متباينين يعالجان القضية الأخلاقية والتزاماتها. ففي حين نجد أن الأخلاق الكانطية تعمل على إثبات مفهوم العقل كما بينه كانط، تمضي الأخلاق البرغسونية إلى إثبات تفوق العقل على الحدس. لكن النقطة المحورية التي يتركز عليها هذا البحث هي تناول الالتزام الأخلاقي بوصفه تجربة فكرية. المحرر

تقديم حجج السلطة، التي - علاوة على ذلك - لن تكون كتلك الحجج التي ظهرت بعد وفاته. وهكذا لا يبقى إلا رأي واحد يتمثل في تصوّر هذه المناظرة بوصفها تجربة فكرية .

ولنبدأ من خلال تناول الالتزام الأخلاقي بوصفه تجربة فكرية تنطوي تحت عنوان التجربة الداخلية لتؤدي إلى ازدواجية مدروكية الالتزام الأخلاقي.

1- واجب الكينونية والتعبئة الأخلاقية

«واجب الكينونية» من الواجب - وهو تجربة إنعكاسية تدل على تصور الالتزام على أنه ضغط اجتماعي لا ينطبق على أساس الواجب لدى كانط. ولأن كلمة «ضغط»في حد ذاتها تلغي الفكر المتعلق بواجب كينونية الواجب، فإن التجربة التي يطبقها كل فرد بوصفها واجباً هي «واجب الكينونية».

وإذا كان وجود الأنا الاجتماعية ليس مقبولاً به، فإنه يُوجّه من خلال الأخلاق نحو طبيعة الروابط الاجتماعية والحقيقة التي يحافظ عليها المجتمع من خلال التوافق العام للسلوكيات الفردية مع قوانين تلك الروابط. ولكن بمجرد الاعتراف بالقوانين والعادات في هذا الدور والوظيفة، وبمجرد الإدراك بأن الالتزام الأخلاقي ليس أخلاقياً بطبيعته وإنما اجتماعي، تختفي قوته الملزمة وينتهي نظري له على أنه دافع جمالي. ولا أرى أن أحداً قد يغامر في التأكيد على أن رأيه الموضوعي أو الحيادي أو العادل ينبع من كونه يتصرف تحت تأثير ما كمراقبة الآخرين له. وعلاوة على ذلك، تظهر التجربة أن الضغط التضامني نفسه ليس ما يقودني إلى الواجب، وإنما بالأحرى يحررني منه. فإذا ما سمح الضغط لي بالحد من خياراتي وجعلها تقديماً بسيطاً، وإذا استطعت الاعتماد على تأثير «جيد» ، وهو «جيد» لأن كلاً من الأسرة والمجتمع والغريزة والطبيعة يستفيد منه، سوف أغتنمه للهروب من هذا الداخليّ المُلزِم والرسمي جداً، وهو أمر يدفعني للعمل من أجل مطلب محض، وهو العالمية». «إن السلطة المؤسسية التي تهدف إلى أن تكون للعامة تصبح «أخلاقية» حين يتولاها من يُعترف

ص: 435

به باعتباره المتلقي (...). فالسلطة الأخلاقية تقوم على الحقيقة المؤسسية من دون الخلط بينهما».

ومما لا شك فيه أن الأخلاق الاجتماعية تتمتع بدافع تضامني شديد القوة، وأنها تثير شعوراً بالولاء بلا منازع لقانون الجماعة؛ ولكن من يطيع الأخلاق العشائرية وحدها، سواء أكانت عشيرة عائلية أم وطنية، يُظهر نفسه محروماً من الإرادة الأخلاقية على وجه الخصوص ؛ وكما يظهر التحليل البرغسوني، فهو لا يتصرّف إلا بحسب غريزته بطريقة تحت عقلانية. وإن دائرة التضامن، بحسب برغسون، لا يمكن تجاوزها في أثناء التوجه نحو العالمية، مما يرسم في الوقت نفسه حدود المفهوم البراغماتي للالتزام الأخلاقي.

كما يجب توخي الحذر من السمعة، إذ يبدو أن تقبل الشارع الفرنسي المفاهيم الكانتونية لم يكن سوى فهم كانط بوصفه فيلسوفاً المحرمات على المستوى النظري (مع الحدود المدرجة في الجماليات المتعالية) والعملي. ولكن لا يمكن نسيان أن كانط يعارض المفهوم الذي يعدّه الفلاسفة أنفسهم «واجباً»، تماماً كما سيعارضه برغسون بدوره ولو اختلفت أسبابهما، وذلك حين يقللان من شأن الواجب وينحدران به إلى عده مجرد طاعة وضغط خارجي، حتى لو كان هذا الضغط الخارجي نابعاً من الداخل. ولذلك يجب أن نحذر من القوة التثبيتية للكلمات، فإذا كنا نفكر في «الواجب» بدلا من «واجب الكينونية» وفي «القانون» بدلاً من «القانون الكوني»، فإن الإلزام الأخلاقي الكانطي لا يزداد قرباً من الأخلاق الاجتماعية، بل يصبح بغيضاً لا يطاق، إذ يتألف من القول إن واجبي هو عبارة عن طاعتي للقانون، وهي الصيغة التي قد تُنسَب لإيخمان ولكنها ليست لكانط .

ومن ناحية أخرى، يبرهن العقل الواقعي بما لا يقبل الجدل أن أعرف منذ البداية أنّ ما يأمرني لا يؤثر في، لأني بنفسي أحوّل الواجب إلى أمر. وقد تكون صيغة شيلر الساخرة متطرفة («أن تفعل على مضض ما يأمرك به الواجب»)ولكنها تحمل جانباً من الحقيقة، وهي أن الإرادة الأخلاقية ليست طبيعية ولا يمكنها حتى تقليد الطبيعة.

ص: 436

ویری كانط أن الالتزام الأخلاقي يشهد على تفكك الحياة البيولوجية في الحياة المميزة للأنواع البشرية بشكل خارج عن السيطرة، وأن الانقسام بين الوجود وواجب الكينونية ينبغي أن يجعل من المستحيل انغلاق الذات على نفسها إلا لممارسة «سوء النية» التي تحدّث عنها سارتر ، فيجعل من الفرد نوعاً من المجتمع المفتوح، ويتجلى ذلك في سيادة حق البشرية على حق الإنسان كما أكدها كانط .

ومن أجل إضافة وسائل التفكير العقلاني إلى هذه التجربة الفكرية، ينبغي علينا أن ندرك أن التفسير الإجتماعي حصراً للأخلاق يقع في مأزق لا مفر منه. وإذا بدا الالتزام بشكل ضروري وطبيعي كأنه عمل مجتمع منغلق، فإن جميع الأخلاق الاجتماعية الخاصة لها ما يسوّغها . كما أن أكثر الخصوصيات المجتمعية الوحشية واللاإنسانية لها في حد ذاتها شرعيتها غير القابلة للنقد، حتى إن احترام انغلاق الأخلاق يتعارض حتماً مع مبدأ الإخاء البشري.

2- من الواجب إلى الحب.

يثير هذا هذا العنوان تجربة فكرية أخرى مع برغسون، مفادها أن الحب تجاوز

الواجب، وهكذا يتجاوز الدافع الالتزام المتعلق به والذي يصبح صميم الأخلاق، وتصبح التجربة الأخلاقية كلها «تعبئة» كاملة. وإن أي تمثيل للواجب لا يكفي في حد ذاته لإنتاج قوة الدافع ، بل هو بمنزلة الحركة التي هي العاطفة، ومصدر هذه التعبئة هو أبعد من أن تتحكم به الظروف لأنه ينبع من الدافع الفريد والأصلي الذي يعيد خلق الحياة كحياة، أي كاندفاع وإن تحليل برغسون الالتزام بوصفه دفعة وجذباً وطموحاً يمارس في حد ذاته قوة أخلاقية تساعد على فهم أن الدافع بنفسه هو حركة لا تنفصل عن العمل، بل هو العمل. وهذه هي تجربة الصوفي الذي يختبر مباشرة في عمله محبة الله للمخلوق التي تحتضن الإنسانية العالمية، وهي تجربة من دونها سيتحول الحب الذي يتظاهر المرء به نحو الإنسانية العالمية إلى حب فارغ أو مستعار . ولهذا فإن محتوى الالتزام تعبوي وليس صيغته كذلك، وهذا يتطابق مع المطواعية القصوى للطاقة الحيوية للديناميات النقية التي لا تشترط حتى إعمال العقل.

ص: 437

تظهر التجربة أنني ربما لا أستطيع الإيعاز بهذا التجديد، أو تجربة هذه التعبئة أو إلهامها، غير أني أفهم وأتلقى وأقبل كدليل واضح على هذه الأولوية المطلقة للدافع وراء التمثيل، ولذلك يمكن أن نفهم أن ما يتجاوز العقل ليس بلاعقلاني. ومن دون الرجوع إلى مفهوم الحافز لدى كانط أو بالاشتباه بالشذوذ النفسي لدى برغسون، قد يقدم ذلك شرحاً إيجابياً لهذا المُدرَك في التجربة الصوفية على حد تعبير برغسون. وقد مازت المسيحية، جوهر التصوف الكامل، التكوين التاريخي لإنسانيتي على المستوى الأخلاقي، ولأنسنتي على المستوى النفسي. فحين أفهم التجربة الصوفية بوصفها تجربة ما وراء عقلانية، ربما يكون هذا التكوين الاجتماعي والثقافي بمنزلة تتابع بديهي للمُدرَك الذي قدمه برغسون للحياة النفسية كمسألة روحية، متروحنة في كل حال. وربما تكون هذه طريقة أخرى لإدارة فكرة واجب الكينونية في المسيحية؛ فالحماسة المتطرفة للعقائد والطقوس ستكون مشبوهة و«باثولوجيا» بالمعنى الواسع الذي يستخدمه كانط لهذا المصطلح ، إذ يعزو إلى علم الميكانيك العاطفة المتكيفة التي تستنسخ تكييفها الخاص. ولا يكون الحال نفسه عندما تركز الحماسة على الإلهام أو الحدس الخلاق في المسيحية، إذ لن يكون مناسباً أن ننكر على الدين ما يمنحه الجميع على مضض للفن والأدب والشعر، أي الحدس الخلاق للعبقرية الذي يخلق أو يعيد خلق قدرة الخلق لدى كل شخص.

ولذلك، علينا أن نعترف بأهلية اختبار مُدرَكَين للالتزام وليس مُدرَكاً واحداً، إذ تحدد تجربة الالتزام عند برغسون خليطاً بين الباعث والقيود: إذ يبقى في القيد شيء من الباعث ما فوق إنساني لا يكون الالتزام من دونه سوى فعل مجتمع من النمل الأبيض وليس مجتمعاً إنسانياً. أما كانط فيرى أنه إن لم يُؤكِّد الامتثال للواجب أن احترام الواجب لا يمكن قياسه بأي امتثالية اجتماعية، أي بالمصلحة العملية لكل مجتمع على حدة، فسيكون من المستحيل الاعتراف بوجود ما يسميه يسميه «التصرف في الشخصية «، وهي تقديم كوني لدى كل منهما.

ومن دون هذا الفهم الأخلاقي الأدنى لمفهوم كل منهما حول الأخلاق، فإنه

ص: 438

ببساطة لن يكون من الممكن قراءة هذين الفيلسوفين، ولا يبقى إلا أن نذكر أسباب الاهتمام الذي قد يكون مشتركاً في كلتا القراءتين، وهو أمر يبدو لي أنه بسبب النطاق الكوني الذي يعزوه كل منهما إلى أساس الالتزام الأخلاقي. وفي كلتا الحالتين، يذهب التحليل إلى ما هو أبعد من مسألة الذاتية الأخلاقية التي لا تكون مسؤولة إلا عن ضمان مشروعية السلوك ومطابقته البسيطة مع القوانين والعادات المعمول بها، وهو يشمل مصير الجنس البشري والالتزام الأخلاقي حول المصير ومستقبل البشرية على أنها مسألة مفتوحة، وذلك بحسب كل من كانط وبرغسون. ويرى كل منهما أن التغلب على مجتمعات معينة كالدول التي تشن الحرب بضرورة طبيعية أو اجتماعية، يقودها نفس الإلهام: وهو واقع الإنسانية العالمية التي يطلق عليها برغسون «الإخاء البشري» ويسميها كانط «الوجهة الأخلاقية البشرية». وهكذا تجعل الأخلاق كل واحد منهما فيلسوفاً كونياً بحسب لغة كانط التي قد تكون موضع تساؤل. فماذا يعنيه أن تكون أستاذاً في علم الأخلاق أو فيلسوفاً أخلاقياً حين ينبغي على الالتزام أن يلتفت إلى وجود البشر بوصفها مخلوقات حية ؟

II. من الالتزام الأخلاقي إلى الجنس البشري

(1) البعد الكوني للمسألة الأخلاقية. أثار كل من المفكرين تشبيهاً خارجياً وموجزاً يجعل من الممكن تحديد النطاق الجديد لهذا الاستكشاف. ففيما يتعلق بكانط، يبدو من خلال علم العمارة النقدية للعقل الخالص، وكذلك في العلوم الطبيعية، أنّ الفيلسوف الذي يُعرف بأنه «مُشرِّع العقل» هو الذي يعطي صيغة القانون العالمي للأخلاقيات ومن ناحية أخرى، تعتزم المدرسة البرغسونية إطالة أمد العلوم المادية بوساطة علم الذهن الذي يؤدي إلى صياغة قانون للتطور يجعل الطاقة الصوفية أصل التحولات الأخلاقية العظيمة للبشرية. إنها مسألة إدراج الأخلاق في نسيج الواقع الكوني. وفي كلتا الحالتين، تظهر إرادة قمع الأوهام التي تقود الميتافيزيقيا نحو مشكلات لا حلول لها، والاهتمام بإشراك الميتافيزيقيا في مسار تقدم المعارف. وإنّ كلاً من الفيلسوفين مدرك لعلوم زمانه، وطلب الحصول

ص: 439

على العلمية التي توقعها كلاهما من الفلسفة لا تتكون عند محاكاة أسلوب العلوم الطبيعية، ولكن في جلب نوع من المعرفة ذي طبيعة ميتافيزيقية، كتلك التي لم تصورها أو تضعها الفيزياء أو الفيزيائيون.

وهكذا، فإن الصيغة التي يفقد الإنسان فطرته بسببها وتستخدم في كثير من الأحيان بطريقة بلاغية وسطحية، تفقد كل الفرضية بمجرد أنها تشترك في الأنطولوجيا الحقيقية المستقبل البشرية، حيث تأمر بقراءة الحقيقة البيولوجية على أنها حقيقة ميتافيزيقية، كطبيعة تعدّ حياة الإنسان للغايات التي تتجاوز إمكانيتها حدود الطبيعة والفكر، وتذهب أبعد مما أرادت لها الطبيعة»، وهي الظاهرة التي عبر عنها كانط باللغة اللاهوتية ب- «الخطيئة الأصلية» في كتاب «تخمينات حول بداية التاريخ البشري».

كما أن تناول الأخلاق كالبيولوجيا المتجسدة» أو كحقيقة بيولوجية ميتافيزيقية يجعل من الممكن مقارنة ما هو قابل للمقارنة لدى كل من المؤلفين في كتاب كانط «نقد ملكة الحكم وكتاب برغسون منبعا الأخلاق والدين». وهنا تعد الدقة ضرورية فلا مجال لوضع الفلسفيتين على المنوال نفسه لأن ذلك سيكون عبثياً وسيؤدي إلى خيانة كل منهما، بل يتعلق الأمر بمدى افتراض كل منهما على طريقته حقيقة أنه ينبغي على البشرية أن توجد كأنواع عبر اعتماد طريقة تحدد اللحظة التي تتباعد فيها إجابات كانط وبرغسون بشكل جذري ويثير كانط مسألة السبب وراء وجود البشرية كأجناس على الشكل الآتي: لماذا يجب على الإنسان أن يكون؟» بينما يثيره برغسون كما يأتي: «كيف للبشرية أن تتحرر من ضرورة كونها نوعاً؟» إنه سؤال مبالغ فيه وخارج عن موضوع البحث من وجهة نظر الإدراك أو الذكاء، ولكنه من جهة أخرى يحمل عدداً من المعاني فيما يتعلق بالجواب الوحيد الذي يفضي إليه الجنس البشري، وهو نفسه في كلا السؤالين: إن وجود البشرية بوصفه نوعاً لا يمكن فهمه إلا كسبب لوجود الخلق.

وبين السؤال والجواب، تجدر الإشارة إلى الملاحظة نفسها، وهي أن الجنس البشري لديه سمة وجوب أن يقوم بنفسه بكل ما يمكن أن يكون، ويجب أن يرسم

ص: 440

وحده مستقبلاً لنفسه ويعيش المستقبل الذي رسمه فقط. إن التأكيد على إمكانية أن يكون أصله البيولوجي نتيجة القضاء على «التحالف القديم بين الإنسان وبقية الخلق» هو استنتاج محتمل، لكن يمكن الحكم عليها بشكل نظري أو فكري خالص في إطار المدرسة الكانطية والبرغسونية. ويتبنى جاك مونود هذا الاستنتاج باسم علم الوراثة على أنه تطرف مسوّغ لوجهة نظر نيتشه حول «موت الله»، إذ يحكم على أن الجنس البشري ينتج من حادث في الكون، وأن الكون، لا يعطي أي معنى لوجوده، ويخلص إلى أن الإنسان - الذي صار إنساناً عن طريق الصدفة - ليس له ما يسوغه في تقويض وجوده الخاص أو حريته الخاصة؛ ومن ثمَّ، يجب ألا يعد التدين اليهودي المسيحي والحقوق الطبيعية للإنسان ومسألة التقدمية والتاريخية من الأساطير القديمة التي تتعارض مع تطور العلم. يكمن الخطر في هذا المجال بالاستعاضة عن نتيجة الاستجواب واستبدال مشكلة إيديولوجية بمشكلة ميتافيزيقية؛ إذ يعتقد كانط، كما برغسون، أن الأمر لا يتعلق بإحياء أي «تحالف قديم» بين الجنس البشري والمخلوقات الأخرى، بل هو لإظهار أن البشرية يجب أن تخلق بنفسها مغزى علاقتها بالعالم كشرط لوجودها، وهو الوجود الصيروري. ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن ننسى أن نيتشه قد تحقق في علم الأخلاق لأن الجنس البشري لا يمكن إلا أن يقدم استجابة أخلاقية لمسألة «القيمة» من وجوده الوقائعي (وهي صياغة نيتشه مسألة المعنى)، وهو الرد الذي يختار الأخلاق ما فوق إنسانية على الأخلاق الإنسانية للغاية.

2) أفق العدالة - يعود بنا هذا الإعتبار إلى برغسون بدلاً من إبعادنا عنه، فلا تتمثل الوظيفة الوحيدة للالتزام الأخلاقي في الواقع في إدامة الأنواع الحية في مرحلة البقاء والتسويات التكيفية مع الواقع المادي. بل يلعب الالتزام - الذي هو مجرد طابع اجتماعي - دور الغريزة، وهو جزء من التوازنات التي تسودها الطبيعة. وهو لا يمثل مع ذلك سوى طريقة واحدة من الحياة، في حين أن جنسنا البشري يعيش في الحياة الحقيقية فقط داخل عمليات التحول والتوقفات والتجدد الأخلاقي.

يرى كانط أن الإنسانية - بعد أن فقدت الغريزة - تضطر إلى العمل وفق ما يمثل

ص: 441

القوانين وليس وفق القوانين نفسها؛ فقد كان هناك فصل بين الوجود وواجب الكينونية منذ نشأة أنواعنا الحية، وتوجب على هذا الفصل اختراع وسائل لوجوده، التي أصبحت في ما بعد وسائل صيرورته. فتمثل القيد الأول الذي يفرض الحياة بوصفه شرطاً جماعياً للبقاء بكل من الوجود الاجتماعي وبقاء المجتمعات من خلال الوحدة القسرية بين أعضائها. وإذا اعتمدنا صيغة تناسب كانط وبرغسون معاً، نخلص إلى أن هذا ما «أرادته الطبيعة» لأنواعنا الحية، حيث ترى المدرسة الكانطية أنه أن أوان شرعنة غريزة الانضباط وفقاً لكتاب منبعا الأخلاق والدين.

في النسخة الكانطية، إذا وضعنا أنفسنا مكان الطبيعة في محاولة منا لفهم عملها من خلال حكم انعكاسي، نرى أن الطبيعة لا تريد للمجتمعات الانغلاق على نفسها، لأن ذلك ليس فيه أعلى درجات العدالة المنظمة. بل إن الانغلاق الذاتي للدول هو ما ينتج الحروب، ومعها تنقيحات جيوسياسية مستمرة. ومن ثم، فإن الإنسانية - التي تفهم بمعنى التجربة الطبيعية للجنس البشري - لا يمكن إدراكها إلا بوصفها تاريخاً، وهو تاريخ يتراوح بين الانغلاق والانفتاح وبين الاجتماعية والإنسانية العالمية، وبين القيود والعدالة؛ ويُعبر عن أفق هذا التحول بوصفه المثل الأعلى، المثل الأعلى السياسي الكوني لدى كانط . ويجيب المثل الأعلى الديموقراطي على السؤال الاجتماعي للعدالة كونه يجمع بين المواطنة والإخاء لدى برغسون، الذي يعتمدأحد تعبيرات كانط التاريخية الجديرة بالذكر عندما يقول: «الديمقراطية هی ذات جوهر إنجيلي وتمتلك محرك الحب. وهكذا نكتشف الأصول العاطفية في روح روسو، والمبادئ الفلسفية في عمل كانط، والخلفية الدينية في كانط وروسو معاً.»

ونتساءل ما يعنيه أن يكون أخلاقياً من وجهة نظر تاريخ الجنس البشري؛ إذ من الممكن المضي قدما في فكرة أن توقع المستقبل يشكل جزءاً مهماً من عمل الفيلسوف الأخلاقي، فكما قال برغسون: «لا متعة فوق متعة المحبة... حياتنا ستصبح أكثر خطورة وأكثر بساطة»؛ وكما قال كانط: «في التجليات الظاهرية لما هو صحيح أخلاقياً

في الجنس البشري، يمكن تقييم ما انتفع به من ثقافته في الطريق الأفضل».

ص: 442

تبنى كانط بتردد دور النبي، وتراه يُفضّل التاريخ النبوي على التاريخ الكهاني العرافي للبشرية الذي يمكنه الكشف عن علامات المستقبل في الوقت الحاضر . ويبدو من ناحية أخرى، أن صورة النبي تناسب هؤلاء المجددين والمحوّلين في الإنسانية الأخلاقية الذين يعبر عنهم برغسون بالأبطال والقديسين.

لم يكن استخدام مصطلح «النبي» اعتباطياً، فقد عرف المفكر ماكس ويبر كيفية إصلاح الفكرة القائلة بأن خيبة الأمل في العالم تسير جنباً إلى جنب مع اختفاء شخصية النبي الذي يستبدل بفكرة السيطرة على العالم العقلانية الهادفة؛ كما أن التنبؤ يحل محل الأنبياء. ولكن من المؤكد أن هذا الرأي الأحادي حول إحكام القبضة على الآلات يتعارض مع الفصل الأخير من كتاب «منبعا الأخلاق والدين»، والذي ينتهي بالعبارة الشهيرة: تصور العالم بأنه «آلة لصنع الآلهة» وهي صيغة سحرية ولكنها لا تزال غير مفهومة خارج إطار المُدرَك الصوفي للأخلاق وللالتزام وللحياة بذاتها.

ما بعد العدالة

العقلانية

1) الاختلاف الميتافيزيقي بين كانط وبرغسون. في هذا المستوى، لم يعد مفهوما الالتزام الأخلاقي واضحين إلا من خلال فروقهما، وبما أن التصوف هو أصل التحولات الأخلاقية العظيمة للبشرية، فإن الأسباب التي وضعتها مدرسة برغسون لكسر الأساس المنطقي للالتزام تصبح واضحة تماماً، إذ ينفصل الذكاء عن ليصبح المُدرَك الصوفي للخَلق الأخلاقي غير قابل للقياس مع عقلانية العمل : «مما رأيناه في الطابع العقلاني للسلوك الأخلاقي، لن تكون القاعدة بأنّ أصل الأخلاق هو العقل». بل يجب أن يتحلى بخبرة معينة من الفكر العلمي، وهي الحدس، بحيث تكون هذه المعقولية منيرة للعقل بدلاً من أن تتجاوزه، كفعل الحدس الذي لا يمكن اختزاله بقناعة بسيطة أو اعتقاد بسيط. فعلى سبيل المثال، إنّ افتراض أن يختار برغسون - بقناعة شخصية - تفوق الأخلاق الصوفية، هو اقتراح لا يعقلن مفهوم أصل الأخلاق، بل يقضي على مجال الوصول إليه. ولما كان برغسون يتحدث بصفة الفيلسوف من أجل أن يُفهم على هذا النحو، ينبغي رفع مستوى الفلسفة بتجربة

ص: 443

ميتافيزيقية، تتمثل بالقدرة على التوجه إلى ما هو أبعد من مجال التمثيلات «في صميم كلّ من الحساسية والعقل».

الالتزام الأخلاقي: مباحثة برغسون مع كانط

تُعدُّ هذه التجربة الأخلاقية طاقة حيوية إبداعية خالصة، تُشكل في حد ذاتها دليلاً تجريبياً على أن الإنسان يتخطى الإنسان. وهي تجربة لا يمكن للبشرية أن تخوضها وفقاً للتزمين الذي وضعه كانط للأمل في استمرار التقدم نحو الأفضل، بل فقط من خلال استعادة الطاقة الإبداعية الخاصة بها. ومن دون استنفار هذا التجدد - الذي يرجع إلى أصل القوة المرنة والروحية للحياة بوصفها طاقة - فإن التطور سيكون مجرد كلمة فارغة أو طريقة فكرية للتخاطب .

ولذلك، من الضروري إلغاء أي مسافة بين الوجود وواجب الكينونة في أصل إعادة خلق الطاقة المعنوية؛ وبخلاف ذلك، لن تنشئ الأخلاق الالتزامات بل ستنميها. ويتجلى تجاوز واجب الكينونة هذا في صيغة ذكرها كتاب «منبعا الأخلاق والدين» فيما يأتي: «فينا: نداء الأبطال: لن نتبعه ولكننا سنشعر بأنه علينا فعل ذلك، وسوف نعرف لذلك الطريق التي ستتسع إذا ما مررنا بها. وفي الوقت نفسه سيتضح غموض الالتزام الأعلى لكل الفلسفة: فقد بدأت الرحلة وكان من الضروري إيقافها؛ وباستئناف مسارهم، هم یریدون فقط ما أرادوه بالفعل».

تلغي الصوفية الغموض بشكل كامل، حيث تقتل كل مسافة بين الدافع والحركة، حتى مسافة الجذب، وتلغي المسافة بين الرموز والأشياء في وحدة تسبق كل الانقسام، كما تتغلب على الواجب، القوة التعبوية للدافع التي عرفها برغسون بطاقة الحب، أي تجربة الحب التي تكشف عن الخلق على أنه مؤسسة لله «لخلق المبدعين». وإن استبدال الخلاقين بالمخلوقات هو خير مترجم للطاقة التي هي لیست سوی روح،وهي القوة التي تعمل فقط.

من هنا، ينتقل الدافع عبر التعبئة التي يحدثها في الآخرين من خلال الطموح

ص: 444

والانجذاب، وينمو الالتزام على أنه مشاركة بعاطفة خلاقة ليشعر كل واحد مرة أخرى أنه من خلق المذاهب والمثل التي تسكن فيه. إنها ليست الفكرة التي تلهم، بل إنه الإلهام من يوحي بالفكرة.

وهكذا يظهر التباين مع كانط بشكل واضح، حيث تجاوز برغسون حدود الفهم الفئوية والحساسة، وتجاوز الحدسُ الذكاء والعاطفة الخلاقة العقل. واستعاد برغسون الاستخدام الكامل للميتافيزيقا إلى حد ما، إذ يمكن للمرء أن ينتقل من الكينونية إلى التعرُّف، ومن الامتناع عن التجزؤ إلى التجزؤ، ومن اللانهائية إلى المحدودية. كما أن الأخلاق تستمد أصلها من الامتناع الأصلي عن التجزؤ، والذي نجده في الحب الباطني للبشرية الذي يعبر عنه برغسون - إرادياً أو لا إرادياً - باللغة الكانطية عبر جعله «الجذر المشترك للحساسية والعقل». وهذا الجذر المشترك يلغي إشكال شكلانية المدرسة الكانطية، لأنه يتم إلغاء المسافة بين الوجود وتجلياته حين يغادر المرء الزمن ليضع نفسه في الديمومية. وهناك صيغة مذهلة للتعبير عن هذه الوحدة المطلقة للنشاط الخالص كالآتي: «ليس هناك مسافة بين الله ومحبة الله، ولا شك فی أن برغسون يظهر الحدود النظرية الكانطية من خلال اعتماد الممارسة الفلسفية نفسها.

2) علم الجمال والميتافيزيقا لدى كانط . ومع ذلك، على الرغم من الاختلافات الميتافيزيقية الأصولية، لا تعد هذه الفلسفات غير متكافئة في ما بينها، بل من الممكن مقارنة أهدافها الأخلاقية إذا تبنى المرء لغة كانط حول الفن والدين.

إنها الحدود النظرية الكانطية التي خرقتها ميتافيزيقيا برغسون فمن جهة، يرى كانط أن الأخلاق هي التي تمكنه من التقدم في ما هو أبعد من المعقول، وهذه هي الحال الحرية التي - وفقاً للنقد الثالث - «يمكن أن تذهب بالعقل إلى ما وراء الحدود حيثما يبقى كل مفهوم (نظري) حول الطبيعة منغلقاً دونما أمل». وتُفسّر الأخلاق الفاعلين الأخلاقيين على أنهم بدايات محضة لا سابق لها، تبني ممكلة من الإرادة الخالصة التي هي الأصل غير الطبيعي لآثارها في العالم. ومن ثم يمكن

ص: 445

تحدید دستور قانوني كامل بين الناس بوساطة الفكرة نفسها، حتى يستبدل بالعلاقات الحرة المحض الروابط الطبيعية للعنف، وفقاً للاستنتاج الذي توصل إليه ملحق عقيدة القانون.

ومع ذلك، لا يمكنني أن أعرف ما ينتج من الحدود النظرية للفلسفة - والذي أستطيع التفكير به وفهمه والرغبة فيه - في صيغة حددتها التجربة الطبيعية؛ ويعود ذلك إلى أن الحساسية لا متقايسة في مدى اتساع الفكرة، وبهذا تقف الوسائل المحسوسة للعقلانية مقصرة أمام الوضوح المتكامل للعالم.

يفترض الالتزام الأخلاقي لتحققه هذا المدرك العالمي الذي يتجاوز التعقل الممكن من الناحية الفئوية: إن الافتراض من السيادة الجيدة الأصلية - لإله هو الخالق الأخلاقي للعالم - قيام وحدة الخلق التي تلغي كل المسافة بين السبب والنتيجة، وبين الوجود وسبب وجوده، وبين المحسوس والمعنى. ولا تتمثل هذه الوحدة للمحسوس والمعنى إلا في حدود صلاحيات التمثيل: كما النموذج الأصلي، بوصفه إدراكاً نموذجياً، وهو نفسه في الممارسة العملية: ومفادها أن الإرادة المقدسة، التي تلغى فيها المسافة بين الوجود وواجب الكينونة، وبين الواجب والإرادة، لا يمكن إلا أن تكون نموذجاً أصلياً للإرادة البشرية، حتى إنّ الالتزام الأخلاقي سيعيش حالة من التوتر والتجاوز المستمر، وهذا ما عرفه ألكسيس فيلونينكو بالأخلاق البطولية، أي البطولة التي لا يمكنها إلا أن تميل نحو القداسة.

والسبب هو أنه لا يمكن عقلنة الحساسية بالكامل أو تحويلها إلى نشاط محض، إذ يبقى عمقها باثولوجياً أي سلبياً، ويُعبر علم اللاهوت لدى كانط بقوله إن الخطيئة الأصلية تبقى، عند الجميع، بمنزلة الانغلاق الذاتي للأنانية.

هذا لا يعني أنه لا مكان للتطلع والإلهام، ذلك لأن المسافة بين العفوية والسلبية تصنع التطلع إلى ما لا نهاية، إلى ما هو غير مشروط . وببساطة فإن الأمر لا يتعلق بالأخلاق، بل بالجزء الجمالي من الفلسفة التي يتعامل فيها كانط مع التغلب

ص: 446

المحتمل للحساسية على نفسها. ويظهر في شعور الجمال والجلال تجاوز للقيود المنطقية للعقلانية، وقد فسّر النقد الأول مفهوم «القوة الأساسية» المطبقة على الروح بوصفها فكرة الجذر المشترك للفهم والحساسية، وهو التغلب على عدم التجانس في القدرات وهذه الوحدة، التي لا تعرفها وسائل الذكاء، هي التي ترجعنا إليها العداوات لأنها «تجبرنا ، ضد إرادتنا ، على النظر إلى ما وراء المحسوس والبحث فيما فوق المحسوس عن نقطة التقارب لكل مقدراتنا الأولية». كما تُشعرنا تجربة الجلال، من ناحية أخرى، بالتطلع إلى وحدة تسعى فيها قوة الحساسية إلى أن تصبح متطابقة مع العقل؛ وهكذا تتحوّل الحاجة إلى افتراض مُدرَك أساسي للواقع المحسوس - لوضع اللانهائية في أساس المحدود - لتصبح واضحة من الناحية الجمالية. ويستخدم الخيال - الذي يرغب في توسيع قدرته بشكل مفرط إلى حدود تمثيل العموم المطلق للطبيعة بوصفها مقياسه الواقعي والحقيقي - مقياس الحجم هذا ليوجه «مفهوم الطبيعة نحو الأساس ما فوق المحسوس (التي توجد في أساسها تماماً كما هي قدرتنا على التفكير)»؛ فقد أعطى الفن للعبقرية مكانة القدرة الخلاقة القادرة على خلق طبائع أخرى وغيرها من التجارب المحتملة الظاهرية، التي هی

مزيج من الإحساس والمعنى.

ومع ذلك، بقدر ما يذهب النشاط الإبداعي والإلهام المُبتكر في تجلياتهما، فإنهما لن يحلاً محل الالتزام الأخلاقي، بل يُحضرانه فقط عبر نوع من التعليم الجمالي للحساسية، وهو تشكيل لا يذهب إلى حد التحول أو التجلي، حيث تحافظ الكانطية على تجزئة ما توحده البرغسونية، لأن الحساسية في رأي برغسون قد تكون أخلاقية في حد ذاتها، تماماً كما هي الحال في الحب.

ومن هذا المنطلق، قد تظهر عددا من التطورات والتعليقات المرتبطة بمكانة الحساسية في الأخلاق وفي الدين، فضلاً عن إمكان التعليم الأخلاقي للحساسية. وسننظر ختاماً في إحداها من خلال دراسة رمز التصوف في حدود العقل العملي، وسنسأل ما إذا كان يمكن أن تعمل خلاف ذلك بالنسبة لنا كنموذج أولي

ص: 447

IV)التصوف والأخلاق

1) لكي يتم تقديم مسألة الإلهام الصوفي لدى كانط على برغسون، ينبغي توخي الدقة في اعتماد المفردات. ففي اللغة الدقيقة ، يشير مصطلح «التصوف» إلى الباثولوجيا التي تتكوّن من تلقي العقائد من أجل جذور الإيمان. إن الخلط بين الواقع التاريخي للعقيدة وحيازة المعرفة المتتالية يجعل ما هو صوفي متطرّف: فالمغالي يحكم ويدين زملاءه بدل الله كما لو كان هو الله. ولكن يمكن مقارنة مفهوم برغسون حول التصوف،مع ما يلزم من تبديل، مع ما يسميه كانط «الإيمان الحي» أو «الإيمان المقدس»، وهو جوهر أخلاقي بالمعنى الذي يرتبط فيه، في حد ذاته، بفكرة من العقل الأخلاقي في المقياس الذي لا يخدم فقط على أنه قاعدة سلوك وإنما أيضاً على أنه باعث». وينبغي التأكيد على مصطلح» الباعث» لأنه يتجاوز الصفة الرسمية للالتزام الأخلاقي باعتباره قاعدة سلوك. ويستند هذا الإيمان إلى» نموذج البشرية الأولي المقبول لدى الله (ابن الله)» حول «الإنسان - الإله»، وهو ما يمكن ترجمته كالآتي: لم تكن تاريخية يسوع هي التي غذت الإيمان بنقائه وخلقه وحياته، بل هو إلهام عظة الجبل من فعل ذلك.

إن التمييز بين الإيمان الحي والهذيان الشعائري أمر بالغ الأهمية من أجل التفريق بين الإيمان الأخلاقي والإيمان العبودي. وهكذا فإن الموافقة التي أعطيت للنموذج الأصيل للإنسان - الإله تفصل الإيمان الحقيقي على الصوفية المزيفة والمتصوفين المزيفين، من أولئك الذين يستخدمون الأخلاق والإيمان ليفرضوا على الحساسية المحتوى المحدد للمعتقد. فالإيمان العبودي هو الذي يقبل تأثير أولئك الذين يدعون أنهم يتناسبون مع «الجذر المشترك» للحساسية والمعنى. ومع استمرار النموذج القديم، لا يمكن تمثيل الوحدة - الكلية البشرية إلا كقدوة مثلى للكمال،

التي تبقى على هذا النحو خارج أي مطابقات وأي احتجاز سياسي أو ديني.

2) الصوفية والأسطورة. يرى برغسون أنه طالما بقي المرء في الصوفية الإنجيلية، لا يُحدث تجاوز الميتافيزيقيا للأخلاق مشكلة إذا كانت ميتافيزيقيا الخلق الذاتي؛ فننتقل من الدين إلى مصدره ويمكننا قراءة المدرسة البرغسونية حول ذلك بصفتها «فلسفة المسيحية».

ص: 448

ولكن تزداد صعوبة التفسير عندما يتعلق الأمر بالإلهام الصوفي لدى البطل «المتصوّف العبقري» الذي سيقود البشرية خلفه لرغبته في جعلها «نوعاً جديداً» محرراً «من ضرورة كونها نوعاً». فهل إن البطل زعيم كاريزماتي؟ يؤكد هنري غوهييه أن «المتصوف الصادق هو أيضاً المتصوف الحقيقي». وهكذا، لا نجد صعوبة في الاعتراف بهذه الحقيقة حين يتعلق الأمر بالقديسين، لأنهم يجددون النموذج الأصيل ويعيدون إنعاشه: «الصوفيون العظماء»، يكتب برغسون، «هم المقلدون والمتممون الأصليون - ولكن غير الكاملين - وأتباع مسيح الأناجيل الحقيقيون»؛ غير أنّ تبديل رمز المتصوف في المجال الاجتماعي والسياسي يثير عدداً من الأسئلة.

ونحن نعلم، كما يشير برغسون، أن هناك صوفية مزيفة، كالإمبريالية، وهي العملة المزيفة للتصوّف. وإذا كانت الصيغة التي تقضي بأن «غريزة معينة تقودهم (للمتصوفين) إلى الإنسان الذي سيوجههم بالطريقة التي يريدون السير وفقها» تنطبق على مجال الروحانية الدينية، فلا يخلو الأمر من استحضار خطر التعصب الذي يتسم به التصوّف بالمعنى الكانطي ونقله إلى المجال السياسي. ألا ينبغي لنا أن نفصل التصوف والسياسة خوفاً من الخلط بينهما ؟ «حين يرى المرء ما فعله رجال الدين عموماً بالقديسين، كيف له أن يفاجأ بحقيقة ما فعله البرلمانيون بالأبطال؟ حين نرى ما فعله الرجعيون بالقداسة، كيف لنا أن نندهش مما فعله الثوار بالأبطال؟»من هذه الملاحظة يستنتج بيغوي العبرة الآتية: «إن الشيء الأساسي يكمن في أن السياسة لا تلتهم التصوّف الذي أحدثها في أي نظام حكم ونظام سياسي».

ولما كانت الديمقراطية، كما يعتبرها برغسون، تتمتع بجوهر إنجيلي، كونها أبعد ما يكون عن الطبيعة بجميع المفاهيم السياسية، يمكن أن نتفق مع المعنى الذي تضيف فيه دافع الرابط الأخوي إلى الحق في المواطنة. فهل هذا يعني وجوب اعتبار شخصية سانجیست، على سبيل المثال، شخصية صوفية لأنه المحرض على التصوف الجمهوري بمعنى علم الأسطورة الجمهوري؟ وبهذا نطلق على مصطلح «الصوفي» معنى واسعاً يشمل الخرافة والوظيفة الخرافية، كما تقترحه مادلين بارثيليميمادول

ص: 449

مع الأخذ بعين الاعتبار «الديمومة والاندفاع الحيوي والصوفي العظيم الذي سيوفر على البشرية الكثير من الخرافات المشحونة بشعور لا ينضب».

من أجل التعبير بما يخالف مشكلة التفسير التي يحدثها التصوف في السياسة، يمكن القول إن الخط الفاصل بين التصوف والتضليل، إذا كان واضحاً من وجهة نظر التحليل الفلسفي، قد تم محوه في كل من جانبي العمل والعاطفة، تحت تأثير الحاجة الملحة والارتباكات العاطفية. ويمكن اعتبار العبقرية المستوحاة من الخالق ك- «إعادة خلق» للأساطير التي هي في حد ذاتها إعادة خلق للاندفاع الحيوي. وبين التصوف والتضليل تواصل مسألة الأسطورة، من خلال تناقضها، إثارة مهمة نقد القدرة على إعطاء الحكم كنقد للقدرة على التقييم ومنح الموافقة. وقد أصبحت هذه المهمة أكثر ضرورة بسبب التداخل بين «المجتمع المفتوح»و «المجتمع المنغلق»في رمزية تعبوية للأفراد الذين يتطابقون دائماً مع الطبيعة البشرية، التي يحددها برغسون بأنها «لا تتغير وبأن سياستها - بالبحث والتحقيق - تكشف عن شراسة.

يثير الفصل الأخير من كتاب «منبعا الأخلاق والدين» كل هذه الأسئلة. ومع إيلاء المزيد من الاهتمام بالصفحات المكرسة للديمقراطية على وجه التحديد، يلاحظ المرء الحكمة من مفردات برغسون وبخاصة حقيقة أنه يمنح المثل الأعلى الديمقراطي وظيفة مماثلة تماماً لوظيفة النموذج الأصيل بالمعنى الكانطي، وهو الاتجاه الذي «تُحوَّل نحوه البشرية»، أي الثورة التي أشارت إلى «ما ينبغي أن يكون»، أو بالأحرى، إلى ما لا ينبغي أن يكون من دون أن يسهل عليها تحديد «ما يجب القيام به». وهكذا، كما قال برغسون ، ينبغي «نقل» الجوهر الإنجيلي للديمقراطية في السياسة، ولكن بالمعنى الذي يشير فيه «النقل» إلى الحفاظ على المسافة بين المطلق والنسبية وبين المثالي والحقيقي. ويراعى هنا خطر الخلط بين التصوف والسياسة ويُعبر بوضوح عن الإرادة في معالجته . ومن ثم، لا يمكن تعريف البطل على أنه زعيم أو تبني سلطة الرئيس له، بل يتحتم عليه أن يتجسد في نوع أو نموذج أصيل لتحقيق تعبئة قادرة على التصدي للضغط على الحريات (أو) لقمع الحريات من قبل السلطة. ويمكن القول إنه يخلق دوافع الأخوة في السياسة، مما يجعل من الروابط الأخوية القوة الدافعة التي تعيد بشكل دوري توليد أشكال جديدة من الحرية والمساواة.

ص: 450

المشروع الأخلاقي الغربي مقاربة نقدية

«الوجودية أُنموذجا»

د. عامر عبد زيد الوائلي(1)

المبحث الأول : الفلسفة الوجودية «المفهوم والشخصيات»

إِنَّ البحث عن «تعريف الفلسفة الوجودية»، يبين لنا أنَّ هذا الاتجاه ليس أكثر من كونه اتجاها فلسفيا، ولا يدعي أنَّه دين أو مذهب عقائدي ذو نزعة دينية؛ فهو مذهب فلسفي معاصر غربي ظهر استجابةً لما هو راهن حين هيمنت أخلاقيات الحرب بقسوتها وتجبرها وعنفها كله وهي تسعى من أجل الهيمنة والشمولية في الغرب حيث الفاشية والنازية من جهة، والروح النفعيَّة في المعسكر الغربي الأمريكي الذي كان هدفه تحقيق الأرباح الاقتصادية وهيمنة الشركات على العالم وتنافس الأطراف المتصارعة على مناطق النفوذ والمستعمرات على حساب حرية الإنسان ومصيره، وفي النتيجة كانت تلك الظروف التي ساهمت في بزوغ الفلسفة الوجودية

ص: 451


1- استاذ فلسفة الحضارة الوسيطة (اسلامي - مسيحي) يحاول الباحث في هذه الدراسة ان يبرز موقف الوجودية مشكلة الاخلاق وهذا ما أكده العنوان بوصفه ثريا النص وقد قسم الباحث البحث الى المبحث الأول، الفلسفة الوجودية «المفهوم والشخصيات «وفيه عرف الوجودية وبين تياراتها الفلسفية فيما جاء المبحث الثاني، موقف الوجودية الاخلاقي، حاول خلاله تبيان خصوصية موقف هذه المدرسة من الاخلاق، الا انه في الخاتمة يستعرض مجموعة من النتائج منها هذه النتيجة : عَدَّ كثير من الباحثين الأفكار الوجودية سرطانًا ينخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخُلُقي الذي أصاب مجتمعهم؛ بسبب فقدان المعيار أو المقياس. المحرر .

التي أكدت إبطال كل الفلسفات التي قادت الشعوب الغربية إلى هذا المصير الحزين من إبادة وتشريد ؛ فوصلت نتائج الحرب الى أرقام كبيرة.

ولا يمكن فهم الوجودية خارج تلك الرهانات الضاغطة في الفكر الغربي التي أظهرت الحرب. فكانت الحداثة عنيفةً وقضت على الإنسانية بفعل هيمنة الآلة على الإنسان؛ ولعل هذا ما بينه علماء الاجتماع الألمان في مدرسة فرانكفورت(1).

ثم أكدته الفلسفة الوجودية التي قدمت نفسها بوصفها فلسفة حياة هدفها الدفاع عن حرية الأفراد أمام تجبر الحداثة والدول الشمولية والنزعة الامبريالية. ومن هنا عُدَّت الفلسفة الوجودية - كما تصورها عبد الرحمن بدوي - من أبرز المذاهب الفلسفيّة المعاصرة، وفي الوقت نفسه هي من أقدمها ، ولكنَّ ما يميّزها أنَّها فلسفة تحيي الوجود، وليست مجرد تفكير في الوجود(2). ولعلَّ هذه السمة بالذات جعلتها من أكثر المذاهب الفلسفيّة شهرة حتى السبعينات من القرن الماضي في الغرب، وهي مرتبطة بما هو راهن وقتها حيث كانت الحرب وما أفرزته من نتائج وهذا موضوع إشكالي في الفكر الغربي يتعلق بإبراز قيمة الوجود الفردي للإنسان، وقد ظهرت الوجودية نتيجة لحالة القلق التي سيطرت على أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، واتسعت مع الحرب العالمية الثانية، وسبب هذا القلق هو الفناء الشامل الذي حصل نتيجة الحرب، ومن خلال تلك الظروف كان هناك الكثير من الأفكار الوجوديَّة التي تجد أنَّ السلطات المهيمنة وما تفرضه من قيم كانت وراء ما حدث من جرائم كبيرة ارتكبتها الأنظمة الشمولية سواءً كانت نازيَّة أم فاشية أم ماركسية أم ليبرالية متوحشة هيمنت على مصير الناس وحولتهم إلى مجرد أدوات، وكانت تلك الأفكار قد وجدت لها مؤيدين كما وجدت لها نقادًا عدُّوا الوجودية مذهبًا يعبر عن دعوات خادعة تهدف إلى محاربة القيم المجتمعية وتسعى إلى إثارة الفوضى بحجة

ص: 452


1- انظر: سعاد حرب، الانا والآخر دراسة في فلسفة سارتر ومسرحه ، دار المنتخب العربي ، ط1، بيروت، 1994، ص9، يشير سارتر: لهذا يجبر السيد العبد على أن يعمل من اجله، وأن يحضر له اشياء الطبيعة.وهكذا يصبح العبد الحد الواسطة بين السيد والشيء.
2- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت (د،ت)، ص 20-19 .

الحرية و إشباع الرغبات بلا قيود بعيدا عن قيم المجتمع والدين وقد قدمت الوجود على الماهية، (باعتبار أن الماهية هي الطبيعة المعقولة لاشي وان الوجود هو التحقق الفعلي له)(1)ومن ثَم فإنَّها ترى أن) فلسفة الوجود هي الفلسفة التي في جوهرها ان هي الا انصراف عن (المجرد) الى (المشخص) وتحول عن (الماهيه) الى (الوجود)، وتعلق الإنسان من حيث هو موجود فردي»(2).

ولعل هذا ما يمكن أن نلمسه في حياة سيرن كيركجور Soren Kierkggrd (1855-1813)(3)الذي عاش حياةً قصيرةً ؛ ولكنَّها كانت ينبوعًا ثرياً دافقًا حيًّا للفكر الفلسفي من أخريات القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا فله يدين يسبرز وهيدجر ومارسيل بكثير من تأملاتهم وموضوعات تفكيرهم(4)، فهو القائل: (إن أجد حقيقة، حقيقة ولكن بالنسبة إلى نفسي انا، أن أجد الفكرة التي من أجلها اريد أن أحيا و أموت)، وعلق عبد الرحمن بدوي بالقول: (القول يقوم على الوجود المتوتر الحي بما ينطوي عليه من مخاطرة، ووثبة، وخطيئة - كل هذه معان أساسية تكون مقولات الحياة الوجودية عند كيركجور)(5)ومن ثَمَّ فإنَّ (الوجود الحقيقي هو وجود الأفراد، أما النوع فهو اسم لا وجود له في الخارج؛ فمثلاً : زيد وخالد وإبراهيم، هؤلاء موجودون حقيقيون، لا شك في وجودهم، ولكن الإنسان أو النوع الإنساني كلمة لا حقيقية لها في الخارج كما يزعمون)(6)ومن أجل تبيان هذا الأمر يقول «عبد الرحمن بدوي «: الموت ليس مشكلة فلسفية، بل المشكلة ه- (أني أموت) وفارق هائل بين أن أبحث في الموت بوصفه معنى عاماً مجرداً وبين أن أبحث في (أنى الموت؟!) فيجب ردّ

ص: 453


1- س.ي جود، مدخل إلى الفلسفة ألمعاصره، ت:- د. محمد شفیق شيا، مؤسسة نوفل ، ط1، بيروت 1981، ص 132.
2- زكريا ابراهيم، الفلسفة الوجودية، ص 11
3- ولد في كوبنهاكين في 15 مايو سنة 1813 ، يعدّ الاب الحقيقي للفلسفة الوجودية، يقال كان تلميذا لهيجل في مراحل الأولى من عمره، لكن ثار فيما بعد على فلسفته النظرية. كان اخا لسبعة اطفال الذين مات خمسة منهم معوالدته قبل ان يصل الحادية والعشرين من العمر. كانت كتاباته في البداية في السخرية التي وجهت اشد نقد لفلسفة هيجل. سوري كيركغارد كان ديكارتيا الى العظم.
4- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص 27.
5- عبد الرحمن بدوي ، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص 98.
6- عامر عبدالله، معجم ألفاظ العقيدة مكتبة العبكات ،ط1، الرياض، 1997 ، ص 439 وانظر : ناصر القفاري، وناصر العقل، موجز في المذاهب والأديان المعاصرة، دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط1، الرياض، 1992، ص 115.

المسائل إلى الموجودات، والنظر إليها بوصفها موضوعات يعانيها الموجود نفسه، فالذات الموجودة أو الذات الوجودية لا العقل المجرد - عند الوجوديين - هي التي يجب أن تكون العامل في إيجاد الفلسفة(1).

أَمَّا الحديث عن «أبرز فلاسفتها» فلا شكّ فى أنَّ هناك مرجعيات فلسفية لهذا التيار الفلسفي، ونجد أوّل من تعود له الفلسفة الوجودية هو الفيلسوف الدانماركي (سورین کیرکجارد) (1813-1855)، في نزعته الوجودية المؤمنة ونقده العنيف للفكر الشمولي لدى الكنيسة وفلسفة هيجل حيث نجده قد أقام مذهبًا فلسفيًا مسيحيًا مؤمنًا يقوم على الإيمان والتجربة الدينية. ولكننا لا نستطيع أن نتبين موقفه النقدي من الكنيسة وتأكيده التجربة الدينية الفردية خارج انتمائه الديني اذ (على الرغم من انتقادات (كيركجورد) العنيفة والمتزايدة التي وجهها له (لوثر) فإنَّ وجوديته لا يمكن فصلها - في الواقع - عن مذهبه البروتستاني)(2)؛ ولكنَّ العامل الديني لا يمكن أن يكون عاملاً حاسما في الفصل والتمييز بين فلاسفة الوجودية، متدينين وملحدين، ومردّ صعوبة التمييز طبيعة العلاقة القائمة بينهما، فهي علاقة ذات طابع ينطوي على مفارقة إلى أقصى حد، ولكنَّ هذه العلاقة تبدو غائبة عند الدارسين للفلسفة الوجودية وهم بطبيعتهم لديهم ولع بإيجاد تصنيفات من أجل الفهم، الذي قد يقود إلى التبسيط المخل وبالنتيجة يتحول إلى عائق أكثر منه معين على الفهم والسبر للفكر الوجودي على صعيد الممارسة والتنظير، فهناك فلاسفة ذوو ميول وجودية لا يمكن أن يحيط بهم هذا التصنيف(3)؛ و على الرغم من المخاطرة تلك ولكننا نحاول أن نتابع هذا التصنيف؛ لأنَّ العمل الديني يشكل ثقلاً في مقاربتنا الأخلاقية على الرغم من إدراكنا صواب تلك الملاحظات ومنها ايضا هذه الملاحظة التي تؤكد أنَّ التصنيف على أساس ديني يقودنا إلى (نوع من العلاقة التي تجمع بين الحب والكراهية التي تتشابك فيها عناصر الايمان و عدم الايمان)(4)؛ «ولكن ما يعقد الأمور

ص: 454


1- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص21.
2- جون ماكوري، الوجودية، ت: د. امام عبد الفتاح امام، سلسلة عالم المعرفه الكويت، 1982، ص 20.
3- انظر: زكريا ابراهيم، الفلسفة الوجودية، ص 13-14.
4- جون ماكوري ، الوجوديه، ص 18-19

وجود مدرستين ،وجوديتين تختلف الواحدة منهما عن الأخرى وبالنتيجة وجود نوعين من الوجوديين، أولهما: الوجوديون المسيحيون، ومنهم الفيلسوف الألماني المعاصر (كارل يسبز) والفيلسوف الفرنسي (جابرييل مارسيل) والاثنان كاثوليكيان. وهناك سمات مشترك يمكن أن نطلق عليهما توصيفا دينيًا بوصفها قاسما مشتركا يميزهما عن الآخرين ولكنَّ هذا لا يعني عدم وجود مشتركات مع الآخرين على الرغم من اختلافهم الديني، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنَّ الفلسفة الوجوديَّةَ بوصفها فلسفة معاصرة تنقسم إلى قسمين:

أوّلاً ، الوجوديّة الدينيّة التي تسمّى ب(الوجودية المسيحية):

من أشهر روادها غابريل مارسيل (1889-1969)(1)وله فضل بارز، فضلا بارزا في تحليلاته الفلسفيّة الدقيقة، خصوصا في كتابه (يوميات ميتافيزيقية)، وفي عنايته بمسألة الملك والوجود وتمييزه بينهما ورفعه الوجود فوق الملك .(2)الذي سيطرت على فكره الوجودي النزعة التفاؤليّة، وعدَّ الإيمان بالربّ قادراً على حلّ مشكلات الإنسان، كما كان لكارل ياسبرز أثره في الوجودية الدينية، حيث عدَّ الحرية شرطاً للوصول إلى الرب.

(کارل جاسبرز) (1883-1969)(3)الفيلسوف الألماني المعاصر، ولد في سنة (1883م)، ويعيش في سويسرا منذ سنوات، وهو أكثر ارتباطا بكير جكور، وأشد تاثيراً بالنزعة اللامعقولة. و ينماز بالتوسع في التحليلات الجزئية لظواهر الوجود، وغزارة إنتاجه وتشعبه، وأبرز تحليلاته ما كتبه عن «المواقف الجدية - Grenzsituationen»، وهي المواقف النهائية التي يوجد فيها الإنسان و لا يستطيع منها خلاصاً و لا فراراً.

ص: 455


1- غبريل مارسيل، فرنسي الجنسية، يعتقد ان تسامي الفرد على ذاته هو اساس وجوده وبخاصة اذا كان التسامي نحو الله.
2- عبد الرحمن بدوي ، دراسات في الفلسفة الوجودية ، ص 25
3- كارل ياسبرز الماني الجنسية، في البداية رفض لقب فيلسوف وجودي، كان طبيبا في سنة 1933 اصدر كتابه في ثلاث مجلدات بعنوان (الفلسفة) كتب الكثير في موضوع الوجودية لا بلغة الالحاد وانما بطريقة كيركجارد. يعتقد یا سبرزان کیر کجارد و نيتشه هما من اعظم فيلسوفين ظهرا في التاريخ بعد هيجل على الرغم من عدم اتفاقه معهما شدد بدوره على الحرية كشرط للوصول الى الله فيكتب: (ان الإنسان الذي يشعر حقا بتجربته، ويكتسب في نفس الوقت اليقين بالله، فالحرية والله شيئان مرتبطان لا ينفصلان وعنده هو طريق التسامي الى العلو، هو موضوع الله بحد ذاته.

إِنَّها تمثلُ جدارًا نصطدم به في أي اتجاه اتجهنا... والموقف الرئيس بين هذه المواقف الحدية أو النهائية كلها هو الموت، وهو موقف يطبع بطابع النسبية كلّ أفعاله، ولابد من أن أكيف أعمالي وفقا له. ويتلوه موقف الألم، الذي يقف من خلفه الموت و لا سبيل إلى الخلاص منه ايضا ... والخلاصة العامة لتحليل هذه المواقف النهائية هي أنَّ الوجود مشكلة بطبيعته، ولهذا ينتهي كل شيء إلى الغرق على حد تعبير يسبرز.(1)إنَّ هذه التجربة قد اتخذت عند (يسبرز) صورة شعور حاد بما في الوجود من قابلية للتحطيم، لأنَّه حقيقة هشَةٌ سريعة الانكسار. (ولاشك في أن يسبرز قد تحت تأثير أبو الوجودية الحديثة (كير كجار) ولكن من المؤكد أن أحدا لم ينجح في استخدام مفاهيم كير كجارد قدر مانجح ياسبرز في هذا المضمار)(2).

ثانياً، الوجودية الملحدة:

من أشهر مفكري هذا التيار من الوجودية، مارتن هايدجر و سارتر، وسيمون دي ،فوار، وألبير كامو ، وقد كان لكل من هدجر وسارتر حضور متميز في هذا التيار الوجودي.

أمَّا (هيدجر) فقد تجلّت تلك التجربة الوجودية عنده على شكل وجدان قلق قوامه الشعور بأنَّ الوجود سائر حتما نحو الموت. و تبدو عند (سارتر) على صورة شعور مريض بالغثيان. ولم ينكر الوجوديون أن تجربتهم هي وليده تجربه ذاتية حية لا تكاد تنفصل عن صميم وجودهم. و نراهم يقررون بصراحة أنَّ المشكلة الفلسفية لا يمكن أن تعني شيئا بالنسبة إلى أي إنسان لم يجد نفسه معانقا لها، مأخوذا في حبالها واقعيا تحت أسرها »(3).

وقد كانت المرجعية التي انطلق منها الاثنان في موضوع الفينو منولوجيا الحقيقة المباشرة التي تفرض نفسها على الوعي؛ لأنَّها (حاضرة) أمام الوعي. وهي ايضا

ص: 456


1- عبد الرحمن بدوي ، دراسات في الفلسفة الوجودية ، ص 24.
2- زکریا ابراهیم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، ج1، دار مصر للطباعة، القاهرة. ص425.
3- زكريا ابراهيم، الفلسفة الوجودية، ص 13-14.

تكشف عن ذاتها كما هي كائنة، إن هذه الظاهرة يمكن أن تدرس وتوصف؛ بقدر ما هي.

ليس هناك وجود - وراء - الظاهرة؛ لأنَّ قيام وجود ما هو بالضبط ما يظهر، وهكذا نصل إلى فكرة الظاهرة (phenomena)، تلك التي نلتقي بها مثلا في فينومنولوجيا هوسرل أو هدجر(1)، ولكنَّ هوسرل كما يرى سارتر لم يتعد إطلاقا الوصف الخالص للظاهرة من حيث هي كذلك، فهو تداخل في نطاق الوعي الخالص بعد أن علق النظر في الوجود و الواقعي للأشياء ثم جاء هيدجر وأخذ فكرة القصد وطبقها على الوجود متجاوزا الوعي. ففكرة القصد عند هيدجر قد أتاحت له أن يمضي من الوعي ومن موضوعات الوعي إلى الوجود الواقعي العالمي. وبعبارة أخرى فإنَّ القصد الهوسرلي قد أصبح عند هيدجر الوجود - في العالم in derweltscin، مما أتاح لهدجر أن يقيم أنطولوجيا أي علماً للوجود(2).

أما سارتر فهو ينطلق من «الكوجيتو» الديكارتي والكوجيتو يعزز الأنا أو الفكر الخالص حقيقة وهو مبدأ أول، ولكنَّ سارتر لا يقف عند الكوجيتو وإنما هو يتخذ الكوجيتو نقطة انطلاق لينظر إلى الوعي وموضوعه معا في علاقتهما التي لا تنفك فالفينومنولوجيا عند سارتر هي فينومنيولوجة جامعة(3). فهو القائل: إنّ (هايدجر والوجودييم الفرنسيين وأنا ايضا...... وهاتان الفئتان من الوجوديين تلتقيان على صعيد واحد وتتفقان على (أن الوجود يسبق الجوهر)(4).

والعلاقة بين هؤلاء الفلاسفة تكشف لنا أنَّ الوجودية - كنظرية وتطبيق - ليست حركة جديدة، والدليل على هذا ما قدمه (سورين كيركجارد)، بل هناك من يطبق المنهج التاريخي ويحاول الحفر في التراث الفلسفي بحثا عن أسلاف لهذه الفلسفة

ص: 457


1- حبيب الشاروني، بين برجسون وسارتر ازمة الحرية، دار المعارف، القاهرة، 1963، ص 90-91.
2- نفس المصدر، ص 92.
3- نفس المصدر والصفحة.
4- جان بول سارتر، الوجوديه مذهب انساني، منشورات دار مكتبه الحياة، ط2، بيروت، ص 25-26.

التي تؤكد على حرية الإنسان كما يظهر هذا في مؤلفات أغلب فلاسفتها الذين كانوا منقسمين - كما سبق القول - إلى تيارين أحدهما مؤمن والآخر ملحد ولكنَّهما يمثلان الفلسفة الوجودية في سعيها إلى تحقيق حرية الإنسان التي تقيدها الكثير من القيود الاجتماعية والفكرية والأخلاقية من فلسفات اجتماعية ذات نزوع مادي أو مثالي ولكنَّهما يشتركان في تقييد نزوع الإنسان. إنَّ فلاسفة الوجودية كانوا مختلفون في موقفهم ليس من الأخلاق بل من الدين والمؤسسة الدينية كما كان (سورين كيركجارد) في موقفه النقدي من الكنيسة؛ ولكنَّه كان مؤمنًا ويجد في سلوك الكنيسة سلوكًا معارضاً للإيمان الحق . وقريب من موقفه كان هناك فلاسفة آخرون، وفلاسفة كان موقفهم من الدين موقفًا مضادًا فكانوا ملحدين مثل هيدجر وسارتر. وكان لهذا التيار حصرا موقف من الدين والله والغيبيات عامة، فقد نظروا لها نظرة فلسفيّة مرتابة في قدرتها على ايجاد حلول لما يعانيه الإنسان من مشاكل.

المبحث الثاني: موقف الوجودية الاخلاقي

انطلقت هذه الفلسفة أوهذا الأسلوب في التفلسف من مقاربة مهمة في وضع الحقيقة الواقعية (Reality) في تصورات دقيقة محكمة أو حبسها في مذهب مغلق كما فعل هيجل مثلا لهذا لم تكن الوجودية (تعتقد أنه لا توجد باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم، فخبرتنا ومعارفنا هم باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة، ولا يمكن ان نعرف العالم ككل....)(1)فهذه الرؤية النقدية للخطابات الشمولية الهيجيلية وتلك التي تولدت عنها رؤية تحاول اخضاع العالم لها، وهذه الرؤية خلقت عوامل الهيمنة وادعت امتلاك الحقيقة؛ فكانت الحرب واحدة من نتائجها المدمرة وكان من نتائجها الشعور باليأس والإحباط، الذي مثَّل الراهن الذي كان يعقب الحرب وما خلفته من شعور عميق بانهيار القيم الليبرالية الغربيَّة، إذ اصبح الوجوديون يعانون من إحساس

ص: 458


1- جون ماكوري، الوجودية، ترجمة: امام عبد الفتاح ،امام در الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986، ص 10.

أليم بالضيق، والقلق، واليأس، والشعور بالسقوط والإحباط؛ مما ولد موقفًا نقديًا وجوديًا بإزاء كل تلك الفلسفات الشمولية، فكان البديل كما ظهر في مقاربة هدجر التي احتفظت بالرؤية العينيَّة للوجود من دون أن تقود تلك الرؤية إلى التضحية بالترابط المنهجيّ التي تربطنا بالتحليلات الفلسفيّة النسقيَّة التقليدية. إنَّ تلك الرؤية العينيَّة سوف تخلق أسلوبًا بالتفلسف يدرك المشكل الذي يعانية الإنسان بعد الحرب؛ لهذا كانت الوجوديَّة بأسلوبها الجديد الذي (يبدأ من الإنسان لامن الطيعة.... فالذات هي الموجود في نطاق تواجده الكامل، فهذا الموجود ليس ذاتا مفكرة فحسب وانما هو الذات التي تأخذ المبادرة في الفعل، وتكون مركزا للشعور والوجدان.)(1)فهذا الوجود الذي يظهر فيه الإنسان وقد أُلقي به في هذا العالم وسط مخاطر تؤدي به إلى الفناء من دون حام له، ولابدَّ من أنَّ يلد شعور عام بالإحباط والانطواء على الذات المجروحة من الآخر الذي هو مستقل عن الذات بل هو الجحيم الذي يهدد الذات.

إنَّ هذا الفكر كان - بلا ادنى شك فكر - يتّسم بالانطوائية الاجتماعية والانهزامية في مواجهة المشكلات المتنوعة. قد يبدو هذا الكلام محض تأويل فيه كثير من التفريط والتبسيط فلو عدنا إلى ما قاله سارتر بهذا الصدد نجده يقارب أمرًا مهما إشكالياً بل ونتائجه يومها راهنة إذ نقد المنظومات الفلسفية التي تولدت عنها تلك النتائج الكارثية للحرب التي كانت المحفّز للتأمل الوجودي. إنَّ النظرة إلى الإنسان کوجود لا بوصفه ذاتا مفكرة هي مقاربة نقدية للفلسفات التي هيمنت عليها المعرفة التقنية التي أهملت الإنسان كوجود له استقلاليته، وأصالة وجود الإنسان متقدمة عن ماهيته بمعنى (ان الإنسان يوجد اولا وقبل كل شيء ويواجه نفسه وينخرط في العالم، ثم يعرف نفسه فيما بعد... وعلى نحو ما يصنع من ذاته.)(2)بمعنى أنَّ وجودك هو الذي يحدد هويتك وليس كما تصورها أرسطو تقدّم الماهية على الوجود، أوكما تصورتها المثالية في تقدم الفكرة على الواقعة.

هذه الفكرة حيوية وتحتاج إلى عرض أكثر وتأصيل، وهي فكرة ظهرت مع هوسرل

ص: 459


1- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص 12.
2- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص 12-13.

ولكن بتأويل هيدجر وسارتر لها وإن كان تأويلهما لم يتقبله هوسرل ذاته فاعترض على هيدجر تلميذه يوم أهداه كتابه (الوجود والزمن) فأصل الفكرة تكمن، أنَّ هوسرل حاول أن يبتكر منهجا للوصف التفصيلي الدقيق للأنواع المختلفة من الموضوعات في ماهيتها الخالصة، ولكنَّ لبَّ هذا المنهج أو المذهب هو (الوصف)؛ لأنَّه يقدّم لنا وصفًا تفصيليًا لماهية الظاهرة على نحو ما تعطى للوعي ولكي تتأكد من دقة الوصف فلابد للذهن من أن يتطهر من الافتراضات السابقة والإحكام المبتسرة، ومن الضروري أن تبقى داخل حدود الوصف(1). ولكن هيدجر وغيره من الوجوديين لم يتقبلوا المذهب الظاهراتي كما هو عند هوسرل فطوروا لونًا من الظاهراتية تلائم أغراضهم الخاصة في الوقت الذي يؤكد هوسرل أهمية الماهية (Essence) ويعتقد أنَّ الظاهريات علم دقيق، ونجد الوجوديين يؤكدون أهمية الوجود الإنساني العيني (Existence)(2). وهذا الموقف يقوم على مقاربة هيدجر إذ (حاول تعقب المفهوم لغويا فكلمة الفينومينولوجيا مشتقة من لفظين هماLogos Phainomenon)، أما المعنى الاول فهو مشتق من الفعل اليوناني Pheinein)) بمعنى يظهر ويخرج إلى النور فالظاهري ما يبدو أو يظهر إلى النور، ولابد من انتزاع الحقيقة من الظواهر ويرفض هيدجر وجود الشيء في ذاته بل إنَّه يؤكد ليس هناك إلا أن نعرف الظواهر على نحو ما تظهر نفسها في ذاتها .. أما المعنى الثاني(Logos) نجد أن هيدجر يبين لنا أنَّ هذا اللفظ يعني «الظهور «فالقول(Legein) هو ظهور((3) apo phainestani) . وانطلاقا من هذه الرؤية يصل هدجر إلى تاكيد التمييز بين وجودين (الوجود في العالم و الوجود داخل العالم) وهذا يعني لونًا من العلو على العالم بفصل ظهور الإنسان خارجا منه أو منبثقا عنه، وإن كان مهددًا باستمرار بأن ينزل إلى مرتبة الموجود داخل العالم ويفقد بذلك وجوده المتميز ويستوعبه مستوى من الوجود أدنى من المستوى البشري أعني وجودا غير مسؤول وغير مفكر أدنى من الموجود الإنساني)(4)هذا المستوى من الوجود زائف بلا شك.

ص: 460


1- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص24.
2- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص ص 25.
3- نفس المصدر، ص 27.
4- نفس المصدر، ص 118.

أعتقد أن هذا التأصيل ضروري في تبيان المرجعية الوجودية عن الإنسان وبالنتيجة عن أصالة موقفهم من القيم لأنَّ ما يميّز الإنسان فردانيته واستقلاله وأصالة الاختيار لدية بوصفها خاصية ضرورية والمحك الذي يبرهن على استقلال القرار لدية بوصفه انعكاسًا له وليس تكرارًا سلبيًا للآخرين، ومن هنا تظهر أصالة حريته واختياره وأيضا التزامه بموقف قيمي قائم على مؤشرات عدة عند الوجوديون بحسب ما سبق هو تقديسهم للحرية فمن دون حرية يفقد الإنسان أصالة وجوده ويصبح وجودا زائفا، وهذا يفترض أن يخضع ما يحيط به إلى اختياره وحريته وما وبالنتيجة اخضاع كل ما يحيط به إلى الاختيار النقدي مهما كانت مصادرها ، ولابد من أن يكون له قرار وموقف قيمي قائم على أصالة وجودة وأصالة شعوره بالحرية بعيدا عن المشاعر السلبية، مما يقتضي تسخير كل الطاقات والامكانيات لصالح تحقيق الذات الفردية من دون إعطاء أهمية للماهيات أو الجواهر أو الكليات أو المجتمع كما أسلفنا.

الإنسان والحرية:

كانت الحرية واحدة من أركان الخطاب الوجودي والمدخل الضروري إلى موقفهم الأخلاقي إذ كانوا يؤكدون على الوجود الإنساني، ويتخذونه منطلقا لكل فكرة، ويعتقدون أنَّ الإنسان أقدم شيء في الوجود، وما قبله كان عدمًا، وأن وجود الإنسان سابق لماهيته، ويقولون : إنهم يعملون لإعادة الاعتبار الكلي للإنسان، ومراعاة تفكيره الشخصي، وحريته، وغرائزه، ومشاعره. وما ذكرناه من تصورهم الأساس على تقديم الوجود على الماهية يمثل تقديم الواقعة على التصور أي إنَّهم يحاولون أن ينطلقوا من الواقعة أولا في رسم أبعاد للحرية. هذا ما يمكن أن نستلهمه من مواقف وتنظيرات كل من كيركيجر وهيدجر وسارتر.

اما كيركيجر: فقد أكَّد أنَّ الناسَ عند الوجوديين ثلاثة : رجل جمال، ورجل أخلاق ورجل دين؛ ولذا أدرج السالكين سبيل الحياة: ثلاثة مدارج، أولها: المدرج الجمالي: يحيا في اللحظة الحاضرة المنعزلة والثاني: الأخلاقي يحيا في الزمان والثالث الديني يحيا في السرمدية. أما رجل الجمال والحساسية، لا عبر الا بالمنفعة، ولهذا فهو

ص: 461

يسرف في اللذات، ولا يرتبط بشيء؛ لأنَّ كل ارتباط أو واجب يقيده وكل قيد فيه يتعلق بلحظة مقبلة و أخرى مدبرة. فهو يتصور لحظات الزمن المنعزلة ويعطي كل منها استقلالها وقيمها الذاتية(1).

أما رجل الأخلاق فيرى معنى الحياة و الوجود في العيش تحت لواء الواجب وكلاهما يقتضي الذكرى والتكرار ؛ لأنَّ المسؤولية و الواجب، ولابد من أن يكون كل منهما حاضرا في ذهن صاحبه على الدوام. فعلى الأخلاقي مسؤوليات وواجبات في المجتمع الذي يعيش فيه وفي الدولة التي ينتسب إليها بل ونحو الإنسانية عامة(2)...

أمَّا رجل الدين فلا يحيا في الزمان؛ لأنَّه أشاح بوجهه عن هذه الدنيا، وولى وجهه قِبَل الآخرة قبل عالم فوق الزمان لا لأنَّه تجزئة مطلقة للزمان؛ بل لأنه في مرتبة أعلى،«ليس عند ربكم صباح ومساء». ولهذا فهو متجرد من الدنيا وعن الزمان ولا صلة له؛ إلا بالسرمدية. وكل المعايير هي تصور عن تلك الحياة الأزليَّة الأبدية التي يتصور أنَّه يحباها من حضن الألوهية. وبالجملة أحواله هي تلك المقامات والأحوال المعروفة عند الصوفية(3). ولكنَّ كلَّ مدرج لا يكفي نفسه بنفسه.

أمَّا هيدجير : فكانت بداياته في إفراغه لمقولات كيركيجر الدينية فقد أفرغها هيدجير من كل محتوى ديني وجعلها وجدانية خالصة وعلى نفس النحو تأثر به سارتر.

وبعد استبعاده الأسئلة مثل: أين انا؟ وما معنى الوجود؟ التي وجدها أسئلة لا معنى لها؛ لأنَّ الوجود في هذا العالم لم يكن أمراً متوقفا على إرادتي، لقد رمي بي في هذا الوجود.. فلا أملك الا التسليم به؛ لكن هذا السقوط لا ينطوي على معنى الذم، بل هو أمر ايجابي، إذ بغيره ما كان يمكن وجودي ان يكشف لنفسه، ولولاه لظل وجودي في إمكانيات للوجود لانهائية لها. إن سقوطي معناه ايضا خروجي عن...، وهذا الخروج عن ... هو الذي حقق امكانيات وجودي(4).

ص: 462


1- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص 46-47 .
2- نفس المصدر، ص48.
3- نفس المصدر، ص49.
4- نفس المصدر، ص 90

ولكنه هنا يقف عند نوعين من الوجود: وجود أصيل وآخر: وجود مزيف، فيؤكد أنَّ القلق هو الذي ينبه الإنسان إلى وجوده والإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود، وذلك بالسقوط بين الناس وفي الحياة الزائفة؛ ولكي يعود إلى ذاته لابدَّ من قلق يوقظه.

والقلق نوعان: قلق من شيء وقلق على شيء، فالموجود في العالم يقلق على إمكانياته التي لن يستطيع - مهما فعل - أن يحقق منها غير جزء ضئيل جداً؛ لسببين:

الأول: أنَّ التحقيق يقتضي الاختيار لوجوده والنبذ لسائر الوجود.

والآخر : ثمة حقيقة كبرى تقف من دون استمرا التحقيق هي الموت، فالموت ليس ثمرة الحياة بل تحطيمها والقضاء عليها؛ ولكنَّ الحياة تنطوي على الموت....

لهذا يقول هيدجر : إِنَّ هذا الوجود هو بطبيعة وجود الفناء (Zum sein) أو وجود للموت(Ende seinZun- tode) فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت، فالحي يحمل الموت بين جوانحه(1).

انطلاقا من تلك الأفكار نستطيع القول إنَّ مفهوم الحرية، قد كان حاضرا في فكر الفلاسفة الوجوديين؛ لهذا أكدوا حرية الإنسان المطلقة، وأنَّ له أن يثبت وجوده كما يشاء، وبأي وجه يريد، من دون أن يقيده شيء، وأنَّ عليه أن يطرح الماضي وينكر كل القيود؛ دينيَّةً كانت أم اجتماعيَّة أم فلسفيّة أم منطقيَّة! ويقول المؤمنون منهم: إن الدين محله الضمير أمَّا الحياة بما فيها فمقيّدة لإرادة الشخص المطلقة. فهذا التوجه كان قد أثر بعمق على موقفهم من القيم؛ لأنهم بهذا قدَّموا رغبات الإنسان على أي شريعة خارجية سواء كانت دينيَّة أم عرفيّة أم قانونيَّة؛ لأنهم يحاولون أن يمنحوا الإنسان تفويضا واسعًا ويجعلون من رغباته وضميره الفردي منطلقا تجاه الآخر وليس القوانين المفروضة عليها سواء كانت منزلة أم اجتماعية.

ص: 463


1- المصدر السابق، ص 93

وانطلاقا من تلك الرؤية لدى فلاسفة الوجودية نجد أنَّ موقفهم من «القيم والأخلاق «يتجلى في أنَّهم لا يؤمنون بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه، إنما كل إنسان يفعل ما يريد، وليس لأحد أن يفرض قيما أو أخلاقًا معينة على الآخرين، فإنَّ هذا الموقف خصوصا أدَّى إلى الاتجاه الملحد كما يرى مؤرخوها:»وقد أدى فكرهم إلى شيوع الفوضى الخُلقية، والوجودي الحقُّ عندهم هو الذي لا يقبل توجيها من الخارج، إنما يسير نفسه بنفسه، ويلبي نداء الباطني من دون قيود ولا حدود.

النقد:

مهما كان الأي أو الحقيقة في تفسير الوجودية للقيم الاجتماعية والدينية؛ الا انهم، وهذا بطبيعة الحال ليس تفسيراً محضاً، بل هو موقف واضح المعالم يظهر في أشكال متنوعة في أقوالهم وسلوكياتهم، وفي حقول متعددة سواء كان في المسرح أم في الادب.

وبالآتي فإن موقفهم أو تفسيرهم من القيم الاجتماعية التي تظهر في سلوكيات الناس وتحكم على تصرفاتهم في وقتها، وجدت لدى الوجودية تقريعاً شديداً في آدابهم ومواقفهم الفلسفية والنقدية الجمالية والأدبية، فهم خلال تلك الحقول المتنوعة مارسوا تفكيك المنظومات الاخلاقية وعدوها حواجز مصطنعة تحول حرية الفرد وانطلاقه وأكدوا على أن أي ايمان أو تسليم بأي وسيلة أو حيلة من حيل تلك المنظومة القهرية تمارس نفي حريتك ؛ لأنها تولد الاغتراب وتدفعك الى ممارسة سلوكيات غير متوافقة غاياتك الفردية الحقيقية.

فهذه المبالغة تظهر موقفاً يتسم بالنفي لكل شيء وكأنّهم بهذا يحملون المجتمع والثقافة السائدة ما حدث من أحداث الحرب وما صاحبها من ناحية ومن ناحية ثانية نفي منظومة القيم لا يسهم بالضرورة من إحداث تغيير حقيقي؛ لأنّ أي تغيير يفترض بأن يكون قد بدأ بنقد الشخص أولاً الى الجانب السلبي في وجوده من دون نقد

ص: 464

يشخص ما هو سلبي وصولاً الى تقديم البدائل التي تعد هي الحلول الممكنة التي تخلق معالجة لما هو قائم من الرهانات.

بل إننا نجده حاضراً في فكر كيركجورد نفسه فقد «بدأ هجومه العنيف على الفلسفة العقليّة، فهاجم الفلسفات التي سبقته وهاجم العقل باعتباره ميراثا للإنسان ويحمل على القواعد والقوانين التي تجعل الإنسان يلتزم بقواعد وقوانين الكون والأصولية والعلاقة بينهما، كما هاجم أصحاب «الفلسفة الموضوعية العلمية «ايضا، اما الدين فقد قادت اساطير الأحزان في المسيحيّة إلى التوتر والقلق والتمزق والضغط ...»(1).

أما سارتر ففضلاً عما عرضناه سابقاً من أفكاره؛ لكن في موضع نقدها نجد بأنّه استطاع أن يستغل فورانه النفسي ليعود باليأس إليه حتى يقوي ميله على تحطيم كل العقائد .... وهكذا ما تميزت به كتب سارتر نفسها، إذ أنها ترتبط بتاريخ الشعور والانفعالات والخوف حتى نعتها النقاد بانها فلسفة اليأس العقلي(2).

وقد عقد سارتر كتاباً أطلق عليه ب- «الوجودية الإنسانية» بعد ما كثر النقد الموجه ضدها من الجوانب الآتية (الجانب الديني والجانب الإلحادي و الجانب الفلسفي) وكان أهم ما اتفقوا عليه هو أنها ليست نزعة إنسانية فقط وانما ضد النزعة الإنسانية(3)أما فيما جاء عنه في تأويله للذات «إنّنا ، وقد بينا تهافت هذه المقولة في تأويل الذات، فكيف يمكن كنا أن نفهم كثيراً من أنماط السلوك الانساني التي يصعب غاية الصعوبة أن نُرْجِعَهَا إلى مجرّد الوعي، مثل الهستريا والعصاب والأحلام، وهلم جرا ؟ والحق بأنّ سارتر ليرد على هذا الاعتراض المفترض لم يكتف بجواب واحد، وإنما وضع نظرية بأكملها، وسعى للبرهنة عليها والتدليل لها في جزء كبير من مصنّفه المذكور،

وهذه النّظريّة كان قد بناها على مقولة أخرى...(4)».

ص: 465


1- مصطفى غلوش ، الوجودية في الميزان، مجلة رسالة الامام ، ع 4 ، القاهرة، 2002م، ص 27.
2- محمد إبراهيم، الوجودية فلسفة الوهم الإنسان، الهيأة العامة لشؤون الأميرية، ط1، القاهرة، 1984م، ص 15-16.
3- محمد إبراهيم، الوجودية فلسفة الوهم الإنسان، ص22.
4- سارتر، نقد سارتر لمقولة «اللاوعي» www.fiseb.com.

انطلاقا من تلك النظريات فأنهم يشرعوا الى تحرك الجموع الشبابية ودفعها الى نفي المجتمع والسعي الى سلوكيات تفصل الإنسان عن مجتمع عبر أشكال متنوعة من السلوكيّات الاحتجاجية المتمردة وهو ما ترافق مع أشكال متنوعة من الآداب والموسيقى وأشكال متنوعة من الأزياء وكلها تحرض على خلق القطيعة مع قيم المجتمع وعذرهم هو ؛ انهم اعتقدوا هذه المنظومة تسهم بالحد من حرية الفرد، وهم بهذا يمارسون نفي ما هو جماعي مجتمعي أو منظومة دينية من أجل الدفاع عن ما اعتقدوا أنه يمارس تحرير الإنسان.

الأمر الآخر إن نقد التاريخ وما صاحب الحرب من مصاعب وجرائم بحق الانسانية كان لابد من ردود فعل لها من قبل المجتمع والثقافة؛ لأنها تظهر تحول اجتماعي عميق كان لابد من أن تظهر إرهاصاته في الأخلاق والثقافة والفكر. فان العيون إذا رأت أو لو رأت فلن ترى إلا مأمورة محكومة خاضعة لطغيان الحكومات وخطاباتها السياسية المدعومة بخطابها الاعلامي ومنظومتها العقابية وتبريراتها الثقافية هذا ما ظهر في آداب سارتر وبيركامو وغيره من فلاسفة الوجود الذين كانوا يمارسون تفكيك تلك الخطابات السلطوية التي يختفي من ورائها خطاب اقتصادي يمثلها المهيمنون من رجال المال؛ فالحروب كانت مشاريع مربحة وهي وما تزال الا انها بالتأكيد تترك أثراً مدمراً فى حياة الشعوب والأفراد فمعاداة الخطابات الشمولية ونقدها ضرورة الا أنه قاد الى آثار جانبية لا تقل تدميراً عن آثار القوة الصلبة الاثار تتمثل في القوة الناعمة التي تم استثمارها أيضاً من قبل تلك الدول في الوقت التي كانت ثورة ضدها تم تحويل مسارها وأعيد توظيفها في خدمة تلك القوى . أي أن السلطة هي إعادة استثمار الوجودية واحتواء خطابها والإسهام في انتشارها في أماكن أخرى من العلم خصوصاً في الشرق الأوسط إذ تمّ نشر أفكارها في المنطقة كجزء من القوى الناعمة الغربيّة في المنطقة والعمل على نشر قيم الوجودية التي لها رهانات مختلفة عن رهانات المنطقة القائمة على المقاومة والتحرر فجاءت أفكار الوجودية من أجل التحريض على هموم فردية وليس مجتمعية.

ص: 466

فتم إعادة انتاج تلك القيم ونشرها خارج محيطها الأوربي الى العالم والتأكيد على الأفكار والسلوكيات والشخصيات الأدبية والفلسفية التي انتشرت بالمنطقة في وقت اختفت الوجودية في الغرب وحلّت محلها البنيوية التي أحلّت مفهوم النظام والنسق بدلاً من مفهوم الذات وغيرها من المفاهيم التي اختفت غربيا تماما.

لكن تلك المقولات والأفكار التي عرفت في الغرب إذ إن الفلسفة الوجودية أيضًا ظهرت كردة فعل للفلسفة المثالية التي ترسي قواعد المثل والقيم بأنها ثابتة، وبخاصة الأفكار التي نادى بها الفيلسوف المثالي (هيجل)، من خلال نظريته: (الديالكتيكية)، التي كان مدارها المواضيع المهمة ؛ كمعرفة الله، والقيم الدينية والمسيحية، بينما نجد بأنّ الماركسية رحبت بفكر هيجل ، وأرست قواعد الماركسية التي رفضتها الفلسفة الوجودية وعارضتها؛ لأنها لا تعطي الإنسان الحرية المطلقة. ففي الوقت الذي تقدم فيه الفلسفة الوجودية تواريخ الأفكار؛ بوصفها مبدأ ومزاج وطراز سلوكي، وقد تم وصفها كونها كمذهب فكري وأدبي - كما مر بنا في ثنايا بحثنا - في أثناء الحرب العالميّة الثانية، وقد توصف تأثيراتها وحضورها في الأدب الفرنسي، وفي انتاج كثير من الأدباء الأوروبيين، وبرز ما يسمى: ب- «الأدب الوجودي»؛ الا أن مبالغتهم في نبذ كل موروث عقدي وأخلاقي وقيمي، ودعوتهم للحرية المطلقة من دون أي قيد أو حدود «كي تفتح له المجال أن يكشف العالم على حقيقته، والتخلص من حالة الكآبة والتشاؤم، وشرود الذهن، إلا أن القلق والخوف بدأ يراود المفكرين من جديد في هذا العصر حول مفاهيم الوجودية نفسها؛ لأنها أصبحت عائقًا وخطرًا كبيرًا على مصير الإنسانية(1)».

إذا لم يكن من يحسبون «الوجوديين» في الغرب أو في مقلديهم في الشرق الاوسط كصدى لهم كانوا يرددون أقوال الوجودية كما تجلّت في النصوص الأدبية شعر أو مسرح أو قصة او رواية أو في أفكار فلاسفة الوجودية فإن المقلدين لهذه الافكار مجرد مستهلكين لها وإن أسهموا في محاكاتها الا انهم يحاولون خلق

ص: 467


1- الفلسفة الوجودية وروادها، 1435ه.

مماثلة بين قيم بين قيم المجتمع الصناعي وما خلفه من حروب وأفكار وأشكال الاحتجاج وبين مجتمعات ما قبل الصناعة مستعمرة تحاول ان تحاكي رهانات وأفكار غريبة عنها وتعيد استثمارها وهي تردد الاقوال الوجودية نفسها. في وقت هذه الافكار، أصبحت سرطانًا ينخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخُلقي الذي أصاب مجتمعهم بسبب فقدان المعيار أو المقياس. ولكن هذه الأفكار الوجودية استطاعت أن تنفذ إلى أذهان الناس في الوطن العربي، الذي يرتكز على الدين والقيم والمبادئ، وسأعرض بعض الأعمال والمجالات التي دخلت الوجودية فيها، ونفثت فيها أفكارها التي تعمق مشاعر القلق والعبث، وقد أسهم الاعلام الغربي والعربي معا في إشاعة تلك الافكار على الرغم من أن لكل منهم - أي الاعلام الغربي والعربي - أهدافاً مختلفةً ؛ الا إنها تسهم الى حد بعيد بتعميق التخدير والقلق من خلال الإعلام و الأعمال الدرامية، فلقد عملت تلك الاعمال على إعادة دمج السلوك لدى الكثير من الشباب بشكل جعلهم مغتربين عن مجتمعهم وقيمه وغريبين عن رهاناته ومشاكله. في حين أن تلك الافكار قد زرعت من قبل في المجتمع الغربي كمشاعر، منها: «القلق واليأس، نتيجة للإلحاد وعدم الإيمان، وهما من ركائز هذا المذهب؛ لذا يجب أن يعي الشباب المسلم حقيقة المذهب الوجودي وهو يتعامل مع إفرازاته الفكرية والأدبية»(1).الا «أن القلق والخوف بدا يراود المفكرين من جديد في هذا العصر حول مفاهيم الوجوديّة نفسها؛ لأنها أصبحت عائقاً وخطراً كبيراً على مصير الانسانية،.... واصبحت كالسرطان تنخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخلقي الذي أصاب مجتمعهم بسبب فقدان المعيار أو المقياس(2)».

الخاتمة

يبدو أنَّ هذا الموقف من الأخلاق كان يتمظهر بأشكال متنوعة من التنظير الفلسفي أو من الأدب الوجودي قصة أو مسرحية أو رواية وكلها كانت تحرض الإنسان على أن يخلق قطيعة مع منظومة القيم السائدة فوجدوا فيها توقا يحدُّ من حرية الإنسان

ص: 468


1- الفلسفة الوجودية (1430ه) : المذهب الوجودي، موقع الألوكة، تم استيرادها بتاريخ 27/ 5/ 1435ه
2- يوحنا بيداويد ، الفلسفة الوجودية وروادها ، 19874.0=http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic

كما تصوروه، ولكنَّ مبالغتهم في نبذ كل موروث عقدي وأخلاقي وقيمي، ودعوتهم للحرية المطلقة من دون قيد أو حدود (كي تفتح له المجال أن يكشف العالم على حقيقته، والتخلص من حالة الكآبة والتشاؤم، وشرود الذهن، إلا أن القلق والخوف بدأ يراود المفكرين من جديد في هذا العصر حول مفاهيم الوجودية نفسها؛ لأنها أصبحت عائقًا وخطرًا كبيرًا على مصير الإنسانية)(1).

تصوروا كما مر ذكرنا في تحليل كيركجارت أن «رجل الجمال» يعيش من أجل المتع الحسيَّة في وقت تصور «رجل الأخلاق» وهو الذي يعيش تحت لواء المسؤولية والواجب نحو المجتمع والدولة والإنسانية؛ ولذلك فهو يؤمن بالزواج ولكن لا علاقة له بدين أو غيره . أما «رجل الدين» وهو عندهم لا يحيا في الزمان، فلا صبح ولا مساء (ليس عند ربكم صباح ومساء)؛ ولهذا فهو متجرد عن الدنيا، وأحواله في الجملة هي تلك الأحوال المعروفة عند الصوفية. فهو مارس نقد الجانب السطحي من المنظومة التي تقدم المنافع واشباع الغرائز باسم الدفاع عن الحياة ومباهجها ولهذا قدم عليه الجانب الاخلاقي الذي يحرص على ما هو اخلاقي يعمق الشعور بالواجب ويقدس الروابط ويحرص ان يمنحها حقها وهو بهذا يرتقي على الجوانب الحسية الغرائزية صوب المسؤولية المجتمعية، وهو بهذا يرتقي بسلوكه عندما يجعل من الخلق القويم ولعل هذا يذكرنا بمفهوم الواجب عند كانط الا انه يرتقي اعلى من ماهو زمن دنيوي صوب ما يتعالى عن الدنيوية ويصبح قرين الأخروية عندما يربط كل شي بتجربته الروحية المشدودة صوب المقدس الذي يتجاوز الزمان والمكان. فهذه الفكرة تتعارض مع الفهم الوجودي الملحد الذي يقدم حرية الفرد على كل واجب وكل تجربة روحية .

ومن هذا حديث الوجوديين عن الوجود والزمان ومحاولة الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالوجود الإنساني مهموم بتحقيق إمكانياته في الوجود، والزمانيّة هى الوحدة الأصلية لتركيب الهم، والخلاصة - عندهم - أن الماضي يوجد

ص: 469


1- الفلسفة الوجودية وروادها (1435ه) : منتديات عنكاوا، تم استيرادها بتاريخ 1435/5/26ه.

في ذاته المستقبل، والمستقبل هو خارج الماضي، وفي الوقت نفسه ينطوي في ذاته على الماضي، والشيء نفسه يقال عن الحاضر في علاقته مع الماضي ومع المستقبل معاً، فالعلاقة بین هذه اللحظات الثلاث إذن علاقة اندراج واستبعاد معاً. ولعل هذا ما جاء به هدجر (فالعلاقة بين التخارجات الزمانية للحاضر والمستقبل والماضي هي تناظر العناصر الأساسية في الهم السقوط ، والمشروع ، الارتماء»، ليست رابطة توال في الزمان للحظات الزمان الثلاثة، ذلك ان الماضي ليس خلق والحاضر بوصفه شيئا لم يعد موجودا بعد والمستقبل هو «الامام» بوصفه ما ليس بعد ...).

لقد كانت ولادة الفكر الوجودي كمخرج من حال اليأس والكآبة والقلق الذي يساور الإنسان في العصر الحديث. في ظل الصراع مع الخطابات الأيديولوجية الفاشية والنازية والماركسية والخطاب اليبرالي، بمعنى كان ظهور هذه الفلسفة الوجودية كردة فعل للفلسفة المثالية التي ترسي قواعد المثل والقيم الثابتة، ولاسيَّما الأفكار التي نادى بها الفيلسوف المثالي (هيجل)، من خلال نظريته: (الديالكتيكية)، التي كان مدارها المواضيع المهمة؛ كمعرفة الله، والقيم الدينية والمسيحية. ونجد أنَّ الماركسية رحّبت بفكر هيجل، وأرست قواعد الماركسية التي رفضتها الفلسفة الوجودية وعارضتها؛ لأنَّها لا تعطي الإنسان الحرية المطلقة.

عَدَّ كثير من الباحثين الأفكار الوجوديَّة سرطانًا ينخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخُلقي الذي أصاب مجتمعَهُم؛ بسبب فقدان المعيار أو المقياس.

ص: 470

مناقشة لأطروحات (جيمس ستيريا) الأخلاقية

نحو إزالة الوهم عن نسبية الأخلاق

مازن المطوري(1)

يدرك المطلعون على الفلسفة الأخلاقية أهمية البحث في إشكالية نسبية الأخلاق، وما تلقيه من نتائج وتداعيات على الواقعين الاجتماعي والسياسي، لا سيما في عصرنا الذي يُوسم بكونه عصر زوال الشموليات والسرديات الكبرى، والمبادئ الأخلاقية المطلقة، والقيم الأزلية الثابتة، وغدا عصر المرونة والتساهل والنسبية في كلّ شيء!

هذا الإطار يرى المفكر الأميركي جيمس رأى ستيربا أن الباحث الأخلاقي حتى يستطيع مواجهة تلك التحديات، عليه أن يمر بمعالجة إشكالية نسبية الأخلاق،

ص: 471


1- باحث وأستاذ في الحوزة العلمية - النجف الأشرف - العراق. تعرّض المفكر الأميركي وأستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام بالولايات المتحدة جيمس ستيربا(James Sterba)، لإشكالية نسبية الأخلاق في كتابه: ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق. وقد سعى المؤلف فى هذا الكتاب إلى تفكيك الأبنية المعرفية لهذه الإشكالية، مشخصاً متطلباتها وعناصرها، بغية تحرّي أبرز ما ورد في ميدان معالجة التحديات التي يواجهها علم الأخلاق الغربي، المتمثلة في: البيئوية، والنسوية، والتعددية الثقافية. هنا مناقشة لأفكار ستيربا وأطروحاته في حقل النظريات الأخلاقية، وفيها يستعيد الباحث العراقي الشيخ مازن المطوري أبرز السجالات التي شهدتها مشاغل فلسفة الأخلاق في تاريخ الحداثة الغربية. المحرر - جيمس ب. ستیربا James P. Sterba باحث ومفكر أميركي - أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية في جامعة نوتردام، وله مجموعة كبيرة من الكتب والمقالات .

إذ ما قيمة إعطاء مقاربات لمسألة البيئوية أو النسوية والتعددية الثقافية إذا كانت الأخلاق نسبية تتمثل في رأي ووجهة نظر، وأن ما هو صحيح بالنسبة إليك خاطئ بالنسبة لغيرك. فمنهجياً يتطلب البحث في مقاربات تلك التحديات - التي يواجهها علم الأخلاق الغربي - أن نعالج أولاً إشكالية نسبية الأخلاق، إلى جانب كون الأخلاق لازمة عقلياً ومتطلبات الأخلاقية.

شرع ستيربا بإعطاء تصور إجمالي مقتضب عن نسبية الأخلاق، فقرّر أن الإنسان يوصف بكونه مؤمناً بالأخلاق النسبية إذا كان يرى أن الأخلاق تمثل وجهة نظر ورأي شخصي يقوله الإنسان في مختلف الأفعال، فقد يكون ما هو صحيح بالنسبة لك خاطئاً بالنسبة لغيرك، فالإجهاض قد يكون صحيحاً وأخلاقياً عند أناس، وغير أخلاقي عند آخرين، وهكذا الحال في المثلية الجنسية والإنعاش وغيرهما. وقرّر أن النسبيين يرون أن آراءهم في النسبية تحظى بتأييد واسع من قبل الآراء الأخلاقية المتنوعة، كما أنهم يجدون في التعارض الفعلي الواقع في المجتمع الواحد، شاهداً على صدق ما يقولونه(1).

متطلّبات النسبية الأخلاقية

بعد بيانه الموجز للمراد من النسبية الأخلاقية، قرر ستيربا أن النسبيين حتى يمكنهم الاستفادة من التنوع الأخلاقي القائم فعلاً في دعم ما يقولونه من كون الأخلاق مجرد رأي ووجهة نظر، لابد من توفر مجموعة متطلبات تجعل من نظرية نسبية الأخلاق محل قبول وتعطيها قوة. وتتمثل هذه المتطلبات في : وحدة الفعل والحيثية، الفكر الناضج، مرجعية الأخلاق، نسبية الحقيقة.

وحدة الفعل وشانية التقييم المختلف

حتى تستطيع نظرية النسبية الأخلاقية الاستناد للتنوع الأخلاقي القائم بالفعل لتحظى بالدعم، لابد لها من إظهار أنّ الفعل في نفسه من شأنه أن يكون صحيحاً

ص: 472


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 12 - 13

وخاطئاً بغض النظر عن الحيثيات والزوايا الأخرى. إذ ما لم تكن هناك وحدة في الموضوع ووحدة في زاوية النظر للفعل فلا يمكننا القول: إنّ الواقع المتنوع في المواقف الأخلاقية يؤيد نسبية الأخلاق بشهادة اختلاف وجهات النظر بالنسبة للفعل الواحد. إذ إنّ مثل هذا التنوع مرجعه اختلاف زوايا النظر للفعل، ومن شأن ذلك أنّ يؤدي إلى اختلاف موضوع الحكم الأخلاقي ، بل إنَّ الواقع نفسه يؤكد لنا أن الفعل الذي تدينه مجتمعات معينة وتحظره لا يمثل نفس الفعل الذي تجيزه مجتمعات أخرى وتصفه بالأخلاقية. ويسوق ستير با بعض الأمثلة لذلك :

فالقتل الرّحيم الذي يجيزه شعب الاسكيمو لما يمثله من انتقال إلى وجود أسعد على وفق اعتقادهم، يختلف عن القتل الرحيم الذي تعارضه الجمعية الطبية الأميركيّةُ التي لا تؤمن بوجود عالم آخر أسعد من عالمنا. ومعنى ذلك أن دخول عنصر الإيمان بوجود عالم آخر أسعد من عالمنا وعدم الإيمان، أثر في اختلاف الفعل الذي انصب عليه الحكمان الأخلاقيان، ومن ثمَّ فتنوع الواقع الأخلاقي بالنسبة للقتل الرحيم راجع لاختلاف زاوية وجهة النظر للفعل، وهذا لا يعطي أن نفس الفعل من شأنه في ذاته أن يكون صحيحاً وخاطئاً.

كما أن وضع الأطفال المشوّهين في الأنهر بلطف من قبل شعب النيور لإيمانه أن هؤلاء الأطفال هم صغار الأحصنة التي يلدها الإنسان بالصدفة، يختلف عن الإقدام على قتل الأطفال الذي يدينه معظم الناس. فدخول عنصر التشوه أعطى بعداً آخر للمسألة.

والإجهاض الذي يمنعه بعض الناس بتبرير أن الجنين إنسان ناضج له حق الحياة كالآخرين، يختلف عن الإجهاض الذي لم تدخل فيه فكرة كون الجنين إنساناً ناضجاً له حق الحياة.

إن الفكرة التي يريد ستيربا تأكيدها من خلال تسجيله لهذه الأمثلة أن النسبية الأخلاقية إنما تحظى بالاعتبار والدعم من التنوع الأخلاقي القائم فعلاً، في ظرف

ص: 473

إثباتها أن الفعل المدان وغير المدان واحد وينظر إليه من زاوية واحدة، بنحو يكون بنفسه ذا شأنية الحكم بالصحة والخطأ عليه، فعند ذلك يمكننا القول: إنّ الأخلاق مرجعها للرأي الشخصي وأن ما يكون صحيحاً لديك يكون خاطئاً عند غيرك.

يبدو أن ستيربا في تأكيده على عنصر وحدة الموضوع وزاوية النظر، يريد أن ينأى بالنقاشات التي تجري في هذا الميدان عن الجدل، وحتى لا يكون كل باحث متقوقعاً في زاوية نظر معينة ويصب ملاحظاته ونقاشاته على وفق تلك الزاوية ونستغرق في الواقع المتعدد أخلاقياً، فما لم نحدد موضوع البحث جيداً في الرتبة السابقة فلن نتمكن من الوصول إلى مقاربة سليمة للمشكلة، ذلك أن كل باحث يتخذ وضعاً مختلفاً ينظر منه إلى المشكلة على شاكلة نسبية أينشتاين العامة!

سوى أنّ التشديد على أهمية إبراز صلاحية الفعل الواحد لأن يكون صحيحاً وخاطئاً، يعود بنا إلى البحث في الحسن والقبح سواء كانا عقليين أو عقلائيين، وكأنّ ستيربا يلمز من طرف خفي إتجاه برتراند راسل (1872 - 1970م) في تفسيره للحسن والقبح الذي سلك فيه مسلكاً شخصياً ذوقياً وأخضعهما للاعتبار الشخصي. فراسل يقيم مفهومي الحسن والقبح على أساس العلاقة القائمة بين المفكّر (الإنسان) والشيء الذي يبحث عنه ، فكلما كانت تلك العلاقة هي المحبة كان الشيء حسناً،وكلما كانت هي البغض كان الشيء قبيحاً، والحب والبغض يرجعان بنفسيهما إلى المنفعة والفائدة ولو من بعض الوجوه(1).

إنّ لازم هذا التفسير للحسن والقبح، للأخلاقي وغير الأخلاقي، أن تكون الأخلاق نسبية لا محالة، وعند ذلك ستحظى نسبيّة الأخلاق بدعم من التنوع الأخلاقي الفعلي الذي يرجع لتلك الرغبة والمحبة والبغض. أمّا وفق المقاربة التي قدمها ستيربا أنّ الواجب على دعاة النسبية تحديد الفعل نفسه أولاً، فبذلك نقترب من الحسن والقبح، بمعنى أنّ معيار الأخلاقية واللا أخلاقية يقوم على أساس النظر للفعل في نفسه وبتجرد عن كل نزعة، فعند ذلك نستطيع أن نقرر النسبية أو الاطلاقية في الأخلاق. والنسبية

ص: 474


1- المجتمع البشري، في الأخلاق والسياسة، برتراند راسل: 36 ،42،ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة حسن محمود، مكتبة الأنجلو المصرية.

الأخلاقية كنظرية إنما تحظى بالاعتبار والدعم من الواقع الأخلاقي المتنوع، عندما يستطيع النسبيون أن يقرّروا في حالة من هذا القبيل - أي النظر للفعل الواحد في نفسه وبتجرد - إنّ الفعل من شأنه أن يكون صحيحاً وخاطئاً في ذات الوقت وبغض النظر عن كل اعتبار . أما إذا لم يستطع النسبيون الأخلاقيون إثبات ذلك، فسيكون من المتعذّر الركون إلى النسبية الأخلاقية، ويكون من الصعب على النسبيين في الأخلاق حينئذ الاستناد إلى التنوع والتعدد الأخلاقي الخارجي.

إنّ الذي ينفعنا في المقام - كما قرر ستيربا، وهو محق في ذلك - أن نرى الأفعال في ذاتها وفي عالمها، وليس في عالم الخارج المتزاحم الذي تتشابك فيه الأفعال، ولا تعرف العيش بسلام بسبب ما يلحقها من اعتبارات ومقولات أخرى. ومن ثم يكون الترجيح بين المتزاحمين راجعاً للمبررات والتجارب والغرائز وما يرتبط بذلك. والتنوع الأخلاقي المشاهد واقعاً والذي يستند إليه النسبيون في الأخلاق، مرجعه إلى النظر للأفعال والحكم عليها في عالم الخارج المتشابك، ومثل ذلك لا ينفعنا لتقرير صحة النسبية الأخلاقية، كما لا ينفع النسبيين الاستناد لهذا الواقع لتدعيم وجهة نظرهم. وإنما نريد النظر لأداء الأمانة بما هو أداء للأمانة وإرجاعها لصاحبها مجرداً عن كل اعتبار زائد من نفع أو مكافأة، لنرى هل يمتلك شأنية أن يكون صحيحاً وخاطئاً في الوقت ذاته، فإذا ما وجدناه فاقداً لمثل هذه الشأنية، وأنّه لا يمكن إلا أن يكون أخلاقياً حسناً، فهذا يعني أنّ الأخلاق مطلقة ولا تحظى النسبية بدعم واعتبار.

لا مراء في أنّ اختلاف الأحكام الأخلاقية في موضوع ما، وتنوع الآراء في المجتمعات المختلفة، بل والمجتمع الواحد، هو نتيجة طبيعية للنظر للأفعال في عالم الخارج. أي إنّ عالم المصلحة والمفسدة التي يقف الإنسان عليها بعد التجربة، والمصلحة والمفسدة هي بطبيعتها مقولات نسبية. فما هو نفع ومصلحة عند فرد أو شعب أو في مقطع تاريخي معين، لا يكون كذلك لدى فرد آخر أو مجتمع مختلف، أو في مقطع تاريخي ثان.

ص: 475

الأخلاق والمعرفة

بعد أن قرّر ستيربا ضرورة ملاحظة الفعل في نفسه لاختبار صلاحيته للاتصاف بالصحة والخطأ في وقت واحد، حتى يتمكن دعاة نسبيّة الأخلاق من تدعيم مقولتهم بالاعتماد على الواقع المتنوع، فالواجب بعد ذلك على وفق ستيربا يقضي أن يكون الحكم على الأفعال بالصحة والخطأ مستنداً لأفكار متأنية فضلى. أي بعد نضج عقلي وفكري. فحتى تحظى نظرية نسبية الأخلاق بدعم الواقع المتنوع لابد أن يكون حكم بعض الناس على فعل ما بالصواب مستنداً إلى أرقى مرتبة فكرية وصلوا إليها بعد التأمل والنضج، ويكون حكم الآخرين على نفس الفعل بالخطأ مستنداً لأفضل أفكارهم وبعد نضج تأملي. إنّ الأفعال التي يتعذر على الناس (كتفادي المواد المسرطنة في القرون الوسطى) بلوغها بأفضل أحكامهم ليست أفعالاً يصح القيام بها أخلاقياً، لأنّ الأخلاقية تتطلب إمكانية الوصول إليها نوعاً ما. وهكذا عندما نقيّم أحكام الناس الأخلاقية في الإطار الذي نظموها فيه سنتمكن أحياناً من معرفة أنّهم عَجَزوا عن التوصل إلى الأحكام التي نظنها صحيحة أخلاقياً. إذا صح ذلك فلن تكون أحكامهم متفاوتة أحكامنا من حيث وثاقة الصلة بالموضوع حتى وإن كان ما يظنونه صحيحاً ليس ما نظنه صحيحاً كالحاجة إلى النظافة في العمليات الطبية(1).

يعيد ستيربا الاختلاف والتنوع الفعلي المشاهد في الأحكام الخلقية إلى عدم توفر التشاور الكافي حول الموضوع قبل إصدار الأحكام، إذ ما لم نتوفر على معرفة الواقع بطريقة ما لا نستطيع أن نعطي حكماً خلقياً سليماً، ومن ثم يغدو الاختلاف الملاحظ في التقييمات الأخلاقية لفعل واحد ليس كما افترضه دعاة نسبية الأخلاق، وإنما مرجعه إلى الفشل في التفكير بحكمة حول تلك الأفعال، فثمة معادلة بين تنوع الأحكام الخلقية على فعل واحد وبين افتقاد التفكير المتأني السليم من جهة، وبين الاتفاق في الحكم الخلقي وبين التفكير الناضج المتأني .

وعلى وفق هذه المعادلة ستنحسر دائرة المؤهلين لإصدار الأحكام الأخلاقية، إذ

ص: 476


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 14.

ليس كلّ الناس يمتلكون ذلك القدر الكبير من المعرفة والتأمل الفكري والحكمة. ومعنى ذلك أنّ الإيمان بنسبية الأخلاق أو إطلاقيتها ليس من شأن آحاد الناس من مراهقي الفكر ونيّئي الحكمة، وإنما هو شأن الناضجين فكرياً ومعرفياً، وهذا ما يقودنا إلى تحديد مرجعية لإصدار الأحكام الخلقية تتمتع بذلك القدر الكافي من الفكر والنضج والحكمة يؤهلها لإصدار أحكام عملية خلقية تحدد ما ينبغي وما لا ينبغي فعله للناس.

ويحق لنا هنا أن نثير بعض الأسئلة حول هذا العنصر . فهل يتوقف إدراك الحكم الأخلاقي على النضج العقلي والفكري ؟ أم أنّ الأحكام الأخلاقية مدركات من سنخ آخر مختلف عن الفكر والتأمل النظري؟ وهل الحكم الأخلاقي المقصود هنا هو أصل الحكم الأخلاقي والمبادئ الأخلاقية والقيم الأساسية أم مفردات الأحكام الأخلاقية التي تخضع لتفاصيل الواقع ؟ ولعلنا نتوقف عند شيء من ذلك في قادم الحديث.

مرجعية الأخلاق

علاوة على عنصري تحديد الموضوع والنضج العقلي، فالمطلوب من نظرية نسبية الأخلاق أن تبين لنا المرجعية التي تستمد منها وتنسب إليها وتوسم بالأخلاقية باعتبارها. فهل النسبية ناشئة من النسبة إلى مجتمع ما صغيراً كان أم كبيراً؟ أم إلى المعتقدات الشائعة؟ هنا يقرّر ستيربا الآتي: يجب أن تخبرنا النسبيّة الأخلاقية أيضاً بما يُفترض أن تنسب إليه الأخلاقية. فهل عليها أن تنسب إلى المعتقدات الشائعة في مجتمع ما أو لدى جماعة أصغر أو لدى أي فرد؟ إذا كانت متصلة بأي من هذه المعتقدات فإنّ أي فعل (القتل بالتعاقد مثلاً) قد يكون خاطئاً من وجهة نظر مجتمع معين وصائباً من وجهة نظر إحدى العشائر في ذلك المجتمع (المافيا مثلاً) وخاطئاً مجدداً من وجهة نظر أحد الأفراد المعنيين في ذلك المجتمع أو تلك العشيرة. ولكن في هذه الحالة لن يتمتع الأفراد بأي أسس منطقية للتقرير بشأن ما يتعين عليهم القيام به إذا أخذنا كل شيء في الاعتبار(1).

ص: 477


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق:15.

حقاً إننا ما لم نحدّد المرجعية الصحيحة والسليمة للأخلاق فإنّنا سندخل في فوضى النسبية الضحلة وضياع البوصلة الأخلاقية. إذ ما لم يكن هناك أساس موضوعي مطلق للأخلاق فعند ذلك لن نتمكن من القول أنّ مجموعة من الأفكار الأخلاقية أفضل من مجموعة أخرى، وإنما تكون المجموعة الأولى صحيحة وأخلاقية بتبع الأساس الذي يؤمن به مجتمع معين، فيما تكون المجموعة الثانية صحيحة وأخلاقية بتبع الأساس الذي يؤمن به مجتمع آخر، فاستحسان مجتمع لأخلاقيات ستالين وهتلر وموسوليني لا يعتبر تدهوراً أخلاقياً وتراجعاً في القيم الإنسانية على وفق ميزان النسبية الأخلاقية، وما يترتب على ذلك من انعدام مرجعية موضوعية مطلقة، فما لم يحدد النسبيون مرجعية الأخلاق بشكل مقبول فعند ذلك سندخل في نسبية عشوائية، ولن تتمكن النسبية حينئذ من المحافظة على شيء من العقلانية أو تحظى بدعم الواقع الأخلاقي المتعدد.

يرى ستيربا أنّ دعاة النسبية الأخلاقية حتى لو استطاعوا إظهار مرجعية للأخلاق جديرة بالتفضيل على سواها، فإنّ ذلك لن يعدم المشاكل أمام النسبية الأخلاقية، إذ ستبرز حينئذ إشكالية طريقة اتخاذ القرارات الخلقية، فهل يتحتم على الأفراد حينئذ - وحتى يكون سلوكهم أخلاقياً - أن يعمدوا إلى سؤال من خبراء تلك المرجعية المناسبة عن الطريقة الفضلى للسلوك الأخلاقي أو بما يتعين القيام به؟ إن معنى ذلك أن يظلّ أفراد ذلك المجتمع منتظرين لقرارات خبراء المرجعية حتى يستطيعوا اتخاذ ما يلزم القيام به في سلوكهم وتداعيات حياتهم، وهذا بدوره يعطّل فاعلية الأخلاق في المجتمع وينتج شللاً وإعاقة سلوكية.

أو قد يُفترض أنّ خبراء تلك المرجعية يقومون بدءاً بتقديم لائحة لما هو لائحة لما هو الصحيح وما يلزم القيام به وما هو خاطئ ولا ينبغي فعله، ثم يقوم أفراد ذلك المجتمع بالتصويت ليكون رأي الأغلبية هو الميزان في تحديد السلوك الأخلاقي في المجتمع. إنّ هذه الفرضية وإن كانت مقبولة بمستوى معين على وفق ستيربا، وتعطي للأخلاق بعداً تعاقدياً إلا أنّها تتطلب تحديد بعض الأسس المطلقة غير النسبية وغير الخاضعة

ص: 478

للتعاقد تنطلق منها لتؤسس عليها فرضيتها في وجوب رعاية العقد الأخلاقي، كمبدأ رعاية المصلحة العامة مثلاً.وهذا يمثل خروجاً على ادعاء النسبيين في أنّ الأخلاق تتمثل في رأي ووجهة نظر فحسب(1).

مساءلة ستيربا

أفهم أنّ مراد ستيربا من هذا النقاش في هذه النقطة بالتحديد الوصول إلى النتيجة التي يؤمن بها وقررها بعد ذلك في مقاربته لإشكالية التعددية الثقافية، من التأكيد على أنّ الأخلاقيات المدنية وحدها القادرة على تخطي النسبية ويمكن الدفاع عنها، وهي في الوقت ذاته قادرة على تأمين أسباب كافية متوفرة لجميع من تُطبق عليهم للتقيّد بمتطلباتها، كما تعطي تبريراً لاستخدام القوة لتطبيق تصوراتها وإمكانية إلقاء اللوم على غير المتقيّدين بها(2).

حتى تستطيع النظم الأخلاقية - كما يقرر ستيربا - تبرير استخدام القوة ضد غير الملتزمين بها، عليها أن تبرز لنا أسباباً كافية لكي يلتزم بها جميع الناس بلا استثناء، ومثل هذا الأمر غير متوفّر في الأسباب الدينية، لأنها لا تقدم تبريراً سوى للمؤمنين بها، ومن ثم تعجز عن تقديم تبرير لاستخدام القوة من أجل تطبيق متطلباتها الأخلاقية(3).

وستيربا في هذا التوجه لا يختلف كثيراً عما قرّره والتر ستيس (1886 - 1967م) من أن الكف عن الإيمان بالأساس الديني للأخلاق، وإن كان ينتج لنا نسبية أخلاقية، إلا أنّنا يمكننا تجاوز ذلك. أي إنّ إشكالية الذاتية التي تقودنا للنسبية، من خلال القول بوجود أساس دنيوي يمكن أن يكون ثابتاً وراسخاً بطريقة معقولة لا يؤدي إلى نسبية عشوائية. كما شرح ذلك تفصيلاً في كتاب الدين والعقل الحديث(4).

ص: 479


1- المصدر نفسه : 16
2- المصدر نفسه : 128 126-، 161.
3- المصدر نفسه : 126.
4- الدين والعقل الحديث، والتر ستيس: 289 فما بعدها: ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى 1998م.

الواضح أن ستيربا ينتمي في الفلسفة الخُلقية إلى المدرسة الكانطية المعدّلة والمطوّرة من قبل أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفرد جون رولز (1921 - 2002م)،والمدرسة المعروفة بنظرية العدالة والإنصاف، مع صياغة ستيربا نفسه لتجاوز مشكلة حقوق الحيوان والعدالة البيئية. وتنص هذه الصيغة على الفتوى التالية: قم بتلك الأفعال التي سيُوافق عليها بالإجماع خلف ستار الجهل من وجهة نظر أولئك الذين يتأثرون بها(1).

وعلى وفق هذه الصيغة يكون الشخص أخلاقياً عندما تتطابق أفعاله مع المباديء التي يختارها الناس بالإجماع، وتحدد تلك المباديء التوزيع الملائم للحريات الأساسية والفرص والفوائد الاقتصادية، وحقوق الناس وواجباتهم تجاه المصالح الاجتماعية.

ولكن إلى أي مدى يصح ما ذكره ستيربا؟ وهل تتجاوز مقاربته الوقوع في إشكالية النسبية التي هرب منها ؟ وهل يمكن لمقاربة الأخلاق المدنية أن تنأى بنفسها عن الملاحظات التي سجلها ستيربا على النسبيين في موضوع مرجعية الأخلاق؟

لا يعنينا كثيراً الآن التوقف عند كل هذه الملاحظات، ولكننا سنشير لبعض ما يناسب هذا المقام في فقرة لاحقة، لنرى هل إنّ ما يقدمه لنا الدكتور ستيربا من أخلاق دنيوية مدنية وفق الصيغة الكانطية المعدلة يتجاوز النسبية أم لا وذلك بغض النظر عن مواضع الاتفاق والاختلاف مع الأخلاق الكانطية؟

نسبية الحقيقة

لقد افتتح جيمس ستيربا أفقاً آخر فى نقاش دعاة نسبية الأخلاق. عنيتُ به نظرية المعرفة وما تقرره من كون الحقيقة مطلقة أو نسبية، التي تعدّمن مُهمات مسائل الابستمولوجيا. وقد أراد ستيربا بذلك اختبار نظرية نسبية الأخلاق داخلياً، ذلك أن كل نظرية حتى تستقيم لابد أن تحظى بالانسجام داخلياً مع نفسها وفق قانون الهوية واستحالة التناقض. فالإشكالية المهمة التي تواجه دعاة نسبية الأخلاق تتمثل في أنّ

ص: 480


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 46. وتلاحظ تفاصيل رؤية رولز في: العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، جون رولز، ترجمة الدكتور حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2009م.

هذا الإدعاء نفسه ليس نسبياً، وإنما هو إدعاء مطلق لكل زمان ومكان، فهو يقرر حقيقة تقول : إنّ الأخلاق نسبية ولا يمكن أن تكون إلا نسبية، وهذا تناف بين. إذ كيف تكون الأخلاق حقيقة نسبية وهي تقرر لنا ذلك بشكل مطلق ؟ إذ ما لم نؤمن بأنّ الحقيقة مطلقة فإنّنا نعجز عن القول إنّ الأخلاق نسبيّة لأننا بذلك نطلق القول بنسبية الأخلاق

ونقرر النسبية كحقيقة مطلقة.

ویرى ستيربا أنّ نسبية الأخلاق قد يمكن الدفاع عنها أمام هذه الإشكالية بافتراض أن القاعدة التي تقول : الأخلاق نسبية ليست قاعدة أخلاقية ولا تقرر حكماً أخلاقياً، ومن ثمّ فافتراض أنّها مطلقة لا ينافي نسبية الأخلاق! ولكن مثل هذه المقاربة كما يقرر ستير با لا تصمد كثيراً في الدفاع عن نسبية الأخلاق، ذلك أن الحقيقة إذا لم تكن نسبية فما هو المبرر للاعتقاد بأنّ الأخلاق نسبية، وبجملة أخرى: ما هو المبرر للاعتقاد بأنّ العنصر الأخلاقي الجيّد نسبي مع الإيمان بأنّ الحقيقة ليست نسبية؟!

ويمكن أن تصاغ هذه الإشكالية بشكل آخر بأنّ يقال: إنّ دعاة نسبية الأخلاق إما أنهم يفترضون أنّ دعواهم حقيقية وإما أنهم لا يفترضون ذلك. وواضح أنّ الافتراض الثاني لا قيمة له لأنه لا يحكي عن مضمون معتبر، ولا يتصور أنّ دعاة نسبية الأخلاق يقولون به، لأنّهم يريدون تقرير حقيقة تقول إنّ الأخلاق نسبية وليست مطلقة لكل زمان ومكان، واستندوا في تقرير ذلك إلى الواقع المتنوع أخلاقياً. وحينئذ فهذه الحقيقة إما أنّها نسبية وإمّا أنّها مطلقة. فلو كانت نسبية فهي قاصرة عن تقرير أنّ الأخلاق نسبية، إذ حتى يمكنها تقرير ذلك لابد من أن تخرج عن بزتها النسبية للإطلاق، فإذا كانت مطلقة، وكانت الحقيقة غير نسبية، فحينئذ ما هو المبرر للاعتقاد الفعلي بأنّ العنصر الأخلاقي الجيد والصحيح نسبي ؟!

أما تبني القول بنسبيّة الحقيقة فهو يولّد إشكالية الجذر ونقائض المعرفة (البارادوكس)، لأنّ القول بنسبيّة الحقيقة حقيقة ، فإذا شملتها قاعدة نسبيّة الحقيقة وقعنا في التناقض (بارادوكس)، إذ مع التسليم بنسبيتها نسمح لنقيضها وهو الحقيقة المطلقة بالحياة، وإذا استثنينا القاعدة من الشمول لنفسها قضينا عليها وعلى كونها قاعدة!

ص: 481

إنّ النسبيّين في النظرية الخلقية يعجزون - كما يقرر ستيربا - عن تفسير وبيان السرّ في عدم التزام نظريتهم بالنسبية في مدعاها، ومن جانب آخر يعجزون كذلك - فيما لو التزموا بأنّ الحقيقة مطلقة - عن بيان مبرر مقبول لالتزامهم بكون الحقيقة مطلقة، الذي يمثل مقولة خصومهم!

هكذا يضع ستير با دعاة نسبية الأخلاق أمام أربعة إشكاليات، تحتاج للمقاربة حتى تتمكن نظرية نسبية الأخلاق من الاستناد للواقع المتعدد والمتنوع خُلقياً لتدعيم وجهة نظرها القائلة بأنّ الأخلاق مجرد رأي ووجهة نظر. وقد لخص ستيربا الإشكاليات الأربعة قائلاً: أولاً ، يصعب على النسبيين الأخلاقيين إظهار أنّه في وسط التنوع الأخلاقي القائم هناك أفعال كافية متوفرة يتشاور بها الناس، بحيث يحكم على الفعل نفسه بأنه صائب من قبل البعض ، وخاطئ من قبل آخرين يتبعون جميعاً أفضل مشاوراتهم الأخلاقية . ثانياً، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تحديد الجماعة المرجعية المناسبة التي ستحدد من خلالها الأخلاقية ثالثاً، حتى لو افترضنا إمكانية تحديد الجماعة المرجعية المناسبة، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تفسير لم لا تلتزم نظريتهم بشيء من القيمة النسبية للأحكام الأخلاقية من الدرجة الأولى على الأقل. أخيراً، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تفسير سبب التزامهم ببيان غير النسبيين للحقيقة(1).

لكن ستيربا في الوقت الذي أبرز هذه الإشكاليات أمام دعاة نسبية الأخلاق، وجعلها نظرية غير قابلة للتصديق، رأى أن ذلك لا يهزمها بشكل كامل، ولست أدري إنّ كان ينطبق ذلك على الأخلاق المدنية التي يؤمن بها !

ص: 482


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 17
ملاحظات ختامية

بداية نحن نختلف مع دعاة نسبية الأخلاق في اتخاذهم المنهج التجريبي طريقاً للكشف عن الأخلاق والتعامل معها بوصفها معطى تجريبياً محسوساً. فاتخاذ المنهج التجريبي يقضي على وجود مبادئ أخلاقية مطلقة لكل زمان ومكان. فالفيلسوف التجريبي يلج الفلسفة الخلقية بلا سند قبلي غير إخلاصه لنزعته التجريبية وأن تكون نتائج بحثه منسجمة معها. وهذا يفرض عليه أن لا يمنح قضايا الأخلاق شيئاً مختلفاً عن سائر قضايا الواقع التي يحاول الكشف عنها تجريبياً، ومن ثم فهو يستبعد العقل وسلطانه وضروراته، ويفسر الأخلاق بعيداً عن كل معطى قبلي عقلي، وحينئذ يكون من الطبيعي جداً أن يقول بنسبية الأخلاق ويفسرها تفسيراً حسياً، ويقيمها وفق قاعدة المنفعة واللذة وغيرهما من المقولات.

من جهة ثانية، نوافق ستيربا في تسجيله أصل الإشكاليات الأربعة على دعاة النسبية الأخلاقية، ولكننا نختلف معه منهجاً ونتيجة، وإن اتفقنا في رفض مقولة نسبية الأخلاق، ولكن المنطلق والفضاء والنتائج مختلفة. ونختم بمجموعة ملاحظات:

أولاً: نحن نقرّ أنّ لكل مجتمع ونظام قائمة من الأخلاقيات يلتزم بها وأتباعه، ويوصف بالأخلاقية تبعاً لالتزامه بتلك القائمة، ونتيجة ذلك نسبية الكثير من المفاهيم الأخلاقية المتداولة في العالم المعاش. ولكن هذه النسبية تختلف عمّا يقوله دعاة نسبية الأخلاق، فهي نسبية لاحقة للتجارب البشرية والظروف الاجتماعية والتاريخية والمصالح والمفاسد التي يعمل بنو البشر على اكتشافها. ومثل ذلك لا يلازمه أن تكون الأخلاق في واقعها نسبية، ولا وجود لمعايير ومقاييس أخلاقية مطلقة ومتعالية على التجارب والظروف المختلفة، يدركها العقل بالحدس والبداهة بعيداً عن كل تجربة، كما في اعتقادنا بعقلية الحسن والقبح. فالنسبية التي ننكرها هي نسبية الأخلاق في الواقع وعالم الثبوت وعالم الأفعال في ذاتها، إذ للقيم الأخلاقية والمبادئ الأساسية في هذا العالم استقلال تام عن تقييماتنا الخاصة وآرائنا ووجهات أنظارنا، وإنما تفرض نفسها بطريقة أولية حدسية، فالمبادئ الأخلاقية موضوعية قائمة

ص: 483

بذاتها، وأما إدراكنا لها، أو لتفاصيل المواقف الأخلاقية في العالم المعاش المتزاحم المتشابك، فهو يتغير بحسب تغير الزاوية التي نوجه منها رُؤيتنا لتلك القيم، وبحسب الغايات الأساسية التي يؤمن بها كل مجتمع، وحسب سُلّم الترجيحات بين الأهم، والمهم، والمتزاحمين، الذي يختلف باختلاف الأنظمة الفكرية، وإدراكها للمصالح والأولويات وفق رؤيتها لمجمل ما يتصل بحياة الإنسان.

وبجملة أخرى: نحن نقرّ بالنسبية التوصيفية ، بمعنى أن المجتمعات فضلا عن الأفراد مختلفة اختلافاً شاسعاً حول بعض أو جميع الأحكام الأخلاقية، وهذه النسبية لا تتضمن حكماً بالصحة أو الخطأ على حكم من تلك الأحكام، وإنما تتضمن توصيفاً لوجود تعدد في الأحكام الأخلاقية. وأما المرفوض فهو النسبية الماوراء الأخلاق، بمعنى نفي وجود حكم أخلاقي مطلق في الواقع، لأن الأخلاق - كما تفترض النسبية الماورائية - ترجع للإحساس وسليقة الإنسان ورأيه والتعاقد والتوافق المجتمعي، ومن ثم لا يكون اعتبارها وأخلاقيتها مطلقة وعامة.

ثانياً : إضافة لما سجّله ستيربا على دعاة النسبية الأخلاقية، يمكن أن يلاحظ : إنّ دعاة النسبية الأخلاقية انطلقوا في تأسيس رؤيتهم من أخذ التنوع والتعدد الأخلاقي في الواقع كأمر مسلّم لا نقاش فيه، أي أنهم بعد إذعانهم بالواقع المتعدد أخلاقياً في حياة الإنسان انطلقوا في عملية تفسير ذلك الواقع الأخلاقي المتنوع، فأرجعوه إلى الآراء ووجهات النظر. فالأخلاق إنما تتعدد وتكون نسبية بسبب ما تمثله من آراء ووجهات نظر. وهنا من حقنا التساؤل: هل هذا التفسير للواقع الأخلاقي المتعدد يتضمن توصيات أخلاقية عملية أم لا يتضمن ذلك؟ فهل رؤية دعاة نسبية الأخلاق مجرد إخبار عن الواقع وتفسيره لا أكثر ، أم أنّها تتضمن مضافاً لذلك توجيهات وتوصيات عملية تترتب على القول بأنّ الأخلاق نسبية، كاحترام أخلاق الآخرين ومنظوماتهم العملية وعدم جواز فرض النظم الأخرى عليهم تحت أي تبرير؟

فإنّ كانت رؤيتهم لا تتضمن أي توجهات عملية سلوكية، وإنما يقتصر دورها

ص: 484

على تفسير وبيان أسباب ذلك التنوع الأخلاقي الواقعي، فمثل هذه الرؤية حينئذ لا تقدم لنا كثيراً، وإنما تظل عزاءً يُسلي به النسبيون أنفسهم، ومن ثم فليس لرؤيتهمتأثير على خيارات الآخرين الذين يؤمنون بإطلاقية الأخلاق وينطلقون فی ذلك من منهج مختلف عما هو لدى النسبيين، سواء في ميدان الأخلاق أم فی ميدان نظرية المعرفة وتفسير الحقيقة .

أمّا إذا اختاروا الشق الأول، وقالوا بأنّ هذه الرؤية تتضمن توصيات عملية أخلاقية بضرورة احترام أخلاق الآخرين وعدم التعدي عليها وفرض أخلاق أخرى انطلاقاً من نسبية الأخلاق، فهذا يعني حينئذ أنهم تحولوا من تفسير واقع التعدد الأخلاقي والحكاية عنه إلى إعطاء توصيات عملية سلوكية تنتمي لميدان الحكمة العملية وما ينبغي وما لا ينبغي فعله. ومثل هذا الانتقال، أي من أحكام الواقع إلى أحكام الواجب، من نسبيّة الأخلاق واقعاً إلى ضرورة احترام منظومة أخلاق الآخرين عملاً، غير مقبول منطقياً. إذ لا يمكن استنتاج قواعد الحكمة العملية والسلوك والتشريع والأخلاق من الواقع وما يتضمنه من قوانين منطقياً، فهذه الانتقالة تفتقد للأساس المنطقي، لعدم وجود علاقة استنتاجية منطقية بين أحكام الواقع وأحكام الواجب، كما سجّل ذلك الفيلسوف الإسكتلندي المعروف ديفيد هيوم أمام البحث الأخلاقي والقيمي عامة(1). وهذه الانتقالة كان ستير با قد عابها على علم الأخلاق الغربي في استجابته لإشكالية البيئوية(2).

ثالثاً: بشأن الإشكالية الأولى التي سجلها ستيربا على دعاة نسبية الأخلاق، نقول: إننا برغم من تسليمنا بما ذكره ستيربا من ضرورة النظر للأفعال بما لإظهار شأنيتها وصلاحيتها للاتصاف بالصحة والخطأ في وقت واحد من شخصين مختلفين، إلا أنّ ذلك ليس مطّرداً في كل الأفعال، إذ ثمة أفعال ليست بالقليلة يقف العقل عاجزاً عن إدراك الصحة والخطأ فيها أو الأخلاقية واللا أخلاقية مهما كان مزوداً بالتأمل والتأني. ومثل هذه الموارد تمثّل عقبة أمام التوجه الليبرالي الذي يطمح لإخضاع كل شيء

ص: 485


1- الموسوعة الفلسفية المختصرة: - 532 531.
2- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: -80 76

لعقله. ومذهب الأخلاق الكانطية بأي صيغة كان وبمقولاته القبلية كمفهوم الواجب، يعجز عن أن يكون مقياساً لشريعة أخلاقية من دون أن تتلوّث الأحكام التفصيلية الأخلاقية بالميول والنوازع الحسية والنفعية. ثمة أسئلة طرحها نفسه عن الانتحار والكذب والإحسان، تبين لنا صعوبة أن يكون الحكم أخلاقياً وسليماً من النوازع والاعتبارات الأخرى.

هذه الملاحظة تجري فيما ذكره ستيربا في الأخلاق المدنية، ومن ثمّ يكون رجوع إلى المقاييس النسبية المختلفة بحسب المجتمعات وما تقدره من أوليات وما تزودها به التجارب والخبرة من مصالح.

بعد أن قرّر كانط حرمة الانتحار وحظره أخلاقياً لأنّه يمثل انتهاكاً للإنسانية! عاد ليطرح سؤالاً تركه بلا جواب، يتمثل في حكم أن يقدم الإنسان على موت محقق لأجل إنقاذ الوطن، فهل يعد ذلك من الانتحار ؟ وهكذا طرح أسئلة فيما يرتبط بالكذب والإحسان التي حار في جوابها، فضلاً عن التعليل بانتهاك الإنسانية، هذا المفهوم الفضفاض الذي لا يعرف الحدود والقرار، وتختلف الأنظار بشأنه!

هذا يعني أنّ المبدأ الصوري في الأخلاق الكانطية التي تبنّاها جون رولز وجيمس ستير با تعديلات وإضافات، فاقد لإمكانية أن تكون مقياساً تنضبط على أساسه مع قواعد التشريع الأخلاقي. ذلك أن التشريع يلاحظ السلوك والأفعال في عالم التجربة والواقع والخبرة، عالم الممارسة الإنسانية، والأفعال في هذا العالم كما ألمحنا لذلك مسبقاً، لا تعيش بسلام، وإنما تلتبس وتتشابك بعضها مع بعض، وتتزاحم، فقد يكون الفعل الواحد مصداقاً للفضيلة والرذيلة في وقت واحد. وهذا المعنى يسري على سائر المقولات، فالحرية على سبيل المثال التي هي قاعدة الإلزام الأخلاقي وجوهر السلوك وميزان المسؤولية، تخضع في عالم الممارسة لمحددات موضوعية، فهي حرية في عالم العقل الخالص، ولكنها في عالم الممارسة تلتبس بمعوقات الطبيعة، ولذا يجعلها أرباب التشريع مرنة قابلة للاستثناء والتخصيص، ومن هذا نعرف السرّ في تعبير فقهاء التشريع الإسلامي ((ما من عام إلا وقد خُص)).

ص: 486

رابعاً: لقد سجل ستيربا في ثاني إشكالية تتطلب مقاربة من قبل دعاة نسبية الأخلاق، أنّ الوصول للحكم الأخلاقي الصائب على فعل ما لابد أن يكون بعد النضج العقلي والتأمل الفكري وأفضل أفكار الإنسان. ويبدو لنا أن ستيربا وقع في نفس الإشكالية التي وقع فيها النسبيون الأخلاقيون لما استندوا للواقع المتنوع لتقرير أن الأخلاق نسبية ! إذ من الواضح أن سلوك غالب البشر محكوم بالمصالح والمفاسد والعدوان والأنانية، ولا علاقة له بالأفكار العقلية، إلا أنّ ذلك لا يصح مستنداً للقول: إنّ الحكم الأخلاقي الصحيح المنصب على الفعل ذاته إنما يتوصل إليه بعد التأمل الفكري والتأني، فخضوع سلوك البشر للغرائز والعدوان والدوافع النفسية والفسلجية لا ينفي وجود مدركات أخلاقية بديهية لا تتوقف على ملاحظة أو تأمل فكري ونضج تشاوري. ولعل نظرة بسيطة إلى تاريخ الأفكار والأشخاص تبین لنا ذلك. فالفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس له فتاوى أخلاقية تدخله في جملة المنحطين أخلاقياً برغم مقامه العلمي الشامخ، فيما نجد عكس ذلك لدى تلميذه الإسكندر المقدوني. فعلى الرغم من عدم صحة المقايسة بينهما في الفكر والفلسفة والنضج العقلي، إلا أنّ الإسكندر يعدّ أكثر نبلاً وأخلاقيةً من أرسطو

وهذا يدلنا على أنّ الأخلاق غير تابعة للعلم ولا ترتبط به ولا بالنضج العقلي والتأمل الفكري، وإنما هي خاضعة للإدراك البديهي لمبادئ السلوك العملي من الحسن والقبح، واستجابة لنداء الضمير.

ويبدو أن ستيربا في هذه الملاحظة قد نظر للأفعال في عالم تشابكها الخارجي، وما يتداخل في ذلك من مصالح و مفاسد وغرائز وطبائع، فطلب أن نرجئ الحكم الأخلاقي إلى ما بعد التشاور والنضج والتأمل، حتى يكون حكمنا أكثر أخلاقية وأقرب رحماً من الواقع. وهذا خروج عما قرّره في الإشكالية الأولى.

إنّ المعرفة النظرية والفكر لا ينتجان نظاماً أخلاقياً ولا قواعد سلوكية. سوى أنّ التقدم المعرفي والنمو الفكري يُسهمان في اكتشاف آليات التطبيق، ومعرفة الوسائل الأنجع في تجسيد الأخلاق وتحقيق المبادئ القيمية من خير وعدالة؛ وحينئذ يحق لنا

ص: 487

التساؤل: هل أسهمت النزعة التجريبية المتقدمة والمذهب المادي وأخلاقه النفعية في بناء عالم أفضل يتشارك فيه جميع الآدميين من الشعوب المختلفة في قراراتهم وتقرير مصيرهم، وهي الفكرة التي تدعي الليبرالية أنّها تمثل جوهر مشروعها؟ إنّنا لا نحتاج بعد هذا التساؤل لاستعراض قصص الواقع ومآسيه!

خامساً: إنّ ستيربا وفي إطار سعيه لمقاربة التحديات الثلاثة التي يواجها علم الأخلاق الغربي، تبنى النظرية الأخلاقية التي قال بها جون رولز في العدالة والإنصاف مع إضافات، التي تنص على أن الشخص يكون أخلاقياً عندما تتطابق أفعاله مع المبادئ التي يختارها الناس بالإجماع، ومن ثم اعتقد ستيربا أنّ الأخلاق المدنية الوحيدة القادرة على تخطي إشكالية نسبية الأخلاق، وتوفّر لنا مبررات لتطبيقها على الجميع واستخدام القوة ضد مخالفيها. ولنا أن نسجل هنا:

أ): إننا كيف نستطيع الاختيار في ظل حجاب الجهل؟ وكيف يمكن للإنسان في جو الفراغ وغياب النموذج وعلامة الطريق أن يقرّر ؟ فإذا ما كان الإنسان يجهل حقيقة ذاته فمن العبث حينئذ الطلب منه أن يتخيّل خطةً لحياته ! فإذا ما جُرِّد الإنسان عن الجماعة التي ترفده بهويته، وجُرِّد عن نظمه وتقاليده، فسيكون من المتعدّر عليه اختيار أي شيء على الإطلاق.

ب: إنّ هذه النظرية تفترض اجتماع أشخاص لاختيار القواعد والمبادئ التي ينبغي أن تقود بنية المجتمع وتوزّع الخيرات من حقوق وحريات وثروات وغيرها، وهؤلاء في ظرف توفرهم على الوعي بالمعطيات المتصلة بتاريخ الإنسانية، جاهلون كل الجهل بخيراتهم ومنافعهم الفردية الخاصة في الوضع المستقبلي القادم بعد إقرار العقد. وهذا هو معنى ستار الجهل الذي تحدث عنه رولز وستيربا، فلولا هذا الحجاب لما خضع اختيار مباديء العدالة للعقلانية ولتماهى مع النفعية.

وهنا يحق لنا القول : إنّه ما لم يكن هناك فهم مسبق لمعنى الخير وآلية تطابقه مع رعاية حقوق الآخرين، وما لم يكن هناك إدراك قبلي أن هناك حقوقاً وواجبات، لما

ص: 488

استطاع خبراء الأخلاق المدنية المؤسسون للعقد، أن يقرّروا أن الفعل الأخلاقي هو الذي يتطابق مع المبادئ التي اختارها الناس بالإجماع تحت ستار الجهل!

ج): من حقنا أن نسأل الدكتور ستيربا عن مفهوم العدالة التي تتحقق عبر رعاية المصالح العامة والمبادئ التي اختارها الناس بالإجماع؟ إن العدالة مفهوم قيمي نسبي تابع وليس مفهوماً متعالياً حتى يشكل مرجعية لمبادئ الأخلاق المطلقة، ونقرر على ضوء ذلك أخلاقية الفعل بإزائه. فالعدالة من وجهة نظر الرأسمالي تختلف عن العدالة في مفهومها الاشتراكي، وكلاهما يختلفان عن العدالة عند المتدين بالدين الإسلامي مثلاً، وهذا يفترض أن يحدد مفهوم العدالة مسبقاً تجريبياً ثم ننطلق لجعله غاية للمبادئ التي سيختارها الناس بالإجماع، مما يعني أن الأخلاق المدنية لا تخرج عن إشكالية النسبية التي سجلها ستيربا وهرب منها.

علاوة على ذلك؛ فإنّ افتراض أن الأخلاقية متطلبة عقلائياً لا يساوي الإيمان بالأخلاق المدنيّة، لأنّ المدنية مفهوم بعدي تجريبي وليس مفهوماً قبلياً، وإذا كان تجريبياً خضع للتقييم النسبي، ومن ثم سيعجز عن تقديم مبرّرات كافية للالتزام بمتطلباته الأخلاقية بالنسبة لغير المؤمن به، فالادعاء بأنّ المدنية وحدها متوفّرة للجميع هو ادعاء يكذبه الواقع. إنّ قاعدة رعاية المصلحة العامة قد تقتضي من وجهة نظر أخرى، أن تراعي الأقلية في مجتمع ما هوية الأغلبية من أبناء ذلك المجتمع، وحينئذ يمكن افتراض وجود مبرر لتطبيق أخلاقيات الأكثرية.

ثم عليَّ أن افترض كون الإنسان طيّباً وخيراً بذاته، وافتراض أن هذه الخيرية والطيبة تشكل تحديداً إضافياً للشخص الفاضل أخلاقياً، يتوقف على تحديد المراد من الخير الذي يمثل سؤالاً مركزياً في فلسفة الأخلاق، فحتى يمكن لمفهومي الطيب والخير المساهمة في تحديد الشخص الفاضل أخلاقياً لابد من تحديد المراد منهما مسبقاً.

ه) بتصوري أنّ ستيربا بإثارته لمسألة ستيربا بإثارته لمسألة مرجعية الأخلاق ومسائل أخرى قد افتتح الباب على مصراعيه للنقاش فيما يسمى بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي

ص: 489

تبنته الأمم المتحدة عام (1948م). والنقاش حول هذا الإعلان في مرجعيته ونسبيته أمر له سابقة ليست بالنادرة في دنيا الأفكار الغربية(1).

والمفارقة أن هذا الإعلان الحقوقي جاء بهدف ردم الفجوات الأخلاقية والقانونية والسياسية التي أحدثتها القوى المناهضة للعالمية، فأسهم في ترسيخ فكرة العالمية الحقوقية، وضرورة اعتراف دول العالم جميعاً بحزمة من المبادئ والحقائق الأخلاقية المتعالية المطلقة، في الوقت الذي كان الإتجاه السائد في دنيا الفكر الغربي يتبنى نسبية الحقيقة ونسبية القيم، قافزاً في ذلك الإعلان على التنوع الأخلاقي والثقافي والتاريخي الواضح للعيان، والذي لا يقل أهميّة عن الإعلان المشار إليه !

ص: 490


1- ينظر على سبيل المثال: الاستسلام للمثالية، أنثروبولوجيا حقوق الإنسان، مارك غوديل، ترجمة الدكتورة هناء خليف غني، باشتراك ثلاثة دور نشر : مكتبة عدنان ومنشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى 2015م فكرة حقوق الإنسان، تشارلز آر. بيتز، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 2015م.

أخلاقيات ما بعد الحداثة

مطالعة نقدية للبنية المعرفية والمآل الايديولوجي

محمود حیدر(1)

حين مضى إيمانويل كانط ليسأل «ما الأنوار؟»، كان على يقين من أن مهمته تتعدى مقام التعريف. فهو لم يكن يبتغي الاكتفاء، وحسب، بتوصيف ماهية الأنوار، وإنما توخى قراءة سيرورة التجربة كما هي في صعودها وهبوطها، وفي أنظمة القيم التي أطلقتها سحابة الفترة التي عايشها فيها .

جاء السؤال الكانطي ليفتح على ممارسة فلسفية لا تُبقي الأنوار بمنأى من فضاء النقد. جاء بالسؤال لينقد الخلاء الأخلاقي الذي تسببت به العقلانية الصارمة. لذلك سيرى إلى الأنوار بما هي خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول فيها عن وجوده. والقصور - على رأيه - هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند

ص: 491


1- مفكر وباحث في الفكر الفلسفي والأديان المقارنة - لبنان. النقطة المحورية التي أسست لهذا البحث هي لحظة التنوير مع كانط وسؤاله حينها "ما هي الأنوار ؟"، ويعلق الباحث على السؤال بالقول إن كان كامط كان على يقين من أن مهمته تتعدى مقام التعريف. فهو لم يكن يبتغي الاكتفاء، وحسب، بتوصيف ماهية الأنوار، وإنما توخّى قراءة سيرورة التجربة كما هي في صعودها وهبوطها، وفي أنظمة القيم التي أطلقتها سحابة الفترة التي عايشها فيها. لهذا حاول الباحث خلال بحثه أن يقارب الامر الاخلاقي في التجربة الغربية بتحولاتها المتعددة وصولا الى النتيجة التي كتبها الباحث في نهاية بحثه بالقول : لقد منحت هذه العقلانية "العقل" قابلية صريحة للاستخدام والطاعة. فالعقل على ما نعرف يملك قابلية أن يتخذ من ذاته موضوعاً. مثلما يملك القدرة على التخارج نحو العالم واتخاذ معطياته موضوعاً للكلام والفعل. ولهذا فإنَّ جميع الا الأسئلة. تثار خارج العقل وداخله بواسطة العقل إياه. لكن السؤال عن محل الأخلاق في فضاء العقل، سوف يظل الأهم في الفضاء اللامتناهي لعالم الإنسان. وخصوصاً في أثناء الارتحال المتواصل لحداثة الغرب المقبلة. (المحرر)

الإنسان) بمعزل عن الآخرين. أما الإنسان القاصر فهو المسؤول عن قصوره لأنَّ العلة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين». ثم أطلق كانط أطروحته الشهيرة كمحاولة لاجتياز التشيؤ الذي راح يأخذ بناصية الأنوار: «لتكن لك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك»، وكان ذلك بحق هو شعار عصر التنوير.

لم يتوقف كانط عند هذا الحد. فوجد أنَّ كمال الأنوار لا بد له من عقلانية مشروطة بالطاعة. كان يقول «فكروا قَدْرَ ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، ولكن عليكم أن تطيعوا». وسيؤخذ عليه في ما بعد، بأنَّه زاوَجَ بين حرية الفكر وطاعة الحاكم.- وهنا ليس بالضرورة كما يتبين من تأويلية كانط للطاعة أن يكون الحاكم شخصاً بعينه؛ فسيتبين لنا في ما بعد أنَّه يقصد القانون أو المؤسسة بوصفهما الناظم العام لحركة الأفراد وسلوكهم في الاجتماع أكثر مما يرمي إلى شخصنة المطاع - لكن هذا الإشكال المكسو بالغموض هو الذي شاع يومئذ، حيث ستضاعفه الظروف التي حكمت ظهور الأطروحة الكانطية، لجهة أنَّ صياغتها تمت في بلاط الملك فريدريك ملك بروسيا. ومع أنَّ لكانط حجّته في قوله أنَّ تحديد الحرية لا يناقض التنوير إذا أُحسنَ استعماله، فإنَّ غاية «ناقد العقل المحض» من وراء أطروحته، كانت حفظ الأنوار العقلية بالأخلاق العملية. وهو ما يسوّغه في مقالته لناحية «أنّ الاستخدام العام لعقلنا لابد من أن يكون حراً في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالتنوير إلى البشر، في حين أنَّ الاستخدام الخاص لعقلنا لا بد من أن يخضع لتحديد صارم جداً. دون أن يكون ذلك من الموانع المحسوسة في «طريق التنوير»(1).

مع ذلك، ظلَّ التأويل الكانطي لحقيقة الأنوار مثار جدال على امتداد قرنين متصلين إلى يومنا هذا. لكن التطورات الفلسفية التي أعقبت ثورة كانط ستمتلئ بإشكاليات لا نهاية لها في ثنائية العقل / الأخلاق. وسيأتي زمن لاحق في الغرب تسود فيه قاعدة «كل ما هو عقلي فهو واقعي». ومع هيغل ستبدأ رحلة جديدة تزوّج الأنوار بالحداثة بوصف الأنوار روح هذه الحداثة. وكما سيظهر تالياً فإنَّ الغالب

ص: 492


1- إيمانويل كانط - ما هي الأنوار ؟ تقديم جميل قاسم - ترجمة شربل داغر - دار الأنوار - بيروت - 2003.

في الحداثة الغربية المتأخرة أنَّها رأت إلى العقل وتعاملت معه، بما هو أداة صارمة، وحيدة لصناعة أزمنتها، أو ما يمكن وسْمَهُ بنطاقها الجيو- معرفي والحضاري.

هل يجوز القول إنَّ انقلاباً على الكانطية تمَّ باسم العقلانية الخالصة، على يد الذين جاؤوا بعده كهيغل وماركس وفرويد ونيتشه على وجه الخصوص، ثم أولئك الذين ورثوا هؤلاء أمثال لوكاش، ودوركهايمر، فضلاً عن هيوم، وهوسرل، وهايدغر، وباشلار، وليفي ستراوس وفوكو؟

سوف يبدو الجواب مستصعباً لأنَّ المذكورين كانوا على تفاوت مقيم فيما بينهم في كثير من النزوعات والاجتهادات والأفكار والنظريات. غير أنَّ مشتركاً ظلَّ يصلهم وهو أنَّهم أعادوا تقديس العقل المجرَّد وأجروا ضرباً من الفصل عن الأخلاق فضلاً عن الدين، سيكون له آثاراً حاسمة على التاريخ اللاحق للعقل الحداثي الغربي.

على أنَّ كانط الذي نقل الاهتمام الفلسفي من حدود الأنطولوجيا التقليدية إلى حدود البحث عن معايير المعرفة ومعايير العمل، أي إلى نطاق التجربة الإنسانية المباشرة، إنما كان بذلك ينزِلُ الفكر من حدود المنطق المجرد، إلى حدود منطق الأحداث وصلتها بعقل الإنسان من جهة، وبعمله من جهة أخرى. فمنذ أن أطلق شعاره الثلاثي : ماذا يمكنني أن أعلم، ماذا يمكنني أن أعتقد، ماذا يمكنني أن أفعل ؟ ... كان يقلب أساس التقليد الفلسفي كلّه. إذ ينتقل التفلسف من مهمة ادّعاء الكشف عن الحقيقة، والحقيقة المطلقة، إلى مهمة التساؤل الأساسي عن معيار كل حقيقة، والحقيقة المطلقة ذاتها، وعن معيار العمل (الأخلاق والسياسة)، الذي يرتكز هو بدوره على حدود المعرفة. غير أنَّ كانط الذي وعى مهمته في البحث عن الشكل منذ الأصل، كان في الوقت ذاته يتمنّى أن يقدم المضمون كذلك. فمن حيث إِنَّ الهدف التقليدي للفلسفة هو «اكتشاف الحقيقة»، وكأنَّ لها وجوداً مستقلاً عن العقل والإنسان، أراد كانط أن يكشف عن «الشكل» الذي به يمكن أن تتم المعرفة، وعن قوانين هذا الشكل. وهو في هذا كان يهدم ادّعاءً عزيزاً على الفلاسفة منذ قديم الزمان، بإمكان بلوغ حقيقة مفصولة عن الفعل، ويبني بديلاً عنه فيما سوف يسمى

ص: 493

مستقبلاً «نظرية المعرفة». لقد حاول كانط جاداً أن يقيم سلطة المعيار، الشكل، مقابل سلطة المطلق، المضمون. وبذلك فتح الطريق واسعاً أمام العلم، من جهة لبناء مضامين جزئية، وحقائق نسبية، وأمام الفلسفة الجديدة من جهة أخرى لتتنازل عن حق امتلاك المطلق، والتراجع نحو أصول المشكلات المعرفية والسلوكية، دون تورط بمضامينها الخاصة. لذا كان جهد كانط ينصب بالدرجة الأولى على عملية تحرير أولى للفلسفة من طغيان اللاهوت الديني من ناحية، وطغيان المطلق الفلسفي من ناحية أخرى، وإن كان يصعب التمييز بينهما عندما نواجه الفلسفات الوثوقية السابقة على كانط . لقد كانت إذن بداية رحلة الموقف النقدي هي في هذا التحرير الذي من دونه ما كان لطريق النقد أن يشرع أبوابه أمام الحضارة الغربية لتحقيق مرحلتها الإنطلاقية نحو العلم والتجربة»(1).

فكرة «الواجب» كأخلاق عليا

لم تكن رؤية كانط للأنوار خارج الدائرة الكبرى لرؤيته الوجودية. لهذا جاء «نقد العقل المحض» ليضيء على قضية من أعقد القضايا التي ستكون مدار السجال الفلسفي في غرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عنينا بها قضية توحيد الأخلاق بالدِّين على هذا الحيّز تقوم الرؤية الكانطية على فكرة الواجب. وهي على ما نعرف، كانت الفكرة المحورية في أطروحاته لا على الصعيد النظري فحسب، بل على الصعيد العملي أيضاً. فقد تميّزت حياة كانط بالتقيد الصارم بالواجب. ويمكن تلخيص نظرته الخُلقية بأنَّها دعوة إلى تأدية الواجب كغاية في ذاته، أي لا لشيء سوى كونه واجباً. والناس - عنده - يعرفون الواجب بفطرتهم، وهو يدلُّهم على ما ينبغي فعله في هذا الظرف أو ذاك. وقد عبر كانط عن هذا الواجب غير المشروط بقوله : إنَّ على المرء أن يفعل للآخرين ما يريد أن يفعلوه له، أي أن يؤدي الفعل الذي يتمنى أن يصير مبدأ عاماً. (...) وهكذا فإنَّ الدافع الأعلى للعمل الخُلُقي عند كانط هو الواجب من أجل الواجب، أي كغاية في ذاته، وليس الواجب الذي يسفر عن مكافأة أو ثناء أو إطراء ، وإلا انحطّت الأخلاق عن رتبتها(2).

بدءاً من هذه القاعدة الأخلاقية الفلسفية سوف تمضي فكرة الواجب من أجل

ص: 494


1- مطاع صفدي - نقد العقل الغربي - مركز الإنماء القومي - بيروت 1990 - ص 115 - 116.
2- أديب صعب - المقدمة في فلسفة الدين - دار النهار - بيروت - الطبعة القانية 1995 - ص 236.

الواجب إلى مداها الأقصى. لم يكتف كانط بما تؤديه الفكرة من أفاعيل أخلاقية عامة، فقد سعى إلى عقد رباط وثيق مع الدين بوصفه الفضاء الجامع للعقلي والخُلُقي في آن. ثم راح يسأل عن التبرير الأعلى للواجب. أي هل يجوز أن يضحي المرء بكل شيء من أجل الواجب ولا يحصد، بالضرورة سوى الخيبة ؟ ويجيب أنَّه لا بد من أن يكون ثمة تبرير أخير لهذه التضحيات، هو ما يغدق على الحياة معنى . ويجد كانط هذا التبرير في السعادة. لكن هذه السعادة هي من النوع الذي لا يتحقق تماماً إلا في حياة ثانية. عند هذه النقطة بالذات يجد كانط طريقاً من الواجب إلى الله، ومن الأخلاق إلى الدِّين. فالسعادة كمكافأة على الواجب غير ممكنة بعيداً عن كائن خُلقي أعلى يضمنها. هكذا

يفترض الإيمان بالخير الأعلى، أي بالفضيلة والسعادة، إيماناً بوجود الله. (...).

هكذا رأينا مع كانط أنَّ معادلة الدين هو الأخلاق «تفترض وجود الله، وهي تعني أنَّ المحتوى الوحيد للدين هو السلوك الفاضل القائم على فعل الواجب كغاية في ذاته وإطاعة صوت الضمير كما لو كان صوت الله. لكن سيأتي بعد كانط من يتقدم بنظرة أخرى تجعل من الدين أخلاقاً من غير أن ترى ضرورة لوجود الله. من أبرز دعاة هذه النظرة المفكر والفيلسوف الألماني لودفيغ فوير باخ الذي عاش في القرن التاسع عشر وأحدث أثراً كبيراً حتى وقتنا هذا(1).

وحتى لا نمضي لا نمضي في المنحنى الذي رأى إلى فيورباخ نقيضاً ل«كانط» في رؤياه للدين والأخلاق لا بد من ملاحظة: إنَّ رؤية فيورباخ للدين، ولصلة الدين بالأخلاق، وأيهما أسبق على الآخر، قد مرت بأحقاب متفاوتة. وهذه الأحقاب هي بمثابة مراتب يمكن رصدها في أربعة تطورات تعكس أربعة مفاهيم في فهمه لماهية الدين.

الأول تمثل في «جوهر المسيحية» حيث قدَّم تصوراً للدين في نطاق الديانة المسيحية، أتبعه ب«جوهر الإيمان عند مارتن لوثر» الذي يُعد مرحلة انتقالية بين «جوهر المسيحية» وكتابه «جوهر الدين» و«محاضرات في جوهر الدين» اللذين يمثلان المرحلة الثالثة في تفكيره. بينما المرحلة الرابعة والأخيرة نجدها في كتابه

ص: 495


1- المصدر نفسه - ص 237.

Théogony الذي كثيراً ما يغفل عنه الشراح عند الحديث عن «الدين عند فيورباخ». ما يهمنا المرحلة الأخيرة في تفكير فيورباخ الديني. حيث يُظهر فيها بإيضاح أكثر ، الارتباط بين الدين والأخلاق. وقد ظهرت هذه المرحلة عندما تطورت الفنون المتحضّرة وضعفت ضغوط قوى الطبيعة على الإنسان، وفي هذه المرحلة وانطلاقاً من الأسس النفسية للدين - كما ظهرت في المراحل السابقة - فقد طوَّر فيورباخ افتراضاً شَعَرَ أنَّه أكثر ملاءمة لتفسير الأوجه المتعدّدة للتطور الديني. ففي كتابه: التيوجونيا، حسب المصادر العبرية الكلاسيكية والمسيحية القديمة، الصادر عام 1857م، أشار على سبيل المثال إلى إدراك الإنسان لمثله العليا وإدراكه، لاعتماده على كائنات أخرى، يمكن أن يكونا معاً نوعاً من الحث على السعادة.

وطبقاً لهذا الرأي فقد ادَّعى الإنسان أنَّ رغباته يمكن الحصول عليها. ولكي يجعل هذا الافتراض صحيحاً، نَظَرَ البشر إلى آلهتهم على أنَّهم المكملون والضامنون للرغبات البشرية. فنشأة الآلهة لا تكمن فيما يرى فيورباخ في اعتماد سلبي على الطبيعة والبشر، ولكن تكمن في حافز إيجابي يقوم على افتراض أن الرغبات والأماني البشرية تتفق وطبيعة العالم . وثمة من قارئيه من رأى أنَّ فيورباخ نشر كتابه: التيوجونيا من أجل إيجاد توافق بين «إنسانية» «جوهر المسيحية» و«طبيعية» «جوهر الدين». حاول فيورباخ أن يعثر في مفهوم الله على العناصر الإنسانية والطبيعية. فالإنسان بهذا المعنى حين يصطدم بالقدرة الكلية للطبيعة، يُسقط على الآلهة رغبته في الانتصار عليها «أي على الطبيعة». ورغم ذلك فإنَّ فيورباخ كما يعتقد /ريردان/ B.M.Reardon قادر على أن يهب الإيمان لعصر خلا من الإيمان. ولهذا يضع فلسفته في تيار «الفكر الديني في القرن التاسع عشر» في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه. ففيورباخ ليس مستهزئاً بالدين، ذلك لأنَّ الجانب الديني للحياة ليس عبثاً، وإنما هو المفهوم الأساس لإدراك الإنسان لذاته. وذلك لأنَّ موضوع الدين الرئيسي هو الإنسان كما يتضح من تحليل الخبرات الدينية التي تتعدى صور اللاهوت غير المتناسقة. فالله انعكاس للإنسان على ذاته(1).

ص: 496


1- B.M.Reardon: Religion thought، in Nineteenth Century Cambridge Unipress 1966. p.83.

سوف نجد الرأي نفسه لدى /جون لويس/ الذي يرى أنَّ «فيورباخ كان رجلاً متديناً إلى أبعد الحدود، ومن ثم فإنَّ ماديته جاءت مختلفة تماماً عن أية مادية سابقة. فهو لا يحقر الدين وإنما يرى في الله إسقاطاً لحالة الإنسان البائسة المحرومة»(1). وفي هذه الدلالة من فهم الأطروحة الأخيرة لفيورباخ حول الدين، لا يبدو لنا على الراجح أ أنَّ هذا الأخير جاد كثيراً عن الكانطية وما كانت عليه أحوالها حيال الدين.

والآن لنعد إلى كانط لنسأل عما إذا كان الفيلسوف الألماني لاهوتياً كسواه من فلاسفة اللاهوت المسيحي؟

ثمة من الدارسين من لا يفضل خلع هذه الصفة على كانط. ذلك لأنَّ الأخير رفض المناقشات التقليدية أو الميتافيزيقية على وجود الله في كتابه «نقد العقل المحض» لكنَّه سيبين في كتابه «نقد العقل العملي»»إنَّ افتراض وجود الله ضروري للحياة المنطقية». ومن جهتنا نزعم أنَّ هذا الافتراض ليس برهاناً كانطياً. بمعنى كونه نتيجة مناقشة نظرية، إنَّه افتراض عملي. فالأخلاق تستدعي الإيمان بالله في التحليل الأخير، وذلك للمزاوجة بين الفضيلة (الواجب) والسعادة. وهذا ما سمّي ب«البرهان الخلقي» على وجود الله. وهو افتراض لا تستقيم الأخلاق الكانطية إلا به(2). وعلى أي حال فإنَّ نظرة كانط إلى الدين على أنَّه أخلاق، لا تعني إنكار وجود الله وإحلال بديل، كالإنسانية، محلّه وإعلان الأخلاق ديناً. ومع أنَّه (كانط) لم يمارس (حسب الدارسين) الطقوس الدينية ولا الصلوات ولا نما صوفياً. إلا أنه نظر إلى الخبرة الخلقية كما لو كانت الخبرة الدينية الوحيدة. فالدين الصحيح وكما يبين كانط نفسه، هو الحياة الخلقية التي تبلغ ذروتها في تأدية الواجب والتضحية بكل شيء في سبيله لأنَّه الواجب. وكل شيء غير طريقة الحياة الخلقية يظن الإنسان أنَّه قادر على فعله لإرضاء الله هو، في نظر كانط، محض وهم ديني وعبادة زائفة لله. وعنده أنَّ المؤسسات الدينية قد تكون بعيدة جداً عن الدين الحقيقي، في حين أنَّ

ص: 497


1- أحمد عبد الحليم عطية - جوهر الدين عند فيورباخ - الفكر العربي المعاصر - العدد 74 75 آذار (مارس) نیسان (أبريل) 1999
2- المصدر نفسه - ص 239.

الكنيسة الحقيقية كيان غير منظور ، يمثل الاتحاد الروحي للناس جميعاً في الفضيلة عبر الخدمة الخلقية لله(1).

يستفاد من ذلك، على الجملة، أنَّ الإنسان عند كانط هو كائن عاقل، وبما أنَّه عاقل فهو كائن أخلاقي، وبما أنَّه أخلاقي فهو كائن دين. ولهذا فإنَّ البحث في المسألة الدينية عنده لا يقوم إلا على دراسة مسبقة للأخلاق. في كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» يبدأ كانط بطرح الضرورة القصوى لبناء فلسفة أخلاقية خالصة ومطهرة من كل ما يعود إلى علم النفس والأنثروبولوجيا» ولهذا السبب يعود إلى الوعي المشترك والعادي ليسأله حول موضوع الأخلاق، فيجد أنَّ هذا الوعي المشترك يعدّ الإرادة الخيرة الشيء الوحيد الذي هو أخلاقياً خير بذاته، وإنَّ هذه الإرادة لا يُحكم عليها من خلال نجاحاتها، بل فقط من خلال نيَّتها ومسعاها والذي يجعل من إرادة ما إرادة خيرة هو أفهوم (مفهوم) الواجب، فتصبح الإرادة الخيرة هي التي تفعل إقراراً للواجب وليس وفقاً له فقط. ذلك لأنَّ القيمة الأخلاقية للفعل - إقراراً للواجب - ليست في الهدف الذي يتوصل إليه الشعار الذي يقرره. وهذا الشعار لا يتعلق بواقع موضوع الفعل، بل يتعلَّق فقط بمبدأ الإرادة الذي لا يخضع لأي موضوع من موضوعات الميل (Penhant). من هنا يصبح «الواجب ضرورة القيام بالفعل احتراماً للقانون. وما يشكل الإرادة الخيرة هو أساساً خضوعها للواجب وليس تعارضها مع الميل. وهنا لا يقصد كانط بالضرورة أنَّ الميول عند الإنسان هي كلّها سيئة، ولكنَّه يرفض أن تشكل هذه الميول شعارات الإرادة ومبدأ الأخلاق. فهو لا يستبعد من الأخلاق الفعل الذي يساعد في إنجازه مَيْلٌ ما . ولكنَّه يرفض الفعل القائم فقط على الميل لأنَّ الإرادة الخيرة هي التي تطيع الواجب مهما كان هذا الميل(2).

لقد أُخضعت مقولة الواجب عند كانط إلى تأويلات لا حصر لها. سوى أنَّها لم تغادر النقطة المحورية التي أسست لكل تلك التأويلات. هذه النقطة بوصفها

ص: 498


1- المصدر نفسه - ص 239.
2- إلهام منصور - في المسألة الدينية / الأخلاقية عند كانط - «مجلة الفكر العربي المعاصر» العدد (58 - 59) تشرين ثاني - كانون أول 1988.

المشترك الداخلي للدين والأخلاق والله، وفطرة الكائن العاقل. ثمة من قدَّم الدين على الأخلاق. أي بوصف الأخلاق ناتج الفضاء الديني اللامتناهي وبوصف هذا الأخير، ناتج الوحي الإلهي . وثمة مَنْ وجد أنَّ علاقة الدين بالأخلاق عند كانط هی كعلاقة الأثر بالسبب. وما قيل عن بحثه في الدين على أنه تبرير للدين المسيحي هو أمر مشكوك فيه - حسب وجهة النظر هذه - ذلك أنَّ تناوله الدين المسيحي بالذات كان من باب ما يجب أن يكون وليس من باب ما هو قائم، لأنه دافع عما يجب أن يكون الدين المسيحي وليس عما هو في الواقع(1).

إلا أنَّ هناك من المؤوّلين من لم يفصل الدين عن الأخلاقية الكانطية التي وردت في جملة مصنّفاته، وخصوصاً في «نقد العقل العملي» و«ميتافيزيقا الأخلاق».صحیح أنَّ كانط لم يعط أهمية للأديان التاريخية. وفلسفة الدين عنده ليست فلسفة هذا الدين أو ذاك، بل هي فلسفة كل دين، إلا أنَّه تكلَّم على فلسفة الدين الطبيعي. وفي حين كان الدين الطبيعي في القرون الوسطى يعني البراهين الفلسفية أو الميتافيزيقية على وجود الله، صار مع كانط يعني افتراض وجود الله كضرورة للحياة العملية أو الخلقية. وقد تأثر كانط في أفكاره الدينية بأفكار عصر التنوير في أوروبا، خصوصاً بعقلانية الربوبيين. حيث إنَّ الربوبيين - كما هو معروف - قد خفضوا الدين إلى تعاليمه الخلقية، ولم يوافقوا على المحاكمات اللاهوتية بين مختلف الفرق المسيحية. ثم اشتدَّت تلك النزعة في القرن الثامن عشر بين مَنْ سُمُّوا ب«المفكرين الأحرار» الذين رفضوا سلطان التقاليد وأعلنوا الاحتكام إلى العقل. واتخذت (هذه النزعة) شكل الدعوة إلى فصل الدين عن الميتافيزيق وجعله ديناً خُلقياً. فالربوبيون عقلانیون آمنوا بالله، لكنهم أنكروا الإيمان بالوحي الديني(2).

وأياً كان رأي القائلين بالتزام أو عدم التزام كانط بالمسيحية كلاهوت، أو بموافقته «المفكرين الأحرار» في إنكار الإيمان بالوحي الديني أو عدم موافقته لهم، فإنَّ الكانطية منحت جلَّ حقولها لثنائية الدين / الخلاق. وجعلتها ضمن

ص: 499


1- إلهام منصور - المصدر نفسه.
2- أديب صعب - مصدر سبق ذكره - ص 239 .

إطار الموضوعات الكبرى لفلسفة الدين. والأهم من كل ذلك أنَّ السؤال الكانطي في العقل والأخلاق والدين سيؤسس لرحلة مفتوحة من الأسئلة التي أخذت بها الحداثة منذ ثلاثة قرون ولم تنفك عنها إلى الآن. فإذا كانت الأشياء في العالم، من حيث هي كائنات لا تستقل بوجودها تفترض علَّة عليا تفعل وفقاً لغايات فإِنَّ الإنسان - بحسب الكانطية - هو الغاية الأخيرة للخليقة. وذلك لأنَّه من دون الإنسان فإنَّ سلسلة الغايات المتوقفة بعضها على بعض لن تكون مؤسّسة تأسيساً كاملاً. وفي الإنسان وحده، أو فيه وحده بوصفه ذاتاً للأخلاقية، يمكن العثور على التشريع الذي يجعله وحده قادراً على أن يكون غاية أخيرة تخضع لها الطبيعة بأسرها من الناحية الغائية(1).

لا يتوقف الأمر على عمومية الأطروحة الكانطية. ولسوف يتجه البحث المساجلات اللاحقة إلى سياق من القراءة يرى إلى الدين والعقل والأخلاق على أنَّها ثلاثية فارقت النقد لتدخل في فضاء التأويل اللامتناهي. وثمة من رأى أنَّ مثل هذه المفارقة لو هى حصلت لأقامت الحد على النقد.

كان السؤال لدى عدد من أقطاب الفلسفة المعاصرة أمثال غادامير، وهابرماس، وريكور هو أين تقع الكانطية من النقد والتأويل، هل يمكن الاستنتاج أنَّ كانط اختار النقد بديلاً عن التأويلية السائدة؟ ومن ثم هل يمكن العثور لدى كانط على ضرب من التأويلية الفلسفية، أم أنَّ النقد الذي ارتضاه عنواناً لفلسفته وشعاراً لعصر برمته، لا يمكن له أن يلتقي مع أية تأويلية ممكنة؟

سعى الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور إلى بيان أنَّ كانط كان صاحب تأويلية فلسفية. وربما ذهب ريكور إلى حكم كهذا ليتمكن من استعادة كانط على النحو الذي يسدد ممارسته الهرمنيوطيقية لتحقيق فهم حديث للثلاثية الكانطية. لقد اتكأ ريكور في حكمه هذا على كتاب «الدين في حدود عقل مجرد» الذي نشره (كانط) سنة 1993.وينطلق من أنَّه «ليس بوسعنا أن نعتبر الكتاب المشار إليه امتداداً لمنطقة النقد التي

ص: 500


1- عبد الرحمن بدوي - إيمانويل كانط - فلسفة القانون والسياسة - وكالة المطبوعات - الكويت 1979 - ص 440.

رسمتها مؤلفات كانط النقدية بل يجدر بهذا الكتاب أن يحمل عنوان «تأويلية فلسفية في الدين». في حين راح من يخالف ريكور في قراءته لكانط ليبين أنَّ الفيلسوف الألماني ليس صاحب تأويلية فلسفية في الدين. بل إنَّه على وجه الدقة صاحب فلسفة حكم.. إنَّ كتاب «الدين في حدود عقل مجرد «ليس تأويلية للدين مثلما ذهب إلى ذلك بول ريكور. بل هو قراءة عقلية، أي أخلاقية للدين. وهي قراءة لم تكن، حسب دنيس توارد تنشغل بالدين في تاريخيته ولا في نصيَّته التي تخصه، ومن ثم ليس بوسعنا أن نعتبر الدين عند كانط ضرباً من الآخر الذي يتميّز عن الفلسفة، ومن ثمة يفلت من دائرة .النقد إنَّ العقل الذي ينتصب ها هنا حاكماً على الدين لا يرى سوى ما يستمده من نفسه من قوانين أخلاقية قبلية، ما دام العقل عند كانط، والعقل فحسب، هو القادر على إعطاء معنى فلسفي معقول للدين (بل ولأية ظاهرة أخرى حتى العقل نفسه) فإنَّ مقصد كانط ليس تأويل النصوص الدينية، إنما هو فحسب بيان ما يمكن للعقل، الذي هو في صميمه عقل عملي أن يقوله في خصوص الدين. بل وأكثر من ذلك، فكانط حينما يتناول وقائع الدين بالمعالجة إنما يفعل ذلك، وهو على وعي تام بأنَّ أهمية النصوص الدينية لا تكمن في كونها استطاعت أن تقدّم صياغة واضحة للقوانين الأخلاقية الكونية الذي ينبغي على كل امرىء أن يستمدها من نفسه(1).

جدل الانقطاع: الأخلاق في معزلها

لأنَّ الأخلاق أول ما يطلبه الإنسان من الأديان السماوية، فقد جاءت التصورات التقليدية لترى إلى الأخلاق باعتبارها مفهوماً دينياً سماوياً، ومن ثمَّ لا يمكن الفصل بین الأخلاق والدين. لكن الحداثة، ونعني الحداثة الغربية على الأخص ستشهد لمفكرين سعوا إلى تفكيك الرباط داخل تلك الثنائية. فرويد مثلاً سيجد أن مستقبل الدين وهم من الأوهام، وعليه فلا مناص لإنقاذ الأخلاق من أن تصبح وهماً إلا أن يتم عزلها عن الدين وعن المؤسسة الكنسية.

وربما أمكن القول: إنَّ تأسيس النظم الأخلاقية غير الدينية وظهور الأخلاق

ص: 501


1- أم الزين بن شيخة المسكيني - كانط والتأويلية - «الفكر العربي المعاصر» العدد 121 - 122 - خريف 2001 - شتاء 2002

الدنيوية أو الأرضية من أهم خصائص العالم الغربي في القرن الثامن عشر فما بعد. فبعض النظم الأخلاقية تتصادم وتتعارض مع الأخلاق الدينية، فضلاً عن كونها نظماً علمانية. ويمكن إعطاء مثال على ذلك من الأخلاق الداروينية فهي أخلاق توصي بسحق الضعيف من قبل القوي؛ لأنَّ ذلك يتطابق وقوانين الطبيعة الصارمة، فكل التعاليم المتضاربة مع الحركة التكاملية لبقاء الأصلح إنما هي تعاليم سلبية. وقد أسهب المتألهون في مناقشة القيمة الشرعية المنطقية للأخلاق العلمية، لا سيما الأخلاق الداروينية(1).

ولبيان جدل الإنقطاع والتحولات التي تقلب فيها الغرب سنعرض إلى بعض المذاهب التي تخللت سيرورة العقل الأخلاقي الغربي بعد كانط . وهي على الجملة ذهبت إلى النظر في الأخلاق بوصفها معطىً وضعياً ومجتمعياً. منها على سبيل المثال ما ظهر في القرن الثامن عشر ما سُمِّي المذهب الانفعالي ويمثله الفيلسوف الإنكليزي التجريبي ديفيد هيوم (1711 - 1776) وهو يرى - إن المعارف الحقيقية هي المعارف التي يكتسبها الإنسان عن طريق الحس، ويترتب على هذا المذهب أنَّ القضايا الأخلاقية الحقيقية هي تلك المبرزة للأحاسيس والإنفعالات لا للحقائق الواقعية، ويخلص إلى «أنَّ الأخلاقيات ترجع بالنهاية إلى الإحساس الأخلاقي لا إلى العقل وإدراكاته. ويعد المذهب الإنفعالي واحداً من المذاهب الأخلاقية غير التوصيفية. ويتفق هذا المذهب مع المذهب الأشعري (لدى المسلمين) في أنَّه لا يرى إلى أنَّ للأحكام الأخلاقية منشأ واقعياً بل يعتقد بأنّها مجرد بيان كاشف عن أحاسيس وعواطف من .يطلقها. ويمكن اعتبار المدرسة الوضعية المنطقية (تأسست في فيينا في العقد الثاني من القرن العشرين بزعامة مورتيس شليك) في بعدها الأخلاقي من أهم فروع هذا المذهب(2).

ص: 502


1- أحد قراملكي - الهندسة المعرفية للكلام الجديد - ترجمة حيدر نجف وحسن العري - مراجعة عبد الجبار الرفاعي - دار الهادي - بيروت - طبعة 1 - 2002 - ص (209).
2- مجتبى مصباح - فلسفة الأخلاق - دراسة مقارنة بين المذاهب الأخلاقية - ترجمة محمد حسن زراقط - «معهد الرسول الأعظم العالي - بيروت ط (1) - 200 - ص 48، 54، 68 ، 76.

المذهب الإجتماعي: مؤسسه إميل دوركهايم (Emile Durkhiem) 1858 - 1919، معتقده الأخلاقي على أربعة أحياز :

أ - لا وجود للأخلاق من دون المجتمع.

ب - المجتمع يملك شخصية مستقلة عن الأفراد.

ج - لا بد من اتباع المجتمع في الأخلاق فهو الذي يحدد معادلة الحسن والقبيح.

د - معرفة الأعمال الحسنة والقبيحة تكون بالرجوع إلى أخلاقيات المجتمع وآدابه وتقاليده . (...)

-مذهب المنفعة: تبنّاه الفيلسوف جرمي بنتام 1848 - 1832 (Jerme Benthams) وجون ستيوارت میل 1806 - 1873 (Jhon Stuart Mill) وليس هذا المذهب سوى نسخة معدلة من الأبيقورية «فاللذة عند بنتام هي الخير الوحيد والألم هو الشر الأوحد «ويقول جون ستيوارت مل: «اللذة المبتغى الأوحد». فهما يشتركان مع أبيقور في القول، بأنَّ السعادة هي الخير بالذات، والسعادة ليست سوى اللذة. ولقد رأى هذان الفيلسوفان أنَّ المشكلة الأساس في الأبيقورية، هي كوها تهتم بالفرد ومصالحه، وتغفل المنفعة العامة (...) على أنَّ الفيلسوفين يختلفان حول كون المنفعة العامة هدفاً أو وسيلة، رغم اتفاقهما على كونها مطلوبة، وخيراً أخلاقياً. «بنتام»يعتقد أنَّها وسيلة للوصول إلى السعادة الشخصية. أما ستيوارت مل فيعتقد بكونها هدفاً ومطلوباً أصلياً .(...)

المذهب العاطفي: يؤمن العاطفيون عموماً بأنَّ الأفعال التي لها صفة فردية من جميع الجهات (أي نرجع آثارها ونتائجها إلى الشخص الفاعل وحده) لا تقع ضمن دائرة التقييم الأخلاقي (...) من أبرز ممثلي هذا المذهب: آدم سميث Adam Smith((1723 - (1790) الاقتصادي وفيلسوف الأخلاق الإنكليزي المعروف والألماني آرثر شوبنهاور (Arthur Senopenhauer) (1788 - 1860) والفرنسي أوغست كونت (...).1857 - 1798 (Augeste Compt)

ص: 503

- مذهب القوَّة: يعدّ هذا المذهب - الذي دعا إليه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844 - 1900) - ردة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي هذا التأثر بالرواقية أدى إلى اتجاهات أخلاقية سلبية تدعو الناس إلى الاستسلام للقضاء والقدر، ومن هنا شعر نيتشه بأن من يتربى على هذا المذهب، سوف يكون إنساناً خاملاً مستعداً لتحمل الظلم، فانبرى لمواجهة هذا المذهب الأخلاقي، وثار في وجه الأخلاقيات المسيحية : «اعتراض نيتشه على المسيحية، هو أنها تدعو إلى روحية العبودية في نفوس أتباعها» وتربي إنساناً خاملاً وذليلاً، وهذه الأخلاقيات غير مقبولة، وعلى المذهب الأخلاقي أن يربي إنساناً فاعلاً ومؤثراً. وهو يقول عن المسيحية: «أنا أدين المسيحية وأحكم عليها بأقسى حكم أصدره مدّع حتى الآن، وأرى فيها أبشع صور التدمير أذمُّها وأعدُّها لعنة عظيمة، فهي ليست سوى ذل البشرية الخالدة».

يرى نيتشه أنَّ «القوّة» و«السلطة» أساس الأخلاق الفاضلة كلها. وفي شرحه النظريته الأخلاقية يرى أن كل موجود حي يحب حياته ، ويريد المحافظة عليها، وهذا الأمر يحتاج إلى القوة. لذا فإنَّ الإنسان الضعيف محكوم بالهزيمة والفناء.(...)

وأحسن خلاصة لمذهب نيتشه الأخلاقي، ما يذكره هو بنفسه حين يسأل ثم يجيب : «ما هو الخير. هو الذي ينمّي حس السلطة. ما هو الشر؟ هو ما يولد من الضعف. ما هي السعادة؟ إحساس ازدياد السلطة، والانتصار على العوائق لا القناعة،بل المزيد من السلطة، ليس السلام بل الحرب، لا الفضيلة بل الذكاء. العاجزون والمرضى ينبغي إعدامهم، وهذا هو الأصل والقاعدة الأولى لحقوق الإنسان، فما هو الأكثر ضرراً من الفساد؟ هو العطف على المرضى؛ أي المسيحية». لكن الفيلسوف الألماني الوجود مارتن هايدغر (Martin Heidegger) سوف يتجاوز القراءة المدرسية التقليدية لنتشيه حين يرى إليه أنّه آخر الميتافيزيقيين في العالم الغربي. إذ يتكثّف في فكره السؤال الميتافيزيقي وينجز فيه. وجواب نيتشه عن هذا السؤال هو الآتي: إنَّ إرادة الاقتدار هي الطابع الأساسي لكل «كائن «في حين يشكل «العود الأبدي لذات النفس» التعين الأعلى للكينونة.

ص: 504

ويوضح هايدغر أنَّ ما يقصده نيتشه ب- «إرادة الاقتدار» أنَّها ليست إلا تفسيراً لكلمة الإرادة التي تتضمن الحركة نحو... التوجه نحو شيء ما... الإرادة هي سلوك يتجه نحو ... إنّ ذلك كله - يضيف هايدغر - ليس بعد إرادة ولكنه متضمن فيها. فالإرادة هي أن تكون سيداً على ذاتك، إنَّها الخضوع لقيادتنا الخاصة، وهي القرار بأن نخضع لأحكامنا أو التي هي بذاتها تنفيذ(...). على أنَّ التعريف الجوهري للإرادة بحسب تأويلية هايدغر لنيتشه - هو أنَّها «ماهية الكائن «وهي وهي تطلع نحو اقتدار أكثر ، نحو التعزيز والسمو : «الإرادة هي أن تكون أقوى» وهي تتميز بكونها خلاقة كما يكتب نيتشه. والاقتدار هو معنى آخر ل«الإرادة». ويماثل نيتشه غالباً بين الاقتدار» و «القوة» من دون أن يعطي لهذا المفهوم الأم. الأخير أي تحديد. أما لماذا حكم هايدغر على نيتشه بأنّه آخر ميتافيزيقيي الحداثة الغربية. فإننا نجد جوابه عندما يمضي في قراءة المفاهيم الأساسية التي وضعها نيتشه، وخصوصاً «إرادة الاقتدار» بوصفها فناً من ناحية، وبوصفها معرفة من ناحية ثانية. يرى هايدغر أنَّ كلمة «الاقتدار» تتضمن المعاني الثابتة ل- «القوة» كما ظهرت في اليونان القديمة. ويقارن بين مفهوم الاقتدار والمفهوم الأرسطي ل«Actus» وال- (Potentia)، لا كما وصل من خلال العصر الوسيط، ولكن كما يظهر في كتاب «الميتافيزيقا» لأرسطو. ويبين هايدغر، إنَّ ثمة علاقة تربط بين «الكينونة بالقوة» و «الكينونة بالفعل» الأرسطيتين، ومفهوم الكينونة عند نيتشه. ذلك رغم أن نيتشه لم يكن يعي هذه الصلة. وهذا الفهم للإقتدار يضع «الإرادة الاقتدار» في المسار الأساسي للفكر الفلسفي الغربي، ومن ثم فإنَّ عمل نيتشه، على قلب القيم من خلالها. يندرج ضمن هذه الميتافيزيقا(1).

هذا المعنى الميتافيزيقي ل- «فيلسوف العدم» سوف يعيده إلى فضاء الوجود عبر ما يسميه ب- «الإنسان الأعلى» الذي يولد من «العود الأبدي لذات النفس». والمعروف أنَّ هذه الأخيرة هي إحدى الأطروحات المركزية التي تشكل أساس فلسفة نيتشه، التي تمنح الكائن كينونته الخُلُقية من حيث كونها القبول الأعلى للحياة وللكائن.

ص: 505


1- هايدغر قارئاً نيتشه - «مجلة العرب والفكر العالمي» العدد الرابع - خريف 1988.

المفارقة أنَّ قراءة هايدغر لنيتشه بوصفه فيلسوفاً ميتافيزيقياً ظلت في حجرة ضيقة بينما سادت القراءة التقليدية التي اختزلت الفيلسوف بوصفه - وحسب عدواً للأخلاق والدين.

- مذهب العقلانية المنفتحة: مع الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902 - 1994) الذي احتل موقعاً مميزاً في ثقافة القرن العشرين ويعد واحداً من أبرز فلاسفة العقلانية المنفتحة وفلسفة العلوم، ستنتقل العقلانية الغربية إلى طور جديد كل الجدّة. وسيكون للأخلاق معنى آخر خارج الدائرة المثالية للأفلاطونية المحدثة وكذلك خارج دائرة الديالكتيك الهيغلي. يتخذ بوبر من المجتمعات القائمة في الغرب الأوروبي والأميركي نموذجاً لمفهوم المجتمع المنفتح جاعلاً من الديمقراطية الليبرالية المثال الأعلى للنظم الاجتماعية. وبذلك يكون الوسط العلمي ما يُرجع إليه كونه نموذج النقاش العقلاني القابل لكل النظريات والاقتراحات شرط أن يتم مناقشتها وتقييمها حسب المعايير الموضوعية للمنهج العلمي(...) كذلك يرى بوبر في حرية التعبير وتنوع الأفكار والاتجاهات في الديمقراطية الليبرالية شبهاً لعملية الجدال النقدي بين التفسيرات والفرضيات المختلفة في الفيزياء. وتجري عملية تحقيق الأصلح والأفضل في المجتمع بطريقة شبيهة بتلك التي يجري فيها التقرب في الحقيقة في العلم فكما إننا لا نملك - حسب بوبر - أي وسيلة مباشرة للإقتراب من الحقيقة العلمية، حيث يتم ذلك عن طريق كشف الخطأ ودحضه في التجارب، كذلك لا يملك المجتمع من وسيلة لتحسين حياة أفراده إلا بواسطة تخفيف آلامهم وتسهيل الصعوبات التي تواجههم. وعنده إنَّ تحقيق السعادة ليس أمراً ممكناً، بل الممكن هو كشف مصادر الآلام والمآسي ومحاربتها قدر الإمكان إذ «بدلاً من طلب السعادة القصوى لأكبر عدد من الأفراد يتعين علينا، بتواضع أكثر ، أن نطلب للجميع أقل قدر ممكن من العذاب، وأن يتحمل العذاب الذي لا يمكن تجنبه - كالمجاعة في حال نقصان المواد الغذائية - بالتساوي. وفي هذا شبه بالنظرة إلى المنهج العلمي التي عرضتها في منطق الاكتشاف العلمي». إنَّ المسألة الأخلاقية تصبح أكثر جلاءً إذا ما وضعنا مطالبنا سلباً، أي إذا طلبنا القضاء على العذاب بدلاً من توفير السعادة».

ص: 506

عند هذه النقطة من تعيين بوبر للأخلاق الواقعية سوف تنطلق العقلانية النقدية إلى أبعد مدى لها. وستمارس نقداً صارماً للأفلاطونية مروراً بالكانطية والهيغلية والماركسية ساعية إلى تأسيس عقلانية عملية لا تكون فيها الأخلاق إلا عضواً منظومة مجتمعية ينتظمها العالم المفتوح على كل ما هو جدير بالبقاء والديمومة. يقول بوبر عن أفلاطون إنّه في تصوره للدولة لا يرى مكاناً للعدالة إلا في مجتمع تراتبي صارم يحدد لكلِّ فرد موقعه الواضح في البنية الهرمية. فيكون الحفاظ على العدالة ومن ثمَّ على السلم الاجتماعي قد تحقق بواسطة نظام حديدي قائم على الطاعة المطلقة، اختار أفلاطون الدولة التوتاليتارية الجذرية على حساب الروح الفردية والديمقراطية وهو الخيار الذي أودى بأستاذه الكبير سقراط إلى الموت.

بعد قرون فلسفية طويلة ستعود الأطروحة الأفلاطونية عبر هيغل، الذي وجد فيه بوبر تضحية متجددة بكيان الأفراد وخياراتهم الذاتية على مذبح الكليات التاريخية والحتمية الموضوعية. إذ ينطلق الفيلسوف الألماني من مبدأ المساواة بين ما هو عقلاني وبين ما هو قائم تاريخياً، وتصبح الأشكال المجتمعية تجليات ضرورية ذات نسب متفاوتة في النضج، لتحقيق العقل الكلي لدن ذاته. وتصبح آلام الأفراد وعذابات البشر الثمن الذي لا بد من دفعه لكي تحقق الفكرة المطلقة ذاتها عبر الصراعات المجتمعية والقومية، وهذا هو جوهر الديالكتيك الهيغلي (...). على هذا النحو لا يحجم بوبر عن ربط فلسفة الهوية الهيغلية بالملكية المطلقة لفريدريك وليام، حاكم بروسيا والمعارض لكل تقنين دستوري لسلطته وخلف هذا الإدغام الظاهري، تتربَّص مصالح الملكية المطلقة لفريدريك وليام. إنَّ فلسفة الهوية تفيد في تبرير النظام القائم. ونتيجتها هي وضعية أخلاقية وقانونية، أي العقيدة القائلة بأنَّ ما هو قائم هو صالح، لأنه لا توجد معايير إلا المعايير السائدة، إنَّها عقيدة «السلطة دائماً على حق»... إن توتاليتارية هيغل الجذرية تعتمد على أفلاطون بقدر اعتمادها على فريدريك وليام الثالث، ملك بروسيا في الحقبة المهمة خلال الثورة الفرنسية وبعدها. ومضمونها أنَّ الدولة هي كل شيء والفرد لا شيء؛ فهو مدين للدولة بكل شيء، في وجوده المادي كما الروحي. يكتب هيغل: «إنَّ الكلي موجود في الدولة.

ص: 507

والدولة هي الفكرة الإلهية كما هي متحققة على الأرض... علينا إذن أن نعبد الدولة كتجل للإله على الأرض، وأن نعتبر أنه إذا كان فقه الطبيعة صعباً، فإنَّ فقه جوهر الدولة أكثر صعوبة بدرجة لا متناهية... إنَّ الدولة هي مسيرة الله في العالم... يجب فهم الدولة ككائن حي... والدولة الكاملة تتمتع، في جوهرها، بالوعي والفكر. الدولة تعي ما تريد... الدولة متحققة؛ والواقع المتحقق هو حتمي. ما هو متحقق هو حتمي أبداً... الدولة قائمة لذاتها ... إنَّ الدولة هي الحياة الأخلاقية القائمة، المتحققة فعلاً». هذه المقاطع كافية لتبيان أفلاطونية هيغل وإصراره على المرجعية الأخلاقية المطلقة للدولة، وهو يضرب عرض الحائط بكل أخلاق فردية وكل ضمير شخصي».

تقوم مقولة المجتمع المنفتح البوبرية على رفض مفهوم التغيير الجذري كما فهمه أفلاطون وماركس، أي التغيير المطلق من الصفر حيث يعاد بناء المجتمع على أسس جديدة مختلفة كلياً عما سبق إنَّ التقاليد والمؤسسات السائدة ذات قيمة حياتية براغماتية لأنَّه من دونها لا يستطيع الأفراد أن يقوموا بأدوارهم الاجتماعية المتوقعة منهم، ومن ثم ينهار صرح النشاط الإجتماعي كله. فمهما بلغت مساوئ النظام القائم فهو لا ينفك عن أن يكون نظاماً، تندرج الحياة الإجتماعية تحت لوائه منذ مئات السنين، وذلك على النقيض من الحلول الثورية الطوباوية التي تغامر بنشر الفوضى والدمار مستخدمة مفاهيم أخلاقية مجردة كالعدالة (أفلاطون) والمساواة (الماركسية).

سوف تمتد «البوبرية» إلى نسيج «العقل الأخلاقي الغربي» بظواهره وأحيازه الأوروبية والأميركية. وفي خلال المرحلة المعرفية الفلسفية التي وصفت ب«ما بعد الحداثة» أو «الحداثة البَعْدية» سوف يتبين لنا كم للتنظير البوبري من مفعولية ثقافية وأيديولوجية على صعيد ممارسة وتشكيل أنظمة القيم الجديدة في العقل الغربي. ولو نحن قسنا القضية الما بعد حداثية، على وفق المعيار البوبري لمفهوم المجتمع المنفتح لوجدنا أنه يحوي عناصر نظرية وأخلاقية براغماتية تركبت على نحو شد الصرامة. لذا فإنَّ تجربة بوبر في فقه الظاهرات الاجتماعية إنما تنطلق من موقف سياسي وأخلاقي واضح في دفاعه عن الديمقراطية الليبرالية واعتصامه في ضمن

ص: 508

دائرة القيم الفردية، ومع ذلك فهو بمجرد أن يمضي في مواجهة محيطات الواقع التاريخي حتى يعود إلى الاعتراف بالدور الحاسم للمؤسسة الاجتماعية الحاكمة، وتحديداً بدور وهمة الدولة في ضبط الروح العام للمجتمع المنفتح. وهو في ذلك ما يوحي بشيء من التناقض والتباين في موقفه الفلسفي. وهو أمر سوف نقع على تمثلاته الجلية فيما بعد. أي في الكيفية التي اتبعها العقل الغربي، والعقل الأميركي على وجه الخصوص في ما يمكن وصفه بأخلاقيات الهيمنة.

- المذهب الحَفْري (الأركيولوجي): في مرحلة متأخرة من رحلة العقل الفلسفي الغربي سيكون لتأويل الأخلاق بعد مختلف. علماً أنَّ عمليات التأويل التي سنأتي عليها بعد قليل لم تغادر مؤشّرات ما سبقها. إحدى أبرز محطات هذه الرحلة كانت مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. ولعلَّ كتابه «تاريخ الجنسانية» المؤلف من ثلاثة أطوار، سيعدُّه النقّاد، الوعاء الذي يحوي في طيَّاته فلسفته الأخلاقية. والسؤال الذي نواجهه هنا هو الآتي : أية أخلاق تلك التي تقرّب إليها فوكو في تاريخ الجنسانية»؟

هناك من قدَّم الإجابة تبعاً لقراءته للقصد «الفوكوي» فوجد أولاً أنَّ الأخلاق في هذا الحقل تريد أن تتجاوز كل الأدبيات الفلسفية التي تُطرح عادة تحت هذا .العنوان وأول ما يفعله فوكو هو تأكيد الفصل بين الأخلاق(La Morale) وبين الإتيكا (Lathique). وهذا الفصل يميّز بين الأخلاق باعتبارها منظومة القيم والأوامر والنواهي التي تنتصب في مستوى الشخصية القمعية للمجتمع، وبين سلوك الأفراد الذي لا يمكن اعتباره مقدماً أنه مندمج في الأخلاق أو خارجي عنها. إذ يبقى السلوك هو أقرب إلى أصحابه ومنفذيه، من كل ما يمكن أن يضاف إليه قسراً أو طوعاً من الأوامر والنواهي. فالأركيولوجي لا يهمه منظومة الأخلاق من حيث هي مؤسسة اجتماعية أو دينية أو تاريخية، ولكنه يتوجه إلى سلوك الأفراد الفعلي تجاه ذواتهم أولاً. وهو ما يسميه فوكو بتقنيات ممارسة الذات، يجعلها تكون بالنسبة للخارج كثنية موجة في خضم العالم، كما يقول /دولوز/، بحيث تكون هي الداخل في الخارج، وهي الخارج في الداخل. وسيبدو تأويل فوكو لافتاً لتلك «الممارسة الذاتية»، غذ سيظهر لنا أن نظريته تلك ناتجة عن اختبار ومعاينة أكثر مما هي معرفة ذهنية مجردة.

ص: 509

فحين سُئل فوكو من قبل شارحيه الأميركيين عن فلسفته، دريفوس / و /رابينوف، ماذا سيكتب بعد الانتهاء من شرح تاريخ الجنسانية، أجاب الفيلسوف فوراً سأهتم بذاتي.. وبالطبع فليس معنى ذلك أنَّ فوكو أجل الاهتمام بذاته إلى ما بعد الانتهاء من مشاريعه الفلسفية الكبرى، كما أجل الكتابة في إتيكا الذات. فلقد كان الانشغال الذاتي - بالذات هو عنوان الهمّ الفوكوي الفلسفي، والفردي الخاص به في آن، منذ البداية. وهو منذ «تاريخ الجنون» و «مولد العيادة» وصولاً إلى «الكلمات والأشياء» و«المراقبة والمعاقبة» كان محور تفكيره هو التحفير العميق الشامل عما يقع على الذات من تقنيات الخارج الذي يمنع ولوج الذات كداخل إليه، وصولاً في النتيجة إلى اكتشاف النقلة المختلفة التي تشكلها الذات إزاء ذاتها، ليس بمعزل عن هذا الخارج نفسه، ولكن في صميمه، وفي طريقة اختراقه، وجعله يقبل كذلك بخارجيتها المختلفة وسط خضمه(1).

في مناقشته لحداثة التنوير التي جرت تحت السؤال نفسه الذي طرحه كانط «ما الأنوار؟» بعود فوكو ليمارس عملية أركيولوجية هي موجودة أصلاً في قلب الإشكال الكانطي. كما لو أنَّه يريد أن يعمقه أو يؤوّله على طريقته. وها هو يقول: يبدو لي أننا لم نعرف قبل اليوم فيلسوفاً مثل كانط في نصه هذا (المقصود نص كانط في «الأنوار»)حيث ربط بإحكام ومن الداخل معنى تأليفه بالمعرفة، وجمع التفكير حول للخطة الفريدة التي يكتب فيها وعنها: يبدو لي التفكير

التاريخ بتحليل خصوصي بالراهن - والكلام لفوكو - بوصفه اختلافاً في التاريخ وسبباً لمهمة فلسفية خصوصية، بمثابة العامل الجديد في هذا النص . وفي ضمن هذا المنظور يرى فوكو أنه وجد نقطة انطلاق نحو ما يسميه موقف الحداثة. ويتساءل فوكو بالاستناد إلى نص كانط عما إذا كان ممكناً تصور الحداثة على أنها موقف أكثر من كونها مرحلة من التاريخ (...) ويقول : إننا نتحدث غالباً الحداثة بوصفها سمة عهد، أو مجموعة عن الصفات من المميّزة لعهد ما ونثبتها على هذه الصورة في روزنامة تكون فيها مسبوقة بما قبل الحداثة، شبه الساذجة أو البدائية، ومتبوعة ب- «ما بعد حداثة مريبة وملتبسة.. وأعرف

ص: 510


1- مطاع صفدي - إتيكا فن الوجود - الفكر العربي المعاصر - العدد السابع - صيف 1989.

إننا نتساءل عندها إذا كانت الحداثة تشكل تتمة «الأنوار» أو تطورها، أو أنها قطيعة أو انحراف بالنسبة إلى المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر.

غير أنَّ الاستفهام الأكثر مرارة لدى فوكو هو ذاك الذي لاحظناه في نهاية مقالته حين يصرح: «لا أعرف إذا كنا سنصبح راشدين ذات يوم أشياء عدة في تجربتنا تؤكد لنا أن حدث «الأنوار» التاريخي لم يجعل منا ،راشدين، وإننا لم نصبح كذلك بعد؟!(1).

هل نقدر أن نرى إلى مرارة الإستفهام الفوكوي هذا على أنه ضرب من مقاربة أخلاقية لتهافت الحداثة الغربية بعد نحو ثلاثة قرون على «الأنوار»؟

غالب الظن أنَّ المسألة بالنسبة إلى فوكو مضت في مسارها الحفري / المعرفي على نحو لا ينأى عن سؤال الأخلاق بوصفه سؤالاً فلسفياً بامتياز.

جداليات الأخلاق التواصلية

تميز السجال الفلسفي في الغرب ابتداءً من النصف الثاني للقرن العشرين بإعادة الاعتبار لسؤال الأخلاق كأحد أهم الأسئلة الأنطولوجية. فلقد صار من المؤكد بالنسبة للنخب ومؤسسات الفكر والمجتمع المدني أن مجتمعاً لا يستطيع أن يرضي رغبة الفضيلة في الطبيعة البشرية، ليس مجتمعاً عقلانياً. إنَّه فقط أحد الأنظمة المتحيّزة بحسب توصيف أرسطو، والذي يمكن أن يسقط عاجلاً أم آجلاً، عندما تجد الفئة المظلومة الفرصة المناسبة لذلك.

جرى هذا القول مجرى نقد الحداثة التي اتخذت من العقلانية المجردة سبيلاً أوحد لها لتثبت أقدامها وتسود. وسيأتي في الغرب من يستعيد ثالوث الإستفهام الكانطي ويؤوله على طريقته بوصفه ثالوثاً لا يخص عقلانية الغرب وحسب، بل يمتد إلى العقل الإنساني في شموله الكوني: ماذا يمكن لنا أن نعرف؟ وماذا نعمل كي نحقق المعرفة، أي كيف نعرف؟ وما الذي يمكننا أن نرجوه كي نعرف؟... وهنا تتواصل الحلقات الثلاث في السعي نحو أي مشروع يرنو لتأسيس عقلاني تواصلي:

ص: 511


1- المصدر نفسه - ص 179 - 182.

النظري، والعملي، والعملي النظري؛ فننتقل بذلك من حيّز الفهم والتحليل الواصف، إلى البحث في ذات الحدث المعرفي، أي تفكيك العقل من الداخل.

على هذا الوجه سنرى كيف أنَّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس(1)ركّز ضمن طموحه في تأسيس نظرية معيارية للحداثة، على أربعة أسس نظرية لبلورة تصوره النقدي للمعرفة وللمجتمع وهي نظرية العقلنة، ونظرية النشاط التواصلي، وجدل العقلنة الإجتماعي، ونظرية المجتمع التي تجمع بين الإهتمام بقضايا الممارسة وباعتبارات النظام. ومن أجل صياغة كل هذه المفاصل النظرية عمل هابرماس على التقاط مختلف الانفتاحات النظرية والفكرية التي سمحت له ببلورة أسئلته وبتعميق تحليلاته للكشف عن الآليات المختلفة المنتجة للظواهر المرضية للحداثة. فنقد الاستلاب والتشيؤ كما عند أدورنو ولوكاش من خلال نقد العقلانية الأداتية أدى إلى ملامسة ما سماه ب- «الإستعمار الداخلي» للعالم المعيش الذي تفرضه عمليات العقلنة على العلاقات وأشكال التبادل(2)وبالرغم من كلَّ ذلك فإنَّ هابرماس لم يُرد أن يتخذ من سلبيات العقلانية الأداتية ذريعة لترك مشروع الحداثة، بل إنَّه يلح على موضعة فكره في سياق تطورها وتحولها، ولكن بشرط الانتقال من المجال المعرفي لفلسفة الوعي إلى بنية الفلسفة التواصلية من دون القفز إلى مرحلة ما يُسمَّى بما بعد الحداثة، أو التشبث بالمواقف المضادة للحداثة. لأنَّ همه المركزي تمثل في إعادة تنشيط الطاقة النقدية للعقل الأنواري، من خلال إبراز المضمون المعياري لفكرة التفاهم الموجودة في مختلف اللغات، وأشكال التواصل.

كيف صيغت الأخلاق التواصلية بالترابط الحميم مع العقلانية لكي تتم إعادة تشكيل الحداثة بعيداً عن التشيؤ والاستلاب؟

سنلاحظ بداية أن احتمال الهيمنة داخل مجتمع معقلن يمكن تجنبه، في نظر هابرماس، وذلك باحترام معايير محددة تسترشد بما يسميه ب- «أخلاق التواصل» لأنَّها

ص: 512


1- راجع «ما هي الأنوار» - مصدر سبقت الإشارة إليه ص (71).
2- Habermas (J): La technique et la Science Comme Ideologi, op. cit. pp 88-89.

تقدم وجهة نظر نقدية لمختلف وجهات النظر المعرفية للسياسة (...) ففي هذه الحالة تتدخل أخلاق التواصل لتأسيس وجهة نظر نقدية لا تعطي الأهمية، فقط للمنطلقات المنهجية أو للمنطق المحرك للموقف المعرفي، بل تهتم كذلك بالصيرورة الإيديولوجية. أي إِنَّ هذه الأخلاق تعترف لكل مجال بقدرته على التبرير والتفسير داخل حدود مجاله الخاص، من دون أن تسمح له بادعاء التعميم انطلاقاً من المقدمات والنتائج والأحكام التي تنتجها ممارسته المعرفية على موضوعاته الخاصة (...) فالأخلاق التواصلية، عند هابرماس، هي التي تخلق إطاراً عقلانياً للتفاهم بين مختلف مجالات المعرفة، وللتفاوض بين المصالح المتعددة، وذلك كله بالتأكيد على العلاقة الضرورية بين العقلانية السياسية والشرعية الديمقراطية، والتساؤل الدائم عن شروط الاتفاق بین ما هو ضروري عملياً وما هو ممكن موضوعياً(1).

إنَّ ما يمكن النظر إليه بوصفه استراتيجيا أخلاقية هو لأجل إعادة تصويب حركية العقل، حيث ظهرت هذه الحركية في المراحل المتقدّمة لصعود الحداثة كما لو أنَّها سخّرت للاستلاب المحض. ربما بدا المجهود النظري الذي بذله هابرماس منذ النصف الثاني للقرن العشرين وكأنه محاولة فلسفية تتوخى إقامة الحد على ظاهرة اختزال العقل التي امتلأت بها الأحياز المختلفة للحداثة الغربية. إنَّ محاولة هابرماس وسواها من المحاولات المتأخرة في الفلسفة الغربية سعت إلى الكشف عن العقل المرتبط والملازم للممارسة التواصلية اليومية، وفي إعادة بناء مفهوم غير اختزالي للعقل . وذلك اعتماداً على قاعدة صلاحية الخطاب. لا سيما وإنَّ العقلانية الغربية تعطي أولوية استثنائية للعقل الغائي وللممارسات التي تستهدف تحقيق مصالح وغايات معينة. ولأجل ذلك فهي تدمج أكثر من وساطة، وعلى رأسها المال والسلطة لضمان التوازن الاجتماعي الذي يسمح بمبادرات تدخل في سياق النشاط الأداتي أو الاستراتيجي.

في هذا المدلول يبدو العقل التواصلي ضرباً من كانطية متجددة ولكن بلغة ما بعد

ص: 513


1- محمد نور الدين أفاية - الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة - نموذج ها بر ماس - دار أفريقيا الشرق - الرباط - الطبعة الثانية - ص 167 .

حداثية. فالعقل التواصلي هو روح العقل العملي لجهة تلازمه التكويني مع الأخلاق. ذلك أنَّ الفلسفة الألمانية في ما بعد الحداثة انبرت إلى توكيد العقل التواصلي «كصيغة تركيبية لقضية الحداثة الغربية والعقلانية، سواء في تعبيرها الأنواري أو في تمظهراتها النقدية. صحيح إنَّ فكر الأنوار يؤكد على عنصر إنَّ فكر الأنوار يؤكد على عنصر النقد في دعوته العقلانية، لكن تطورات المجتمعات الصناعية وتطبيقات العقلانية، التي لا تكف عن التجدد والتبدل، جعل الفكر الأنواري يستنفد طاقاته المفاهيمية من جهة، فيما تحول بشكل من الأشكال إلى خطاب يضفي المشروعية على المجتمع الحديث من جهة أخرى(1).

إنّ العقلانية التواصلية التي ستجد في القيمة الأخلاقية أساساً لها،هي المقابل الفلسفي للعقلانية الأداتية، مع أنَّ الأخيرة ستفلح بالسيطرة على عالم ما بعد الحداثة في الغرب. لكن العقلانية الأداتية التي أنتجت عالماً موجهاً من طرف إدارة صارمة إلى درجة الرعب كما يقول أدورنو، ستكون موضع نقد لا هوادة فيه فيما كان العالم يتجه بخطى حثيثة نحو نهاية القرن العشرين.

العقل الأخلاقي الغربي منقوداً

سوف تنمو لدى الأنتلجنسيا الفكرية والفلسفية في الغرب الراهن ما يمكن اعتباره فلسفة أخلاقية نقدية. من مبادئها أنَّ الفلسفة وهي تقترح قواعد عامة للسلوك، أو تقدم نظريات عن العالم، فلا بد من أن يكون لها وجهة دينية. فيحتاج الدين لعقلانية الفلسفة. ومن جهتها لا تتجاهل الفلسفة مشكلات الدين. ولقد كانت اهتمامات كانط التأسيسية في السؤالين الأشهرين ماذا أعرف؟ وماذا علي أن أسلك، ذات قيمة دينية لا تقل عن قيمتها الفلسفية. فتسأل عن كيف يرتبط الإنسان بحاجاته، وعن الذي يوجد في الأشياء ويتحقق في أفكارنا.

لكن الأخلاقية الحقيقية بحسب المفكر الأميركي جون بانيس هي أكثر من قواعد للسلوك في مجتمع ما. لأنَّ هذه القواعد يمكن أن تختلف كلياً باختلاف الجماعات.

ص: 514


1- المصدر نفسه - ص 209.

فالأخلاقية تقضي باحترام نظام الكون الذي فرضه «اللوغوس»، الفيض المقدس الذي يحافظ على بنيان الكون ونظامه. وبما أنّه ما من شيء يمكن أن يوجد خارج «اللوغوس» فنحن أيضاً جزء منه، حتى أنه يجب أن نحترم دستوره الذي هو واحد لكافة اشكال الحياة وحتى للأشياء غير الحيّة(1).

منذ كانط إلى الكلام اللاحق على الحداثة البعدية، أو ما سمي «ما بعد الحداثة» مرَّت ثلاثة قرون أو نحوها في هذه الأثناء لم ينفك سؤال الإنسان عن كونه السؤال الفلسفي الذي تدور حوله أسئلة الوجود كلها. لكن هذا السؤال سوف يستدعي سؤال الأخلاق كسؤال متعلّق به تعلقاً سنخياً. بل هو عين الأول، وتجلٌ له. تماماً كما هو شأن العقل كمائز للإنسان، وإن ذهب فلاسفة محدثون إلى تقديم العقل على الأخلاق تقديماً لم يدركوا أنهم بهذا إنما ينزعون من الكائن البشري ما هو من تكوين ذاته وطبيعته.

لقد بدا واضحاً في الرؤيات الجديدة لسؤال العقل / الأخلاق في الغرب أن مقولة «كل ما هو عقلي هو واقعي» ليست إلا واحدة من القواعد التي أسست للاستلاب. وهي بهذا جعلت الإنسان حيواناً سياسياً بامتياز، إذ دفعت به إلى الحد الذي لا يرى نفسه إلا في مرآة سلطانها. والذين وضعوا هذه المقولة في سياق الزمان الواقعي كانوا على يقين بأنَّهم إنما فعلوا ذلك ليبينوا أنَّ الأطروحة الأخلاقية التي حملتها الفلسفة الألمانية على أجنحة اللاهوت الديني إن هي إلا سراب لا يلوي على شيء. كان التنظير الذي أراد أن يُسقط الأخلاق من عليائها الأرضي، يستهدف أصلاً كل ما له صلة بالدين والميتافيزيقا. قالوا إنَّ الأخلاق والدين هما شكل من أشكال الإيديولوجيا الهائمة خارج دائرة الواقع. وإنَّ الكائن هو نتاج التاريخ، وإن انتظم الأمر في نطاق الديالكتيك الذي يبين أنَّ الوعي ليس فليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي»..

هذا هو وهو أمر جعل الكلاسيكيات الفلسفية للماركسية تصب نقداً لا هوادة فيه

ص: 515


1- جون بانيس - أسس التعامل الأخلاقي للقرن الحادي والعشرين - ترجمة أحمد رمو - دار علاء الدين - دمشق - 2002 - ص 73 .

على الفلسفة الألمانية. فلم ترَ فيها إلا إيديولوجيا واغتراب كونها خاضعة من حيث تكوينها وتطورها لهيمنة التصورات التي وفّرها لها اللاهوت الديني.

لقد أرادت المادية الديالكتكية أن تدفع عن الإنسان الاستلاب الذي أطلقته حركة الحداثة وتقنياتها، فإذا بها تدفعه نحو استلاب من نوع آخر منذ تلك اللحظة التي أمسكت فيها بناصية الحركة التاريخية بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين بأكمله.

ولم يكن افتتاح الألفية الثالثة ليجيء بما يبدل من روح التساوي الحاد في مقولة العقلي / الواقعي. فلقد أظهر المشهد العام كل ما يمت بصلة إلى النهايات والبدايات فی آن. كان ثمة نهاية مدوية للسجال الإيديولوجي في حداثة الغرب المتأخرة. ليبتدئ ضرب جديد من «المواج الإيديولوجي» تولّت الليبرالية المابعد حداثية رسم أحداثه وأجناسه وفصوله عبر الآليات الهائلة لثورة الاتصال وما توصل إليه الذكاء الخارق للزمن التكنو إلكتروني المعولم.

كانط حاضرة

لقد أخذ السجال في العقلاني والأخلاقي مناحي أوثق تواصلية مما سبق . فالنظام الإجمالي للقيم (القوانين - الدولة - مبدأ السيادة - المجتمع المدني - الفرد الخ) هو الذي سيعين اتجاهات السلوك العام. وهبطت مقولتا الخير والشر من عليائها النظري البحت إلى حقل الاختبار الإنساني الحي والسيَّال. وهكذا فبإزاء الاجتياح الهائل للعقلانية الصارمة، كان ثمة ما يُظهر الحاجة إلى أخلاقية حقانية وعقلانية في آن، تعيد التوازن إلى النظام المهزوز في الاجتماع البشري. لقد كانت روح في السجال المتأخر خصوصاً لجهة إحياء البعد الأخلاقي لعالم الحداثة البعدية وبث الروح فيها. كان الحضور واجباً وبديهياً أيضاً حين بلغت العقلانية وهي تقود مجتمعاتها، ذروة الشغف اللاهث نحو السيطرة. وكذلك حين تركت الإنسان هائماً على وجهه في صحراء الغربة والسأم. فعلى هذا النحو لم يكن إعلان موت الإنسان إلا المنجز المأساوي الأشد استغراقاً في التشاؤم والعدمية.

ص: 516

كتابه «سؤال الأخلاق» والذي يعد بحق علامة فارقة سيشار إليها فی فلسفة الأخلاق - ينقد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحداثة الغربية ويبين نقطة إشكالية مهمة في الحدود الفاصلة والجامعة بين العقل والأخلاق وأيهما أخص بالنسبة للإنسان. يبدأ بالرد على القائلين بأنَّ «ميزة العقل الإنساني أنه لا يملك اليقين بنفع لا ضرر فيه، ولا بصواب لا خطأ معه» فيرى أنَّ هذه الدعوة «لا تصدق إلا على القوة العقلية من قوى الإنسان التي هي من جنس قوة الإدراك التي تتمتّع بها البهيمة. فمعلوم - كما يقول - أنَّ البهيمة لا تهتدي إلى أغراضها إلا بعد محاولات متتالية تخطئ فيها أكثر مما تصيب. وحتى إذا أصابت، فلا تضمن لنفسها أنها لا تعود إلى الخطأ مرة ثانية. وكذلك الإنسان في ممارسته لعقله على مقتضى التصور المذكور؛ بل ما المانع من أن نسمّي القوة الإدراكية الخاصة بالبهائم هي الأخرى عقلاً ! فإنها لیست تختلف عن قوة الإدراك عند الإنسان إلا في الدرجة ؛ وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن لا تكون العقلانية - كما هي في تصور بعضهم - هي الصفة التي يتفرد بها الإنسان وتميّزه عن البهيمة؛ فكلا الإنسان والحيوان لا يقين له فيما أصاب فيه، بل تكون، على العكس من ذلك، هي الصفة التي تجمع بينهما؛ وبهذا يقع هؤلاء هم أنفسهم في الخطأ من حيث أرادوا الصواب، آتين مرة أخرى على غفلة منهم بنقيض مقصودهم، فقد أرادوا أن يرفعوا رتبة الإنسان، فإذا بهم يُنزلونه رتبةٌ دونها.

وإذا بطل أن تكون العقلانية هي الحد الفاصل بين الإنسانية والبهيمة، وجب أن يوجد هذا الحد الفاصل في شيء لا ينقلب بالضرر على الإنسان من حيث أراد الصلاح والفلاح في الملآل، ولا يقع الشك في نفعه متى تقرر الأخذ به ولا به ولا في حصول الضرر متى تقرر تركه وليس هذا الشيء إلا مبدأ طلب الصلاح نفسه، وهو الذي نسميه باسم «الأخلاقية»؛ فالأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلاً عن أفق البهيمة؛ فلا مراء في أنَّ البهيمة لا تسعى إلى الصلاح في سلوكها كما تسعى إلى رزقها مستعملة في ذلك عقلها ؛ فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك ، والعقلانية التي تستحق أن تُنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي.

ص: 517

ويمضي طه عبد الرحمن في الشطر الأول من رحلته النقدية في كتاب سؤال الأخلاق، مظهراً الالتباسات التي غشيت أعمال دعاة العقلانية والمحدثين. حيث ظنَّ هؤلاء أن العقلانية واحدة لا ثانية لها وإنَّ الإنسان يختص بها بوجه لا يشاركه فيه غيره. وعبد الرحمن يخالف أصحاب هذا الظن بملاحظة أنَّ العقلانية تقوم على قسمين كبيرين: فهناك العقلانية المجرَّدة من «الأخلاقية»، وهذه يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسدَّدة بالأخلاقية، وهي التي يختص بها من دون سواه؛ وخطأ المحدثين أنَّهم حملوا العقلانية على المعنى الأول وخصوا بها الإنسان؛ ولا يصح أن يُستدرك علينا، فيقال بأنَّ العقلانية التي يختص بها الإنسان على نوعين: «العقلانية النظرية» التي لا أخلاق فيها و «العقلانية العملية» التي تنبني على الأخلاق؛ ذلك لأنَّ الأولى - أي العقلانية النظرية - إن أمكن وجودها، فلا يمكن أن يتفرد بها الإنسان ككما تبين؛ أما الثانية - أي العقلانية العملية، فإنَّه، إن جاز أن يتفرد بها الإنسان، فلا يجوز أن تكون الأولى أصلاً لها ولا حتى أن تكون في رتبتها كما يُظَن؛ والصواب أنَّ الأخلاقية هي ما به يكون الإنسان إنساناً، وليست العقلانية كما انغرس في النفوس منذ قرون بعيدة؛ لذا ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل من الأفعال التي يأتيها الإنسان، مهما كان متغلغلاً في التجريد، بل تكون هذه الأفعال متساوية في نسبتها إلى هذه الأخلاقية، حتى إنَّه لا فرق في ذلك بين فعل تأمُّلي مجرَّد وفعل سلوكي مجسّد(1).

حداثة المابعد: اللاديني لا أخلاقي

لم يغادر النقاش الفلسفي الذي شهدته الحداثة الغربية المتأخرة ثالوث العقل - الدين - الأخلاق. ذلك على الرغم مما ألقت به الثورة التكنو - الكترونية من حُجب لا حصر لها على فضاءات النقاش. قد يكون العكس تماماً هو الذي حدث بالفعل. أي إنَّ هذه الثورة بتظاهراتها المختلفة شديدة التنوّع ، وصولاً إلى الثورة الرقمية والمعلوماتية كتجلَّ أخير لها، سوف تضاعف من الحاجة لاستحضار سؤال الأخلاق والدين ناهيك عن سؤال العقل. وإذا كان لنا أن نلاحظ مناحي واتجاهات حركة

ص: 518


1- طه عبد الرحمن - سؤال الأخلاق - مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية - المركز الثقافي العربي - بيروت - الرباط - ط 20011 - ص 13 - 14.

التفلسف في الغرب الآن، فسنجد إلى أي مدى يظهر الديني كعامل مؤثر في الظواهر ذات المنشأ الفلسفي. كان العالم الروسي نيقولا برديائيف يقول «إنَّ لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينياً، وظل يميل إلى الاعتقاد، حتى في ذروة شيوع النزعات الفلسفية الإلحادية، إنَّ الفلسفة الحديثة عامة، والفلسفة الألمانية خاصة هي أشد مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط، وذلك بسبب موضوعاتها الرئيسية وطبيعة تفكيرها . فلقد نفذت المسيحية - بحسب برديائيف - إلى ماهية الفكر نفسه من فجر العصور الحديثة(1).

لا بل حتى أولئك الذين يوصفون بالتيار الفلسفي المادي أكدوا على ضرورة الدين باعتباره وظيفة أبدية للروح الإنساني، وإنَّه يجب على الفلسفة نفسها أن تدخل حظيرة الدين وأن تجعله محوراً لها.

الأهم من ذلك أنَّ الاستعادة الحداثية لمفهوم الأخلاق بما هو نأي عن الشر ونزوع إلى الخير، بل للأخلاق الكانطية المسيحية تعييناً ، إنما هي استعادة من باب الوجوب . ثمة في الغرب اليوم، بل ومنذ بضعة عقود إرهاصات ذات حرارة مرتفعة تدعو إلى مراجعة شاملة للعقلانية كمفهوم وكنمط حياة في آن.

في رؤياه النقدية لأخلاق الحداثة الغربية سيلاحظ طه عبد الرحمن - في كتابه الذي أتينا عليه قبل قليل - مَدَيات التهافت التي عصفت بالحداثة فوجد أنَّ الحضارة الغربية الحديثة التي هي حضارة «اللوغوس» أو حضارة العقل، هي حضارة ذات وجهين: عقلي وقولي وذات شقين: معرفي وتقني، وكيف أنَّ هذين الوجهين وذينك الشقين، وإن قصدا تلبية حاجات الإنسان المختلفة والمتزايدة، فإنهما يضران بأخلاقيته بقدر يهددا إنسانيته؛ فالوجه العقلي من هذه الحضارة يقطع عنه اسباب الترقي في مراتب الأخلاق، والوجه القولي يضيّق نطاقها ويجمد حركتها ويُنقص من شأنها، والشق المعرفي يخرجها من الممارسة العلمية ويفصلها عن المعاني الروحية، والشق التقني يعمل على استبعادها والاستحواذ عليها كما يحرص على أن يستبدل بها غيرها؛ وما ذاك إلا لأنَّ هذه الحضارة

ص: 519


1- N. Berdyaer: The Russian Revolution، the Uni، of Michigan press، 1961 pp. 11- 12.

حضارة ناقصة عقلاً وظالمة قولاً ومتأزمة معرفة ومتسلطة تقنية. وفي السياق نفسه يستطرد عبد الرحمن ليظهر أنَّ حاجة المفكر المسلم إلى أن يتأمل في الممارسة الأخلاقية لهي أشد منها في أي وقت مضى، وهو يضع لهذه الحاجة اعتبارات ثلاثة:

أحدها، أنَّ الآفات التي تحملها حضارة «اللوغوس» إلى الإنسان،وهي ، كما ذُكر، أربعة أساسية: «النقص» و «الظلم» و «التأزم» و «التسلط»، التي تُؤذي الإنسان في صميم وجوده الأخلاقي بما ييأس معه من الصلاح في حاله والفلاح في مآله، لا يمكن أن يخرج منها أهلها بمجرد تصحيحات وتعديلات يُدخلونها على هذا الجانب أو ذاك من هذه الحضارة المتكاثرة، نظراً لأنَّ هذه التقويمات المحدودة ليست في قوة هذه الآفات الشاملة، حتى تقدر على محو آثارها وسوءاتها الأخلاقية؛ ولا أدل على ذلك من أنهم لا يكادون يفرغون من إجراء هذه الإصلاحات أو تلك حتى تظهر لهم من تحتها إفسادات أتوها من حيث لا يشعرون، فيقومون إلى إصلاحها، فيجدون مرة أخرى من الإفساد ما وجدوا من ذي قبل، وهكذا من غير انقطاع؛ وهذا يعني أنَّ أخلاق السطح لا تنفع في الخروج من آفات العمق، بل لا بد في ذلك من طلب أخلاق العمق، وهذه، على خلاف الأخرى، تدعونا إلى الشروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها ل- «اللوغوس»، وإنما يكون فيها ل- «الإيتوس» (أي الخُلُق)، بحيث تتحدّد فيها حقيقة الإنسان، لا بعقله أو بقوله، وإنما بخُلُقه أو فعله؛ فلا مناص إذن من أن نهيئ الإنسان لحضارة «الإيتوس»، متى أردنا أن يصلح في العاجل ويُفلح في الآجل.

والاعتبار الثاني، أنَّ العالم، بلا شك، مقبل على تحول أخلاقي عميق في ظل ما يشهده من تحولات متلاحقة في جميع مناحي الفردية وميادين الحياة المجتمعية؛ وإذا كان لا بد لهذه التحولات المختلفة من أن تُفرز قيماً ومبادئ ومعايير أخلاقية جديدة، فلا يبعد أن يلجأ سادة هذا العالم إلى وضع نظام أخلاقي عالمي جديد كما هو شأنهم مع النظام التجاري العالمي، وإن كان هذا النظام الأخلاقي الجديد قد لا يرى النور إلا بعد الفراغ من وضع سلسلة من أنظمة عالمية متعددة أخرى: اقتصادية وسياسية وعسكرية وإعلامية وثقافية؛ ومرد هذا التأخير إلى سيادة تصور للأخلاق يجعلها تابعة ولاحقة لهذه الأنظمة الأخرى، لا متبوعة وسابقة عليها.

ص: 520

والاعتبار الثالث، أنَّ هناك غياباً كلياً للمساعي التي تعمل على تجديد النظر في الأخلاق الإسلامية بما يجعل هذا النظر يضاهي الفلسفات الأخلاقية الغربية الحديثة، ولا بالأولى يجعله يواجه التحدي الأخلاقي المقبل؛ وهذا الغياب المؤسف لن يزيد المسلمين إلا تضعضعاً في مركزهم، ولا سيما أنهم لا يملكون، على ما يبدو في الأفق القريب، إلا ما انطوى عليه الإسلام من القيم الأخلاقية والمعاني الروحية لتثبيت وجودهم وقول كلمتهم في الحضارة العالمية المنتظرة(1).

ما لا يُشك فيه أنَّ الاعتبارات التي وضعها طه عبد الرحمن وهو يتقصى مسار التحولات في العقل الأخلاقي الغربي تفضي إلى ضرب من التواصل والتأثير على البنية الأخلاقية للمجتمعات العربية والإسلامية وتلك مسألة سيكون لها مجال مخصوص من النقاش. مع هذا فإنَّ ما يتولاه بحثنا هذا في تحولات الفكر الأخلاقي الغربي قد يؤدي مساحة لا بأس بها من المهمة اللاحقة.

عقلانية التنوير: أثر بعد عين

لقد مضى زمن مديد بدا أنَّ اللحظة لم تَحِنْ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. ثمة من يزعم، وفي زعمه اقتراب من حقيقة المشهد في الغرب، إنَّ الحداثة وهي تنجز آخر تقنياتها لا تنفك تستغرق في غفلتها التي أدَّت بها إليها عقلانيتها ذات البعد الواحد. لم تعد العقلانية - كما حملت في نصوص التنوير الغربي - صالحة على ما يظهر - للإحاطة بما صار يعرف اليوم ب- «ما بعد الحداثة. كذلك فإنَّ العقلانية التي نذرت نفسها لاستنقاذ التاريخ من بدائيته، وأوهامه، وفوضاه، دخلت في ما ينافي قيمتها الأصلية. حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها عن طريقة فضلى لسيادة العقل، ما فتى أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابياً في ما يقدمه المشهد العالمي من تغييب لأحكام العقل وقوانينه. كأنما انقلبت هي أيضاً على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تإليه» الإنسان.

ص: 521


1- طه عبد الرحمن - سؤال الأخلاق - مصدر سبق ذكره - ص 145

استهلت العقلانية بيانها في ما أملته عليها حاجتها إلى الوثوب والترقي. فكان عليها أن تتوسل الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان وأن تؤكد وجوب أن يغادر العالم فضاء الوعي الإيديولوجي بما هو - على ما رَوَتْ - فضاء مكتظ بالأوهام، إلى رحاب الوعي العقلاني. غير أنَّ السيرورة التي حكمت العالم على امتداد ثلاثة قرون انتهت إلى منعطفات تراجيدية، وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين والحروب المتفرقة الكبرى والصغرى في نصفه الثاني، بمثابة علامات حاسمة في التحول النهائي في اتجاه اللاعقلانية الجائرة.

أما علامة التحوُّل الكبرى فهي تلك التي انتهت إليها العقود الخمسة من الحرب الباردة. ما رتبت انهيار منظومة تاريخية كاملة من ثوابت الفهم، وأنظمة القيم، وعلاقات القوة، في العالم كله. ربما كانت الحرب الباردة تحصيل هادئ للعقلانية، عندما أرادت أن تستريح من تمجيدها للعنف. إلا أنها ما كانت لتجنح إلى مثل هذه المسالمة الماكرة، لولا أن انضبط العالم بتوازن مثير للهلع.. وإلا لكان استأنف الغرب السياسي هذيانه العنيف، ومشى بخيلاء نادر خلف العقل الهيغلي، مطمئناً لفلسفة القوة، بوصفها علة التاريخ، وسبب اشتغال العقل وسلواه. سنلاحظ أنَّ هذه الفلسفة (فلسفة هيغل) «تميل إلى تشبيه مدار التاريخ، أي مدار الروح، بمدار الشمس. كانت تقول بأنه إذا كان نور الشمس يسير من الشرق إلى الغرب، فإنّ ضوء العقل يتحرك في الوجهة نفسها، ذلك أنَّ آسيا هي بداية مسار العقل، أي البداية المطلقة للتاريخ، وأوروبا هي الغرب الفاصل أو نهاية التاريخ».

جرى هذا التنظير الفلسفي مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحياً» لحملات القوة، وسوّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً ممتداً لم تنته أحقابه بعد. لقد اعتبرت عقلانية التنوير أنها هي نفسها التاريخ، وهي نفسها البديل للزمان اللاعقلاني الذي استولد جهالة القرون الوسطى تحت تأثير المؤسسة المسيحية. ومعها أصبح زمن الإنسان أدنى إلى صحراء تيه لجهة كونه مجرد ما يدونه الإنسان عن تفوقه وقسوته وفعاليته وجبروته. أي كل ما يكتبه، أو يروي تقدمه. ولذلك فليس

ص: 522

من قبيل التجريد أن يستنتج ايديولوجيو العقلانية الغربية - الأميركية - تعييناً، «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوى متعال فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاعقلانية، بينما هم يدخلون الألف الثالث على حصان التهديد النووي واحتكار السيطرة المطلقة على العالم . إِنَّ الخط الذي انتهت إليه العقلانية الحديثة من خلال - مطابقة العقل الكوني الإنساني بين الواقع والمعقول، أي إضفاء العقلانية على المعقول بدلاً من عقلنته - قد دفعت به إلى أن يقبل كشيء معقول عدداً من مظاهر الاستلاب الإنساني، لم يعد العقل مجسداً فى الأفعال والأنظمة والعلاقات البشرية، أو أن يسعى إلى البحث عما يحرّر من الاستلاب، بل أصبح يبرر أنواع الاستلاب الموجود. وبدا بوضوح أنَّ ضغط الواقع القائم في المجتمع الإنساني المعاصر قد دفع إلى أن يتراجع خطوات إلى الوراء عمّا كان قد أعلن عنه كغاية له في لحظة انبثاقه، وفي مراحل تطوره الأساسية. لم تعد غاية العقل هي الكشف عن جوانب اللامعقول في الواقع، بل غدت هي البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها اعتبار ذلك الواقع مطابقاً للمعقول. لم تعد الغاية هي التجاوز والتنوير والتغيير، بل أصبحت هي التبرير بعينه. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجهاً للواقع المعاصر له، أصبح خاضعاً لهذا الواقع ...(1)».

«عقلنة»لا عقلانية الهيمنة

تعبر اللاعقلانية عن نفسها دائماً، بوسائل عقلانية. ذلك إنَّ عقلنة ما هو غير معقول، أي منح المشروعية لسطوة رأس المال والشركات وامتداداتها يستلزم تأليف لغة ذرائعية قصدها إضفاء رداء المعقولية على الذي يحدث. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل .الجدة. أصبحت بمثابة ايديولوجية تسوّغ الربط بين الإجراءات والوسائل المتوفرة وبين ما هو مرسوم من أهداف واستراتيجيات. لعل دولة ما بعد الحداثة (تحتل أميركا نموذجها الصارخ اليوم) هي اليوم هي أكثر النماذج اهتداء إلى هذا التحويل الإيديولوجي للعقلانية. عند انتهاء الحرب الباردة أخذت الليبرالية قسطها

ص: 523


1- محمود حيدر - في أحوال ما بعد الحداثة - العقلانية الغربية لم تعد ذات أثر - «مجلة فكر» العدد 78 - 79، تموز -كانون ثانى 2002.

الوفير من الراحة لكي تؤدلج انتصارها. زعم منظروها أنها نهاية التاريخ وخاتمته السعيدة. ولقد تسنّى لهم بوساطة شبكة هائلة من الإتصالات البصرية والسمعية - أن ينتجوا المقدمات الأولى لمعارف ما بعد الحداثة. استطاعت «العقلانية الأميركية» أن «تفلسف» اللامعقول الدولي، «وتمفهم» لا توازنيته. وتؤدلج الاستهلاك فتمنحه صفة النظام المقتدر ، الآيل إلى إنتاج حقائق معرفية تؤسس للديمقراطية الجديدة وحقوق الإنسان. كان على «عقلانية «ما بعد الحرب الباردة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. لقد حسمت مقالتها المدعاة بتقريرها إن تداعيات المشهد العالمي» لا يعكس فقط نهاية الحرب الباردة، أو نهاية حقيقة خاصة بعد الحرب، بل نهاية للتاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء. وفي ما يوحي إظهار عقلانيتها اعترفت الليبرالية بأنَّ انتصارها جرى في مجال الأفكار وهو لما يزل بمعظمه هناك، فلم يكتمل في العالم الواقعي. كأنما تريد بهذا أن تؤسس ل- «الما» بعد ولما ينبغي أن تكون برامجها الميدانية في العالم. لكي تسود الليبرالية سيادة كاملة، مطلقة، تملك خلالها الزمان والكينونة معاً وبلا منازع(1).

هل تشعر الليبرالية في زمن «الما بعد العالمي» ، أنها بلغت حدود «الجنون» حين جانبت نظام القيم وجعلت العالم كينونة منزوعة الأخلاق .. ثم هل تجد نفسها واقعة في ما يشبه الخواء المفتوح على اللامتناهي؟!

لقد تنبهت الوجودية إلى هذا بصورة مبكرة. فأجابت فيما يشبه الفانتازيا الفلسفية حين وجدت أنَّ اللاعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها، ثم لتظهر حسنها عارية أمام الملأ . ربما هي تدرك أنَّها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة والدوام وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون كأنها عودة إلى العقل بمخيلة أخرى. إنَّ هذه السيرورة التي ستؤول حتماً إلى مآل كهذا، لا بد من أن تنتج معرفة على صورتها. معرفة تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات

ص: 524


1- المصدر نفسه.

كاذبة بحيث تكون المحصلة شيوع قناعات واعتقادات كلية، غايتها عقلنة السائد السياسي ونمط حياة المتفوق، وغايتها تأسيس المزيد من القدرة على اكتساح العالم عبر تحويل التبرير الإيديولوجي إلى مقدس يدخل في ثنايا الوجدان العام للبشرية. بهذا يصير - كل ما ومن يساهم في تشكيل وترسيخ هذه الغايات معترفاً به، وعضواً في المشروع العقلاني وكل - ما ومن - يعرقله يصير لا عقلانياً أو كائناً لا تاريخياً.

كان مؤلماً للفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار أن يقف أمام صورة العالم فيجده على هذا النحو من الخواء والوحشية فإذا هو يقول: «لقد منحنا القرنان التاسع عشر والعشرون من الإرهاب قدر ما نتحمل. لقد دفعنا ثمناً باهظاً للحنين للكل وللواحد، للمصالحة بين المفعوم والمحسوس، بين الخبرة الشفّافة والخبرة القابلة للتوصيل. وتحت المطلب العام للنضوب وللتهدئة، يمكننا أن نسمع دمدمة الرغبة في العودة إلى الإرهاب في تحقيق الوهم للإمساك بالواقع. والإجابة هي: لشن حرباً على الكلية Totality لنكن شهوداً على ما يستعصي على التقديم، لننشط الاختلافات وننقذ شرف الإسم(1)».

كذلك سوف يأتي من الفلاسفة الفرنسيين المابعد حداثيين من يعيد التأكيد على أن العقلانية وانتقاد العقلانية كلاهما ممارستان تحتاجان إلى العقل كمستند من ناحية، وكخطاب مضمر أو صريح لكل العلاقات الأخرى، سواء منها المعترفة بسلطان العقل والداعية له ، أو المنتقدة لبعض إنتاجه باسم إنتاجات أخرى أتت أو لم تأت بعد. والطريق الذي يقترحه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والمدعو بالتفكيك،إنما هو استراتيجية ممارسة مختلفة تأتي في الوقت الذي تهافتت فيه كل الخطط حسب رأيه، وقيل كل ما يقال، وفُعلَ ما يمكن أن يُفعَل. فالخطاب المطلق قد أنجز وانتهى سلطانه. وفي هذه اللحظة بالذات يراد لنا أن نقول شيئاً مختلفاً، وأن نعمل العمل المختلف. ودريدا ليس يائساً من استراتيجية للتفكيك في حقل كلّ شيء فيه بات خرباً وأنقاضاً، بالرغم من كون التفكيك واقعاً بين الإحراج الفلسفي (العقلانية

ص: 525


1- جان فرنسوا ليونار - الوضع ما بعد الحداثي - دار شرقيات للنشر - القاهرة - ترجمة أحمد حسان - ص 109.

والنقد العقلاني للعقلانية). لكن له حيلته ومغامرته فهو في الوقت الذي يقول فيه أمر الكلام فإنَّه يدحض ، ولو صامتاً، كلام الأمر ذاك. كان يقول مثلاً إِنَّ هذا هو الحق (وهو ليس الحق تماماً). وإنَّ هذا هو الخير، (وليس الخير تماما). وراء الأوامر المنطوقة يقف صف متراص من الأفكار الخلفية الصامتة الأخرى غير الملفوظة التي تقيم مملكة المختلف حتى في لحظة الإقرار بكل المزدوجات الفلسفية المعهودة. فتحت قبة الخطاب المطلق ينتهي التاريخ. لكن لعبة التفكيك قادرة على استعادة البحث فيما وراء ذاكرة الرموز والدلالات. إنها ليست الطريق المؤدية إلى اللاشعور الذاتي للتاريخ ولكنها تصنع زمان اللاشعور التاريخي هذا بعد تحققاته الشعورية ذاتها وليس قبلها. فهي ليست قراءة الحاضر لما وراء الماضي، وإنما قراءة ما وراء الماضي في الحاضر ذاته(1).

تنوير المابعد: الإنسان مغلولاً

أظهرت تحولات نهاية القرن العشرين ما ينبئ بهزة كبرى أصابت عالم الإنسان. فجعلته على غير سويته وبدلت أحواله على الجملة. وبدا كما لو أنَّ خلاصه يوجب قيامة أخلاقية جديدة. غير أنّ هذه التحولات لم يقابلها بعد، «قوة توازن» تعيد للعالم صوابه، وتفتح للإنسان باباً للتفاؤل. حتى ليبدو الحال، كما لو كان عالم الإنسان يجري بشغف نادر نحو الكارثة . أو كأنَّه سائر، تحدوه الرغبة ليصنع جحيمه بنفسه.

كل شيء، على ما يبدو، يلج فضاء التفاؤل الحائر في الغرب الثقافي. وليس ثمة ما يوقف السباق إلى الهاوية سوى ما تبقى، ممّا يحكى عن حقوق الإنسان. لكن الأمر سيبقى غير موقوف على هذا المحدد الأخلاقي، فالعقل الذي روهن عليه لكي ينتظم أزمنة التنوير، «ويؤنسن» إنسانها، غدا عقلاً محتلاً بشهوة المصلحة والاستحواذ. ولقد ثبت من تجربة العقل على امتداد تسعة عقود فائتة كم كانت نتائجها كارثية على الإنسان. خصوصاً حين جعل العقل الوسيلة الأشد فظاعة، لاستلاب الكائن البشري. وقبل بضعة عقود كان للمفكّر المعروف هربرت ماركوز رؤية ثاقبة في تشكيل صورة

ص: 526


1- مطاع صفدي - مصدر سبقت الإشارة إليه.

مستقبلية للمجتمع الصناعي الغربي. لقد كشف عن مقولة الإنسان ذي البعد الواحد الذي خلقه المجتمع ذو البعد الواحد. فالإنسان في هذا المجتمع فقد حقه في الحياة بمجرد أن سلَّم للمجتمع مقاليد أمره. فتوهم بأنه يعيش الحرية فيما هو يغرق في استیلاب سحيق لا قاع له. رأى ماركوز يومها أنَّ «المجتمع المستلب» يلبي حاجات وهمية لإنسانه من خلال الدعاية الكاذبة ووسائل الاتصال الجماهيرية الخادعة. وفي اعتقاده أنه إذا كان المجتمع يحرص - بهذا المعنى - على تلبية هذه الحاجات المصطنعة أفليس ذلك لأنَّها شرط استمراره ونمو إنتاجيته فحسب، بل أيضاً لأنها خير وسيلة لخلق الإنسان المسلوب، القابل بالمجتمع ذي البعد الواحد المتكيف معه، وما الإنسان ذو البعد الواحد في هذا المعنى، إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية. فإذا كان (هذا الإنسان) يتوهم بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع لتلبية «حاجاته»، فما اشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم بأنه بأنه حر لمجرد أن منحت له حرية اختيار سيارته (...) إِنَّ المجتمع الصناعي المتقدم لم يزيف حاجات الإنسان المادية فحسب، بل زيف أيضاً حاجاته الفكرية، أي فكره بالذات. الفكر أصلاً هو عدو لدود لمجتمع السيطرة، لأنَّه يمثل قوة العقل النقدية السالبة، التي تتحرك دوماً باتجاه ما يجب أن يكون لا باتجاه ما هو كائن. وهذه القوة هي في خاتمة المطاف قوة إيديولوجية. إنَّ المجتمع ذا البعد الواحد قد أحاط الإيديولوجيا بالازدراء والتحقير باسم عقلانيته التكنولوجية، بل هو امتصها وأبطل مفعولها . مع أنَّ هذا لا يعني بالطبع أنه لم تعد هناك إيديولوجيا. كل ما هنالك أنَّ المدينة التقنية أصبحت هي الإيديولوجيا. وأبرز وجوهها من هذه الزاوية المذهب العاملي في الفيزياء، والمذهب السلوكي في العلوم الاجتماعية. والسمة المشتركة الأساسية لهذين المذهبين هي الالتزام بالواقع المعطى أو القائم، ونبذ المفاهيم الشمولية أو النقدية التي تهدد بالكشف عن بعد آخر لذلك الواقع.

لم يسفر منطق التحولات الذي استغرقته الرحلة الطويلة للحداثة الغربية، إلا عن إدخال الإنسان في لجة الليقين. أما كارثة التحرر التي تحدث عنها ماركوز فهي تلك التي دفعت العالم إلى فضاء اللاعقلانية بوسائط عقلانية. وهنا تكمن على نحو

ص: 527

خاص قوة المجتمع ذي البعد الواحد: أي الطابع العقلاني للاعقلانيته. لقد ذهب مديرو هذا النوع من المجتمع إلى تسويق ما عرف ب«الفكر الإيجابي». أي الفكر الذي يمهد لسيرورة القبول والإذعان وعدم الاحتجاج. إنَّ الأكثر مدعاة للهلع في هذه السيرورة، هو أن الفكر الإيجابي ناجم من امتثالية صارخة للأمر الواقع.

كأنما القبول القسري «للإيجابية» سيتحول إلى إيمان بها، وإلى اعتقاد بقيمتها العليا وبحسب ماركوز فإنَّ «القبول بالفكر الإيجابي هو قبول قسري ويبين ذلك بالقول أنه قسري لا بحكم الإرهاب، وإنما بفعل سلطة المجتمع التكنولوجي وفعاليته الساحقة المغفلة. في حين أنَّ الفكر الإيجابي يؤثر من هذه الزاوية المحددة على الوعي العام، ومن ثمَّ على الوعي النقدي. كذلك فإنَّ ابتلاع الإيجابي للسلبي يتمثل في التجربة اليومية العاجزة عن التمييز بين الظاهر العقلاني والواقع اللاعقلاني(1).

لقد ذهبت العقلانية في «أدلجة» نفسها حتى الرمق الأخير . لكنها لم تستيقظ من لاوعي الاستحواذ بعد. لقد أدخلت نفسها والعالم في كونية بلا أخلاق، فبدا المشهد الإجمالي على صورة عالم بلا عقل. ذلك أن عقلانية ما بعد الحداثة، هي الآن في ذروة الخروج على العقل، ومع ذلك فهي لم تغادره حتى في اللحظة التي يشطح فيها نحو الجنون..

لقد منحت هذه العقلانية «العقل» قابلية صريحة للاستخدام والطاعة. فالعقل، على ما نعرف، يملك قابلية أن يتخذ من ذاته موضوعاً. مثلما يملك القدرة على التخارج نحو العالم واتخاذ معطياته موضوعاً للكلام والفعل. ولهذا فإنَّ جميع الأسئلة . تثار خارج العقل وداخله بواسطة العقل إياه. لكن السؤال عن محل الأخلاق في فضاء العقل، سوف يظل الأهم في الفضاء اللامتناهي لعالم الإنسان. وخصوصاً أثناء الارتحال المتواصل لحداثة الغرب المقبلة.

ص: 528


1- هربرت ماركوز - الإنسان ذو البعد الواحد - راجع مقدمة جورج طرابيشي - دار الطليعة - بيروت - ص 12 - 13 - 65.

جدلية السعادة والقلق في ظل التقنية

بين مارتن هيدجر واولريش بيك

د. علاء كاظم الربيعي(1)

المقدمة

يتجلى البحث عن السعادة بما توفره القيم الاخلاقية من أسس وقواعد تمكن الفرد من السلوك نحو تحقيق السعادة والخير لذاته والاخرين، وهذا لا يقتصر على مشروع إيديولوجي محدد بل تشترك في ذلك مجالات ومشاريع مختلفة، وهذا ما تعهد العلم بتحقيقه للأفراد من المتعة والرفاهية بوساطة التكنلوجيا والتقنية، التي بإمكانها تخليص الإنسان من الواقع التعيس أو المعاناة، فالدراسة هذه لا تختص بماهية السعادة مفهوماً ودلالات، بقدر ما هو توضيح وتفكيك لمنطق الوهم الذي قامت عليه هذه المشروعات الايدلوجية، إذ إن التكنلوجيا والتقنية مثلما اختزلت

ص: 529


1- مدرس الفلسفة السياسية في كلية الآداب / جامعة واسط: يتجلى البحث عن السعادة بما توفره القيم الاخلاقية من أسس وقواعد تمُكّن الفرد من السلوك نحو تحقيق السعادة والخير لذاته ،والاخرين، وهذا ما تعهد العلم بتحقيقه للأفراد من المتعة والرفاهية بوساطة التكنلوجيا والتقنية، لكن كيف استطاعت التقنية افراغ الانسان ولاسيما الاوربي من كل عقيدة دينية أو جانب روحي ، مكونة بذلك الازمة الاخلاقية والاضطراب والفوضى في حياة الناس مصادرة بذلك كل عوامل السعادة. ولعل تعبير هيدجر من أن القلق عامل ضروري لاستمرار الحياة، وهو ماينقذ الإنسان بما يشكله من الحرية، وذلك في تمييز الوجود الزائف عن الوجود الحقيقي، في حين اولريش بيك يعد الخطر هو ما يُعدم الحياة مسبباً في ذلك ازمات يصل تاثيرها الى كل انحاء العالم . وبالنتيجة يؤكد الباحث لقد عملت التقنية على تلخيص الايدي العاملة مما أدى الى تسريح كثير من العمال من المصانع، مسببة بذلك ازمة مالية وفقر من دون مراعاة لحقوق العمال. المحرر

كثيرا من الوقت، والتقريب بين المسافات، والانجازات العلمية الهائلة التي خدمت الإنسان، إلا أنها في ذات الوقت استوعبته، ليتحول الى هامش على ما جاء به العلم، بعدما كان مركزاً يحرك الطبيعة والعلم معاً، ليتبدد جهده الى هيمنة يخضع لها، ومن كونه منتجا الى مستهلك فحسب.

إن تطور الجانب التطبيقي للعلوم فيما يخص الأجهزة التقنية التي ابتكرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أدى الى التطرف والمغالاة في النظر الى نتائح هذه العلوم، إذ غيرت التطبيقات العلمية وجه الحياة في العالم كاختراع التليفون والتلغراف والتصوير الفوتغرافي والسينما والسيارة ...الخ.

وكانت نتيجة ذلك سيادة نوع من الايمان المتطرف بالعلم، وصل إلى حد الاعتقاد بأن العلم الدقيق والمعرفة العلمية الدقيقة ووتطبيقاتها التقنية هي وحدها القادرة على أن تاخذ بيد البشرية في الطريق الموصل الى السعادة والكمال، متجاهلة بذلك ما يمكن أن يقدمه الفن أو الشعر أو الادب أو الاستبصار الاخلاقي(1).

لم يتوقف تطور التقنية على اختزال دور الإنسان بل عملت على أعادة انتاجه على وفق ما تخطط له وما تتبعه، وذلك من بث البرامج العلمية والاجتماعية، إذ يتحول تفكير الإنسان من ما هو جوهري و من گونه خليفة يحمل رسالة انسانية، لم يكلف بها إلا هو على سائر الموجودات الى تحجيم وجوده وغاياته في اشباع الرغبات فحسب، ولا تكون السعادة إلا بهذا المعنى.

ولكن الأسئلة التي يمكن بحثها في مدى اخفاق التقنية في تحقيق السعادة. والانحراف عن ما جاءت به، وهذا ما نبحثه على مستوى العرض والتحليل والنقد عند فلاسفة وعلماء اجتماع وهو على سبيل الايجاز وليس الحصر كل من (مارتن هيدجر 1889 - 1976م، اولریش بيك 1944 - 2015م).

بعد أن حلت التقنية محل كل عقيدة يمكن أن يرجع لها الإنسان بعد الخواء

ص: 530


1- زكريا ، فؤاد : التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة يناير 1987 ص 147 .

الروحي. نجدها حلت محل العمل كذلك، إذ احلت التقنية محل الراسمالية مكونة بذلك ازمة العمل الذي يعد بحد ذاته عامل عوز وفقر لكثيرين ممن تركوا العمل وهذا ما يتجلى عند ماركيوز في علاقة العمل والتقنية.

أفرزت التقنية عددا من المشاكل التي تعد مخاطر تهدد أمن الإنسان وحياته، منها مشكلة البيئة والتلوث وما يتداخل مع مشكلة الاحتباس الحراري، وصولا الى مشكلة الغذاء وأزمة السكن التي لم يوفر لها الاطار اللازم حتى الان، مروراً بمشكلة الموارد الطبيعية التي يطلب حلها نوعا من التفكير في الحاضر والمستقبل، ومحاولة الخروج من قوقعة الانانية والمصلحة وحب الاستهلاك التي تسود المجتمعات البشرية الحالية(1). وهذا ما نعالجه مع اولريشك بك في المخاطرة الكونية.

إن تحديد مفهوم التقنية كمصطلح فلسفي من جانب ومطلح علمي من جانب آخر يمكن أن يعتنق بثلاث علاقات ألا وهي(2):

1- علاقة حوار:

فن، مهنة، مهارة، علوم تطبيقية.

2- علاقة إرتباط.

احتياج، وسيلة، تقدم، علم، منفعة

3- علاقة تعارض

الوجود - هيدجر.

وهذا ما نبحثه مع هيدجر في العلاقة بين التقنية والوجود وهل تشكل خطرا بحد ذاتها أو إن الخطر يكمن في تاثيراتها لا في ماهيتها.

ص: 531


1- أحمد ابراهيم. إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هيدجر منشورات الاختلاف الجزائر، الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت الطبعة الأولى 2006 ص 129 .
2- المصدر نفسه: ص 43.

أولاً: مارتن هيدجر.

في فلسفة هيدجر ناخذ خواصا محددة، كثيراً ماتتعارض مع السعادة أو تنافيها، وهو مبدأ القلق والعدم، إذ إن حياة القلق هي ما ينبغي أن يعيشها الانسان، اذا أراد أن يخرج من هيمنة المجتمع بكل ما يشكله من قواعد وتقاليد تحقيقاً لمبدا الحرية، فالقلق هو ما يحرك الإنسان ويعزز انسانيته، على أن ذات القلق هو ما يتشكل خطرا على الإنسان مع وجود التقنية، أو الجانب الخطر منها، وإن كان هنالك اختلاف بين هيدجر الذي جعل حياة الخطر هي غاية للإنسان يسعى للوصول اليها وبين اولریش بيك الذي نقد هذا القلق وأن التقنية قد تكون بتاثيراتها السلبية عدماً للحياة والإنسان.

جدلية السعادة والقلق الوجودي

تعرف الاشياء بتناقضاتها وهذا ما يمكن معرفته في سير مفهوم السعادة بالضد مع المفاهيم التي جاءت بها الفلسفة الوجودية، إذ تتنافي قيم الخير والسعادة مع القلق والعدم والبؤس والمستقبل المجهول الذي ينتظر الإنسان، فالوجودية كما يراها هيدجر وسارتر «ليست مذهبا فلسفياً بقدر ما هي نزعة يأس وتشاؤم. ذلك أن الإنسان متى انصرف عن مشاغله وهمومه وضروب القلق التي تساوره من كل جانب، وفكر في ذاته لم يجد سوى العدم المطلق أو الفراغ التام، فلا يدري لماذا جاء الى هذه الحياة التي سوف تنتهي بأن تقذفه الى العدم مرة اخرى»(1).

مجرد أن يسري في الإنسان صراع الوجود والبقاء، والياس من كل مما حصله عليه بالمعاناة(2)، نجده قد فقد الأمل والمتعة في هذه الحياة، وهذا ما يتشكل مع ما يحمل من الهم ، ف«العلاقة بين الإنسان والعالم ليست مجرد علاقة بين موجودين كائنين في المكان، أو مجرد مجرد صلة بين ذات وموضوع، وإنما هي علاقة وجودية قوامها الشعور

ص: 532


1- برییه، امیل: اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ترجمة: د. محمود قاسم مراجعة د: محمد محمد القصاص، منشورات دار الكتاب للنشر والطباعة والتوزيع، المكتبة العامة، جامعة الاسكندرية، سنة النشر 1998 ص16.
2- توجد تصورات فلسفية عدة للمعاناة اذ ترى أنها أمر سيئ ومنفصل تماماً عن السعادة، وتعد مجرد لحظات تعيسة، تمثل فجوات في حياة السعداء أو فواصل لحظية فيها، في حين تذهب تصورات اخرى الى انه لا يمكن تصور السعادة الا بوجود المعناة وانها مكملة لها. ينظر ليزا بورتولوتي: الفلسفة والسعادة، ترجمة وتقديم أحمد الانصاري، مراجعة حسن حنفي المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الأولى 2013 ص189.

بالأهتمام. ومعنى هذا أن مجرد ارتباط الموجود البشري بالعالم هو الذي يجعل منه موجوداً (مهموماً) يحمل دائما عبء وجوده»(1).

لا يمكن للإنسان أن يحظى بالسعادة مع وجود الهم والقلق، وإن وجدت تكون بذلك مصطنعة وليست حقيقية أو تكون وهمية، وحتى اللذة نجدها مقرونة بذلك القلق والنظر للحياة على أنها عدم. بل نجد أن هيدجر يجعل شرطاً اساسياً للحياة الحرة بان يعيش الإنسان القلق بكونه عقلاً مختلفاً أو إنسانا يتميز عن الحياة الجمعية للأخرين.

يميز هيدجر بين الوجود الاصيل للذات أي الوجود الحقيقي وبين الوجود الوهمي وهذا ما يصف به الإنسان الحديث في ظل العيش ضمن المجتمع البشري من دون أن يكون واعيًا، مرتبطاً بالعقل الجمعي، «إن إنسان العصر الحديث قد اصبح يعيش في حالة اجتماعية زائفة، لانه اتخذ من (الوجود مع الاخرين) ذريعة للتنازل عن وجوده الخاص ، فلم يعد وجوده سوى انغماس في عالم الجمهور، وهكذا فقد أنسان العصر الحديث انسانيته وحريته وصار مجرد موضوع ينطق بلسان الآخرين، ويتحرك في مجال ذلك الوسط الاجتماعي الغفل»(2). وبالامكان ابداله بغيره، بقاء الإنسان في الوجود فهو ما يسميه هيدجر بالسقوط(3)، بهذه الصورة الواهمة أو المزيفة.

إن ما يميز الوجود الانساني هو أن يكون ذاته، بيد أن يكون كذلك، فهو ليس واقعة من الوقائع، أو مجرد معطى بسبب بسيط، وهو أن الإنسان ليس شيئاً، ولذلك فإن الانية أو الذاتية بتعبير اوضح هي تظل مجرد إمكانية علينا أن نحققها أو نكتسبها، والوجود الزائف المبتذل هروب من الذات، ورفض لمعرفة الوضع الانساني وتحمل ما يفرض من مسئولية وأعباء، وهو في الوجود الزائف يسعى الإنسان إلى النسيان نسیان ذاته، والتشاغل عنها، والتلهى عن مأساته الانسانية، وتعاسته الطبيعية، إنه في نهاية الأمر اغتراب عن الذات وإضاعة لها(4).

ص: 533


1- ابراهیم زکریا: دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر ص 402.
2- ابراهیم زکریا : دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ص 406.
3- كامل فؤاد: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل بيروت، الطبعة الاولى 1993، ص 198
4- المصدر نفسه ص198.

ونحن قبال ذلك امام ضربين من الوجود البشري وجود حقيقي اصيل ووجود زائف، وهذا ما ينتمي الى الذات الواهمة التي تعيش الاستلاب، والذات الحقيقية التي تعيش الارادة، فالوجود الزائف هو ماتهرب به الذات من حريتها، والتنصل من مسؤليتها، والتخلص من الشعور بالقلق.

نصل بذلك، إلى أن الوجود القلق هو ما يختلف فيه الإنسان عن الآخرين وبه تكمن السعادة عند هيدجر بكون الإنسان القلق هو إنسان حر، ومن هذا الجانب ننقد هيدجر في تصوره ، وإن كان محقا في جزء منه في التمييز للوجود الحقيقي للانسان عن الآخرين. ولكن ليس بهذه الصورة التي تخلق منه انسانا متصارعا مع ذاته ومع الاخرين بعيداً عن كل مفاهيم الطمأنينة والسكينة التي هي عوامل سعادة بحد ذاتها، وبذلك أين نضع معايير الجمال والمتعة من كل ما جاء به هيدجر للوجود، وكون الحياة ضبابية مظلمة اكثر مما كونها جميلة وممتعة.

ماهية التقنية في الخطر

يقترن مفهوم التقنية مع التكنولوجي: كانت التكنولجيا أو التقنيات تستخدم لوصف المعالجة النسقية، مثلاً، في دراسة الفنون، وسيما الفنون النافعة أو الالية، كما يوحي جذر الكلمة الاغريقي tekhne) الذي يعني الفن أو اتقان صنعة معينة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، كان استعمالها الرئيس يرتبط مباشرة بالحرف الصناعية. وتطابقت هذه المهارات والتقنيات التطبيقية مع صناعة المعامل والتجارة(1). وصولا الى التقنيات الحديثة في اللكترونيات وما يهمنا هو انعكاس هذه التقانة على الواقع والإنسان والتحول القيمي له.

عرض هيدجر التقنية على مستوى تاريخ الفلسفة المتعاقب، إذ ما اخذناها بمعنى العلم والمعرفة، فأنها تعود الى اليونان في حدود فترة افلاطون، كانت كلمة تقنية مرتبطة دائما بكلمة (أبستينيوس) وهي تعني العلم والمعرفة. وقد يفهم من هذه

ص: 534


1- طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ - ميغان موریس: مفاتیح اصطلاحية جديدة (معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع)، ترجمة: سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، مركز الدراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى بيروت 2010،ص.209-208.

الكلمة معنى الانكشاف أو التنبؤ، فالاهتداء الى شيء ما، والتعرف عليه. إذ تقدم المعرفة انفتاحات، وبما هي كذلك انكشاف، وهذا ما يميزه ارسطو في الاختلاف بين الانكشاف والمعرفة(1).

نجد محاولة الانكشاف والتنبؤ عند مارتن هيدجر في الوصول الى الحقيقة(2)،التي بإمكانها أن تخلص الإنسان من القلق الذي يهيمن عليه في مواجهة المستقبل، ويتخذ اولريش بيك هذا المعنى في محاولة الحد من المخاطرة، أو كشف الخطر قبل وقوعه. إن مصير الانكشاف ليس في حد ذاته خطراً من بين الاخطار، بل هو الخطر عينه، إذ يستخدم هيدجر معنى التقنية في التمييز بين ما تأتي به وبين سر ماهيتها، إن القدر الذي يوجه نحو التسخير هو الخطر الاقصى، ليست التقنية هي ما هو خطير، بل هناك غموض ماهيتها، إن ماهية التقنية، من حيث إنها مصير للانكشاف هي الخطر. إن المعنى المعدل لكلمة استفسار (Gestell)يصبح مالوفا لدينا إذا فهمنا الاستفسار بمعنى المصير أو القدر وبمعنى الخطر(3).

فالانكشاف أو التفسير لا يمكن فهمه، الا بفهم مفهوم الموت، بكونه الحالة الوحيدة التي تكشف ذلك القلق وتبدده في ذات الوقت، مفهوم الموت كثيراً ما ارهق الإنسان وحال دون تحقق سعادته، فلحظة الموت هي لحظة الانكشاف لما لم يكن يدركه وهي بذلك تفسير للحقيقة أو العدم أو تفسير المسقبل.

إن ما يمكن ملاحظته بالخطر الذي يشكل المبدأ الكامن للحياة عند هيدجر، هناك حيث يكون الخطر ينمو ما ينقذ وما يمكن أن يعاش في تميز الافراد، وإن اختلفت ماهية التقنية في ذلك بين هيدجر وما وضحه اولريش بيك في عد التقنية هي حياة المخاطرة التي تهدد الإنسان بتطوراتها، وهذا ما عمل على محاربته وإن كان الاشتراك معاً في عامل التنبؤ والانكشاف، الا أن الاختلاف في حياة الخطر والقلق هي ما ينمو وينقذ الإنسان في نفسه، وان كان العالم هي ذات الإنسان التي يصطدم بها.

ص: 535


1- هيدجر ، مارتن: التقنية - الحقيقة - الوجود. ترجمة محمد سبيلا ، عبد الهادي مفتاح المركز الثقافي العربي، ص54.
2- بحث هيدجر الحقيقة والية الوصول لها في اكثر من موضع ومنها كتابه (نداء الحقيقة) ينظر في ذلك هذا الكتاب ترجمة د : عبد الغفار مكاوي - كلية الاداب - جامعة القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة عام 1977.
3- ينظر . مارتن هيدجر : التقنية - الحقيقة - الوجود، ص54.

إن العدم الذي يحول دون تحقق السعادة للانسان لا يقتصر على الموت والعدم،بل يسري ذلك على التقنية بانها جزء من ذلك العدم التي تسعى إليه من خلال تطور الاسلحة... وما يدخل في ضمن المخاطرة متشكلة بالارهاب والعنف وفقدان الامن، وهذا ما يمكن بحثه في ارهاصات التقنية والمخاطرة عند اولريش بيك.

ثانياً: اولريش بيك

تبعث التقنية على الخطر وعدم اليقين التي تقف من السعادة على طرفي النقيض، قد يذهب التأمل حول ما تصنعه التقنية للانسان من روائع الى الاخذ بيده الى السعادة والرفاهية، على الرغم مما يجوبها من مخاطر، وهذا ما نلاحظه في فلسفة اولريش بيك. بالاختلاف مع هيدجر حول مسألة التقنية والخطر أو الاقتراب من مدرسة فرانكفورت

النقدية.

يقترب اولريش بيك من مدرسة فرانكفورت في النظرية النقدية من تحول العقل الكوني الى عقل اداتي غايته الهيمنة والسيطرة على الإنسان كما سنشهده عند هوركهايمر في كتابه تواري العقل عام 1947م وكتابه الثاني جدلية العقل في نفس السنة بالاشتراك مع أدورنو. العقل الذي يتحث عنه أدورنو . العقل الذي يتحث عنه المؤلفان هو العقل الغربي المعرف هنا بالثقافة التقنو علمية، وبالتسيير والفعالية. وهو مايسميه ماكس ويبر بالعقل الاداتي.

فقد العقل خاصيته الثورية المحررة التي كانت له في عصر الانوار، عندما كان أداة تحرر من الدين، من الخرافات والمعتقدات السحرية. اصبح أداة تسلط وإخضاع وإخضاع للجماهير وتوحيد للسلوكيات. تواري العقل وجدلية العقل مستوحان من هيجل الجدلية وماركس نقد الراسمالية يترجمان بشكل فلسفي نقدا للمجتمع الصناعي والتسيير التكنور قراطي للاقتصاد(1).

ص: 536


1- دوریتی، جان فرانسوا: فلسفات عصرنا تياراتها، مذاهبها، أعلامها، وقضاياها. ترجمة: إبراهيم صحراوي، الدار العربية للعلوم ناشرين، منشورات الاختلاف. الجزائر الطبعة الأولى 2009، ص 172.

يتناغم كذلك تفكير اولريش بيك مع ماركيوز احد اعضاء هذه المدرسة وهو تلميذ هيدجر في الثورة والعمل ، إذ ينقد الراسمالية في استعبادها الاقتصادي والثقافي للفرد ويمكن بيان ذلك في علاقة انهاء التقنية لروح العمل.

أما الاختلاف بين هيدجر وعالم الاجتماع اولريش بيك، فقد لاتكون هنالك علاقة مباشرة إلا أن القضية هي ذاتها التي بحثت من قبلهما فيما يخص التقنية بعلاقتها بالوجود عند هيدجر، وهو محور القلق الوجودي الذي يستثمره اولريش بيك في المخاطرة، «إن(القلق بشأن الوجود) الذي أثارته المخاطرة العالمية على مستوى العالم، قد أدى منذ زمن طويل... الى المقامرة حول الوجود، إلى مسابقة حيازة قبح العالم»(1).

يوجد هذا القبح والهيمنة على العالم من خلال المشكلات التي تكبل الإنسان بالقيود وهي من جراء تأثير التقنية، ولعل هذا ما بحثه اولريش بيك في كتابه (مجتمع المخاطرة العالمي) بحثاً عن الامن المفقود، في تاثير التقنية والتكنلوجيا على الإنسان.

بحث اورليش بيك المخاطرة بكونها تحول دون تحقيق الأمن والرفاهية الاجتماعية ومن ثم السعادة، وقد يكون ذلك فيه شيء من التناقض أي كلما زادت التكنلوجيا والتقنية تقدماً كلما زادت الرفاهية للمجتمع، وإن كان ذلك من المبالغة بسسب المخاطر التي زادت بازدياد تطور التقنية.

يؤثر التطور التقني على ازدياد وتيرة الخطر واعمال العنف والارهاب والازمات الكونية التي حددها اولريش بيك في (التغيير المناخي - الارهاب - الطاقة الذرية - الاسلحة النووية) التي تضاعفت مع تقنيات المستقبل (الهندسة الوراثية - والتقنيات الشديدة الصغر «تقنيات النانو» وصناعة الإنسان الآلي)، التي تسببت بازمات محلية ودولية، فالتحولات الوراثية وتقنيات التواصل والذكاء الاصطناعي، التي تتمازج يوما ما فيما بينها ستقوض احتكار الدولة باللجوء الى العنف، والانتقال بالحرب الى من

ص: 537


1- أولريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي (بحثاً عن الامن المفقود) ترجمة: علا عادل، هند ابراهیم، بسنت حسن، المركز القومى للترجمة، الطبعة الأولى 2013، ص 19.

كونها دولية (دولة ضد دولة او دول) الى فرد أو افراد ضد دولة وهو مايسمى بفردنة الحرب(1).

ويمكن أن نأخذ امثلة كثيرة على احداث هذه الازمات، إذ يمكن لطاعون يبتكر وراثياً ان يستهدف سكاناً معنيين من خلال إطالة فترة الاحتضان، كما يمكن التهديد بقنبلة ذرية صغيرة يمكن تصنيعها من قبل أي كان بتكاليف زهيدة. فالفارق بين الاسلحة الذرية والكيميائية فارق بعيد يتعلق بتطورات تقنية تقوم على المعرفة(2).

وهذا ما يمكن ملاحظته في علم الطب الجيني الذي يحاول أن يشخص الجينات الوراثية، أذ بامكانه أن يتنبأ بتراكيب جينية ذات مخاطر اقل واستبعاد اجنة المخاطرة. وفي ذلك يتعين على جميع الازواج اجلا او عاجلا أن يواجهوا هذا القرار الحاسم، سواء رغبوا في ذلك، ام لم يرغبوا حيث سيضطرون الى تقييم الامور ليقرروا ما اذا كانت رغبتهم منع المعاناة و الالم. وهو ما يدخل في ضمن الامن الصحي والغذائي بما فيها الامراض المزمنة و الفتاكة ومنها مرض السرطان، وهذا ما يدخل ضمن حساب المخاطرة الذي يربط العلوم الطبيعية والتقنية والاجتماعية معاً.

إذ يمكن تطبيق هذا الحساب على ظواهر متباينة تماماً عند إدارة الصحة - بدءاً من مخاطرة المدخنين وصولاً الى مخاطرة الطاقة النووية - كما يمكن تطبيقه على المخاطر الاقتصادية، ومخاطر البطالة، وحوادث المرور والشيخوخة(3).

نحن نتكلم عن الامن بكونه عامل اساس في تحقيق السعادة للافراد في العصر الراهن، وأن فقده في المجتمع يؤدي الى انهيارات كبيرة على مستوى الدولة والفرد معاً.

وبذلك لانعني الامن الاجتماعي فحسب، بل الامن الوجودي فيما يختص بحفظ

ص: 538


1- ينظر اورلريش بيك: السلطة والسلطة المضادة ( في عصر العولمة) ترجمة د. جورج كتورة د. إلهام الشعراني،المكتبة الشرقية بيروت، الطبعة الأولى 2010 ص 57.
2- ينظر اورلريش بيك: السلطة والسلطة المضادة، ص57.
3- ينظر اور لريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي، ص 28.

العالم والكون، ولاسيما بعد الاضطرابات الكبيرة التي تسبب بها العلم والتكنلوجيا في مشاكل على مستوى تغيير درجات الحرارة والاحتباس الاحراري وصولا الى الحروب النووية والبيولوجية.

يتكلم العلماء ويبحثون كثيراً في أمر عدم الأمن، لكنهم يعنون بذلك غالباً عدم الامن الاجتماعي، ويغضون الطرف بذلك عن الانحدار الشديد للامن الوجودي الذي تواجهه العوالم الحية اليوم، خاصة في الاركان التي يسودها السلم في العالم: فالمحاور الثلاثة للامان - الدولة والعلم والاقتصاد فشلت في توفير عنصر الامان - إذ تدمر المواطن الواثق بنفسه(1). وبذلك تكليف الافراد ما لم تقدر الدولة والعلوم والشركات على القيام به، مما يبين زيف ما تدعيه التكنلوجيا من تحقيق الامن والسعادة للانسان.

قوة التقنية في اللاعقلانية

تكمن الإشكالية في سير التقنية ضد العقل بل تهيمن عليه وتعيد انتاج افكاره ولعل ذلك يرجع الى طابع التقنية ذاته، «أن السيطرة الاجتماعية في عصر التقدم التكنلوجي تتلبس طابعاً عقلانياً يجرد سلفا كل احتجاج وكل معارضة من سلاحها»(2).

يبقى العامل العقلي ملتبس في اقترانه مع العصر التقني، كيف يمكن أن نتصور غياب العقلانية بتطور التقنية، اليس الآخيرة من شأنها تعمق العقل وتعزز دوره في التقدم والتطور الذي نلاحظه في كل جوانب الحياة. وهذا متوقف على ما نقصده بالطابع العقلاني للسيطرة في المجتمع الصناعي؟ إنه قبل كل شيء قدرة هذا المجتمع، بفضل التطور التقني، على استباق كل مطالبة بالتغيير الاجتماعي، وعلى تحقيق هذا التغير تلقائياً.

تبدو العقلانية صفة ظاهرة للتقنية ليس إلا، من خلال اختلاف الظاهر مع الباطن

ص: 539


1- ينظر اولريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي، ص 94.
2- ماركوز، هربارت، الإنسان ذي البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي . دار الاداب، بيروت ط19883 ص 11.

وما تسعى إليه من توحيد بالرؤى والافكار على المستوين المادي والمثالي يكاد يجعل الإنسان ذا بعد واحد(1).

التقنية التي في صددها الان تسير ضد العقل وهي من ثمَّ تقف ضد تطور العمل، «أن الوضعية الاساسية للأزمنة الجديدة هي الوضعية التقنية. وهي ليست تقنية لأننا نعثر فيها على الات بخارية، أو أنها في ما بعد المحرك المعتمد على الانفجار، بل على العكس من ذلك، فإن أشياء من هذا النوع توجد فيها لأن هذا العصر عصر تقني»(2).وهذا ما يجعلنا نميز بين انواع واشكال مختلفة للتقنية بحسب العصر الذي يلقي بصفاته وخصائصه عليها، وبذلك يمكن أن نميز بين تقنية قديمة بدائية بدأت مع بدا العمل. وتقنية معاصرة تكاد تلغي جوهر العمل وفاعليته، «إن ما ندعوه تقنية الازمنة الجديدة ليس فقط اداة، أو وسيلة يمكن أن يكون انسان اليوم سيدها او ذاتها الفاعلة ... إن هذه التقنية هي نمط تأويل للعالم، نمط لا يحدد فقط وسائل المواصلات والتزويد بالمواد الغذائية وصناعة المسليات، بل يحدد كل موقف للإنسان - في امكانياته الخاصة - أي إنه نمط يضرب بميسمه كل قدراته على التجهيز وهذا ما يجعل التقنية غير قابلة للخضوع والتحكم بها»(3) ومن ثم يفقد العقل منهجه في التعامل مع الكم الهائل من هذه المنتجات ومحاولة اغتنائها ولعل تلك الميزة، ميزة المجتمع الصناعي الساعي الى الانتاج من دون التدقيق بما ينتج، همه الاول الربح على حساب الجانب الاخلاقي والعقلي.

فالمجتمع الصناعي هو برمته مجتمع لاعقلاني، لأن تطور انتاجيته لا يؤدي تطور الحاجات والمواهب الانسانية تطوراً حراً، بل على العكس من ذلك تماماً، فإنتاجيته لايمكن أن تستمر في التطور على الوتيرة الراهنة، إلا إذا قمعت تطور الحاجات والمواهب الانسانية وتفتحها الحر، شأنها في ذلك شأن السلم الذي ينعم به المجتمع المعاصر ، إذ إن هذا السلم غير متحقق إلا بفضل شبه الحرب الشاملة المنذرة دوما

ص: 540


1- المصدر نفسه ص12.
2- محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي: الحداثة الفلسفية (نصوص مختارة) الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1، بيروت 2009 ص 236
3- المصدر نفسه،ص236-237.

بالاندلاع(1). وهذه ما نجده في تغييب دور القوى المراقبة لعمل الانتاج ويكمن ذلك في تطور الاسلحة البيولوجية والنووية.

قد عملت التقنية على تغييب عمل القوى الاجتماعية مثل اختزال دور الاعلام للسلطة القائمة. أو ترغيب منظمات المجتمع المدني بشيء من الامتيازات التي تمنح لها مما يضمن سكوتها والغاء دورها الناقد والمراقب لأداة الحكومات فضلا عن المطالبة بحقوق الافراد فما لم يتحقق بفضل القوى المستبدة تحقق بفضل هذا الشكل من الانظمة الديمقراطية، «إن عالم الحضارة الصناعية المتقدمة هو عالم استبدادي يملك القدر لا على وأد أي محاولة لمعارضته ونفيه فحسب، ولا على تمييع وتذويب ودمج القوى الاجتماعية التي يمكن أن تعارضه فحسب، بل أيضاً على استنفار وتعبئة جميع . طاقات الإنسان الجسدية والروحية وجميع القوى الاجتماعية للذود عنه وحمايته»(2). وهنا نتساءل في ماهية القوى الاجتماعية ودورها سيما ان اهميتها تكمن في دورها الاصلاحي وليس الثوري فقط كما يذهب الى ذلك كارل ماركس في القوى العمالية ودورها الثوري.

إن اتحاد القوى المتعارضة في السلطة بإمكانه يبيد دور القوى الاجتماعية ودورها في التغيير بل إن الاتحاد لم يكن لولا هذه الغاية بمعونة ما تقدمه التقنية من عقلانية وشرعية في اعمالها في السيطرة «إن الهدف من توحد المتعارضات في المضمار السياسي قطع الطريق على القوى الاجتماعية التي يمكن أن تكون عامل التغيير التاريخي. واتحاد المتعارضات هذا هو الذي يفسر لنا عجز الاحزاب الثورية في المجتمعات الصناعية المتقدمة وانزلاقها المستمر نحو الانتهازية والاصلاحية والاندماج المتعاظم بالنظام القائم»(3). على أن الاختلاف في التقنية تقدم ما هو عقلاني ظاهراً فقط مع ما تضيفه في الانتظام للإنسان.

ص: 541


1- ماركوز، هربارت: الإنسان ذو البعد الواحد ص 11.
2- ماركوز، هربارت: الإنسان ذي البعد الواحد ص 13.
3- المصدر نفسه ص14.
انتهاء العمل في وجود التقنية. (انتهاء عصر الوظيفة)

العمل عامل اساسي في بناء الحياة وتعمير الارض وتحقيق السعادة وتكمن هذه الاهمية في بناء الإنسان ذاته، فالإنسان الذي يفقد العمل، أو لا يمتلكه، يعيش كل ظروف القلق والفقر والعوز، مهما اختلف العمل فان اتقان الإنسان له يشعره بالاطمئنان بما يوفره لنفسه وعائلته، لذلك وضعت الدول المتطورة والصناعية اهمية كبيرة لتشريع قوانين العمل وتوفير حقوق العامل وهذا ما دفع فلاسفة كثيرون بان ينصف العمال. والطبقة البروليتارية اذ ذهب الى ذلك كارل ماركس و حنة ارندت في التمييز بين مفاهيم عدة تقترن مع العمل كالدح والنشاط وانعكاسات هذه المفاهيم في الحقول المختلفة منها الاجتماعية والسياسية فضلا عن الاعمال اليومية والمهنية.

يكمن التساؤل في كيفية اختزال التقنية للعمل، فهي بصورة من الصور حلت مكانه لتختصر الاعمال الكثيرة في عمل واحد والصعبة منها في ايعازات الکترونية بسيطة، كما يذهب الى ذلك ماركيوز في الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في تنميط الإنسان، فالتكنولوجيا في نظره: هي علم تحويل الأشياء إلى أدوات مروضة لاستغلالها لأغراض اجتماعية وحضارية، أنها فن غزو الطبيعة والتغلب على مقاومتها الخرساء، من هنا تلعب دوراً تقدميا على حد قول ماركوز، كما هو في المجتمع الأحادي البعد الذي أصبح الشكل العالمي للإنتاج المادي، وهي القوة الكلية المحددة لحياة العصر وثقافته، في ظل مجتمع طبقي قمعي اضطهادي، فان منطقها وهو منطق سيطرة الإنسان على الطبيعة، يصبح المنطق المحدد للعلاقات الاجتماعية أيضا فبدل أن تكون قوة تحررية أصبحت عقبة أمام تحرر الإنسان بتحويلها البشر إلى أدوات مسيطر عليها، فتكون عقلانية اللاعقلانية في التكنولوجيا أنها لا تجعل تحرر الإنسان غايتها الأولى، لان الواقع التكنولوجي الراهن هو واقع استعباد الإنسان وتشيؤه وتحوله إلى أداة لا واقع تحرره كما يعتبر ماركوز أن التكنولوجيا سياسة قبل أن تكون أي

ص: 542

آخر، لان منطقها هو منطق السيطرة والهيمنة، ولأنها تخدم سياسة القوى الاجتماعية المسيطرة في الوقت الراهن(1).

كيف لنا أن نتصور مجتمع ما بعد العمل الذي بموجبه يفقد الإنسان جزءاً من

الامن بما يمكن للعمل أن يوفره، إذ يذهب اندري غورتس في الاجابة من الانتقال الى الوقت الكامل للعمل الى استثمار الوقت لرفاهية الإنسان. مكتشفا في تعاسة الحاضر عن خيار لتطور اجتماعي، يوفق من جديد بين الأمن والحرية للجميع على التتالي: إننا نترك مجتمع العمل من غير أن نبحث عن ملامح مجتمع جديد، نحن نعلم ونحس وندرك أنه من الممكن أن نصبح عاطلين، من الممكن أن نكون عمالا في الحد الادنى، وعمالا لبعض الوقت باحثين عن فرص العمل، وعمالاً مؤقتين، ولكن ما يعرفه كل واحد منا نحن الافراد ، لم يصل بعد الى ادراك حقيقتنا الجديدة المشتركة. انه يمين الصدق، الذي يقول: طوباوية السوق الحرة ليست هي الحل وانما هي سبب المشكل الجوهري، ثم أن مولدا جديد للنمو لان يبعث مجتمع عمل الوقت الى الحياة(2).

لكن ما هو البديل عن مجتمع العمل، نحن نعلم أن التقنية حلت نتيجة انتهاء هذا المجتمع وتحول دور الإنسان من الوقت الكامل للعمل الى وقت الرفاهية كما مر مسبقا الا أن التحول الطبيعي لهذا المجتمع كما يذهب اولريش بيك في «أن نقيض مجتمع العمل هو تقوية المجتمع السياسي للأفراد، لمجتمع المواطنين النشيط في عين المكان وعبر الحدود»(3). إن الراسمالية بوساطة التقنية تلغي العمل. ولم تعد البطالة مصيراً حدياً، إذ هي تصيب من حيث طاقتها الكل وتصيب الديموقراطية بوصفها شكلاً من أشكال الحياة، ولكن الراسمالية الشاملة، التي تزيل مسؤولية التشغيل والديموقراطية، تدفن بذلك شرعيتها الخاصة، قبل أن يوقظ ماركس جديد الغرب من سباته، ينبغي

ص: 543


1- ينظر هربارت ماركوز ، الإنسان ذي البعد الواحد ص 13.
2- بيك اولريش: هذا العالم الجديد (رؤية مجتمع المواطنة الجديد) ترجمة: د، ابو العيد دودو، منشورا دار الجمل،الطبعة الأولى ص9.
3- المصدر نفسه ص 9.

العودة إلى الافكار والنماذج المنتهية منذ مدة من اجل عقد اجتماعي متغير. فمستقبل الديموقراطية وراء مجتمع العمل يجب أن يؤسس من جديد(1).

إلا أن انتهاء العمل أو تحول مساره، كما في وقت الرفاهية لابد من النظر في أن نوع العمل تغير الى ما تقدمه الشركات او المصانع ليس سلع مصنعة بل الى ما يمكن أن يقدم من خدمات فنجد وجود شركات خدمية مختصة بكل الخدمات المقدمة من التعليمية والسياحية وصولا الى خدمات الاتصال والنقل مما يفتح نافذة اخرى لشكل اخر من العمل.

يقترب مجتمع العمل من نهايته كلما زاد تعويض الناس بأستعمال التفنيات الذكية، فالبطالة المتزايدة، لن يكون من الممكن العودة بها لفترة طويلة الى الازمات الاقتصادية، وانما الى راسمالية متطورة من الناحية التقنية، وهذا يعني أن الالية السياسية الاقتصادية القديمة قد فشلت، وعمل الكسب كله قد وقع تحت طائلة التعويض الخطر الذي لايزال التحفظ بشانه قائما(2).

إن الخطر الكامن بعد انتهاء العمل ليس من مسؤولية الدولة فحسب كذلك الافراد والمؤسسات التي لاترتبط بالدولة بصورة مباشرة ومن حقها، أو تمتلك تسريح العمال بسهولة «كلما زاد عدم تدخل الدولة وزادت المرونة في علاقات العمل، ازدادات سرعة تغير مجتمع العمل الى مجتمع الخطر تغيرا، لايمكن تقديره لا بالنسبة الى الدولة والسياسة ومن المهم جدا في الوقت ذاته حل لغز الخطر»(3).وهذه مشكلة تلخص العمل ومحدوديته بالنسبة للافراد الذي اصبح عامل من تدهور حياة الإنسان وتعاسته وفي بعض الاحيان انحرافه الى اعمال غير شرعية.

إن التكنلوجيا أو التقنية التي الغت دور العمال لم تدرك بصورة لا ارادية بان هذا العامل أو المواطن هو صوت فاعل بكونه هو المستهلك و المشتري لكل ما تنتج

ص: 544


1- ينظر اولريش بيك ماهي العولمة؟ ترجمة د. أبو العيد دودو منشورات الجمل بيروت - بغداد الطبعة الثانية عام 1999 ص 105 .
2- بيك اولريش: هذا العالم الجديد ص5.
3- المصدر نفسه ص 7.

وما أن يقاطع هذه المنتجات حتى يتعطل دورها، وهذه اشكالية لم يفكر فيها كثير من القائمون على التقنية، إذ اكتشف المواطن أن فعل الشراء يعد بمثابة ورقة تصويت يستطيع أن يطبقه بشكل سياسي دائم، ففي المقاطعة يتحالف المجتمع الاستهلاكي النشط مع ديمقراطية مباشرة و ذلك على مستوى العالم كله.

الخاتمة

بعد أن عرضنا جدل العلاقة بين ما يعانيه الإنسان وما يهم له أو يقلق وما ساهمت فيه التقنية من تعزيز هذا الوجود الواهم للسعادة والرفاهية التي قيدت بشروط تلك النتاجات يمكن ان نختصر أهم النتائج في الاتي:

مايهمنا من هذه الدراسة هو كيف استطاعت التقنية افراغ الانسان. ولاسيما الاوربي بكونه المصنع لها الى افراغ قلبه من كل عقيدة دينية أو جانب روحي، مكونة بذلك الازمة الاخلاقية والاضطراب والفوضى في حياة الناس مصادرة بذلك كل عوامل السعادة.

إن القلق عند هيدجر عامل ضروري لاستمرار الحياة، وهو ماينقذ الإنسان بما يشكله من الحرية، وذلك في تمييز الوجود الزائف عن الوجود الحقيقي، في حين اولریش بيك يعد الخطر هو ما يُعدم الحياة مسبباً في ذلك ازمات يصل تاثيرها الى كل انحاء العالم.

لا يقتصر الانكشاف أو التنبو بالمستقبل على عامل الموت بكونه لحظة الحقيقة عند هيدجر ومعها يزول كل مجهول، بل أنه يسري على التنبؤ بالحوادث والازمات الكونية ومنها الحروب النووية والبيولوجية.

أعادت التقنية انتاج الافكار من جديد بما يناسب تحقيق الربح في كل مكان، وإن كان ذلك يتصادم مع روح العلم والاخلاق.

عملت التقنية على تلخيص الايدي العاملة مما أدى الى تسريح الكثير من العمال من المصانع، مسببة بذلك ازمة مالية وفقر من دون مراعاة لحقوق العمال.

ص: 545

قائمة المصادر

1. ابراهيم أحمد: إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هيدجر منشورات الاختلاف الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت الطبعة الأولى 2006.

2. أولريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي (بحثاً عن الامن المفقود) ترجمة: علا عادل، هند ابراهیم، بسنت حسن، المركز القومى للترجمة، الطبعة الاولى 2013.

3. هذا العالم الجديد (رؤية مجتمع المواطنة الجديد) ترجمة : د، ابو العيد دودو، منشورا دار الجمل، الطبعة الأولى كولونيا 2001.

4. السلطة والسلطة المضادة (في عصر العولمة) ترجمة د. جورج كتورة د. إلهام الشعراني. المكتبة الشرقية بيروت، الطبعة الأولى 2010.

5. ماهي العولمة ؟ ترجمة د. أبو العيد دودو منشورات الجمل بيروت - بغداد الطبعة الثانية عام 1999.

6. أميل برييه: اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ترجمة: د محمود قاسم. مراجعة د: محمد محمد القصاص، منشورات دار الكتاب للنشر والطباعة والتوزيع، المكتبة العامة، جامعة الاسكندرية، سنة النشر 1998.

7. جان فرانسوا دوريتي: فلسفات عصرنا تياراتها، مذاهبها، أعلامها، وقضاياها. ترجمة: إبراهيم صحراوي، الدار العربية للعلوم ناشرین، منشورات الاختلاف. الجزائر الطبعة الأولى 2009.

8. زکریا :ابراهيم دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر.

9. طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ - ميغان موریس: مفاتیح اصطلاحية جديدة (معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع)، ترجمة: سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، مركز الدراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى بيروت 2010.

10. ليزا بورتولوتي : الفلسفة والسعادة، ترجمة وتقديم أحمد الانصاري، مراجعة حسن حنفي المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الأولى 2013.

11. محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العاليا لحداثة الفلسفية (نصوص مختارة) الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1، بيروت 2009.

12. مارتن هيدجر : التقنية - الحقيقة - الوجود. ترجمة محمد سبيلا، عبد الهادي مفتاح المركز الثقافي العربي لاتوجد سنة نشر.

13. نداء الحقيقة ترجمة د: عبد الغفار مكاوي - كلية الاداب جامعة القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة عام 1977.

14. فؤاد كامل: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل بيروت، الطبعة الاولى 1993.

15. فؤاد زكريا : التفكير العلمي سلسلة عالم المعرفة يناير 1987.

16. هربارت ماركيوز، الإنسان ذي البعد الواحد ترجمة: جورج طرابيشي دار الاداب، بيروت ط3 1988

ص: 546

هذا الكتاب

يسعى هذا الكتاب المؤلف الجماعي بمجلداته

الثلاثة إلى استعادة التراث الأخلاقي الإسلامي بأبعاده

الدينية والفلسفية والسوسيولوجية وكذلك إلى

التعرف على التيارات والمذاهب الأخلاقية على نطاق

إنساني شامل، وذلك انطلاقاً من استراتيجية معرفية

تهدف إلى إعادة تظهير مكارم الأخلاق كقيمة جوهرية

لبناء الحضارات الإنسانية المعاصرة.

إنَّ أُطروحة الكتاب تمثَّلُ الموقف الذي تنطلقُ مِنْهُ في

مقاربة موضوعِنا، وهي راهنيّةُ الأخلاقِ وأثرها في

إقامة السلوك وتقويمه ، وبَعْثِ قيم العدل والفضيلة

من خلال تأصيلها في النصّ الديني؛ لما يمثله من

مركزية ثقافية ووجدانية في ضمير الناس ولعل هذا

يتحقق من خلال تناول قيم مكارم الأخلاق وهي وهي تمثَّلُ

رأس مال مشترك بين المسلمين.

تطبيق المركز

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 547

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.