دور الأحداث التأريخية في بيان معتقدات أهل البيت (عليهم السلام)

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

دور الأحداث التأريخية في بيان معتقدات أهل البيت (عليهم السلام )

المؤلف : السيد مصطفى مطهري

ترجمة : أسعد الكعبي

المطبعة كربلاء المقدسة - دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الإخراج الفني: نصير شكر

الطبعة : الأولى 1435 ه / 2014م

دور الأحداث التأريخية في بيان معتقدات أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

دور الأحداث التأريخية في بيان معتقدات أهل البيت (عليهم السلام )

المؤلف : السيد مصطفى مطهري

ترجمة : أسعد الكعبي

المطبعة كربلاء المقدسة - دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الإخراج الفني: نصير شكر

الطبعة : الأولى 1435 ه / 2014م

ص: 4

الإهداء..

أهدي هذا الكتاب إلى:

ولي الله المظلوم المغصوب حقه..

وإلى زوجته المهضومة سيدة نساء العالمين..

وريحانة نبي الرحمة..

ص: 5

ص: 6

تمهيد

لا يختلف اثنان في أن مذهب التشيّع الذي يستفيض عبقه من مدرسة أهل البيت (عَلیهِمُ السَلامُ) له دورٌ أساسيٌّ في نشأة الثقافة والحضارة الإسلاميتين واستمرار مسيرتهما التكاملية، ولا ريب في أنّ الأفكار التي طرحها هذا التيار الديني الحيّ الصانع للحضارة تنمّ عن سموّه وعظمته، وكلّ ذلك بفضل تراث أهل بيت الرسالة من أحاديث وسيرة مباركة وجهود علماء الشيعة الأعلام.

تيارٌ كان وما زال فرقداً لامعاً يتلألأ في سماء الجهل والشبهات المظلمة، وهو فكرٌ لا ترقى إلى قمّته الرفيعة عقل من يدّعي العلم زوراً وكذباً.

وعلى الرغم من ضرورة التعمّق في فهم مسيرة تنامي فكر التشيع في كلّ قرنٍ إلا أنّ ضرورة إجراء بحوثٍ ودراساتٍ حول القرون الثلاثة الأولى من عمر الدين المحمدي تتجلّى أكثر في عصرنا

ص: 7

الراهن الذى استقطبت فيه البحوث العلمية عدداً كبيراً من الباحثين.

تلك القرون لها خصائص وميزات عديدة وبما فيها حضور أئمّة أهل بيت العصمة والطهارة لمدّةٍ تقارب 250 عاماً وهو ما يعبّر عنه ب«الإنسان الذي عمّر 250 عاماً» لم نفسٌ واحدةٌ .

ومن هذا المنطلق قام الكثير من الكتاب والمفكّرين بتدوين بحوثٍ لأجل إثبات أو إنكار معتقدات الشيعة ومبتنياتهم الفكرية بالاعتماد على رؤى وتوجّهات معينة في مجال دراساتٍ تأريخيةٍ لأهدافٍ عديدةٍ وعلى مستوياتٍ علميةٍ مختلفةٍ، حيث تطرّقوا إلى الحديث عن المسيرة التكاملية لمدرسة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) في نطاق التحوّلات المعرفية التأريخية، أو م تطرّقوا إلى التفصيل مقابل التدرّج والإجمال ولا سيما في موضوع الإمامة، وبالتالي تحصّلت لديهم نتائج متنوّعة ٌعلى هذا الصعيد.

يعتقد البعض أنّ أساس معتقدات الشيعة في عهد الأئمّة المعصومين الأوائل (عَلیهِمَ السَلامُ) لم يكن مطروحاً آنذاك، لكنّها نشأت إبّان أحداث القرون الثلاثة الأولى من عمر الإسلام بواسطة الموالين لأهل البيت، فتكوّنت على هيئة أصولٍ فكريةٍ شيعيةٍ. وفي مقابل هؤلاء تصدّى آخرون للدفاع عن أصالة الفكر الشيعي المقدّس وأكّدوا على أنّ معارف الشيعة تضرب بجذورها في القرآن والسنّة النبوية في جميع مواضيعها وإنّه قد تمّ بيانها بإجمالٍ وتفصيلٍ مع مراعاة الدور الخلاق

ص: 8

للعناصر المؤثّرة من شتّى النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون أن تتغيّر مضامينها بالاعتماد على أساليب البيان والأدب الديني الذي يتناسب مع كلّ عصرٍ ، وذلك طوال القرون الثلاثة الأولى في باكورة ظهور الإسلام المحمدي.

عزيزي القارئ، هذا الكتاب هو بمثابة خارطة ٍوإطارٍ جديدٍ لفكرٍ عريقٍ ويروم المؤلّف فيه طرح خطّة على أساس الرأي الثاني للإجابة عن السؤالين التاليين : كيف كانت مسيرة بيان معتقدات الشيعة ومعارفهم؟ وما هي العناصر التي لها تأثيرٌ في بيانها؟

ويتضمّن الكتاب في مستهلّه مباحث عامّة ذات صلةٍ بالموضوع تتلوها ثلاثة فصولٍ، ويشتمل الفصل الأوّل نماذج من آراء المؤيدين لمسألة التحوّل التأريخي في الفكر الشيعي، ووضّحنا فيه الرأي الأوّل بإيجازٍ.

أمّا في الفصل الثاني فقد ذكرنا أوّلاً تعريفاً للقضايا التأريخية في أربعة محاور سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، ومن ثمّ تناولنا الموضوع في إطار بحثٍ تطبيقي.

وأمّا في الفصل الثالث فقد قمنا بإجراء دراسة ٍمقارنةٍ للمسيرة الإجمالية - التفصيلية لموضوع الإمامة مع التركيز على الدور الأساسي للقضايا التأريخية في أربع مراحل.

أُقدّم شكري وامتناني لأساتذتي المحترمين وهم سماحة الشيخ

ص: 9

محمد تقي السبحاني والسيد محمد كاظم الطباطبائي والسيد علي رضا الحسيني الذين أخذوا بيدي لتدوين هذا الأثر وأناروا طريقي بإرشاداتهم القيّمة.

وفي الختام أرجو من القرّاء الكرام أن يتحفونا بآرائهم و انتقاداتهم ومقترحاتهم.

والحمد لله رب العالمين..

قم المقدسة

***

ص: 10

مباحث عامّة

أسلوب بيان الفكر:

لا شكّ في أنّ القرآن الكريم هو المصدر الأساسي لاستنباط ومعرفة الأحكام والمعارف الإسلامية، ونستلهم من آياته أنّ الله تعالى قد قدّر في علمه الأزلي بأن يجعله ذا منزلة رفيعةٍ (1) وعلى هذا الأساس فإنّه قد أصبح أثراً خالداً (2) وشاملا (3) يمهّد الطريق للناس كي ينتفعوا منه في جميع مراحل حياتهم (4) لأنّه لم يترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا وتطرّق إليها. (5)

ص: 11


1- قال تعالى: (إنَّهُ في أُمّ الكتابِ لدينا لعلىٌّ حكيمٌ) ، سورة الزخرف / الآية 4
2- قال تعالى: (إن هو إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبينٌ) ، سورة يس / الآية 69.
3- قال تعالى: (تبياناً لِكُلّ شَيء )، سورة النحل / الآية 89.
4- قال تعالى: (هُدَى للنّاسِ )، سورة آل عمران / الآية 4؛ قال تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْأَنْ يَسْتَقِيمَ )، سورة التكوير / الآية 28 .
5- قال تعالى: )ما فَرَّطْنَا فِي الكِتابِ مِنْ شَيء (،سورة الأنعام / الآية 38.

وهناك ثلاث ميزات ٍاتّصف بها هذا الكتاب المقدّس جعلته حجّةً على مرّ التأريخ، وهي تجاوزه نطاقي الزمان والمكان ومواكبته جميع العصور دون أن يقتصر على زمن محدّدٍ، فهو كتابٌ سماويٌّ أُنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الجميع بني آدم(1) لهدايتهم من الضلال إلى نور عبادة الله تعالى كي ينعموا بالفوز العظيم. (2)

وبكلّ تأكيد فإنّ هذا الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو المعيار الأساسي لتقييم صحّة أو سقم كلّ مسألةٍ ومعلومةٍ دينيةٍ. (3)

ومن ناحيةٍ أخرى فلابدّ من مراعاة الحقائق الموجودة في الخارج عند طرح المعارف الدينية، أي يجب أن تراعى الظروف الزمانية والمكانية ومختلف الأحداث الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؛ وذلك لأجل أن تتجلّى في إطار مدرسةٍ وتيارٍ فكريٍّوكذلك لتصبح مفهومةً وذات مكانةٍ تمتاز بها. فهذه حقيقةٌ يثبت التأريخ أنّها حدثت مراراً في عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلى أساسها تمّ

ص: 12


1- قال تعالى: ( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ )، سورة المائدة / الآية 92؛ وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ )، سورة النمل / الآية 89.
2- قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) ، سورة الأحزاب / الآية 71.
3- روى الكليني عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله : «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله»،الكافي، ج 1 ، ص 60.

بیان بعض المعارف الأساسية وتفصيلها ،كمسألة الخلافة وآية إكمال الدين، وبعض المعارف الفرعية كبيان الأحكام الشرعية الأساسية التيتتضمّن الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والحجّ والحجاب وتحريم الخمر وما شابهها بشكلٍ تدريجيٍّ وعلى مرّ الزمان. إذن طبقاً لذلك، فبالتأكيد هناك عنصرٌ أساسيٌّ رابعٌ للتبليغ فضلاً عن العناصر الثلاثة الأساسية التي هي مرسل الوحي ومستلمه ومحتواه، وهذا العنصر هو الإمامة التي تعني هداية الناس بيد من هو أهلً لذلك بعد النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أي الإمام (1) ، وهي في الحقيقة امتدادً للنبوّة وأصلً هامًّ ناشئ من السّنن الدينية. لذا، فإنّ مسؤولية النبي والأئمة هي طرح التعاليم التي جاء بها الوحي لخامس عنصرٍ أساسيّ وبيانها وتفسيرها وإكمالها، وهذا العنصر هو المخاطب ؛ ويتمّ ذلك عبر تقييم الأجواءلعامّة المخاطبين ومعرفة جميع الظروف المحيطة بهم(2).

هذه الرؤية تثبت بوضوح أنّ بيان معلومة بواسطة الأئمّة بهدفتعميمها وترسيخها في المجتمع له عقباته ومصاعبه الخاصّة، إذ لا تنشأ التيارات الفكرية ولا تتنامى في أيّ مجتمعٍ إلا في رحاب أحداثٍ وظروف متنوّعة قد تتماشى معها أحياناً وتتناقض معها أحياناً أخرى؛

ص: 13


1- قال تعالى: ( الراسخونَ فِي العِلْمِ) ، سورة آل عمران / الآية 17 .
2- الكافي، ج 1، ص 23؛ الغيبة، ص 41 ؛ وهناك موارد مماثلة في صحيح البخاري، ج1،ص 41 .

لذا لأجل دراسة ما يطرأ على كلّ تيار فكريّ ومعرفة واقعه فلا بدّ من الإلمام بجميع المسائل الفرعية التي من شأنها تمهيد الأرضية الفكرية عن وجوب معرفة واقع الأحداث التأريخية المصيرية والمؤثّرة كي نتمكّن من تحليل هذا التيار في جوانبه كافةً بعيداً عن التوجهاتالمنحازة وغير المنصفة.

وبعبارة أخرى، لأجل طرح تحليلٍ صحيحٍ لظاهرة ما فلا بدّ من الاعتماد على المعرفة الصحيحة وتسخير العناصر التأريخية لهذا الغرض، وعلى هذا الأساس فالمقصود من« العنصر التأريخي» هو كلّ حادثة أو جانب محدود من مجمل القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي تلعب دوراً في تيار فكريّ ما على مرّ التأريخ. على سبيل المثال، لا يمكن الاكتفاء بجانب سياسيّ محدّدٍ أو حادثة سياسية واحدة لبيان شخصية الإمام والتعريف بمكانته لأنّ التأكيد على الفهم الاجتماعي الإسلامي العامّ له تأثيرٍ على صعيد معرفة الضرورات العلمية في المواضيع الأخرى للفئات التي أسلمت حديثاً والتوجّهات الاجتماعية للشعب وقدرته الاقتصادية من الناحية المعرفية، وما شاكل هذه الموارد التي لها تأثيرً في مجال بيان هذه المسائل بواسطة الأئمة.

بناء على ذلك، فعلى الرغم من كون المصدر الأساسي لمضمون المعارف الدينية واحداً، لكن هناك بعض الملاحظات على مختلف المواضيع قد أدّت إلى حدوث تذبذبٍ في طريقة بيان هذه المعارف،

ص: 14

وكذلك فإنّ الظروف المتغيّرة تجعل المتصدّي لبيان أحكام الشريعة مضطراً لأن يوضّح مختلف جوانبها بأساليب خاصّة من حيث الإجمال والتفصيل وتوسيع نطاق المضمون أو تضييقه انطلاقاً من مستوى إدراك عامّة الناس وخاصّتهم، وبالطبع فإنّ أسلوبه هذا لا يمسّ بالمضمون ولا يوجد فيه أية تغييرات معرفيةٍ. إذن، نستنتج أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة (علیهم السلام) قد وضّحوا المعارف الدينية للناس بمرور الزمان مراعين العناصر التأريخية، أي القضايا التي لها تأثيرً من النواحي الاجتماعية والسياسية والثقافية وأحياناً الاقتصادية، رغم أنّهم بينوا الأُسس الفكرية للخواصّ من أصحابهم في جميع المراحل.

استناداً إلى ما ذكر يتّضح أنّ ما تمّ بيانه مراعاة للظروف التي كانت سائدةً - حتّى في عهد الأئمّة المتأخرين - يبدو في ظاهره جديداً لكنّ جذوره تضرب في القرآن الكريم والسنّة النبوية، حيث انتقل من مرحلة الإجمال إلى التفصيل حسب مقتضيات الأحداث التأريخية وذلك في عدّة مراحل وبأساليب إجمالية أو تفصيلية. كذلك عند

التدقيق فيما اكتنف مسيرة منظومة المعارف والتعاليم الشيعية والتأمّل في مدى تأثير الأحداث التأريخية عليها، نستحصل وجود أربع مراحل زمنية تقريباً في عملية البيان الإجمالي - التفصيلي لهذه المعارف، وهي عبارة عن:

(1 عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى نهاية فترة إمامة الإمام السجاد (علیه السلام). (مرحلة وضع الأسس الفكرية).

ص: 15

(2 عهد إمامة الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (علیهما السلام) إلىسنة 145ه (مرحلة نشأة المعارف وازدهارها).

(3 عهد إمامة الإمامين موسى الكاظم وعليّ بن موسى الرضا (علیهما السلام). ( مرحلة ترسيخ الفكر وتقويمه).

(4عهد إمامة الإمام محمد الجواد (علیه السلام) إلى بداية عصر الغيبة. (مرحلة تطبيق الفكر على أرض الواقع).

هذه المراحل الأربعة ستكون معياراً في تقسيم بحوث الكتاب.

القيمة المعرفية للروايات :

بما أنّ الاستناد إلى الروايات في مباحث هذا الكتاب ذو أهميّة كبيرةٍ ونظراً لوجود خلافاتٍ في قبول بعض الروايات والاستناد إليها في إثبات أمرٍ ما، لذا من الضروري أن نعتمد عليها وفق المتبنّيات العلمية، وبناء على ذلك فإنّ الاعتبار المعرفي لها في هذا المبحث يرتكز على آراء القدماء. وبالطبع فإنّ تحليل النصوص الروائية ينبغي أن يتمّ من ناحيتين، إحداهما من حيث سندها والأخرى من حيث دلالةمضمونها.

والمضمون الذي يتمّ الاستناد إليه في الرواية التي تمّ تحليل سندها وتشخيص رواتها من كونهم شيعةً أو سنةً، قد يكون متعدّداً ومتشابهاً على نحو يؤدّي إلى حدوث اطمئنانٍ بصحّته، وفي هذه الحالة

ص: 16

فإن طرح اشكالات على أسانيد هذه الرواية لا ثمرة له، وكذلك لا نتيجة من التأكيد على بعض الرواة البارزين في السند أو ذكر ميزات أحدهم دون ملاحظة سائر السلسلة السندية أو غضّ النظر عنالمعايير المرتبطة بالمضمون، إذ قد تترتّب على ذلك نتائج محدودة وغير شاملة. هناك كتب تضمّنت مباحث موسّعة تطرّق مؤلّفوها إلى جمع هذا النوع من الروايات ودراسة أسانيدها على أساس آراء الشيعةوالسنّة على حدٍّ سواء، من قبيل «الغدير» و «إحقاق الحقّ» و«عبقات الأنوار».

أمّا بالنسبة إلى دلالة المضمون في النصوص، فلأجل إيجاد طرازٍجديد وبنّاء من الأدب الديني ومن ثمّ توسيع نطاقه بشكل تكامليٍّ،فلابدّ من دراسة مدى دلالة النصّ على أساس صدوره وسعة نطاقه والألفاظ المستخدمة فيه. ولو ألقينا نظرةً على الروايات مع مراعاة جميع جوانبها التأريخية المؤثّرة نلاحظ أنّ نصوصها تتضمّن وحدةً قد روعيت فيها جزئيات المواضيع الرئيسية والعقدية وفروعاتها، فأوجدت إثر ذلك منظومةً معرفية متكاملةً، ونجد أنّ أهل بيت النبوّة قد استثمروا جميع الأحداث التأريخية لطرحها وتوسيع نطاقها. ومن الممكن أن توجد اختلافات في النصوص على هذا الصعيد، ولكنّها تقتصر على الأُطر الخارجية التي تطرحها. وبعبارة أخرى، من الممكن ذكر كلامٍ واحدّ مع مختلف زواياه لعدّة مخاطبين أو في عدّة مراحل مع مراعاة مختلف الظروف، لذلك فإنّ الادّعاءات غير المنصفة والتي

ص: 17

لا تستند إلى أساس علميّ من قبل الخصوم عبر استغلال المفاهيم ذاتالمعاني المزدوجة بهدف إثبات فرضياتهم وتعصبّاتهم الفكرية وانتقائهم بشكل متعمّد لبعض هذه النصوص، لا يبقي مجالاً لطرح إشكال على المضمون؛ إضافةً إلى ذلك فإنّ عدم مخالفة مضمون الكلام للقرآن الكريم يعتبر سبباً لقبوله.

فضلاً عمّا ذكر فإنّ هذا الرأي له نتائج هامّة، نذكر منها ما يلي:

1)حتّى مع افتراض ضعف السلاسل السندية لبعض الروايات، لكنّ مفاهيمها تكون مقبولاً نظراً لاتّصافها بالقرائن الخارجية كالحوادث التأريخية والشواهد الروائية، فعلى سبيل المثال لا يمكننا رفض روايات أبي سمينة بسبب تضعيف البعض لشخصيته وتراثه الروائي، إذ هناك شواهد ومسائل كثيرة تؤيّد صحّة رواياته بحيث لايمكن ردّها.

2)عدم الاعتماد على تضعيف الرواة بسبب كونهم غلاةً.

لا شكّ في أنّ الاتّهام بالغلوّ يعتبر أحد أهمّ المؤشّرات على ضعف الراوي، لذا فإنّ التمحيص في أسباب وخلفيات نسبة الغلوّ إلى الراوي يثبت أنّ قبول هذا الاتّهام صعبً للغاية ولا يمكن الحكم به بشكل قطعيٍّ في معظم الموارد. وهذا الأمر يرجع إلى سببين أساسين، هما:

أ - مخالفة المعصومين لتضعيف الراوي بسبب غلوه في نماذج

ص: 18

مختلفة، كما نقل النجاشي في ترجمة محمّد بن أرومة، حيث قال: «وقال بعض أصحابنا إنّه رأى توقيعاً من أبي الحسن الثالث (علیه السلام) إلى أهل قم في معنى محمد بن أورمة وبراءته مما قذف به(1).

كما ذكر الكشي عن المعصوم ردّة فعل تجاه موقف الفضل بنشاذان حول رجل وفد من العراق(2).

ب - باعتبار أنّ المباحث الكلامية ذات مواضيع دقيقة.

وفي هذه الحالة، ما لم تتّضح وحدة المبنى مع من ضعّف الراوي فلا يمكن الاعتماد على تضعيفه (3)، والشاهد على ذلك ما نجده في مؤلّفات النجاشي وابن الغضائري، فالمرحوم النجاشي قد اعتمد على نقد مضمون بعض التراث الروائي مثلما فعل في تعامله مع روايات محمّد بن أرومة وحسين بن يزيد النوفلي(4) وعلي بن محمد القاساني(5) ومحمد بن بحر (6)والحسين بن عبيد الله (7)، حيث لم يقبل اتّهامهم بالغلو.

على سبيل المثال، في ترجمته لمحمّد بن أرومة عندما ذكر اتّهامه بالغلوّ

ص: 19


1- رجال النجاشي، ص 329
2- رجال الكشي، ص 538
3- هذا الموضوع مقتبس من دروس آية الله شبيري زنجاني
4- رجال النجاشي، ص 38
5- المصدر السابق، ص 255.
6- المصدر السابق، ص 358 .
7- المصدر السابق، ص 43 .

تطرّق إلى نقد مضمون ما نقل عنه، وبعد أن نفى الغلوّ عنه اعتبر تراثه الروائي سليماً، حيث قال: «وكتبه صحاح إلا كتاباً ينسب إليه، ترجمته تفسير الباطن، فإنّه مختلطً »(1).

وقال أيضاً في ترجمة محمّد بن بحر: «ممّن طُعن عليه ورُميبالغلوّ، له كتب صحيحة الحديث»(2).

وابن الغضائري اتّبع نفس هذا الأسلوب أيضاً حول أحمدبن الحسين بن سعيد (3) ومحمد بن أروم (4) وإبراهيم بن إسحاق الأحمر (5) حيث تناول رواياتهم بالبحث والتحليل.

بيان معاني بعض المصطلحات :

أولاً : الشيعة :

كلمة «شيعة» تعدّ أهمّ عنوان لتمييز تيارٍ فكريٍّ معيّن من بينسائر التيارات الإسلامية، لذا فإنّ معرفة المعنيين اللغوي والاصطلاحي

ص: 20


1- رجال النجاشي ، ص 329
2- المصدر السابق، ص 43
3- رجال ابن الغضائري، ص 41
4- المصدر السابق، ص 93
5- المصدر السابق، ص 40 .

لها والإلمام بتطوّر معناها من شأنه بيان المعتقدات الأساسية لهذا التيارإلى حدٍّ كبيرٍ.

على الرغم من أنّ أقدم كتب علم اللغة قد دوّنت بعد ظهور التيار الشيعي وأنّها اقتصرت على نقل كلام المتقدّمين، لكن يمكن الاعتماد بما فيه الكفاية على البحوث المطروحة فيها حول هذاالموضوع.

كلمة «شيعة» هي لفظٌ مفردٌ وجمعها «شيَع» و«أشياع»(1) ، وهذان الجمعان مترادفان من حيث المعنى (2) والاستعمال. ذكر علماء اللغة لكلمة «شيعة» ثلاثة معاني، وهي الاتباع والنصرة والانسجام في القول أو الفعل، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الكلمة تدلّ أحياناً على أحد المعاني (3) الثلاثة فقط وأحياناً على معنيين (4) وأحياناً أخرى تدلّ على المعاني الثلاثة (5) ، وكما ذكر البعض فإنّ المعنى الثاني - أي النصرة - هو المعنى الأصلي للكلمة (6) ، وفي هذه الحالة فإنّ المعنيين الآخرين يرجعان إلى المعنى الأوّل. وبعبارةٍ أخرى، عندما يتّفق البعض على

ص: 21


1- راجع سورة القصص / الآية 15 سورة الصافات / الآية 83 .
2- ذكر البعض فروقاً بين هاتين المفردتين، للاطلاع أكثر ، راجع: بدائع الفوائد، ص 161.
3- معجم مقاييس اللغة، ص 545 ؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 519 .
4- اقرب الموارد، ج 2، 519؛ لسان العرب، ج 1، ص 55
5- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، ج 1، ص 398.
6- معجم مقاييس اللغة، ص 545 ؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 519 .

فعلٍ أو قول فإنّهم في الحقيقة يتّبعون من قام بهذا الفعل أو ذكر هذا القول وينصرانه. وهناك احتمالٌ كبيرٌ بأنّ الشيخ المفيد (رحمة الله) قد استنتج هذا الأمر من المعنى اللغوي للكلمة، حيث قال: «التشيّع في أصل اللغة هو الاتّباع على وجه التدّين والولاء للمتبوع على الإخلاص) (1).

ومن الجدير بالذكر أن مشتقّات مادة (ش - ي - ع) قدروردت في اثنتي عشرة آيةً قرآنيةً، كالتالي:

»شيَعاً» أربع آياتٍ (2) ، »شيعته» ثلاث آياتٍ (3) ، «بأشياعهم» آيةٌ واحدةٌ (4) ، «أشياعكم» آيةً واحدةٌ (5) ، «شيَع» آيةٌ واحدة ٌ(6) ، «شيعة» آيةٌ واحدة (7) ، «تشيع» آيةٌ واحدةٌ (8).

في معظم هذه الموارد وكما هو مستوحى من القرآن الكريم، فإنّ معنى هذه الكلمة يعني تجمّع الناس في فئاتٍ أو تحوّلهم إلى فئاتٍ، وبالطبع فإنّ بعض هذه الآيات قد أشارت بنحوٍ ما إلى اتباع شخصيةٍ

ص: 22


1- أوائل المقالات، ص 34
2- سورة الأنعام / الآيتان 65 و 159؛ سورة القصص / الآية 4 ؛ سورة الروم الآية 32.
3- سورة القصص / الآية 15 (مرتان)؛ سورة الصافات / الآية 83.
4- سورة سبأ / الآية 54
5- سورة القمر / الآية 51 .
6- سورة الحجر / الآية 10
7- سورة مريم / الآية 69 .
8- سورة النور / الآية .19

واحدةٍ، ولكن في سورة الصافات وردت كلمة «شيعته» (1) وأشارت بصراحةٍ إلى وجود علاقة بين شخصٍ أو فئةٍ لهما رؤيةٌ معيّنةٌ وبين من يقودهما، وقد تمسّك الشيخ المفيد (رحمة لله) بهذه الآية (2) واستنتج من التضادّبين كلمتي «شيعة» و«عدو» معنيي الولاء والخلوص لكلمة «شيعة» وهذا ما ينطبق مع المعنى اللغوي للكلمة، إلا أنّ ابن الجوزي حاول في موارد عديدة زعم أنّ هذه الكلمة تتضمّن معنىً يناقض الاجتماع وأنّها تدلّ على التفرقة بحسب المعنى اللغوي الآخر لها، لذلك استنتج أنّ استعمالها في أغلب الآيات القرآنية يتعلّق بالفئات الضالّة والمنحرفة،وبعد ذلك استخدمت للإشارة إلى مذهب «الشيعة»(3).

وبغضّ النظر عن الاستعمالات القرآنية والتعريفات التي طرحها علماء اللغة، فإنّ كلمة «شيعة» ومشتقاتها شهدت تغييراتٍ جذريةً من حيث المفهوم إبّان القرون الثلاثة الأولى كما أنّ الأحداث التي وقعت على مرّ العصور كان لها تأثيرٌ على فهم معنى هذه الكلمة لدرجة أنّ هذه الأحداث كانت أحياناً تغيّره بالكامل أو أنّها تجعل أحد مصاديقه أكثر وضوحاً من غيره.

لا شكّ في عدم وجود اختلاف بين العلماء حول التعريف العامّ

ص: 23


1- سورة القصص / الآية 15 .
2- الآية 15 من سورة القصص.
3- أصول مذهب الشيعة، ج 1 ، ص 34 نقلاً عن الفوائد، جج 1 ، ص 155 .

لكلمة «شيعة» من حيث دلالتها على فئةٍ من المسلمين تؤمن بإمامة الإمام علي بن أبي طالب (علیهِ السّلام) ، ولكنّ معرفة هذا المصطلح بمعناه الخاصّ والمقيّد يتطلّب دراسةً وتحليلاً لخلفيته التأريخية، وهذا الأمربمثابة الحكم بوجود اختلافٍ أو عدم وجوده في المعتقدات الأساسيةلأتباع مذهب أهل البيت طوال القرون الثلاثة الأولى وله دورٌ مؤثّر فيطرح تعريفٍ صحيحٍ للشيعة.

هناك آراءٌ عديدةٌ بالنسبة إلى منشأ التشيّع وخلفيته التأريخية،ويمكن تلخيصها في ثلاثة موارد كالتالي:

(1النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو المؤسّس .

(2المسلمون إثر الأحداث التي طرأت بعد رحيل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هم الذين أسّسوه.

(3غير المسلمين هم الذين أسّسوه (1).

يستدلّ أصحاب الرأي الأوّل ببعض الروايات على أنّ النبيالأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الذي أسس مذهب التشيّع، حيث أطلق على البعضاسم «شيعة» في مناسباتٍ مختلفةٍ وهذه الحقيقة تناقلتها مصادر الفريقينشيعةً وسنّةً، فعلى سبيل المثال روى جلال الدين السيوطي نقلاً عن

ص: 24


1- سيأتي في أحد هوامش الفصل الأول في مبحث المستشرقين ذكر آرائهم وتقسيمها،ومصدر هذه الآراء سيذكر هناك أيضاً.

جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عباس والإمام عليّ (علیه السلام) عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحات أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ) ما يلي: (1) «أخرج ابن عَسَاكِر عَن جابر بن عبد الله قَالَ: كُنَّا عِنْد النَّبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأقبل عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِن هذا وشيعته لَهُم الفائزون يَوْمِ الْقِيَامَة) ، ونزلت: (إِن الَّذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئكَ هم خير الْبَريَّة) ، فَكَانَ أَصْحَاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذا أقبل عليَّ قَالُوا: جَاءَ خير الْبَريَّة.

وأخرج ابن عدي وَابْن عَساكر عَن أبي سعيد مَرْفُوعا: (علىّ خير الْبَريَّة) وأخرج ابن عدي عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما نزلت (إِنَّ الَّذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئكَ هُمْ خَيْرُ الْبَريَّة) قَالَ رَسُول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لعَليّ: (هُوَ أَنْت وشيعتك يَوْمِ الْقِيَامَة راضين مرضيين).

وأخرج ابن مُرْدَوَيْه عَن عليّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «ألم تسمع قول الله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَريَّة) أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الْحَوْضِ إِذا جَنَّتِ الأُمَمِ للحساب تدعون غرّاً محجلين» (2).

إذن، استناداً إلى هذه الروايات وما ناظرها من رواياتٍ أخرى

ص: 25


1- سورة البينة / الآية 7
2- الدر المنثور، ج 8، ص 538.

فإنّ النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الذي سمّى أتباع أمير المؤمين (علیه السلام) شيعةً، وهذه التسمية بكلّ تأكيدٍ لا تخلو من حكمةٍ ولها أسبابها، وسياق الكلام يشير إلى مدى أهمية هذه الفئة من المسلمين لدى نبينا الكريم (1). والمنقول في المصادر التأريخية (2) هو الآخر شاهدٌ على أنّ هذه الفئة كانت تمتلك اعتقاداً أعمق من عامّة الناس وعلماً أوسع، وليس ذلك إلا العقيدة السمحاء التي ذكر تفاصيلها الأئمّة المعصومون (علیهم السلام) والعلم الذي أتحفوا الناس به.

ويقول العلامة كاشف الغطاء (رحمةالله) بعد أن ذكر بعض هذه الروايات: «ولو أراد المتتبع لكتب الحديث مثل مسند الامام أحمد حنبل وخصائص النسائي وأمثالهما أن يجمع أضعاف هذا القدر لكانسهلاً عليه، وإذا كان نفس صاحب الشريعة الاسلامية (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له يُكرر ذكرشيعة عليّ (علیه السلام) وينوّه عنهم بأنّهم هم الآمنون يوم القيامة وهم الفائزون والراضون المرضيون، ولا شك أنّ كلّ معتقد بنبوته يصدقه فيما يقول وأنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى؛ فإذا لم يَصِر كلّ أصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شيعة لعليٍّ (علیه السلام) فبالطبع والضرورة تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممَّن ينطبق عليه ذلك الوصفبحقيقة معناه لا بضرب من التوسّع والتأويل.

ص: 26


1- قرب الإسناد، ص 9
2- سنشير لاحقاً إلى نماذج من هذه الحقائق التأريخية.

نعم، وهكذا كان الأمر، فإنَّ عدداً ليس بالقليل اختصوا في حياة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعليٍّ (علیه السلام) ولازموه وجعلوه إماماً كمبلِّغ عن الرسول وشارحٍ ومفسِّرٍ لتعاليمه وأسرار حكمه وأحكامه، وصاروا يُعرفون بأنّهم شيعة عليٍّ (علیه السلام) كعَلَمٍ خاصٍّ بهم كما نصَّ على ذلك أهل اللغة.

راجع النهاية ولسان العرب وغيرهما، تجدهم ينصّون على أنَّ هذا الاسم غلب على أتباع عليٍّ (علیه السلام) وولده ومن يواليهم حتى صار اسماً خاصاً بهم، ومن الغني عن البيان أنه لو كان مراد صاحب الرسالة من شيعة علىٍّ (علیه السلام) مَنْ يحبه أو لا يبغضه بحيث ينطبق على أكثر المسلمين كما تخيَّله بعض القاصرين لم يستقم التعبير بلفظ (شيعة)، فإنّ صرف محبة شخصٍ لآخر أو عدم بغضه لا يكفي في كونه شيعةً له، بل لا بدَّ هناك من خصوصية زائدة، وهي الاقتداء والمتابعة له، بل ومع الالتزام بالمتابعة أيضاً؛ وهذا يعرفه كلّ من له أدنى ذوقٍ في مجاري استعمال الألفاظ العربية، وإذا استعمل في غيره فهو مجاز مدلول عليه بقرينة حال أو مقال.

والقصارى إنّي لا أحسب أنّ المنصف يستطيع أن ينكر ظهور تلك الأحاديث وأمثالها في إرادة جماعةٍ خاصةٍ من المسلمين ولهم نسبةً خاصّة بعلىٍّ (علیه السلام) يمتازون بها عن سائر المسلمين الّذين لم يكن فيهم ذلك اليوم من لا يحب علياً، فضلاً عن وجود من يبغضه»(1).

ص: 27


1- أصل الشيعة وأصولها، ص 121 - 123.

أمّا القائلون بالرأي الثاني فيؤكّدون على أنّ التشيع نشأ إثر الأحداث والتيارات التي شهدها التأريخ الإسلامي بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، حيث يعتقدون أنّ أحداث السقيفة والنزاعات التي حدثت إبّان خلافة عثمان بن عفّان والحوادث التي وقعت أثناء حربي صفّين والجمل وكذلك بداية عهد إمامة الإمام الحسن (علیه السلام) وردود الأفعال التي صدرت بعد استشهاد الإمام الحسين (علیه السلام) وثورة زيد بن عليّ وما شهده العالم الإسلامي من نهضةٍ علمية في عهد الإمامين الصادق والباقر (علیهما السلام)، كلّها كانت أسباباً مهّدت الأرضية لظهور التشيع (1).

وأمّا القائلين بالرأي الثالث فإنّهم من خلال نسبتهم التشيّع إلى الفرس أو نسبته إلى عبد الله بن سبأ المتّهم بأنّه يهوديٌّ، يحاولون تجريده عن الإسلام(2).

وبغضّ النظر عن صحّة أو سقم هذه النظريات، فلو تأمّلنا في التأريخ لوجدنا أنّ كلمة «شيعة» في بادئ الأمر كانت تستعمل مضافةً إلى أسماء أشخاصٍ ذوي دورٍ مؤثّر في المجتمع الإسلامي، كما كانتتشير إلى تياراتٍ اجتماعيةٍ سياسيةٍ كعبارة «شيعة عليّ» (3) «وشيعة

ص: 28


1- ذكرت بعض أقوال المستشرقين حول هذا الموضوع في هامش الفصل الأوّل
2- تطرّق العلامة مرتضى العسكري إلى بيان هذا الموضوع بالتفصيل في كتابه «عبد الله بن سبأ»
3- ذكرت عبارة «شيعة عليّ في الأحاديث المنقولة عن رسول الله الله ، مراجع: الكافي،ج 1 ، ص 443

عثمان» و «شيعة أبي سفيان» و«شيعة معاوية».

ويقول الشيخ المفيد (رحمة الله) (1) وأبو حاتم الرازي(2)، فإنه بعد مدّةٍقصيرة من رحيل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شاع استعمال هذه الكلمة مقرونة مع «ال» العهد الذكري وفي بادئ الأمر كانت تشير إلى كلّ من يتّبع الإمام عليّ (علیه السلام) بغضّ النظر عن محبّته له (3) ، ومن ثمّ أضيفت إلى أسماء بعض الأشخاص، فقيل «شيعة أبي سفيان» و «شيعة معاوية»، وبعد ذلك ومعمرور الزمان أطلقت بشكل خاصٍّ على من يوالي الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) والأئمّة المعصومين من ولده الكرام.

كذلك هناك بعض المأثورات التأريخية التي تشير إلى إطلاق هذا اللقب على مختلف الطوائف المنتسبة إلى الشيعة (4) ، وكذلك على

ص: 29


1- الإرشاد، ص 34
2- الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، ص 261
3- للاطلاع الأكثر ، راجع : الكافي، ج 4 ، ص 31؛ كتاب سليم بن قيس، ص 794؛ تأريخ 4، الأمم والملوك ، ج 5 ، ص 352 . كما أن السيد عبد الله فياض يرى أن أقدم عبارة وردت فيها كلمة «شيعة» هي قول أبي مخنف : ( أتى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) رهط من الشيعة»، تأريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة منذ نشأة التشيع حتى مطلع القرن الرابع الهجري، ص 43
4- ذكر مؤلف كتاب (نهاية الإرب في فنون الأدب) تيارين من الشيعة، أحدهما يدعو لإمامة محمّد بن الحنفية والآخر يؤكّد على إمامة الإمام علي بن الحسين السجاد (علیه السلام). راجع: نهاية الارب في فنون الأدب، ج 22، ص 10

«الكيسانية» (1) وعلى بني العباس من باكورة خلافتهم حتّى بداية إمامة الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) ، والوجه المشترك في جميع هذه المسمّيات هو التأكيد على أفضلية الإمام عليّ (علیه السلام) مقارنةً مع غيره، وكلام أبان بن تغلب شاهد على هذا الأمر، حيث قال: «الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أخذوا بقول عليّ (علیه السلام) ، وإذا اختلف الناس عن عليّ (علیه السلام) أخذوا بقول جعفر بن محمد(علیه السلام) (2).

وهذا الكلام ينطبق تماماً ما قاله الإمام الصادق (علیه السلام) لأبي بصير: «افترق الناس كلَّ فرقةٍ واستشيعوا كلَّ شيعة، واستشيعتم مع أهل بيت نبيّكم (3).

ما نستلهمه من هذا الحديث هو أنّ استعمال لفظ «شيعتنا» (4) في كلام أهل البيت (علیهم السلام) كان استعمالاً هادفاً حيث أريد منه تمييز الشيعة الحقيقيين عن غيرهم ممّن ينسب نفسه إليهم. وبعبارة أخرى،

ص: 30


1- الوافي بالوفيات، ج 5 ، ص 457 . ساق المؤلّف بحثاً مفصلاً حول إطلاق هذا اللفظ على مختلف الطوائف الكيسانية، وبعض المؤلفين خصصوا أبواباً في مصنفاتهم حول هذا الموضوع . راجع: نهاية الإرب في فنون الأدب، ج 22 ، ص 10
2- رجال النجاشي، ص 12
3- الاختصاص، ص 104
4- للاطلاع على النماذج الكثيرة لاستعمال هذا المصطلح في الروايات راجع الكافي: 309/1، 312، 389، 429 . ففي /كثير منها يمكن تمييز شيعة أهل البيت عن غيرهم.

فإنّ الاختلاف الوحيد بين طوائف الشيعة يكمن في استمرار الإمامة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّهم لا يختلفوا في أصلها مطلقاً، وتجدر الإشارة إلى أنّ أرجحية نظرية أهل البيت (علیهم السلام) على سائر التيارات التي نسبت إلى التشيّع وتضاءلت شيئاً فشيئاً فيما بعد، قد أدّى إلى استعمال اصطلاح «شيعة» بشكل خاص لأتباع تعاليم مدرستهم (علیهم السلام).

لذلك فإنّ عدم التدقيق في جميع زوايا فكر التشيّع وعدم التأمّل بما ذكره الإمام الصادق (علیه السلام) قد كانا سبباً في عدم طرح تعريفٍ جامعٍ ومانع للشيعة في بعض التعاريف التي طرحت في هذا الصدد، وإليك عدد من هذه التعاريف:

(1مجرد محبّة الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام).

(2الاعتقاد بأفضلية الإمام علىّ بن أبي طالب (علیه السلام) على جميع صحابة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو على أقلّ تقديرٍ الاعتقاد بأفضليته على بعضهم كعثمان بن عفّان.

3) الاعتقاد بأفضلية الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) على غيره مع الأخذ بنظر الاعتبار الاعتقاد بالنصّ عليه أو عدم الاعتقاد بذلك.

4) الاعتقاد بأفضلية الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) على سائر صحابة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والإيمان بإمامته وإمامة أبنائه على أساس نصٍّ معتبرٍ أو دون نصٍّ.

5) إضافة بعض التعابير إلى التعاريف المذكورة، مثل العصمة

ص: 31

والولاية والبراءة (1).

إذن ما نستنتجه من عدم وحدة التعاريف المذكورة هو وجود اختلافٍ في تعريف كلمة الشيعة بمعناها المطلق أو المقيد وتأثّر هذه التعاريف بالأحداث التأريخية؛ وبعبارة أخرى فإنّ تأكيد بعض التعاريف على مجرّد الاعتقاد بأفضلية الإمام علي (علیه السلام) وعدم التفاتها إلى توجّهات الشيعة ولا سيما بالنسبة إلى أهل البيت (علیهم السلام) ، قد أدى إلى حدوث اختلاف بينها وأحياناً أسفر عن تباينها إلى حدٍّ كبيرٍ، لذلك حاول البعض تغيير مسيرة نشأة التشيّع بشتّى الوسائل لدرجة أنّهم اتّهموا الشيعة بعدم الولاء للإمام عليّ (علیه السلام) عبر التشبّث بالأقوال الشاذّة والاستنباطات الخاطئة (2) . ومن هؤلاء المدعو «إحسان إلهي ظهير» الذي تطرّق إلى هذا الموضوع بتعصّب أعمى ونسب التشيّع إلى عبد الله بن سبأ، وقد تمادى في هذا الأمر لدرجة أنّه وجّه اتهامات واهيةً لأئمة الشيعة، وتبعه «القفاري» في ذلك واستند إلى رواية نقلها «شريك» المتّهم بالتشيّع لكنّه أصرّ فيها على عقيدته بالنسبة إلى الخليفتين الأول والثاني، إلا أنّه في الحقيقة خلط بين شيعة عليّ (علیه السلام) وشيعة عثمان(3)!

ص: 32


1- راجع خاستگاه تشیع و پیدایش فرقه هاي شيعي در عصر امامان (باللغة الفارسية)،ص 116
2- أصول مذهب الشيعة، ص 2 و 31
3- الشيعة وأهل البيت، ص 52

ولكن عند التدقيق في كلام أبان بن تغلب وضمّه إلى كلام الإمام الصادق (علیه السلام) الذي خاطب فيه أبا بصير، نستنتج أنّ التياركان يتّصف بالثبات الفكري والعقائدي من خلال اعتماده المستمرّ على معين علوم الأئمّة ومعارفهم التي لا تنضب، وكان هذا التيار ثرياً فى أصوله الحقة - من حيث النصّ والتنصيب - في مقابل التزعزع وعدم الاتّزان الفكري والعقائدي للطوائف الأخرى المنسوبة إلى التشيّع والتي تتعارض معه معه أحياناً.

إنّ ميزة التشيع هو ارتباطه الوثيق بشخصية الإمام عليّ (علیه السلام) وفضائله التي لا يضاهيه فيها أحدٌ وكذلك عدم مجاراته للخلفاء الذين حكموا مدينة الرسول ورفضه لحكومة بني أمية في الكوفة وغيرها.

ثانياً: الرافضة :

كلمة «رافضة» كانت من المصطلحات التي تتردّد كثيراً على الألسن في القرون الهجرية الأولى، حيث يقصد منها آنذاك تمييز بعض التيارات الإسلامية عقائدياً وفكرياً، ومن الطبيعي أنّنا نتمكن من الإلمام بالمعتقدات الأساسية لمن أطلق عليهم هذا العنوان عبر معرفة معناه الدقيق لغوياً واصطلاحياً ومعرفة تطوّر معناه على مرّ الزمان.

مادّة (ر - ف - ض) في اللغة تعني ترك أمرٍ أو التفرّق عن أمرٍ ما، وأهمّ اشتقاقاتها المستعلمة هو جمعها «روافض» أو «رافضة» حيث

ص: 33

يطلقان لغوياً على فئة تركت قائدها وافترقوا؛ وهذا المعنى متّفق عليه بين أرباب اللغة (1).

بعض علماء اللغة تطرّقوا إلى بيان استعمال هذه الكلمة اصطلاحياً، فالطريحي على سبيل المثال يقول: «الرافضة والروافض، وهم فرقة من الشيعة رفضوا - أي تركوا - زيد بن عليّ (علیه السلام) حين نهاهم عن الطعن في الصحابة، فلمّا عرفوا مقالته وأنّه لا يبرأ من الشيخين رفضوه(2).

ونقل بعض علماء اللغة عن الأصمعي ما يلي: «بَلغني عَن الأصمَعي أنَّه قالَ إنَّما سميت الرافضة لأنّهم رفضوا زيد بن عليٍّ وتركوه، ثمَّ لزم هذا الاسم كل من غلا منهُم في مذهبه وتنقّص السّلف (3).

وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء يدّعون أنّ «الروافض» ظهروا إثر حادثةٍ تاريخيةٍ وقعت في أواخر العهد الأموي، والأخبار التي تشير إلى أنّ زيد بن عليّ قد وصف معارضيه بهذا الاسم - على فرض صحّتها - تدعم هذه النظرية (4) ، كما هناك أخبار أخرى تؤكّد على أنّ

ص: 34


1- العين ، ج 7، ص 30 ؛ لسان العرب، ج 7، ص 156 ؛ مجمع البحرين، ج 4 ، ص 207
2- مجمع البحرين، ج 4 ، ص 207
3- غريب الحديث والأثر ، ج 1 ، ص 60 ؛ سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 389
4- المصابيح، ص391

معارضي زيد هم الذين استخدموا هذا الاسم براءةً منه(1). إذن، حسب ما جاء فى الأخبار فإنّ الخلاف بين زيد و التيار المعارض له، منشؤه عدم براءته من الخليفتين - دون أن تصرّح هذه الأخبار بكون هذه البراءة سياسية أو دينية —على الرغم من أن بعض الزيدية يوعزون سبب عدم مواكبة الناس لزيد إلى خشيتهم، ويقولون بأنّ البراءة من الخليفتين لا صلة لها بالموضوع وعلى هذا الأساس تمسّك الناس بقيادة الإمام الصادق (علیه السلام) (2).

وعلى أيّ حالٍ، معظم الباحثين يؤكّدون على أنّ مصطلح «رافضة» قد ظهر بعد مصطلح «شيعة» ويرون أنّه يطلق على فئة من أتباع الإمام عليّ (علیه السلام) ظهرت في عهد متأخّر عن ظهور التشيّع ولها معتقدات خاصّة حول الخليفتين الأول والثاني(3). وقد استخدمت هذه الكلمة فيما بعد بين أهل السنّة، كالإمام الشافعي الذي اعتبرها تدلّ على أفضلية من يتّبع الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، حيث أنشد قائلا:

ص: 35


1- سير أعلام النبلاء، ج 5، ص389
2- من هم الرافضة، ص 18 و 20
3- هناك وجهات نظر تأريخية أخرى طرحت حول شيوع لفظ (رافضة) وقد أشار النوبختي إلى بعضها، ومنها أنّ المغيرة بن سعيد أطلق على معارضيه اسم (رافضة). راجع فرق الشيعة، ص 63 ؛ الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، ص 270 - 271؛ المقالات والفرق، ص 77؛ نشأة الشيعة الإمامية، ص 90 إلى 95

إذا نحن فضلنا عليّاً فإننا***روافضُ بالتفضيل عند ذوي الجهل

وقال أيضاً:

برئتُ إلى المهيمن من أناسٍ ***يرون الرفض حبَّ الفاطميةِ

وقال أيضاً:

إن كان رفضاً حُبُّ آل محمّدٍ ***فَليشهد الثقلانُ أنّي رافضيًّ (1)

وهناك أخبارٌ أخرى تشير إلى أنّ هذا الاصطلاح كان سياسياً

يدلّ على معارضة أصحابه للنظام الحاكم (2)، وعلى هذا الأساس فإنّه استعمل للدلالة على تيار سياسيٍّ قبل أن يستعمل لوصف طائفةٍ مذهبية، ومن الممكن أن يكون هذا المعنى السياسي للكلمة ذا جذورمذهبية (3).

ص: 36


1- ديوان الإمام الشافعي ص 55 - 56
2- بعد حرب الجمل كتب معاوية بن أبي سفيان كتاباً إلى عمرو بن العاص أطلق فيها على الذين انتفضوا ضد الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) اسم (رافضة)، حيث قال: «قد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة. تأريخ مدينة دمشق، ج59،ص 130 ؛ وقعة صفين، ص 34
3- الأحاديث التي يرويها جابر بن يزيد الجعفى تتضمن هذا المفهوم، ومن المصادر الشيعية التي تذكر هذه الروايات فتجدر الإشارة إلى باب (الرافضة) من كتاب (المحاسن) و كتاب الصراط المستقيم، ج 3، ص 76 . ومن المصادر السنية فتجدر الإشارة إلى صحیح مسلم، ج 1، ص 16

كذلك هناك بعض الأحاديث المنقولة عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تتضمّن مشتقات من مادّة «ر - ف - ض»، ولكنّ القطع بصحّة بعضها صعبٌ للغاية إذ لا يمكن التأكّد من طرح هكذا مصطلح في عهده صلوات الله عليه (1) من حيث الزمان (2) أو السياق (3).

ومن ناحية أخرى، هناك روايات يرجع تأريخها إلى عهد الإمام

ص: 37


1- شرح أبو حاتم الرازي بعض هذه الروايات للاطلاع أكثر، راجع: الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، ص 270 271. هناك كتاب في اللغة الفارسية تحت عنوان (خاستگاه تشیع و پیدایش فرقههای شیعی در عصر امامان) تطرّق فيه المؤلّف إلى نقد هذه الروايات اعتماداً على شواهد من كتاب أبي حاتم الرازي وأثبت أنها دونت في عهد كان فيه أعداء التشيّع لا يتورعون عن أيّ أمرٍ للمساس به وطعنه، وهذا الأمر كان إثر الأجواء السياسية المتوترة في عهد الإمام الصادق الليل
2- نُسب إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنه قال : «يا علي ، أنت في الجنّة، أنت في الجنّة، أنت في الجنة، وسيكون قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة؛ فإن لقيتهم فاقتلهم فإنّهم مشركون»، قال الإمام علي (علیه السلام) : «فماذا علامتهم يا رسول الله ؟»، قال: «لا يرون جمعةً ولا جماعةً، ويسبون أبا بكر وعمر» . راجع تأريخ مدينة دمشق، ج 42، ص 336
3- روي عن أم سلمة أنها قالت: كانت ليلتي وكان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عندی فأتته فاطمة، فسبقها علی ّفقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «يا علي أنت وأصحابك في الجنة، أنت وشيعتك في الجنة، إلا أنه ممن يزعم أنه يحبّك أقوامٌ يضفزون الإسلام ثمّ يلفظونه، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم لهم نبز؛ يقال له الرافضة، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون»، فقلت: يا رسول الله، ما العلامة فيهم؟ قال: «لا يشهدون جمعةً ولا جماعةً، ويطعنون على «السلف». المعجم الأوسط، ج 3، ص 665؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج10، ص 22؛ السنة، ص 461

الصادق (علیه السلام) تؤكّد على عدم اختصاص هذا المصطلح بتيار زيد بن عليّ فحسب، حيث خصّص العلامة المجلسي في كتابه القّيم «بحار «الأنوار» باباً خاصّاً لهذه الروايات تحت عنوان «فضل الرافضة ومدح التسمية بها » (1).

على مرّ الزمان وإثر تضاؤل نشاطات التيار الزيدي، شاع استعمال مصطلح »رافضة» ومشتقّاته بهدف ذمّ الشيعة الإثني عشرية وإباحة دمائهم وأموالهم (2) في عهد الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (علیهما السلام) (3) ومن تلاهما من الأئمّة المعصومين لدرجة أنّ الجميع في العهود اللاحقة اتّفقوا على إطلاق هذا المصطلح على الشيعة رغم اختلافهم في تأريخ ظهوره، لذا فإنّ الشيعة الذين يعتقدون بالبراءة والإمامية الاثني عشرية هم أبرز مصداقٍ لمن يطلق عليهم «روافض«.

ثالثاً: الإمامية :

من المصطلحات الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا المضمار نظراً لكثرة تداولها، هو مصطلح «إمامية»، ولا ريب في أنّ

ص: 38


1- بحار الأنوار، ج 65 ، ص 95 . على سبيل المثال راجع رواية عيينة عن الإمام الصادق (علیه السلام) في هذا الباب
2- المحاسن، ص 157
3- الكافي، ج 8، ص 34

معناه ناشئ ٌمن تطوّر مفهومه الدلالي على مرّ العصور، إذ هناك ارتباطٌ وثيقٌ بين معنى الإمام والإمامية، ومن ناحية أخرى فإنّ إطلاق هذا المصطلح على فئةٍ معينةٍ جسّدت الصلة بين الإمام والإمامية قد شاع في برهةٍ زمنيةٍ خاصّةٍ.

كلمة «إمام» هي اسم مصدر على وزن «كتاب»، وهي مشتقة من مادة «أمّ» التي تعني «قصد» وهي على وزن «فعال» بمعنى المقتدى والمتّبع (1)، لذا فإنّ مضمونها يدلّ على من يُقتدى به، وقد وردت في القرآن الكريم اثنتا عشرة مرّةً، حيث ذكرت سبع مرّات بصيغة المفرد «إمام» وخمس مرّاتٍ بصيغة الجمع «أئمّة(2).

وعلى الرغم من أن بعض المفسّرين - كالتفليسي - يعتقدون بأنّ كلمة «إمام» لها خمسة معانٍ في القرآن الكريم، لكنّ معظمهم يرون أنّها تتضمّن مفهوم الإمامة والمرجعية والقيادة في الهدى أو الضلال وأنّ هذا المفهوم ذو صلةٍ وثيقةٍ بالسيادة والحكومة بحيث لا يمكن بيانه بعيداً عن مفهومي سعادة وشقاء من هم تحت سلطة الإمام؛ وهذا الأمر

ص: 39


1- لسان العرب، ج 12، ص 4 ؛ التحقيق في كلمات القرآن مادة (أم)؛ معجم مقاييس اللغة، ج 1، ص 28 - ج 8 ، ص 428 ؛ مفردات ألفاظ القرآن، ص 87
2- سورة البقرة / الآية ،124 سورة هود / الآية ،17 سورة الفرقان / الآية 74، سورة الأحقاف / الآية ،12 سورة يس / الآية ،12 سورة التوبة / الآية 12، سورة الأنبياء / الآية 73 سورة القصص / الآيتان 5 و 41 سورة السجدة / الآية 2، سورة الإسراء / الآية 71 سورة الحجر / الآية 79

ينطبق أيضاً على معنى الكلمة الاصطلاحي.

ومع كلّ ما ذكر، هناك اختلافٌ بين مختلف المفكّرين في علوم الأديان حول إطلاق هذه الكلمة على الطوائف المذهبية وزمان نشوئها لدرجة أنّ البعض أطلقها على جميع الطوائف المنتسبة للتشيّع، وهناك أطلقها أيضاً على بعض الطوائف التي لها توجّهاتٌ تتعارض مع الفكر الشيعي (1) ، فالشهرستاني مثلاً يقول إنّها أطلقت على أئمّة الشيعة في عهد الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق (علیهما السلام) باستثناء الزيدية ويرى أنّ كلّ طائفةٍ تعتقد بالنصّ على إمامة علىّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، يطلق عليها « إمامية« (2).

أمّا الأشعري القمّي فهو على خلاف النوبختي (3) ، حيث يؤكّد على أنّ الطائفة الاثنا عشرية التي تعتقد بإمامة اثني عشر إماماً معصوماً لم تكن معروفةً ب-«الإمامية» حتّى السنوات الأولى من الغيبة الصغرى، ويؤيّد ذلك ما روي عن بعض رموز الشيعة كالشيخ المفيد (4)

ص: 40


1- معجم الفرق الإسلامية، ص 46 ؛ أعيان الشيعة، ج 1، ص 21
2- الملل والنحل، ص 143 - 154
3- فرق الشيعة، ص108 . في مقام بيانه لمختلف الطوائف الشيعية، قال النوبختي إنّ الطائفة الثانية عشرة تعتقد بإمامة الحجة بن الحسن المهدي (علیه السلام) وهي الطائفة الإمامية، في حين أنه اعتبر الطائفة الحادية عشرة قد توقّفت في هذا الأمر. للاطلاع الأكثر ، راجع كتاب: الحور العين، ص 41
4- أوائل المقالات، ص 38 - 39

والسيد المرتضى (1) والشيخ الطوسي (2) .

إنّ كتب الرجال والفهارس فيها تعاريف وروايات عديدة حول كلمة «إمامية« وموارد استعمالها، والتدقيق في هذه الموارد من شأنه إزالة الغموض عن دلالاتها اللفظية والاصطلاحية إلى حدٍّ ما، فعلى سبيل المثال نقل الكشي كلاماً لأحد أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) جاء فيه: «فلعلّه يترك التقية ويجيبني على دين الإمامية» (3) ، لكن من المحتمل أنّ الرواة لم ينقلوا هذه العبارة بلفظها نفسه، بل نقلوا فحواها؛ لذا لا يمكن الاعتماد عليها بالكامل. أمّا عبارة الشيخ الطوسي التي ساقها حول عليّ بن إسماعيل بن ميثم التمّار : «التمّار، وميثم من جلة أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعليٌّ هذا أوّل من تكلّم على مذهب الإمامية وصنّف كتاباً في الإمامة سمّاه الكامل، وله كتاب الاستحقاق رضي الله عنه» (4) فهي تدلّ على تشيّعه فقط ولا تتضمّن معنى آخر، لأنّ مصطلح الإمامية لم يكن شائعاً قبل الغيبة الصغرى (5) .

طبعاً هناك ما يؤيّد هذا الرأي في كتابي الفهرست للنجاشي

ص: 41


1- رسائل الشريف المرتضى، ج 2 ، ص 264 - ص 153
2- تلخيض الشافي، ج 1 ، ص 66
3- رجال الكشي، ص 267.
4- الفهرست، ص88.
5- نشأة الشيعة الإمامية، ص79

والشيخ الطوسي لو دقّقنا بما ورد فيهما، إذ كلّما ذكرت هذه الكلمة في سيرة أحد الرجال نلاحظ أنّه قد عاصر الغيبة الصغرى طوال حياته أو في مرحلة منها (1) ، لذلك رغم أنّ أول عهدٍ استعملت فيه كلمة «الإمامية» بمعناها الاصطلاحي غير معروفٍ إلى حدٍّ ما، لكن شاع استعمالها بشكلٍ كبيرٍ في عصر الغيبة الصغرى، وعليه فإطلاق الإمامية شاع منذ هذه الفترة وتحوّل إلى اسم خاص للشيعة.

***

ص: 42


1- رجال النجاشي، ص 63 - 110 - 271 . ومن الجدير بالذكر أن الكتب التي دونت بعد الغيبة الصغرى تتضمّن عبارتي (الإمامية) و(أهل) الإمامة). راجع: مروج الذهب، ج 3، ص 223 - ج 4 ، ص 22 - 23؛ التنبيه والإشراف، ص 258

الفصل الأول: آراء حول نشأة فكر التشيع

اشارة

ص: 43

ص: 44

توطئة

الباحثون والمفكّرون المسلمون وغير المسلمين اتّخذوا على مرّ العصور موقفين تجاه المذهب الشيعي وتعاليمه، أحدهما انتقاديٌّ والآخر دفاعيٌّ، وقبل ما يقارب قرن من الزمن وإلى يومنا هذا ظهرت بعض التيارات التجدّدية هدفها نقد الأفكار التي يتبنّاها الشيعة من زوايا مختلفة، وإثر ذلك تصدّى المدافعون عن المذهب لهذه التيارات منذ لحظة ظهورها.

في العقود الثلاثة الماضية نحت هذه البحوث النقدية منحيً علمياً ومنهجياً ولا سيما من قبل المفكّرين الغربيين، ولو تأمّلنا قليلاً في هذه البحوث نلاحظ أنّها قد انتقلت من دائرة النقد البحت لتدخل في نطاق طرح الفرضيات، والوجه المشترك بين المعاصرين والمتقدّمين ممّن انتقدوا التشيّع أو دافعوا عنه هو التأكيد على الجانب التأريخي وإثبات آرائهم الكلامية في رحاب الأحداث التأريخية، ودارت بينهم نقاشات كلامية.

ص: 45

يرى الناقدون أنّ التشيّع هو ظاهرةٌ تأريخيةٌ تضرب بجذورها في الصراعات السياسية التي حدثت في القرن الأوّل الهجري ومن ثمّ تكاملت فى القرون اللاحقة، وحاصل هذه الرؤية هي أنّ الفكر الشيعي لا يمتلك مبادئ وأصولاً ثابتةً لأنّ أُسسه الفكرية نشأت وتكاملت بمرور الزمان ونتيجة لظروف مختلفة. ويدّعي هؤلاء أنّ معتقدات الشيعة منذ نشأة مذهبهم لا تنطبق مع معتقدات سائر المسلمين لكونها مبتدعةً وكان الهدف منها الحفاظ على مكانتهم في مختلف المجالات وأنّها أيضاً تعكس طرازاً من التحوّل المعرفي يتجسبد في كون خليفة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عالماً معصوماً منصوصاً عليه (1). إنّ أصحاب هذه الرؤية لايعيرون أهميةً لما يتمتّع به خليفة النبيّ - الإمام - من مكانةٍ معرفيةٍ.

ولكن طبق الرؤية الدفاعية التي هي محور البحث والتي تطرّقنا إليها في المباحث الأولى من الكتاب، فالإمامة تعدّ امتداداً للنبوّة وأصلاً نابعاً من السنّة الإلهية، لذا فإن التعاليم التي يطرحها الأئمّة تضرب بجذورها في القرآن الكريم والسنّة النبوية وقد تمّ طرحها بالكامل وبيانها للشيعة ولغيرهم على مرّ العصور وحسب مقتضيات مجريات التأريخ على الرغم من أن الأسس الفكرية لهذا المذهب الحقّ كانت دائماً جليةً للخواص على أقلّ تقديرٍ. بناء على ما ذكر، حتى ما نراه

ص: 46


1- من البديهي أن أصحاب هذا الرأي يختلفون فيما بينهم حتى وإن كانوا ينتسبون إلىالشيعة

جديداً في ظاهر الأمر فإنّه في الواقع له جذورٌ قرآنية وتمّ بيانه على مرّالعصور في رحاب مختلف الأحداث التأريخية.

وهناك شخصياتٌ معاصرةٌ ذات توجّهات مشتركة في بعض الموارد اتّخذت رؤيةً نقديةً تجاه التشيّع، وإن نسلّم ببعض آرائهم، وعلى هذا الأساس لا نريد أن نجعلهم كافة في مستوى واحد، وأبرزها: أحمد كسروي، علي أكبر حكمي زاده، الخرقاني، شريعت سنكلجي، أبو الفضل البرقعي، حيدر علي قلمداران (1) ، أحمد الكاتب، حسين المدرسي الطباطبائي، كديور. إضافة إلى بعض المستشرقين من أمثال: كاثرين لامبتون وهاميلتون ألكساندر روسكين غِب وإيتان کولبرغ.

بعد هذا البيان الموجز نذكر فيما يلي نماذج مقتضبة من أهمّ ما دوّن بعض هؤلاء:

أتباع نظرية التحوّل المعرفي:

أحمد كسروي:

طرح أحمد كسروي آراءه حول الشيعة في إطار كتابين، أحدهما

ص: 47


1- لمعرفة أحوال هذه الشخصيات، راجع: جريان ها و جنبش هاي مذهبي سياسي ايران (باللغة الفارسية)، فصل( التيارات الداعية إلى إعادة النظر في معتقدات الشيعة)

حول الإسلام والآخر حول التشيّع (1) إضافةً إلى تدوينه عدداً المقالات (2)، وقد تطرّق في كتابه الثاني الذي تعرّض فيه للتشيّع إلى الحديث عن علم الإمام المعصوم والنص على تنصيبه وعصمته في إطارٍ نقديٍّ وطرح مؤاخذات كثيرةً على الإمامة، ومن خلال إجراءه دراسات تأريخية اعتبر معارف الأئمّة خرافات. وقد زعم كسروي في هذا الكتاب أنّ الشيعة فرقةٌ تنازعت مع بني أميّة على كرسي الحكم وانحرفت معتقداتهم بعد أن حكموا بأنّ الإمام عليّ (علیه السلام) أحقّ بالخلافة من الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه (3).

وقد اقتضب كسروي عبارات من كلام الإمام عليّ (علیه السلام) وحذف متمّماتها الدلالية ليدّعي عدم وجود أيّ خلافٍ بينه وبين الخلفاء!

وفي سياق حديثه عن الخلافات بين الشيعة وزيد بن عليّ وعجز العلويين عن مقارعة العباسيين قال: «الإمام الصادق الذي كان يدبعى أحقّيته بالخلافة وكان عاجزاً عن انتزاعها، لقّبوه ب-(الإمام) المنصّب من قبل الله واعتبروه بديلاً عن الخليفة الحاكم آنذاك...

ص: 48


1- الكتابان مطبوعان باللغة الفارسية الكتاب الأول هو (در پیرامون اسلام) والكتاب الثاني هو( شيعه گری)
2- نشر هذه المقالات في مجلة تصدر باللغة الفارسية اسمها (پيمان)
3- هذه المزاعم ذكرها أحمد كسروي في كتابه (شیعه گری)

وبالتالي طغت على حركتهم السياسية صبغةٌ دينيةٌ (1) . كما ادّعى حدوث خلافاتٍ بين الشيعة بعد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) ، وقال: «بعد الإمام العسكري قال البعض إنّ الإمامة قد اختتمت، وقال آخرون إنّ جعفر هو الإمام من بعده، وقال غيرهم إنّ الإمام هو صبيٌّ عمره خمس سنواتٍ وقد غاب في السرداب، وعثمان بن سعيد العمري على رأس الفئة الأخيرة » (2).

كما أنّه يعتقد بأنّ اسم «المهدي» موجود في جميع الأديان وهذا هو السبب في إيمان المسلمين به، والشيعة يعتقدون بأنّ الإمام هو المهدي لكنّهم كانوا يعملون بالتقية إلى أن طرح موضوع الغيبة فتولّى الأمور بعض الوكلاء والنوّاب الذين جاؤوا ببعض التوقيعات من الإمام الغائب، واستمرّ الأمر حتّى أعلن نائبه الرابع الصيمري بأنّ الباب قد أغلق. وخلال هذه الفترة كان الشيعة يعتبرون أنفسهم الفرقة الناجية وذكروا روايات في هذا الصدد، منها ما يلي: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتةً جاهليةً»، «شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا (3).

ص: 49


1- شیعه گری (باللغة الفارسية) ، مبحث الإمامة ص
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق

علي أكبر حكمي زاده:

آراء أحمدکسری ألقت بظلالها على علي أكبر حكمي زاده، ممّا دعاه لأن يؤلّف كتاباً (1) ، انتقد فيه تراث الشيعة نقداً لاذعاً (2) ، ففي هذا الكتاب ضعّف روايات الشيعة وأوّل بعضها لأجل إثبات مزاعمه في إنكار خصائص الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) كالعلم والعصمة. في الفصل الثاني منه وفي مبحث «الإمامة» بالتحديد تطرّق إلى المواضيع التالية: نفي مقام الإمامة، الإمامة أعلا مقاماً من النبوّة باعتقاد الشيعة، بطلان دعوى وجود مصحف فاطمة (علیها السلام) ، أسباب عدم ذكر أسماء الأئمّة في القرآن الكريم، الأئمة ليسوا أبواباً للحوائج ولا تأثير لهم في شفاء الناس، الإمام لا يكون إماماً إلا في عصره؛ وغير ذلك من مباحث.

وقد كتب حول علم الغيب ما يلي: «أشار القرآن في عدّة آيات إلى أنّ النبي نفسه لا يعلم الغيب وفي عدّة آيات أخرى أكّد على إنسان كسائر الناس، غير أنه يوحى إليه، وهو يقول بأنّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ( قُلْ لا أملكُ لِنَفْسِي نَفْعاً ولا ضرا ) (3) . ابن مكتوم الذي يعدّ أحد الصحابة المقرّبين للنبيّ، كان أعمى ومع ذلك لم يطلب منه أن يمنحه البصر والنبيّ بدوره لم يفعل ذلك، وأيضاً عقيل أخ

ص: 50


1- الكتاب مطبوع باللغة الفارسية، وعنوانه: (اسرار هزار ساله)
2- ألف الإمام الخميني كتاب (كشف الأسرار ) ردّاً على مزاعم حكمي زاده
3- سورة الأعراف / الآية 188

الإمام علىّ كان أعمى ورغم ذلك لم يتوسّل بأخيه ليجعله بصيراً، وعليٌّ بدوره لم يفعل ذلك له.

أنتم تقولون إنّ تربة الإمام شفاءٌ لكلّ داءٍ وأمانٌ من كل بلاء... كلّ إمامٍ هو إمامٌ لزمانه فحسب ولا إمامة له في الأزمنة الأخرى، كما جاء في الكافي: (كل إمام هادٍ للقرن الذي هو فيهم)» (1). ويواصل كلامه الفارغ ويردّد نفس عبارات أحمد كسروي.

السيد أبو الفضل البرقعي :

في بادئ الأمر قام أبو الفضل البرقعي بطرح بعض الأسئلة حول معتقدات أتباع مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ومن ثمّ انتقد التعاليم الشيعية نقداً شديداً ونفى صحّة بعضها، ونلاحظ في معظم مؤلّفاته آراء منحرفة على هذا الصعيد، نظير تشكيكه بعلم الإمام وعصمته وإمامته المنصوص عليها، وقد تلخّصت آراؤه فى مقدّمته على كتاب (شاهراه اتحاد) الذي ألّفه قلمداران (2) ، فهو في هذه المقدّمة يتّهم الشيعة بتأجيج الخلافات وينفي النصّ على الإمامة من أساسه (3) ، حيث قال: «لا يخفى

ص: 51


1- اسرار هزار ساله (باللغة الفارسية) ، الباب الثاني، الإمامة
2- مؤلّفاته أصبحت اليوم ذريعة للوهابيين للمساس بعقيدة التشيع رغم براءة الشيعة منه ومن مؤلفاته.
3- الطريف أنّ هذا الرجل نفسه ألف كتاباً تحت عنوان (عقل ودين) باللغة الفارسية، وذكر فيه أدلّة إثبات الإمامة على أساس الكتاب والسنة !

على أحد أنّ الشيعة الإمامية يعتبرون الإمامة أصلاً من أصول الدين والمذهب ويعتقدون بأنّها منصوصٌ عليها من قبل الله ورسوله الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ... ويعتمدون في ذلك على مجرّد الأخبار والأحاديث الواردة في مصادرهم... ولكنّ مدّعي التشيّع يخالفون قول الرسول وسيرته في مجالسهم ومنابرهم ومؤلّفاتهم ويسيؤون الظنّ بسائر المسلمين ويعبرونهم معاندين(1) .

وفي مقام نفيه الإمامة من أساسها، قال: «كتاب الله الذي يتضمّن مواضيع فرعيةً كثيرةً، ليست فيه إشارةٌ إلى هذا الأصل الهامّ (2) رغم أنّه تعالى قال: ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3) » (4) . وأضاف قائلاً: «لو كانت هناك ضرورة للنصّ على الإيمان بإمامة الخلفاء أو عدم النصّ عليها، لذكر الله سبحانه ذلك؛ وبما أنه لم يذكر ذلك فلا بدّ من عدم ضرورة معرفتهم والإيمان بهم (5).

حیدر علی قلمداران

تأثر حيدر علي قلمداران في بادئ الأمر برجل دينٍ منوّر الفكر

ص: 52


1- شاهراه اتحاد (باللغة الفارسية) ، الصفحة أ
2- يقصد الإمامة
3- سورة الإسراء / الآية 15
4- شاهراه اتحاد (باللغة الفارسية)، الصفحة ب
5- المصدر السابق

يدعى (خالصي زاده) ومن ثمّ أقبل على مطالعة مدوّنات غيره من أمثال الخرقاني وسنكلجي وسار على نهجهم زاعماً الإصلاح في مذهب التشيّع (1) . فهو بدأ كتاباته بنقد بعض السلوكيات والنزعات التي ادّعي أنّها تتّصف بالغلوّ لدى الشيعة وألّف كتاباً في خمسة فصولٍ (2) تطرق فيه إلى الحديث عن علم الإمام والولاية والشفاعة والغلوّ والزيارة، وبعد ذلك ألّف كتاباً آخر (3) تناول فيه النصوص المنقولة حول الإمامة وصنّفه تحت العناوين التالية: السقيفة، أحداث الغدير، دراسة عشرة أحاديث حول النصّ على الإمامة، عدم علم الأصحاب بالنصوص الدالّة على الإمامة، أحاديث النصّ على الإمامة في كتب الملل والنحل ومصادر مختلف الطوائف الشيعية؛ وقد قام في جميع هذه البحوث بنفي أصل الإمامة المنصوص عليها وأنكر تعاليم الإمامية.

ص: 53


1- جريان ها و جنبش هاي مذهبي سياسي ايران (باللغة الفارسية). ومن الجدير بالذكر أنّ نظریات قلمداران قد تغيّرت في أواخر حياته
2- الكتاب مطبوع باللغة الفارسية واسمه راه نجات از شرّ غلات)، الفصل الأوّل في هذا الكتاب يتمحور حول إثبات عدم قدرة أحدٍ على معرفة الغيب إلا ما علمه الله تعالى أنبياءه عن طريق الوحي الذين أبلغوا الناس ما أنزل عليهم، والفصل الثاني يتطرّق إلى موضوع الولاية التي وصل بعض الغلاة بسببها إلى درجة الشرك ويتحدّث فيه الكاتب عن الولاية التي جاءت في القرآن الكريم، والفصل الثالث يتضمن بحوثاً حول الشفاعة، والفصل الرابع يبحث في الزيارة، وأما الفصل الخامس فيشمل أمثلة عن بعض الغلاة
3- الكتاب مطبوع باللغة الفارسية واسمه (شاهراه اتحاد)

يمكن القول إنّ هذا الكتاب هو أحد الكتب التي دوّنت وفق منهجٍ معيّنٍ يهدف إلى نقد الروايات التي تثبت الإمامة.

لو ألقينا نظرةً مقتضبةً على مؤلّفات هذا الرجل نلمس أنّه طرح معتقدات الوهابية وحاول إثباتها اعتماداً على مختلف النصوص الدينية (1) ، ومثال ذلك قوله : «عند مراجعة المصادر الأساسية للتشيّع نلمس بوضوح أنّها تجعل للأئمّة صفاتٍ وخصوصياتٍ لم يجعلها القرآن الكريم حتّى للأنبياء أولي العزم، وبعبارة أخرى فإنّ الشيعة لا يذكرون هذه الصفات حتى للرسل الذين بعثوا بشرائع« (2) . وبعد هذا الكلام انتقد بعض الصفات الكريمة التي اختص بها الأئمة المعصومون نقداً لاذعاً، كولادة الإمام مختوناً وارتباطه بالملائكة وعرض أعمال الخلق عليه وتأييده بروح القدس.

وقال في هذا الكتاب أيضاً: «لا يوجد نصُّ معقولٌ ومطابق للواقع يدلّ على حكومة عدد محدد من الأشخاص - مثلاً سبعة أو أحد عشر أو اثنا عشر أو غير ذلك - يعيشون فترة ًمحددةً لكنّهم يحكمون آلاف السنين حتى قيام الساعة؛ فهذا الأمر غير معقولٍ ولا ينطبق مع الواقع ... نظراً لهذه التعاليم وما شاكلها، فلو تمّ تعيين إمامٍ

ص: 54


1- كانت لقلمداران علاقة حميمة مع أبي الفضل البرقعي لدرجة أنّ الأخير دوّن مقدّمةً على كتابه (شاهراه اتحاد)
2- شاهراه اتحاد (باللغة الفارسية)، ص 105

معصوم واجب الإطاعة بنصٍّ - كما يعتقد القائلون بالإمامة - ففي هذه الحالة لا تبقى ضرورةً للأوامر والنواهي لأنّ عهد الأئمّة يصبح كعهد النبيّ حيث يأمر الله بإطاعة فلانٍ و فلانٍ دون الحاجة إلى ذكر أوامر عامّة».

وفي نفي النصّ على الإمامة، يقول: «... لذلك فإنّ الصحابة المؤمنين من المهاجرين والأنصار الذين كانوا فى المدينة نفّذوا هذا الأمر بعد رحيل رسول الله دون تأنٍّ وعيّنوا إمام الأمّة عن طريق الشورى، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ كان واجباً شرعياً وفي خضّم هذه التجاذبات والاستشارات لم يكن هناك نصٌّ على الإمامة مطلقاً. من البديهي لو كانت هناك أدنى صلةٍ بين النصّ والحكومة لذكرها مسلمو صدر الإسلام في حين أنّنا لا نرى أية إشارةٍ لها ... فيا ترى هل أنّ الإمامة أقلّ أهميةً من قضية (زيد) الذي ذكر اسمه صريحاً في القرآن الكريم؟! فهل يمكن التساهل في أصول الدين إلى هذا الحد؟!»(1)

أحمد الكاتب:

أحمد الكاتب:(2)

طرح أحمد الكاتب آراءه حول الإمامة وولاية الفقيه في كتابه (تطوّر الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)، ومحور

ص: 55


1- شاهراه اتحاد (باللغة الفارسية)، ص 115
2- أحمد الكاتب من مواليد عام 1953م ولد في مدينة كربلاء المقدسة

كلامه هو إنكار النصب على الإمامة. ورغم أنّه حاول إثبات مزاعمه اعتماداً على بعض الروايات التي صدرت تقيةً لكنّه وقع في تناقضاتٍ واضحة: فعلى سبيل المثال نقل عدداً من الروايات واستنتج من ظاهرها قائلاً: «لو تعمقنا في الروايات التي نقلها علماء الشيعة الإمامية كالكليني والشيخ المفيد والسيد المرتضى، نجد أن رسول الله لم يوصِ بالخلافة والولاية للإمام عليٍّ، بل أوعز الأمر إلى الشورى والأمّة الإسلامية» (1) . وبعد ذلك ادّعى أنّ الأئمِة لم يستندوا إلى نصٍّ لإثبات الإمامة، حيث قال واصفاً فكر الإمام محمّد الباقر (علیه السلام) : «على هذا الأساس يمكن القول إنّ الأُسس الفكرية للإمام الباقر (علیه السلام) حول الإمامة تؤكّد قبل كلّ شيءٍ على قضايا من قبيل امتلاك الإمام العلم والمعرفة بالحلال والحرام وامتلاكه سيف النبيّ بصفته رمز للارتباط بالرسالة واكتسابه حقّ المطالبة بالثأر للمظلومين، فهذه الرؤية في الحقيقة هي التي كانت سائدة بين عامّ ة الشيعة في بداية القرن الثاني الهجري وهي تتناقض مع الرؤية التي شاعت في آرائهم إبّان القرون المتأخّرة، وذلك لأنّ الرؤية الجديدة للإمامة ترتبط قبل كلّ شيء بالوصية والنصّ الثابتين في الحديث النبوي » (2) .

ص: 56


1- نقلاً عن النسخة الفارسية للكتاب والتي ترجمت تحت عنوان (از شوری تا ولایت فقيه)، الفصل الأوّل، نظرية الإمامة المنصوص عليها من الله.
2- المصدر السابق، المبحث المتعلق بالإمام الباقر (علیه السلام)

كما هو واضح، فإنّ عبارتي أحمد الكاتب المذكورتين فيهما تناقضٌ صريحٌ، ففي العبارة الأولى يقول إنّ الإمامة تثبت بالشورى وفي العبارة الثانية يقول إنّها تثبت بأدلّة أخرى غير النصّ، كما أنّه في المبحث المتعلّق بالإمام الصادق (علیه السلام) يرى أنّ الإمامة مسالةٌ سياسيةٌ، حيث قال: «يمكن القول إنّ إمامة الإمام الصادق، وبعبارةٍ أوضح إنّ الإمامة برأي الشيعة الأوائل في القرن الثاني الهجري، كانت سياسيةً هدفها التصدّي لقيادة الطائفة الشيعية ولم تكن هبةً إلهية » (1) .

وبعد هذا الكلام أكّد على أنّ الرؤية الشيعية الحالية القائلة بكون الإمامة مقتصرةً على المعصومين من أولاد الإمام الحسين (علیه السلام) بأمرٍ من الله تعالى، قد نشأت وتنامت في أوائل القرن الثاني الهجري. وينوّه أحمد الكاتب على أنّ هذه الرؤية هي ردّة فعلٍ من قبل معارضي بني أمية الذين استبدّوا بالحكم وأمروا بإطاعة الحاكم طاعةً عمياء، فقال: «ردّة الفعل الفكرية للمعارضين تجاه هذا الأسلوب هي عدم الاعتراف بشرعية حكم الأمويين، لذا فقد تنامت بعض المفاهيم لمواجهة بني أمية ومن هذه المفاهيم: أحقية أهل البيت بالخلافة، كون الإمام منصّباً من قبل الله تعالى، عصمة الأئمّة من الذنوب. كما تزامن ذلك مع صراعاتٍ داخليةٍ بين مختلف الطوائف الشيعية لأجل الوصول إلى القيادة، فظهرت نظرية الإمامة الإلهية والتي تستند إلى العصمة

ص: 57


1- نقلاً عن النسخة الفارسية (از شوری تا ولایت فقیه) المبحث المتعلق بالإمام الباقر(علیه السلام)

والنصّ والتنصيب من قبل الله» (1) .

وقد اعتبر هذا الرجل أنّ بعض أصحاب الأئمّة (علیهم السلام) قد طرحوا هذا المنهج الفكري واحتمل أنّ هذا الأمر هو منشأ فكر التشيّع (2) .

السيد حسين المدرسي الطباطبائي:

السيّد حسين المدرّسي الطباطبائي هو رجل دينٍ درس العلوم الحوزوية في مدينة قم كما أنّه أستاذٌ في جامعة برينستون الأمريكية، وتخصّصه الأساسي هو الفقه والقانون لكنّه أجرى دراسات أيضاً حول الفكر الشيعي وتاريخه وبعض الكتب في الحديث ومصادره. تطرّقت الأوساط العلمية في الفترة الأخيرة إلى دراسة ونقد أهمّ مؤلّف لهذا الرجل وهو (تطوّر المباني الفكرية للتشيّع في القرون الثلاثة الأولى) (3)

ص: 58


1- نقلاً عن النسخة الفارسية للكتاب والتي ترجمت تحت عنوان (از شوری تا ولایت فقيه) المبحث المتعلق بالإمام الباقر (علیه السلام)
2- الأصحاب الذين ذكرهم عبارة عن : محمّد بن على النعمان الملقب بأبي جعفر الأحول، عليّ بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم التمار ، هشام بن سالم الجواليقي، قيس الماصر، حمران بن ،أعين ليث بن البختري المرادي الأسدي المعروف بأبي بصير، هشام بن الحكم الكندي
3- ترجم هذا الكتاب إلى اللغتين الفارسية تحت عنوان مکتب در فرایند تکامل؛ بحران و تثبیت در دوره ی شکل گیری اسلام شیعی، وبالإنجليزية تحت عنوان: Crisis and Consolidation in the Formative Period of Shiite Islam: Abū Jafar ibn Qiba al-Rāzī and His Contribution to Imāmite Shiite Thought. Princeton, NJ: Darwin Press, 1993.

الذي تمحور حول مسألة الإمامة في القرون الثلاثة الأولى من عمر الإسلام. وقد كان هذا الكتاب عرضة للنقد في جميع محتوياته منذ بداية نشره، وفي المقابل دافع المؤلّف عن آرائه وحتّى أنّه نأى بنفسه عن التيارات التي طرحت أفكاراً مشابهةً لما ذكره، ولكن رغم كلّ ذلك لم يتمكّن من الإجابة عن النقد الذي وجّه إليه لأسباب عديدة (1) ، منها وجود بعض المواضيع الغامضة أو التي تنظر إلى الموضوع من زاوية واحدة وتصويره المعتقدات الشيعية بأنّها قابلة للتغيير. لكن مع ذلك، ليس من الإنصاف غضّ النظر عن المسائل الإيجابية التي طرحها في كتابه وبما فيها بيان المسيرة التأريخية لفكر الإمامية.

محسن کدیور:

طرح الشيخ محسن كديور نظريات في خطاباته ومقالاته ادّعى فيها أن مفهوم الإمامة قد تغيّر على مرّ الزمان (2) ، فهو يعتقد أنّ التحوّل

ص: 59


1- للاطلاع على نماذج من النقد الذي طرح حول آراء السيد المدرسي، راجع مقالة تحت عنوان: تأملي در فرایند تکامل (باللغة الفارسية)، محمد صفر جبرئيلي، مجلة قبسات، العدد 45 ، 1386 ش .(2006م) . ذكر كاتب المقالة بعض الانتقادات التي دوّنت حتى ذلك الحين. كذلك راجع: مجلة (كتاب ماه دين) الشهرية التخصصية في التعريف بالكتب الدينية ونقدها وتحليلها، السنة الثانية عشرة، العدد ،22، 1388ش (2008م)
2- أحد خطاباته كانت في شهر محرم سنة 1326 ه- وهو موجود في موقعه على الإنترنيت، وإحدى مقالاته تحت عنوان (قراءة منسية، قراءة جديدة لنظرية العلماء الأبرار) باللغة الفارسية (قرائت فراموش شده بازخواني نظريه علماي ابرار) تمحورت حول الفهم الأولي للتشيّع بالنسبة إلى مسألة الإمامة وقد نشرت في مجلة (مدرسة) الفصلية،العدد الثالث، 2006م

الخاطئ في مفهوم الإمامة قد حدث على مرّ العصور وهو عبارةٌ عن التأكيد على جانبٍ معيّن من هذا المفهوم وتضعيف الجوانب الأخرى، وقال: «ما تمّ التأكيد عليه هو نوعٌ من التقديس في مجال الإمامة، في حين أنّ هذا الأمر قلّما نلمسه في القرون الأولى».

يرى كديور أنّ هذا التقديس في علم الكلام الإسلامي يشمل أربعة عناصر أساسية في مفهوم الإمامة، وهي العصمة وعلم الغيب والتنصيب الإلهي والنصّ من قبل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ويعتقد أنّ هذه الموارد قد طرحت بواسطة علماء الكلام بصفتها واقع للإمامة أو شروط لها، وذلك في القرنين الثالث والرابع وما بعدهما ومن ثمّ اتّسع نطاقها شيئاً فشيئاً، ولكن ليست لها خلفية تأريخيةٌ.

وقد دوّن مقالة شرح فيها نظريته وذكر ما يؤيّدها، ولخّص بحثه في مسألتين أساسيتين، كما يلي: «أوّلاً: التحول الأساسي في أصل الإمامة من القرن الثالث حتى الخامس. ثانياً: عودة فكر الغلوّ والتفويض مرّةً أخرى في منتصف القرن الثاني في إطار الغلوّ والتفويض المعتدل، وبالتالي شيوعه بشكلٍ واسع في القرن الخامس».

ويمكن تلخيص رأيه حول مسألة الإمامة في هذه المقالة – منذ النصف الثاني من القرن الثالث إلى النصف الأول من القرن الخامس-

ص: 60

في العبارة التالية: «في هذين القرنين فإنّ الفكر الذي كان متسلّطاً) في النصف الثاني من القرن الثالث حتّى أواخر القرن الرابع( والفكر الذي كان مطروحاً (منذ أوائل القرن الخامس( في المجتمع الشيعي قد كان في واقعه فكراً بشرياً حول الإمامة، وبعض الأوصاف للأئمّة كالعلم اللدنّي والعصمة والتنصيب بالنصّ الإلهي وليس بالنصّ من قبل النبيّ أو الإمام السابق لا تعتبر ميزاتٍ لازمةً وحتّى أنّها رفضت من قبل علماء الشيعة بصفتها من مصاديق الغلوّ. في هذين القرنين بالغ الناس في فضائل الأئمّة ووصفوهم بأوصافٍ تفوق الوصف البشريّ، وبالتالي ساد فكر التفويض بالتدريج وحلّ محلّ فكر التشيّع ومنذ القرن الخامس طرأت بعض التعديلات الكلامية على الفكر الشيعي. لا شكّ فی أنّ نظرية العلماء الأبرار في الألفية الماضية هي نظريةً شاذّةٌ ونادرةً، ولكنّها في القرون الأربعة الأولى حلّت محلّ الفكر الشيعي. وعلى أيّ حال فإنّ نظرية إمامة المعصوم بصفتها هوية التشيّع، مدينةٌ في طرحها لمدرسة بغداد » (1).

المستشرقون:

فضلاً عن الباحثين المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام، فإنّ بعض الباحثين الغربيين أيضاً قاموا بدراسة وتحليل ما تمّ تدوينه في

ص: 61


1- محسن کدیور، قرائت فراموش شده بازخواني نظريه علماي ابرار (باللغة الفارسية)، بتصرّف

القرون الثلاثة الأولى من الهجرة في إطار بحوثٍ تأريخيةٍ اعتمدت على مناهج حديثة. وبالطبع فإنّنا عبر مطالعة مؤلّفات المستشرقين حول التشيّع ونشأته نلاحظ أنّ بعض هؤلاء يزعم أنّ أفكار الشيعة ومعتقداتهم ليست لها جذورٌ في الكتاب والسنّة وهي وليدةٌ لتياراتٍ وحوداث تأريخيةٍ عديدة (1).

ص: 62


1- للاطّلاع على نماذج من آراء المستشرقين حول نشأة التشيّع، راجع: عوامل مؤثر در پیدایش تشیع از دیدگاه مستشرقان (باللغة الفارسية)، محمد جواد ياري، مرتضى إمامي، موضوع: تقسيم الآراء، نشأة التشيع في يوم السقيفة والجدل السياسي؛ نخستین اندیشه هاي شيعي (باللغة الفارسية)، ص 9؛ عقيدة الشيعة، ص 11 - 12؛ سلسلة مقالات تشیّع و مقاومت وانقلاب (باللغة الفارسية)، ص33؛ تشیع در هند (باللغة الفارسية)، ص 8. بالنسبة إلى ادّعاء أنّ التشيّع نشأ إثر أحداث مقتل عثمان بن عفان والبيعة للإمام علي راجع تشيّع (باللغة الفارسية)، ص 15 ؛ تاريخ سياسي صدر اسلام (باللغة الفارسية)، ص 139؛ الفرقة الإسماعيلية، ص 10 . بالنسبة إلى ادعاء أن التشيّع نشأ في الفترة الواقعة بعد حرب الجمل حتّى استشهاد الإمام علي (علیه السلام) راجع: اسلام در دین شعوبیه (باللغة الفارسية)، ص 25؛ فلسفه و کلام اسلامي (باللغة الفارسية)، ص20؛ پیدایش و گسترش تشيع (باللغة الفارسية)، ص 44 . بالنسبة إلى ادّعاء أنّ التشيّع نشأ في واقعة كربلاء ، راجع: تأريخ الأدب العربي، ص 319 - 321. بالنسبة إلى ادعاء أنّ التشيّع نشأ على يد الفرس، راجع: تاریخ ادبیات ایران (باللغة الفارسية)، ج 4 ، ص 26

كمثالٍ على ذلك، نشير فيما يلي إلى آراء ثلاثةٍ من المستشرقين الغربيين حول التشيّع، وهم كاثرين لامبتون، وهاميلتون ألكساندر روسكين غِب، وإيتان كولبرغ، وهؤلاء يعتبرون أهمّ المنظرين على هذا الصعيد.

كاثرين لامبتون:

كاثرين لامبتون (1):

السيدة كاثرين لامبتون هي مستشرقة بريطانية معروفة وأستاذة تدرّس اللغة الفارسية فى جامعة لندن وأشهر كتبها هو كتاب (State (and Government in Medieval Islam(2).

وقد وصفت التشيّع في هذا الكتاب كما يلي: «كان التشيع في بادئ الأمر حركة سياسيةً - دينيةً يعتقد أصحابها بأنّ قيادة المجتمع

ص: 63


1- قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، أي في عهد الحكم الملكي كانت هذه المستشرقة مقيمةً في إيران لفترةٍ طويلةٍ وأجرت دراساتٍ في مجال الزراعة بمختلف المدن والقرى الإيرانية وحازت على شهادة دكتوراه وألّفت كتاب: مالك وزارع در ایران (باللغة الفارسية). كما كانت لها نشاطات علميةٌ واسعةٌ في جامعة كامبرج إلى جانب (برنارد لويس ) و ( بي . أم . هولت) كمنقّحة للنصوص وشاركت في تأليف كتاب: تاريخ ايران (باللغة الفارسية) والمقالات التي نشرت في هذا الكتاب كانت قد دوّنت تحت إشرافها، إضافةً إلى ذلك فقد كانت لها دراساتٌ في مجال الفكر السياسي حول الفرق الإسلامية ولها مؤلّفاتٌ على هذا الصعيد
2- ألفت السيدة لامبتون هذا الكتاب في عام 1981م ونشرته جامعة أوكسفورد حيث يتألف من 17 فصلاً و 364 صفحةً وطبع ثانيةً في عام 1985م ونشر الكتاب باللغة الفارسية تحت عنوان (دولت و حکومت در اسلام)

الإسلامي حقٌّ للإمام عليّ وأولاده، وبعد ذلك تحوّل هذا المذهب إلى غطاءٍ لجميع الحركات الإسلامية إثر الأحداث التي طرأت (1).

وقالت أيضاً: «فكر التشيّع لم يكن موجوداً حتّى عهد الإمام الصادق، فخلال هذا العهد أثمرت جهود هشام بن الحكم واتّصفت هذه النظرية بصبغةٍ دينيةٍ أكثر من كونها صبغةً سياسية » (2) .

وتحدّثت عن العصمة قائلة:

«يعتقد الشيعة أنّ الإمام الذي يخلف النبيّ لابدّ وأن يكون معصوماً من الخطأ في أفعاله وأقواله، وهذه العقيدة على خلاف عقيدتهم السابقة، فهشام بن الحكم لم يكن يعتقد بضرورة عصمة النبيّ... إنّ عصمة الأنبياء والأئمّة من الذنوب لها دورٌ هامٌّ في الإمامة لدى الشيعة، ولكنّها لم تطرح كفكرٍ ولم يذكر لفظها في القرآن وأحاديث أهل السنّة حيث طرحت بين الشيعة لأوّل مرّةٍ في القرن الثاني، والسبب في ذلك هو إيجاد فكرٍ يتعارض مع فكرة الخلافة لدى أهل

السنّة (3).

ص: 64


1- دولت و حکومت در اسلام (باللغة الفارسية)، ص219
2- المصدر السابق، ص228 - 229
3- المصدر السابق

هاميلتون ألكساندر روسكين غِب (1):

تصدّى ألكساندر غِب لرئاسة مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هاروارد لمدّةٍ من الزمن ودوّن بعض المؤلّفات حول الإسلام، وأهم ما ألّفه كتاب (mohammedianism a historical survay) حيث تطرّق فيه إلى دراسة فكر التشيّع برؤيةٍ تأريخيةٍ طرح فيها آراءه حول معتقدات الشيعة، إلا أنّ هذه الدراسة في معظم بحوثها لا تستند إلى وثائق روائية معتبرة ؛ فعلى سبيل المثال قال حول جذور معتقدات الشيعة بالنسبة إلى الخلافة: «هذا الشعار السياسي الديني قد نشأ بالتدريج كعقيدةٍ أساسيةٍ لهذه الطائفة - الشيعة - مقابل العقيدة السائدة في المجتمع، أي أنّ الشيعة يعتقدون باقتصار الخلافة على آل على (علیه السلام) » (2).

ص: 65


1- تمّ تعيينه في عام 1921م أستاذاً مساعداً في كلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن إلى جانب المستشرق المعروف توماس آرنولد، وبعد وفاة هذا المستشرق أنيطت إليه مسؤولية الدراسات العربية. ومن نشاطاته العلمية تجدر الإشارة إلى أنّه قام بتحقيق دائرة المعارف الإسلامية وتدريس اللغة العربية في جامعات أوكسفورد ولندن وهاروارد ورئاسة مركز دراسات الشرق الأوسط في هذه الجامعة. وقد حاز على لقب (السير) من الحكومة البريطانية نظراً لنشاطاته العلمية كما حاز على وسام ( الجيون دونور) من فرنسا. أما أشهر مؤلّفاته فهو كتاب mohammedianism a historical survey) ) وترجم إلى الفارسية تحت عنوان (اسلام ، بررسي تاريخي). ومن الجدير بالذكر أنّ السيد حسين نصر قد أثنى عليه ومدحه كثيراً في كتابه (قلب الإسلام)
2- mohammedianism a historical survey, p121

وقال واصفاً مدى علم الأئمّة: «عقيدة الإمامية هذه ظهرت بالتدريج بصفتها مفهوم اعتقاديٍّ ثابتٍ، فالأئمة الذين يتّصفون بميزاتٍ تفوق الصفات البشرية كانوا يمتلكون علماً لا يدركه البشر» (1) . كما أكّد على أنّ العصمة من المعتقدات الأساسية للشيعة، لكنّه ادّعى أنّها كانت رهينةً للإخفاقات السياسية ولا سيما في واقعة عاشوراء، حيث قال: «الإمام هو معصومٌ لا يصدر منه الخطأ، هذا الأصل يعدّ الأساس لمعتقدات الشيعة حتّى يومنا هذا» (2).

إيتان كولبرغ:

هذا الباحث اليهودي الذي يقطن في إسرائيل دوّن أكثر من مائةٍ مقالةٍ وكتاب يتمحور معظمها حول دراسة التشيّع، وهو يؤكّد على أنّ الفكر الشيعي يتضمّن بعض التعاليم المتأثرة بالتيارات المنتسبة إلى أهل البيت سواءٌ المعاصرة لهم أم المتأخّرة عنهم، ولا يوجد دليلٌ دينيٌّ يؤيّدها. ومن أهمّ آثاره التي يستند إليها الباحثون وبمن فيهم حسين المدرسي الطباطبائي، مقالة تحت عنوان (من الإمامية إلى الاثني عشرية) (3) ، فهو في هذه المقالة تطرّق إلى دراسة العقيدة بالأئمّة الاثني

ص: 66


1- mohammedianism a historical survey, p122
2- mohammedianism a historical survey, p123
3- نشرت هذه المقالة باللغة الفارسية تحت عنوان ( از امامیه تا اثنى عشريه ) بمجلة البحوث التي تصدرها جامعة الإمام الصادق (علیه السلام) ، العدد 2

عشر في النصوص الشيعية وادّعى أنّ علماء الشيعة الأوائل قد اتّبعوا بعض الأساليب لأجل إضفاء شرعية على هذه العقيدة، كالاستناد إلى القرآن والأحاديث التي رواها الفريقان شيعةً وسنةً، وأيضاً استندوا إلى الكتاب المقدّس وروايات اليهود. كما زعم أنّ دراسة عقيدة الشيعة بالنسبة إلى غيبة الإمام الثاني عشر تثبت وجود تنوّعٍ واختلاف فيها. كما استنتج من بعض الشواهد التأريخية أنّ الاعتقاد باثني عشر أماماً وبغيبة الإمام الثاني عشر - الذي هو ميزة فكر التشيع الاثني عشري - لا أساس له لأنّ علماء هذا المذهب الجديد هم الذين أوجدوه إثر الشبهات والهجمات التي واجهوها. فعندما وجدوا الفرصة مؤاتيةً في عهد آل بویه حاولوا إثبات هذه العقيدة بغية الدفاع عن أنفسهم وتطبيق المصادر السابقة عليها بعد أن طرحها أسلافهم الإمامية في العهود السابقة، لذا ففي هكذا أجواء ونظراً للتأثير الذي حصل نتيجة الاعتقاد بغيبة الإمام الثاني عشر وإثر الاستناد إلى الأسس الفكرية المرتبطة بالعدد اثني عشر، حدث الانتقال من الإمامية إلى الاثني عشرية.

نقد الآراء التي ذكرت:

رغم أنّ الهدف من تدوين هذا الكتاب ليس نقد الآراء المخالفة للتشيّع التي ذكرت أو الإجابة عمّا ذكرته من شبهات بالتفصيل، لكن يمكن القول إنّ الدراسات التي أجريت في هذا المضمار فيها الكثير من

ص: 67

النقاط الإيجابية والسلبية وإنّها نابعةٌ من دوافع وعوامل عديدةٍ منها:

رغبة الكاتب باستكشاف حقائق الدين، نقد الخرافات، دوافع غير دينية، دوافع سياسية، التأثّر بالمناهج العلمية الغربية. وبالطبع فإنّ أهمّ ميزة لهكذا نوعٍ من الدراسات هو السعي لطرح جوابٍ والتأثير على المخاطب (1)، وهي بطبيعة الحال تعاني من نواقص نذكر منها ما يلي على سبيل المثال لا الحصر:

1) طرح فرضيات من دوافع شخصية.

2)عدم الإلمام بواقع فكر التشيّع في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية.

3) الاعتماد على الدراسات التي أجريت سابقاً والاستناد إليها کفرضياتٍ ثابتةٍ دون ملاحظة صحتها أو سقمها.

(4 عدم الرجوع إلى المصادر المعتمدة في البحوث العلمية.

5) عدم الاستناد إلى مصادر الشيعة الأصيلة والمعتبرة، والاعتماد بشكل أساسيٍّ على مصادر أهل السنّة.

6) إصدار أحكام مسبقة حول المعتقدات بقصد أو بعدم قصد.

7) هشاشة البحوث المطروحة في هذه الدراسات وعدم رصانة تفاصيلها.

ص: 68


1- من الجدير بالذكر أنّ كون الجواب مؤثّراً لا يعني بالضرورة أنه مطابق للحقيقة والواقع، إذ قد يكون هناك أمرٌ مؤثّرٌ لكنه لا يمتّ إلى الحقيقة والواقع بصلة

إضافةً إلى ذلك فإنّ أهم نقطة ضعف لهذا النوع من الدراسات تكمن في منهجيتها التي تسفر عن طرح رؤى تتعارض مع تعاليم مذهب التشيّع ومعارفه، وكما نعلم فإنّ البحوث التي تجرى في مجال تأريخ الفكر تعتمد في أقلّ تقديرٍ على أربعة مناهجٍ أساسيةٍ، وهي:

(1تدوين الفكر والعقيدة.

(2تصنيف الطبقات الفكرية.

3) دراسة الفكر على أساسين، أحدهما تأريخيٌّ والآخر مقارنٌ.

4) دراسة الفكر في إطارين تفصيليٍّ وبيانيٍّ، أي تشخيص واقع

التيار الفكري بصفته ظاهرة تأريخية حيّة وفاعلة في مسيرة التحوّل التأريخي (1) .

ومن الجدير بالذكر أنّ البحوث التي أجراها معظم الكتّاب الذين ذكروا ترتكز في طبيعتها على المنهج الرابع، ولكنّنا نلاحظ أنّهم في الكثير من الموارد لم يطبّقوا هذا المنهج بالكامل فيها .

ص: 69


1- هذه النقاط مستوحاة من كتاب: تاريخ تطور علم كلام (باللغة الفارسية) تأليف الشيخ جعفر السبحاني. كذلك ذكر المؤلّف تقسيماً آخر في الصفحة 86 من كتاب: درآمدي بر روش پژوهش در تاریخ (باللغة الفارسية)، حيث قال: «نحن نعتقد بأنّ الدراسات التأريخية ماضياً وحاضراً - سواء كانت فكرية أو تطبيقية - تكون وفق ثلاثة مناهج علمية هي عبارة عما يلي: أ) تفصيلية، أي على أساس النقل والرواية والواقع . ب) تحليلية بيانية، أي على أساس العلم والعقل وبيان العلل . ج) تفصيلية - تحليلية في هذه الحالة فإنّها تنطبق على النوع الثاني».

إن أساس البحث في هذا المنهج يقتضي عدم إهمال أيٍّ من العناصر التأريخية المؤثّرة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، إذ يُفترض على الباحث أن يلتفت إلى دورها المؤثّر لأجل أن يدرك واقع ارتباط الفكر بالثقافة والأخلاق والسياسة والمجتمع والاقتصاد والنظام الإداري والظروف الاجتماعية، في حين أنّنا نجد الباحث في بعض الدراسات قد أكّد على زاويةٍ واحدةٍ من الزوايا العديدة للفكر ومراحل ظهوره تأريخياً دون أن يكترث بدور العناصر التأريخية التي لها تأثيرٌ عليه. إذن نستنتج من ذلك أنّ الدراسات التي أجريت على هذا الصعيد فيها نواقص كثيرة قد أدّت إلى أن تكون النتائج ناقصةً هي الأخرى.

استناداً إلى ما ذكر، يثبت لنا سقم أو نقصان منهج البحث الذي اعتمد عليه أولئك الباحثون وعد صحّته من عدّة جوانب الأمر الذي يوجب طرح نظريةٍ متكاملة في هذا الإطار، وهذه النظرية بكلّ تأكيد لا ينبغي أن تتضمّن رؤيةً تاريخيةً تبتدع الأحداث والأفكار، بل لا بدّ وأن تشتمل على أحداث وأفكار ثابتة في الواقع دون أن يطرأ عليها أيّ تحريف. لذا يجب الاعتماد على أفضل مناهج البحث، وهو بالطبع منهج دراسة الفكر دراسةً تأريخيةً - تحليليةً يتمّ من خلالها بيان كيفية نشوء التيار الفكري للتشيّع تزامناً مع مختلف الأحداث والظروف وكيف استمرّت مسيرته على مرّ العصور. وهذا الأمر بطبيعة الحال لابدّ وأن يستند إلى فرضيات صائبة يمكن من خلالها معرفة مدى

ص: 70

تأثير العناصر التأريخية في بيان معتقدات أهل البيت (علیهم السلام) ، وذلك يستدعي الإلمام بمختلف طبقات معارف التشيّع؛ فإذا تمّ ذلك سوف لا البحث العلمي مجرد نقل تأريخيٍّ بحت عار عن الشرح والتحليل المنطقي، لأنّ التعاليم الدينية فيها جوانب خفية لو أنها تركت أو أن الباحث غفل عنها بقصد أو بعمد فمن شأنها أن تغيّر وجهة البحث وتوقع المخاطب في غموضٍ أو انحرافٍ.

بناءً على ما ذكر ، لو أردنا اجتناب المحذور الذي يقع فيه بعض الباحثين أثناء حديثهم عن جانب من خصائص أهل البيت (علیهم السلام) التي تفوق القدرة البشرية أو عند تحليلهم لسبب عدم قيام الإمام الصادق (علیه السلام) ضدّ حكومة الجور، فلا بدّ لنا من الإلمام بمختلف العناصر التأريخية التي لها تأثيرٌ في معرفة الحقائق العلمية وتنظيمها وفق إطارٍصحيحٍ. وهذا الأمر إنّما يتحقّق في ظلّ رؤية لاتتعارض مع العقل والنقل الصحيح، بحيث يعتمد الباحث على معلوماتٍ موثّقة للأحداث التي يتّخذها كنقطة ارتكازٍ للحكم على أفكار ومعتقدات طائفةٍ

معينّةٍ.

***

ص: 71

ص: 72

الفصل الثاني: دور الأحداث التأريخية في بيان عقائد أهل البيت (عَلیهِم السَلامُ)

اشارة

ص: 73

ص: 74

توطئة

إنّ كلّ ثورة قبل تجسّدها كظاهرةٍ على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، هي عبارةٌ عن ظاهرةٍ تجسّد القضايا المبدئية، فما يميّز الثورة هو أنّها تكافح كلّ ما يتعارض مع المبادئ الموجودة وتقوّم المبادئ السابقة وتعمل على تكاملها وفق أسسٍ محدّدة؛ ومن ناحية أخرى فليس من الممكن لثورةٍ أن تنجح على كافّة المستويات دفعةً واحدةً، لأنّ تحقّق المبادئ الثورية لا يتمّ إلا بمرور الزمان مع توفّر الظروف الملائمة، وبالطبع هناك عناصر عديدة تلقي بظلالها على ما يحصل من تحوّلٍ أو تكاملٍ، وهذه العناصر المؤثّرة قد تكون سياسية أو اجتماعية أو ثقافيةً أو اقتصادية، ولربّما تجتمع مع بعضها فتؤدّي بمرور الوقت إلى ظهور مبادئ أساسيةٍ بشكلٍ مباشرٍ غير مباشرٍ ؛ لذا فإنّ هذا الظهور لا يقوم إلا بتفصيل ما كان مجملاً، وفي غير هذه الحالة فإنّ كلّ تحوّلٍ يحدث لا يكون سوى بدعةٍ وخروجٍ عن أصول الثورة.

ص: 75

الثورة العظيمة التي قادها نبينا الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ)والتي تعتبر ظاهرةً جليةً للمبادئ السامية، تهدف إلى الأخذ بيد المجتمع للسير قدُماً في طريق التحوّل والتكامل من الناحية المبدئية، كما أنها تكافح كلّ ما المبادئ. لقد بذل صلوات الله عليه جهوداً جبّارةً في فترةٍ وجيزةٍ، لذلك تمكّن من إيجاد تحوّلٍ في المجتمع الجاهلي واستطاع تطويره مع كلّ تلك الخلفيات التأريخية الظلماء التي نشأ على أساسها، حيث سادت في هذا المجتمع تقاليد ذميمة كان من الصعب اجتثاثها، ومنها: التفرقة، العداوة ،عبادة الأوثان للتقرّب إلى الله، شرب الخمر، لعب القمار، وئد البنات، الدعارة، إضافةً إلى الكثير من الانحرافات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

إنّ الجهود الحثيثة التي بذلها نبينا الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)كانت تهدف إلى إنقاذ الأمّة ووضع برنامجٍ مستقبليٍّ لها على أساس منظومةٍ معرفيةٍ متكاملة على مختلف الأصعدة ولا سيما في مجال فروع الدين، حيث وضعت أُسس هذه المنظومة وتفريعاتها في عهده، ولكنّ بعض تلك التفريعات بلغت درجة التكامل بالتدريج، ومثال ذلك تحريم شرب الخمر.

لا ريب في أنّ بيان الأصول الإسلامية وما يرتبط بها من قضايا يتطلّب توفّر ظروفٍ مناسبةٍ، إذ إنّ الفهم غير الصائب قد تتمخّض عنه نتائج لا تحمد عقباها، لذا لم يكن هناك بدُّ من بيان بعض تلك الأصول بمرور الزمان وبالتناسب مع مختلف الأحداث التي تعصف بالأمّة

ص: 76

الإسلامية. وقد كانت هناك مشاكل عديدة واجهها النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ)والأئمّة المعصومون (علیهم السلام) حالت دون تحقّق هذا الأمر، وأهمّها عدم توفّر الظروف السياسية المناسبة وكثرة المشاكل الاجتماعية فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية المزرية والانحلال الثقافي والجهل المطبق، فهذه المشاكل قد تسبّبت بإيجاد صعوباتٍ في مجال نشر التعاليم الدينية ولا سيما التعاليم التي لا يمكن لأذهان عامّة الناس إدراكها والتي لها صلةٌ مباشرة بسعادة الإنسان أو شقائه.

لو تأمّلنا بعض الشيء في تعاليم المذهب الشيعي في عهد أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) وقبل غيبة الإمام الثاني عشر (علیهم السلام) ، نلاحظ أنّه يتضمّن تعاليم تمّ بيانها بشكلٍ مرحلي، وذلك ابتداء من مرحلة الإجمال ووصولاً إلى مرحلة التفصيل، وهذا البيان في حقيقته يعتبر منظومةً معرفيةً وضع أُسسها النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)والأئمة المعصومون (علیهم السلام) الذين خلفوه. وهناك مسألتان تجدر الإشارة إليهما في هذا المضمار، وهما:

أوّلاً : فقط بيان مختلف جوانب هذه الحركة التكاملية قد تمّ في إطار التفصيل أو الإيجاز حسب الظروف المذكورة، لذا فإن المسيرة الإجمالية - التفصيلية لكلّ مفهومٍ لا تعني أنّه قابلٌ للتغيير.

ثانياً: عدم وجود تعارضٍ بين هذه المفاهيم، وإلا فإنّ كلّ مفهومٍ يطرأ عليه تعارض مع الأصول فهو مبتدعٌ ولا يمتّ إلى الدين بصلةٍ.

ص: 77

بناءً على ذلك فإنّ المقصود من العنصر التأريخيّ هو كلّ حدثٍ أو جانب من حدثٍ ما، كالقضايا السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي لها دورٌ في انعكاس واقع التيارات الفكرية في رحاب التأريخ، وعند تحقّق جوانبه الإيجابية فإنّ بيان المعتقدات وكذلك القضايا المذكورة يتمّ بسرعة وتفصيلٍ أكثر، وفي حالة عدم تحقّقها فإنّ سرعة البيان ستتباطأ. ومن الجدير بالذكر أنّنا هنا لا نقصد طرح تعريفٍ منطقيٍّ، بل نروم طرح تعريفٍ مقبولٍ ومتّفقٍ عليه نتمكّن على أساسه بيان رأينا.

دراسة مفهومية للعناصر التأريخية:

أولاً: العوامل السياسية :

توضیح:

السياسة في معناها العامّ تعني السعي للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها وتوسيع نطاقها أو استعراضها وتمشية الأمور، وبالتالي فالعمل السياسي هو كلّ عملٍ يقوم به الحكّام سعياً منهم لتحقيق الاستقرار لحكوماتهم، أو أنّه كلّ نشاطٍ لمعارضي الحكومة بهدف مقارعتها وزعزعة استقرارها (1) . وعلى هذا الأساس فالعوامل السياسية تعني كلّ فعلٍ وردّة فعلٍ يرتبطان بالحكم والنظام الحاكم

ص: 78


1- للاطّلاع الأكثر على تعاريف السياسة ومفهومها، راجع : فرهنگ علوم سیاسی (باللغة الفارسية)، محمد جاسمي، بهرام جاسمي

سواءٌ من قبل المتصدين للأمر أو معارضهيم.

ونذكر فيما يلي بعض المفاهيم المرتبطة بالعوامل السياسية:

1) الأجواء السياسية:

إنّ توفّر أو عدم توفّر الأجواء المساعدة على طرح الأفكار السياسية، له تأثيرٌ ملحوظٌ على تطوّر المجتمع أو تخلّفه في المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. الفترة التي شهدت حضور أئمة أهل البيت (علیهم السلام) والتي دامت قرنين ونصف القرن تقريباً، فإنّ حكّام بني أمية وبني العباس أوجدوا أجواء متوتّرةً ومشحونة؛ لذلك تمكّنوا من الحفاظ على سلطتهم ومنع الناس من الاطّلاع على معارف آل الرسول. على سبيل المثال لو ألقينا نظرةً على عهد سلطة معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف الثقفي والمنصور الدوانيقي وهارون والمتوكّل العباسي وهشام بن عبدالملك ومن حذا حذوهم نلاحظ أنّ التوتّر قد بلغ ذروته والتأريخ يشهد على وجود الكثير من الأحداث الأليمة التي عصفت بالمجتمع الإسلامي في عهد هؤلاء، ومن أبرزها اغتيال الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) والكثير من أتباعهم ونفي واعتقال عددٍ كبيرٍ منهم. فمعاوية بن أبي سفيان بعث رسائل إلى عمّاله في مختلف الأمصار الإسلامية دعاهم إلى التشدّد ضدّ شيعة عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ومعاملتهم بقسوةٍ وطالبهم بقطع أرزاقهم من بيت المال واستخدام أعتى

ص: 79

وسائل التعذيب بحقّهم (1) ، كما أنّه أراق دماء الكثير من المؤمنين وصحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)وبمن فيهم الصحابي الجليل حجر بن عدي ومرافقوه، وما فعله أتباع معاوية بالحضرميين من قتلٍ ومثلةٍ هي حقيقة يندى لها الجبين (2) .

وهناك شواهد تأريخية كثيرة من هذا القبيل إبّان حكومات بني أمية وبني العباس الجائرة، والحجّاج بن يوسف الثقفي قد فاق جميع الطغاة في عدائه الرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)وأهل بيته الكرام (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فهذا الظالم تعدّى على حرمة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)وأعلن العداء له بكل وقاحةٍ(3) وارتكب مجازر وأعمالاً شنيعةً كانت غايةً في الظلم والقسوة، فقد ذكرت مصادر أهل السنّة أنّه قتل أكثر من مائة وعشرین ألف إنسانٍ بريءٍ خارج نطاق الحروب (4). وهو بنفسه يصف مدى ولعه بإراقة الدماء و يتفاخر بذلك قائلاً: «فإنّي والله ما أعلم اليوم رجلاً على ظهر الأرض هو أجرى على دم منّي (5). ومن الأحداث التأريخية الأخرى

ص: 80


1- شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 15
2- كتب زياد بن أبيه إلى معاوية بن أبي سفيان في حق الحضرميين: «إنّهم على دين عليٍّ وعلى رأيه»، فكتب إليه معاوية : «اقتل كلّ من كان على دين عليّ ورأيه، فقتلهم ومثّل بهم. الكامل في التأريخ، ج 3، ص 477
3- الرسائل السياسية، ص 297
4- تهذيب التهذيب، ج 2، ص211
5- الطبقات الكبرى، ج 6 ، ص 66

التي تثبت همجية الحجّاج وتعطّشه لدماء الشيعة، ما فعله بقنبر مولى

الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقد نقل الشيخ المفيد (رحمةالله) أنّه هذا السفاح قال: «أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي ترابٍ فاتقرب إلى الله بدمه، فقيل له: ما نعلم أحداً كان له أطول صحبةً لأبي ترابٍ من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فأتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال: أبو همدان؟ قال: نعم، قال: مولى عليّ بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين عليّ وليّ نعمتي. قال: إبرَاً من دينه، قال: فإذا برئت من دينه تدلّني على دين غيره أفضل منه؟ قال: إنّي قاتلك فاختر أي قتلةٍ أحبّ إليك ؟ قال : قد صيّرت ذلك إليك، قال: ولِمَ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلا قتلتك مثلها ، ولقد أخبرني أمير المؤمنين (عَلیهِ السَلامُ) أنّ منيّتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حقٍّ، فأمر به فذُبح»(1).

وأمّا في عهد ثاني خلفاء بني العباس المنصور الدوانيقي فإنّ التوتّر وصل ذروته الأمر الذي أسفر عن حيرة بعض الشيعة حول إمام زمانهم لأنّ الإمام موسى الكاظم (عَلیهِ السَلامُ) كان يلتزم جانب الحيطة بسبب الضغوط الشديدة التي مارسها بنو العباس عليهم، حيث سأله

ص: 81


1- الإرشاد، ج 1، ص 328 . ومن الصلحاء الأخيار الذين أزهق الحجّاج أرواحهم ظلماً وعدواناً هو العالم الجليل الذي أدرك رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو ابن عشر سنين، سعيد بن جبير الذي تعرض لأعتى أنواع التعذيب قبل استشهاده. وقد وصفه الحسن البصري بالقول: «وأهل الأرض من مشرقها الى مغربها محتاجون لعلمه». الحيوان، ج1، ص 247

أحد أصحابه قائلاً: «جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضُلّال فألقي إليهم وأدعوهم إليك وقد أخذت عَلَيَّ الكتمان! فقال له (عَلیهِ السَلامُ) : (مَن آنَستَ مِنهُم رُشداً فَأَلْقِ إِلَيهِم وَخُذ عَلَيهِم بالكتمانِ، فَإِنْ أَذَاعُوا فَهُو الذُّبح) ، فقال الراوي: وأشار بيده إلى حلقه (1).

وهناك بعض الأحاديث المروية عن الأئمّة المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) لها دلالة على أسباب عدم إجابتهم عن كلّ ما يوجّه لهم من أسئلةٍ،

فبعضها يؤكّد على أنّ سبب ذلك هو التوتّر السياسي الذي كان سائداً آنذاك. على سبيل المثال حينما سأل محمّد بن أبي نصر الإمام الرضا (عَلیهِ السَلامُ) عن أمر ما، امتنع عن جوابه. والرواية كالتالي: عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «سألت أبا الحسن الرضا عن مسألة فأبي وأمسك ثم قال: (لو أعطيناكم كلّما تريدون كان شرّاً لكم وأخذ برقبة صاحب هذا الأمر) إلى أن قال: ( وأنتم بالعراق ترون أعمال هؤلاء الفراعنة)» (2) .

2 ) المسؤولية الحكومية:

المسؤولية الحكومية من شأنها أن تكون أحياناً سبيلاً مناسباً لنشر المعارف على نطاقٍ واسعٍ، فبعض أصحاب الأئمّبة نشروا المعارف

ص: 82


1- الكافي، ج 1 ، ص 351
2- المصدر السابق، ج 2، ص 224

الإسلامية الحقّة عن هذا الطريق ولا سيما في عهد خلافة الإمام عليّ (عَلیهِ السَلامُ) وولاية الإمام الرضا (عَلیهِ السَلامُ) للعهد؛ فالإمام عليّ (عَلیهِ السَلامُ) بذل جهوداً كبيرةً لنشر المعارف الدينية في إطار خطبه العقائدية وتدوين الأحاديث وتربية كوادر متديّنة وصالحة. كما أنّ الإمام الرضا (عَلیهِ السَلامُ) استثمر منصب ولاية العهد لهذا الغرض النبيل، وكلام المأمون الذي أعرب فيه عن ندمه وأنّه ارتكب خطأ في تعيين الإمام ولياً للعهد وأنّ هذا الخطأ قد أوصل نظامه الجائر إلى حافّة الهاوية يدلّ على هذه الحقيقة أيضاً، حيث قال: «كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه لنا وليعترف بالملك والخلافة لنا وليعتقد فيه المفتونون به أنه ليس ممّا ادّعى في قليلٍ ولا في كثيرٍ، وأنّ هذا الامر لنا دونه. وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا وأخطأنا في أمره بما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعية بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر ثمّ ندبّر فيه بما يحسم عنّا مواد بلائه» (1) . ومن الناحية التأريخية فإنّ المأمون قال هذا الكلام بعد أن شدّ الإمام الرضا (عَلیهِ السَلامُ) رحاله إلى مرو، تلك المدينة التي استغلّ الإمام فيها نفوذه السياسي

ص: 83


1- عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 170

واستقطب الناس نحوه حيث رويت عنه استدلالاتٌ مفصّلة حول موضوع الإمامة(1) .

3) الحركات المناهضة للحكومة:

الصراعات والنشاطات السياسية التي يشهدها كلّ مجتمعٍ عادةً ما يستتبعها نشوء تياراتٍ وحركات موالية ومناهضةٍ، وبالتالي تتوفّر الأرضية المناسبة لبيان الآراء وترويج التعاليم المتبناة، ومن أمثلة ذلك الخطبة المعروفة للسيدة فاطمة الزهراء (عَلیها السَلامُ) وعدم انصياع الإمام عليّ (عَلیهِ السَلامُ) وراء الضغوط التي مورست ضدّه لإرغامه على بيعة الخليفة الأول وثورة الإمام الحسين (عَلیهِ السَلامُ) الخالدة وقيام زيد بن عليّ (عَلیهِ السَلامُ) وقيام الحسين بن عليّ المعروف ب-(شهيد فخ).

أمّا ثورة الإمام الحسين (عَلیهِ السَلامُ) ضدّ السلطة اللاشرعية ليزيد بن معاوية فقد أنارت فكر المجتمع ونبّهت الناس على فساد هذه السلطة الجائرة وانحرافها، حيث قال صلوات الله عليه واصفاً قيامه: «إنِّي لَم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي محمّد، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر،وأسير بسيرة جدي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ وهو أحكم الحاكمي» (2).

ص: 84


1- الكافي، ج 1، ص 198
2- مناقب آل أبي طالب، ج 4 ، ص 89

وعندما سمع الإمام موسى الكاظم (عَلیهِ السَلامُ) بشهادة الحسين بن علىّ في واقعة (فخ)، قال في شأنه : «نعم، إنّا لله وإنا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله »(1).

إن هذه النماذج وما ناظرها قد مهّدت الأرضية لتنامي المعارف في المجتمع الإسلامي من جميع الجوانب، لذا فإنّ آثاراها تتّضح أكثر على النطاق الاجتماعي العامّ.

4) الإعلام السياسي:

لا ريب في قدرة كلّ حكومةٍ أو مؤسّسةٍ أو شخصٍ على تمهيد الأرضية الملائمة لاستقطاب المجتمع نحو فكرةٍ ما أو إبعاده عنها، وذلك عبر إيجاد أجواءٍ مناسبةٍ وإعلامٍ سياسيبٍّ موجّهٍ، وهناك نماذج تأريخية كثيرة على هذا الصعيد نذكر منها ما يلي على سبيل المثال:

في حرب صفّين خرج على أصحاب الإمام عليّ (عَلیهِ السَلامُ) فتىً أنشد قائلاً:

«أنا ابن أرباب الملوك غسان ***و الدائن اليوم بدين غسان

أنبأنا أقوامنا بما كان ***أن علياً قتل ابن عفان

ص: 85


1- مقاتل الطالبيين، ص 38

ثمّ شدّ فلا ينثني يضرب بسيفه، ثمّ جعل يلعن علياً ويشتمه ويسهب في ذمّه.

فقال له هاشم بن عتبة: إنّ هذا الكلام بعده الخصام وإنّ هذا القتال بعده الحساب، فاتّق الله فإنّك راجع إلى ربّك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به.

قال الفتى: فإنّي أقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يُصلّي كما ذُكر لي، وإنّكم لا تُصلّون، وأقاتلكم أن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله.

فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان؟! إنما قتله أصحاب محمّد وقرّاء الناس حين أحدَث أحداثاً وخالف حكم الكتاب، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين وأولى بالنظر في أمور المسلمين، وما أظنّ أنّ أمر هذه الأمة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قطّ.

قال الفتى : أجل أجل ، والله لا أكذب فإن الكذب يضرّ ولا ينفع، ويشين ولا يزين.

فقال له هاشم: إنّ هذا الأمر لا علم لك به فخلِّه وأهل العلم به.

قال: أظنّك والله قد نصحتني .

فقال له هاشم: وأما قولك إنّ صاحبنا لا يُصلّي، فهو أوّل من صلّى مع رسول الله، وأفقهه في دين الله وأولاه برسول الله . وأما من ترى معه فكلّهم قارئ الكتاب، لا ينامون الليل تهجداً، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون.

ص: 86

قال الفتى: يا عبد الله، إنّي لأظنّك امرئاً صالحاً، وأظنّني مخطئاً آثماً، أخبرني هل تجد لي من توبةٍ؟!

فقال هاشم: نعم، تُب إلى الله يَتب عليك، فإنّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب التوّابين ويحب المتطهرين.

فذهب الفتى بين الناس راجعاً، فقال له رجلٌ من أهل الشام: خدعك العراقي! قال: لا، ولكن نصحني العراقي»(1).

كما روي عن الإمام عليّ بن الحسين السجاد (عَلیهِ السَلامُ) أنّه أخبر أصحابه بحوارٍ له مع مروان بن الحكم، فقال: «قال مروان بن الحكم: ما كان في القوم أحدٌ أدفع عن صاحبنا من صاحبكم - يعني علياً عن عثمان - قال: قلت: فما لكم تسبّونه على المنبر ؟! قال: لا يستقيم الأمر إلا بذلك» (2) .

ونقل عن عبد الله بن عبيد الله بأنهم يعلمون بفضل الإمام علي بن أبي طالب اللا وكرامته ومع ذلك يسبّونه لأن الناس لو علموا بذلك لتفرقوا من حولهم والتجؤوا إلى أبنائه ! (3)

إنّ هذه الموارد وما شاكلها تدلّ على مدى التأثير الكبير

ص: 87


1- وقعة صفين، ص 355
2- تأريخ مدينة دمشق، ج 42، ص 438
3- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 477

للإعلام السياسي المسموم على المجتمع، ومثالٌ آخر على ذلك أنّ الشبكة الإعلامية لمعاوية بن أبي سفيان قد عملت على شحن الأجواء ضدّ الإمام الحسن بن عليّ (عَلیهِ السَلامُ) لأنّه كان يريد الإطاحة بنظام حكم أُمية، وهذا الأمر واضحٌ في الرواية المنقولة عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي، فقد قال يزيد بن خمير: «سمعت عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي يحدّث عن أبيه قال: قلت للحسن بن عليٍّ إنّ الناس يزعمون أنّك تريد الخلافة! فقال:( كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمتُ ويحاربون من حاربت، فتركتُها ابتغاء وجه الله تعالى ثمّ أثيرها بأتياس أهل الحجاز)» (1).

وأمّا يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد فقد حاول إضعاف الأسس العقائدية للشيعة عن طريق ترويجه لشبهةٍ إعلاميةٍ، فبعد أن سُجن الإمام موسى الكاظم (عَلیهِ السَلامُ) خاطب مسلم (صاحب بيت الحكمة) قائلاً: «قد أفسدتّ على الرافضة دينهم لأنّهم يقولون إنّ الدين لا يقوم إلا بإمامٍ حيٍّ، وهم لا يدرون أنّ إمامهم اليوم حيٌّ أو

ميّتٌ ؟! »(2).

إنّ ما ذكر يدلّ بوضوح على مدى تأثير الإعلام الحكومي

ص: 88


1- البداية والنهاية، ج 8، ص 42 تأريخ مدينة دمشق، ج13، ص 280؛ الطبقات الكبرى، ج 10، ص 31
2- رجال الكشي، ص266

وقدرته على إبعاد الناس عن إمامهم وتضليلهم كي لا يواكبوا التطوّرالمعرفي.

ثانياً: العوامل الثقافية :

توضیح:

إنّ الثقافة هي ثروةٌ تضفي لحياة البشر معنىً وتسوقها نحو مسيرٍ معينٍ، وهي على المستويين الفردي والجماعي تشمل العلم والمعرفة والتقاليد والنزعات، لذا نحن نقصد من العوامل الثقافية تلك العوامل التي تعكس هذا المعنى، ومن هذا المنظار يمكن اعتبار بعض المسائل بأنّها عوامل ثقافية من شأنها أن تسوق حياة الإنسان نحو جهةٍ محدّدة، ومن الأمثلة على العوامل الثقافية : الإقبال العامّ على فهم التعاليم، تواجد النخبة الاجتماعية، روحية الاستفسار، السعي لاكتساب العلم، مواجهة الأفكار الجديدة. وأهمّ هذه العوامل يمكن تلخيصها في الموارد التالية:

1) الإلمام بمختلف العلوم:

إنّ اهتمام المجتمع بالعلم واستكشاف القضايا المجهولة من شأنهما تنمية روح الاستطلاع وتوسيع نطاق المعلومات، ولو قارنّا بين الظروف الثقافية التي كانت سائدةً في عهد الإمام عليّ بن الحسين السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعهد ابنه محمّد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) - حينما كان تدوين الحديث ممنوعاً -للاحظنا أنّ الناس بالتدريج أقبلوا على طلب العلم، فقد رُوي عن

ص: 89

الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله: «ما ندري كيف نصنع بالناس؟! إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ضحِكوا...» (1) . وأمّا في عهد الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإنّ الذوق العام قد مال إلى طلب العلم واكتساب المعارف بعد أن توفّرت الأرضية الملائمة لذلك، فقد نقل المرحوم الكليني في كتابه (الكافي) : «وكانت الشيعة قبل أن يكونَ أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجِّهم وحلالَهم وحرامَهم، حتّى كان أبو جعفر ففتح لهم وبين لهم مناسكَ حجَهم وحلالهم وحرامهم حتى صار الناس يحتاجون إليهم» (2) .

وروى الكشي ما يلي: «عن محمد بن مسلم قال: إنّي لنائمٌ ذات ليلةٍ على السطح إذ طرق الباب طارقٌ فقلت: من هذا؟ فقال: شريك يرحمك الله، فأشرفت فإذا امرأةً فقالت: لي بنتٌ عروسٌ ضربها الطلق، فما زالت تطلق حتى ماتت والولد يتحرّك في بطنها ويذهب ويجيء فما أصنع ؟ فقلت: يا أمّة الله سُئل محمّد بن علي بن الحسين الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مثل ذلك، فقال:( يُشق بطن الميّت ويُستخرج الولد) ، يا أَمَة الله افعلي مثل ذلك، أنا يا أمَة الله رجلٌ في سترٍ، من وجّهك إلي؟ قال: قالت لي: رحمك الله، جئتُ إلى أبي حنيفة صاحب الرأي فقال: ما عندي فيها شيءٌ، ولكن عليك بمحمّد بن مسلم الثقفي فإنّه

ص: 90


1- الكافي، ج 3، ص 235
2- المصدر السابق، ج 2، ص 20

يخبر، فمهما أفتاك به من شيءٍ فعودي إليّ فأعلمينيه، فقلت لها: امضي بسلام. فلمّا كان الغد خرجتُ إلى المسجد وأبو حنيفة يسأل عنها أصحابه فتنحنحت، فقال: اللهم عقراً، دعنا نعي» (1).

ومن النماذج الأخرى على ذلك الإقبال الشعبي الواسع على الإمام علي بن موسى الرضا (عَلیهِ السَلامُ) لاستماع الرواية المعروفة ب (سلسلة الذهب) في خراسان(2).

2)تواجد النخبة بين الناس:

كلّ عهدٍ شهد تواجد أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) نلاحظ فيه تزايد عدد النخبة وبالتالي فإنّ المعارف في رحاب حضورهم يتمّ بيانها بشكلٍ أعمق وأكثر تفصيلاً مقارنة بالعهود الأخرى، وبالتأكيد فقد تمخّضت عن ذلك آثارٌ اجتماعيةٌ عامّةً على نطاق واسع. على سبيل المثال فإنّ عهد الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) مشهد نبوغ الكثير من الشخصيات التي كانت نخبةً من علماء وفقهاء بذلوا جهوداً كبيرةً للرقي بالعلوم والمعارف لدرجة أنّ الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) مدحوهم وأثنوا

ص: 91


1- رجال الكشي، ص 163
2- نقل العلامة الشوشتري هذا الحديث من مصادر أهل السنّة وكذلك نقله العلامة المجلسي من مصادر الشيعة، وكلا الطريقين منقول عن صاحب كتاب (تأريخ نیشابور). راجع: إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، ج 19 ، 579 - ج28، ص 608 - ج 12، ص 387؛ بحار الأنوار، ج 49، ص 126

عليهم. فقد طلب الإمام محمبد الباقر (عَلیهِ السَلامُ) من أبان بن تغلب أن يفتي الناس وأثنى عليه قائلاً: «إجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك» (1).

ومن الشخصيات البارزة في تلك الآونة أصحاب الإمام جعفر الصادق (عَلیهِ السَلامُ) الأربعة، وهم بريد العجلي وزرارة بن أعين وأبو بصير ومحمّد بن مسلم، فحينما ساد الغلوّ والانحراف كان الإمام ينصح شيعته بالرجوع إلى هؤلاء الأربعة كي يتمكّنوا من صيانة دينهم والسير في سبيل الرشاد، وهناك رواية منقولة عن جميل بن دراج في كتاب (اختيار معرفة الرجال) تشير إلى مكانتهم، والرواية كالتالي: «عن جميل بن دراج قال : دخلت على أبي عبد الله (عَلیهِ السَلامُ) فاستقبلني رجلٌ خارج من من عند أبي عبد الله (عَلیهِ السَلامُ) من أهل الكوفة من أصحابنا، فلمّا دخلت على أبي عبد الله (عَلیهِ السَلامُ) قال لي : ( لقيت الرجل الخارج من عندي؟) فقلت: بلى، هو رجل من أصحابنا من أهل الكوفة. فقال: (لا قدس الله روحه ولا قدّس مثله، إنّه ذكر أقواماً كان أبي (عَلیهِ السَلامُ) ائتمنهم على حلال الله وحرامه وكانوا عيبة علمه وكذلك اليوم هم عندي، هم مستودع سرّي أصحاب أبي (عَلیهِ السَلامُ) حقاً. إذا أراد الله بأهل الارض سوءاً صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شيعتي أحياءاً وأمواتاً، يحيون ذكر أبي (عَلیهِ السَلامُ) ، بهم يكشف الله كلّ بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال

ص: 92


1- . رجال النجاشي، ص 10

المبطلين وتأوّل الغالين) ثم بكى. فقلت من هم؟ فقال: (من عليهم صلوات الله ورحمته أحياءً وأمواتاً، بريد العجلي وزرارة وأبو بصير ومحمّد بن مسلم، أمّا أنّه يا جميل سيبيّن لك أمر هذا الرجل إلى قريب)». قال جميل : «فو الله ما كان إلا قليلاً حتّى رأيت ذلك الرجل يُنسب إلى أصحاب أبي الخطاب، قلت: الله يعلم حيث يجعل رسالاتة!» قال جميل: «وكنّا نعرف أصحاب أبي الخطاب (1) ببغض هؤلاء رحمة الله عليهم» (2).

3)روح الاستفسار والسعي لادّخار العلم:

فضلاً عمّا ذكر، فإنّ حبّ الاستفسار والمعرفة لدى بعض أصحاب الأئمة (عَلیهِمَ السَلامُ) قد أدّى إلى ازدهار المعارف ونشرها وبيانها، ولو أمعنّا النظر في الأحاديث التي نقلوها نلاحظ أنّ روح الاستفسار كانت تتنامى لديهم، وإثر ذلك فإنّ البيان هو الآخر كان يتزايد أكثر ويمكن اعتبار عهد الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) بأنه أوّل مرحلة لانتعاش هذا التوجّه العلمي، حيث ظهرت شخصيات بارزة في تأريخ التشيع من أمثال: جابر بن يزيد الجعفي، زرارة بن أعين، بريد بن معاوية، أبو بصير الأسدي، محمد بن مسلم، حمران بن أعين، هشام بن سالم، هشام بن الحكم، مؤمن الطاق.

ص: 93


1- أبو الخطاب هو أحد كبار الغلاة
2- رجال الكشي، ص 137

يقول محمّد بن مسلم الذي عاشر الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) لسنوات واكتسب منهما علوماً جمّةً: «ما شجر في رأيي شيء قطُّ إلا سألت عنه أبا جعفر (عَلیهِ السَلامُ) ، حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث وسألت أبا عبد الله (عَلیهِ السَلامُ) عن ستة عشر ألف حديث» (1).

أمّا هشام بن الحكم فعندما كان يعجز عن الردّ على ابن أبي العوجاءكان يقصد المدينة ليسأل الإمام جعفر الصادق(عَلیهِ السَلامُ) (2) ، لذلك قال: سألت أبا عبد الله (عَلیهِ السَلامُ)بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام»(3) .

وأمّا حمران بن أعين فقدكان يسأل الإمام عن كلام زرارة وكان يبذل كلّ ما في وسعه لاستكشاف القضايا المجهولة وما يراود ذهنه(4).

قبل هذا العهد بعقود فإنّ حبّ الاستفسار لم يكن موجوداً لدى المسلمين، لذلك خاطبهم الإمام عليّ بن أبي طالب (عَلیهِ السَلامُ) قائلاً: «سلوني قبل أن تفقدونى».

4)مواجهة الأفكار الجديدة (حركة الترجمة):

حركة ترجمة النصوص الفارسية واليونانية والرومية إلى اللغة

ص: 94


1- رجال الكشي، ص 109
2- الكافي، ج 5 ، ص 362
3- المصدر السابق، ج 1 ، ص 262
4- المصدر السابق، ج 3، ص 274

العربية بدأت فى أواسط العصر الأموى تقريباً، وهناك عوامل كانت مؤثّرة على هذا الصعيد وبما فيها الاحتكاك الثقافي والحريات الاجتماعية الثقافية لمختلف الفئات المسيحية والإسلامية وتغلغل النصارى في بلاط معاوية بن أبي سفيان وسائر خلفاء بني أمّية بصفتهم كتّاب في النظام الإداري(1) . ولم يقتصر تأثير هذه الظاهرة على الجانب العلمي فحسب، بل كان لها تأثيرٌ على المستوى الاجتماعي أيضاً، ومثال ذلك وضع قوانين ومقررات حكومية متشدّدة في مجال ترجمة وثائق الديوان إلى اللغة العربية ولا سيما في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز(2) .

وهذه الحركة قد تنامت في عهد خلافة بني العباس وبالأخصّ إبّان حكومة المأمون بن هارون الرشيد، فقد طرحت أسئلةٌ فلسفيةً وكلاميةٌ وشاعت أفكار سائر الأمم في العالم الإسلامي فظهرت إثر ذلك نظريات على مختلف الأصعدة، واستتبع ذلك حدوث فوضى في أوضاع المسلمين الثقافية والاجتماعية والعلمية ممّا جعلهم يبحثون عن سبلٍ للإجابة عن التساؤلات وردّ الشبهات، وترجمة بعض الكتب في

ص: 95


1- راجع مقالة تحت عنوان: علاقات الخلفاء الأمويين بالنصارى الذميين ودورهم في تطوّر علوم المسلمين (باللغة الفارسية) نشرت في مجلة (تاریخ در آیینه پژوهش( العدد 27
2- المصدر السابق

علم الفلك من اللغة السنسكريتية (الهندية القديمة) بواسطة إسحاق الفزاري(1) .

لو ألقينا نظرةً على بعض الآثار المدوّنة والمترجمة في تلك الآونة للمسنا بوضوحٍ أنّ معارف الشيعة قد تطوّرت في مختلف جوانبها، ومن أمثلة ذلك كتاب (الردّعلى أرسطاطاليس في التوحيد) لهشام بن الحكم(2).

وإثر تنوّع التوجّهات الفكرية في تلك الفترة فإنّ الأصول العقائدية لبعض الفرق قد أرسيت بدعمٍ من الأنظمة الحاكمة، أو بجهودهم الشخصية لإثبات حقّانيتهم، ولكنّ هذا الأمر لم يخلو من فائدةٍ للمجتمع الإسلامي حيث أُتيحت الفرصة لبيان معارف أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) بتفصيل أكثر وتوفّرت الأرضية المناسبة للدراسات والبحوث العلمية وبالتالي دحضت الكثير من الشبهات بواسطة الأئمّة المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) وأصحابهم الأجلاء، حيث تصدّوا للزنادقة الذين حاولوا إحياء الأديان القديمة وترويجها بعد أن ترجموا بعض المدوّنات إلى اللغة العربية ونشروا تعاليم أديان بلاد أخرى القديمة كالثنویة

ص: 96


1- الفهرست،303 ، وللاطلاع الأكثر راجع: مقال (كوشش دانشمندان و مترجمان ایرانی در راه ترجمه کتابها به زبان عربی در زمان خلفای اموی و عبّاسی) [باللغة الفارسية ] مجلة: وحيد، العدد 75
2- رجال النجاشي، ص 433

والمانوية وطقوس الزرادشتية ،والمزدكية، ومن أبرز الذين اشتهروا على هذا الصعيد هو ابن المقفّع الذي كان كاتباً في البلاط العباسي لدرجة يقال إنّ الخليفة المهدي العباسي قال بشأنه: «ما وجدتُ كتاب زندقة قطٌّ إلا وأصله ابن المقفع» (1) .كما قال المسعودي: «لما انتشر من كتب ماني وابن دَيْصَان ومرقيون ممّا نقله عبد الله بن المقفع وغيره، وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنّفه في ذلك ابن أبي العرجاء وحماد عَجْرَدٍ ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانية والدَّيصانية والمرقيونية، فكثر بذلك الزنادقة وظهرت آراؤهم في الناس(2) .

هذه التوجّهات العقائدية إضافةً إلى العديد من الروايات التي تتضمّن حواراتٍ للإمام جعفر الصادق (عَلیهِ السَلامُ) مع البعض، تشير إلى دوره صلوات الله عليه في مواجهة التيارات المنحرفة وترويج أصول مذهب التشيّع.

ثالثاً : العوامل الاجتماعية:

توضیح

المجتمع هو عبارة عن مجموعة من الأشخاص الذين يعيشون إلى جانب بعضهم البعض وفق أسس وعوامل محدّدة، و من هذا المنطلق

ص: 97


1- الأمالي الشريف المرتضى، ج 1 ، ص 94
2- مروج الذهب، ج 2، ص 224

يقيمون علاقات فيما بينهم. إذن، ما نعنيه بالعوامل الاجتماعية هي تلك العوامل التي لها تأثيرٌ على العلاقات الموجودة بين مختلف مكوّنات المجتمع ؛ وهذه العوامل بدورها مأخوذة من مقتضيات المجتمع، ويمكن تلخيص هذه العوامل فيما يلي:

1)ترامي أطراف البلاد الإسلامية:

لو تتّبعنا مسيرة توسّع رقعة بلاد المسلمين لوجدنا أنّ العهد العباسي قد بلغ الذروة في ذلك لدرجة أنّ الحكومة كانت عاجزةً عن إدارة شؤون بعض المناطق سياسياً بسبب ابتعادها لمسافات شاسعة عن مركز الخلافة، وهذا الأمر كان عاملاً مساعداً للشيعة - ولا سيما بنو هاشم - كي يهاجروا إلى تلك المناطق البعيدة للخلاص من الضغوط السياسية الشديدة التي كانوا يعانون منها، وبالتالي فقد تيسّر نشر فكر التشيّع وتهيأت لهم الأرضية الملائمة لتأسيس قواعد اجتماعية يتمكّنون من خلالها مزاولة نشاطاتهم العقائدية بحرية، وهذه النشاطات قد مكنّتهم أحياناً من بسط نفوذهم سياسياً على بعض المناطق(1). فعلى سبيل المثال شهدت بلاد فارس - وبالأخص مدينتا قم والرّي - في تلك الآونة هجرة بعض رموز الشيعة الذين ساهموا في نشر المعارف بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ومن أبرزهم السيدة فاطمة

ص: 98


1- رجال النجاشي، ص 371

بنت الإمام موسى الكاظم (عَلیهِ السَلامُ) المعروفة بالسيدة معصومة (عَلیهِا السَلامُ) والسيّد عبد العظيم الحسني إضافة إلى العديد من آل أبي طالب والأشعريين وآل البرقي(1) وإبراهيم بن هاشم القمّي(2)، كما هاجر الكثير منهم إلى بلاد أخرى أبعد من بلاد فارس كولاية كشمير التي هاجر إليها الحسين بن أشكيب (3) .

وتوقيع الإمام الحسن العسكري (عَلیهِ السَلامُ) لإسحاق بن إسماعيل النيسابوري يعدّ نموذجاً نلمس فيه اهتمام الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) بالنواحي النائية من البلاد الإسلامية، حيث تضمن نصائح أخلاقيةً ووصايا قيّمةً وبما فيها أهمية الدعوة إلى الله تعالى عن طريق أولياء الله بالحقّ وأبواب علمه، أى أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) الذين أوجب حقوقهم في ذمم العباد، وجاء في جانب من هذا التوقيع: «وأنت رسولي يا إسحاق إلى إبراهيم بن عبده وفّقه الله أن يعمل بما ورد عليه في كتابي مع محمّد بن موسى النيسابوري إن شاء الله ورسولى نفسك وإلى كلّ من خلفت ببلدك أن تعملوا بما ورد عليكم في كتابي مع محمّد بن موسى النيسابوري إن شاء الله» (4) . فهذه العبارة المقتبسة من توقيع الإمام

ص: 99


1- خلاصة الأقوال، ص 15
2- رجال النجاشي، ص 17
3- الكافي، ج 1 ، ص 515
4- رجال الكشي، ص 580

تدل بوضوح على توفّر أجواء مناسبة في شرق البلاد الإسلامية لترويج المعارف، والإمام بدوره استغلّ هذه الفرصة لهداية الناس.

2)انتشار التجمعات السكّانية في أماكن متفرّقة :

كما ذكرنا آنفاً فإنّ هذه الفترة شهدت تزايد أعداد أتباع مذهب أهل البيت ولا سيّما العلماء وطلاب العلم في مختلف بقاع البلاد الإسلامية الأمر الذي فسح المجال للشيعة كي يزاولوا نشاطاتهم التبليغية بصفتهم مكوّنٍ اجتماعیٍّ يمتلك نفوذاً دينياً، وبالفعل فتلك النشاطات شهدت انتعاشاً واضحاً. وإثر انتشار التجمّعات السكّانية للمسلمين في بقاع واسعة من العالم، انتعشت العلاقات بين العلماء و تزايدت مراوداتهم في مختلف المناطق والبلدان لاكتساب العلوم والمعارف الدينية، فشدّ الكثير منهم رحاله إلى سمرقند و نیشابور وقم والأهواز وكرمان و مازندران ،وقزوين وإحدى ثمار انتشار المسلمين هي توسيع نطاق الوكالة الدينية على البعدين المالي والدينى (1).

3) شعبية أهل البيت السلام

من المؤكّد أن المكانة الاجتماعية لكلّ إنسان والشعبية التي

ص: 100


1- راجع کتاب اطلس شیعه، وكتاب سازمان وکالت و نقش آن در عصر حضور ائمه (باللغة الفارسية). هذان الكتابان يتضمّنان معلوماتٍ قيّمةً حول مجتمعات الشيعة ومؤسساتهم المنظمة

يتمتّع بها تعتبران من المسائل الهامّة التي تجعله قدوةً تحتذى، والفترة التي تمّ فيها تغييب أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) عن الساحة الاجتماعية - لأسباب ذكرنا جانباً منها آنفاً - فإنّ الأمة افتقدت القدوة الحسنة أو أنها لم تنتهل من فيضها كما ينبغي، وقد تجلّى هذا الأمر المؤسف في عهد الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) والفترة التي سبقته حيث كانت الرواية عن أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ضئيلة للغاية ولم يكن يراجعه أحد لنقل الحديث عنه، بل كان الناس يرجعون إلى العلماء، ولكنّ هذا الوضع بدأ يتغيّر بالتدريج في أواخر عهده صلوات الله عليه، وما أنشده الشاعر الشهير الفرزدق (1) في مكّة المكرّمة وإقبال الناس على الإمام هما من أبرز الأدلّة على إدراك المسلمين لعظمة شخصيته ومكانته المرموقة في تلك الآونة. فحينما كان الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مقيماً في مدينة جدّه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يكن أهلها يرجعون إليه كثيراً ولم يسألوه أو ينقلوا الحديث عنه كما ينبغي(2) ، إلا أنّ هذا التوجّه في عهد ابنه الإمام محمّد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي العهود اللاحقة تغيّر بالكامل فأقبل الناس على الأئمّة

ص: 101


1- قصيدة الفرزدق الشهيرة في مدح الإمام علي بن الحسين السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتي مطلعها: )هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ***والبيت يعرفه و الحل والحرم) وقال فيها أيضاً: (إذا رأته قريش قال قائلها ***إلى مكارم هذا ينتهي الكرم) وقد خاطب فيها الطاغية هشام بن عبد الملك.
2- مناقب آل أبي طالب، ج 4 ، ص 137 كذلك : ج 3، ص 279 باختلاف يسير

المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) وشيعتهم إقبالاً واسعاً بغية حلّ مشاكلهم؛ فقد نقل الشيخ الكليني في كتابه (الكافي) عن الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله:« ... ثم كان عليّ بن الحسين ثمّ كان محمّد بن علي أبا جعفر، وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبيّن لهم مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم حتّى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس، وهكذا يكون الأمر؛ والأرض لا تكون إلا بإمامٍ، ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتةً جاهلية ... » (1).

إضافةً إلى ذلك فإنّ الكثير من الأسئلة قد أجيب عنها في عهد الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) عندما كانا يحجان بيت الله الحرام. في تلك الآونة أدرك المجتمع الإسلامي المكانة التي يحظى بها الشيعة فأصبحوا فئة اجتماعية لها دورٌ فاعل واطلق عليهم لقب (جعفرية) نسبةً إلى الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي أمرهم بضرورة مراعاة بعض المسائل علناً أو على نحو التقية أحياناً، حيث قال: «يا معشر الشيعة، إنّكم قد نُسبتم إلينا، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا شيئاً، كونوا مثل أصحاب علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الناس، إن كان الرجل منهم ليكون في القبيلة فيكون إمامهم ومؤذّنهم وصاحب أماناتهم وودائعهم، عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وصلوا في مساجدهم، ولا يسبقوكم

102

ص: 102


1- الكافي، ج 2، ص 20

إلى خير، فأنتم والله أحق منهم به» (1).

كما روى زرارة عن قاضي الكوفة شريك مادحاً اثنين من أصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهما محمّد بن مسلم وأبي كريبة بالقول: «شهد أبو كريبة الأزدي ومحمّد بن مسلم الثقفي عند شريك بشهادة - وهو قاض - فنظر في وجههما ملياً، ثم قال : جعفریان، فاطمیان! فبكيا، فقال لهما: ما يبكيكما؟! قالا له: نسبتنا إلى أقوامٍ لا يرضون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم لما يرون من سخف ورعنا، ونسبتنا إلى رجل لا يرضى بأمثالنا أن يكونوا من شيعته، فإن تفضّل وقبلنا فله المنّ علينا والفضل. فتبسّم شريك، ثمّ قال: إذا كانت الرجال فلتكن أمثالكما»(2).

كما أن إطلاق لقب (ابن الرضا) على الإمامين عليّ الهادي والحسن العسكري (عَلیهِمَا السَلامُ) (3) يحكي عن عظمة شخصية الإمام عليّ بن

ص: 103


1- بحار الأنوار، ج 85، ص 119 نقلاً عن كتاب: مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص 123 . كما قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مناسبة أخرى: «يا زيد [الشحّام]، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذّنين فافعلوا، فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه». الكافي، ج 1، ص 363 و من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 383
2- رجال الكشي، ص 164
3- هذا اللقب في الحقيقة وضع لأغراض سياسي

موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومدى تأثيره على الرأي العامّ إبّان إمامته (1) .

القاسم بن عبد الرحمن الذي كان زيدي المذهب نقل ما يلي: «خرجت إلى بغداد فبينا أنا بها إذ رأيت الناس يتعادون

ويتشرفون ويقفون، فقلت: ما هذا؟! فقالوا: ابن الرضا، فقلت: والله لأنظرنّ إليه؛ فطلع على بغلٍ أو بغلة» (2) . فهذه الحكاية تشير إلى تجمّع أهل بغداد لأجل مشاهدة الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما له من عظمةٍ ومكانةٍ مرموقةٍ تفوق مكانة كلّ إنسان.

رابعاً: العوامل الاقتصادية:

بطبيعة الحال فإنّ تمهيد الأرضية لبعض التيارات كي تطرح نفسها في المجتمع منوطٌ بالقدرة الاقتصادية، وكذا هو الحال بالنسبة إلى العناصر التأريخية، لذا فالمراد من العوامل الاقتصادية هو كلّ ما له تأثيرٌ في التداولات المالية على مختلف الأصعدة. وبعبارة أخرى، لا يمكن غضّ النظر عن تأثير القدرة الاقتصادية في المجتمع حتّى وإن كانت ممتزجةً مع عوامل اجتماعية.

ومن الأمثلة التأريخية على تأثير قدرة التداولات المالية في

ص: 104


1- اعلام الورى، ج 2، ص 131 . بحار الأنوار، ج 50 ، ص 238 ..
2- كشف الغمة، ج 2، ص 363

مختلف الشؤون الاجتماعية والثقافية ما يلي: زوال بطانة بلاط الحكم من أمثال طلحة والزبير، اندلاع حرب الجمل، النفقات التي خصّصت لوضع الحديث، تفكّك جيش الإمام الحسن بن عليّ (عَلیهِمَا السَلامُ) في مواجه معاوية بن أبي سفيان وبالتالي استقالة قادة هذا الجيش، تفشّي الانحرافات الأخلاقية، شيوع الطرب والفحشاء، الفساد المالي لبعض الوكلاء، تقديم الخلع والهدايا لمن لا يستحقّها.

كما أنّنا لو دقّقنا في مصادر الحديث لاستنتجنا مدى تأثير الأموال التي كانت تصل إلى الوكلاء على ترويج تعاليم مدرسة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ، فهذه الأموال كانت تسخّر في أربعة موارد أساسيةٍ على أقل تقديرٍ، وهي كالتالي: (1)

(1توفير المتطلّبات الاقتصادية للأئمّة المعصومين (عَلَيهِ السَّلَامُ) نظراً للأوضاع الحرجة التي واجهوها والحصار الذي كان مفروضاً عليهم من قبل الطغمة الحاكمة.

(2توفير المتطلّبات الاقتصادية للشيعة والسادة وحلّ مشاكلهم المالية.

(3 منح الخلع والهدايا إلى الشيعة والشعراء الملتزمين والذين اعتنقوا الإسلام حديثاً بهدف نشر المعارف الدينية.

ص: 105


1- راجع: سازمان وکالت و نقش آن در دوره ي حضور ائمّه (باللغة الفارسية)

(4تأمين الجانب المعيشى للوكلاء والمتصدّين للوكالة لأجل تمكّنهم من أداء واجباتهم المنوطة إليهم.

إنّ تأثير هذه الموارد الأربعة فى تطوّر الشيعة ثقافياً واجتماعياً يدلّ بوضوحٍ على أنه كان حافزاً دفع حكّام بني العباس للتغلغل في

منظومة الإمامة وتوجيه ضربات لها. على سبيل المثال فإنّ الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد أنّب داوود بن عليّ رئيس شرطة بغداد ووبّخه بشدّة لمّا قتل المعلى بن خنيس أحد المموّلين الأساسيين للتشيّع، حيث روي عن أبي بصير قوله: «لما قتل داوود بن علي المعلى بن خنيس فصلبه، عظم ذلك على أبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) واشتدّ عليه، وقال له: ( يا داوود على ما قتلت مولاي وقيّمي في مالي وعلى عيالي؟! والله إنّه لا وجه عند الله منك (» (1).

المراحل الزمنية التي شهدت حضور أئمة أهل البيت(عَلیهِمَ السَلامُ):

توضیح:

لقد طُرحت العديد من التصنيفات الزمانية للعصور التأريخية التي شهدت تواجد الأئمّة المعصومين(عَلیهِمَ السَلامُ) بين المسلمين (2) ، وكلّ

ص: 106


1- الغيبة، ص 34
2- هناك أمثلة لهذه التصنيفات الزمانية في مقدّمة الشهيد الصدر على الصحيفة السجادية المطبوعة في النجف الأشرف عام 1977م ، وكذلك في كتاب: انسان 250 ساله ) باللغة الفارسية) للسيد عليّ الخامنئي المطبوع في إيران عام 2011م.

واحد منها ناظر إلى جانب محدّد من هذه العصور، لذا فهي تصنيفات نسبيةٌ. وأمّا التصنيف المطروح في هذا الكتاب فهو في أربعة مراحل زمنية وعلى أساس المواضيع التي طرحت آنفاً ويتناسب مع فرضية أنّ تعاليم التشيّع قد تمّ بيانها بأسلوب إجماليّ - تفصيليّ، أي أنّها ذكرت في بادئ الأمر بشكل إجماليّ ومن ثمّ تمّ بيانها بالتفصيل. وهذه المراحل ستكون محوراً للبحث في فصول الكتاب.

في هذا الفصل سوف نتطرّبق إلى دراسة دور العناصر التأريخية في بيان معتقدات النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمّبة (عَلیهِمَ السَلامُ) على ضوء هذه المراح التأريخية، وهي عبارةٌ عن:

أوّلاً :مرحلة وضع الأُسس الفكرية. عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى نهاية فترة إمامة الإمام علي بن الحسين السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ثانياً: مرحلة نشأة المعارف وازدهارها. عهد إمامة الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ)

ثالثاً: مرحلة ترسيخ الفكر وتقويمه. عهد إمامة الإمامين موسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا (عَلیهِمَا السَلامُ)

رابعاً: مرحلة تطبيق الفكر على أرض الواقع. عهد إمامة الإمام محمد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بداية عصر الغيبة.

وفيما يلي نذكر ميزات هذه الفترات التأريخية وأهّم ما طرأ فيها بالتفصيل:

ص: 107

أولاً : عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى نهاية فترة إمامة الإمام علي بن الحسين السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

أ - عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ):

بكلّ تأكيدٍ فإنّ عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) له أهميّته الخاصّة بين سائرالعهود، ولا سيّما فترة حضوره في المدينة المنوّرة التي شهدت بعد رحيله أحداثاً مصيرية، لذلك سنتطرّق في بادئ الأمر إلى أهمّ الأحداث التأريخية في تلك الآونة ومن ثمّ نتناولها بالشرح والتحليل في عهد الأئمّة المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) وفق المراحل التأريخية التي تمّ تحديدها.

- النبي الأكرم الله في مكّة :

إن بلاد الحجاز من الناحية الجغرافية لها خصوصياتها التي انفردت بها، فهي من ناحية كانت تجاور أكثر الحكومات اقتداراً، وهما بلاد فارس وبلاد الروم، ومن ناحية أخرى لم تكن فيها حكومةٌ داخلية موحّدةً ولم تكن خاضعةً لأيّة سلطة خارجية، بل إنّ الروح القبلية هي التي كانت تحكمها وحكومة القبائل كانت تجسّد النظام السياسي فيها؛ كما أن أوضاعها الثقافية والعقائدية كانت على هذا المنوال، فكلّ قبيلة كانت تؤمن بمعتقدات خاصة بها وتؤدى طقوساً معيّنة، لذلك شاعت فيها مختلف الديانات كاليهودية والنصرانية والثنوية و عبادة الجنّ والملائكة والقمر والنجوم إلى جانب عبادة الأوثان (1)،

ص: 108


1- تأريخ الأدب العربي، ص 37

وقد طُرحت العديد من النظريات حول زمان ظهور الوثنية في مکّة المكرّمة، ولكن من المحتمل أن يرجع منشؤها إلى ارتباط سكّانها بالأُمم الأخرى في البلدان المجاورة للجزيرة العربية والسعي لتولّي زمام الأمور في مكّة، لاسيّما وأنّ القبائل التي كانت تسيطر على هذه المدينة لم تكن تسمح للقبائل الأخرى بالإقامة فيها. ولربّما يعود السبب في ذلك إلى التعلّق الشديد بالكعبة، فوضع كلّ قومٍ وثناً خاصّاً فيها، بهم وهذه الأوثان لم تكن على هيئةٍ واحدةٍ، بل كانت متنوّعة كما أنّها من حيث المنزلة والمقام بصفتها شريك الله (1) حسب زعمهم - ووسيلة للتقرّب إليه (2) لم تكن بمستوى واحد.

هذه الأوثان كان لها تأثير ملحوظ على عقيدة المشركين بالمعاد وتوجّهاتهم وأعرافهم الاجتماعية (3) ، فضلاً عن ذلك فإنّ منهج حياة أتباع مختلف الأديان لم يكن وفق إطار موحّد، وفي بعض الأحيان نلاحظ أنّ بعض المعتقدات كانت تؤثر على غيرها (4) . ومن أهمّ ما

ص: 109


1- قال تعالى: ﴿ وَما يُؤْمِنُ أَكثَرُهُمْ بِاللهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) سورة يوسف / الآية 106
2- قال تعالى: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى) سورة الزمر / الآية 3
3- راجع مقالة تحت عنوان: گونه شناسی پرستش در حجاز عصر جاهلى مقالة (باللغة الفارسية) نشرت في مجلة تاريخ در آیینه پژوهش، العدد رقم 3
4- راجع مقالة تحت عنوان: جایگاه فرهنگی و تعاملات فرهنگی با عرب جاهلی ومسلمانان (باللغة الفارسية) نشرت في مجلة علوم انساني التي تصدرها جامعة الزهراء، العدد رقم 66

كانت تمتاز به ثقافتهم عبارة عن الأنساب والأشعار الحماسية والتغنّى بالخيول والخمر والنساء.

أمّا على المستويين الاجتماعي والاقتصادي فقد كان المجتمع القبلي آنذاك يعاني من قيود على هذين الصعيدين ممّا أدّى إلى شيوع النزعة القبلية المتطرّفة واندلاع الحروب والغارات وتجارة الرقيق ووئد البنات، والعشرات من الطباع الاجتماعية المنحرفة التي كانت تعتبر أصولاً لمعتقدات تلك القبائل.

والبيعة للزعامة هي الأخرى كانت من المسائل الاجتماعية الهامّة في الجزيرة العربية آنذاك، فقد كانت الزعامة تختلف من قبيلة إلى أخرى، فبعض القبائل كانت تنصّب زعيمها على أساس سنه وبعضها الآخر جعلت الزعامة وراثيةً، وهذه الطباع قد ألقت بظلالها على المجتمع الإسلامي فيما بعد، حيث تجسّد ذلك في أحداث السقيفة والتغييرات السياسية التي شهدها المسلمون (1).

طبعاً إلى جانب هذه الانحرافات كانت هناك بعض الأعراف والتقاليد الحميدة التي شهد لها التأريخ وضربت حولها الأمثال كالكرم والوفاء بالعهد (2).

ص: 110


1- راجع مقالة تحت عنوان: ساختار اجتماعی – سیاسی حجاز قبل از اسلام (باللغة الفارسية) نشرت في مجلة حكومت اسلامي، العدد رقم 5
2- المصدر السابق

وقد طرأ تحوّل عظيمٌ في الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام، ففي بادئ الأمر كانت دعوة النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سريّة لمدّة ثلاث سنواتً لكي يتمكّن من نشر الإسلام بعيداً عن أنظار أعدائه، ومن ثمّ صدع بالأمر وأصبحت دعوته علنيةً بعد أن تزايدت أعداد المسلمين واعتناق الإسلام من قبل بعض الذين كانوا يكنّون له العداء. لكنّ المسلمين لم يكونوا بمأمن من مكائد الكفّار والمشركين وواجهوا مختلف أنواع الضغوط وتحمّلوا الكثير من الأذى الأمر الذي اضطرّهم للهجرة من مكّة.

المنهج الذي اتّبعه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بادئ الأمر لتحقيق أهدافه السامية هو العمل على تغيير المعتقدات التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي لأنّ أوّل شرط لتحقّق الإيمان بالله تعالى هو ترك القبائح وتطهير المجتمع من كلّ عادةٍ رذيلةٍ في ظلّ عقيدة التوحيد والسير نحو الكمال (1) .

جعفر بن أبي طالب الذي كان على رأس المسلمين المهاجرين إلى الحبشة خاطب النجاشي ملك الحبشة واصفاً أوضاع منطقة الحجاز من النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية وما قام به رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من إنجازات غيّرت واقع الجاهلية، فقال: «أيّها الملك، كنّا قوماً أهل

ص: 111


1- راجع قصة بيعة العقبة

جاهليةٍ نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار، يأكل القوي منّا الضعيف» (1) .

ثم تطرّق بشكلٍ إجماليٍّ إلى تعاليم التوحيد والمحاسن الاجتماعية التي جاء بها النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقال: «فكنّا على ذلك حتّى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة

الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام... فصدّقناه وآمنّا به واتّبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا» (2) .

وبعد ذلك ذكر له الأوضاع الاجتماعية والسياسية للمسلمين والمضايقات التي كان يعاني منها الفكر الديني والتعبير عن العقيدة، حيث قال: «فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقّوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى

ص: 112


1- تأريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج 1، ص193
2- المصدر السابق

بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك» (1) .

نستنتج من كلام جعفر بن أبي طالب أنّ النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد واجه في تلك الآونة مجتمعاً تحفّه المشاكل والتعصّبات القومية والثقافية لدرجة أنّه كان يواجه مصاعب جمّة حتى في تعليم الناس أبسط المعارف الدينية، وخطبة السيّدة فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) الشهيرة التي تعدّ من محاسن الخطب وروائعها تتضمّن تحليلاً للأوضاع التي عاصرها المسلمون في بداية البعثة النبوية وكيف تعامل الناس مع النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2) .

_ النبي الأكرم لعل الله في المدينة :

عندما دخل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المدينة شيّد مسجداً رغم المخاطر والتحدّيات التي كان يواجهها (3) ، ودعا المسلمين مهاجرين وأنصاراً إلى الأخوّة ونبذ الخلافات (4) ، وأكّد على ضرورة تآزر أهل المدينة لتأسيس أمةٍ واحدةٍ من المسلمين وغير المسلمين (5) . فقد اعتبر صلوات

ص: 113


1- تأريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج 1، ص 193
2- كشف الغمة، ج 1، ص 458 ؛ كفاية الأثر، ص 36؛ دلائل الإمامة، ص 34
3- سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، ج 2، ص 324 - ج 3، ص 533
4- المصدر السابق
5- السيرة النبوية، ج 2، ص 501 - 504

الله عليه هذه الإجراءات بأنّها خطواتٌ أساسيةٌ من شأنها توفير الأرضية المناسبة لنشر تعاليم الوحي وتطوير المجتمع سياسياً وثقافياً، وعلى الرغم من أن الثقافة الجاهلية المتحجّرة كانت عقبةً أساسيةً في طريق تحقيق هذه المقاصد السامية، إلا أنّ الجهود الحثيثة التي بذلها حفّزت المسلمين على المبادرة بفعل ما ينبغي لأجل اجتثاث التعصّبات القبلية والجاهلية من جذورها. وهناك الكثير من الشواهد التي تدلّ على عزمه ودقته صلوات الله عليه لتحقيق هذه الأهداف النزيهة، ونلمس من بعض الروايات أنّه كان يهتمّ بأبسط الأمور ويستخدم أبسط الأمثلة لتعليم الناس، إذ بيّن لهم ما إن كان أحد السلوكيات جاهلياً أو لا بكلّ تواضعٍ وكان يوضّح لهم زواياه السلبية حتّى وإن كانت يسيرة، فعلى سبيل المثال وصف التعصّب قائلاً: «من كان في قلبه حبّةٌ من خردلٍ من عصبية، بعثه الله القيامة أعراب مع الجاهلية» (1).كما أنه صلوات الله عليه في رواية أخرى ذمّ صناعة الأوثان التى كانت تستهوى قلوب الناس ذمّاً شديداً وقارنه بقتل النفس (2) .

وقد استمرّت هذه الجهود البنّاءة وتضاعفت يوماً بعد يوم فتوافد القوم على دين الله بجميع طوائفهم وتوجّهاتهم، وآمن المشرك

ص: 114


1- الكافي، ج 2، ص 309
2- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني (ره) ، الفرع الأول، ج 1 ، ص 267

واليهودي والنصراني. هذا النصر العظيم في تلك الفترة كان في مرحلة وضع الأُسس الفكرية التي عبّر عنها القرآن الكريم ب- «الفتح» في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ((1).

لقد تمحورت مساعي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذه المرحلة حول توعية الأمّة وتنبيهها على عيوب الجاهلية والواقع المزري الذي تعيش فيه، إذ ليس من الممكن استئصال الطباع الجاهلية المتجذّرة خلال مدّة يسيرة. فالجاهلية في تلك الآونة كانت مستفحلةٌ لدرجة أنّها استعادت أنفاسها نوعاً ما بعد رحيل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مباشرة، وتشهد لذلك الكثير من الوقائع والأحداث المؤلمة كالسقيفة والخلافة وتغيير السنّة النبوية والحروب التي أثقلت كاهل المسلمين واستهدفت الخليفة بالحقّ الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؛ ومع ذلك فقد برزت شخصياتٌ عظيمةٌ في تأريخ الإسلام وضعت بصماتها في أنصع صفحاته، كسلمان الفارسي وعمّار بن ياسر وأبي ذرّ الغفاري والمقداد، فهؤلاء نأوا بأنفسهم بعيداً عن الطباع الجاهلية الذميمة.

إضافةً إلى ذلك فإنّ النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان بحاجة إلى أنصار حاذقين وكفوئين لإعانته في نشر المعارف الحقّة لأنّ عامّة الناس في

ص: 115


1- سورة النصر

تلك الفترة كانوا تحت تأثير الطباع الجاهلية البغيضة، ونظراً لشيوع نزعة التعصّب الفكري بينهم وجهلهم بالعلوم فقد كانوا عاجزين عن طرح أسئلةٍ أيضاً وكانوا يمتلكون الرغبة فقط في الاستماع إلى المسائل المعرفية واتّباعها على قدر ما تقتضيه حاجتهم. والواقع أنّ جميع الصحابة لم يكونوا على درجةٍ واحدة من المعرفة، حيث روى الشيخ الكليني(رَحمَةُ اللّه) في كتابه (الكافي) عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حديثاً طويلاً قال فيه: «وإنّ أمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مثل القرآن، ناسخٌ و منسوخٌ وخاصٌّ وعامٌّ ومحكم ومتشابه، وقد يكون من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الكلام له وجهان: كلام عامّ وكلام خاصّ، مثل القرآن، وقد قال الله تعالى في كتابه:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وليس كلّ أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يسأله عن الشيء فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتّى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى یسمعوا» (1) . لذلك دعا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جميع المسلمين إلى طلب العلم وشجّعهم على تعلّم القراءة والكتابة، فقال: «طلب العلم فريضةً على كل مسلم، ألا إن الله يحبُّ بغاة العلم» (2).

ص: 116


1- الكافي، ج 1 ، ص 64
2- المصدر السابق، ص 30

ولكن بما أنّ طلب العلم لم يكن مألوفاً في ذلك المجمتع فإنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يخاطب الناس على قدر عقولهم ولم يكن كلامه يتجاوز إدراك أذهان العامّة ولا يخرج من حالة الإجمال (1) ، لذا كان يفسّر الآيات التي توحى إليه والسّنن والفرائض بالتدريج مراعياً في ذلك فهم الناس ومتطلّباتهم (2) ، كما كانت تقام أحياناً جلسات علمية بين المسلمين وحتّى لغير المسلمين تهدف إلى استكشاف أصحاب المواهب والاستفادة من قابلياتهم، وقد تمحورت هذه الجلسات في معظم الأحيان حول بيان أحاديث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتعليم القرآن الكريم؛(3) ولكن لم يتمكّن إلا القليل من إحياء روح الاستفسار في أنفس الناس، فقد روي عن أنس بن مالك قوله: «كنّا إذا أردنا أن نسأل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أمرنا عليّ بن أبي طالب أو سلمان الفارسي أو ثابت بن معاذ الأنصاري لأنّهم كانوا أجرأ أصحابه على سؤاله» (4).

ومن ناحية أخرى فلو أمعّنا النظر فى الآيات المكّية والمدنية للاحظنا وجود اختلافات معرفية بين مستوى وعي أهل مكّة والمدينة في تلك الآونة، والسبب في ذلك بالطبع يعود إلى الظروف الاجتماعية

ص: 117


1- الكافي، ج 1، ص 23
2- قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أمرنا معاشر الأنبياء أن نخاطب الناس على قدر عقولهم». مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 1، ص 132
3- المصدر السابق
4- المسترشد في إمامة عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، ص 263

والسياسية والثقافية والاقتصادية التي كانت حاكمةً. فالآيات المكّية كثيراً ما تتضمّن مواعظ ومواضيع عامّةً وتؤكّد على المفاهيم التوحيدية وشؤون المعاد والأخلاق(1) ، كما أنّها قلّما تتطرّق إلى الأحكام الفرعية، في حين أنّ الآيات المدنية غالباً ما تنحو منحىً تفصيلياً وتتناول مسائل سياسيةً وثقافيةً واجتماعيةً واقتصاديةً، وهذا السياق بدأ منذ دخول النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المدينة واستمرّ حتّى آخر أيام حياته المباركة، فالآيات المتأخّرة في زمان النزول تضمّنت مواضيع وأحكاماً فرعيةً

وبيّنت بعض المواقف السياسية والرسمية كسلوك المنافقين والمشركين وأشارت إلى كيفية مواجهتهم وذكرت أُسس الجهاد. على سبيل المثال فإنّ الخمر الذي كان أحد المصادر الاقتصادية الهامّة لأهل الحجاز، لم يُحرّم دفعةً واحدةً، بل تمّ تحريمه تدريجياً وفي أربع مراحل (2) ، كالتالي:

أوّلاً: تمّ تمييز المسكرات عن الرزق الحسن(3) .

ثانياً: التأكيد على أن أضرار المسكرات أكثر من نفعها(4) .

ص: 118


1- كمثال على ذلك، راجع : سورة لقمان / الآيتان 18 و 19
2- التفسير المنير، ج 2، ص 270 - 271
3- قال تعالى: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) . سورة النحل / الآية 67
4- قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) . سورة البقرة / الآية 219

ثالثاً: إصدار حكمٍ شرعيٍّ يوجب حرمة شرب المسكرحين أداء الصلاة(1) .

رابعاً: إصدار حكم شرعيٍّ يحرّم المسكر حرمةً مطلقةً وفي جميع الأحوال (2).

وأمّا بالنسبة إلى الإمامة، فإنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منذ السنة الثالثة من بعثته المباركة قد أخبر الناس بإمامة الإمام عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبين بعض جوانب الإمامة لهم (3) ، ومع ذلك فإنّ الأحاديث النبوية في السنة العاشرة للهجرة لا تختلف كثيراً عن السنوات الأولى من حيث الإجمال وعدم ذكر التفاصيل؛ وتجدر الإشارة هنا إلى مسألتين وهما:

الأولى:كلّما كانت جوانب أحد المفاهيم كثيرةً أو كانت أهميّتها بالغةً، فإنّه في بادئ الأمر يوضّح بشكلٍ إجماليٍّ وشرحه بالتفصيل يستغرق مدّةً طويلةً.

الثانية: في مجال الفكر والعلم العامّ، فإنّ مدى الفهم يخرج من حالته الأوّلية ويصل إلى مرتبة الإجمال.

ص: 119


1- قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) . سورة النساء / الآية 43 .
2- قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) . سورة المائدة / الآية 91
3- قصة الإنذار التي ذكرتها مصادر الفريقين سنة وشيعةً تدلّ على أن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد أخبر الناس بأنّ الخليفة من بعده هو الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) . قال تعالى في كتابه الكريم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ). سورة الشعراء / الآية 214

وعلى هذا الأساس فإنّ النبيّ الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان يبيّن واقع الإمامة للمسلمين وفق الظروف المتاحة آنذاك، وفي المقابل فإنّ أوّل ما قام به التيار المعارض للإسلام هو بناء مسجدٍ عرف ب (مسجد ضرار) وتشجيع الناس على ترك معتقداتهم والرجوع إلى الطباع الجاهلية، وإثر ذلك زرعت بذور النفاق بهدف الحيلولة دون انتشار تعاليم الإسلام وتناميها (1) ، وقد استمرّت هذه الظاهرة لدرجةٍ أن البعض تجاسروا ونسبوا أحاديثاً موضوعةً إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2).

إضافة إلى ذلك، فإن الأمور تفاقمت أكثر إثر اندلاع الحروب الأولى بعد هجرة بعض الصحابة الخلّص واستشهاد عددٍ منهم وعلى رأسهم عمّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وناصره حمزة بن عبد المطلّب وبعض قرّاء القرآن الكريم ممّا أدى إلى زعزعة الأجواء الثقافية وحرمان النبيّ صلوات الله عليه من خدماتهم، كما أنّ كلّ هزيمةٍ عسكريةٍ للمسلمين كانت تلقي بظلالها على المجتمع الإسلامي وتزعزع أركانه(3). هذا الضعف

ص: 120


1- قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ). سورة النساء / الآية 61 .
2- راجع: الكافي، ج 1 ، ص 64
3- هناك العديد من الآيات التي تؤيد هذه الحقيقة، فقد قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةَ . سورة آل عمران / الآية 123؛ وقال أَيضاً: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَينِ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحْبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). سورة التوبة / الآية 25

الاجتماعي بنفسه يعدّ سبباً لأن ينتاب بعض المسلمين الشكّ والترديد وعدم السعي لاكتساب المعارف (1) ، ولكن هذا الأمر لم يدم طويلاً، فبعد الانتصارات التي حققها المسلمون في غزوة الخندق (2) وفتح مكة (3) فى السنة العاشرة من الهجرة، شهد المجتمع الإسلامي استقراراً وأصبحت للمسلمين مكانةٌ مرموقةٌ وبالتالي فقد سنحت الفرصة لهم للانتهال من معارف رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على المستويين السياسي والثقافي(4) .

أمّا الأحداث التي وقعت في أواخر حياة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المباركة فه تدلّ بوضوح على اهتمامه بالحفاظ على أركان الوحي وعمله على تحقيق ذلك دون توقّفٍ، وأبرز ما تجلّى في هذه الأيام هو تأكيده على خليفته وإعلام الناس بذلك مراراً وتكراراً، ويشهد على ذلك حديث الثقلين وغدير خم وآية إكمال الدين وتجهيز جيش أسامة وقصة اللوح والقلم .

ص: 121


1- قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لهم) . سورة محمد / الآية 20
2- قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيَانًا وَتَسْلِيمًا) . سورة الأحزاب / الآية 22
3- قال تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مبيناً) . سورة الفتح / الآية 1
4- قال تعالى: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيما) . سورة الفتح / الآية 20

في السنة الأخيرة من حياته المباركة، قصد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الديارالمقدّسة لأداء مناسك الحج، حيث عُرفت حجته هذه ب-(حجّة الوداع)، وفي طريق العودة إلى المدينة جمع عدداً كبيراً من حجاج بيت الله الحرام وكان معظمهم من العرب وغير العرب الذين أسلموا حديثاً، وهذا التجمّع العظيم كان فريداً من نوعه إذ لم تشهد الجزيرة العربية آنذاك حدثاً عظيماً كهذا، وبالطبع فإنّ السبب من وراء ذلك هو إبلاغ أمر سماويٍّ في غاية الأهمية في أجواءٍ ما كانت ممهّدة لذلك إلى حدٍّ ما. ولو تأمّلنا في آيتي إكمال الدين(1) والتبليغ (2) اللتين تطرّقتا إلى مسألة خلافة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بشكلٍ إجماليٍّ دون أن تشيرا إلى خصائص هذا الخليفة، وكذلك لو دقّقنا في الإرشادات التي وجّهها النبيّ لبعض الخواصّ وبيانه لمسائل بسيطة تتناسب مع الفهم العامّ (3) ، لأدركنا أنّه

ص: 122


1- قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَعْمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ ديناً) . سورة المائدة / الآية 67
2- قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّه حَسِيباً) . سورة الأحزاب / الآية 39
3- على سبيل المثال فإنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد ذكر فئةً صالحةً تكون يوم القيامة في زمرة الناجين لأنّها اتبعت وصيّه الذي وصفه بأنّه «نفسه»، كما أنّه صلوات الله تعالى عليه اعتبر الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر مداراً للحق واعتبر قتلته بأنهم «فئة باغية» وأنّه يدعو الناس إلى الجنّة لكنّهم يدعونه إلى النار . فقد قال له : (ستقتلك الفئة الباغية، و آخر زادك ضياح من لبن). اختيار معرفة الرجال، ص 10 و 11؛ إعلام الورى، ص 43 ؛ صحيح البخاري، التعاون في بناء المسجد - الحديث رقم 428؛ صحيح مسلم، الحديث رقم 5194؛ مسند أحمد، الحديث رقم 6632؛ تهذيب الكمال - الترجمة رقم 4174؛ عمار بن ياسر العنسي، ج 21، ص 224؛ وراجع أيضاً: تفسير آية المباهله وما روي حول (الفئة الباغية)

كان قلقاً إلى حدٍّ كبيرٍ حول استجابة المجتمع لهذا الأمر. فقلقه صلوات الله عليه ناشئٌ من بقاء جذور الجاهلية في المجتمع وعدم قدرة الناس على فهم مسألة الإمامة وكذلك له سببً آخر، وهو المؤامرات المنظّمة التي دبّرت في الفترة الأخيرة من حياته ولا سيّما محاولة اغتياله (1).

إذن بالنسبة إلى المعارف الإسلامية العميقة، يمكن القول إنّ النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبل رحيله قد أرسى دعائم أُسسٍ معرفيةٍ لمجتمعٍ توحيديٍّ متكاملٍ، وبطبيعة الحال فإنّ شرح مضامينه السامية يتطلّب وجود مفسّرين أكفّاء ومنصفين يقومون بأداء هذه المهمّة على مرّ الزمان.

ب - عهد الإمام عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أواخر عهد الإمام عليّ بن الحسين السجاد(عَلَيهِ السَّلَامُ):
الأوضاع السياسية:

كانت الخلافة أهمّ مسألةٍ شغلت المسلمين بعد وفاة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)،

ص: 123


1- راجع تفسير البرهان، ج 4 ، ص 884 تفسير قوله تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ). سورة الزخرف / الآية 80

وقد واجه الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ظروفاً عصيبةً إثر حادثة السقيفة المشؤومة وعدم رغبة البعض بتأسيس حكومةٍ شرعيةٍ محورها أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) كما أمر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، والسيّدة فاطمة الزهراء(عَلیهَا السَلامُ) بدورها حاولت إحقاق هذا الحقّ وتنفيذ وصية أبيها، لكن مساعيها لم تفلح وتعامل البعض معها بكلّ إجحافٍ، حيث جاء إليها قومٌ من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: «يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نُبرم العهد ونُحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره». فقالت: «إليكم عنّي، فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيرك» (1).

بعد هذه الأحداث المريرة، ندم معظم الوجهاء والنخبة من المهاجرين والأنصار على ما فعلوا ولم يجدوا بُدّاً سوى الرجوع إلى الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتوسل به كي يتولّى زمام الأمور لأنّه الخليفة بالحقّ، وبعد مضيّ ستّة أشهرٍ تقريباً وإثر بعض الضغوط السياسية التي مارسها التيار المعارض(2) ، اتّخذ موقفاً تجاه بيعة السقيفة الباطلة وذكر

ص: 124


1- الاحتجاج، ج 1، ص108
2- ما ذكره مؤمن الطاق حول احتمال اغتيال الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) دليل واضح على معتقدات الشيعة بالنسبة إلى الظلم التي تعرّض له صلوات الله عليه وحقه المسلوب. مؤمن الطاق هو أبو جعفر الأحول، وهو من أصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويسمّيه المخالفون شيطان الطاق، وله بسطة يد في المناظرات. نقل ابن عبد ربه عن أبي المنذر هشام بن محمّد الكلبي أن عمر بن الخطاب أوفد رجلاً إلى الشام لقتل سعد بن عبادة فقتله، حيث قال: «بعث عمر رجلاً إلى الشام، فقال: ادعه إلى البيعه واحمل له بكلّ ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن الله عليه. فقدم الرجل الشام، فلقيه بحوران في حائط فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع قرشياً أبداً! قال : فإنّي أقاتلك ! قال : وإن قاتلتني ! قال : أفخارج أنت ممّا دخلت فيه الأمّة؟ قال : أمّا من البيعة فأنا خارج. فرماه بسهم فقتله» . العقد الفريد، ج 4 ، ص 260 . وفي شرحه للرسالة رقم 62 من نهج البلاغة والتي حملها مالك الأشتر إلى أهل مصر، قال ابن أبي الحديد المعتزلي: «كتب - أبو بكر - إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل سعد بن عبادة، فكمن له هو وآخر معه ليلاً، فلمّا مرّ بهما رمياه فقتلاه، وهتف صاحب خالد في ظلام الليل بعد أن ألقيا سعداً في بئرٍ هناك فيها ماء ببيتين : (نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده***و رميناه بسهمين فلم تخط فؤاده) يوهم أنّ ذلك شعر الجنّ وأنّ الجنّ قتلت سعداً، فلما أصبح الناس فقدوا سعداً وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف، فطلبوه فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر وقد اخضرّ، فقالوا: هذا مسيس الجنّ. وقال شيطان الطاق لسائل سأله: ما منع علياً أن يخاصم أبابكر في الخلافه؟ فقال: يا بن أخي، خاف أن تقتله الجنّ. والجواب ، أما أنا فلا أعتقد أنّ الجنّ قتلت سعداً، ولا أنّ هذا شعر الجنّ، ولا أرتاب أنّ البشر قتلوه وأنّ هذا الشعر شعر البشر» . شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 223

حججاً دامغةً، لكن لم تكن له حيلةٌ سوى التنازل عن السلطة السياسية والانزواء والسكوت، حيث اهتمّ بشؤون بيته وزراعته، وذلك مراعاةً للمصلحة الإسلامية العامّة. والخطبة الشقشقية شاهد على ما عاناه الخليفة بالحقّ بعد رحيل النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونستوحي منها سبب انزوائه وسكوته، إذ قال: «أما واللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلّي مِنْها مَحَلَّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحِي، يَنْحَدِرُ عَنِّى السَّيلُ

ص: 125

وَلَا يَرْقى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَها ثَوْبَاً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفَقْتُ أَرْتَني بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بيدٍ جَذّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَحْيَهٍ عَنْياءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هاتا ،أحْجى، فَصَبْرَتْ وَفِي الْعَيْنِ قَذىً وَفِي الْحَلْق شَجا. أرى تُراثى نَهْبا ! حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبيله فَأَدْلى بها إِلَى فُلان بَعْدَهُ.

شَتَانَ ما يَوْمِي عَلَى***كُوْرَها وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرٍ

فَيا عَجَباً! بَيْنا هُوَ يَسْتَقِيلُها فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لَآخَرَ بَعْدَ وفاته، لَشَدَّمًا تَشَطَّرًا ضَرْعَيْها، فَصَيَّرَها في حوْزَهُ خَشَنَاءَ يَعْلُظُ كَلْمُهَا وَيَحْشُنُ مَسها وَيَكثرُ الْعِثارُ فيها، والاعتذارُ مِنْها، فَصاحبُها كَراكب الصَّعْبَهِ إِنْ أَسْنَقَ لَها خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَها تَقَحَّمَ؛ فَمُنيَ النَّاسُ – لَعَمْرُ الله - بخَبْط وشماسٍ وتَلُوُّنٍ وَاعْتِراضٍ، فَصَبَرْتُ عَلى طُولِ الْمُدَّه وَشِدَّهِ الْمِحْنَه، حَتَّى إذا مَضى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَه زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيا للهِ وَ لِلشَّورى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حتَّى صِرْتُ أَقْرَنُ إلى هذه النَّظائر ؟! لكنّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطَرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضغْنِهِ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنِ وَهَنِ؛ إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حصْنَيْه بَيْنَ نثيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أبِيهِ يَحْضِمُونَ مالَ اللهِ خَضْمَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبيعِ، إِلى أَنِ انْتَكَثَ فَتْلُهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ.

ص: 126

فما راعَنِى إِلا وَالنَّاسُ إِلَيَّ كَعُرْفِ الضّبْع يَنْثالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جانب، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَشُقَ عطافِي، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِى كَرَبَيضَةِ الْغَنَم، فَلَمّا نَهَضَتُ بِالأمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَهُ وَمَرَقَتْ أُخرى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَهُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَساداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ! «بَلَى وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوها وَوَعَوْها، وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُم زِيرِجُها.

أما وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّهَ وَبَرَأَ النَّسَمَهَ لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيامُ الْحُجَّهِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَماءِ أَنْ لا یقارُّوا عَلى كِظَّهَ ظالِم وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ ، لألَقْيْتُ حَبْلَها عَلى غاربها وَلَسَقَيْتُ آخِرَها بِكَأْسٍ أَوَّلِها وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْياكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَهِ عَنْنٍ» (1).

وعندما تولّى صلوات الله عليه مقاليد الحكم، واجه ثلاثة تیاراتٍ منحرفة أحدها زعم الثأر لعثمان بن عفّان زوراً وكذباً والآخراتّبع الطاغية معاوية بن أبي سفيان لأغراض دنيوية وأحقاد دفينة، والثالث خرج عن الدين علناً واتّبع أفكار حمقاء لا تمتّ إلى الإسلام بأدنى صلةٍ، فعصفت بالمسلمين إثر ذلك ثلاث حروبٍ استنزافيةٍ (2)

ص: 127


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 3، ص 127
2- المقصود حروب الجمل وصفّين والنهروان، حيث وصف الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أعداءه بالناكثين والقاسطين والمارقين

حالت دون استقرار الأمّة والحكومة وزعزعت أوضاع المسلمين، وهذا الأمر جليٌّ في خطبه ومناجاته التي عبّرت عن حرقة قلبه وحزنه العميق على ما آلت إليه الأوضاع، حيث قال في خطبة له على منبر الكوفة: «أُنْبِئتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ، وَإِنِّي وَاللهِ لأظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلى باطِلِهِمْ وَتَفَرَّقُكُمْ عَنْ حَقَّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَطَاعَتِهِمْ إمَامَهُمْ فِي الْباطِلِ، وَبَأدَائِهِمُ الأمَانَةَ إلى صاحِبِهِمْ وَخِيانَتِكُمْ وَبِصَلَاحِهِمْ فِي بِلادِهِمْ وَفَسَادِكُمْ. فَلَوِ اثْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاقَتِهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي وَسَئمْتُهُمْ وَسَئمُونِي، فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَأَبْدِلْهُمْ شَرّاً مِنِّي، اللَّهُمَّ مُث قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاث الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، أما واللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسِ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ:

هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أتاكَ مِنْهُمْ***فَوارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ الْحَمِيمِ» (1)

وقال شاكياً في موضع آخر: «مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلَايُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لا أباً لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُم؟! أما دين يَجْمَعُكُمْ وَلَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ؟! أقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَأَنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلاً، وَلا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ وَلا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَام؛

ص: 128


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 25

دَعَوْتُكُمْ إِلى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الأَسَرِّ، وَتَناقَلْتُمْ تَثاقُلَ النّضْوِ الأَدْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ )» (1) . نلمس من هذا الكلام أنّه صلوات الله عليه كان يريد رفع المستوى المعرفي للناس وصقل مواهبهم بما كان لديه من علم بالاعتماد على المنصب السياسي الذي بلغه، لكنّه لم يتمكّن من ذلك لأنهم لم يكونوا أهلاً لذلك ولم يعينوه في مساعيه المخلصة.

وتوالت الأيام المريرة إلى أن اغتيل خليفة الله في الأرض وهو ساجدٌ يصلّي بمحراب مسجد الكوفة، فبدأت مرحلةٌ جديدة من الدعوة إلى الحقّ بقيادة نجله الوصي الحسن الزكي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أجواءٍ سياسيةٍ متوتّرة تصعب السيطرة عليها، لذلك لم تفلح مساعيه وعدّة مرّات تعرّض لمحاولات اغتيالٍ من قبل أعداء الإسلام(2) ، وفي نهاية المطاف انهارت أركان حكمه إثر المشاكل الجمّة التي واجهها فاضطرّ لقبول الصلح مع غاصب الخلافة معاوية بن أبي سفيان، ووصف هذه الحقيقة المؤلمة قائلاً: «ما أنا بمذلّ المؤمنين، ولكني معزّ المؤمنين؛ إنِّي لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة، سلّمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم،كما عاب العالمُ السفينة لتبقى لأصحابها، وكذلك نفسي

ص: 129


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 39
2- الفتوح، ج 4 ، ص 288

وأنتم لنبقى بينهم»(1).

لقد اعتمد معاوية بن أبي سفيان على الإعلام السياسي المضلّل وتعامل بمكر ودهاء مع الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأصحابه ومارس ضغوطاً على كلّ مسلم لا يؤيّد خلافته لدرجة أنّه اعتبركلّ علاقةٍ طيبةٍ مع آل عليٍّ جريمة لا تُغتفر، وقد أكد على عمّاله في مراسلاته معهم أن يتعاملوا مع الشيعة أقسى معاملةً وأن يقطعوا حقوقهم من بيت المال ويضايقوهم ويعذّبوهم بكل ما أوتوا من قوّة، وحتّى إنّه لم يرحم الأطفال الذين اسمهم «عليّ» وكان يأمر بقتلهم، فقد نقل المؤرّخون: «قال أبو عبد الرحمن المقرئ: كانت بنو أمية إذا سمعوا بمولودٍ اسمه علىٍّ قتلوه»(2).

كما أنّ الأعمال التجسّسية من قبل معاوية وأذنابه قد أدّت إلى تشتّت المسلمين وشق عصا الأمّة، حيث اغتالوا الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقتلوا مقتلةً عظيمةً من النخبة المؤمنة حقّاً وبمن فيهم صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الأجلاء كحجر بن عدي وعمرو بن حمق الخزاعي ورشيد الهجري وعبد الله بن الحضرمي، والكثير من الصلحاء الأخيار الذين دافعوا عن الحقّ وآزروا الإمام عليّاً وابنه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3). وهذه

ص: 130


1- بحار الأنوار، ج 75، ص 287
2- تهذيب الكمال، ج 20 ، ص 429 ؛ سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 102 - ج 7، ص 412
3- حياة الإمام الحسين(عَلَيهِ السَّلَامُ) ، ج 2، ص 167

الأوضاع استمرّت حتى عهد الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بحيث أدّت إلى حدوث ضعفٍ كبيرٍ في المؤسّسة الشيعية التي كانت تحت إشراف الإمامين الحسنين (عَلیهِمَا السَلامُ).

وبعد هلاك معاوية وتولّي ابنه الفاسق يزيد زمام الأمور، تزايدت ضغوط بني أمية على المسلمين إلى حدٍّ كبير وتفاقمت أوضاعهم أكثر، فقام بزجّ عددٍ كبيرٍ من الشيعة المعارضين في السجون وأزهق أرواح الألوف منهم ظلماً وعدواناً فأصبح إمام الأمّة الحسين بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعيش في انزواء سياسيٍّ تامٍّ، وبلغت الأوضاع المزرية مبلغاً لدرجة أنّه صلوات الله عليه أدرك بأنّ بقاء يزيد في سدّة الحكم يهدّد كيان الإسلام برمّته؛ لذا لم يكن له بدٌّ من القيام بالأمر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من دين محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد أن خضع المسلمون لحكم رجل فاسقٍ أعلن بكلّ وقاحة أنّه ملحدٌ ولا يؤمن بدين محمّد مراراً.

وبالفعل، ثار الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فتجرّع كأس الشهادة وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدافع عن الحقّ ليحول دون محو دين الله من الوجود بعد أن بذل الغالي والنفيس؛ حيث قال: «إنا لله إنا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد، ولقد سمعت جدّي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : يقول: الخلافة محرّمةٌ على آل أبي سفيان»(1).

ص: 131


1- اللهوف، ص 24

بعد واقعة كربلاء الأليمة وشهادة الإمام الحسين(عَلَيهِ السَّلَامُ) ، فإنّ الإمام زين العابدين(عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يتمكن من بيان الأحداث التي جرت إلا لبضعة أيام فقط إثر الضغوط التي كان يمارسها الأمويون وأتباعهم ضد أهل البيت ، وشيعتهم، ولكن على الرغم من ذلك فبعد شيوع خبر استشهاد الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) اجتاحت موجةٌ من السخط الشعبي جميع البلاد الإسلامية ولا سيما الكوفة التي كان لها دور أساسيٌّ في هذه الواقعة، حيث ثار الناس على بني أمية وظهرت حركاتٌ معارضةٌ لكنّها لم تدم طويلاً، وكانت أحياناً تنطلق من دافعٍ عاطفيٍّ دون أن تحظى بتأييد من الإمام السجاد(عَلَيهِ السَّلَامُ) أو أنه كان يرفضها.

هذه الحركات الثورية كان من شأنها أن تجعل الكوفة مركزاً للفكر السياسي والثقافي الشيعي لأنّها كانت مناهضةً لبني أمية وظلمهم، ولكنّ هذا الأمر لم يحدث بسبب عدم تنسيق من تزعّمها مع الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما حدث في نهضتي المختار بن أبي عبيدة الثقفي وسليمان بن صرد الخزاعي(1) ، وكذلك بسبب معارضة آل الزبير لكلّ نشاط ثقافيٍّ وسياسيٍّ يقوم به الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وقد تمخّض عن ذلك قطع الطريق على نشر معارف التشيّع.

إن ابتعاد الإمام عن مراكز اتّخاذ القرار في هذه الحركات

ص: 132


1- قال المختار الثقفي واصفاً سليمان بن صرد الخزاعي: «فإِنَّهُ لا علم له بالحروب وسياسة الأمور» . راجع: أنساب الأشراف، ج 6 ، ص 367

الثورية يدّل على أنّه لم يكن له دورٌ سياسيٌّ في المجتمع، ويتجلى هذا الأمر على أقلّ تقدير في الضغوط السياسية التي تعرّض لها بعد واقعة (الحرّة) .

أمّا خطاباته التي ألقاها في عدّة مواضع أثناء انتقال موكب أسارى كربلاء وآراؤه حول الحركات التي ظهرت بعد ذلك، تشير إلى عدم فائدة أيّة حركة ثورية في تلك الآونة؛ وفي كلامٍ له مع زرارة بن أوفى قسّم الناس إلى ستّة أقسامٍ واعتبرهم أسداً وذئباً وثعلباً وكلباً وخنزيراً وشاةً، فقال: «يا زرارة، الناس في زماننا على ست طبقات: أسدٌ وذئبٌ وثعلبٌ وكلبٌ وخنزيرٌ وشاةٌ، فأمّا الأسد فملوك الدنيا يحبّ كلّ واحد منهم أن يغلب ولا يُغلب. وأما الذئب فتجاركم يذمّون إذا اشتروا ويمدحون إذا باعوا. وأمّا الثعلب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بألسنتهم. وأمّا الكلب يهرّ على الناس بلسانه ويكرمه الناس من شرّ لسانه. وأما الخنزير فهؤلاء المخنّثون ،وأشباههم، لا يُدعون إلى فاحشةٍ إلا أجابوا. وأما الشاة فالمؤمنون الذين تجزّ شعورهم ويؤكل لحومهم ويكسر عظمهم، فكيف تصنع الشاة بين أسدٍ وذئبٍ وثعلبٍ وكلبٍ وخنزيرٍ؟!» (1) .

كما أنّ كلامه صلوات الله عليه مع عبّاد البصري يدلّ بوضوحٍ على سبب عدم دخوله في المضمار السياسي، فقد رُوي عن الإمام

ص: 133


1- الخصال، ج 1، ص 339؛ الحياة (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 385

الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله : «لقي عبّادُ البصري عليَّ بن الحسين صلوات الله عليهما في طريق مكّة فقال له : يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته ! إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبيل الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). فقال له علي بن الحسين(عَلَيهِما السَّلَامُ) : أتمّ الآية، فقال: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ). فقال عليّ بن الحسين(عَلَيهِما السَّلَامُ) : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ» (1) .

وقد بقي الحال على هذا المنوال حتّى تسلّط الحجّاج بن يوسف الثقفي على رقاب المسلمين فترةً طويلةً، ففي عهد هذا السفّاح استاءت الأمور واضطربت أوضاع أتباع ومحبّي أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) إلى أقصى درجة بحيث لم يبق من أتباع الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحجاز إلا القليل من الصلحاء، وكما يقول صلوات الله عليه فإنّهم لايتجاوزون

ص: 134


1- الكافي، ج 5، ص 22 . رغم احتمال أنّ زمان صدور هذه الرواية قد كان في آخر أيام حياة الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، لكنّها تدلّ بوضوحٍ على صعوبة الظروف التي كانت سائدةً آنذاك

العشرين شخصاً: «ما بمكّة ولا بالمدينة عشرون رجلاً يحبّنا» (1) . وبعض هؤلاء الصلحاء قد تجرّعوا كأس الشهادة، كسعيد بن جبير (2) . وقد بلغ خُبث الحجاج حدّاً لدرجة أنّه كان قلقاً حتّى من تلك النشاطات الضئيلة التي يزاولها الإمام عليّ بن الحسين(عَلَيهِ السَّلَامُ) فطلب من عبد الملك بن مروان أن يغتاله كي لا يتعرض حكم بني أمية لأدنى تهديد.

وقبل ذلك فإنّ عبد الملك بن مروان لمّا ولي الخلافة خشي من زوال ملكه بسبب سوء معاملة أهل البيت، فكتب إلى الحجّاج بن يوسف: «بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد فانظر دماء بني عبد المطلب فاحتقنها واجتنبها، فإنّي رأيت آل أبي سفيان لمّا ولغوا فيها لم يلبثوا إلا قليلاً. والسلام» (3).

فهذه الأوضاع المزرية والظروف السياسية العصيبة قد أرغمت أئمّة أهل البيت(عَلَيهِم السَّلَامُ) وشيعتهم على العمل بالتقية (4) حتّى حلول عهد

ص: 135


1- الغارات، ج 2، ص 394
2- هو أبو محمد سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي ، ولد سنة 46 ه واستشهد سنة 95 ه وهو في سن التاسعة والأربعين على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي هلك بعد ذلك بفترة وجيزة. وقد تتلمذ سعيد بن جبير على يد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وهو أحد التابعين العالمين الكرام وأقدم مفسّري كتاب الله المجيد. للاطلاع أكثر راجع: تذكرة الخواص، ج 1، ص 77؛ الطبقات الكبرى، ص 256 إلى 267
3- بصائر الدرجات، ص 397
4- للاطلاع أكثر راجع: كشف الغمة، ج 2، ص 103 ؛ الطبقات الكبرى، ج 5 ، ص 214

عمر بن عبد العزيز الذي قلّص من الضغط على آل الرسول وأتباعهم.

ومن الجدير بالذكر أنّ التقية في تلك الظروف الحرجة كانت تحظى بأهمية بالغة ولا حيلة منها، فقد قال الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذا الشأن: « التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتّقي تقاةً »، فقيل له: ما تقاته؟ قال: «يخاف جباراً أن يُفرط عليه أو أن يطغى» (1) .

الأوضاع الثقافية :

بعد أن استعاد الفكر الجاهلي أنفاسه وانتعش من جديد إثر رحيل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتجلّى بوضوح في اختيار خليفة المسلمين (2) ، فإنّ سيرة الخلفاء في إدارة شؤون الأمّة قد نجم عنها حدوث انحرافاتٍ ثقافيةٍ جمّةٍ .

ففي تلك الآونة الحسّاسة التي شهدت اضطراباً ثقافياً، منع تدوين الحديث رسمياً ومن قبل الحكومة بذريعة الخشية من اختلاطه مع القرآن الكريم (3) ، كما حُرم المسلمون من بيان الحديث أيضاً وتعرّض الصحابة لتهديد ووعيد إن قاموا بذلك؛(4) ومن ناحيةٍ أخرى

ص: 136


1- الطبقات الكبرى، ج 5، ص 214؛ كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج2، ص315
2- الاختصاص، ص 16 ؛ رجال الكشي، ص 124
3- مكاتيب الرسول علي الله ، ج 1، ص 486
4- أضواء على السنة المحمدية، ص 47 إلى 53

فقد أوصدت الأبواب أمام أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ومواليهم ولم يسمح لهم بالحضور في المجتمع بشكل فاعلٍ ومنعوا من تعليم المسلمين أحكام دينهم ومعتقداتهم الحقّة، فأُنيطت مسؤولية ذلك إلى اليهود الذين دخلوا الإسلام حديثاً من أمثال كعب الأحبار، فروّجوا الإسرائيليات والأحاديث المزيّفة (1) ، ناهيك عن الأخطاء الفادحة التي كان يرتكبها الخلفاء حول سنّة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لدرجة أنّ الخليفة الأوّل أعرب عن ندمه علناً وأمام الجميع لأنّه خالف السنّة النبوية (2) ، ومن أخطاء الخليفة الثاني هو ابتداعه صلاة التراويح التي لم يشرّعها رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

فالإمام عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) آنذاك لم تسنح له الفرصة كي يتواجد بين الناس وأمضى معظم أيّام حياته بعيداً عنهم وبمنأى عن شيعته ومواليه بين نخيل المدينة، حيث نقل عن أبي الدرداء قوله: «يا قوم، إنّي قائل ما رأيته، وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا؛ شهدت علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بسويحات بنى النجّار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه واستتر بمغيلات النخل فافتقدته، وبَعُد عَلَىَّ مكانه فقلت لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزينٍ ونغمة سحرٍ- شجيٍّ، وهو يقول: (إلهي، كم من موبقة حملتها عنّي فقابلتها بنعمتك؟! وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك؟! إلهي إن طال في عصيانك عمري عظُم في

ص: 137


1- الفتوح، ج 4، ص 326
2- تأريخ اليعقوبي، ج 2، ص 137؛ تأريخ الإسلام، ج 1، ص 117 - 118

الصحف ذنبي، فما أنا مؤملٌ غير غفرانك ولا أنا براج غير رضوانك)، فشغلني الصوت واقتفيت الأثر فإذا هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعينه فاستترت له لأسمع كلامه، وأخملت الحركة فرفع ركعات في جوف الليل الغابر، ثمّ فزع إلى الدعاء والتضرّع والبكاء والبثّ والشكوى....» (1) .

وهناك العديد من العقبات التي واجهتها منظومة الإمامة أدّت إلى عدم تحقيق نتائج على نطاقٍ واسعٍ في عهد الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعدم قيامه بتأسيس تيّار ثقافيٍّ يساعده على بيان مختلف الحقائق والمسائل للمسلمين، ومن تلك العقبات تعيين بعض أصحابه - جرّاء الفتوحات الإسلامية - في مناصب حكومية في مناطق نائية لإبعادهم عنه، كعمّار بن ياسر وسلمان الفارسي، وكذلك نفي البعض الآخر لمنعهم من مرافقته (2) وذكر فضائله للناس كما حدث لأبي ذرٍّ الغفاري، فقد روي في مصادر أهل السنّة ما يلي: «وبلغ عثمان أنّ أبا ذرّ يقعد في مسجد رسول الله ويجتمع إليه الناس فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنّه وقف بباب المسجد فقال: أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذرّ الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، محمّد الصفوة من نوحٍ، فالأوّل من إبراهيم

ص: 138


1- روضة الواعظين، ص 111 ؛ أمالي الصدوق، ص138
2- الغدير ، ج 2، ص 289 إلى 309 (منازعات عثمان بن عفّان وأبي ذرّ الغفاري)

والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمّد. إنّه شرّف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة أو كالقبلة المنصوبة أو كالشمس الضاحية أو كالقمر الساري أو كالنجوم الهادية أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها وبورك زبدها، ومحمّد وارث علم آدم وما فُضّل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصيّ محمّد وارث علمه. أيّتها الأمة المتحيّرة بعد نبيها! أما لو قدّمتم من قدّم الله وأخّرتم من أخّر الله وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال وليّ الله ولا طاش سهمٌ من فرائض الله ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيه؛ فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال ،أمركم ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ »(1) . لذلك لم يبقَ بقربه سوى ابن عبّاس الذي كان ينقل أحياناً بعض آرائه بحذر.

المشكلة الأخرى التي واجهتها الإمامة في هذه الفترة هي عدم وجود روح الاستفسار بين المسلمين، وهذه المشكلة في الواقع تعتبر عقبةً حالت دون انتشار المعارف الإسلامية، وحتّى قول الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «سلوني قبل أن تفقدوني» (2) لم يكن مجدياً ولم يغيّر من

ص: 139


1- تأريخ اليعقوبي، ج 12 ، ص 67 - 68
2- راجع: كلّ يسأل وعليٌّ يجيب، هشام آل قطيط، دار المحجة البيضاء، 1424ه

خمولهم الفكري، باستثناء بعض الأسئلة العامّة التي أجيب عنها بشكلٍ إجمالي مراعاة لإدراكهم وما كان أحد منهم بعد ذلك يتطرّق إلى بيان زواياها الخفية أو يستثمر ما تضّمنته من جوانب سياسية هامّة، كجوابه صلوات الله عليه حينما سُئل عن قول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «مَن كُنتُ مولاه فعليّ مولاه»، حيث قال: «نصبني عَلَماً إذ أنا قمتُ، فمَن خالفني فهو ضالٌّ» (1) ، فلا أحد دقّق في هذا الكلام العميق وتتّبع الحقيقة آنذاك.

إنّ إعلام أهل الشام المضلّل والمناهض لأهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد كان على نطاقٍ واسع بحيث طغى في شتّى أصقاع البلاد الإسلامية من مشارقها إلى مغاربها (2) ، ومن أمثلته استغلال حادثة مقتل عثمان بن عفّان وتضليل الرأي العامّ عن حقيقة ذلك، لذلك فقد كان له تأثيرٌ بالغٌ في عدم معرفة المسلمين الجدُد بخليفة الله في الأرض وحال بينهم وبين معارف الأئمة (عَلَيهمِ السَّلَامُ) السماوية، حيث سُبّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) على المنابر (3) ووضعت أحاديث مزيّفة تمسّ بشأن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) (4) ، ومن ناحية أخرى دُسّت أحاديث أخرى كاذبة تمدح معاوية وتنسب له

ص: 140


1- الغدير ، ج 1، ص 387
2- معجم البلدان، ج 3، ص191
3- ذكر العلامة الأميني هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب الغدير راجع: الغدير، ج 10، ص 369 ، الباب رقم 15 (جنايات معاوية في صفحات تأريخه السوداء)
4- شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 44 إلى 46

مناقب لا أساس من الصحّة بحيث لا يصدّقها القاصي ولا الداني(1).

وكما ذكرنا آنفاً فقد نقل المؤرخون أنّ أحد الشباب الذين كانوا في معسكر معاوية أثناء حرب صفّين قد تأثّر بهذه الزوبعة الإعلامية وقال: «فإنّي أقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يصلّي كما ذُكر لي، وأنّكم لا تصلّون؛ وأقاتلكم أنّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله»(2).

وفي تلك الآونة لم يُفسح المجال لبيان معارف الدين الحنيف إلا إبّان خلافة الإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقبل ذلك بفترة قصيرة، حيث شهد المجتمع الإسلامي نشاطات تبليغية للشريعة الحقّة بواسطة الإمامين الحسن والحسين (عَلیهِمَا السَلامُ) والنخبة الإسلامية كعمّار بن ياسر وابن عباس ومالك الأشتر، وقد واجه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مصاعب جمّةً في بيان معارف الدين إثر الظروف العصيبة والحروب التي شغلته واستنزفت طاقات المسلمين. وقد تجلّى جانب من هذا النشاط المعرفي المحدود في بعض رسائله ووصاياه خلال عهد لم يدم طويلاً، كرسالته المعروفة إلى مالك الأشتر النخعي ووصيته لولديه الحسن والحسين (عَلیهِمَا السَلامُ) ، كما كانت هناك بعض المؤلّفات في الفقه والكلام والسيرة والدعاء(3) . فهذه الجهود

ص: 141


1- لقد شاعت هذه المناقب المزعومة بشكل واسع لدرجة أنّ بني أُمية أوجبوا تعليمها للأطفال كي يجذّروها في نفوسهم. راجع: الاحتجاج، ج 2، ص 296
2- وقعة صفين، ص 355
3- راجع رجال النجاشي، ص 1 إلى 6

المضنية رغم ضيق نطاقها لكنّها كانت مؤثرةً وغالباً ما كانت توجه إلى الخواص.

رغم نجاح الإمام علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تربية طاقات متديّنةٍ جديدةٍ ونخبة تكنّ الوفاء والمحبّة لدين الله، إلا أنّ غالبيّتهم سريعاً ما تجرّعوا كأس الشهادة في طريق الدفاع عن الحقّ، ومن بقي منهم التحق بركب سلفه نصرةً للإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مقابل الطاغية معاوية أو نصرةً لأخيه الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمام الفاسق يزيد.

انزواء الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المدينة المنوّرة التي كانت تسودها أجواء متوتّرة يحكي عن ذروة التخلّف الثقافي والانحلال العقائدي بين أهل المدينة والكوفة، وبعد استشهاده وعودة الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى المدينة في أعقاب تلك الأحداث المريرة التي شهدتها كربلاء والشام، انتاب أهل المدينة حزن عميق؛ ولكن لم يتغيّر من الأمر شيءٌ، إذ بمرور الزمان وإثر توتّر الأجواء السياسية وتفاقم التخلّف الثقافي وبلوغ المجتمع ذروة الانحلال، أصبحت الظروف أصعب ممّا كانت عليه بكثيرٍ.

ومن أمثلة الانحلال الثقافي في تلك الآونة رواج الأشعار الإباحية التي عُرفت بأشعار المجون حيث تمحورت حول الخلاعة وتضمّنت ألفاظاً بذيئة، ومن الشعراء الذين عرفوا بذلك عمر بن أبي ربيعة المخزومي الذي نال دعماً من بني أمية، كما شاعت أشعار النقائض وكثُر المطربون الذين لم تكن لهم نشاطاتٌ تذكر في عهد

ص: 142

الخلفاء الأربعة الأوائل؛ لذلك شاعت مجالس الغناء والفجور التي يخالط الرجال فيها النساء بحيث تجاوزت حدود المدينة ووصلت إلى الشام (1) ، ولم يكن بعض الخواصّ أيضاً في مأمنٍ من هذا البلاء العظيم، فقد نقل أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن شيخ ينصح مطربةً بعدم الانقطاع عن الغناء قائلاً: «يا معشر أهل الحجاز، إنّكم متى تخاذلتم فشلتم ووثب عليكم عدوّكم وظفر بكم، ولا تفلحوا بعدها أبداً. إنّكم قد انقلبتم على أعقابكم لأهل العراق وغيرهم ممن لا يزال ينكر عليكم ما هو وارثه عنكم لا ينكره عالمكم ولا يدفعه عابدكم بشهادة شريفكم ووضيعكم، يندب إليه كما يندب جموعكم وشرفكم وعزّكم، فأكثر ما يكون عند عابدكم فيه الجلوس عنه لا للتحريم له لكن للزهد في الدنيا لأنّ الغناء من أكبر اللذات وأسرّ للنفوس من جميع الشهوات، يُحيي القلب ويزيد في العقل ويسرّ النفس ويفسح في الرأي ويتيسّر به العسير وتفتح به الجيوش ويذلّل به الجبارون حتّى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه ...» (2).

ولم يكن يجتمع عند الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) آنذاك لطلب العلم إلا عددٌ قليلٌ وكان بعضهم ليسوا شيعةً، كالزهري. وقد روي عن الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن الخواصّ من أصحاب جده زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 143


1- الأغاني، ج 10، ص 57
2- المصدر السابق، ج 8، ص 244

-الثقات منهم-(1) لم يكن عددهم يتجاوز الثلاثة وفي روايةٍ أخرى لم يكونوا أكثر من خمسةٍ (2)، وهم: أبو خالد الكابلي ويحيى بن أمّ الطويل المطعمي وجبير بن مطعم وأبو حمزة الثمالي وجابر بن عبدالله الأنصاري حيث بذل هؤلاء الأخيار جهوداً حثيثةً لتعليم الناس حقيقة الإمامة وبيان مكانتها العظيمة.

ويذكر المؤرّخون أنّ أبا خالد الكابلي وعدداً من أصحابه هاجروا من مكّة والذي بقي منهم عمل بالتقية، وذلك بعد أن فشلوا في ترويج أفكارهم، والبعض الآخر تجرّع كأس الشهادة (3) ، كيحيى بن أمّ الطويل الذي استشهد على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي، حيث روى الكافي عن اليمان بن عبيدالله قوله: «رأيت يحيى بن أمّ الطويل وقف بالكنسأة ثمّ نادى بأعلى صوته : معشر أولياء الله، إنّا براء مما تسمعون؛ من سبّ علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعليه لعنة الله ونحن براء من آل مروان وما يعبدون من دون الله. ثمّ يخفض صوته فيقول: من سبب أولياء الله فلا تقاعدوه ومن شكّ فيما نحن عليه فلا تفاتحوه، ومن احتاج إلى مسألتكم من إخوانكم فقد خنتموه، ثمّ يقرأ: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءِ كَالْمُهْلِ يَشْوِي

ص: 144


1- رجال الكشي، ص 124؛ الاختصاص، ص6
2- الكافي، ج 1 ، ص 472
3- رجال الكشي، ص 1 إلى 6

الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقَا) » (1) . وجبير بن مطعم هوالآخر قد واجه نفس هذا المصير(2) .

وعلى الرغم من كلّ هذه التضحيات والمساعي المضنية التي بذلها أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) وأتباعهم للنهوض بالتعاليم المحمّدية الأصيلة، لم تنطلق أية حركةٍ ثقافيةٍ في المجتمع آنذاك، وهناك كلامٌ للإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعكس هذه الحقيقة المريرة التي سادت على الأجواء الثقافية، حيث قال: «لا ندري كيف نصنع بالناس! إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ضحكوا، وإن سكتنا لم يسعنا»(3).

وهذا الانحطاط المعنوي في الواقع هو الذي دعا الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 145


1- يحيى بن أم الطويل المطعمي، من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وقال الفضل بن شاذان: لم يكن في زمن علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أوّل أمره إلا خمسة أنفس وذكر من جملتهم يحيى بن أمّ الطويل. وروي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: «ارتدّ الناس بعد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطعم، ثمّ إنّ الناس لحقو وكثروا»، وفي رواية أخرى مثله وزاد فيها جابر بن عبدالله الانصاري. وروي عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن الحجاج طلبه وقال: «تلعن أبا تراب، وأمر بقطع يديه ورجليه وقتله» وأقول: كان هؤلاء الأجلاء من خواص أصحاب الأئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) مأذونين من قبل الأئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) بترك التقية لمصلحة خاصةٍ خَفيّة. الكافي، ج 2، ص 379-380
2- للاطلاع أكثر على مصير هذه النخبة من روّاد المسلمين، راجع: رجال الكشي،ص 339
3- الكافي، ج 3، ص 234

ينشر المعارف الدينية في إطار الموعظة والأخلاق وذكر فضائل الصلحاء وجعله يتطرّق إلى المشاكل التي يعاني منها المجتمع (1)، ونلمس في الأدعية والمناجاة المأثورة عنه الكثير من المضامين القرآنية التي صاغها في عباراتٍ أدبيةٍ في غاية الروعة (2) وكما هو واضحٌ من الروايات المنقولة في هذه الفترة فإنّ الكلام عن الأحكام الفقهية كان محدوداً وبيان معارف الدين الأساسية كان في أدنى مستوىً له، وقد استمرّ الوضع على هذا المنوال حتّى أواخر أيام حياته صلوات الله عليه وتولّي عمر بن عبد العزيز منصب الخلافة.

الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية :

لقد أكّد كتاب الله المجيد والنبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مواطن كثيرة على ضرورة احترام مكانة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) و عدم المساس بحقوقهم، كحديث الثقلين وآية المودّة (3) والكثير من الروايات والآيات الأخرى، إلا أنّ هذا الفرض السماوي أصبح في طي النسيان بعد رحيله صلوات الله عليه واستشهاد بضعته الطاهرة فاطمة الزهراء (عَلیها السَلامُ)، حيث انتعش

ص: 146


1- رجال البرقي ، ج 1 ، ص 61 ؛ تحف العقول، ص234
2- راجع أدعية الصحيفة السجادية لتلمس فيها هذا الحسّ الأدبي - الديني الفريد من نوعه
3- قال تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» . سورة الشورى/ الآية 23

الفكر الجاهلي من جديد ولم يلتزم بذلك سوى نزرٍ يسيرٍ من المسلمين الموالين لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهم خواصّ صحابة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولكنّ غالبية المسلمين آنذاك لم يكونوا على علمٍ بمكانتهم العظيمة عند الله تعالى. ولو أمعنّا النظر في كلام السيدة فاطمة الزهراء (عَلیها السَلامُ) في هذا المجال لأدركنا مدى الهضم والظلم الذي طال أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) آنذاك (1).

وبالطبع فإنّ قلّة الناصر في تلك الأجواء المشحونة والتي تعرّض

ص: 147


1- قال الرواة والمؤرّخون: روي من عدّة طرقٍ أنّ فاطمة (عَلیها السَلامُ) لما بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكاً لاثت خمارها وأقبلت في لميمة من حفدتها ونساء قومها تجرّ أدراعها تطأ في ذيولها ما تخرم من مشية رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد المهاجرين والأنصار فضرب بينهم بريطة بيضاء - وقيل قبطية - فأنت أنةٌ أجهش لها القوم بالبكاء، ثمّ أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثمّ قالت (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد؛ الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نِعَمِ ابتدأها وسبوغ آلاءٍ أسداها وإحسان مِنَنِ أولاها جمّ عن الإحصاء عددها...» إلى أن قالت: «فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق وسمل جلباب الدّين ونطق كاظم الغاوين ونبغ خامل الأقلين وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين وللغرّة فيه ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريبٌ والكلم رحيبٌ والجرح لمّا يندمل والرّسول لمّا يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ...».كشف الغمة، ج 1، ص 485 ؛ كفاية الأثر، ص36؛ دلائل الإمامة، ص 3

فيها الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لمضايقات سلبته حقّه بالتواجد في المجتمع باقتدار، وخلال مدّة بلغت 25 عاماً قبل أن توكل إليه خلافة المسلمين، اضطرّته الظروف القاسية أن ينزوي بعيداً عن ممارسة دوره كعضوٍ فاعلٍ في المجتمع كما ينبغي، إذ لم يتواصل معه إلا القليل من أصحابه القدامى. ومن الجدير بالذكر أنّ الناس عندما انثالوا على بيت الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لبيعته بعد مقتل عثمان بن عفّان، لم يراعوا مكانته الاجتماعية بصفته واحدٍ من أهل البيت الذين أمر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بوجوب اتّباعم وحفظ حرمتهم(1)، ونستلهم من عدم تأكيد الإمام على هذه المكانة السامية أنّ الناس ما كانوا يكترثون بها.

وبكلّ تأكيدٍ فإنّ مواجهة ثلاثة أئمّةٍ معصومين نزاعاتٍ مسلحةً مع أعداء دي الله تعدّ دليلاً جلياً على عدم اهتمام الناس بأهل بيت نبيّهم كما ينبغي، وما نُقل عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يشير إلى هذه الحقيقة المريرة، حيث قال: «اللهم إنّي أتقرّب إليك بحبّهم وبولايتهم، أتولى آخرهم بما تولّيت به أوّلهم وابرأ إلى الله من كلِّ وليجة دونهم، اللهم العن الذين بدّلوا دينك وغيّروا نعمتك واتّهموا نبيّك وجحدوا بآياتك وسخروا بإمامك وحملوا الناس على أكتاف

ص: 148


1- رُوي عن الإمام علي(عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله: «انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدّى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا وَلَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا». نهج البلاغة، ص 143

آل محمّد، اللّهم إنّي أتقرب إليك باللعنة عليهم والبراءة في الدنيا والآخرة يا رحمن» (1).

وبعد استشهاد أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإنّ الأوضاع لم تتغيّر حيث واجه سبط الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الإمام الحسن الزكي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مشاكل جمّة، وذكر الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ تعامل الناس معه بعد أن وافق على الصلح مع معاوية كان قاسياً وموهناً للغاية (2)، ووصف الشيخ المفيد(رحمة الله) المجتمع آنذاك بأنّه مشتّتٌ ولم يكن لأصحاب الأئمّة دورٌ يُذكرعلى الساحة الاجتماعية والإمام بنفسه كان غريباً(3).

فهذه الظروف الحرجة تثبت بوضوحٍ مدى صعوبة نشر المعارف الحقّة، وحتّى حضور الإمامين الحسن والحسين (عَلیهِمَا السَلامُ) في مناسك الحجّ بصفتهما سبطي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)لم يغيّر من الأمر شيئاً ولم يمنح الإمامة مكانتها الاجتماعية اللائقة بها، وعندما قام الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ضدّ

ص: 149


1- عيون أخبار الرضا ، ج 2، ص 270؛ كامل الزيارات، ص 519
2- راجع بحار الأنوار، ج 75 ، ص 287؛ تحف العقول، ص 308
3- تفرّق الناس في تلك الآونة إلى خمس فرقٍ، الأولى: شيعة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) . الثانية: الخوارج الذين أرادوا قتال معاوية والذين انضمّوا إلى الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنه أراد قتال أهل الشام. الثالثة : الطامعون الذين يسعون لجمع الغنائم. الرابعة عامّة الناس الذين لم يكونوا يعلمون ما يفعلون. الخامسة : أصحاب النزعة القبلية الذين لا يقيمون للدين وزناً وكان رأي زعيم قبيلتهم هو فصل الخطاب. للاطّلاع أكثر راجع: الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج 2، ص10 . ص10

الفاجر يزيد بن معاوية، لم يتطرّق إلى منزلته الاجتماعية كما أنّه لم يبعث كتباً إلا إلى بعض الشخصيات والقبائل(1) ، كبني هاشم، لذلك وصف الناس آنذاك بالقول: «إنَّ النّاسَ عَبيدُ الدُّنيا وَالدِّينُ لَعِقٌّ عَلَى ألسنتهم»(2).

إنّ المصاعب التي واجهها الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وتأزّم الظروف الاجتماعية والحياة خارج نطاق المدينة المنوّرة (3) ، والتي نشأت من عوامل عديدة أبرزها السلوك الاجتماعي السيّئ لبني أمية وواقعة الحرّة وانتشار الفساد في مكّة والمدينة وشيوع النزعة الأرستقراطية،إلى جانب مواقف بعض الخواصّ التي حالت دون ترسيخ مكانة الإمام في المجتمع؛ كلّها مسائل زادت من الطين بلّةً وجعلت أوضاع الشيعة متفاقمةً أكثر. على سبيل المثال، فإنّ محمّد بن الحنفية الذي هو نجل الإمام عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان على معرفةٍ تامّةٍ بإمامة المعصومين، لكنّه وكما يبدو قد راوده الشكّ في ذلك فبعث كتاباً إلى الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) اعترف فيه بإمامة الأئمّة المعصومين الثلاثة الأوائل (الإمام علي والحسن والحسين (عَلیهِمَ السَلامُ)) وأقرّ بأنّهم منصّبون من قبل

ص: 150


1- كان الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يحذّر الناس فحسب، إذ قال: «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، مِن الحسين بن علي إلى محمَّد بن عليّ ومَن قَبلَه مِن بني هاشم، أمّا بعد فإنّ مَن لَحِقَ بي اسْتُشْهِد ومَنْ لَم يَلْحَقُ بي لم يُدرِك الفَتْح والسلام». كامل الزيارات، ص 75
2- تحف العقول، ص 245
3- فرحة الغري، ص 43

رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، إلا أنّه أعرب فيها عن رغبته بتولّي منصب الإمامة بعد أخيه الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، لذلك طلب من الإمام أن يؤيّد إمامته ! (1) .

وقد استمرّت هذه الأوضاع المزرية حتّى أواخر أيام حياة الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث تحسّنت الأوضاع بعض الشيء بعد أن عرف الناس شأنه وسرت محبّته في قلوبهم، والأشعار الخالدة التي أنشدها الفرزدق تنمّ عن هذه الحقيقة (2) .

أمّا من الناحية الاقتصادية، فبعد الفتوحات التي شهدها العالم الإسلامي في عهد الخليفة الثاني تزايدت إيرادات بيت المال، لكنّ هذه

ص: 151


1- يبدو أن محمّد بن الحنفية تخلّى عن مدّعاه هذا عندما سمع كلام الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قرب الحجر الأسود، لذلك أمر أبا خالد الكابلي الذي خدمه دهراً بالرجوع إلى الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنّه الإمام بالحقِّ، فقد رُوي عن أبي خالد أنّه خاطب الإمام قائلاً: «حتّى إذا كان - محمّد بن الحنفية - قريباً، سألته بحرمة الله وبحرمة رسوله وبحرمة أمير المؤمنين، فأرشدني اليك وقال : هو الامام عَلَيَّ وعليك وعلى خلق الله كلّهم، ثمّ أذنت لي فجئت فدنوت منك سميتني باسمي الذي سمتني أمّي، فعلمت أنّك الإمام الذي فرض الله طاعته عَلَيَّ وعلى كل مسلم». رجال الكشي، ص 120. وهناك بعض المرويات التي تحكي عن وجود خلاف بين محمّد بن الحنفية والإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حول بعض المسائل، كحركة المختار بن أبي عبيد الثقفي وصدقات الإمام عليّ بن أبي طالب(عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وذلك في عهد الوليد بن عبد الملك. ولكن على الرغم من عدم إصراره على أنّه إمام الأمّة وترك مدّعاه، إلا أنّه بقي بعيداً عن الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي لم يطلب من شيعته الرجوع إليه، وكذلك فإنّ المؤرّخين وعلماء الرجال لم يعتبروه من أصحاب الإمام
2- راجع : تأريخ الإسلام، ج 6، ص 438

الأموال كانت تقسّم حسب الطبقية الاجتماعية لأنّ الروح الجاهلية والقبلية والأرستقراطية انتعشت بعد وفاة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من جديد ممّا أدّى إلى تمكن الذين عرفوا ببطانة الحكم من جمع ثرواتٍ طائلةٍ بالباطل وحظوا بمناصب سياسية ودينية وتسلّطوا على رقاب المسلمين عن طريق هذه الثروات، وقد تجلّى هذا الأمر بشكلٍ علنيٍّ في عهد عثمان بن عفّان الذي جعل بيت المال شرعةً لبني قومه ومقرّبيه دون أيّ مبرّرٍ الأمر الذي جعل الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري يعترض بشدّة من منطلق الدعوة إلى الحق، ولكنّه نُفي في نهاية المطاف إلى الربذة (1) . الأموال المغتصبة من بيت المال كانت تؤثّر أيضاً على مواقف بطانة الخلافة آنذاك، فطلحة وعمر بن سعد قد غيّرا مواقفهما إثر الإغراءات المالية.

هذه الحالة قد طغت على المجتمع وتغلغلت بين عامّة الناس أيضاً، لذلك استغلّها معاوية لتأليب الناس ضدّ أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) حيث أنفق أموالاً طائلةً لهذا الغرض، وانقطع إثر ذلك الدعم المالي عن الشيعة، والكثيرين ممّن نصروا الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحتى بعض قادة عسكره نأوا بأنفسهم عنه طمعاً بالمال (2) ، كما أنّ بعض الرواة لم يتورّعوا عن وضع الأحاديث بهتاناً وزوراً، ولا سيما تلك التي تتضمّن

ص: 152


1- البداية والنهاية، ج 6 ، ص 166
2- صلح الإمام الحسن علي ، ص 175

فضائل مزعومة للبعض بغية المساس بفضائل أهل البيت(عَلیهِمَ السَلامُ) (1) .

وفي خضمّ هذه الأجواء المتوتّرة فإنّ الأوضاع الاقتصادية لأهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) بعد غصب فدك ومصادرة سائر أملاكهم، كالحوائط السبعة (2) ، أصبحت صعبةً للغاية وعانت الإمامة من مشاكل مالية حتّى الأيام الأخيرة من حياة الإمام السجاد(عَلَيهِ السَّلَامُ) (3) .

ومساعي الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) التي بذلها لمواجهة أطماع بطانة الحكم السابق والمقرّبين من بني أمية لأجل إقرار حقوق المسلمين اجتماعياً واقتصادياً (4) ، قد كان لها تأثيرٌ على الأرستقراطية التي ورثها

ص: 153


1- راجع : الكافي، ج 1 ، ص 64 . هناك بعض الروايات التي تنسب للإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنه كان «مطلاقاً» وهي جزء من هذا المشروع الأموي. للاطّلاع أكثر، راجع مقالة بقلم السيد محمد مرتضوي تحت عنوان: دراسة نقدية للروايات التي زعم فيها أنّ الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مطلاقٌ (باللغة الفارسية) نشرت في مجلة (مطالعات اسلامي) العدد 76
2- راجع: معالم المدرسيتن، ج 2، ص 131 - 149 – 177
3- من الجدير بالذكر أنّ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إبّان خلافته لم يتطرّق إلى قضية فدك مراعاةً للمصلحة العليا وحفاظاً على أسس الحكومة الإسلامية، لأنّه واجه أزماتٍ حالت دون ذلك كالسياسة التي ورثتها المسلمون من الخلفاء السابقين ومكائد أعداء أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) التي راموا منها تأليب الرأي العام ضدّ أهل البيت فيما لو طرحت هذه القضية. وهناك كلامٌ للإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) يشير إلى رأي الأئمة (عَلیهِمَ السَلامُ) بالنسبة إلى فدك. للاطلاع أكثر، راجع: ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، ج1، ص259؛ التذكرة الحمدونية، ج 9، ص289
4- وقعة صفين، ص 149

المسلمون من الحكومات السالفة؛ ولكن رغم ذلك لم يذعن بعض خواص المسلمين للحق الأمر الذي أسفر عن حدوث حرب الجمل وفيما بعد أدّى بشكل مباشرٍ أو غير مباشر إلى وقوع بعض الأحداث الأخرى، كواقعة كربلاء.

إن السياسة المنحرفة التي اتّبعها المتشبثّون بالسلطة تمخّض عنها سيادة الفقر على المجتمع الإسلامي وتراكم الثروات الطائلة لدى فئةٍ معيّنةٍ، وهذان الأمران كلاهما يعتبران عائقاً أمام تطبيق أحكام الشريعة ونشر معارف دين الله ، كما نجم عنهما ظهور نزعاتٍ منحرفةٍ أخرى.

ثانياً: مرحلة نشأة المعارف وازدهارها، عهد إمامة الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) إلى سنة 145ه :

الأوضاع السياسية :

بعد أن تولّى عمر بن عبد العزيز زمام الأمور وتسنّم سدّة الحكم، تغيّرت معاملة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) وأصبحت الأرضية مساعدةً للإمام محمد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كي ينشر معارف الدين ويبيّنها للناس، وكذلك على الرغم من الأجواء المتوتّرة التي شهدها المجتمع الإسلامي إبّان خلافة هشام بن عبد الملك فإنّ الإمام كان يذكر آراءه السياسية بصفته منافسٍ سياسيٍّ على الساحة، إذ كان أحياناً يدعو المسلمين لاتّباعه وأحياناً أخرى كان يحذّرهم من التعاون مع أهل الظلم والجور؛ فقد

ص: 154

رُوي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله : «الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقّ نبياً وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده، فالسعيد من اتّبعنا والشقىّ من عادانا وخالفنا، ومن الناس من يقول إنّه يتولانا وهو يوالي أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم، فهو لم يسمع كلام ربّنا ولم يعمل به»، ثمّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع، فلم يعرض لنا حتّى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه، فأشخصنا...» (1) .

وعلى أيّ حالٍ، فإنّ الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قام بوضع بعض الأسس (كالتقية) التي هي أسلوبٌ يمكن من خلاله مواجهة المخاطر المحدقة بالشيعة والحفاظ على أرواحهم وعلى الأوضاع الاقتصادية التي تحسّنت بعد عهد هشام بن عبد الملك، وذلك بغية إيجاد الأجواء المناسبة لنشر العلوم والمعارف. وفي هذه الفترة طرأت أحداثٌ زعزعت أوضاع الحكم الأموي كقيام زيد بن عليّ الذي حظي بتأييدٍ من الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وظهور بعض الحركات الأخرى، وإثر ذلك أصبح الأمويون أكثر ضعفاً مقابل خصومهم ممّا شجّع بني العباس وبعض بني هاشم على إسقاط حكمهم، ولكنّ هذه الحركة الثورية التي كانت في بادئ الأمر تبدو وكأنّها تدعم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) قد غيّرت اتّجاهها

ص: 155


1- دلائل الإمامة، ص 233؛ الأمان، ص 66

وتنصّلت من الشعارات التي رفعتها بعد أن تسلّط بنو العباس على رقاب المسلمين وقمعوا كلّ من يوالي أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ، وهذا الأمر لم يكن عجيباً لأنّ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان قد تنبّأ به سابقاً (1) . وفي ظل هذه الأحداث فإنّ الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) تصرف بحنكةٍ ولم يقحم نفسه في النزاعات السياسية، بل عمل على نظم شؤون الشيعة من الناحية العلمية، لذا تهيّأت الأجواء الملائمة لنشر المعارف والعلوم في الأيام الأولى من إمامة ابنه جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) التى بدأت فى السنة 114 أو 117 ه-

وأمّا بالنسبة إلى قيام أبي العباس السفّاح وأبي جعفر المنصور ضدّ بني أمية تحت شعار (الرضا من آل محمّد) والدفاع عن حقوق أهل البيت، فتجدر الإشارة إلى أنّ بنى العباس آنذاك كانوا يكنّون احتراماً لأهل البيت والعلويين وكلّ من يُنسب إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لذلك من الطبيعي أن الذين انتفضوا ضدّ بني أمية ليس من مصلحتهم أن يتّخذوا موقفاً مناهضاً للإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حفاظاً على كيانهم وتشويقاً للرأي العامّ الموالي لأهل البيت كي يدعمهم؛ وعلى هذا الأساس نلاحظ أنّ الإمام لم تصدر منه ردود أفعالٍ تُذكر حتّى استُئصل النظام الأموى بالكامل سنة 132ه-.

ص: 156


1- راجع : مروج الذهب، ج 3، ص 243؛ تذكرة الخواص، ص 199؛ الملل والنحل، ج1، 154 . (خبر رفض الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الدعوة أبي مسلم الخراساني وقضية إحراق الرسالة)

بعد أن انهار نظام بني أمية، فُسح المجال للإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كي ينشر المعارف الحقّة في مدينة جدّه رسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومكّة ومنى، ودامت هذه الأوضاع حتى سنة 145ه- وفي تلك الآونة لم تستقرّ حكومة بني العباس بالكامل، لذا كانت الأجواء ملائمة للنشاطات العلمية وفسح المجال للشيعة كي يتنقّلوا بحريةٍ بين الكوفة وخراسان وسائر البلاد الإسلامية، كما تمكّنوا من الحضور بين يدي إمامهم في المدينة، وحتى عندما كان الإمام يؤدّي مناسك الحجّ فإنّهم كانوا يجالسونه ويطرحون عليه أسئلتهم بكلّ حريةٍ وطمأنينةٍ؛ ناهيك عن أنّ علماء أهل السنّة أيضاً كانوا يراجعونه ويطلبون العلم منه أو يحضرون في دروسه - ومن أبرزهم أبو حنيفة ومالك بن أنس - حيث كانوا يسألونه عمّا استصعب عليهم في شتّى المواضيع وهو بدوره كان يجيبهم برحابة صدرٍ (1) .

كلّ هذه النشاطات العلمية كانت حرّةً حينذاك دون أن يزاول نظام الحكم أيّة ضغوطٍ على الإمام وطلابه، ويقول ابن حمدون في هذا الصدد: «كتب المنصور إلى جعفر بن محمد: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ فأجابه: (ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها، ولا تراها نقمةً فنعزّيك بها فما نصنع عندك ؟!). قال فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا.

ص: 157


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1 ، ص 61؛ وركبت السفينة، ص 536

فأجابه: (من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك). فقال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا » (1) .

إذن، إثر الظروف التي سادت في هذه الفترة التي دامت عشرين سنةً زالت الضغوط التي تعرض لها الشيعة وأئمّتهم، ولكن عندما اشتدّت شوكة الخليفة المنصور بدأت الأمور تعود إلى ما كانت عليه سابقاً شيئاً فشيئاً، فتأزّمت الأوضاع السياسية من جديدٍ .

الأوضاع الثقافية :

كما ذكرنا آنفاً فإنّ الأوضاع الثقافية في عهد الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت مزريةً للغاية ولم تكن الظروف مؤاتيةً لنشر العلوم والمعارف على نطاقٍ واسعٍ، بل كان الأمر مقتصراً على بيان جانبٍ محدودٍ منها وفي معظم الأحيان تجسّد ذلك في إطار أدعيةٍ ومناجاةٍ، وهذه الحالة كانت في بعض الأحيان سائدةً بين الخواصّ أيضاً.

رُوي عن أبي حمزة الثمالي قوله: «ما سمعت بأحدٍ من الناس كان أزهد من عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلا ما بلغني من عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) »، ثمّ قال: «كان الإمام عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا تكلّم في

ص: 158


1- التذكرة الحمدونية، ج 1، ص 113

الزهد ووعظ أبكى من بحضرته»، وقال: «وقرأت صحيفةً فيها كلام زهد من كلام عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكتبت ما فيها ثمّ أتيت عليّ بن الحسين صلوات الله عليه فعرضت ما فيها عليه فعرفه وصحّحه، وكان ما فيها : ( بسم الله الرحمن الرحيم، كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين، أيّها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون إليها المفتتنون بها المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غداً، واحذروا ما حذّركم الله منها وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتّخذها دار قرارٍ ومنزل استيطانٍ...)» (1) . رغم أنّ هذه الرسالة عُرفت ب-( صحيفة الزهد) لكنّها تتضمّن أمراً هاماً للغاية، ألا وهو تأكيد الإمام - في إطار الموعظة - على ضرورة الفصل بين تيارين، أحدهما الوريث الشرعي لخلافة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتبعيته تعني اتّباع دين الحقّ وطاعة الله تعالى، والآخر هو تيارٌ ظالم وتبعيته تعني معصية الله تعالى والتمرّد على أوامره.

في عهد الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) تغيرت وجهة الموعظة والدعاء من قبل الأئمة (عَلیهِمَ السَلامُ) لتنضمّن نشر المعارف وبيان أحكام الشريعة وتعاليمها بشكلٍ علنيٍّ لتحتلّ الإمامة مكانتها الاجتماعية إلى حدٍّ ما، فانهال المسلمون عليهما بأسئلتهم التي لم تجد

ص: 159


1- الكافي، ج 4، ص2 - صحيفة عليّ بن الحسين الله وكلامه في الزهد

جواباً على مدى عقود من الزمن، فأجاباهم خير إجابات وفصّل لهم ما كان غامضاً عليهم. وإلى جانب ذلك، فقد ظهرت بعض الأفكار المنحرفة في أواسط العهد الأموي، كأفكار وهب بن منبه، وكذلك انتشرت ظاهرة ترجمة النصوص ممّا أدى إلى حدوث رقيٍّ ثقافيٍّ، إذ ينقل المؤرّخون أن خالد بن يزيد بن معاوية (1) كان مولعاً بترجمة النصوص الفارسية والرومية واليونانية إلى العربية للاطّلاع على علوم الأمم الأخرى، وإثر ذلك انتعشت حركة الترجمة.

وبالطبع بما أنّ هذه النصوص كانت تتضمّن علوماً جديدةً لم يطّلع عليها المسلمون سابقاً، فقد تبادرت إلى أذهانهم أسئلة كثيرةً بعد أن اطّلعوا عليها ولكنّ الأوساط العلمية آنذاك كانت عاجزة عن بيان أجوبتها ممّا اضطرّهم للرجوع إلى منبع العلم والحكمة الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) وبعض تلامذتهما ، إذ لا أحد غيرهما كان قادراً على بيان ما خفي على الناس من معارف وعلوم.

فهناك روايات تشير إلى أنّ الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد ناقش النصراني الرومي في الشام (2) ، والإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) تحدّث بالعبرية حول مسألة (الذبائح) مع عامر بن علي الجامعي(3) ، كما هو الحال

ص: 160


1- يقال إنّ أوّل ترجمة بعد ظهور الإسلام كانت بواسطة خالد بن يزيد بن معاوية سنة 85 ه-. راجع: بيت الحكمة، ص9؛ مكاتيب الأئمة ، ج 4، ص 341
2- الكافي، ج 8 ، ص 123
3- راجع مكاتيب الأئمة اللام ، ج 4، ص 341

بالنسبة إلى كتاب ( الردّعلى أرسطاطاليس فى التوحيد) الذي ألّفه هشام بن الحكم (1) .

إنّ الرقي العلمي للشيعة كان مشهوداً في تلك الآونة والتأريخ يشهد على ذلك، والمناظرات التي كانت تدور بين أصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأتباع سائر المذاهب والأديان خير دليل على ذلك، ففي إحدى هذه المناظرات رُوي عن هشام بن سالم قوله: «كنّا عند أبي عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) جماعةً من أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له، فلما دخل سلّم فأمره أبو عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالجلوس. ثم قال له: (ما حاجتك أيها الرجل؟) قال: بلغني أنّك عالم بكلّ ما تسأل عنه، فصرت إليك لأناظرك. فقال أبو عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (في ماذا؟) :قال: في القرآن وقطعه وإسكانه وخفضه ونصبه ورفعه. فقال أبو عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (یا حمران دونك الرجل)...» (2).

وفى هذه الفترة أيضاً ظهر جيل جديد من المسلمين يمتلك روح السؤال والاستفسار بشكل غير مسبوق بحيث لم يجد الناس بدّاً من الخوض في غمار العلوم والمعارف للإجابة عمّا يطرح من أسئلة، ولكن لم يكن أمامهم أيّ حلٍّ سوى الرجوع إلى أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ، والأعداد الكبيرة من طلبة العلم الذين تتلمذوا على يد الإمام الباقر (عَلیهِ السَلامُ) خير

ص: 161


1- رجال النجاشي، ص 433
2- رجال الكشي، ص 275

شاهد على ذلك(1) ، حيث وصف صلوات الله عليه علم الأئمة بقوله :إنّ الناس لو جابوا مشارق الأرض أو مغاربها فلا يجدون العلم الصحي إلا عند أهل البيت، فقد

قال لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت» (2)

إذن، بعد أن أصبحت الفرصة مؤاتية، بذل الإمامان الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) جهوداً حثيثة لترسيخ دعائم الأسس الفكرية للتشيّع وتأسيس مدرسة عظيمة، لأنّ الأسئلة المطروحة آنذاك قد تزايدت وأصبحت أكثر دقّةً ومضموناً. وأمّا بالنسبة إلى ما رُوي من أحاديث وروايات في تلك الآونة، فتجدر الإشارة إلى أنّ أبّان بن تغلب وجابر بن يزيد الجعفي وحدهما قد نقلا ثلاثين ألف حديث عن الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) (3) ، وأمّا محمّد بن مسلم الذي يعدّ أحد أعظم رواة الشيعة يقول إنّه سمع من الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثلاثين ألف حديث ومن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ستة عشر ألف حديث (4) .

لقد أنشأ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أصحابه تنشئةً علميةً متكاملةً

ص: 162


1- أمالي الطوسي، باب أصحاب جعفر بن محمد الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)
2- رجال الكشي، ص257
3- رجال النجاشي، ص 11
4- رجال الكشي، ص 162 - 167

بحيث جعلهم يتقنون كلّ مسألة تطرح عليهم ويعرفون المكنون فيها، وذلك لكي يتمكّنوا من خدمة الدين والإجابة عمّا يطرح من أسئلةٍ، حيث كان يقول لهم: «إِذا حَدَّثْتُكُم بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي مِن كتاب الله» (1) . على سبيل المثال نقل الشيخ الصدوق (رحمةالله) ما يلي: «روي عن زرارة ومحمّد بن مسلم أنّهما قالا: قلنا لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال: (إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَإِذَا ضربتُم في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (2) فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر)، قالا: قلنا: إنّما قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ في الصفا والمروة: ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بهما) ؟ (3) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وذكره الله تعالى ذكره في كتابه)» (4).

وقد روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله: «ثمّ كان محمّد بن

ص: 163


1- الكافي، ج 1 ، ص 60
2- سورة النساء / الآية 101
3- سورة البقرة / الآية 158
4- من لا يحضره الفقيه، ج 1 ، ص 434

عليّ أبا جعفر، وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم، حتّى كان أبو جعفر ففتح لهم وبيّن لهم مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم حتّى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس؛ وهكذا يكون الأمر، والأرض لا تكون إلا بإمام،ٍ ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتةً جاهليةً وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه إذ بلغت نفسكم» (1) .

ومن أبرز الشخصيات التي تأدّبت وترعرعت تحت ظلّ رعاية الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) عبارة عن: أبّان بن تغلب، زرارة بن أعين، محمّد بن مسلم، هشام بن الحكم، حمران بن أعين، جميل بن دراج، مؤمن الطاق، وغيرهم. وأهمّ ما يميّز هذا الجيل الجديد هو تخصّص كلّ عالم ببابٍ من أبواب العلم، كعلم الكلام والفقه والتفسير والآداب، وما إلى ذلك؛ لذا تهيّأت الأرضية المناسبة لتربية كوادر متخصّصة ماهرة، وكانت النتيجة بيان ونشر الآلاف من الروايات في مختلف العلوم.

الأوضاع الاجتماعية :

في أواخر عهد الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحينما تولّى عمر بن عبد العزيز زمام الخلافة بالتحديد، تحسّنت أوضاع الشيعة من الناحية

ص: 164


1- الكافي، ج 2، ص 20

الاجتماعية وتحرّرت الإمامة من القيود التي فرضت عليها لأنّه اعتبر الإمام (أشرف الناس) (1) ، وقد وصل إلى سدّة الحكم سنة 99 ه- حيث كانت له ثلاثة مواقف رجولية أدّت إلى استقرار أوضاع الأئمّة وشيعتهم وهي:

1) منع سبّ الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد أن روّج بنوأُمية ذلك بين المسلمين لعقودٍ من الزمن على منابر صلاة الجمعة وفي جميع المناسبات الدينية (2) .

لا ريب في أنّ الإقبال الشعبي على ظاهرة السبّ التي سادت آنذاك يعني عدم احترام المكانة الاجتماعية للشيعة، لذا فإنّ عمر بن عبد العزيز بإجراءاته التي اتّخذها قد أحدث تغييرات واسعة في معتقدات عامّة الناس، إذ على أقّل تقدير عندما منع سبّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جعل الناس يتساءلون عن سبب قيام أعدائه بسنّ هذا الأمر المقيت.

2) أمر بإعادة فدك إلى أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) (3) .

ص: 165


1- مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 304
2- تذكرة الخواص، ص 17؛ تأريخ مدينة دمشق، ج 50، ص 96 - ج 57، ص243 معجم البلدان، ج13، ص191؛ الطبقات الكبرى، ج 5، ص 393؛ سير أعلام النبلاء، ج 5 ، ص 147
3- الكامل في التأريخ ، ج 5 ، ص 63

روى المؤرّخون أنّ عمر بن عبدالعزيز عندما تولّى الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس ثمّ قال: «إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بِيَدِ رَسُول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فَكَانَ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللهُ، ثُمَّ وَلِيَهَا أبو بَكْرٍ كَذَلِكَ وَعُمَرُ كَذَلكَ، ثُمَّ أَقْطِعَهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ إِنَّهَا صَارَتْ إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ مَالِي أَعُودُ مِنْهَا عَلَيَّ، وَإِنِّي أَشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ رَدَدْتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إِنَّ أَهْلِي أَقْطَعُونِي مَا لَمْ يَكُنْ إِلَيَّ أَنْ آخُذَهُ وَلَا لَهُمْ أَنْ يُعْطُونِيهِ، وَإِنِّي قَدْ هَمَمْتُ بِرَدِّهِ عَلَى أَرْبَابِهِ» (1) .

وكما هو معلوم فإنّ فدك تعدّ من الموارد المالية التي اعتمد عليها أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ، كما أنّها تحظى بمكانة مرموقة في ثقافة التشيّع بصفتها رمز لمقارعة الظلم، وعلى هذا الأساس فإنّ إعادتها إليهم تمنحهم مكانتهم الاجتماعية المسلوبة إضافةً إلى أنّها تثبت حقّانيتهم في العهود السابقة ولا سيما في عهد الخليفتين الأول والثاني.

3) أمر بتدوين الحديث.

بعد مضيّ ما يقارب (90) عاماً على منع تدوين كلام رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأمرٍ من الخليفة الثاني، أمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز بإلغاء هذا المنع الجائر الذي جعل الرعب من تدوين الحديث يتغلغل في نفوس العلماء والرواة ، سيّما في مدينة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، لدرجة أنّهم

ص: 166


1- الكامل في التأريخ ، ج 5 ، ص 63 ؛ تأريخ مدينة دمشق، ج 45، ص178

لم تكن لديهم الجرأة على تدوين ما سمعوه وحفظوه (1) . ومن الجدير بالذكر أنّ تدوين الحديث بدأ من بوّابة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) لأنّهم يمتلكون أفضل وأصحّ سلسلة سندية تتّصل برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهذا الأمر قد أدى إلى الرقيّ بالمكانة الاجتماعية لهم إلى أقصى درجة. ومن ناحية أخرى فإنّ عدد الشيعة كان يتزايد بشكل غير محسوس، ويمكن ذكرسببين لذلك، وهما:

السبب الأول : الدعم الشعبي لأهل البيت(عَلیهِمَ السَلامُ) والعلويين لأجل مقارعة بني أمية.

السبب الثاني: سهولة ارتباط الناس مع الأئمّة المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) بصفتهم مراجع للعلم والمعرفة.

وإثر ذلك، ففي عهد الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) نشأت مراكز للتشيّع في خراسان وقم وبعض المناطق الأخرى تدريجياً فتزايدت أعداد الشيعة في شتّى أرجاء البلاد الإسلامية، فأصبح الإمامان محوراً لأتباع أهل البيت في جميع شؤون الحياة.

ص: 167


1- المصنف، ج 9، ص337

ثالثاً: مرحلة ترسيخ الفكر وتقويمه، عهد إمامة الإمامين موسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا (عَلیهِمَا السَلامُ):

الأوضاع السياسية:

أهمّ ما اتّصفت به هذه الفترة الزمنية هو توتّر الأجواء السياسية وشحنها ضدّ العلويين، كما شهدت اعتراضات وحركات قام بها الشيعة وتمّ خلالها نفي الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المدينة إلى بغداد والإمام الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى طوس و من ثمّ عيّنه المأمون ولياً للعهد، وهذه الأحداث كانت مصيريةً في تأريخ التشيّع.

بعد أن اغتال المنصور الدوانيقي الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يترقّب معرفة من سيخلفه في الإمامة ليقتله، لكنّه دهش من وصية الإمام التي جعلته لا يدري ما يفعل، فقد روي عن أبي أيوب النحوي قوله:

« بعث إليّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل فأتيته فدخلت عليه وهو جالسٌ على كرسيٍّ وبين يديه شمعة وفي يده كتاب، فلمّا سلّمت عليه رمى بالكتاب إليّ وهو يبكي، فقال لي: هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات، فإنّا لله وإنا إليه راجعون - ثلاثاً - وأين مثل جعفر ؟! ثم قال لي: أُكتب، فكتبت صدر الكتاب، ثمّ قال : أُكتب إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه. فرجع إليه الجواب أنّه قد أوصى إلى خمسةٍ وأحدهم أبو جعفر المنصور ومحمّد بن سليمان وعبدالله وموسى

ص: 168

وحميدة» (1). فهذه الرواية تدلّ بوضوح على الأجواء السياسية المضطربة التى كانت سائدة آنذاك لدرجة أنّ الكثير من الخواصّ لم يكونوا يعلمون بمن سيخلف الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنّ المصلحة اقتضت إخفاء هذا الأمر(2).

يصف هشام بن سالم تلك الأوضاع بالقول: «كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر أنّه صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس عنده وذلك أنّهم رووا عن أبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: (إنّ الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة) فدخلنا عليه نسأله عما كنّا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ فقال: في مائتين خمسة، فقلنا: ففي مائة ؟ فقال : در همان ونصف، فقلنا: والله ما تقول المرجئة هذا. قال: فرفع يده إلى السماء فقال : والله ما أدري ما تقول المرجئة. :قال فخرجنا من عنده ضلالاً لا ندري إلى أين نتوجّه أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى أين نتوجّه ولا من نقصد ؟! ونقول: إلى المرجئة! إلى القدرية! إلى الزيدية! إلى المعتزلة! إلى الخوارج! فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه، يومي إلى بيده فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور،

ص: 169


1- الكافي، ج 1، ص 310؛ أمالي الطوسي، ص129
2- الكافي، ج 1 ، ص 352

وذلك أنّه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون إلى من اتّفقت شيعة جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون منهم فقلت للأحول: تنحّ فإِنِّي خائف على نفسي وعليك، وإنّما يريدني لا يريدك، فتنحّ عنّي لا تهلك وتعين على نفسك...» (1) . وقال بعد ذلك إنّه عندما تعرّف على الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلم بأنّه الإمام المعصوم الذي تجب طاعته بعد أبيه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، أمره بأن لا يخبر أحداً بذلك كي يأمن القتل.إضافة إلى ما ذكر، يروي المؤرّخون أنّ زرارة بن أعين وهو بالكوفة آنذاك كان يعلم بأنّ الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الإمام السابع للشيعة لكنّه خوفاً عليه من كيد الظلمة لم يخبر أحداً بذلك (2) ، ناهيك عن أنه بعث ابنه إلى المدينة بذريعة التعرّف على إمام الشيعة کی لا يشكّ أحد بأنّه يعلم بذلك.

وعلى الرغم من ذلك الاضطهاد والممارسات الجائرة، طويت صفحة المنصور الدوانيقي بحنكة الإمام وتدبيره ليحلّ عهد المهدي العباسي الذي لم يكن أهون من سلفه، لذلك تزايدت الضغوط فاستعان هذا الرجل بالزيدية الذين كانوا يعتقدون بإمامة المفضول على الفاضل للقضاء على الشيعة الموالين للإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولإضفاء شرعية على حكمه ممّا أدّى إلى تأزيم أوضاع أتباع أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) إلى حدٍّ ما.

ص: 170


1- الكافي، ج 1 ، ص352
2- كمال الدين وتمام النعمة، ج 1، ص 75

على سبيل المثال فإنّ هشام بن إبراهيم الزيدي (العباسي) الذي دوّن الكثير من كتب الزيدية، ألّف كتاباً أثبت فيه إمامة العباس (1) ، وأمّا ابن المقعد الزيدي أيضاً فقد دوّن كتاباً حول الفرق ومعتقداتها وموقعها الجغرافي ونشاطات الفرق المنتسبة إلى التشيّع، كاليعفورية والزرارية والامارية والجواليقية، وحظي هذا الكتاب بتأييدٍ من المهدي العباسي لدرجة أنّه أمر بتدريسه فى المدينة والكوفة (2) .

ورُوي عن هشام بن الحكم أنّ الإمام موسى بن جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يأمر شيعته بالسكوت (3) ، وهذا الأمر يحكي بوضوح عن الأجواء السياسية الملتهبة حينذاك. وبعد هلاك المهدي العباسي، تولّى ابنه الملقب ب- «الهادي العباسي» منصب الخلافة فتزايدت الضغوط والمعاملة السيئة ضدّ الشيعة، ومن جانب آخر اتّسع نطاق اعتراضاتهم على النظام الحاكم وظهرت حركاتٌ جهادية من قبل العلويين فاستشهد بعضهم، كالحسين بن علي (صاحب موقعة فخّ) والذي حظي بتأييد الإمام المعصوم. وبعد أن تمكّن الهادي العباسي من قمع هذه ،الحركات، قرّر قتل الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنّه كان يعتقد بأنّ الإمام هو السبب في انطلاق الحركات المناهضة لحكمه (4) ، لكن الله تعالى انتقم

ص: 171


1- اختيار معرفة الرجال، 365 ، رقم 501
2- م . ن: 265، رقم 265
3- رجال الكشي، ص 265 و 501
4- بحار الأنوار، ج 91، ص318

منه ولم يمهله للقيام بهذه الفعلة الشنيعة.

عندما علم أهل بيت الإمام وموالوه بنيّة الهادي العباسي، انتابهم القلق لكنّه طمأنهم قائلاً: «ليفرخ روعكم، إنّه لا يرد أوّل كتاب من العراق إلا بموت موسى بن المهدي وهلاكه» (1) ، وبالفعل فقد حدث ذلك وهلك هذا الطاغوت، ومن ثمّ استولى أخوه هارون الرشيد على الخلافة بمساعدة البرامكة، ولكنّ الأوضاع السياسية لم تتغير، بل تزايدت المضايقات التي كان يواجهها الشيعة أكثر ممّا مضى.

بعد انتشار شائعات أفادت بأنّ موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) هوالمهدي المنتظر، أمر هارون الرشيد بسجنه في البصرة ثمّ نقله إلى بغداد فزجّه في السجن مع بعض أصحابه، ومنهم يونس بن عبد الرحمن وابن أبي عمير (2) ، وفي نهاية المطاف تجرّع سابع أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) كأس الشهادة وهو في غياهب السجون.

الظروف الصعبة التي واجهها الإمام في تلك الآونة جعلته يأمر علي بن يقطين – الذي كان أهمّ نائب له (3) - بأن يطلب من علماء الشيعة في بغداد تقليص نشاطاتهم، فقال له: «مُرْ أصحابك أن يكفّوا

ص: 172


1- مهج الدعوات، ص 217؛ عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 79 ؛ أمالي الصدوق، 459-612؛ أمالي الطوسي، ص 421 – 944
2- رجال النجاشي، ص 229 - 231
3- المصدر السابق

من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة الله عزوجل » (1).

وفي مجال بیانه صلوات الله عليه للظروف القاسية التي كان يواجهها هو وشيعته الخلّص، أجاب عن رسالةٍ بعثها إليه عليّ بن سويد حينما كان في السجن قائلاً بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: «كتبت إليّ تسألني عن أمورٍ كنت منها في تقيةٍ ومن كتمانها في سعةٍ، فلمّا انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم، رأيت أن أفسّر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل حبّها لهم، فائّق الله عز ذكره وخصّ بذلك الأمر أهله، واحذر أن تكون سبب بليةٍ على الأوصياء أو حارشاً عليهم بإفشاء ما استودعتك وإظهار ما استكتمتك، ولن تفعل إن شاء الله» (2) . هذه الرسالة تدلّ بوضوحٍ على أنّ الإمام كان يؤدّي مهامّه بشكلٍ سرّيٍّ ويأمر شيعته بالرجوع إلى علماء الحقّ عند مواجهة شبهاتٍ ويطلب منهم عدم التفريط بما ورثوه من تراثٍ دينيٍّ حتّى في أصعب الظروف. في سنة 183 ه- استشهد الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وانتقلت الإمامة إلى وريث الشجرة النبوية عليّ بن موسى الرضا(عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 173


1- التوحيد، ص 460
2- مكاتيب الأئمة، ج 4، ص 510

وبعد أن هلك هارون الرشيد حدث خلاف بين ولديه الأمين والمأمون على السلطة، فقتل المأمون أخاه وجلس على عرش الخلافة، ولأجل أن يهدّئ الأوضاع السياسية ويقمع تحرّكات العلويين - كقيام محمد بن جعفر الصادق (1) - ويشوّش الواقع الثقافي للشيعة بشكلٍ عامٍّ، قام بتعيين الإمام عليّ بن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولياً للعهد وسمّاه (الرضا من آل محمّد) ومن ثمّ طلب منه الذهاب إلى مدينة (مَرو). وبالطبع فإنّ الإمام رضي بمنصب ولاية العهد من منطلق حنكته وحذاقته، فوضع شروطاً حرجت المأمون الذي وصف الأوضاع السياسية بالقول: «كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه لنا وليعترف بالملك والخلافة لنا وليعتقد فيه المفتونون به أنّه ليس ممّا ادّعى في قليل ولا في كثير وأنّ هذا الأمر لنا دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه ويأتي علينا منه ما لا نطيقه. والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلناه وأخطأنا في أمره بما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر، ثمّ ندبّر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه» (2) ، إذن، اعترف المأمون بنسفه بأنّ أهدافه

ص: 174


1- راجع : الإرشاد، ج 2، 212
2- عيون أخبار الرضا(عَلَيهِ السَّلَامُ) ، بحار الأنوار

السياسية لم تتحقّق قطّ، بل ما زاد من سخطه هو أنّ الإقبال الشعبي قد تزايد على الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بحيث اضطرّ لأن يقفل عائداً إلى بغداد وحده دون أن يرافقه الإمام، لذلك تأجّجت الأزمات السياسية من جديدٍ في سنة 202 ه- وتوتّرت الأوضاع بعد أن استشهد الإمام.

الأوضاع الثقافية :

بفضل الجهود العلمية الحثيثة التي بذلها الإمامان الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) وفي ظلّ تربيتهم كادراً متديناً وفياً لشريعة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فإنّ مختلف علوم مدرسة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ومعارفهم قد انتقلت إلى العديد من بقاع البلاد الإسلامية في عهد الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، فطرحت إثر ذلك الكثير من الأسئلة العلمية الجديدة.

لذلك قام الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بتأسيس منظومةٍ سرّيةٍ للوكالة بشكلٍ سريعٍ ووفّر لها الدعم الكافي، كي يتمكّن هو ووكلاؤه من الإجابة عن الكمّ الهائل من الأسئلة الشرعية والعقائدية التي يطرحها الشيعة سرّاً، فالسجن والضغوط السياسية لم تحل دون مواصلة الإمام واجبه المقدّس ولم يدّخر جهداً عن نصرة دين الله ونشر أحكامه الحقّة.

على سبيل المثال، فإنّ موسى بن إبراهيم المروزي الذي كان رئيساً لشرطة الطاغية السندي بن شاهك ومعلّماً لأولاده، قد نقل روايات عن الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) حول نورانية خلقة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ)

ص: 175

ودوّنها في كتاب أسماه (مسند الإمام موسى بن جعفر) (1) لكنّه لم ينشر إلا في عهد الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2) . كما أنّ محمّد بن علىّ النيسابوري وفد على الإمام حاملاً من قومه سبعين قرطاساً وفي كلّ قرطاس مسألة أرادوا من الإمام أن يجيب عنها (3) .

وفي بعض الأحيان كانت الظروف الحرجة تقتضي بأن تتولّى الطبقة الثانية من أصحاب الإمام مهمّة نشر المعارف، فقد نقل يونس بن عبد الرحمن عن حمّاد أنّ الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمر محمد بن حكيم بأن يجلس في مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليناقش القوم في المسائل الشرعية والعقائدية (4) .

كما أنّ محمّد بن فلان الرافعي قال: «كان لي ابن عمٍّ يقال له الحسن بن عبد الله، وكان من أعبد أهل زمانه وكان يلقاه السلطان، وربّما استقبل السلطان بالكلام الصعب يعظه ويأمر المعروف وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه، فلم يزل هذه حاله حتّى كان يوماً دخل أبو الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) المسجد فرآه فأدنى إليه ثمّ قال له:

ص: 176


1- رجال النجاشي، ص 408
2- للاطلاع أكثر: راجع الأحادث المروية عن الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مصادر أهل السنة
3- مكاتيب الأئمة، ج 4، ص 513
4- المصدر السابق، ص 450

( يا أبا عليّ، ما أحب إلي ما أنت فيه وأسرَّني به! إلا أنّه ليست لک معرفةٌ فاذهب فاطلب المعرفة)، قال: جعلت فداك، وما المعرفة؟ فقال له: ( اذهب وتفقه واطلب الحديث ) قال عمّن؟ قال: (عن أنس بن مالك وعن فقهاء أهل المدينة ثمّ اعرض الحديث عَلَيَّ )، قال: فذهب وتكلّم معهم ثمّ جاءه فقرأه عليه فأسقطه كلّه، ثم قال له: (اذهب واطلب المعرفة)، وكان الرجل معيناً بدينه فلم يزل مترصّداً أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى خرج إلى ضيعة له فتبعه ولحقه في الطريق فقال له: جعلت فداك، إنّي أحتجّ عليك بين يدي الله، فدلّني على المعرفة. قال: (فأخبره بأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)) وقال: (كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخبره بأمر أبي بكر وعمر)، فتقبّل منه ثمّ قال: فمن كان بعد أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ قال: (الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ الحسين)، حتّى انتهى إلى نفسه ثم سكت...» (1) .

الاستراتيجية التي اتّبعها الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانت ناجحةً إلى حدٍّ كبيرٍ، والرواية التالية تثبت هذا الأمر: « عن محمد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن موسى(عَلَيهِ السَّلَامُ) : جُعلت فداك فقّهنا في الدين وأغنانا الله بكم عن الناس حتّى أنّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما يسأل رجلٌ صاحبه تحضره المسألة ويحضره جوابها فيما منّ الله علينا بكم» (2) .

ص: 177


1- بصائر الدرجات، ص 257
2- الكافي، ج 1 ، ص 56

إنّ تواجد علماء الشيعة الأوفياء في تلك الآونة كهشام بن الحكم قد أغنوا المباحث العقائدية ودفعوا الشبهات التي طرحها البعض، كما فعل يحيى بن خالد البرمكي، فقد نقل عن يونس بن عبد الرحمن قوله: «كنت مع هشام بن الحكم في مسجده بالعشاء حيث أتاه مسلم صاحب بيت الحكمة، فقال له: إنّ يحيى بن خالد يقول: قد أفسدت على الرافضة دينهم لأنّهم يقولون إنّ الدين لا يقوم إلا بإمامٍ حيٍّ، وهم لا يدرون أنّ إمامهم اليوم حيُّ أو ميّت؟! فقال هشام عند ذلك : إنما علينا أن ندين بحياة الإمام أنّه حيٌّ، حاضراً كان عندنا أو متوارياً عنّا حتّى يأتينا موته، فما لم يأتنا موته فنحن مقيمون على حياته» (1) .

واستمرّت الأوضاع على هذا المنوال حتّى استشهاد الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وبعد أن تولّى المأمون العباسي الخلافة وتنصيبه الإمام الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولياً للعهد ومن ثمّ نقله إلى (مرو)، بدأت مرحلة جديدة من الانتعاش الثقافي، حيث التقى الكثير من الشيعة بإمامهم وحتّى سائر المسلمين الذين كانوا يتشوّقون للقائه سنحت الفرصة لهم للتبرّك بحضوره في تلك البلاد البعيدة، فاستقبلوه بحفاوةٍ. وعلى الرغم من

ص: 178


1- رجال الكشي، ص 380. يستشهد هشام بن الحكم بمثالٍ في هذه الرواية، حيث قال: « الرجل إذا جامع أهله وسافر إلى مكّة أو توارى عنه ببعض الحيطان، فعلينا أن نقيم على حياته حتى يأتينا خلاف ذلك»

الخطّة التى وضعها المأمون لسفر الإمام من المدينة إلى (مرو) ومنعه من المرور بالكوفة وقم، إلا أنّ شخصية الإمام ومرجعيته الدينية كانت أعظم من هذه المؤامرة، إذ ينقل التأريخ إنّ عدد أهل نيسابور الذين استقبلوا موكبه بلغ عشرين ألفاً دوّنوا الرواية المعروفة ب- «سلسلة الذهب» (1) ، كما أنّ عدداً كبيراً منهم صلّى صلاة عيد الفطر خلف الإمام (2) .

كما أن الحضور الفاعل لعلماء الشيعة الأجلاء في ذلك العهد كان مؤثّراً لدرجة أنّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) اعتبرهم أحياناً مراجع ينوبون عنه، ومنهم يونس بن عبد الرحمن الذي قال النجاشي عنه: « روى عن أبي الحسن موسى والرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكان الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) يشير إليه في العلم والفتيا» ونقل عن الفضل بن شاذان قوله: «حدّثني عبد العزيز بن المهتدي، وكان خير قمّيٍّ رأيته، وكان وكيل الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخاصّته، فقال: إنّي سألته فقلت: إنّي لا أقدر على لقائك في كلّ وقتٍ، فعمّن آخذ معالم ديني ؟ فقال : (خُذ عن يونس بن عبد الرحمن)» (3) .

في الفترة التي تلت إمامة الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) حدث

ص: 179


1- راجع: رجال الكشي، ص 267 . كما أنّ الكثير من مصادر أهل السنة نقلت هذا الخبر، ومنها: الصواعق المحرقة، ج 2، ص 595 ؛ الفصول المهمّة في معرفة الأئمة، ص 243
2- الكافي، ج 2، ص 263
3- رجال النجاشي، ص 447

تطوّرٌ جديدٌ، وهو أنّ المأمون بصفته خليفة كان يستعين بعلم الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويطرح أسئلةً عليه، كما أنّ (دارالحكمة) حظيت باهتمامٍ كبيرٍ، وبالتالي بدأت حركة ترجمة للنصوص العلمية إلى اللغة العربية فطرحت إثر ذلك مباحث علمية لم تكن متداولة بين المسلمين من قبل وظهرت علومٌ جديدةٌ، وهذا الأمر فسح المجال لعلماء الشيعة للخوض في شتّى العلوم وإعادة دراسة وتحليل النصوص الروائية والقرآنية، ولا سيّما تلك التي تتمحور حول موضوعي التوحيد والإمامة.

وذكر المرحوم النجاشي عبارة ( رَوى عن الرضا) في ترجمة 64 من المصنّفين وفي موارد عديدةٍ ذكر الآثار التي دوّنوها، وقد صُرّح بوثاقة معظمهم (1) . وتجدر الإشارة إلى أنّ تلامذة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذين بلغ عددهم ثلاثمائة شخصٍ، قد برزت منهم أربعون شخصيةً (2) .

الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية :

لقد تشتّت شيعة أهل البيت وبمن فيهم أبناء الأئمّة وأصحابهم،

ص: 180


1- للاطلاع أكثر ، راجع: رجال النجاشي، الصفحات التالية: 21، 25، 30، 36، 51،73،74 ،90،99، 104 ،141،42، 160 ، 161، 162 ، 165، 179
2- ما يزيد من فضل أصحاب الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذه الفترة هو وجود أصحاب الإجماع بينهم حيث كانت لهم منزلة رفيعة، فعلى سبيل المثال فإنّ ابن عمير وحده دوّن 94 كتاباً في هذه الفترة. للاطلاع أكثر راجع: تأريخ حديث الشيعة، ج 1، ص298؛ رجال النجاشي، ص 326

وهاجروا إلى مختلف بقاع البلاد الإسلامية إثر الضغوط السياسية التي تعرّضوا لها، فاستقبلهم الناس وعاشروهم عن كثبٍ. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الأمر كانت له نتائج اجتماعية واسعة النطاق، فتأسّست مراكز جديدة للتشيّع ولاسيّما في قم وبغداد وحتّى في بلدان الشرق الأقصى.

وهذا التوسّع في الرقعة الجغرافية كان بحاجةٍ إلى تنسيقٍ ونشاطاتٍ منظّمة، لذلك بذل الإمام موسى الكاظ (عَلَيهِ السَّلَامُ) جهوداً حثيثةً للقيام بهذه المهمّة رغم الأجواء المتوتّرة آنذاك، فتمكّن من ترسيخ دعائم منظومة الوكالة. أمّا

المهامّ الأساسية التي كانت ملقاة على عاتق الوكلاء - النوّاب - كما اقتضت الأوضاع في المراحل اللاحقة، فهي كما يلي:

1) إدارة الشؤون المالية واستلام الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة والنذور والهدايا التي يقدّمها الشيعة وبالتالي إيصالها إلى الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) أو إنفاقها فى موارد ضرورية لتلبية المتطلّبات الاقتصادية للأئمّة وشيعتهم.

2) العمل كحلقة وصلٍ بين الأقاليم التي يقطنها الشيعة ومقرّ الإمامة عن طريق المراسلات أو اللقاءات المباشرة أو إرسال مبعوثين، أو أيّ طريقٍ آخر.

3) مزاولة نشاطات علميةٍ وإرشاديةٍ لتوجيه الشيعة وتثقيفهم، ولا سيّما إعلامهم بالإمام اللاحق بعد رحيل المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 181

4) مزاولة نشاطات سياسية ومقارعة ظلم طغاة بشكل سرّيٍّ، وهذه النشاطات من شأنها دعم الشيعة وتوحيد صفوفهم.

5) تناقل أخبار الأئمة (عَلیهِمَ السَلامُ) وشيعتهم.

(6) مواجهة المنحرفين والذين يزعمون أنّهم وكلاء للأئمة (عَلیهِمَ السَلامُ) وأبواباً لهم زوراً وبهتاناً.

7) التصدّي للمسؤوليات الاجتماعية وتقديم خدمات للأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) ومواليهم وقضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم من خلال تواجدهم بين الشيعة.

8)تمهيد الشيعة نفسياً كي يستعدّوا لاستقبال عصر الغيبة.

إذن، المهامّ المذكورة تتطلب تأسيس منظومةٍ متكاملةٍ من الوكلاء وإيجاد ارتباط بينهم وتقسيمهم حسب الأقاليم وتحديد مدى صلاحياتهم، كما أنّ الظروف تفرض عليهم التغلغل في أروقة نظام حكم بني العباس بالتعاون مع عليّ بن يقطين وطرح برنامج منظّم لإدارة شؤون الشيعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الرواة في هذا العهد كانوا من التجّار النافذين في بغداد وقم وخراسان وسائر المناطق(1) .

ص: 182


1- سازمان وکالت و نقش آن در عصر ائمه (عَلیهِمَ السَلامُ) (باللغة الفارسية)
الفرق التي تشعبت من الشيعة :

هناك حدثان هامّان على صعيد انحراف بعض الفرق المنسوبة إلى الشيعة تجدر الإشارة إليهما في هذه الفترة، وهما:

(1الانشقاق الفكري الذي حدث بعد استشهاد الإمام جعفرالصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فظهرت إثر ذلك فرقتا الفطحية والإسماعيلية.

2) الانشقاق الفكري الذي حدث بعد استشهاد الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فظهرت إثر ذلك الفرقة الواقفية.

وبالطبع فإنّ العديد من العوامل قد أسفرت عن حدوث هذه الانشقاقات، منها توتّر الأجواء ووجود بعض الروايات التي تؤكّد على أنّ الإمامة تنتقل إلى الابن الأكبر ، لذا بعد أن استشهد الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ظنّ البعض أنّ ابنه الأكبر إسماعيل هو الإمام المفترض الطاعة وأنّه كان غائباً في عهد أبيه ولم يمت (1) ، في حين أنّ بعض الشيعة كانوا على العكس من ذلك، حيث صدّقوا بموته لكنّهم اعتقدوا بأنّ الإمام هو ابنه الآخر عبدالله الأفطح.

الإسماعيليون نأوا بأنفسهم عن الشيعة بسرعةٍ وهاجروا إلى مصر وأسّسوا حكومةً هناك، وقد كان سبب هجرتهم هو تأويلهم لروايةٍ تقول بأنّ القائم بالأمر سيظهر في ناحية مغرب الشمس(2) .

ص: 183


1- توفّي إسماعيل قبل أبيه الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)
2- للاطلاع أكثر على استنتاج الإسماعيلية من هكذا رواياتٍ في تعاملهم مع قبيلة (كتامة) في سنة 280 ه- ، راجع: تاريخ سياسي غيبت امام دوازدهم (باللغة الفارسية)، ص188

الروايات القائلة بانتقال الإمامة إلى الابن الأكبر (1) وعدم معرفة أحدٍ بالإمام اللاحق كانا سببين لاعتقاد أكثر العلماء من الطبقة الثانية وأصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) غير المقرّبين بإمامة عبد الله الأفطح (2) ، لكنّهم ما لبثوا أن عدلوا عن ذلك في أقل من سبعين يوماً وذلك لأسباب عديدةٍ (3) ، منها كما ينقل المؤرّخون امتحانه بمسائل من الحلال والحرام لم يكن عنده فيها جواب وكذلك لما ظهر منه من الأشياء التی لا يمكن أن تظهر من إمام معصوم، لذلك آمن معظمهم بإمامة

الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) باستثناء عدد قليل منهم.

أمّا الواقفية فقد كانت مشكلتهم أكبر وكانوا يتسبّبون بخلق مصاعب للإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، فبعض رموزهم كانوا رواةً أو من وكلاء الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) المعروفين الذين كانوا يسيطرون على أموالٍ طائلةٍ تعود ملكيتها للإمام (4) حيث كانوا ذوي مكانة اجتماعيّة مرموقةٍ. وقد تعامل هؤلاء مع الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بجفاءٍ لدرجة أنّهم تجاسروا عليه وأنكروا كلامه (5) ولم يتورّعوا من وضع الأحاديث (6) ، ولا سيّما في

ص: 184


1- راجع: رجال الكشي، ص 254
2- هذه الروايات ذكرت أيضاً عند النصّ على إمامة الإمامين زين العابدين والرضا(عَلَيهِ السَّلَامُ). راجع : الكافي، ج 1، ص 31؛ أمالي الطوسي، ص 195.
3- راجع: رجال الكشي، ص 345
4- المصدر السابق، ص 467
5- رجال النجاشي، ص 92
6- رجال النجاشي، ص 119

العقود الأخيرة من حياته المباركة حيث لم يكن له ولدٌ، وهذا الأمر أصبح ذريعةً لهم ولسائر الفرق المعارضة التي تنكر الحقائق ترجيحاً لمصالحها الخاصّة رغم إقرارها بالإمامة.

يقول الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) حول ذلك مخاطباً محمّد بن فضيل: « لعنهم الله، ما أشدّ كذبهم ! أما إنّهم يزعمون أنّي عقيم ويُنكرون من يلي هذا الأمر من ولدي» (1) .

بمرور الزمان وإثر مواقف الشيعة وجهود أئمّتهم المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) (2) ، تزعزت أركان الفرقة الفطحية، ومن ثمّ اضمحلّت بالكامل في عهد الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ).

عند تقييم العوامل التأريخية التي كانت مؤثرةً في هذه الفترة نلاحظ أنّه رغم اضطراب الأجواء وتأزّمها، فإن أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) تمكّنوا من إحداث تحوّل نوعيّ عبر إرساء دعائم فكر التشيّع ودحض الشبهات التي أثيرت حوله، وعبر تربيتهم كوادر علمية كفوءة تلبّي

ص: 185


1- رجال الكشي، ص 759
2- لقّب الشيعةُ الواقفة بلقب (الكلاب الممطورة) وغلب عليها هذا الاسم وشاع لها، وكان سبب ذلك أنّ عليّ بن إسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمن تناظرا فقال عليّ بن إسماعيل: «ما أنتم إلا كلاب مطورة». أي أنّكم أنتن من الجيفة، لأنّ الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيفة، وكانوا أيضاً يلعنونهم في القنوت، وقد أيّدهم الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذا. راجع: رجال الكشي، ص 461

متطلّبات المجتمع العلمية استطاعوا توسيع نطاق مدرسة الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لتزاول نشاطاتها في العديد من البقاع الإسلامية.

رابعاً: عهد إمامة الإمام محمد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بداية عصر الغيبة. (مرحلة تطبيق الفكر على أرض الواقع) :

الأوضاع السياسية :

بعد استشهاد الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) على يد المأمون العباسي واجه الشيعة ظروفاً جديدةً غيّرت من واقعهم، حيث تمكّن صلوات الله عليه من ترسيخ أسس معارف التشيّع وقطع الطريق على سائر الفرق كي لا تفرض أفكارها المنحرفة، والأجواء السياسية التي كانت سائدةً آنذاك على المجتمع قد توتّرت إلى أقصى الحدود. فطوال نصف قرن، أي من سنة 202 ه- حتّى 260 ه-، عانى ثلاثة من الأئمّة المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) أقسى الظروف وتجرّع ثلاثة منهم كأس الشهادة في عنفوان الشباب وغاب رابعهم(1).

المأمون العباسي تعامل مع الإمام محمد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتعامله مع أبيه الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع اختلاف طفيف، لكنّ أخاه المعتصم بالله الذي تولّى الخلافة بعده عكّر الأجواء فور تسلّطه على رقاب

ص: 186


1- خلال هذه الفترة توالى على سدّة الحكم عشرة من طغاة بني العباس

المسلمين، لذلك استاءت الأوضاع إلى أبعد الحدود لدرجة أنّه اغتال الإمام في السنة الأولى من خلافته. بعد الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) انتقلت الإمامة إلى ابنه عليّ الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ،

والشيعة لم يختلفوا على كونه الإمام العاشر، والسبب في ذلك يعود إلى وجود نصٍّ صريح من أبيه على تعيينه، حيث أخبر الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) خواصّ شيعته بذلك في رقاعٍ كتبها لهم قبل ذهابه إلى بغداد (1) . ولم يعترض أحدٌ على إمامته لصغر سنّه ولم تظهر أيّة حركةٍ مناهضةٍ لإمامته سواء من الخليفة العباسي أم من غيره، وذلك لأنّه كان ثاني إمام يتولّى الإمامة في هذه السنّ بعد أبيه، وقد كانت إمامته في عهد المتوكّل بالله العباسي الذي اتّبع منهج المأمون في نفي الأئمّة عن مركز الخلافة، إذ أرغم الإمامين الهادي والعسكري (عَلیهِمَا السَلامُ) على الإقامة في مدينة سامراء التي بناها المعتصم، والضغوط السياسية قد كانت شديدة لدرجة أنّ الطغاة كانوا في غنىً عن زجّ الإمامين في السجن، فدارهما في الحقيقة كانت بمثابة سجنٍ لهما لأنّهما لم يكونا قادرين على الذهاب أينما يرغبان إلا إلى دار الإمارة لكي تتثبّت الحكومة من وجودهما في سامراء (2) . وبعد استشهاد الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يدم الأمر طويلاً حتّى تجرّع الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) كأس الشهادة.

ص: 187


1- الكافي، ج 1، ص 322
2- أمالي الطوسي، ص129
الأوضاع الثقافية :

الأوضاع الثقافية للشيعة في هذه الفترة اختلفت عمّا كانت عليه آنفاً بعد أن تولّى الإمامة ثلاثة أئمّة صغار السنّ وإمام في مستهلّ شبابه، لكنّ الأمر الذي يحظى بأهمية هنا هو بيان الإمامين الهادي والعسكري (عَلیهِمَا السَلامُ) لما ذكره الأئمّة المعصومون السابقون من تعاليم ومعارف وإعداد الناس لقبولها، وذلك في الحقيقة يدلّ على أنّ بيان المعارف وتفاصيلها قد تمّ قبل تلك الآونة من تأريخ التشيّع، أي منذ بداية إمامة الإمام محمّد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، والمأمون العباسي بدوره كان على علم بذلك (1) .

إنّ النضوج المعرفي والإنجازات العلمية التي كانت لعددٍ كبيرٍ من

ص: 188


1- زعم البعض أنّ عدداً من الشيعة لم يقبلوا بإمامة الإمام محمد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) نظراً لصغر سنه، ولكنّ هذه المزاعم واهية وليس لها أساس من الصحّة محل تأمل ونقاش؛ لأنّ الشيعة كانوا يعلمون بوجود إمام ينوب عن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وسبب هذه المزاعم هو ظنّ عامّة الناس بأنّه لم ينجب ولداً ذكراً. وأما الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقد كان يؤمّل الشيعة خيراً بأنه سيرزق ولداً ذكراً، وهذا الأمر بطبيعة الحال يمهّد الشيعة لقبول إمامة ابنه محمّد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا سيّما وأنّ رموز الشيعة كانوا يترقّبون معرفة إمامهم التاسع، فضلاً عن أن النخبة منهم كعليّ بن جعفر الذي كان يعرف بالعالم وكبير آل الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، كانوا على صلةٍ به وهم بالطبع يعرفون مقامه الرفيع. طبعاً من الممكن أن بعض الموالين لأهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) آنذاك تساءلوا حول هذا الأمر، لكنّه لم يتسبّب بحدوث انشقاق في صفوفهم لأنّ الإدراك المعرفي قد ترسّخ في أنفسهم ولم يعترضوا على ذلك. للاطّلاع أكثر راجع: قرب الإسناد، ص 167

علماء الشيعة، إضافةً إلى المساعي الحثيثة التي بذلها الأئمّة المعصومون (عَلیهِمَ السَلامُ) لزرع الثقة في أنفس شيعتهم كي يعتمدوا على أنفسهم في حلحلة مشاكلهم وتعليم وكلائهم كيف يشرفون على شؤونهم، ينمّ عن أنّ التشيّع قد طوى مسيرةً ثقافيةً مثمرةً وفاعلةً وأنّ أتباع مذهب أهل البيت قد أصبحوا مستعدّين لدخول مرحلة جديدة من تأريخهم، ألا وهي غيبة إمامهم؛ لذلك تولّى النوّاب الخاصّون للإمام المهدي المنتظر (عَلَيهِ السَّلَامُ) إدارة معظم شؤون الشيعة، وأمّا نوّاب المناطق الأخرى فقد كانوا على اتّصال مع النوّاب الخاصين لنقل الأخبار إلى الإمام.

وقبل ذلك، فإنّ الإمامين الهادي والعسكري (عَلیهِمَا السَلامُ) قد مهّدا الأرضية المناسبة لهذا الأمر حيث كانا يلتقيان ببعض الخواصّ سرّاً بعد أن قلّلا من لقاءاتهم المباشرة أمام الملأ العامّ، كما أنّهما كثيراً ما كانا يتواصلان معهم عن طريق المراسلات (1) .

مثلاً عثمان بن سعيد العمري الذي كان نائباً للأئمّة منذ عهد الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أصبح يدير شؤون سائر النوّاب ويتواصل مع الأئمّة لتزويدهم بأخبار الشيعة ويطرح عليهم أسئلتهم ليجيبوا عنها مباشرةً أو عن طريق توقيعاتٍ خاصّة عند الضرورة، فعدد الرسائل

ص: 189


1- بعض الأصحاب دوّنوا مؤلّفات حول ما تعلموه من الأئمة (عَلیهِمَ السَلامُ) ، لكنّهم لم ينشروها إلا بعد مدّة من تأليفها للاطبلاع الأكثر راجع: رجال النجاشي، ص 304 و297

التي بعثها الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) تقارب (150) رسالة (1) .

وطوال هذه الفترة فإنّ بعض النوّاب وذوي المعرفة – وعلى رأسهم الشلمغاني - قد انحرفوا عن المسير الصحيح، لكنّ حنكة الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحزمه حالا دون حدوث شرخٍ في صفوف الشيعة وتشرذمهم إلى فرقٍ ضالّةٍ، وهذه الانحرافات قد تلاشت بالكامل بعد الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجل الله فرجه) من خلال توقيعاته الشريفة والمساعي الحثيثة التي بذلتها مدارس الشيعة حينذاك.

إنّ تأسيس العديد من مدارس الحديث في قم والري ونيسابوروسمرقند والكوفة وبغداد وسائر البلاد الإسلامية إلى جانب المئات من المؤلّفات القيّمة التي تمّ تدوينها في مختلف العلوم وللإجابة عمّا يطرح من أسئلة واستفسارات، كلّها دلائل على وجود صحوةٍ علميةٍ في هذه الأقاليم وانتشار المعارف الدينية بين أهلها، كالآثار القيّمة لعبد الله بن جعفر الحميري التي جمع فيها معظم المدوّنات على هيئة مسائل (2) .

ص: 190


1- موسوعة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، ج 3، ص 232
2- من مؤلّفات عبد الله بن جعفر الحميري ما يلي: مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، مسائل لأبي محمّد الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، على محمّد بن عثمان العمري، قرب الإسناد إلى صاحب الأمر (عجل الله فرجه)، مسائل أبي محمد. إضافةً إلى جمعه بعض توقعيات الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية :

رغم أنّ الشيعة حُرموا في ذلك العهد من التواجد بحريةٍ وبمختلف مكوّناتهم قرب أئمّتهم في بغداد وسامراء، لكنّهم لم يتخلّوا عنهم ووقّروهم طوال فترة إقامتهم الجبرية، وهناك رواياتٌ تفيد بأنّهم كانوا يقدّمون الهدايا للإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكانوا يستقبلونه بحفاوة عالية عند ذهابه إلى دار الإمارة (1) .

ومن ناحية أخرى فإنّ النشاطات الاجتماعية للشيعة في سائر المناطق كانت تجري على قدم وساق في أعلا المستويات، حيث شدّ علماؤهم وطلابهم الرحال إلى مختلف المدارس والمراكز العلمية لاكتساب العلم ونشره، ناهيك عن أنّ بعض المدن كانت تحت إشرافهم المباشر أو كان يحكمها عالم موال لأهل البيت، كمدينة قم (2) ، وكما ذكرنا فهناك الكثير من الروايات تؤكّد على أنّ الشيعة كانوا يرسلون الهدايا والحقوق الشرعية من مختلف المناطق إلى أئمّتهم، وهذا الأمر إنمّا ينمّ عن انتعاش نشاطات أتباع مذهب أهل البيت؛ فالشيخ الطوسي والمرحوم النجاشي ذكرا الكثير من الأخبار حول أوضاع الشيعة واتّساع نطاق منظومة الوكالة وأخبار النوّاب الأربعة في بغداد والكوفة والبصرة وسمرقند وكش في تلك الآونة. فهذه الأخبار تعكس

ص: 191


1- راجع موسوعة الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، ج 2، ص 117
2- رجال النجاشي، ص371

النشاطات العلمية الواسعة للشيعة وشمولية فكر التشيّع في تلك المناطق، كما أنها تشير إلى أنّ الأرضية المناسبة لنشر فكر أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) قد تهيّأت بشكل مناسب قبل الغيبة الصغرى (1) .

خلاصة البحث:

المجتمع الذي أُرسل فيه خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان بعيداً كلّ البعد عن التحوّل إلى مجتمع ديني متكامل، لذا فإنّه صلوات الله عليه عمل على إيجاد أرضية مناسبة لترسيخ أُسس مجتمع توحيديٍّ تسود فيه العلوم الدينية فاتّضحت إثر ذلك جوانب عديدة من العلوم والمعارف انسجاماً مع مختلف الظروف.

بعد رحيل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فإن الأحداث التأريخية لم تفسح المجال للأئمة المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) كي يوضّحوا تعاليم الدين ومعارفه لجميع المسلمين وعلى نطاق واسعٍ، وبالتالي فقد حالت دون نشر العلم في المجتمع الإسلامي كما ينبغي. لقد واجه الأئمّة ظروفاً صعبةً للغاية بلغت الذروة من القسوة على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، لذلك ركّزوا اهتمامهم على حفظ أسس التعاليم النبوية. وهذه الأوضاع المؤسفة التي حالت دون بيان العلوم والمعارف بدقّة وتفصيل ووضوح بطبيعة الحال كانت لها نتائج سلبية ألحقت أضراراً

ص: 192


1- رجال النجاشي، ص 350؛ راجع أيضاً كتاب (الغيبة)

فادحةً بالمسلمين، ولكن رغم كل ذلك تمكّن الأئمة من تربية نخبة من خيرة الصلحاء والعلماء في التأريخ الإسلامي.

استمرّت هذه الأوضاع العصيبة حتّى أواخر أيّام إمامة الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، لكنّها تغيّرت بعد ذلك بفضل جهوده الحثيثة وجهود الإمام محمّد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، وبعد أن انقلبت الصورة السياسية على الساحة الإسلامية إثر صراع دام لأكثر من عشرين عاماً بين بني أمية وبني العباس بصفتهما تيارين لا يمتلكان أيّة أُسس فكرية، فإنّ الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) اعتماداً على مكانته الاجتماعية المميّزة وبمساعدة شيعة أهل البيت، استغلّ الفرصة المتاحة لبيان التعاليم السماوية الحقّة لجيلٍ فاعل انتعشت فيه روح السؤال والاستفسار، وإثر ذلك بلغت العلوم والمعارف ذروة الازدهار.

كان الأئمّة المعصومون (عَلیهِمَ السَلامُ) في هذه الفترة يروّجون المعارف والعلوم على شتّى المستويات بغية مواكبة جميع الأحداث التأريخية بشكلٍ كاملٍ، لذلك لم يتدخّلوا في الصراعات السياسية التي انهمك فيها خصومهم وسائر التيارات الفكرية، وقد أدرك الناس هذا الموقف الحكيم لاحقاً بعد أن تمكّنوا من نشر المعرفة على نطاقٍ واسعٍ.

إن المواقف الحكيمة التي اتّخذها الأئمة المعصومون (عَلیهِمَ السَلامُ) قد أسفرت عن نشر معارف الشيعة على نطاقٍ واسع كما فسحت المجال للإجابة عن الآلاف من الأسئلة التي راودت أذهان المجتمع الإسلامي

ص: 193

بشكل عامٍّ وأتباع مذهب أهل البيت بشكل خاصٍّ، ناهيك عن تدوين كمٍّ هائل من الآثار العلمية ممّا يعكس ذروة ازدهار علوم الشيعة ورقيّ فكرهم.

وفي المرحلة التالية، فعلى الرغم من التوتّر السياسي الحادّ والضغوط التي فرضت على الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) والخلّص من شيعتهم وفي ظلّ الظروف الاجتماعية والثقافية التي تهيّأت سابقاً، فقد بُذلت جهود كبيرةً لنشر المعارف وترويجها بين الناس عبر الإجابة عن الشبهات وترسيخ أسس الفكر النبويّ الأصيل، لذا نلاحظ أنّ الرويات المنقولة في تلك الفترة تزخر بالأجوبة عن الشبهات التي كانت تُطرح حول العلوم الموروثة من العهد السابق لدرجة أنّنا نلمس بوضوح وجود تشابه بين روايات ومفاهيم هذين العهدين.

إذن، بعد أن شهد التشيّع تطوّراً علمياً واتّسع نطاق حضور أتباع أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية وإثر تأسيس مدارس عليمة شيعية وإشراف النوّاب على نشاطات الشيعة وعلمائهم بشكلٍ متواصلٍ؛ حقّقت هذه المدرسة الرسالية نجاحات باهرةً وتمكّنت من دحض الشبهات وترسيخ الفكر الإسلامي الصحيح.

رغم أنّ الأزمات السياسية قد ضيّقت نطاق نشاطات أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) طوال فترة حضورهم بين شيعتهم ولا سيّما في عهد أربعة ائمّة، إلا أنّ الأحداث التأريخية طوال ستين عاماً ونيّف قد

ص: 194

ساعدتهم من نواح عديدة على تمهيد الأرضية الملائمة كي يستعدّ أتباع الدين المحمّدي الأصيل لاستقبال الغيبة الصغرى لإمامهم الثاني عشر. وبالطبع فإنّ عدم وجود تحدّيات جادّة على صعيد الأصول العقائدية للمدرسة الجعفرية في هذه الفترة يعدّ دليلا على الاستقرار العلمي في رحاب تعاليم أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ، فضلاً عن أنّ الشيعة أصبحوا مستعدّين لغيبة إمامهم من جميع النواحي ولم تراودهم شبهاتٌ في معقتداتهم، باستثناء بعض ما شذّ وندر في المناطق النائية حيث راجت بعض الشبهات، لكنّها سرعان ما دحضت.

ولو أمعنّا النظر في مجمل هذه الأحداث التأريخية، لوجدنا أنّ مسيرة بيان معارف أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) قد انتقلت من مرحلة الإجمال إلى التفصيل وتنامت في ظلّ مختلف الوقائع التأريخية دون أن تتعرّض المنظومة المعرفية الحقّة إلى أيّ خلل لكونها تتقوّم بالقرآن والسنة النبوية المباركة.

بناء على ما ذكر، لو قارنّا بين آراء مدرسة أهل البيت مع ما طرحه غيرهم لألفينا وجود منظومة معرفية تضرب بجذورها في القرآن والسنّة تتقوّم عليها الإمامة وتعدّ الأساس لنشر المعارف وبيان التعاليم. ومن الجدير بالذكر أنّ الموارد اليسيرة التي كانت محل ترديد لدى البعض والأحداث السلبية المحدودة التي شهدها المجتمع والسلوكيات الفردية المنحرفة لعدد لضئيل ممّن انتسبوا إلى التشيّع، لم تكن عائقاً

ص: 195

يحول دون فهم التيار الفكري الأصيل لمدرسة أهل البيت ولم تكن مانعاً يقطع الطريق على طرح الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) آراءهم القيّمة لبيان المعارف الإسلامية برمّتها في ضوء مختلف الوقائع والظروف. كما أنّ رؤيتهم الاستراتيجية العميقة والشاملة في مجال ترويج التعاليم النبوية الأصيلة والحفاظ عليها بين مختلف الطبقات الاجتماعية لا تُبقي مجالاً للترديد في الأصول الفكرية، ولا ريب في أنّ الخلافات الفكرية والنزاعات العلمية التى حدثت بين تلامذة مدرسة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) قد انحسرت في نطاق ضيّق لا سيّما وأنّ هذه الأمور العلمية من شأنها أن ترتقي بالمستوى العلمي للطائفة الشيعية، لذا فهي لا تخلو من فائدةٍ.

إنّ مسألة إدراك واقع مسيرة مذهب التشيع والإيمان بأنّه طوى هذه المسيرة بكلّ رسوخ وطمأنينة، هي أمر في غاية الأهمية وبالتأكيد فإنّ الفكر الذي طرحه أئمّة المذهب المعصومون (عَلیهِمَ السَلامُ) هو المعيار الأساسي للمدرسة الجعفرية وليس ما طرحه تلامذتهم أو ما تمخّض عن الأحداث التأريخية.

***

ص: 196

الفصل الثالث : مسيرة بيان مفهوم الإمامة

اشارة

ص: 197

ص: 198

توطئة :

ذكرنا في الفصل السابق أنّ بعض الأحداث التأريخية قد ألقت بظلالها على عملية بيان تعاليم أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) من حيث الإجمال والتفصيل، ولكن هذه الأحداث لم تتسبّب بحدوث تعارض أساسيٍّ بين أيّ جانب من جوانبها الباطنية أو الخارجية.

أمّا الإمامة التي يرى أتباع مذهب أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) بأنّها أرفع درجةً من الخلافة السياسية، فهي واحدةً من الأصول الأساسية للتشيّع وقد طوت مسيرة الإجمال والتفصيل حالها حال سائر معتقدات الشيعة حيث تمّ بيان أسسها على ضوء الأحداث التأريخية طوال المراحل الزمنية الأربعة التي أشرنا إليها في بادئ البحث. ويمكن بيان أسس الإمامة ومختلف جوانبها في رحاب النصوص الدينية المنسجمة مع بعضها، فلو أمعنّا النظر في هذه النصوص المروية في مصادر الفريقين سنّة وشيعة نلاحظ وجود ثلاثة شروط أساسية يجب توفّرها في الإمام، وهي العلم والعصمة والتنصيب بنصٍّ.

ص: 199

النصوص الدالّة على الإمامة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أصناف يمكن ملاحظتها بوضوح فيما نقل ضمن مرويات المرحلة الأولى من المراحل الأربعة، وفي المراحل التالية أصبحت المصطلحات الدلّة على الإمامة مركّبةً مع بعضها فنشأت على أساسها منظومة منسجمة ونظرية متكاملة نلمس فيها طريقة البيان الإجمالي والتفصيلي بكلّ وضوح. وهذه الأصناف الثلاثة هي عبارة عن:

1)النصوص التي ذكرت الإمامة بشكل صريح في إطار لفظ واحد ولم تتضمّن أيّة تفاصيل أو تأكيد على ميزة معينة، ولكن في العهود اللاحقة استخدمت فى إطار ألفاظ عديدة ومفصّلة، وحديث (الغدير) المعروف «مَن كنت مولاه فعلي مولاه» هو أحد الأمثلة على هذا النوع من النصوص.

2)النصوص التي تضمّنت ألفاظاً عديدةً وتختلف عن النصوص المذكورة في الفقرة الأولى من حيث التصريح، لكنّها من حيث المضمون لا تختلف عنها، أي أنّنا نستنتج منها المقصود على أساس الدلالة الالتزامية والتلميحية؛ وآية التطهير التي تدّل على عصمة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) وحديث الثقلين المعروف هما من مصاديق هذه النصوص.

3 ) أنواع مختلفة من النصوص تحكي عن مكانة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) الرفيعة وضرورة وجودهم في المجتمع، ويمكن اعتبار هذا النوع من الروايات بأنّها روايات( الفضائل) مثل حديث (الطير) الشهير. رغم

ص: 200

أنّ هذه الروايات تدلّ بكلّ وضوح على فضائل الإمام علي بن أبي طالب وأهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ، ولكن تقييدها بهذه الخصوصية فقط هو في الحقيقة نابع من رؤية سطحية لا تدلّ على عمق معانيها، كما أنّنا لو نظرنا إليها نظرةً شاملةً لاستنتجنا منها نفس الأمر المشار إليه في الموردين الأوّل والثاني، ناهيك عن أنّ ضمّ هذه الموارد الثلاثة إلى بعضها البعض يثبت لنا أصل الموضوع، أي الإمامة.

وفيما يلي نبدأ بدراسة وتحليل مسيرة الإجمال نحو التفصيل لهذه الأصناف الثلاثة من الروايات على ضوء المراحل الزمنية الأربعة التي قسّمنا البحث على أساسها. وبما أنّ المصادر التي يعتمد عليها البحث واسعةً ومتشعّبة ونظراً لكون تناول جميع النصوص بالبحث والتحليل خارج عن نطاق الموضوع، لذا تمّ انتقاء بعض الآيات والروايات الشهيرة فقط من المصادر الأساسية.

أولاً : مرحلة وضع الأسس الفكرية، عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى نهاية فترة إمامة الإمام علي بن الحسين السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

توضیح:

رغم أنّ بيان موضوع الإمامة بشكل إجماليٍّ بدأ في باكورة البعثة النبوية المباركة في مكّة المكرّمة، ولكن كما ذكرنا في الفصل السابق فقد كانت هناك عدّة عوامل تسبّبت في بقاء هذا المفهوم على هيئته الإجمالية مدةً فاقت نصف قرن من الزمن، وبكلب تأكيدٍ فإنّ بيان

ص: 201

جميع جوانب هذا الأصل الهامّ بشكل تفصيليٍّ ومن جميع زواياه لا يكون ميسّراً إلا بمرور الزمان وتوفّر الظروف الملائمة. وقد شهدت الساحة الإسلامية العديد من الأحداث التأريخية التي أخّرت عملية التفصيل، وبما فيها عدم مواكبة هذه الأحداث لأهداف أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) السامية وعدم حصولهم على استحقاقهم الاجتماعي الذي خصّهم الله به والأزمات السياسية الخانقة التي شهدها المسلمون، فضلا عن المشاكل التي ألقت بظلالها على المجتمع الإسلامي إثر دخول مسلمين جدد في الصراع الدائر آنذاك وعدم توفّر روح السؤال والاستفسارلدى الكثير من أصحاب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

إذن، في الخطوة الأولى لا بدّ من بيان جميع التعاليم المتعلّقة بأصل موضوع الإمامة وتعيين مصداق محدّد لإثبات ميزاتها في المراحل اللاحقة، وذلك طبعاً لا يتمّ إلا في إطار بيان إجماليٍّ، وعلى هذا الأساس سيتمحور البحث حول ما روي عن خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة الأوائل حول معنى الإمامة بشكل إجماليٍّ وإثبات إمامة عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخلافته في نطاق مفهوم معنويٍّ بسيط يفقهه عامّة الناس دون الإطناب في التفاصيل.

حسب الأسباب التي ذكرناها في الفصل السابق فإنّ معظم المسلمين في هذه الفترة لم يفهموا واقع الإمامة فهماً صحيحاً ودقيقاً ما عدا بعض صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الخلّص الذين أدركوا حقيقتها وفهموها بدقّة، كسلمان الفارسي وأبي ذرّ الغفاري وجابر بن عبدالله

ص: 202

الأنصاري (1) ، فضلاً عن هؤلاء فقد أدرك هذه الحقيقة آخرون وفهموها فهماً تفصيلياً أيضاً كالخليفة ،الثاني، والنقاش الذي دار بينه وبين عبد الله بن عباس شاهد على ذلك، فبعد أن اعترض على اجتماع النبوّة والإمامة في بني هاشم احتجّ عليه ابن عباس وأثبت له وجوب اجتماعهما فيهم، ولكنّ هذا الكلام لم يصدر أبداً ممّن كان يحيط بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) آنذاك (2) .

إنّ وفرة النصوص في هذه الفترة يعود إلى العقد الأوّل والثاني من التأريخ الإسلامي إبّان حياة النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأمّا بالنسبة إلى عددها فلو صنّفناها طبق الاستعمال اللغوي والاصطلاحي- حسب المفردات - لوجدناها كثيرةً وجديرةً بالملاحظة، ومعظم هذه النصوص تتمثّل في أحاديث وخطب قصيرة واحتجاجات وتتضمّن بعض الألفاظ الدالّة على الإمامة دون ذكر تفاصيل حولها، ومثال ذلك خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عَلیها السَلامُ)، حيث قالت: «الله فيكم عهد قدّمه إليكم... ففرض الإيمان تطهيراً من الشرك والصلاة تنزيهاً عن الكبر والزكاة زيادةً في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص والحجّ تسنية للدين والعدل تسكيناً للقلوب والطاعة نظاماً للملّة والإمامة لمّاً من الفرقة» (3) . وفي

ص: 203


1- هناك أمثلة تدلّ على هذا الأمر في كتاب ( سليم بن قيس الهلالي)
2- الكامل في التأريخ، ج 3، ص 64
3- علل الشرائع، ج 1 ، ص 248

هذه الفترة تمّ بيان بعض اشتقاقات المصطلحات المستعملة بكثرة، كالخلافة والإمامة والولاية والإمارة والوصاية والوراثة في القرآن الكريم والروايات.

هذه النصوص إضافةً إلى نصوص أخرى في المستويين الثاني والثالث، كآية المباهلة (1) ، والمودة (2) ، والتطهير (3) ، وحديث الطير المشوي (4) ، والسفينة (5) ، والنجوم (6) ، ومدينة العلم (7) ، وإعطاء اللواء (8) وغيرها، قد كان لها دور فاعل في وضع أسس لمعنى عميق لكنّه بسيط في الحين ذاته (9) . وعلى الرغم من أنّ بعض هذه الموارد قد صرّحت

ص: 204


1- قال تعالى: ﴿ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنَا وَأَبْناءَكُمْ وَ نساءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهُ عَلَى الْكَاذِبِينَ) . سورة آل عمران / الآية 61
2- قال تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) . سورة الشورى الآية .23
3- قال تعالى: ﴿إِنَّما يريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) . سورة الأحزاب / الآية 33
4- تهذيب الكمال، ج 2، ص 496 - ج 18 ، ص 322 - ج21، ص 187
5- راجع: : الغيبة للنعماني، ص 44 ؛ المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 343؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 168 ( مع بعض الإضافات)؛ المعجم الكبير، ج 3، ص 46
6- راجع : الكافي، ج 1 ، ص 205 ؛ الجامع الصغير، ج 2، ص 161
7- سنن الترمذي، ج 5 ن ص 637 ؛ المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 126؛ البداية والنهاية، ج 7، ص 395
8- راجع: أمالي الصدوق، ص307
9- للاطلاع بشكل تفصيلي على هذه الموارد والمصطلحات التي وردت فيها، راجع: موسوعة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، ج 2

باسم الإمام عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، لكنّ العامل المشترك فيها جميعها هو أنّها تذكر ميزات وفضائل التي لا تتوفّر إلا في شخصية الإمام المعصوم.

أمثلة قرآنية :

من النماذج القرآنية المعروفة التي تتضمّن المصطلحات الدالّة على مفهوم الإمامة، هي آية الولاية (1) والإمامة (2) وأولى الأمر (3) ، ورغم أنّ هذه الآيات قد فُسّرت بالتناسب مع الوقائع والأحداث لكن في الفترات اللاحقة لم تذكر حول معانيها أيّة تفاصيل تمكّن المخاطبين من فهم معانيها، ناهيك عن عدم طرح أيّ سؤال حولها.

بالنسبة إلى نزول آية الولاية حينما تصدّق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بخاتمه وهو راكع، فعلماء الفريقين شيعةً وسنّة(4) متّفقون على أنّ النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد تلاها بعد نزولها دون أن يذكر أيّ توضيحٍ أو تفصيلٍ

ص: 205


1- قال تعالى: ﴿إِنَّما وَلِيكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ يَقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ). سورة المائدة / الآية 55
2- قال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيتي قالَ لا ينالُ عَهْدِى الظَّالمينَ) . سورة البقرة / الآية 124
3- قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ .( سورة النساء / الآية 59
4- راجع: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 7، ص81

حولها. ويقول المؤرّخون إنّ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عهد عثمان بن عفّان قد استند في بعض كلامه إلى شأن نزول هذه الآية وآيات أخرى بحضور بعض الصحابة دون أن يذكر تفاصيل حول ذلك، حيث اكتفى بما يفهمه المخاطب سياسياً منها، والمناسب ما فهم عموم الناس.

لو قارنا بين الاستناد إلى هذه الآيات خلال تلك الفترة وبين الاستناد إليها في عهد الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) لوجدنا أنّها انتقلت من مرحلة الإجمال إلى التفصيل، ففى المرحلة الثانية تمّ بيانها بشكل تفصيلي. على سبيل المثال فإنّ أوّل توضيحات حول آية أولى الأمر قد ذكرت في عهد الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَآ السَلامُ) قد تمحورت حول وجوب طاعة الإمام، حيث استند إليها الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عندما أجاب عن سؤال حول وجوب طاعة الأوصياء، فقد روي عن الحسين بن أبي العلاء قال : ذكرت لأبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) قولنا في الأوصياء أنّ طاعتهم مفترضةٌ، فقال: «نعم، هم الذين قال الله تعالى: (أطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا وَلِيكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُو ((1) .

وكذلك فإنّ إجابة الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن سؤال بريد العجلي واستناده إلى بعض هذه الآيات، نموذج على الانتقال من مرحلة

ص: 206


1- للاطلاع أكثر على بعض أقوال الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) التي تضمّنتمضامين إجمالية، راجع: أمالي المفيد، ص 214؛ الكافي، ج 1، ص 187

الإجمال إلى التفصيل، فقد روى الشيخ الكليني (رَحمهُ اللّه) في الكافي عن بريد العجلي أنه سأل أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فأجاب: «(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْت وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) يقولون لأئمّة الضلالة والدعاة إلى النار : هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلاً، (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا)، أم لهم نصيب من الملك - يعني الإمامة والخلافة – (فَإِذَا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقيرا)، نحن الناس الذين عنى الله، والنقير النقطة التي في وسط النواة (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِن فضلِهِ)، نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا )، يقول : جعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمّة، فكيف يقرّون به في آل إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وينكرونه في آل محمد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟!( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا )»(1) .

وأما بالنسبة إلى آية ،الإمامة، فإنّ أوّل الأسئلة التي طرحت

ص: 207


1- الكافي، ج 1، ص 206 . من الجدير بالذكر أنه هناك كلاماً أكثر تفصيلاً وجهه الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أبي خالد الكابلي. راجع: أمالي الصدوق، ج 1، ص319

حول معنى قوله تعالى: ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظالمين) كانت في عهد الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) (1) فقد روى العياشي في تفسيره ما يلي: عن حريز عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فى قول الله: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالمين ) أي لا يكون إماماً ظالماً » (2) .

وفي عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هناك روايةٌ واحدةٌ تشير إلى تفسير هذه الآية بالتفصيل، حيث روى عبدالله بن مسعود عن النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قوله: «أنا دعوة أبي إبراهيم»، إلى أن قال: «فانتهت الدعوة إلي و إلىّ أخي عليّ، لم يسجد أحد منّا لصنم قطُّ، فاتّخذني الله نبياً وعليّاً وصيّاً »(3) .

أمثلة روائية:

أولاً: الخلافة:

الخلافة هي من المواضيع التي طرحت في بادئ الدعوة العلنية من البعثة النبويّة، ففي السنة الثالثة للبعثة عندما صدع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بدعوته معلناً الإسلام ديناً، أمره الله تعالى بأن يبلغ بعض مقرّبيه بأمر جديد عليهم له صلة باستمرار النبوّة (4) ، لذلك جمع ثلاثين شخصاً

ص: 208


1- الكافي، ج 1، ص 175
2- تفسير العياشي، ج 1، ص 58
3- أمالي الطوسي، ص378
4- قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» . سورة الشعراء / الآية 214

تقريباً من عشيرته وأخبرهم بأنّ من يؤازره في نشر رسالته سيكون أخاه ووصيه وخليفته من بعده، وقد عرفت هذه الواقعة ب- ) يوم صلى الإنذار) (1) ، فقد روى المؤرّخون عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قوله لقومه حينما جمعهم: «أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم من بعدي؟!» (2) .

لو تأمّلنا في الظروف السائدة عند إقامة هذا الاجتماع لأدركنا أنّ الظروف لم تكن مؤاتيةً لبيان جميع زوايا التعاليم والمعتقدات الإسلامية الجديدة وتفصيلها بالكامل، ولا سيما ما يتعلّق بالوصاية والخلافة، لذلك اكتفى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بطرحهما بالمعنى العرفي مراعياً الفهم العام ولم يتجاوز هذا الإطار (3) .

ص: 209


1- راجع : الطبقات الكبرى، ج 1، ص187؛ تأريخ مدينة دمشق، ج 42، ص 46؛ الكامل في التأريخ ، ج 2، ص 63؛ مناقب آل أبي طالب، ج 1، ص 306
2- هذا الحديث قد ورد في الكثير من مصادر التأريخ وبألفاظ مختلفة (أخ، وصي، خليفة) فبعضها تضمّن هذه الألفاظ الثلاثة وبعضها تضمّن اثنين منها، وبعضها ما لم يتجاوز اللفظ الواحد، إلا أنّها تتّفق على أنّ الاجتماع الأوّل لم يحقق نتيجةً لأنّ الحاضرين تركوه وانفضّوا عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لذلك جمعهم مرّةً أخرى وسألهم ثلاث مرّاتٍ عمّن يؤدّي الرسالة معه ولكن لم يؤيّده سوى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهذه الواقعة تدلّ بوضوح على أهمية هذا الأمر
3- راجع: البرهان في تفسير القرآن، ج 4 ، ص 412 . تجدر الإشارة إلى أنّ بعض الروايات اعتبرت المؤاخاة بأنّها من موجبات استحقاق الإرث والوصاية، لذلك فإنّ الثقافة السائدة حينذاك كانت تتفاعل مع ما أعلنه النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، إذ من المحتمل أن يكون صلوات الله عليه قد استغلّ هذه الأجواء لنشر رسالته وتعيين خليفته

وبعد أن انتهى الاجتماع وتمّ تعيين الإمام علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أخاً ووصياً وخليفة للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سخر البعص من أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنّ ابنه نال هذه المرتبة وأصبح إماماً له، لأنّ هذا الأمر لم يكن منسجماً مع

العرف القبلي الذي كان سائداً آنذاك (1) .

وبعد هذه الواقعة استخدم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كلمة (خليفة) في مواطن عديدة، كالليلة التي وفد فيها الجنّ(2) وليلة غزوة تبوك (3) وحديث المنزلة وحديث الخلفاء الاثني عشر(4) وحديث الثقلين (في أحد نصوصه) (5) ، لكنّه لم يذكر تفاصيل حول معناها، بل ذكرها في إطار معناها الإجمالي، وفي حديث الثقلين كرّر هذه العبارة: «أُذَكِّرُكُمْ

ص: 210


1- حسب ما ورد في هذه الروايات، هناك احتمال كبير بأنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأبا طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانوا على علم بالتقدير الإلهي قبل انعقاد المجلس لأن أبا طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) أجاب عمّن سخر به كونه أصبح تحت إمرة ابنه قائلاً بأنّ ولده عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) سوف لا يقصّر في إعانة نبي الرحمة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما أخبرهم بأنّ هذا المنصب هو من الله ولا يعيّن من يتولاه سواه عزّ وجلّ. إذن، يبدو أنّ هذا الاجتماع قد عقد لإتمام الحجة على المقرّبين، فقد روى المؤرّخون ما يلي: «وَسَكَتَ الْقَوْمُ ثُمَّ قَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ أَلَا تَرَى ابْنَكَ؟ قَالَ : دَعُوهُ فَلَنْ يَأْلُوَ ابْنَ عَمِّهِ خَيْرًا
2- راجع: تأريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 72
3- راجع: الاصابة في تمييز الصحابة، ج 4، ص 467
4- ذكر العلامة المجلسي حول هذا الأمر أحاديث عديدة وبطرق مختلفة وبما فيها ما روي في صحيح مسلم. راجع: بحار الأنوار، ج 36، ص 267
5- راجع: الكافي، ج 1، ص293؛ تأريخ مدينة دمشق، ج19، ص258؛ الطبقات الكبرى، ج 2، ص 194

اللهَ في أهلِ بيتي» (1) ثلاث مرّات.

أما بالنسبة إلى رواية الخلفاء الاثني عشر، فإنّ معظم نصوصها المروية عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تتضمّن إشارةً إلى أنّهم قريشيون دون التلميح إلى أمرٍ آخر، بينما الروايات التي تناقلتها مصادر الشيعة وبعض المصادر الأخرى في هذا الصدد قد اشتملت على وصف الخلفاء الاثني عشر أو أنها تضمّنت أسمائهم، ولكن أكثر هذه الروايات قد نقلت عن النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على لسان الأئمّة المتأخّرين، وهذا الأمر إنّما يدلّ على خصوصية هذا الأمر وعدم شموله لغير من تضمّنتهم الرواية. لذلك نلاحظ أنّ بعض الروايات إضافةً إلى تأكيدها على أنّ الخلفاء بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اثنا عشر خليفةً، كذلك ذكرت أسماء بعضهم - ثلاثة أو أربعة - وأشارت إلى الآخرين بلفظ «من ولد الحسين» أو لفظ «كلّهم من قريش» (2) ، وبالنسبة إلى عددهم فقد تضمّنت بعض الروايات أنّهم بعدد نقباء بني إسرائيل(3) .

هذا الإجمال يوحي بأنّ معرفة أسماء الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) لم تكن من التعاليم العامّة، ناهيك عن أنّ فهمها بعمقٍ أكثر لم يكن ممكناً للناس في

ص: 211


1- إمتاع الأسماع بما للنبيّ من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، ج 5، ص 376؛ إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، ج 9، ص391
2- راجع: كمال الدين وتمام النعمة، ص 261 و 263 و 270؛ الغيبة للنعماني، ص76و 86 و 97؛ تهذيب الكمال، ج 3، ص 224 ؛ الكامل في التأريخ، ج 2، ص 386
3- راجع: مسند أحمد، ج 1، ص 398؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 5، ص 10 – 19

تلك الآونة (1) . يقول الشيخ الصدوق (رَحمةُ اللّه) حول هذا الإجمال إنّ علماء الشيعة قد بذلوا قصارى جهودهم لتدوين هذه الأحاديث وكذلك لا يمكن ادّعاء أنّ جميع الشيعة وحتّى بعض الخواصّ كانوا على علم بأسماء الأئمّة (2) . وكما يبدو فإنّ غاية ما يمكن استنتاجه من هكذا موارد بالنسبة إلى مفهوم الخلافة هو الاستخلاف السياسي، ويؤيّد ذلك ما جرى من نقاش بين النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبني عامر بن صعصعة عندما اشترطوا في مؤازرتهم له أن يمنحهم خلافته، فقد نقل المؤرّخون ما يلي: «فقال قائل منهم إن اتّبعناك وصدّقناك فنصرك الله ثمّ أظهركّ الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) فقالوا : أفتُهدَف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟! لا حاجة لنا بأمرك» (3) .

ثانياً: الولاية :

هناك العديد من الروايات التي وردت فيها كلمة (وليّ) على

ص: 212


1- راجع: بحار الأنوار ، ج 24 ، ص 88؛ غيبة النعماني، ص 53. تجدر الإشارة إلى أنّ الرواية التي ذكرت في هذا الكتاب يعود تأريخها إلى عهد الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، ولكن مع ذلك فإنّ الإمام لم يخبر الناس بمن سيخلفه
2- معاني الأخبار، ج 1، ص 75
3- الإصابة في تمييز الصحابة ، ج 1، ص 52 ؛ تاریخ الاسلام ، ج 1، ص 286؛ الثقات لابن حبان، ج 1، ص 89

لسان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهي أيضاً كانت في سياق الإجمال، ومنها: «أنتَ وليّ كلّ مؤمن بعدي» (1) ، «هو وليّ كلّ مؤمنٍ بعدي» (2) ، «هو أولى الناس بكم بعدي» (3) . وأبرز موقف ذكر فيه هذا اللفظ هو يوم غدير خُم حيث نقلت مصادر الفريقين شيعةً وسنّةً خطبته الهامّة في ذلك اليوم تحت عنوان (حديث الغدير ) (4) . ففي السنة العاشرة للهجرة وعند عودته من حجّة الوداع، جمع عدداً كبيراً من المسلمين العائدين من حجّ بيت الله الحرام وكان معظمهم قد دخلوا الإسلام حديثاً، ليبلغهم أمراً عظيماً ومصيريّاً، فوضح لهم الأمر بأسلوبٍ يختلف عمّا مضى (5) ،

213

ص: 213


1- البداية والنهاية، ج 7، ص 346
2- فضائل الصحابة ، ج 2، ص 649
3- هذا الحديث روي عن النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبل ثلاثة أشهر من رحيله، حيث أكد صلوات الله عليه فيه على موقفه الثابت في رفض سلوك بعض المسلمين الخاطئ في معارضتهم للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) . وقد استند الأئمة المعصومون (عَلیهِمَ السَلامُ) إلى هذا الحديث في العهود المتأخرة، وبالطبع فقد روي كاملاً أحياناً واستشهد بجزء منه فقط أحياناً أخرى، وفي بعض الأحيان لم تذكر الظروف التي صدر فيها، كما لم يروَ نصّه كاملاً في بعض المرويات، فيما نقل في بعض المصادر بألفاظ مشابهة وأكثر صراحةً كما ورد في مجمع الفوائد للهيثمي. للاطلاع أكثر راجع: مجمع الفوائد ومنبع الزوائد، ج9، ص109
4- للاطلاع على نصّ الحديث، راجع: السنن الكبرى، ج 5، ص132؛ مسند أبي داود الطيالسي ، ص 111 ، المصنف، ج 7، ص 504
5- هناك احتمال كبير بأنّ ما دعا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّ يتّبع هذا الأسلوب الحازم في خطابه يوم الغدير هو الضغوط التي كان المنافقون يمارسونها وبما في ذلك خطّتهم الشيطانية لاغتياله راجع: البرهان في تفسير القرآن، ج 4 ، ص 884

وحتّى إنّ آية الإبلاغ قد نزلت بعد هذه الواقعة (1).

استخدام لفظ (ولي) في حديث الغدير وعدم ذكر توضيح حوله قد أدّى إلى احتدام النقاش حول معناه، ويتزايد هذا النقاش إن لم نأخذ بعين الاعتبار الظروف التي ذكر فيها؛ ولكن رغم ذلك تمسّك به الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عَلیهِمَ السَلامُ) وسائر الأئمّة ليثبتوا أنّه صدر في مقام تنصيب الخليفة للمسلمين، وفي العصور المتأخّرة اعتمد الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) على دلالاته العميقة في استدلالاتهم السياسية. وقد رُوي عن سُليم بن قيس الهلالي ما يلي: «فلمّا كان قبل موت معاوية بسنة، حجّ الحسين بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعبد بن عباس وعبد الله بن جعفر معه، فجمع الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بني هاشم، رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم من حجّ منهم، ومن الأنصار ممّن يعرفه الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأهل

ص: 214


1- لقد ورد حديث الغدير في الكثير من مصادر الفريقين شيعةً وسنّةً، وبعض هذه المصادر ذكرته متواتراً من طرق عديدة على لسان رواة مختلفين بشكلٍ يزيل كلّ شكٍّ في عدم صحّته ويثبت تواتره بالدليل القاطع. أمّا بالنسبة إلى المكان الذي جمع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المسلمين فيه فهو غدير خُم الواقع في الطريق بين مكة والمدينة، وهناك بعض المصادر قد أشارت إلى أنّه في الطريق إلى مكّة ولم تشر إلى غدير خم واجتماع الناس هناك، لذلك من الممكن أن يكون هذا الحديث قد صدر عنه صلوات الله عليه مراراً ولبعض المسلمين فقط أو أنّه ذكره لبعض الطبقات من الصحابة فقط، أو ربّما يكون قد ذكره في نفس مسيره هذا أكثر من مرّة؛ وبالطبع مهما كان الأمر فإنّه ينمّ عن مدى أهمية الموضوع. للاطلاع أكثر ، راجع: الغدير، ج 1، ص 152؛ كذلك فإنّ مسند أحمد بن حنبل يتضمّن العديد من هذه الروايات

بيته، ثمّ أرسل رسلاً: (لا تدعوا أحداً ممّن حجّ العام من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المعروفين بالصلاح والنُّسك إلا اجمعوهم لي). فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجلٍ وهم في سرادقه، عامّتهم من التابعين ونحو من مائتي رجلٍ من أصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وغيرهم. فقام فيهم الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: (أما بعد، فإنّ هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنّي أريد أن أسألكم عن شيءٍ، فإن صدّقت فصدّقوني وإن كذبت فكذّبوني، أسألكم بحقّ الله عليكم وحقّ رسول الله وحقّ قرابتي من نبيكم)، إلى أن قال: (أنشدكم الله أتعلمون أنّ علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حين آخى بين أصحابه، فآخي بينه وبين نفسه وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة)؟ قالوا: اللهم نعم» (1) . قال : أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نصبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال: ليبلّغ الشاهد الغائب؟ قالوا: اللهم نعم ...

ثالثاً: الإمامة والعلم :

فضلاً عمّا قيل حول آية الإمامة، هناك أحاديث مشهورة حول علم الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) ، وبما فيها الحديث النبويّ المعروف (مدينة العلم)

ص: 215


1- كتاب سليم بن قيس، ص789

وكلام الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) حول معرفته بالقرآن الكريم (1) وخطبة الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد شهادة أبيه (2) ، والكثير من الموارد الأخرى التي تدلّ على علم الأئمّة الواسع ببيانٍ إجماليٍّ.

ومع كلّ ذلك فإن الظروف كانت صعبةً ولم تكن مؤاتية لطرح هذا الموضوع لدرجة أنّ الناس لم يتفاعلوا مع الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) حينما طلب منهم أن يسألوه عمّا لا يعلمون، فقال: «سلوني قبل أن تفقدوني»، لذلك لم يجد أذناً

صاغية.

وقد ورد لفظ (إمام) في أحاديث عديدةٍ بإطار عباراتٍ قصيرةٍ، منها: «عليٌّ إمام كلّ مؤمن بعدي» (3)، «...إمام أمتي بعدي» (4)، «مرحباً بسيد المسلمين وإمام المتقين» (5)، «... والطاعة نظاماً للملّة والإمامة أمناً من الفرقة» (6) .

ص: 216


1- أخرج الحفّاظ عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمتُ فيم نزلت وعلى من نزلت، إنَّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً». الغدير، ج 2، ص 80
2- رُوي عن الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله: «لقد فارقكم رجلٌ بالأمس لم يسبقه الأوّلون بعلم ولا يدركه الآخرون. البداية والنهاية، ج 7، ص332
3- معاني الأخبار، ص 67
4- الأمالي الصدوق، ص 212
5- اليقين، ج 1، ص 349
6- نقلت هذه الروايات في عباراتٍ عديدةٍ، منها: «... الْأَمَانَةَ نِظَاماً لِلْأُمَّةِ وَالطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلْإِمَامَةِ ». نهج البلاغه، ص 512 ؛ شرح نهج البلاغه، ج 19، ص 86؛ علل الشرائع، ج 1 ، ص 248
رابعاً: الوراثة والوصاية :

إنّ النصوص التي تتضمّن لفظي (الوصاية) و(الوراثة) تحظى بأهميةٍ لسببين، هما:

الأوّل : أكّد عليهما رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) طوال بعثته التي دامت (23) عاماً مراراً وفي مناسبات شتّى.

الثاني: الأسئلة الكثيرة التي تطرح حول كلّ ما ينضوي تحتهما.

مشتقّات مادّة (و - ص - ى) ذكرت في كتاب الله المجيد ثماني عشرة مرّةً حيث دلّت ستّ عشرة منها على مسائل مادّية وموردان منها فقط أشارا إلى إقامة الدين بصفته موضوعٍ للوصية (1) .

وأمّا مشتقّات مادّة (و - ر - ث) فقد ذكرت 34 مرّة في إطار ثلاثة مواضيع، هي وراثة المال والأرض والكتاب، مثلاً قال تعالى حول وراثة الكتاب: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتابَ الَّذِينَ اصْطَفَينا مِن عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله) (2) ، وقد فسّر الإمام محمد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما يلي: «السابق بالخيرات: الإمام، والمقتصد : العارف للإمام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الإمام» (3) .

ص: 217


1- قال تعالى: ﴿شرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْراهيمَ وَمُوسى وَعيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فيه) . سورة الشورى / الآية 13
2- سورة فاطر / الآية .32
3- الكافي، ج 1، ص 214

وهناك أحاديث عديدة تضمّنت مشتقّات هاتين الكلمتين رويت عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، منها قوله: «لكل نبيٍّ وصيٌّ ووارثٌ، وإنّ علياً وصييّ ووارثي» (1) ، وحديث المؤاخاة؛ (2) إضافةً إلى ما رُوي عن أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ومن ذلك ما قاله الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن نفسه: «أنا وصيّ الأوصياء» (3) ، وما قاله عن أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) : « فيهم الوصية والوراثة» (4) ، وكذلك كلام الإمام الحسن علي(عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد شهادة الإمام علي(عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أنا ابن النبيّ وأن ابن الوصيّ» (5) ، وخطبة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في يوم عاشوراء: «ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه؟!» (6) ، والعشرات من الأحاديث المباركة الأخرى التي تضمّنت اطلاق مشتقات كلمتي الوراثة والوصاية بشكل إجماليٍّ .

خامساً: العصمة :

ذكرنا آنفاً أنّ آية العصمة التي نزلت بشأن أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) تدلّ على المضامين العميقة للمعارف النبوية، ولكن التصريح بعمق هذه

ص: 218


1- تأريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 392
2- المصدر السابق، ج 21، ص 415
3- أمالي الطوسي، ص 148
4- نهج البلاغة، الخطبة رقم2
5- المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 17؛ مجمع الفوائد ومنبع الزوائد، ج 9، ص 146
6- دلائل الإمامة، ج 5 ، ص 424

المعارف هو أمرٌ يفوق الإدراك العامّ، لذلك استخدم النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) ألفاظاً عديدةً وفى إطار مضامين مختلفة للإشارة إليها، أو أنّهم ذكروا بعض الأمثلة عليها لتمكين الناس من إدراك مفهومها الدقيق (1) . فهناك الكثير من الأحاديث المروية عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تدلّ على هذا الأمر، كقوله: «إنّه مع الحقّ والحقّ معه» (2) ، وقوله: «رحم عليّاً، اللهم أدِر الحقّ معه حيث دار» (3) ، ناهيك عن الأحاديث الكثيرة الأخرى المنقولة عن الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) والتي تضمّنت استدلالات ومعاني على هذا الصعيد، وكلّها تدلّ على أنّ هذا المضمون القدسي العميق قد تمّ بيانه في سياقٍ تدريجيٍّ.

على سبيل المثال، فقد عرّف الإمام الحسن الزكيّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أهل بيت العصمة قائلاً: «إنّا أهل بيتٍ أكرمنا الله بالإسلام واختارنا واصطفانا وأذهب عنّا الرجس وطهّرنا تطهيراً» (4) ، وأمّا الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقد وصف المكانة الرفيعة لأهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) بالقول: «رَبِّ صَلِّ عَلَى أَطَايبِ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ لأَمْرِكَ،... وطَهَّرْتَهُمْ مِنَ الرِّجْسِ وَالدَّنَسِ تَطْهِيراً بإرَادَتِكَ وجَعَلْتَهُمُ الْوَسِيلَةَ إِلَيكَ والمَسْلَكَ

ص: 219


1- لا شكّ في أنّ المعنى اللغوي لكلمة (عصمة) ومشتقّاتها قد وردت قبل ظهور الإسلام في كلام العرب والشعر الجاهلي. للاطّلاع أكثر راجع: كتاب العين، ج 1، ص313
2- كشف الغمة، ج 1 ، ص 147
3- المصدر السابق
4- كتاب سليم بن قيس ، ص 631 ؛الامالى، الطوسي، ص 569

إلَى جَنَّتَكَ» (1) . وهناك موارد أخرى سوف نتطرّق إلى ذكرها في تفاصيل عهد الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ)

ثانياً: مرحلة نشأة المعارف وازدهارها. عهد إمامة الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق المال إلى سنة 145 ه- :

توضیح:

ذكرنا في الفصل السابق أنّ نشاطات أئمّة الشيعة في مجال نشر والمعارف قد تزايدت في هذه الفترة، وقد واجه الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) حينها أمرين، هما:

الأوّل: الظروف الحاكمة على المجتمع في العهد السابق قد نجم عنها أنّ معرفة الشيعة بالأحكام والمعتقدات وبالمكانة المعرفية التى خصّ الله بها الإمام المعصوم، قد بقيت محدودةً في إطارها الإجمالي.

الثاني: بعد تزعزع أركان حكومة بني أمية وتزايد النشاطات السياسية من قبل الأطراف المناهضة، فإنّ الرغبة للسيطرة على مقاليد الحكم كانت تتنامى شيئاً فشيئاً لدى المسلمين ولا سيّما الشيعة منهم، وإثر هذه التغييرات فمن الطبيعي أن يترقّب الناس تدخّل الأئمّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الأحداث السياسية بعد عدم تحقيق نتيجة على هذا الصعيد قبل ذلك، وجميع الحركات المناهضة للحكم الأموي رفعت شعار الثأر لآل

ص: 220


1- الصحيفة السجادية، ص 216

محمّد، والهدف من ذلك طبعاً هو الاستئثار بمنصب الخلافة.

هذه الأوضاع إضافةً إلى الجهل الذي ورثه المسلمون من العهد السابق وعدم معرفتهم بالمكانة الحقيقة للإمام وواجبه الديني الملقى على عاتقه، قد تمخّض عنها حدوث انشقاق في الصفّ الشيعي؛ ولكنّها سرعان ما تهمّشت بفضل الرؤية الثاقبة للأحداث من قبل الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) ونجاحهما في بيان تعاليم الشريعة وتربية علماء فطاحل من محبّي أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ). لقد استغلّ الإمامان الظروف المتاحة لهما وانسجام جميع العناصر التأريخية المؤثّرة حينذاك فتمكّنا من السير قدُماً في بيان فكر الإمامة وجميع جوانب منظومتها المعرفية الثرية، وهذا الأمر شهد تنامياً أكثر في عهد الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) .

بذل الإمامان جهوداً جبّارةً لطرح الإمامة بين المسلمين وفق أسسها الصحيحة وإثبات أنّها تتمحور في حقيقتها حول معنى النيابة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مسائل واسعة النطاق تتعدّى حدود السلطة السياسية، كما أنّهما شرحا ووضّحا النصوص الدينية التي وصلتهم من العهد السابق والتي تضمّنت الأصول الأساسية للإسلام وقاموا بتفصيلها عن طريق الرواة الذين امتلكوا روح السؤال والاستفسار، وبالتالي تمكّنوا من نشرها في المدينة المنوّرة والكوفة وحلب وسائر المناطق، فعلى سبيل المثال يقول هشام بن الحكم أنّه سمع من الإمام خمسمائة مسألة خلافية في منى فقط. وهناك الكثير من الروايات التي تتضمن

ص: 221

بيان المعارف في الأوساط العامّة والخاصّة وعبر المناظرات ووقائع أسفار الحجّ (1) ، ومنها ما روي عن أبي بصير، إذ قال: «دخلت على أبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقلت له: جعلت فداك، إنّي أسألك عن مسألة، ههنا حد يسمع كلامي ؟ قال فرفع أبو عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) ستراً بينه وبين بيت آخر فاطّلع فيه، ثم قال: (يا أبا محمّد سَلْ عما بدا لك)، قال: قلت: جعلتُ فداك، إنّ شيعتك يتحدّثون أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علّم عليّا (عَلَيهِ السَّلَامُ) باباً يُفتح له منه ألف بابٍ؟ قال: فقال: (يا أبا محمّد، علّم رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) ألف باب يُفتح من كل باب ألف باب)، قال: قلت: هذا والله العلم! قال: فنكت ساعة في الأرض، ثمّ قال: (إنّه لعلمٌ، وما هو بذاك). قال: ثمّ قال: (يا أبا محمّد، وإنّ عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟! ) قال : قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: (صحيفةٌ طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإملائه من فلق فيه وخطّ عليٍّ بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه...)» (2) .

إنّ فحوى الأحاديث المروية حول الإمامة في هذه الفترة تفيد بأنّها موهبة سماوية أكرم الله تعالىأهل البيت (عَلیهِمَ

السَلامُ) بها، حيث تنتقل من الإمام السابق إلى اللاحق بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وذلك بأمرٍ

ص: 222


1- الكافي، ج 1، ص 239
2- رجال الكشي، ص 176 ؛ أصول الكافي، ج 1 ، ص 345

من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) استناداً إلى نصٍّ لا يمكن إنكاره. وتؤكّد هذه الأحاديث على أنّ الإمام المعصوم يمتلك علماً يفوق علم سائر الناس، بل وحتّى إنّه يفوق علم الأنبياء، وهو علمٌ ربّانيٌّ ينتقل من إمام لآخر بطريق شبيه بالوراثة، لذا فإنّ الإمام يحظى بمنزلة رفيعة تنزّهه من كلّ خطأ أو ذنبٍ. على هذا الأساس، فإنّ الإمام المنصّب من قبل الله تعالى لا يلزمه القيام على الظلم بعد تنصيبه مباشرةً لينال حقّه الشرعى المتجسّد في سياسة العباد، وهو حقٌّ فرضه الله العزيز القدير له، لأنّه زعيمٌ روحيٌّ لا يرد الساحة السياسية إلا عندما يصل المجتمع إلى مرحلة النضوج السياسي ويعرف حقّ الإمام المعصوم ويطالب بإقامة حكومةٍ إسلاميةٍ تحت رايته.

وفيما يلي نتطرّق إلى بعض البحوث التي تطرح حول الإمامة للبحث والنقاش:

النص والتنصيب :

لقد زعم محمّد بن الحنفية بأنّ الإمامة من بعد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا له وليست للإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، حيث أقرّ فقط بأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد أوكله إلى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والحسنين (عَلیهِمَا السَلامُ) من بعده (1) ، وكذلك فإنّ عامّة أهل المدينة قد بايعوا الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) كخليفةٍ من منطلق اعتقادهم

ص: 223


1- بصائر الدرجات، ص 502 ؛ الكافي، ج 1 ، ص 348

بأنّه الوصيّ ولم يبايعوه كإمامٍ وحجّة لله على خلقه؛ (1) وهذه العقيدة قد شاعت في عهد الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً الذي حدّد معيار معرفة الإمام في الرواية التالية التي نقلها أبو الجارود ، حيث قال : « قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إذا مضى الإمام القائم من أهل البيت، فبأيّ شيء يُعرف من يجيء بعده؟ قال: (بالهدى والإطراق وإقرار آل محمّدٍ له بالفضل، ولا يُسأل عن شيء بين صدفيها إلا أجاب)» (2) ، وفي رواية أخرى عن أبي الجارود أيضاً يذكر الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) تفاصيل أكثر، كالتالي: « سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): بم يعرف الإمام؟ قال: (بخصالٍ، أوّلها: نصٌّ من الله تبارك وتعالى عليه ونصبه علَماً للناس حتّى يكون عليهم حجّة، لأنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نصب عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعرّفه الناس باسمه وعينه، وكذلك الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) ينصب الأوّل الثاني، وأن يسأل فيجيب وأن يُسكت عنه فيبتدئ، ويُخبر الناس بما يكون في غدٍ، ويكلّم الناس بكلّ لسانٍ ولغةٍ) »(3) .

أبّان بن تغلب ومنصور بن حازم وبعض الرواة الآخرون قد رووا نفس هذا المضمون عن الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ)، فقد استدلا بآيات( أولي الأمر) وواقعة الغدير لإثبات أنّ الإمام المعصوم هو

ص: 224


1- ترجمة الإمام الحسن، ص 74؛ دلائل الإمامة، ج 5، ص 158
2- الغيبة للنعماني، ص 129 ؛ الخصال للصدوق، ج 1، ص 200
3- معاني الأخبار، ص 101

وصيّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأنّه منصّب من قبل الله تعالى وطاعته واجبةٌ (1) .

ويذكر المؤرّخون أنّ هشام بن عبد الملك ومقرّبيه كانوا يخشون من رواج هذه العقيدة وانتشارها بين المسلمين (2) ، كما أنّ ترصّد المنصور الدوانيقي لمعرفة وصيّ الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) شاهدٌ على انتشار هذه العقيدة في المجتمع الإسلامي آنذاك (3) .

العلم :

كما وضّحنا سابقاً فإنّ نشر بعض العلوم والمعارف قد انتعش في عهد الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد أن أصبحت الظروف مؤاتية إلى حدٍّ ما، وقد أكّد صلوات الله عليه على أنّ العلم مكنونٌ لدى أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) (4) وأنّهم خزنته (5) .

وعلى هذا الأساس اعتبر الإمامان الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) العلم

ص: 225


1- الكافي، ج 1، ص 178
2- إمتاع الأسماع بما للنبيّ من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، ج 11، ص181
3- الكافي، ج 1، ص310
4- رُوي عنه أنّه قال: « إِياكَ أَنْ تَشُدَّ رَاحِلَةً تَرْحَلُهَا فَإِنَّا هَاهُنَا يَطْلَبُ العِلمُ». رجال الكشي، ص 124
5- رُوي عنه أنه قال: «إِنَّ مِنَّا لَخُزّان الله في سَمَائِهِ وَخُزَانَهُ فِي أَرْضِهِ واللَّهِ إِنا خَزّان الله في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه» . بصائر الدرجات، ص 104

بكلّ أمرٍ شرطاً للإمامة (1) وأكّدا على أنّ الإمام المعصوم يرث العلم من الإمام الذي سبقه، فقد رُوي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله: «إن العلم الذي هبط مع آدم لم يرفع وإنّ العلم يُتوارث، وما يموت منّا عالمٌ حتى يخلفه من أهله من يعلم علمه أو ما شاء الله» (2) .

في عهد الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) اتّسع نطاق مفهوم (العلم) عبر بيان مصطلح (مدينة العلم) وخرج من إطار الإجمال والكلّية ولم يعد مقتصراً على الخواصّ من الناس، فقد روى بكير بن أعين عن سالم بن أبی حفصة أنّه قال: « سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يقول: (إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علّم عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) ألف بابٍ يفتح كلُّ بابٍ ألفَ بابٍ)، فانطلق أصحابنا فسألوا أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذلك فإذا سالم قد صدق. قال بكير: وحدثني من سمع أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يحدّث بهذا الحديث، ثمّ قال : (ولم يخرج إلى الناس من تلك الأبواب غير بابٍ أو اثنين)، وأكثر علمي أنه قال: (باب (واحد)» (3) .

وقال صلوات الله عليه في موضعٍ آخر واصفاً علم أهل

ص: 226


1- الكافي، ج 1 ، ص 284؛ بصائر الدرجات، ص 489 . رُوي عن أبي الجارود قال: « سألت أبا جعفر الباقر (ع) : بم يعرف الإمام؟ قال: (بخصالٍ... وأن يُسأل فيجيب وأن يسكت عنه فيبتدئ، ويخبر النّاس بما يكون في غدٍ ويكلّم النّاس بكلّ لسانٍ ولغة)»
2- بصائر الدرجات، ص 115
3- الخصال، ج 2، ص 644

البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي ورثوه من النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «سئل عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن

علم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقال : علم النبيّ علم جميع النبيين وعلم ما كان وعلم ما هو كائنٌ إلى قيام الساعة. ثمّ قال: والذي نفسي بيده إنّي لأعلم علم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلم ما كان وما هو كائنٌ، فما بيني وبين قيام الساعة» (1) .

وفي رواية أخرى أكثر وضوحاً روى عليّ بن رئاب عن ضريس قوله: « سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول وأناس من أصحابه حوله: (إنّي أعجب من قوم يتولّوننا ويجعلوننا أئمّةً ويصفون بأنّ طاعتنا عليهم مفترضةً كطاعة الله، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقضون حقّنا ويعيبون ذلك علينا من أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا والتسليم لأمرنا. أترون أنّ الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثمّ يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يرد عليهم ممّا فيه قوام دينهم) » (2) .

إنّ أخباراً كهذه تبيّن بوضوحٍ أنّ مسألة علم الإمام قد طرحت بين الشيعة فى تلك الآونة، وهذه الحقيقة يثبتها قوله صلوات الله عليه: «يعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا». وقد بلغت هذه

ص: 227


1- بصائر الدرجات، ص 307
2- المصدر السابق

التوضيحات ذروتها في عهد الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث تمّ بيان مصادر علم الإمام العميق وأُسسه في الفروع المعرفية التالية:

أولاً: العلم الإلهي المباشر.

ثانياً: العلم المكتسب من النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

ثالثاً: العلم المستوحى من الروح والملائكة.

وهناك فروعٌ أخرى لعلم أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) ، منها ما يلي: روح القدس، الجامعة، مصحف فاطمة (عَلَيها السَّلَامُ) ، صحف الأنبياء وكتبهم، عمود النور، الألف باب، تحديث الملائكة ،القرآن، الاسم الأعظم، الجفر الأحمر، الجفر الأبيض، الجفر الأصغر، الجفر الأكبر. وقد ذكرت هذ الفروع أحياناً تحت مسمّيات أخرى وتفرّعت بعضها إلى تفريعات جزئيةٍ أو جمعت بعضها في إطار عنوان واحدٍ، ورغم أنّ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بادئ الأمر قد وضّح هذه الموارد للخواصّ من الشيعة ولكن هناك العديد من الروايات والنصوص التي تدلّ على عدم كونها سرّيةً وأنّها قد ذكرت لعامّة الناس الذين تقبّلوها بدورهم؛ فعلى سبيل المثال في أحد المجالس التي تحدّث فيها الإمام عن هذا الأمر كان عدد الحاضرين ستّين شخصاً (1).

ومن الأمثلة التي تجدر الإشارة إليها هنا، ما رواه أبو حمزة

ص: 228


1- بصائر الدرجات، ص 151

الثمالي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، حيث قال: «سألت أبا عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن العلم أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟ قال: (الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحَاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الْكِتابُ ولا الإيمان) ، ثمّ قال: (أيّ شيءٍ يقول أصحابكم في هذه الآية، أيقرّون أنّه كان في حالٍ لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟) فقلت: لا أدري - جعلت فداك - ما يقولون، فقال لي: (بلى، قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتّى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب، فلما أوحاها إليه علم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء، فإذا أعطاها عبداً علّمه الفهم )» (1) .

ومن الأمثلة الأخرى على هذه التفاصيل هي الروايات التي أشارت إلى أنّ (الصحيفة الجامعة) واحدةٌ من مصادر علوم الأئمّة (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأنّها موروثةٌ عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقد أکّد الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) على هذه الحقيقة فذاع صيتها تقريباً في عهد الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين العوامّ والخواصّ، ومن الأدّلة على ذلك الرواية التي سأل فيها بعض أصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن هذه الصحيفة وانتقال تفاصيل ذلك بين الناس؛ فقد رُوي عن منصور بن حازم أنّه قال لأبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «الناس يذكرون أنّ عندكم صحيفةً طولها سبعون ذراعاً فيها ما يحتاج

ص: 229


1- الكافي، ج 1، ص 273

إليه الناس...» (1) .

أمّا بالنسبة إلى علم الجفر الذي يعدّ مصدراً آخر لعلوم الأئمّة (عَلیهِمَ السَلامُ) ، فقد روى الحسين بن أبي العلاء أنّه قال: « سمعت أبا عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : ( عندي الجفر الأبيض)، قال: قلنا: وأيّ شيءٍ فيه؟ قال: فقال لي: ( زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة، ما أزعم أنّ فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحدٍ حتّى إنّ فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش، وعندي الجفر الأحمر وما يدريهم ما الجفر!)، قال: قلنا: جعلتُ فداك، وأيّ شيءٍ في الجفر الأحمر؟ قال: ( السلاح، وذلك أنّها تفتح للدم، يفتحها صاحب السيف للقتل)، فقال له عبد الله بن أبي يعفور: أصلحك الله! فيعرف هذا بنو الحسن؟ قال: (إي والله، كما يُعرف الليل أنّه ليلٌ والنهار أنّه نهارٌ، ولكن يحملهم الحسد وطلب الدنيا، ولو طلبوا الحقّ لكان خيراً لهم)» (2) .

إضافةً إلى كون علم الغيب أحد مصادر علم الإمام، فهو أيضاً

ص: 230


1- بصائر الدرجات، ص 143 . وقد ذكر المؤلّف في باب: (في الأئمّة أنّ عندهم الصحيفة الجامعة التي هي إملاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وخطّ علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بيده وهي سبعون ذراعاً) أربعاً وعشرين روايةً في هذا الصدد
2- المصدر السابق، ص 240

دليلٌ على سعة نطاق علمه، وعلى أساس التعاليم القرآنية فالعلم له عدّة أقسامٍ أحدها علم الغيب الذي هو علم إلهيٌّ خاصٌّ، أي أنّه مختصّ بالله تعالى (1) ، وهناك آيات تؤكّد على أنّ الله تعالى قد أفاض علم الغيب على أنبيائه وأوليائه، بل وحتّى على غيرهم (2) .

ولكن هناك أسئلة تطرح في هذا الصدد، منها: هل بإمكان الأئمّة الحصول على علم الغيب أو لا؟ وعلى فرض إمكانية ذلك، هل هناك تعارض بين اختصاص علم الغيب بالله تعالى وبين سرايته إلى خلقه أو لا؟

إنّ علم غير الله بالغيب هو أحد المواضيع الهامّة التي طرحت في

ص: 231


1- هناك آيات في القرآن الكريم تؤكّد على اختصاص علم الغيب بالله عزّ وجلّ، منها: الآيتان 59 من سورة الأنعام و 65 من سورة النمل اللتان تصرّحان بهذا الأمر، وهناك آياتٌ أخرى توحي بهذا الأمر في إحدى قراءاتها كالآية 23 من سورة البقرة والآية 38 من سورة فاطر والآية 109 من سورة المائدة والآية 73 من سورة الأنعام والآيتان 94 و 105 من سورة التوبة والآية 4 من سورة الرعد والآية 92 من سورة المؤمنون والآية 6 من سورة السجدة والآية 46 من سورة الزمر والآية 22 من سورة الحشر والآية 8 من سورة الجمعة والآية 18 من سورة التغابن. كما هناك آيات تنفي علم الغيب من غير الله تعالى وذلك على أساس التلازم العرفي كالآيتين 188 من سورة الأعراف و 31 من سورة هود، حيث يستفاد منها أنّ هذا العلم مختصّ به عزّ وجلّ ولا يشاركه أحدٌ فيه
2- من أمثلة هذه الآيات: الآيات 26 إلى 28 من سورة الجنّ، والآية 179 من سورة آل عمران

هذا العهد، في حين أنّها لم تكن مطروحةً في العهد السابق(1) .

الإمام الصادق(عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يؤيّد علم الأئمّة بالغيب وذكر اختلافاتٍ في مصاديقه ليميّز بين علم الغيب المختصّ بالله تعالى(2) والمقامات السامية للأئمّة والتي تفوق مقام سائر الناس (3) ، ولكنّه في الحين ذاته أكّد على امتلاكهم علماً واسعاً من عند الله تعالى كما نلاحظ في الحديث الذي رواه سدير عنه، إذ قال: «كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ خرج إلينا وهو مغضبٌ، فلما أخذ مجلسه قال: (يا عجباً لأقوامٍ يزعمون أنّا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عزّ وجلّ)... قال سدير: فلمّا أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له: جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنّك تعلم علماً كثيراً ولا ننسبك إلى علم الغيب، قال: فقال: (يا سدير ألم

ص: 232


1- روي عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال:« سمعت امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: (إنّ الله علمين، علمٌ استأثر به في غيبه فلم يطلع عليه نبياً من أنبيائه ولا ملكاً من ملائكته، وذلك قول الله تعالى: إنّ اللهَ عندَهُ عِلمُ السّاعةِ ويُنزّلُ الغيثَ ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأيّ أرض تموتُ. وله علمٌ قد أطلع عليه ملائكته؛ فما أطلع عليه ملائكته فقد أطلع عليه محمّداً وآله، وما أطلع عليه محمداً وآله فقد أطلعني عليه، الكبير منا والصغير إلى أن تقوم الساعة)» . بصائر الدرجات، ص111
2- بصائر الدرجات، ص 109. وصفت بعض الروايات هكذا علوم بأنّها علوم الأوّلين.
3- مناقب آل أبي طالب الله ، ج 4 ، ص 250

تقرأ القرآن؟) قلت: بلى، قال: ( فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عزّ وجلّ: قالَ الّذي عندَه علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِليكَ طَرْفُكَ؟)، قال: قلت: جعلت فداك قد قرأته، قال: ( فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟)، قال: قلت: أخبرني به؟ قال: ( قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر، فما يكون ذلك من علم الكتاب) قال: قلت جعلت: فداك ما أقلّ هذا؟! فقال: (يا سدير، ما أكثر هذا أن ينسبه الله عزّ وجلّ إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عزّ وجلّ أيضاً: قُلْ كَفَى بالله شهيداً بيني وبينكم ومَن عنده علم الكتاب)، قال: قلت: قد قرأته جعلت فداك، قال: (أفمن عنده علم الكتاب كلّه أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه؟) قلت لا، بل من عنده علم الكتاب كلّه، قال: فأومأ بيده إلى صدره وقال: (علم الكتاب والله كلّه عندنا، علم الكتاب والله كلّه عندنا)» (1) .

هذه الرواية تشير إلى وجود ظرفين مختلفين آنذاك، أحدهما مناسبٌ لبيان ميزات الإمام والآخر غير مناسبٍ، وكما هو واضحٌ في الروايتين المذكورتين أعلاه إضافةً إلى ما قاله شرّاح الحديث فإنّ القسم الأول من الرواية الثانية إمّا أن يكون تقيةً أو أنّه كان يهدف رفض المعتقدات الخاطئة أو التحذير منها.

ص: 233


1- الكافي، ج 1، ( باب نادر فيه ذكر الغيب )

ورُوي عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله: «إنّ لله علمين، علمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء؛ وعلمٌ علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه» (1) . لو تأمّلنا في أحوال رواة ذوي شأنٍ رفيعٍ من أمثال أبي بصير، نلاحظ شیوع هذه العقيدة بين أصحاب الأئمّة في هذا العهد، وذلك لما امتلكه أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) من علم واسع (2) . على سبيل المثال فإنّ ابن أبي يعفور قد أقسم لدى الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لو أنّ رمّانةً قسمت نصفين وقال له نصف منها حلال والآخر حرامٌ لصدّقه، حيث قال: « قلت عبد الله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : والله لو فلقت رمانة بنصفين فقلت هذا حرام وهذا حلال، لشهدت أنّ الذي قلت (حلال) حلالٌ وأنّ الذي قلت (حرام) حرامٌ، قال: (رحمك الله رحمك الله) (3) .

ومع هذا، فإنّ الأئمّة المعصومين (عَلیهِمَ السَلامُ) كانوا يحاولون دائماً الحيلولة دون ظهور نزعاتٍ متطرّفةٍ أو استنتاجاتٍ خاطئةٍ، ومن أمثلة

ص: 234


1- الكافي، ج 1، ص 147؛ بصائر الدرجات، ص 109
2- راجع: رجال الكشي، ص 249. جمع ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة بعض الأمثلة التأريخية حول العلوم التي كان يمتلكها الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقارن بينها وأثبت أنّه صلوات الله عليه قد تطرّق إلى بيان بعض المسائل الغيبية بجزئياتها وتفاصيلها، وبالتالي فإنّ هذه المسائل قد تحقّقت بالفعل. للاطّلاع أكثر راجع: الغدير، جه5 ، ص78، شرح الخطبة 92
3- رجال الكشي، ص 249

ذلك ما رُوي عن ابن المغيرة، حيث قال: «كنت عند أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن، فقال يحيي: جعلت فداك، إنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟! فقال: (سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فو الله ما بقيت في جسدي شعرةً ولا في رأسي إلا قامت) قال: ثمّ قال: (لا والله، ما هي إلا رواية عن رسول الله صلى الله عليه

وآله)» (1) .

العصمة :

ذكرنا آنفاً أنّ آية التطهير وبعض الروايات في العهد الإسلامي الأوّل قد دلّت على عصمة الإمام بشكل إجماليٍّ، ولكن لم تكن الأرضية مؤاتية آنذاك لطرحها بشكلّ تفصيليّ نظراً للظروف التي كانت سائدةً، لذلك لا توجد إلا موارد قليلة نلاحظ فيها استخدام كلمة (عصمة)، كالصحيفة السجادية التي نُشرت فيما بعد، فقد قال الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء عرقة: «اللَّهُمَّ وَأَنَا عَبْدُكَ الَّذِي أَنْعَمْتَ عَلَيهِ قَبْلَ خَلَقكَ لَهُ وَبَعْدَ خَلْقِكَ إِياهُ، فَجَعَلْتَهُ مِمَّن هَدَيْتَهُ لدينكَ ووَفَّقْتَهُ لِحَقِّكَ وعَصَمَتَهُ بحَبْلكَ» (2) .

وهناك روايةً أخرى عن الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أکّد فيها على

ص: 235


1- رجال الكشي ، ص 352
2- الصحيفة السجادية ، ص 2200120 - 224

وجوب كون الإمام معصوماً، حيث تطرّق إلى العصمة بشكلٍ عامٍّ فقال: «الإمام منّا لا يكون إلا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلا منصوصاً»، فقيل له: يا ابن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: «هو المعتصم بحبل الله وحبل الله هو القرآن؛ لا يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن والقرآن يهدي إلى الإمام، وذلك قول الله عزّ وجل: (إنّ هذا القُرآنَ يهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)» (1) .

ولكنّ الأمر ما كان كذلك في عهد الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) ، إذ لم يكن من يمكن التغاضي عن بيان مفهوم العصمة حينها، فقد رُوي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كلاماً يصف فيه مختلف جوانب العصمة، جاء فيه: «فالإمام هو المنتجب المرتضى والهادي المنتجى والقائم المترجى، اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذرّ حين ذرأه وفي البرية حين برأه، ظلاً قبل خلق نسمة عن يمين عرشه، محبوّاً بالحكمة في علم الغيب عنده، اختاره بعلمه وانتجبه لطهره؛ بقية من آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخيرة من ذرية نوح ومصطفى من آل إبراهيم وسلالة من إسماعيل وصفوة من عترة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لم يزل مرعيّاً بعين الله يحفظه ويكلوه بستره، مطروداً عنه حبائل إبليس وجنوده، مدفوعاً عنه وقوب الغواسق ونفوث كلّ فاسق، مصروفاً عنه قوارف السوء، مبرّءاً من العاهات،

ص: 236


1- معاني الأخبار، ص 133

محجوباً عن الآفات، معصوماً من الزلات، مصوناً عن الفواحش كلّها» (1) .

كذلك رُوي عن حسين الأشقر أنّه قال: «قلت لهشام بن الحكم: ما معنى قولكم: إنّ الإمام لا يكون إلا معصوماً؟ فقال: سألت أبا عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذلك فقال : (المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمُ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صراط مُسْتَقيم)» (2) ، كما روى الأعمش عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله: «الأنبياء وأوصِياؤُهُمْ لا ذُنُوبَ لَهُمْ لأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ» (3) . وابن أبي عمير الذي يعدّ واحداً من كبار رواة الشيعة، رُوي عنه أنّه اعتبر استدلال هشام بن الحكم على العصمة بأنّه أفضل ما سمع. يُذكر أنّ هشام قد نفى في هذا الاستدلال أربع صفات عن الإمام المعصوم، وهي الحرص والحسد والغضب والشهوة، حيث قال ابن أبي عمير: «ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئاً أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام، فإنّي سألته يوماً عن الإمام أهو معصوم ؟ فقال : نعم. فقلت : فما صفة العصمة فيه؟ وبأيِّ شيء تُعرف؟ فقال: إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجهٍ ولا خامس لها:

ص: 237


1- الكافي، ج 1، ص 203
2- معاني الأخبار، ص 132
3- الخصال، ج 2، ص 608

الحرص والحسد والغضب والشهوة؛ فهذه منفية عنه» (1) ، ويبدو أنّه قد اعتمد في استدلاله هذا على كلام لأمير المؤمنين(عَلَيهِ السَّلَامُ) (2) .

كما هو واضح هنا، فإنّ نزاهة الإمام من هذه الأوصاف التي ذكرها هشام بن الحكم وترفّعه عن كلِّ أمرٍ غير لائق، ملموسٌ بوضوح في آيتي التطهير والإمامة. فضلاً عن ذلك، هناك بعض المصطلحات لها نفس هذه الدلالة، من قبيل (المسدّد) و(الموفّق)(3) ، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّه تمّ بيان مسألة علم الإمام وعصمته في هذا العهد.

ثالثاً: مرحلة ترسيخ الفكر وتقويمه، عهد إمامة الإمامين موسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا (عَلیهِمَا السَلامُ) :

توضیح

رغم أنّ الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمضى معظم سنوات إمامته التي دامت 35 عاماً في غياهب السجون، لكنّ عهد إمامته الذي انتهى سنة 203 ه- قد شهد بياناً أكثر تفصيلاً ودقّةً مقارنةً مع العهد الذي سبقه، وذلك في إطار إجابات عن الشبهات؛ فاكتملت المنظومة

ص: 238


1- معاني الأخبار، ص 133
2- بحار الأنوار، ج 90، ص 89 ، الباب : 128 - ما ورد عن أمير المؤمنين في أصناف آيات القرآن
3- وضّح الإمام الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذه المصطلحات عندما كان في (مرو). راجع : الكافي، ج1، ص198

المعرفية للإمامة في مجال الإجابة عن الشبهات المطروحة لتكون مرتكزاً يعتمد عليه الشيعة في الفترة التي سبقت عصر الغيبة.

إنّ الضغوط السياسية والظروف العصيبة التي واجهها الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد كانت مؤثّرةً لدرجة أنّ بعض الشيعة لم يكن لديهم علمٌ ما إن كان إمامهم حيّاً أو ميّتاً، ولا سيما حينما كان رهين الاعتقال (1) ، كما أنّ بعضهم اعتقد بأنّه القائم المنتظر ممّا أدى إلى ظهور شبهاتٍ، فقد نُقل عن يونس بن عبد الرحمن قوله: «كنت مع هشام بن الحكم في مسجده بالعشاء حيث أتاه مسلم صاحب بيت الحكمة، فقال له: إنّ يحيى بن خالد يقول: قد أفسدت على الرافضة دينهم لأنّهم يقولون إنّ الدين لا يقوم إلا بإمام حيٍّ، وهم لا يدرون أنّ إمامهم اليوم حيٌّ أو ميّت! فقال هشام عند ذلك : إنّما علينا أن ندين بحياة الإمام أنّه حيٌّ حاضراً كان عندنا أو متوارياً عنّا حتّى يأتينا موته،فما لم يأتنا موته فنحن مقيمون على حياته.

ومثّل مثلاً فقال: الرجل إذا جامع أهله وسافر إلى مكّة أو توارى عنه ببعض الحيطان فعلينا أن نقيم على حياته حتى يأتينا خلاف ذلكم» (2) .

في ظروفٍ صعبةٍ كهذه فإنّ معظم الأمور يتمّ تنفيذها بواسطة

ص: 239


1- الرواية التي ذكرت آنفاً عن مسلم (صاحب بيت الحكمة) تدلّ على هذا الأمر
2- رجال الكشي، ص 172

الخواصّ وتحت إشراف الإمام المعصوم، وحتّى إنّ الإجابة عن بعض الشبهات كانت توكل إليهم ؛ وهناك العديد من الشخصيات البارزة قد أوكلت لها هذه المهمّة الخطيرة إلى جانب منظومة الوكالة المتمثّلة ببعض الخلّص من أمثال عليّ بن يقطين وهشام بن الحكم (1) ، حيث تولّى هؤلاء إدارة شؤون الشيعة وأجابوا عن مختلف الشبهات وبعضهم شارك في مناظراتٍ مع أصحاب التوجّهات الأخرى. يونس بن عبدالرحمن مثلاً نقل كلاماً لحمّاد حول محمد بن حكيم جاء فيه: «كان أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) يأمر محمّد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأن يكلّمهم ويخاصمهم حتّى كلّمهم في صاحب القبر وكان إذا انصرف إليه قال: ما قلت لهم وما قالوا لك؟!» (2) كما نقل عن محمّد بن فلان الرافعي أنّه قال: «كان لي ابن عمٍّ يقال له الحسن بن عبدالله، وكان من أعبد أهل زمانه وكان يلقاه السلطان وربّما استقبل السلطان بالكلام الصعب يعظه ويأمر المعروف، وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه؛ فلم يزل هذه حاله حتّى كان يوماً دخل أبو الحسن موسی(عَلَيهِ السَّلَامُ) المسجد فرأه فأدنى إليه ثمّ قال له : (يا أبا عليّ ما أحبّ إليّ ما أنت فيه وأسرّني بك إلا أنّه ليست لك معرفة فاذهب فاطلب المعرفة)، قال: جعلت فداك، وما المعرفة؟ فقال له: (اذهب وتفقه

ص: 240


1- رجال الكشي، ص 229 - 231
2- المصدر السابق، ص 453

واطلب الحديث) قال عمّن ؟ قال : ( عن أنس بن مالك وعن فقهاء أهل المدينة ثمّ اعرض الحديث عليَّ)» (1) . هذا الأسلوب الذي اتّبعه الإمام كان ناجحاً إلى حدٍّ كبيرٍ وذا نتائج ملحوظة، والرواية التالية تدّل على هذه الحقيقة، حيث قال محمّد بن حكيم: «قلت لأبي الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : جعلت فداك، فقّهنا في الدين وأغنانا الله بكم عن الناس حتّى أنّ الجماعة منا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه، تحضره المسألة ويحضره جوابها فيما مَنْ الله علينا بكم…» (2) .

وفي خضمّ هذه الأوضاع فإنّ الخلافات التي حدثت بين ابني هارون الرشيد - الأمين والمأمون - وما تلا ذلك من أحداث وبما فيها تعيين الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وليّاً للعهد، بدأت مرحلة جديدة لنشر العقيدة في إطار سؤال وجواب للردّ على الشبهات، سيّما وأن الإمام استفاد من الأجواء العلمية التي أتيحت وأرجع الشيعة إلى أبرز علمائهم لكي يرسي أسس مجتمعٍ يمتلك المؤهّلات الكافية للاعتماد على قابلياته؛ ومن أولئك العلماء الذين ذاع صيتهم حينذاك يونس بن عبدالرحمن ومحمّد بن أبي عمير الذي ألّف 94 كتاباً أحدها كتاب (الاحتجاج في الإمامة ) (3) .

ص: 241


1- بصائر الدرجات، ص 257
2- الكافي، ج 1، ص 56
3- رجال النجاشي، ص 326

النص والعلم والعصمة :

ذكرنا آنفاً أنّ الأئمّة في العهد السابق قد أكّدوا على وجوب تعيين الإمام بنصٍّ إلهيٍّ، وقد وضّحوا السبل الكفيلة لفهم واقع الإمامة، كما أنّهم ذكروا بعض الميزات الخاصّة بالإمام كمعرفته ببعض اللغات (1) . وهناك العديد من الأخبار التي تشير إلى أنّ الشيعة في هذا العهد كانوا يترقّبون معرفة الإمام الذي سيتولّى الأمر بعد موسى بن جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ) (2) .

وأمّا الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلم يكن له ولدٌ حتّى السنوات العشر الأخيرة من حياته وكان الناس يسألونه عمّن يخلفه، فأجابهم مرّةً عن ذلك باستدلال قرآنيٍّ، حيث رُوي أنّه استدلّ بآيتين ليثبت للشيعة أنّ الإمام يمكن أن يتولّى الإمامة وهو صبيٌّ، والآيتان هما قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبيّاً) (3) ، وقوله: ﴿وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْمَاً وَعلْمَاً) (4) ، فقد أكّد على أنّ تكليم عيسى الناس وهو في المهد دليلٌ

ص: 242


1- يرى الأئمّة أنّ الإلمام بعدّة لغات هو فضل وهو أحد أسباب استحقاق الإمام منصب الإمامة. للاطّلاع أكثر راجع: مناقب آل أبي طالب، ص417؛ الكافي، ج 1، ص 225؛ قرب الاسناد، ص 339
2- راجع : الصراط المستقيم ، ج 2، ص 165 ؛ الكافي، ج 1، ص 312؛ عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 33 - 38
3- سورة مريم / الآية 12
4- سورة يوسف / الآية 22

على أنّ وليّ الله لا يشترط فيه سنٌّ معيّن (1) .

إنّ الكلام الذي استدلّ به الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يثبت أنّ سنّ الإمام المعصوم لا صلة له بعلمه، ونلاحظ تفصيل هذا الاستدلال وانعكاسه في كلام قاله الريان بن الصلت في اجتماع لوجوه الشيعة: «إن كان أمره من الله جلّ وعلا فلو أنّه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقة، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحدٌ من الناس» (2) .

فضلا عن ذلك فإنّ المأمون بنفسه كان على علمٍ بهذا الأمر، حيث خاطب الذين دحضوا في مناظرتهم مع الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو صبيٌّ وعجزوا عن الإجابة عمّا سألهم، قائلاً: «ويحكم إنّ أهل هذا البيت خُصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو ابن عشر سنين وقبل منه الإسلام وحكم له به ولم يدعُ أحداً في سنه غيره؟! وبايع الحسن

ص: 243


1- المصدر السابق، ص227. لقد تقبّل الشيعة إمامة الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو صبيٌّ باستثناء أهل المدينة الذين لم يستوعبوا هذا الأمر، والجدير بالملاحظة هنا أنّ هذه هو الشكوك قد دامت لسنواتٍ لكنّها سرعان ما زالت بعد أن سأل الناس الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسئلة فأجابهم عن. للاطّلاع أكثر راجع: إثبات الوصية للإمام علي بن أبيطالب، ص 210 - 220
2- المصدر السابق

والحسين (عَلیهِمَا السَلامُ) وهما ابنا دون الستّ سنين ولم يبايع صبيّاً غيرهما؟! أولا تعلمون ما اختصّ الله به هؤلاء القوم وإنّهم ذرّية بعضها من بعضٍ يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟!» (1).» (1) .

إلى جانب ذلك، فإنّ الإمامين الكاظم والرضا (عَلیهِمَا السَلامُ) قد واصلا المساعي الحثيثة لترسيخ مفهوم عصمة الإمام بين المسلمين والذي تمّ بيانه في عهد الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) وقبل ذلك كان الإمام السجّاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد وضّحه. فعلى سبيل المثال نلاحظ أنّ الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد أكّد على أنّ الأئمّة هم معادن العصمة في أحد أدعيته المأثورة، حيث قال: «اللهم صلّ على محمّد وآله الأئمّة، ينابيع الحكمة وأولي النعمة ومعادن العصمة، واعصمني بهم من كلّ سوءٍ» (2) ، كما أنّ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) روى حديثاً عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حول وجوب التمسك بأئمّة أهل البيت (عَلیهِمَا السَلامُ)، جاء في جانب منه: «فإنّهم خيرة الله عزّ وجلّ وصفوته، وهم المعصومون من كلّ ذنبٍ وخطيئةٍ» (3) .

وما يزيد من أهميّة هذا العهد هو النزعة لنشر المعارف في نطاقٍ عامٍّ سواءٌ بين الشيعة أم غيرهم. فهشام بن الحكم في المناظرة التي دارت بينه وبين الحاضرين في مجلس هارون الرشيد من علماء ذلك

ص: 244


1- الكافي، ج 2، ص 288
2- إقبال الأعمال، ص 632
3- مصباح المتهجد، ج 2، ص 859

العصر، كضرار وعبد الله بن يزيد الأباضي وغيرهما، قد فصّل معنى العصمة وأثبت أنّه لا بدّ من وجود معصوم في الأرض ليكون حجّة الله على خلقه، وذكر صفات يختصّ بها بحيث تميّزه عن غيره، مثل التنصيب والعلم والعصمة؛ وهذه المناظرة طويلة لكن جاء في جانب منها على لسان هشام مخاطباً ضرار: « لا بد لهم من عالم يقيمه الرسول لهم، لا يسهو ولا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذنوب مبرّاً من الخطايا، يحتاج الناس إليه ولا يحتاج إلى أحد»، ومن ثمّ أجاب عن سؤال عبد الله بن يزيد الأباضي عن سبب اشتراط العصمة في الإمام مستوحياً كلامه ممّا رُوي عن الأئمّة المعصومين وما تضمّنته آية التطهير، فقال له: «إن لم يكن معصوماً من الذنوب دخل في الخطأ، فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ويكتم على حميمه وقريبه، ولا يحتجّ بمثل هذا على خلقه» (1) .

إضافةً إلى ذلك، هناك العديد من الروايات التي تشير إلى اعتقاد الناس آنذاك بالعصمة، فقد نُقل عن يزيد بن سليط أنّه رأى الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين كان في طريقه إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك العمرة، ودار بينهما الحديث التالي: «جعلت فداك، هل تثبت هذا الموضع الذي نحن فيه؟ قال: (نعم، فهل تثبته أنت؟)، قلت: نعم، إنّي أنا وأبي لقيناك ههنا وأنت مع أبي عبدالله (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومعه إخوتك. فقال

ص: 245


1- كمال الدين وتعام النعمة، ص 362

له أبي: بأبي أنت وأمي أنتم كلّكم أئمّة مطهّرون، والموت لا يعرى منه أحد...» (1) .

وكما قلنا فإنّ العناصر التأريخية التي كانت مؤاتية لفترة قصيرة في عهد الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد ساعدت على نشر معارف الشيعة ودحض شبهات مناوئيهم وذلك من خلال كلام شامل حول الإمامة وميزاتها، فعندما كان صلوات الله عليه في خراسان رجع الناس إليه ليبيّن لهم أهمّ المسائل المعاصرة، ولا سيّما الإمامة التي أجاب عمّا طرح حولها من شبهات لم يتمّ التطرّق إليها سابقاً؛ لذلك عندما سنحت الفرصة لطرح الأسئلة والاستفسارات والمناظرات، وأتيح المجال للإمام كي يتحدّث للناس بحريّة بعد أن أصبح وليّاً للعهد، بدأ صلوات الله عليه بنشر معارف التشيّع باستدلالات دقيقة وشاملة. وأبرز مثال على ذلك، الحديث المعروف ب- (سلسلة الذهب) والأحداث التي اكتنفته آنذاك، وكذلك الكلام الذي دار بينه صلوات الله عليه وبين عبد العزيز بن مسلم في مدينة (مرو) بالنسبة إلى اختلاف الناس حول موضوع الإمامة وما يجري بينهم من نقاشات، وهذه الحقائق تثبت اتّساع نطاق خطاب الإمامة. فقد أشار الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذا الكلام إلى مسائل في غاية الأهمية ولا سيما في مجال تنصيب الإمام وعلمه وعصمته، كما استدلّ بالنصوص الدينية المأثورة من العهود السابقة كآية إكمال الدين

ص: 246


1- الكافي، ج 1، ص 313

وواقعة الغدير لإثبات أنّ الإمام منصّباً من قبل الله تعالى وأكّد على مكانته الرفيعة وأثبت كمال القرآن الكريم وعدم إهمال الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لشؤون الناس وسقم ادّعاء أنّه ترك الناس دون أن ينصّب من يخلفه.

لقد أثبت الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ الإمامة التي وهبها الله تعالى لخليله إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد اصطفائه نبيّاً، قد استمرّت في ذريّته الذين وصفهم بأنّهم «أهل الصفوة والطهارة»، واستدلّ صلوات الله عليه بكتاب الله المجيد على أنّ العلم يمكن أن يورث، حيث ورثه الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومن ثمّ توارثه الأئمّة المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ) واحداً تلو الآخر، وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ أفعال الإمام المعصوم وأقواله من الله تعالى ولا تتعارض مطلقاً مع إرادته جلّ شأنه؛ حيث قال صلوات الله عليه: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختیاره؟! هيهات هيهات، ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العيون...»، وقال: «إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الاوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومقام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وميراث الحسن والحسين(عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ، إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين»، كما ذكر بعض خصائص الإمامة في عباراتٍ رائعةٍ وتشبيهاتٍ هي غاية في الدقّة والجمال، وأشار إلى بعض خصال الإمام المعصوم وعظمته وعلمه، فقال: «( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه فَقَدْ آتَيْنَا

ص: 247

آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) ، وإنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجلّ لأمور عباده، شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجوابٍ ولا يحير به عن الصواب».

وأمّا المحور الآخر في كلامه صلوات الله عليه فهو التأكيد على أنّ الإمام معصوم من كلّ خطأ ومنزّة من كلّ قبيح وأنّه يمتلك علماً مختصّاً به كي يبقى مصوناً من الزلل، حيث قال: «الإمام المطهّر من الذنوب والمبرّأ عن العيوب، المخصوص بالعلم، المرسوم بالحلم، نظام الدين وعزّ المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين... فهو معصومٌ مؤيّد موفّق مسدّد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجّته على عباده وساعده على خلقه، و(ذَلكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)» (1) .

ونتيجة ما ذكر في هذا الاستدلال الراسخ يمكن تلخيصها في العبارة التالية من كلام الإمام صلوات الله عليه: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره ؟!» (2) ، فهو بهذا الكلام كأنّما يريد أن يتحدى من يشكّك بالإمامة، لذلك لم يُبق أىّ مجالٍ للشكّ والشبهة في

ص: 248


1- الكافي، ج 1، ص199 - 203
2- المصدر السابق، ج 1، ص 201

هذا المضمار، كما أنّه بتأكيده على أنّ تنصيب الإمام هو أمر ربّانيٌّ أثبت عجز الناس عن تعيين إمامهم.

ولو قارنّا بين هذا الكلام وبين ما نُقل عن المأمون العباسي آنفاً، لتبيّن لنا رأي الإمامية في تعيين الإمام ومنزلته الرفيعة بكلّ وضوحٍ. والتفاصيل التي ذكرها الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحقيقة مستوحاة من المفاهيم التي طُرحت في العصور الأولى، حيث ذكرها هنا بعبارات متنوّعة ورائعة الصياغة ليثبت أنّ المنظومة المعرفية للإمامة كانت متكاملة منذ بداية نشأتها .

رابعاً: مرحلة تطبيق الفكر على أرض الواقع. عهد إمامة الإمام محمد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بداية عصر الغيبة:

توضیح

هذه المرحلة شهدت ترسيخ المعارف وتطبيقها، وكذلك قام الأئمّة في هذه الآونة بتمهيد الأرضية لعصر الغيبة وإثراء المجتمع الشيعي بالعلوم الموروثة عن العصور السابقة في مختلف بقاع البلاد الإسلامية وتشييد مدارس وإعداد كوادر وتُخب وعلماء حاذقين، وهذه تعدّ تجربة لا نظير لها في منظومة الإمامة.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ قبول الشيعة إمامة الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن تلاه من معصومين دليل على أن عقيدة الإمامة قد ترسّخت بينهم. ومن الشواهد على ذلك، ما دار من كلام بين يحيى بن أكثم

ص: 249

والمأمون العباسي (1) ، وهو يدلّ على وعي الشيعة بالكامل بالنسبة إلى عقيدة الإمامة. وهذا الأمر بالطبع لا يعني غضّ النظر عن التيارات المنحرفة وبعض النزعات والتوجّهات التى كانت سائدة آنذاك، ولا سيما مسألة الغلو، إلا أنّ الانصاف يقتضى عدم الربط بين التيارات والنزعات التي نشأت بين الشيعة وبين عدم ذكر بعض جوانب الإمامة لأنّ مزاعم هذه التيارات تدلّ على وجود نزعاتٍ لا صلة لها بالإمامة (2) .

ومهما كان الأمر، هناك ميزتان اتّصفت بها البحوث التي تمحورت حول الإمامة في هذا العهد، حيث تمّ بيان الموضوع على أساسهما واعتماداً على ما كان مطروحاً في العصور السابقة، وهاتان الميزتان هما:

أولاً : بيان صفات الإمام المعصوم بشكل متكامل.

ثانياً: طرح موضوع غيبة الإمام الثاني عشر.

نظرة عامة على صفات الإمام المعصوم: في هذا العهد تم تأسيس مدارس لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في مختلف مدن إيران وأقيمت جلسات علمية طرحت

فيها بحوث متنوّعةٌ ممّا

ص: 250


1- سنذكر هذا الحوار لاحقاً
2- أمالي الطوسي، ص 285

أدّى إلى انتعاش الحركة العلمية بين الشيعة، وبالطبع فإنّ موضوع الإمامة كان كسائر المواضيع العقائدية التي اكتسبت مكانة هامّة في البحوث العلمية وأثيرت حوله الكثير من النقاشات والأسئلة، وإثر ذلك دوّنت حوله الكثير من الكتب. وينقل المؤرّخون العديد من المناظرات للإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع الذين كانوا يشكّكون بالإمامة ويثيرون الشبهات حولها إبّان خلافة المأمون، وفي هذه المناظرات انتقد الإمام الروايات التي زُعم فيها بعض المناقب للخلفاء الثلاثة في عصر صدر الإسلام (1) .

ومن أبرز الشخصيات التى كان لها شأن آنذاك، ثبّيت بن محمّد العسكري الذي عاصر الإمامين العسكريين (عَلَيهِما السَّلَامُ) وهو واحد من أهمّ مدوّني الآثار العقائدية لدى الشيعة، حيث قال النجاشي عنه: «ثبّيت ابن محمّد أبو محمّد العسكري صاحب أبي عيسى الورّاق، متكلّم حاذق، من أصحاب العسكريين، وكان أيضاً له اطّلاع بالحديث والرواية والفقه. له كتبٌ، منها كتاب توليدات بني أمية في الحديث وذكر الأحاديث الموضوعة والكتاب الذي يُعزى إلى أبي عيسى الورّاق في نقض العثمانية له، وكتاب الأسفار ودلائل الأئمّة السلام» (2) ، وكذلك الحسين ابن إشكيب الذي كان من أصحاب الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 251


1- الاحتجاج، ص 247
2- رجال النجاشي، ص 117

حيث ألّف كتباً للردّ على الزيدية (1) .

أما بالنسبة إلى المراسلات التي تمّ تداولها بين الأئمّة وشيعتهم فقد كانت تتمحور حول مواضيع متعلّقة بالتوحيد ومسائل فقهية أو شخصية (2) ، ولكن هناك بعض الرسائل التي تضمّنت موضوع الإمامة. على سبيل المثال، بعث أحد علماء قم إلى الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) رسالةً سأله فيها عن قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «حديثنا لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبهُ للإيمان»، فجاءه الجواب: «إنّما معنى قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ الملك لا يحتمله حتّى يخرجه إلى ملك غيره، والنبيّ لا يحتمله حتّى يخرجه إلى نبيٍّ غيره، والمؤمن لا يحتمله حتّى يخرجه إلى مؤمن غيره؛ فهذا معنى قول جدّي عليه السلام» (3) .

كما تجدر الإشارة إلى أنّ مدينتي قم والكوفة كانتا أهمّ المراكز العلمية لدى الشيعة في تلك الآونة، مثلاً ألّف سعد بن عبد الله الأشعري القمي كتاب (بصائر الدرجات) ونقل عليّ بن إبراهيم الكوفي وأبوه

ص: 252


1- رجال النجاشي، ص 44
2- هناك رسائل للأئمّة في هذه الفترة تضمّنت كلاماً مبسوطاً حول الجبر والتفويض وتصنيف بعض المواضيع وذكروا أمثلةً لما كان يدور الكلام حوله. للاطّلاع أكثر راجع: تحف العقول، ص 460
3- الكافي، ج 1 ، ص 401

الكثير من الأحاديث التي ألّفت جانباً كبيراً من باب (الحجّة) في كتاب (أصول الكافي).

أمّا أهمّ ما تمّ تأليفه حول صفات الإمام المعصوم في هذا العهد فهي (الزيارة الجامعة) المروية عن الإمام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتي تعدّ ميثاقاً شاملاً تضمّن الرؤى الأساسية للشيعة، وقد رواها عنه موسى بن عبدالله النخعي (1) ، إذ طلب من الإمام أن يعلّمه زيارةً بليغةً كاملةً فيها صفات الأئمّة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) ، فقال له: «علّمني يا بن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم»، فعلّمه الإمام هذه الزيارة التي تضمّنت أكثر من مائتي فضيلة ومنقبة لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) . وتجدر الإشارة إلى أنّ ما يزيد من أهميّة هذه الزيارة هو وجود ارتباط وثيقٍ بين عباراتها وبين التعاليم والمعتقدات التوحيدية، وعند تحليل مضمونها نستخلص ثلاثة محاور أساسية فيها، وهي:

أولاً: التوحيد.

ثانياً: الإمام هو حجة الله على خلقه.

ثالثاً: الإمامة مقام خصّ الله تعالى به آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

العبارات الأولى من هذه الزيارة التي تلت السلام والتحية على آل محمّد وذكرت مقامهم الكريم، تضمّنت الشهادة والتوحيد: «أَشْهَدُ

ص: 253


1- الكافي، ج 2، ص 370

أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ كَمَا شَهِدَ اللَّهِ لَنَفْسِهِ وَشَهِدَتْ لَهُ مَلائِكَتُهُ وَأُولُو العِلْمِ مِنْ خَلْقَهِ»، وبعد ذلك ساق الإمام عبارات في غاية الروعة فوصف منزلة حجّة الله في نظام الخلقة وقال: «مَنْ أَتَاكُمْ نَجَا وَمَنْ لَمْ يَأْتِكُمْ هَلَكَ، إِلى اللهِ تَدْعُونَ وَعَلَيْهِ تَدٌلُّونَ وَبِهِ تُؤْمِنُونَ وَلَهُ تُسَلِّمُونَ وَبَأَمْرِه تَعْمَلُونَ وَإِلى سَبيله تُرْسُدُونَ وَبَقَوْلِهِ تَحْكُمُونَ» .

أمّا بالنسبة إلى الإمامة، فقد ذكر صلوات الله عليه آداب مخاطبة الإمام ابتداء من التحية والسلام وصولاً إلى ذكر بعض خصاله وانتهاء بعبارة (ورحمة الله وبركاته)، فقال: «السَّلامُ عَلَى أَئِمَّةِ الهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى وَأَعْلامِ التَّقَى وَذَوِي النُّهَى وَأُولِي الحِجَى وَكَهْف الوَرَى وَوَرَثَة الأَنْبِيَاء والمثل الأَعْلى، وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ»، ومن ثمّ وضّح مفهوم الإمامة وأشار إلى صلته بالسياسة، وهذه الحقائق بالطبع تستند إلى الأسس التي وضعها جدّه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في واقعة الغدير، حيث قال: «وَقَادَةِ الأُمَمِ وَأَوْلِيَاءَ النَّعَمِ وَعَنَاصِرَ الْأَبْرَارِ وَدَعَائِمَ الأَخْيَارِ وَسَاسَةِ العِبَادِ وَأَرْكَانَ البلاد» (1) .

وبالنسبة إلى مفهومي الولاية لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والبراءة من أعدائهم، فقد أشار صلوات الله عليه إلى الروايات المأثورة عن أجداده، كحديث الغدير والسفينة وغيرهما، وقال: «فَالرَّاغِبُ عَنْكُمْ

ص: 254


1- الكافي، ج 2، ص 370

مَارِقُ وَاللأَزِمُ لَكُمْ لاَحِقُّ وَالْمُقَصِّرُ في حَقَّكُمْ زَاهِقٌ وَالحَقُّ مَعَكُمْ وَفِيكُمْ وَمِنْكُمْ وَإِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ وَمَعْدِنُهُ وَمِيرَاثُ النُّبُوَّةِ عِنْدكُمْ... مَنْ وَالاكُمْ فَقَدْ وَالى اللهِ وَمَنْ عَادَاكُمْ فَقَدْ عَادَى اللهِ وَمَنْ أَحَبَّكُمْ فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهِ وَمَنْ أَبْغَضَكُمْ فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهِ وَمَنْ اعْتَصَمَ بِكُمْ فَقَدْ اعْتَصَمَ بالله».

إضافة إلى ذلك، فقد تضمّنت هذه الزيارة بعض ما ورد في الأحاديث المروية عن المعصومين حول الإمام المهدي (عجل الله فرجه) (1) ، وهذا الأمر يدلّ بالطبع على إيمان الشيعة بعقيدة الغيبة وعدم إنكارهم لها، حيث قال: «فَثَبَّتَنِي اللهُ أَبَداً مَا حَييتُ عَلَى مُوَالاَتِكُمْ وَمَحَبَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ وَوَفَّقَنِي لِطَاعَتِكُمْ وَرَزَقَنِي شَفَاعَتَكُمْ وَجَعَلَنِي مِنْ خِيَارِ مَوَالِيكُمْ التَّابِعِينَ لِمَا دَعَوْتُمْ إِلَيْهِ، وَجَعَلَنِي مِمَّنْ يَقْتَصُّ آثَارَكُمْ وَيَسْلُكُ سَبِيلَكُمْ وَيَهْتَدِي بِهُدَاكُمْ وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَتِكُمْ وَيَكِرُّ فِي رَجْعَتِكُمْ وَيُمَلَّكُ في دَولَتِكُمْ وَيُشَرَّفُ فِي عَافِيَتِكُمْ وَيُمَكِّنُ في أيَّامِكُمْ وَتَقِرُّ عَيْنُهُ غَداً بِرُؤْيَتِكُمْ».

ومن أهمّ المواضيع الأخرى التي تضمّنتها هذه الزيارة عبارةً عمّا يلي: العلاقة بين الأئمّة والله تعالى، مكانة الله تعالى لدى الأئمّة، الواجب الملقى على عاتق الأئمّة قبال الله تعالى، ملازمة الأئمّة للحقّ

ص: 255


1- سوف نتطرّق إلى ذكر الأحاديث التي تتمحور حول موضوع المهدي الموعود (عجل الله فرجه) في الأبحاث اللاحقة

وعدم انفصالهم عنه بوجه، ضلال كلّ من ينأى بنفسه عن الأئمّة، الأئمّة هم رحمة الله الواسعة في الأرض، الله تعالى هو الذي نصّب الأئمّة رُعاةً للأُمّة، الأئمة هداة الخلق، الأئمّة وسائط بين الخلق والخالق، عصمة الأئمّة وطهارتهم من كلّ خطيئة ودنس، علم الأئمّة هو علم إلهيّ، مقام الأئمّة فوق مقام البشر، مكانة الأئمّة في منظومة الخلقة، الإشارة إلى عبادة الأئمّة ونشاطاتهم السياسية، التأكيد على أنّ الولاية لأهل البيت والبراءة من أعدائهم هما من أُسس التشيع، تكافؤ الأئمّة في قابلياتهم ومعارفهم دون ترجيح أحد على غيره، الأئمّة هم وسائل للارتباط بالله تعالى (1) .

ص: 256


1- ممّا ورد في هذه الزيارة القيّمة: «والباب المبتلى به الناس من أتاكم نجى ومن لم يأتكم هلك... بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض الا بإذنه وبكم ينفسّ الهمّ ويكشف الضرّ ، وعندكم ما نزلت به رسله و هبطت به ملائكته... اصطفاكم بعلمه وارتضاكم لغيبه واختاركم لسرّه واجتباكم بقدرته وأعزّكم بهداه وخصّكم ببرهانه وانتجبكم لنوره وأيّدكم بروحه ورضيكم خلفاء في أرضه وحججاً على بريّته... والباب المبتلى به الناس... من والاكم فقد والى الله ومن عاداكم فقد عادى الله ... بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزّل الغيث وبكم يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وبكم يكشف الضرّ وعندكم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته... عصمكم الله من الزَّلل وآمنكم من الفتن وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيراً... وعندكم ما نزلت به رسله و هبطت به ملائكته». المصدر السابق

غيبة الإمام الثاني عشر ومنظومة الوكالة :

ذكرنا آنفاً أنّ الشيعة كانوا يعلمون بغيبة الإمام الثاني عشر قبل عصر الغيبة، وفي هذه الفترة (عهد الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى عصر الغيبة) قد تمهّدت الأرضية لإدراك هذا الأمر حيث كان الأئمة بعيدين عن شيعتهم والنوّاب هم الذين كانوا الرابط بينهم، لذلك حظيت منظومة الوكالة بأهمية بالغة (1) .

رغم أنّ الأحاديث المأثورة عن النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) تؤكّد على أنّ الإمام الثاني عشر (الخليفة الثاني عشر لرسول الله) هو الذي يقيم حكومةً عالميةً يسودها القسط والعدل، لكنّها أكّدت فى الحين ذاته على غيبته عن الناس قبل ذلك وعدم قدرتهم على رؤيته، وأحد الشواهد على هذا الأمر ما قاله الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) للسيّد عبد العظيم الحسني حينما سأله: «يا مولاي إنّي لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمّد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً»، فأجابه الإمام: «يا أبا القاسم، ما منّا إلا قائم بأمر الله وهاد إلى دين الله، ولستُ القائم الذي يطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملؤها عدلاً وقسطاً، هو الذي يُخفى على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه ويحرم عليهم تسميته، وهو

ص: 257


1- الفهرست، ص 513

سمّي رسول الله وكنيّه وهو الذي يُطوى له الأرض ويُذلّ له كلّ صعب، يجتمع إليه من أصحابه عددٌ أهل بدر، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي الأرض، وذلك قول الله عزّ وجلّ: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأت بكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (1) ، فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الأرض أظهر أمره ، فإذا أكمل له العقد وهو عشرة آلاف رجلٍ، خرج بإذن الله فلا يزال يقتل أعداء الله حتّى يرضى الله تبارك وتعالى» (2) .

إضافة إلى ما ذكر، فالأئمّة المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولاسيما الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قد تواصلوا مع شيعتهم بشكلٍ غير مباشر أحياناً، وعن طريق النوّاب والوكلاء الذين كانوا يرجعون الشيعة إليهم أحياناً أخرى (3) ، وهذا السلوك يشير إلى أنّهم أرادوا تمهيد الأرضية المناسبة لعصر الغيبة كي يستعدّ شيعتهم له؛ في حين أنّ الظروف الموضوعية إبّان العهود السابقة وبالأخصّ في العهدين الأوّل والثاني، كانت تقتضي رجوع الشيعة لأئمّتهم خلافاً للعهد المتأخّر الذي طرأت فيه ظروفٌ عديدة غيّرت مقتضيات الحال ممّا أدّى إلى ضرورة وجود نوّاب يرجع إليهم الشيعة الذين حرموا من مجالسة إمامهم. على سبيل

ص: 258


1- سورة البقرة / الآية 148
2- الاحتجاج، ج 2، ص 523
3- رجال الكشي، ص 4

المثال، رُوي عن أحمد بن إسحاق أنّه سأل الإمام الهادي قائلاً: «من أعامل أو عمّن آخذ وقول من أقبل؟»، فأجابه صلوات الله عليه: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنِّي يؤدّي، وما قال لك عنِّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون» (1) . والإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الآخر قد اتّبع نفس هذا الأسلوب، بل إنّه أکّد عليه بشكل كبير، إذ لم يكن أتباع مذهب أهل البيت يرونه إلا في مناسبات معيّنة وذلك عند ذهابه إلى دار الإمارة لإعلام حضوره وكان يكلّمهم ويكلّم حتى الخواصّ من وراء حجاب كي يتطبّعوا على ما سيشهده العهد المقبل ألا وهو غيبة إمامهم (2) . ولكن هناك بعض الخواصّ كانوا يلتقون بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) في عهد إمامة أبيه التي لم تدم طويلاً (3) .

إنّ الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن ينكرها مطلقاً هي أنّ الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد أنجب ولداً يخلفه في الإمامة، وهو الإمام الثاني عشر الذي ذكره النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) ، لذلك لم يشكّك أحدٌ من الشيعة به وكانت غيبته عنهم أمراً مألوفاً ولم يعترضوا عليه؛ ولكن هناك بعض المزاعم الكاذبة والرؤى التي لا تستند إلى دليل

ص: 259


1- الكافي، ج 1، ص 330؛ الغيبة للطوسي، ص 355 . وهناك موارد مشابهة أخرى
2- إثبات الوصية لعليّ بن أبي طالب، ص 272
3- الكافي، ج 1، ص 329 - 333

والتي صدرت من ضعاف النفوس وهي تناظر الانحرافات التي حدثت في العهود السالفة كالسؤال عن الحلال والحرام والتشكيك في بعض الأمور، ولكن سرعان ما تلاشت.

ويروي المؤرّخون أنّ جعفر بن الإمام الهادي المعروف ب- (جعفر الكذّاب) قد أرسل مكاتيب إلى بعض أصحاب الأئمّة ليثبت مزاعمه الواهية، لكنّ مساعيه لم تفلح وباءت بالفشل بفضل حنكة أحمد بن إسحاق الأشعري وتوقيع الإمام المهدي (عجل الله فرجه) الذي تضمّن عبارات تشابه ما ورد في الزيارة الجامعة (1) . ومن المواقف الأخرى لجعفر، ما حدث مع أهل قم الذين جاؤوا لزيارة الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، حيث قال الشيخ الصدوق: «لما قبض سيدنا أبو محمّد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليهما، وفد من قم والجبال وفود بالأموال التي كانت تحمل على الرسم والعادة، ولم يكن عندهم خبر وفاة الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلمّا أن وصلوا إلى سرّ من رأي سألوا عن سيدنا الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقيل لهم: إنّه قد فُقد، فقالوا: ومن وارثه؟ قالوا: أخوه جعفر بن عليّ، فسألوا عنه فقيل لهم إنه قد خرج متنزّهاً وركب زورقاً في الدجلة يشرب ومعه المغنون! قال : فتشاور القوم، فقالوا: هذه ليست من صفة الإمام، وقال بعضهم لبعض: امضوا بنا حتّى نردّ هذه الأموال على أصحابها، فقال أبو العباس محمّد بن جعفر الحميري القمّي: قفوا بنا

ص: 260


1- أمالي الطوسي، ص290

حتّى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحّة ، قال : فلمّا انصرف دخلوا عليه فسلّموا عليه وقالوا: يا سيدنا نحن من أهل قم ومعنا جماعةٌ من الشيعة وغيرها، وكنّا نحمل إلى سيدنا أبي محمّد الحسن بن علىّ الأموال، فقال وأين هي؟ قالوا: معنا، قال: احملوها إليّ، قالوا: لا، إنّ لهذه الأموال خبراً طريفاً، فقال: وما هو ؟ قالوا: إنّ هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامّة الشيعة الدينار والديناران، ثمّ يجعلونها في كيس ويختمون عليه، وكنّا إذا وردنا بمال على سيدنا أبي محمد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: (جملة المال كذا وكذا ديناراً، من عند فلان كذا ومن عند فلان كذا) حتّى يأتي على أسماء الناس كلّهم ويقول ما على الخواتيم من نقش، فقال جعفر: كذبتم، تقولون على أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب ولا يعلمه إلا الله . قال : فلما سمع القوم كلام جعفر جعل بعضهم ينظر إلى بعض، فقال لهم: احملوا هذا المال إليّ، قالوا: إِنَّا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب المال ولا نسلّم المال إلا بالعلامات التي كنّا نعرفها من سيدنا الحسن بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ... فسرنا إليه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإذا ولده القائم سيدنا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قاعد على سریرٍ كأنّه فلقة قمر، عليه ثياب خضر، فسلّمنا عليه، فردّ علينا السلام، ثمّ قال: (جملة المال كذا وكذا ديناراً، حمل فلان كذا وحمل فلان كذا)، ولم يزل يصف حتّى وصف الجميع، ثمّ وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدوابّ، فخررنا سجداً لله عزّ وجلّ شكراً لما عرفنا، وقبّلنا الأرض بين يديه وسألناه عمّا أردنا فأجاب، فحملنا إليه

ص: 261

الأموال، وأمرنا القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن لا نحمل إلى سرّ من رأى بعدها شيئاً من المال، فإنّه ينصّب لنا ببغداد رجلاً يحمل إليه الأموال ويخرج من عنده التوقيعات» (1) .

ومثال آخر على ذلك ما قاله أحمد بن إبراهيم بعد أن استبصر مباشرةً ولم يكن ملمّاً بتعاليم التشيّع بالكامل: «دخلت على حكيمة بنت محمد بن عليّ الرضا(عَلیهِمَا السَلامُ) سنة اثنتين وستين ومائتين، فكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها، فسمّت لي من تأتمّ بهم، قالت فلان ابن الحسن، فسمّته. فقلت لها: جعلني الله فداك، معاينةً أو خبراً؟ فقالت: خبراً عن أبي محمد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتب به إلى أُمّه، قلت لها: فأين الولد ؟ قالت: مستور ، فقلت : إلى من تفزع الشيعة؟ قالت: إلى الجدّة أم أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، فقلت: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة! فقالت: إقتد بالحسين بن علي (عَلیهِمَا السَلامُ) ، أوصى إلى أخته زينب بنت علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الظاهر وكان ما يخرج من علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من علم يُنسب إلى زينب ستراً على عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) . ثم قالت: إنّكم قوم أصحاب

أخبار، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقسم ميراثه وهو في الحياة؟!» (2) .

هذه الشواهد تدلّ بوضوح على أنّ الشيعة في تلك الآونة كانوا

ص: 262


1- كمال الدين وتمام النعمة، ج 2، ص 476
2- الغيبة للطوسي، ص 229؛ من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 501

على علم بتفاصيل الإمامة وكانوا على استعداد تامٍّ لبسط حقائقها وترويج تعاليمها في المجتمعات الموالية لأهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ). وكما هو معلوم فإنّ بيان الإمامة في إطار إجماليٍّ إبّان أشد الظروف قسوةً قد تمّ بكلّ حذاقة ودراية إلى أن وصل الدور إلى البيان التفصيلي، وبالطبع فإنّ معرفة من اعتنق التشيّع حديثاً بما حدث في العهود الإسلامية السالفة ينمّ عن الرقي الثقافي لمنظومة الإمامة.

نتيجة البحث:

لا شكّ في أنّ العناصر التأريخية لها دور مشهود في مراحل بيان معتقدات أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) التي تضرب بجذورها في القرآن الكريم والسنّة النبوية على مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية وحتّى الاقتصادية.

إنّ كثرة الحوادث والظروف العصيبة التي واجهها حملة راية تعاليم الشريعة السمحاء قد أرغمتهم على السير بحنكة وحذر لوضع أسس المعارف وترسيخها في المجتمع ودحض الشبهات والتصدّي للانحرافات الفكرية والرسالة المقدّسة لأهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) قد تضمّنت انتقال التعاليم من مرحلة الإجمال إلى التفصيل، لذلك أدّوا مهامّهم بما يليق بمكانة الإسلام المحمدي الخاتم للأديان السماوية. وعلى هذا الأساس فإنّ تعاليم أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) أصبحت كالشجرة المتقوّمة

ص: 263

بجذور قرآنية ومعارف نبوية لا يطال مضامينها الثرية أيّ تحريف أو تغيير على مرّ العصور، ولو ألقينا نظرةً دقيقة على هذه المضامين التي لا نظير لها وتأمّلنا في مراحل نشر المعارف، لاتّضح لنا أنّ المسيرة العظيمة التي طوتها الإمامة قد تجسّدت في أربع مراحل زمنية، حيث تمكّن الأئمّة في كل مرحلة من أداء واجباتهم السماوية على أكمل وجه.

وأهمّ الجهود التي بذلها أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) قد تركّزت في بيان واقع الإمامة وتعليم الناس مفهوم خلافة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتوضيح حقيقة هذه الخلافة وذكر ميزاتها الفريدة. وهذه الجهود هي مصاديق بيّنة تعكس مساعيهم الحثيثة لنشر معارف القرآن الكريم واستئصال الطباع الجاهلية التي كانت سائدة آنذاك ليتمكّنوا من سوق المجتمع المتفكّكة أوصاله نحو الكمال المنشود والتغلّب على الظروف الصعبة ومواكبة الأحداث التأريخية التي كانت تتطلّب همّةً قعساء؛ وهي في الواقع تعكس عظمة المسؤولية التي كانت ملقاة على كاهل النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكيف أنه تحمّل تلك المشاقّ التي لا يطيقها أحد غيره، إذ إنّه لم يتزعزع أمام المصاعب وبقي صامداً واستغلّ كلّ فرصة ليبيّن للناس آنذاك مفهوم الإمامة في مناسبات عديدة وفي أطر مختلفة، لذا فهو المؤسّس لهذا المفهوم المقدّس.

الأوضاع المعقّدة التي واجهها المسلمون ولاسيما أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ)

ص: 264

وأتباعهم والتي دامت حتّى أواخر حياة الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لم تُعق

مسيرة نشر المعارف، بل في خضمّها سجّل التأريخ لنا صفحات بيضاء خالدة، حيث بقي الأئمّة وشيعتهم متمسّكين بسنّة نبي الرحمة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى أن حان عهد الإمامين الباقر والصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) فنشأ جيل من النخبة والعلماء الذين انتهلوا من مدرسة الرسالة. فالأئمّة من خلال تعاملهم مع الظروف السائدة بأسلوب صحيح، تمكّنوا من نشر المعارف السمحاء وأجابوا عن جميع الأسئلة والاستفسارات التي طرحت آنذاك، وبالتالي نشأت صورة رائعة للنشاط العلمى بين الشيعة وتزايدت ذخائرهم العلمية على مستوى فهم العوامّ والخواصّ أيضاً، وكذلك تمّ بيان مختلف جوانب الإمامة التي لم تكن واضحةً إلى حدٍّ كبير قبل تلك الآونة.

لقد ظهر العديد من العلماء وفي مختلف التخصّصات وتصدّوا لمهمّة إعداد أجيال كفوءة من طلاب العلم وترويج التعاليم النبويّة؛ وبالطبع فإنّ بعض الأوضاع المشوّشة والتجاذبات التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى لم تكن سبباً في عرقلة مسيرة الفكر الشيعي، كما أنّ استثمار الفرص المتاحة آنذاك قد أدّى إلى اتّساع الرقعة الجغرافية لأتباع مذهب أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) .

وبمرور الزمان تأسّست منظومة متكاملة ومتماسكة من الوكلاء- النوّاب - فاستثمرت الطاقات الكامنة وتزايدت النشاطات في مختلف البقاع وعلى جميع المستويات بمحورية الإمامة، الأمر الذي أدّى إلى ترسيخ النظام الفكري للتشيّع وعدم التفريط به، وبالتالي تمكّن الشيعة

ص: 265

من الحفاظ على هويتهم النبويّة رغم كلّ الأحداث التأريخية المريرة التي عصفت بهم. هذا النشاط الديني العظيم الذي تمحور حول قطب الإمامة، كان بطبيعة الحال يتطلّب الدخول في مرحلة جديدة كى يتعرّف الشيعة على واقع غيبة الإمام الثاني عشر بشكل صحيح ويبقوا متمسّكين بمذهبهم رغم غيبة إمامهم عنهم.

على الرغم من أن الأئمّة المتأخرين كانوا صغار السنّ، إلا أنّهم تولّوا مهمّة إمامة الأمّة ولم يختلف علمهم عمّن سبقهم من أئمّة لأنّهم جميعاً فروع للشجرة النبوية المعطاء، فبدأت في هذه المرحلة حركةٌ لتوعية الشيعة ليستوعبوا غيبة إمامهم الثاني عشر، حيث تمرّن أتباع مذهب أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) على ذلك بفضل جهود أئمّتهم وعلمائهم كي يصل احتمال حصول محذور إلى أدنى مستوياته حتّى ظهور المهدي الموعود (عجل الله فرجه).

حينما نتأمّل في سعة نطاق معارف التشيّع ومضمونها ونلاحظ المستويات المختلفة للرواة وما نقلوه من أخبار لوجدناها تتضمّن أساليب فريدةً من نوعها جاءت على لسان أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) بهدف نشر التعاليم والمعارف، وهذه الأساليب الرائعة كانت تتناسب مع الظروف السائدة في كلب عصر وتوضّح ما ذكر في الفترة التي سبقت زمان صدورها. فقد استخدمت نفس التعابير والمفاهيم المطروحة سابقاً لكنّها وضّحت في أطر مختلفة لكونها كانت تفوق الفهم العامّ، أي أنّ

ص: 266

تلك الأساليب التي تم من خلالها بيان واقع الإمامة قد راعت ظروف كلّ فترة زمنية ومقتضياتها من جميع النواحي. وعلى هذا الأساس، فإنّ نطاق المصطلحات والمضامين في مختلف مراحل حضور أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ) لم تتغيّر مطلقاً، بل كلّ ما في الأمر أنّها قد شرحت وفصّلت. وبالطبع فإنّه لم يكن هناك بدٌّ من طرح مصطلحات جديدة تتضمّن معارف جديدةً لأنّ هذا الأمر يعتبر من مستلزمات البيان والتفصيل، ومن جملة ذلك علم الإمام، رغم أنّ أصل الإمامة ثابت في المعارف القرآنية والسنّة النبويّة اللذين ينطبقان مع بعضهما بالكامل.

***

ص: 267

ص: 268

المصادر

1. القرآن الكريم.

2. نهج البلاغة.

3. الصحيفة السجادية، الإمام علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قم: نشر الهادي، 1376 ش(1996)م.

4.شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي قم مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404ه-.

5. المصنّف ابن أبي شيبة الكوفي، تحقيق وتعليق: سعيد اللحام، بيروت، الطبعة الأولى، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1409 ه-

6.النهاية في غريب الحديث والأثر ، ابن الأثير مبارك بن محمد الشيباني الجزري، قم: مؤسسة إسماعيليان للطباعة،

الطبعة الرابعة.

7. الفتوح، ابن أعثم الكوفي، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الأولى، 1413ه-

8. الكامل في التأريخ، ابن الأثير الشيباني الجزري، علي بن أبي الكرم، بيروت، نشر دار صادر

9. الإصابة في تمييز الصحابة ابن حجر العسقلاني ،بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415 ه-

ص: 269

10. تهذيب التهذيب، ابن حجر، أحمد بن علي، بيروت، نشر دار الفكر.

11. الصواعق المحرقة ابن حجر مكتبة القاهرة، بلا تأريخ ولا محلّ طباعة.

12. فضائل الصّحابة، ابن حنبل الشيباني، أحمد بن محمد، تحقيق: وصي الله بن محمّد عباس، دار العلم، الطبعة الأولى، 1403 ه ، وطبعة جامعة أم القرى في السعودية.

13. مناقب آل أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، محمد بن شهر آشوب المازندراني، قم، مؤسسة العلامة للنشر، 1379 ه-

14. إقبال الأعمال، السيّد علي بن طاوس، طهران، دار الكتب الإسلامية،1367 ش (1987م).

15.الأمان، السيد على بن طاوس، قم، مؤسسة آل البيت السلام ، 1409 ه-.

16. اللهوف، السيد على بن طاوس، طهران، دار العالم (جهان)، 1348 ش(1968)م.

17.اليقين السيد على بن طاوس، قم، مؤسسة دار الكتاب 1413 ه-.

18.العقد الفريد ابن عبد ربّه، قم، 1967م.

19.تأريخ مدينة دمشق، ابن عساكر علي بن الحسن الدمشقي الشافعي، تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمري، بيروت، الطبعة الأولى، دار الفكر، 1415 ه-.

20.كامل الزيارات ابن قولويه القمي، النجف الأشرف الدار المرتضوية، 1356ه- .

21. بدائع الفوائد ابن القيم محمد بن أبي بكر ،لبنان، دار الكتاب العربي، بلا تأريخ طباعة.

22. البداية والنهاية ابن كثير الدمشقي، بيروت، دار الفكر بلا تأريخ طباعة.

23. لسان العرب، ابن منظور، بيروت، دار صادر، الطبعة الثالثة، 1414 ه- .

ص: 270

.24الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، أبو حاتم الرازي، تحقيق: حسين بن فيض الله، اليمن مركز الدراسات والبحوث اليمني.

.25أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريه، إسماعليان، قم، بلا تأريخ طباعة.

26. دلائل النبوة، أبو نعيم الأصفهاني، مكة المكرمه: مكتبة الباز، 1977 م.

27. مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، بيروت، دار المعرفة.

28. الأغاني أبو الفرج الأصفهاني، تحقيق: خليل محيي الدين، دار الكتاب المصرية، الطبعة الأولى، 1358 ه-

29. الغيبة، ابن أبي زينب النعماني، تحقيق: فارس حسون كريم، قم، أنوار الهدى.

30. المصابيح، أبو العباس أحمد بن إبراهيم، تحقيق: عبد الله الحوثي، مؤسسة الإمام زيد بن علي، الطبعة الثانية 1432ه- .

.31 رجال ابن الغضائري، أحمد بن الحسين الغضائري الواسطى البغدادي، تحقيق: السيد محمد رضا الجلالي، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1422 ه- .

32. المسند، أحمد بن حنبل، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، بيروت، دار الفكرالطبعة الثانية، 1414 ه- .

. 33 معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي.

34. مكاتيب الأئمة السلام أحمدي ،ميانجي، قم، دار الحديث، الطبعة الأولى،1426ه- .

.35مكاتيب الرسول ! ، أحمدي ميانجي، قم، دار الحديث، الطبعة الأولى،1419 ه- .

36. تاريخ ادبيات ايران (باللغة الفارسية)، إدوارد براون، ترجمه إلى الفارسية:رشيد ياسمي، طهران، ابن سينا، الطبعة الثالثة، 1345 ش (1966م).

37. كشف الغمّة، علي بن عيسى الإربلي تبريز مكتبة بني هاشمي، 1381 ه- .

ص: 271

38 . نخستین اندیشه های شیعی (باللغة الفارسية)، أرزينا أ. آر. لالاني.

39. المقالات و الفرق، سعد بن عبد الله الأشعري، تحقيق: الدكتور مشكور، طهران، انتشارات علمي و فرهنگي.

40 . صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر للطباعة والنشروالتوزيع.

41. الشيعة و أهل البيت، ظهير إلهي إحسان باكستان، بلا تأريخ طباعة.

42. كشف الأسرار، روح الله الموسوي الخميني، بلا تأريخ ومحل طباعة.

43. أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، بيروت، دار التعارف للمطبوعات،1406ه- .

44. معجم الفرق الإسلامية شريف يحيى ،الأمين ،بيروت، دار الأضواء، الطبعة الأولى، 1406 ه-

45. الغدير فى الكتاب والسنة والأدب، العلامه عبد الحسين الأميني، مركز الغديرللدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1416 ه-.

46. خاستگاه تشیع و پیدایش فرقه هاي شيعي در عصر امامان (باللغة الفارسية)، آغا نوري ،علي قم مركز دراسات العلوم والثقافة الإسلامي، 1385ش (2004)م.

47. أصل الشيعة وأصولها، محمد حسين كاشف الغطاء النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1385 ه-.

48. صلح الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) (باللغة الفارسية)، الشيخ راضي آل ياسين، ترجمة: السيد علي الخامنئي مطبعة آسيا، 1348 ش (1968م).

49. عوالم العلوم والمعارف، عبد الله البحراني الأصفهاني، مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، قم، الطبعة الثانية، 1382 ش (2002م).

50. المحاسن، أحمدبن محمد بن خالد البرقي، قم، دار الكتب الإسلامية، 1371 ه-.

ص: 272

51 . تشيع ومقاومت وانقلاب (مجموعة مقالات باللغة الفارسية)، برنارد لويس، طهران، نشر ،فاروس 1368ش (1988م).

52 .تأريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان تعريب عبد الحليم النجار، قم، دارالكتب الإسلامية، الطبعة الثانية.

53 .تأريخ الأدب العربي، بلاشر ، بلا تأريخ ولا محل طباعة.

54 . سنن الترمذي ،الترمذي، تحقيق وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1403 ه- / 1983م.

55 . وجوه القرآن حبيش بن إبراهيم التفليسي، مراجعة: مهدي محقق، طهران، انتشاراتدانشگاه الطبعة الثالثة، 1378ش (1998م).

56 .مفهوم ایمان در کلام اسلامی (باللغة الفارسية) توشيهيكو ايزوتسو، ترجمة: زهراء ،پورسینا طهرا، نشر سروش ، الطبعة الأولى، 1378 ش (1998م).

57 .الكافي، ثقة الإسلام الكليني، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ه-.

58. الغارات إبراهيم بن محمد الثقفي، قم، دار الكتاب، 1410 ه-.

59 . البيان والتبيين، عمرو بن بحر الجاحظ، بيروت، دار ومكتبة هلال، 1423 ه-.

60 . الرسائل السياسية، عمرو بن بحر ،الجاحظ، بيروت، دار ومكتبة هلال، الطبعة الثالثة، 1423 ه-.

61 . حياة الحيوان، عمرو بن بحر الجاحظ، بيروت، دار الكتب العلمية ، 1424 ه-.

62. تشیع در هند (باللغة الفارسية) جان نورمن ،هاليستر، ترجمة: آذرمیدخت مشایخ فريدني، الطبعة الأولى، طهران، مرکز نشر دانشگاهي.

63. سازمان وكالت ونقش آن در عصر أئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) (باللغة الفارسية)، محمد رضا جبّاري، قم، مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث الطبعة الأولى، 1382 ش (2002م).

64 .تأريخ التمدّن الإسلامي، جرجي زيدان، القاهرة، مطبعة الهلال، 1902 م.

ص: 273

65 . المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف ب- (الحاكم النيسابوري)، بيروت، دار الكتاب العلمية، الطبعة الأولى، 1411 ه-.

66 .تحف العقول، حسن بن شعبة الحرّاني، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه-.

67 . أسرار هزار ساله (باللغة الفارسية)، علي أكبر حكميزاده، بلا تأريخ ومحلّ طباعة.

68 . الحور العين، نشوان الحميري، بلا تأريخ ومحل طباعة.

69 . السيرة النبوية، ابن هشام الحميري المعافري، بيروت، دار المعرفة.

70 . من هم الرافضة، بدر الدين الحوثي، دار الإمام زيد الثقافي.

71 .كفاية الأثر، عليّ بن محمّد الخزاز القمي، قم، دار بيدار، 1401 ه-.

72 . موسوعة الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، الخزعلي، قم، مؤسّسة ولي عصر (عجل الله فرجه)، الطبعة الأولى، 1424 ه-.

73 . موسوعة ، رعة الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ)، الخزعلي، قم، مؤسسة ولي عصر (عجل الله فرجه)، الطبعة الأولى، 1426 ه-.

74 . أقرب الموارد، سعيد الخوري الشرتوني، قم، 1403 ه-.

75 . عقيدة الشيعة دوايت م. رونالدسن تعريب: ع. م.، الطبعة الأولى، بيروت، نشر مفيد، 1410 ه-.

76 . بيت الحكمة، سعيد الديوه جي، مؤسسة دار الكتب، 1392 ه-.

77 . تأريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، سعيد الديوه جي، تحقيق: عمر عبد السلام التدمري، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتاب العربي، 1413 ه-. 1993/م.

78 . سير أعلام النبلاء مصر، سعيد الديوه جي، تحقيق: صلاح الدین منجد، دارالمعارف.

79 . میزان الاعتدال سعيد الديوه جي، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت، دار

ص: 274

المعرفة للطباعة والنشر.

80 . إسلام در إيران شعوبيه (باللغة الفارسية) ر. ناث.، ترجمة: محمود افتخار زاده، الطبعة الأولى، طهران، نشر ميراثهاي تاريخي إسلام، 1370 ش(1990)م.

81 . مفردات ألفاظ القرآن، الحسين بن محمّد الراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان داودي، بيروت، دار القلم، 1412 ه-.

82 . تأريخ الأدب العربي، ريجيس بلاشر.

83 . التفسير المنير، وهبة بن مصطفى الزحيلي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الفكر،1418 ه-.

84 . الطبقات الكبرى، محمد بن سعد الزهري، بيروت، دار صادر.

85 . تذكرة الخواص سبط بن الجوزي، الطبعة الأولى، قم، منشورات الشريف الرضي ، 1418 ه-.

86 .كتاب سليم بن قيس، سُليم بن قيس الهلالي قم دار الهادي، 1415 ه-.

87 . حقائق التأويل، السيد الرضي، شرح: محمد رضا آل كاشف الغطاء، بيروت، دار المهاجر للطباعة والنشر والتوزيع.

88 .عبد الله بن سبأ و دیگر افسانه هاي تاريخي (باللغة الفارسية)، السيد مرتضي العسكري، ترجمة: السيد أحمد الفهري الزنجاني، المجمع العلمي الإسلامي.

89 . رسائل الشريف المرتضي، السيد المرتضى تحقيق السيد مهدي رجائي الطبعة الأولى، قم، دار القرآن الكريم 1405 ه-.

90. الجامع الصغير، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1365 ه-.

91 . الدرّ المنثور، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.

ص: 275

92 . الخصائص الكبرى، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، بيروت دار الكتب العلمية، 1405 ه-./ 1985م.

93 . ديوان الامام الشافعي، محمّد بن إدريس الشافعي، بيروت، دار الجليل1392 ه-.

94 . إسلام ورجعت (باللغة الفارسية)، محمّد حسين شريعت سنگلجي، لا تأريخ ومحلّ طباعة.

95. إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، القاضى نور الله التستري، قم: مكتبة آية الله المرعشي النجفي، الطبعة الأولى، 1409 ه-.

96 . الملل و النحل، محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق: محمد بن فتح الله المازندراني، قم، منشورات الشريف الرضي.

97 . الأمالي، الشيخ الصدوق، المكتبة الإسلامية، 1404 ه-.

98 . التوحيد، الشيخ الصدوق، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1398 ه-.

99. الخصال، الشيخ الصدوق، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1403 ه-.

100. علل الشرائع، الشيخ الصدوق، قم، مكتبة الداوري.

101. عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، الشيخ الصدوق، طهران، نشر جهان، الطبعة الأولى، 1378 ه-.

102 .كمال الدين وتمام النعمة الشيخ الصدوق، قم، دار الكتب الإسلامية،1395 ه-.

103 . معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1403 ه-.

104. من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق، قم، مؤسسة النشر الإسلامي،1413 ه-.

105 . الأمالي الشيخ الطوسي، قم، دار الثقافة للنشر، 1414 ه-.

106 . تلخيص الشّافي، الشيخ الطوسي، بيروت، دار العلم للملايين، 1402ه، دار الكتاب العربي، 1405 ه-.

107 . الغيبة، الشيخ الطوسي، قم: مؤسسة المعارف الإسلامية، 1411 ه-.

108. الفهرست، الشيخ الطوسي، النجف الأشرف، المكتبة المرتضوية.

ص: 276

109 . الإرشاد الشيخ المفيد، طهران، المطبعة الإسلامية، الطبعة الأولى.

110. الاختصاص، الشيخ المفيد، قم، المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، 1413 ه-.

111. الإرشاد، الشيخ المفيد، قم، المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، 1413 ه-.

112. الأمالي الشيخ المفيد، قم: المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، 1413 ه-.

113. أوائل المقالات الشيخ المفيد، قم، المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، قم، 1413 ه-.

114. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414 ه-.

115 . بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، قم، مكتبة آية الله المرعشى 1404 ه-.

116 . تاریخ حدیث شیعه (باللغة الفارسية)، السيد محمد كاظم الطباطبائي، طهران منشورات ،سمت، 1382 ش (2002م).

117 . المعجم الأوسط، الطبراني، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع.

118. الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، مشهد، نشر المرتضى، 1403 ه-.

119. دلائل الإمامة محمد بن جرير الطبري، قم، دار الذخائر للمطبوعات.

120. المسترشد في الإمامة، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: کوشانپور، قم،1415 ه-.

121 . تأريخ الأمم و الملوك، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار التراث، 1387 ه-.

122 . مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي، دفتر نشر فرهنگ اسلامي.

123. مسند أبي داود الطيالسي سليمان بن داود الطيالسي، بيروت، دار المعرفة.

124. قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري، طهران، مكتبه نينوى.

125 نشأة الشيعة الإمامية نبيلة عبد المنعم ،داود، بيروت، دار المؤرخ العربي.

126 . بحار الأنوار العلامة المجلسي، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1404 ه-.

127. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي طهران المطبعة العلمية1380 ه-.

ص: 277

128 . روضة الواعظين، محمّد بن الحسن ،الفتّال ،قم، دار الرضي .

129. ژئوپليتيك تشيع (باللغة الفارسية)، فرانسوا ،توال ترجمة: حسن صدوقي وئینی طهران منشورات جامعة الشهيد بهشتی، 1380 ش (2000م).

130. كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، مؤسسة دار الهجرة، 1049 ه-.

131. تأريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة منذ نشأة التشيع حتّى مطلع القرن الرابع الهجري، عبد الله الفياض، تقديم السيد الشهيد محمد باقر الصدر، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1395 ه-.

132 . پیدایش و گسترش تشیع (باللغة الفارسية، عبد الله الفياض، ترجمة: السيد جواد خاتمي، الطبعة الأولى، سبزوار - ابن یمین، 1382 ش (2002م).

133. القاموس المحيط، محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي، بيروت، نشر دار الجيل.

134. حياة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ، باقر شريف القرشي، قم، مدرسة الإيرواني، الطبعة الرابعة.

135 . أصول مذهب الشيعه، ناصر بن عبد الله القفاري، بيروت، دار الرضا،1418 ه-.

136 .شاهراه اتحاد (باللغة الفارسية)، قلمداران بلا تأريخ ولا محل طباعة.

137 . تفسير القمي، علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، قم، دار الكتاب ، 1404 ه-.

138. عربستان سعودي (باللغة الفارسية)، أحمد الكاتب، بلا تأريخ ولا محلّ طباعة.

139 . بازخوانی نظریه «علماي أبرار» تلقى أولي إسلام شيعي از أصل إمامت قرائت فراموش شده (مقالة باللغة الفارسية)، مجلة مدرسة الفصلية، 1385 ش (2005م).

140 . شیعه گري (باللغة الفارسية)، كسروي، لا تأريخ ولا محلّ طباعة.

141. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، محمد بن عمرو الكشي، مشهد، مؤسسة نشر جامعة 1348 ه-.

142 . از إماميه تا اثني عشريه (باللغة الفارسية)، اتان كولبيرغ، ترجمة: محسن الويري مجلة البحوث التي تصدرها جامعة الإمام الصادق العدد الثاني،

ص: 278

1374 ش (1994م).

143 . فرقه إسماعيلية (باللغة الفارسية)، مارشال ج. س. هوجسن، ترجمة: فريدون بدره ،أي طهران نشر مؤسسة النشر والتعليم، 1369 ه-.

144. تأريخ سياسي غيبت امام دوازدهم (عجل الله فرجه) (باللغة الفارسية)، جاسم محمد حسين، ترجمة: السيد محمد تقي آية اللهى، طهران، أمير كبير، الطبعة الثالثة 1385 ش (2005م).

145 . موسوعة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، محمّد المحمدي الري شهري، الطبعة الأولى، قم، موسسة دار الحديث، 1421 ه-.

146 . مکتب در فرایند تکامل بحران و تثبیت در دوره شكل گيري إسلام شيعي (باللغة الفارسية)، السيّد حسين المدرسي الطباطبايي، ترجمة: هاشم ایزدپناه طهران منشورات كوير، الطبعة الخامسة، 1387) ش (2007م).

147 . إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب، علي بن الحسين المسعودي، قم، منشورات أنصاريان، الطبعة الثالثة، 1426 ه-.

148 . صحيح مسلم مسلم النيسابوري، بيروت، دار الفكر

149. التحقيق في كلمات القرآن، حسن المصطفوي، طهران، مركز ترجمة ونشر كتاب، 1360 ش (1980م).

150 . إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، تقي الدين المقريزي، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1420 ه-.

151 . التذكرة الحمدونية، ابن حمدون، تحقيق: إحسان عباس وبكر عباس، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت 1996م.

152 . وقعة صفين نصر بن مزاحم بن سيار ،المنقري، قم، مكتبة آية الله المرعشي،1403 ه-.

153 . فلسفه وكلام إسلامي (باللغة الفارسية)، واط مونتغمري ترجمة أبو الفضل ،عزتي، قم، انتشارات علمي و فرهنگي الطبعة الأولى، 1370 ش (1990م).

154 . الصراط المستقيم، النجف الأشرف المكتبة الحيدرية، 1384 ه-.

ص: 279

155 . ربيع الأبرار ونصوص الأخيار الزمخشري، تحقيق: عبد الأمير مهنا، مؤسسه الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1992 م.

156 . رجال النجاشي، أحمد بن علي النجاشي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي،1407 ه-.

157 . السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري مراجعة السيد حسن ،کسروي ،بیروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411 ه- / 1991 م.

158 . السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1348 ه- / 1930م.

159 . قلب إسلام (باللغة الفارسية)، السيد حسين نصر، ترجمة: السيد مصطف شهر ،آييني طهران انتشارات حقیقت، 1383 ش (2003م).

160 . فرق الشيعة الحسن بن موسي النوبختي، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1404 ه-.

161 . نهاية الإرب في فنون الأدب، شهاب الدين النويري، تحقيق: كمال مروان، القاهرة، دار الكتب والوثايق الإعلامية، 1249 ه-.

162 . الطبقات الكبرى محمد بن سعد الكاتب الواقدي، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 141 ه-.

163 . نقد مقاله آقاي اتان كولبيرغ (باللغة الفارسية)، محسن ألويري، مقالة نشرت في مجلة البحوث التي تصدرها جامعة الإمام الصادق، العدد الثاني 1374 ش (1994م).

164 . تشيع (باللغة الفارسية) هاينز هولم، ترجمة: محمد تقي أكبري، قم: نشر أديان، الطبعة الأولى، 1385ش (2005م).

165 . إسلام بررسي تاريخي (باللغة الفارسية)، هاميلتون غيب، ترجمة: منوتشهر،أميري، طهران، انتشارات علمي و فرهنگي، 1367 ش (1987م).

166. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: عبد الله محمد درویش، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1412 ه-.

ص: 280

167 . تأريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي، النجف الأشرف، مطبعة الغري، 1358 ه-.

168 . تاريخ سياسي صدر إسلام (باللغة الفارسية)، يوليوس فول هاوزن ترجمة: محمود افتخار زاده، قم، نشر معارف ، الطبعة الأولى، 1375 ش (1995م).

169. درآمدي بر پژوهش در تاریخ باللغة الفارسية)، علي رضا ملائي تواني، طهران: نشر نی، 1386 ش (2006م). 170 . عوامل مؤثر در پیدایش تشیع از دیدگاه مستشرقان(باللغة الفارسية)، محمد جواد يارى - مرتضى إمامي، مجلة دانشگاه ،الفصلية، العددان: 22 و 23.

171. تأملي در مکتب در فرایند تکامل (باللغة الفارسية)، محمد صفر جبرئيلي، مجلة قبسات الفصلية، العدد 45 ،1386 ش (2006م).

172 . مجلة كتاب ماه دين الشهرية (باللغة الفارسية) السنة الثانية عشرة، العدد22، 1388 ش (2008م).

173 . بهشت كافي (ترجمة روضة الكافي للكليني) (باللغة الفارسية)، محمد بن يعقوب الكليني، ترجمة حميد رضا ،آجير انتشارات سرور، قم، الطبعة الأولى، 1381 ش (2001م).

174 . روضة الكافي (باللغة الفارسية)، محمّد بن يعقوب الكليني، ترجمة: رسولي محلاتي، انتشارات علمية إسلامية طهرانف الطبعة الأولى، بلا تأريخ طباعة.

175 . كشف الغمّة (باللغة الفارسية)، ترجمة وشرح علي بن حسين زواره اي، انتشارات ،إسلاميه طهران، الطبعة الثالثة، 1382 ش (2002م).

176 . أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، مكتبة علمية إسلامية، طهران، الطبعة الأولى، بلا تأريخ طباعة.

177 . روضة الواعظين، ترجمة: محمود مهدوي دامغان، نشر ني، طهران، الطبعة الأولى، 1366 ش (1986م).

178 . مواعظ إمامان (عَلیهِمَ السَلامُ) (باللغة الفارسية)، محمد باقر المجلسي، المجلد السابع عشر من كتاب بحار الأنوار، ترجمة: موسى خسروي، منشورات إسلامية، طهران، الطبعة الأولى، 1364 ش (1984م).

ص: 281

179 . كمال الدين وتمام النعمة (باللغة الفارسية)، محمّد بن علي الصدوق، ترجمة: محمد باقر کمره اي، منشورات إسلامية، طهران، الطبعة الأولى، 1377ش(1997م).

180. معاني الأخبار (باللغة الفارسية)، محمد بن علي الصدوق، ترجمة: عبد العلي محمدي الشاهرودي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثانية، 1377ش(1997م)

181 . الحياة (باللغة الفارسية)، محمد رضا الحكيمي - محمد علي الحكيمي، ترجمة: أحمد ،آرام مكتب نشر فرهنگ اسلامي طهران، 1380 ش (2000م).

182 الصحيفة السجادية (باللغة الفارسية)، ترجمة وشرح السيد علي نقي فيض الإسلام، منشورات فقيه، طهران، الطبعة الثانية، 1376 ش (1997م).

183 . الفصول المهمة في معرفة الأئمة، عليّ بن محمّد أحمد المالكي بن الصباغ، حققه ووثق أصوله وعلّق عليه :

سامي الغريري، قم، دار الحديث .

184 . الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة، أحمد بن حجر الهيتمي المكي، خرّج أحاديثه وعلّق على حواشيه وقدم له: عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية شركة الطباعة الفنية المتحدة مكتبة القاهرة 1965م.

المصادر الإنجليزية:

185 - Mohammedianism a historical survey.

***

ص: 282

فهرس الكتاب

تمهید...7

مباحث عامة...11

أسلوب بيان الفكر...11

القيمة المعرفية للروايات...16

بيان معاني بعض المصطلحات...20

أولاً : الشيعة...20

ثانياً: الرافضة...33

ثالثاً : الإمامية...38

الفصل الأول آراء حول نشأة فكر التشيع

توطئة...45

أتباع نظرية التحوّل المعرفي...47

أحمد كسروي... 47

علي أكبر حكمي زاده...50

ص: 283

السيد أبو الفضل البرقعي...51

حيدر علي قلمداران...52

أحمد الكاتب...55

السيد حسين المدرّسي الطباطبائي...58

محسن کدیور...59

المستشرقون...61

كاثرين لامبتون...63

هاميلتون ألكساندر روسكين غِب...65

إيتان كولبرغ...66

نقد الآراء التي ذكرت...67

الفصل الثاني

دور الأحداث التأريخية في بيان عقائد أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ)

توطئة...75

دراسة مفهومية للعناصر التأريخية...78

أوّلاً: العوامل السياسية...78

1) الأجواء السياسية... 79

2) المسؤولية الحكومية...82

3) الحركات المناهضة للحكومة...84

4) الإعلام السياسي...85

ص: 284

ثانياً: العوامل الثقافية...89

1) الإلمام بمختلف العلوم...89

2) تواجد النخبة بين الناس...91

3) روح الاستفسار والسعي لادّخار العلم...93

4) مواجهة الأفكار الجديدة (حركة الترجمة) ...94

ثالثاً: العوامل الاجتماعية...97

1) ترامي أطراف البلاد الإسلامية...98

2) انتشار التجمعات السكانية في أماكن متفرّقة...100

3) شعبية أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ)...100

رابعاً : العوامل الاقتصادية...104

المراحل الزمنية التي شهدت حضور أئمّة أهل البيت (عَلیهِمَ السَلامُ)...106

أوّلاً: عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى نهاية فترة إمامة الإمام السجاد...108

عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)...108

النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مكة...108

النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في المدينة...113

ثانياً : عهد الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أواخر عهد الإمام السجاد...123

الأوضاع السياسية...123

الأوضاع الثقافية...136

الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية...146

ثانياً: عهد إمامة الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) ...154

ص: 285

الأوضاع السياسية ...154

الأوضاع الثقافية...158

الأوضاع الاجتماعية...164

ثالثاً: عهد إمامة الإمامين الكاظم و الرضا (عَلیهِمَا السَلامُ) ...168

الأوضاع السياسية...168

الأوضاع الثقافية...175

الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية...180

الفرق التي تشعبت من الشيعة...183

رابعاً عهد الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بداية عصرالغیبة...186

الأوضاع السياسية...186

الأوضاع الثقافية...188

الأوضاع الاجتماعية والاقتصاديةر191

خلاصة البحث...192

الفصل الثالث مسيرة بيان مفهوم الإمامة

توطئة...199

أوّلاً: مرحلة وضع الأسس الفكرية، عهد خاتم الأنبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)...201

أمثلة قرآنية...205

أمثلة روائية...208

ص: 286

أوّلاً: الخلافة...208

ثانياً : الولاية...212

ثالثاً: الإمامة والعلم...215

رابعاً : الوراثة والوصاية...217

خامساً: العصمة...218

ثانياً: عهد إمامة الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عَلیهِمَا السَلامُ) ...220

النص والتنصيب...223

العلم...225

العصمة...235

ثالثاً : عهد الإمامين الكاظم و الرضا (عَلیهِمَا السَلامُ)...238

النص والعلم والعصمة...242

رابعاً: عهد الإمام محمّد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بداية عصر الغيبة...249

نظرة عامة على صفات الإمام المعصوم...250

غيبة الإمام الثاني عشر ومنظومة الوكالة...257

نتيجة البحث...263

المصادر...269

فهرس الكتاب...283

***

ص: 287

ملخص الكتاب باللغة الانجليزية...A-G

إنّ كثرة الحوادث والظروف العصيبة التي واجهها حملة راية تعاليم الشريعة السمحاء قد أرغمتهم على السير بحنكة وحذرٍ لوضع أسس المعارف وترسيخها في المجتمع ودحض الشبهات والتصدّي للانحرافات الفكرية والرسالة المقدّسة لأهل البيت (عليهم السلام) قد تضمّنت انتقال التعاليم من مرحلة الإجمال إلى التفصيل، لذلك أدّوا مهامّهم بما يليق بمكانة الإسلام المحمّدي الخاتم للأديان السماوية. وعلى هذا الأساس فإنّ تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) أصبحت كالشجرة المتقومة بجذور قرآنية ومعارف نبوية لا يطال مضامينها الثرية أي تحريف أو تغيير على مر العصور ...

islamic.css@gmail.com

رقم الإصدار (4)

ص: 288

ص: 289

traditions and lexical, technical and historical explanation of the words "Shi'ite, the Heretics, and Imamates".

The first chapter is dedicated to mentioning some examples of the views of proponents of the evolution of historical development of Shi'ite's thought and a short critique on that. (Regardless of some difference of views).

In the second chapter in two sections, we proceed into studying the concept of historical elements and introducing a set of effective historical elements in four axes of politics, society, culture and economics and then we do a comparative discussion on how effective they were during the presence of Ahl-ol-Bayt (the People of the House). For this purpose, this period is divided into four relative periods. And finally, in the third chapter, we compare and contrast the undetailed and detailed process of the subject of Imamate with the emphasis on the effective role of historical elements in the four periods.

Resources used:

It has been attempted to use the most relevant resources to the discussion in Shi'ite and Sunni views.

***

G

ص: 290

of the Shi'ite's community and later, their thoughtfulness exhibited their hidden aspects in spreading Shi'ite thoughts.

In the next period, i.e. Kazemayn period, despite the political repression, under the aegis of previous social and cultural elements, Imam Kazem and his son Imam Reza have exerted great efforts to spread previously told teachings and confirm their content via advocacy organization with respect to its functions and via debates and answering questions. Then, during the late Imams, although political repression prevented the extension of activities on Imamate realm, development and multiplicity of historical elements in various aspects led the Ahl-ol-Bayt (the People of the House) to careful planning in order to prepare a developed scientific atmosphere free from doubts in a sixty-and-so training period for the Occultation period. Particularly, the number of Shi'ite- residing cities and their academic centers were expanded and day by day, Shi'ite's scientific and political power was multiplied.

A meticulous look at this process shows that how the explanation of Ahl-ol-Bayt's teachings has gone from undetailed to detailed specifications in the aegis of various historical elements without damaging Shi'ite cognitive system.

Chapters of the book:

The present book is organized into an introductory discussion, and three chapters. The introductory chapter explains about the purpose of clarifying thought, and is dedicated to a debate over the cognitive authenticity of Islamic

F

ص: 291

mean the economic power of the community or the very amount of cash flow in various sections which seems to be in direct contact with other elements. Examples of the effect of the economic power are as follows: political propaganda, arousal of greed among the glitterati, writing of forged papers, the spread of debauchery and moral corruption, advocacy organization and its functions.

Ups and Downs:

The Prophet's efforts to establish a monotheistic society paved a proper ground for learning Divine teachings. After the death of the Prophet, the historical elements did not allow the Imam of the Household to generally explain the epistemical issues, except for the moment in Imam Ali's government (Peace be upon him) when the political opening could be a good pretext, at the entire period, political repression, cultural, social and economic chaos hindered the serious appearance of teachings in public atmosphere of society.

At the end of first period and at the beginning of Sadeqayn period, the grounds for spreading teachings slowly expanded so that as the result of approximately twenty years of political tensions during the period of deep dispute between Bani Umayyad and Bani Abbas- Sadeqayn (Peace be upon them) could explain the prophetic intellectual foundations using their own conditions and social status and their Shi'ites in response to the generation full of effort, educated and inquirer, and transfer teachings at its various levels and take full advantage of accompany of all historical elements, and thus avoided any direct intervention in the conflict between political rivals considering the circumstances

E

ص: 292

stability, as well as oppositions' activities in the course of government's clash and weakening is considered to be the political element. Thus, by political element, we mean any action and reaction leading back to the institution of sovereignty and power, such as: political repression, government's responsibilities, movements in conflict with the government and political propaganda.

2. The Cultural Element:

Culture is a treasure that gives meaning and direction to human's life in two aspects: individual and social aspect including science, knowledge, customs, etc. So, by cultural element, we mean something that provides such meaning and direction. The following items are the most important factors: learning the doctrines, scholars' existence, the spirit of inquiry and the effort to gain knowledge, and exposure to new ideas (the flow of translation).

3. The Social Element:

Community consists of people who have come together based on attitudes and factors and thus there is a relationship among them. So, by social element, we mean something that may affect the relationship between the components of the community. The following items are the most important factors in this regard: the vastness of Islamic cities, population distribution, public acceptance and popular position.

4. The Element of Economic Power:

Paving the ground for the occurrence of some flows or their development sometimes depends on the economic power. From this perspective, by economic elements, we

D

ص: 293

ever been made in the content of teachings and only utilizing methods of expression and religious literature of any period of present time is different.

The specified path in explaining teachings in the public atmosphere of society, -specially in issues like Imamate-, guides us to a four-step process, the appearance of which with respect to relative time would be like this:

1. The Last Prophet's period until the end of Imamate of Imam Sajjad (Peace be upon him); (Foundation of the notion of Imamate)

2. Sadeqayn's Imamate period (Peace be upon them) until 145 Hijri; (Flowering (actualization) and consolidation of the thought)

3. Imam Kazem and Imam Reza Imamate period (Peace be upon them); (Correcting the thought and responding to possible confusions)

4. Imam Javad's Imamate period (Peace be upon him) until the beginning of the Age of Occultation; (Objectivity of the thought in the society)

Various historical elements

The collection of influential historical elements in the above-mentioned periods and some of its prominent examples, the evidence of which can be found very well in the historical statements, are as follows:

1. The Political Element:

Politics in the general sense is an attempt to obtain, maintain, enhance and display power. Consequently, any effort by the governors for government's maintenance and

C

ص: 294

studies about Shi'ite's thoughts are formed with various purposes and on different academic levels using specific methods and attitudes, each of which has triggered the results in confirming or rejecting Shi'ite's beliefs and bases of thinking. Reflecting upon the content of expressed opinions and views in this regard narrates two different approaches. One approach speaks about the evolutionary process of this thought (i.e. Shi'ite's thought) in the form of knowledge and historical developments and in the opposite, the other perspective speaks about the progressive movement, a movement from undetailed to detailed specifications particularly in the important issue of Imamate- in which no change in the bases of thought and knowledge is considered to be the essence. In other words, some have claimed that the bases of Imamates' beliefs about the foundation of Imamate at the time of first Imams were not put forward rather during the first three Hijri centuries, Companions of the AhlulBayt (the People of the House) have organized and rectified the form of beliefs and the basis of Shi'ite's thought. Thus, the basis of these beliefs has faced a serious challenge. The present paper expresses part of the views of the proponents of this theory.

At the opposite, the intellectuals defending the religion of ImamiTwelvers believe that Shi'ite teachings on various topics including the issue of Imamate is rooted in the Quran and prophetic tradition and with a comprehensive analytical- explanatory view, this turns out to be that these teachings during the first three Hijri centuries have been explained going from undetailed to detailed specifications considering the role of historical elements and their themes - or the very influencing political, social, cultural and economical elements in the course of time- with the feature that no changes have

B

ص: 295

With His Grace and Generosity

About writing the book

Years ago, my interest in deeper understanding of Shiite movement and the formation of its ideas and thoughts on the one hand, and facing with scientific works of prominent Muslim writers and orientalists who had different views from each other led me to answer these basic questions that: what the process of explaining Shi'ite's beliefs and teachings is? And what the influencing historical elements in the course of explaining Shi'ite's teachings are? (ref. first chapter). This is a beginning for writing this book in the format of a thesis entitled:

«The Role of Historical Elements in Ahl-Albayt's Explanation of the Principles of Religion; Particularly Imamat>>.

Presentation of two views

From a long time ago, among Muslim writers and scholars and in recent centuries among western intellectuals,

A

ص: 296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.